التفسير المنير للزحيلي

وهبة الزحيلي

تقديم:

[الجزء الاول] بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله منزّل الكتاب على قلب محمد النّبي الأمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. وبعد: فإنه لم يحظَ كتاب في الوجود بعناية مثلما حظي به القرآن الكريم، الذي كتبت حوله مئات الكتب، وسيظل مورد العلماء، وهذا بالتالي كتاب اصطفيت فيه من العلوم والمعارف والثقافات المستقاة من معين القرآن الكريم الذي لا ينضب، ما هو لصيق الصلة بحاجات العصر، ومتطلبات التثقيف، بأسلوب جلي مبسّط، وتحليل علمي شامل، وتركيز على الغايات والأهداف المنشودة من تنزيل القرآن المجيد، ومنهج بعيد عن الإطالة المملّة، والإيجاز المخلّ الذي لا يكاد يفهم منه شيء لدى جيل بعدوا عن اللسان العربي في طلاوة بيانه، وأعماق تراكيبه، وإدراك فحواه، وكأنهم أصبحوا- بالرغم من الدّراسات الجامعية المتخصصة- في غربة عن المصادر الأصيلة، والثروة العلمية العريقة في شتى العلوم من تاريخ وأدب وفلسفة وتفسير وفقه وغيرها من العلوم الإسلامية الكثيرة الخصبة. فكان لا بدّ من تقريب ما صار بعيدا، وإيناس ما أصبح غريبا، وتزويد المسلم بزاد من الثقافة بعيدة عن الدّخيل كالإسرائيليات في التفسير، ومتفاعلة مع الحياة المعاصرة، ومتجاوبة مع القناعة الذاتية، والأصول العقلية، والمرتكزات الفكرية السليمة، وهذا يقتضينا تمحيص المنقول في تفاسيرنا، حتى إن منها

- تأثرا بروايات إسرائيلية- أحدث شرخا غير مقصود في عصمة بعض الأنبياء، واصطدم مع بعض النظريات العلمية التي أصبحت يقينية الثبوت بعد غزو الفضاء، واتساع ميادين الكشوف العلمية الحديثة، علما بأن دعوة القرآن تركزت على إعمال العقل والفكر وشحذ الذهن وتسخير المواهب في سبيل الخير، ومحاربة الجهل والتخلف. وهد في الأصيل من هذا المؤلّف هو ربط المسلم بكتاب الله عزّ وجلّ ربطا علميا وثيقا: لأن القرآن الكريم هو دستور الحياة البشرية العامة والخاصة، للناس قاطبة، وللمسلمين خاصة، لذا لم أقتصر على بيان الأحكام الفقهية للمسائل بالمعنى الضيق المعروف عند الفقهاء- وإنما أردت إيضاح الأحكام المستنبطة من آي القرآن الكريم بالمعنى الأعم الذي هو أعمق إدراكا من مجرد الفهم العام، والذي يشمل العقيدة والأخلاق، والمنهج والسلوك، والدستور العام، والفوائد المجنية من الآية القرآنية تصريحا أو تلميحا أو إشارة، سواء في البنية الاجتماعية لكل مجتمع متقدم متطور، أم في الحياة الشخصية لكل إنسان، في صحته وعمله وعلمه وتطلّعاته وآماله وآلامه ودنياه وآخرته، تجاوبا في المصداقية والاعتقاد مع قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال 8/ 24] . - إنه الحق سبحانه وتعالى ورسول الحق في هذه الآية اللذان يدعوان كل إنسان في هذا الوجود إلى الحياة الحرة الكريمة الشريفة بكل صورها ومعانيها. - إنه الإسلام الذي يدعو إلى عقيدة أو فكرة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهام الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، وتحرر الإنسان من العبودية لغير الله، ومن الخضوع للأهواء والشهوات، ومن طغيان المادية القاتلة للشعور الإنساني السامي.

- إنه القرآن الذي يدعو إلى شريعة العدل والحق والرحمة العامة بالإنسانية، ويدعو إلى منهج سليم للحياة والفكر والتصور والسلوك، وإلى نظرة شاملة للوجود توضح علاقة الإنسان بالله تعالى وبالكون والحياة. وهي دعوة قائمة على العلم والمعرفة الصحيحة والتجربة، والعقل والفكر الناضج الذي لا يفتر من كدّ الذهن وتشغيل المدارك، والنظر في هذا الكون سمائه وأرضه، برّا وبحرا وجوّا، وهي دعوة أيضا إلى القوة والعزة والكرامة والثقة والاعتزاز بشريعة الله، والاستقلال، مع الاستفادة من علوم ومعارف الآخرين، لأن العلم ليس حكرا على شعب دون شعب، وإنما هو عطاء إنساني عام، كما أن تحرير الإنسان وتحقيق إنسانيته العليا هدف إلهي عام، يعلو على مصالح الطغاة والمستبدين الذين يحاولون مصادرة إنسانية الإنسان من أجل الإبقاء على مصالحهم الخاصة، واستعلائهم على غيرهم، وتسلطهم على بني البشر. ولن يتأثر الاعتقاد بأصالة دعوة القرآن الخيّرة هذه إلى الناس كافة، بما يوضع أمامها من عراقيل، أو يبث حول جدارتها من شكوك أمام النهضة الحضارية المادية الجبارة، لأن هذه الدعوة ليست روحانية مجردة، ولا فلسفة خيالية أو نظرية بحتة، وإنما هي دعوة واقعية مزدوجة تضم بين جناحيها الدعوة إلى عمارة الكون، وبناء الدنيا والآخرة معا، وتعاضد الروح والمادة معا، وتفاعل الإنسان مع كل مصادر الثروة في هذا الكون، الذي سخّره الله تعالى للإنسان وحده استعمالا وانتفاعا، واستنباطا واختراعا، وإفادة واستكشافا مستمرا، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 29] . والمهم من التفسير والبيان مساعدة المسلم على تدبّر القرآن الكريم المأمور به في قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص 38/ 29] .

وإذا كان هدفي هو وضع تفسير للقرآن الكريم يربط المسلم وغير المسلم بكتاب الله تعالى- البيان الإلهي ووحيه الوحيد حاليا، الثابت كونه كلام الله ثبوتا قطعيا بلا نظير له ولا شبيه- فإنه سيكون تفسيرا يجمع بين المأثور والمعقول، مستمدا من أوثق التفاسير القديمة والحديثة، ومن الكتابات حول القرآن الكريم تأريخا، وبيان أسباب النزول، وإعرابا يساعد في توضيح كثير من الآيات، ولست بحاجة كثيرة إلى الاستشهاد بأقوال المفسرين، وإنما سأذكر أولى الأقوال بالصواب بحسب قرب اللفظ من طبيعة لغة العرب وسياق الآية. ولست في كل ما أكتب متأثرا بأي نزعة معينة، أو مذهب محدد، أو إرث اعتقادي سابق لاتجاه قديم، وإنما رائدي هو الحق الذي يهدي إليه القرآن الكريم، على وفق طبيعة اللغة العربية، والمصطلحات الشرعية، مع توضيح آراء العلماء والمفسرين، بأمانة ودقة وبعد عن التعصب. ولكن ينبغي البعد عن استخدام آيات القرآن لتأييد بعض الآراء المذهبية أو اتجاهات الفرق الإسلامية، أو التعسّف في التأويل لتأييد نظرية علمية قديمة أو حديثة، لأن القرآن الكريم أرفع بيانا، وأرقى مستوى، وأعلى شأنا من تلك الآراء والمذاهب والفرق، وليس هو كتاب علوم أو معارف كونية كالفلك وعلم الفضاء والطب والرياضيات ونحوها، وإن وجدت فيه بعض الإشارات إلى نظرية ما، وإنما هو كتاب هداية إلهية، وتشريع ديني، ونور يهدي لعقيدة الحق، وأصلح مناهج الحياة، وأصول الأخلاق والقيم الإنسانية العليا، كما قال الله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة 5/ 15- 16] .

وينحصر منهجي أو خطة بحثي فيما يأتي: 1- قسمة الآيات القرآنية إلى وحدات موضوعية بعناوين موضحة. 2- بيان ما اشتملت عليه كل سورة إجمالا. 3- توضيح اللغويات. 4- إيراد أسباب نزول الآيات في أصح ما ورد فيها، ونبذ الضعيف منها، وتسليط الأضواء على قصص الأنبياء وأحداث الإسلام الكبرى كمعركة بدر وأحد من أوثق كتب السّيرة. 5- التفسير والبيان. 6- الأحكام المستنبطة من الآيات. 7- البلاغة وإعراب كثير من الآيات، ليكون ذلك عونا على توضيح المعاني لمن شاء، وبعدا عن المصطلحات التي تعوق فهم التفسير لمن لا يريد العناية بها. وسأحرص بقدر الإمكان على التفسير الموضوعي: وهو إيراد تفسير مختلف الآيات القرآنية الواردة في موضوع واحد كالجهاد والحدود والإرث وأحكام الزواج والرّبا والخمر، وسأبيّن عند أول مناسبة كل ما يتعلّق بالقصة القرآنية مثل قصص الأنبياء من آدم ونوح وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم، وقصة فرعون مع موسى عليه السّلام، وقصة القرآن بين الكتب السماوية. ثم أحيل إلى موطن البحث الشامل عند تكرار القصة بأسلوب وهدف آخر. غير أني لن أذكر رواية مأثورة في توضيح القصة إلا بما يتفق مع أحكام الدين، ويتقبلها العلم، ويرتضيها العقل، وأيدت الآيات بالأحاديث الصحيحة المخرجة إلا ما ندر.

ويلاحظ أن أغلب الأحاديث المروية في فضائل سور القرآن موضوعة مكذوبة، وضعها الزّنادقة أو أصحاب الأهواء والمطامع، أو السؤّال الواقفون في الأسواق والمساجد، أو واضعو الحديث حسبة كما زعموا «1» . وفي تقديري أن هذه الخطة تحقق بمشيئة الله نفعا كبيرا، وسيكون هذا التأليف سهل الفهم، سريع المأخذ، محل الثقة والاطمئنان، يرجع إليه كل باحث ومطّلع، في وقت كثر فيه القول والدّعوة إلى الإسلام في المساجد وغيرها، ولكن مع مجافاة الصواب، أو الخلط، أو مجانبة الدقة العلمية، سواء في التفسير أو الحديث أو الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية، وعندها يظلّ الكتاب هو المرجع الأمين وموضع الثقة للعالم والمتعلم، منعا من إضلال الناس والإفتاء بغير علم، وحينئذ يتحقق بحق غرض النّبي صلّى الله عليه وسلم من تبليغ القرآن في قوله: «بلّغوا عني ولو آية» «2» ، لأن القرآن هو المعجزة الباقية من بين سائر المعجزات. ولعلي أكون بهذه الخطة في بيان المراد من آي كتاب الله مفردات وتراكيب، قد حقّقت غايتي من ربط المسلم بقرآنه، وقمت بالتّبليغ الواجب على كلّ مسلم بالرغم من وجود موسوعات أو تفاسير قديمة اعتمدت عليها، وقد تميزت إما بالتركيز على العقائد والنّبوات والأخلاق والمواعظ وتوضيح آيات الله في الكون، كالرّازي في التفسير الكبير، وأبي حيان الأندلسي في البحر المحيط، والألوسي في روح المعاني، والكشاف للزمخشري. وإما بتوضيح القصص القرآني وأخبار التاريخ، كتفسير الخازن والبغوي، وإما ببيان الأحكام الفقهية بالمعنى الضيّق للمسائل والفروع والقضايا كالقرطبي وابن كثير والجصاص وابن العربي، وإما بالاهتمام باللغويات كالزمخشري

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 78 وما بعدها. (2) أخرجه أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

وأبي حيان، وإما بالقراءات كالنسفي وأبي حيان وابن الأنباري، وابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) ، وإما بالعلوم والنظريات العلمية الكونية مثل طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) . والله أسأل أن ينفعنا بما علّمنا، ويعلّمنا ما ينفعنا، ويزيدنا علما، كما أسأله أن يعم النّفع كلّ مسلم ومسلمة بهذا الكتاب، وأن يلهمنا جميعا الرّشاد والسّداد، وأن يوفقنا للعمل بكتاب الله في كلّ مناحي الحياة، دستورا وعقيدة ومنهجا وسلوكا، وأن يهدينا إلى سواء الصراط، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور. وليكن رائدنا جميعا ما أخرجه البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» «1» . الدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي

_ (1) لم أجرؤ على هذا التفسير إلا بعد أن كتبت كتابين شاملين في موضوعيهما أو موسوعتين: الأول: (أصول الفقه الإسلامي) في مجلدين، والثاني: (الفقه الإسلامي وأدلته) في مختلف المذاهب- ثمانية مجلدات، وأمضيت في التدريس الجامعي ما يزيد عن ثلاثين عاما، وعملت في الحديث النّبوي تحقيقا وتخريجا وبيانا بالاشتراك لكتاب (تحفة الفقهاء) للسمرقندي، و (المصطفى من أحاديث المصطفى) زهاء (1400 حديث) . بالإضافة لمؤلفات وبحوث موسوعية تربو عن الثلاثين.

بعض المعارف الضرورية المتعلقة بالقرآن:

بعض المعارف الضرورية المتعلقة بالقرآن أولا- تعريف القرآن وكيفية نزوله وطريقة جمعه: القرآن المجيد الذي اقتضت حكمة الله ألا يبقى في الوجود أثر ثابت للوحي الإلهي سواه، بعد أن اندثرت أو زالت أو اختلطت الكتب السماوية السابقة بغيرها من العلوم التي وضعها البشر: هو منار الهداية، ودستور التشريع، ومصدر الأنظمة الربانية للحياة، وطريق معرفة الحلال والحرام، وينبوع الحكمة والحق والعدل، ومعين الآداب والأخلاق التي لا بدّ منها لتصحيح مسيرة الناس، وتقويم السلوك الإنساني، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] ، وقال عزّ وجلّ أيضا: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل 16/ 89] . وقد عرّفه علماء أصول الفقه، لا بسبب الجهل به أو عدم معرفة الناس به، وإنما لضبط ما يتعبد به وما تجوز الصلاة به، وما لا تجوز، ولتبيان أحكام الشرع الإلهي من حلال وحرام، وما يصلح حجة في استنباط الأحكام، وما يكفر جاحده وما لا يكفر، فقالوا عنه: القرآن: هو كلام الله المعجز «1» ، المنزّل على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، باللفظ العربي، المكتوب في المصاحف، المتعبّد بتلاوته «2» ، المنقول بالتواتر «3» ، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.

_ (1) أي الذي عجزت الإنس والجن عن الإتيان بمثل أقصر سورة من سوره. (2) أي أنه لا تصح الصلاة إلا بتلاوة شيء منه، كما أن مجرد تلاوته عبادة يثاب عليها المسلم. (3) التواتر: هو ما ينقله جمع عظيم عن جمع غفير يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب.

أسماء القرآن:

وبناء عليه: لا تسمى ترجمة القرآن قرآنا، وإنما هي تفسير، كما لا تسمى القراءة الشاذة (وهي التي لم تنقل بالتواتر وإنما بالآحاد) قرآنا، مثل قراءة ابن مسعود في فيئة الإيلاء «1» : «فإن فاءوا- فيهن- فإن الله غفور رحيم» [البقرة 2/ 226] وقراءته أيضا في نفقة الولد: «وعلى الوارث- ذي الرحم المحرم- مثل ذلك» [البقرة 2/ 233] ، وقراءته في كفارة يمين المعسر: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام- متتابعات-» [المائدة 5/ 89] . أسماء القرآن: للقرآن أسماء: هي القرآن، والكتاب، والمصحف، والنور، والفرقان «2» . وسمّي قرآنا، لأنه التنزيل المتلو المقروء، وقال أبو عبيدة: سمّي القرآن، لأنه يجمع السّور، فيضمها. قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة 75/ 17] أي جمعه وقراءته، ومن المعلوم أن القرآن نزل تدريجيا شيئا بعد شيء، فلما جمع بعضه إلى بعض سمّي قرآنا. وسمّي كتابا من الكتب أي الجمع، لأنه يجمع أنواعا من القصص والآيات والأحكام والأخبار على نحو مخصوص. وسمّي مصحفا من أصحف أي جمع فيه الصحف، والصحف جمع الصحيفة: وهي قطعة من جلد أو ورق يكتب فيه. وروي أن أبا بكر الصديق استشار الناس بعد جمع القرآن في اسمه، فسمّاه مصحفا. وسمّي نورا، لأنه يكشف الحقائق، ويبين الغوامض من حلال وحرام

_ (1) الإيلاء: الحلف على ترك وطء (جماع) المرأة. وفاء الرجل إلى امرأته: عاد إلى الاستمتاع بها بعد يمينه بالامتناع عن ذلك. (2) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة النظام- نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 1/ 25، تفسير الرازي: 2/ 14.

كيفية نزول القرآن:

وغيبيات لا يستطيع العقل إدراكها، ببيان قاطع وبرهان ساطع، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء 4/ 174] . وسمّي فرقانا لأنه فرّق بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والخير والشّر، قال الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . كيفية نزول القرآن: لم ينزل القرآن جملة واحدة، كما نزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام، لئلا يثقل كاهل المكلفين بأحكامه، وإنما نزل على قلب النّبي الكريم صلّى الله عليه وسلم بالوحي بواسطة جبريل عليه السّلام، منجّما أي مفرقا على وفق مقتضيات الظروف والحوادث والأحوال، أو جوابا للوقائع والمناسبات أو الأسئلة والاستفسارات. فمن الأول: قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة 2/ 221] ، نزلت في شأن مرثد الغنوي الذي أرسله النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة، ليحمل منها المستضعفين المسلمين، فأرادت امرأة مشركة اسمها (عناق) وكانت ذات مال وجمال، أن تتزوجه، فقبل بشرط موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم، فلما سأله نزلت الآية، ونزل معها آية وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة 2/ 221] . ومن الثاني: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة 2/ 220] ، ووَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة 2/ 222] ، ووَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء 4/ 127] ، ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال 8/ 1] . وقد بدأ نزوله في رمضان في ليلة القدر، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ

[البقرة 2/ 185] ، وقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان 44/ 3] ، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... [القدر 98/ 1] . واستمر نزول القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة إما في مكة وإما في المدينة وإما في الطريق بينهما أو في غيره من الأماكن. وكان نزوله إما سورة كاملة كالفاتحة والمدثر والأنعام، أو عشر آيات مثل قصة الإفك في سورة النور، وأول سورة المؤمنين، أو خمس آيات، وهو كثير، أو بعض آية، مثل: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء 4/ 95] بعد قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء 4/ 95] ومثل قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة 9/ 28] ، فإنه نزل بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] . وتعددت حكمة إنزال القرآن منجما، بسبب المنهج الإلهي الذي رسم به طريق الإنزال، كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء 17/ 106] . من هاتيك الحكم: تثبيت قلب النّبي صلّى الله عليه وسلم وتقوية فؤاده ليحفظه ويعيه، لأنه كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان 25/ 32] . ومنها: مراعاة مقتضيات التدرّج في التشريع، وتربية الجماعة، ونقلها على مراحل من حالة إلى حالة أحسن من سابقتها، وإسبال الرحمة الإلهية على العباد، فإنّهم كانوا في الجاهلية في إباحية مطلقة، فلو نزّل عليهم القرآن دفعة واحدة، لعسر عليهم التكليف، فنفروا من التطبيق للأوامر والنواهي.

المكي والمدني من القرآن:

أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا» «1» . ومنها: ربط نشاط الجماعة بالوحي الإلهي: إذ إن اتصال الوحي بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم يساعده على الصبر والمصابرة، وتحمل المشاق والمصاعب وأنواع الأذى التي كابدها من المشركين، كما أنه وسيلة لتقوية العقيدة في نفوس الذين أسلموا، فإذا نزل الوحي علاجا لمشكلة، تأكد صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، وإذا أحجم النّبي عن جواب مسألة، ثم جاءه الوحي، أيقن المؤمنون بصدق الإيمان واطمأنوا إلى سلامة العقيدة، وأمان الدّرب الذي سلكوه، وزادت ثقتهم بالغايات والوعود المنتظرة التي وعدهم الله بها: إما بالنصر على الأعداء أو المشركين في الدنيا، وإما بالفوز بالجنة والرضا الإلهي، وتعذيب الكفار في نار جهنم. المكي والمدني من القرآن: كان للوحي القرآني صبغتان أو لونان جعلت منه نوعين هما: المكي والمدني، وانقسمت بالتالي سور القرآن إلى مكية ومدنية. أما المكي: فهو ما نزل في مدى ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة- هجرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة- سواء نزل في مكة أو في الطائف أو في أي مكان

_ (1) هذا وقد ذكر الزمخشري في الكشاف: 1/ 185 وما بعدها أسباب تفصيل القرآن وتقطيعه سورا، منها أن تنوع البيان للجنس الواحد أحسن وأجمل وأفخم من أن يكون بيانا واحدا. ومنها إثارة النشاط والحث على الدرس والتحصيل من القرآن خلافا لو استمر الكتاب جملة واحدة، ومنها اعتزاز الحافظ بطائفة مستقلة من القرآن بعد حفظها، ومنها أن التفصيل بمشاهد عديدة سبب لدعم المعاني، وتأكد المراد واجتذاب الأنظار.

فائدة العلم بأسباب النزول:

آخر، مثل سورة (ق) و (هود) و (يوسف) . وأما المدني: فهو ما نزل في مدى عشر سنوات بعد الهجرة، سواء نزل في المدينة أو في الأسفار والمعارك الحربية أو في مكة عام الفتح، مثل سورة (البقرة) و (آل عمران) . ويغلب على التشريع المكي إصلاح العقيدة والأخلاق، والتنديد بالشرك والوثنية، وإقرار عقيدة التوحيد، وتصفية آثار الجهل من قتل وزنا ووأد بنات، والتأدّب بآداب الإسلام وأخلاقه، مثل العدل، والوفاء بالعهد، والإحسان، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وفعل الخيرات وترك المنكرات، وإعمال العقل والفكر، ونقض أوهام التقليد الأعمى، وتحرير الإنسان، والاعتبار بقصص الأنبياء مع أقوامهم. وقد اقتضى ذلك جعل الآيات المكية قصيرة تزخر بالرهبة والزجر والوعيد، وتبعث على الخشية، وتشعر بمعنى الجلال. وأما التشريع المدني فيغلب عليه تقرير الأنظمة والأحكام المفصلة للعبادات، والمعاملات المدنية والعقوبات، ومتطلبات الحياة الجديدة في إقامة صرح المجتمع الإسلامي في المدينة، وتنظيم شؤون السياسة والحكم، وترسيخ قاعدتي الشورى والعدل في إصدار الأحكام، وتنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم في داخل المدينة وخارجها، وقت السلم والحرب، بتشريع الجهاد لوجود مسوغاته من إيذاء وعدوان وتشريد وطرد وتهجير، ثم وضع أنظمة المعاهدات لإقرار الأمن وتوطيد دعائم السلم، وقد اقتضى ذلك كون الآيات المدنية طويلة هادئة، ذات أبعاد وغايات دائمة غير وقتية، تستدعيها عوامل الاستقرار والاطمئنان وبناء الدولة على أمتن الأسس وأقوى الدعائم. فائدة العلم بأسباب النزول: إن معرفة أسباب نزول الآيات بحسب الوقائع والمناسبات لها فوائد كثيرة وأهمية بالغة في تفسير القرآن وفهمه على الوجه الصحيح، لأن أسباب النزول

أول القرآن وآخره نزولا:

قرائن معبرة توضح غاية الحكم، وتبين سبب التشريع، وتعرف أسراره ومراميه، وتساعد على فهم القرآن فهما دقيقا شاملا، حتى وإن كانت العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ونرى في عالمنا. القانوني اليوم ما يسمى بالمذكّرات التوضيحية للقوانين والأنظمة والأحكام، يبين فيها أسباب إصدارها، وأهدافها. ويؤكد ذلك أن كل نظام يظل في مستوى الأمور النظرية غير المقنعة كثيرا للناس، ما لم يقترن بالمتطلبات الواقعية، أو يرتبط بالحياة العملية. وكل ما سبق يشير إلى أن شريعة القرآن ليست فوق مستوى الأحداث، أو أنها سامية مثالية لا تقبل التطبيق، وإنما هي متعاصرة مع كل زمن، متفاعلة مع الواقع، تصف العلاج الحاسم لكل داء عضال من أمراض المجتمع، وشذوذات الأفراد وانحرافاتهم. أول القرآن وآخره نزولا: كان أول ما نزل من القرآن الكريم قول الله تعالى من سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق 97/ 1- 5] ، وذلك يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، سنة إحدى وأربعين من ميلاده صلّى الله عليه وسلّم، في غار حراء، حين بدأ الوحي، بواسطة جبريل الأمين عليه السّلام. وكان آخر ما نزل من القرآن في أرجح الأقوال، قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة 2/ 281] ، وذلك قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بتسع ليال بعد ما فرغ من حجّة الوداع، أخرجه كثيرون عن ابن عباس رضي الله عنهما. أما ما قيل وروي عن السّديّ: إن آخر ما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... [المائدة 5/ 3] ،

جمع القرآن:

فغير مسلّم به، لأنّ هذه الآية نزلت باتفاق العلماء يوم عرفة من حجة الوداع قبل نزول سورة النصر، وآية البقرة السابقة. جمع القرآن: لم يكن ترتيب القرآن الكريم في آياته وسوره بالنحو التوقيفي في واقعه الموجود في المصاحف الحالية والغابرة متفقا مع أحوال نزول الوحي به، فقد نزل بحسب الوقائع والمناسبات، إما سورة كاملة أو بعض آيات، أو بعض آية، كما عرفنا، ثم جمع ثلاث مرات. الجمع الأول في عهد النبوة: حدث الجمع الأول في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم بحفظه الثابت الراسخ كالنقش في الحجر في صدره عليه الصلاة والسلام، تحقيقا لوعد الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة 75/ 16- 19] ، وقد عرضه النّبي صلّى الله عليه وسلّم مرات على جبريل عليه السّلام، مرة في كل رمضان، وعرضه عليه مرتين في آخر رمضان قبل الوفاة، ثم قرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس على نحو هذه العرضات، ثم كتبه الصحابة عنه، وكان كتّاب الوحي خمسا وعشرين كاتبا، والتحقيق أنهم كانوا زهاء ستين، وأشهرهم الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وأخوه يزيد، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، وحفظه أيضا عدد من الصحابة في صدورهم حبّا به، واعتمادا على قوة حافظتهم وذاكرتهم التي اشتهروا بها، حتى إن حروب المرتدين قتل فيها سبعون من القراء، وقد عدّ أبو عبيد في كتاب (القراءات) بعض الحفاظ، فذكر من المهاجرين: الخلفاء الراشدين الأربعة، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن

الجمع الثاني في عهد أبي بكر:

أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة الأربعة (ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وابن الزبير) ، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة. وذكر من الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذا أبا حليمة، ومجمّع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلّد. وكان من أشهر الحفاظ: عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري. الجمع الثاني في عهد أبي بكر: لم يجمع القرآن في مصحف واحد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لاحتمال نزول وحي جديد ما دام النّبي صلّى الله عليه وسلّم حيّا، ولكن كانت كل آيات القرآن مكتوبة في الرقاع والعظام والحجارة وجريد النخل. ثم استحّر القتل في القراء في وقعة اليمامة في عهد أبي بكر، كما روى البخاري في فضائل القرآن في الجزء السادس، فارتأى عمر بن الخطاب جمع القرآن، ووافقه أبو بكر، وكلّف زيد بن ثابت بهذه المهمة، وقال أبو بكر لزيد: «إنك شاب عاقل لانتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه» ، ففعل زيد ما أمر به وقال: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف «1» ، وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة- أي مكتوبة- مع خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] ، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر» «2» .

_ (1) العسب: جمع عسيب: وهو جريدة من النخل كشط خوصها. واللّخاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة. (2) صحيح البخاري: 6/ 314- 315.

الجمع الثالث - في عهد عثمان بنسخ المصاحف على خط واحد:

يتبين من هذا أن طريقة الجمع اعتمدت على أمرين معا: هما المكتوب في الرقاع والعظام ونحوها، وحفظ الصحابة للقرآن في صدورهم. واقتصر الجمع في عهد أبي بكر على أنه جمع القرآن في صحف خاصة، بعد أن كان متفرقا في صحف عديدة، ولم يكتف زيد بحفظه القرآن، وإنما اعتمد أيضا على حفظ غيره من الصحابة وهم العدد الكثير الذي يحصل به التواتر، أي اليقين المستفاد من نقل الجمع الكثير الذي يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب. الجمع الثالث- في عهد عثمان بنسخ المصاحف على خط واحد: اقتصر دور عثمان بن عفان رضي الله عنه على كتابة ست نسخ من المصاحف على حرف واحد وطريقة واحدة، ووزعها في الأمصار الإسلامية، فأرسل ثلاثة منها إلى الكوفة ودمشق والبصرة، وأرسل اثنين إلى مكة والبحرين، أو إلى مصر والجزيرة، وأبقى لديه مصحفا بالمدينة. وأمر بإحراق المصاحف الأخرى المخالفة في العراق والشام فقط. وظل المصحف الشامي محفوظا بجامع دمشق (الجامع الأموي) عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد رآه ابن كثير كما ذكر في كتابه (فضائل القرآن) في آخر تفسيره، إلى أن أصابه الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة 1310 هـ، ورآه قبل الحريق كبار علماء دمشق المعاصرين. وسبب هذا الجمع يظهر فيما رواه لنا البخاري في فضائل القرآن في الجزء السادس عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.

فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرّق «1» . وأصبح المصحف العثماني أساسا في نشر وطبع المصاحف المتداولة الآن في العالم، فبعد أن كان الناس يقرءون بقراءات مختلفة، إلى وقت عثمان، جمع عثمان الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، وجعله إماما، ولهذا نسب إليه، ولقّب بأنه جامع القرآن. والخلاصة: إن جمع القرآن في عهد أبي بكر كان جمعا له في نسخة واحدة موثوقة، وجمع القرآن في عهد عثمان كان نسخا من صحف حفصة، لمصاحف ستة بحرف واحد. وكان هذا الحرف ملائما للأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وأصبح لقراءة رسم المصحف طريقان: موافقة للرسم المكتوب حقيقة، وموافقة للرسم احتمالا أو تقديرا. ولا خلاف بين العلماء في أن ترتيب آيات السور توقيفي منقول ثابت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن ترتيب السور أيضا توقيفي على الراجح. أما دليل ترتيب

_ (1) صحيح البخاري: 6/ 315- 316.

ثانيا - طريقة كتابة القرآن والرسم العثماني:

الآيات فقول عثمان بن العاص رضي الله عنه: «كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ شخص ببصره ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل 16/ 90] » . وأما دليل ترتيب السور فهو حضور بعض الصحابة كابن مسعود ممن حفظوا القرآن عن ظهر قلب، مدارسة القرآن بين جبريل عليه السّلام والنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا بأنها كانت على وفق هذا الترتيب المعهود في السور وفي الآيات. وأركان قرآنية الآية أو الكلمة أو القراءة المقبولة ثلاثة: الموافقة للرسم العثماني ولو احتمالا، التوافق مع قواعد النحو العربي ولو بوجه، النقل المتواتر بواسطة جمع عن جمع عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما يعرف بصحة السند. ثانيا- طريقة كتابة القرآن والرسم العثماني: الرسم: طريقة كتابة الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها، والوقوف عليها. والمصحف: هو المصحف العثماني الإمام الذي أمر بكتابته سيدنا عثمان رضي الله عنه، والذي أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم «1» . والرسم العثماني: هو الطريقة التي كتبت بها المصاحف الستة في عهد عثمان رضي الله عنه. وهو الرسم المتداول المعمول به بعد البدء بطباعة القرآن في البندقية سنة 1530 م، وما تلاها من طبعة إسلامية خالصة للقرآن في سانت بترسبوغ، في روسيا، سنة 1787 م، ثم في الآستانة سنة 1877 م.

_ (1) المصاحف للسجستاني: ص 50

وللعلماء رأيان في طريقة كتابة القرآن أو الإملاء:

وللعلماء رأيان في طريقة كتابة القرآن أو الإملاء «1» : 1- رأي جمهور العلماء ومنهم الإمامان مالك وأحمد: أنه يجب كتابة القرآن كما وردت برسمها العثماني في المصحف الإمام، ويحرم مخالفة خط عثمان في جميع أشكاله في كتابة المصاحف، لأن هذا الرسم يدلّ على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة. 2- رأي بعض العلماء (وهم أبو بكر الباقلاني وعز الدين بن عبد السلام وابن خالدون) : أنه تجوز كتابة المصاحف بالطرق أو الرسوم الإملائية المعروفة للناس، لأنّه لم يرد نص في الرسم، وإن ما في الرسم من زيادات أو حذوف لم يكن توقيفا أوحى الله به على رسوله، ولو كان كذلك لآمنا به وحرصنا عليه، وإذا كتب المصحف بالإملاء الحديث أمكن قراءته صحيحا وحفظه صحيحا. وقد رأت لجنة الفتوى بالأزهر وغيرها من علماء العصر «2» الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف، احتياطا لبقاء القرآن على أصله لفظا وكتابة، وحفاظا على طريقة كتابته في العصور الإسلامية السابقة، دون أن ينقل عن أحد من أئمة الاجتهاد تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولا، ولمعرفة القراءة المقبولة والمردودة، فلا يفتح فيه باب الاستحسان الذي يعرض القرآن للتغيير والتحريف، أو للتلاعب به، أو البعث بآياته من ناحية الكتابة. لكن لا مانع في رأي جماهير العلماء من كتابة القرآن بطرق الإملاء الحديثة في مجال الدرس والتعليم، أو عند الاستشهاد بآية أو أكثر في بعض المؤلفات الحديثة، أو في كتب وزارة التربية والتعليم، أو أثناء عرضه على شاشة التلفاز.

_ (1) تلخيص الفوائد لابن القاصّ: ص 56 وما بعدها، الإتقان للسيوطي: 2/ 166، البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 379، 387، مقدمة ابن خالدون: ص 419. [.....] (2) مجلة الرسالة: العدد 216، سنة 1937، ومجلة المقتطف تموز سنة 1933

ثالثا - الأحرف السبعة والقراءات السبع:

ثالثا- الأحرف السبعة والقراءات السبع: روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه» «1» أي سبعة أوجه، وهو سبع لغات ولهجات من لغات العرب ولهجاتهم، يجوز أن يقرأ بكل لغة منها، وليس المراد: أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه وإنما لا يخرج عنها، فإما أن تكون بلغة قريش، وهو الغالب، وإما أن تكون بلغة قبيلة أخرى، لأنها أفصح، وتلك اللغات التي كانت مشهورة شائعة عذبة اللفظ هي: لغة قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. وهذا هو الأشهر والراجح. وفي رأي آخر: المراد بالسبعة: أوجه القراءات القرآنية، فاللفظ القرآني الواحد مهما يتعدد أداؤه وتتنوع قراءته لا يخرج التغاير فيه عن الوجوه السبعة الآتية وهي «2» : 1- الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، أو يغير معناها، مثل (فتلقى آدم) قرئ (آدم) . 2- الاختلاف في الحروف، إما بتغير المعنى مثل (يعلمون وتعلمون) ، وإما بتغير الصورة دون المعنى مثل (الصراط) و (السراط) . 3- اختلاف أوزان الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها وتذكيرها وتأنيثها، مثل (أماناتهم) و (أمانتهم) .

_ (1) أخرجه الجماعة: البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود والنسائي (جامع الأصول: 3/ 31) . (2) تفسير القرطبي: 1/ 42- 47، تفسير الطبري: 1/ 23 وما بعدها، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص 28 وما بعدها، تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ص 20 وما بعدها، مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي صالح: ص 101- 116

4- الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يغلب أن تكون إحداهما مرادفة للأخرى مثل (كالعهن المنفوش) أو (كالصوف المنفوش) وقد يكون بإبدال حرف بآخر مثل (ننشزها) و (ننشرها) . 5- الاختلاف بالتقديم والتأخير، مثل (فيقتلون ويقتلون) قرئ (فيقتلون ويقتلون) . 6- الاختلاف بالزيادة والنقص، مثل (وما خلق الذكر والأنثى) قرئ (والذكر والأنثى) . 7- اختلاف اللهجات في الفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والهمز والتسهيل، وكسر حروف المضارعة، وقلب بعض الحروف، وإشباع ميم الذكور، وإشمام بعض الحركات، مثل (وهل أتاك حديث موسى) و (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) قرئ بإمالة: (أتى) ، (وموسى) ، (وبلى) وقوله تعالى: (خبيرا بصيرا) بترقيق الراءين، و (الصلاة) و (الطلاق) بتفخيم اللامين. وقوله تعالى: (قد أفلح) بترك الهمزة ونقل حركتها من أول الكلمة الثانية إلى آخر الكلمة الأولى، وهو ما يسمى (تسهيل الهمزة) . وقوله تعالى: (لقوم يعلمون، نحن نعلم، وتسود وجوه، ألم أعهد) بكسر حروف المضارعة في جميع هذه الأفعال. وقوله تعالى: (حتى حين) قرأه الهذليون (عتى عين) بقلب الحاء عينا. وقوله تعالى: (عليهم دائرة السّوء) بإشباع ميم جمع الذكور. وقوله تعالى: (وغيض الماء) بإشباع ضمة الغين مع الكسر. والخلاصة: إن الأحرف السبعة: هي اللغات السبع التي اشتملت عليها لغة مضر في القبائل العربية، وليست هي القراءات السبع أو العشر المتواترة المشهورة، فهذه القراءات التي انتشرت كثيرا في عصر التابعين ثم اشتهرت في القرن الرابع بعد ظهور كتاب في القراءات للإمام المقرئ ابن مجاهد، تعتمد على غير

رابعا - القرآن كلام الله وأدلة الإثبات بوجوه الإعجاز:

الأصل الذي يتعلق بالأحرف السبعة، وتتفرع من حرف واحد من الأحرف السبعة، كما أبان القرطبي. ثم إن الكلام على الأحرف السبعة أصبح تاريخيا، فقد كانت تلك الأحرف السبعة توسعة في النطق بها على الناس في وقت خاص للضرورة، لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، ثم زال حكم تلك الضرورة، وارتفع حكم تلك الأحرف السبعة، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد، ولم يكتب القرآن إلا بحرف واحد منذ عهد عثمان، مما قد تختلف فيه كتابة الحروف، وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن، كما أوضح الطحاوي وابن عبد البر وابن حجر وغيرهم «1» . رابعا- القرآن كلام الله وأدلة الإثبات بوجوه الإعجاز: إن القرآن العظيم المسموع والمكتوب: هو كلام الله القديم العزيز العليم، ليس شيء منه كلاما لغيره من المخلوقين، لا جبريل، ولا محمّد ولا غيرهما، والناس يقرءونه بأصواتهم «2» . قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] وقال عز وجل: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُدىً، وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل 16/ 102] . والدليل على أن القرآن كلام الله: هو عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، وهذا هو المراد بإعجاز القرآن: أي عجز البشر عن الإتيان بمثله، في بلاغته، أو تشريعه أو مغيباته. قال الله تعالى مستثيرا العرب المعروفين بأنهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة، ومتحديا لهم بأن يأتوا

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 42- 43، فتح الباري: 9/ 24- 25، شرح مسلم للنووي: 6/ 100 (2) فتاوى ابن تيمية: 12/ 117- 161، 172

بمثل القرآن في نظمه ومعانيه وبيانه المشرق البديع الفريد ولو بمثل سورة منه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة 2/ 23- 24] . وتتكرر آي القرآن في مناسبات مختلفة مطالبة بمجاراة القرآن وتحدي العرب الذين عارضوا الدعوة الإسلامية، ولم يؤمنوا بالقرآن، ولم يقرّوا بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، فقال تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا [الإسراء 17/ 88] . وإذ عجزوا عن الإتيان بالمثيل، فليأتوا بعشر سور مثله، فقال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود 11/ 13- 14] . ثم أكد الحق سبحانه التحدي أو المعارضة بمثل سورة من القرآن بعد العجز عن المثل الكامل أو عن عشر سور منه، فقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس 10/ 38] . قال الطبري «1» : إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم ولأمته، بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله، ولا لأمة من الأمم قبلهم، وذلك أن كل كتاب أنزله جلّ ذكره على نبي من أنبيائه قبله، فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، كالتوراة

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 65- 66

ومظاهر الإعجاز أو أوجه الإعجاز كثيرة:

التي هي مواعظ وتفصيل، والزبور الذي هو تمحيد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير، لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب، غيره منها خال. ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب: نظمه العجيب، ووصفه الغريب، وتأليفه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلّت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت قصورا عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء، فلم يجدوا له إلا التسليم والإقرار بأنه من عند الله الواحد القهار، مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمر وزجر، وقصص وجدل ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء. ومظاهر الإعجاز أو أوجه الإعجاز كثيرة: منها ما يخص العرب في روعة بيانه وبلاغة أسلوبه وجزالة ألفاظه أو نظمه، سواء في اختيار الكلمة القرآنية أو الجملة والتركيب ونظم الكلام، ومنها ما يشمل العرب وغيرهم من عقلاء الناس بالإخبار عن المغيبات في المستقبل، وعن الماضي البعيد من عهد آدم عليه السّلام إلى مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم، وبالتشريع المحكم الشامل لكل شؤون الحياة العامة والخاصة. وأكتفي هنا بإيجاز مظاهر الإعجاز وهي عشرة كما ذكر القرطبي «1» : أ- النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيره، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء.

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 73- 75، وانظر دلائل الإعجاز في علم المعاني، للإمام عبد القاهر الجرجاني: ص 294 وما بعدها، إعجاز القرآن للباقلاني: ص 33- 47، إعجاز القرآن للرافعي: ص 238- 290، تفسير المنار: 1/ 198- 215

2- الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب. 3- الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وقوله سبحانه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى آخر سورة الزمر، وكذلك قوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إلى آخر سورة [إبراهيم 14/ 42] . 4- التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه. 5- الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله على قلب النّبي الأمي صلّى الله عليه وسلم، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم النبي صلّى الله عليه وسلم- وهو أمي من أمة أمية، ليس لها بذلك علم، بما عرفوا من الكتب السالفة، فتحققوا صدقه. 6- الوفاء بالوعد، المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم: إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السّلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه. وإلى وعد مقيد بشرطه، كقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] ووَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن 64/ 11] ووَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق 65/ 2] وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال 8/ 65] وشبه ذلك. 7- الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي، ولا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه، من ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ

بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة 9/ 33] ، ففعل ذلك. ومنه قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران 3/ 12] . ومنه قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح 48/ 27] . ومنه قوله تعالى: الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ، سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم 30/ 1- 3] . فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، وقد عجز الزمان عن إبطال شيء منها، سواء في الخلق والإيجاد أم في بيان أخبار الأمم، أم في وضع التشريع السوي لكل الأمم، أم في توضيح كثير من المسائل العلمية والتاريخية، مثل وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر 15/ 22] وآية أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء 21/ 30] ، وآية وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات 51/ 49] وآية وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ [الحجر 15/ 19] وآية إثبات كروية الأرض: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر 39/ 5] والتكوير: اللف على الجسم المستدير. واختلاف مطالع الشمس في آية وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها إلى قوله وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 38- 40] . 8- ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام، فهو يشتمل على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية وأحكام العبادات، وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي الموافقة لكل زمان ومكان. 9- الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي. 10- التناسب في جميع ما تضمنه القرآن ظاهرا وباطنا، من غير اختلاف،

وأما خصائص المعنى فهي أربعة أيضا:

قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] . يظهر من بيان هذه الأوجه في إعجاز القرآن أنها تشمل الأسلوب والمعنى. أما خصائص الأسلوب فهي أربعة: الأولى- النسق البديع والنظم الغريب، والوزن العجيب المتميز عن جميع كلام العرب، شعرا ونثرا وخطابة. الثانية- السمو المتناهي في جمال اللفظ، ورقة الصياغة، وروعة التعبير. الثالثة- التآلف الصوتي في نظم الحروف ورصفها، وترتيبها، وصياغتها، وإيحاءاتها، بحيث تصلح خطابا لكل الناس على اختلاف المستويات الفكرية والثقافية، مع تسهيل سبيلها وحفظها لمن أراد، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 17] . الرابعة- تناسب اللفظ والمعنى، وجزالة اللفظ وإيفاء المعنى، ومناسبة التعبير للمقصود، والإيجاز والقصد دون أي تزيّد، وترسيخ المعاني بصور فنية محسوسة تكاد تلمسها، وتتفاعل معها، بالرغم من تكرارها بصورة جذابة فريدة. وأما خصائص المعنى فهي أربعة أيضا: الأولى- التوافق مع العقل والمنطق والعلم والعاطفة. الثانية- قوة الإقناع، واجتذاب النفس، وتحقيق الغاية بنحو حاسم قاطع. الثالثة- المصداقية والتطابق مع أحداث التاريخ، والواقع المشاهد، وسلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف، خلافا لجميع كلام البشر.

خامسا - عربية القرآن وترجمته إلى اللغات الأخرى:

الرابعة- انطباق المعاني القرآنية على مكتشفات العلوم والنظريات الثابتة. ويجمع هذه الخصائص آيات ثلاث في وصف القرآن، وهي قوله تعالى: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود 11/ 1] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] وقوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر 59/ 21] . وسيظل القرآن الكريم ناطقا بالمعجزات في كل عصر، فهو- كما قال الرافعي «1» - كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز، وهو معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت. خامسا- عربية القرآن وترجمته إلى اللغات الأخرى: القرآن كله عربي «2» ، نزل بلسان العرب، وما من لفظ فيه إلا وهو عربي أصلا، أو معرّب خاضع لموازين اللغة العربية وقوالبها ومقاييسها ... وقد زعم بعض الناس أن القرآن ليس عربيا خالصا، لاشتماله على بعض كلمات من أصل أعجمي (غير عربي) ، مثل (سندس) و (إستبرق) وأنكر بعض العرب ألفاظ (قسورة) و (كبّارا) ، و (عجاب) فدخل شيخ طاعن في السن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: قم، ثم قال له: اقعد، كرر ذلك

_ (1) إعجاز القرآن: ص 173، 175 (2) تفسير الطبري: 1/ 25

مرات، فقال الشيخ: أتهز أبي، يا ابن (قسورة) ، وأنا رجل (كبارا) ، إن هذا الشيء (عجاب) ! فسألوه، هل هذا في اللغة العربية؟ فقال: نعم. وكان الإمام الشافعي رحمه الله أول من رد بكلامه الفصيح، وحجته القوية على هذا الزعم، مبينا أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، مفندا حجج هؤلاء الزاعمين وأهمها ثنتان: الأولى- أن في القرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب. والثانية- أن في القرآن ما ينطق به غير العرب. ورد على الحجة الأولى: بأن جهل بعض العرب ببعض القرآن ليس دليلا على عجمة بعض القرآن، بل هو دليل على جهل هؤلاء ببعض لغتهم، فليس لأحد أن يدعي الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربي، لأنه أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها لفظا، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي. ثم رد على الحجة الثانية: بأن بعض الأعاجم قد تعلم بعض الألفاظ العربية، وسرت إلى لغاتهم، ويحتمل أن يوافق لسان العجم أو بعض الألسنة قليلا من لسان العرب، وقد يكون بعض الألفاظ العربية من أصل أعجمي، لكن هذا القليل النادر من أصل غير عربي قد سرى قديما إلى العرب، فعرّبوه، وأنزلوه على طبيعة لغتهم، وجعلوه صادرا من لسانهم، بحسب حروفهم ومخارج تلك الحروف وصفاتها في لغة العرب، وذلك مثل الألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، وإن كانت في الأصل تقليدا في تغمتها للغات الأخرى «1» . وتضافرت الآيات القرآنية بالتصريح بأن القرآن كله عربي، جملة

_ (1) الرسالة للإمام الشافعي: ص 41- 50، ف 133- 170، وانظر المستصفى للغزالي: 1/ 68، وروضة الناظر: 1/ 184

وتفصيلا، وأنه نزل بلسان العرب قوم النّبي صلّى الله عليه وسلم، منها قوله تعالى: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف 12/ 1- 2] ومنها قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] ومنها: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرعد 13/ 37] ومنها: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى 42/ 7] ومنها: حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف 43/ 1- 3] ومنها: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر 39/ 28] . ورتب الشافعي على عربية القرآن حكما مهما جدا، فقال: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد، وغير ذلك. وكان من مزية عربية القرآن وفضله على العرب أمران عظيمان هما: الأول- إن تعلم القرآن والنطق به على أصوله يقوّم اللسان، ويفصّح المنطق، ويصحح الكلام، ويساعد على فهم لغة العرب، فليس هناك شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة، حين تتأثر باللهجات العامية المختلفة. الثاني- كان للقرآن الفضل الأكبر في الحفاظ على اللغة العربية، في مسيرة القرون الأربعة عشر الغابرة، بما اشتملت عليه من فترات ضعف وتخلف وتسلط المستعمرين الأوربيين على بلاد العرب، بل إن القرآن عامل أساسي في توحيد العرب، وباعث قوي ساعد في انتفاضة العرب ضد المحتل الغاصب والمستعمر البغيض، مما أعاد الصحوة الإسلامية إلى أوطان العرب والإسلام، وربط بين

ترجمة القرآن:

المسلمين برباط الإيمان والعاطفة القوية الصادقة، لا سيما في أوقات المحنة والحروب ضد المحتلين. ترجمة القرآن: يحرم ولا يصح شرعا ترجمة نظم القرآن الكريم، لأن ذلك متعذر غير ممكن، بسبب اختلاف طبيعة اللغة العربية التي نزل بها القرآن عن سائر اللغات الأخرى، ففي العربية المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والصور الفنية التي لا يمكن صبها بألفاظها في قوالب لغة أخرى، ولو حدث ذلك لفسد المعنى، واختل التركيب، وحدثت العجائب في فهم المعاني والأحكام، وذهبت قدسية القرآن، وزالت عظمته وروعته، وتبددت بلاغته وفصاحته التي هي سبب إعجازه. لكن يجوز شرعا ترجمه معاني القرآن أو تفسيره، على أنه ليس هو القرآن، فلا تعد ترجمة القرآن قرآنا، مهما كانت الترجمة دقيقة، ولا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية، لأن فهم المراد من الآيات يحتمل الخطأ، وترجمتها إلى لغة أخرى يحتمل الخطأ أيضا، ولا يصح الاعتماد على الترجمة مع وجود هذين الاحتمالين «1» . ولا تصح الصلاة بالترجمة «2» ، ولا يتعبد بتلاوتها، لأن القرآن اسم للنظم والمعنى، والنظم: هو عبارات القرآن في المصاحف. والمعنى: هو ما تدل عليه العبارات، ولا تعرف أحكام الشرع الثابتة بالقرآن إلا بمعرفة النظم والمعنى.

_ (1) وهذا هو الحادث الآن، فقد ترجم القرآن الكريم إلى زهاء خمسين لغة، وكلها ترجمات ناقصة، أو مشوهة، وغير موثوقة، وحبذا لو صدرت ترجمة من ثقات العلماء المسلمين. (2) تفسير الرازي: 1/ 209

سادسا - الحروف التي في أوائل السور - الحروف المقطعة:

سادسا- الحروف التي في أوائل السور- الحروف المقطعة: بدأ الحق سبحانه وتعالى بعض السور المكية أو المدنية القرآنية ببعض حروف التهجي أو الحروف المقطعة، منها البسيط المؤلف من حرف واحد، وذلك في سور ثلاث: صاد وقاف والقلم، إذ افتتحت الأولى بحرف: أَحْرَصَ والثانية بحرف: بَرْقٌ، والثالثة بحرف: ن. ومنها فواتح عشر سور مؤلفة من حرفين، سبع منها متماثلة تسمى: الحواميم، لابتدائها بحرفي: لَحْمَ، وهي سور: غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، وتتمة العشر: هي سور: طه، وطس، ويس. ومنها فواتح ثلاث عشرة سورة مركبة من ثلاثة أحرف، ست منها بدئت بالم وهي سور: البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وخمس منها بلفظ الر: وهي سور: يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر. واثنتان منها بدئت بطسم، وهما سورتا الشعراء والقصص. ومنها سورتان افتتحتا بأربعة أحرف، وهما سورة الأعراف وفاتحتها المص وسورة الرعد وفاتحتها المر. ومنها سورة واحدة افتتحت بخمسة حروف هي سورة مريم ومستهلها: كهيعص. فصارت مجموعة الفواتح القرآنية تسعا وعشرين، وهي على ثلاثة عشر شكلا، وحروفها أربعة عشر، وهي نصف الحروف الهجائية «1» وقد اختلف أهل التأويل المفسرون في بيان المقصود من فواتح السور «2» ،

_ (1) مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح: ص 234 وما بعدها. (2) تفسير القرطبي: 1/ 154 وما بعدها. [.....]

سابعا - التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية في القرآن:

فقال جماعة: هي سرّ الله في القرآن، ولله في كل كتاب سر، وهي مما استأثر الله بعلمه، فهو من المتشابه الذي نؤمن به، على أنه من عند الله، دون تأويل ولا تعليل، لكنه أمر مفهوم عند النّبي صلّى الله عليه وسلم. وقال جماعة: لا بد أن يكون لذكره معنى وجيه، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب وتثبيته في أسماعهم وآذانهم، بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله، علما بأن القرآن مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم. فكأنه يقول لهم: كيف تعجزون عن الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه؟ مع أنه كلام عربي، مكون من حروف هجائية، ينطق بها كل عربي: أمي أو متعلم، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة، ويعتمدون على هذه الحروف في الكلام: نثره وشعره وخطابته وكتابته، وهم يكتبون بهذه الحروف، ومع هذا فقد عجزوا عن مجاراة القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم، فقامت الحجة عليهم أنه كلام الله، لا كلام بشر، فيجب الإيمان به، وتكون الفواتح الهجائية تقريعا لهم وإثباتا لعجزهم أن يأتوا بمثله. لكنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن، كانوا مكابرين معاندين في عدم الإيمان به، وقالوا ببلاهة وسخف، وسطحية وسذاجة عن محمد والقرآن: محمد ساحر، شاعر، مجنون، والقرآن: أساطير الأولين. وذلك كله آية الإفلاس، ومظهر الضعف، وفقد الحجة، وكذب المعارضة والممانعة، وكفر المقلّدة، والعكوف على التقاليد العتيقة البالية، والعقائد الوثنية الموروثة الخرقاء. والرأي الثاني هو رأي جماهير المفسرين والمحققين من العلماء، وهو المعقول المقتضي فتح الأسماع، واستماع القرآن، والإقرار بأنه كلام الله تعالى. سابعا- التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية في القرآن: إن القرآن الكريم الذي نزل بلسان العرب، لم يخرج عن طبيعة اللغة العربية

أما التشبيه:

في استعمال اللفظ بطريق الحقيقة تارة (وهي استعمال اللفظ فيما وضع له من المعنى في اصطلاح التخاطب) واستعماله بطريق المجاز (استعمال الكلمة في معنى آخر غير ما وضعت له، لعلاقة بين المعنى الأصلي للكلمة، والمعنى الآخر الذي استعملت فيه) ، واستخدام التشبيه (وهو أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر بأداة هي الكاف ونحوها، ملفوظة أو ملحوظة) والاعتماد على الاستعارة (وهي تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه، وعلاقته دائما المشابهة) «1» . أما التشبيه: فكثير في القرآن، سواء أكان بحسب وجه الشبه مفردا أم مركبا، فمن التشبيه المفرد أو غير التمثيل (وهو ما لا يكون وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد، بل من مفرد، مثل زيد أسد، انتزع وجه الشبه من مفرد، وهو أن زيدا أشبه الأسد من جهة الشجاعة) : قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] . ومن التشبيه المركب أو تشبيه التمثيل (وهو ما كان وجه الشبه منتزعا فيه من متعدد، أو هو كما قال السيوطي في الإتقان: أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض) قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة 62/ 5] فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمل التعب في استصحابه. وقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها، وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس 10/ 24] فيه عشر جمل، وقع التركيب من مجموعها، بحيث لو سقط منها شيء، اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة

_ (1) انظر مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح: ص 322- 333

وأما الاستعارة:

تقضيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه الأرض، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنوا أنها مسلمة من الجوائح، أتاها بأس الله فجأة، فكأنّها لم تكن بالأمس. وأما الاستعارة التي هي من المجاز اللغوي أي في الكلمة الواحدة لا كالمجاز العقلي فكثيرة أيضا «1» ، مثل قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] . أستعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند ظهور الفجر قليلا، ومثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ... [النساء 4/ 10] شبه مال الأيتام بالنار، بجامع أن أكله يؤذي، كما تؤذي النار. ومثل قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم 14/ 1] أي لتخرج الناس من جهالاتهم وضلالاتهم إلى الدين القيم والعقيدة الحقة والعلم والأخلاق، شبه الجهالة والضلالة والعداوة بالظلام، في أن الإنسان لا يهتدي إلى الطريق الواضح في كل منهما، وشبه الدين القيم بالنور في أن الإنسان يهتدي إلى الطريق الواضح في كل منهما. وأما المجاز: فأنكر جماعة من العلماء وجوده في القرآن (منهم الظاهرية، وبعض الشافعية كأبي حامد الاسفراييني وابن القاصّ، وبعض المالكية كابن خويز منداد البصري، وابن تيمية) وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله، فالجدار لا يريد في قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف 18/ 77] . والقرية لا تسأل في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] «2» .

_ (1) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص 102 وما بعدها. (2) المرجع السابق: ص 99

والكناية:

لكن الذين تذوقوا جمال الأسلوب القرآني، يرون أن هذه الشبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن، مثل قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] دلت القرينة على أن المعنى الحقيقي غير مراد، وأن الآية تنهى عن كل من التبذير والبخل. والكناية: «وهي لفظ أريد به لازم معناه» كثيرة أيضا في القرآن، لأنها من أبلغ الأساليب في الرمز والإيمان، فالله تعالى رمز إلى الغاية من المعاشرة الزوجية، وهي التناسل، بلفظ (الحرث) في قوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة 2/ 223] ، ووصف الله العلاقة بين الزوجين، بما فيها من مخالطة وملابسة، بأنها لباس من كل منهما للآخر، في قوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة 2/ 187] ورمز إلى الجماع بقوله سبحانه: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء 4/ 43] وقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة 2/ 187] . وكنى عن عفة النفس وطهارة الذيل بقوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر 74/ 4] . والتعريض: «وهو أن تذكر اللفظ وتستعمله في معناه، وتلوّح به إلى ما ليس من معناه، لا حقيقة ولا مجازا» مستعمل أيضا في القرآن، مثاله: وَقالُوا: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة 9/ 81] ليس المراد به ظاهر الكلام وهو ازدياد حر جهنم، وكونه أشد من حر الدنيا، ولكن الغرض الحقيقي هو التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال، المعتذرين بشدة الحر، بأنهم سيردون جهنم، ويجدون حرها الذي لا يوصف. ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء 21/ 63] نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم، من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزا.

فوائد:

فوائد: القرآن ثلاثون جزءا 30 عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة 114 عدد آي القرآن 6236 على طريقة الكوفيين. الأمر 1000 النهي 1000 الوعد 1000 الوعيد 1000 القصص والأخبار 1000 العبر والأمثال 1000 الحرام والحلال 500 الدعاء 100 الناسخ والمنسوخ 66

الاستعاذة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

الاستعاذة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 1- معناها: أستجير بجناب الله وأعتصم به من شر الشيطان الملعون المذموم أن يغويني ويضلني أو يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحضني على ما نهيت عنه، فإنه لا يكفه ويمنعه إلا رب العالمين. والشيطان: واحد الشياطين، وسمي بذلك لبعده عن الحق وتمرده. والرجيم: أي المبعد من الخير، المهان، المرمي باللعن والسب. 2- أمر الله سبحانه بالاستعاذة عند أول كل تلاوة للقرآن، بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل 16/ 98] أي إذا أردت أن تقرأ، فتعوذ، وقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون 23/ 96- 98] وهذا يوحي إلى أن القرآن جعل دفع السيئة بالحسنة علاجا لشيطان الإنس، والاستعاذة علاجا لشيطان الجن. وتطبيقا لهذا الأمر في السنة ورد عن أبي سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه» «1» وقال ابن المنذر: «جاء عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن مسعود- أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . وهذا اللفظ هو الذي عليه جمهور العلماء في التعوذ: لأنه لفظ كتاب الله. 3- الاستعاذة مندوبة في رأي جمهور العلماء في كل قراءة في غير الصلاة.

_ (1) أخرجه أحمد والترمذي (نيل الأوطار: 2/ 196 وما بعدها) .

4 -:

أما في الصلاة، فقال المالكية: يكره التعوذ والبسملة قبل الفاتحة والسورة، إلا في قيام رمضان، لحديث أنس: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» «1» وقال الحنفية: يتعوذ في الركعة الأولى فقط. ورأي الشافعية والحنابلة: أنه يسن التعوذ سرا في أول كل ركعة قبل القراءة. 4- أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن، ولا آية منه.

_ (1) متفق عليه بين البخاري ومسلم.

البسملة بسم الله الرحمن الرحيم:

البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1- معناها: أبدأ بتسمية الله وذكره وتسبيحه قبل كل شيء، مستعينا به في جميع أموري، فإنه الرب المعبود بحق، واسع الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، المنعم بجلائل النعم ودقائقها، المتفضل بدوام الفضل والرحمة والإحسان. 2- حكمتها: ابتدأ الله تعالى بالبسملة سورة الفاتحة وكل سور القرآن، ما عدا سورة التوبة، تنبيها على أن ما في كل سورة حق، ووعد صادق للعباد، فهو سبحانه يفي لهم بجميع ما تضمنت السورة من وعد ولطف وبر، وإرشادا إلى استحباب البدء بالبسملة في كل الأعمال، التماسا لمعونة الله وتوفيقه، ومخالفة لغير المؤمنين الذين يستفتحون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو زعمائهم. قال بعض العلماء: إن «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات «1» . 3- هل هي آية من السورة؟ اختلف العلماء في البسملة، أهي آية من الفاتحة وغيرها من السور أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقال المالكية والحنفية: ليست البسملة بآية من الفاتحة ولا غيرها، إلا من سورة النمل في أثنائها، لحديث أنس رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم أسمع أحدا منهم،

_ (1) وأما حديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع» فهو ضعيف، رواه عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة.

يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» أي أن أهل المدينة كانوا لا يقرءون البسملة في صلاتهم في مسجد المدينة، إلا أن الحنفية قالوا: يقرأ المنفرد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مع الفاتحة، في كل ركعة سرا، فهي قرآن، لكنها ليست بعض السورة، وإنما هي للفصل بين السور. وقال المالكية: لا يقرؤها في الصلاة المكتوبة، جهرا كانت أو سرا، لا في الفاتحة، ولا في غيرها من السور، ويجوز قراءتها في النافلة. وقال القرطبي: الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد، وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه «2» ، لكن هذا غير ظاهر، لأنه ليس بلازم تواتر كل آية. وقال عبد الله بن المبارك: إنها آية من كل سورة، لما رواه مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «نزلت علي آنفا سورة» فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر 109/ 1- 3-] . وقال الشافعية والحنابلة: البسملة آية من الفاتحة، يجب قراءتها في الصلاة، إلا أن الحنابلة قالوا كالحنفية: يقرأ بها سرا، ولا يجهر بها. وقال الشافعية: يسرّ بها في الصلاة السرية، ويجهر بها في الصلاة الجهرية، كما يجهر في سائر الفاتحة. ودليلهم على كونها آية في الفاتحة: ما رواه الدارقطني عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قرأتم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فاقرؤوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أحد آياتها» وإسناده صحيح.

_ (1) رواه مسلم وأحمد. (2) تفسير القرطبي: 1/ 93

فضل البسملة:

ودليل الجهر بها لدى الشافعية: ما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن، بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ، فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة. وتردد قول الشافعي في كون البسملة آية في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها، والأصح أنها آية من كل سورة كالفاتحة، بدليل اتفاق الصحابة على كتبها في أوائل كل سورة، ما عدا سورة براءة، مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصاحف ما ليس من القرآن. وبغض النظر عن الخلاف الفقهي السابق، اتفقت الأمة على أن البسملة آية في سورة النمل، وعلى جواز كتب البسملة في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل، فإن كان الكتاب ديوان شعر فمنعه الشعبي والزهري، وأجازه سعيد بن جبير وأكثر المتأخرين «2» . فضل البسملة: قال علي كرم الله وجهه في قوله «بسم الله» : إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما «الرحمن» فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما «الرحيم» فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا. ملاحظة: أثبتّ النص القرآني برسم المصحف العثماني، فمثلا: «وأولوا» و «يتلوا» فيهما ألف، و «الصلوة» و «يريكم» هكذا، أما في الإملاء الحديثة فلا تكتب الألف في الكلمتين، وتكتب «الصلاة» و «يراكم» اليوم هكذا، وأما في شرحي أو تفسيري فأتقيد بالقواعد الجديدة. كذلك لا أعرب بعض الكلمات المعروفة، مثل أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [المرسلات 17- 18] لم أعرب «نتبعهم» التي هي فعل مضارع مرفوع، لأنه كلام مستأنف، وليس مجزوما مثل «نهلك» .

_ (1) تكتب «بسم الله» بغير ألف، استغناء عنها بباء الإلصاق، في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك» فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال. (2) تفسير القرطبي: 1/ 97

أمل ودعاء وغاية:

أمل ودعاء وغاية اللهم اجعل كل ما تعلّمته- حفظته أو نسيته، وعلّمته، طوال حياتي، وكتبته أو ألّفته «1» من فيض فضلك، ومن حركة القلم الذي أكتب به، وومضة الفكر وإشعاعاته، وإجهاد العقل ونتاجه، وعناء النفس ليل نهار، ونور البصيرة والبصر، وإصغاء السمع، ووعي القلب ... ذخرا لي عندك، مخلصا لك فيه عملي، ومن أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك، وتيسير العلم لأهله على وفق أذواق العصر والمعاصرين، وبقصد مرضاتك ووجهك الكريم، مبعدا عني بعد المشرقين كل ما يشوب ذلك من رياء أو سمعة أو شهرة، تفيض به علي من جودك وإحسانك، واحتسابا للأجر والثواب الواسع من لدنك وجنابك، فتقبّل مني يا كريم قليلي في كثيرك، ويسيري في سعتك، فإني في عصر لم أتمكن فيه من القيام بجهاد مثلما قام به السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأجزل به الأجر والنفع المنشود في حياتي وبعد مماتي، وحتى يوم العرض الأكبر عليك، وثقّل به ميزان حسابي، وحقق لي بفضلك ورحمتك النجاة يوم المعاد، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، يا أكرم مسئول، والحمد لله رب العالمين. أ- د: وهبة مصطفى الزحيلي

_ (1) التي منها أكثر من عشرين بحثا (للموسوعة الفقهية في الكويت، ولمؤسسة آل البيت في الأردن، ولمجمع الفقه الإسلامي في جدة- موسوعة الفقه- وللموسوعة العربية السورية) ، ومنها الموسوعات العلمية الثلاث: أصول الفقه الإسلامي في مجلدين، والفقه الإسلامي وأدلته في ثمانية مجلدات، وهذا التفسير الذي ركزت فيه على فقه الحياة الأكبر في القرآن الكريم، ومؤلفات أخرى.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ الأنفال 8/ 24 التّفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج في آخر الكتاب فهرسة ألفبائية شاملة الأستاذ الدكتور وهبة الزّحيلي رئيس قسم الفقه الاسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق الجزء الأول

سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع نزلت بعد المدثر:

سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع نزلت بعد المدّثّر [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة معاني القرآن العظيم، واشتملت على أصول الدين وفروعه، وتناولت العقيدة، والعبادة، والتشريع، والإيمان بالبعث وبصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والإرشاد إلى طلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، وتجنب طريق المنحرفين عن هداية الله تعالى. أسماؤها: للفاتحة اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي، وهي الصلاة، للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» «1» ، وسورة الحمد، لأن فيها ذكر

_ (1) رواه مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

فضلها:

الحمد، وفاتحة الكتاب، لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وكتابة، وتفتتح بها الصلوات، وأم الكتاب في رأي الجمهور، وأم القرآن في رأي الجمهور، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبع المثاني» «1» ، والمثاني، لأنها تثنى في كل ركعة، والقرآن العظيم، لتضمنها جميع علوم القرآن ومقاصده الأساسية، والشفاء لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» «2» ، والرّقية، لقوله صلّى الله عليه وسلّم لمن رقى بها سيد الحي: «ما أدراك أنها رقية» «3» ، والأساس، لقول ابن عباس: « ... وأساس الكتب: القرآن، وأساس القرآن: الفاتحة، وأساس الفاتحة: بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، والوافية: لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال، فلو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز عند الجمهور، والكافية، لأنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. هذه هي أسماء سورة الفاتحة، وأشهرها ثلاث: الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني. والسورة: طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات، فأكثر، لها اسم يعرف بطريق الرواية الثابتة. فضلها: ثبت في الأحاديث الصحيحة فضل الفاتحة، منها قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي- كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي- مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» «4» .

_ (1) رواه الترمذي عن أبي هريرة. (2) رواه الدارمي عن عبد الملك بن عمير، بلفظ: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» [.....] (3) أخرجه الأئمة عن أبي سعيد الخدري. (4) رواه الترمذي عن أبي بن كعب، ورواه أيضا عنه الإمام أحمد في المسند بلفظ: «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .

الإعراب:

ومنها أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» «1» . وهذان الحديثان يشيران إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر 15/ 87] لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة، أي تعاد. الإعراب: الباء من بِسْمِ اللَّهِ زائدة بمعنى الإلصاق، والراجح أنها بمعنى الاستعانة، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف عند البصريين، وتقديره: ابتدائي بسم الله، أي كائن باسم الله، أو في موضع نصب بفعل مقدر عند الكوفيين، وتقديره: ابتدأت بسم الله. والْحَمْدُ لِلَّهِ مبتدأ وخبر، ورَبِّ الْعالَمِينَ صفة الله. ومالِكِ مجرور على البدل، لا على الصفة: لأنه نكرة، بسبب أنه اسم فاعل لا يكتسب التعريف من المضاف إليه، إذا كان للحال أو الاستقبال. ويَوْمِ الدِّينِ ظرف زمان. وإِيَّاكَ ضمير منصوب منفصل، والعامل فيه نَعْبُدُ والكاف للخطاب. واهْدِنَا سؤال وطلب، فعل أمر يتعدى إلى مفعولين. وصِراطَ الَّذِينَ بدل من الصراط الأول. والَّذِينَ اسم موصول. وغَيْرِ مجرور على البدل من ضمير عَلَيْهِمْ: وهذا ضعيف، أو من الَّذِينَ أو مجرور على الوصف للذين. ولَا في وَلَا الضَّالِّينَ زائدة للتوكيد عند البصريين، وبمعنى «غير» عند الكوفيين. وأما «آمين» فدعاء، وليس من القرآن، وهو اسم فعل ومعناه: اللهم استجب. البلاغة: الْحَمْدُ لِلَّهِ جملة خبرية لفظا، إنشائية معنى، أي قولوا: الحمد لله، وهي مفيدة قصر الحمد عليه تعالى. وإِيَّاكَ نَعْبُدُ ... فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتقديم المفعول يفيد القصر، أي لا نعبد سواك.

_ (1) خرّجه البخاري.

المفردات اللغوية:

واهْدِنَا الصِّراطَ أي ثبتنا عليه، فالمراد به دوام الطلب واستمراره. وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فيه حذف، تقديره: غير صراط المغضوب عليهم. المفردات اللغوية: الْحَمْدُ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة. اللَّهِ: علم على الذات العلية المقدسة، ومعناه: المعبود بحق، وقيل: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسمّ به غيره. أما «الإله» فهو المعبود بحق أو باطل، يطلق على الله تعالى وعلى غيره. رَبِّ الرب: المالك والسيد المعبود والمصلح والمدبر والجابر والقائم، فيه معنى الربوبية والتربية والعناية بالمخلوقات. الْعالَمِينَ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنبات والذر والجن. ولفظ العالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه، مثل رهط وقوم. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان لله مشتقتان من الرحمة، لوحظ في كل منهما معنى معين، فالرحمن: صيغة مبالغة بمعنى: عظيم الرحمة، وهو اسم عام في جميع أنواع الرحمة، وأكثر العلماء على أن الرَّحْمنِ اسم مختص بالله عزّ وجلّ، ولا يجوز أن يسمى به غيره. والرَّحِيمِ بمعنى دائم الرحمة. ولما كان في اتصافه تعالى ب رَبِّ الْعالَمِينَ ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي مالك يوم الحساب والمكافأة والجزاء على الأعمال، والأمر كله في قبضته يوم القيامة، ومن عرف أن الله ملك يوم الدين، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى. إِيَّاكَ نَعْبُدُ نخصك بالعبادة ولا نعبد غيرك، ومعناه نطيع، والعبادة: الطاعة والتذلل وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نطلب العون والتأييد والتوفيق، ونخصك بطلب المعونة، فأنت مصدر العون والفضل والإحسان، ولا يملك القدرة على عوننا أحد. وقد جاء الفعلان «نعبد ونستعين» بصيغة الجمع، لا بصيغة المفرد «إياك أعبد وإياك أستعين» للاعتراف بقصور العبد وحده عن الوقوف أمام الله، فكأنه يقول: لا يليق بي الوقوف وحدي وبمفردي في مناجاتك، وأخجل من تقصيري وذنوبي، بل أنضم إلى سائر المؤمنين، وأتوارى بينهم، فتقبل دعائي معهم، فنحن جميعا نعبدك ونستعين بك. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ عرفنا ووفقنا ودلنا على الطريق الموصل إلى الحق، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. والصراط المستقيم: الطريق المعتدل: طريق الإسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وختمت برسالاتهم رسالة خاتم النبيين، وهو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني، كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الاجتماع.

التأمين:

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي طريق من أنعمت عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين السابقين، وحسن أولئك رفيقا. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ أي لا تجعلنا مع أولئك الحائدين عن طريق الاستقامة، المبعدين عن رحمة الله، المعاقبين أشد العقاب، لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وضلوا الطريق. ويرى الجمهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى. والحق: أن المغضوب عليهم: هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده، فرفضوه ونبذوه. والضالون: هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم بنحو ناقص.. التأمين: «آمين» دعاء، أي تقبل منا واستجب دعاءنا، وهي ليست من القرآن، ولم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السّلام، ويسن ختم الفاتحة بها، بعد سكتة على نون وَلَا الضَّالِّينَ ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن. ودليل سنيتها ما رواه مالك والجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه» . آراء العلماء في الجهر والإسرار بالتأمين: للعلماء رأيان: قال الحنفية، والمالكية في الراجح: الإخفاء أو الإسرار بآمين أولى من الجهر بها، لأنه دعاء، وقد قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف 7/ 55] وقال ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ، والتسمية، والتأمين، والتحميد» أي قول: ربنا لك الحمد. ورأى الشافعية والحنابلة: أن التأمين سرا في الصلاة السرية، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة، ويؤمن المأموم مع تأمين إمامه، لحديث أبي هريرة المتقدم: «إذا أمّن الإمام فأمنوا ... » ودليلهم على هذا التفصيل: حديث أبي هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «1» وحديث وائل بن حجر: «سمعت

_ (1) رواه أبو داود وابن ماجه، وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج بها المسجد.

التفسير والبيان:

النّبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: آمين، يمدّ بها صوته» «1» . التفسير والبيان: أرشدنا الله تعالى إلى أن نبدأ كل أعمالنا وأقوالنا بالبسملة، فهي مطلوبة لذاتها، محققة للاستعانة باسمه العظيم. وعلمنا سبحانه كيف نحمده على إحسانه ونعمه، فهو صاحب الثناء بحق، فالحمد كله لله دون سواه، لأنه مالك الملك ورب العوالم والموجودات كلها، أوجدها ورباها وعني بها، وهو صاحب الرحمة الشاملة الدائمة، ومالك يوم الجزاء والحساب ليقيم العدل المطلق بين العباد، ويحقق للمحسن ثوابه، وللمسيء عقابه. فهذه الصفات تقتضينا أن نخص الله بالعبادة وطلب المعونة، والخضوع التام له، فلا نستعين إلا به، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، لأنه المستحق لكل تعظيم، والمستقل بإيجاد النفع ودفع الضر. وقد تعصف الأهواء بالنفوس، وتزيغ بالعقول، فلا غاصم من التردي في الشهوات ومتاهات الانحراف إلا الله، لذا أرشدنا الحق سبحانه إلى طلب الهداية والتوفيق منه، حتى نسير على منهج الحق والعدل، ونلتزم طريق الاستقامة والنجاة، وهو طريق الإسلام القديم المستمر الذي أنعم الله به على النبيين والصديقين والصالحين. وهذا شأن العبد العابد الناسك العاقل العارف حقيقة نفسه ومصيره في المستقبل، لا شأن الكافر الجاحد الضال المنحرف، الذي أعرض عن طريق الاستقامة عنادا، أو ميلا مع الأهواء، أو جهلا وضلالا، وما أكثر الضالين عن طريق الهداية، المتنكبين منهج الاستقامة، الذين استحقوا الغضب والسخط الإلهي!

_ (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

فاللهم أدم علينا البقاء في طريق الهداية، وتقبل ثناءنا ودعاءنا واحفظنا من الغواية والضلال. وبه تبين أن الناس فريقان: فريق الهدى، وفريق الضلال «1» . وقد منح الله تعالى للإنسان خمس هدايات يتوصل بها إلى سعادته «2» . 1- هداية الإلهام الفطري: وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يحس بالحاجة إلى الطعام والشراب، فيصرخ طالبا له إن غفل عنه والداه. 2- هداية الحواس: وهي متممة للهداية الأولى، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان، بل هما في البداية أكمل في الحيوان من الإنسان، إذ إلهام الحيوان يكمل بعد ولادته بقليل، ويكتمل في الإنسان تدريجيا. 3- هداية العقل: وهي أسمى من الهدايتين السابقتين، فالإنسان خلق مدنيا بالطبع ليعيش مع غيره، ولا يكفي الحس الظاهر للحياة الاجتماعية، فلا بد له من العقل الذي يوجهه إلى مسالك الحياة، ويعصمه من الخطأ والانحراف، ويصحح له أغلاط الحواس، والانزلاق في تيارات الهوى. 4- هداية الدين: وهي الهداية التي لا تخطئ، والمصدر الذي لا يضل، فقد يخطئ العقل، وتنجرف النفس مع اللذات والشهوات، حتى توردها موارد الهلاك، فيحتاج الإنسان إلى مقوّم مرشد هاد لا يتأثر بالأهواء، فتسعفه هداية الدين لإرشاده إلى الطريق الأقوم، إما بعد الوقوع في الخطأ أو قبله، وتظل هذه الهداية هي الحارس الأمين الذي يفيء إليها الإنسان للتزود بمفاتيح الخير، والتسلح بمغلاق الشر، فيأمن العثور، ويضمن النجاة، وتعرّفه بحدود ما يجب

_ (1) الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية. (2) تفسير المنار: 1/ 62، تفسير المراغي: 1/ 35.

عليه لسلطان الله الذي يخضع له في أعماق نفسه، ويحس بالحاجة الملحة لصاحب ذلك السلطان، الذي خلقه وسواه، وأنعم عليه نعما ظاهرة وباطنة، لا تعد ولا تحصى. فصارت هذه الهداية أشد ما يحتاج إليها الإنسان، لتحقيق سعادته. وقد أشار القرآن إلى تلك الهدايات في آيات كثيرة، منها وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي بينا له طريقي الخير والشر، والسعادة والشقاء. ومنها قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت 41/ 17] أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر، فاختاروا الثاني. 5- هداية المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة: وهي أخص من هداية الدين، وهي التي أمرنا الله بدوام طلبها في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دلنا دلالة، تصحبها من لدنك معونة غيبية، تحفظنا بها من الضلال والخطأ. وهذه الهداية خاصة به سبحانه، لم يمنحها أحدا من خلقه، بل نفاها عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] ، وقوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] ، وأثبتها لنفسه في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 90] . أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، فأثبتها الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى 42/ 52] . والخلاصة: الهداية في القرآن نوعان: هداية عامة: وهي الدلالة إلى مصالح العبد في معاده، وهذه تشمل الأنواع الأربعة السابقة، وهداية خاصة: وهي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة، مع الدلالة، وهي النوع الخامس.

والإضلال نوعان «1» : أحدهما- أن يكون سببه الضلال: إما بأن يضل عنك الشيء كقولك: أضللت البعير، أي ضلّ عني، وإما أن تحكم بضلاله. والضلال في هذين سبب الإضلال. والثاني- أن يكون الإضلال سببا للضلال: وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضلّ. وإضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين: إما الحكم عليه بالضلال، أو التّمكين من البقاء في الضلال. والأول- سببه الضلال: وهو أن يضل الإنسان، فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة، وذلك إضلال هو حق وعدل، لأن الحكم على الضال بضلاله والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدل وحق. والثاني- سببه اختيار الإنسان: وهو أن يختار الإنسان طريق الانحراف، فيمده الله في ضلاله، ويمكّنه من البقاء في طغيانه، ويخلق له القدرة على الاستمرار في كفره وفساده، لذا نسب الله الإضلال للكافر والفاسق، دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التوبة 9/ 115] ، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ [محمد 47/ 4- 5] ، وقال في الكافر والفاسق: فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد 47/ 8] ، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة 2/ 26] ، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ [غافر 40/ 74] ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم 14/ 27] ، وعلى هذا النحو

_ (1) مفردات الراغب للأصفهاني: ص 307

فقه الحياة أو الأحكام:

تقليب الأفئدة في قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ [الأنعام 6/ 110] ، والختم على القلب في قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة 2/ 7] ، وزيادة المرض في قوله: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة 2/ 10] ، فمن اختار الضلالة، أبقاه الله فيها، ومنع عنه نفوذ الهداية إلى قلبه، عقابا له من الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: لا يوجد في القرآن آية بدون معنى أو فائدة أو حكمة أو تشريع، فهو كلام الله المعجز دستور الحياة البشرية، وبناء عليه، يقصد بالآيات القرآنية تحقيق فائدة الإنسان في حياته الدينية والدنيوية والأخروية، وتربطه بالحياة. وتكون بالتالي الأحكام المستفادة من معاني الآيات مرتبطة ارتباطا وثيقا إما بالعقيدة أو بالعبادة أو بالأخلاق والسلوك أو بالتشريع الصالح للفرد والجماعة، وهذا المعنى الأعمّ هو الذي عنيته بفقه الحياة في القرآن الكريم. والمعاني أو الأحكام المستفادة من الفاتحة تشمل صلة الإنسان بالله، وتحدد طريق مناجاته، وترسم له نوع مسيرته في الحياة، وتلزمه باتّباع المنهج الأقوم والطريق الأعدل، الذي لا انحراف فيه قيد أنملة عن جادّة الاستقامة، ولا قبول بأي لون من ألوان الضلال والغيّ والانحراف. ومعنى البسملة في الفاتحة: أنّ جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام وغيرها هو لله ومنه، ليس لأحد غير الله فيه شيء. 1- كيفية حمد الله: الفاتحة ذلك النشيد العاقد للصلة مع الله، والذي علّمنا الله إياه، يقرؤه المؤمن في كل المناسبات، في الصلاة وغيرها، لأن بدايته على تأويل: قولوا: الحمد لله ربّ العالمين، وذلك يقضي أن الله أمرنا بفعل الحمد، وعلمنا كيف نحمده ونثني عليه، وكيف ندعوه، ويفهم منه أنّ من آداب الدعاء: أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة.

2- قراءة الفاتحة في الصلاة: للعلماء رأيان في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة. الرأي الأول- للحنفية: وهو عدم وجوب قراءة الفاتحة، وإنما الواجب للإمام والمنفرد مطلق قراءة، وهو قراءة آية من القرآن، وأقلها عند أبي حنيفة آية بمقدار ستة أحرف، مثل: ثُمَّ نَظَرَ [المدثر 74/ 21] ولو تقديرا، مثل: لَمْ يَلِدْ إذ أصله: «لم يولد» [الإخلاص 112/ 3] . وقال الصاحبان: فرض القراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة. واستدلوا بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل 73/ 20] ، وهو أمر بمطلق قراءة، فتتحقق بأدنى ما يطلق عليه اسم القرآن. وأما السنة: فحديث المسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» «1» . وأما حديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «2» ، فمحمول على نفي الفضيلة، لا نفي الصحة، أي لا صلاة كاملة. وأما المعقول: فهو أنه لا تجوز الزيادة بخبر الواحد الظني على ما ثبتت فرضيته بالدليل القطعي في القرآن، ولكن خبر الواحد يقتضي وجوب العمل به، لا الفرضية، فقالوا بوجوب قراءة الفاتحة فقط، أي أن الصلاة تصح بتركها، مع الكراهة التحريمية. ولا قراءة مطلقا على المقتدي عند الحنفية، سواء أكانت الصلاة سرية أم

_ (1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث متواتر. (2) رواه الأئمة الستة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

جهرية، واستدلوا أيضا بالكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف 7/ 204] ، وهي تأمر بالاستماع والإنصات، والاستماع خاص بالجهرية، والإنصات يعمّ السريّة والجهريّة. وأما السّنة: فقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى خلف إمام، فإن قراءة الإمام له قراءة» «1» ، وهو يشمل السرية والجهرية. وأما القياس: فهو أنه لو وجبت القراءة على المأموم، لما سقطت عن المسبوق، كسائر الأركان، فقاسوا قراءة المؤتم على قراءة المسبوق في حكم الصلاة، فتكون غير مشروعة. الرأي الثاني- للمالكية والشافعية والحنبلية: وهو وجوب قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة للإمام والمنفرد، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وحملوا النفي على نفي الحقيقة، لأن الأصل والأقوى أن النفي على العموم، أي لا صلاة صحيحة، ونفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة. وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» «2» ، ولفعله صلّى الله عليه وسلّم كما روى مسلم، مع خبر البخاري: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . قال القرطبي: الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة، لكل أحد على العموم. وتتعين عند الشافعية قراءة الفاتحة، في كل ركعة، للإمام والمأموم والمنفرد، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، فرضا أم نفلا، لحديث:

_ (1) رواه أبو حنيفة عن جابر رضي الله عنه، وهو ضعيف، كما ذكر القرطبي (تفسير القرطبي: 1/ 122) . (2) رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحهما.

«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وحديث: «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم؟» قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: «لا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» «1» ، فهو نص صريح خاص بقراءة المأموم، دال على فرضيتها، وظاهر النفي متجه إلى الإجزاء، أي لا تجزئ، وهو كالنفي للذات في المآل، وقراءة الفاتحة مستثناة من النص القرآني الآمر بالاستماع إلى القرآن والإنصات له. ورأى المالكية والحنابلة: أنه لا يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية، وإنما يستحب أن يقرأها في السرية، لأن الأمر القرآني بالاستماع والإنصات للقرآن خاص بالصلاة الجهرية، بدليل «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال: فإني أقول: ما لي أنازع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يجهر فيه من الصلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «2» . وهذا صريح في كراهة القراءة للمؤتم حالة الجهر. وأما دليلهم على استحباب القراءة في حالة السرّ: فهو قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أسررت بقراءتي فاقرءوا» «3» . 3- استحضار معاني الفاتحة: على المصلي أن يستحضر في صلاته كل معاني الفاتحة من كون الله أعظم من كل عظيم، وأكبر من كل شيء، وأن كل ثناء جميل هو لله تعالى استحقاقا وفعلا، من حيث إنه الرّب خالق العالمين ومدبّر جميع

_ (1) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان. (2) رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن. [.....] (3) رواه الدارقطني والترمذي.

أمورهم، وأنّ رحمة الله مقرونة بعظمته وملكه وسلطانه وتصرفه دون غيره يوم الحساب، فهو المستحق للعبادة وحده، ومنه وحده تطلب المعونة على العبادة وعلى جميع الشؤون، وهو سبحانه الدّال بتوفيقه ومعونته إلى طريق الخير والحق في العلم والعمل، وللمؤمن في مناجاته قدوة حسنة وهم أولئك الذين أنعم الله عليهم بالإيمان والعمل الصالح، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كما أن أمامه عبرة وعظة وهم الذين غضب الله عليهم بإيثارهم الباطل على الحق، وترجيحهم الشّر على الخير، والضّالون عن طريق الحق والخير بجهلهم، الذين ضلّ سعيهم في الحياة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فمصيرهم إلى جهنم وساءت مصيرا. وأما الذين جاءوا على فترة من الرّسل كأهل الفترة في عصر الجاهلية، فلا يكلفون في رأي الجمهور بشريعة، ولا يعذبون في الآخرة، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 7/ 15] . وقال جماعة من العلماء: إنهم يكلّفون ويعذّبون، لأن العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان، وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض، والتدبّر والتفكّر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله، ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من العذاب. 4- قراءة غير العربي: أجمع الفقهاء على أنه لا تجزئ قراءة القرآن بغير العربية، ولا الإبدال بلفظها لفظا عربيا، سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن، لقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف 12/ 2] ، وقوله سبحانه: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 195] ، ولأن القرآن معجزة بلفظه ومعناه، فإذا غيّر خرج عن نظمه، فلم يكن قرآنا ولا مثله، وإنما يكون تفسيرا له، والتفسير غير المفسر، وليس هو مثل القرآن المعجز المتحدي بالإتيان بسورة مثله.

وأجاز القرطبي المالكي للعاجز عن العربية أن يذكر في موضع القراءة ما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله. وأجاز الكاساني لعاجز عن القراءة بالعربية أن يقرأ الفاتحة بغير العربية «1» . 5- تأمين المصلي: يؤمن المنفرد اتّفاقا. وأما الإمام: فيؤمن سرّا عند أبي حنيفة وفي الراجح عند المالكية، لأنه دعاء. وروي عن مالك أنه قال: لا يؤمن وإنما يقول ذلك من خلفه، وقال الشافعية والحنابلة: يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية، كما بيّنا سابقا. وقال ابن العربي والقرطبي «2» : والصحيح تأمين الإمام جهرا، فإن ابن شهاب الزهري قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: آمين، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، وفي البخاري: حتى إن للمسجد للجّة «3» من قول الناس: آمين. وأما المأموم: فيؤمّن سرّا عند الحنفية والمالكية، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة، ويخفيه فيما يخفي فيه القراءة عند الشافعية والحنابلة.

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 126، البدائع: 1/ 112 (2) أحكام القرآن: 1/ 7، تفسير القرطبي: 1/ 129 (3) اللجة: الجلبة، يعني أصوات المصلين.

سورة البقرة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة مدنيّة إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجّة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة ما اشتملت عليه السورة: سورة البقرة أطول سورة في القرآن، وهي مدنية، قال عكرمة: «أول سورة أنزلت بالمدينة: سورة البقرة» «1» . وتعنى كغيرها من السور المدنية بالتشريع المنظم لحياة المسلمين في المجتمع الجديد بالمدينة، مجتمع الدين والدولة معا، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر، وإنما هما متلازمان تلازم الجسد والروح، لذا كان التشريع المدني قائما على تأصيل العقيدة الإسلامية، ومبدؤها الإيمان بالله، وبالغيب، وبأن مصدر القرآن هو الله عز وجل، والاعتقاد الجازم بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين، وبأن العمل الصالح ترجمان ذلك الإيمان، ويتمثل العمل بعقد صلة الإنسان مع ربه بواسطة الصلاة، وبتحقيق أصول التكافل الاجتماعي بواسطة الإنفاق في سبيل الله. ويقتضي تقرير العقيدة التحدث عن صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، لعقد مقارنة بين أهل النجاة وبين أهل الدمار والهلاك. كما يقتضي التحدث عن قدرة الله عز وجل، ببدء الخليقة وتكريم آدم أبي البشر بسجود الملائكة له، وترتيب المولى ما حدث معه وزوجه في الجنة، ثم الهبوط إلى الأرض.

_ (1) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص 11

واستوجب التحذير الإلهي للمؤمنين التحدث في هذه السورة بما يزيد عن ثلثها عن جرائم بني إسرائيل، من الآية 47- 123، فهم كفروا بنعمة الله، ولم يقدّروا نجاتهم من فرعون، وعبدوا العجل، وطالبوا موسى عليه السّلام بطلبات على سبيل العناد والمكابرة والتحدي، وبالرغم من تحقيق مطالبهم المادية كفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء بغير حق، ونقضوا العهود والمواثيق، فاستحقوا إنزال اللعنة وغضب الله عليهم، وجعلهم الله أذلاء منبوذين مطرودين من رحمته. ثم انتقلت السورة من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب أهل القرآن، بالتذكير بما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد عليهما السلام من نسب إبراهيم والاتفاق على فضله، واستئصال كل مزاعم الخلاف على القبلة، وبيان الأساس الأعظم للدين وهو توحيد الألوهية، بتخصيص الخالق بالعبودية، وشكر الإله على ما أنعم به من إباحة الاستمتاع بطيبات الرزق وإباحة المحرّمات حال الضرورة، وبيان أصول البرّ في آية: لَيْسَ الْبِرَّ [في البقرة 2/ 177] . ثم أوضحت السورة أصول التشريع الإسلامي للمؤمنين به، في نطاق العبادات والمعاملات، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والجهاد في سبيل الله وتنظيم أحكام القتال، واعتماد الأشهر القمرية في التوقيت الديني، والإنفاق في سبيل الله، لأنه وسيلة للوقاية من الهلاك، والوصية للوالدين والأقربين، وبيان مستحقي النفقات، ومعاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة، وتنظيم شؤون الأسرة في الزواج والطلاق والرضاع والعدة، والإيلاء من النساء، وعدم المؤاخذة بيمين اللغو، وتحريم السحر، والقتل بغير حق وإيجاب القصاص في القتلى، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الخمر والميسر والربا، وإتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث وإنجاب النسل، أي في الدبر.

سبب التسمية:

وتضمنت السورة آية عظيمة في العقيدة والأسرار الإلهية، وهي آية الكرسي، وحذرت من يوم القيامة الرهيب في آخر ما نزل من القرآن، وهي آية وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة 2/ 281] . وتضمنت هذه السورة أطول آية في القرآن هي آية الدّين، التي أبانت أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال فيها، والرهان، ووجوب أداء الأمانة، وتحريم كتمان الشهادة. وختمت السورة بالتذكير بالتوبة والإنابة إلى الله، وبالدعاء العظيم المشتمل على طلب اليسر والسماحة، ورفع الحرج والأغلال والآصار، وطلب النصرة على الكفار. فالسورة كلها منهاج قويم للمؤمنين، ببيان أوصافهم، وأوصاف معارضيهم ومعاديهم من الكفار والمنافقين، وتوضيح مناهج التشريع في الحياة الخاصة والعامة، واللجوء في الخاتمة إلى الله والدعاء المستمر له في التثبيت على الإيمان، والإمداد بالإحسان والفضل الإلهي، وتحقيق النصر على أعداء الله والإنسانية. ومن توجيهات السورة أن مناط السعادة في الدنيا والآخرة هو اتباع الدين، وأصول الدين ثلاثة: هي الإيمان بالله ورسوله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. والولاية العامة يجب أن تكون لأهل الإيمان والاستقامة، لكن الإكراه على الدين ممنوع. سبب التسمية: سميت هذه السورة «سورة البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة، التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها، لاكتشاف قاتل إنسان، بأن يضربوا الميت بجزء منها،

فضلها:

فيحيا بإذن الله، ويخبرهم عن القاتل، والقصة تبدأ بالآية [ (67) من سورة البقرة] وهي قصة مثيرة فعلا، يعجب منها السامع، ويحرص على طلبها. فضلها: فضل هذه السورة عظيم، وثوابها جسيم، ويقال لها: «فسطاط القرآن» لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» «1» وقال أيضا: «اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «2» أي السحرة. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» . صفات المؤمنين وجزاء المتقين [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

_ (1) رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة. (2) رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي.

الإعراب:

الإعراب: الم أحرف مقطعة مبنية غير معربة، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور. ذلِكَ ذا: اسم إشارة مبني في موضع رفع، وهو إما مبتدأ والْكِتابُ خبره، وإما خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هو ذلك الكتاب. والْكِتابُ بدل من ذلك أو عطف بيان. لا رَيْبَ فِيهِ لا: نافية للجنس، ورَيْبَ اسمها المنصوب. وفِيهِ متعلق بمحذوف خبر تقديره: كائن. هُدىً إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هو هدى، أو منصوب على أنه حال من «ذا» أو من الْكِتابُ أو من الضمير في فِيهِ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إما بالجر صفة للمتقين أو بدل منهم، وإما بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره أُولئِكَ عَلى هُدىً أو على أنه خبر مبتدأ مقدر، وتقديره هم الذين وإما بالنصب على تقدير «أعني» ويُؤْمِنُونَ صلته. أُولئِكَ عَلى هُدىً بالرفع على أنه مبتدأ، وعَلى هُدىً خبره، أو خبر الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إذا جعل الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ مبتدأ. البلاغة: ذلِكَ الْكِتابُ الإشارة بالبعيد عن القريب للتنبيه على علو شأنه. هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مجاز مرسل أو عقلي، أسند الهداية للقرآن، لأنه سبب الهداية، والهادي في الحقيقة هو الله تعالى. أُولئِكَ عَلى هُدىً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ للعناية بشأن المتقين. رَبِّهِمْ للحصر فيهم «1» . المفردات اللغوية: الْكِتابُ القرآن العظيم. ذلِكَ الْكِتابُ قال عامة المفسرين: تأويل قول الله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ: هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في أنه من عند الله هُدىً هداية ورشاد لِلْمُتَّقِينَ الذين وقوا أنفسهم مما يضرها، فالتزموا الأوامر الإلهية وتجنبوا النواهي والمحظورات.

_ (1) ملاحظة عامة: اعتمدت في الإعراب على كتاب «البيان في غريب إعراب القرآن» لأبي البركات بن الأنباري، واستفدت كثيرا في البلاغة من كتاب «صفوة التفاسير» للأستاذ محمد علي الصابوني، والمعول في الأصل على تفسير الكشاف والقرطبي وغيرهما في الأمرين.

التفسير والبيان:

يُؤْمِنُونَ الإيمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها، ويدل عليه العمل. وبِالْغَيْبِ ما غاب عن الإنسان من حساب وجزاء وجنة ونار وغيرها. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الإتيان بها مستكملة شروطها وأركانها. يُوقِنُونَ اليقين: هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك، وهو حقيقة العلم. التفسير والبيان معنى البسملة إعلان بأن جميع ما في السورة من الله تعالى، لا من إنسان، أنزلها برحمته لهداية الناس إلى ما فيه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. وهي لا شك آية من القرآن بإجماع الصحابة الذين حرصوا عند جمع المصحف ألا يكتبوا فيه أي شيء من غير القرآن. وقد استفتح الله هذه السورة بالحروف المقطعة، تنبيها لوصف القرآن وإشارة إلى إعجازه، وتحديا دائما على الإتيان بأقصر سورة من مثله، وإثباتا قاطعا إلى أنه كلام الله الذي لا يضارعه شيء من كلام البشر، فكأن الله يقول للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم: كيف تعجزون عن الإتيان بمثله، مع أنه كلام عربي، مركب من الحروف الهجائية التي ينطق بها كل عربي، ومع ذلك عجزتم عن مجاراته. هذا هو رأي المحققين من العلماء الذين قالوا: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها، بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها «1» . قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 38

أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن «1» . ومما يدل على كون الم مكونة من الحروف المقطعة: قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» «2» . ثم وصف الله تعالى القرآن بأوصاف ثلاثة: الأول- أنه الكتاب الكامل في كل ما اشتمل عليه من معان ومقاصد وقصص وعبر وتشريعات غير قابلة للنقض. والثاني- أنه لا شك في كونه حقا من عند الله، لمن أمعن النظر وأصغى بقلبه. والثالث- أنه مصدر هداية وإرشاد للمؤمنين المتقين، الذين يتقون عذاب الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهم المنتفعون به. ثم أبان الله تعالى أربع صفات للمتقين الذين ينتفعون بالقرآن، وهم الذين يؤمنون ويصدقون بالغيبيات التي أخبر عنها القرآن من البعث والحساب والصراط والجنة والنار وغيرها، فلا يقفون عند مجرد الماديات والمحسوسات التي يدركها العقل إدراكا قريبا، وإنما يدركون أيضا ما وراء المادة من عوالم أخرى كالروح والجن والملائكة، وعلى رأسها وجود الله ووحدانيته. ثم يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وآدابها وخشوعها،

_ (1) تفسير الكشاف: 1/ 79 (2) رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فالصلاة بدون خشوع وتأمل في المقروء فيها وتدبر للمعاني القرآنية وخشية لله جسم بلا روح. ثم ينفقون في وجوه البر والإحسان من الأموال كالزكاة والصدقة وسائر النفقات الواجبة شرعا، فيتحقق الرخاء لجميع الناس، وتتطهر الأموال مما شابها من شبهات، ويكتمل البناء المنشود شرعا: بناء الفرد بالصلاة التي هي عماد الدين، وبناء المجتمع بالزكاة وتوابعها التي هي أساس التقدم ورقي الحياة وسعادة الأمة. فالآية عامة في كل غيب أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كائن، وعام في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا، وعام في كل نفقة. ثم إن أولئك المتقين هم الذين يصدقون بجميع ما أنزل على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ويصدقون أيضا تصديقا جازما لا شك فيه بالآخرة وما تضمه من بعث الأجساد والأرواح معا من القبور، وحساب وجزاء وميزان وصراط وجنة ونار. وهؤلاء الموصوفون بما ذكر من الإيمان الحق بالغيب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بالقرآن وبالكتب المنزلة قبله (وهي التوراة والإنجيل والزبور والصحف) ، هم على نور وهداية من ربهم، وعلى منزلة عالية عند الله، وهم الفائزون بالدرجات العالية في جنات الخلود. فقه الحياة أو الأحكام: هذه صفات المؤمنين ومنهاجهم وقانونهم في الحياة الإسلامية: إيمان شامل كامل بكل ما غاب علمه عنهم، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة، مما أخبر عنه القرآن العظيم وأرشد إليه الدليل السليم، والإيمان مقرون بالعمل الصالح: وهو إقامة الصلاة المفروضة، والإنفاق في سبيل الله في الجهاد، وعون

صفات الكافرين [سورة البقرة (2) الآيات 6 إلى 7] :

الفقراء والمساكين وصدقة التطوع، والنفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى. ولا يتجزأ الإيمان بما أنزل الله، فلا بد من الإيمان التفصيلي بكل ما أنزله الله تعالى في القرآن، والإيمان الإجمالي بالكتب والصحف السماوية السابقة، هذا مع العلم بأنه لا يعتد بما دون اليقين في الإيمان. وأرشدت الآيات إلى أن التقوى: وهي الخوف من المخالفة، فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء. فمن اتصف بأوصاف المؤمنين المذكورة، كان القرآن هدى له، أي أنه إمامه في أعماله وأحواله، لا يحيد عن نهجه، وقد ضمن لنفسه النجاة في عالم الآخرة، والسعادة والطمأنينة في الدنيا. والمشار إليه عند الجمهور وهم المؤمنون واحد، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى، وأنهم هم المفلحون. قال مجاهد: في أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. صفات الكافرين [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) الإعراب: سَواءٌ إما مبتدأ، وخبره: أَأَنْذَرْتَهُمْ..، أو خبر إِنَّ وما بعده، والتقدير فيه: إن الذين كفروا مستو عليهم الإنذار وتركه. وإنما وحّد سَمْعِهِمْ ولم يجمعه

البلاغة:

ك قُلُوبِهِمْ وأَبْصارِهِمْ إما لأن السمع مصدر، والمصدر: اسم جنس يقع على القليل والكثير، أو على تقدير مضاف بلفظ الجمع، أي مواضع سمعهم، أو اكتفاء باللفظ المفرد لما أضافه إلى الجمع، وهو يفيد العموم، والمراد به الجمع. البلاغة: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ.. فيه التيئيس من إيمان الكفار، بسبب عدم استعدادهم للإيمان. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة تصريحية، شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق بالوعاء المختوم عليه، واستعارة لفظ الختم بطريق الاستعارة التصريحية، للتصريح بلفظ المشبه به وحذف المشبه وأداة التشبيه ووجه الشبه. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: التنكير فيه للتعظيم والتهويل، ثم وصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حدّ العظمة كمّا وكيفا، فهو شديد الإيلام، وطويل الزمان. المفردات اللغوية: الكفر: ستر الشيء وتغطيته، ومن كفر فقد غطى الحقيقة وستر نعم الله عليه، وكل من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر. أَأَنْذَرْتَهُمْ الإنذار: الاعلام مع التخويف. خَتَمَ اللَّهُ طبع الله عليها بالخاتم، والمراد: أغلقت قلوبهم، فلا يدخلها إيمان ونور. غِشاوَةٌ غطاء وستر، والمقصود: التعامي عن النظر إلى آيات الله. المناسبة وسبب النزول: أتبع الله تعالى هذه الآية بعد بيان أحوال المؤمنين، لعقد مقارنة بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر، لأن الكفر ضد الإيمان، والمؤمنون ناجون، والكفار هالكون خالدون في نار جهنم. وسبب النزول في أصح الروايات: ما أخرجه الطبري عن ابن عباس والكلبي أن هاتين الآيتين نزلتا في رؤساء اليهود، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما «1» .

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 84، تفسير القرطبي: 1/ 184

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إن الذين كفروا وجحدوا بآيات الله وكذبوا بالقرآن، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم يستوي عندهم الإنذار وعدمه، فلا تتأثر قلوبهم به، لأنها مغلقة لا يصل إليها النور الإلهي، ولا يشرق فيها إيمان، بسبب تعاميهم عن الحق وآيات الله، فلا ينفذ إليها أثر الهداية والموعظة، ولأنهم عطلوا وسائل المعرفة والنظر والتفكير وإعمال السمع والبصر، فأصبحوا يرون الحق فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه، فكان جزاؤهم عذابا عظيما شديدا لا ينقطع، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: في هاتين الآيتين تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه له، فلا تحسّر عليهم، ولا طمع في إيمانهم، ولا لوم عليه فيهم. والختم على القلوب بمعنى عدم وعي الحق، وإلقاء الغشاوة على المسامع والأبصار: بمعنى عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم، أو بمعنى عدم نظرهم في مخلوقات الله، أو بمعنى أنهم دعوا إلى وحدانية الله فلم يؤمنوا، وكل ذلك إنما كان بسبب كفرهم وجحودهم، لا بسبب في القرآن أو تقصير من محمد أو أحد بعده في هدايتهم، فهم المتسببون لكل ذلك، المعرضون عن استخدام وسائط المعرفة السليمة في اعتقاد الحق والعمل به. فدلّ تعبير الختم والطبع على القلوب والأسماع والأبصار على تمكّن الكفر في قلوبهم، حتى فقدوا الدّواعي والأسباب التي ترشدهم إلى النظر والتفكّر في أدلّة الإيمان ومحاسنه، وأصبحوا في هيئة أو عادة تألف الجحود والعصيان. وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى أسماعهم وأبصارهم إلى الله تعالى، تنبيها على سنة الله في أمثالهم، لا على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم من الإيمان بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرّسهم على الكفر وإعماله في قلوبهم،

صفات المنافقين - 1 -[سورة البقرة (2) الآيات 8 إلى 10] :

بأنه استحوذ عليها وملك أمرها، حتى لم يعد فيها استعداد لغيره، وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن خذله وأمدّ له في ضلاله، إذ لم يمنعه حقا وجب له، فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم. ويوضحه آيتان أخريان هما: وَقالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة 2/ 88] ، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت 41/ 4- 5] ، فهم باستكبارهم وعنادهم لا يخرجون عن سلطان الله، وأن الله سبحانه خالق كل شيء من الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والإنسان هو الذي يختار أحد المنهجين. صفات المنافقين- 1- [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) الإعراب: مَنْ يَقُولُ وحد الضمير في الفعل مراعاة للفظ «من» وتجوز مراعاة المعنى، فيجمع. يُخادِعُونَ اللَّهَ أي نبيّ الله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الباء تتعلق بفعل مقدّر، أي استقر لهم. و «ما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، أي بكونهم يكذبون.

البلاغة:

البلاغة: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ المتبادر أن يقال: «وما آمنوا» ليطابق قوله مَنْ يَقُولُ آمَنَّا ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم، لإخراجهم من عداد المؤمنين، وأكده بالباء مبالغة في تكذيبهم. يُخادِعُونَ اللَّهَ استعارة تمثيلية، شبه حالهم مع ربهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر بحال رعية تخادع سلطانها، وأستعير المشبه به للمشبه بطريق الاستعارة. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كناية، كنّى بالمرض في القلب عن النفاق، لأن المرض فساد للجسد، والنفاق فساد للقلب. المفردات اللغوية: بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. والنفاق: اسم شرعي جعل سمة لمن يظهر الإيمان ويسرّ الكفر. يُخادِعُونَ يعملون عمل المخادع، والخداع: صرف الغير عما يقصده بحيلة، والمراد هنا: إظهار الإسلام وإضمار الكفر. مَرَضٌ المرض: العلة، والمراد هنا شك ونفاق وتكذيب وجحود. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: شكّا. التفسير والبيان: هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس، وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صمّا بكما عميا، وضرب لهم الأمثال، فهم أشدّ خطرا على الإسلام من الكفار صراحة. ولا تقتصر أوصاف المنافقين على المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فقط، بل في كل عصر إذا وجدت صفاتهم. وأول هذه الصفات النطق بالإيمان باللسان، وامتلاء القلب بالكفر والضلال. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين في عصر النّبوة، وكان

فقه الحياة أو الأحكام:

أكثر أصحابه من اليهود، وكانوا يدّعون الإيمان، فردّ الله عليهم دعواهم، وأنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، وإن تظاهروا به، ولا شكّ أنهم بهذا في صورة المخادعين لله، والله يعلم عنهم ذلك، فهم أشد ضررا من الكفار، ولهم في الآخرة عذاب أليم بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر. ونظرا لقصور عقولهم تصوّروا أنهم يخدعون الله تعالى، وهو منزّه عن ذلك، فإنه لا يخفى عليه شيء، وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم، والله قادر على كشف أمرهم للمسلمين. ومع كل ذلك يأمر الله بإجراء أحكام الإسلام عليهم، كأنه يخادعهم، على سبيل المشاكلة والمحاكاة والمشابهة لفعلهم، وكأن المسلمين حيث امتثلوا أمر الله فيهم مخادعون لهم، من باب التشبيه والتمثيل، للإشارة إلى أن المنافقين هم الخادعون المخدوعون. والصحيح- كما قال ابن العربي «1» - أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقتلهم وأعرض عنهم لمصلحة تألف القلوب عليه، ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير، لئلا تنفر عنه القلوب، وقد أشار هو صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى، فقال: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يقتل أصحابه» وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم، مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم. فقه الحياة أو الأحكام: إن النفاق مرض خطير، وإن المنافقين شوكة مؤذية تطعن المجتمع من الداخل، وكان المتبادر إلى الذهن في تقديرنا أن تستأصل شأفة النفاق

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 12، وانظر تفسير القرطبي: 1/ 198 وما بعدها.

والمنافقين، حتى ترتاح الدولة منهم، وكذلك تفعل الدول الآن، إلا أن للوحي الإلهي والتشريع السماوي حكمة عميقة الأثر، بعيدة المدى، تنتظر أحداث المستقبل، ليظهر للناس قصور علمهم أمام سعة العلم الإلهي، فكثيرا ما لاقى النّبي صلّى الله عليه وسلّم الأذى من المنافقين ولكنه انتصر في النهاية عليهم، ولعل ذلك من أصدق البراهين التاريخية على أن النفاق واليهودية شيئان متلازمان: لأنه ينشأ عن جبن حقيقي ولؤم طبعي، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله، ويظهر النعومة، ولكنها السّم الزعاف في الدسم. وتشير الآيات إلى أن الكذب هو شعار المنافقين، لذا حذر الله المؤمنين منه أشد التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان» «1» . وإذا كان الكذب شعار المنافقين، فإن الصراحة في القول، والجرأة في العمل الموافق للاعتقاد شعار المؤمنين الصادقين، الذين يستحقون كل تكريم، فتكون العظة بإيراد صفات المنافقين أشد أثرا، وأحكم أمرا للمؤمنين أنفسهم، إذ امتازوا بالثبات على الحق، وظل المنافقون في نفاقهم وزاد تمسكهم بما هم عليه، وأبوا الإيمان، وأعرضوا عن القرآن، وازداد مرض قلوبهم، وتحرقت نفوسهم بعد ما جاءهم البشير النذير، وعلا مجده وكثر أتباعه، على ما فاتهم من الزعامة، وحسدا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه.

_ (1) حديث حسن رواه أحمد في مسنده، وأبو الشيخ في التوبيخ، وابن لال في مكارم الأخلاق عن أبي بكر. [.....]

صفات المنافقين - 2 -[سورة البقرة (2) الآيات 11 إلى 13] :

صفات المنافقين- 2- [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) الإعراب: وَإِذا إذا: ظرف زمان مستقبل، وهو مبني لتضمنه معنى الحرف لَهُمْ في موضع رفع نائب فاعل لكلمة قِيلَ: هذا رأي ابن الأنباري، والصحيح أنه جار ومجرور متعلق بالفعل السابق، إِنَّما كافّة، ليس للجملة بعدها موضع من الإعراب نَحْنُ ضمير مرفوع منفصل، وهو مبني لأنه مضمر. أَلا إِنَّهُمْ ألا: حرف استفتاح، وكسرت «إن» لأنها مبتدأة. إِنَّهُمْ ضمير فصل لا موضع له من الإعراب أو توكيد للهاء والميم في إِنَّهُمْ. «والمفسدون» خبر «إن» . كَما مصدرية تقديره: كإيمان الناس. البلاغة: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ قصر الموصوف على الصفة، أي نحن مصلحون ليس إلا. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ تنويع التأكيد، جاءت الجملة مؤكدة بأربعة تأكيدات هي «ألا و «إن» وضمير الفصل: «هم» و «المفسدون» . المفردات اللغوية: لا تُفْسِدُوا الفساد: ضد الصلاح، والمراد النهي عن الأسباب المؤدية إلى الفساد، بإثارة

التفسير والبيان:

الفتن، وإفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم بالمؤمنين، وتنفيرهم من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، والكفر والصد عن سبيل الله. إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الصلاح ضد الفساد، أي ليس شأننا الإفساد أبدا، ولا شأن لنا إلا الإصلاح، وإنما نحن أناس مصلحون، بعيدون عن شوائب الإفساد، نسعى للخير والصلاح، باتباعنا رؤساءنا، وهكذا شأن المفسدين في كل زمان، يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه. السُّفَهاءُ ضعفاء العقول، والمراد هنا الجهلاء وضعفاء الناس. وأصل السفه: الخفة. التفسير والبيان: إذا قيل للمنافقين: إن مؤامراتكم الدنيئة ومخططاتكم الخبيثة بإثارتكم الفتن، والتجسس لحساب الكفار، وتأليب العرب على المسلمين فساد، قالوا: ليس الأمر كما تزعمون، فإنما نحن مصلحون، لا نبغي إلا الإصلاح، فرد الله عليهم بأنهم وحدهم هم المفسدون، ولكنهم لا يدركون خطورة عملهم، ولا يشعرون بهذا الإفساد، لأنه أصبح غريزة لهم، مركزة في طباعهم. وكان المسلمون ينصحونهم بشتى الوسائل، ويدعونهم إلى الإيمان، كإيمان الذين أصغوا للعقل السليم، وسلكوا سبيل الرشاد كعبد الله بن سلام وأشباهه، فإذا قالوا لهم: ادخلوا في ساحة الإيمان كغيركم من الناس، أجابوا مترفعين: أنؤمن بالقرآن وبمحمد، كما آمن السفهاء: أتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ضعفاء الناس من العبيد والفقراء، وضعفاء العقل من الجهلاء؟ مع أن العاقل هو من يرى طريق الخير والنور أمامه فيسلكه. فرد الله عليهم بأنهم وحدهم هم السفهاء دون من نسبوهم إلى السفه، فليس عندهم إدراك صحيح للإيمان، ولا يعلمون حقيقته وأثره. والسبب في أنه قيل في الإفساد: لا يَشْعُرُونَ والشعور: إدراك ما خفي، وفي الإيمان: لا يَعْلَمُونَ والعلم: اليقين ومطابقة الواقع: هو أن الإفساد في الأرض أمر محسوس، ولكن لا حسّ لهم حتى يدركوه، وأما الإيمان

فقه الحياة أو الأحكام:

فهو أمر قلبي، لا يدركه إلا من علم حقيقته، ولا يتم الإيمان إلا بالعلم اليقيني، والعلم: معرفة المعلوم على ما هو به، ولكن لا علم لديهم حتى يصلوا إلى حقيقة الإيمان. فقه الحياة أو الأحكام: إن قلب الحقائق، وتغيير الوقائع سمة الجبناء الضعفاء، أما الأقوياء وهم المؤمنون الذين استخدموا وسائط المعرفة السليمة للوصول إلى الحقائق، فهم الخالدون الباقون، وهم الذين يحبون الإنسانية بحق وصدق، فيدعونهم إلى إصلاح السلوك، وتقويم الأخلاق، والثبات على المبدأ الحق الذي يرشد إليه العقل، وتقتضيه الفطرة، وتؤيده البراهين الحسية والتاريخية. وقد دلت الآيات: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا على أن الإيمان ليس هو الإقرار، دون الاعتقاد، لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان، ونفى عنهم سمته بقوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» . صفات المنافقين- 3- [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 25

الإعراب:

الإعراب: يَعْمَهُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من «هم» في يَمُدُّهُمْ والعامل فيه الفعل، وهو «يمدّ» وتقديره: يمدهم عمهين، وإن شئت «عامهين» فقد قالوا: عمه، فهو عمه وعامه: إذا تحير. البلاغة: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ سمى الجزاء على الاستهزاء استهزاء بطريق المجاز أو المشاكلة: وهي اتفاق الجملتين في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، أو هي مقابلة الكلام بمثله وإن لم يكن في معناه، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] والثانية ليست سيئة ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] والثاني ليس باعتداء. وقوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل 16/ 126] والأول ليس بعقاب، وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله ومزاوجته له، وتقول العرب: الجزاء بالجزاء، والأول ليس بجزاء. اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى استعارة تصريحية، استعار لفظ الشراء لاستبدال الغي بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم، ثم زاده توضيحا بقوله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وهذا هو الترشيح: وهو ذكر ما يلائم المشبه به. المفردات اللغوية: خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ انصرفوا إليهم أو انفردوا معهم، وشياطينهم: إخوانهم في الكفر ورؤساؤهم وكبراؤهم مُسْتَهْزِؤُنَ الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وهذا فعل اليهود. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي أنه سيجازيهم عليه بالإمهال، ثم بالنكال، على سبيل المشاكلة (اتفاق اللفظ واختلاف المعنى) ليزدوج الكلام، فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. يَمُدُّهُمْ يزيدهم أو يمهلهم. طُغْيانِهِمْ تجاوزهم الحد وغلوهم في الكفر. يَعْمَهُونَ أي يتحيرون أو يعمون عن الرشد، من العمه: وهو ضلال البصيرة. سبب نزول الآية 14: أورد المفسرون أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين إذ امتدح أبا بكر وعمر وعليا بعد أن قال فيهم لأصحابه: انظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء؟ فنزلت الآية، لكن قال السيوطي: هذا الإسناد واه جدا.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا في عصر النبوة موقف أو مشهد آخر من مواقف ومشاهد المنافقين من اليهود، الذين هم كالشياطين، بل أشد، وهو موقف لا يحسدون عليه، لأنه سينكشف الحق قريبا، وتتجلى الحقيقة، فإن كل كاذب قليل الإدراك قصير النظر، لا ينظر إلى المستقبل. فهم إذا خلوا مع بعضهم وزعمائهم تضامنوا معهم، وقالوا: إنا معكم. وإذا رأوا المؤمنين أعلنوا إيمانهم، وقد فضح الله أوضاعهم، ولم يعبأ بهم، وسيجازيهم أشد الجزاء، ويزيدهم حيرة وضلالا في أمورهم. ثم إنهم بإهمالهم العقل في فهم كتاب الله، وتركهم الطريق المستقيم، وأدلة صحة هذا الدين حسدا وبغيا، كأنهم أقدموا على صفقة خاسرة، ودفعوا الهدى ثمنا للضلال، وباعوا النور بالكفر وضلالات الأهواء، فما ربحوا في هذه التجارة، لما ينتظرهم من عذاب جهنم. قال ابن عباس: «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى» أي استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أورده بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. وأسند الله تعالى الربح إلى التجارة، على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، والمعنى ربحت وخسرت في بيعك. وما كانوا مهتدين في اشترائهم الضلالة. فقه الحياة أو الأحكام: الجزاء والعقاب واقع على كل من بدل بالإيمان كفرا، وبالهدى والقرآن والنور والمنهج المستقيم ضلالا وبطلانا وظلاما والتواء، إذ إن هؤلاء أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد العقلي لإدراك الحقائق. ومن المعلوم أن الناس يصفون التاجر الخاسر الذي ضيع كل رأس ماله، ولم

يتدارك ما قد خسره في صفقة ما بأنه غبي أحمق، وهذا هو حال المنافق. ثم إن المعول عليه في دستور القرآن الحكم بصدق الإسلام هو الإخلاص بالقلب، لا مجرد القول باللسان. والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي ما يأتي «1» : 1- مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره كيلا يفعل الذم. 2- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج الإشاعات الباطلة. 3- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في القلب، الموافق للفعل. 4- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أنهم هم السفهاء بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمدا عليه الصلاة والسلام، فقد عادى الله، وذلك هو السفيه، فالسفه محصور فيهم، ومقصور عليهم، ولديهم شعور ما: بأنهم ركبوا هواهم، ولم يتبعوا هدي سلفهم، واعتمدوا في نجاتهم وسعادتهم على الأماني والتعلّات، كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة 2/ 80] وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] أي شعبه وأصفياؤه.

_ (1) تفسير الرازي: 2/ 62- 68

إيراد الأمثال للمنافقين [سورة البقرة (2) الآيات 17 إلى 20] :

إيراد الأمثال للمنافقين [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) الإعراب: اسْتَوْقَدَ ووَ تَرَكَهُمْ أعاد الضمير إلى الأول بالإفراد، وإلى الثاني بالجمع، لأنه نزّل الَّذِي منزلة «من» و «من» يرد الضمير إليها تارة بالإفراد، وتارة بالجمع. واسْتَوْقَدَ: إما بمعنى «أوقد» فيكون متعديا إلى مفعول واحد، وهو قوله: ناراً، وإما أن تكون السين فيه للطلب، فيكون متعديا إلى مفعولين، والتقدير، استوقد صاحبه نارا. «لما» ظرف زمان، العامل فيه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. ما حَوْلَهُ اسم موصول بمعنى الذي، وحوله: الصلة، وهو في موضع نصب، لأنه مفعول «أضاءت» . وأضاءت: يكون لازما ومتعديا، والأفعال التي تكون لازمة ومتعدية تنيّف على ثمانين فعلا. لا يُبْصِرُونَ جملة فعلية منفية في موضع نصب على الحال، من ضمير تَرَكَهُمْ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ: مرفوع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم. أَوْ كَصَيِّبٍ أو: هاهنا للإباحة، كصيب: مرفوع لكونه خبرا لقوله: مَثَلُهُمْ، وتقديره: مثلهم كمثل أصحاب صيب، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. فِيهِ ظُلُماتٌ في موضع جر على الوصف لصيب. ويَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ جملة فعلية في موضع جر، صفة لأصحاب المقدر. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول لأجله. يَكادُ الْبَرْقُ مضارع كاد، من أفعال المقاربة، ينفي في الإيجاب ويوجب في النفي. كُلَّما منصوب لأنه ظرف.

البلاغة:

البلاغة: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً تشبيه تمثيلي، شبه المنافق بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار. وكذلك أَوْ كَصَيِّبٍ.. تشبيه تمثيلي، شبه الإسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به، وشبه شبهات الكفار بالظلمات. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ تشبيه بليغ، أي هم كالصم البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس. يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أي رؤوس أصابعهم. «ويكذبون.. مصلحون.. يعمهون» : توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو من المحسنات البديعية. والخلاصة: اشتملت الآيات على قوة التعبير وشدة التأثير وروائع التشبيه، ففيها تشبيه القرآن بالمطر إذا أمطر يحيي الأرض، والقرآن يحيي موات النفوس، ويرى أصحاب الأهواء أن في القرآن شبها هي كالظلمات العارضة مع المطر. وفي الآيات أيضا وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة. المفردات اللغوية: «المثل» الصفة التي أضحت كالمثل، أو مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة. اسْتَوْقَدَ أوقد نارا للاستدفاء والإضاءة، أو طلب إيقاد النار أَضاءَتْ أظهرت ما حولها، «ترك» صيّر. والصم: آفة تمنع السماع، والبكم: الخرس، والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر. كَصَيِّبٍ الصيب: المطر الكثير. رَعْدٌ الرعد: صوت احتكاك الهواء الذي يسمع في السحاب عند تجمعه. والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا بسبب احتكاك الهواء واتحاد كهربية السحاب الموجبة بالسالبة. والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحيانا أثناء المطر والبرق بسبب تفريغ كهربية السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض. والخطف: الأخذ بسرعة. قامُوا: وقفوا وثبتوا في أماكنهم متحيرين منتظرين تغير الحال، للوصول إلى النجاة. والظلمات: هي ظلمة الليل وظلمة السحب وظلمة الصيّب نفسه. سبب نزول الآية 19: أخرج الطبري عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في نزول هذه الآية: قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله: فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فكان كلما أضاءت لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق (الخوف) أن

التفسير والبيان:

تدخل الصواعق في مسامعهما، فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشوا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، وقاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه، فأسلما ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين، مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبي صلّى الله عليه وسلّم، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان، وأصابوا غنيمة أو فتحا، مشوا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم دين صدق، فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفارا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما «1» . التفسير والبيان: ضرب الله تعالى في هذه الآيات مثلين لتوضيح حال المنافقين وبيان شناعة أعمالهم وسوء أفعالهم، تنكيلا بهم، وفضحا لأمورهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمة. وضرب الأمثال هو منهج القرآن لتوضيح المعاني وإبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجلية، وهذان المثلان يصوران حالة القلق والحيرة والاضطراب عند المنافقين وسرعة انكشاف أمرهم: المثل الأول- لسرعة انكشاف أمرهم: وهو أن مثل المنافقين وحالهم في إظهار الإسلام زمنا قليلا وأمنهم على أنفسهم وأولادهم، كحال الذين أوقدوا

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 119

نارا، لينتفعوا بها، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء، وأبصروا زمنا يسيرا، أطفأها الله بنحو مطر شديد أو ريح عاصف، فصيرهم لا يبصرون شيئا، وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار، لأن النور قد زال. والمنافقون عطلوا مشاعرهم وإحساساتهم، إنهم عطلوا منفعة السمع، فلم يسمعوا عظة واعظ وإرشاد مرشد، بل لا يفقهون إن سمعوا، فكأنهم صمّ عن الحق لا يسمعون. وعطلوا منفعة الكلام والسؤال والمناقشة، فلم يطلبوا برهانا على قضية، ولا بيانا عن مسألة، فكأنهم بكم لا يتكلمون، وعطلوا منفعة البصر، فلم ينظروا ولم يعتبروا بما حل بهم من الفتن وبما تعرضت له الأمم، فكأنهم عمي عن الهدى. وهم لا يعدلون أصلا عن حالهم من الضلالة إلى الهدى، فلا تأس عليهم ولا تحزن. والمثل الثاني- لحيرتهم وقلقهم وانتهازيتهم: وهو أن القرآن قد أتاهم بالإرشادات الإلهية، ولكنهم أعرضوا عنها، فحالهم تشبه حال قوم نزل عليهم المطر الغزير، المصحوب بالمخاوف من ظلمات المطر والسحب والليل، والرعد القاصف، والبرق الخاطف، وفي هذا الجو القاتم تلمسوا سبيل النجاة، وعقدوا الأمل على ما لاح في الأفق من نور، فعزموا على اتباع الحق الذي جاءت به الآيات البينات، ثم ما لبثوا أن وقعوا في الظلام، فأصابهم القلق والاضطراب، والله محيط بهم، قادر عليهم، فلو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد، وأبصارهم بوميض البرق الخاطف، ولكن لحكمة ومصلحة، لم يشأ ذلك، لإمهالهم وإعطائهم الفرصة ليثوبوا إلى رشدهم. والخلاصة: قد يضيء النفاق لصاحبه الدرب حينا قصيرا، ثم سرعان ما ينطفئ كما تنطفئ النار، مما يجعل النفاق لا دوام له ولا استمرار. وقد يجد المنافق الأمل في نفاقه لتحقيق غرض أو مكسب مادي رخيص، ثم تتبدد

فقه الحياة أو الأحكام:

الآمال، ويبقى المنافقون في قلق واضطراب، إذ إن فرحهم الظاهري بنزول آية، وسيرهم مع المسلمين، يسقطه الامتحان عند ما يطالبون بالجهاد مع المؤمنين، وإن التلون بالدعم حين الخير، والنقمة والكفر حين الشر، مثل المنافق غير المؤمن. فقه الحياة أو الأحكام: هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم. فما يظهره المنافقون من الإيمان الذي تثبت به أحكام المسلمين في الزواج والميراث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، واغترارهم لما آمنوا بكلمة الإسلام، لا فائدة له في أحكام الآخرة، لأنهم يصيرون إلى العذاب الأليم، كما أخبر التنزيل: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145] فمثل استضاءتهم بضوء إقرارهم بالإسلام مع إسرار الكفر كإضاءة النار الموقوتة أو كمثل مطر مظلم. والمنافقون عطلوا بحق وسائل المعرفة الصحيحة والإيمان الراسخ، فهم صمّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عمي عن الإبصار له، وأشد من ذلك أنهم لا يرجعون في النهاية إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم، لا بقهر وإجبار. ومع نفاقهم فلم يعجل الله عقابهم في الدنيا، وقد استنبط الجصاص من ذلك: أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الاجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه «1» . والقرآن ممتلئ بالخير والآيات الدالة على كونه من عند الله كالصيّب، وما فيه من الوعيد والزجر كالرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا تبهر المنافقين كالبرق، وما فيه من الدعوة إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل كالصواعق.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 26- 27

الأمر بعبادة الله وحده والأسباب الموجبة لها [سورة البقرة (2) الآيات 21 إلى 22] :

والله محيط بجميع الكائنات وبالكافرين، فلن يفلت من حسابه أو قدرته أو مشيئته أحد، ولو شاء الله لأطلع المؤمنين على المنافقين، فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وهو سبحانه المتميز بالقدرة الشاملة لكل شيء، فهو جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم، ويجب على كل مكلف (بالغ عاقل) أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل، ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره، ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته. هذه هي الآيات العشرون، أربع منها في وصف المؤمنين، وآيتان في وصف الكافرين، وبقيتها في المنافقين «1» . الأمر بعبادة الله وحده والأسباب الموجبة لها [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) الإعراب: يا أَيُّهَا النَّاسُ: يا حرف نداء، وأي: اسم منادى مضموم، وها للتنبيه، وكثرة النداء في القرآن بهذا الأسلوب للتأكيد والمبالغة، لأن كل ما نادى الله به عباده من أوامر ونواه وعظات من

_ (1) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص 11

البلاغة:

الأمور العظام الموجبة للتيقظ. والناس: بدل من المنادي، لأن ما فيه أل بدل من المنادي إذا كان جامدا، ونعت أو صفة إذا كان مشتقا، وعبارة القرطبي: الناس: مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين. الَّذِي جَعَلَ: إما منصوب صفة رَبَّكُمُ أو مفعول تَتَّقُونَ أو منصوب على المدح بتقدير فعل، أو منصوب صفة للفظ الله في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ.. (20) . وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو مبتدأ خبره: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً (22) ، أو صفة لفظ اللَّهُ في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ.. (20) . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنتم: ضمير مرفوع منفصل مبتدأ، وتَعْلَمُونَ جملة فعلية في موضع الخبر، والجملة من المبتدأ والخبر حال من ضمير تَجْعَلُوا. البلاغة: رَبَّكُمُ الإضافة للمخاطبين للتعظيم. جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً مقابلة بين الأرض والسماء، والفراش والبناء، من أنواع المحسّنات البديعية. المفردات اللغوية: «يا» : لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل، فإن نودي به القريب فهو بقصد تعظيم المنادي به، وإيقاظ النفوس، واجتذاب الأنظار، واستمالة القلوب الغافلة، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. وأما نداء القريب فيكون بكلمة «أي» خَلَقَكُمْ الخلق: الإيجاد والاختراع بلا مثال سابق. فِراشاً: الفراش: البساط للاستقرار، والمراد أنه مهد الأرض للإقامة فيها والاستقرار عليها وذلك مثل المذكور في آيتين أخريين: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غافر 40/ 64] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ 78/ 6] . بِناءً سقفا مرفوعا مبنيا محكما. أَنْداداً جمع ند وهو النظير، أي أمثالا من الآلهة تعبدونها من دون الله. والمراد بعبادة المؤمنين: ازديادهم منها وإقبالهم عليها وثباتهم فيها: وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد لها منه وهو الإقرار بالشهادتين، وما لا بد للفعل منه فهو مندرج تحت الأمر به، وإن لم يذكر، كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرها. مناسبة الآيات: بعد أن ذكر الله تعالى أصناف الناس الثلاثة: وهم المؤمنون، والكافرون،

التفسير والبيان:

والمنافقون، أمر جميع الناس ومنهم مشركو مكة بعبادته والاستكانة والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية والوحدانية له، وعبادته دون الأوثان والأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها، لأنه تعالى هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، ولأنه المنعم المتفضل على جميع الخلائق بخيرات الأرض والسماء. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى جميع الناس من مشركي مكة وغيرهم بعبادته وحده، كما أمرهم على لسان الأنبياء السابقين في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] أي الأوثان. وأصل العبادة: الخضوع والتذلل، ويراد بها هنا توحيد الله والتزام شرائع دينه، ونبذ عبادة الأصنام. والسبب أن هذا الرب العظيم يستحق إفراده بالعبادة، لأنه خالق العباد جميعهم، المأمورين وأسلافهم، ومدبر شؤونهم، وواهبهم ما يحتاجونه من طرق الهداية ووسائل المعرفة. وللعبادة ثمرة مؤكدة هي الوصول للتقوى والظفر بالفوز والنجاح والهدى وبلوغ درجة الكمال، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، ومن عبد الله حق العبادة تحققت تقواه التي يحبها الله من عباده. وبما أن الأصل في كلمة «لعل» للترجي والتوقع، وهو مستحيل من الله القدير الأعلى للعبد الضعيف الأدنى، فكان المراد به: افعلوا ذلك راجين الوصول للتقوى، أو لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا. والأمر بالعبادة أيضا لأنه سبحانه جعل الأرض مهادا وقرارا للاستقرار عليها، والحياة والإقامة فيها بهدوء واطمئنان، بالرغم من دورانها وكرويتها، فهي ثابتة بالجبال الراسيات: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ 78/ 7] ، ولأنه جعل السماء سقفا مرفوعا فوق الأرض كالقبة، تظلّ الناس بالخير والبركة، وأحكم

بناءها مع ما فيها من أفلاك وأجرام، وأحكم النّسب بينها بسنة الجاذبية، فلا يختل نظامها، ولا يسقط منها جرم عظيم على الأرض، ولا تصطدم ببعضها، وأنزل منها أي من السحاب ماء مباركا ومطرا عذبا ينبت به الزرع والعشب، ويحيي الأرض بعد موتها، ويغسل به الجو الذي تلوث بالتراب وغيره من كل ما يؤذي ويضر ويعكر صفو الحياة وصفاء الهواء. فمن اتصف بالخلق والإبداع والتكوين للإنسان، والإمداد له بالنعم والأرزاق، وبخلق السماء والأرض لخير البشر، جدير بالعبادة والتعظيم والخضوع له، فلا يليق اتخاذ الشركاء الضعفاء معه من الأصنام والبشر، الذين لا يخلقون شيئا ولا يقدمون رزقا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا، ولا يدفعون عن ذواتهم ضرا، وتقدس الله تعالى عن اتخاذ الأنداد والشركاء والأولاد، إذ لا حاجة له بهم، فمن كانت له حقيقة القدرة، ودلت عليه دلائل الربوبية والوحدانية هو المستحق وحده للطاعة. وأما اتخاذ المشركين الأصنام أندادا توسلا بها إلى الله، واتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، في التشريع وتحليل المنكرات، وتحريم بعض الطيبات، فهو محض الافتراء والكذب، ومغالطة الواقع، مع أن الكل متفقون على أن الخالق والرازق هو الله، وحال جميع الكافرين والمنافقين يعلمون في الحقيقة بطلان شرائع وأنظمة الآلهة المزعومة، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت 29/ 61] أي يصرفون. وقال سبحانه منددا باتخاذ الوسائط إلى الله، وبإبطال التقرب بغير ما شرع الله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: العبادة التي هي توحيد الله والتزام شرائع دينه لا تكون إلا لله الخالق الرازق، وملازمة العبادة الخالصة لله مدعاة لغرس أصول التقوى لله عز وجل، فلا يجرأ المتقون على مخالفة الأوامر، واقتحام المعاصي. وليس المراد بكون الأرض فراشا، أي وطاء للافتراش والاستقرار عليها، هو الفراش المعهود المستخدم للنوم، فمن حلف لا ينام على فراش، فنام على الأرض، لا يحنث في رأي الحنفية والشافعية، لأن اللفظ لا ينصرف إليها عرفا، والأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من الأسماء، وليس في العادة إطلاق هذا اللفظ على الأرض. وأما المالكية فيحملون الأيمان على النية أو السبب أو بساط الحال التي جرت عليه اليمين (أي سبب اليمين) ، فإن عدم ذلك فالعرف، فإن لم يكن شيء من ذلك فيحمل اليمين على مطلق اللفظ المراد في اللغة. ودلت الآية على توحيد الله، وإثبات الصانع الذي لا يشبهه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء. ومن مظاهر قدرته رفع السماء ووقوفها بغير عمد نراه، ودوامها على طول الدهر، دون تبدل ولا تغير، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 32] وكذلك ثبات الأرض ووقوفها على غير سند بالرغم من تحركها، ودورانها في الفضاء، من أعظم الدلالات على التوحيد، وعلى قدرة خالقها، وأنه لا يعجزه شيء، وفي ذلك تنبيه على الاستدلال بها على الله وتذكير بالنعمة، فقد أخرج الله من الأرض ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات، طعاما للإنسان، وعلفا للدواب، وقد بين الله هذا في قوله تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا «1» ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس 80/ 25- 32] .

_ (1) القضب: علف رطب للدواب كالبرسيم، والأب: الكلأ والعشب، أو هو التبن خاصة.

تحدي الجاحدين بالإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن [سورة البقرة (2) الآيات 23 إلى 24] :

وأرشدت هذه الآية إلى أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق، وقد أشار عليه السلام إلى هذا المعنى: «والله لأن يأخذ أحدكم حبلة، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، أعطاه أو منعه» «1» . قال القرطبي: ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله، بسبب الحرص والأمل، والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل لله ندّا «2» . وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد، لأن المشركين يعلمون في الحقيقة أن المنعم عليهم هو الله دون الأنداد، ويعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبروا ونظروا وأعملوا عقولهم وأفكارهم، فلا داعي للوسائط المزعومة في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 35/ 3] . تحدي الجاحدين بالإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن [سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

_ (1) أخرجه مسلم. (2) تفسير القرطبي: 1/ 230

الإعراب:

الإعراب: الهاء في مِثْلِهِ إما أن تكون عائدة على عَبْدِنا فتكون مِنْ ابتدائية، وتقديره: ابتدئوا في الإتيان بالسورة من مثل محمد، وإما أن تكون عائدة على مِمَّا نَزَّلْنا وهو القرآن، فتكون مِنْ زائدة للبيان، وتقديره: فأتوا بسورة مثله. ومِنْ مِثْلِهِ متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله. قال الزمخشري: ورد الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس 10/ 38] ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود 14/ 13] ، عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء 17/ 88] ، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى «المنزّل» أحسن ترتيبا، وذلك أن الحديث في المنزل، لا في المنزل عليه. أُعِدَّتْ إما حال للنار على معنى معدّة، وأضمرت معه قد، كما قال: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء 4/ 90] ، أي قد حصرت، وإما بكلام منقطع عما قبله. البلاغة: عَلى عَبْدِنا إضافة تشريف وتخصيص. فَأْتُوا بِسُورَةٍ الأمر خرج إلى معنى التعجيز، وتنكير السورة لإرادة العموم والشمول. وَلَنْ تَفْعَلُوا يفيد دوام التحدي في الماضي والحاضر والمستقبل. فَاتَّقُوا النَّارَ إيجاز صارف إلى الغاية المقصودة جوهريا، أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بالإيمان بالقرآن وبالنّبي محمد عليه الصلاة والسلام. المفردات اللغوية: رَيْبٍ شك. عَبْدِنا محمد. مِنْ مِثْلِهِ أي المنزل، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ أحضروا آلهتكم أو نصراءكم ورؤساءكم، أو من يشهد لكم يوم القيامة. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره لتعينكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن محمدا قاله من عند نفسه، فإنكم عرب فصحاء مثله. والسورة: قطعة أو طائفة من القرآن، لها أول وآخر، أقلها ثلاث آيات.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة: متقين موحدين، وجاحدين معاندين، ومنافقين مذبذبين، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله، وأنه نزل من عنده، بدليل أنه معجز، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله، مع أن العرب فرسان البلاغة، وأساطين الفصاحة، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعرا ونثرا وخطابة، وبما أنهم عجزوا، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، فقد ثبت صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعاه من النّبوة، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان منكر نبوته ورسالته مستحقا العقاب والجزاء في نار جهنم. التفسير والبيان: إن كنتم أيها العرب وغيركم من الجاحدين في شك من صدق القرآن، الذي أنزله الله على عبده ورسوله النّبي الأميّ محمد بن عبد الله، وزعمتم أنه من كلام البشر، فأتوا بمثله، كما يقدر سائر البشر، وذلك إن كنتم صادقين في أنه مختلق ومن كلام البشر، وأنكم تقدرون على المعارضة لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] ، واستعينوا بمن شئتم من الرؤساء والأشراف والآلهة المزعومة، لمعارضة القرآن، فإنه لا يقدر أن يأتي بمثله إلا الله، وحيث عجزتم ولم تقدروا على الإتيان بسورة تماثل القرآن في البيان الغريب والبلاغة المتفوقة، وعلو حسن النظم، وسلامة المنطق، وروعة التشريع والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، والإخبار بالمغيبات، ويظل العجز دائما في المستقبل، فلن تقدروا على الإتيان بمثله، مع أنه كلام عربي من جنس كلام العرب في الشعر والخطابة والنثر والأسلوب، وفي العرب البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء وأعلام البيان والقول.

فقه الحياة أو الأحكام:

وحيث ظهر العجز فعلا، فارجعوا إلى الحق، والإيمان بالقرآن، والتصديق برسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففي ذلك وحده النجاة من عذاب الله في النار التي وقودها الناس الكفار والحجارة (الأصنام) مادة الاشتعال، فهي لا يماثلها أعلى فرن ناري عالي التوتر لصهر الحديد وغيره من المواد الصلبة، ولا تقدّر درجات حرارتها بأفران الدنيا على الإطلاق، وقد أعدها الله وهيأها للكافرين الجاحدين المنكرين رسالة الإسلام، جزاء وفاقا لكفرهم وجحودهم. قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء 29/ 98] . والخلاصة: إذا بان العجز التام عن الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، مع المحاولة وبذل الجهود واستمرار التحدي في المستقبل، فاحذروا العناد، واعترفوا بكون القرآن من عند الله، لئلا تكونوا مع أصنامكم وقودا لنار جهنم التي أعدت لأمثالكم الكافرين. فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.. على صحة نبوة نبيّنا عليه الصلاة والسلام من وجوه: الوجه الأول - أنه تحداهم بالإتيان بمثل القرآن، وقرّعهم بالعجز عنه، مع ما هم عليه من الأنفة والحميّة، وأنه كلام موصوف بلغتهم، فلو قدروا على معارضته لكانت معارضته أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه. فلما ظهر عجزهم عن معارضته، دلّ ذلك على أن القرآن من عند الله الذي لا يعجزه شيء، وأنه ليس في مقدور العباد مثله. وهذه معجزة باقية لنبيّنا عليه الصلاة والسلام بعده إلى قيام الساعة، وقد كانت هذه المعجزة تتناسب مع اعتزاز العرب بالفصاحة والبلاغة بما لم يتهيأ لغيرهم، فجعل الله تعالى آية محمد الكبرى كتابا معجزا لهم ولسائر الخلق في نظمه وأسلوبه، وفصاحته وبلاغته،

والوجه الثاني:

فكانت عليهم الحجة بأقوى مما قامت به المعجزات المادية السابقة مثل عصا موسى ويده في عصر السحر، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عصر الطب. والوجه الثاني - كان معلوما عند الناس قاطبة: المؤمنين والجاحدين لنبوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان من أتمّ الناس عقلا، وأكملهم خلقا، وأفضلهم رأيا، فما طعن عليه أحد في كمال عقله، ووفور حلمه، وصحة فهمه، وجودة رأيه، فلا يجوز على من كان هذا وصفه أن يدّعي النّبوة، ويجعل علامة نبوته كلاما يقدر كل واحد من العرب على مثله، فيظهر حينئذ كذبه، وبطلان دعواه، فدلّ ذلك على أنه تحداهم بكلام هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله. والوجه الثالث - أخبر تعالى بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا أنهم لا يعارضونه، وذلك إخبار بالغيب، وتحقق الخبر مع مضي الزمان. قال أبو بكر الجصاص «1» : وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] ، فلما ظهر عجزهم قال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود 14/ 13] ، فلما عجزوا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور 52/ 34] ، فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن ذلك، وقامت عليهم الحجة، وأعرضوا عن طريق المحاجة، وصمموا على القتال والمغالبة، أمر الله نبيه بقتالهم. والخلاصة: أن التحدي كان متنوعا، مرة بالنظم والمعنى، ومرة بالنظم دون المعنى، بافتراء شيء لا معنى له، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 29

جزاء المؤمنين العاملين [سورة البقرة (2) آية 25] :

وأرشدت الآية: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا.. على ظهور العجز التام عن المعارضة، وعلى استحقاق الكافرين النار لإنكارهم نبوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولعدم تصديقهم بالقرآن، وعلى أن من اتقى النار ترك المعاندة، وعلى أن النار حاليا ومن القديم مخلوقة مهيأة موجودة معدّة للعصاة والفسّاق والكفّار. قال القرطبي «1» : فيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة، خلافا للمبتدعة في قولهم: إنها لم تخلق حتى الآن. جزاء المؤمنين العاملين [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) الإعراب: مُتَشابِهاً منصوب على الحال من الضمير في بِهِ والعامل فيه: أُتُوا أي يشبه بعضه بعضا في المنظر، ويختلف في الطعم. وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. مُطَهَّرَةٌ نعت للأزواج، ومطهرة في اللغة: أجمع من طاهرة وأبلغ. وَهُمْ فِيها خالِدُونَ «هم» : مبتدأ، و «خالدون» خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب «خالدين» على الحال. والسبب في تنكير جنات وتعريف الأنهار: أن الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 236

لمفردات اللغوية:

الجنان. وأما تعريف الأنهار: فلأن إيراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفاكهة، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو المراد أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم 19/ 4] ، أو لأنه يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ.. [محمد 47/ 15] . لمفردات اللغوية: وَبَشِّرِ أخبر. الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا بالله. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفروض والنوافل. أَنَّ أي بأن. جَنَّاتٍ حدائق ذات شجر ومساكن، وهي دار الخلود للمؤمنين، وسميت جنة، لأنها تجنّ من فيها أي تستره بشجرها. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت أشجارها وقصورها. الْأَنْهارُ المياه فيها. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ أطعموا من تلك الجنات. رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي قبله في الجنة لتشابه ثمارها. وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا لونا ويختلف طعما. وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من الحور وغيرها. مُطَهَّرَةٌ من الحيض والبصاق وسائر الأقذار. وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون، والخلود: البقاء، ومنه جنة الخلد. المناسبة: يعقد القرآن عادة مقارنات بين الأشياء المتضادة، فلما ذكر الله جزاء الكافرين والعصاة، أردف ذلك ببيان جزاء المؤمنين الأتقياء الأطهار، ليظهر الفرق بين الفريقين، وليكون ذلك أدعى للعبرة والعظة، والامتثال من مقارنة الأحوال. التفسير والبيان: بشّر يا محمد أنت وورثتك من العلماء: المؤمنين المتقين، الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات والحسنات أن لهم حدائق ذات أشجار ومساكن، تجري من تحت

قصورها ومساكنها أنهار الجنة «1» ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وفيها- كما ورد في الصحيحين- ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ، وهو معنى قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] . فيها الأرزاق الدائمة والثمار الشهية المتنوعة، كلما قدمت لهم ثمرة منها في أول النهار وآخره، قالوا متعجبين: هذه الثمرة كالتي رزقناها في الدنيا، فإذا أكلوها وجدوا لها طعما غير الطعم المعتاد، وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في المنظر والشكل والجنس فقط، وتختلف في الذوق والطعم والحجم، فهي مما لم يروه أبدا، وجيئوا بها مشابهة لثمار الدنيا المألوفة، مع اختلاف المادة والطعم، قال ابن عباس: «ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء» ، وقال الطبري «2» : «أولى التأويلات تأويل من قال: وأتوا به متشابها في اللون والمنظر، والطعم مختلف، يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفا في الطعم والذوق. ومن الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله أن في الجنة للمؤمنين زوجات من الحور العين، مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، مطهرات من الأقذار والأدناس المنفرة: الحسية والمعنوية، كالحيض والنفاس، والحدث من البول والغائط، والتنّخم أو البصاق، وشرور النفس والهوى. روى مسلم أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد، كما تلهمون النّفس» .

_ (1) روى أبو هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال أو من تحت جبال المسك» . (2) تفسير الطبري: 1/ 135 وما بعدها، ومثله تفسير الرازي: 2/ 130

فقه الحياة أو الأحكام:

لكن ورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنّ يوم القيامة أفضل من الحور العين، المذكورات في قول الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة 56/ 35- 38] . روى الترمذي عن أم سلمة: «.. قلت: يا رسول الله، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظهارة على البطانة. قلت: يا رسول الله، وبم ذاك؟! قال: بصلاتهن وصيامهم وعبادتهن الله عزّ وجلّ» «1» . وثبت في الصحيح أيضا: أن لكل رجل في الجنة زوجتين اثنتين. قال العلماء: إحداهن من نساء الدنيا، والأخرى من نساء الجنة. وتمتاز الجنة عن الدنيا بأنها دار الخلود أي الدوام والبقاء والمكث الطويل، الذي لا بديل عنه، وهو تمام السعادة، وأمل المؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: تتوالى البشائر القرآنية المفرحة للنفوس، المحرّكة للقلوب، بأن الجنة دار النعيم الدائم المقيم هي المخصصة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. والإيمان بمجرده لا يكفي، بل لا بدّ من أن ينضم إليه الطاعة والعمل الصالح. ونعيم الجنة غير محدود ورزقها لا ينقطع، وإنما أراد الله أن يقرب لعقولنا ما أعدّ فيها، بهذه الآية وغيرها، وبما أن طبيعة البشر تتعلق عادة بالماديات، أغراهم الله بما تميل إليه نفوسهم، فوعدهم بالحقائق المادية، المعبر عنها في آية أخرى بإيجاز: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف 43/ 71] ، ويظل الإنسان في عالم الآخرة إنسانا لا ملكا، وإنما تكون لذاته الإنسانية أكمل مما كان في الدنيا، وأسلم من المنغصات. وأما الأعمال الصالحة التي تبوّئ أصحابها الجنان: فهي كل خير أقره العرف

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 291

فائدة ضرب الأمثال للناس في القرآن [سورة البقرة (2) الآيات 26 إلى 27] :

والشرع والعقل والفطرة السليمة، منها المذكور في أوائل سورة «المؤمنون» : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون 23/ 1- 11] . وخلود المؤمنين في الجنة، وخلود الكفار في النار: معناه في الشرع: الدوام الأبدي، أي لا يخرجون منها، ولا هي تفنى بهم، فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها. فائدة ضرب الأمثال للناس في القرآن [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

الإعراب:

الإعراب: لا يَسْتَحْيِي جملة فعلية منفية في موضع رفع خبر إِنَّ. أَنْ يَضْرِبَ في موضع نصب بفعل يَسْتَحْيِي وحذف حرف الجر هنا، لأن إِنَّ هنا مصدرية. مَثَلًا مفعول أول، وما في قوله مَثَلًا ما بَعُوضَةً إما زائدة لتأكيد الخسة أي مثلا بعوضة، وبَعُوضَةً بالنصب على البدل من مثل، وإما نكرة موصوفة بما بعدها بدل من مثل أي مثلا شيئا بعوضة فهو مفعول ثان، وإما بمعنى «الذي» و «بعوضة» مرفوع خبر مبتدأ مقدّر، أي الذي هو بعوضة. فَما فَوْقَها ما: عطف على ما الأولى، أو على بَعُوضَةً إن جعلت «ما» زائدة. فَأَمَّا حرف فيه معنى الشرط، فوقع في جوابها الفاء. ماذا إما كلمة واحدة للاستفهام في موضع نصب بأراد، والمعنى: أيّ شيء أراد الله بهذا المثل. وإما أن تجعل ذا بمعنى «الذي» فتكون ما في موضع مبتدأ، وما بعدها الخبر، فهو استفهام إنكاري. مَثَلًا إما منصوب على التمييز، أو منصوب على الحال من «ذا» في «هذا» . أَنْ يُوصَلَ إما في موضع نصب على البدل من ما أو في موضع جرّ على البدل من الهاء في بِهِ. والَّذِينَ نعت. وأَنْ يُوصَلَ بدل من ضمير بِهِ. البلاغة: لا يَسْتَحْيِي المعنى: لا يترك، فعبر بالحياء عن الترك، لأن الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه، كما قرر الزمخشري في (تفسيره: 1/ 204) فهو مجاز من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ فيه استعارة مكنية، حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو النقض، وسمي العهد حبلا على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الصلة بين المتعاهدين، كما قال الزمخشري: 1/ 207، أي أن أصل استعمال النقض هو في الحبل، ثم استعمل في العهد، لأنّه يشبهه. المفردات اللغوية: لا يَسْتَحْيِي لا يترك ضرب المثل. والحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب عليه ويذم، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. أَنْ يَضْرِبَ يجعل مَثَلًا المثل في اللغة: الشبيه والنظير، وضرب المثل في الكلام: أن يذكر لحال ما يناسبها، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا. بَعُوضَةً الناموسة المعروفة. فَما فَوْقَها ما زاد عليها أو كان أكبر منها،

سبب النزول:

أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم. الْحَقُّ هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته، ولا يجد العقل سبيلا لإنكاره. والفسق لغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها: إذا خرجت. والنقض: الفسخ وفكّ التركيب لحبل وغزل ونحوهما. والميثاق: ما يوثق به الشيء، ويكون محكما يعسر نقضه. وميثاق العهد: توكيده، والمراد: العهد المؤكد باليمين. وعهد الله: ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر. وطريق الإيمان: استخدام نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم. ونقض الميثاق: عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له، حتى كأنهم فقدوها أو عطلوها، فالمراد بقوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ توكيده عليهم. والمأمور بوصله: هو الإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والرحم وغير ذلك. والإفساد في الأرض: بالمعاصي والتعويق عن الإيمان. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: 1/ 138 عن جماعة من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين: قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً ... إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «1» . قال السيوطي في الجلالين: هذا القول أصح إسنادا وأنسب بما تقدم أول السورة. التفسير والبيان: إن الله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ونحوها بما هو دونها أو أكبر منها، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها، فلا غرابة ولا حرج ولا عيب في الإتيان بالأمثال والأشباه سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، لأن العظمة فيها جميعها شيء واحد وهو الخلق والإبداع، ولأن المثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد، وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء

_ (1) انظر أيضا تفسير القرطبي: 1/ 241، أسباب النزول للواحدي: ص 12 [.....]

المحسوسة لتأنس بها النفوس، وتنكشف أمامها الغوامض، وتزول الأوهام عن معارضة العقل. والله الحكيم يفعل ما يحقق المصلحة بضرب المثل في العظائم والمحقرات حسب الأحوال والمناسبات، فإن كان الأمر عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء، وإن كان الأمر مهينا حقيرا كالأصنام ضرب مثله في عدم النفع وانعدام الفائدة بما يشبهه من الذباب والبعوض والعنكبوت. فأما المؤمنون الذين يصدقون بأن الله خالق الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، فيقولون: هذا كلام الله حق، لا يقول غير الحق، والكل لديه سواء، وهذا المثل لمصلحة وحكمة. وأما الكافرون الذين يستهزئون بالأمثال بالمحقرات فيقولون متعجبين: ماذا أراد الله بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ فهم في حيرة من أمرهم، وخسارة في نهايتهم، ولو آمنوا لعرفوا الحق ووجه الحكمة في ذلك، قال تعالى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [المدثر 74/ 31] . ثم ردّ الله تعالى على المتسائلين بأن هذا المثل كان سببا في زيادة ضلال كثير من الكافرين لكفرهم بالله، وزيادة هداية كثير من المؤمنين لإيمانهم بالله، ولا يضلّ بضرب المثل أو بغيره من القرآن، إلا الفاسقون: الخارجون عن طاعة الله وعن سنته في خلقه وجحد آياته، وتعطيل عقولهم ومشاعرهم عن إدراك المصالح والغايات. وفي هذا إشارة إلى أن علّة إضلالهم خروجهم عن السّنن الكونية التي جعلها الله عبرة لمن تذكر، فإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل، فضلّ به قوم، واهتدى به قوم، تسبب لضلالهم وهداهم «1» . قال

_ (1) الكشاف: 1/ 206 وما بعدها.

تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت 29/ 43] ، والعالمون: هم المؤمنون المهتدون بهدي الحق. ثم أردف تعالى ذلك ببيان أوصاف هؤلاء الفاسقين، فهم ينقضون الميثاق، فلا يستعملون مواهبهم من عقل ومشاعر وحواس لإرشادهم إلى المقصود، وينقضون ما عاهدوا الله عليه عهدا فطريا «1» من الإيمان بمحمد والتصديق به وبجميع الرسل الكرام، والعمل بشرائع الله، قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] . وهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان بالله بعد قيام الأدلة الكونية على وجوده، فقطعوا الصلة بين الدليل والمدلول، والإيمان بجميع الأنبياء، ففرقوا بين نبي ونبي، وقد أمر الله بوصل الإيمان بجميع الأنبياء، وهم لا يصلون الرحم والقرابات المادية بين الأقارب، والمعنوية بين الرسل وموالاة المؤمنين. ومشركو العرب بتكذيبهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم نقضوا عهد الفطرة، وأهل الكتاب نقضوا العهدين: عهد الفطرة والعهد الديني الذي أخذه الله عليهم في كتبهم من الإيمان بالنّبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] ، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم، فهو ناقض لعهد الله تعالى. وهم يفسدون في الأرض بالمعاصي، والفتن بين الناس، والصدّ عن الإيمان،

_ (1) العهد الفطري أو عهد الله: هو ما ركز في قلوب ومشاعر وعقول الناس قاطبة من ظهور الحجة على توحيد الإله، وهو بمثابة أمر وصاهم الله به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا [الأعراف 7/ 172] . والعهد الديني: هو أخذ الميثاق على أهل الكتاب بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته. صدقوه واتبعوه.

فقه الحياة أو الأحكام:

والتضليل في العقائد، وإثارة الشبهات حول القرآن، إبقاء على نفوذهم ومراكزهم. وهم في النهاية الخاسرون في الدنيا بافتضاحهم وتخبطهم وخزيهم، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وغضب الله عليهم، فلا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم، لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، والنار بالجنة، والنقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب. فقه الحياة أو الأحكام: إن اشتمال القرآن الكريم على ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل ونحوها من المحقرات مما قد لا يليق- في زعم المشركين- بكلام الفصحاء، لا يقدح في فصاحة القرآن، ولا يخلّ بكونه معجزا، لأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة. وهذا وجه متناسبة الآية لما قبلها. وإذا ورد الحياء في حق الله تعالى، فليس المراد منه الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. وكذلك ليس المراد بالغضب في حقّ الله تعالى شهوة الانتقام وغليان دم القلب، بل المراد تلك النهاية، وهو إنزال العقاب. وهذا هو القانون الكلي في هذا الباب «1» . وكلام الله حقّ مطلق، لا نقص فيه في حدّ ذاته، ولا في جانب من جوانبه، وإنما هو حق، لأنه مبين للحق ومقرر له، وسائق إلى الأخذ به، بما له من التأثير في النفس. وضرب الأمثال والأشباه في القرآن الكريم يراد به كشف الغوامض، وتنبيه

_ (1) تفسير الرازي: 2/ 132 وما بعدها.

الأذهان إلى الحقائق، وإبانة المصالح، وتقرير الحكم البالغة، وهو من الأمور المستحسنة في العقول والتربية والتعليم. وأما الذين كفروا فيجادلون في الحق بعد ما تبيّن، ويمارون بالبرهان وقد تعيّن، فيخرجون من الموضوع، ويعرضون عن الحجة. وليس الإيمان أو الكفر أمرا وراثيا، أو قهريا جبريا، وإنما للإرادة والاختيار والعقل دخل فيه، وسببه هو استخدام طاقات الإنسان من حواس ومشاعر وأفكار، وليس للمثل- كما يزعم الكفار- تأثير في تفريق الناس إلى ضلالة وهدى، فالله تعالى لا يضلّ أحدا من المؤمنين المهتدين بهداية العقل والدين، وإنما يضلّ الفاسقين الخارجين عن الطاعة وصراط الله السوي، الذين سبق في علم الله تعالى أنهم غير هداة، فيكون إسناد الإضلال إلى الله تعالى من قبيل إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل، فضلّ به قوم، واهتدى به قوم، كان ذلك سببا في ضلال الناس وهداهم، فكانت علة ضلالهم: هي الفسوق، أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه، التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه. وصفات الفاسقين الذين أضلوا أنفسهم بأنفسهم كثيرة منها ما ذكرته الآية (27) : نقض عهد الله من بعد توكيده: وهو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله. ونقضهم ذلك: ترك العمل به. ومنها: قطع ما أمر الله به أن يوصل: وهو الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، وهو قول الجمهور. والرحم: جزء من هذا. ومنها: الإفساد في الأرض: أي عبادة غير الله تعالى، والجور في الأفعال،

واتّباع الشهوات، وهذا غاية الفساد. والفسق موجب حتما للخسارة، كما أن الطاعة توصل إلى الربح، وليس المراد بالفاسقين هنا ما هو معروف شرعا وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي، فإنه لا يصح هنا. وفي الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز، ألزم المرء نفسه به، هو أمر واجب شرعا وعقلا، فلا يحلّ له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم بين غيره، لذمّ الله تعالى من نقض عهده، وقد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة 5/ 1] ، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال 8/ 58] ، فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد. والمؤمنون المهتدون على قلتهم أجل فائدة وأكثر نفعا وأعظم آثارا من أولئك الكفار الفاسقين الضالين، على كثرتهم. فإذا أشعرت الآية بأن المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر، فليس الظاهر مرادا: لأن العبرة بالكيف لا بالكم، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] . وقدم الله تعالى الإضلال على الهداية في قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً لأن سببه ومنشأه من الكفر متقدم في الوجود، فكان ذلك مناسبا لحال الكفرة، ليكون أول ما يقرع سمعهم من الجواب أمرا يفتّ في أعضادهم، ويهزّ جنابهم، وعبّر عن ذلك بصيغة المضارع المفيدة للاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار.

مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وإماتته وخلق الأرض والسماء [سورة البقرة (2) الآيات 28 إلى 29] :

مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وإماتته وخلق الأرض والسماء [سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) الإعراب: كَيْفَ اسم استفهام، منصوب هنا على الحال بتكفرون. جَمِيعاً نصب على الحال من الموصول الثاني: ما. سَبْعَ سَماواتٍ إما منصوب على البدل من الهاء والنون في فَسَوَّاهُنَّ أو منصوب على أنه مفعول «سوّى» على تقدير: فسوّى منهن سبع سماوات، فحذف حرف الجر، فصار فَسَوَّاهُنَّ مثل قوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف 7/ 155] أي من قومه، ثم حذف حرف الجر، فاتصل الفعل: فَسَوَّاهُنَّ بما بعده، فنصبه، وأعاد الضمير بلفظ الجمع على السماء. وقال الزمخشري: الوجه العربي أن ضمير فَسَوَّاهُنَّ مبهم. وكلمة ثُمَّ اسْتَوى لا للتراخي في الوقت هنا، وإنما لبيان ما بين الخلقين من التفاوت، وفضل خلق السموات على خلق الأرض. وإنما كان العطف الأول بالفاء، والبواقي بثم، لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة، وعن الحياة الثانية. البلاغة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ التفات من كلام الغيبة إلى الحضور للتوبيخ والتقريع. عَلِيمٌ من صيغ المبالغة التي وصف تعالى نفسه بها، مثل: عالم وعلام، ومعناه: الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء. ولا يجوز وصف الله تعالى بعلّامة، التي أدخل العرب عليها الهاء للمبالغة. فَسَوَّاهُنَّ أتمّ خلقهن مستويات، لا تشقق فيهن ولا عوج، فمعنى تسويتهن: تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن. ثُمَّ اسْتَوى الاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء. بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بأحوالهن إجمالا وتفصيلا، بعد أن خلق

المفردات اللغوية:

السموات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت، وخلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم. المفردات اللغوية: كَيْفَ تَكْفُرُونَ يا أهل مكة، مثله في قولك: «أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان؟» والاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو للتوبيخ. كُنْتُمْ أَمْواتاً نطفا في الأصلاب. فَأَحْياكُمْ في الأرحام والدنيا، بنفخ الروح فيكم. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم. ودخلت الواو على جملة كُنْتُمْ أَمْواتاً إلى آخر الآية، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله، وقصتكم هذه، وحالكم أنكم كنتم أمواتا، نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم. ما فِي الْأَرْضِ الأرض وما فيها. جَمِيعاً لتنتفعوا به وتعتبروا. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ بعد خلق الأرض: قصد وعمد إليها بإرادته تعالى، قصدا مستويا خاصا بها. المناسبة: بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن، وجّه الخطاب إلى الكفار في هاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان: وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، ثم الإماتة والإحياء، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته؟! لتفسير والبيان: عجيب حالكم أيها الكفار، كيف تنكرون وجود الله وقدرته مع أن الله

سبحانه أوجدكم في هذه الحياة بعد الموت، وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ووهبكم أفضل مقومات الحياة من العقل والحواس والمشاعر، وأمدكم بالأرزاق التي تكفل بقاء الحياة، ثم أماتكم عند انقضاء الأجل، ثم يحييكم بالبعث من القبور، ثم ترجعون إلى الله وحده للحساب والجزاء، ليجزي كل امرئ بما قدّم، ولتحاسب كل نفس على النعمة التي أنعم الله بها عليكم. فهاتان موتتان وحياتان، لا تدع لكم عذرا في البقاء على الكفر، والاستهزاء بأمثال القرآن، وإنكار نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم. قال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا، فأحياكم- أي خلقكم- ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. ويؤيده آية أخرى: قالُوا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر 40/ 11] . قال ابن عطية: وهذا القول: هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها «1» . ثم بعد ذكر المبدأ والمنتهى، ذكر الله تعالى برهانا على البعث، وعلى توجيه النفوس نحو الإيمان، فأبان أنه خلق لكم الأرض وما فيها، لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق، فيكون الانتفاع إما ماديا بالاستفادة من الموجودات العينيّة في حال المعيشة، وإما معنويا بالنظر والاعتبار فيما لا سلطة لأيديكم عليه، ويتم في الحالتين غذاء الأجساد والأرواح. ومكّن الله تعالى للإنسان الحياة في الأرض بإظلاله بالسقف المحفوظ وهو السموات السبع، التي رفعها بقدرته، وسوّاها محكمة البناء، وأوجدها بحكمته،

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 249.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأودع فيها بدائع الكواكب والنجوم لإنارة الأرض في الليل، وعلم سبحانه وحده حقيقتها وروائع ما فيها، والله عالم بكل ما خلق في الأرض وفي السماء، وذلك كله دليل القدرة الباهرة الدالة على وجود الإله الخالق، وهو وحده، القادرة على إعادة الخلق والحياة. فهل بعد هذا يسوّغ الكفر أو الإلحاد وإنكار وجود الله؟! فقه الحياة أو الأحكام: وصف الكفر ينطبق على كل من لم يصدّق بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، وإن آمنوا بكتاب سماوي سابق، لأنهم لم يقرّوا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم أن القرآن كلام البشر، فقد أشرك بالله، وصار ناقضا للعهد. وقالت المعتزلة: آية كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ تدلّ على أن الكفر من قبل العباد «1» . والأدلة على قدرة الله ووجوده كثيرة منها ما ذكرته هذه الآية: وهو خلق الأرض وما فيها، والسماوات وما أبدع فيها، وخلق الإنسان من العدم، ثم إماتته، ثم إحياؤه، ثم حسابه على ما قدم في مسيرة الحياة البشرية، كما قال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء 21/ 104] ، فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع، فيكافأ المؤمنون بالجنان، لإيمانهم وعملهم الصالح، ويعذب الكفار لكفرهم. والترتيب في قوله تعالى ثُمَّ التي تقتضي التراخي، ليس مرادا، وإنما المقصود من كلمة ثُمَّ ترتيب الإخبار وتعديد النعم، فهي لا تعارض آية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] ، لأن كلمة بَعْدِ فيها بعدية في الذكر وترتيب الإخبار، لا في الزمان ولا لترتيب الأمر في نفسه، مثاله: قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم رفعت قدرك، ثم دفعت الخصوم عنك؟ وربما يكون بعض ما أخره متقدما حدوثه.

_ (1) تفسير الرازي: 2/ 149

وقد يجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك، فلا تعارض، كما ذكر ابن جزي. لكن قال ابن كثير: هذه الآية (أي 29 من البقرة) دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة [فصلت 41/ 9- 10] : قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... الآية، فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء، إلا ما نقله ابن جرير الطبري عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «1» [النازعات 79/ 30] . ونبهت آية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ على القدرة الإلهية المهيئة للأرض من أجل نفع الإنسان وتحقيق مصلحته ورعاية حاجة الخلق، وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بما في الأرض وتصريف المخلوقات «2» ، كما قال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت 41/ 9- 10] ، فالمراد بالآية الاعتبار والاتعاظ بدليل ما قبلها وما بعدها من الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتهن. ولكن وإن كان الهدف الأصلي من إيراد الآية هو ما ذكر، فقد استدل بها علماء الأصول أيضا على أن «الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي دليل الحظر» «3» ، أي أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق الله في الأرض، حتى يأتي

_ (1) انظر تفسير الطبري: 1/ 152 وما بعدها، تفسير القرطبي: 1/ 255 وما بعدها، تفسير ابن كثير: 1/ 68 (2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 14، تفسير الرازي: 2/ 154 (3) تفسير القرطبي: 1/ 251

دليل المنع، فليس لمخلوق حقّ في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه، كما قال: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ، أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس 10/ 59] . وعلم الله واسع شامل لكل ما خلق، وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، ولا يكون هذا النظام المحكم في السموات والأرض إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا مؤيدا بكتاب لهداية الناس، يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، عظم أو صغر. وآية ثُمَّ اسْتَوى وآية الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه 20/ 5] من مشكلات التفسير، وللعلماء ثلاثة آراء فيها «1» : الرأي الأول لكثير من الأئمة: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، روي عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء. الرأي الثاني للمشبهة: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهو أن الاستواء: الارتفاع والعلو على الشيء، أو الانتصاب. وهذا باطل، لأن ذلك من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك. الرأي الثالث لبعض العلماء: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. فقيل: المعنى استوى، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 149 وما بعدها، تفسير القرطبي: 1/ 254 وما بعدها.

استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات [سورة البقرة (2) الآيات 30 إلى 33] :

وقيل: استوى بمعنى ارتفع، والمراد- والله أعلم- ارتفاع أمره. وقيل: استوى بمعنى عمد أو قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، واختاره الطبري: على دون تكييف ولا تحديد. ودل القرآن في هذه الآية وغيرها على وجود سبع سموات وسبع أرضين، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 12] يعني أن السموات بعضها فوق بعض وأن الأرضين بعضها تحت بعض. ولكن لم يرد خبر في السنة يوضح حقيقة السموات والأرضين، فلا فائدة في بحث طبيعة السماء، وما علينا إلا أن نؤمن بظاهر القرآن في هذا التعداد، ونستدل به على عظمة الخالق الذي رفع السماء، وبسط الأرض. وقد أورد الرازي في تفسيره نظريات الفلكيين أو أهل الهيئة التي يفهم منها أن السبع السموات هي الكواكب السيارة «1» ، غير أن العلم الحديث اكتشف وجود كواكب سيارة أخرى مثل نبتون وبلوتو وأورانوس، غير المعروفة قديما وهي القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشتري، وزحل. استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

_ (1) تفسير الرازي: 2/ 156

الإعراب:

الإعراب: وَإِذْ ظرف زمان ماض، منصوب بإضمار فعل مقدر تقديره: اذكر، ويجوز أن ينتصب بقالوا. وهو مبني لتضمنه معنى الحرف، لأن كل ظرف لا بد فيه من تقدير حرف، وهو «في» أو لأنه يشبه الحرف في أنه لا يفيد مع كلمة واحدة، وهو مبني على السكون، لأنه الأصل في البناء. وإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. جاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر، وهما قوله: فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فكانا مفعوليه. أَتَجْعَلُ تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. وَنَحْنُ للحال، بِحَمْدِكَ الباء هنا تسمى باء الحال، والمعنى: نسبحك حامدين لك، ومتلبسين بحمدك، لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف، لم نتمكن من عبادتك. عَرَضَهُمْ ولم يقل: عرضها، لأنه أراد مسميّات الأسماء، وفيهم من يعقل، وفيهم من لا يعقل، فغلّب جانب العقلاء. سُبْحانَكَ الصحيح أن سبحانا وكفرانا: اسمان أقيما مقام المصدر، وليسا بمصدرين. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أنت: إما مبتدأ، والعليم خبره، والحكيم صفة له، أو خبر بعد خبر، والجملة خبر إن، وإما ضمير فصل لا موضع لها من الإعراب، والعليم خبر إن، والحكيم صفة له، أو خبر بعد خبر. البلاغة: رَبُّكَ إضافته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتشريف والتكريم لمقامه لِلْمَلائِكَةِ تقديم الجار والمجرور على المقول للاهتمام بما قدّم. أَنْبِئُونِي أريد به التعجيز والتبكيت. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ فيه مجاز بالحذف، والتقدير: فأنبأهم بها، فلما أنبأهم. ثُمَّ عَرَضَهُمْ من باب التغليب للعقلاء على غير العقلاء.

المفردات اللغوية:

وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تكرار الفعل مع ما قبله: إِنِّي أَعْلَمُ للتنبيه على إحاطة علم الله تعالى بجميع الأشياء، وهذا يسمى بالإطناب. تُبْدُونَ وتَكْتُمُونَ يسمى في علم البديع بالطباق. المفردات اللغوية: وَإِذْ: اذكر يا محمد. رَبُّكَ الرب: المالك والسيد والمصلح والجابر. لِلْمَلائِكَةِ: أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وهو جمع ملك، وأصله: ملاك وزنه مفعل. خَلِيفَةً: الخليفة: من يخلف غيره ويقوم مقامه في تنفيذ الأحكام، والمراد بالخليفة هنا آدم عليه السلام. يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ يريقها بالقتل عدوانا، كما فعل بنو الجان، وكانوا فيها، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة، فطردوهم إلى الجبال والجزر. نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ننزهك عن كل نقص، متلبسين بحمدك، أي تقول: سبحان الله وبحمده وَنُقَدِّسُ لَكَ نمجدك ونعظمك وننزهك عما لا يليق بعظمتك، فاللام زائدة، والجملة حال، أي فنحن أحق بالاستخلاف أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من المصلحة في استخلاف آدم. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ واحدها اسم، وهو في اللغة: ما به يعلم الشيء، والمراد به: أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه، لكونه معلوما مدلولا عليه، بذكر الأسماء، لأن الاسم لا بد له من مسمى. ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي عرض المسميات، وفيه تغليب العقلاء. أَنْبِئُونِي أخبروني، وقد يستعمل الإنباء في الإخبار بما فيه فائدة عظيمة، وهو المراد هنا. سُبْحانَكَ تقديسا وتنزيها لك عن الاعتراض عليك. الْعَلِيمُ الذي لا تخفى عليه خافية، الْحَكِيمُ المحكم لمبتدعاته، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة. المناسبة: هذه القصة أو المحاورة بين الله تعالى وملائكته نوع من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة، تقريبا للأفهام، وفيها بيان مدى تكريم الله للإنسان باختيار آدم خليفة عن الله في الأرض، وتعليمه اللغات التي لا تعلمها الملائكة، مما يوجب على الناس الإيمان بهذا الخالق الكريم، ولا يليق بأحد الكفر والعناد، وهو استمرار في توبيخ الكفار، وتذكيرهم بنعم الله عليهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: اذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم، حين قال الله للملائكة: إني متخذ في الأرض خليفة، يقوم بعمارتها وسكناها، وينفذ أحكامي فيها بين الناس، وتتعاقب الأجيال من بعده في مهامه كلها حتى يعمر الكون، فتساءل الملائكة متعجبين ومستعلمين: كيف تستخلف هذا الخليفة؟ وفي ذريته من يفسد في الأرض بالمعاصي ويريق الدماء بالبغي والعدوان، لأن أفعالهم عن إرادة واختيار، وقد خلقوا من طين، والمادة جزء منهم، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب. فكيف تجعل- على سبيل التعجب والتعلم، لا الاعتراض والحسد- مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وأنت الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير، ولا يريد إلا الخير؟ فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه، وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من الله، أو من جهة اللوح المحفوظ، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم، أو قاسوا أحد الثقلين وهم الإنس على الآخر وهم الجن، حيث أسكنوا الأرض، فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة «1» . أو أنهم عرفوا طبيعة المادة وفيها الخير والشر، وهو ما رجحناه أولا، ويقال: كان هناك نوع من الخلق في الأرض قبل آدم، أفسد وسفك الدماء، وسيحل هذا الخليفة محله، بدليل قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [يونس 10/ 14] فقاس الملائكة هذا الخليفة عليه.

_ (1) الكشاف: 1/ 209، تفسير الطبري: 1/ 157

ونحن الملائكة أولى بالاستخلاف، لأن أعمالنا مقصورة على تسبيحك وتقديسك وطاعتك، فأجابهم الله تعالى: إني أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفي عنكم، وأعلم كيف تصلح الأرض، وكيف تعمر، ومن هو أصلح لعمارتها، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها. ولعل التنافس على المصالح بين الناس وتنازع البقاء، وحب الذات من أقوى الدواعي على تقدم الكون وتحضر العالم، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر، وبها تظهر حكمة إرسال الرسل، واختبار البشر، وجهاد النفس. وفي هذا إرشاد الملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى في غاية الحكمة والكمال. ثم عقد الرب سبحانه امتحانا للملائكة، لإظهار عجزهم، وإبطال زعمهم أنهم أحق بالخلافة من خليفته، بعد أن علّم آدم أسماء الأشياء والأجناس المادية من نبات وجماد وإنسان وحيوان، مما تعمر به الدنيا، ثم عرض مجموعة المسميات على الملائكة، أو عرض نماذج منها، أي عرض الأشخاص، لقوله تعالى: عَرَضَهُمْ لأن العرض لا يصح في الأسماء، وقال لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين في ادعائكم أنكم أحق بالخلافة من غيركم، فعجزوا، وقالوا: يا رب سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم بكل شيء، الحكيم في كل صنع. وفي هذا إشارة لتفضيل آدم على الملائكة واصطفائه، بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، فلا يكون لهم فخر عليه. ثم قال المولى جل جلاله: أخبرهم يا آدم بأسماء الأشياء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بقصورهم عن معرفتها، فلما أخبرهم بكل أسماء تلك الأشياء، أدركوا السر في خلافة آدم وذريته، وأنهم لا يصلحون للاشتغال بالماديات، والدنيا لا تقوم إلا بها، إذ هم خلقوا من النور، وآدم خلق من الطين، والمادة جزء منه.

فقه الحياة أو الأحكام:

وحينئذ قال تعالى للملائكة: ألم أقل لكم: إني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم، وما حضر أيضا، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا، وأعلم ما ظهر وما بطن، وما تظهرون وما تكتمون من نحو قولكم فيما روي عن ابن عباس: «لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحق بالخلافة في الأرض» «1» . هذا وجه من التأويل، وقال الطبري: وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس: وهو أن معنى قوله: وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ. وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض، ما تظهرون بألسنتكم، وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى علي شيء، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم: ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟. والذي كانوا يكتمونه: ما كان منطويا عليه إبليس من مخالفة أمر الله، والتكبر عن طاعته «2» . فقه الحياة أو الأحكام: أولا - دلت هذه الآيات على تكريم الإنسان الذي جعله الله خليفة في هذه الأرض في تنفيذ أوامره بين الناس، ويؤيده قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (ص 38/ 26) والحكمة من جعل آدم خليفة هي الرحمة بالناس، إذ لا طاقة للعباد على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة، فكان من رحمته تعالى إرسال الرسل من البشر. ومع هذا اختلف المفسرون في تأويل كلمة خَلِيفَةً وتحديد المستخلف عنه «3» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 71، تفسير الطبري: 1/ 177 (2) تفسير الطبري: 1/ 176 (3) تفسير الطبري: 1/ 156 وما بعدها، تفسير ابن كثير: 1/ 69، الكشاف: 1/ 209، القرطبي: 1/ 263، تفسير الرازي: 2/ 165 وما بعدها. [.....]

فقال ابن عباس: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم، فأسكنه إياها، فلذلك قال: إني جاعل في الأرض خليفة. فعلى هذا القول: إني جاعل في الأرض خليفة عن الجن، يخلفونهم فيها، فيسكنونها ويعمرونها، وليس آدم أول أصناف العقلاء في الأرض. وقال الحسن البصري: في تأويل قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي خلفا يخلف بعضهم بعضا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله، جيلا بعد جيل، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام 6/ 165] وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل 21/ 62] وقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف 43/ 60] وقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف 7/ 169] . ومن هو الخليفة؟ قيل: أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه، كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك: مضر وهاشم. وقال زيد بن علي: ليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط، كما يقوله طائفة من المفسرين. قال ابن كثير: والظاهر أنه لم يرد آدم عينا، إذ لو كان ذلك، لما حسن قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فإنهم أرادوا: أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية المخلوقة من صلصال من حمأ مسنون، أو فهموا من الخليفة: أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، أو أنهم قاسوهم على من سبق. والخلاصة: هناك قولان في المراد بالخليفة:

أحدهما- أنه آدم عليه السلام، وقوله: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها المراد ذريته لا هو. والثاني- أنه ولد آدم. ثم إن هذه الآية أصل في نصب إمام حاكم، وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ذلك، إلا ما روي عن أبي بكر الأصم من المعتزلة أنه قال: الإمامة غير واجبة في الدين، بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك. وأدلة الجمهور: قول الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص 38/ 26] وقوله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] أي يجعل منهم خلفاء. وأجمعت الصحابة على تقديم أبي بكر الصديق، بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في تعيين الخليفة «1» . وطرق تعيين الإمام ثلاث «2» : 1- النص على الخليفة: كما نص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أبي بكر بالإشارة، وأبو بكر على عمر.

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 264 (2) المرجع السابق: 1/ 268

ثانيا:

2- الانتخاب بواسطة جماعة: كما فعل عمر، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه. 3- إجماع أهل الحل والعقد. ثانيا - الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب «1» . وفي إخبار الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه في الأرض تعليم لعباده المشاورة في أمورهم. وقول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ليس على وجه الاعتراض أو الحسد لبني آدم، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف الحكمة في ذلك. ثالثا - استدل الأشعري والجبائي والكعبي بآية وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها على أن اللغات كلها توقيفية، بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني «2» . رابعا - آية تعليم آدم الأجناس التي خلقها الله، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها، إما في آن واحد أو آنات متعددة، هذه الآية دالة على فضل العلم، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام، إلا بأن أظهر علمه، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم، لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء، لا بالعلم «3» . وكانت الحكمة في التعليم والعرض على الملائكة تشريف آدم واصطفاءه، كيلا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم

_ (1) تفسير الرازي: 2/ 166 (2) تفسير الرازي: 1/ 175 (3) المصدر السابق: 1/ 178

خامسا:

المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده «1» . خامسا - أرشدت آية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إلى أن الدعاوي لا يؤبه بها إلا بإثباتها بالدليل، وأن المدّعي لشيء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى. سادسا - في قوله: «هؤلاء» إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها الحس، كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه. سابعا - دل قول الملائكة: قالُوا: سُبْحانَكَ الآية، على قصور علم المخلوقات أمام علم الخالق، وأن فعل الخالق لا يخلو من الحكمة والفائدة، وأن علم الملائكة محدود لا يتناول جميع الأشياء. والواجب على من سئل عن علم لم يعرفه أن يقول: الله أعلم لا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء وفضلاء العلماء. ثامنا - في آيات إخبار آدم بأسماء المسميات دلالة واضحة على شرف الإنسان وتفضيله على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم، ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم، وعلى أفضلية آدم على الملائكة. تاسعا - إن استخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء من الأرض لا يحقق حكمة استخلاف البشر في التعرف على أسرار الكون، وعمارة الأرض، واستخراج ما فيها من خيرات وزروع ومعادن، ولا يؤدي إلى تقدم العلوم والفنون التي شهدنا تفوقها في القرن العشرين.

_ (1) تفسير المراغي: 1/ 83

التكريم الإلهي السامي لآدم بسجود الملائكة له [سورة البقرة (2) آية 34] :

التكريم الإلهي السامي لآدم بسجود الملائكة له [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) الإعراب: «آدم» ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل عند الجمهور، لأنه كان جنيا واحدا بين ألوف الملائكة مغمورا بهم، فغلبوا عليه في قوله: فَسَجَدُوا ثم استثني منهم استثناء واحد. ويجوز أن يجعل استثناء منقطعا لأنه لم يكن من الملائكة. البلاغة: وَإِذْ قُلْنا للتعظيم بصيغة الجمع، وهي معطوفة على قوله: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم لإظهار المهابة والجلالة. فَسَجَدُوا فيه إيجاز بالحذف أي فسجدوا له. ومثله أَبى مفعوله محذوف أي أبى السجود. المفردات اللغوية: اسْجُدُوا السجود في اللغة: الخضوع والانحناء لمن يسجد له، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض. والسجود لله تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكريم والتحية، كما سجدت الملائكة لآدم، وأبو يوسف وإخوته له، فكان تحية للملوك قديما، ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه. إِبْلِيسَ الشيطان أبو الجن، كان بين الملائكة. قال تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف 18/ 50] . أَبى امتنع من السجود. وَاسْتَكْبَرَ تكبر عنه، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف 7/ 12] . وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فلذلك أبى واستكبر. المناسبة: هذا نوع آخر من تكريم الله لأبينا آدم أبي البشر، حيث أمر الملائكة

التفسير والبيان:

بالسجود له، كما أنه خصه بالخلافة في الأرض، وعلمه أسماء الأشياء والأجناس واللغات، مما يدل على تكريم النوع الإنساني بتكريم الأصل أو الأب. التفسير والبيان: واذكر أيضا يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة الأطهار: اسجدوا لآدم سجود خضوع وتحية وتعظيم، لا سجود عبادة وتأليه، كما يفعل الكفار مع أصنامهم، فسجد الملائكة جميعا له غير إبليس، فإنه امتنع من السجود واستكبر عنه، قائلا: أأسجد له، وأنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، فصار بإبائه واستكباره وتعاليه وغروره من الكافرين، فاستحق اللعنة إلى يوم الدين، لعصيانه أمر ربه، ورفضه السجود لآدم. فقه الحياة أو الأحكام: تتجلى العبرة من هذه القصة بأن آدم وذريته لا يليق بهم عصيان أوامر الله، وإنما يجب عليهم عبادته وحده، دون تلكؤ ولا تقصير، لأنّ الله سبحانه كرم ابن آدم في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء 17/ 70] وجعل آدم خليفة في الأرض، وعلمه ما لم يكن يعلم: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وقال الطبري: إن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم «1» . والملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بالناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه، دون بحث عن الكيفية والحال والمآل. والسجود نوعان: سجود عبادة وتأليه وهو لله وحده، وله مظهران: إما وضع الجبهة على الأرض وهو المعتاد في الصلاة، وإما الانقياد والخضوع لمقتضى

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 180 وما بعدها.

إرادته، كما قال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن 55/ 6] وقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد 13/ 15] . وهذا بمظهريه لا يكون لغير الله إطلاقا. والنوع الثاني: سجود تحية وتكريم من غير تأليه، كسجود الملائكة لآدم، وسجود يعقوب وأولاده ليوسف. وهذا في رأي أكثر العلماء كان مباحا إلى عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: «لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين» ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السجود للبشر، وأمر بالمصافحة، في حديث رواه ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحة عن أبي واقد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه «1» . والخلاصة: اتفقت الأمة على أن السجود لآدم لم يكن سجود عبادة ولا تعظيم، وإنما كان على أحد وجهين: إما الانحناء والتحية وإما اتخاذه قبلة كالاتجاه للكعبة وبيت المقدس وهو الأقوى في رأي ابن العربي، لقوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «2» . وأما حقيقة إبليس: فللعلماء فيها رأيان: الأول: أنه من الجن، والجن سبط من الملائكة، خلقوا من نار، وإبليس منهم. ودليله واضح من قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف 18/ 50] . والثاني- أنه كان من الملائكة: لأن خطاب السجود كان للملائكة، ولأن

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 293 (2) أحكام القرآن: 1/ 16

الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم، قال ابن عباس: كان إبليس من الملائكة، فلما عصى الله، غضب عليه، فلعنه، فصار شيطانا «1» . قال البغوي: وهو الأصح، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة. وقوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة. وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة «2» . والراجح لدي هو القول الأول لصريح آية كانَ مِنَ الْجِنِّ ولأن إبليس قد عصى أمر ربه، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم. ويستدل من قصة الإباء عن السجود أن الامتناع عن تنفيذ أوامر الله والاستكبار والغرور مسبب للكفر، لأنه لما كره إبليس السجود في حقه، واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته، فصار من الكافرين. واختلف، هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر، وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا: هل كفر إبليس جهلا أو عنادا؟ على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال: إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال: كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه «3» . واستنبط علماء المالكية من هذه القصة ومن علم الله بكفر إبليس سابقا: أن من أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات، ليس

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 294 (2) معالم التنزيل بهامش تفسير البغوي: 1/ 41 (3) تفسير القرطبي: 1/ 298

آدم وحواء في الجنة وموقف الشيطان منهما [سورة البقرة (2) الآيات 35 إلى 39] :

ذلك دالا على ولايته، لأن العلم بأن الواحد منا وليّ لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا، لم يمكنّا أن نقطع أنه ولي الله تعالى، لأن الولي لله تعالى: من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان «1» . آدم وحواء في الجنة وموقف الشيطان منهما [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 39] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) الإعراب: أَنْتَ تأكيد للضمير المستتر ليعطف عليه. رَغَداً منصوب لأنه صفة مصدر محذوف، تقديره أكلا رغدا، أو منصوب على الحال. فَتَكُونا حذفت النون إما للنصب بتقدير «أن» لأنه جواب النهي، أو يكون حذفها للجزم بالعطف على وَلا تَقْرَبا. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ آدم: فاعل، وكلمات: مفعول به. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في اهْبِطُوا

_ (1) المصدر السابق: 1/ 297

البلاغة:

على تقدير حذف الواو، أي قلنا: اهبطوا وبعضكم لبعض عدو. ويجوز أن تكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. فَإِمَّا.. أصلها «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» للتأكيد، وتسمى المسلّطة، لأنها سلطت نون التوكيد على الفعل بعدها. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ من: شرطية مبنية لأنها تضمنت معنى الشرط، في محل رفع مبتدأ، وتَبِعَ خبره، وهو في موضع جزم «بمن» الشرطية. وهُدايَ مفعول به. وكرر قوله: قُلْنَا اهْبِطُوا للتأكيد، ولما نيط به من زيادة قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. والأمر بالهبوط من الجنة إلى الأرض موجه لآدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم. هُمْ فِيها خالِدُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من «أصحاب أو النار» لعود الضميرين إليهما. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يكون حالا من النار، لأن الحال لا تقع حالا من المضاف إليه، وأجازه الآخرون، لأن لام الملك مقدرة مع المضاف إليه. البلاغة: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي الأكل من ثمارها، فيه تعليق النهي بالقرب منها لقصد المبالغة في النهي عن الأكل. مِمَّا كانا فِيهِ إبهام يفيد كثرة الخيرات التي لا توصف في الجنة. التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة، أي قابل التوبة بكثرة، واسع الرحمة. المفردات اللغوية: رَغَداً أكلا واسعا طيبا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر عليه. هذِهِ الشَّجَرَةَ أي بالأكل منها، وهي الحنطة أو الكروم أو غيرهما فَتَكُونا فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ العاصين. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أوقعهما في المخالفة من الزلة وهي السقوط اهْبِطُوا انزلوا مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار. وَمَتاعٌ ما يتمتع به من أنواع الطعام والشراب واللباس ونحوها. فَتَلَقَّى أخذ وقبل وألهم فَتابَ التوبة: الرجوع، فإذا عدّيت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإذا عديت بعلى، كان معناها قبول التوبة. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ آمن بي وعمل بطاعتي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.

المناسبة:

بِآياتِنا كتبنا. أَصْحابُ النَّارِ أهلها. خالِدُونَ ملازمون لها، ماكثون فيها أبدا، لا يفنون ولا يخرجون منها. المناسبة: تستمر الآيات في بيان أنواع التكريم الإلهي للإنسان، وهذا التكريم هنا هو المقام في الجنة في بدء الخليقة، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية إقامته في الأرض، وتكليفه القيام برسالة مهمة هي تعمير الكون، وإظهار مزية الإنسان في مجاهدة الشيطان وأهوائه. وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، وأنهم إذا كلفوا بشيء بالرغم من تكريمهم غاية الإكرام قد لا يمتثلون. التفسير والبيان: واذكر يا محمد لقومك أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها حيث شاءا، والأكل منهما أكلا هنيئا لا عناء فيه، أو واسعا لا حد له، ونهاهما عن الأكل من شجرة معينة، فالأكل منها ظلم لأنفسهما، ولكن الشيطان عدوهما أزلهما عنها، فأخرجهما من ذلك النعيم، بعد أن أغواهما بالأكل من الشجرة. أو أبعدهما وحوّلهما من الجنة، قائلا: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 7/ 20- 21] فتغلبت عليهما وساوس الشيطان، وخرجا من الجنة إلى الأرض، وشقاء الدنيا، وقد نشأت العداوة بين البشر والشيطان، فإبليس عدو لآدم وزوجه حواء ولذريتهما، والبشر أعداء له، فاحذروا إغواءه: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر 35/ 6] فألهم الله آدم كلمات، فعمل بها هو وزوجته وتابا توبة

فقه الحياة أو الأحكام:

خالصة، والكلمات هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف 7/ 23] وتقبل الله التوبة، لأنه كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة بالعباد، وأصبح الناس في الأرض صنفين: صنف المؤمنين بالله العاملين بطاعته، فهؤلاء آمنون في جنان الله في الآخرة، وصنف الكافرين المكذبين بما أنزل الله في كتبه، والجاحدين لرسالات الأنبياء، فهؤلاء مخلدون في نار جهنم. فقه الحياة أو الأحكام: تثير هذه الآيات مشكلات عديدة هي ما يأتي: أولا- زوجة آدم في قوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: أثار المفسرون كيفية خلق حواء، فقالوا: إنها خلقت من ضلع آدم، أخذا بظاهر قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء 4/ 1] وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف 7/ 189] ، وعملا بحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج» وفي رواية لمسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، لن تستقيم لك على طريقة واحدة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها، وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها» قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج، وهو الضلع «1» . وأجيب عن الآيتين «2» : بأن كثيرا من المفسرين كالرازي قالوا: إن المراد بقوله «منها» أي من جنسها، ليوافق قوله في سورة [الروم 30/ 21] :

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 301 [.....] (2) تفسير المراغي: 1/ 93

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً والمراد أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها. وأما الحديث فجاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، فهو على حدّ قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء 21/ 37] . هذا وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة. ونقل عن السدي: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة. ثانيا- الجنة: وهي في اللغة البستان. اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها آدم، هي في السماء أم في الأرض «1» ؟ قال الأكثرون: إنها التي في السماء، وهي دار الخلد والثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في السورة. وقالت المعتزلة والقدرية: إنها جنة في الأرض غير جنة الخلد، خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، في أرض عدن، أو بفلسطين، أو بين فارس وكرمان. وهو رأي أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي ومذهب السلف. ودليلهم أنها لو كانت جنة الخلد، لما وصل إليها إبليس، فإن الله يقول: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور 52/ 23] ، وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ 78/ 35] ، وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] ، وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر 15/ 48] ، وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها، قد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 302، تفسير ابن كثير: 1/ 78، تفسير الألوسي: 1/ 233، البداية والنهاية لابن كثير: 1/ 75 وما بعدها.

بمعصيتهما. وكيف يطلب آدم، مع مكانه من الله وكمال عقله، شجرة الخلد، وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى. ورجح الألوسي هذا الرأي. ورد القرطبي على هذه الأدلة: بأن الجنة المعرفة بالألف واللام لا يفهم غيرها في تعارف الناس، ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم. وأما أوصاف الجنة المذكورة في الآيات التي احتجوا بها، فهي بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة. ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. والملائكة يدخلونها ويخرجون منها، وقد دخلها النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء ثم خرج منها، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي. وأجمع أهل السنة على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام. وكيف يجوز على آدم، وهو في كمال عقله، أن يطلب شجرة الخلد، وهو في دار الفناء؟! الأمر جائز تطلّعا إلى الأفضل والأكمل، كما نتطلع الآن في الدنيا إلى الخلود في الجنة. ثالثا- الشجرة: اختلف العلماء في تعيين الشجرة التي نهي عنها آدم فأكل منها «1» . فقال جماعة: هي الكرم، ولذا حرمت علينا الخمر، وقال آخرون: هي السّنبلة، وقيل: هي شجرة التين. والصواب كما قال القرطبي: أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة، فخالف هو إليها، وعصى في الأكل منها. واختلفوا أيضا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب، وهو قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة 2/ 35] ، فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها، فلم يتأوّلا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر، أي أنهما ظنّا أن المراد عين شجرة مخصوصة، وكان المراد الجنس. وهو

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 305 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 17 وما بعدها، تفسير الطبري: 1/ 185

قول حسن كما قال القرطبي ورجحه الطبري قبله. ويقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء، بإغواء إبليس إياها. رابعا- عصيان آدم ثم توبته: قال جمهور الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: الأنبياء معصومون من صغائر الذنوب وكبائرها معا، لأنّا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم «1» . وبناء عليه، أجيب عن خطيئة آدم التي كانت من الصغائر لا من الكبائر، بأنها صدرت منه قبل النبوة، والعصمة عن المخالفة إنما تكون بعد النّبوة. أو بأن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمّي عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة، أو أن ذلك- على طريقة السلف- من المتشابه كسائر ما ورد في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره «2» . والراجح لدي أن هذه المخالفة وقعت نسيانا وسهوا، كما قال جلّ وعزّ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 20/ 115] . وتوبة آدم كانت بقوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف 7/ 23] ، وهذا هو المروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ أحبّ الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: «سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» .

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 308، تفسير الرازي: 3/ 7 (2) تفسير الكشاف: 1/ 212، تفسير الرازي: 3/ 7، تفسير المراغي: 1/ 94، تفسير المنار: 1/ 281

واكتفى القرآن بذكر توبة آدم دون توبة حواء، لأنها كانت تبعا له، كما طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسّنة لذلك. وقد ذكرها في آية أخرى: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية السابقة «1» . ولا تكون التوبة مقبولة من الإنسان إلا بأربعة أمور: الندم على ما كان، وترك الذنب الآن، والعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وردّ مظالم العباد وإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار إليه باللسان «2» . خامسا- دخول إبليس الجنة: تساءل العلماء: كيف تمكّن إبليس من وسوسة آدم بعد أن طرده الله من الجنة بقوله: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص 38/ 77] ، فكان خارج الجنة، وآدم في الجنة؟ وأجيب بأجوبة، منها: أنه يجوز أن يمنع إبليس دخول الجنة على جهة التكريم، كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة، ابتلاء لآدم وحواء. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة ولم يصل إلى آدم بعد ما أخرج منها، وإنما بوسواسه الذي أعطاه الله تعالى، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . سادسا- في قوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة 2/ 35] : إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة من الله تعالى، خلافا للقدرية وغيرهم القائلين: إن العبد يخلق أفعال نفسه. ودلّت الآية (38) على أن من جاءه الهدى على لسان رسول واتبعه، فقد فاز بالنجاة في الآخرة، ودلت الآية (39) على أن الذين لم يتبعوا هدى الله- وهم الذين كفروا بآيات الله اعتقادا وكذبوا بها لسانا- جزاؤهم الخلود في نار جهنم بسبب جحودهم بها، وإنكارهم إياها، اتباعا لوسوسة الشيطان. «3»

_ (1) تفسير الكشاف: 1/ 211 (2) تفسير الرازي: 3/ 20، تفسير المراغي: 1/ 92 (3) الكشاف: 1/ 211، القرطبي: 1/ 313، الرازي: 3/ 15

قصة آدم عليه السلام:

سابعا- الملائكة: الملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا نعلم حقيقتهم، واعتقاد وجودهم واجب شرعا، لإخبار القرآن والنّبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك. وهم مجبولون على الطاعة، منزهون عن المعصية، وهل هم أفضل من البشر؟ اختلف العلماء في شأنهم، فرأى بعضهم أنهم أفضل من البشر، لقوله تعالى: قالَ: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف 7/ 20] ، وقوله تعالى عن صواحب يوسف: وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ، ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] . ورأى بعضهم أن النوع الآدمي أفضل من الملائكة، لأن الملائكة مجبولون على الطاعة، والبشر فيهم نزعة الشرّ والخير، والآدمي يجاهد شهواته وميوله. وقال جماعة: إن عموم الملائكة أفضل من عموم البشر، وخواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة. وفي رأيي: أن التوقف عن الخوض في ذلك أولى، وإن كنت أرجح تفضيل الملائكة على البشر. قصة آدم عليه السلام تكرر اسم آدم عليه السلام في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة، فتحدثت عنه سورة البقرة في الآيات (31- 37) ، وآل عمران في الآيتين (33، 59) ، والمائدة في الآية (27) ، والأعراف في الآيات (11- 172) ، والإسراء في الآيتين (61، 70) ، والكهف في الآية (50) ، ومريم في الآية (58) ، وطه في الآيات (115- 121) ، ويس في الآية (60) . وتنوّع التعبير عن القصة، مرة باسمه وصفته، كما في السّور: البقرة والأعراف والإسراء والكهف، ومرة بصفته فقط، كما في سورتي الحجر وص، مما يدل على إعجاز القرآن الكريم.

وفي هذه القصة موضوعات ستة «1» . الأول- خلق آدم من طين: أبان القرآن الكريم أن أصل خلق آدم عليه السلام كان من طين، من حمأ مسنون- متغير- حتى إذا أصبح صلصالا كالفخار، نفخ الله فيه من روحه، فإذا هو إنسان متحرّك، ذو قدرات مادية وعقلية ومعنوية- أخلاقية، وكان آدم وحواء أصل النوع الإنساني كما أخبر القرآن، وقد أثبت العلماء زيف نظرية «دارون» التي تجعل القرد أصلا وأبا للإنسان. الثاني- السجود لآدم: أمر الله تعالى إبليس والملائكة بالسجود لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس كان من الجنّ، ففسق عن أمر ربه، وأبى واستكبر. الثالث- سبب مخالفة إبليس وعقابه: احتجّ إبليس بأنه أفضل من آدم، وقال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار باعتبار ما فيها من الارتفاع والعلو أشرف من الطين الذي هو عنصر ركود وخمود، فطرده الله من الجنة بسبب الكبر ونسبته الظلم إلى الله، لكنه طلب الإنظار إلى يوم الدّين، فأنظره الله، وتوعد آدم بإغواء ذريته، فردّ الله عليه بأن عباد الله المخلصين لا سلطان له عليهم، وتوعده ومن تبعه بالنار. الرابع- استخلاف آدم في الأرض: أخبر الله تعالى ملائكته أنه سيجعل آدم خليفة عنه في الأرض يكون له سلطان في التصرف في موادها، فتساءلوا على سبيل العلم والحكمة، كيف تجعل في الأرض المفسدين وسفاكي الدماء، وهم- أي الملائكة- أهل الطاعة واجتناب المعصية؟ فأجابهم الحقّ سبحانه أنه يعلم في هذا المخلوق من الأسرار ما لا يعلمون، واختصه بعلم ما لا يعلمون.

_ (1) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص 2 وما بعدها، ط رابعة.

العظة من قصة آدم:

الخامس- تعليم آدم أسماء الأشياء المحسوسة: ميّز الله آدم عن الملائكة بتعليمه أسماء جميع الأشياء المادية التي يراها حوله من زروع، وأشجار، وثمار، وأوعية، وحيوان، وجماد، لحاجته إلى الاستفادة منها في طعامه وشرابه، بخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء، ثم طالب الله الملائكة بأسماء المسميات المرئية الحاضرة، بعد أن عرض عليهم المسميات، فلم يعلموها. وحاجة ذرية آدم إلى الأشياء تدفعهم إلى العمل والتفكير، والتنقيب عن تلك الأشياء، وعمارة الكون وتقدم وسائل الحياة في كل المجالات من زراعة وصناعة وتجارة. السادس- سكنى آدم وزوجته الجنة وخروجهما منها: أسكن الله آدم الجنة، وخلق له حواء، وأباح لهما الاستمتاع بثمار الجنة إلا شجرة عينها لهما، فوسوس لهما إبليس بالأكل منها وأغراهما، وقال لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأن الأكل منها يجعلكما من الملائكة، أو تكونا خالدين دون موت ولا فناء، فرفض آدم في مبدأ الأمر، وقاوم إغراءات الشيطان، ولكن إبليس استمر في إلقاء وساوسه: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 7/ 21] ، حتى نسي آدم أنه عدوه الذي أبى السجود له، فأكل آدم وحواء من الشجرة: فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه 20/ 121] ليسترا عوراتهما، فعاتب الله آدم على مخالفة أمره والأكل من الشجرة، فندم واستغفر الله وتاب، فقبل توبته، ولكنه أمره وحواء بالخروج من الجنة، والاستقرار في الأرض. العظة من قصة آدم: 1- تفرد الله تعالى بأسرار وعلوم وحكم، ولم يطلع عليها أحدا من الخلق، حتى الملائكة، فإنهم جهلوا الحكمة من استخلاف آدم، وتساءلوا عن السبب في هذا الاختيار.

ما طلب من بني إسرائيل [سورة البقرة (2) الآيات 40 إلى 43] :

2- إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلا عظيما، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشرا سويا، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه. 3- الإنسان وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع إبليس عدوه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها. 4- إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته. 5- الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد، وأوعده بنار جهنم. ما طلب من بني إسرائيل [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

الإعراب:

الإعراب إِيَّايَ ضمير منصوب بفعل مقدر، وتقديره: إياي ارهبوا فارهبون، وإنما وجب تقدير «ارهبوا» لأن فعل فَارْهَبُونِ مشغول بالضمير المحذوف وهو الياء. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً «ما» بمعنى الذي، والعائد هو الضمير المحذوف تخفيفا في فعل أَنْزَلْتُ. مُصَدِّقاً حال من الهاء المحذوفة، وتقديره: أنزلته. أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أول: خبر تكونوا، كافر: صفة موصوف محذوف، تقديره: أول فريق كافر، ولهذا جاء بلفظ الواحد، والخطاب لجماعة. تَكْتُمُوا إما منصوب بتقدير «أن» أو مجزوم بالعطف على تَلْبِسُوا وعلامة النصب والجزم في الوجهين حذف النون. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في تَكْتُمُوا. البلاغة: نِعْمَتِيَ الإضافة للتشريف وبيان عظم قدر النعمة وسعة يسرها وحسن موقعها. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ليس الشراء هنا حقيقيا، بل هو على سبيل الاستعارة التصريحية، كما في الآية السابقة اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى والمراد استبدلوا بآياتي ثمنا، والمراد بالثمن في الأصل هو المشترى به، أي استبدلوا بآيات الله وبالحق الكثير بدلا قليلا ومتاعا يسيرا، فكانت مبادلة خاسرة، لأن كل كثير أو كبير بالنسبة للحق المتروك قليل وحقير. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وإِيَّايَ فَاتَّقُونِ يفيد الاختصاص، وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياي نعبد. تكرار الحق في قوله: تَلْبِسُوا الْحَقَّ وقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ لزيادة تقبيح المنهي عنه، لأن التصريح للتأكيد. إطلاق الركوع على الصلاة في قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ مجاز مرسل، من أنواع تسمية الكل باسم الجزء. المفردات اللغوية: إِسْرائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وبنوه: أولاده، وهم اليهود. ومعنى إِسْرائِيلَ صفي الله، وقيل: الأمير المجاهد. بِعَهْدِي عهد الله: ما عاهدهم

المناسبة:

عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وبخاصة محمد خاتم الأنبياء من ولد إسماعيل بِعَهْدِكُمْ ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان، والتمكين من بيت المقدس، وسعة العيش في الدنيا. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا قد يطلق كل من البيع والشراء على الآخر، والمعنى: لا تبيعوا آياتي بثمن قليل وعوض يسير من الدنيا، أو لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من الناس. فَارْهَبُونِ فخافون في نقضكم العهد وترك الوفاء به دون غيري. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ من القرآن. مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة بموافقته في التوحيد والنبوة. وَلا تَلْبِسُوا لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه. المناسبة: اختصت هذه الآيات من (40- 142) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءا كاملا، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين. ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم، وذكرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة، وأحيانا بالتذكير بالنعم، وطورا بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم. التفسير والبيان: يا أولاد النبي الصالح يعقوب، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق، وتفكروا

فقه الحياة أو الأحكام:

بالنعم التي أنعم الله بها على آبائكم من الإنجاء من فرعون، وتظليل الغمام، واشكروا الله على نعمه بامتثال أوامره وإطاعته، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان بالله ورسله دون تفريق، وبخاصة محمد خاتم النبيين، أوفّ بعهدي لكم في الدنيا والآخرة، بالتمكين لكم في الأرض المقدسة- في زمنهم- ورفع شأنكم، وتوسيع معيشتكم، ونصركم على أعدائكم، وتوفير السعادة لكم في الآخرة. وآمنوا- ضمن مشتملات العهد- بالقرآن إيمانا صادقا، وأنه من عند الله، وأنه نزل مؤيدا ومصدقا وموافقا للتوراة وكتب الأنبياء السابقة، في الدعوة إلى توحيد الله، وترك الفواحش، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي التوراة وصف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به، فأنتم أحق الناس بالإيمان به، لوجود دليل صدقه في التوراة. ولا تبيعوا آيات الله الدالة على صدق محمد في نبوته ودعوته بثمن دنيوي حقير، من رياسة أو زعامة أو مال أو موروثات وعادات قديمة، فإنه ثمن قليل بخس، وتجارة خاسرة غير رابحة. ولا تخافوا أحدا سوى الله فهو بيده الخير كله. ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون ضرر الكتمان، فليس جزاء العالم في الآخرة كالجاهل. وأدوا ما افترض الله عليكم من الصلاة والزكاة وأدوها جماعة مع النّبي محمد عليه السّلام. وعبر بالركوع عن الصلاة ليبعدهم عن صلاتهم القديمة التي لا ركوع فيها. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى أحكام كثيرة في العقيدة والأخلاق والعبادة والحياة الخاصة والعامة، فأوجبت على اليهود ألا يغفلوا عن نعم الله التي أنعم بها عليهم وألا يتناسوها، والنعمة هنا: اسم جنس، مفردة بمعنى الجمع، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم 14/ 34] ، ومن نعمه عليهم: أن

أنجاهم من آل فرعون، وجعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفجّر لهم من الحجر الماء، واستودعهم التوراة التي فيها صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته ورسالته «1» ، والنعم على الآباء نعم على الأبناء، لأنهم يشرفون بشرف آبائهم وكانت النعم سببا في بقائهم. والتذكير بكثرة النعم يوجب الحياء عن إظهار المخالفة، ويوجب عظم المعصية، ويستدعي الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن. وألزمهم الوفاء بالعهد: وهو عام في جميع أوامره تعالى ونواهيه ووصاياه، ويدخل في ذلك الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكر في التوراة وغيرها، فإذا وفّوا بعهودهم، وفي الله لهم عهده: وهو أن يدخلهم الجنة، على سبيل التفضل والإنعام. وما طلب من اليهود من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا، قال الله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة 5/ 1] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل 16/ 91] . وأمرهم بخشية الله وحده والإيمان (التصديق) بما أنزل الله وهو القرآن، ونهاهم عن أن يكونوا أول من كفر، وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا، أي على تغيير صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم رشى، وكان الأحبار يفعلون ذلك، فنهوا عنه. وقد أثار العلماء في هذه الآية (41) ونحوها مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن «2» ، فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي، وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب

_ (1) تفسير الرازي: 3/ 33 وما بعدها، قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل بنعمه عليهم، ولما آل الآمر إلى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكرهم بالمنعم فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة 2/ 152] فدل ذلك على فضل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم على سائر الأمم. (2) تفسير القرطبي: 1/ 335

والإخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام، وقد قال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. وأجاز جمهور العلماء غير الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس- حديث الرّقية الذي أخرجه البخاري: «إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» والقياس على الصلاة والصيام فاسد، لأنه في مقابلة النص، ولأن تعليم القرآن يتعدى أثره لغير المعلّم، فيختلف عن العبادات المختصة بالفاعل. وهذا الخلاف جار أيضا في أداء الصلاة وغيرها من الشعائر الدينية بأجر. ونهى الله اليهود- ومثلهم غيرهم- عن أن يخلطوا ما عندهم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل، وعن كتمان ما علموا، ومنه أن محمدا عليه السلام حق، فكفرهم كان كفر عناد، ولم يشهد تعالى لهم بعلم في ذلك. وفي نهاية الآيات أمرهم الله تعالى- والأمر للوجوب- بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وعبر عن الصلاة بالركوع، لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع، ليرشدهم إلى الصلاة بالصفة الإسلامية، والمراد بالزكاة على الأصح الزكاة المفروضة، لمقارنتها بالصلاة، وليس المراد هو صدقة الفطر. وفي الصلاة تطهير النفوس، وفي الزكاة تطهير المال، وكلاهما مظهر شكر الله على نعمه، والزكاة تنفرد بأنها تحقق مبدأ التكافل الاجتماعي بين الناس، فالغني بحاجة إلى الفقير، والفقير بحاجة إلى الغني. قال الجصاص: أريد بالصلاة والزكاة ما خوطبنا به من هذه الصلوات المفروضة والزكوات الواجبة «1» .

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 34

نماذج من سوء أخلاق اليهود [سورة البقرة (2) الآيات 44 إلى 48] :

نماذج من سوء أخلاق اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 48] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) الإعراب: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في تَنْسَوْنَ. وَإِنَّها الهاء تعود على الصلاة، وإنما قال: وَإِنَّها ولم يقل: وإنهما أي الصبر والصلاة، لأن العرب ربما تذكر اسمين، وتكنّي عن أحدهما، مثل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها ولم ينفقونهما، ومثل: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة 62/ 11] ولم يقل: إليهما. إِلَيْهِ الضمير يعود إلى الله تعالى. يَوْماً مفعول فيه ظرف زمان لفعل اتَّقُوا. ولا تَجْزِي وما بعدها من الجمل المنفية صفات ليوم، وفي كل جملة ضمير مقدر يعود على يوم، تقديره: فيه، أي لا تجزي فيه.. وهكذا. وتذكير فعل وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ مع أن الفاعل مؤنث لوجود الفاصل، وإذا وجد الفصل بين للفعل والفاعل، قوي التذكير. البلاغة: أَتَأْمُرُونَ الاستفهام للتوبيخ. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فيه تقريع وتبكيت. أَفَلا تَعْقِلُونَ استفهام إنكاري وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الترك.

المفردات اللغوية:

ثم إن عطف وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ.. على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ من عطف الخاص على العام. وَاتَّقُوا يَوْماً تنكير اليوم للتهويل، وتنكير النفس في نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ لإفادة العموم. المفردات اللغوية: «البر» الطاعة والخير والعمل الصالح وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها فلا تأمرونها به الْكِتابَ التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل. أَفَلا تَعْقِلُونَ سوء فعلكم فترجعوا. وَاسْتَعِينُوا اطلبوا المعونة على أموركم بِالصَّبْرِ حبس النفس على ما تكره وَالصَّلاةِ قال القرطبي وغيره: خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السّلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «1» وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أي وإن الصلاة لشاقّة ثقيلة الْخاشِعِينَ الساكنين إلى الطاعة. يَظُنُّونَ يعتقدون أو يوقنون مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ في الآخرة فيجازيهم. اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ بالشكر عليها بطاعتي فَضَّلْتُكُمْ أي آباءكم عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم. وَاتَّقُوا خافوا يَوْماً يوم القيامة. لا تَجْزِي تقضي وتؤدي نفس. عَدْلٌ فداء. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله. سبب النزول: أخرج الواحدي والثعلبي عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية (44) في يهود المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به، وهذا الرجل، يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإن أمره حق، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 371، وحزبه: نزل به مهمّ أو أصابه غم. (2) أسباب النزول للواحدي: ص 13 [.....]

التفسير والبيان:

وقال السدّي: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيّرهم الله عز وجلّ «1» . التفسير والبيان: بان مما سبق في سبب النزول أن الآيات نزلت في أهل الكتاب وعلى التخصيص الأحبار والرهبان، كانوا يأمرون الناس بالخير والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم، فهذا مدعاة العجب والاستغراب، فإن الآمر بالشيء هو القدوة، فعليه المبادرة إلى فعل ما أمر به غيره، وإلّا كان كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وفي هذا توبيخ وتأنيب شديد، فكيف يليق بكم يا أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمرون بما تأمرون به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه من وعيد على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؟ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا الخطاب، وإن كان لليهود من أهل الكتاب، فهو موجه أيضا لغيرهم، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وطريق العلاج لهذا المرض أن تؤمنوا حقا، وتستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء، على مرضاة الله بالصبر الحقيقي وهو إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة، وتستعينوا بالصلاة لترويض النفس على التزام جادة الاستقامة، فمن صبر على احتمال التكاليف، وصرف نفسه عن المعاصي، وناجى ربه في صلاته، وعقد الصلة مع الله فيها خمس مرات في اليوم، كان جديرا بنصح الآخرين، مدركا بعقله الواعي مخاطر الانحراف، ضامنا لنفسه النجاة، لأن الأمر بالمعروف واضح، وهو واجب على العالم، وأوجب منه أن

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 85

يبدأ الواعظ بفعله بنفسه، ولا يتخلف بشيء عمن أمرهم به، قال شعيب عليه السلام- فيما حكاه القرآن: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هود 11/ 88] . والتزام الصلاة أمر شاق إلا على من خشعت نفوسهم لله، وخافوا من شديد عقابه، وعمرت قلوبهم بالإيمان وصدقوا بلقاء الله وحسابه، فبادروا إلى الصلاة، لإراحة أنفسهم، وتطمين قلوبهم، وإراحة بالهم، وإزالة قلقهم، وهو ما عبر عنه النّبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» «1» . والأصح أن المراد بالصلاة التي أمر بها اليهود وغيرهم هي الصلاة الإسلامية، بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها، ولأن الصلاة التي أمروا بها هي المشتملة على الركوع، كما في الآية السابقة، وصلاتهم لا ركوع فيها، كما بينا. وعبر بالظن في قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا يشق عليه الصلاة، فكيف بمن يتيقنه؟! فهذا سبب آخر بعد نسيان أنفسهم وتلاوة الكتاب للتقريع والتوبيخ. وفي مجالات الأوامر والترغيب في المأمورات يحسن التذكير بالنعم الإلهية، لذا كرر تعالى تذكير الكتابيين بالنعم التي أنعم بها على آبائهم وعليهم، وأنه فضلهم على غيرهم من العالم في زمانهم، وأنه جعل فيهم الأنبياء، والخطاب ليس موجها إلى الجماعة فقط، وإنما إلى كل فرد أيضا، لأن كل امرئ مسئول عن نفسه، فليخش كل إنسان يوما مليئا بالأهوال، لا منجاة فيه إلا بتقوى الله في السر والعلن، ولا فائدة فيه إلا لمن عمل لنفسه، فلا تقبل هناك شفاعة الشفعاء والوسطاء، ولا ينفع دفع البدل أو الفداء، ولا يمنع المقصرون من العذاب.

_ (1) نص الحديث بكامله: «حبّب إلي من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستحق كل مقصر في واجبه العقاب واللوم، فقد كان التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر، وكان ذم اليهود لأنهم كانوا يأمرون بأعمال البر والطاعة ولا يعملون بها، ويزداد التقريع للعالم الذي لا يعمل بما علم، فليس من يعلم كمن لا يعلم، ولا يتقبل العقل السليم هذه الحال من أحد. وإطاعة الأوامر الإلهية وعدم مخالفتها تتطلب الصبر، ومن صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، ومن أخص حالات الصبر: الصلاة، فالصلاة فيها سجن النفوس، وجوارح الإنسان فيها مقيدة بها عن جميع الشهوات، فكانت الصلاة أصعب على النفس، وكانت مكابدتها أشق. وتهون المصاعب كلها أمام الخاشعين المتواضعين المخبتين إلى الله، الموقنين بلقاء الله، المصدقين بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وليست أمور الآخرة مقيسة على أمور الدنيا، كما كان يتوهم اليهود وغيرهم من الأمم الوثنية، فليس في ميزان الإسلام وعدله طريق لتخليص المجرمين من العذاب بفداء أو بدل يدفع، أو بشفاعة تشفع، ولا ينفع في اليوم الآخر إلا مرضاة الله تعالى بالعمل الصالح، والإيمان المستقر في النفوس، المتجلي في أعمال الإنسان، والحكم إلى الله العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، كما قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات 37/ 24- 26] . والشفاعة المرفوضة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ: النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] والفاسق

نعم الله تعالى العشر على اليهود [سورة البقرة (2) الآيات 49 إلى 54] :

غير مرتضى، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ 34/ 23] وليس في الشفاعة رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعاء الشافع، والشفاعة دعاء. وليس في إثبات شفاعة مسوغ لمغتر يتهاون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على الشفاعة، فلا ينفع أحدا في الآخرة إلا طاعة الله ورضاه. وأما تفضيل بني إسرائيل فهو ليس دائما ولا عاما، وإنما هو مقصور على عالمي زمانهم، ومرتبط بمدى تنفيذهم أوامر الله، فالتفضيل هو مناط الأخذ بالفضائل وترك الرذائل، والفضل إن كان بكثرة الأنبياء فيهم فهو صحيح لا شك فيه، ولا تقضي هذه الفضيلة بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ويزول الفضل إذا هم انحرفوا عن هدي أنبيائهم وتركوا سنتهم. وإن كان المراد من التفضيل هو القرب من الله بمرضاته، فهو مختص بالأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم والتابعين لهم فيه، ومقيد بمدة الاستقامة على العمل الذي استحقوا به التفضيل «1» . نعم الله تعالى العشر على اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 54] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

_ (1) تفسير المنار: 1/ 304 وما بعدها.

الإعراب:

الإعراب: إِذْ معطوف على نِعْمَتِيَ ومنصوب بفعل محذوف تقديره: واذكروا إذ نجيناكم. وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا، وَإِذْ واعَدْنا مُوسى، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى. فِرْعَوْنَ ممنوع من الصرف للتعريف والعجمة، ومعناه في القبطية: التمساح. يَسُومُونَكُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من آل فرعون. وكذلك يُذَبِّحُونَ ويَسْتَحْيُونَ حال منهم أيضا. واعَدْنا بمعنى وعدنا، لأن الأصل في «فاعلنا» أن تكون مشاركة من اثنين، ولا يحسن هاهنا، لأن الله تعالى وعد موسى، ولم يكن من موسى وعد الله تعالى. اتَّخَذْتُمُ فعل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، الأول منهما (العجل) والثاني مقدر وتقديره: إلها. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ جملة اسمية في موضع الحال من ضمير اتَّخَذْتُمُ. ذلِكُمْ أراد المذكور، وهو يشمل القتل والتوبة. البلاغة: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ استعارة من السّوم في البيع. بَلاءٌ وعَظِيمٌ التنكير فيهما للتفخيم والتهويل. واعَدْنا ليست على أصلها وهو المشاركة من اثنين، وإنما هي بمعنى «وعدنا» كما بينا في الإعراب. هذا وعطف الفرقان على الكتاب في آية (53) من باب عطف الصفات بعضها على بعض، لأن الكتاب هو التوراة، والفرقان هو التوراة أيضا، فهو كتاب منزل وفارق بين الحق والباطل. المفردات اللغوية: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ أي آباءكم، تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا. وفرعون: لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ أشده أي العذاب الشديد. يَسْتَحْيُونَ يبقون نساءكم أحياء، ويقتلون الرجال، لقول بعض الكهنة لفرعون: إن مولودا

المناسبة:

يولد في بني إسرائيل، يكون سببا لذهاب ملكك وَفِي ذلِكُمْ العذاب أو الإنجاء بَلاءٌ ابتلاء واختبار. فَرَقْنا فلقنا، والمراد جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه، هاربين من عدوكم. الْكِتابَ التوراة. وَالْفُرْقانَ الشرع الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ليقتل البريء منكم المجرم ذلِكُمْ القتل، وقتل منهم نحو سبعين ألفا بارِئِكُمْ مبدعكم ومحدثكم فَتابَ قبل توبتكم. المناسبة: هذه الآيات في تفصيل النعم العشرة التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، بعد الإشارة إليها إجمالا في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تذكيرا لهم بضرورة شكرها. التفسير والبيان: اذكروا أيها اليهود الذين تعاصرون التنزيل ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم النعم التي أنعم الله بها على آبائكم، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع، كانت سببا لبقائكم، ولأن الإنعام على أمة إنعام يشمل كل أفرادها، وهي نعم عشرة، ذكر منها هنا خمسة وهي: 1- النجاة من فرعون، فإنه كان يذبح الأبناء الذكور، ويترك البنات أحياء، ويذيقهم العذاب الشديد، لأن فرعون كان قد رأى نارا هالته، خرجت من بيت المقدس، فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل. وفسّرت له بأن زوال ملكه يكون على يد رجل من بني إسرائيل «1» . فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء، ومع هذا نجاهم الله من هذا العذاب المهين. وفي النجاة من الهلاك اختبار من الله، حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك. والاختبار

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 90

قد يكون بالخير أو بالشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء 21/ 35] وقال: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] . وأما أنواع العذاب غير القتل، فقال ابن إسحاق: كان فرعون يعذب بني إسرائيل، فيجعلهم خدما وخولا، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله، فعليه الجزية، فسامهم العذاب. وفرعون: لقب لكل من ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وخاقان لملك الترك، وبطليموس لمن ملك الهند. ونسب الله تعالى إلى آل فرعون- وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه- لتولّيهم ذلك بأنفسهم، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله «1» . قال الطبري: فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو مقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياه بإكراه غيره له على قتله «2» . 2- عبور بني إسرائيل في البحر الأحمر سالمين بعد تهيئة طريق يابس سلكوه، وإغراق فرعون وجنوده. وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم، لتصديق الناس إياهم، وهي سنة في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 385 (2) تفسير الطبري: 1/ 214

وأما فرعون وجنوده فتبعوهم، حتى إذا كانوا في وسط البحر، أطبق الله عليهم الماء، فغرقوا. 3- قبول توبة الاسرائيلين وعفو الله عنهم، لأن الله تعالى كثير القبول لتوبة العصاة، ورحيم بمن ينيب إليه ويرجع، وهذا يستدعي شكر الله تعالى، وشكره: الإيمان به وبرسله واتباعهم فيما جاؤوا به، وبخاصة خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلّم. 4- إنزال التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام على موسى عليه السلام، كي يهتدوا بها، ويتدبروا ما فيها، ويسيروا على منهجها وشرعها. 5- التخلص الجماعي من المجرمين بأمر الله نبيه موسى عليه السّلام بعد أن اتخذ بنو إسرائيل العجل إلها، فعبدوه من دون الله، وظلموا أنفسهم بعد الإشراك بالله، في وقت غيبة موسى عنهم لميقات ربه، وصومه أربعين يوما، فاذكر يا محمد قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه: يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أصررتم بأنفسكم، فتوبوا إلى خالقكم، وتخلصوا من جهلكم، إذ تركتم عبادة البارئ، وعبدتم أغبي الحيوان وهو البقر. وطريق التوبة التي كانت في شريعتهم: أن يقتل البريء منكم المجرم، فأرسل الله عليهم سحابة سوداء، لئلا يبصر بعضهم بعضا عند القتل، فيرحمه، فتقاتل عبدة العجل مع المؤمنين بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، حتى قتل منهم سبعون ألفا، وبعدها تضرع موسى وهارون إلى الله، فتاب عليهم، من قتل ومن لم يقتل، أما المقتول فهو حي يرزق عند الله، وأما من بقي فقد قبلت توبته، وانتهى التقاتل، وألقوا السلاح، وساد السلم والأمن، ولا عجب في هذا، فالله هو التواب الرحيم بعباده. والأربعون يوما في قول أكثر المفسرين: ذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

فقه الحياة أو الأحكام:

والخلاصة: ربما كانت هذه النعمة أجل النعم، فالله تعالى يقول: اذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف (142) في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر. فقه الحياة أو الأحكام: لكل ظالم عات باغ نهاية حتمية، كنهاية فرعون بالإغراق في البحر، وللمظلوم فرج قريب ونصر محقق، كإنجاء بني إسرائيل المظلومين على يد فرعون وآله. وكان الإنجاء عيدا، مستوجبا شكر الإله، وصار يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرّم يوم صيام الشكر، روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر بصيامه. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. والشكر لله- كما قال سهل بن عبد الله: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. والمبادرة إلى التوبة سبيل التخلص من المعصية، والله سبحانه واسع الرحمة، كثير القبول للتوبة. والصبر مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله، عوّضه

تتمة النعم العشر على بني إسرائيل [سورة البقرة (2) الآيات 55 إلى 60] :

الله صحبة أوليائه، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين «1» . تتمة النّعم العشر على بني إسرائيل [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 60] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) الإعراب: جَهْرَةً منصوب على المصدر في موضع حال من ضمير قُلْتُمْ وتقديره: قلتم ذلك مجاهرين، وهذا هو الأوجه. وقيل: صفة محذوف تقديره: أرنا الله رؤية جهرة.

_ (1) البحر المحيط: 1/ 194

البلاغة:

سُجَّداً جمع ساجد، منصوب على الحال من ضمير ادْخُلُوا. حِطَّةٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره: مسألتنا حطة، أي حطّ عنا ذنوبنا. ومن نصب حِطَّةٌ أعمل الفعل. فَانْفَجَرَتْ معطوف على فعل مقدر، تقديره: فضرب فانفجرت، لأن الانفجار إنما يحصل عن الضرب، لا عن الأمر بإيجاده، مثل: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة 2/ 185] أي فأفطر فعدة. ومثل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة 2/ 173] أي فأكل فلا إثم عليه. مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لعاملها: تَعْثَوْا. البلاغة: مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي. كُلُوا إيجاز بالحذف، أي قلنا لهم: كلوا. وَما ظَلَمُونا إيجاز بالحذف أيضا تقديره: فظلموا أنفسهم بأن كفروا. والجمع بين ظَلَمُونا ويَظْلِمُونَ الماضي والمضارع للدلالة على تماديهم في الظلم. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولم يقل: فأنزلنا عليهم، لزيادة التقبيح والمبالغة في الذم والتقريع، بوضع الظاهر موضع الضمير. رِجْزاً نكّره للتهويل والتفخيم. مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تعظيم للنعمة والمنة، وإيماء إلى أنه رزق حاصل من غير تعب ولا مشقة. المفردات اللغوية: جَهْرَةً عيانا واضحا بالبصر. الصَّاعِقَةُ الصيحة بالعذاب، أو نار من السماء. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ما حلّ بكم. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم. تَشْكُرُونَ نعمتنا بذلك. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ سترناكم بالسحاب الرقيق من حرّ الشمس في التيه. الْمَنَّ شيء حلو لزج كالعسل. السَّلْوى الطائر المعروف بالسّماني ويسمى في بلاد الشام بالفري، وكلّ من السّماني والسلوى جمع لا واحد له من لفظه. هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس أو أريحا. رَغَداً أكلا واسعا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر

التفسير والبيان:

عليه. الْبابَ بابها. سُجَّداً منحنين متواضعين متذللين لله. حِطَّةٌ أي سؤالنا أن تحطّ عنا ذنوبنا أو خطايانا، والمراد: اسألوا الله المغفرة. رِجْزاً عذابا من السماء، ومن المعلوم أن العذاب نوعان: نوع يمكن دفعه: وهو عذاب المخلوقات كالهدم والغرق، ونوع لا يمكن دفعه: كالطاعون والصاعقة والموت، والمراد به هذا النوع الثاني. الْحَجَرَ أي حجر، كان إذا ضربه تفجر منه الماء بقدرة الله. فَانْفَجَرَتْ انشقت وسالت. أُناسٍ جماعة منهم، وكانوا اثني عشر سبطا. مَشْرَبَهُمْ موضع شربهم، فلا يشاركهم فيه غيرهم. وَلا تَعْثَوْا من عثي: أفسد، أي لا تفسدوا إفسادا شديدا، والعثو أو العثيّ: أشد الفساد، وتكرر المعنى تأكيدا، لاختلاف اللفظ. التفسير والبيان: اذكروا يا بني إسرائيل قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى عليه السلام حين ذهبوا معه إلى الطّور، للاعتذار عن عبادة العجل: لن نصدق بالله وبكتابه، علما بأنك سمعت كلامه، حتى نرى الله عيانا بالعين المجردة بلا حاجز، فأخذهم الله بعذابه وهو إرسال نار من السماء وهي الصاعقة فأحرقتهم وماتوا، ومكثوا يوما وليلة، والحي ينظر إلى الميت. وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى، يتمرّدون ويعاندون، فيعذبهم الله في الأرض، بالأوبئة والأمراض وتسليط هوامّ الأرض وحشراتها، حتى فتكت بالعدد الكثير منهم، ثم ينعم الله عليهم، وها هي بقية النّعم العشر التي يذكّرهم تعالى بها: 6- ثم أحييناهم بعد الموت الحقيقي، ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم، فقاموا وعاشوا ينظرون إلى بعضهم «1» ، وذلك كله لتشكروا الله أيها اليهود المعاصرون على

_ (1) ورأى الشيخ محمد عبده أن المراد بالبعث هو كثرة النسل، أي إنه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها، بارك الله في نسلهم ليعدّ الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها (تفسير المنار: 1/ 322) .

إنعامه عليكم بالبعث بعد الموت، وتعتقدوا أن الله قادر على كل شيء. والشكر المطلوب: هو الإيمان بالله وكتبه وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال بعض المفسّرين في تفسير بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ: علمناكم من بعد جهلكم. قال القرطبي: والأول أصح، لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وكان موت عقوبة، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَهُمْ أُلُوفٌ، حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة 2/ 243] «1» . 7- ثم سترناكم بالسحاب الأبيض الرقيق من حرّ الشمس، أثناء وجودكم في وادي التّيه بين الشام ومصر مدة أربعين سنة، حيارى تائهين، بعد أن خرج آباؤكم من مصر، وجاوزوا البحر. 8- ثم أنعمنا عليكم بأنواع من الطعام والشراب كالمنّ الذي هو مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى الذي هو طير يشبه السّماني لذيذ الطعم، وكان المنّ ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السّماني، فيأخذ كل واحد ما يكفيه إلى الغد. وقلنا لكم: كلوا من ذلك الرزق الطيب، واشكروا الله، فلم يفعلوا، وكفروا تلك النعم الجزيلة، ولم يضروا إلا أنفسهم، حيث قطع الله عنهم هذه النعم، وجازاهم على مخالفتهم، فكان. وبال العصيان عائدا عليهم. 9- واذكروا أيضا نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التّيه: ادخلوا القرية، قال الجمهور: هي بيت المقدس، وقيل: أريحاء من بيت المقدس، واسكنوا فيها، وكلوا واشربوا منها أكلا واسعا هنيئا لا حرج فيه، وادخلوا باب القرية ساجدين لله خاضعين مبتهلين إلى الله وحده، شكرا لله تعالى على خلاصكم

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 405

فقه الحياة أو الأحكام:

من التّيه، وقولوا: يا ربّنا، حطّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا، وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا وأجرا جزيلا. والمحسن: من صحح أساس توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شرّه. فخالف الظالمون الأمر ولم يتبعوه، معبرا عن المخالفة بالتبديل، إشارة إلى أن المخالف كأنه أنكر الأمر وادعى أنه أمر بغيره، ودخلوا زاحفين على أستاههم، أي أدبارهم، غير خاضعين لله، فكان جزاؤهم إنزال العذاب الشديد من السماء وهو الرجز، وهو في رأي جماعة من المفسّرين، الطاعون، بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله، قيل: هلك منهم سبعون ألفا بالطاعون. 10- واذكروا يا بني إسرائيل نعمة أخرى حين عطش آباؤكم من شدّة الحرّ في التّيه، وطلبوا من موسى عليه السّلام السقيا، فأمره الله أن يضرب بعصاه أي حجر، فضرب فانفجرت منه المياه المتدفقة بقوة، وخرجت منه اثنتا عشرة عينا، لكل جماعة منهم عين يشربون منها حتى لا تقع بينهم الشحناء، وكانوا اثني عشر سبطا، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر، وقال الله لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير تعب، ولا تفسدوا في الأرض بأن تنشروا الفساد في الأرض، وتكونوا قدوة لغيركم فيه، أو لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم. وكان تفجير الماء بعصا موسى معجزة ظاهرة له، وهي لا تكون لغير نبي، والمراد بالحجر الجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، قال الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، وهذا أظهر في الحجة، وأبين في القدرة. فقه الحياة أو الأحكام: إن مخاطبة بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن وتذكيرهم بالنّعم التي أنعم

الله بها على أصولهم، دليل واضح على وحدة الأمة، وتكافل أفرادها، وأن السعادة والشقاوة تعم الجميع من أصول وفروع، وإن لم يسأل الفرع عما فعل أصله، لكنه يتضرر بسوء أصله، وينتفع باستقامة أصله، كما قال تعالى في تعميم العذاب: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] ، وقال سبحانه في كنز الغلامين اليتيمين تحت الجدار: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً [الكهف 18/ 82] ، فكان صلاح الأب أو الجدّ سببا في صلاح الابن أو الحفيد نفسه، وفي حفظ المال لذريته، أي أن الصلاح يفيد في النفس والمال. وفي قوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة 2/ 57] ، إيماء إلى أن كل ما يأمر به الله من عبادة فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه، فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع بهم، وهو بمعنى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس 10/ 23] ، وقوله: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة 2/ 286] . أما تفجير الماء من الحجر فكان معجزة لموسى عليه السّلام، والمعجزات كلها من صنع الله، وهي سنة جديدة غير ما نشاهد من العادات كل يوم، أما المخترعات العلمية فهي مبنية على السّنن العلمية باستخدام طاقات الكون من الأثير والهواء والنفط والكهرباء وغير ذلك. وكان الله قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة. ومثل ذلك أيضا معجزات عيسى عليه السّلام، كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، ولم يكن هناك داع لنفخ الملك في مريم، لأن طريق القدرة كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 47] ، ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرّج، ليتبين الفرق بين الطين والطير بالحياة، وكان خلق عيسى عليه السّلام من نطفة الأم فقط، ونفخ الروح كان بإذن الله وقدرته: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 47] وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة.

وكان إمداد اليهود بالنّعم من أجل شدهم إلى منهج الاستقامة، وتخليصهم بالتوبة من الخطايا التي كانوا يرتكبونها، وذلك كله على سبيل العظة والعبرة. وكان إبقاء اليهود في التّيه أربعين سنة من أجل خروج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق، وانقراض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية وعبادة العجل. وحينما أمر الله اليهود بالدخول في باب القرية سجّدا قائلين: حطّة، بدلوا ودخلوا الباب، يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبّة في شعرة، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به، فعصوا وتمردوا واستهزءوا، فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وفي هذا دليل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يجوز إن كان التّعبد بلفظها، لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمر به بقوله. أما إن كان التّعبد بمعناها فيجوز تبديلها بما يؤدّي ذلك المعنى، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه. وبناء عليه أجاز جمهور العلماء للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته رواية الحديث النّبوي بالمعنى، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للأعاجم غير العرب بلسانهم وترجمته لهم، وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قصّ من أنباء ما قد سلف، فقصّ قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير، والحذف والإلغاء، والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فلأن يجوز بالعربية أولى. وأما حديث «نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي، فبلّغها كما سمعها» فالمراد حكمها، لا لفظها، لأن اللفظ غير معتدّ به «1» . وأما تعذيب بني إسرائيل بإنزال الرجز (أي العذاب) من السماء، فكان

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 411- 413

بسبب فسقهم كما قال تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، وفي سورة الأعراف: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) ، والفسق في الشرع: عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته. وهذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى: عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وفائدة التكرار: التأكيد، والحق كما قال الرازي «1» : أنه غير مكرر لوجهين: الأول: أن الظلم قد يكون من الصغائر، وقد يكون من الكبائر. الثاني: يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل، فنزل الرجز عليهم من السماء، بسبب ذلك التبديل، بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا الوجه يزول التكرار. وأفادت آية وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ تقرير سنة الاستسقاء، بإظهار العبودية والفقر والمسكنة والذّلة مع التوبة النصوح. وقد أقرت شريعتنا سنة الاستسقاء بالخروج إلى المصلى والخطبة والصلاة في رأي جمهور العلماء، لأن نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم استسقى، فخرج إلى المصلّى متواضعا متذلّلا مترسلا متضرعا. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنّة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير، واحتج بحديث أنس في صحيحي البخاري ومسلم. قال القرطبي: ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان دعاء عجّلت إجابته، فاكتفى به عما سواه، ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان بيّن بفعله، حسبما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازني، قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المصلى، فاستسقى، وحوّل رداءه، ثم صلّى ركعتين» «2» . ودلّ قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا، ووَ لا تَعْثَوْا، على إباحة النّعم وتعدادها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.

_ (1) تفسير الرازي: 3/ 91- 92 (2) تفسير القرطبي: 1/ 418

مطامع اليهود وبعض جرائمهم وعقوباتهم [سورة البقرة (2) آية 61] :

مطامع اليهود وبعض جرائمهم وعقوباتهم [سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) الإعراب: يُخْرِجْ فعل متعد إلى مفعول واحد، وهو محذوف، وتقديره: يخرج لنا مأكولا. مِنْ للبيان بدل من مِمَّا. مِصْراً صرفه إما لأنه أراد به مصرا من الأمصار، لا مصر بعينها، أو لأنه اسم البلد وهو مذكر، أو لأنه- وإن كان مؤنثا معرفة- على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن، فجاز أن تصرف كهند ودعد وجمل ونوح ولوط. البلاغة: طَعامٍ واحِدٍ أراد بالواحد: ما لا يختلف ولا يتبدل. مِمَّا تُنْبِتُ أضاف الإنبات إلى الأرض على سبيل المجاز العقلي، وعلاقته السببية، لأن الأرض سبب للنبات. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ استعارة بالكناية عن إحاطتهما بهم، كما تحيط القبة بمن تحتها. بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادة في التشنيع على قبح العدوان. والقائل في قوله تعالى: قالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى هو موسى نفسه، والاستفهام للإنكار، والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال. المفردات اللغوية: بَقْلِها البقل: كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثاء هو الخيار

التفسير والبيان:

المعروف. الفوم الثوم، بدليل قراءة ابن مسعود: «وثومها» ، ولاقتران البصل بعده. أَدْنى أقل مرتبة، إما من الدّنو: وهو القرب، أو من الدّون، كما تقول: هذا دون ذاك، أي أقل مقدارا، والدّنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار. مِصْراً بلدا من البلدان الزراعية. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ جعلت ووضعت عليهم. الذِّلَّةُ الذّل والهوان. الْمَسْكَنَةُ الفقر والحاجة. وَباؤُ بِغَضَبٍ رجعوا متلبسين به. ذلِكَ أي الضرب والغضب. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم فالباء سببية. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ كزكريا ويحيى عليهما السلام. بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ظلما. يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحدّ في المعاصي. وكرر ذلِكَ للتأكيد، وقصد بالتكرار التعليل، وهو ردّ إلى علة الجزاء وتأكيد للإشارة إليه، والباء في بِما باء السبب، أي بعصيانهم، والعصيان: خلاف الطاعة، والاعتداء: تجاوز الحدّ في كل شيء. التفسير والبيان: واذكروا أيها اليهود إذ قال أسلافكم من قبل: يا موسى، لا يمكن أن نستمر على طعام واحد، وهو المنّ والسلوى- ومخاطبة اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم دليل على مبدأ تكافل الأمة الواحدة- فاطلب لنا من ربك أن يطعمنا مما تنبت الأرض من أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها، وإنما سألوه الدعاء، لعلمهم أن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم. فقال موسى متعجبا وموبخا مستنكرا: أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وأهنأ، وهو المنّ والسلوى، الأول فيه الحلاوة المألوفة، والثاني أطيب لحوم الطير، وهما غذاء كامل لذيذ؟ وإذ طلبتم الأدون نفعا وخيرا، فاهبطوا وانزلوا من التّيه «1» واسكنوا في أي بلد زراعي، فإن لكم فيه ما طلبتم. وقد كنّوا عن المنّ والسلوى بطعام واحد، وهما اثنان: لتكرارهما في كل يوم غذاء، كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة: هو على أمر واحد، لملازمته ذلك.

_ (1) بلاد التّيه: ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ.

لكن الله تعالى عاقبهم على كفران تلك النعم، وعلى الاستهزاء بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة، وعلى قتلهم الأنبياء ظلما، فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير مسوغ للقتل، وكانت عقوبتهم إلحاق الذّل والهوان بهم في الدنيا، ذلّا وهوانا ملازما لهم ومحيطا بهم، كما تحيط الخيمة بمن فيها، والذليل عادة يستخذي ويستهين، ثم استحقاق غضب الله وبلائه ونقمته في الدنيا وعذابه الأليم في الآخرة. وكان ذلك العقاب بسبب عصيانهم أوامر ربهم عصيانا متكررا، وتعديهم حدود دينهم، واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء، فعلة جزائهم أمران: أنهم كانوا يعصون ويعتدون، والعصيان: فعل المناهي، والاعتداء: المجاوزة في حدّ المأذون فيه والمأمور به. وضرب الذّلة والمسكنة أي الذّل والفقر والحاجة على اليهود، وإن كانوا ذوي مال، أمر قائم على أساس الشعور الذاتي النابع من أعماق النفس، فهم في فقر دائم وذلّ مستمر، وقد ورثوا صفات الذّل وضعف النّفس وامتهانها وحقارة التصرفات ودناءة الأخلاق، فلا يكادون يحسون بغنى النفس وعزتها، ولا تشبع نفوسهم، ولا ترتوي من شيء، وتظل أطماعهم وأحقادهم مسيطرة عليهم، حتى إنهم يعبدون المادة، ويؤلهون المال، وذلك كله بسبب إحساسهم الداخلي بالاستزادة من الأموال. وقيام دولة لليهود أيضا لا يصادم هذه الآية التي تقرر إلحاق الذّل والهوان بهم، لأن مقومات الدولة الحقيقية غير متوافرة لهم، وهم في أمسّ الحاجة دائما إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار، مما أحوجهم إلى الدعم المستمر غير المتناهي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، من الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن ترك الأفضل من المطعومات وهو المنّ والسلوى، وطلب الأدنى مرتبة منه من بصل وثوم وعدس وخيار ونحوها، دليل على أن النفس البشرية قد تبدل الطيب بالخبيث، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري: كان اليهود نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس، فنزعوا إلى عكرهم «1» عكر السّوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليهم عادتهم، فقالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ «2» . وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ يدلّ على كراهتهم ذلك الطعام. وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها. أما أكل البصل والثوم وماله رائحة كريهة من سائر البقول، فهو مباح في رأي جمهور العلماء، للأحاديث الثابتة فيه، لكن ينبغي على الآكل أن يتجنب حضور أماكن التجمع في المساجد ونحوها، لئلا يتأذى الناس بالروائح الكريهة. روى أبو سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها: «أيها الناس، إنه ليس لي تحريم ما أحلّ الله ولكنها شجرة أكره ريحها» . ودلّت الآية على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب. وإن الجزاء الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم، حق وعدل ومطابق لجرائهم، وهي الاستكبار عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، حتى إنهم قتلوهم ظلما وعدوانا بغير حق، لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به، فلم يأت نبي

_ (1) العكر: الأصل، وقيل: العادة والديدن. والعكر (بالتحريك) : دردي كل شيء. [.....] (2) تفسير القرطبي: 1/ 422

عاقبة المؤمنين بنحو عام [سورة البقرة (2) آية 62] :

قط بشيء يوجب قتله، فصرّح تعالى بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ على شناعة الذنب ووضوحه. روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة: رجل قتله نبي، أو قتل نبيا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين» أي بالتمثيل بالقتلى. فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن البصري: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال نصر. عاقبة المؤمنين بنحو عام [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الإعراب: مَنْ إما مرفوعة أو منصوبة، فالرفع على أن مَنْ شرطية مبتدأ، وفَلَهُمْ جواب الشرط، وخبر المبتدأ، والجملة خبر إِنَّ والنصب على أنها بدل من الَّذِينَ فيبطل معنى الشرط، وتكون الفاء في فَلَهُمْ داخلة لجواب الإبهام، ويقصد بها التأكيد، مثل قولك: «الذي يأتيني فله درهم» وتأكيد الشيء لا يغير معناه. وروعي في ضمير «آمن، وعمل» لفظ مَنْ وفيما بعده: عِنْدَ رَبِّهِمْ.. معناها، وهي تقع على الواحد والتثنية والجمع، فجاز رجوع الضمير إليها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: هادُوا تهودوا، من هاد: إذ دخل في اليهودية. وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالنَّصارى أتباع عيسى عليه السلام «1» وَالصَّابِئِينَ طائفة من اليهود أو النصارى عبدوا الملائكة أو الكواكب «2» . مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ في زمن نبينا وَعَمِلَ صالِحاً بشريعته فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ثواب أعمالهم. سبب النزول: نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي، وكان من أهل جندسابور من أشرافهم «3» . وأخرج ابن أبي حاتم والعدني في مسنده عن مجاهد قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية «4» . وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إلى قوله: يَحْزَنُونَ قال: فكأنما كشف عني جبل «5» . المناسبة: اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه، وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديما، وأوضح مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأ عاما

_ (1) سموا بالنصارى نسبة إلى قرية في فلسطين يقال لها: ناصرة، وكان عيسى بن مريم ينزلها. (2) قال الطبري: والصابؤون جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل من خرج من دين إلى آخر يسمى صابئا. (3) تفسير الطبري: 1/ 254، وهذا ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي. (4) أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين: ص 14 (5) أسباب النزول للواحدي: ص 13 وما بعدها.

التفسير والبيان:

لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسك بحبل الدين المتين، وعمل صالحا، فهو من الفائزين، سواء أكان من المسلمين أم من اليهود، أم من النصارى أم من الذين تركوا دينهم مطلقا وأسلموا، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 8/ 38] . التفسير والبيان: إن المصدقين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أتى به من عند الله، والذين تهودوا أو تنصروا، أو بدلوا دينهم، وآمنوا بالله وحده لا شريك له، وبالبعث والنشور، وعملوا صالح الأعمال، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم، ولا خوف عليهم من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما تركوا من الدنيا وزينتها، إذا عاينوا النعيم الدائم في الجنة. فقه الحياة أو الأحكام: إن مدار الفوز والنجاة هو الإيمان الصحيح المقترن بالعمل الصالح. وليست هذه الآية منسوخة، وإنما هي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام. ولا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل الكتاب، ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم، كما تقرر في سورة المائدة (الآية: 5) وفرض الجزية عليهم، كما أوضحت سورة براءة (الآية 29) واختلف في الصابئين: فقال جماعة (السدي وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة) : لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال آخرون (مجاهد والحسن البصري وابن أبي نجيح) : لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.

بعض جرائم اليهود وعقابهم [سورة البقرة (2) الآيات 63 إلى 66] :

والحاصل: أن الصابئة قوم موحدون معتقدون تأثير النجوم، وأنها فعّالة «1» . بعض جرائم اليهود وعقابهم [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) الإعراب: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ فيه محذوف، تقديره: قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم، وحذف القول كثير في كلامهم. مِيثاقَكُمْ ولم يقل «مواثيقكم» لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم مثل ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر 40/ 67] أي يخرج كل واحد منكم طفلا. فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ.. لولا: حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره، تقول: لولا زيد لأكرمتك، فيكون امتناع الإكرام وجود زيد. فضل: مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف تقديره: موجود أو كائن. كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أمر تكوين، لا أمر تكليف، والمراد به تكوّنهم قردة. وقردة: خبر كان. وخاسئين: إما صفة لقردة، أو خبر بعد خبر، أو حال من الضمير في: كونوا.

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 434- 435

البلاغة:

فَجَعَلْناها نَكالًا الضمير في الفعل يعود إما على المسخة أو يعود على القردة. وكذلك «ها» في قوله لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها. ونكالا: مفعول به ثان. أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي ذوي هزء، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون التقدير: أتتخذنا مهزوءا بهم. البلاغة: خُذُوا فيه إيجاز بالحذف كما بينا، أي قلنا لهم: خذوا. كُونُوا قِرَدَةً ليس الأمر على حقيقته، وإنما أريد به معنى الإهانة والتحقير لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها كناية عمن أتى قبلها أو بعدها من الخلائق. المفردات اللغوية: مِيثاقَكُمْ الميثاق: العهد المؤكد، ويراد به هنا: العهد بالعمل. بما في التوراة الطُّورَ الجبل المعروف في شمال فلسطين بِقُوَّةٍ بجد ونشاط وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به تَتَّقُونَ النار أو المعاصي تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم. اعْتَدَوْا تجاوزوا الحد السَّبْتِ اليوم المعروف، وقد نهاهم الله عن صيد السمك فيه، وهم أهل أيلة وهي القرية التي كانت حاضرة البحر. خاسِئِينَ بعيدين عن رحمة الله، وقد هلكوا بعد ثلاثة أيام. فجعلناها نَكالًا أي تلك العقوبة عبرة تنكل من اعتبر بها، أي تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا. لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي الأمم التي في زمانها أو بعدها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خص المتقون بالذكر، لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم. والمتقون: الذين اتقوا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه. المناسبة: كانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل بالنعم الجليلة، وأما هذه الآيات فهي تنديد بالمخالفات والمعاصي التي ارتكبوها، فإنهم نقضوا الميثاق أو العهد مع الله، وتجاوزوا النهي الإلهي في السبت، فأصبحوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس. وإذا كان هذا في بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السّلام،

التفسير والبيان:

فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر تنزيل القرآن ألا يجحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، خوفا من أن يحل بهم ما حل بأسلافهم. التفسير والبيان: واذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة، فرفضوا حتى رفع الله فوقهم الطور تخويفا وإرهابا، وأمرهم أن يأخذوا بما فيها بجد ونشاط ومواظبة على العمل، واذكروا ما في التوراة واعملوا بما فيها من الأحكام، وتدبروا معانيها حتى تكونوا من المتقين، لأن العلم يرشد إلى العمل، والعمل يرسخ العلم في النفس، ويطبع فيها سجية المراقبة لله، وبها تصير تقية تتقي المعاصي، نقية من الرذائل، مرضية عند ربها، كما قال تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه 20/ 132] . فقبلتم إلى حين، ثم أعرضتم بعد ذلك عن الطاعة، فلولا رحمة الله ولطفه بكم وإمهاله إياكم، إذ لم يعجل عقوبتكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين الخاسرين سعادتي الدنيا والآخرة. ولقد علمتم شأن آبائكم الذين تجاوزوا الحد بصيد السمك يوم السبت، وكان محرما فيه لقصره على العبادة، فإن موسى عليه السّلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم، وأباح لهم العمل في بقية أيام الأسبوع. وكان جزاؤهم أنهم أصبحوا في مرتبة الحيوان، يعيشون من دون عقل ووعي وتفكير، ويتخبطون في أهوائهم، كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، يأتون المنكرات علانية، بعيدين عن الفضائل الإنسانية، حتى احتقرهم الناس، ولم يروهم أهلا للمعاشرة والمعاملة. فمعنى صيرورتهم قردة خاسئين: تصييرهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين.

فقه الحياة أو الأحكام:

قال مجاهد: لم يمسخوا قردة، ولم تمسخ صورهم، وإنما مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظا، ولا تعي زجرا. وهو مثل ضربه الله لهم، كما مثّلوا بالحمار يحمل أسفارا، في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة 62/ 5] «1» . ورأى جمهور المفسّرين: أن صورهم مسخت بمعصيتهم، فصارت صور القردة، قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. والممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. وكذلك يفعل الله بمن شاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء «2» . وللآية نظير آخر، هو قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي الشيطان [المائدة 5/ 60] . قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوي صوري، والله تعالى أعلم «3» . وعلى أي حال فإن الله تعالى عاقب بني إسرائيل بعقوبة المسخ، أيا كان نوعه وهو عقاب لكل فاسق خارج عن طاعة الله، وعبرة لينكل من يعلم بها، أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله، وهو أيضا عظة للمتقين، لأن المتقي الحقيقي يتعظ بها ويبتعد عن حدود الله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [البقرة 2/ 187] فأولى بكم أيها اليهود المعاصرون أن تتعظوا بما حل بأسلافكم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت هذه الآيات على أمور ثلاثة: رفع الطور، والمسخ، وعظة العصاة.

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 263 (2) المصدر السابق: 1/ 261، تفسير القرطبي: 1/ 440- 443 (3) تفسير ابن كثير: 1/ 106- 107

المخالفين أوامر الله ونواهيه. أما رفع جبل الطور فوق اليهود كالمظلة: فكان إنذارا وإرهابا وتخويفا، وهذه الآية تفسر معنى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف 7/ 171] قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. واختلف في الطور: فقيل عن ابن عباس: الطور: اسم للجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السّلام، وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. وسبب رفع الطور: أن موسى عليه السّلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ «1» في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظّلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق «2» . وكان سجودهم على شقّ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله ورحم بها عباده، فجعلوا سجودهم على شق واحد. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كرها، وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.

_ (1) الفرسخ: 3 أميال أو 5544 م أو 12000 خطوة. (2) تفسير الطبري: 1/ 257

وروي عن مجاهد سبب آخر لرفع الطور قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا، ويقولوا: حطة، وطوطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة، فنتق فوقهم الجبل «1» . وأما المسخ: فرأى الجمهور أن الله تعالى مسخ المعتدين من اليهود بصيد السمك يوم السبت، وكان العمل فيه محرما من قبل موسى عليه السّلام، قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا- وهي الفرقة التي نهت اليهود عن المخالفة وجاهرت بالنهي واعتزلت- وهلك سائرهم. وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية: أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردّت أفهامهم كأفهام القردة. وأما عظة المخالفين: فإن الله تعالى جعل عقوبة المسخ للعصاة الذين اعتدوا في السبت وصادوا السمك فيه بحيلة، وقد ذكرها الله تعالى في سورة [الأعراف 7/ 163] وهي قوله سبحانه: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي إنهم اتخذوا حواجز أو أحواضا أمام مدّ مياه البحر، فإذا رجعت المياه بالجزر، بقيت الأسماك محجوزة في الأحواض، فيأتون في صبيحة يوم الأحد ويأخذونها. كذلك كانت عقوبة اليهود الذين امتنعوا من العمل بالتوراة، فنسوها وضيعوها، ولم يتدبروها ولم يحفظوا أوامرها ووعيدها، كانت عقوبتهم رفع جبل الطور فوقهم كالمظلة. وهذا يدل على أن المقصود بالكتب السماوية العمل بمقتضاها، لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها.

_ (1) المرجع والمكان السابق.

قصة ذبح البقرة [سورة البقرة (2) الآيات 67 إلى 73] :

وهذا يعني أن مجرد التغني بألفاظ القرآن، دون الاعتبار بعظاته، والعمل بأحكامه، لا يفيد شيئا. روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من شرّ الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن، لا يرعوي إلى شيء منه» فبين صلّى الله عليه وسلّم أن المقصود بالكتب الإلهية العمل بها، كما بينا. قصة ذبح البقرة [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

الإعراب:

الإعراب: لا فارِضٌ إما خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: لاهي فارض، أو صفة بقرة. وبِكْرٌ عطف عليه في الوجهين، وهذان الوجهان في قوله: عَوانٌ وقال: بَيْنَ ذلِكَ ولم يقل: بين ذينك، لأنه أراد بين هذا المذكور. ما تُؤْمَرُونَ أي تؤمرون به، مثل فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر 15/ 94] أي بالذي تؤمر به. ما لَوْنُها ما: مبتدأ و «لونها» خبره، ويجوز العكس. صَفْراءُ صفة لبقرة لَوْنُها مرفوع بفاقع، ارتفاع الفاعل بفعله. ويجوز كونه مستأنفا مبتدأ، وخبره: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وجاز جعل الخبر تَسُرُّ بلفظ التأنيث، إما لأن اللون بمعنى الصفرة أي صفرتها تسر، والحمل على المعنى كثير في كلامهم، وإما لأنه أضيف اللون إلى مؤنث، والمضاف يكتسب من المضاف إليه التأنيث، كقراءة «تلتقطه بعض السيّارة» وقد قالوا: ذهبت بعض أصابعه. لا ذَلُولٌ إما صفة بقرة، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: لا هي ذلول، وهذان الوجهان في قوله: مُسَلَّمَةٌ وكذلك في قوله: لا شِيَةَ فِيها إلا أنه يكون خبرا ثانيا ل «هي» المقدرة، والهاء في «شية» عوض عن الواو، وأصله: وشي. الْآنَ ظرف زمان للوقت الحاضر، وهو مبني. كَذلِكَ الكاف الأولى كاف تشبيه في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، وتقديره: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك. بِغافِلٍ في موضع نصب على لغة الحجازيين، وفي موضع رفع على لغة تميم. البلاغة: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فيه إيجاز بالحذف، والتقدير: فطلبوا البقرة الجامعة للأوصاف المطلوبة ووجدوها، فلما اهتدوا إليها ذبحوها. وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ جملة اعتراضية بين قوله: فَادَّارَأْتُمْ وقوله فَقُلْنا اضْرِبُوهُ . وفائدة الاعتراض إشعار المخاطبين بأن الحقيقة ستنجلي حتما. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ استعارة تصريحية، وصف القلوب بالصلابة والغلظ، وأريد منه: نبوّها

المفردات اللغوية:

عن الاعتبار وعدم الاتعاظ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ تشبيه مرسل مجمل، لأن أداة الشبه مذكورة، ووجه الشبه محذوف. لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ مجاز مرسل أي ماء الأنهار من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال فيه. المفردات اللغوية: هُزُواً: مهزوءا بنا أو سخرية، حيث تطلب منا ذبح بقرة. أَعُوذُ أمتنع الْجاهِلِينَ المستهزئين في موضع الجد. لا فارِضٌ مسنة. وَلا بِكْرٌ فتية صغيرة عَوانٌ نصف بين الصغيرة والكبيرة بَيْنَ ذلِكَ المذكور من السنين ما تُؤْمَرُونَ به من ذبحها. فاقِعٌ لَوْنُها شديدة الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها بحسنها، أي تعجبهم. ما هِيَ أسائمة أم عاملة إِنَّ الْبَقَرَ جنسه المنعوت بما ذكر تَشابَهَ عَلَيْنا لكثرته، فلم نهتد إلى المقصود إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إليها، ورد في الحديث النبوي: «لو لم يستثنوا- أي يقولوا: إن شاء الله- لما بينت لهم آخر الأبد» . لا ذَلُولٌ ليست مذللة بالعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ تقلبها للزراعة أي تحرث الأرض والجملة صفة ذلول، داخلة في النفي وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ الأرض المهيأة للزراعة مُسَلَّمَةٌ سليمة من العيوب وآثار العمل لا شِيَةَ لا لون غير لونها، ولا لمعة فيها من لون آخر، سوى الصفرة، فهي صفراء كلها، حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر: وشى وشيا: إذا خلط بلونه لونا آخر. قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ نطقت بالبيان التام، فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار بأمه، فاشتروها بملء جلدها ذهبا فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لغلاء ثمنها، ورد في الحديث النبوي: «لو ذبحوا أي بقرة كانت، لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم» . فَادَّارَأْتُمْ تدارأتم بمعنى تخاصمتم وتدافعتم وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مظهر تَكْتُمُونَ من أمرها. اضْرِبُوهُ القتيل. بِبَعْضِها فضرب بلسانها أو عجب ذنبها، فحيي وقال: قتلني فلان وفلان وكانا ابني عمه، فحرما الميراث وقتلا. تَعْقِلُونَ تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة، قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.

المناسبة:

المناسبة: ترتبط هذه الآيات بما قبلها التي ذكر فيها بعض جرائم اليهود، من نقض الميثاق، والاعتداء في السبت، والتمرد في تطبيق التوراة، فهي استمرار في تعداد مساوئهم، وهي مخالفتهم الأنبياء ومعاندة الرسل عليهم السّلام، والتلكؤ في امتثال أوامر الله تعالى. سبب القصة: روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال: «كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله، ثم احتمله ليلا، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم، حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنّهى: علام يقتل بعضكم بعضا، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السّلام، فذكروا ذلك له، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.. قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا، فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها. فقال: والله، لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا، فذبحوها، فضربوه ببعضها، فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا- لابن أخيه، ثم مال ميتا، فلم يعط من ماله شيئا، فلم يورث قاتل بعد «1» ، وفي رواية: «فأخذوا الغلام فقتلوه» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 108 [.....]

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: واذكروا أيها اليهود وقت قول موسى لقومه أسلافكم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أي بقرة كانت، فلم يمتثلوا، وشددوا، فشدد الله عليهم. وقالوا: أتهزأ بنا يا موسى، نسألك عن أمر القتل، فتأمرنا بذبح بقرة! قال: ألتجئ إلى الله من الهزء والسخرية بالناس في موضع الجد، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل. فلما رأوه جادا، سألوه عن صفاتها المميزة لها، وأكثروا من الأسئلة، فسألوه عن سنها، فقال لهم: إنها ليست صغيرة ولا كبيرة، بل وسط بين الأمرين، فامتثلوا الأمر، ولا تشدّدوا فيشدد الله عليكم. ولكنهم تعنتوا، فسألوه عن لونها، فقال: إنها صفراء شديدة الصفرة تسر الناظر إليها، فلم يكتفوا بذلك، بل طالبوا بأوصاف مميزة أخرى، وقالوا معتذرين: إن البقر كثير متشابه علينا، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى المطلوب، روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله، لما تبينت لهم آخر الأبد» . قال: إن الله يقول: إنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسقي، وهي سالمة من العيوب، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة. قالوا: إنك الآن جئت بإظهار الحقيقة الواضحة. فطلبوها، فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بار بأمه، فساوموه، فتغالى، حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا. وما كان امتثالهم قريب الحصول. قال ابن عباس: «لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم» . واذكروا أيها اليهود المعاصرون حين قتلتم نفسا، وهذا من قبيل التأخير لفظا والتقديم معنى للتشويق في معرفة سبب ذبح البقرة، وأسند القتل إلى

فقه الحياة أو الأحكام:

المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم من سلالة السابقين، وهم معتزون بنسبهم، راضون بفعلهم. وكذلك أسند القتل إلى الأمة والقاتل واحد، لأن الأمة متضامنة، وهي في مجموعها كالشخص الواحد، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد، وفيه توبيخ وتقريع للغابرين والحاضرين، والجماعة والأفراد. واذكروا حادثة القتل في تاريخكم، وتخاصمكم وتدافعكم في شأنه، فكل واحد يدرأ القتل عن نفسه ويدعي البراءة ويتهم سواه، والله أنكر فعلهم وكتمانهم، وأنتم اليوم تكتمون ما عندكم من أوصاف النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والله مظهر لا محالة ما تكتمونه وتسترونه من أمر القتل، فقلنا: اضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة المذبوحة، فضربوه، فأحياه الله، وأخبر عن القتلة. ومثل ذلك الإحياء العجيب، يحيي الله الموتى يوم القيامة، فيجازي كل إنسان بعمله، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنّبي، حيث يخبر بالمغيبات، كي تعقلوا وتؤمنوا بالنبي والقرآن، لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به. فقه الحياة أو الأحكام: هذه القصة فيها العبرة والعظة ببيان بعض مساوئ اليهود ومواقفهم المتشددة والمعاندة، وأهم العظات ما يلي: 1- ليس التشدد في الدين محمودا، وليس الإلحاف في كثرة السؤال مرغوبا فيه، لذا نهانا الله تعالى عن ذلك وقت نزول القرآن، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة 5/ 101] وقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما: من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته» وقوله عليه السّلام فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما

أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم» وقوله أيضا فيما رواه البخاري ومسلم: « ... وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» والسؤال المنهي عنه: مثل السؤال عما أخفاه الله تعالى عن عباده ولم يطلعهم عليه، كالسؤال عن قيام الساعة، وعن حقيقة الروح، وعن سر القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، وطلب خوارق العادات عنادا وتعنتا، والسؤال عن الأغاليط، والسؤال عما لا يحتاج إليه، وليس في الجواب عنه فائدة عملية، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام. وقد سجل الله على اليهود ذنب الوقوف في السؤال موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح. 2- كان الأمر بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، ليهون عندهم أمر تعظيمه. 3- استهزاؤهم بأوامر الأنبياء عرّضهم للوم والتوبيخ والعقاب. 4- إحياء القتيل بقتل حي أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها. وقد ذكر الله تعالى إحياء الموتى في سورة البقرة في خمسة مواضع: في قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وفي هذه القصة: فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها وفي قصة الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة 2/ 243] . وفي قصة عزير: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة 2/ 259] وفي قصة إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة 2/ 260] . 5- الإنكار الشديد على قتل النفس البريئة، وإنما أخره بالذكر عن ذكر موقفهم الاستهزائي العنادي، اهتماما واستهجانا وتقريعا لموقف العناد، وتشويقا

إلى معرفة سبب ذبح البقرة، وهذا الموقف ديدن اليهود وطبيعتهم التي لا تفارقهم. والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في سرد الأحداث والوقائع، وإنما يذكر الكلام بما يتفق مع هدفه: وهي العظة والعبرة، واجتذاب الأنظار وإثارة الانتباه. 6- ليس هناك أشد استهجانا وغرابة من جعل الحجارة أنفع من قلوب اليهود، لخروج الماء منها، قال مجاهد: ما تردّى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. وهذا يعني أن خشية الحجارة هنا حقيقية، كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء 17/ 44] . وحكى الطبري عن بعض المفسرين: أن خشية الحجارة من باب المجاز والاستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار، في قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف 18/ 77] «1» . 7- في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وبه قال جمهور الأصوليين غير الإمام الشافعي. 8- استدل الإمام مالك على صحة القول بالقسامة «2» بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، لأن قول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب.

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 289، وانظر تفسير القرطبي أيضا: 1/ 465 (2) القسامة: هي خمسون يمينا من خمسين رجلا، يقسمها في رأي الحنفية أهل المحلة التي وجد فيها القتيل ويتخيرهم ولي الدم، لنفي تهمة القتل عن المتهم. وعند الجمهور: يحلفها أولياء القتيل لإثبات تهمة القتل على الجاني.

قسوة قلوب اليهود [سورة البقرة (2) آية 74] :

قسوة قلوب اليهود [سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) الإعراب: أَشَدُّ قَسْوَةً معطوف على قوله: كَالْحِجارَةِ وهو في موضع رفع لأنه خبر: فَهِيَ. وقَسْوَةً تمييز منصوب، وأَوْ بمعنى «بل» . لَما اللام للتوكيد وما: اسم إِنَّ منصوب، والجار والمجرور: مِنْها والضمير يعود إلى الحجارة في موضع رفع خبر إِنَّ. البلاغة: ثُمَّ قَسَتْ ثم للترتيب مع التراخي، والتعبير بحرف ثُمَّ يدل على أن قسوة قلوب اليهود بلغت مرتبة بعيدة جدا عن الوضع السليم أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أو: بمعنى بل، أي بل أشد قسوة، كقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات 38/ 147] . قال الزمخشري في الكشاف 1/ 223: أشد: معطوفة على الكاف في كَالْحِجارَةِ إما على معنى: أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما على: أو هي في أنفسها أشد قسوة. والمعنى: إن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلا، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال: هي أقسى من الحجارة. المفردات اللغوية: قَسَتْ صلبت عن قبول الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات كَالْحِجارَةِ في القسوة يَتَفَجَّرُ يخرج وينبع بكثرة يَشَّقَّقُ أصله: يتشقق، فأدغم التاء في الشين، أي يتفتح شقوقا طولا أو عرضا يَهْبِطُ ينزل من علو إلى أسفل وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وإنما يؤخركم لوقتكم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: بالرغم مما رأى اليهود من الآيات والمواعظ السابقة، كانفجار الماء ورفع الجبل، والمسخ قردة وخنازير، وإحياء القتيل، فإن قلوبهم قست وامتنعت عن قبول الحق، فهي تشبه في الصلابة الحجارة، بل أشد قسوة منها، وأصبحت بفقد تأثرها بالآيات وتفاعلها بالمواعظ والعبر، كأنها جمادات، بل إنها تدنت عن درجة الجماد أيضا، لأن الحجارة قد ينفجر منها الماء، ويسيل أنهارا تحيي الأرض وتنفع النبات، وقد تتشقق فيسيل منها ماء بسيط فيكون عينا لا نهرا، وفي هذا منفعة للناس، وقد تتأثر بالرياح العاتية، ونحوها من الزلازل، فتسقط من أعالي الجبال، فتكسر الصخور وتدمّر الحصون، وليس في هذا منفعة للناس. بالرغم من كل تلك المؤثرات والعظات والعبر، لم يزدد اليهود إلا عنادا وفسادا، ولكن الله تعالى حافظ لأعمالهم ومحصيها لهم، ثم يجازيهم بها. وفي هذا غاية التهديد والوعيد، لأن قوله تعالى: عَمَّا تَعْمَلُونَ يشمل كل عمل صغير أو كبير، ويؤكده قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزال 99/ 8] . فقه الحياة أو الأحكام: لم يخلق الله تعالى شيئا في هذا الوجود عبثا، وإنما لفائدة، ففي الآية دلالة على بعض فوائد الأحجار ونحوها من الجمادات، وأنها تنصاع لأمر الله، فإن تمردت فئة من المخلوقات عن الصبغة الإلهية، وأصبحت عديمة النفع، لعدم تأثرها بالعظات وعدم قبولها الحق، فالله يجازيها جزاء وفاقا، في الدنيا والآخرة، فيسلط عليها في الدنيا بعض النقم، إن لم تحركها النّعم، ويعذبها في نار جهنم في الآخرة، لإبائها الحق ولعدم طاعتها أوامر الله تعالى.

استبعاد إيمان اليهود [سورة البقرة (2) الآيات 75 إلى 78] :

استبعاد إيمان اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 78] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) الإعراب: أَنْ يُؤْمِنُوا في موضع نصب، لأن التقدير فيه: في أن يؤمنوا لكم. فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فنصبه. مِنْهُمْ إما في موضع رفع صفة لفريق، وجملة يَسْمَعُونَ خبر كان، وإما في موضع نصب خبر كان، ويسمعون: صفة لفريق. وَهُمْ يَعْلَمُونَ مبتدأ وخبر، في موضع نصب حال من ضمير «يحرّفون» . لِيُحَاجُّوكُمْ لام كي، تنصب الفعل بتقدير «أن» . وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مرفوع وصف لأميين. إِلَّا أَمانِيَّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس، لأن الأماني ليست من العلم. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي: وما هم إلا يظنون ومِنْهُمْ مبتدأ، وما بعده خبره. وإِلَّا أبطلت عمل إن. البلاغة: أَفَتَطْمَعُونَ الهمزة للاستفهام الإنكاري. وَهُمْ يَعْلَمُونَ تفيد الجملة الكمال في تقبيح صنيعهم، وهو تحريف التوراة عن قصد، لا عن جهل. ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ طباق بين لفظتي يُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَرِيقٌ طائفة من أحبارهم كَلامَ اللَّهِ التوراة يُحَرِّفُونَهُ يغيرونه ويبدلونه، أو يؤولونه بالباطل عَقَلُوهُ فهموه وعرفوه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مفترون. وَإِذا لَقُوا أي منافقوا اليهود وَإِذا خَلا رجع ومضى إليه، أو انفرد معه. فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حكم به أو قصه عليكم أو عرفكم في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم. لِيُحَاجُّوكُمْ ليخاصموكم ويجادلوكم، واللام للصيرورة عِنْدَ رَبِّكُمْ في الآخرة، أي يقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمهم بصدقه. أَوَلا يَعْلَمُونَ الاستفهام للتقرير، والواو الداخل عليها للعطف، ويراد بالاستفهام التوبيخ أو التقريع. أُمِّيُّونَ عوام جهلة بكتابهم أَمانِيَّ أكاذيب تلقوها من رؤسائهم، فاعتمدوها، وهي لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي. يَظُنُّونَ أي ما هم في جحود نبوة النّبي وغيره مما يختلقونه إلا يظنون ظنا ولا علم لهم. سبب النزول: قال ابن عباس ومقاتل: نزل قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ في السبعين الذين اختارهم موسى، ليذهبوا معه إلى الله تعالى، فلما ذهبوا معه، سمعوا كلام الله تعالى وهو يأمر وينهى، ثم رجعوا إلى قومهم، فأما الصادقون فأدّوا ما سمعوا. وقالت طائفة منهم: سمعنا الله من لفظ كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، ولا بأس. وعند أكثر المفسرين: نزلت الآية في الذين غيروا آية الرجم وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم «1» . واختلف العلماء بماذا عرف موسى كلام الله، ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 15

وسبب نزول الآية (76) :

فقيل: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر، وإنما هو كلام رب العالمين. وقيل: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك دليلا على صدق الحال، وأن الذي يقول له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه 20/ 12] هو الله جل وعز «1» . وسبب نزول الآية (76) : هو ما قاله مجاهد: قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر بهذا محمدا، ما خرج هذا إلا منكم، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، ليكون لهم حجة عليكم، فنزلت الآية. وقال ابن عباس: كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا أن صاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أيحدث العرب بهذا، فإنكم كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم، فأنزل الله: وَإِذا لَقُوا الآية. وقال السدي: نزلت في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يأتون المؤمنين من العرب، بما تحدثوا به، فقال بعضهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 2

التفسير والبيان:

من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم «1» . التفسير والبيان: حرص النّبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته على انضمام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلى دعوته والإيمان برسالته في مواجهة المشركين، لوجود جسور التقاء معهم من الإيمان بوجود الإله والتصديق بالأنبياء وبالبعث واليوم الآخر. وقد روي أنها نزلت في الأنصار الذين كانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوار ورضاعة، وكانوا يودون لو أسلموا، فأنزل الله: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. فجاءت هذه الآيات، في أثناء بيان قبائح اليهود، توضح خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ما بدد الآمال والأطماع في إيمان اليهود، لأن منهم جماعة- وهم فئة من الأحبار والرؤساء- كانوا يسمعون كلام الله، ثم يبدلونه أو يؤولونه بحسب أهوائهم وميولهم، وليس الحاضرون أحسن حالا من الغابرين، لأنهم ورثوا الاستكبار من أسلافهم، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة والواقع، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟! وسبب آخر يدعو إلى عدم إيمانهم هو أن منافقيهم إذا قابلوا المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون بالله وبالنبيّ كإيمانكم، إذ هذا النبي هو المبشر به عندنا، فنحن معكم، وإذا انفردوا مع بعضهم قالوا: كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا، وهم يحتجون عليكم بكلامكم، ويخاصمونكم به عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم؟ فيرد الله عليهم: ألا يعلمون أن الله تعالى يعلم السر والعلن، ويعلم الغيب والشهادة، فسواء أعلنتم سرا أم أضمرتموه، فإن الله سيجازيكم على أعمالكم.

_ (1) أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين: ص 16

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر الله تعالى هذا شأن علماء اليهود وأحبارهم، أما الأميون منهم، فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها، مثل القول بأنهم شعب الله المختار، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، وما هم في كل ذلك إلا واهمون ظانون ظنا لا صحة له. فلا أمل في أيمانهم، ولا أسف على أمثالهم، فمن كانت هذه صفاته وقبائحه، فلا خير فيه، ولا أسف عليه. والمراد بما فتح الله على اليهود: الإنعام بالشريعة والأحكام، والبشارة بالنبي عليه الصلاة والسّلام، شبّه الذي يعطى الشريعة بالمحصور في الصلاة يفتح عليه، فيخرج من الضيق. أو أن معنى بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم، ونصره. والمقصود بقوله عِنْدَ رَبِّكُمْ أن المحاجة في الآخرة، كما قال السيوطي، ورأى المحققون أنه بمعنى: في كتاب الله وحكمه أي أن ما تحدثونهم به من التوراة موافق لما في القرآن، فالمحاجة في الدنيا، فهو كقوله تعالى في أهل الإفك: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور 24/ 13] أي في حكمه المبين في كتابه «1» . وأما الأماني: فهي الأكاذيب، وفسرها بعضهم بالقراءات، أي أنهم لا حظّ لهم من الكتاب إلا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل، فهو على حد: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة 62/ 5] . فقه الحياة أو الأحكام: التحريف والتبديل لكلام الله أشد الحرام، سواء أكان بالتأويل الفاسد، أم

_ (1) تفسير المنار: 1/ 357 وما بعدها.

بالتغيير والتبديل، وقد وقع النوعان من أحبار اليهود، وقد نعتهم الله تعالى بأنهم يبدلون ويحرفون، فقال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة 2/ 79] وكان للتحريف مظاهر متعددة، ففي عهد موسى عليه السّلام: روي أن قوما من السبعين المختارين، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور، وما أمر به موسى وما نهي عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألا تفعلوا فلا بأس. وفي قوله تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما، اتّباعا لأهوائهم. وفي عهد محمد صلّى الله عليه وسلّم حرفوا نعت الرسول وصفته، وحرفوا آية الرجم، وقالوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران 3/ 75] وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا، وقالوا أيضا: لا يضرنا ذنب فنحن أحباء الله وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك «1» . ووقع التحريف بنوعيه أيضا في الإنجيل، كما وقع في التوراة، والدليل واضح وهو ضياع أصل كلا هذين الكتابين، وكتابتهما بأيدي العلماء بعد عشرات السنين، كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [النساء 4/ 46] . وحدث التحريف في القرآن بمعنى التأويل الباطل، من الجهلة أو الملاحدة، أما التحريف بإسقاط آية من القرآن، فلم يقع، لتعهد الله حفظ كتابه المبين في قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر 15/ 9] . وأرشدت الآية (78) من سورة البقرة إلى بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، لأن معنى قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ:

_ (1) تفسير الرازي: 3/ 135، تفسير القرطبي: 2/ 6 وما بعدها.

تحريف أحبار اليهود وافتراءاتهم [سورة البقرة (2) الآيات 79 إلى 82] :

يكذبون ويحدثون، لأنه لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرءون به. وقد أجمع السلف في صدر الإسلام وأهل القرون الثلاثة على بطلان التقليد في العقائد. وإنما كان الجاهل في تلك القرون يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان «1» . وأومأ الخطاب في هذه الآيات لليهود المعاصرين للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى أنه لا أمل في إيمان اليهود بالقرآن وبدعوة الرسول محمد، فالمعاصرون توارثوا طبائع الآباء وأخلاقهم، وتأصلت فيهم روح التمرد والإعراض عن كلام الله، وكان آباؤهم أكثر الناس مراء وجدالا في الحق، وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش، وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص، وأفضل الناس، كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدّتهم عن قبول الإسلام «2» . تحريف أحبار اليهود وافتراءاتهم [سورة البقرة (2) : الآيات 79 الى 82] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

_ (1) تفسير المنار: 1/ 359 (2) المصدر السابق: 1/ 360

الإعراب:

الإعراب: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ مبتدأ وخبر، وجاز أن يكون «ويل» مبتدأ وإن كان نكرة، لأن في الكلام معنى الدعاء، كقولهم: سلام عليكم. بَلى حرف يأتي في جواب الاستفهام في النفي، و «نعم» يأتي في جواب الاستفهام في الإيجاب. فإذا قال: ألست فعلت كذا؟ فجوابه: بلى، أي إني قد فعلت، كقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] أي بلى أنت ربّنا، ولو قالوا: نعم، لكفروا، لأنه يصير المعنى: نعم لست ربّنا. وإذا قال في الإيجاب: هل فعلت؟ فجوابه: نعم، كقوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا: نَعَمْ [الأعراف 7/ 44] . مَنْ كَسَبَ من شرطية مبتدأ، والفاء في «أولئك» جواب الشرط، وفَأُولئِكَ مبتدأ ثان، وأَصْحابُ النَّارِ خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وهو مَنْ. وهُمْ فِيها خالِدُونَ جملة اسمية حال من أَصْحابُ أو من النَّارِ. وفِيها في موضع نصب، وتقديره: خالدون فيها. البلاغة: تكرار فَوَيْلٌ ثلاث مرات في الآية (79) للتوبيخ والتقريع وتقبيح جريمتهم وهي التحريف. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ استعار لفظ الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء نزل بقوم من كل جانب. المفردات اللغوية: فَوَيْلٌ الويل: شدة العذاب والهلاك، أو واد في جهنم بِأَيْدِيهِمْ أي مختلقا من عندهم لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا، وهم اليهود غيّروا صفة النبي في التوراة، وآية الرجم، وغيرهما، وكتبوها على خلاف ما أنزل. مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المختلق، مِمَّا يَكْسِبُونَ من الرشا: جمع رشوة. لَنْ تَمَسَّنَا تصيبنا إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قليلة أربعين يوما مدة عبادة آبائهم العجل. أَتَّخَذْتُمْ حذفت منه همزة الوصل، استغناء بهمزة الاستفهام عَهْداً ميثاقا منه بذلك. أَمْ تَقُولُونَ.. بل. كَسَبَ سَيِّئَةً المراد بها هنا الكفر أو الشرك. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بالإفراد

سبب النزول:

والجمع، أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب، بأن مات مشركا فَأُولئِكَ روعي فيه معنى: من. سبب النزول: نزلت الآية (79) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: «الذين غيّروا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبدلوا نعته» ، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه حسدا وبغيا، وقالوا: نجده طويلا أزرق، سبط الشعر. ونزلت الآية (80) كما قال ابن عباس: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلى قوله خالِدُونَ. وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تحلة القسم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية «1» التفسير والبيان: الهلاك والعذاب الشديد أو العقوبة العظيمة لمن حرفوا التوراة، وكتبوا الآيات المحرفة بأيديهم، وغيّروا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي كانت مكتوبة عندهم في التوراة، والعذاب أيضا لهم لأخذ الرشوة وفعلهم المعاصي، ونسبتهم الافتراءات إلى الله تعالى، ليأخذوا بهذا الكذب أو الافتراء ثمنا دنيويا حقيرا من مال أو رياسة أو جاه، فويل لهم مما كسبوا، لأنه كانت لليهود جنايات ثلاث: تغيير

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 14، للسيوطي بهامش الجلالين: ص 17- 18، تفسير الطبري: 1/ 302 وما بعدها، تفسير القرطبي: 2/ 10

صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددوا على كل جناية بالويل والهلاك. ومن مزاعم اليهود: ادعاؤهم أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة، هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، وأكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام فقط، لأن عمر الدنيا في زعمهم سبعة آلاف سنة، فمن عذب في النار ولم يحظ بالنجاة، يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم. فرد الله عليهم: هل عهد بذلك ربكم إليكم، ووعدكم به وعدا حقا، فلن يخلف الله وعده، أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به؟ أي أن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن عهد من الله، أو افتراء وتقوّل عليه، وبما أنه لم يحدث العهد من الله وهو الوحي والخبر الصادق، فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون حين تدعون أنكم أبناء الله وأحباؤه. وقد أكدت السّنّة دعواهم في النجاة من النار بعد أيام قليلة. روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن الليث بن سعد، والحافظ بن مردويه والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شاة فيها سمّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجمعوا لي من كان من اليهود هنا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أبوكم؟ قالوا: فلان، قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت. ثم قال لهم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اخسؤوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا. ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرّك» .

ليس الأمر أيها اليهود كما زعمتم أو تمنيتم واشتهيتم، بل أو بلى ستخلدون في نار جهنم بسبب ارتكاب المعاصي التي أحاطت بكم، كالكفر، وقتل الأنبياء بغير حق، وعصيان أوامر الله، والاسترسال في الأهواء والافتراءات. وقد علمنا أن بلى: لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق، ومعناه إبطاله وإنكاره. والكسب: جلب النفع، واستعماله هنا في السيئة من باب التهكم. والسيئة: الفاحشة الموجبة للنار، والمراد بها هنا: الشرك بالله. وسبب الخلود في النار: هو ما تضمنه القانون العام لكل الخلائق في شرع الله: أن من اقترف خطيئة غمرت جميع جوانبه من قلبه ولسانه وأعضائه، وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهو من أهل النار. وأما من آمن (صدق) بالله ورسله واليوم الآخر، وعمل صالحا، فأدى الواجب، وترك الحرام، فهو من أهل الجنة. قال ابن عباس: «من آمن بما كفرتم، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة، خالدين فيها» يخبرهم أن الثواب بالخير، والشر مقيم على أهله أبدا، لا انقطاع له. وكل من الجزاءين المذكورين: وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين، شبيه بقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ، وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء 4/ 123- 124] . لكن من تاب من العصاة توبة نصوحا، فأقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم على ألا يعود لمثله في المستقبل، تبدل حاله من أهل النار إلى أهل الجنة. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل

فقه الحياة أو الأحكام:

قلبه. وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] » . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب لهم مثلا، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، فأنضجوا ما قذفوا فيها. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآية (79) والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدل وغيّر أو ابتدع في دين الله ما ليس منه، فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، وقد حذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمته، لما قد علم ما يكون في آخر الزمان، فقال: «ألا، إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» الحديث. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه، فيضلّوا به الناس. وأبانت الآية (79) أن كل عوض- وإن كثر- عن تحريف كتاب الله، لا بركة فيه ولا خير، فقد وصف الله تعالى ما يأخذه أحبار اليهود بالقلة إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم: ربعة أسمر، فجعلوه: آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النّبي الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبهه نعت هذا. ودلت الآية (81) : بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ على أن

مخالفة اليهود المواثيق [سورة البقرة (2) آية 83] :

المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصّلت 41/ 30] . والخلود في النار: سببه الشرك بالله. وأرشدت الآية (82) إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح معا، كما ر وى مسلم «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي، وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم» . والجمع بين الآيتين المذكورتين (81، 82) هو منهج القرآن الكريم في البيان، فإن الله سبحانه يقرن عادة بين الوعد والوعيد، ويذكر أهل الخير وأهل الشر، وأصحاب الجنة وأصحاب النار، لما تقتضيه الحكمة، وإرشاد العباد، بالترغيب مرة والترهيب أخرى، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر: إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال. مخالفة اليهود المواثيق [سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) الإعراب: لا تَعْبُدُونَ مرفوع لأنه جواب لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا ... لأنه في معنى القسم، بمنزلة والله، فكأنه قال: استحلفناهم لا يعبدون، كما يقال: حلف فلان لا يقوم، أو لأنه في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم غير عابدين إلا الله، ومثل ذلك لا تَسْفِكُونَ. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إما معطوف على الباء المحذوفة وأن في قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ أو في موضع نصب

البلاغة:

بفعل مقدر، وتقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وقوله: (إِحْساناً إما منصوب على المصدر بالفعل المقدر الذي تعلق به الجار والمجرور في قوله: بِالْوالِدَيْنِ وتقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، أو منصوب، لأنه مفعول فعل مقدر، وتقديره: واستوصوا بالوالدين إحسانا. حُسْناً مفعول به منصوب لفعل: قولوا، وتقديره: قولوا قولا ذا حسن، أو صفة لمصدر محذوف، وتقديره: قولا حسنا إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء الموجب من ضمير تَوَلَّيْتُمْ. البلاغة: لا تَعْبُدُونَ خبر في معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، لأن حق المنهي عنه المبادرة إلى تركه، فكأنه انتهى عنه، وجاء بصيغة الخبر. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وقع المصدر موقع الصفة، أي قولا حسنا أو ذا حسن للمبالغة، فإن العرب تضع المصدر مكان اسم الفاعل أو الصفة بقصد المبالغة، فيقولون: هو عدل. المفردات اللغوية: وَإِذْ واذكر إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة، علما بأن العهد نوعان: عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة، وهذا هو المراد هنا. لا تَعْبُدُونَ خبر بمعنى النهي. إِحْساناً تحسنون إلى الوالدين إحسانا، أي برا. وَذِي الْقُرْبى صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. حُسْناً أي وقولوا للناس قولا حسنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في شأن محمد، والرفق بهم. تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الوفاء به، فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب، والمراد: آباؤهم وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عنه كآبائكم. المناسبة: تنوع الأسلوب القرآني في معالجة مساوئ اليهود وقبائحهم، وترويضهم، ونقلهم إلى حال أفضل من حالهم في الماضي والحاضر، ففي الآيات السابقة عدّد الله النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق، وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم ما يحدث إثر كل نعمة من مخالفة، فعقوبة، فتوبة.

التفسير والبيان:

ثم تذكّرهم هذه الآية بالعهد الذي أخذه الله على آبائهم بالعمل بما أمروا به من عبادات ومعاملات، ثم إهمالهم له، وتركهم اتباعه. وهذا كله ليبين الله لرسوله انقطاع الأمل في إيمان اليهود المعاصرين له، لأنهم يتوارثون عادة التطبع بقبائح أسلافهم، فهي تمنعهم من الهدى والرشاد التفسير والبيان: اذكر أيها النّبي حين أخذنا الميثاق على بني إسرائيل، أنهم لا يعبدون إلا الله سبحانه، فلا يشركون به سواه من ملك أو صنم أو بشر بدعاء أو غيره من أنواع العبادات، وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا، بأن يرعوهما حق الرعاية، ويعطفوا عليهما، ويطيعوهما فيما لا يخالف أوامر الله، وقد جاء في التوراة: أن من يسب والديه يقتل، وأن يحسنوا بالمال إلى ذي القرابة والأيتام والمساكين بسبب ضعفهم وعجزهم وحاجتهم، وأن يقولوا قولا حسنا لا إثم فيه ولا شر، بالقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع حفض الجناح ولين الجانب، وأن يؤدوا صلاتهم أداء تاما، لأن الصلاة تصلح النفوس، وتهذب الطباع وتحليها بأنواع الفضائل، وتمنعها عن الرذائل، وأن يؤتوا الزكاة للفقراء، لما فيها من تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس، وإسعاد الفرد والجماعة، وإشاعة الرفاه والهناءة للجميع. ولكن اليهود الذين اعتادوا الغدر، واستماتوا في حب المادة، أعرضوا قصدا وعمدا عن تنفيذ الأوامر الإلهية، وعن العمل بالميثاق، والخلف منهم معرض عن التوراة مثل السلف، ما عدا نفرا قليلا منهم مثل عبد الله بن سلام وأشباهه من المخلصين العقلاء، المحافظين على الحق بقدر الطاقة، لكن وجود القلائل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعم البلاء، كما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن الأمور التي ذكّر الله بها بني إسرائيل في هذه الآية، أمر بها جميع الخلق، ولذلك خلقهم، وهي تكوّن النظام الديني والأخلاقي والاجتماعي، وجاء الترتيب في الآية بتقديم الأهم فالأهم، فقدم حق الله تعالى لأنه المنعم في الحقيقة على حق العباد، ثم ذكر الوالدين لحقهما في تربية الولد، ثم القرابة، لأن فيهم صلة الرحم، ثم اليتامى لقصورهم، ثم المساكين لضعفهم، وهي تشمل ما يلي: 1- عبادة الله وحده لا شريك له: فهي برهان الاعتقاد الصحيح ودليل الإيمان من جميع الناس، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] . وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . قال ابن كثير: وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له. والمراد بقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ كما قال الزمخشري الطلب، فهو خبر بمعنى الطلب، وهو آكد. 2- الإحسان إلى الوالدين: هذا يأتي بعد حق الله، فإن آكد حقوق المخلوقين، وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه بالتوحيد وحق الوالدين، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني- وهو التربية- من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره، فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان 31/ 14] وقال: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] . والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودّهما. وفي الصحيحين عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي العمل

أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» . وجاء في الحديث الصحيح: «أن رجلا قال: يا رسول الله؟ من أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم أدناك أدناك» . والحكمة في بر الوالدين واضحة: وهي المعاملة بالمثل ومقابلة المعروف بمثله، والوفاء للمحسن، كما قال تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن 55/ 60] فهما بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشؤونه، فيجب على الولد مكافأتهما على صنعهما. 3- الإحسان إلى ذي القربى: أي القرابة، عطف ذي القربى على الوالدين، وهو يدل على أن الله تعالى أمر بالإحسان إلى القرابات بصلة الأرحام، لأن الإحسان إليهم مما يقوم الروابط بينهم، فما الأمة إلا مجموعة الأسر، فصلاحها بصلاحها، وفسادها بفسادها. ولا يعرف فضل الأسرة إلا في وقت الشدة والكوارث، فعندها يظهر التعاطف والتعاون وترميم الأضرار، وإزالة العثرات. 4- الإحسان إلى اليتامى: وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء. والإحسان إلى اليتيم: بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، وقد ملئ الكتاب والسنة بالوصية به والرأفة به والحض على كفالته وحفظ ماله، من ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى. 5- الإحسان إلى المساكين: وهم الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم، وقد أمر الله بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم، وذلك يكون بالصدقة عليهم، ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن

أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر» قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله. 6- الكلام الطيب، ولين الجانب، وإظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع في الدين والدنيا كالحلم والصفح والعفو والبشاشة. وذلك لأن إحسان القول له تأثير فعال في النفوس، وبه يتم التكافل الأدبي أو الأخلاقي بين الناس، فإنه سبحانه عبر بقوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ ولم يقل لإخوانكم، ليدل على أن الأمر بالإحسان عام لجميع الناس. روى الإمام أحمد عن أبي ذر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، وإن لم تجد، فالق أخاك بوجه منطلق» . وبهذه الفضيلة وهي القول الحسن بعد الأمر بالإحسان الفعلي إلى الناس، يجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي. 7- إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: الصلاة عماد الدين، وطريق التقوى، وهمزة الصلة بالله، وسبيل التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، ولكن بشرط الإخلاص والخشوع التام لعظمة الله وسلطانه. وأما إيتاء الزكاة فضروري لإصلاح شؤون المجتمع. لكنّ كلا من الصلاة والزكاة لم يثبت فيهما عن أهل الكتاب نقل صحيح يدل على كيفيتهما ونوعهما، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.

بعض حالات مخالفة اليهود الميثاق [سورة البقرة (2) الآيات 84 إلى 86] :

بعض حالات مخالفة اليهود الميثاق [سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الإعراب: ثُمَّ أَنْتُمْ ... أنتم مبتدأ، وهؤُلاءِ خبره وتَقْتُلُونَ جملة فعلية حال من «أولاء» . وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى أسارى: حال من ضمير الفاعل في يَأْتُوكُمْ وأسارى على وزن فعالى، وأكثر ما يجيء «فعالى» في جمع فعلان نحو سكران وكسلان، ولما كان الأسير محبوسا عن التصرف في الأمور أشبه السكران والكسلان، لأنهما كالمحبوسين عن التصرف لاستيلاء السكر والكسل عليهما. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ هو: أي الإخراج الذي دل عليه قوله: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مبتدأ، ومُحَرَّمٌ خبره، وإِخْراجُهُمْ بدل من هُوَ ويصح جعل هُوَ ضمير الشأن، وهو مبتدأ أول، وإخراجهم مبتدأ ثان، ومحرم: خبر مقدم، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول ومفسرة له، وتكون جملة: هو والخبر اعتراضية فَما جَزاءُ.. ما: استفهامية: أي، أي شيء جزاء من يفعل ذلك منكم، وفَما مبتدأ، وجَزاءُ خبره، وخِزْيٌ بدل من جزاء. يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف زمان منصوب، وعامله ما بعده وهو يُرَدُّونَ.

البلاغة:

البلاغة: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي بعضكم، ومن قتل غيره فكأنما قتل نفسه، فهو مجاز. أَفَتُؤْمِنُونَ استفهام إنكاري للتوبيخ. خِزْيٌ تنكيره للتفخيم والتهويل. المفردات اللغوية: تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ تريقونها بقتل بعضكم بعضا. وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا من داره. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ قبلتم ذلك الميثاق. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنفسكم. تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يقتل بعضكم بعضا. تَظاهَرُونَ تتظاهرون أي تتعاونون عليهم. بِالْإِثْمِ بالمعصية أو الذنب: وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم. وَالْعُدْوانِ الظلم والاعتداء. أُسارى أسرى جمع أسير، أي مأسورين. تُفادُوهُمْ تنقذوهم من الأسر بالفداء من مال أو غيره، وهو مما عهد إليهم. خِزْيٌ هوان وذل. اشْتَرَوُا استبدلوا. المناسبة التاريخية المتجددة: كان سفك الدماء وتقاتل اليهود وطرد بعضهم بعضا من ديارهم ظاهرة شائعة فيهم، وظللت هذه الظاهرة إلى عصر التنزيل القرآني، فكان يهود بني قريظة حالفوا الأوس، ويهود بني النضير حالفوا الخزرج، فإذا نشبت الحرب بينهم، كان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، فيقتل اليهودي يهوديا آخر، ويخرب بعضهم ديار بعض، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمال، مع أن ذلك محرم عليهم بنص التوراة، وإذا أسر بعضهم فدوهم بالمال، وكانوا إذا سئلوا، لم تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: أمرنا- أي في التوراة- بالفداء، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياء أن تستذل حلفاؤنا، فأنزل الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ «1»

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 121

التفسير والبيان:

وكانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام بأهم الأوامر التي أمروا بها من عبادة الله وحده والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى وغير ذلك، أما هذه الآيات فكانت للتذكير بأهم المنهيات التي خطرت عليهم، والخطاب للحاضرين في عصر النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو دليل على تضامن الأمة، وأنها كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. التفسير والبيان: واذكر يا محمد لليهود وقت أخذنا عليهم في التوراة العهد بأن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه. وفي تعبير «دماءكم، وأنفسكم، ودياركم» إشارة إلى أن دم غيره من المجتمع كدم نفسه، فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وهو ما تقرره الآية (32) من سورة المائدة. ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على أسلافكم، ولم تنكروه، فالحجة قائمة عليكم. ثم أنتم بعد الاعتراف بالميثاق تنقضون العهد، فيقتل بعضكم بعضا، كما كان يفعل من قبلكم، فكانت بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكان يهود بني قريظة حلفاء الأوس يقاتلون يهود بني النضير حلفاء الخزرج، إذا تقاتل الأوس والخزرج، وكان مقتضى الاتفاق في الدين واللغة والنسب بين اليهود أن يكونوا جميعا صفا واحدا. وكذلك كان كل من اليهود يعاون حلفاءه على إخوانه اليهود بالإثم كالقتل والسلب والنهب، والعدوان كالإخراج من الديار. وكانوا إذا تم الاتفاق على مفاداة الأسرى، يفدي بالمال كل فريق من اليهود أبناء جنسه، عملا بالكتاب

المقدس، مع أن السبب الذي أدى إلى الأسر وهو الطرد والإجلاء محرم عليكم في التوراة كتحريم القتل، فكيف تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون حكم مفاداة الأسرى، وتكفرون بالأحكام الأخرى، فترتكبون جرائم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء، علما بأن الإيمان بشيء لا يتجزأ، والكفر ببعضه كالكفر بكله؟ فمن آمن ببعض التوراة، وكفر ببعضها الآخر، ليس له جزاء على هذا الفعل المتناقض المستهجن إلا ذل وهوان في الدنيا، وعذاب أليم دائم في الآخرة، وما الله بغافل عن عمل إنسان، فهو يجازيه على سيئاته. ثم قررت الآيات حكما عاما لأولئك اليهود وغيرهم: وهو أن من آثروا الحياة الدنيا كالزعامة الفارغة وأخذ المال، على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم بتقديم حظوظهم العاجلة الفانية على حظوظهم الدائمة الخالدة، وبترك أوامر الله في كتابه، فلا يخفف عنهم العذاب الأخروي، ولا يفتر عنهم ساعة واحدة، ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة، فلا شافع يشفع بهم، ولا ولي يدفع عنهم العقاب في جهنم، لأن خطاياهم كثيرة، أحاطت بهم، فحجبتهم عن الرحمة الإلهية، وأبعدتهم عن الفيض الإلهي. وهكذا كل أمة ذات دين، تؤدي بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج، وتخالف أحكامه الأخرى، فلم تؤد الزكاة وامتنع الأغنياء عن أداء حقوق الفقراء، وشاع فيها الربا والزنا والسرقة والرشوة والبغي والظلم، وأهملت الأسس التي يقوم عليها بنيان النظام الحكومي من العدل، والمساواة، والشورى، والجهاد في سبيل الله ونصرة المؤمنين المستضعفين، فإنها معرّضة للخزي (الهوان) في الدنيا، والعذاب في نار جهنم في الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين المخلصين، والإخلال بالعهد من صفات الكافرين والمنافقين، ومن ألزم العهود والمواثيق الواجب تنفيذها واحترامها هو عهد الله، فمن أخل به ولم يرع جميع بنوده وأحكامه، استحق العقاب والتوبيخ والاستهجان. وفي تعبير القرآن عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب، ولا يبالي بنهي الله، فهو كافر به. وإن تجزئة أحكام الله، بأخذ بعضها وقبوله، ورفض بعضها والإعراض عنه، كفر بجميع الأحكام الإلهية. قال العلماء: كان الله تعالى قد أخذ على اليهود أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى، فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وهو التوراة وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ «1» . وقد أكدت شريعتنا حكم فداء الأسارى وأنه واجب، قال علماء المالكية وغيرهم: فداء الأسرى واجب، وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فك الأسارى وأمر بفكّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين، وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 22 (2) المرجع والمكان السابق، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 40

موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة [سورة البقرة (2) الآيات 87 إلى 89] :

موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 89] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) الإعراب: أَفَكُلَّما الهمزة استفهام بمعنى التوبيخ، والفاء: حرف عطف، و «كلما» ظرف زمان يفيد التكرار، ويقتضي الجواب، والعامل فيه جوابه وهو اسْتَكْبَرْتُمْ. فَفَرِيقاً منصوب بكذبتم وَفَرِيقاً الثاني منصوب بتقتلون. وإنما تقدم المفعول للاهتمام به، وإنما قال: تَقْتُلُونَ ولم يقل «قتلتم» مثل كَذَّبْتُمْ مراعاة لفواصل الآيات. قُلُوبُنا غُلْفٌ مبتدأ وخبر. فَقَلِيلًا منصوب لأنه صفة مصدر محذوف، وما زائدة. وتقديره: فإيمانا قليلا يؤمنون. والمراد بالقلة هنا النفي، مثل قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [الأعراف 7/ 10] أي لا يشكرون أصلا. وَلَمَّا ظرف زمان مبني إما لأنه أشبه معنى الحرف، أو لأنه تضمن معنى الحرف. وجواب «لما» في رأي البصريين محذوف تقديره: نبذوه أو كفروا به، وفي رأي الكوفيين: مذكور، وهو الفاء في قوله فَلَمَّا وكرر «لما» لطول الكلام. البلاغة: تقديم المفعول وهو «فريقا كذبتم» و «فريقا تقتلون» للاهتمام به وتشويق السامع إلى

المفردات اللغوية:

ما بعده. وإنما قال: تَقْتُلُونَ ولم يقل «قتلتم» لتطابق «كذبتم» لأجل الفواصل، فإن فواصل الآيات كرؤوس الأبيات، ولأن المضارع يستعمل في الماضي الذي بلغ من الغرابة مبلغا عظيما، كأن صورة قتل الأنبياء ماثلة أمام السامع ينظر إليها. عَلَى الْكافِرِينَ ولم يقل «عليهم» : وضع الظاهر مكان الضمير، ليبين أن سبب اللعنة هو كفرهم. المفردات اللغوية: الْكِتابَ التوراة. وَقَفَّيْنا أتبعناهم رسولا إثر رسول على منهاج واحد. وعِيسَى بالسريانية: يسوع، ومعناه السيد أو المبارك، ومَرْيَمَ بالعبرية: الخادم، لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس. الْبَيِّناتِ المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وَأَيَّدْناهُ قويناه. بِرُوحِ الْقُدُسِ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الروح المطهرة المقدسة: جبريل عليه السّلام، لطهارته، ينزل على الأنبياء ويقدس نفوسهم ويزكيها، قال الحسن البصري: «إنما سمي جبريل (روح القدس) لأن القدس هو الله، وروحه جبريل، فالإضافة للتشريف» ، قال الرازي: «ومما يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى [في سورة النحل 16/ 102] : قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» «1» ويطلق عليه الروح الأمين كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 193- 195] . تَهْوى تحب. اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن اتباعه. تَقْتُلُونَ يراد به حكاية الحال الماضية، أي قتلتم كزكريا ويحيى عليهما السّلام. غُلْفٌ عليها أغشية وأغطية، فلا تعي ما تقول. بَلْ للإضراب. لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول. بِكُفْرِهِمْ أي ليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم. ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة، لتأكيد القلة، أي إيمانهم قليل جدا، أو معدوم. مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة، والكتاب هو القرآن. يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون ببعثته صلّى الله عليه وسلّم على الكفار، يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان. ما عَرَفُوا من الحق، وهو بعثة النّبي. كَفَرُوا بِهِ حسدا وخوفا على الزعامة أو الرياسة. سبب نزول الآية (89) : قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود

_ (1) محاسن التأويل للقاسمي: 2/ 186 [.....]

التفسير والبيان:

خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: «اللهم إنا نسألك بحق محمد النّبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم» فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بعث النّبي صلّى الله عليه وسلّم كفروا به، فأنزل الله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد، إلى قوله: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود: اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة 2/ 89] . وقال السدي: «كانت العرب تمرّ بيهود، فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أنه يبعثه الله، فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل» «2» . التفسير والبيان: اليهود قساة القلوب، عبدة المصالح المادية، والأهواء الذاتية، فتجددت فيهم الإنذارات الإلهية، وأرسلت إليهم الرسل، بعضهم إثر بعض، فكان

_ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن ابن عباس. (2) أسباب النزول للواحدي: ص 15، أسباب النزول للسيوطي: ص 19 وما بعدها.

بنو إسرائيل أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، ومع ذلك كانوا ينسون الإنذارات، ويحرفون الشرائع، ويتبعون أهواءهم، ويعصون رسلهم، إما بالتكذيب وإما بالقتل. وهذه الآيات تذكير لهم بإعطاء موسى التوراة، وإتباعه بالرسل: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون 23/ 44] وهم يوشع وداود وسليمان وعزير وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام، وكانوا كلهم يحكمون بشريعة موسى، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.. الآية [المائدة 5/ 44] إلا أن عيسى جاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات- وهي المعجزات كإحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها، فتكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السّلام- ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في بعض الأحكام، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران 3/ 50] . وكانت النتيجة أنه كلما جاءهم رسول بما لا تميل إليه نفوسهم، وهي لا تميل إلى الخير دائما، كفروا به واستكبروا عليه تجبرا وبغيا، فمنهم من كذبوه كعيسى ومحمد عليهما السّلام، ومنهم من قتلوه كزكريا ويحيى عليهما السّلام، فلا غرابة بعدئذ إن لم يؤمنوا بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن العناد من طبعهم. والخطاب لجميع اليهود، لأنهم فعلوا ذلك في الماضي ورضي عنهم أولادهم. ومن قبائحهم قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قلوبنا عليها غشاء، فلا تعي ما تقوله، ولا تفقه ما تتكلم به، فيرد الله عليهم: لستم كذلك، فقلوبكم خلقت مستعدة بالفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله أبعدكم من رحمته، بسبب كفركم

فقه الحياة أو الأحكام:

بالأنبياء وعصيانكم التوراة. ولم يظلمهم الله بهذا الإبعاد أو الطرد من رحمته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فإيمانهم قليل جدا، فهم آمنوا ببعض الكتاب، وتركوا العمل بالبعض الآخر أو حرفوه، أو أنهم لم يؤمنوا أصلا. وكان عندهم وصف النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان زمانه، وكانوا يستنصرون به على المشركين ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة. فلما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، مصدق لما معهم من التوراة، ومؤكد وصف النّبي المعروف عندهم، كفروا به حسدا للعرب، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، واستكبروا عن قبول دعوته وإجابته احتقارا للرسل، وهم يعلمون أنه رسول الله، وآثروا الدنيا على الآخرة، فلعنة الله على كلّ كافر من اليهود وغيرهم، لأنه كفر بدعوة الإسلام. فقه الحياة أو الأحكام: هذه صورة واضحة تبين موقف فئة من البشر من الأحكام الإلهية، فمن أعرض عنها، وجحد بها، واستكبر عن قبولها، كان مصيره المحقق المنتظر هو استحقاق العذاب والطرد من رحمة الله تعالى. وهذا الحشد المتتابع من الرسل الذين جاؤوا لبني إسرائيل يدلّ على مزيد العناية الإلهية بأعتى البشر، وتمكينه من العودة إلى طريق الحق، فإذا عوقب ذلك العاتي المستكبر، كان عقابه حقا وعدلا. والله تعالى منزّه عن ظلم أحد، ففي قوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة 2/ 88] بيان السبب في نفورهم عن الإيمان، وهو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه.

كفرهم بما أنزل الله وقتلهم الأنبياء [سورة البقرة (2) الآيات 90 إلى 91] :

وكل ما ذكر من أخبار اليهود وإظهار قبائحهم وتقريعهم على ظلمهم وكفرهم واطلاع النّبي على ما كانوا يكتمونه من شريعة التوراة، فيه دلالة على نبوته عليه السّلام. كفرهم بما أنزل الله وقتلهم الأنبياء [سورة البقرة (2) : الآيات 90 الى 91] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) الإعراب: «ما» في بئسما: إما نكرة موصوفة على التمييز بمعنى شيء، والتقدير: بئس الشيء شيئا، واشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ صفته، وإما بمعنى الذي في موضع رفع، و «اشتروا به» صلته، وتقديره: بئس الذي اشتروا به أنفسهم، وأَنْ يَكْفُرُوا في تقدير المصدر، وهو المقصود بالذم، وهو في موضع رفع لوجهين: أن يكون مبتدأ وما تقدم خبره، أو أن يكون خبر مبتدأ محذوف وتقديره: هو أن يكفروا، أي كفرهم. وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً نصب مصدقا على الحال من الحق، والعامل في الحال معنى الجملة، وهذه الحال حال مؤكدة، فالحق لا يجوز أن يفارق التصديق لكتب الله عز وجل، ولو فارق التصديق لها لخرجت عن أن تكون حقا. البلاغة: عَذابٌ مُهِينٌ أسندت الإهانة إلى العذاب من قبيل إسناد الأفعال إلى أسبابها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ باعوها، لأن «اشترى» بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن. بَغْياً مفعول لأجله ليكفروا، أي حسدا. فَباؤُ رجعوا. بِغَضَبٍ الغضب أشد من اللعن، والتنكير للتعظيم، والمعنى: فرجعوا وانقلبوا متلبسين بالغضب. وَيَكْفُرُونَ الواو للحال. بِما وَراءَهُ سواه أو بعده من القرآن. وَهُوَ الْحَقُّ حال. مُصَدِّقاً حال ثانية مؤكدة. فَلِمَ تَقْتُلُونَ قتلتم، والخطاب للموجودين في زمن نبيّنا بما فعل آباؤهم، لرضاهم به. التفسير والبيان: يعلم اليهود المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه النّبي المبشر به في التوراة: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة 2/ 146] ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا، فعقب الله على موقفهم بذمهم ذما شديدا، باختيارهم الكفر على الإيمان، وبذل أنفسهم فيه، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع، وكانت علة كفرهم محض العناد الذي هو نتيجة الحسد، وخوف ضياع الزعامة والمال من أيديهم، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده، فأصبحت عاقبتهم أنهم قد رجعوا بغضب من الله جديد لكفرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، بعد كفرهم بموسى عليه السّلام وبمن جاء بعده من الأنبياء. ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلهم الخزي وسوء الحال، وأما في الآخرة فلهم الخلود في نار جهنم. وإذا قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليهود المدينة: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله، قالوا: إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة، ونكفر بما سواه وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شك فيه. فيرد الله عليهم: إن القرآن هو الحق من عند الله المصدق للتوراة التي معكم، وكلاهما من عند الله، فكيف

فقه الحياة أو الأحكام:

تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها؟ بل إنكم لم تؤمنوا بالتوراة التي فيها تحريم القتل، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق، فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟! وقد نسب القتل إلى معاصري النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم الغابرين، فأقروهم على القتل وغيره، ولم يعدوه مخالفة أو معصية، وفاعل الكفر ومجيزه سواء، وطبع السوء ينتقل في الذرية، وهم متضامنون متكافلون، مصرون على إقرار أفعال السلف. فإن لم يوجد إقرار أو رضا، فلا إثم على الأبناء، لأن كل نفس مسئولة عن حالها، ولا تزر وازرة وزر أخرى. فقه الحياة أو الأحكام: ليس من العقل السليم، بل ولا من المصلحة الحقيقية للإنسان أن يؤثر الفاني على الباقي، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمين، لأن دوام الخير وبقاء النعمة أصون للمنفعة، وأكرم للنفس، لذا ندد القرآن بأفعال اليهود، مقررا: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم، حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالإيمان. وإذ لم يؤمن اليهود إيمانا كاملا بالتوراة التي أنزلها الله على نبيهم موسى عليه السّلام، فلا أمل في إيمانهم بالقرآن. وإن استمرارهم في طريق الكفر قديما وحديثا، بعبادتهم العجل، وإعنات موسى وكفرهم به، وتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وكفرهم بالقرآن، يبوئهم العذاب المهين: وهو ما اقتضى الخلود الدائم في نار جهنم. أما تعذيب عصاة المؤمنين في النار فهو مؤقت، وتمحيص لهم وتطهير، كما يطهر المذنب في الدنيا بالعقاب، مثل رجم الزاني وقطع يد السارق.

تكذيب ادعائهم الإيمان بالتوراة [سورة البقرة (2) الآيات 92 إلى 93] :

تكذيب ادعائهم الإيمان بالتوراة [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) الإعراب: وَلَقَدْ جاءَكُمْ اللام لام القسم. وَاسْمَعُوا المراد به سماع تدبر وطاعة والتزام، لا مجرد إدراك القول، فهو مؤكد لقوله: خُذُوا.... البلاغة: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي حبّ العجل، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [يوسف 12/ 82] أي أهل القرية وأهل العير. وفي قوله أُشْرِبُوا استعارة مكنية، شبّه حب عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإشراب. بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بالتوراة، لأنه ليس في التوراة عبادة العجول، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود 11/ 87] وكذلك إضافة الإيمان إليهم. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له (الكشاف: 1/ 227) . المفردات اللغوية: «البينات» المعجزات كالعصا واليد وفلق البحر. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ جعلتموه إلها معبودا. مِنْ بَعْدِهِ من بعد ذهابه إلى الميقات. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ باتخاذه.

التفسير والبيان:

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ على العمل بما في التوراة. الطُّورَ الجبل. بِقُوَّةٍ بجد واجتهاد. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ خالط حبّ العجل قلوبهم، كما يخالط الشراب الجسد. بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بئس شيئا، يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة، كما زعمتم، والمعنى: لستم بمؤمنين بالتوراة، وقد كذبتم محمدا، والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه. التفسير والبيان: لقد كفر اليهود بالنعم التي أنعم الله بها عليهم كما بان في الآيات السابقة والتي كانت في أرض الميعاد، وكفروا أيضا بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات التي جاء بها موسى، والتي تدل على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والآيات البينات: هي التي حدثت قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وهي تسع كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء 17/ 101] ، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر والسّنون. ولم تزدهم تلك الآيات إلا توغلا في الشرك والوثنية، ولم يشكروا نعم الله عليهم، وقابلوها باتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، والعجل: هو الذي صنعه لهم السامري من حليّهم، وجعلوه إلها وعبدوه. وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل في هدايتهم، وهو ظلم ووضع للشيء في غير موضعه اللائق به، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله؟ واذكر يا محمد وقت أن أخذ عليهم الميثاق بأن يعملوا بما في التوراة ويأخذوا بما فيها بقوة، فخالفوا الميثاق وأعرضوا عنه، حتى رفع الطور عليهم إرهابا لهم، فقبلوه، ثم خالفوه وكأنهم قالوا: سمعنا وعصينا، ثم أوغلوا في المخالفة ووقعوا في الشرك، واتخذوا العجل إلها، وخالط حبه قلوبهم، وتمكن الحب الشديد لعبادة العجل في نفوسهم، بسبب ما كانوا عليه من الوثنية في مصر. قل يا محمد لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين: إن

فقه الحياة أو الأحكام:

كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا، فبئس هذا الإيمان الذي يوجه إلى هذه الأعمال التي تفعلونها، مثل عبادة العجل، وقتل الأنبياء، ونقض الميثاق. وهاتان الآيتان ردّ على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، وزعموا أنهم مؤمنون بالتوراة دون غيرها، فهم في الواقع لم يؤمنوا بشيء، لا بالتوراة ولا بالقرآن، فاستحقوا التوبيخ والتقريع. فقه الحياة أو الأحكام: إن الإيمان الصحيح بشيء هو الذي يدعو إلى الانسجام التام مع مقتضيات ذلك الإيمان، فمن آمن بالتوراة بحق، وجب عليه العمل بما فيها، والتزام أوامرها، واجتناب نواهيها، وهذا يدعوه أيضا إلى الإيمان بكل ما يؤيدها ويؤكدها ويقرر مضمونها، وقد جاء القرآن مصدقا لما في التوراة، فلزم الإيمان به، واتباع هديه. أما اليهود في الماضي وفي عصر النّبوة فعجيب أمرهم، يدّعون الإيمان بالتوراة، وهي التي ترشد إلى توحيد الإله وعبادته، ثم يعبدون العجل ويتخذونه إلها، ويكفرون بآيات الله، ويخالفون الأنبياء، ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أكبر الذنوب وأشد الأمور عليهم، إذ كفروا بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس جميعا. فكيف يدّعون الإيمان لأنفسهم، وقد فعلوا هذه الأفاعيل القبيحة من نقض الميثاق، والكفر بآيات الله، وعبادة العجل من دون الله؟. ومع ذلك عفا الله عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل، كما سبق في تعداد نعم الله عليهم.

حرص اليهود على الحياة [سورة البقرة (2) الآيات 94 إلى 96] :

حرص اليهود على الحياة [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) الإعراب: خالِصَةً إما خبر كان، أو حال من الدَّارُ ويجعل عِنْدَ اللَّهِ خبر كان. أَحَدُهُمْ الضمير يعود على اليهود وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ هو: ضمير مرفوع منفصل اسم «ما» وهو كناية عن أحد، وأَنْ يُعَمَّرَ في موضع رفع فاعل مزحزح كأنه قال: ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره. البلاغة: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أتى هنا بلن وفي سورة الجمعة بلا لأن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك، فإنهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس. عَلى حَياةٍ التنكير للتنبيه على أنها حياة مخصوصة وهي التي يعمر فيها الشخص آلاف السنين. المفردات اللغوية: خالِصَةً خاصة بكم. أَحْرَصَ النَّاسِ الحرص: الطلب بشره عَلى حَياةٍ أي على طول العمر، لما يعلمون من مآلهم السيء، وعاقبتهم عند الله الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. لَوْ يُعَمَّرُ لو يطول عمره بِمُزَحْزِحِهِ مبعده.

سبب نزول الآية (94) :

سبب نزول الآية (94) : أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، فأنزل الله: قُلْ: إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً.. [البقرة 2/ 94] . التفسير والبيان: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لليهود: إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، وأنكم شعب الله المختار، فاطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك، ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. قال ابن عباس: «ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» . وروي عن ابن عباس أن المراد: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب منا ومنكم، فأبوا ذلك وما دعوا، لعلمهم بكذبهم. قال ابن كثير: هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة. والقول بتمني الموت لا تظهر فيه الحجة عليهم، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود لو يعمر، ليزداد خيرا، وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث: «خيركم من طال عمره، وحسن عمله» «1» .

_ (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 127- 128

فقه الحياة أو الأحكام:

وعلى أي وجه أو حال: لن يتمنى الموت أحد منهم أبدا، بسبب ما اقترفوا من الكفر والفسوق والعصيان، كتحريف التوراة، وقتل الأنبياء والأبرياء، والكفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، مع البشارة به في كتابهم. والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها، وسيجازيهم على أعمالهم. ثم يقسم الله تعالى بذاته العلية «وتا لله» لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة، بل وأحرص من جميع الناس حتى الذين أشركوا بالله، ولم يؤمنوا بالبعث، فهؤلاء المشركون يفترض أن يكونوا أحرص الناس على الحياة، إذ هي الأولى والأخيرة عندهم، فمشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة، ولا علم لهم من الآخرة. ولكن اليهود الحريصين على الدنيا والمادة يتمنى أحدهم أن يعيش ألف سنة أو أكثر- والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة- لأنه يتوقع عقاب الله في الآخرة، فيرى أن الدنيا خير من الآخرة. وما بقاؤه في الدنيا- وإن طال- بمبعده عن أمر الله وتعذيبه بالعذاب الأليم، والله عليم بخفيات أعمالهم وبما يصدر منهم، وهو مجازيهم به ويعاقبهم عليه. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات امتحان لمعرفة صدق إيمان اليهود، ودحض دعاويهم الباطلة التي حكاها الله عز وجل في كتابه، كقوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة 2/ 80] وقوله: وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة 2/ 111] وقالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 101] وموضوع الامتحان تمني الموت ليحظوا بالسعادة الأبدية، وبذل أرواحهم في سبيل الله، والذود عن الدين وحرماته. ونتيجة الامتحان الإخفاق المحتم، لأن اليهود

موقف اليهود من جبريل والملائكة والرسل [سورة البقرة (2) الآيات 97 إلى 98] :

قوم ماديون يحبون البقاء في الدنيا، ويكرهون لقاء الله، فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، ويظلمون في قلق وحيرة واضطراب دائم وشك يخيفهم ويزعج أعماق نفوسهم. والآية الكريمة من المعجزات المتضمنة الإخبار بالغيب، الذي تحقق فعلا، فلم يقع منهم تمني الموت في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار» «1» . والله سبحانه وتعالى العليم الخبير بصير عالم بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمّر ألف سنة. قال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال. موقف اليهود من جبريل والملائكة والرسل [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) الإعراب: مَنْ شرطية مبتدأ، وجملة كان واسمها وخبرها: هي خبر المبتدأ. واسم كان ضمير تقديره هو، وعَدُوًّا الخبر. ولِجِبْرِيلَ ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة. وجواب مَنْ الشرطية قوله: فَإِنَّهُ والهاء فيه تعود إلى جبريل، ونَزَّلَهُ أي القرآن، لدلالة الحال عليه، مثل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الدخان 44/ 3] أي القرآن، ومثل كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 33. وفي بعض النسخ «ورأوا مقاعدهم»

البلاغة:

[الرحمن 55/ 26] أي الأرض، ومثل حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص 38/ 32] أي الشمس وإن لم يسبق له ذكر. مُصَدِّقاً حال منصوب من هاء نَزَّلَهُ وكذلك هُدىً وبُشْرى حال من هاء نَزَّلَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» أقام المظهر مقام المضمر، كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف 12/ 90] أي أجرهم. وجملة فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ.. جواب الشرط. البلاغة: نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ خص القلب بالذكر، لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف. وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ذكرا بعد الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام للتشريف والتنويه. فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ الجملة اسمية لزيادة التقبيح، لأنها تفيد الثبات. وأقام الظاهر مقام المضمر لبيان صفة الكفر وهو عداوتهم للملائكة. المفردات اللغوية: الْعَدُوُّ: ضد الصديق، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمثنى والجمع. وَهُدىً من الضلالة وَبُشْرى بالجنة. وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ عطف على الملائكة من عطف الخاص على العام فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل: لهم، بيانا لحالهم. سبب نزول الآية (97) : أخرج الترمذي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: للكافرين «1» . قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 36، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي، انظر أسباب النزول للسيوطي: ص 23، والواحدي: ص 15

هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله، قالوا ذلك. فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة، وما أخذ يعقوب على بنيه: لئن أنا حدثتكم عن شيء، فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا عما شئتم» قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن، أخبرنا: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا: كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم عهد الله، لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟» فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق. فأجابهم عن الأسئلة كلها، وحينما قال لهم: «إن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه» قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو في أرض (يخترف) فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهذه جبريل آنفا» قال: جبريل؟ قال: «نعم» ، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ. «أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما

أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة، نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت» . قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود: فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: «أرأيتم إن أسلم؟» . قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله «1» . قال ابن حجر في فتح الباري: ظاهر السياق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ الآية، ردا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة عبد الله بن سلام (السابقة) . وجاء في بعض الروايات: أن أحد علماء اليهود من أحبار فدك عبد الله بن صوريا سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال: هو جبريل، فقال ابن صوريا: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا به، وقد عادانا جبريل مرارا، ومن عداوته أن الله أمره أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وأنذر بخراب بيت المقدس. وميكال يجيء بالخصب والسلام. وفي رواية أن عمر بن الخطاب دخل مدراسهم «2» ، فذكر جبريل، فقالوا:

_ (1) تفسير الطبري 1/ 342 وما بعدها، تفسير ابن كثير: 1/ 129- 130 (2) المدراس: بيت تدرس فيه التوراة.

التفسير والبيان:

ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء. التفسير والبيان: قل أيها النبي لهم: من كان عدوّا لجبريل، فهو عدوّ لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها، فإن الله نزله بالوحي والقرآن على قلبك بإذن الله وأمره، والقرآن موافق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل الداعية إلى توحيد الله وأصول الأخلاق والعبادات، وهو هداية من الضلالات، وبشرى لمن آمن به بالجنة، فكيف يكون طريق الخير سببا للبغض والكراهية. ثم أكد الله سبحانه حكمه المبرم وهو من كان عدوّا لله بمخالفة أوامره، وعدم إطاعته، والكفر بما أنزله لهداية الناس، وعدوّا للملائكة بكراهة العمل بما ينزلون به من وحي ورسالة يبلغونها للناس، وعدوّا لرسل الله بتكذيبهم في دعوى الرسالة، مع وجود الأدلة على صدقهم، أو بقتل بعضهم كقتل زكريا ويحيى، وعدوّا لجبريل وميكائيل بادعاء أن الأول يأتي بالنذر، فإن الله عدوّ له ومجازيه على ذلك، لأنه كافر به ومعاد له، وظالم لنفسه، وتلك العداوة كفر صريح. فقه الحياة أو الأحكام: تعددت اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن، فقالوا سابقا: إنهم مؤمنون بالتوراة، كافرون بغيرها، وقالوا: إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأحباؤه، وقالوا هنا: إن جبريل أمين الوحي على محمد عدوهم، فلا يؤمنون بما جاء به. فأبطل الله تعالى مزاعمهم، وفند حججهم، وأظهر تناقضهم، وأبان لهم أن معاداة الله وملائكته ورسله سبب واضح قاطع لإنزال العقاب بهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا وعيد شديد، وتنديد بأن اليهود أعداء

كفرهم بالقرآن ونقضهم العهود [سورة البقرة (2) الآيات 99 إلى 101] :

الحق والرسالات الإلهية وأعداء القرآن وسائر الكتب السماوية، لأن معاداة أمين الوحي جبريل، ومعاداة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعاداة الكتب السماوية، معاداة لكل الملائكة وسائر الأنبياء والكتب، إذ إن المقصد منها واحد، وهو هداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، ولأن رسالة جميع الأنبياء واحدة، والغاية منها متحدة، فلا يصح التفريق بين الملائكة والرسل والكتب، وكلها من مصدر واحد، وتهدف خيرا مشتركا، وتدعو إلى توحيد الله، وعبادته، والالتزام بأصول الأخلاق والفضائل التي هي عنوان تقدم الفرد والجماعة. كفرهم بالقرآن ونقضهم العهود [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 101] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) الإعراب: بَيِّناتٍ حال. أَوَكُلَّما.. الهمزة استفهام بمعنى التوبيخ، والواو حرف عطف وكلما: نصب على الظرفية. كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ الكاف حرف تشبيه، لا موضع لها من الإعراب، وموضع الجملة رفع وصف لفريق.

البلاغة:

البلاغة: رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ التنكير للتفخيم، ووصف الرسول بأنه آت من عند الله لإفادة مزيد التعظيم وَراءَ ظُهُورِهِمْ مثل يضرب للإعراض عن الشيء، فهو كناية عن الإعراض عن التوراة بالكلية. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ اللام لام القسم بَيِّناتٍ واضحات الْفاسِقُونَ المتمردون من الكفرة، قال الحسن البصري: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي، وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. واللام في الْفاسِقُونَ للجنس، والأحسن- كما قال الزمخشري- أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب. عاهَدُوا عَهْداً على الإيمان بالنبي إن خرج، أو النبي ألا يعاونوا عليه المشركين. نَبَذَهُ طرحه، والمراد نقضه، وهو جواب كلما، وهو محل الاستفهام الإنكاري بَلْ للانتقال. وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله. سبب نزول الآية (99) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فأنزل الله في ذلك: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ. وسبب نزول الآية (100) : أن مالك بن الصيف حين بعث رسول الله، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد قال: والله ما عهد إلينا في محمد، ولا أخذ علينا ميثاقا، فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا.. الآية.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ما جبل عليه اليهود من خبث النفس ونقض العهد، وتكذيب رسل الله، ومعاداة جبريل أمين الوحي عليه السلام، أعقب ذلك أن من عادة اليهود التكذيب بآيات الله، وعدم الوفاء بالعهود، وتكذيب الرسل، والإعراض عن القرآن. وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث عارضوا دعوته، وأعرضوا عن القرآن الكريم. التفسير والبيان: والله لقد أنزلنا إليك يا محمد دلائل واضحات تدل على صدق رسالتك، تقترن أصولها الاعتقادية ببراهينها، وأحكامها العملية بوجوه منافعها وغاياتها المصلحية، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها، فهي كالنور يظهر الأشياء، وهو ظاهر بنفسه، ولا يكفر بها إلا المتمردون على آياتها وأحكامها من الكفرة، الذين استحبوا العمى على الهدى، حسدا لمن ظهر الحق على يديه، وعنادا ومكابرة منهم. إنهم كفروا بالله، وكلما عاهدوا عهدا مع الله، أو مع رسول الله نقضه فريق منهم: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ [الأنفال 8/ 56] بل نقضه أكثرهم، ولم يوفوا به، فاليهود غادرون بمن ائتمنهم، خائنون الأمانة، ناقضون العهود أو العقود والمواثيق، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم، فنقضوه، وأكثرهم لا يؤمنون بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا، ولا يبالون به، ولن يؤمنوا أيضا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن، كأنهم لا يعلمون أن التوراة كتاب الله، لا يدخلهم فيه شك، يعني أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم. ولما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بكتاب مصدق للتوراة في الأصول الدينية العامة،

فقه الحياة أو الأحكام:

كتوحيد الله وإثبات البعث، والتصديق بالرسل، ترك فريق من اليهود كتاب الله وراء ظهورهم- وهو تمثيل لتركهم وإعراضهم عنه، مثل أي شيء يرمى به وراء الظهر- استغناء عنه، وقلة التفات إليه، لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه، ولم يؤمنوا به إيمانا حقا كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة، لا يكون مؤمنا بكل منهما، وهو كناية عن الإعراض عن التوراة بالكلية. فقه الحياة أو الأحكام: هذا سجل من قبائح اليهود أوضحه الله تعالى وهو من أخبار الغيب، التي لا يعلمها إلا علام الغيوب، وقد رصد فيه عيوب أربعة وهي: 1- التكذيب بآيات الله وبيناته وأدلته الواضحة القاطعة على وجوده ووحدانيته وربوبيته ولزوم عبادته وإطاعة أوامره واجتناب نواهيه. 2- عدم الثقة بهم في أي شيء، لأنهم دأبوا على نقض العهود والغدر بالمعاهدين في كل زمان. 3- انقطاع الأمل وسد باب الرجاء في إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم. 4- لم ينبذ فريق منهم كتاب الله «التوراة» جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجيء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.

اشتغال اليهود بالسحر والشعوذة والطلاسم [سورة البقرة (2) الآيات 102 إلى 103] :

اشتغال اليهود بالسحر والشعوذة والطلاسم [سورة البقرة (2) : الآيات 102 الى 103] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) الإعراب: اتَّبَعُوا معطوف على قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ.. وتَتْلُوا أي تتبع بمعنى: تلت، فأقام المستقبل مقام الماضي. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ إما حال من ضمير كَفَرُوا أي كفروا معلمين، أو حال من الشياطين، أو بدل من كَفَرُوا لأن تعليم السحر كفر في المعنى، أو خبر ثان للكن. وَما أُنْزِلَ.. ما: بمعنى الذي في موضع نصب بالعطف على السحر، أو في موضع نصب بالعطف على ما تَتْلُوا.. أو في موضع جر بالعطف على مُلْكِ سُلَيْمانَ. فَيَتَعَلَّمُونَ إما معطوف على يُعَلِّمانِ أو معطوف على فعل مقدر، وتقديره: يأتون فيتعلمون، أو معطوف على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ أي يعلمونهم فيتعلمون، أو يكون مستأنفا، وهو الأوجه، والضمير لما دل عليه: من أحد. وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ أي ما هم السحرة بضارين بالسحر أحدا، ومن: زائدة. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ اللام في لَمَنِ اشْتَراهُ لام الابتداء، ومِنْ بمعنى الذي في موضع رفع، لأنه مبتدأ، وخبره ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ واشتراه: صلته، ومِنْ زائدة لتأكيد

البلاغة:

النفي، وخَلاقٍ مبتدأ، ولَهُ فِي الْآخِرَةِ خبره، والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو «من» ولام لَمَنِ علّقت عَلِمُوا أن تعمل فيما بعدها. ويجوز أن تكون «من» شرطية. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أن هاهنا مصدرية، والتقدير: ولو وقع إيمانهم، ولَوْ حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره، وجوابه لَمَثُوبَةٌ و «مثوبة» مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة، لأنه تخصص بالصفة وهو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فقرب من المعرفة، وخبره: خَيْرٌ. البلاغة: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ هذا جار على الأسلوب البلاغي: وهو أن العالم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزّل منزلة الجاهل به. لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عبر بالجملة الاسمية لإفادة الثبوت والاستقرار. المفردات اللغوية: ما تَتْلُوا أي تلت الشياطين على عهد ملك سليمان من السحر أي في زمان ملكه، والمراد بالشياطين: شياطين الإنس والجن وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي وما سحر، والسحر لغة: كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، وسحره: خدعه، والملكان: رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما. وبابل: بلد بالعراق في أرض الكوفة لها شهرة تاريخية قديمة فِتْنَةٌ اختبار وابتلاء اشْتَراهُ استبدل ما تتلو الشياطين خَلاقٍ نصيب وحظ شَرَوْا باعوا. المثوبة: المثوبة: الثواب. وكان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة، ويسمونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وهم معطّلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه، فدعاهم إلى الله تعالى، وحاجهم بما بهرهم به وأقام عليهم به الحجة «1» . سبب نزول الآية (102) : قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 43

المناسبة:

وأخرج الطبري عن شهر بن حوشب قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، أفما كان ساحرا يركب الريح؟ فأنزل الله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك، قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ. وقال الكلبي: إن الشياطين كتبوا السحر والنّيرنجيات (تصرفات تخيل وليست حقيقة، وهو أخذ كالسحر وليس به) على لسان آصف: هذا ما علّم آصف بن برخيا- كاتب نبي الله سليمان- الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه، ولم يشعر بذلك سليمان. ولما مات سليمان استخرجوه من تحت مصلاه، وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه، فلما علم علماء بني إسرائيل قالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان. وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم: ففشت الملامة لسليمان، فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله عذر سليمان على لسانه، وأنزل براءته مما رمي به، فقال: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ. المناسبة: حين نبذ فريق من اليهود وهم أحبارهم وعلماؤهم التوراة، وأعرضوا عنها، لأنها تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان، من صنع شياطين الإنس والجن، وهي السحر والشعوذة والطلاسم التي نسبوها إلى سليمان، وزعموا أن ملكه كان قائما عليها. وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين، فصدقوهم فيما زعموا منها،

التفسير والبيان:

وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر. وإنما قص القرآن علينا ذلك للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر، فكان شاغلا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود. وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه، ثم استخرجها الناس وتناقلوها. التفسير والبيان: نبذ اليهود كتاب الله، واتبع فريق من أحبارهم وعلمائهم الذين نبذوا التوراة، السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان، لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، ويضمون إليه أكاذيب، ثم يلقنونها الكهنة، فيعلمونها الناس، ويقولون: إن هذا علم سليمان، وقام ملك سليمان بهذا. فرد الله عليهم بأن سليمان ما فعل ذلك، وما عمل سليمان بالسحر، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتدوينه وتعليمه الناس على وجه الإضرار والإغواء، ونسبته إلى سليمان على وجه الكذب وجحد نبوته، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل، وهما هاروت وماروت: وهما بشران صالحان قانتان، أطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه. وقرأ الحسن البصري: الملكين- بكسر اللام تشبيها بالملوك في الخلق وسماع الكلمة. وكان هذان الملكان يعلمان الناس السحر الذي كثرت فنونه الغريبة في عصرهم، ليتمكنوا من التمييز بينه وبين المعجزة، ويعرفوا أن الذين يدّعون النبوة من السحرة كذبا إنما هم سحرة، لا أنبياء. وقد كان تعلمهما السحر بالإلهام دون معلم، وهو المقصود بالإنزال، والذي أنزل عليهما كان من جنس السحر، لا عينه. ولكن هذين الملكين اتبعا في تعليم السحر سبيل الإنذار والتحذير، فلا يعلمان أحدا من الناس، حتى يقولا له: إنما نحن ابتلاء واختبار من الله عز

وجل، فلا تعمل بالسحر ولا تعتقد تأثيره، وإلا كنت كافرا، أما إذا تعلمته لتعلمه فقط دون اعتقاد بحقيقته ولا تأثير له ولا عمل به، فلا ضرر، وكانا يقولان ذلك حفاظا على حسن اعتقاد الناس فيهما. فتعلم الناس من الملكين ما يفرّق به بين المرء وزوجه، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك من وسائل التفريق غالبا. والمعنى في عطف وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ على قوله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أن اليهود اتخذوا السحر من الملكين لا على الوجه المراد من توقي الناس وتحذيرهم، وقد ألهما فنون السحر ليعلّما الناس حيل السحرة وخدعهم. والسحر في الحقيقة لا يؤثر بطبعه ولا بقوة ذاتية فيه، فلا يحدث الضرر منه إلا بأمر الله وإرادته، فهو مجرد سبب ظاهري فقط، وإذا أصيب إنسان بضرر بعمل من أعمال السحرة، فإنما ذلك بإذن الله تعالى، وما السحر حينئذ إلا وسيلة أو سبب قد يرتبط المسبب أو النتيجة به، إذا شاء الله، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب، قال الحسن البصري: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلى بينه وبينه فضره. ومن تعلم السحر وعمل به فإنه يتعلم ما يضره ولا ينفعه، لأنه كان سببا في إضرار الناس ولأنه قصد الشر، فيكرهه الناس لإيذائه، ويعاقبه الله في الآخرة لإضراره غيره، وإفساده المصالح، وكل عامل يجزى بما عمل. وتا لله لقد علم اليهود بأن من ترك كتاب الله وأهمل أصول الدين وأحكام الشريعة التي تسعد في الدارين، واستبدل به كتب السحر، ما له في الآخرة إلا العذاب الأليم، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجن والشياطين والكهان كعقوبة عابد الأوثان.

فقه الحياة أو الأحكام:

ولبئس ما باعوا به أنفسهم باتخاذ السحر محل التوراة، فهم جهلة لا يعلمون حرمة السحر علم اعتقاد وامتثال، لأنهم لم يعملوا بالعلم الصحيح، وإنما اكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس. ولو أنهم أي اليهود آمنوا الإيمان الحق بالتوراة، وفيها البشارة بنبي آخر الزمان، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن، وتركوا كتب السحر والشعوذة، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، لاستحقوا الثواب العظيم من عند الله، جزاء على أعمالهم الصالحة، وهو خير لهم لو كانوا يعلمون العلم الصحيح، ولكنهم في الواقع لم يكونوا على علم حقيقي وإنما على ظن وتقليد، إذ لو كانوا على علم، لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعوه وصاروا من المفلحين، ولما خالفوا كتاب الله، واتبعوا أهواءهم. فهم حين لم يعملوا بعلمهم الأصيل، جعلوا كأنهم غير عالمين. فقه الحياة أو الأحكام: السحر: أصله التمويه بالحيل والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة بسرعة يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وجاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة، ولا سيما في قصص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا، كما قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه 20/ 66] وقال: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف 7/ 116] . وروى مالك وأبو داود عن بريدة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن

من البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا «1» ، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيالا» أما قوله: «إن من البيان لسحرا» فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق. وهذا مذموم. وهو المراد بالحديث في الأصح، أما السحر الحلال الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلّم: فهو أن ينبئ شخص عن حق فيوضحه، ويجليه بحسن بيانه، بعد أن كان خفيا. والسحر: إما حيلة بخفة يد، وشعوذة، وإما صناعة وعلم خفي يعرفه بعض الناس. وهل للسحر حقيقة أم لا؟ اختلف الناس في ذلك «2» . فرأى جمهور العلماء: أن للسحر حقيقة، يخلق الله عنده ما شاء، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين، أو بمعين من الأمور كالكواكب السماوية، ويرون أن النفوس الساحرة ثلاث مراتب: الأولى- المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين. والثانية- بمعين من مزاج الأفلاك (أي طبيعتها) ، أو العناصر (الماء والهواء والتراب والنار) ، أو خواص الأعداد، أي حساب الجمّل، فلكل حرف من الأحرف الهجائية رقم حسابي معين. والثالثة- تأثير في القوى المتخيلة: بأن يعمد الشخص إلى القوة المتخيلة،

_ (1) ومعنى قوله «من العلم جهلا» أن يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهّله ذلك. ومعنى قوله: «إن من الشعر حكما» : هو هذه الأمثال والمواعظ التي يتعظ بها الناس. ومعنى «إن من القول عيالا» هو عرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده. (2) تفسير القرطبي: 2/ 44- 47، تفسير ابن كثير: 1/ 145- 147، تفسير الكشاف: 1/ 231، البحر المحيط: 1/ 327

فيلقي فيها أنواعا من الخيالات والصور، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين، بقوة نفسه المؤثرة، فينظر الراءون كأن شيئا موجودا في الواقع، وليس هناك شيء من ذلك. وتنال هذه المراتب بالرياضة، والتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة، فهي لذلك وجهة وسجود لغير الله، والوجهة لغير الله كفر، فلهذا كان السحر كفرا. ويرى المعتزلة، وبعض أهل السنة «1» : أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيل. والسحر بهذا المعنى أنواع: أ- كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها، كما يفعل بعض المشعوذين، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه، لخفة حركته، إذ إن معه اثنين أحدهما المذبوح الذي خبأه، والآخر الذي أظهره. وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين حتى خيل إلى الناس أنها تسعى، كما قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه 20/ 66] من طريق تحمية الزئبق بالنار الموضوعة في أسراب، وتمدده بفعل الحرارة. ب- ما يدعونه من حديث الجن والشياطين بالمواطأة مع قوم أعدوهم لذلك، وإطاعتها بالرقى والعزائم. وهذا كان فعل الكهان من العرب في

_ (1) وهم أبو جعفر الاسترابادي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري وطائفة.

حكم السحر:

الجاهلية، كانوا يوكلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات. ج- السعي بالنميمة والوشاية والإفساد، من وجوه خفية لطيفة، يتم فيها تحريض الناس على بعضهم بعضا «1» . وقد وفق ابن خالدون بين الرأيين: فمن قال: إن للسحر حقيقة نظر إلى المرتبتين الأوليين، ومن قال بأنه لا حقيقة له، نظر إلى المرتبة الثالثة. حكم السحر: ليس تعلم السحر محظورا، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به، قيل لعمر بن الخطاب: فلان لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه. نقل ابن كثير عن أبي عبد الله الرازي المعتزلي أنه قال: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور «2» . ومن السحر: ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدّعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق، فذلك كفر منه، ويقتل هذا الساحر، لأنه كافر بالأنبياء، يدّعي مثل آياتهم ومعجزاتهم. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات، فلا يقتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا، فيقتل به. ولا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، مما ليس في مقدور البشر، من مرض وتفريق وزوال عقل، وتعويج عضو، إلى غير ذلك، مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 145 (2) المرجع السابق: ص 144

الفرق بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين السحر:

وأجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمّل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماوات وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل المنزلة عليهم، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. الفرق بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين السحر: لا يصح لمؤمن أن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بأفعال السحرة، لقوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه 20/ 69] . وهناك فرق واضح بين المعجزة والسحر القائم على وجوه التخييلات: وهو أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها. ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها، لظهر عجزهم عنها. أما مخاريق السحرة وتخييلاتهم فهي نوع من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، فما يظهر منها ليس على الحقيقة، ويعرف ذلك بالتأمل والبحث. ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ويأتي بمثل ما قام به «1» . والسحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه، ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد، والمعجزة لا يمكّن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها «2» . وخلاصة القول: إن الساحر لا قدرة له على شيء من الأمور الخارقة، وإن

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 49 [.....] (2) تفسير القرطبي: 2/ 47

السحر يعتمد في الغالب على الخداع والتخييلات والتمويهات، وإن السحرة نصابون يسلبون أموال الناس، وهم في فقر دائم، ولو كانوا قادرين على ما يدعونه لأغنوا أنفسهم، وحققوا الأمجاد بإزالة الممالك، واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان، والاستغناء عن طلب ما في أيدي الناس، كما قال أبو بكر الجصاص الرازي «1» . يتبين مما ذكر ما يأتي: 1- السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفي. 2- السحر كما وصفه القرآن تخيل يخدع الأعين، فيريها ما ليس كائنا أنه كائن. 3- السحر إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، ومنه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسي. 4- حكاية القرآن: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا، وإنما هي حكاية لما كان معروفا عندهم. 5- السحر لا يؤثر بطبعه ولا أثر له في نفسه، وإنما هو سبب، وما يترتب عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات بالأسباب، كما نصت الآية: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] . 6- دلت الآية على أن عمل السحر كفر وهو قول مالك وأبي حنيفة، لقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي من السحر، وقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي بعمل السحر، وقوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أي به وبتعليمه، وقوله عن هاروت وماروت: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 48

ورأى الشافعي أن السحر معصية: إن قتل بها قتل، وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والرأي الأول أصح، لأن السحر كلام يعظم به غير الله تعالى، مثل سحر أهل بابل الذي كان تعظيما للكواكب، وهو رأي عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى الأشعري وقيس بن سعد وسبعة من التابعين. لكن تكفير السحرة محصور بمن يعظم الكواكب، ويسند الحوادث إليها، أو يزعم أنه يقدر على خوارق العادات، لأنه يدعي أنه يقدر على مثل معجزات الأنبياء. أما الإفساد بالنميمة أو خفة اليد، دون ادعاء ما ذكر، فلا يكون كفرا، ولا يعد فاعله كافرا. 7- عقوبة الساحر: للعلماء رأيان في قتل الساحر، قال الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) : يقتل الساحر، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «حدّ الساحر ضربه بالسيف» «1» وإذا عمل المسلم السحر، كان مرتدا، فيقتل لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه» . ويقتل الساحر ولا تقبل توبته في رأي أبي حنيفة، سواء أكان مسلما أم ذميا، لأن الساحر جمع إلى كفره السعي في الأرض بالفساد، فأشبه المحارب (قاطع الطريق) . ولا يقتل الساحر الذمي في رأي مالك إلا أن يقتل بسحره، ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه «2» . 7- أجاز سعيد بن المسيب والمزني أن يطلب من الساحر حل السحر عن المسحور، قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبّه: أن يأخذ سبع ورقات من

_ (1) أخرجه الترمذي عن جندب، لكنه ليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف. (2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 50 وما بعدها، تفسير القرطبي: 2/ 47 وما بعدها.

سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. 8- تساءل ابن العربي بمناسبة وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فقال: كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر؟ ثم قال: كل خير أو شر أو طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر منزّل من عند الله تعالى، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: ماذا فتح الليلة من الخزائن؟ ماذا أنزل الله تعالى من الفتن؟ أيقظوا أصحاب الحجر، ربّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة «1» . 9- هل هاروت وماروت ملكان؟ اختلف العلماء، فقال جماعة: هما ملكان بعثهما الله يبينان للناس بطلان ما يدعون حقيقته، ويكشفان لهم عن وجوه الحيل التي يخدعون بها الناس، وينهيانهم عن العمل بها، يقولان: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فكانا يعلمانهم للتحرز لا للعمل، لأن الملائكة أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6] ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 26- 27] ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء 20/ 20] . قال الزمخشري: والذي أنزل على الملكين هو علم السحر، ابتلاء من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به، كان كافرا، ومن تجنبه أو تعلمه، لا ليعمل به، ولكن ليتوقاه ولئلا يغتربه، كان مؤمنا: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه وروي عن الحسن البصري: أنه كان يقرأ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 28، وانظر أيضا تفسير ابن كثير: 1/ 148

أدب الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومصدر الاختصاص بالرسالة [سورة البقرة (2) الآيات 104 إلى 105] :

اللام، ويقول: كانا علجين «1» أقلفين (غير مختونين) ملكين ببابل، يأمران بالسحر ويتمسكان به. أدب الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومصدر الاختصاص بالرسالة [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) الإعراب: راعِنا جملة فعلية في موضع نصب ب تَقُولُوا ومن قرأ «راعنا» بالتنوين، نصبه ب تَقُولُوا على المصدر، أي لا تقولوا رعونة. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من للبيان مِنْ خَيْرٍ من زائدة، والتقدير: خير من ربكم. البلاغة: مِنْ رَبِّكُمْ الإضافة للتشريف، وفيها تذكير للعباد بتربيته لهم. ومن لابتداء الغاية. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ التصدير في الجملتين بلفظ الجلالة، للإيذان بفخامة الأمر. المفردات اللغوية: راعِنا أمر من المراعاة، أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا، وكان يقولون له ذلك، وهي بلغة اليهود سب من الرعونة وهي الجهل

_ (1) العلج: الواحد من كفار العجم.

سبب نزول الآية (104) :

والحمق، فسّروا بذلك، وخاطبوا بها النبي، فنهي المؤمنون عنها. وأمروا أن يقولوا بدلها: انْظُرْنا أي انظر إلينا، أو انتظرنا وتأنّ علينا وأمهلنا أَلِيمٌ مؤلم وهو النار. سبب نزول الآية (104) : قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنبي صلّى الله عليه وسلّم أعجبهم ذلك، وكان «راعنا» في كلام اليهود سبا قبيحا، فقالوا: إنا كنا نسب محمدا سرا، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فإنه من كلامه، فكانوا يأتون نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا الآية «1» . سبب نزول الآية (105) : قال المفسرون: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه، ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم. التفسير والبيان: خاطب الله المؤمنين في هذه الآية في شأن مشترك بينهم وبين اليهود، موجها لهم إلى ما هو الأمثل في اختيار اللفظ الذي يبدأ به الكلام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم،

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 18 ويلاحظ أن الواحدي ذكر «سعد بن عبادة» والذي عليه المفسرون أنه «سعد بن معاذ» .

فكانوا يقولون إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، ونراجعك القول لنفهم عنك. وكانت الكلمة راعِنا عند اليهود كلمة سب قبيح من الرعونة، فكانوا يخاطبون بها النبي قاصدين معنى السب والشتم، وأصلها في العبرية «راعينوا» أي شرير، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، وأمرهم بكلمة تماثلها في المعنى، وتختلف في اللفظ، وهي انْظُرْنا التي تفيد معنى الإنظار والإمهال، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين. وإجمال المعنى: أقبل علينا وانظر إلينا. واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول وتدبر وإمعان، وللكافرين ومنهم اليهود عذاب مؤلم شديد، وفيه إشارة إلى أن ما صدر منهم من سوء أدب في خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر، لأن من يصف النبي بأنه شرير، فقد أنكر نبوته. فهذا أدب للمؤمنين، وتشنيع على اليهود. وأنتم أيها المؤمنون الذين عرفتم شأن اليهود مع أنبيائهم كونوا على حذر، فما يود أهل الكتاب ومشركو العرب أن ينزل عليكم خير من ربكم كالقرآن والرسالة، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، وبه جمع الله شملكم ووحد صفوفكم، وطهر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وهم يودون نزول الشر بكم وانتهاء أمركم وزوال دينكم. وحسد الحاسد لا يمنع نعم الله، والله العليم القدير الحكيم يختص بالنبوة والرحمة والخير من يشاء من عباده: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] ويعلم من يؤدي واجبه بشأنها خير أداء، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه، فالله وحده صاحب الفضل العظيم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هاتان الآيتان تذكران شيئا من جهالات اليهود وقبائحهم، كما سبق، والمقصود نهي المسلمين عن مثل أفعال اليهود، وترسيخ عقيدتهم بأن مصدر الخير والرحمة واختيار من هو أهل للنبوة والرسالة هو الله تعالى، فلا يصح لأحد أن يحسد أحدا على ما آتاه الله من فضله، وبدئت الآية الأولى بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة، من ثمانية وثمانين موضعا من القرآن ذكر فيها هذا الخطاب الدال على إقبال الله على المؤمنين، وتذكيرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بأتم طاعة وأحسن امتثال. وموضوع هذا الأدب الجميل: هو أن يتجنب المؤمن في مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قد يوهم الانتقاص أو الاستهزاء، ومنعا من استغلال الأعداء استعمال لفظة أو غيرها، وقد كان اليهود يعنون بكلمة راعِنا السب والشتم، ويخاطبون بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويضحكون فيما بينهم، فقال لهم سعد بن معاذ، وكان يعرف لغتهم: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله، لأضربنّ عنقه. وفي تعبير وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ إيماء إلى أن ما صدر من اليهود من سوء الأدب في خطابه صلّى الله عليه وسلّم كفر لا شك فيه، لأن من يصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه «شرير» فقد أنكر نبوته، ومن فعل ذلك فقد كفر. ففي هذه الآية (104) دليلان: أحدهما- على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض من قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يؤكد مذهب المالكية- وفي رواية عن أحمد- القائلين بوجوب حد القذف حال التعريض بالقذف، وخالفهم الحنفية والشافعية، وأحمد

إثبات نسخ الأحكام الشرعية [سورة البقرة (2) الآيات 106 إلى 108] :

في ظاهر الرواية عنه حين قالوا: التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة. الثاني- التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب الإمامين مالك وأحمد، والذريعة: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع، أي أن كل وسيلة مباحة أدت إلى محظور أو ممنوع فهي حرام، وكل وسيلة أدت إلى مطلوب شرعا فهي مطلوبة، أي أن وسيلة الحرام حرام، ووسيلة الواجب واجبة، ووسيلة المباح مباحة. وقوله تعالى: لا تَقُولُوا: راعِنا نهي يقتضي التحريم، سدا للذرائع، حتى لا يتخذ اللفظ المحتمل ذريعة لشيء قبيح. وقوله سبحانه: وَقُولُوا: انْظُرْنا أمر للمؤمنين أن يخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم بالإجلال. وقوله عز وجل: وَاسْمَعُوا يفيد وجوب السماع لما أمر به ونهى جل وعز. ودل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ على سد باب الحسد، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ أي بنبوته، خص بها محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا. ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه عنهم. إثبات نسخ الأحكام الشرعية [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 108] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

الإعراب:

الإعراب: ما نَنْسَخْ ما شرطية في موضع نصب بفعل «ننسخ» و «ننسخ» مجزوم بها. ونُنْسِها حذف منه المفعول الأول، وتقديره «ننسكها» أي نأمر بتركها، وهو مجزوم بالعطف على «ننسخ» المجزوم بما الشرطية، وجواب الشرط: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أي بالإضافة إلى مصالح العباد إليها في نفسها. كَما سُئِلَ الكاف في موضع نصب، لأنها صفة لمصدر محذوف، أي: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى. و «ما» في «كما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، أي: كسؤال موسى، والمصدر مضاف إلى المفعول. البلاغة: أَلَمْ تَعْلَمْ الاستفهام للتقرير، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد: أمته، بدليل قوله تعالى: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أما إظهار لفظ الجلالة بدل الضمير في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ ومِنْ دُونِ اللَّهِ فهو لتكوين المهابة في النفوس. ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ من إضافة الصفة للموصوف، أي الطريق السوي، وفيه تشنيع على من ظهر له الحق، فعدل عنه إلى الباطل. المفردات اللغوية: ما نَنْسَخْ النسخ في اللغة: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، أي أزالته. وفي الاصطلاح الشرعي: رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه. والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تبليغه إياها، فمعنى نُنْسِها نبح لكم تركها، من نسي: إذا ترك، ثم تعدّى بالألف. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر. أَوْ مِثْلِها في التكليف والثواب. عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه النسخ والتبديل. وَلِيٍّ الولي: القريب والصديق. والنصير: المعين، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبيا عمن ينصره. تَسْئَلُوا السؤال: الاقتراح المقصود به التعنت. يَتَبَدَّلِ بدل وتبدل واستبدل: جعل شيئا موضع آخر. ضَلَّ عدل وجار وأخطأ الطريق الحق. سَواءَ السَّبِيلِ السواء من كل شيء في الأصل: الوسط. ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات 37/ 55] والسبيل: الطريق.

سبب نزول الآية (106) :

سبب نزول الآية (106) : قال المفسرون: إن المشركين قالوا: أترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما في هذا القرآن إلا كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا، مثل تغيير حد الزاني بالتعيير باللسان: فَآذُوهُما والزانية بالإمساك في البيوت: فَأَمْسِكُوهُنَّ ... إلى الجلد، فأنزل الله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ الآية [النحل 16/ 101] وأنزل أيضا: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [البقرة 2/ 106] . سبب نزول الآية (107) : قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي كعب ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبا، ووسع لنا أرض مكة، وفجّر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال المفسرون: إن اليهود وغيرهم من المشركين تمنوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن قائل يقول: يأتينا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة، ومن قائل يقول: وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي: ائتني بكتاب من السماء، فيه من رب العالمين: إلى ابن أبي أمية، اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس، ومن قائل يقول: لن نؤمن لك، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رافع بن حزيمة ووهب بن زيد لرسول الله: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء، نقرؤه، أو فجّر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ إلى قوله: سَواءَ السَّبِيلِ.

سبب نزول الآية (108) وما بعدها:

سبب نزول الآية (108) وما بعدها: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود، حسدا للعرب، إذ خصّهم الله برسوله، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية (109) . وأخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ الآية. التفسير والبيان: نزل القرآن منجما مفرقا على وفق المناسبات والحوادث والوقائع، أخذا بمبدإ تربوي ناجح ألا وهو التدرج في التشريع لإصلاح المجتمع العربي الجاهلي تدريجيا، ومراعاة للمصالح، وتمكينا من التخلص من العادات والتقاليد الموروثة شيئا فشيئا، وإعدادا للحكم الشرعي المستقر، بتقبل النفوس له وتربيتها على وفق الغاية الشرعية بنحو بطيء، واقتناع عقلي ذاتي بأفق التشريع ومراميه البعيدة، فإذا توافرت المصلحة العامة للأمة بقي الحكم، وإن لم تتوافر عدّل أو بدل ونسخ. والنسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر يكون إما بنسخ لفظ الآية ومعناها، أو أحدهما، أو بانتهاء الحكم المستفاد منها مع بقاء نصها. كل ذلك بحسب المصلحة أو الحاجة، كالطبيب الذي ينوّع الأدوية والأغذية باختلاف الأزمنة والأمزجة والأحوال الصحية، والأنبياء صلوات الله عليهم هم أطباء الأمة، ومصلحو النفوس، يوحى إليهم بتبديل الحكم الشرعي لمراعاة الأحوال الحاضرة أو المستقبلية، فما قد يصلح علاجا في الماضي قد لا يصلح في المستقبل. وذلك كله يدل على مرونة الإسلام.

وليس النسخ لظهور أو بداء المصالح الجديدة المقتضية لتغيير الحكم، فالله سبحانه الناسخ يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يتدرج في معالجة الأوضاع تبعا للظروف والأحوال، منعا من المفاجأة وأحكام الطفرة، كالتدرج في تحريم الخمر أو الربا الذي مرّ بمراحل أربع، والتدرج في تقرير أحكام الجهاد من سلم مطلق إلى إعداد النفوس، إلى فرضية القتال بحسب الضعف، ثم بحسب القوة وكثرة العدد. ومعنى الآية: ما نغير حكم آية، أو نجعلك تنساها فلا تذكرها، أو نامر بتركها أو نؤجلها، إلا أتينا بما هو خير منها للعباد بكثرة الثواب إن كان الناسخ أثقل أو تحقيق المصلحة إن كان الناسخ أخف، أو مثلها على الأقل في التكليف والثواب. قال الفخر الرازي: وقد جاء النسيان بمعنى الترك في قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 20/ 115] أي فترك، وقال تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية 45/ 34] ، وقال تعالى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا، فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه 20/ 126] . ونسخ الحكم قد يكون ببدل أخف وأيسر، كنسخ عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، أو ببدل مساو كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة، أو بأشق منه وثوابه أكثر كنسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين، ونسخ حبس الزناة في البيوت إلى الجلد، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان لأنه كما في الحديث الثبت: «أفضل الأعمال أحمزها» أي أشقها، وقد تكون الخيرية بإسقاط التكليف لا إلى بدل في رأي جمهور الأصوليين، مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونسخ ادخار لحوم الأضاحي، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان، بقوله سبحانه: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة 2/ 187] ، ونسخ وجوب الإمساك بعد النوم في ليالي

وقوع النسخ:

رمضان، ونسخ قيام الليل في حقه صلّى الله عليه وسلّم. أليس الله على كل شيء قدير؟ فالله القادر على كل شيء لا يصعب عليه نسخ الأحكام. وأليس الله ملك السموات والأرض؟ فهو يملك كل ما في الكون أرضه وسمائه، ويتصرف بحسب إرادته ومشيئته، ويدبر الأمور حسبما يرى من المصلحة، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام. وليس لكم ولي سواه يتولى أموركم، ولا ناصر ولا معين ينصركم ويعينكم غير الله وحده. وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به رسولهم، وينتهوا عما نهاهم عنه. ثم أتبع التحذير بالوعيد لمن يطلب المعجزات تعنتا وعنادا، فمن يترك الثقة بالآيات المنزلة بحسب المصالح، ويطلب غيرها معاندة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما طلبت اليهود من موسى عليه السّلام أن يريهم الله جهرة، فقد اختار الكفر على الإيمان، وضلّ عن الحق، وترك السبيل السوي كما قال تعالى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟ [يونس 10/ 32] . ومعنى قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا بل تريدون، أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعمّ المؤمنين والكافرين، فإنه عليه السلام رسول الله إلى الجميع. وقوع النسخ: النسخ جائز عقلا بإجماع أهل الشرائع ما عدا اليهود والنصارى، وواقع شرعا بإجماع المسلمين، ما عدا أبا مسلم الأصفهاني. ودليل الجواز العقلي: أنه لا يترتب على فرض وقوعه محال، وهو معنى الجواز، لأن أحكام الله تعالى إن لم يراع في شرعيتها مصالح العباد، فذلك تابع

لمشيئة الله، والنسخ فعل لله، والله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فقد يأمر بالفعل في وقت، وينهى عنه في وقت، كما أمر بالصيام في نهار رمضان، ونهى عنه في يوم العيد. أما لو راعينا في أحكام الله مصالح العباد، وأن التشريع قائم على أساس المصالح، كما تقول المعتزلة، فالمصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فما قد يكون مصلحة لشخص أو في زمن، قد لا يكون مصلحة لشخص آخر أو في زمن آخر، وما دامت المصالح تتغير، والأحكام يراعى في تشريعها مصالح الناس، فإن النسخ أمر ممكن غير محال، ويكون جائزا عقلا. وأدلة وقوع النسخ فعلا كثيرة. منها: إجماع الصحابة والسلف على أن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناسخة لجميع الشرائع السابقة، أي في غير أصول العقيدة والأخلاق، مثل تحريم الشحوم، وكل ذي ظفر على اليهود بسبب ظلمهم، وأكلهم أموال الناس بالباطل بالربا وغيره. ومنها: الإجماع على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس، باستقبال الكعبة، وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعفو عنه. أما أبو مسلم الأصفهاني من علماء التفسير المتوفى سنة 322 هـ، فإنه أجاز النسخ مطلقا بين الشرائع، كما هو المشهور عنه، ولكنه منع وقوعه في الشريعة الواحدة، مستدلا بقول الله تعالى في صفة القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 42] فلو وقع النسخ في القرآن، لأتاه الباطل. وأجيب بأن النسخ إبطال، لا باطل، لأن النسخ حقّ وصدق، والباطل ضدّ الحقّ، كل ما في الأمر أن يصبح حكم المنسوخ غير معمول

أنواع النسخ:

به، فلا دلالة في الآية على مطلوب الأصفهاني. ثم إن كل آية قيل فيها: إنها منسوخة، فإنه يؤولها تأويلا إما بالتخصيص، أو بانتهاء أمد الحكم الشرعي، أو بالتقييد ببعض الأحوال، أو الأشخاص، ونحو ذلك، كما فعل في آيات العدة وآيات القتال وغيرها الآتية. أنواع النسخ: للنسخ أحوال تسع أهمها ثلاث: 1- نسخ التلاوة والحكم معا: مثل نسخ صحف إبراهيم وموسى والرسل السابقين، ومثل نسخ عدد الرضعات من عشر إلى خمس، قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم وغيره: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهن فيما يتلى من القرآن» والقسم الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والقسم الثاني وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية. 2- نسخ التلاوة دون الحكم: مثل قول عمر رضي الله عنه: «كان فيما أنزل: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، نكالا من الله ورسوله» ثبت في الصحيح: أن هذا كان قرآنا يتلى، ثم نسخ لفظه، وبقي حكمه. وأضاف الحنفية أمثلة أخرى من القراءات الشاذة، مثل قراءة ابن مسعود في صوم كفارة اليمين: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقراءة ابن عباس: «فأفطر فعدّة من أيام أخر» وقراءة سعد بن أبي وقاص: «وله أخ أو أخت لأم، فلكل واحد منهما السدس» . 3- نسخ الحكم دون التلاوة: وهو كثير، مثل نسخ حكم آية الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ آية الاعتداد بحول كامل، ونسخ آية الحبس للمرأة في

البيوت، وإيذاء الرجل باللسان في حدّ الزنا، ونسخ آية تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ويجوز بالاتفاق نسخ نص القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة بمثلها، وخبر الآحاد بمثله وبالمتواتر. ويجوز عند الأكثرين نسخ المتواتر بالآحاد أي نسخ القرآن بغير القرآن، والمتواتر بغير المتواتر، ونفى الشافعي وقوعه وقال: لا ينسخ القرآن بالسنة، ولا السنة بالقرآن، واستدل بقوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها دلت الآية على أن الآتي بالبدل هو الله سبحانه، وهو القرآن، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن، لا السنة، وأيضا فإن الله جعل البدل خيرا من المنسوخ أو مثلا له، والسنة ليست خيرا من الكتاب ولا مثلا له، فلا تكون ناسخة له. ثم إن الآية ذيلت ببيان اختصاص ذلك التبديل بمن له القدرة الكاملة، وهو الله تعالى، فكان النسخ من جهته فقط، وهو القرآن، لا السنة. ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل 16/ 101] حيث أسند التبديل إلى نفسه، وجعله في الآيات. وأجيب بأن السنة من عند الله كالقرآن، لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم 53/ 3- 4] إلا أن القرآن معجز ومتعبد بتلاوته، والسنة ليست كذلك. والمراد بالخيرية والمثلية هو في الأحكام بحسب مصلحة الناس، لا في اللفظ، فيكون الحكم الناسخ خيرا من الحكم المنسوخ لاشتماله على تحقيق مصالح العباد، وقد تأتي السنة بما هو أنفع للمكلف، مما يدل على أن هذه الآية ليست دالة على أن القرآن لا ينسخ بالسنة. وقد وقع نسخ القرآن بالسنة في آية الوصية بالحديث المتواتر: «لا وصية لوارث» .

المراد بالآية في قوله تعالى ما ننسخ من آية:

وقال الشافعي أيضا: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، ويتطلب كون الناسخ سنة أيضا، لأن الله تعالى في قوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 16/ 44] جعل السنة بيانا، فلو نسخت قرآنا، خرجت عن كونها بيانا، وذلك غير جائز. وأجيب: بأن المراد بالبيان هو التبليغ، سواء بالقرآن وغيره. المراد بالآية في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ: ذهب الإمام محمد عبده إلى أن الآية لا يراد منها الآية القرآنية، بل المراد المعجزات الدالة على صدق الرسل، حيث يبدل الله معجزة الرسول السابق بالمعجزة التي يأتي بها الرسول الذي بعده، استدلالا بقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وأجيب بأن هذه الآية جاءت للتمهيد في تحويل القبلة، ونسخ التوجه إليها بالتوجه إلى الكعبة، فهي في نسخ الأحكام المقررة بالآيات. والمراد بالآية إذا أطلقت: القطعة من السورة المتضمنة أمرا أو نهيا أو غير ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: أجمع السلف على وقوع النسخ في الشريعة، ودلت وقائع ثابتة على وقوعه، بغض النظر عن التعسف في تأويل الآيات المنسوخة، وليس النسخ جهلا بالحكم الأخير، أو من باب البداء، بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لنوع من المصلحة التشريعية الملائمة لحاجات الناس، إظهارا لحكمة الله، وكمال ملكه، ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء (الظهور بعد الخفاء أو ظهور مصلحة لم تكن ظاهرة للمشرع) لو لم يكن عالما بمآل الأمور، وأما العالم بذلك، فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى

ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال على الله تعالى. وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، والفرق بين النسخ والبداء: أن النسخ تحويل العبادة من شيء قد كان حلالا فيحرّم، أو كان حراما فيحلّل. وأما البداء: فهو ترك ما عزم عليه، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. والناسخ في الحقيقة هو الله تعالى، والنسخ: إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخ عنه. والمنسوخ: هو الحكم الثابت نفسه، لا مثله، كما تقول المعتزلة: بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. وقادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الحسن صفة ذاتية للحسن لا تفارقه، ومراد الله حسن. والفرق بين التخصيص والنسخ أن الأول قصر للحكم على بعض الأفراد، والثاني قصر له على بعض الأزمان. وجمهور العلماء على أن النسخ يختص بالأوامر والنواهي، وأما الأخبار فلا يدخلها النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ثم تقيد في موضع آخر، فيرتفع ذلك الإطلاق، فليس هو من قبيل نسخ الأخبار، وإنما هو من باب الإطلاق والتقييد، مثل قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186] ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكنه قيّد في موضع آخر، وهو قوله تعالى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام 6/ 41] .

موقف أهل الكتاب من المؤمنين وكيفية الرد عليه [سورة البقرة (2) الآيات 109 إلى 110] :

موقف أهل الكتاب من المؤمنين وكيفية الردّ عليه [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) الإعراب: لَوْ مصدرية. كُفَّاراً إما مفعول ثان «ليردونكم» أو منصوب على الحال من الكاف والميم في «يردونكم» . حَسَداً مفعول لأجله، أي لأجل الحسد. مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إما متعلق «بودّ» أو «بحسد» والوجه الأول أوجه. المفردات اللغوية: الحسد تمني زوال نعمة الغير. فَاعْفُوا اتركوهم، والعفو: ترك العقاب على الذنب. وَاصْفَحُوا أعرضوا فلا تجاوزهم، والصفح: إزالة أثر الذنب من النفس أو الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ نصره ومعونته، وما يأمر فيهم من القتال والقتل، وهو قتل بني قريظة، وإجلاء يهود بني النضير وفرض الجزية عليهم. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم. سبب نزول الآية (109) : قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.

المناسبة العامة للآية (109) :

المناسبة العامة للآية (109) : بعد أن نهى الله سبحانه في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود ورفض آرائهم، ذكر هنا وجه العلّة، وهي أنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإسلام ويتمنون أن يحرموا منها، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود، وإنما يتمنون أن يرتد المسلمون عن دينهم. التفسير والبيان: تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوا المسلمين عن دينهم وأن يعودوا كفارا بعد أن كانوا مؤمنين، حسدا لهم، عن طريق التشكيك في الدين وإلقاء الشبه على المؤمنين، وطلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره، ليتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان. وسبب ذلك: الحسد الكامن والخبث الباطن في نفوسهم، لا ميلا مع الحق، ولا رغبة فيه. ومدعاة التمني: هو ما ظهر لهم بالدليل الواضح أن الإسلام دين الحق الصحيح، وأن محمدا على الحق، فاعفوا عنهم أيها المسلمون واصفحوا عن أفعالهم، واصبروا حتى يأتي نصر الله لكم، ويأذن الله بالقتال، ويأتي أمره فيهم: وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم، والله هو القادر على تحقيق النصر: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج 22/ 40] . ثم نبّه الله سبحانه إلى بعض وسائل النصر الذي وعدوا به: وهو أداء الصلاة كاملة الأركان، تامة الأوصاف، وأداء الزكاة للفقراء، ففي الصلاة تتوطد دعائم الإيمان، وتتقوى الصلة بالله والثقة به، وتتوثق روابط الأخوة بالاجتماع في المساجد، وفي الزكاة تتحقق سعادة المجتمع بإغناء الفقراء، وتتجلى وحدة الأمة بتكافل أبنائها، وتعاضد فئاتها، وثواب كل ذلك مرصود لكم في الآخرة، فكل ما تعملونه من خير، تجدون جزاءه الكامل عند ربكم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ

فقه الحياة أو الأحكام:

خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7] والله عالم بجميع أعمالكم، بصير بقليلها وكثيرها، لا تخفى عليه خافية، من خير أو شرّ، فالصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا، وكذلك من أسباب السعادة في الآخرة، بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. فقه الحياة أو الأحكام: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من حسد المؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو، أو الاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه. روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصّهم الله برسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ. والحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم: أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، سواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا. وهذا النوع الذي ذمّه الله تعالى في كتابه بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 54] وإنما كان مذموما، لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق. وأما المحمود وهو المسمى بالغبطة أو المنافسة، فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السّلام: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو

يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار» وحقيقته: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة، ولا يزول عنه خيره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلّتهم، هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر. أخرج ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد- وأصله في الصحيحين-: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة 2/ 109] . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وقد جرت سنة الله في القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، وكلاهما من أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، بدليل ما أردف الله تعالى الأمر بهما بقوله: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ جاء في الحديث: «إن العبد إذا مات، قال الناس: ما خلف؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟» . ودلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ على أنه مهما فعل الناس من خير أو شرّ، سرا وعلانية، فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة 2/ 110] . وثبت في الحديث: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة

رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر [سورة البقرة (2) الآيات 111 إلى 113] :

جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» «1» . وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرّ ببقيع الغرقد «2» ، فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتف: يا ابن الخطاب، أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه» . وثبت مثله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمن مواعظه أنه كان إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، ثم قال: أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم؟ والذي نفسي بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزاد التقوى. رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

_ (1) رواه البخاري في الأدب ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. (2) بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة.

الإعراب:

الإعراب: هُوداً جمع هائد، أي تائب، من قوله تعالى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف 7/ 156] أي تبنا، وهو خبر كان المنصوب. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الجملة حال. البلاغة: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ جملة اعتراضية لإبطال دعواهم، مكونة من مبتدأ وخبر. قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أمر للتبكيت والتقريع. مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ خصّ الوجه بالذكر، لأنه أشرف أجزاء الإنسان. والوجه هاهنا استعارة، والمعنى: من أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، ولا يعبد سواه. عِنْدَ رَبِّهِ العندية للتشريف، وإظهار اسم الرب محل الضمير لإظهار مزيد اللطف به. قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فيه توبيخ شديد لأهل الكتاب، لأنهم جعلوا أنفسهم بمنزلة من لا يعلم شيئا أصلا. المفردات اللغوية: هُوداً جمع هائد، وهم اليهود. أَوْ نَصارى أتباع المسيح، قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران، لما تناظروا بين يدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، أي قال اليهود: لن يدخلها إلا اليهود، وقال النصارى: لن يدخلها إلا النصارى. تِلْكَ القولة أَمانِيُّهُمْ شهواتهم الباطلة، الأماني: جمع أمنية، وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه. والعرب تسمي كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحلاما. هاتُوا بُرْهانَكُمْ حجتكم على ذلك. بَلى يدخل الجنة غيرهم، وهو مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ جعل وجهه خالصا لله، وانقاد له، فإسلام الوجه لله: هو الانقياد له والإخلاص له في العمل، بحيث لا يتخذ وسيطا بينه وبين ربه. وخصّ الوجه، لأنه أشرف الأعضاء، فغيره أولى، قال الفخر الرازي: إسلام الوجه لله يعني إسلام النفس لطاعة الله، وقد يكنى بالوجه عن النفس، كما قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] . وَهُوَ مُحْسِنٌ موحّد. فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب عمله الجنة. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة. عَلى شَيْءٍ معتد به، وكفرت اليهود بعيسى، وكفرت النصارى بموسى. يَتْلُونَ الْكِتابَ كل من الفريقين يتلون الكتاب المنزل عليهم، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى، وفي

سبب نزول الآية (113) :

كتاب النصارى تصديق موسى. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ اي كما قال المشركون من العرب وغيرهم. مِثْلَ قَوْلِهِمْ بيان لمعنى ذلك، أي قالوا لكل ذي دين: ليسوا على شيء. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. في أمر الدين، فيدخل المحق الجنة، والمبطل النار. سبب نزول الآية (113) : نزلت في يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، فكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . التفسير والبيان: لقد نجم عن عدم إيمان أهل الكتاب بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم ضلال وتمزق وانقسام شديد بسبب اتباع الأهواء، أما اليهود وهم أسوأ حالا من النصارى فلهم حالان: الأولى- تضليل من عداهم، وادعاؤهم أنهم شعب الله المختار، وأن النبوة مقصورة عليهم. والثانية- تضليل اليهود للنصارى، وتضليل النصارى لهم، مع ان التوراة شريعة للنصارى، والإنجيل متمم للتوراة. ومعنى الآية: أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وكل طائفة منهما تكفّر الأخرى. تلك تمنياتهم الباطلة التي لا أساس لها، ولا فائدة منها، وإلا فهاتوا البرهان على ما تزعمون أيها اليهود والنصارى، إن كنتم صادقين، فليست المسألة مجرد دعوى. وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدّعى، فهو في

_ (1) البحر المحيط: 1/ 350

العرف تكذيب للدعوى، لأنه لا برهان لهم عليها. وفي هذا إيماء إلى أنه لا تقبل دعوى من دون برهان عليها. ثم ردّ الله عليهم بقوله: بَلى كلمة تفيد الجواب لإثبات نفي سابق، وردّ لما زعموه، فإن الذي يدخل الجنة من لم يكن هودا أو نصارى، وهو كل من انقاد لله وأخلص في عمله، وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده، وهؤلاء لهم الأجر عند ربهم بلا خوف ولا حزن في الآخرة، خلافا لعبدة الأوثان والأصنام الذين هم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم. والآية تدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بدّ من إحسان العمل أيضا، وجرت سنة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح، مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء 4/ 124] وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء 21/ 94] . واشتدّ الخصام والنزاع بين أهل الكتاب، فلم يكتفوا بما سبق، بل قالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين يعتدّ به، فلا يؤمنون بالمسيح الذي بشّرت به التوراة، ولا يزالون إلى اليوم يدّعون أن المسيح المبشّر به لما يأت بعد، وينتظرون ظهوره، وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء من الدين الصحيح، فأنكروا تتميم المسيح لشريعة اليهود. قالوا ذلك والحال أنهم أصحاب كتاب يدّعون تلاوته ويؤمنون به، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتي بعد موسى، والإنجيل يقول: إن المسيح جاء متمما لناموس (شريعة) موسى، لا ناقضا، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة، والنصارى تؤمن بالإنجيل، لما قالوا مثل ذلك، لأن كل كتاب نزل من عند الله، مصدقا لما

فقه الحياة أو الأحكام:

سبقه، ومبشرا لما يأتي بعده، وكل منهما مشروع في وقت، والمعنى: أن دينهم واحد، ترك كل فريق منهم بعضه، وكتاب كل منهم حجة عليهم. وهم في هذا الموقف لا يؤمنون بشيء، ولقد قال المشركون عبدة الأوثان الذين لا يعلمون شيئا لعدم وجود كتاب سماوي لديهم مثل مقالة أهل الكتاب، فقالوا لأهل كل دين: لستم على شيء، والله يحكم بين الجميع يوم القيامة بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، فهو العليم بما عليه كل فريق من حق أو باطل، ويجازيهم على بطلانهم أشدّ الجزاء، وأما الجنة: فهي لمن أخلص العبادة لله، وانقاد له، وأخلص نفسه لربه، لا يشرك به غيره، وهو محسن أي عامل بأوامر الله، متجنب نواهيه. فقه الحياة أو الأحكام: إن من شأن أهل الكتاب أن يؤمن كل فريق بكتاب الآخر، ثم يؤمنون جميعا بالقرآن، لأنهم على علم بأصول الدين والوحي، وإقرار بمبدإ النبوة، واعتراف بوجود الإله، خلافا لكفار العرب المشركين عبدة الأصنام والأوثان، لأنهم لا كتاب لهم. فلا مسوغ لوقوع التنازع والتناقض والتباغض والتعادي والتعاند بين اليهود والنصارى، وما عليهم إلا أن يعملوا ويؤمنوا بكل ما جاء في كتابهم، فيهتدوا إلى الإيمان الحق، والتصديق برسالة كل نبيّ آت. وطريق النجاة لكل إنسان: هو الإيمان الخالص لله، المتضمن تمام الخضوع والانقياد لأمر الله، المنزّه عن كل شرك، القائم على العمل الصالح والعبادة الخالصة لله عزّ وجلّ، فلا ينفع الإيمان وحده دون اقترانه بالعمل الصالح. وليس لأحد أو شعب أن يدّعي أنه أحق برحمة الله دون غيره، لأن الله ربّ العالمين، يجازي كل إنسان بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولا تقبل

ظلم مانع الصلاة في المساجد، وصحة الصلاة في أي مكان [سورة البقرة (2) الآيات 114 إلى 115] :

دعوى أحد من غير برهان، فمن ادّعى نفيا أو إثباتا، فلا بدّ له من الدليل، وتدل الآية على بطلان التقليد: وهو قبول الشيء بغير دليل. والقرآن ذاته مليء بالاستدلال على القدرة والإرادة والوجود والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية، ويكفي دليلا على وجوده تعالى الخلق والإبداع والتكوين، كما يكفي دليلا على وحدانيته عدم صلاح الكون والعالم بتعدّد الآلهة كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] . ظلم مانع الصلاة في المساجد، وصحة الصلاة في أي مكان [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) الإعراب: وَمَنْ أَظْلَمُ مبتدأ وخبر، ولما كان معنى هذا الاستفهام النفي كان خبرا. أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في منصوب: إما بدل من مَساجِدَ بدل اشتمال، كقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [البروج 85/ 4- 5] وإما مفعول لأجله، أي لئلا يذكر فيها اسمه، وكراهة أن يذكر فيها اسمه، كقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء 21/ 31] أي لئلا تميد بهم، وكقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلوا، وكراهة أن تضلوا. ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ: أَنْ يَدْخُلُوها في موضع رفع، لأنه اسم كانَ ولَهُمْ الخبر، وخائِفِينَ منصوب على الحال من واو يَدْخُلُوها.

البلاغة:

البلاغة: وَمَنْ أَظْلَمُ استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أظلم منه. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ التنكير للتهويل أي خزي هائل لا يوصف. عَلِيمٌ صيغة مبالغة، أي واسع العلم. المفردات اللغوية: وَمَنْ أَظْلَمُ استفهام إنكاري ويفيد النفي. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والمسجد: موضع العبادة لله تعالى. وَسَعى فِي خَرابِها تخريبها وهدمها وتعطيلها، نزلت إخبارا عن الروم الذين خربوا بيت المقدس، أو في المشركين لما صدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية عن البيت. أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ خبر بمعنى الأمر، أي أخيفوهم بالجهاد، فلا يدخلها أحد آمنا. خِزْيٌ ذلّ وهوان بالقتل والسبي وفرض الجزية. عَذابٌ عَظِيمٌ هو النار. فَثَمَّ هناك. وَجْهُ اللَّهِ جهته وقبلته التي رضيها. واسِعٌ يسع فضله كل شيء، فلا يحصر ولا يتحدد. عَلِيمٌ شامل العلم بتدبير خلقه. سبب نزول الآية (114) : هناك روايتان عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، ففي رواية الكلبي عنه: نزلت في ططلوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرفوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف. وقال قتادة: هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم. وفي رواية عطاء عن ابن عباس: نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن قريشا منعوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ الآية.

المناسبة:

وأخرج ابن جرير عن أبي زيد قال: نزلت في المشركين، حين صدوا رسول الله عن مكة يوم الحديبية. ورجح ابن العربي أنها نزلت في صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بيت المقدس، ثم عاد فصلّى إلى الكعبة، فاعترضت عليه اليهود، فأنزلها الله تعالى له كرامة، وعليهم حجة، كما قال ابن عباس. وعلى أي حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فتشمل أهل الكتاب ومن على شاكلتهم، وينطبق على ما وقع من تيطس الروماني الذي دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة، وخربها، وهدم هيكل سليمان، وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك. كما ينطبق على مشركي مكة الذين منعوا النّبي وأصحابه من دخول مكة، وكذلك على الصليبيين الذين أغاروا على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين، وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد، ويتكرر الأمر من اليهود في الوقت الحاضر بتخريب كثير من مساجد فلسطين، وإحراق المسجد الأقصى، ومحاولات هدمه المتكررة. المناسبة: ذكر النصارى في قوله: وَقالَتِ النَّصارى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ وذكر المشركون في قوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وفي أي فريق نزلت هذه الآية بسببه، كان ذلك مناسبا لذكرها. التفسير والبيان: لا ظلم ولا اعتداء على الحرمات أشد من منع العبادة في المساجد العامة، والسعي في تخريبها وهدمها أو تعطيل وظائفها وشعائر الدين فيها، لما في ذلك من انتهاك حرمة الدين المؤدي إلى نسيان الخالق، وإشاعة المنكرات والفساد بين

فقه الحياة أو الأحكام:

الناس. وما كان ينبغي لهؤلاء المخربين أو المعطلين أن يدخلوها إلا بخشية ومهابة وخوف من عظمة الله والدين وسطوة الإسلام والمسلمين. وقد توعدهم الله بالذل والهوان في الدنيا، كما حل بالرومان الذين تشتت ملكهم، وبالعذاب الشديد في الآخرة في جهنم وبئس المصير. وإذا حيل بين المسلم وبين المساجد، فله أن يصلي في أي مكان، وأينما توجه المصلي فهو متجه إلى الله، فلله جهة المشرق والمغرب أي أن ذلك له ملك وخلق، فتجوز الصلاة إليه، والله تعالى عنه راض، مقبل عليه، وهو معه، لأن الله تعالى واسع لا يحده مكان، ولا ينحصر ولا يتحدد بجهة، وواسع العلم يعلم كل من اتجه إليه. فقه الحياة أو الأحكام: إن تدمير المساجد أو الصد عنها جرم عظيم، لا يرتكبه إلا من فقد الإيمان، وعادى جوهر الدين، واتبع الأهواء، وحارب الأخلاق والفضائل، ولم يقدم على تلك الجريمة في الماضي أو في العصر الحاضر، سواء في ديار الإسلام أو غيرها إلا الملحدون المارقون من الدين، الذين يبتغون نشر الإلحاد وتقويض دعائم الدين والإسلام. ومن حمد الله أن دين الإسلام دين السعة واليسر، وبلاد الله تسع المؤمنين، فلا يمنعهم تخريب مساجد الله أن يولوا وجوههم نحو قبلة الله، أينما كانوا في أرض الله. وقد نزلت الآية (115) - كما ذكر ابن جرير الطبري- قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطال ما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد. وبعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة يظل المقصود من الآية قائما، فهي تقرر

أمرا اعتقاديا له صلة بالإيمان الذي يعمر به قلب المؤمن، فأينما كان المؤمنون من شرق وغرب، فثمّ وجه الله الذي أمرنا باستقباله، وهو الكعبة. والحكمة من الاتجاه إلى القبلة، بالرغم من أن القصد هو الله الذي لا يحده مكان، هو توحيد وجهة العابدين، وتجميع مشاعرهم وعواطفهم في إطار هدف واحد، ولأنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله، لأن ذاته تعالى ليست محصورة في شيء من خلقه، شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه، وجعل استقباله كاستقبال وجه الله تعالى. قال ابن العربي: إن الله تعالى أمر بالصلاة عبادة، وفرض فيها الخشوع استكمالا للعبادة، وألزم الجوارح السكون، واللسان الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، ونصب البدن إلى جهة واحدة، ليكون ذلك أنفى للحركات، وأبعد للخواطر، وعينت له جهة الكعبة تشريفا له «1» . والخلاصة: هل الآية (115) منسوخة؟ للعلماء رأيان «2» : رأي يقول: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذنا من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف. ورأي الجمهور: أنها منسوخة، وفيها تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة، وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بمكة إلى بيت المقدس، والكعبة بين يديه. فلما قدم المدينة، وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد، ولهذا

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 35 (2) تفسير ابن كثير: 1/ 157 وما بعدها.

حكم الخطأ في الاتجاه لغير القبلة:

يقول تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 2/ 115] . قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: قال ابن عباس: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا- والله أعلم- شأن القبلة، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.. الآية. فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق، ونسخها، فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة 2/ 150] . حكم الخطأ في الاتجاه لغير القبلة: إذا صلّى الإنسان في أثناء الغيم لغير القبلة مجتهدا، ثم بان له بعدئذ أنه صلّى لغير القبلة، فإن صلاته جائزة عند الجمهور (أبي حنيفة ومالك وأحمد) ، لكن في رأي مالك تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلّى وحده، ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة، أنه يعيد معهم. ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرّق أو غرّب جدا مجتهدا. وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال الشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. صلاة النافلة على الراحلة: لا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة، لما أخرجه مسلم عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي، وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 2/ 115] .

الصلاة على الغائب:

واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة (أقل من 89 كم) ، فقال المالكية والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يتطوع فيها، كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وداود الظاهري: يجوز التطوع على الراحلة، خارج المصر، في كل سفر، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أم لا، لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر يجوز فيه ذلك، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له «1» . الصلاة على الغائب: أجاز الشافعي الصلاة على الغائب، بدليل أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه سنة تسع من الهجرة على النجاشي ملك الحبشة- واسمه أصحمة، وهو بالعربية: عطية، وقد تساءل الصحابة: كيف نصلي على رجل مات، وهو يصلي لغير قبلتنا؟ فنزلت الآية: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران 3/ 199] «2» لكن هذا الخبر غريب جدا وهو مرسل أو معضل. المقصود بوجه الله في القرآن والسنة: اختلف الناس في تأويل الوجه المصاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة «3» ، فقال جماعة: ذلك من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد (المخلوق) وأجلها قدرا. والمراد بمن له الوجه: أي الوجود، وعليه يتأول قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الدهر 76/ 9] . المراد به: لله الذي له الوجه.

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 80- 81 (2) المصدر السابق [.....] (3) المصدر السابق: 2/ 83

افتراءات أهل الكتاب والمشركين بنسبة الولد لله والمطالبة بتكليمه الناس [سورة البقرة (2) الآيات 116 إلى 118] :

وكذلك قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [الليل 93/ 20] . أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه: عبارة عنه عز وجل، كما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 27] ، ومعنى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: فثمّ الله. وهذا يدل على نفي الجهة والمكان عنه تعالى، لاستحالة ذلك عليه، وأنه في كل مكان بعلمه وقدرته. وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى وهذا أولى وأحوط. افتراءات أهل الكتاب والمشركين بنسبة الولد لله والمطالبة بتكليمه الناس [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 118] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَيُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) الإعراب: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّما رفع بالابتداء، والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. فَيَكُونُ قرئ بالرفع والنصب، فمن قرأ بالرفع جعله عطفا على قوله تعالى: يَقُولُ تقديره: فهو يكون. ومن قرأ بالنصب، اعتبر لفظ الأمر، وجواب الأمر بالفاء منصوب، والنصب ضعيف، لأن «كن» ليس بأمر في الحقيقة.

البلاغة:

البلاغة: سُبْحانَهُ جملة اعتراضية لإبطال دعوى الظالمين الذين زعموا لله الولد. كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ استعمال صيغة جمع العقلاء في قانِتُونَ للتغليب أي تغليب العقلاء على غيرهم للتشريف. المفردات اللغوية: سُبْحانَهُ تنزيها له عما يصفون، وتعجبا مما يقول الجاهلون. قانِتُونَ منقادون، والقنوت: الخضوع والانقياد. بَدِيعُ مبدع، والإبداع: هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق. قَضى أراد. أَمْراً أي إيجاده. هلا. والآية: الحجة والبرهان. والتشابه: التماثل. واليقين: هو العلم القاطع بالدليل والبرهان. المناسبة وسبب النزول: دلت الآيات السابقة على زعم اليهود أن الجنة خاصة بهم، وزعموا أيضا كما تفيد الآية هنا أن عزيرا ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، فأكذبهم الله جميعا بالدليل القاطع. فهذه الآية (116) نزلت في اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح ابن الله، وفي مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله. وأما سبب نزول الآية (118) : فهو ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس، قال: قال رافع بن خزيمة لرسول الله: إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله: فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الآية.

التفسير والبيان:

وحكى القرطبي: يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد، قال ابن كثير: وهو ظاهر السياق «1» . التفسير والبيان: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، ولا فرق بين أن يصدر هذا القول من الجميع أو البعض، فإن أفراد الأمة متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون. سبحانه وتعالى تنزيها له عما يدعون، فليس لله حاجة إلى المعونة، وله كل ما في السموات والأرض، الكل خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته. وهو الذي أبدع وابتكر السموات والأرض لا على مثال سبق، ومالك ما فيهن، وإذا أراد أمرا أوجده فورا أسرع مما بين حرفي «كن» من غير امتناع. والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية، عبر عنهما بما يقربهما للفهم بقوله: كُنْ فَيَكُونُ. وإذا اختار الله بعض خلقه للنبوة أو الرسالة كالرسل والملائكة، فلا يتجاوز حد مرتبة المخلوق، ويظل الكل عبيدا لله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] فمن كان له ما في السموات والأرض خلقا وملكا، ومن كان له كل ما في الكون منقاد لأمره، ومن أبدع السماء والأرض، ومن له أمر التكوين والإيجاد الفوري، أيحتاج إلى الولد والوالد؟! ويؤيد هذه الآية قول الله تعالى عن مشركي العرب: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] وقوله تعالى: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله: قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 90- 93] وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 92، تفسير ابن كثير: 1/ 161

الآية [الفرقان 25/ 21] وقوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [القيامة 75/ 52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، وإنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من أمم أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وغيرهم، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء 4/ 153] وقال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ: يا مُوسى، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 2/ 55] . أما الذين لا يعلمون من المشركين، لأنه لا كتاب لهم، ولا هم أتباع نبي يبين لهم ما يليق بالألوهية فقالوا: هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك، كما يرسله إليك، أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة، وليس مرادهم من هذه المطالب إلا الاستكبار والعتو والعناد، والاستخفاف بالآيات البينات، والجحود بالقرآن. ومثل هذه الأسئلة التي يراد منها التعنت، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، كما ذكرنا في الآيات المؤيدة لهذه الآية. قال أهل الكتاب سابقا مثل قول المشركين، وقد تماثلت قلوبهم وأرواحهم، وأشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في العمى والقسوة والعناد والكفر، والألسنة ترجمان القلوب، فما في القلب يعبر عنه اللسان. والحق واحد، ومخالفته هي الضلال وهو واحد، وإن تعددت طرقه، واختلفت وجوهه، وآثاره تتشابه، حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم، كما قال تعالى: أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات 51/ 53] . والله سبحانه بيّن الآيات وأوضح الدلالات على صدق الرسل أحسن بيان

فقه الحياة أو الأحكام:

وأتمه، بما لا يدع مجالا للشك لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، وعندهم الفهم الصحيح بسبب إنصافهم وصفاء نفوسهم، وبعدهم عن العناد والمكابرة، وقد كان هذا شأن الصحابة يسألون النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما لم يعرفوا دليله، لمحبتهم الحق، ووقوفهم عند البينة والدليل، فهم نماذج المنصفين الموقنين الذين اتبعوا الرسل بقناعة وعقل، وفهموا ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى. وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . فقه الحياة أو الأحكام: إن الاستجابة لنداء الإيمان تتطلب إعمال العقل وتفتح الكفر، وصفاء النفس، وإدراك حقائق الكون، ولو إدراكا بسيطا، وتقتضي تجردا عن الحظوظ النفسية، والأهواء الشخصية، وترك العناد. فإذا توافرت هذه الاستعدادات، تسارع نور الإيمان إلى القلب، فملأ النفس بهجة وسعادة وطمأنينة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد 13/ 28] . أما نسبة الولد لله فهذا جهل بحقيقة الألوهية التي تمتاز بسمو الاتصاف بشيء فيه نقص من خصال البشر، ولا تحتاج إلى أحد من الخلق، فالله هو الأحد الواحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. ولا يكون الولد إلّا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون 23/ 91] فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي، الواحد الأحد، الفرد الصمد، كما ذكر.

والمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطيع، والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. قال الجصاص عن قوله تعالى: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: فيه دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده، لأنه نفى الولد بإثبات الملك بقوله تعالى: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ملكه، وليس بولده» . وقال القرطبي: والله تعالى مبدع السموات والأرض أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال سبق. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له: مبدع. ومنه أصحاب البدع، وسميت البدعة بدعة، لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري: «ونعمت البدعة هذه» يعنى قيام رمضان. وكل بدعة صدرت من مخلوق، فلا يخلو إما أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل، كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض رسوله عليه، فهي في حيّز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: «نعمت البدعة هذه» لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهي في حيز الذم والإنكار. وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم في خطبته: «وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم. وقد بيّن هذا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 1/ 65

ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» «1» . أما الخلق والإيجاد فيحدث بمجرد الأمر الإلهي، فإذا قضى أمرا أوجده فورا، أي إذا أراد إحكام أمر وإتقانه- كما سبق في علمه- قال له: كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم، فقد فرغ مما بين الخصمين. ويلاحظ أن «قضى» لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، كما في قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت 41/ 12] أي خلقهن، ويكون بمعنى الاعلام، كما قال تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الإسراء 17/ 4] أي أعلمنا، ويكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 23] ، ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص 28/ 29] ، ويكون بمعنى الإرادة، كقوله تعالى: فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي إذا أراد خلق شيء. قال ابن عطية: «قضى» معناه قدّر، وقد يجيء بمعنى أمضى «2» . وبمناسبة قوله سبحانه إِذا قَضى أَمْراً ذكر العلماء أن الأمر يأتي في القرآن على أربعة عشر وجها: الأول- الدّين، قال الله تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة 9/ 48] يعني دين الإسلام.

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 86- 87 (2) المصدر السابق: 2/ 88

الثاني- القول، ومنه قوله تعالى: إِذا جاءَ أَمْرُنا [هود 11/ 40] يعني قولنا، وقوله: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [طه 20/ 62] يعني قولهم. الثالث- العذاب، ومنه قوله تعالى: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم 14/ 22] يعني: لما وجب العذاب بأهل النار. الرابع- عيسى عليه السّلام، قال الله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً [مريم 19/ 35] يعني عيسى من غير أب. الخامس- القتل ببدر، قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ [غافر 40/ 78] يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الأنفال 8/ 42] يعني قتل كفار مكة. السادس- فتح مكة، قال الله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة 9/ 24] يعني فتح مكة. السابع- قتل بني قريظة وجلاء بني النضير، قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة 2/ 109] . الثامن- القيامة، قال الله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل 16/ 1] . التاسع- القضاء، قال الله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [الرعد 13/ 2] يعني القضاء. العاشر- الوحي، قال الله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة 32/ 5] أي ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق 65/ 12] يعني الوحي. الحادي عشر- أمر الخلق، قال الله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى 42/ 53] يعني أمور الخلائق. الثاني عشر- النصر، قال الله تعالى: يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران 3/ 154] يعنون النصر، قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني النصر. الثالث عشر- الذنب، قال الله تعالى: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق

التحذير من اتباع اليهود والنصارى [سورة البقرة (2) الآيات 119 إلى 121] :

65/ 9] يعني جزاء دينها. الرابع عشر- الشأن والفعل، قال الله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود 11/ 97] أي فعله وشأنه، وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور 24/ 63] أي فعله. التحذير من اتباع اليهود والنصارى [سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 121] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) الإعراب: بَشِيراً حال من كاف أَرْسَلْناكَ ونَذِيراً عطف عليه وَلا تُسْئَلُ قرئ بالرفع على أن لا نافية، والجملة خبرية حال، وقرئ بالجزم تسأل على أن لا ناهية. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ فيه وجهان: أحدهما- أن يكون التقدير فيه: مالك من عذاب الله من ولي، والثاني- أن يكون المعنى: مالك الله وليا ولا نصيرا، والعرب تقول مثل هذا بحرف الجر، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ [النحل 16/ 10] أي ماء لكم هو شراب. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الَّذِينَ اسم موصول مبتدأ، وآتَيْناهُمُ صلته، ويَتْلُونَهُ جملة فعلية منصوبة على الحال من ضمير آتَيْناهُمُ. وأُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبره. حَقَّ تِلاوَتِهِ منصوب على المصدر. البلاغة: أَصْحابِ الْجَحِيمِ التعبير عن الكافرين والمكذبين بذلك إيذان بأنه لا يرجى منهم الرجوع

المفردات اللغوية:

هُوَ الْهُدى تعريف الهدى مع اقترانه بضمير الفصل يفيد قصر الهداية على دين الله، فهو قصر الصفة على الموصوف. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التهييج. المفردات اللغوية: الْجَحِيمِ النار: وهي جهنم، وأصحابها هم الكفار. مِلَّتَهُمْ دينهم هُدَى اللَّهِ هو الإسلام وَلَئِنِ لام قسم مِنَ الْعِلْمِ الوحي من الله ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحفظك وَلا نَصِيرٍ يمنعك منه. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالكتاب المؤتى، بأن يحرفه الْخاسِرُونَ الهالكون. سبب نزول الآيات (119- 121) : قيل: نزلت في أبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن الحديث مرسل غير ثابت. وقال مقاتل فيما رواه بسنده: إن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» ، فأنزل الله تعالى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ 3. وأما الآية (120) : فقال المفسرون: إنهم كانوا يسألون النّبي صلّى الله عليه وسلّم الهدنة، ويطمعون أنه إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه ووافقوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس: هذا في القبلة، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة، شق ذلك عليهم، فيئسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأما الآية (121) : فقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: نزلت في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، كانوا أربعين رجلا من الحبشة وأهل الشام. وقال الضحاك: نزلت فيمن آمن من اليهود. وقال قتادة وعكرمة: نزلت في محمد صلّى الله عليه وسلّم.

المناسبة:

المناسبة: لمّا بيّن الله الآيات، ذكر من بينت على يديه، فأقبل عليه وخاطبه صلّى الله عليه وسلّم ليعلم أنه هو صاحب الآيات، وبعد إثبات الوحدانية أردفه بإثبات النبوة. التفسير والبيان: هذه الآية (119) إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا يضيق صدره، فهي تقرر له أنه أرسله للناس رسولا يبشر المؤمنين وينذر الكافرين، ويسعد الناس بالعقيدة المطابقة للواقع، وبالشرائع والأحكام التي تسعد الناس قاطبة، ويبشر من أطاعه بالجنة، وينذر من عصاه بالنار، وأن مهمته تبليغ الرسالة دون شيء بعدها، فلا حرج عليه إن أصروا على الكفر والعناد: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 52] فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] . ولا تسأل عن أصحاب النار، فلا يضرنك تكذيبهم لك، ولا تأس عليهم ولا تحزن، فأنت لم تبعث مكرها ولا جبارا، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا، بل بعثت معلما ومبلغا وهاديا بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] . وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يرجو أن يؤمن أهل الكتاب برسالته، لموافقتهم له في أصل الدين، من توحيد الله، وتقويم الاعوجاجات والتقاليد الفاسدة، فعز عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، ولسان حالهم يقول: يا محمد مهما تأتنا من بينة، ومهما فعلت لإرضائنا، فلن نرضى حتى تتبع ملتنا. والملة: هي الطريقة المشروعة للعباد، والكفر كله ملة واحدة، وتسمى دينا، لأن العباد انقادوا لمن سنها. وتسمى شريعة، لأنها مورد إلى ثواب الله ورحمته.

فرد الله عليهم: إن هدى الله ودينه الذي هو الإسلام والذي أنزله على الأنبياء هو الهدى الواجب اتباعه وحده، أما غيره فمبني على الهوى والشهوة، وهو ما أضافه إليه اليهود والنصارى، فإن اتبعت يا محمد أهواءهم، وما أضافوه إلى دينهم، بعد ما استقر في قلبك من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي الذي نزل عليك، ومنه أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل، فالله لا ينصرك ولا يؤيدك، وإذا لم ينصرك الله ويتولاك، فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟. وفي هذا قطع الأمل للنبي عليه السلام في إسلامهم، لأن رضاهم عنه معلق بمستحيل: وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم. وهذا الإنذار للنبي والوعيد هو في الحقيقة خطاب للناس كافة، ممثلين في شخص النّبي عليه الصلاة والسلام، لأنه الإمام والقائد والقدوة. ثم استدرك الحق سبحانه على ما ذكر قبل، حتى لا ييأس النّبي صلّى الله عليه وسلّم يأسا دائما من إيمان أهل الكتاب، فأخبر بأن بعض الكتابيين يتلون التوراة تلاوة تدبر وإمعان، ويفهمها حق الفهم، ولا يتعصب تعصبا أعمى، ولا يحرفون ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يبيع آخرته بدنياه، ويسأل الله الجنة، ويتعوذ من النار، فهؤلاء يدركون أن ما جئت به الحق، فيؤمنون بالتوراة دون تحريض، ومن يؤمن بها يؤمن بالقرآن والنبي، مثل عبد الله بن سلام وأشباهه، ومن يكفر بكتابه من المحرفين، فلا يؤمن بك أصلا، أولئك هم الهالكون، وكثير ما هم، وهم الذين خسروا سعادة الدنيا والآخرة، وحق عليهم العذاب، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار؟! فالمقصود بكلمة الْكِتابَ التوراة، وقال قتادة: المقصود به القرآن، قال القرطبي: والآية تعم. وعلى كلا الحالين، المقصود بقوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ: يتبعونه حق اتباعه، باتباع الأمر والنهي، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن دين الله وتكاليفه يسر لا عسر، فهو يمتاز بشيئين أساسيين هما: التعقل والمنطق، والقيام بالواجب قدر الطاقة والوسع، دون إعنات ولا إرهاق. وليست مهمة الأنبياء لقسر الناس وإكراههم على الإيمان والاعتقاد الحق، وإنما هي محصورة بالتبليغ والبيان، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، والنّبي بعد التبليغ لا يكون مسئولا عنهم ولا مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار. وإن المساومات الرخيصة على العقيدة الحقة لا تفيد شيئا، ولا تحقق هدفا. وإن من يتمسك بدينه الأصلي حتى ولو كان من اليهود والنصارى فلا بد من أن يؤديه دينه الذي لم يبدله ولم يحرفه إلى الاستمساك بالقرآن والإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله، وسلم: لأن دين الله في الأصل ذو جوهر واحد، وعباداته وشرائعه تلتقي عند غاية واحدة، وهي توحيد الإله والاعتراف بربوبيته، والأخلاق والفضائل الإنسانية الصحيحة لا يختلف فيها اثنان. وليس غرض اليهود والنصارى بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتاهم بكل ما يسألون عنه لم يرضوا عنه، وإنما يرضيهم ترك ما هو عليه من الإسلام، واتباعهم. وفي كل ذلك عبرة للأجيال، كما قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] . وإن تلاوة كتاب الله ينبغي أن تكون بتدبر وفهم وإمعان، لا لمجرد التلاوة، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] وقال: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص 38/ 29] . والفائدة المنشودة من القرآن هي العمل به، فهو كما ثبت في الحديث الصحيح: «والقرآن حجة لك أو عليك» ومن يتلو القرآن، وهو معرض عن آياته والعمل به، يكون كالمستهزئ بربه. أما الأمي فعليه سؤال العلماء لشرح

معنى القرآن، وإفهامه مراده: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] . هذا.. وقد استدل بالآية (120) أبو حنيفة والشافعي وداود الظاهري وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: مِلَّتَهُمْ فوحد الملة، وبقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون 109/ 6] ، وبقوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» على أن المراد به الإسلام والكفر، بدليل قوله عليه السّلام: «لا يرث المسلم الكافر» . وذهب الإمام مالك، وأحمد في الرواية الأخرى: إلى أن الكفر ملل، فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين» . وأما قوله تعالى: مِلَّتَهُمْ فالمراد به الكثرة، وإن كانت موحدة في اللفظ، بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذت عن علماء أهل المدينة- مثلا- علمهم، وسمعت عليهم حديثهم، يعني علومهم وأحاديثهم. والخطاب في قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ إما للرسول، لتوجه الخطاب إليه، وإما للرسول، والمراد به أمته. وإذا كان الرسول هو المخاطب فأمته أولى، لأن منزلتهم دون منزلته. وسبب الآية: أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدنة، ويعدون النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم. واستدل الإمام أحمد بقوله: مِنَ الْعِلْمِ على كفر من اعتقد أن القرآن مخلوق، فإنه سئل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، قيل: بم كفّرته؟ فقال: بآيات من الله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [الرعد 13/ 37] والقرآن من علم الله، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.

تذكير بالنعمة وتخويف من الآخرة [سورة البقرة (2) الآيات 122 إلى 123] :

والمقصود من تلاوة كتاب الله حق التلاوة: اتباعه حق الاتباع، كما بينا، قال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة، وقال الحسن البصري: هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. تذكير بالنعمة وتخويف من الآخرة [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) المفردات اللغوية وَاتَّقُوا خافوا لا تَجْزِي تغني عَدْلٌ فداء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله. التفسير والبيان: يكرر المولى سبحانه للتأكيد تذكير اليهود بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، لتجديد ثقتهم ونشاطهم، وتشجيعهم وحفز هممهم، وبعث نفوسهم على الإيمان وحثهم على اتباع النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم، ثم قرن الله تعالى بالعظة والتذكير التخويف من حساب يوم القيامة. ففي الآية الأولى يعظ الله اليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، ويذكرهم بالنعم الكثيرة الدنيوية والدينية التي أنعم بها على آبائهم، بإنقاذهم من أيدي عدوهم، وإنزاله المن والسلوى عليهم، وتمكينهم في البلاد بعد المذلة والقهر، وإرساله الرسل منهم، وتفضيلهم على عالمي زمانهم، حين كانوا مطيعين للرسل،

فقه الحياة أو الأحكام:

مصدقين لما جاءهم من عند ربهم، حتى يتركوا ضلالهم، ويثوبوا إلى رشدهم. ومن أجل النعم التوراة المنزلة عليهم، فمن شكر النعمة وآمن بجميع ما فيها، آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم المبشر به فيها. وفي الآية الثانية يحذرهم الله من عذاب يوم القيامة بسبب تحريف التوراة، والتكذيب برسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذلك اليوم الذي لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤاخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا، ولا يؤخذ منها فدية تنجو بها من النار، ولا يشفع بما يجب عليها شافع، ولا ناصر ينصرهم، فيمنع عنهم عذاب الله. فقه الحياة أو الأحكام: تؤكد هذه الآية ما جاء في صدر السورة، لحث اليهود وغيرهم على اتباع الرسول النبي الأمي المطابقة صفته لما في التوراة، وتأمرهم ببواعث الإيمان: وهي تذكر النعم الدينية والدنيوية التي أنعم الله بها على آبائهم، والإقلاع عن حسد بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال خاتم النبيين منهم، وألا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه. فإن أبوا فإن مصيرهم المحتوم هو الحساب الشديد يوم القيام، المحقق الوقوع والنتيجة أو الأثر وهو العقاب، دون أن ينفع الوسطاء أو الشفعاء، والبدل أو الفداء، والنصر أو المنع من العذاب، ويكون كل امرئ مسئولا عن نفسه، ولا يسأل أحد عن غيره، كما قال تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] .

اختبار إبراهيم عليه السلام وخصائص البيت الحرام وفضائل مكة [سورة البقرة (2) الآيات 124 إلى 126] :

اختبار إبراهيم عليه السّلام وخصائص البيت الحرام وفضائل مكة [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 126] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) الإعراب: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فيه تقديم المفعول على الفاعل، وهو واجب، لاتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول. مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل منصوب من أَهْلَهُ بدل بعض من كل، وضمير مِنْهُمْ يعود إلى المبدل منه، لأن بدل البعض من الكل، لا بد أن يعود منه ضمير إلى المبدل منه لفظا أو تقديرا. وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا: مِنَ إما منصوب بفعل مقدر تقديره: وأرزق من كفر، وإما مرفوع مبتدأ، وهي شرط، وفَأُمَتِّعُهُ الخبر والجواب. وقَلِيلًا منصوب إما لأنه صفة لمصدر محذوف، وتقديره: تمتيعا قليلا، أو لأنه صفة لظرف محذوف، وتقديره: زمانا قليلا. البلاغة: ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ تشريف له، بتكليفه الأوامر والنواهي التي يظهر بها استحقاقه للإمامة.

المفردات اللغوية:

وَأَمْناً فيه استعمال المصدر محل اسم الفاعل للمبالغة، وتقديره: وآمنا. وطَهِّرا بَيْتِيَ إضافة البيت لله عز وجل للتشريف والتعظيم، لا أن هناك مكانا محل الله تعالى. المفردات اللغوية: ابْتَلى إِبْراهِيمَ اختبره، والابتلاء: الاختبار، أي معرفة حال المختبر بتكليفه بأمور يشق عليه فعلها أو تركها، ليجازيه عليها. بِكَلِماتٍ أي أوامر ونواه، قيل: هي مناسك الحج، وقيل خصال الفطرة: وهي المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الشعر وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء. فَأَتَمَّهُنَّ أداهن تامات. إِماماً قدوة في الدين أو رسولا. ذُرِّيَّتِي أولادي، أي اجعل أئمة منهم. عَهْدِي بالإمامة. الظَّالِمِينَ الكافرين منهم، دل على أنه ينال غير الظالم. الْبَيْتَ بيت الله الحرام أو الكعبة. مَثابَةً مرجعا ومآبا يثوبون إليه من كل جانب. وَأَمْناً مأمنا من الظلم والإغارة الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه، فلا يتعرض له مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت. مُصَلًّى مكان صلاة، بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف. طَهِّرا بَيْتِيَ من الأوثان. الْعاكِفِينَ المقيمين فيه، الملازمين له. والثَّمَراتِ المأكولات التي تخرجها الأرض. والاضطرار: الإلجاء والحمل على الشيء أو الإكراه. سبب نزول الآية (125) : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى: روى البخاري وغيره عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو أخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم 66/ 5] فنزلت.

المناسبة العامة للآيات:

المناسبة العامة للآيات: بعد أن ذكّر الله تعالى بني إسرائيل نعمه، وأبان كيف قابلوا النعم بالكفر والجحود، أعقب ذلك بقصة إبراهيم عليه السّلام أبي الأنبياء، الذي يزعم اليهود والنصارى انتماءهم إليه، ولو صدقوا لا تبعوا النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم، لأنه أثر دعوة أبيه إبراهيم حين دعا لأهل الحرم، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب. التفسير والبيان: واذكر يا محمد لقومك المشركين وغيرهم حين اختبر الله إبراهيم ببعض التكاليف من أوامر ونواه، فأتى بها على وجه الكمال، وأداها خير أداء، كما قال سبحانه: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم 53/ 37] . وبما أن الله تعالى عالم بصدق المختبر، فكان المراد أنه عامله معاملة المختبر، ليظهر ذلك للخلق. والمراد من ذكر الوقت في قوله وَإِذِ ابْتَلى ما وقع فيه من الحوادث. ولم يعين القرآن الكلمات، فقيل: هي مناسك الحج، وقيل: إنها الكوكب والشمس والقمر التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله تعالى، وقيل: غير ذلك. فجازاه الله تعالى أحسن الجزاء، وقال له: إني جاعلك للناس رسولا وإماما تؤمهم في دينهم، ويأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون، فدعا الناس إلى ملة التوحيد ونبذ الشرك. قال إبراهيم: وجاعل بعض ذريتي كذلك؟ متمنيا لذريته الخير في سلوكهم ودينهم وأخلاقهم، ولا غرو فالإنسان يتمنى أن يكون ابنه أحسن منه. فأجابه الله تعالى: أجبتك إلى طلبك، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن لا ينال عهدي بالإمامة أو النبوة الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس، لأن الإمام قدوة للناس في حراسة الدين

وأهله وحمل الأتباع على الاستقامة، ومنع الجور، فإذا كان الإمام ظالما لنفسه بالانحراف، فكيف يقوّم غيره؟ والمراد بالعهد: النبوة أو الإمامة. وفيه دليل على مقت الظلم، والتنفير من الظالمين، والبعد عنهم. ثم ذكرّ الله تعالى العرب في هذه الآيات بنعم كثيرة، منها: جعل البيت الحرام (الكعبة) مرجعا للناس يقصدونه، ومآبا يثوبون إليه للعبادة وقت الحج وغيره، وفي ذلك تنشيط لحركة التجارة والاقتصاد وجلب الخير، ومنها جعله مأمنا يطمئن إليه الأفراد من المخاوف، فمن دخله كان آمنا، ويتخطف الناس من حوله، كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟ [العنكبوت 29/ 67] . ثم أمر الله المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، بأن يفضلوه على غيره في الصلاة، لشرفه بقيام إبراهيم فيه، فالأمر فيه للندب، لا للوجوب، والمسلمون مأمورون بذلك كما أمر به المؤمنون المعاصرون لإبراهيم الخليل عليه السّلام. وهذا البيت طاهر مطهر، وصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان وعبادة الأصنام التي كان عليها المشركون قبل أن يصير في يد إبراهيم عليه السّلام، وتطهيره من كل رجس حسي أو دنس معنوي كاللغو والرفث والتنازع فيه، حين أداء المناسك والعبادات كالطواف والسعي بين الصفا والمروة، والإقامة فيه، والركوع والسجود، وقد روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه لما فتح مكة، دخل المسجد، فوجدهم قد نصبوا على البيت الأوثان، فأمر بكسرها، وجعل يطعن فيها بعود في يده، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء 17/ 81] . وفيه أن إبراهيم ومن بعده كانوا مأمورين بهذه العبادات، وإن لم تعرف

الكيفية وطريقة الأداء. وسمي بيتا، لأن الله جعله معبدا لأداء العبادة الصحيحة، وأمر المصلين أن يتجهوا إليه في عبادتهم. والحكمة في اتخاذ الكعبة مقرا لاتجاه المصلين: هو توحيد المشاعر والعواطف، وحصر الاتجاه إلى الذات الإلهية المقدسة، رمزا إلى حضوره تعالى، والحضور الحقيقي محال عليه، فكان المراد أن رحمته الإلهية تحضره. ومن ثم كان التوجه إلى الكعبة كالتوجه إلى تلك الذات العلية. ومن نعمه تعالى على العرب التي أمر الله نبيه أن يذكّرهم بها: دعاء إبراهيم عليه السّلام: أن يجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة، فلا يتسلط عليه الجبارون، ولا يعكر صفوه المجرمون الآثمون، ويحميه سبحانه وتعالى من الخسف والزلزال والغرق والهدم ونحو ذلك من مظاهر سخط الله على بلاد أخرى. ودعاؤه أن يرزق أهله من أنواع الثمار وأطيبها، ومن خيرات الأرض وبركاتها وأمنها، إما بالزرع بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كل ذلك، كما هو مشاهد، وكما قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص 28/ 57] . وفي إجابة دعاء إبراهيم تكريم للمؤمنين، وإن كانت رحمة الله شاملة للمؤمنين والكافرين، فيرزق الله الجميع، كما قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء 17/ 20] لكن تمتيع الكافر بنعم الدنيا قصير محدود، ثم إلى النار، فمن كفر يرزقه الله أيضا، ويمتعه بهذا الرزق أمدا قليلا، وهو مدة وجوده في الدنيا، ثم يساق إلى عذاب جهنم سوقا اضطراريا، وبئس المصير مصيرهم الذي ينتظرهم. وفيه ترغيب لعرب قريش بالإيمان، وزجر عن الكفر، وترهيب لهم

فقه الحياة أو الأحكام:

ولأهل الكتاب من الإعراض عن دعوة الإسلام، فالله تعالى خص طلب الرزق للمؤمنين، إشارة إلى جدارتهم واستحقاقهم له. فقه الحياة أو الأحكام: النبوة أو الإمامة في الدين الصالحة الدائمة الأثر تتطلب الاستقامة على أوامر الله واجتناب نواهيه، والإمامة المؤقتة القائمة على الانحراف والظلم تحفر لنفسها قبرها بيدها، وتدمر كيانها، وتقوض عرش وجودها. فالظلم مانع من الإمامة ومن اتخاذ الظالم قدوة للناس. ولا تكون الإمامة الصالحة أو النبوة إلا للأفاضل الذين يعملون الصالحات، ويرشدون إلى الخير، ويزجرون أنفسهم وغيرهم عن الشر والآثام، ولا حظّ للظالمين في شيء من هذا، لأن الظلم مؤذن بخراب المدنيات، وتدمير الحضارة والعمران. واستدل جماعة بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك. فأما أهل الفسوق والجور والظلم، فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. والذي عليه أكثر العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. وإن تعظيم البيت الحرام بالطواف حوله والسعي فيه أمر قديم من عهد أبينا إبراهيم عليه السّلام، وتخصيصه بالاتجاه إليه رمز لوجوده تعالى هناك، مع أن ذاته العلية لا تتحدد بمكان، وحضوره تعالى معناه حضور رحمته، وإفاضة فضله، وإسباغ نعمه، وإجابة الدعاء فيه. والجدير بالرزق الإلهي: من آمن بالله واليوم الآخر، وأطاع ربه، واستقام على أوامر الله، واجتنب ما نهى الله عنه.

والإنسان مخير في اختيار الحق والطيّب والتزام جادة الاستقامة، وترك الباطل والخبيث، بما أعطاه الله من العقل، وبما أرشده به من الوحي، فمن حاد عن ذلك، فقد ظلم نفسه، وعرّضها للعذاب والشقاء، ويكون ذلك سببا لحملة على العذاب، وإلجائه إليه، وصب السخط عليه والانتقام منه. وأما الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم: فهي الوظائف التي كلفه بها، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما يسمى عيسى بالكلمة، لأنه صدر عن الكلمة، وهي كن، وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز. واختلف العلماء في بيان المراد من الكلمات على أقوال، منها ما يأتي: أحدها- أنها شرائع الإسلام، وقد أكملها إبراهيم عليه السّلام، فما قام أحد بوظائف الدين مثله، ثم قام بها بعده كثير من الأنبياء عليهم السّلام، وخصوصا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحدا بهن، فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السّلام، ابتلي بالإسلام، فأتمه، فكتب الله له البراءة، فقال: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم 53/ 37] . الثاني- أنها الفطرة التي أقامها الله تعالى فيه. روت عائشة في الصحيح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللّحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم (غسل عقد ظهور الأصابع لاجتماع الوسخ فيها) ، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء أي الاغتراف منه، ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة» . الثالث- أنها الكوكب والشمس والقمر، التي رآها واستدل بأفولها على وجود الله تعالى ووحدانيته. وهذا القول هو الذي فسر به ابن كثير (الكلمات) ثم أورد قول ابن جرير الطبري وحاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه أنه المراد على

التعيين إلا بحديث أو إجماع. ثم قال: ولم يصح في ذلك خبر، بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. الرابع- قال ابن عباس: «الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجة نمرود في الله، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمر بذبحه» ويظهر أن هذا أصح الأقوال. واختلف العلماء أيضا في تفسير الأمن على أربعة أقوال: الأول- أنه أمن من عذاب الله تعالى، والمعنى أن من دخله معظّما له، وقصده محتسبا الأجر، سلم من العذاب، ويعضده قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . الثاني- معناه: من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه، من تركها لحق يكون لها عليه. الثالث- أنه أمن من حد يقام عليه، فلا يقتل به الكافر، ولا يقتص فيه من القاتل، ولا يقام الحد على المحصن والسارق، قاله أبو حنيفة وغيره. الرابع- أنه أمن من القتال، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» . قال ابن العربي: والصحيح فيه القول الثاني، وهذا إخبار من الله تعالى عن منّته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه، إجابة لدعوة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، أي الاعتداء، فدعا أن يكون أمنا لهم، فاستجيب دعاؤه «1» .

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 38- 39

والصحيح من اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى معناه: موضعا للصلاة المعهودة، كما بان في سبب نزول الآية السابق ذكره عن عمر رضي الله عنه، واتضح منه أربعة أمور: وهي أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية، وأن المراد به الصلاة المتضمنة للركوع والسجود، لا مطلق الدعاء، وأن الصلاة عقب الطواف، وأن ركعتي الطواف مطلوبتان، وهما عند المالكية: واجبتان، فمن تركهما، فعليه دم. وقال الجصاص الحنفي عن قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى هو أمر ظاهره الإيجاب، والمراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف، وقد روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد صلاهما عند البيت. فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف، ودل فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم لها تارة عند المقام، وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب. ويفهم من قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ عدم جواز تولية الظالم، أو الفاسق، ولا فرق بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما، كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النّبي عليه السّلام. قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه، حتى يعزله أهل الحل والعقد. وقال أيضا: وأما أخذ الأرزاق (المخصصات المالية) من الأئمة الظلمة فله ثلاث أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا

حلالا وظلما، فالورع تركه، ويجوز للمحتاج. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم «1» . وقال الجصاص: دل قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ على أن الإجابة وقعت له في أن ذرية إبراهيم أئمة. واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى: وَأَمْناً على ترك إقامة الحد في الحرم على الزاني المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] . والصحيح- كما قال القرطبي- إقامة الحدود في الحرم، وأن ترك إقامتها من المنسوخ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وآية: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ استدل بها أبو حنيفة والشافعي والثوري على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت الحرام، قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها، فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب، والباب مفتوح، فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك: لا يصلي في البيت الفرض ولا السّنن، ويصلي فيه التطوع (غير الرواتب) ، غير أنه إن صلى فيه الفرض، أعاد في الوقت، ودليله: ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النّبي صلّى الله عليه وسلم لما دخل البيت، دعا في نواحيه كلها، ولم يصلّ فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين. والحاصل: لا خلاف في صحة التطوع في الكعبة، وأما الفرض فلا يصح عند المالكية، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة 2/ 150] .

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 109 وما بعدها.

بناء البيت الحرام ودعاء إبراهيم وإسماعيل [سورة البقرة (2) الآيات 127 إلى 129] :

وأما الصلاة على ظهر الكعبة، فأجازها الشافعي، وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة، أعاد في الوقت. وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة، أعاد في الوقت. وقال أحمد: من صلى على ظهر الكعبة، فلا شيء عليه. وهل الصلاة عند البيت أفضل أو الطواف به؟ اختلفوا، فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. والجمهور على أن الصلاة أفضل. بناء البيت الحرام ودعاء إبراهيم وإسماعيل [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) الإعراب: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان: ربنا تقبل منا، فحذف «يقولان» وحذف القول كثير في كتاب الله وكلام العرب. البلاغة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ عبر بالمضارع عن الماضي، لاستحضار الصورة الماضية وكأنها مشاهدة بالعصيان، فكأن السامع ينظر ويرى إلى البنيان وهو يرتفع، وإلى البنّاء وهو إبراهيم وإسماعيل

المفردات اللغوية:

عليهما السلام. التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة، على وزن فعّال وفعيل. المفردات اللغوية: الْقَواعِدَ واحدها قاعدة، وهي ما يقوم عليه البناء من الأساس أو من طبقات البناء، فالقواعد: هي الأسس أو الجدران. ورفعها: إعلاء البناء عليها. وتقبّل الله العمل: قبله ورضي به. مُسْلِمَيْنِ منقادين لك أُمَّةً جماعة مِنْ ذُرِّيَّتِنا أي اجعل من أولادنا، ومن للتبعيض، وأتى به لتقدم قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، مَناسِكَنا شرائع عبادتنا أو حجنا، واحدها منسك- بفتح السين، من النسك: وهو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحج خاصة، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله لما فيها من الكلفة والبعد عن العادة. وَتُبْ عَلَيْنا سألاه التوبة، مع عصمتهما تواضعا وتعليما لذريتهما. وتاب العبد إلى ربه: إذا رجع إليه، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد: رحمه وعطف عليه. وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أهل البيت رَسُولًا مِنْهُمْ من أنفسهم، وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلّى الله عليه وسلم الْكِتابَ القرآن وَالْحِكْمَةَ أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة وَيُزَكِّيهِمْ يطهر نفوسهم من دنس الشرك وأنواع المعاصي الْعَزِيزُ الغالب الْحَكِيمُ أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. المناسبة: بعد أن ذكّر الله تعالى العرب بما أنعم عليهم من فضائل البيت الحرام، أردف ذلك بتذكيرهم بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم مع ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدعي أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: واذكر يا محمد لقومك وقت أن بنى إبراهيم وابنه إسماعيل قواعد البيت وأساسه، والفضيلة في كون البنّاءين نبيين، وفي تخصيصه للعبادة وسط بلاد وثنية، لا في أفضلية أحجاره ولا موقعه ولا بأنه نزل من السماء. وجعل التوجه إليه توجها إلى الله الذي لا يحده مكان ولا تحصره جهة، وعدّ استلام الحجر الأسود تعبديا كاستقبال الكعبة في الصلاة، فلا مزية له في ذاته، بل هو كسائر الأحجار بدليل قول عمر بن الخطاب عند استلامه: «أما والله، إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك، ثم دنا فقبّله» «1» . وفي أثناء إقامة البناء يدعو إبراهيم وإسماعيل قائلين: ربنا إنك أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا، ربنا واجعلنا منقادين لك، ومخلصين في الاعتقاد فلا نتوجه إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك. ربنا واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، منقادة لأوامرك، ليستمر الإسلام دائما في الأجيال. ربنا بصّرنا وعرفنا أمور عبادتنا ومواضع نسكنا، أي أعمال الحج، كمواقيت الإحرام، وموضع الوقوف بعرفة، وموضع الطواف والسعي، واقبل توبتنا، إنك أنت التواب الرحيم، أي كثير التوبة على عبادك بقبولها منهم، الرحيم بالتائبين لإنجائهم من العذاب. وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وطلب للتثبت والدوام على الطاعة، لا أنهما كان لهما ذنب، لأن الأنبياء معصومون، وليبينوا للناس بعد معرفة المناسك وبناء البيت أن ذلك الموقف وتلك المواضع، مكان التطهر من الذنوب وطلب التوبة.

_ (1) رواه البخاري ومسلم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ربنا وأرسل في الأمة المسلمة رسولا منهم، ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعزّ الناس به، وأقرب لإجابة دعوته، وقد عرفوه معرفة تامة، ولمسوا منه الصدق والأمانة والعفة والاستقامة، ونحو ذلك، يقرأ عليهم آيات دينك المشتملة على إثبات وحدانية الله، وعلى الإقناع بالبعث والجزاء، ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها، وما تكمل به نفوسهم من العلوم والمعارف، ويطهرهم من دنس الشرك والوثنية وأنواع المعاصي، ويعملهم صالح الأخلاق، إنك أنت القوي الذي لا يغلب، الحكيم في كل صنع، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، قال مالك: والحكمة: المعرفة بالدين، والفقه بالتأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: في هذه الأدعية تعليم لنا أن نطلب في ختام أعمالنا قبولها، وأن ندعو بصلاح أنفسنا وذريتنا ليستمر الإسلام في كل زمان، ويظهر الانقياد والخضوع لخالق السماء والأرض، والله تعالى جعل المناسك ومواقف الحج أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله، والله كريم رحيم. وقد أجاب الله دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل، فأرسل خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلم رسولا من العرب، قال صلّى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي» ، وأكرم الله أمة العرب، فجعلها بالإسلام خير الأمم، وكان لها السيادة والمجد والسلطة في المشارق والمغارب، حينا من الزمان، وكان منها ومن المسلمين غير العرب رجال هم مفخرة التاريخ في العدل والسياسة والقضاء والعلم والفكر والأدب والحضارة. أما بناء الكعبة: فكان بالطين والحجارة، وظل كذلك إلى أن هدمتها قريش وأعادوا بناءها، ورفعوها عن الأرض عشرين ذراعا، وتم وضع الحجر من قبل النبي صلّى الله عليه وسلم وهو شاب قبل البعثة، لأنهم حكّموا أول من يطلع عليهم، فطلع عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحكّموه، ووضع الحجر في ثوب، ثم أمر سيد كل

قبيلة، فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو، فرفعوا إليه الحجر الأسود، فكان هو يضعه صلّى الله عليه وسلم. ولم يدخلوا حجر الكعبة في البناء أي حجر إسماعيل من جهة الشمال، لعجز النفقة لديهم، ثم رأى النبي تجديد البناء، لكنه كما روت عائشة رضي الله عنها قال: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت، ولجعلت لها خلفا» ، يعني بابا. وفي البخاري: «لجعلت لها خلفين» يعني بابين. ثم لما غزا أهل الشام في عهد الأمويين عبد الله بن الزبير، ووهت الكعبة من حريقهم، أعاد بناءها ابن الزبير، وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين، أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كما روى مسلم في صحيحة. ثم لما قتل ابن الزبير أعاد الحجاج بناء الكعبة، ورد ما زاد فيه من الحجر إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه، وأعاده إلى بنائه، بأمر الخليفة عبد الملك. وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يردّه على بناء ابن الزبير، لما جاء عن النّبي صلّى الله عليه وسلم، وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل بهذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم، إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وأما كسوة الكعبة، فقال العلماء: لا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شيء.

سفاه من يرغب عن ملة إبراهيم [سورة البقرة (2) الآيات 130 إلى 132] :

سفاه من يرغب عن ملة إبراهيم [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) الإعراب إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ نصب نَفْسَهُ إما بنزع الخافض الجار، وتقديره: سفه في نفسه، أو لأن سَفِهَ بمعنى جهل، وهو فعل متعد بنفسه، أو منصوب على التمييز، وهو قول الكوفيين. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ: فِي متعلقة بعامل مقدر، وتقديره: وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين، ولا يجوز أن تتعلق بالصالحين لأنه يؤدي إلى تقديم معمول الصلة على الموصول. وَوَصَّى بِها الضمير يعود إلى الملة المذكورة في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. البلاغة: وَمَنْ يَرْغَبُ استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا السفيه، والجملة واردة لتوبيخ الكافرين. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ التأكيد ب (إن) و (الكلام) لتعلقه بأمر غيبي في الآخرة، بخلاف حال الدنيا، فإنه مشاهد. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ التفات عن الحضور إذ السياق: (قلنا) إلى الغيبة. ورَبُّهُ لإظهار مزيد اللطف والاعتناء بتربيته. وجواب إبراهيم أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ دليل على قوة إسلامه، وفيه إشارة إلى وجوب الخضوع لله تعالى، وفيه التفات من الخطاب إلى الغائب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَمَنْ يَرْغَبُ رغب في الشيء: أحبه، ورغب عنه: كرهه، سَفِهَ نَفْسَهُ جهل أنها مخلوقة لله يجب عليها عبادته، أو استخف بها وامتهنها أي أذلها واحتقرها. اصْطَفَيْناهُ اخترناه بالرسالة في ذلك الوقت. أسلم أي انقاد لله وأخلص له العبادة والدين. وَوَصَّى بِها التوصية: إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل في الدين أو الدنيا، فَلا تَمُوتُنَّ نهي عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى الموت. سبب نزول الآية (130) : قال ابن عيينة: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه: سلمة ومهاجرا، إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، فنزلت فيه الآية. التفسير والبيان: بعد أن ذكر الله سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، أردف ذلك ببيان أن ملة إبراهيم وهي التوحيد وإسلام القلب لله، لا يصح لأحد التحول عنها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم. فلا يرغب أحد عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخص أذل نفسه واستخف بها، لأن من يترك الخير والحق والهدى، فقد أمتهن نفسه وأذلها. ولقد اصطفى الله إبراهيم في الدنيا، فجعله أبا الأنبياء، وجعله في الآخرة من المشهود لهم بالصلاح والاستقامة وإرشاد الناس للعمل بملته. وهذه بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة ووعد له بذلك.

فقه الحياة أو الأحكام:

اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الأدلة على وحدانية الله، فما كان منه إلا أن بادر بالانقياد والامتثال، وقال: أخلصت ديني لله الذي أوجد الخلق، كما في قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 79] . ولقد أراد إبراهيم الخير لذريته، فأوصاهم بالملة الحنيفية، وكذلك فعل يعقوب عليهما السلام، وقالا لهم: إن الله اختار لكم هذا الدين- دين الإسلام، الذي لا يتقبل الله سواه، فاثبتوا على الإسلام لله، ولا تفارقوه، حتى لا تفاجأكم المنية، وأنتم على غير الدين الحق الذي اصطفاه لكم ربكم. وفي هذا فتح باب الأمل أمام المنحرف ليعود إلى الله ويعتصم بالدين، قبل الموت. فانظروا أيها اليهود: هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أو لا؟ فقه الحياة أو الأحكام: تندد هذه الآيات بكل من أعرض عن ملة إبراهيم- ملة التوحيد والانقياد والإخلاص لله، وتوبخ الكافرين الذين كرهوا هذه الملة. وملة الإسلام قديمة دعا لها الأنبياء جميعا، والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمسلم إليه، وليس كل إسلام إيمانا، لكن كل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله، وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، بدليل قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنا [الحجرات 49/ 14] فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، فإن الإيمان باطن، والإسلام ظاهر. وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الإيمان، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه. وقال القدرية والخوارج: إن الإسلام هو الإيمان، فكل مؤمن مسلم، وكل

مسلم مؤمن، لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن. ووصى بالإسلام إبراهيم ويعقوب، لأنه الدين الحق، وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إلى مكة وهو رضيع له سنتان، وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة، وكان سنه يوم مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة، وهو الذبيح في قول مشهور. وإسحاق: أمّه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح في رأي القرطبي «1» . ومن ولده: الروم واليونان والأرمن ونحوهم وبنو إسرائيل، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة، ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ودخل يعقوب فيمن أوصى إبراهيم. ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأوصى يعقوب بنيه كما فعل إبراهيم، عاش يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة، ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده. وبما أن الإسلام قديم وهو دعوة كل الأنبياء، أوصى إبراهيم ويعقوب بالتزامه، فقالا: الزموا الإسلام وداوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا، فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت، ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما. فظاهر قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: وهو النهي عن

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 135 والأصح كما سيأتي في سورة (الصافات) أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.

إبطال دعوى اليهود أنهم على دين إبراهيم ويعقوب [سورة البقرة (2) الآيات 133 إلى 137] :

الموت إلا على حالة الإسلام، غير مراد، وإنما المقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت، فهو نهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف الإسلام «1» . إبطال دعوى اليهود أنهم على دين إبراهيم ويعقوب [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 137] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) الإعراب: ما تَعْبُدُونَ ما اسم استفهام في موضع نصب ب تَعْبُدُونَ وتقديره: أي شيء تعبدون مِنْ بَعْدِي أي بعد موتي، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ في موضع جر على البدل من آبائِكَ ولا ينصرف للعجمة والتعريف. إِلهاً واحِداً إما منصوب بدل من قوله إِلهَكَ أو حال منه.

_ (1) تفسير البحر المحيط: 1/ 399.

البلاغة:

تِلْكَ أُمَّةٌ مبتدأ وخبر. قَدْ خَلَتْ صفة «لأمة» وكذلك لَها ما كَسَبَتْ. بَلْ مِلَّةَ منصوب بفعل مقدر، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حَنِيفاً إما حال منصوب، من إبراهيم، لأن المعنى: بل نتبع إبراهيم أو منصوب بفعل مقدر تقديره: أعني، إذ لا يجوز وقوع الحال من المضاف إليه. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ الباء زائدة، مثل قوله تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [يونس 10/ 27] أي مثلها كالآية الأخرى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . وما آمَنْتُمْ: «ما» مع الفعل بعدها في تأويل المصدر، وتقديره: بمثل إيمانكم به أي بالله. البلاغة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ معنى الاستفهام هنا: التقريع والتوبيخ، وهو في معنى النفي، أي ما كنتم شهداء، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ كنى بالموت عن مقدماته، لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا. آبائِكَ مجاز للتغليب، إذ شمل العلم وهو إسماعيل، والجد وهو إبراهيم، والأب وهو إسحاق. وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى فيه إيجاز بالحذف، أي قال اليهود: كونوا يهودا، وقال النصارى: كونوا أنصاري. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ فيه إيجاز، أي يكفيك الله شرهم. والتعبير بالسين بدل سوف للدلالة على أن النصر عليهم قريب. السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة، ومعناه: الذي أحاط سمعه وعلمه بجميع الأشياء. المفردات اللغوية: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ «أم» هنا بمعنى «بل» وبمعنى همزة الإنكار والمعنى: أكنتم حضورا، والهمزة بمعنى النفي، أي ما كنتم شهداء، وحضور الموت: حضور أماراته ومقدماته، بَعْدِي بعد موتي. أُمَّةٌ جماعة، خَلَتْ مضت وذهبت لَها ما كَسَبَتْ ما عملت، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي أنتم مجزيون بأعمالكم. هُوداً أَوْ نَصارى أو للتفضيل، والهود: اليهود، جمع هائد أي تائب، وقائل الأول: يهود المدينة، وقائل الثاني: نصارى نجران. حَنِيفاً مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق القيم.

سبب نزول الآية (133) :

قُولُوا: آمَنَّا خطاب للمؤمنين. وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ من الصحف العشر. الْأَسْباطِ واحدهم سبط أي ولد الولد، والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم، وهم أولاد يعقوب وَما أُوتِيَ مُوسى وهو التوراة وما أوتي عيسى وهو الإنجيل لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى. شِقاقٍ خلاف معكم، مأخوذ من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد في شق غير شق صاحبه، لما بينهما من عداوة. سبب نزول الآية (133) : نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟. وسبب نزول الآية (135) : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فأتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم: وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا. وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: نزلت في رؤوس يهود المدينة: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وأبي ياسر بن أخطب، وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن. وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا، فلا دين إلا ذلك، ودعوهم إلى دينهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ما كنتم يا معشر اليهود المكذبين محمدا حاضرين حين احتضر يعقوب، فلا تكذبوا عليه، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية وهي الإسلام، وبه أوصوا ذريتهم. والدليل أن يعقوب قال لبنيه: أي شيء تعبدون بعد موتي؟ فأجابوه: نعبد إلهك الله الواحد الذي دلت الأدلة على وجوده ووحدانيته، ولا نشرك به سواه. وهو إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ونحن له منقادون خاضعون لحكمه. وجعلوا إسماعيل (وهو عمه) أبا، تشبيها له بالأب، وفي الحديث الصحيح عند الشيخين: «عم الرجل صنو أبيه» . ثم رد الله تعالى على اليهود أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم، فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات، بقوله: تلك أمة قد مضت بمالها وما عليها، وجرت سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره، كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم 53/ 36- 39] وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا بني هاشم، لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم» . فكما أن هؤلاء السابقين لا ينفعهم إلا عملهم، كذلك أنتم لا ينفعكم إلا أعمالكم. وبعد أن بين الله تعالى أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، وأن على العرب وأهل الكتاب اتباع الإسلام الذي هو امتداد لدعوة الأنبياء السابقين، وأن الخلاف في الجزئيات لا يغيّر من جوهر الدين. بعد هذا ندد المولى سبحانه بتمسك أهل الكتاب بفوارق الدين الجزئية، فقال اليهود: كونوا مع اليهود في دينهم تهتدوا إلى الطريق السوي، وقال النصارى: كونوا مع النصارى تصلوا إلى الحق، وأتباع كل دين يدعون أن دينهم خير الأديان، فأجابهم الله بقوله: تعالوا إلى ملة إبراهيم الذي تدّعون أنكم على دينه، فهي الملة التي لا انحراف فيها

ولا اعوجاج، ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم. وفي هذا تعريض بشركهم حين قالوا: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله. ثم أمر الله المؤمنين بأن يقولوا: آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة رب العالمين، فهو مصدر الأديان كلها، فلا نكذب أحدا من الأنبياء، بل نصدقه جملة واحدة، ونؤمن بجوهر الدين وأصله الذي لا خلاف فيه، ونشهد أن جميع الأنبياء رسل الله بعثوا بالحق والهدى، فلا نفعل فعل اليهود الذين تبرؤوا من عيسى ومحمد عليهما السلام، ولا نفعل فعل النصارى الذين تبرؤوا من محمد صلّى الله عليه وسلم. ونحن خاضعون لله، مطيعون له، مذعنون له بالعبودية، وذلك هو الإيمان الصحيح، أما أنتم فتتبعون أهواءكم، فالمؤمن حقيقة: هو من يؤمن بكل الكتب والأنبياء، ولا يفرق بين أحد من الرسل، ويؤمن بكل ما جاء به الكتاب الإلهي، فلا يؤمن بالبعض، ويكفر بالبعض الآخر. روى البخاري عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرؤن والتوراة بالعبرية، ويفسرونها للمسلمين بالعربية، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله ... » الآية «1» . وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعا إلى النَّبي صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بالتوراة والإنجيل، وليسعكم القرآن» . فإن آمن أهل الكتاب الإيمان الصحيح بالله كما آمنتم، فأقروا بوحدانية الله، وصدقوا بما أنزل على النبيين والمرسلين، فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه يا محمد من الرجوع إلى أصل الدين، وفرقوا بين رسل الله، فصدقوا ببعض، وكفروا ببعض، فإن موقفهم موقف الشقاق

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 140.

فقه الحياة أو الأحكام:

(الخلاف) والنزاع والعداوة، وإذا كان هذا موقفهم فسيكفيكم الله شرهم وأذاهم ومكرهم. وسيبدد شملهم، وينصركم عليهم. وقد تحقق ذلك بقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير إلى الشام، وفرض الجزية على نصارى نجران، والله هو السميع لما يقولون ولكل قول، العليم بما يسرون من الحقد والحسد والبغضاء، وبكل فعل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية: قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ ... الآية على أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كل نبي، فهو دين التوحيد الخالص لله، والإذعان لجميع الأنبياء، كما قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] . ولقد حث القرآن على اتباع الدين الواحد الذي يقوم على أمرين: الأول- التوحيد ونبذ الشرك والوثنية بمختلف الأنواع. الثاني- الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال. فمن لم يتصف بالأمرين معا فليس بمسلم، ولا على نهج الدين القيم الذي دعا إليه الأنبياء، ومنهم النّبي صلّى الله عليه وسلم. فدين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي دعا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم وأتباعه، وكان إبراهيم حنيفا، أي مائلا عن الأديان المكروهة إلى الدين الحق. وكل ما يغاير هذا الأصل، فيدعو إلى الإشراك ومخالفة ملة إبراهيم، بجعل عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، فهو من المشركين. وكل المعبودات من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والأحجار.

ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد، كما دلت آية وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة 2/ 134] . وآية وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] أي لا تحمل ثقل ذنب أخرى. قال الجصاص عن آية تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: يدل على ثلاثة معان: أحدها- أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون على ذنوبهم، وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب، الآباء، ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات، نحو قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام 6/ 164] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] وقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ [النور 24/ 54] ، وقد بين ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلم حين قال لأبي رمثة، ورآه مع ابنه: أهو ابنك؟ فقال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه» وقال عليه السّلام: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم، فأقول: لا أغني عنكم من الله شيئا» وقال عليه السّلام: «من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» «1» . أما الأسباط: فهم ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسمّوا الأسباط من السّبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. قال ابن عباس: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلّى الله عليه وسلم. ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 84

صبغة الإيمان وأثره في النفوس والعبودية لله تعالى [سورة البقرة (2) الآيات 138 إلى 141] :

وأرشدت الآية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ إلى أن الله ناصر عبده ورسوله محمدا على أعدائه، وكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السّلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولّين، بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة، وإجلاء بني النضير. قال الجصاص: هذا إخبار بكفاية الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم أمر أعدائه، فكفاه مع كثرة عددهم وحرصهم، فوجد مخبره على ما أخبر به، وهو نحو قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» [المائدة 5/ 67] . والمؤمن هو الذي يثق بوعد الله وبتأييده، ويخشى الله ويتقيه، لأنه المهيمن على كل شيء في هذا الوجود، وهو السميع لقول كل قائل، العليم بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. صبغة الإيمان وأثره في النفوس والعبودية لله تعالى [سورة البقرة (2) : الآيات 138 الى 141] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

_ (1) المرجع والمكان السابق.

الإعراب:

الإعراب صِبْغَةَ اللَّهِ أي دين الله، مصدر مؤكد لآمنا، وهو إما منصوب بفعل مقدر، تقديره: اتبعوا صبغة الله، أو منصوب على الإغراء، أي عليكم صبغة الله، أو منصوب بدلا من قوله تعالى: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي دنيا، وصِبْغَةَ منصوب على التمييز، كقولك: زيد أحسن القوم وجها. والجمل الثلاث وهي وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أحوال. البلاغة: صِبْغَةَ اللَّهِ سمي الدين صبغة بطريق الاستعارة، حيث تظهر سمته على المؤمن، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع. المفردات اللغوية: صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة في اللغة: اسم لهيئة صبغ الثوب، وجعله بلون خاص، فهي الحالة التي عليها الصبغ، والمراد بها هنا الإيمان أو دين الله الذي فطر الناس عليه، لظهور أثره على صاحبه، كالصبغ في الثوب. والإيمان أو الدين مطهر للمؤمنين من أدران الشرك، وهو حلية تزينهم بآثاره الجميلة، وهو متداخل ومنتشر في قلوب المؤمنين، كما يتداخل الصبغ. وبه يتبين أن الإيمان يشبه الصبغة في التطهير والحلية والتداخل. أَتُحَاجُّونَنا أتجادلوننا وتخاصموننا فِي اللَّهِ أن اصطفى نبيا من العرب. وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فله أن يصطفي من عباده من يشاء وَلَنا أَعْمالُنا نجازى بها وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ تجازون بها مُخْلِصُونَ الدين والعمل، لا نبغي بأعمالنا غير وجه الله، فنحن أولى بالاصطفاء. سبب نزول الآية (138) : قال ابن عباس: إن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودي، ليطهروه بذلك، ويقولون:

التفسير والبيان:

هذا طهور، مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك، صار نصرانيا حقا، فأنزل الله هذه الآية «1» . التفسير والبيان: علّم الله المؤمنين وأمرهم في الآية السّابقة (136) أن يقولوا: آمنّا بالله وكتبه ورسله، لا نفرّق بين أحد من رسله وكتبه، وأمرهم أيضا في هذه الآية أن يقولوا: صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحقّ والإيمان بما جاء به الأنبياء، وهل هناك صبغة أحسن من صبغة الله الحكيم الخبير؟! ومن صبغة الإسلام، فالله هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أدران الشرك، فلا نتبع صبغة أحد من الزعماء والأحبار، فهي صبغة بشرية مزيفة تفرق الدين الواحد، وتمزق الأمة أحزابا متنافرة. ونحن لله الذي أنعم علينا بالنعم الجليلة التي منها نعمة الإسلام والهداية عابدون لا نعبد سواه، ومخلصون وقانتون، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في الدين وينقصون، ويحللون ويحرّمون، ويمسحون من النّفوس صبغة التوحيد، ويضعون فيها صبغة الشرك بالله. ثم أمر الله نبيّه بأن يقول لأهل الكتاب: أتجادلوننا في دين الله، وتدّعون أن الدين الحقّ هو اليهودية والنصرانية، وتتأملون بهما دخول الجنة، وتقولون أحيانا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة 2/ 111] ، وأحيانا تقولون: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة 2/ 135] . ومن أين لكم هذه الدّعاوى وادّعاء الهداية والقرب من الله دوننا، والله ربّنا

_ (1) تفسير الكشاف للزمخشري: 1/ 241، أسباب النزول للواحدي: ص 22، تفسير القرطبي: 2/ 144. [.....]

وربّكم وربّ العالمين، لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله، فهو خالقنا وخالقكم، ومالك أمرنا وأمركم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسيئة، والله يجازي كل إنسان بعمله، فلا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، أما أنتم فقد اعتمدتم على أسلافكم الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم، وأما نحن فنعتمد على إيماننا وعملنا، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال، لا نقصد بها إلا وجهه، فكيف تدّعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟! وكيف تقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله، أو تقولون: إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها هو لأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط الأنبياء كانوا يهودا، أو كانوا نصارى، فأنتم مقتدون بهم؟ وهذا ادّعاء كاذب، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلّا بعد عيسى؟ والمراد إنكار ادّعاء الطرفين وتوبيخهم على كلا الأمرين، وهل أنتم تعلمون بالمرضي عند الله، أم أن الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شك أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملّة إبراهيم، وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدقه قبل أن تجيء اليهودية والنصرانية، فلماذا لا ترضون هذه الملّة؟ ولا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة ثابتة عنده من الله، وهي شهادته تعالى لإبراهيم ويعقوب بالحنيفية المسلمة، والبراءة من اليهودية والنصرانية، وشهادته تعالى المثبتة في كتاب الله التي تبشر بأن الله يبعث في الناس نبيّا من بني إخوتهم، وهم العرب أبناء إسماعيل. قال الزمخشري: ويحتمل معنيين: أحدهما- أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة، وهم عالمون بها.

فقه الحياة أو الأحكام:

والثاني- أنّا لو كتمنا هذه الشهادة، لم يكن أحد أظلم منّا. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم بالنّبوة في كتبهم، وسائر شهاداته «1» . وليس الله غافلا عن أعمالكم، فهو محصيها ومجازيكم عليها، وفي ذلك وعيد وتهديد، عقب التقريع والتوبيخ. تلك جماعة الأنبياء لها ما كسبت من الأعمال الحسنة، ولكم ما كسبتم من العمل الحسن، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه، فلا يضره ولا ينفعه سواه، فأنتم لا تسألون عن أعمال السابقين، وهم لا يسألون عن أعمالنا، تلك قاعدة الأديان التي أقرتها العقول، وهي المسؤولية الشخصية أو الفردية، كما قال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم 53/ 38- 39] . كرّر الحقّ سبحانه هذه القاعدة وهذه الآية بمناسبات متعددة، فقد ذكرت في الآية السابقة (134) للمبالغة عما يفتخرون به من أعمال الآباء، والاتّكال على الماضي، وهذا شأن الخامل الضعيف الذي ينظر إلى الماضي، ويتكاسل عن المستقبل. وكرر الله أيضا قوله في مواطن كثيرة: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لتأكيد الجزاء والحساب ورصد الأعمال، وذلك هو العدل المطلق بين الخلائق، قال أبو حيان: ولا تأتي الجملة إلّا عقب ارتكاب معصية، فتجيء متضمنة وعيدا، ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى «2» . فقه الحياة أو الأحكام: نبذ الإسلام كلّ الصّور والهياكل والطقوس الفارغة كالمعمودية عند النصارى ونحوها، وأعلن بكل صراحة أن المعول عليه هو ما فطر عليه النفوس من الإقرار

_ (1) الكشاف: 1/ 242. (2) البحر المحيط: 1/ 416، ط الرياض.

بوحدانية الله، وإخلاص العمل لله، وحبّ الخير والاعتدال في الأمور، كما قال سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم 30/ 30] . وإن روح الدّين التوحيد، وأساسه الإخلاص، وهذا ما دعا إليه جميع الأنبياء، وجدد الدعوة إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، فدعوته أو شريعته مكملة لدعوة وشريعة إخوانه النبيين والمرسلين. أما الدعاوي الرخيصة، والأكاذيب المفتراة، والأماني التي لا تعتمد على برهان، مما صدر من اليهود والنصارى، فكل ذلك باطل بالحجج الثلاث التي دحض بها القرآن كل ما ذكر وهي قوله: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ [البقرة 2/ 139] ، وقوله: أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة 2/ 140] ، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة 2/ 140] . ولا تكون النجاة بالاعتماد على أعمال الآخرين من الأسلاف وغيرهم، ولا على شفاعة الصالحين دون انتفاع بهديهم وسنتهم، وإنما السعادة والنجاة بالعمل الصالح. وأساس الصلاح إخلاص العبادة لله، وحقيقة الإخلاص: تصفية الفعل عن مراءاة المخلوقين. وقد أكّدت هذه الآيات أمرين عظيمين جدا هما: الأوّل- أن المسؤولية الشخصية أساس الحساب، ومناط الجزاء والعقاب، وهذا ما تفاخر به الشريعة الإسلامية التي جاءت ناقضة لأعراف الجاهلية عند العرب والرومان من توجيه المسؤولية لغير الجاني الحقيقي. الثاني- أن أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بعملهم وكسبهم، فغيرهم من الناس العاديين أحرى وأولى. انتهى الجزء الأول

التمهيد لتحويل القبلة [سورة البقرة (2) الآيات 142 إلى 143] :

[الجزء الثاني] [تتمة سورة البقرة] التمهيد لتحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) الإعراب: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ: إِنْ مخففة من إنّ الثقيلة، واسمها محذوف أي وإنها، واللام في لَكَبِيرَةً لام التأكيد التي تأتي بعد إن المخففة من الثقيلة، ليفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما» في نحو قوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الفرقان 25/ 44] . والتاء في كانَتْ إما أن يراد بها التولية من بيت المقدس إلى الكعبة، وإما أن يراد بها الصلاة، أي وإن كانت الصلاة لكبيرة إلا على من هداهم الله. هَدَى اللَّهُ أي هداهم الله، فحذف ضمير المفعول العائد من الصلة إلى الموصول، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] . أي بعثه الله. وإنما حذف الضمير تخفيفا. البلاغة: يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ استعارة تمثيلية، حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة، والرأفة: شدّة الرحمة، وقدم الأبلغ مراعاة للفاصلة والمعنى متقارب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: السُّفَهاءُ السّفه: اضطراب الرأي والفكر أو الأخلاق، والسفهاء: الجهال ضعفاء العقول، والمراد بهم هنا: منكر وتغير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين. وَلَّاهُمْ صرفهم أي النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. «القبلة» أصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة، وهي قبلة المسلمين في الصلاة وهي جهة الكعبة المشرفة لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الجهات كلها، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ مستوي معتدل من الأفكار والأعمال، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة، وهو دين الإسلام. وَسَطاً الوسط: منتصف الشيء أو مركز الدائرة، ثم أستعير للخصال المحمودة، إذ كلّ صفة محمودة كالشجاعة وسط بين الطرفين: الإفراط والتفريط، والفضيلة في الوسط. والمراد: الخيار العدول الذين يجمعون بين العلم والعمل. عَقِبَيْهِ العقب مؤخّر القدم، يقال: انقلب على عقبيه عن كذا: إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء، وهو طريق العقبين، والمراد: يرتد عن الإسلام. إِيمانَكُمْ صلاتكم إلى بيت المقدس، فإنها مسببة عن الإيمان، بل يثيبكم عليه، لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل. بِالنَّاسِ المؤمنين. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ في عدم إضاعة أعمالهم، والرأفة: شدّة الرحمة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة أعم، إذ تشمل دفع الضرر، وفعل الإحسان. سبب النزول: روى البخاري عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية [البقرة 2/ 144] ، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قال الله تعالى: قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية. وفي الصحيحين عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.

المناسبة بين الآيات:

المناسبة بين الآيات: ما يزال القرآن يتصدى لما كان عليه اليهود وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين كإنكار تحويل القبلة والنسخ. كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي وهو بالمدينة متجها إلى الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون قبله، وظل كذلك ستة عشر شهرا، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى ويدعو الله أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة، فكان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلي في جنوب الكعبة مستقبلا الشمال، فاستجاب الله له وأمره بالتوجه إلى البيت العتيق، بعد هجرته إلى المدينة، ونزل قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة 2/ 144] . وكان أول صلاة صلاها هي العصر، كما في الصحيحين، قال اليهود والمشركون والمنافقون: ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟ وقالوا: لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينه. وقد بدئ الكلام بالرّد على اعتراضهم على التحويل قبل وقوعه، معجزة له عليه الصلاة والسّلام، ولقن الله نبيه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطن نفسه عليه، ويستعد للإجابة، عند مفاجأة التساؤلات. وخلاصة الجواب: أنّ الجهات كلها لله، فلا مزية لجهة على أخرى، ولله أن يأمر بالاتجاه إلى ما يشاء من أي جهة، وعلى العبد امتثال أمر ربه كما قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 2/ 115] . التفسير والبيان: مهّد الله تعالى لتحويل القبلة في هذه الآيات، وأبان السبب، وقضى على ما علم سبحانه من ظهور اضطرابات عند التحويل، حتى لا يفاجأ المسلمون بشيء

من حملات التشويش والنقد والتشكيك، فأوضح تعالى أن سفهاء الأحلام وضعفاء العقول والإيمان من طوائف اليهود والمشركين والمنافقين سيقولون منكرين متعجبين: أي شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي قبلة الأنبياء والمرسلين؟ أما اليهود فساءهم ترك الاتّجاه لقبلتهم، وأما المشركون فقصدوا الطعن في الدين، ورأوا ألا داعي للتوجه في الحالين، وأما المنافقون: فشأنهم انتهاز الفرص لزرع الشكوك في الدين، ومحاولة الإبعاد عنه بسبب هذا التغيير، وعدم الاستقرار، ومخالفة الأعراف السابقة بالاتّجاه لبيت المقدس. فردّ الله عليهم جميعا بأنّ الجهات كلها لله، ولا مزية لجهة على أخرى، وليست صخرة بيت المقدس أو الكعبة ذات نفع خاص لا يوجد في غيرهما، وإنما الأمر كله لله، يختار ما يشاء، وأينما تولوا فثّم وجه الله، ومن مراده المطلق أنه يجعل للناس قبلة واحدة تجمعهم في عبادتهم، وقد أمر الله المؤمنين في بداية الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، إعلاما بأن دين الله واحد، ووجهة جميع الأنبياء واحدة، وقصدهم الحقيقي هو الاتجاه إلى الله، ثم أمرهم بالاتّجاه إلى الكعبة، فامتثلوا الأمر في الحالين، لأن المصلحة فيما أمر الله، والخير فيما وجّه، والله يرشد من يشاء إلى الطريق الأقوم المؤدي لسعادة الدنيا والآخرة، سواء بالتوجه إلى بيت المقدس أو بالاتجاه إلى الكعبة. ثم خاطب الله المؤمنين ممتنّا ومتفضلا عليهم قائلا لهم: وَكَذلِكَ.. «1» أي كما هديناكم إلى الصراط المستقيم وهو دين الإسلام، وحولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السّلام واخترناها لكم، جعلنا المسلمين خيارا عدولا، فهم خيار الأمم والوسط في الأمور كلها بلا إفراط، ولا تفريط، في شأن الدين والدنيا، وبلا غلو

_ (1) كذلك: الكاف للتشبيه، وذلك: اسم إشارة، والكاف في موضع نصب إما لكونه نعتا لمصدر محذوف، وإما لكونه حالا، والمعنى: جعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك.

لديهم في دينهم، ولا تقصير منهم في واجباتهم، فهم ليسوا بالماديين كاليهود والمشركين، ولا بالروحانيين كالنصارى، وإنما جمعوا بين الحقّين: حقّ الجسد وحقّ الروح، ولم يهملوا أي جانب منهما، تمشيا مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان جسد وروح. ومن غايات هذه الوسطية وثمرتها: أن يكون المسلمون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة، فهم يشهدون أن رسلهم بلغتهم دعوة الله، ففرط الماديون في جنب الله وأخلدوا إلى اللذات، وحرم الروحانيون أنفسهم من التمتع بحلال الطيبات، فوقعوا في الحرام، وخرجوا عن جادة الاعتدال، فجنوا على متطلبات الجسد. ويؤكد ذلك أن يشهد الرسول على أمته محتجّا بالتبليغ، أي أنه بلّغهم شرع الله المعتدل، وأنه كان إماما مقسطا، وقدوة حسنة، ومثلا أعلى في الوسطية، فلا يحيدون عنها، لأنهم معرّضون لإقامة الحجة عليهم من نبيهم، بما أعلنه من الدين القويم، وبما التزمه من السّيرة الحسنة، فمن حاد عنها شهد عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس من أمته التي وصفها الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران 3/ 110] ، وبذلك خرج من الوسط إلى الانحراف، ويكون حسبان شهادة الرسول بمثابة العاصم عن الانحراف، والتزام الحقّ والعدل. ويوضح نوعي الشهادة على الأمم وشهادة الرسول باعتبار أن الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له: ما روي: «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة، على أنهم قد بلّغوا، وهو أعلم، فيؤتى بأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم، فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق، فيؤتى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله

تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] . والسبب في تأخير صلة الشهادة (أي على) أولا في قوله تعالى شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وتقديمها آخرا في قوله عَلَيْكُمْ شَهِيداً: هو أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. والحاصل: أن الشهادة على الأمم ميزانها وسببها وسطية الإسلام، ويؤكدها شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أمته بأنه يزكيهم ويعلم بعدالتهم. وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ أي إنما شرعنا لك يا محمد التوجّه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت، ممن ينقلب على عقبيه، أي فيتبين الثابت على إيمانه ممن لاثبات له، فهو امتحان وابتلاء ليظهر ما علمناه، ويجازى كل إنسان على عمله. هذا هو الظاهر من الآية في أنّ المراد بالقبلة هنا: القبلة الأولى، لقوله تعالى كُنْتَ عَلَيْها. وقيل: الثانية أي الكعبة، فتكون الكاف زائدة، والمراد أنت عليها الآن، كما في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] ، أي أنتم، في قول بعضهم. وقد اتّجه الزمخشري ومثله أبو حيان إلى القول الثاني قائلا: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ليست بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل، يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفا لليهود، ثمّ حوّل إلى الكعبة. فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة، يعني وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء.

والمراد بقوله: إِلَّا لِنَعْلَمَ ... ظهور العلم بين الناس ووقوعه، قال علي رضي الله عنه: معنى لِنَعْلَمَ: لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ... [الفيل 105/ 1] ، بمعنى ألم تعلم. وقوله: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي وإن كانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجّه إلى القبلة الأولى، أو هذه الفعلة أي التحويلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسرّ تشريعه، ووفقهم لما يريد، فعلموا أن المطلوب طاعة الله حيثما شاء، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما: هو اجتماع الأمة عليها، وتوحيد مشاعرهم نحوها، مما يدفعهم إلى اتّحادهم وجمع كلمتهم في كل شؤون حياتهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة 9/ 124- 125] . وقوله: وَما كانَ اللَّهُ.. أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضي بإضاعة ثباتكم على الإيمان واتباعكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة وفي القبلة، وأن الله يجزيكم الجزاء الأوفى، ولا يضيع أجركم، والسبب في ذلك أن الله رءوف بعباده، ذو رحمة واسعة بخلقه، فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يكون ابتلاؤهم لمعرفة صدق إيمانهم وإخلاصهم سببا في إضاعة ثمرات الإيمان وتفويت الجزاء، بل يجازيهم أتمّ جزاء. وقد اتّفق العلماء على أن آية وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ نزلت فيمن مات، وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري عن البراء بن عازب، على ما تقدم في بيان سبب النزول. وخرّج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم

فقه الحياة أو الأحكام:

يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمّى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل. وقال محمد بن إسحاق: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم نبيكم، قال القرطبي: وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين. ثمّ ختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لإفادة التعليل لما قبلها، أي للطف رأفته وسعة رحمته نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين، أو لا يضيع إيمان من آمن، وهذا المعنى أظهر كما قال أبو حيان «1» . فقه الحياة أو الأحكام: الإيمان الحقيقي أو التسليم التامّ لله يقتضي الإذعان لأوامر الله والخضوع لمشيئته واختياره، فإذا أمر الله بالاتّجاه في الصلاة نحو جهة معينة، ثم أمر بالتّحول عنها إلى جهة أخرى، امتثل المؤمن ذلك تمام الامتثال، ولم يخالجه أي شكّ في أوامر الله، ولم يعقب عليها، فالجهات كلّها لله، ولله ملك المشارق والمغارب وما بينهما، والعبرة إنما هي في تمحيض القصد والاتّجاه إلى الله تعالى، ولله أن يأمر بالتّوجه إلى أي جهة شاء، فلا داعي لتعليق الجهال وضعاف العقل والإيمان على تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة. وقد تمّ تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة، قالوا كما في البخاري: حوّلت بعد ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وكان تحويلها- كما قال سعيد بن المسيّب- قبل غزوة بدر بشهرين. وذلك في رجب من سنة اثنتين. ودلّت هذه الآيات على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا،

_ (1) البحر المحيط: 1/ 427

وأجمعت عليه الأمة إلا من شذّ، وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها في أحد القولين الآتيين نسخت مرتين. ودلّت أيضا على جواز نسخ السّنة بالقرآن الكريم، لأنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السّنة، ثمّ نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: كُنْتَ عَلَيْها بمعنى أنت عليها. واختلف العلماء حين فرضت الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين: فقال ابن عباس: إلى بيت المقدس، وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طوال مقامه بمكة، على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة، صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال ابن عبد البر: وهذا أصح القولين عندي. والسبب أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود، فتوجه إلى قبلتهم، ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبيّن عنادهم وأيس منهم، أحبّ أن يحوّل إلى الكعبة، فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السّلام. وقد روى الأئمة- واللفظ لمالك- عن ابن عمر كيف تمّ التحويل، قال: بينما الناس بقباء «1» في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد

_ (1) قباء: قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، بها أثر بنيان كثير، وفيها مسجد التقوى.

أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة. وخرّج البخاري عن البراء: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلّى أول صلاة صلّاها العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صلّيت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا، ولم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. ففي هذه الرواية: صلاة العصر، وفي رواية مالك: صلاة الصبح. ويستفاد من الآية وهذه الأحاديث أمور ثلاثة: 1- من لم يبلغه الناسخ يظل متعبّدا (مطالبا) بالحكم الأول، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلّون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي، فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة، فالناسخ رافع للحكم الأول، لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حقّ من لم يبلغه. 2- دلّ ذلك على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف، معلوم بالتواتر من عادة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للآفاق، ليعلّموا الناس دينهم، فيبلّغوهم سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوامر والنواهي. 3- فهم مما ذكر أن القرآن الكريم كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا بعد شيء، وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة 5/ 3] .

وكما أن الكعبة وسط الأرض، وفي مركز قطب الدائرة للكرة الأرضية، كذلك جعل الله المسلمين أمّة وسطا، دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، فهم خيار عدول أوساط في الموقع والمناخ والطباع والشرائع والأحكام والعبادات ومراعاة دوافع الفطرة، والجمع والتوازن بين مطالب الجسد والروح، وبين مصالح الدنيا والآخرة. لذا استحقوا الشهادة على الأمم، وكانوا سبّاقين للأمم جميعا بالاعتدال والتوسط في جميع الشؤون، والتوسط منتهى الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيؤدي حقوق ربّه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه وغيره من أبناء المجتمع، أقارب أم أباعد. وأداء الشهادة على الناس في المحشر يكون للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح عليه السّلام يوم القيامة، فيقول: لبّيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمّته، فيشهدون أنه- أي نبيهم- قد بلّغ. ويكون الرّسول عليكم شهيدا (مزكيّا معدّلا) ، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً إلخ، القصة المذكورة سابقا هنا في التفسير. وهذا إنباء من الله تعالى في كتابه بما أنعم على الأمة الإسلامية من تفضيلها باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعل المسلمين أولا مكانا، وإن كانوا آخرا زمانا، كما قال عليه الصلاة والسّلام: «نحن الآخرون السابقون» وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول شخص على غيره إلا أن يكون عدلا.

ودلّ هذا أيضا على صحّة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا، شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده. وشهادة الرسول على أمته معناها: الشهادة بأعمالهم يوم القيامة، أو الشهادة لهم بالإيمان، أو الشهادة عليهم بالتبليغ لهم. وأما تحويل القبلة: فهو اختبار المؤمنين، ليظهر صدق الصادقين، وريب المرتابين، كما هو الشأن في ألوان الاختبار الإلهي بأنواع من الفتن، كما قال لله تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت 29/ 1- 3] . والقصد من العلم في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وقوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ.. هو علم الظهور والوقوع، لا أن العلم مسبوق بالجهل، فعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، وهو يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ومتى تقع، وأين تقع، ولكنه برهان وحجة على الناس من أعمالهم وتصرفاتهم نفسها. وأما من مات وهو يصلّي إلى بيت المقدس، فثوابه محفوظ كامل غير منقوص، لا يضيعه الله له أبدا، لأن الله واسع الرأفة، شامل الرحمة، فلا يكتفي بدفع البلاء عن المؤمنين المنفذين أوامره، بل يعاملهم بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل. واختلف العلماء في تأويل: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فقال بعضهم: معناها: وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجه إلى القبلة، وتصديقكم لنبيكم، وقال آخرون: المراد به صلاتكم إلى بيت المقدس. وتسمية الصلاة إيمانا إما مجاز، أو إنها تسمى حقيقة إيمانا، كما قال الفقهاء، فهي من أركان الإيمان وعهد

تحويل القبلة [سورة البقرة (2) الآيات 144 إلى 147] :

الإسلام «1» ، أي هي من الإيمان وخصائصه، ولا يتم الإيمان إلا بها، ولأنها تشتمل على نيّة وقول وعمل. والخلاصة: لم يختلف المسلمون أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي بالمدينة إلى بيت المقدس بعد الهجرة مدة من الزمان، فقال ابن عباس والبراء بن عازب: كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النّبي صلّى الله عليه وسلّم لسبعة عشر شهرا. وقال قتادة: لستة عشر شهرا، وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة، ثم حوّلها إليها بقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «2» ، وهي الآية التالية التي نفسرها. تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 147] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 41- 42 (2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 84- 85

الإعراب:

الإعراب: قَدْ للتحقيق في رأي السيوطي، وقال الزمخشري: بمعنى ربما، وهي للتكثير هنا، ومعناه كثرة الرؤية، فهي مثل «ربما» تأتي للكثير والقليل، مثل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر 15/ 2] أي كثيرا. ونرى هنا بمعنى الماضي، ذكر بعض النحاة: أن «قد» تقلب المضارع ماضيا، مثل ما هنا، ومثل: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور 24/ 64] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر 15/ 97] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب 33/ 18] والمعنى قد علمنا أو رأينا. وَلَئِنْ لام القسم. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ الفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها. فَوَلِّ الفاء للتفريع. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مرفوع، إما مبتدا وخبره محذوف، وتقديره: الحق من ربك يتلى عليك، أو يوحى إليك أو كائن، وإما خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هذا الحق من ربك. البلاغة: فَوَلِّ وَجْهَكَ أطلق الوجه، وأريد به الذات، من قبيل المجاز المرسل، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هي أبلغ من الجملة السابقة، لأنها جملة اسمية، ولتأكيد نفيها بالباء. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التحريض على الثبات على الحق. كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي يعرفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم معرفة واضحة كمعرفة أبنائهم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد نظرك مرة بعد مرة في جهة السماء، طلبا للوحي، وتشوقا للأمر باستقبال الكعبة، وكان يودّ ذلك، لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام، ولأنها أدعى إلى إسلام العرب، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فلنوجهنك جهتها، وهذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. فَوَلِّ وَجْهَكَ تولية الوجه المكان: جعله قبالته وأمامه، والمراد بالوجه: جملة البدن، أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وجهته أو ناحيته، وسميت الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب على البعيد مراعاة الجهة، دون عين الكعبة: لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد، كما قال الزمخشري. بِكُلِّ آيَةٍ أي بكل برهان وحجة. أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها، مفرده: هوى، وهو الإرادة والمحبة. الْمُمْتَرِينَ الشاكين. تاريخ النزول: اختلف العلماء في تاريخ نزول هذه الآيات: فقال ابن عباس والطبري: هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ «1» ، ويؤيده ما رواه البخاري عن البراء بن عازب في الحديث المتقدم، قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. فقال السّفهاء من الناس، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى: قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. وقال الزمخشري: إن هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ويكون ذلك للإخبار بمغيّب قبل وقوعه، يحدث من

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 158

سبب نزول الآية الذين آتيناهم الكتاب:

اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة، معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعدّ له، فيكون أقل تأثيرا عند المفاجأة، ولإعداد الجواب المسبق، وهو قوله تعالى: قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «1» . سبب نزول الآية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ: نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده، إذا رآه مع الغلمان، قال عبد الله بن سلام: لأنا أشدّ معرفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقّا يقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام. المناسبة أو وجه الربط بين الآيات: كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يتشوّق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنها أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة؟ فكره النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبلتهم، حتى روي أنه قال لجبريل: وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها. قال أبو حيان: ولما كان صلّى الله عليه وسلّم هو المتشوّف لأمر التحويل بدأ بأمره أولا، ثم أتبع أمر أمته ثانيا، لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلّى الله عليه وسلّم «2» .

_ (1) الكشاف: 1/ 242 (2) البحر المحيط: 1/ 430

التفسير والبيان:

ولما ذكر الله تعالى ما قاله سفهاء اليهود عند تحويل القبلة، ذكر في هذه الآيات أن إعراض أهل الكتاب عن رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن لشبهة تحتاج إلى إزالة، وإنما لعناد ومكابرة، وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم من جحود أهل الكتاب الذين طمع في إسلامهم، وتضايق من تكذيبهم. التفسير والبيان: كثيرا ما نرى تردد نظرك في جهة السماء، حينا بعد حين، متشوقا للوحي، متلهفا لتحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، وهو في هذا لا يعدّ معارضا أمر ربه، لأن صفاء نفسه يجعله يتطلع إلى ما يظنه خيرا، ويقدر فيه مصلحة. ولكونك تتطلع إلى التحويل، لنمكننك من استقبال قبلة تحبها غير بيت المقدس، لهدف سليم في نفسك هو أن يجتمع الناس على قبلة مخصوصة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويتحقق من وراء ذلك خير عظيم. فاصرف وجهك نحو أو تلقاء المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة. وفي ذكر الْمَسْجِدِ الْحَرامِ دون الكعبة، مع أنها القبلة على ما ثبت في الأحاديث، إشارة إلى أنه يكفي للبعيد الذي لا يعاين الكعبة محاذاة جهة القبلة حين الصلاة. ويؤكده الأمر الإلهي لعموم المؤمنين، وهو قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي وفي أي مكان كنتم، فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من فَوَلِّ وَجْهَكَ ويدل على أن المصلي في مختلف البقاع يتجه نحو القبلة، سواء أكان إلى الشرق أم إلى الغرب، وإلى الشمال أم إلى الجنوب الجغرافي، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب. والسبب في تأكيد الأمر باستقبال المؤمنين القبلة بعد أمر النّبي بها، مع أن

خطاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته: هو الاهتمام بشأن قبلة الكعبة، فإنها حادث عظيم، كان نقطة تحول في وضع أساس الاستقلال في عبادة المسلمين، وإنهاء الاتجاه نحو قبلة بيت المقدس، ولكي تشتد عزيمة المؤمنين وتطمئن قلوبهم، فيقضون على الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ويضربون بأقوالهم عرض الحائط، ويثبتون على اتباع الرسول، ولدفع توهّم أن القبلة باتجاه الشام. لكل هذا كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. ثم عاد القرآن لمناقشة أهل الكتاب الذين اشتركوا في تحريك الفتنة العظمى بعد تحويل القبلة، فقال: إن أهل الكتاب الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا- بما أنزل إليهم في كتبهم في شأن النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به، وأنه سيصلي إلى القبلتين: بيت المقدس وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتبع ملته- أن تحويل القبلة حق لا شك فيه، وأنه أمر الله، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق، وترويج الباطل، وما الله بغافل عن أعمالهم، بل مجازيهم عليها. وجيء بجملة: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراضا بين الكلامين: المتقدم عنها والمتأخر لوعد الفريقين ووعيدهم. ثم أوضح القرآن سبب الفتنة وإعراض الكتابيين عن دعوة الإسلام، تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له، فقد أخبره أولا أنهم يعلمون أنه الحق وهم يكتمونه ولا يعملون بمقتضاه، ثم سلاه عن قبولهم الحق باتخاذ موقف معين: وهو التزام موقف المعارضة عنادا ومعاداة، فقال: ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة على أن الحق وهو تحويل القبلة من ربهم، أملا في اتباع قبلتك، ما اقتنعوا ولا صدقوا به، ولا اتبعوك، عنادا منهم ومكابرة، فهم لن يتبعوا قبلتك رغم البرهان الساطع على الحق الإلهي المأمور به، وهو توجهك إلى

الكعبة «1» ، ولن يكون منك اتباع قبلتهم بعد اليوم، قطعا لأطماعهم في الاتجاه إلى بيت المقدس، وكيف يرجى ذلك، فهم ليست لهم قبلة واحدة، فعيسى كانت قبلته مع موسى، ولكن بعد موت عيسى وتحريف الإنجيل اتخذ النصارى قبلة أخرى. وأما أنت يا محمد فعلى قبلة إبراهيم الذي يقدره جميع أهل الملل، فهي الأجدر بالاتباع، ولا فائدة ترجى من اتباع قبلتهم. وكل من اليهود والنصارى لا يغيّر الاتجاه إلى قبلته، فلا تترك اليهود قبلتها وتتجه نحو المشرق، ولا تترك النصارى قبلتها وتتجه نحو الغرب، لأن كلّا منهم متمسك برأيه، حقا كان أو باطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، وإنما يسير على منهج التقليد الأعمى. ثم هدد الله نبيه، لتعرف أمته خطر مخالفة كلام الله، واتباع أهواء الناس، فقال: ولئن اتبعت يا محمد ما يريده أهل الكتاب، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم، وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين واضحا، والعلم القاطع الذي لا شك فيه وهو الدلائل والآيات التي تفيدك العلم وتحصله، لتكونن من الظالمين أنفسهم، المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة، وهذا في الحقيقة خطاب للمؤمنين لاستبعاد خاطر أو فكرة اتباع أهواء القوم استمالة لهم. وجملة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ هي جواب القسم المحذوف، الذي أو أومأت إلى تقديره اللام في لَئِنْ ودلّ على جواب الشرط. ودليل معرفة الحق من قبل أهل الكتاب: أنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلّم بما بشرت به كتبهم، وذكرته من صفات لا تنطبق على غيره، فهم يعرفون النّبي كمعرفتهم التامة بأبنائهم. وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا هذا الحق الواضح الذي يعلمونه من كتبهم، وهو نبوة محمد، وأن الكعبة قبلة.

_ (1) البحر المحيط: 1/ 430

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أعلن القرآن قاعدة وطيدة عامة: وهي أن الحق ما كان من عند الله وحده، لا من غيره، ويتمثل هذا الحق فيما أمر الله به في القرآن، فهو مما لا شك فيه، فلا تكن يا محمد، وبالأولى غيرك، من الشاكّين في أحقية وصدق ما أنت عليه وهو ما أتاك من ربك من الوحي، ولا تتبع أهواء وأوهام الضالّين الذين لم يتبعوك فيما أمرك الله به، فالقبلة التي تتجه إليها الآن- وهي الكعبة- هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء. والنهي في هذه الآية كالوعيد السابق في آية: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ... موجّه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به من كانوا غير ثابتي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم الاغترار بأباطيل المخادعين، والتأثر بأقاويل أهل الفتنة. فقه الحياة أو الأحكام: اتفق المسلمون- بناء على هذه الآية- على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في حال الخوف أو الفزع، وفي صلاة النافلة على الراحلة (الدابة أو السفينة أو الطائرة) ، فإن القبلة حال الخوف جهة الأمن، وفي حال الركوب حيث توجهت به الراحلة. واتفق العلماء على أن الكعبة قبلة في كلّ أفق، وعلى أن من شاهدها وعاينها، فرض عليه استقبال عينها، فإن ترك استقبالها وهو معاين لها، فلا صلاة له، وعليه إعادة كلّ ما صلّى. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة، وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة. وأجمعوا على أن كلّ من غاب عنها عليه أن يستقبل ناحيتها وشطرها، فإن خفيت عليه، فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من موقع الشمس، والنجوم، والبوصلة المعروفة، وغير ذلك.

وهل القبلة للغائب عين الكعبة أو الجهة؟ :

وهل القبلة للغائب عين الكعبة أو الجهة؟ قال الشافعية: فرض الغائب إصابة عين الكعبة، لأن من لزمه فرض القبلة، لزمه إصابة العين، كالمكي، ولقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي أنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين. وقال الجمهور غير الشافعية: فرض الغائب إصابة جهة الكعبة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي وابن ماجه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الفرض إصابة عين الكعبة، لما صحّت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها. ويؤكده قول ابن عباس رضي الله عنهما: الكعبة قبلة من في المسجد، والمسجد قبلة من خارجه في مكة، ومكة قبلة سائر الأقطار. وهذا مأخوذ من حديث سيأتي. قال القرطبي: استقبال الجهة هو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول- أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي في أي مكان كنتم من الأرض في شرق أو غرب، فاتجهوا شطر المسجد الحرام. الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت «1» . وهذا هو الراجح لدي، لعدم إمكان استقبال العين، وللتيسير على الناس، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيت قبلة

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 160

لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي» . وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة: أجاز الحنفية القائلون بأن القبلة الجهة- من قرار الأرض إلى عنان السماء- الصلاة فرضا أو نفلا فوقها، مع الكراهة، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، وترك التعظيم الواجب لها، ونهي النبي عنه. وأجاز الشافعية الصلاة فرضا أو نفلا على سطح الكعبة إن استقبل من بنائها أو ترابها شاخصا (سترة) ثابتا، كعتبة، وباب مردود أو عصا مسمّرة أو مثبتة فيه، قدر ثلثي ذراع تقريبا فأكثر بذراع الآدمي، وإن بعد عن الشاخص ثلاثة أذرع. وأباح الحنابلة أيضا صلاة النافلة على سطح الكعبة، ولكن لا تصح عندهم صلاة الفريضة، لقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والمصلي على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة، بدليل صلاتها قاعدا، أو إلى غير القبلة في السفر على الراحلة. ومنع المالكية من صحة الصلاة فوق الكعبة، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها. ودلّ قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، وإلا كان متجها إلى غير شطر المسجد الحرام. وهذا مذهب مالك. وقال الجمهور: يستحب أن ينظر المصلي قائما إلى موضع سجوده. وأضاف الحنفية: وينظر المصلي حال الركوع إلى قدميه، وحال السجود إلى أرنبة أنفه، وحال الجلوس إلى حجره. وهذا الرأي هو الأصح،

لتحقق الاستقبال والتوجه شطر المسجد الحرام، وأما النظر إلى هذه المواضع فلمنع المصلي أن يتشاغل في الصلاة بغيرها إذا لم يحصر بصره في هذه الجهات التي عينوها للنظر. وبهذا الأمر: فَوَلِّ وَجْهَكَ.. نسخ التوجه إلى بيت المقدس. وأرشدت الآية (145) إلى أن زحزحة أهل الكتاب عن دينهم أو قبلتهم أمر ميئوس منه، مهما حاول الإنسان إقناعهم، لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، ولا تنفعهم الآيات، أي العلامات الدالة على صدق رسالة الإسلام ووجوب اتباعه، وأنه لو أقام النبي عليهم كلّ دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . وقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لفظ خبر، ويتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك. ثم أخبر الله تعالى أن اليهود ليست متّبعة قبلة النصارى، ولا النصارى متّبعة قبلة اليهود، وهذا دليل على اختلافهم وتدابرهم وضلالهم. والخطاب في قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بعض أمته، وهو من يجوز أن يتّبع هواه، فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته، لعصمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقيننا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم تعظيما للأمر، ولأنه المنزل عليه القرآن. وكذلك قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكّين، الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته. ومما يوضح عناد أهل الكتاب واستكبارهم عن قبول الإسلام أو الحق: أنهم ولا سيما علماؤهم يعرفون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق رسالته، كما يعرفون أبناءهم،

وخصّ الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس، لأن الإنسان قد ينسى نفسه، ولا ينسى ابنه. روي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه، إلى أمينه في أرضه، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمّه. وأهل الكتاب يكتمون الحق يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ويعلمون نبوته، وهذا ظاهر في صحة الكفر عنادا، مثل قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل 27/ 14] ، وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة 2/ 89] . والحق: وهو استقبال الكعبة وغيره، من الله، لا ما أخبر به اليهود من قبلتهم، ولا ما أخبر به النصارى، فالقول الفصل هو للوحي الإلهي، لا لأهواء الجاحدين. والمراد بالخطاب في قوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في المعنى هو الأمة. والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل، فقولك: لا تكن ظالما أبلغ من قولك: لا تظلم. والخلاصة: أن جحدهم تحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنهم يعلمون علم اليقين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومتى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه.

الاختلاف في القبلة وأسباب تحويلها [سورة البقرة (2) الآيات 148 إلى 152] :

الاختلاف في القبلة وأسباب تحويلها [سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 152] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) الإعراب: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها :جْهَةٌ مبتدأ مؤخر، وكُلٍ خبره المقدم، والوجهة: جاءت على خلاف القياس، لأن القياس أن يقال: جهة، مثل عدة وصلة بحذف الواو، إلا أنهم استعملوها استعمال الأسماء، على خلاف القياس. وَمُوَلِّيها مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع صفة لوجهة، ووَ يعود إلى كل، وتقديره: لكل إنسان وجهة موليها وجهه، ويجوز أن يعود إلى الله تعالى، أي الله موليها إياهم. كَما أَرْسَلْنا..: الكاف في كَما متعلق إما بقوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ أي لأتم نعمتي عليكم في تحويل القبلة، كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، وإما متعلق بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ أي اذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، وإما أن يكون وصفا لمصدر محذوف، وتقديره: اهتداء كما أرسلنا، لأن قبله تَهْتَدُونَ.

البلاغة:

البلاغة: هناك جناس الاشتقاق بين أَرْسَلْنا ورَسُولًا. وهناك إطناب بذكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول، وهو قوله: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بعد قوله: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ. المفردات اللغوية: ْهَةٌ قبلة. وَمُوَلِّيها أي يولّي وجهه في صلاته. اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بادروا إلى الطاعات وقبولها. أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يجمعكم يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ اليهود أو المشركين. حُجَّةٌ أي مجادلة في التولي إلى غيره، أي لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وقول المشركين: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالعناد، فإنهم يقولون: ما تحول إليها إلا ميلا إلى دين آبائه، والاستثناء متصل، والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء. فَلا تَخْشَوْهُمْ تخافوا جدالهم في التولي إليها. وَاخْشَوْنِي بامتثال أمري. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بالهداية إلى معالم دينكم. كَما أَرْسَلْنا متعلق ب (أتم) أي إتماما كإتمامها بإرسالنا. يُزَكِّيكُمْ يطهركم من الشرك. الْكِتابَ القرآن. وَالْحِكْمَةَ العلم النافع، وما في القرآن من الأحكام، وقال بعضهم: الحكمة: السنة النّبوية. هذا.. وإن تكرار الأمر باستقبال الكعبة ثلاث مرات [في الآية (149) لأول مرة، وفي الآية (150) مرتين] : لتأكيد الأمر بتحويل القبلة في صور مختلفة، وقال القرطبي: الحكمة في هذا التكرار أن الأول: فَوَلِّ وَجْهَكَ لمن عاينها وهو في مكة إذا صلّى تلقاءها، والثاني: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ لمن هو ببقية الأمصار وسائر المساجد بالمدينة وغيرها، والثالث: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لمن خرج في الأسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض «1» . المناسبة: لما ذكر القبلة التي أمر المسلمين بالتوجه إليها وهي الكعبة، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها، أعلم أن ذلك هو بفعله، وأنه هو المقدر له، وأنه

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 168

التفسير والبيان:

هو موجه كلّ منهم إلى قبلته، ففيه تنبيه على شكر الله إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختيارهم له. التفسير والبيان: تستمر هذه الآيات في تأييد موقف النّبي صلّى الله عليه وسلّم في اتجاهه إلى الكعبة، وإبطال دعاوى المنكرين. فذكر الله تعالى أن لكل أمة قبلة خاصة بها، فلليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة، وليس لكل الأمم قبلة واحدة، والواجب التسليم لأمر الوحي، وليست القبلة أساس الدين، وإنما المهم التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، والأمكنة في ميزان الله واحدة، فلا تجادلوا في تحويل القبلة، ولا تعترضوا عليه، وقبلة المسلمين واحدة في مختلف أنحاء الأرض، في البرّ والبحر والجو، ولا فائدة من محاجة المشركين في القبلة، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا، فأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة، فيحاسبكم على أعمالكم، والله على كل شيء قدير. وتفصيل هذا المعنى الإجمالي فيما يأتي: لكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يتجهان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى يستقبلون المشرق، وهدى الله المسلمين إلى الكعبة، فالقبلة مختلفة باختلاف الأمم، وليست الجهة أساسا في الدين مثل توحيد الله والإيمان باليوم الآخر، والمطلوب التسليم لأمر الوحي، وتنفيذ الطاعات. فبادروا في فعل أنواع الخير، وليحرص كل إنسان على أن يكون سباقا إليه، مبتعدا عن كل شرّ وضلال، والشأن فقط لعمل البرّ، والبلاد والجهات ليست أساس القربة إلى الله تعالى، وهي سواء عند الله، والله يأتي بكم في أي مكان تقيمون فيه، ويجمعكم للحساب. والدليل أن الله لا يعجزه أن يحشر الناس يوم

الجزاء، مهما بعدت المسافات. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [المائدة 5/ 48] . والاتجاه إلى الكعبة أو المسجد الحرام شريعة عامة في كل زمان ومكان، ففي أي بقعة كنت، فاتجه جهة المسجد الحرام، وقد أعاد الله الأمر بالتوجه إلى الكعبة ثلاث مرات في هذه الآية، بعد الأمر به مرتين في الآية (144) ليبين أن الحكم عام في كل زمان ومكان، وذكر القرآن مع كل أمر ما يناسبه: فمع الأمر الأول في الآية (144) أثبت فيها ذاتها أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق. ومع الأمر الثاني في الآية (149) أوضح أنه الحق الثابت من عند الله، الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل، وأن تولي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياه هو الموافق للحكمة والمصلحة، وأن الله ليس بغافل عن أعمال الناس، وإخلاصهم في متابعة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما يجيء به من أمر الدين، وسيجازيهم خير الجزاء. وفي هذا وعد للمؤمنين الطائعين بنيل المكافأة على أفعالهم، ووعيد للعصاة بمجازاتهم على أعمالهم. ومع الأمر الثالث في الآية (150) ذكر الله الحكمة في تحويل القبلة وهي منافع ثلاث: 1- لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ- أهل الكتاب والمشركين- حجة على المسلمين، فأهل الكتاب كانوا يعرفون أن النّبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة، فبقاؤه في اتجاه الصلاة إلى بيت المقدس دائما طعن في نبوته. ويعلمون أيضا من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا تلك الصفة، ربما احتجوا بها على المسلمين. والمشركون كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم عليه السّلام، جاء لإحياء ملة أبيه، فلا ينبغي له أن يستقبل غير

بيت ربه الذي بناه جدّه إبراهيم مع ابنه إسماعيل، فجاء التحويل موافقا لما يرونه، ودحضت حجة الفريقين، ومن ورائهم المنافقون. لكن الذين ظلموا أنفسهم منهم بالعناد وهم مشركو قريش الذين لا يهتدون بكتاب، ولا يؤمنون ببرهان، لأنهم السفهاء، لا تخشوهم في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى دليل معقول، واخشوا صاحب الحق وحده. ومن أقاويل هؤلاء الظالمين الضالين: أن اليهود قالوا: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله. وقال المشركون: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، وقال المنافقون: إنه غير مستقر على قبلة، بل هو متردد مضطرب. وكل تلك الآراء لا حجة صحيحة فيها، ولا برهان يقبله العقل منها، وإنما هي جدل في دين الله، وذريعة إلى عدم الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاثبتوا أيها المؤمنون على قبلتكم، ولا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا سند له من عقل أو هدي سماوي. واخشوا الله، فلا تخالفوا ما جاءكم به رسول الله، فهو المنفذ لما وعدكم به، وفي هذا إشارة إلى أن المحق هو الذي يخشى جانبه، وأما المبطل فلا يؤبه له. 2- وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتخصيصكم بقبلة مستقلة في بيت ربكم الذي بناه جدّكم إبراهيم، وطهّره من عبادة الأصنام والأوثان، وجعل أفئدة الناس وشعوب العالم تهوي إليه، وتكون سببا في تحقيق منافع مادية ومعنوية لا حصر لها، وجعل محمد بن عبد الله نبيا عربيا من ولد إبراهيم، وإنزال القرآن عليه بلسان عربي مبين، وظهوره في العرب بين أهله وعشيرته الذين أحبوا أن تكون وجهتهم الكعبة، فكان التحويل إلى الكعبة نعمة تامة من الله على المسلمين والعرب. 3- وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي ولتهتدوا بالثبات على الحق وعدم المعارضة

فيه، فإن الفتنة التي أثارها السفهاء بتحويل القبلة أظهرت قوة الحق والإيمان، وضعف الباطل والكفر، ومحّصت المؤمنين، وأظهرت المنافقين، وخذلت الكافرين. والخلاصة: لقد أتم الله نعمته عليكم باستقلالكم بالبيت الذي جعله قبلة لكم، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم: وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، يتلو عليكم الآيات التي ترشد إلى الحق، وتهدي إلى سبيل الرشاد، ويقيم لكم الأدلة القاطعة على وحدانية الله وعظيم قدرته، ويطهركم من رجس الوثنية، ويعلمكم ما به تسمو نفوسكم، وتزكو، من أشرف العلوم، واحترام العقل، ونبذ التقليد الأعمى، وجعل الدين عاصما من كل زيغ وانحراف، كما أنه يطهر نفوسكم من عادات الجاهلية القبيحة مثل وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب. ويعلمكم القرآن الكريم، ويبين لكم الأحكام الشرعية، والأسرار التشريعية التي من أجلها كان القرآن هدى ونورا. ويعلمكم أيضا الحكمة: وهي معرفة أسرار الأحكام وغاياتها، وبواعثها على العمل والطاعة، كما يعلمكم السنة النّبوية والسيرة الحميدة في شؤون الحياة في السلم والحرب، والقلة والكثرة، والسفر والإقامة. حتى أصبح أصحاب النّبي الذين أطلعهم على أسرار التشريع وفقه الدين حكماء علماء أذكياء، وصار الواحد منهم يحكم البلاد، ويقود الأمة، ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، لكنه عرف سرّه، وفقه غايته. ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من أخبار المغيبات، وسير الأنبياء، وقصص الأقوام الغابرة، وأحوال الأمم البائدة أو التي كانت مجهولة عند العرب، وغيرهم من أهل الكتاب أيضا. لهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره، فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.

فقه الحياة أو الأحكام:

أي فاذكروني بالطاعة والامتثال والعمل الصالح، مثل الحمد والتسبيح والشكر، وقراءة القرآن وتدبرا آياته، والتفكر في الأدلة الكونية على وجودي وقدرتي ووحدانيتي، والتزام ما أمرتكم به، واجتناب ما نهيتكم عنه، والإيمان بالرسل والاقتداء بهم، أذكركم عندي بالثواب والإحسان، وإفاضة الخير، ودوام السعادة والعزة، وأفاخر بكم الملائكة، واشكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم بالقلب واللسان واستعمال كل عضو فيما خلق له من الخير والنفع، ولا تكفروا هذه النعم، بصرفها في غير ما يبيحه الشرع، ولا يقره العقل السليم، فإني مجازيكم على ما قدمتم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما جاء في آية أخرى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم 14/ 71] . فقه الحياة أو الأحكام: الاتجاه إلى القبلة وسيلة لتوحيد الأمة، والمقصود الحقيقي إنما هو إخلاص العبادة لله، أيا كانت جهة الاتجاه في الصلاة، فلا يصح استغلال الخلاف بين أتباع الأديان، وعلى الناس التسابق في الخيرات وأعمال البّر والإحسان، وعليهم أيضا الطاعة في جميع ما أمر الله به، وما تبدل الأوامر بالاتجاه نحو بيت المقدس أولا، ثم الكعبة بنحو دائم إلا نوع من الابتلاء والاختبار، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكشف عن الكاذبين، وتمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، فلم يكن تحويل القبلة نقمة، وإنما هو نعمة كبري والأمر في قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يراد به المبادرة إلى تنفيذ ما أمر الله به، من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحثّ على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بعموم اللفظ، فإن المعنى المراد- كما قال القرطبي- المبادرة بالصلاة أول وقتها، ويسنّ الإبراد بالظهر عند مالك والشافعي لشدة الحرّ، لما رواه البخاري والترمذي عن أبي ذر الغفاري أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن شدّة الحرّ من فيح جهنم، فإذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة» .

وسيكافأ كل إنسان على ما قدّم من عمل، ولن يضيع جهده، والله قادر على أن يأتي بجميع الخلائق يوم القيامة، وقادر على كل شيء، ومن مشتملات قدرته وسعتها الإعادة بعد الموت والبلى في أي مكان، في البرّ أو البحر. ولا تراجع عن الأمر بالاتجاه نحو الكعبة، بدليل تأكيد الأمر في هذه الآية بالاتجاه نحوها ثلاث مرات، بالإضافة إلى الأمر السابق به مرتين في الآية (144) . وما على المؤمنين إلا الإصرار على الاتجاه في صلاتهم نحو الكعبة. وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء متصل، كما روي عن ابن عباس، واختاره الطبري، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة، حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجّه إلى قبلتنا إلا أنّا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق. والتهوين من شأن الكفار، وشدّ أزر المؤمنين، والنهي عن خشية الظالمين في التوجه إلى الكعبة، فيه إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأما المبطل فلا يؤبه له. وقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا: دلّ هذا التشبيه على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وهو تشبيه يدلّ على عظم شأن تحويل القبلة إلى الكعبة. وأما قوله سبحانه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ففيه الإشادة بصرح العدل بين الناس، والمعنى: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، كما قال سعيد بن جبير، وقال أيضا: الذكر: طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره، وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن. وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله

الصبر على البلاء [سورة البقرة (2) الآيات 153 إلى 157] :

عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا..» والمراد: ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات. وأما قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فهو تحذير من الله لهذه الأمة، حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله، فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت من أجله، فسلبها ما وهبها. الصبر على البلاء [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) الإعراب: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ مرفوعان، لأن كل واحد منهما خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم أموات، بل هم أحياء. البلاغة: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ فيه إيجاز بالحذف، أي لا تقولوا: هم أموات، بل هم أحياء، وبين الأموات والأحياء طباق. بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ التنكير للتقليل.

المفردات اللغوية:

صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ التضوين في الكلمة الأولى والأخيرة للتفخيم، وقوله: مِنْ رَبِّهِمْ لإظهار مزيد العناية بهم. هُمُ الْمُهْتَدُونَ فيه قصر الصفة على الموصوف، أي لا مهتدي غيرهم. المفردات اللغوية: بِالصَّبْرِ الصبر: توطين النفس على احتمال المكاره، أي استعينوا على الآخرة بالصبر على الطاعة والبلاء. وَالصَّلاةِ خصّها بالذكر لتكررها وعظمها، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي من الملائكة: الاستغفار، ومن الله: الرحمة. مَعَ الصَّابِرِينَ أي معهم بالعون. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لنمتحننّكم، من الابتلاء: وهو الاختبار والامتحان ليعلم ما يكون من حال المختبر، والمراد: نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم، بالخوف من العدو: ضد الأمن، وَالْجُوعِ: القحط، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ: بالهلاك وَالْأَنْفُسِ بالقتل والموت والأمراض وَالثَّمَراتِ بالجوائح، أي لنختبرنكم، فننظر أتصبرون أم لا وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على البلاء بالجنة. والمصيبة: كل ما يؤذي الإنسان في نفس أو مال أو أهل. ونقص الثمرات: قلتها. صَلَواتٌ مغفرة، والصلاة من الله: التعظيم وإعلاء المنزلة. وَرَحْمَةٌ نعمة، والرحمة: اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء والرضا بالقضاء. سبب نزول الآية (154) : نزلت في قتلى بدر، وكانوا بضعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، والسبب أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: وَلا تَقُولُوا ... الآية. التفسير والبيان: كان تحويل القبلة فتنة للناس، لاختبارهم وتمييز المؤمن الحق من المنافق الكاذب، فهو نعمة وليس نقمة، ولكن السفهاء وأهل الكتاب استغلوا هذا الحادث العظيم، وقاموا بحملة من الافتراءات والوشايات لزرع الحقد والبغضاء في النفوس ضدّ المؤمنين، وقد علم الله أن ذلك يستتبع جهودا مكثفة منهم لتأليب

الناس على المؤمنين، وسيؤدي هذا إلى القتال حتما، ثم حدث القتال فعلا في سلسلة من المعارك الضارية. فأبان سبحانه في هذه الآيات أن النعمة قد تقترن بالبلاء وألوان المصائب، ولكن لا دواء لتحمل المصيبة ومقاومة الأعداء من المشركين وأهل الكتاب إلا بالاستعانة بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تقوية الإرادة وتحمل المشقة والثبات على المصاعب، وأن الله مع الصابرين، أي بالعون والنصرة والرعاية والتأييد، فلما فرغ سبحانه من بيان الأمر بالشكر، شرع في بيان الصبر، والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكرها، أو في نقمة فيصبر عليها. وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها أم العبادات، وهي طريق الصلة بالله ومناجاته واستشعار هيبة الله وجلاله، وهي مفزع الخائفين، وسبيل تفريج كرب المكروبين، واطمئنان نفوس المؤمنين، قال صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت قرة عيني في الصلاة» . وإذا استعان المؤمن بالصبر والصلاة التي تملأ القلب خشية وخشوعا لله، وتبعد النفس عن الفواحش والمنكرات، هانت عليه المصاعب، وتحمّل كل شدة ومشقة، وقاوم كل عناء وكرب. لذا أمر الله بهما فقال: استعينوا على نصر دينكم وشعائركم، وعلى كل ما تلاقونه من مكاره ومصائب، بالصبر الذي يتغلب به على كلّ مكروه، وبالصلاة التي تعزز الثقة بالله تعالى وتهوّن الخطوب. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة 2/ 45] . وإنما خصّ الصبر لأنه أشدّ شيء باطني على النفس، وخصّت الصلاة، لأنها

أشدّ عمل ظاهري على الإنسان، إذ فيها انقطاع عن الدنيا، واتجاه إلى الله، وقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا حزبه أمر- اشتد عليه- فزع إلى الصلاة، وتلا هذه الآية. إن الله ناصر الصابرين ومجيب دعائهم ومفرج كروبهم، والواقع أن الأعمال الفردية والأعمال الجماعية العظيمة لا تحقق ثمارها إلا بالثبات والكفاح الدائم، وعدة ذلك كله الصبر. ولا تقولوا عن شهداء الكفاح والجهاد الخالص: إنهم أموات، بل هم أحياء في قبورهم حياة ذات طراز خاص ومعالم خاصة، ويرزقون رزقا على كيفية، الله أعلم بها، ولكنّا لا نستطيع إدراك حقيقة تلك الحياة بميزان الحسّ المشاهد، فهي حياة غيبية، في عالم آخر، وطراز آخر، وكلّ ما في الأمر أن الله تعالى أخبرنا عنها، فلا نبحث عنها، ويجب الإيمان بها، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ، عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران 3/ 169] . وفيما ذكر إشارة إلى أن المؤمن الذي يضحي بنفسه في سبيل نصر دينه ودعوة ربه هو من الشهداء الأبرار الذين يظفرون بجنان الخلد، وهم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، كما ثبت في الحديث الصحيح. ثم أقسم الله تعالى فقال: والله لنصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من خوف العدو في القتال، والجوع بالجدب والقحط، ونقص الأموال بضياعها، والأنفس بموتها بسبب الاشتغال بقتال الكفار وغيره، والثمرات بقلتها، وقال الشافعي: بموت الأولاد، وولد الرجل: ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، وذلك لتهدأ قلوب المؤمنين، وتطمئن لما قد يفاجئهم به المستقبل من أحداث، وليرضوا بقضاء الله

وقدره، إذا تعرضوا لمصيبة، وحدث كل هذا، فكان المؤمن يصبح فقيرا حينما يؤمن وتهجره أسرته، أو يخرج من دياره وماله حينما هاجروا إلى المدينة وتركوا مكة، وكان المقاتل يتبلغ بتمرات يسيرات، في أثناء الذهاب إلى المعارك، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وكان يعاني المرض ويتعرض للموت حينما استقر في المدينة وأصابه وباؤها وحمياتها التي كانت فيها، ثم حسن مناخها. وبشر الصابرين الذين يؤمنون بالقضاء والقدر، ولكن لا تتحقق البشار: إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، وهم يحتسبون الأجر عند الله قائلين: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وتلك بشارة بحسن العاقبة في أمورهم، فيوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، ولهم من ربهم مغفرة لسيئاتهم، ورحمة خاصة بهم يجدون أثرها في برد القلوب وسكينة النفس عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، لأن الكافر تضيق به الدنيا إذا نزلت به المصيبة، وقد يقتل نفسه، وما أكثر حوادث الانتحار في أوربا وأمريكا!! والصابرون بحق: هم المهتدون إلى الحق والصواب ونافع الأفعال، وهم الذين فازوا بخيري الدنيا والآخرة. والصبر يكون عند الصدمة الأولى لحديث البخاري عن أنس: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» . والبكاء أو الحزن مع الرضا والتسليم للقضاء والقدر لا ينافي الصبر والإيمان، فقد جاء في الصحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بكى حينما مات ولده إبراهيم، فقيل له: أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال: إنها الرحمة، ثم قال: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» . والمذموم: هو فعل ما نهى عنه الشرع من لطم الخدود وشقّ الجيوب والدعاء بدعوة الجاهلية من النواح المحرم على الأموات، وفعل ما يستقبحه العقل من التفوه بكلمات تعبر عن السخط والاعتراض على ما قدّر الله وحكم به.

وقد وردت أحاديث وآثار كثيرة في الصبر وحدوده وقيوده والاسترجاع عند المصيبة، منها ما رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون «1» ، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها» . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عاقبته، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» . وأخرج أحمد والترمذي عن أبي موسى أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد» . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى- أنها لم تكن في ديني، الثانية- أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة- أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير» ، ثم تلا قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. والخلاصة: إن الآيات والأحاديث التي وضعت نظام الدين حضت على الصبر والاسترجاع والقول بما يرضي الله، والاستسلام لقضاء الله وقدره، والرضا بحكمه، فحينئذ يجبر الله المصيبة، بأن يعوض خيرا منها، ويثاب الصابر بالقبول الحسن عند الله والفوز بالجنة.

_ (1) إِنَّا لِلَّهِ إقرار بالعبودية والملك، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالفناء والبعث من القبور. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الدنيا دار ابتلاء واختبار، والبلاء يكون حسنا، ويكون سيئا، وأصله المحنة، قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء 21/ 35] وقال: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [الأنفال 8/ 17] والله عزّ وجلّ يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسن بلاء، وللسيء بلاء. وتؤكد الآية (155) أن الامتحان قائم، والمعنى لنمتحننّكم حتى نعلم المجاهد والصابر علم معاينة، حتى يقع عليه الجزاء. والصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدلّ على قوة القلب وثباته في مقام الصبر، وهو معنى حديث أنس المتقدم: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» . وأما إذا بردت حرارة المصيبة، فكل أحد يصبر إذ ذاك. والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فصاحبه مجاهد، وصبر على طاعة الله، فصاحبه عابد، والثاني أكثر ثوابا، لأنه المقصود. فإذا صبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، أورثه الله الرضا بقضائه. وعلامة الرضا: سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات: وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب. وإذا أصيب المؤمن بمصيبة: وهي النكبة التي تصيب الإنسان، وإن صغرت، قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطفأ ذات ليلة، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: «نعم، كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة» فالمصيبة إذن: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، وروى مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما يصيب المسلم من

وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهمّ يهمّه «1» إلا كفّر به من سيئاته» . ومن أعظم المصائب: المصيبة في الدين، أخرج السمرقندي أبو محمد في مسنده عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب» . قال ابن عبد البر: وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأن المصيبة به أعظم من كلّ مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النّبوة. وكان أول ظهور الشرّ بارتداد العرب وتوابعه، وكان المصاب بالنبي أول انقطاع الخير وأول نقصانه. والاسترجاع تسليم وإذعان وهو قوله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وقد جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: إِنَّا لِلَّهِ توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالهلاك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن مرجع الأمر كله لله تعالى. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب، لما قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف 12/ 84] . وبشارة الصابرين: إما بالخلف، كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه تزوجها لما مات زوجها أبو سلمة، وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى المتقدّم المتضمن بناء بيت في الجنة يسمى بيت الحمد للصابرين. وقد أنعم الله على الصابرين المسترجعين بنعم عظمي هي المغفرة والرحمة،

_ (1) أي يغمّه.

السعي بين الصفا والمروة وجزاء كتمان آيات الله [سورة البقرة (2) الآيات 158 إلى 162] :

لأن الصلاة من الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجّاج: «الصلاة من الله عز وجل: الغفران والثناء الحسن» . ومن هذا: الصلاة على الميت، إنما هو الثناء عليه والدعاء له. وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. والمغفرة والرحمة عدل إلهي، وزاد الله الصابرين شيئا ثالثا وهو الهداية: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. وخلاصة ما أعتقده: أن من صبر عند الصدمة الأولى، ورضي بالقضاء والقدر، وطلب الأجر والثواب من الله على مصيبته، واحتسب ذلك عند الله، ولم يبدر منه كلمة فيها سوء أدب مع الله، عوّضه الله خيرا عنها في الدنيا، وغمره باللطف الإلهي في الدنيا والآخرة، وأسبغ عليه نعمة كبيرة وفضلا عظيما في الآخرة: وهو مغفرة الذنوب والخطايا، ودخول الجنة، والإقامة في بيت الحمد. رزقنا الله الإيمان، وربّى نفوسنا على التذرع بالصبر الجميل عند كلّ مصيبة صغرت أم عظمت، والله المستعان، والله مع الصابرين بالعون والولاية والرعاية والنصر. السعي بين الصفا والمروة وجزاء كتمان آيات الله [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 162] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

الإعراب:

الإعراب: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ مِنْ إما شرطية، وتَطَوَّعَ شرط، فعل ماض في معنى المستقبل، وهو مجزوم بمن الشرطية، وإما بمعنى الذي، وتطوع: جملة فعلية لا موضع لها من الإعراب، لأنه صلة الموصول. وخَيْراً منصوب بنزع الخافض أي من تطوع بخير. فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ جواب الشرط، مجزوم بمن الشرطية، مثل قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف 7/ 186] . أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ: أُولئِكَ مبتدأ، ولَعْنَةُ اللَّهِ إما خبر، وإما مبتدأ ثان، وعَلَيْهِمْ خبره المقدم عليه، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، والمبتدأ الأول وخبره: خبر إن. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء متصل، والمعنى: تابوا عن الكفر إلى الإسلام أو عن الكتمان إلى الإظهار. خالِدِينَ حال منصوب من ضمير عَلَيْهِمْ ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير خالِدِينَ. ولا هُمْ يُنْظَرُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير خالِدِينَ أو من ضمير عَنْهُمُ. البلاغة: مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فيه إيجاز بالحذف، تقديره: من شعائر دين الله. شاكِرٌ عَلِيمٌ أراد به الثواب على الطاعة، أي أنه أطلق الشكر وأراد به الجزاء بطريق المجاز. يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فيه التفات من ضمير المتكلم «نلعنهم» إلى الغيبة، وذكر اسم الجلالة لإلقاء المهابة في القلب. يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ فيه جناس الاشتقاق، وهو محسّن بديعي.

المفردات اللغوية:

خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة أو في النار، وأضمرت النار تهويلا لأمرها. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أتى بالجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار. المفردات اللغوية: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مكانان مرتفعان بمكة بينهما (760 ذراعا) والصفا: تجاه البيت الحرام، وما بينهما المسعى، وهو مسقوف الآن، ومبلط بالرخام الجميل، مثل سائر الحرم المكي. شَعائِرِ اللَّهِ جمع شعيرة وهي العلامة، وتسمى المشاعر أيضا، وواحدها مشعر، وهي تطلق أحيانا على معالم الحج ومواضع النسك، وحينا آخر على العبادة والنسك فيه، والمراد هنا: مناسك الحج، وفيه حذف تقديره: من أعلام دين الله. حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج لغة: القصد، وشرعا قصد البيت الحرام للنسك أو أداء المناسك المعروفة. والعمرة لغة: الزيارة، وشرعا: زيارة مخصوصة للبيت الحرام، وهي كالحج، لكن ليس فيها وقوف بعرفة ولا بالمزدلفة ولا بمنى، ولا تتحدد بزمان معين، ووقتها: كل أيام السنة. والاعتمار: أداء مناسك العمرة. فَلا جُناحَ فلا إثم. أَنْ يَطَّوَّفَ: أصله يتطوّف: أي يكرر الطواف، والمراد به السعي بين الصفا والمروة، وهو من مناسك الحج بالإجماع، وبيّن صلّى الله عليه وسلّم فرضيته بقوله فيما رواه البيهقي وغيره: «إن الله كتب عليكم السعي» وروى مسلم: «ابدؤوا بما بدأ الله به» يعني الصفا. تَطَوَّعَ فعل الطاعة فرضا أو نفلا، والتطوع لغة: الإتيان بالفعل طوعا لا كرها، ثم أطلق على التبرع بالخير، لأنه طوع لا كره، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب. فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ لعمله أي مجاز عليه بالإثابة عليه، فهو سبحانه يجزي بالإحسان إحسانا. يَكْتُمُونَ الكتمان: ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه، وحصول الداعي إلى إظهاره. وما لم يكن كذلك لا يعد كتمانا. ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى كآية الرجم ونعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فِي الْكِتابِ: التوراة يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ يبعدهم من رحمته وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، أو كل شيء، بالدعاء عليهم باللعنة. خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، أو في النار المدلول بها عليها. يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة، من الإنظار: وهو الإمهال.

سبب النزول:

سبب النزول: سبب نزول الآية (158) : أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة، فقال: «كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام، أمسكنا عنهما، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وأخرج الحاكم مثله عن ابن عباس. وأخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت لعائشة: أرأيت قول الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنهما إنما أنزلت، لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، وكان من أهلّ لها، يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ... الآية، ثم سن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما. ويوضح ذلك ما أخرجه الطبري عن الشعبي: أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا، يسمى إساف، ووثنا على المروة يسمى نائلة، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت، مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام، وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، قال: فأنزل الله أنهما من الشعائر. أي فلا حرج على المسلمين في السعي بينهما، لأنهم يسعون لله، لا للأصنام.

سبب نزول الآية (159 وما بعدها) :

سبب نزول الآية (159 وما بعدها) : نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلّى الله عليه وسلّم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتموهم إياه، فأنزل الله هذه الآية. المناسبة بين الآيات: كان تحويل القبلة في الآيات السابقة نعمة كبري على المسلمين، إذ جعلتهم مستقلين عن التبعة لغيرهم، ومكنتهم من الإشراف على البيت الحرام، لتطهيره من الشرك والوثنية، ووجهت أنظار المسلمين نحو مكة- قلب الجزيرة والعالم، ولما أثنى الله على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المضنية للمال والبدن، ناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة، لإتمام النعمة بالإشراف على مكة، والتذكير بأهميتها، وإقامة مناسك الحج فيها. وكل من الاتجاه إلى الكعبة والسعي هو أيضا إحياء لملة إبراهيم عليه السّلام، فلا مسوغ بعدئذ لمعاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة، ولا داعي لمحاولتهم زرع الأحقاد والضغائن ضد المسلمين الذين أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة. التفسير والبيان: إن الصفا والمروة والسعي بينهما من علامات دين الله، ومن مناسك الحج والعمرة التي تدل على الخضوع لله وعبادته إذعانا وتسليما، يعبده عباده عندهما وما بينهما بالدعاء أو الذكر أو تلاوة القرآن، فمن حج البيت أو اعتمر، فلا إثم عليه ولا خوف من الطواف بهما، وإن كان المشركون يطوفون بهما، فإن طوافهم كان كفرا بسبب تعظيم الأصنام الجاثمة على صخرتي الصفا والمروة، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وإطاعة لأوامر الله تعالى.

ونفي الإثم والحرج أو الجناح عن السعي يشمل الواجب والمندوب، كما أن التطوع وهو فعل الطاعة يشمل الفرض والنفل. والسر في التعبير بنفي الجناح، مع أن السعي فرض عند الجمهور، وواجب عند الحنفية: هو لبيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون السعي من الشعائر، وأنه من مناسك إبراهيم، وأنه لا مانع منه في الإسلام لتغير قصد الطائفين، ونفي الجناح لا ينافي الإيجاب المقرر شرعا. وأما التعبير بالشعائر: وهي ما تعبّدنا الله به كالصلاة ومناسك الحج، فللدلالة على وجوب التنفيذ والطاعة، وممارسة العبادة، وإن لم نفهم معناها تمام الفهم، أو ندرك سرها، ولا يقاس عليها غيرها. أما غير الشعائر كالمعاملات من بيع وإجارة وشركة ورهن ونحوها، فهي مشروعة لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل فهمها وإدراك مقاصدها، فيجري فيها القياس بحسب المصلحة. وإقامة شعائر الحج فرض في العمر مرة، ومن تطوع خيرا بأن أكثر من الطاعة وزاد عن الواجب الأصلي، فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، ويثيب على القليل بالكثير، فلا يبخس أحدا ثوابه، وهو عليم بقصده وإرادته وبمن يستحق هذا الجزاء. وفي التعبير عن الجزاء الحسن بالشكر تربية على فضائل الأخلاق، إذ إن منفعة عمل العبادة عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه، فهل يليق بعدئذ كفران النعمة الإلهية وعدم شكرها؟! إن شكر المعروف وتقدير النعمة سمة أهل الوفاء والإخلاص، بل هو سبب لزيادة النعمة ودوامها وإسبال الستر الإلهي على العبد الشاكر الطائع. وقد حمل العلماء الشكر على الثواب والجزاء بطريق المجاز، لأن الشكر بمعنى مقابلة الإحسان والنعمة بالثناء والتقدير محال على الله، إذ ليس لأحد عند ربه

يد ونعمة، ولا حاجة لله تعالى لعمل العباد. وأثبت السلف صفة الشكر لله، فهي صفة تليق بجلاله وكماله. ثم عاد القرآن إلى كشف موقف أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في عناد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاداتهم إياه، ولا سيما علماء اليهود وأحبارهم، وما تضمنه موقفهم من أنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم، وأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون. إن الذين يكتمون ويخفون ما أنزل الله- إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه، كالبشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصفاته الموجودة في سفر التثنية، وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، ووضع شيء مكذوب من عندهم مكانه، سواء في التوراة والإنجيل- جزاؤهم الطرد من رحمة الله، وغضب الله عليهم، ولعنهم من الملائكة والناس أجمعين. وحكمة هذا الجزاء: أن ما أنزل الله من البينات والهدى، كان لخير الناس وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، عن طريق إيراد الأدلة الواضحة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتبيان حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به، فإذا كتموا ما أنزل، وحجبوا الحقائق عن الأعين، أوقعوا الناس في ضرر جسيم، وشر عميم، وعطلوا الكتب السماوية، وفوتوا ما تؤتيه من ثمار وغايات طيبة مرجوة منها. والآية عامة في كل كاتم ومكتوم، يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم، ومنه كتمان العلم الذي فرض الله بيانه للناس، كما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية. والمراد من قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى: كل ما أنزله الله على الأنبياء من الكتب والوحي والدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة. والمراد من قوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ إما التوراة

فقه الحياة أو الأحكام:

والإنجيل، والمكتوم: ما جاء فيهما من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأحكام، وإما الكتب المتقدمة وما تبعها وهو القرآن. واستثنى القرآن من جزاء الكتمان السابق: من تاب من أهل الكتاب وأصلح ما أفسده، وأعلن الحق المسطور في الكتب المنزلة، وأقر بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصدّق ما جاء به من عند الله، وأماط اللثام عما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل، وأصلح نفسه بصالح الأعمال، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويغفر لهم، ويدخلهم الجنة، لأن الله تعالى قابل التوبة كثيرا من غير حدود، رحيم بالمقبلين عليه رحمة واسعة، يعفو عن المسيء، ويغفر زلة المخطئ، ويفيض برحمته على المقصرين إذا أنابوا وتابوا ورجعوا إلى الله تعالى. أما من ظل مصرّا على الخطأ، وعاند في قبول الحق، وأعرض عن دعوة الله في قرآنه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وظل يغير ويحرف حتى مات، فهذا وأمثاله هم الذين كفروا بالله ورسله وماتوا وهم كافرون، لذا استحقوا لعنة الله، وغضبه ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وكانوا خالدين في النار خلودا دائما، لا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يمهلون، فهم ماكثون في تلك اللعنة الشاملة على طريق الدوام، حتى يردوا النار، ويخلدوا في عذاب جهنم، لموتهم وهم كفار. وفي بيان موقف التائبين والمعاندين ترغيب في التوبة عما فرط الإنسان من الذنوب، وحث على ترك العناد، وإبعاد لليأس من رحمة الله قبل هجوم الموت، كما قال الله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 39/ 53] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى أن السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة، لكن علماءنا اختلفوا في تحديد صفته الشرعية:

فقال الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) : إنه ركن، فمن لم يسع كان عليه حج قابل، لقوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن صفية بنت شيبة: «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» وكتب بمعنى أوجب، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، وقوله عليه الصلاة والسّلام: «خمس صلوات افترضهن الله على العباد» رواه أبو داود والبيهقي عن عبادة بن الصامت. وقال الحنفية: السعي واجب، فإن تركه أحد حتى يرجع إلى بلاده، جبره بدم، أي بذبح شاة مثل شاة الأضحية، لظاهر الآية التي رفعت الإثم عمن تطوف بين الصفا والمروة، ووصفت ذلك بالتطوع، فقالت: وَمَنْ تَطَوَّعَ يعني بالتطوف بينهما، ولما رواه الشعبي عن عروة بن مضراس الطائي، قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمزدلفة، فقلت: يا رسول الله، جئت من جبل طي، ما تركت جبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسّلام: «من صلّى معنا هذه الصلاة «1» ، ووقف معنا هذا الوقف، وقد أدرك عرفة قبل- ليلا أو نهارا- فقد تم حجه، وقضى تفثه» «2» قالوا: فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهين: أحدهما- إخباره بتمام حجته، وليس فيها السعي. الثاني- أنه لو كان من أركانه لبينه للسائل، لعلمه بجهله الحكم. والظاهر أن الآية لا تدل لأحد الفريقين، لأن سببها كما علمنا هو رفع الجناح على من تطوف بالصفا والمروة، بعد أن كانوا يتحرجون من السعي بينهما، لوجود صنمين أو وثنين (إساف ونائلة) عليهما في الجاهلية، وكانوا يتمسحون بهما ويطوفون من أجلهما، فأبان الله أنه يطاف بهما من أجل الله، وأنهما

_ (1) يحتمل صلاة العيد (2) قضى مناسك الحج

من شعائره. وقوله: «ومن تطوع خيرا» يحتمل بالتطوف بهما، ويحتمل بالزيادة على الفرض من التطوف بهما، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنة، وروي فيها آثار مختلفة، فيرجح بينها بحسب الأصول، والراجح لدي رأي الجمهور للأحاديث التي استدلوا بها وهي مصرحة بفرضية السعي. وقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ إشارة إلى أن السعي واجب، فمن تطوع بالزيادة عليه، فإن الله تعالى يشكر ذلك له. وآية كتمان ما أنزل الله التي نزلت في أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد كتم اليهود أمر رجم الزناة المحصنين، ليست خاصة بهم، وإنما العبرة بعموم اللفظ، والمراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم حكما شرعيا، أو علما نافعا، أو رأيا صحيحا خالصا نافعا للأمة، ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة وعمرو بن العاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران 3/ 187] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة 2/ 174] فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم يتضمن تحريم الكتمان والتحريف، وفي آيات أخرى تصريح إيجابي وأمر واضح في الحث على بيان العلم ونشره، وإن لم يذكر الوعيد، مثل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة 9/ 122] . والحاصل: إذا قصد العالم كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه معروف لدى غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ، لهذه الآيات والحديث المتقدم.

وذكر بعضهم أن الآية تدل على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم، لأنّها تدل على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه، ولا يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه، كما صرحت آية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة 2/ 174] فدل ذلك على بطلان أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين. لكن أفتى المتأخرون بجواز أخذ الأجور على تعليم العلوم الدينية، لتهاون الناس بها، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، حتى لا تضيع العلوم، ولانقطاع مخصصات العلماء من بيت مال المسلمين، واضطرار العلماء إلى التزود بما يعينهم على شؤون الحياة. ودلت آية كتمان ما أنزل الله على شدة النكير على الكاتمين ووعيدهم، لما في الكتمان من الضرر الجسيم بالناس، وتعطيل الكتب السماوية، ووظيفة الرسالة النّبوية، ولأن العلم يحرم كتمه، ويجب نشره وتعميمه، فإن أقدم إنسان على حرمان الناس من علمه، استحق اللعنة الأبدية من الله ومن الناس أجمعين، لأنهم حرموا الخير والنور ومعرفة طريق الهدى والرشاد. وقد أرشد قوله سبحانه في تحريم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى إلى وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان، إلا وقد وجب قبول قوله، وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم. ولم يسدّ الحق سبحانه طريق الأمل، فاستثنى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم، ولا يكفي في التوبة قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه مخالفة سلوكه السابق، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد

والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. ودلت آية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وما بعدها على خلود الكفار في نار جهنم، فهم خالدون في اللعنة ومستقرة فيهم أي في جزائها، وأنهم مطرودون من رحمة الله، وأن تعذيبهم دائم مستمر بدون انقطاع ولا تخفيف، ولا إمهال أو إرجاء، فهم لا ينظرون أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات. ولا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: «ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان» سواء أكانت لهم ذمة أم لم تكن، وهو مباح غير واجب، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله. وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشرّاب الخمر وأكلة الرّبا، والتشبّه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه. وأما الكافر المعيّن، فقال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه، لظاهر حاله، ولجواز قتله وقتاله «1» . وقد روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم إن عمرو بن العاص هجاني، وقد علم أني لست بشاعر، فالعنه واهجه عدد ما هجاني» فلعنه، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله. وقال جماعة من العلماء: لا يلعن الكافر المعين، لأنا لا ندري بما يختم الله له. وأما الحديث الذي احتج به ابن العربي فهو ضعيف. وليس لعن الكافر زجرا له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر، وإظهار قبح كفره، سواء كان الكافر ميتا أو مجنونا. ومع هذا فإن الأولى عدم اللعن عموما، لما يؤدي إليه من المقابلة أو المعاملة بالمثل، وإثارة الخصام والاقتتال.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 50

وحدانية الإله ورحمته ومظاهر قدرته [سورة البقرة (2) الآيات 163 إلى 164] :

ولعنة الكافر من الناس: هي في يوم القيامة، ليتأثر بذلك، ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون لعنه جزاء على كفره، كما قال الله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت 29/ 25] . وأما لعن المسلم العاصي المعيّن: فذكر ابن العربي أنه لا يجوز اتفاقا، لما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم أنه أتي بشارب خمر مرارا، وهو نعيمان، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة. وكان هذا في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه، أما من لم يقم عليه الحد، فلعنته جائزة، سواء سمّي أو عيّن أم لا، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة، ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهّره الحد، فلا لعنة تتوجه عليه. وأما لعن العاصي مطلقا من غير تعيين، فيجوز إجماعا، لما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده» ويجوز لعن الظالم من غير تعيين، لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود 11/ 18] . وحدانية الإله ورحمته ومظاهر قدرته [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

الإعراب:

الإعراب: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: لا نافية للجنس، وإله: اسمها المنصوب، وخبرها محذوف تقديره: لا إله لنا، أو في الوجود، وهُوَ بدل مرفوع من موضع: لا إِلهَ الذي هو في موضع رفع على الابتداء. والرَّحْمنُ إما مرفوع على البدل من هُوَ وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، ولا يجوز أن يكون وصفا لقوله: هُوَ لأنه ضمير لا يوصف ولا يوصف به. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي معطوف على المجرور قبله، والفلك: يكون واحدا ويكون جمعا، الواحد كقوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء 26/ 119] والجمع كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس 10/ 22] . البلاغة: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ خبر خال من التأكيد، لقيام الأدلة القاطعة على وحدانية الله. لَآياتٍ وردت نكرة للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على القدرة الإلهية. المفردات اللغوية: وَإِلهُكُمْ المستحق للعبادة منكم إِلهٌ واحِدٌ لا نظير له في ذاته ولا في صفاته. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان. وَالْفُلْكِ السفن. وَبَثَّ فِيها نشر وفرّق فيها. دَابَّةٍ كل ما دب من الحيوان على الأرض، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ: تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة. وَالسَّحابِ الغيم. الْمُسَخَّرِ المذلل بأمر الله تعالى يسير إلى حيث شاء الله. بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بلا علاقة لَآياتٍ دالات على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون. سبب النزول: عن عطاء قال: نزل على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

وجه المناسبة أو الربط بين الآيات:

وعند أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر الآية «1» . وجه المناسبة أو الربط بين الآيات: بعد أن ذكر الله في الآية السابقة حال الكافرين الجاحدين لآيات الله، وحال من كتم الآيات، وعقابهم بالطرد من رحمة الله والخلود في نار جهنم، أتى ببيان سبب الكفر وهو الشرك، وأراد تعالى أن يعالج داء كفرهم بإثبات وحدانية الله بالبرهان، وتعداد مظاهر رحمته وأدلة قدرته، وأن الخير في اللجوء إليه وحده، فقال: وإلهكم المستحق للعبادة بحق: هو الله الذي ليس في الوجود سواه، والذي وسعت رحمته كل شيء، بيده النفع والخير، وهو القادر على دفع الضر والشر، فلا تشركوا به شيئا، سواء شرك الألوهية: بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، وشرك الربوبية: بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو تؤخذ أحكام الشرائع من عبادة وحلال وحرام من غيره، كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] . فقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته تعالى. وقوله الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ معناه: المولي لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه. وإنما خص الله تعالى الوحدانية والرحمة بالذكر دون غيرهما من الصفات، لتذكير الكافرين الكاتمين للحق بأن لا ملجأ أمامهم غير الله لاتقاء عذابه، ولترغيبهم بالتوبة وعدم اليأس من فضله.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 25- 26، البحر المحيط: 1/ 464

ثم أورد الله تعالى أدلة وحدانيته وقدرته ورحمته في هذا الكون بالذات، فأبان أنه خالق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك من غير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، بديعة الجمال، دقيقة النظام، كل ما فيها يجري لأجل مسمى في مداره، محكمة التناسب فيما بينها عن طريق ما يسمى بالجاذبية، نجومها وقمرها للإنارة وتقدير حساب الشهور، وشمسها للإضاءة وإمداد الحيوان والنّبات بالحرارة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... [الأنعام 6/ 97] . وخالق الأرض الذي جعلها وسطا صالحا للعيش الهادئ المطمئن، وملأها بالكنوز والمنافع المختلفة، وسخرها لخير الإنسان، وأوجد فيها الجماد والمعادن والأنهار والحيوان والنّبات، وجعل لكل مخلوق غاية وحكمة، ولم يخلق ما فيها عبثا، ويسر لكل شيء فيها وسائل الحياة والرزق والدوام والبقاء مدة العيش قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات 51/ 20] . وكل من خلق السموات والأرضين عدا ما فيه من عظمة وقدرة وبهاء، مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالناس جميعا. ومن أجل إتمام النعمة وإسباغ الرحمة على الإنسان، وتيسير سبل العيش الكريم والراحة والسكينة، أوجد الله تعالى تعاقب الليل والنهار وخالف بينهما في الفصول الأربعة بسبب خطوط الطول والعرض بالطول والقصر، والحرارة والبرودة، وبحسب اختلاف الأقطار والبلدان، كما جاء في آيات كثيرة منها: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً، لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان 25/ 62] ومنها: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء 17/ 12] .

ويسر الله للإنسان سبيل الارتحال ونقل البضائع والتجارات والمواد الثقيلة بين البلدان عن طريق السفن الشراعية والبخارية والذرية التي تحمل مئات الألوف من الأطنان، وتؤدي دورا حاسما في السلم وفي الحرب. ودلالتها على الوحدانية يظهر عند دراسة صناعتها وحمولتها وتصميمها، مثل معرفة طبيعة الماء وقانون ثقل الأجسام وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء، ولا يدرك ذلك إلا العلماء المتخصصون الذي يكتشفون هذه الطاقات ويسخرونها لخدمة الإنسان، وهي من خلق الله الذي أبدع النظام وشملت قدرته كل شيء، كما قال سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ: الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى 42/ 32- 33] . وقد عبّر القرآن عن منافع البحر بإيجاز في قوله تعالى: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أي في أسفارهم وتجاراتهم وتنقلاتهم لأغراض مختلفة من قطر لآخر، فيتداولون المنتجات والصناعات ومواد الغذاء وأصناف اللباس والدواء وغير ذلك. وأنزل الله المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها، ولينعم به الإنسان والحيوان، فالماء مصدر الحياة، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] . وقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج 22/ 5] فإنزال المطر رحمة وفضل إلهي. وأما مصدر المطر: فهو من تصاعد بخار ماء بواسطة حرارة الهواء فوق البحار، ثم تتكاثف الذرات المائية وتتكون سحبا، ثم يسقط الماء من خلالها، بفعل تسيير الرياح، وكل ذلك يتم بإرادة الله عز وجل ومشيئته، كما قال: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ. [الروم 30/ 48] . وَهُوَ الَّذِي

يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. [الأعراف 7/ 57] . ومن أدلة قدرة الله ووحدانيته: توجيه الرياح وتصريفها على حسب الإرادة والمشيئة والنظام الحكيم، تهب من مختلف الجهات الأربع، ولأغراض مختلفة، كتلقيح النّبات والأشجار، كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر 15/ 22] وقد تكون عقيما، وقد تكون للعذاب:.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف 46/ 24- 25] . ومن مظاهر القدرة الإلهية تكاثف السحاب (الغيم) وتجمعه في الجو، ثم تذليله وتفريقه لإنزال المطر في شتى البقاع، على وفق نظام معين، وحكمة بالغة، وتقدير عجيب. كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر، ليدرك الأسرار والعجائب، ويستدل بما فيها من إتقان وإحكام على قدرة الخالق المبدع، ووحدانية الإله المدبر، ورحمة الله التي وسعت كل شيء، وذلك من كمال الحكمة واكتمال الكون الدال على وجود الله، وأنه إله واحد، وإله كل شيء، وخالق كل شيء، وهذه الآية شبيهة بآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران 3/ 190- 191] وقوله: رَبَّنا مدح المؤمنين الذين يتفكرون ويتعظون. وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها

فقه الحياة أو الأحكام:

مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف 10/ 105- 106] . وجاء في الحديث النّبوي عن الآية التي نفسرها هنا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..: «ويل لمن قرأ هذه الآية، فمجّ بها» أي قذف، والمراد: عدم الاعتبار والتفكر والاعتداد بها. فقه الحياة أو الأحكام: لما حذر الله تعالى من كتمان الحق، بيّن أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه: أمر التوحيد، وأعقبه بذكر البرهان وضرورة النظر: وهو التفكر في عجائب الصنع والإبداع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء، وأخبر تعالى في آية: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عن تفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له، ولا عديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم. جاء في الحديث عن أسماء بنت يزيد بن السّكن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» . وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفي وإثبات، أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه: لا معبود إلا الله. أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة» والمقصود: القلب، لا اللسان، فلو قال: لا إله، ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات، لكان من أهل الجنة، باتفاق أهل السنة. ثم أورد سبحانه الدليل على تفرده بالألوهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته. فهذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع.

فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها. وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها. وآية الليل والنهار: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم، واختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والنهار: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليل: من الغروب إلى الفجر. وآية الفلك (السفن) : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها، وأول من عملها نوح عليه السّلام، كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: «اصنعها على جؤجؤ «1» الطائر» فعملها نوح بما أراه جبريل، فالسفينة طائر مقلوب، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها. وإذا كانت السفن مسخرة للإنسان، فيجوز ركوب البحر مطلقا، لتجارة كانت أو عبادة، كالحج والجهاد. وآية الأمطار: كيفية تكونها وتجمعها وتفريقها، وإنعاش العالم بها، وإخراج النّبات والأرزاق، وجعل المخزون منها في الأرض عدة في غير وقت نزولها، كما قال الله تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون 23/ 18] . وفي السماء مختلف أنواع الدواب، قال الله تعالى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة 2/ 164] والدابة: تجمع الحيوان كله. وآية الرياح: تصريفها، أي إرسالها عقيما وملقحة، ونكبا وهلاكا ونصرا، وحارة وباردة، وليّنة وعاصفة، وفيها التفريج والتنفيس والترويح، روى أبو داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الرّيح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها،

_ (1) الجؤجؤ: الصدر، وقيل عظامه.

واستعيذوا بالله من شرها» ويلاحظ أن الرياح تستعمل في الخير، والريح في العذاب، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة ليّنة متقطعة. وآية السحاب: تجمعه وتحريكه من مكان إلى آخر وثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، يشبه الجبال، ويدهش لرؤيته من يراه من ركاب الطائرة عند ما تحلق فوقه. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء، لأفسد ما يقع عليه من الأرض. والخلاصة: أن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.. لتقرير مبدأ الوحدانية، وإثبات الرحمة والرأفة بالمخلوقات، وأما ما ذكر بعدئذ فهو لإقامة الأدلة الواضحة على الوحدانية والقدرة والرحمة. ولم يقتصر الله تعالى في ذكر وحدانيته على مجرد الإخبار، حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي القرآن، فقال لنبيه: قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس 10/ 101] والخطاب للكفار، لقوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] وقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 185] والملكوت: الآيات. وقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 21] والمعنى: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر، حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات، لكن الإنسان أكمل منه، وذلك محال.

حال المشركين مع آلهتهم [سورة البقرة (2) الآيات 165 إلى 167] :

حال المشركين مع آلهتهم [سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) الإعراب: يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الذين: فاعل، ويرى بمعنى يعلم، وسدّت أَنَّ وصلتها مسدّ المفعولين. وإنما جاء إِذْ هاهنا وفي الآية (166) التي هي لما مضى، ومعنى الكلام لما يستقبل، لأن الإخبار من الله تعالى كالكائن الماضي لتحقق كونه وصحة وقوعه. وأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ متعلق بجواب لَوْ وتقديره: لعلموا أن القوة لله. إِذْ تَبَرَّأَ في موضع نصب، والعامل فيه إما شَدِيدُ الْعَذابِ وإما فعل مقدر، أي اذكر إذ تبرأ. فَنَتَبَرَّأَ منصوب بتقدير أن بعد الفاء التي في جواب التمني، لأن قوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً تمنّ، فينزل منزلة: ليت، وجوابه بالفاء منصوب، والفاء فيه عاطفة، وتقديره: لو أن لنا أن نكرّ فنتبرأ. والكاف في كَما تَبَرَّؤُا منصوب إما لأنها صفة مصدر محذوف، وكَما مصدرية، أي كتبرئهم منا، وإما في موضع نصب على الحال من واو تَبَرَّؤُا. كَذلِكَ: الكاف إما في موضع نصب على أنها صفة مصدر محذوف وتقديره: إراءة مثل ذلك، وإما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: الأمر كذلك. وحَسَراتٍ إما منصوب على الحال من ضمير يُرِيهِمُ أو منصوب لأنه مفعول ثالث ليريهم. البلاغة: كَحُبِّ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه. أَشَدُّ حُبًّا أبلغ من قوله: أحب لله.

المفردات اللغوية:

وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وضع الظاهر موضع الضمير أي بدلا من قوله: «ولو يرون» لبيان سبب العذاب وهو الظلم الفادح. وفي قوله: رَأَوُا الْعَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ما يسمى بالترصيع، وهو أن يكون الكلام سجعا. المفردات اللغوية: أَنْداداً أصناما جمع ند: وهو النظير المماثل. يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم ويخضعون لهم، كما يفعل المحب. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حبهم للأنداد، لأنهم لا يعدلون عنه بحال ما، والكفار يعدلون في الشدة إلى الله. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ إذ بمعنى إذا، ويرى بمعنى يعلم، وجواب لو محذوف، والمعنى: لو علموا في الدنيا شدة عذاب الله وأن القدرة لله وحده وقت معاينتهم له وهو يوم القيامة، لما اتخذوا من دونه أندادا. أو لعلموا أن القوة لله، كما تقدم. تَبَرَّأَ التبرؤ: المبالغة في التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره. اتُّبِعُوا أي الرؤساء. مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي أنكروا إضلالهم. الْأَسْبابُ واحدها سبب وهو الحبل، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد معنوي، والمراد: الصلات والعلاقات. كَرَّةً رجعة إلى الدنيا. حَسَراتٍ ندامات، والحسرة: شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب. التفسير والبيان: أقام الله تعالى في الآية السابقة الأدلة على وحدانيته ورحمته، وذكر هنا حال الذين لا يعقلون هذه الأدلة، فاتخذوا أندادا لله، يلتمسون منهم الخير، ويتأملون بهم دفع الشر، وهؤلاء هم المشركون وهذه حالهم مع آلهتهم في الدنيا ومصيرهم في الآخرة. اتخذ هؤلاء المشركون أندادا وأمثالا لله وهم رؤساؤهم، أو أوثانهم وأصنامهم، يعظمونهم ويحبونهم ويطيعونهم ويعبدونهم كتعظيم الله وحبه وطاعته وعبادته، ويتقربون إليهم كتقربهم إلى الله، ويلتجئون إليهم عند الحاجة كالتجائهم إلى الله تعالى. ولكنهم في هذا كله مضطربون حيارى، فقد يلجأون إلى بشر أو صنم أو حيوان، ولا يتحقق لهم بهم مأرب، وأنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.

أما اللجوء إلى الله وحده الذي لا إله غيره، ولا ندّ له، ولا شريك معه، فهو المحقق للغاية، لأن الله هو صاحب السلطان المطلق، والقدرة الشاملة، والرحمة الواسعة، ولكن لا بدّ للعبد من اتخاذ الأسباب المساعدة على إجابة الدعاء، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، كما أن من التجأ إلى غير الله من الأصنام والأوثان فهو مشرك بالله تعالى. لذا كان المؤمنون أشد حبّا لله من كل ما سواه، ولا يتشكك المؤمن في عدالة الله إطلاقا، فلا يشرك به شيئا، ويلجأ إليه في جميع أموره، وهو مستقر دائم حال الشدة وحال الرخاء في حب الله وتعظيمه، فلا يعدل عنه إلى غيره، بخلاف المشركين، فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد، فيفزعون إليه، ويخضعون له، ويتخذون أندادهم وسائط بينهم وبين الله، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويعبدون الصنم زمانا، ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس «1» عام المجاعة. ثم أوعد أو توعد الله تعالى المشركين الظالمين لأنفسهم بذلك، فقال: لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم بالله، وقت صبّ العذاب الشديد عليهم، لعلموا حينئذ أن القوة لله وحده، وأنه المتصرف في الأكوان والموجودات كلها، من البشر والحجر والصنم وغيرها، في كل حال وزمان، سواء في عالم الآخرة أو عالم الدنيا. لو علموا هذا وأدركوا مصالحهم حق الإدراك، لانتهوا عماهم فيه. وأما حال الأتباع والمتبوعين يوم القيامة فيستدعي الدهشة والعجب، والسخرية والهزء، لأن الرؤساء المتبوعين المعبودين كالملائكة والجن والإنس يتبرءون أو يتنصلون من أتباعهم، لأن الواحد منهم يهتم بإنقاذ نفسه، ولأنه لم يرض بما يفعله

_ (1) الحيس: تمر يخلط بسمن أو أقط.

فقه الحياة أو الأحكام:

المشركون في الحقيقة، فيتبرأ كل معبود ممن عبده، ولكن لا أمل في النجاة حين رؤية العذاب، وانقطاع الصلات والأنساب والحيل وأسباب الخلاص، ولا معدل ولا مصرف عن النار حينئذ. وقال التابعون: نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا، فنتبرأ منهم، كما تبرأوا منا، وتركونا في الشدة والضلال. مثل ذلك الذي رأوه من العذاب، يريهم الله جزاء أعمالهم حسرات عليهم، أي أن الله يظهر لهم أن أعمالهم كان لها أسوأ الأثر في نفوسهم، لما ورّثته فيها من حسرة وشقاء وخسران، فهي تذهب وتضمحل، ولن يخرجوا من النار إلى الدنيا لشفاء كيدهم وغيظهم من رؤسائهم، لأن دخولهم النار كان بسبب الشرك وحب الأنداد. فقه الحياة أو الأحكام: إن أعظم جريمة عند الله هي الشرك به: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» . ومما يؤسف له ويدهش العقلاء أن المشركين الذين يتخذون آلهة مع الله من رؤساء أو أصنام يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، وحبهم لأصنامهم وعبادتهم إياهم مع عجزهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. ولو عاين المشركون العذاب، لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، علما بأن عذاب الله شديد. وقد كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم بذلك، ولكنه خوطب، والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا.

ويوم القيامة يتبرأ المعبودون من عابديهم، فتقول الملائكة مثلا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] ويقولون: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ 34/ 41] والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ، كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] . ويتبرأ العابدون أيضا من معبوديهم، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا ويتبرءوا من الآلهة المزعومة. بل إنهم يطلبون من الله مضاعفة العذاب لهم كما قال الله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 66- 68] . وهم في هذا التمني كاذبون، بل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، كما أخبر الله تعالى عنهم. ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين من كلا الفريقين: العابدين والمعبودين، ويظهر الله لهم أعمالهم الفاسدة التي ارتكبوها، فوجبت لهم النار، وقال ابن مسعود والسّدّي: «الأعمال الصالحة التي تركوها، ففاتتهم الجنة» . وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث إنهم مأمورون بها. وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. وقوله: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ دليل على خلود الكفار فيها، وأنهم لا يخرجون منها، كقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف 7/ 40] .

تحليل الطيبات ومنشأ تحريم المحرمات [سورة البقرة (2) الآيات 168 إلى 171] :

تحليل الطيبات ومنشأ تحريم المحرمات [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 171] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) الإعراب: حَلالًا طَيِّباً منصوب إما لأنه وصف لمفعول محذوف، وتقديره: كلوا شيئا حلالا طيبا، أو لأنه وصف لمصدر محذوف، وتقديره: كلوا أكلا حلالا طيبا. أَوَلَوْ همزة استفهام ومعناه التوبيخ، والواو حرف عطف، وجواب لَوْ محذوف، وتقديره: «يتبعونهم» للعلم به. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا تقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل ... إلخ أو تقديره: مثل دعاء الذين كفروا كمثل دعاء الذي ينعق، فحذف المضاف في الحالين وأقيم المضاف إليه مقامه. ودعاء ونداء: منصوب ب يسمع. البلاغة: خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره. بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ من عطف الخاص على العام، لأن السوء أعم يشمل جميع المعاصي، والفحشاء: أقبح المعاصي وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه تشبيه مرسل لذكر الأداة، وتشبيه مجمل لحذف وجه الشبه. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ تشبيه بليغ حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه، أي هم كالصم في عدم سماع الحق، وكالعمي والبكم في عدم الانتفاع بالقرآن.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: حَلالًا طَيِّباً الحلال: هو ما أباحه الشرع، والحرام: ما حرمه الشرع وطَيِّباً صفة مؤكدة، أي مستلذا خُطُواتِ جمع خطوة أي طرق الشيطان أي تزيينه والسير على طريقته عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة لذوي البصائر يَأْمُرُكُمْ أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بِالسُّوءِ: ما يسوء وقوعه أو عاقبته أي السيء القبيح وَالْفَحْشاءِ كل ما يقبح شرعا أو في أعين الناس من المعاصي: وهي ما تجاوز الحد في القبح، مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع، فهي أقبح وأشد من كلمة بِالسُّوءِ. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم ما لم يحرم وغيره. ما أَنْزَلَ اللَّهُ من التوحيد وتحليل الطيبات أَلْفَيْنا وجدنا لا يَعْقِلُونَ عقل الشيء: عرفه بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه وَمَثَلُ صفة يَنْعِقُ يصيح أو يصوت بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي صوتا ولا يفهم معناه، أي هم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم، تسمع صوت راعيها ولا تفهمه، فهم لا يعقلون الموعظة. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب. سبب نزول الآية (168) : قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. المناسبة: بعد بيان أن أوضاع الشرك خبيثة المنافع، أمر الله بالطيب النافع، ولما أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بيّن لهم ما حرم عليهم. التفسير والبيان: بعد أن ذكر الله تعالى حال متخذي الأنداد وما يرونه من العذاب، وانقطاع الأسباب والصلاة بين التابعين والمتبوعين، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين، أوضح أن تلك الصلات محرمة، لأنها أكل الخبائث، واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب الضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا برهان.

وجاء الخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ليشمل المؤمن والكافر، وأن إنعام الله يعم كل الناس، وأن الكفر لا يحجب الإنعام الإلهي. وناداهم جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لهم، طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يتعلق به حق الغير، وألا يأكلوا الخبائث التي منها ما يأخذه الرؤساء من الأتباع، فهو حرام خبيث لا يحل أكله. ودل ذلك على أن بقاء رجال الدين من أهل الكتاب على ملتهم وعدم إيمانهم بالإسلام: هو للحفاظ على مراكزهم، ورياستهم الباطلة، وأخذهم الأموال بالباطل. فلا تتبعوا أيها الناس طريقة الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة، فهو إنما يوسوس بالشر والمنكر، وإنه للإنسان بدءا من أبينا آدم عليه السّلام عدو ظاهر العداوة، فلا يأمر بالخير أصلا، ولا يأمر إلا بالقبيح، فهو مصدر الخواطر السيئة والمزين للمعاصي، فاحذروه ولا تتبعوه، وكأنه بوسوسته وتسلطه عليكم كأنه آمر مطاع، بأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم وآخرتكم. ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون يقينا أنه شرع الله في العقائد والشعائر الدينية، أو تقدموا على تحليل الحرام وتحريم الحلال، ليتوصل بذلك إلى إفساد العقيدة وتحريف الشريعة. ثم حكى القرآن عن المشركين وبعض اليهود: أنه إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من الوحي، لأنه خير لكم وأجدى، ولا تتبعوا من دونه أولياء، انقادوا إلى تقليد الآباء تقليدا أعمى، اعتمادا على المألوف فقط، فرد الله عليهم: أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في تقاليدهم وعاداتهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الحق في أمور العقائد والعبادات، بل ولو تجردوا من أي دليل منطقي، وحادوا عن الصواب. وهذا يدل على ذم التقليد بدون دليل. أما

فقه الحياة أو الأحكام:

اتباع المجتهدين أي تقليدهم بعد معرفة دليلهم، فهو جائز، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء 21/ 7] . وصفة أو حال داعي الكافرين إلى الإيمان، المقلدين آباءهم ورؤساهم، وما هم عليه من الضلال والجهل، وعدم التأمل في صحة المواقف، مثل حال الذي يدعو بهائمه ويسوقها إلى المرعى والماء ويزجرها عن الممنوع، وهي لا تعقل مما يقول شيئا ولا تفهم له معنى، فكل واحد من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع، وإنما ينقاد للأصوات والأجراس، لأن الكفار قد حجبوا عن قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم نور الهداية، فختم الله عليها بالغشاوة، وأصبحت لا ينفذ إليها شيء من الخير، وكأنهم صم لا يسمعون، خرس أو بكم لا ينطقون، عمي لا ينظرون في آيات الله تعالى وفي أنفسهم، مما يرشدهم إلى الإيمان، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان. قال القرطبي: شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم إلى الإيمان وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول. فقه الحياة أو الأحكام: أباح الله تعالى للناس أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي مستطابا في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. روى ابن عباس: أنه تليت هذه الآية عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: «يا سعد، أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف

اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبلّ منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا، فالنار أولى به» . والحلال الطيب: هو الذي لا شبهة فيه ولا إثم، ولا يتعلق به حق للغير مهما كان. وهذا يدل على أنه لا يحل للمسلم أن يأخذ مالا يتعلق به حق الغير، أو يأخذه على وجه غير شرعي. وتدل آية وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.. على تحريم اتباع طرائق الشيطان ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي، فهو لهم حلال- وفيه: وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» . وتدل الآية على أنه يجب على المسلم أن يجاهد نفسه وهواه، وأن يخالف الشيطان، فإنه داع للشر والسوء والمنكر والعصيان. وأخبر الله تعالى بأن الشيطان عدو، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وذلك في آيات كثيرة غير هذه الآية، مثل الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة 2/ 268] وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء 4/ 60] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر 35/ 6] .

ويدخل في اتباع خطوات الشيطان كل معصية لله، وكل نذر في المعاصي، قال ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين. وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان «1» . ودلت آية: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ.. أي للناس ومنهم كفار العرب، واليهود، على تحريم التقليد الأعمى، وعلى أنه يجب على المسلم وغيره أن ينظر على قدر طاقته وقوته في إثبات عقيدته وأمور دينه. والتقليد عند العلماء: قبول قول بلا حجة. وأما الاتّباع: فهو الأخذ بقول الغير بعد معرفة دليله. وفرض العامي الذي لا يستطيع استنباط الأحكام من أصولها أن يسأل أهل العلم، ويمتثل فتوى الأعلم، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] . وأجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد، لأن الله ذم الكفار بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل في قوله: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ.. [الزخرف 43/ 23] ولأنه فرض على كل مكلف (بالغ عاقل) تعلّم أمر التوحيد والقطع به، والتعليم لا يحصل إلا من جهة القرآن والسنة النبوية. ومثل الذين كفروا فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 204

الحلال والحرام من المآكل [سورة البقرة (2) الآيات 172 إلى 173] :

الحلال والحرام من المآكل [سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الإعراب: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ: إِنَّما كافة، وإنما تجيء في الكلام لإثبات المذكور ونفي ما سواه، مثل: «إنما إلهكم إله واحد» أي ما إلهكم إلا إله واحد. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ: غَيْرَ منصوب على الحال من ضمير: اضْطُرَّ. المفردات اللغوية: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها، إذ الكلام فيه، وكذا ما بعدها، وهي ما لم يذكّ (يذبح) شرعا، وألحق بها بالسنة: ما أبين من حي، وخص منها السمك والجراد وَالدَّمَ أي المسفوح وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ذبح على اسم غيره، والإهلال: رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، ويقولون: باسم اللات، أو باسم العزى، ثم قيل لكل ذابح: مهل، وإن لم يجهر بالتسمية. فَمَنِ اضْطُرَّ ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر، فأكله. غَيْرَ باغٍ غير طالب للشيء المحرم ذاته وَلا عادٍ غير متجاوز قدر الضرورة إِثْمَ الإثم: الذنب والمعصية. التفسير والبيان: الآيات السابقة من أول السورة لبيان موقف المؤيدين والمعارضين للقرآن، ومن هنا أي بداية النصف الثاني من السورة إلى أواخر الجزء الثاني في بيان الأحكام الشرعية العملية.

بعد أن خاطب الله الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين رؤساءهم، لأنهم لا يستقلون برأي، ولا يهتدون بعقل، وجه الخطاب هنا إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، فأباح لهم أن يأكلوا من رزق الله الطيب الطاهر، وأمرهم أن يشكروا نعمة الله عليهم، إن صح أنهم يخصونه بالعبادة، ويقرون أنه مولي النعم. عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» . ولما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، وبيّن لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. والأكل من الطيبات مع شكر النعمة موقف وسط يجمع بين متطلبات الجسد والروح معا، فنأكل للحفاظ على الجسم بلا إسراف ولا تقتير، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً.. [المائدة 5/ 87- 88] ونغذي الروح بشكر الله على ما أنعم. ويختلف هذا الموقف الوسط عما كان عليه المشركون وأهل الكتاب قبل الإسلام، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة، ونحوهما، وساد عند النصارى مبدأ الرهبانية وتعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد ولوازمه، إما بتخصيص ذلك بالرهبان، أو بتعميمه على الجميع كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصيام كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في صوم آخر. والمحرم الحقيقي: 1- إنّما هو تناول الميتة، لاحتباس الدم فيها وتوقع التضرر بها، لفساد لحمها وتلوثه بالأمراض غالبا، فهي محرمة لاستقذارها ولما فيها من ضرر.

2- وتناول الدم المسفوح، لأنه ضارّ، وتأباه النفوس الطيبة، فهو حرام لقذارته وضرره أيضا. 3- وأكل لحم الخنزير، لأنه ضارّ، وخصوصا أثناء الحر، ولأن النفوس الطيبة تأباه، لأنه حيوان قذر لا يأكل غالبا إلا من القاذورات والنجاسات، فيقذر لذلك، ولأن فيه ضررا، لحملة جراثيم شديدة الفتك، ولأن فيه كثيرا من الطباع الخبيثة، وولوع بالنواحي الجنسية ولا يغار على أنثاه، وكسول بطبعه، والمتغذي يتأثر بتلك الطبائع، وتنتقل إليه بيوض الدودة الوحيدة الحلزونية التي قد تكون في خلايا عضلات جسمه، ولو تربى في أنظف الحظائر. 4- وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى عند الذبح، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله. وكان العرب في الجاهلية يذبحون للأصنام، ويقولون: باسم اللات والعزى، فهو حرام صيانة لمبدأ الدين والتوحيد وتعظيم الله. وحصر التحريم في هذه الأصناف مستفاد من قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ.. أي لم يحرم عليكم إلا الميتة وتوابعها، لأن إِنَّما تفيد الحصر، تثبت ما تناوله الكلام وتنفي ما عداه. وقد حصرت هنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقب التحليل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ. ويضاف لهذه المحرمات ما حرم في سورة المائدة (الآية: 3) وما حرمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ولحوم الحمير الأهلية. لكن من ألجأته الضرورة (وهي أن يصل إلى حد لو لم يتناول المحظور هلك) إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة، فلا إثم عليه، للحفاظ على النفس، وعدم تعريضها للهلاك، ولأن الإشراف على الموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة والدم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقيد الله جواز الأكل من المحرمات بقوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار، فيزعم الواحد أنه مضطر وليس بمضطر، ويتجاوز قدر الضرورة أو الحاجة مستغلا الظرف الطارئ، فينقاد لشهواته. إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، لأنه متروك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ أباح لهم تناول المحرّمات حال الضرورة، ولم يوقعهم في الحرج والعسر. فقه الحياة أو الأحكام: أكد الله في هذه الآية إباحة الأكل من الطيبات، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا لهم وتنويها بهم، والمراد بالأكل: الانتفاع من جميع الوجوه. فيجوز الانتفاع بكل ما في البر والبحر من نبات وحيوان وأسماك وطيور إلا ما حرمه الله في هذه الآية وآية المائدة (3) وما ذكره الفقهاء بالاعتماد على الثابت في السنة النبوية. ويلاحظ أن المذكور في سورة المائدة داخل تحت اسم الميتة: وهي كل ما مات من غير ذبح شرعي، سواء أكان موقوذة أم متردية أم نطيحة أم أكلها السبع ولم تدرك حية فتذبح. وكذا ما ليس بمأكول فذبحه كموته كالسباع وغيرها. وقد خصصت هذه الآية بقوله عليه السّلام فيما أخرجه الدارقطني: «أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال» وروى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب من السباع» وروى مالك وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير حرام» وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» .

أما آراء الفقهاء في الحيوان المأكول، فهي ما يلي بإيجاز: قالوا: الحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة: مائي، وبري، وبرمائي (بري- مائي) «1» : أما الحيوان المائي: وهو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط، ففيه رأيان: 1- مذهب الحنفية: جميع ما في الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله بدون ذكاة (ذبح) إلا الطافي منه، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل، لحديث ضعيف عن جابر رواه أبو داود وابن ماجه: «ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه» . 2- مذهب الجمهور غير الحنفية: حيوان الماء كالسمك والسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيرة، حلال يباح بغير ذكاة، كيف مات، حتف أنفه، أو بسبب ظاهر كصدمة حجر أو ضربة صياد، أو انحسار ماء، راسيا كان أو طافيا، وأخذه: ذكاته، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه المرض، يحرم للضرر. إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما. وأما الحيوان البري: وهو الذي لا يعيش إلا في البر، فهو ثلاثة أنواع: الأول- ما ليس له دم أصلا: كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها، لا يحل أكلها إلا الجراد خاصة، لأنها من الخبائث غير المستطابة، لاستبعاد الطباع السليمة إياها، وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف 7/ 157] . واشترط المالكية تذكية الجراد، أما الجراد الميت فهو حرام عندهم، لأن حديث: «أحلت لنا ميتتان» ضعيف. أما الحنفية الذين لا يجيزون تخصيص القرآن بالسنة،

_ (1) الفقه الإسلامي وأدلته للمؤلف: 3/ 678- 687

فيقولون: إن الذي خصص ميتة السمك هو قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة 5/ 96] فأما صيده: فهو ما أخذ بعلاج، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر، لكنهم لا يجيزون أكل الطافي كما تقدم. الثاني- ما ليس له دم سائل: كالحية وسام أبرص وجميع الحشرات وهوام الأرض من الفأر والقراد (ما يعلق بالبعير) والقنافذ واليربوع والضب: يحرم أكلها لاستخباثها، ولأنها ذوات سموم، ولأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتلها. وحرم الحنفية الضب، لأنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عائشة حين سألته عن أكله. وأباحه الجمهور لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه. وأجاز الشافعية أكل القنفذ وابن عرس. الثالث- ماله دم سائل: وهو إما مستأنس أو متوحش. أما المستأنس من البهائم: فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ويحرم أكل البغال والحمير، ويحل لحم الخيل لكن مع الكراهة تنزيها عند أبي حنيفة، لاستخدامها في الركوب والجهاد. والمشهور عند المالكية تحريم الخيل. ويحرم المستأنس من السباع وهو الكلب والقط. وأما المتوحش: فيحرم عند الجمهور غير مالك كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، لأنها تأكل الجيف أي الميتات. ويكره عند مالك لحوم السباع، ويجوز عنده أكل الطيور ذوات المخالب، لظاهر الآية: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ.. [الأنعام 6/ 145] . فالذي يحل شيئا مما ذكر يستند إلى عموم الآية، ويحمل الحديث على نهي الكراهة، أو يبطله لمعارضته الآية. والذي يحرم شيئا مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم وينسخ به الآية أو يرى أنه لا معارضة. وأما الحيوان البرمائي: وهو الذي يعيش في البر والماء معا، كالضفدع والسلحفاة والسرطان والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها، ففيه آراء ثلاثة:

الأول- للحنفية والشافعية: لا يحل أكلها، لأنها من الخبائث، ولسمية الحية، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد وأبو داود «نهى عن قتل الضفدع» ولو حل أكله، لم ينه عن قتله. الثاني- للمالكية: يباح أكل الضفادع ونحوها مما ذكر، لأنه لم يرد نص في تحريمها. الثالث- للحنابلة وهو التفصيل: كل ما يعيش في البر من دواب البحر لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء، إلا ما لا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح فيما روي عن أحمد بغير ذكاة، لأنه حيوان بحري يعيش في البر، ولا دم له سائل، خلافا لما له دم سائل كالطير، لا يباح بغير ذبح، والأصح لدى الحنابلة أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة «1» . ولا يباح أكل الضفدع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي: نهى عن قتله، فيدل ذلك على تحريمه. ولا يباح أيضا أكل التمساح. وذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمه، وخرج ميتا، استنادا إلى أنه ميتة، وحرمت الآية الميتة، وخالفه صاحباه والشافعي وأحمد، وذهبوا إلى حله، لأنه مذكى بذكاة أمه. وقال مالك: إن تم خلقه ونبت شعره أكل، وإلا لم يؤكل. وحجة الجمهور: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» أي أن ذكاة أمه تنسحب عليه. وتأول مؤيد وأبي حنيفة الحديث: بأن ذكاته كذكاة أمه. وهذا تأويل بعيد، لأن الحديث ورد في سياق سؤال، فقد ورد عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إن ذكاته ذكاة أمه» .

_ (1) شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي: 9/ 214

واختلف العلماء في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود: فقال الجمهور: يحرم، للآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه جابر: «قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، فنهاهم عن ذلك» وهذا يفيد أن إطلاق تحريم الميتة يفيد تحريم بيعها. وقال عطاء: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وحجته أن الآية في تحريم الأكل، بدليل سابقها، ولأن حديث شاة ميمونة يعارض حديث جابر: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ على شاة ميمونة، فقال: «هلا أخذتم إهابها» فيرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل القرآني. وأما جلد الميتة: فلا يطهر بالدباغ في ظاهر مذهب المالكية، والمشهور عند الحنابلة، لحديث عبد الله بن عكيم فيما رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربع) قال: «كتب إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهو ناسخ لما قبله من الأحاديث، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه دال على سبق الترخيص، وأنه متأخر عنه. وذهب الحنفية والشافعية: إلى أن دباغ الجلود النجسة أو الميتة يطهرها كلها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ورواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» . وأما أجزاء الميتة الصلبة التي لا دم فيها كالقرن والعظم والسن ومنه عاج الفيل والخف والحافر والظلف والشعر والصوف والعصب والإنفحة الصلبة: فهي طاهرة غير نجسة عند الجمهور، وقال الشافعية: أجزاء الميتة كلها نجسة، ومنها

الإنفحة واللبن والبيض المتصل بها، إلا إذا أخذ من الرضيع لأن كلا منها تحله الحياة. ودليل الجمهور حديث سلمان رضي الله عنه فيما رواه ابن ماجه: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام: ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله» . وأما ما وقعت فيه فأرة: فإن أخرجت حية فهو طاهر، وإن ماتت فيه: فإن كان مائعا فإنه ينجس جميعه، وإن كان جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الفأرة تقع في السمن، فتموت، فقال: «إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها، وإن كان مائعا فأريقوه» . وإذا وقع في القدر حيوان: طائر أو غيره، فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقال ابن عباس: يغسل اللحم ويؤكل. أما الدم: فاتفق العلماء على أنه حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، إذا كان مسفوحا، لتقييده بذلك الوصف في سورة الأنعام، وقد حمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا، ولم يحرموا منه إلا ما كان مسفوحا. قالت عائشة: لولا أن الله قال: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام 6/ 145] لتتبع الناس ما في العروق. وعلى هذا ما خالط اللحم في العروق غير محرم إجماعا، وكذلك الكبد والطحال لا يحرم تناولهما إجماعا، من طريق تخصيص الدم المحرم- في رأي الحنفية والشافعية بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحلت لنا ميتتان ودمان» وذكر الكبد والطحال. ولا تخصيص في رأي مالك، لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما، بالعيان والعرف. وأما الخنزير: فلحمه حرام، وكذا شحمه بالقياس على اللحم حرام أيضا،

لأن اللحم يشمل الشحم، وهو الصحيح. وقصر الظاهرية التحريم على اللحم، لا الشحم أخذا بمبدئهم في العمل بظاهر النص فقط، لأن الله قال: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. ويرد عليهم بأن الفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح بقصد لحمه، ولا يعقل التفريق بين اللحم والشحم. ويجوز الخرازة بشعر الخنزير، فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: «لا بأس بذلك» . وأما ما أهل به لغير الله، أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي الذي يذبح للنار، والوثني الذي يذبح للوثن، والمعطّل الذي لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه، فحرام باتفاق العلماء. وهل يشمل هذا ذبائح النصارى التي ذكروا اسم المسيح عليها، فتكون محرمة، أو لا يشملها فلا تكون محرمة، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟. قال جمهور العلماء: هي حرام، وقال عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وأشهب من المالكية: ليست حراما، وسبب اختلافهم: تعارض آيتي: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة 5/ 5] وهذه الآية. فرأى الجمهور: أن هذه الآية مخصصة لآية المائدة، والمعنى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، ما لم يذكر اسم غير الله عليه، فتحرم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح. ورأى الأقلون العكس، والمعنى: وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب، فتجوز ذبائح أهل الكتاب مطلقا. أما من اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي كان أحوج إليها، فله التناول منها حتى يشبع في رأي مالك، لأن الضرورة ترفع التحريم، فتعود الميتة مثلا

مباحة، ويكون معنى «غير باغ ولا عاد» هو البغي والعدوان على الإمام، أي الخارج على المسلمين وقاطع الطريق. ويأكل المضطر في رأي الجمهور على قدر سد الرمق، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة. ومن حالات الضرورة: إساغة اللقمة بخمر، وتناولها لدفع العطش. والمضطر في رأي الجمهور: هو من ألجأه الجوع إلى الأكل، وأضيف إليه عند بعضهم: من أكره على أكل الحرام، كالرجل يأخذه العدو، فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى. ولم يجز جمهور العلماء التداوي بالحرام كالخمر والميتة، لقوله عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري عن ابن مسعود-: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرّم عليهم» ولقوله عليه السّلام فيما رواه مسلم لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» قال ابن العربي: الصحيح أنه لا يتداوى بالميتة، لوجود عوض حلال عنها. وللعلماء رأيان فيمن اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فقال مالك، والشافعي وأحمد: يحرم عليه إن كان السفر لمعصية، لأجل معصيته، لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. أما من عصى أثناء السفر، فتباح له الرخص الشرعية، وأباحها له أبو حنيفة مسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. ورجح القرطبي هذا القول، لأن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، لقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال، فتمحو التوبة عنه ما كان.

كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله [سورة البقرة (2) الآيات 174 إلى 176] :

وذكر الباجي في المنتقى أن المشهور من مذهب مالك: أن المضطر يجوز له الأكل في سفر المعصية، ولا يجوز له الفطر والقصر، لقوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ. وإذا وجد أكثر من نوع من المحرمات، فما الذي يقدمه المضطر؟. قال ابن العربي: الضابط لهذه الأحكام: أن المضطر إذا وجد ميتة ولحم خنزير، قدم الميتة، لأنها تحل حية، والخنزير لا يحل، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل. وإذا وجد ميتة وخمرا يأكل الميتة حلالا بيقين، والخمر محتملة للنظر. وإذا وجد ميتة ومال الغير: فإن أمن الضرر في بدنه، أكل مال الغير، ولم يحل له أكل الميتة، وإن لم يأمن، أكل الميتة. والصحيح خلافا للشافعي: ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وإذا وجد المحرم صيدا وميتة، أكل الصيد، لأن تحريمه مؤقت، فهو أخف، وتقبل الفدية في حال الاختيار، ولا فدية لآكل الميتة «1» . كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 224- 235، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 54- 58، تفسير ابن كثير: 1/ 205، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 126- 130، نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف.

الإعراب:

الإعراب: فِي بُطُونِهِمْ: ظرف في موضع الحال، وتقديره: ما يأكلون إلا النار ثابتة في بطونهم، كقوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً تقديره: يأكلون نارا كائنة في بطونهم. والأصل أن فِي بُطُونِهِمْ صفة لنار، لكن إذا قدمت صفة النكرة انتصبت على الحال. فَما أَصْبَرَهُمْ ما: إما تعجيبة وتقديره: شيء أصبرهم، أو استفهامية، وتقديره: أي شيء أصبرهم؟ وعلى كلا الوجهين: هي مبتدأ، وما بعدها خبر. البلاغة: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إليه، أي إنما يأكلون المال الحرام الذي يؤدي بهم إلى النار. وقوله فِي بُطُونِهِمْ زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم. اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى استعارة تصريحية، والمراد: استبدلوا الكفر بالإيمان، استعار لفظ الشراء للاستبدال. المفردات اللغوية: يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: يبيعونه بثمن قليل من الدنيا يأخذونه بدله من أتباعهم، فلا يظهرونه خوف فوته عليهم وَلا يُكَلِّمُهُمُ غضبا عليهم. وَلا يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم هو النار. الضَّلالَةَ هي العماية التي لا يهتدي فيها الإنسان لمقصده. بِالْهُدى الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه فَما أَصْبَرَهُمْ أي ما أشد صبرهم وهو تعجب للمؤمنين من ارتكابهم موجبات النار، من غير مبالاة. ذلِكَ الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده بِأَنَّ بسبب أن اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ متعلق بنزل، فاختلفوا فيه، حيث آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه بكتمه. شِقاقٍ مخالفة أو خلاف وهو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف بَعِيدٍ مبتعد عن الحق. سبب نزول الآية (174) : أخرج الطبري عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ والتي في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ نزلتا جميعا في يهود. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون

التفسير والبيان:

النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم من غيرهم، خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ الآية. التفسير والبيان: يستمر القرآن في كشف مواقف أهل الكتاب من القرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففي الآيات السابقة أوضح أنهم حرموا بعض الحلال، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا في المآكل والمشارب، وهنا يبين أنهم كتموا ما أنزل الله في كتبهم من صفات النّبي صلّى الله عليه وسلّم فحرفوه وبدلوه، وأخفوا الصحيح وأظهروا الكاذب، وتاجروا بالدين، واتخذوه وسيلة ارتزاق واحتراف معيشة، كما قال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام 6/ 91] . إن الذين يخفون ما أنزل الله من وصف النّبي صلّى الله عليه وسلّم نبي آخر الزمان وبيان زمانه وقومه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته، أو يؤولونه ويحرفونه، في مقابل أخذ الأجور القليلة على الفتاوى، يأكلون الحرام المؤدي إلى النار. وسمي الثمن قليلا، لأن كل عوض عن الحق، فهو قليل في جنب تفويت سعادة الدنيا والآخرة: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة 9/ 38] . إن أولئك الكاتمين لكتاب الله، المتجرين به، البعيدين في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلا ما يكون سببا لدخول النار، وإعراض الله عنهم وغضبه الشديد عليهم، وعدم تطهيرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح، ولهم عذاب شديد الألم في الدنيا والآخرة، خلافا لأهل الجنة الذين يثني الله عليهم ويغفر لهم ويرحمهم ويرضى عنهم ويقابلهم بالمحبة والرضا. فقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ

فقه الحياة أو الأحكام:

اللَّهُ عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، وقوله وَلا يُزَكِّيهِمْ: أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. ثم إن أولئك المتاجرين في دين الله استبدلوا الضلالة بالهدى، فتركوا هدى الله، واتبعوا في الدين أهواء الناس، واستحقوا العذاب بدل المغفرة، لجنايتهم على أنفسهم بإيثار المال الفاني على الثواب الخالد الباقي، فعجبا لهم أشد العجب، كيف يطيقون الصبر على موجبات النار وأعمال الضلال من غير مبالاة منهم فقوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من كثرة صبرهم، أي هم في حال عذاب يقول من يراهم: ما أصبرهم؟!. وهذا الأسلوب يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب الحاكم أو السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن! أي أنه لا يتعرض لمثل ذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. إن ذلك العذاب الشديد الذي ينتظرهم هو غاية العدل، وإن ما أنزل الله من الكتاب هو الحق الأبلج الذي لا يحاد عنه ولا يغالب. وأما الذين اختلفوا في كتب الله، فقالوا: بعضها حق، وبعضها باطل، فهم في خلاف ونزاع بعيد عن الحق، ولن يلتقوا على شيء واحد، وسيظل النزاع أو الشقاق بينهم بعيد الجانب عن الحق والصواب والهداية الصحيحة. فقه الحياة أو الأحكام: إن كتمان الحق وتزييف الحقائق والإيغال في الباطل سبب لأنواع شتى من العذاب. وإن الاختلاف في أصول الدين وقضاياه الأصلية العامة مدمر للدين كله، لذا أمر الله المؤمنين بالالتقاء على سبيل واحدة هي المنهج الرباني، فقال تعالى:

وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام 6/ 153] وحذر الله المؤمنين من التفرق مذاهب شتى في الاعتقاد وأصول الدين، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام 6/ 159] . أما الاختلاف في الفهم، والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، والاعتماد على الكتاب والسنة، فليس معيبا، وإنما يثاب كل من المجتهدين: المخطئ والمصيب، ويمكن للدولة أن تختار من بين الآراء الاجتهادية ما يناسب عصرها وزمانها ويحقق مصلحتها التي هي مصلحة الأمة العامة والعليا، لأن «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» أي المصلحة العامة. وهذا الاختلاف في الفهم لا يؤدي إلى تمزيق وحدة الأمة، ولا يقتضي الشقاق والنزاع الناجم عن الاختلاف في أصول الشرع الإلهي. وقد أوعد الله الناس على أمور ثلاث: كتمان الحق، والمتاجرة في الدين، والاختلاف الجذري في أصول الدين. أما كتمان الحق: فيؤدي إلى النار والعذاب الدائم وعدم الظفر بالمغفرة، كما قال الله تعالى عن علماء اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة رسالته. وأما المتاجرة في الدين: فتستوجب النار أيضا، وعجبا لنفر من الناس يتحملون عذاب الله الشديد، فما أشجعهم وما أجرأهم على النار، إذ يعملون عملا يؤدي إليها. ذلك العذاب المستحق لهم عنوان العدل والحق، ولم ينزل الله هذا القرآن إلا بالحق، لإقراره ونشره والإذعان له. وأما الاختلاف الجذري في الدين: فإنه يجسّد الفرقة والخلاف، ويمنع

مظاهر البر الحقيقي [سورة البقرة (2) آية 177] :

تحقيق اللقاء والاتحاد، بدليل أن اليهود والنصارى الذين اختلفوا في التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته، أو أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، سيظل الشقاق والخلاف الخطير قائما بينهم. وأخبر عن المتصفين بالكتم والاشتراء بأربعة أخبار: الأول- ما يأكلون في بطونهم إلا النار، والثاني- لا يكلمهم الله يوم القيامة، والثالث- لا يزكيهم أي لا يقبل أعمالهم فيثني عليهم، والرابع- لهم عذاب أليم. وبه يتبين أن المراد من قوله تعالى: بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يعني القرآن هنا، أنزله الله بالصدق أو بالحجة الدامغة. وأن المراد من قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ يعني التوراة. وقيل: المراد القرآن. والذين اختلفوا: كفار قريش، فقال بعضهم: هو سحر، وقال آخرون: أساطير الأولين، وقال جماعة: مفترى. مظاهر البر الحقيقي [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) الإعراب: لَيْسَ الْبِرَّ البر: خبر ليس المنصوب، وأَنْ تُوَلُّوا اسمها، ومن قرأ الْبِرَّ بالرفع جعله اسم ليس وأَنْ تُوَلُّوا خبرها، أي: ليس البر توليتكم.

البلاغة:

وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ البر: اسم لكن، والخبر محذوف تقديره: ولكن البر بر من آمن بالله، أو لكن ذا البر من آمن بالله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. عَلى حُبِّهِ يعود الضمير إلى المال، والمصدر مضاف إلى المفعول، وهو اعتراض يسمى في البلاغة تتميما. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ مرفوع من ثلاثة أوجه: إما لأنه عطف على ضمير في آمَنَ بِاللَّهِ وإما معطوف على مَنْ آمَنَ أي: ولكن البار المؤمنون والموفون، وإما أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: «وهم الموفون» . وَالصَّابِرِينَ منصوب من وجهين: إما أن يكون منصوبا على المدح، وتقديره: أمدح الصابرين. وإما أنه معطوف على قوله ذَوِي الْقُرْبى أي: وآتى الصابرين. البلاغة: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ جعل البر نفس من آمن على طريق المبالغة، مثل السخاء حاتم، والشعر زهير، أي أن السخاء سخاء حاتم والشعر شعر زهير. وَفِي الرِّقابِ إيجاز بالحذف أي وفي فك الرقاب يعني فداء الأسرى. والرقاب: مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وَالصَّابِرِينَ منصوب على الاختصاص أي وأخص بالذكر الصابرين. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أتى بالخبر فعلا ماضيا لإفادة التحقق والوقوع. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أتى بالخبر جملة اسمية لإفادة الثبوت. المفردات اللغوية: الْبِرَّ اسم جامع لكل خير، وهو كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق. وَآتَى الْمالَ أي أعطاه وَالْيَتامى اليتيم: من لا والد له وهو محتاج الْمَساكِينَ المسكين: هو المحتاج الذي له مال لا يكفيه، وسمي بذلك لأن الحاجة أذلته وأسكنته. وأما الفقير: فهو الذي لا مال له. وَابْنَ السَّبِيلِ ابن الطريق، وهو المسافر المحتاج، البعيد عن ماله ولا يمكنه إحضاره. وَالسَّائِلِينَ السائل: من ألجأته الحاجة إلى السؤال والطلب من الناس. والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل أن يقتصر عليها ولا يتعداها. وَفِي الرِّقابِ أي وفي تحرير الرقاب وعتقها وَأَقامَ الصَّلاةَ أي أداها على أقوم وجه وأحسنه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ العهد: ما يلتزم به إنسان لآخر. الْبَأْساءِ من البؤس وهو شدة الفقر

سبب النزول:

الضَّرَّاءِ: كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب حِينَ الْبَأْسِ وقت شدة القتال. صَدَقُوا في دعوى الإيمان الْمُتَّقُونَ التقوى: الوقاية من غضب الله بالبعد عن المعاصي. سبب النزول: روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق، فنزلت: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الآية «1» . وروى الطبري وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البر، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ.. فدعا الرجل فتلاها عليه، وكان قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، يرجى له في الآخرة خير، فأنزل الله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا.. وكانت اليهود توجهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق. التفسير والبيان: كان تحويل القبلة سببا في فتنة كبري بين أهل الأديان، فأصبح كل فريق يرى أن الصلاة لا تصح إلى غير القبلة التي هو عليها، واحتدم الخلاف بين المسلمين وأهل الكتاب، فرأى الكتابيون أن الصلاة يلزم أن تكون إلى قبلتهم، وهي قبلة بعض الأنبياء، واحتج المسلمون بأن الصلاة لا تقبل ولا يرضى عنها الله إلا بالاتجاه إلى المسجد الحرام قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام. فأبان الله سبحانه وتعالى للناس كافة أن مجرد توجيه الوجه جهة المشرق والمغرب ليس في ذاته هو البر المقصود، ولا يعد عملا صالحا بمجرده، وإنما البر الحقيقي شيء آخر وهو الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل الصالح، وهو الإيمان الذي يملأ النفس خشية

_ (1) البحر المحيط: 2/ 2

لله تعالى، ومراقبة له في السر والعلن، ويصبح حاجزا منيعا قويا بين النفس ومزالق الشيطان، فإذا أخطأ بادر إلى التوبة الصادقة. البر إذن: هو الإيمان الحقيقي الكامل الشامل لأصول الاعتقاد، وأساس البر: الإيمان بالله إلها واحدا لا شريك له ولا معبود سواه، وهو الإيمان الذي يشعر النفس بالعزة والسمو، إذ لا يخضع بعدئذ لأي إنسان في هذا الوجود، ولا يكون لأحد سلطة التشريع، وإنما التشريع لله وحده. وهو الإيمان الذي تطمئن به القلوب وتهدأ له النفوس، فلا تبطر بنعمة ولا تيأس بنقمة، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد 13/ 28] . وقال أبو حيان: البر معنى من المعاني فلا يكون قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ: مَنْ آمَنَ مرادا به إلا: البارّ أو ذا البر. والإيمان باليوم الآخر: على أنه مقر الثواب والعقاب والحساب والعرض على الله، فيكون سببا للمزيد من العمل الصالح، والبعد عن قبيح الأفعال. والإيمان بالملائكة: على أنهم أجسام نورانية، لهم مهام عديدة، دأبهم الطاعة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، منهم حملة الوحي، ومنهم الموكل بالجنة أو بالنار، ومنهم الموكل بالرياح والأمطار، ومنهم سدنة العرش، ومنهم من يقبض الأرواح. والإيمان بهم أصل للإيمان بالوحي والنبوة واليوم الآخر، ويتولى جبريل عليه السّلام أمانة الوحي، كما قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 193- 195] وقال: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر 97/ 4] . والإيمان بالكتب السماوية (الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن وبالصحف

المنزلة على الأنبياء السابقين: يتطلب الإيمان بجميعها دون تفرقة، ويقتضي امتثال ما فيها من أوامر، واجتناب ما جاءت به من نواه. ويستدعي التزام كل ما تضمنه القرآن الكريم، لأنه جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها. والإيمان بالأنبياء جميعهم دون تفرقة بين نبي وآخر: يستلزم الاهتداء بهديهم، والاقتداء بسيرتهم وأخلاقهم، والتأسي بهم فيما أمروا به أو نهوا عنه. والإيمان الصحيح لا بد من أن يقترن بالعمل الصالح الذي يهذب النفس، ويصحح العلاقات الاجتماعية، ويجعلها قائمة على أساس متين من المحبة، والألفة، والمودة، والوحدة، والتعاون أو التضامن والتكافل الاجتماعي، ويتمثل ذلك فيما يأتي: إعطاء المال مع حبه للأصناف الآتية أصحاب الحاجات، رحمة بهم، وشفقة عليهم، وعونا للأخذ بأيديهم نحو حياة عزيزة كريمة تعتمد على الثقة بالنفس، والعمل عند القدرة، والإنقاذ وقت الشدة والمحنة. وهم ذوو القربى المحتاجون، فهم أحق الناس بالبر، بسبب رابطة الدم، والإحساس بأحوالهم، والتأثر بأوضاعهم عن قرب، ولأن سعادة الإنسان الحقة لا تتم إلا بإشاعة السعادة لمن حوله، وتكون صلتهم محققة لهدفين: صلة الرحم وثواب الصدقة، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صدقتك على المسلمين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان» . وقد رتب النّبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلم طريق الإنفاق بحسب درجة القرابة، فقال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» . واليتامى: وهم الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم، هم في حاجة شديدة للعون المادي للتغلب على قسوة الحياة المعيشية، ولمساعدتهم في شق طريق حياة المستقبل أمامهم، إما بالتعلم، وإما بالحرفة أو المهنة الصناعية، وإما بغير ذلك، حتى لا تفسد تربيتهم، فيصبحوا ضررا على أنفسهم وعلى المجتمع.

والمساكين، والفقراء من باب أولى: وهم الذين لا دخل لهم أصلا، بسبب الفقر، أو لهم دخل لا يكفيهم بسبب المسكنة فيحتاجون إلى المساعدة. كما أن القضاء على ظاهرة الفقر من ركائز النهضة والتقدم، لأن الحاجة قد تدفع بصاحبها إلى الانحراف والاجرام، فيكون من مصلحة الجميع مؤازرتهم ومعاونتهم، حتى يتقووا، إذ أن قوة الأمة بقوة أفرادها، وضعف الأمة بضعف أبنائها. وابن السبيل: الذي انقطع في أثناء سفره أو طريقه عن الوصول إلى بلده، تكون مساعدته ومواساته ضرورية حتى يستقر به المقام في وطنه. وسمي بذلك، لأنه غريب، حتى لكأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق. والسائلون: الذين يسألون الناس إمدادهم بالمال، لشدة الحاجة. وأدب السؤال أن يكون من غير إلحاف، وأن يكون بتعفف، كما قال الله تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة 2/ 273] ولا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي، أي قادر على العمل كما جاء في الحديث الثابت. وعليه أن يبحث عن العمل الشريف، وعلى الدولة أن توفر له عملا، سواء أكان ذكرا أم أنثى. وفي الرقاب: أي مساعدة الأرقاء على الحرية، ومعاونة الأسرى على الفداء بالمال، لأن الرق والأسر عبودية وذل ومصادرة للحرية، والدين يتشوف إلى إعتاق الأنفس، وإلى تحرير الناس، وإلى التخلص من قيد الرق بمختلف الوسائل المادية ببذل المال، والمعنوية بالجاه والوساطة والشفاعة الحسنة، وإطلاق سراح الأسرى نتيجة الحرب بالتبادل أو بالفداء المالي. ومن البر: إقامة الصلاة أي أداؤها على أقوم وجه بإتمام الأركان والشروط، مع استحضار القلب والتفكير في معاني التلاوة والأذكار، واستذكار عظمة الإله

المعبود، والخشوع والطمأنينة على الوجه الشرعي، فإذا أديت الصلاة على وجهها المشروع، حققت آثارها، فهذبت النفس، وعودتها على مكارم الأخلاق، وأبعدتها عن الرذائل، فلا ترتكب فاحشة ولا منكرا، كما قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت 29/ 45] . ومن خصال البر: إيتاء الزكاة أي إعطاء الزكاة المفروضة لمستحقيها المذكورين في آية: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة 9/ 60] ويلاحظ أنه قلما تذكر الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة، لأن الصلاة تهذب الروح، والزكاة تطهر المال كما قال عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة 9/ 103] . وقدر المأخوذ من زكاة الأموال وأنواعها موضح في السنة. ومن البر: الوفاء بالعهد: سواء عهد الله بالسمع والطاعة، أو عهد الناس بالوفاء بالعقود والوعود والمعاهدات، ما لم تخالف أوامر الدين، فلا يجب الوفاء بالعهد إذا كان في معصية. والوفاء من آيات الإيمان الصحيح، والغدر من آيات النفاق كما في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وإذا تساهل الناس في الوفاء بالتزاماتهم، ضاعت الثقة فيما بينهم، وعاشوا في حيرة وقلق واضطراب، مما يلجئهم إلى توثيق عقودهم بمختلف الوسائل، والاحتراس من الغدر ونقض العهد. والصبر وقت الشدة والفقر، وعند الضر من مرض وفقد أهل ومال وولد، وفي ساحات القتال مع الأعداء: من البر والإيمان، فالصبر نصف الإيمان، لأنه يدل على الرضا بالقضاء والقدر، واحتساب الأجر عند الله، والاهتمام بنصرة الدين في أثناء الجهاد، والصبر في هذه المواقف الثلاث عنوان الإيمان الكامل، وقد ورد في الحديث الصحيح: أن الفرار من الزحف من السبع الكبائر. أولئك المتصفون بخصال البر السابقة هم الصادقون في الإيمان، وأولئك هم

فقه الحياة أو الأحكام:

الأتقياء بحق، الذين اتقوا غضب الله بالبعد عن المعاصي، الفائزون برضوان الله وثوابه في الدار الآخرة. والحق أن من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه. فقه الحياة أو الأحكام: البر الجامع للخير: هو الذي اتصف صاحبه بالأوصاف المذكورة في هذه الآية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة، وفرضت الفرائض، وحوّلت القبلة إلى الكعبة، وحدّت الحدود، أنزل الله هذه الآية، فقال تعالى: ليس البر كله أن تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر أي ذا البر: من آمن بالله، إلى آخرها. قال العلماء: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار، والملائكة، والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله، والنبيين، وإنفاق المال في الأحوال الواجبة والمندوبة، وإيصال القرابة وترك قطعهم، وتفقد اليتيم، وعدم إهماله، والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل (المنقطع به، وقيل: الضيف) ، والسائلين، وفك الرقاب، والمحافظة على الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد. وللعلماء قولان في إعطاء اليتيم: قيل: لا يعطى حتى يكون فقيرا، وقيل: يعطى بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا. وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ.. يحتمل أن يراد به الصدقة الواجبة (الزكاة) وأن يراد به التطوع، قال الجصاص: وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة، وإنما فيها حث على الصدقة ووعد بالثواب عليها، لأن أكثر ما فيها أنها من البر، وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل، إلا أن في سياق الآية ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة، لقوله تعالى وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ فلما عطف

الزكاة عليها، دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها «1» . وكذلك ابن العربي قال: ليس في المال حق سوى الزكاة، وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول: في المال حق سوى الزكاة، ويحتج بحديث يرويه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في المال حق سوى الزكاة» وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي، ولا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «2» ، وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة، ونزلت بعد ذلك حاجة، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق العلماء. أي أن المراد بقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إيتاء المال تطوعا، والمراد بقوله وَآتَى الزَّكاةَ إيتاء الزكاة المفروضة. وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذا إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة نظر، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم «3» . وقال القرطبي: استدل بالآية: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، للحديث المتقدم: «إن في المال حقا سوى الزكاة» . والحديث وإن كان فيه مقال، فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ فذكر الزكاة مع الصلاة، وهو دليل على أن المراد بقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، والله أعلم «4» .

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 131 (2) وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه، والترمذي وقال: «هذا حديث ليس إسناده بذاك وأبو حمزة ميمون الأعور يضعّف. [.....] (3) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 59- 60. (4) تفسير القرطبي: 2/ 241- 242

وعلى كل فإن إيتاء المال فضلا عن الزكاة، مع حب المال أمر مرغب فيه شرعا بلا شك عملا بهذه الآية، وبحديث أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقير، وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» . وعن ابن مسعود في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ قال: أن تؤتيه وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. ويؤيد الاتجاه الأول القائل بأن إيتاء المال على حبه هو تطوع حديث: «نسخت الزكاة كل صدقة» يعني وجوبها. ويكون لإنفاق المال صورتان: صورة الزكاة المفروضة: وهي إعطاء المال على كيفية مخصوصة، وبقدر معين. وصورة الزكاة المطلقة: وهي إعطاء المال من غير تقييد بمقدار معين ولا تحديد بامتلاك نصاب، بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة وأفرادها. فإذا ما أعطي المال بصورتيه، أمكننا القضاء على ظاهرة الفقر، وحققنا المقصود من التكافل الاجتماعي في الإسلام، وحينئذ نستغني عن استيراد المبادئ الاشتراكية الغربية أو الشرقية التي ظهرت لعلاج عيوب الرأسمالية الطاغية، وأمكننا الوصول إلى الحل الوسط المعقول الذي لا يقوم على الإجبار والإكراه أو نزع الملكية جبرا عن الملاك ودون تعويض، وإنما يتوخى الإبقاء على علاقات الود والحب والتعاطف بين الأغنياء والفقراء، ويعتمد على المنهج الأمثل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران 3/ 180] أي لا تحسبن البخل خيرا لهم، بل هو شر لهم.

مشروعية القصاص وحكمته [سورة البقرة (2) الآيات 178 إلى 179] :

وأما إعطاء المساكين: فهم الذين لا يسألون، وأما السائلون فهم الذين كشفوا وجوههم، وقد صح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس المسكين الذي تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه» . وفي الرقاب: قال مالك والشافعي: هم عبيد يعتقون قربة. وقال أبو حنيفة: إنهم المكاتبون يعانون في فك رقابهم. والصحيح أنه عام. وأما الوصف البارز الذي توجّه به الله تعالى لمن اتصف بصفات البر في الآية فهو: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادّين في الدين، وهذا غاية الثناء. مشروعية القصاص وحكمته [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) الإعراب: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الضمير يعود إلى فَمَنْ وكذا ضمير مِنْ أَخِيهِ يعود على فَمَنْ، وفيه حذف: تقديره: من حق أخيه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والأخ: يراد به ولي المقتول. شَيْءٌ يراد به دم القتيل. وشيء: مرفوع نائب فاعل لفعل عُفِيَ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ أي لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة.

البلاغة:

البلاغة: فَاتِّباعٌ وأَداءٌ والْحُرُّ والْعَبْدُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: كُتِبَ فرض عليكم، ولزم عند مطالبة صاحب الحق به، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة 2/ 183] ومنه الصلوات المكتوبات. الْقِصاصُ المماثلة في القتلى وصفا وفعلا، أي أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، يعني أن يقتل القاتل، لأنه مساو للمقتول في نظر الشرع. فِي الْقَتْلى: بسبب القتلى، جمع قتيل، كالصرعى جمع صريع، وإنما يكون فعلى جمعا لفعيل: إذا كان وصفا دالا على الزمانة. الْحُرُّ بِالْحُرِّ.. إلخ أي يقتل الحر بالحر ولا يقتل بالعبد، ويقتل العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى، وأنه تعتبر المماثلة في الدين، فلا يقتل مسلم ولو عبدا بكافر ولو حرا، وهو رأي الجمهور غير الحنفية. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي من عفي له من جهة ولي الدم شيء من العفو، والعفو يطلق على معان، المناسب منها هنا اثنان: العطاء، والإسقاط والترك. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فليكن مطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف ولا عنف ومن غير شطط وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي وتأدية من جهة الجاني للمجني عليه من غير مماطلة ولا تعب ولا بخس حق. ذلِكَ الحكم المذكور من العفو والدية. تَخْفِيفٌ تسهيل. وَرَحْمَةٌ بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحدا منهما كما حتم القصاص على اليهود، والدية على النصارى. فَمَنِ اعْتَدى أي انتقم من القاتل بعد العفو. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل الْأَلْبابِ جمع لب: وهو العقل. سبب النزول: هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية (178) «1» : فروي عن قتادة والشعبي وجماعة من التابعين: أنه كان من أهل الجاهلية بغي وطاعة للشيطان،

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 245، تفسير ابن كثير: 1/ 209، أسباب النزول للواحدي: ص 26

التفسير والبيان:

فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرا، اعتزازا بأنفسهم على غيرهم. وإن قتلت لهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية، يخبرهم أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى في سورة المائدة بعد ذلك: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة 5/ 45] . وروي عن السّدّي أنه قال في هذه الآية: اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم- وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدي الحر دية الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصهم بعضهم من بعض. فنزلت الآية لتأييد حكمه. التفسير والبيان: كانت عقوبة القاتل قبل الإسلام متعددة الأنواع، فعند اليهود القصاص، وعند النصارى الدية، وعند عرب الجاهلية تشيع عادة الأخذ بالثأر، فيقتل غير القاتل، وقد يقتلون رئيس القبيلة، أو أكثر من واحد من قبيلة القاتل، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرا. ثم قرر الإسلام أخذا بالعدل والمساواة عقوبة القصاص، لأنها تزجر الناس عن ارتكاب جريمة القتل، وما تزال هذه العقوبة هي الزاجرة في عصرنا الحاضر، إذ أن السجن لا يزجر كثيرا من المجرمين سفاحي الدماء. وتشريع الله هو الأعدل والأحكام والأسدّ، لأن الله أعلم بما يصلح الناس، وبما يربي الأمم والشعوب. وأباح الشرع أخذ الدية بدلا عن القصاص.

ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى، فتقتصوا من القاتل بمثل ما فعل في القتيل، ولا يبغين بعضكم على بعض، فيقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، مثلا بمثل، ودعوا الظلم الذي كان بينكم، فلا تقتلوا بالحر أكثر من واحد، ولا بالعبد حرا، ولا بالأنثى رجلا. وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده. فالعدل مطلوب في القصاص، والمساواة شرط فيه، فلا يقتل الكثير بالقليل، ولا السيد بالمسود، وإنما ينحصر بالقاتل، لا يتجاوزه إلى أحد أفراد قبيلته، أو أقاربه، أو عشيرته. فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم، حتى ولو كان واحدا من أولياء الدم أو القتيل: وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويألمون لفقده، بأن كان العفو من القصاص إلى الدية، فيجب على العافي وغيره أن يحسن في الطلب من غير إرهاق ولا تعنيف، وعلى المؤدي الأداء من غير مطل ولا تسويف. كما يجوز العفو عن الدية أيضا، لقوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء 4/ 92] . ذلك الحكم الذي شرعناه من العفو عن القاتل إلى الدية أو بدون دية: تخفيف وتسهيل ورخصة من ربكم، ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من الإبقاء على الحياة وعدم سفك الدماء. ولم يكن أخذ الدية مشروعا عند اليهود، وليس لأولياء المقتول إلا القصاص. فمن اعتدى بعد أخذ الدية وقتل القاتل، أو تجاوز ما شرعناه وعاد إلى عادة الجاهلية، فله عذاب شديد الألم يوم القيامة. فالتخفيف بالعفو بنوعيه قائم، لأن أهل التوراة لهم القصاص، وأهل الإنجيل لهم العفو بلا دية. وحكمة القصاص: أنه يساعد على توفير الحياة الهانئة المستقرة للجماعة،

ويزجر القاتل وأمثاله، ويقمع العدوان، ويخفف من ارتكاب جريمة القتل، إذ من علم أنه إذا قتل غيره قتل به، امتنع عن القتل، فحافظ على الحياتين: حياة القاتل والمقتول، كما أن القصاص يمنع انتشار الفوضى والتجاوز والظلم في القتل، ويحصر الجريمة في أضيق نطاق ممكن، ويشفي غليل ولي القتيل، ويطفئ نار غيظه، ويستأصل من نفسه نار الشر والحقد والتفكير بالثأر. قال ابن كثير: معنى قوله: وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة: وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. والذي يقدر حق الحياة المقدسة، ويفقه سر التشريع بالقصاص وما يحققه من مصلحة عامة وخاصة، هم العقلاء، فعليهم إدراك الحكمة وفهم دقائق الأحكام الشرعية. فإذا فهم العقلاء أن القصاص سبب للحفاظ على الحياة «1» ، وحذروا الناس من جريمة القتل، اتقوا القتل وسلموا من القصاص، فالمراد هنا من «تتقون» اتقاء القتل، فتسلمون من القصاص، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من تطبيق القصاص. وقد اتفق علماء البلاغة إلا من شذ للوثة في عقله وهوى في نفسه، على أن عبارة: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أبلغ وأحكم وأفصح وأوجز، وأوفى بالمقصود من كلام فصحاء العرب: «القتل أنفى للقتل» ، لأن كل قصاص فيه صون الحياة، أما القتل فقد يكون ظلما، فيصبح أدعى للقتل، وسببا في زيادته، ولا ينفي القتل إلا إذا كان عدلا، وأما القصاص عقوبة فهو عدل دائما، لأنه لا يصدر عن القاضي الحكم به إلا بعد توافر الإثباتات اللازمة على جريمة القاتل،

_ (1) قال أبو حيان في (البحر المحيط 2/ 15) المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة أو نوع من الحياة، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل.

فقه الحياة أو الأحكام:

فهو النافي للقتل حقيقة. والآية القرآنية جعلت سبب الحياة للجماعة القصاص، لأنه قائم على التماثل والعدل والمساواة. والعقاب في محله عدل محض، أما الكلمة العربية في الجاهلية فجعلت سبب الحياة القتل مع أن القتل لا يستلزم الحياة، ثم إن هذه الكلمة فيها تكرار لفظ القتل، والآية خالية من التكرار اللفظي. ويمكن تصحيح العبارة العربية بأن يقال: القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما. والخلاصة: أن الآية أخص، وأن ظاهر العبارة محال: وهو أن القتل سبب في نفي القتل، أما القصاص فهو سبب الحياة، وأن القتل ظلما قتل وليس نافيا للقتل بل هو أدعى للقتل. فقه الحياة أو الأحكام: امتازت الشريعة الإسلامية بأنها جمعت بسبب جريمة القتل بين تشريع القصاص الذي كان في بني إسرائيل، وبين تشريع الدية الذي كان في النصارى، وأصبح الخيار مقررا بين القصاص والدية والعفو مطلقا عن أي شيء. بل إن الإسلام حض على العفو في آيات كثيرة. منها: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] ومنها: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسراء 17/ 33] وكذلك هذه الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة 2/ 178] ذكّرت المؤمنين بالأخوة التي تدعوهم إلى العفو، وبددت من أنفسهم عوامل الغيظ والحقد، فيعطف الأخ على أخيه، ويتسامى عن أحقاده، فيصفح ويسمح عنه. أما إن أراد ولي الدم القصاص، فعلى القاتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وهذا فرض عليه، كما أنه فرض على الولي الوقوف عند قتل القاتل، وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسّلام «إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة

مسائل فقهية:

ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول «1» الجاهلية» ودلت الآية على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة، قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس: الذكر والأنثى سواء فيه. واتفق الفقهاء على ترك ظاهر: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. وإنهاء لعادة الأخذ بالثأر، لم يسمح الشرع للأفراد أن يطبقوا القصاص بأنفسهم، وإنما حصر تطبيق القصاص وإقامة الحدود بولاة الأمور، لأنّ الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ولا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود، منعا من الوقوع في الفوضى وتجاوز الحق والعدل، وليس القصاص بلازم، إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، ويجوز العفو عن القصاص إلى الدية أو بلا دية. مسائل فقهية: 1- قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر: اختلف الفقهاء في مسألتين هما: قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي. فاشترط الجمهور التكافؤ بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية، فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد، ولم يشترط الحنفية التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكفي التكافؤ أو التساوي في الإنسانية، فيقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد. استدل الجمهور بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي- عن عبد الله بن عمرو: «لا يقتل مسلم بكافر» ورواه البخاري عن علي أيضا، وبقوله عليه الصلاة والسّلام في العبد- فيما رواه الدارقطني والبيهقي- عن ابن عباس مرفوعا: «لا يقتل حر بعبد» .

_ (1) الذحل: العداوة والحقد، أو الثأر وطلب المكافأة على الجناية الواقعة عليه.

واستدل الحنفية بعموم آيات القصاص بدون تفرقة بين نفس ونفس، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة 2/ 178] وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة 5/ 45] . أما آية الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى بعد قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى: فالمراد بها عند الحنفية الرد على ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حرا، وفي امرأتهم إلا رجلا، فأبطل ما كان من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد، أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة، لأن الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وهذا يعم كل قاتل، سواء أكان حرا قتل عبدا أم غيره، وسواء أكان مسلما قتل ذميا أم غيره. ثم جاءت آية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ.. لبيان ما تقدم ذكره على وجه التأكيد. وقال الجمهور: إن الله قد أوجب أولا المساواة في القصاص، ثم بين المساواة المعتبرة، فأوضح أن الحر يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن جاء الإجماع مستندا إلى السنة النبوية على أن الرجل يقتل بالمرأة. فمناط الاستدلال عندهم كلمة الْقِصاصُ الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل. ومناط الاستدلال عند الحنفية كلمة الْقَتْلى الموجبة حصر القصاص في القاتل لا في غيره. وإذا كان الحر لا يقتل بالعبد- في رأي الجمهور- فالمسلم لا يقتل بالذمي، لأن نقص العبد برقه الذي هو من آثار الكفر، فلا يقتل المسلم بالكافر. ويظهر أن رأي الحنفية يحقق الانسجام بين صدر الآية وعجزها، فيكون العبد مساويا للحر، ويكون المسلم مساويا للذمي في الحرمة، لأنه محقون الدم

على التأبيد. أما رأي الجمهور فلا يحقق الانسجام بين بداية الآية ونهايتها، إذ أنهم قرروا ألا يقتل الحر بالعبد، وأن الرجل يقتل بالأنثى وبالعكس. لكن السنة النبوية أوجبت النظر في الآية، فقال الجمهور: جاءت الآية مبينة حكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، ولم يجز قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر. ويعضد ما ذهب إليه الحنفية من شرع قتل المسلم بالذمي: ما رواه الطحاوي عن محمد بن المنكدر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» ، وروي عن عمر وعلي قتل المسلم بالذمي، وقال علي: «إنا أعطيناهم الذي أعطيناهم «1» ، لتكون دماؤهم كدمائنا ودياتهم كدياتنا» . وتأول الحنفية حديث «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده» بأنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي، لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي، كما قيد بالمعطوف، لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا، ويكون التقدير: لا يقتل مسلم بكافر حربي، ولا ذو عهد بكافر حربي، لأن الذمي إذا قتل ذميا قتل به، فعلم أن المراد به: الحربي، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي. ورد الجمهور بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» مرسل عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ورواه عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر، وهو ضعيف الحديث، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله؟! وقال الدارقطني: «لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث» .

_ (1) أي العهد والأمان.

2 - قتل الرجل بالمرأة:

وأما حديث «ولا ذو عهد في عهده» فهو كلام تام، لا يحتاج إلى تقدير، وهي جملة مستأنفة، لبيان حرمة دماء أهل الذمة، والعهد بغير نقض. 2- قتل الرجل بالمرأة: نصت الآية على قتل الأنثى بالأنثى، ولم تبين حكم قتل الرجل بالمرأة وبالعكس. فقال الحسن البصري وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة، لهذه الآية. وقال الليث بن سعد: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة. وخالفهم الجمهور فقرروا أنه يقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، لآية المائدة: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (45) ، ولقوله عليه الصلاة والسّلام- فيما رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي جحيفة-: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» . ويسوى بين الرجل والمرأة في القصاص بالنفس وفيما دون النفس من الأعضاء في رأي مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبي ثور. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس، وإنما هو في النفس بالنفس. قال القرطبي: وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى. 3- قتل الوالد بالولد: قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، وموجز الخلاف هو ما يأتي. قال الجمهور غير مالك: لا قود (قصاص) عليه، وعليه ديته، لما رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقاد الوالد بالولد» وهو حديث مشهور.

4 - قتل الجماعة بالواحد:

وقال مالك: إذا قتل الرجل ابنه متعمدا، مثل أن يضجعه، ويذبحه، أو يصبره (يحبس ويرمى حتى يموت) مما لا عذر له فيه، ولا شبهة في ادعاء الخطأ، يقتل به. أما إذا رماه بالسلاح أو بالعصا بقصد التأديب، أو في حالة غضب، فقتله، لا يقتل به، لأن شبهة الأبوة قائمة شاهدة بعدم القصد إلى القتل. 4- قتل الجماعة بالواحد: قال الظاهرية: لا تقتل الجماعة بالواحد، لظاهر الآية، التي شرطت المساواة والمماثلة، ولا مساواة بين الواحد والجماعة، لقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة 5/ 45] . والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل. وذهب أئمة المذاهب الأربعة: إلى أنه تقتل الجماعة بالواحد، قلّت الجماعة أو كثرث، سدا للذرائع، فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلا، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سببا للتخلص من القصاص. وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء، وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم به جميعا» وقتل علي رضي الله عنه الحرورية (الخوارج) بعبد الله بن خبّاب «1» . وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن، لأكبهم الله في النار» وقال فيه: حديث غريب.

_ (1) خرّج الحديثين الدارقطني في سننه.

5 - المماثلة في تطبيق القصاص (أداة القصاص) :

5- المماثلة في تطبيق القصاص (أداة القصاص) : للعلماء اتجاهان في كيفية استيفاء القصاص، فذهب مالك والشافعي إلى أن آية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ يقتضي المماثلة في كيفية القتل، فيقتص من القاتل على الصفة التي قتل بها، فمن قتل تغريقا، قتل تغريقا. ومن قتل بحجر قتل به، بدليل حديث أنس الذي رواه الشيخان (البخاري ومسلم) أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «رضّ رأس يهودي بين حجرين، كان قد قتل بهما جارية من الأنصار» . وذهب الحنفية، والحنابلة في الأصح عندهم إلى أن المطلوب بالقصاص إتلاف نفس بنفس، والآية لا تقتضي أكثر من ذلك، فعلى أي وجه قتله، لم يقتل إلا بالسيف، لحديث النعمان بن بشير الذي رواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا قود إلا بالسيف» ، ولحديث عمران بن حصين وغيره أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن المثلة» وحديث شداد بن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال- فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن-: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» فأوجب عموم لفظه على من رغب في القصاص أن يقتل الجاني بأحسن وجوه القتل. 6- أخذ الدية من قاتل العمد: هناك نظريتان، فذهب مالك في رواية أشهب والشافعي وأحمد: إلى أن ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل، لحديث أبي شريح الخزاعي عام الفتح الذي رواه أحمد عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل له قتيل، فله أن يقتل أو يعفوا أو يأخذ الدية» ولأن فرضا على القاتل إحياء نفسه، بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. وعلى هذا يكون موجب القتل العمد أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو إلى الدية، فأيهما اختار الولي، أجبر الجاني عليه.

7 - هل للنساء عفو؟ :

وذهب أبو حنيفة، ومالك في رواية ابن القاسم، وهو المشهور عنه: إلى أنه ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، إذ ليس في الآية سوى إباحة العفو أي العطاء، أي فمن أعطي له من أخيه شيء من المال، فليتبعه بالمعروف، وليؤد إليه الجاني، وليس فيها ما يدل على إلزام القاتل بالدية إذا رضيها الولي. واحتجوا بحديث أنس في قصة الرّبيّع «1» حين كسرت ثنية المرأة، فلما حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقصاص، وقال: «القصاص: كتاب الله، القصاص: كتاب الله» ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية، ثبت أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص. قال القرطبي: والأول- أي الاتجاه الأول- أصح، لحديث أبي شريح المذكور. 7- هل للنساء عفو؟ ذهبت طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن البصري وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي. وخالفهم بقية العلماء، وقالوا: يجوز للنساء العفو عن القصاص. 8- هل الاتباع بالمعروف والأداء واجب أو مندوب؟ إن آية فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وقراءة الرفع فَاتِّباعٌ تدل على الوجوب، لأن المعنى: فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ شرط، والجواب: فَاتِّباعٌ وهو رفع بالابتداء، والتقدير: فعليه اتباع بالمعروف. مثل قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ.

_ (1) هي عمة أنس بن مالك، والحديث رواه الأئمة.

9 - حكم القاتل بعد أخذ الدية:

وعلى قراءة النصب: فاتباعا يكون الطلب على سبيل الندب. 9- حكم القاتل بعد أخذ الدية: من قتل بعد أخذ الدية، فحكمه عند جماعة من العلماء، منهم مالك والشافعي: كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو. روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أعفى «1» من قتل بعد أخذ الدية» . وقال الحسن البصري: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. 10- القصاص للحاكم: اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه، دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك. 11- القصاص من الحاكم نفسه: أجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه، إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل،

_ (1) أعفى: من عفا الشيء: إذا كثر وزاد، وهذا دعاء عليه، أي لاكثر ماله ولا استغنى.

الوصية الواجبة [سورة البقرة (2) الآيات 180 إلى 182] :

وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى. وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: «لئن كنت صادقا لأقيدنك منه» . وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم شيئا إذ أكبّ عليه رجل، فطعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعال فاستقد» قال: بل عفوت يا رسول الله. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «ألا من ظلمه أميره، فليرفع ذلك إليّ أقيده منه» . فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصّه منه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقصّ من نفسه!. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: «خطبنا عمر بن الخطاب، فقال: إني لم أبعث عمّالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به، فليرفعه إلي أقصه منه» . الوصية الواجبة [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

الإعراب:

الإعراب: حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أسباب الموت، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. الْوَصِيَّةُ: نائب فاعل لفعل: كتب، وتقديره: كتب عليكم الوصية. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ منصوب على المصدر، وتقديره: حق حقا. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الهاءات في: بدله وسمعه ويبدلونه، فيها وجهان: أحدهما- إنما أتى بضمير المذكر، دون ضمير المؤنث، وإن كان الذي تقدم ذكر الوصية، لأنه أراد بالوصية الإيصاء. والثاني- أن هذه الهاءات تعود على الكتب، لأن كُتِبَ تدل عليه، والكتب مذكر. البلاغة: عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أقيم الظاهر مقام المضمر. المفردات اللغوية: كُتِبَ: فرض الْمَوْتُ أي أسبابه وعلاماته وأماراته كالمرض المخوف خَيْراً أي مالا، قال مجاهد: الخير في القرآن كله: المال. الْوَصِيَّةُ: تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت، أي فليوص من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه، وتطلق على الإيصاء والتوصية، وعلى الموصى به من عين أو عمل. بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث، ولا يفضل الغني، وهو ما لا يستنكره الناس، بحسب حال الشخص الموصي، بأن لا يكون قليلا بالنسبة لماله الكثير، وألا يكون كثيرا يضر بالورثة، ويتحدد بعدم الزيادة على ثلث التركة. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. والإيصاء الواجب للأقارب منسوخ بآية الميراث، وبحديث رواه الترمذي وغيره: «لا وصية لوارث» . فَمَنْ بَدَّلَهُ وغيره أي الإيصاء، من شاهد ووصي بَعْدَ ما سَمِعَهُ علمه فَإِنَّما إِثْمُهُ أي الإيصاء المبدل إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقول الموصي عَلِيمٌ بفعل الوصي، فيجازيه عليه. فَمَنْ خافَ أي علم. جَنَفاً ميلا عن الحق والعدل خطأ أَوْ إِثْماً بأن تعمد الإجحاف والظلم، بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلا. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الوصي والموصى له، بالأمر بالعدل. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في ذلك.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآيات تذكير عام لجميع الناس بالوصية التي هي عمل من أعمال البر والخير بعد الموت، في حال ظهور أماراته وعلاماته، بعد أن ذكر الله القصاص في القتل، وهو موت، وجاء الخطاب للمجموع، لأن الأمة متكافلة، يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، فمناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص، والدية، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية وبيان أنه مما كتبه الله تعالى على عباده، حتى يتنبه كل أحد، فيوصي قبل مفاجأة الموت، فيموت على غير وصية. وفرض عليكم أيها المؤمنون، إذا ظهرت علامات الموت بمرض مخوف ونحوه، وترك الواحد منكم مالا كثيرا لورثته، أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء من هذا المال، وصية عادلة، لا تعد شيئا قليلا ولا كثيرا، في حدود ثلث التركة، وعدم تفضيل غني لغناه، ودون تمييز ولا جور في الوصية إلا لضرورة، كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم، أو صغر، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والحقد والنزاع بين الورثة، حتى ولو كان الوالدان كافرين، فللولد أن يوصي لهما بما يؤلف قلوبهما، لأن الإحسان لهما مطلوب بنحو عام، كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت 29/ 8] . وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان 31/ 15] والمراد من قوله: بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وهو محدد شرعا بمقدار ثلث التركة فأقل. أوجب الله تلك الوصية حقا مقررا على من اتقى الله وآمن بكتابه. فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصي بعد سماعه، فإنما ذنب هذا التغيير عليه، وبرئت منه ذمة الموصي، وثبت له الأجر عند ربه.

فقه الحياة أو الأحكام:

والتغيير إما بإنكار الوصية أو بالنقص فيها بعد أن علمها. والله سميع لقول المبدلين والموصين، عليم بنياتهم وبكل فعل، وهذا وعيد شديد لهم، فاحذروا العقاب. ثم استثنى من إثم التبديل حالة الإصلاح والنصح، وهي إذا خرج الموصي في وصيته عن منهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فلمن علم بذلك أن يصلح بين الموصي والموصى له، أو بين الورثة والموصى لهم، بأن يرد الوصية إلى العدل والمقدار المحدد لها شرعا، ولا إثم على هذا التبديل، لأنه بحق، ولا ذنب عليه في ذلك، والله غفور لمن بدل للإصلاح، رحيم به. المراد بكلمة خَيْراً: اختلف العلماء في المال الذي تفرض فيه الوصية، فقيل: إنه المال الكثير، كما فسرته السيدة عائشة رضي الله عنها. وقيل: أي مال قليلا كان أو كثيرا. ثم اختلفوا في ضابط التمييز بين الكثير والقليل: فقال ابن عباس: إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وقال قتادة. ألف درهم. وعن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك، فهو أفضل. والظاهر- كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين-: أن المراد المال مطلقا، قليلا كان أو كثيرا، لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره. والقضية راجعة إلى العرف، وتقدير الموصي وعدد أفراد الورثة، وظروف المعيشة وأوضاع الغلاء والرخص. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية في رأي جمهور العلماء وأكثر المفسرين منسوخة بآية المواريث،

وبقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أصحاب السنن وغيرهم عن عمرو بن خارجة-: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» فصار وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخا، قال ابن كثير: بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم عن عمرو بن خارجة. أما الأقارب غير الوارثين: فيستحب أن يوصى لهم من الثلث، استئناسا بهذه الآية، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الصحيحان- عن ابن عمر: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» قال ابن عمر: «ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك، إلا وعندي وصيتي» . والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا. وهناك أقوال في نسخ هذه الآية وهي: 1- ذهب ابن عباس والحسن البصري وطاوس ومسروق وآخرون: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت واجبة للقرابة غير الوارثين، لأن الوصية كانت واجبة بالآية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب. واختار ابن جرير الطبري في تفسيره هذا المذهب. ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاح المتأخرين، وإنما هو تخصيص. 2- وذهب ابن عمر وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وآخرون: إلى أن هذه الآية كلها منسوخة بآية المواريث، في حق من يرث وحق من لا يرث، بدليل ما رواه الشافعي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة» «1» فلو كانت الوصية واجبة

_ (1) رواه الدارقطني عن عمران بن حصين رضي الله عنه (تفسير القرطبي: 2/ 271- 272) .

مسائل فقهية:

للأقربين، باطلة في غيرهم، لما أجازها النبي في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين. 3- حكى الرازي في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء 4/ 11] . ولا منافاة حينئذ بين ثبوت الوصية للأقرباء، وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى، وقد جمع الوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. ولو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لآية الوصية، بمعنى أن آية الوصية يراد بها القريب الذي لا يرث، إما لمانع من الإرث كالكفر واختلاف الدار، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام. وهذا رأي طاوس ومن وافقه. مسائل فقهية: 1- مقدار الوصية: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث، لقوله صلّى الله عليه وسلّم لسعد الذي أراد أن يوصي: «الثلث والثلث كثير» وقوله أيضا: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة لكم في أعمالكم» . وأجاز الحنفية: الوصية بالمال كله إن لم يترك الموصي ورثة، لأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ومن لا وارث له، فليس ممن عني بالحديث. [2- إجماع العلماء في مقدار الوصية] 2- وأجمع العلماء على أن من مات، وله ورثة، فليس له أن يوصي بجميع

3 - وقال أئمة المذاهب الأربعة والأوزاعي:

ماله. وأجمعوا على أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، قبل الموت. 3- وقال أئمة المذاهب الأربعة والأوزاعي: من أوصى لغير قرابته، وترك قرابته محتاجين، فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض، لكل من أوصى له، من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. ورأى طاوس والحسن البصري: أنه إذا أوصى لغير الأقربين، ردت الوصية للأقربين، ونقض فعله. [4- ذهاب الجمهور في وصية المريض] 4- وذهب جمهور العلماء إلى أن المريض مرض الموت يحجر عليه في ماله، فلا تنفذ وصاياه وتبرعاته. وقال الظاهرية: لا يحجر عليه. [5- فتوى العلماء بجواز الوصية بأكثر من الثلث] 5- وأجاز أكثر العلماء الوصية بأكثر من الثلث أو لوارث إن أجازها الورثة، لأن المنع من الزائد عن الثلث أو لوارث، كان لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم، كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم، روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجوز الوصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة» وروى أيضا عن عمرو بن خارجة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة» . ومنع الظاهرية الوصية بأكثر من الثلث، وإن أجازها الورثة. 6- رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته: أ- قال طاوس والحسن وعطاء وآخرون: ليس لمن أجاز الوصية للوارث حال حياة الموصي الرجوع في الإجازة بعد الموت، وتنفذ الوصية عليهم، لأن المنع من هذه الوصية إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز، كما أنهم إذا أجازوا الوصية لأجنبي بأكثر من الثلث، جاز بإجازتهم. ب- وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا،

7 - وصية الصبي المميز والسفيه والمجنون:

لأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، فقد أجاز من لا حق له في المال، فلا يلزمه شيء. ج- وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحة الموصي، فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم، لأن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته، فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإن أذنوا له في مرضه، فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه، لأنه قد فات. 7- وصية الصبي المميز والسفيه والمجنون: لا خلاف في صحة وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره: فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به، وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به، ولم يأت بمنكر من القول (أي لم يوص بمعصية) فوصيته جائزة، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز وصية صبي من غسان بلغ من العمر عشر سنين (مميز) كان قد أوصى لأخوال له، فرفع أمره إلى عمر، فأجازها. أي أن المالكية ومثلهم الحنابلة أجازوا وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها. وقال الحنفية والشافعية: لا تجوز وصية الصبي، لأن عبارته قبل البلوغ غير معتبرة في التبرع. واستثنى الحنفية وصيته في أمور تجهيزه ودفنه على سبيل الاستحسان مع اشتراط تحقق المصلحة في ذلك، وهو أيضا واجب. واتفق أئمة المذاهب الأربعة على القول بصحة وصية السفيه: وهو الذي لا يحسن تدبير المال، وينفقه على خلاف مقتضى الحكمة والشرع.

8 - تبديل الوصية:

ولم يجيزوا وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه، لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. وأجاز الحنفية وصية المجنون إذا كان جنونه غير مطبق، أما إذا كان مطبقا بأن استمر بصاحبه دون إفاقة مدة شهر فأكثر فتبطل وصيته. 8- تبديل الوصية: من سمع الوصية من الموصي أو سمعه ممن ثبت به عنده، وذلك عدلان، ثم بدله، فإثمه على المبدل، ويخرج الموصي بالوصية عن اللوم، ويتوجه إلى الوارث أو الولي. وهذا يدل كما قال بعض علماء المالكية: على أن الدّين إذا أوصى به الميت، خرج عن ذمته، وصار الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره، وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرّط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه، ثم وصّى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه «1» . 9- الوصية بمعصية: لا خلاف في أنه إذا أوصى الموصي بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. 10- الإصلاح والحكم بالظن: معنى آية فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً.. من علم أو رأى واطلع بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق، فلا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل، لأن فعله تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. وفي هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 73، تفسير القرطبي: 2/ 269

11 - أفضلية الصدقة حال الحياة:

السعي في الإصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا، إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له. 11- أفضلية الصدقة حال الحياة: لا خلاف في أن الصدقة في حال حياة الإنسان أفضل منها عند الموت، لما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل: «أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح..» الحديث، وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة» وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع» . 12- الإضرار في الوصية: من لم يضرّ في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته، لحديث رواه الدارقطني عن معاوية بن قرّة عن أبيه: «من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله، كانت كفارة لما ترك من زكاته» . فإن ضر في الوصية حرم الإيصاء، لما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر» . وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية، فتجب لهما النار» .

فرضية الصيام [سورة البقرة (2) الآيات 183 إلى 185] :

فرضية الصيام [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الإعراب: كَما كُتِبَ الكاف في موضع نصب، إما لأنّها صفة لمصدر محذوف، وتقديره: (كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب) وما: مصدرية، أي مثل كتابته، وإما لأنّها حال من الصيام، وتقديره: (كتب عليكم الصيام مشبّها كما كتب على الذين من قبلكم) . أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ منصوب بتقدير فعل، وتقديره: صوموا أياما معدودات، فحذف صوموا لدلالة كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ عليه. ولا يجوز نصبه بالصيام، لوجود فاصل أجنبي بينه وبين صلته وهو كَما كُتِبَ. وَأَنْ تَصُومُوا مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ لَكُمْ. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مبتدأ مرفوع، وخبره مقدر، وتقديره: فعليه عدة من أيام أخر.

البلاغة:

ومِنْ أَيَّامٍ صفة مرفوعة لكلمة عدة وأُخَرَ جمع أخرى، وهو فعلى التي هي للتفضيل وهي صفة أيام، وممنوعة من الصرف للوصف والعدل عن آخر. فِدْيَةٌ مبتدأ، وخبره: وعلى الذين يطيقونه، مقدم عليه. طَعامُ مِسْكِينٍ بدل من فدية. ولم يجمع مِسْكِينٍ لأن الواجب في ابتداء الإسلام كان إطعام مسكين، ثم نسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ والطعام بمعنى الإطعام، كالعطاء بمعنى الإعطاء. شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ، وخبره: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وهُدىً حال من القرآن، أي هاديا للناس. وبَيِّناتٍ عطف عليه. الشَّهْرَ منصوب على الظرفية، وتقديره: «فمن شهد منكم الشهر في المصر» لأن المسافر قد شهد الشهر ولا يجب عليه الصوم فيه. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ معطوف على محذوف، تقديره: ليسهل عليكم ولتكملوا العدة. البلاغة: كَما كُتِبَ تشبيه يسمى «مرسلا مجملا» والتشبيه في الفرضية لا في الكيفية. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ مجاز بالحذف تقديره: من كان مريضا فأفطر، أو على سفر فأفطر. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال بعضهم: إن الآية على إضمار حرف النفي، أي لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه. ولا داعي لذلك، لأن الطاقة تعني تحمل الشيء بمشقة وشدة، والمعنى: يتحملونه بجهد شديد. الْيُسْرَ ... والْعُسْرَ فيه طباق السلب. المفردات اللغوية: كُتِبَ فرض. الصِّيامُ في اللغة: الإمساك والكف عن الشيء والترك له، وفي الشرع: هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس، بنيّة من أهله، احتسابا لوجه الله، وإعدادا للنفس لتقوى الله. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي في الفرضية ووجوب الصوم، وقيل: مقداره، وقيل: كيفيته من الكف عن الأكل والشرب، والرأي الأول أرجح، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون الله كتب صوما ما على الذين من قبلنا، وهذا مسلّم به عند أهل الأديان، فمن المعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل، حتى الوثنية، فهو معروف عند

قدماء المصريين واليونان والرومان والهنود. وفي التوراة الحالية مدح الصيام والصائمين، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون يوما من شهر آب. وكذلك الأناجيل الحالية تمدح الصيام وتعتبره عبادة كالنّهي عن الرّياء وإظهار الكآبة فيه، وأشهر صوم النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وعيسى والحواريون، ثم وضع رؤساء الكنيسة أنواعا أخرى من الصيام. تَتَّقُونَ المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدأ المعصية، ويورث التقوى، ويقمع الهوى، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ إن كل ما فرض صومه هنا هو رمضان، فيكون قوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ عنى به رمضان، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين. ووصفها بقوله مَعْدُوداتٍ تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام معدودة. يُطِيقُونَهُ أي يتحملونه بمشقة شديدة وجهد كبير، ويؤيده قراءة: «يطوقونه» مثل الكبير الهرم والحامل والمرضع والمريض مرضا لا يرجى برؤه. فِدْيَةٌ الفدية: هي إطعام مسكين عن كل يوم، من أوسط ما يطعم أهله في يومه، أكلة واحدة، وهو مدّ من غالب قوت البلد، وهو يساوي (675 غ) . فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بالزيادة على القدر المذكور في الفدية. فَهُوَ أي: التطوع خير له. والصوم خير من الإفطار والفدية. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم، فافعلوه في تلك الأيام. أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر. هُدىً هاديا من الضلالة. وَبَيِّناتٍ آيات واضحات. مِنَ الْهُدى مما يهدي إلى الحق من الأحكام، ومن الْفُرْقانِ مما يفرق بين الحق والباطل. فَمَنْ شَهِدَ حضر بأن كان مقيما غير مسافر. الْيُسْرَ السهولة والتخفيف بإباحة الفطر في المرض والسفر، والمريض وكذا المسافر يختار الأيسر عليه، ويكون هو الأفضل في حقه. وآية يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ.. تعليل لما قبله، أي يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من الأحكام، أن يكون دينكم يسرا تاما لا عسر فيه. وفي هذا ترغيب في الرخصة. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ اللام للتعليل، وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ كأنه قال: رخص لكم في حالي المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر، وأن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء، لعذر المرض أو السفر، أكملها قضاء بعده، فالله شرع لكم القضاء حال الفطر والسفر. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عند إكمال العدة. عَلى ما هَداكُمْ إليه من الأحكام النافعة لكم، بأن

سبب نزول الآية (184) :

تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده، وأنه يربيهم بما يشاء من الأحكام، ويؤدبهم بما يختار من التكاليف. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على هذه النعم كلها، وإعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها. سبب نزول الآية (184) : أخرج ابن سعد في طبقاته عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فأفطر، وأطعم لكل يوم مسكينا. التفسير والبيان: تستمر الآيات بعد بيان القصاص والوصية في سرد الأحكام الشرعية، فلا حاجة لمعرفة المناسبة بين كل حكم وما يليه. فالله فرض عليكم الصيام، كما فرض على المؤمنين أتباع الملل الأخرى من لدن آدم عليه السّلام، وناداهم بوصف الإيمان المقتضي للامتثال، وأبان أن الصوم فرض على جميع الناس، ترغيبا فيه، وتوضيحا أن الأمور الشاقة إذا عمّت، سهل تحملّها، وشعر المؤدون لها بالراحة والطمأنينة، لقيامها على الحق والعدل والمساواة. ثم إن الصوم مطهرة للنفس، ومرضاة للرّب، ويعدّ النفوس لتقوى الله في السرّ والعلن، ويربي الإرادة، ويعلم الصبر وتحمل المشاق وضبط النفس عند المكاره، وترك الشهوات، لذا قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصوم نصف الصبر» . وإعداد الصوم للتقوى يحدث من نواح مختلفة أهمها ما يأتي: 1- يربي في النفس الخشية من الله تعالى في السرّ والعلن: إذ لا رقيب على الصائم إلا ربه، فإذا شعر بالجوع أو بالعطش الشديد، وشمّ رائحة الطعام

الشهي، أو ترقرق في ناظريه برودة الماء وعذوبته، وأحجم عن تناول المفطر، بدافع إيمانه، وخشية ربّه، حقق معنى الخوف من الله، وإذا ازينت الشهوات له، وترفع عنها، خوفا من انتهاك حرمة الصوم، فقد استحيا من الله، وراقب ربّه. وإذا استبدت الأهواء بالنفس، كان سريع التذكر، قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ، تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف 7/ 201] . ومن أعظم فوائد الصوم الروحية: أن الصائم يحتسب الأجر والثواب عند الله ويصوم لوجه الله وحده. 2- يكسر حدّة الشهوة، ويخفف من تأثيرها وسلطانها، فيعود إلى الاعتدال وهدوء المزاج، كما قال صلّى الله عليه وسلّم واصفا الصوم لمن يتعذر عليه الزواج- فيما رواه الجماعة عن ابن مسعود-: «.. ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ، أي بمثابة الخصاء مضعف للشهوة. وقال أيضا- فيما رواه النسائي عن معاذ-: «الصوم جنّة» أي وقاية من المعاصي. 3- يستدعي الإحساس المرهف والشفقة والرحمة التي تدعوه إلى البذل والعطاء، فهو عند ما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا من البائسين، فيحمله الصيام على مواساتهم، وهذا من أوصاف المؤمنين التي ذكرها الله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح 48/ 29] . 4- فيه تحقيق معنى المساواة بين الأغنياء والفقراء، والأشراف والعامة، في أداء فريضة واحدة، وهذا من فوائد الصيام الاجتماعية، كالحالة السابقة. 5- يعوّد على النظام في المعيشة، وضبط الإرادة فيما بين فترتي السحور والإفطار في وقت واحد، ويحقق الوفر والاقتصاد إذا التزمت آداب الصيام.

6- يجدد البنية، ويقوي الصحة، ويخلص الجسد من الرواسب والتخمرات الضارة، ويريح الأعضاء، ويقوي الذاكرة إذا حزم الإنسان أمره، وتفرغ لعمله الذهني دون أن يشغل نفسه بتذكر المتع الجسدية، ويجمع ذلك كله قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة-: «صوموا تصحوا» . وهذا يكون بعد الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى عادة، بعد أن يتعود الإنسان على الصوم، ويستعلي على حالات الاسترخاء في الفترة الأولى من بدء الصيام. وكل هذه الفوائد الجسدية والروحية والصحية والاجتماعية مشروطة بالاعتدال في تناول وجبات الإفطار والسحور، وإلا أصبح الحال عكسيا، وانقلب الأمر وبالا وعناء وضررا إذا أتخم الإنسان معدته، ولم يعتدل في طعامه وشرابه. وكذلك يشترط في الصوم لتحقيق تلك الغايات عفة اللسان وغضّ البصر والامتناع عن الغيبة والنميمة واللهو الحرام، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي» «1» أي من أجل الله. وربّ صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش. فالإمساك عن المفطرات المعنوية مثل الإمساك عن المفطرات المادية الحسية، سواء بسواء. والصوم محدود في أيام معدودات معينة قليلة وهي شهر في العام كله، ويمر عادة بنحو سريع، لأن أيام رمضان مباركة تفيض بالخير والإحسان، فهو كما قال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن خزيمة عن سلمان-: «أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار» ، وقال أيضا- فيما رواه الطبراني عن ابن مسعود-: «رمضان سيّد الشهور» ، «لو علمت أمتي ما في رمضان من الخير، لتمنت أن يكون السنة كلها» رواه الطبراني وغيره عن أبي مسعود الغفاري.

_ (1) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.

فالمراد من الأيام المعدودات في رأي أكثر المحققين (ابن عباس والحسين وأبي مسلم) : شهر رمضان. وليس الصوم واجبا إلا على المستطيع الصحيح المقيم، أما المسافر والمريض مرضا شديدا يشق معه الصوم، فيباح لهما الإفطار، وعليهما القضاء في أيام أخر من العام، لأن المرض والسفر الطويل وهو الذي يباح فيه قصر الصلاة (وهو 89 كم) مشقة، والمشقة تجلب التيسير، كما قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] . والمعتبر: السفر بسير الدواب المعتادة في الماضي، لا بوسائط النقل والمواصلات السريعة اليوم، وقدره بعضهم بثلاثة أميال عملا بما روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ «1» ، صلى ركعتين» - يريد أنه يقصر الصلاة، فالعبرة بقطع مثل هذه المسافة، لا بالزمن الذي تقطع فيه. وقدر الحنفية المسافة بثلاثة أيام، وقدرها الجمهور بيومين معتدلين، وهي ذهابا ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهي تساوي حوالي 89 كم، عملا بما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» والبريد: أربعة فراسخ. وأكثر الأئمة (مالك وأبي حنيفة والشافعي) على أن الصوم للمسافر أفضل إن لم يشق عليه. ويرى أحمد والأوزاعي أن الفطر أفضل عملا بالرخصة. ويشترط لجواز إفطار المسافر عند بدء السفر: أن يكون السفر في رأي الجمهور (غير الحنابلة) قبل الفجر، فلو أصبح المقيم صائما، فسافر، فلا يفطر، تغليبا لجانب

_ (1) الميل: 1848 م، والفرسخ: 3 أميال أو 5544 م.

الحضر، لأنه الأصل. ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، لكن الأفضل الصيام، خروجا من الخلاف. والذي يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ الهرم والمريض مرضا مزمنا، والحامل والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط، عليه عند الشافعي وأحمد القضاء والفدية: وهي طعام مسكين. فإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما، فعليهما القضاء فقط. فمن تطوع وزاد في الفدية عن طعام مسكين لليوم الواحد، فهو خير له وأكثر ثوابا. والتطوع: بأن يطعم أكثر من مسكين في اليوم، أو يطعم أكثر من القدر الواجب، أو يصوم مع الفدية. وصوم هؤلاء المعذورين خير لهم إن كانوا يعلمون وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، إذا لم يتضرروا، لما روي أن أبا أمامة قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: مرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له» . ثم بيّن الحق تعالى أن هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان المبارك الذي بدئ فيه بإنزال القرآن واستمر نزوله منجّما (مقسطا) في ثلاث وعشرين سنة، الذي هو هداية للناس إلى الصراط المستقيم، مع وضوح آياته دون غموض، وكونها فارقة بين الحق والباطل. وفسّر بعضهم نزول القرآن في شهر رمضان: بنزوله ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وليلة القدر في رمضان هي خير من ألف شهر. والحكمة في إيراد وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ بعد قوله هُدىً لِلنَّاسِ: هي الدلالة على أن الهدى نوعان: هدى بيّن واضح تفهمه العقول العادية لأول وهلة، وهدى لا يدركه إلا خواص الناس، والأول أكثر فائدة. فمن شهد أو حضر منكم الشهر، وهو سليم معافى، لا عذر له من سفر أو

فقه الحياة أو الأحكام:

مرض، فيجب عليه الصيام، لأنه أحد أركان الإسلام الخمسة. ومن لم يشهد الشهر، كسكان البلاد القطبية- التي يتساوى فيها الليل والنهار كل نصف عام، أي يكون الليل فيها نصف سنة في القطب الشمالي، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي، فعليهم أن يقدروا مدة تساوي شهر رمضان بحسب أقرب البلاد المعتدلة إليهم، أو بحسب مكة والمدينة اللتين وقع فيهما التشريع. ثم أعاد الله تأكيد الرخصة في الإفطار مرة ثانية، حتى لا يظن تعميم وجوب الصوم بعد قوله: فَلْيَصُمْهُ وبعد بيان مزايا الصوم وأهميته، لأن الله يريد في كل ما شرع من أحكام، ومنها رخصة الإفطار لذوي الأعذار، أن يحقق اليسر للناس ويدفع عنهم العسر. وأمر أصحاب الأعذار في حالي المرض والسفر ونحوهما بالقضاء أو الفدية، لأنه يريد إكمال عدّة الشهر، ولنكبّر الله ونعظمه ونشكره على نعمه كلها، ومنها إعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت هذه الآيات على أحكام كثيرة، أبيّنها بإيجاز: 1- للصوم فضل عظيم وثواب جسيم، ويكفي في فضله أن الله خصه بالإضافة إليه، كما جاء في الحديث القدسي الذي يخبر به النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ربّه: «يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» ، وتخصيص الصوم بأنه له، مع أن العبادات كلها له، لأمرين ذكرهما القرطبي: أحدهما- أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها، ما لا يمنع منه سائر العبادات.

الثاني- أن الصوم سرّ بين العبد وبين ربّه، لا يظهر إلا له، فصار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر قد يدخله الرياء. 2- الصوم يعدّ النفس للتقوى، لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فهو سبب تقوى الله، لأنه يميت الشهوات، ولأنه كما قال عليه الصلاة والسلام: «الصيام جنّة ووجاء» «1» . 3- يجوز للمريض والمسافر الإفطار في رمضان، ويجب عليهما القضاء في وقت آخر. والمرض المبيح للفطر في رأي أكثر الفقهاء: هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة. والعبرة في ذلك بما يغلب على الظنّ. وهذا الضابط هو الذي يتفق مع حكمة الرخصة في الآية: وهي إرادة اليسر ودفع العسر. وظاهر اللفظ: اعتبار مطلق المرض، بحيث يطلق عليه اسم المرض، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري. وأما السفر المبيح للفطر: فهو الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية، وقدره في رأي الجمهور ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، أو مسيرة يومين معتدلين أو مرحلتين بسير الأثقال ودبيب الأقدام، والبحر كالبر. ودليلهم ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» وقدروها بحوالي 89 كم. وقدر السفر الذي يبيح الترخيص عند الحنفية: هو قدر ثلاث مراحل أو أربع وعشرين فرسخا، أو مسيرة ثلاثة أيام سيرا وسطا، وهو سير الإبل، والأقدام في البر، وسير السفن الشراعية في البحر، ويكتفون بسير معظم اليوم، وقدروه ب 96 كم. واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن» ولا يكون كذلك حتى تكون مدة السفر

_ (1) أي أن الصوم يضعف شهوة الجماع، كما أن الوجاء (الخصاء) يقطعها. [.....]

ثلاثة أيام، لأن الشرع جعل علة امتداد مدة المسح إلى الثلاثة: السفر، والرخص لا تعلم إلا من الشرع. وأيضا ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اعتبار الثلاثة الأيام سفرا، وذلك في حديث ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نهى عن أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» وهو حديث متفق عليه، فيرجح على أخبار رواها أبو سعيد وأبو هريرة مفادها منع المرأة من السفر يومين. وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء صام، وإن شاء أفطر، لأن في الآية إضمارا تقديره: فمن كان منكم مريضا أو على سفر، فأفطر، فعليه عدة من أيام أخر. وروى أبو داود في سننه عن عائشة: أن حمزة الأسلمي سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، هل أصوم على السفر؟ فقال: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت» . وقد ثبت عن جماعة من الصحابة (ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء، وسلمة) عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صام في السفر، وصام الصحابة مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا» . وقال بعض الصحابة (ابن عباس وابن عمر) : الواجب على المسافر والمريض الفطر، وصيام عدة من أيام أخر، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصيام في السفر» ، وردّ الجمهور بأن هذا كلام خرج على حال مخصوصة، وذلك ما رواه شعبة من طريق جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يظلل عليه، والزحام عليه شديد، فقال: «ليس من البرّ الصيام في السفر» ، فمن سمع وذكر الحديث، ذكره مع سببه، وبعضهم اقتصر على ذكر الحديث. وقرر أكثر الأئمة: أن الصوم للمسافر أفضل لمن قوي عليه، لقوله تعالى:

وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي أن صومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه خير لكم من الفدية، لما فيه من مجاهدة النفس وقوة الإيمان ومراقبة الله. وذهب أحمد والأوزاعي وجماعة إلى أن الفطر أفضل، لقول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. واتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية، بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج. واتفقوا على أن المسافر سفر الطاعة كالحج والجهاد وصلة الرحم وطلب المعاش الضروري وسفر التجارات والمباحات: له الإفطار. وأما سفر العاصي فيجوز له الإفطار عند الحنفية، لأن السفر نفسه ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فلا يؤثر على رخصة القصر، ولأنه قد يتوب إذا تذكر نعمة الله عليه بالسماح له بالفطر والقصر وغيرهما. وقال الجمهور غير الحنفية: لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر ونحوها، لما في الرخصة من الإعانة على المحرم، والشرع نهى عن ذلك. 4- دل قوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ على أن المريض أو المسافر واجبه الأصلي الصوم، ويرخص له في الفطر، فإذا أفطر فليقض أياما مكان الأيام التي أفطر فيها، وهذا رأي الجمهور، لأن معنى الآية: من كان منكم مريضا أو مسافرا، فأفطر، فعليه صيام أيام أخر، بعد ما أفطر. وإذا صام أهل البلد تسعة وعشرين، وفي البلد رجل مريض لم يصح، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما.

ويستحب في رأي الجمهور ولا يجب تتابع أيام القضاء، لأن آية فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مطلقة، لم تخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزلت «فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقطت: «متتابعات» . ودلت هذه الآية أيضا على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ إذا شمل الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. فإن جاء رمضان آخر ولم يقض، لزمه في رأي الجمهور كفارة: وهي أن يطعم لكل يوم مسكينا. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، عملا بظاهر الآية: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. ودليل الجمهور ما رواه الدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة فيمن فرّط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، قال: «يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرّط فيه، ويطعم لكل يوم مسكينا» . 5- من أفطر متعمدا أو جامع في نهار رمضان وجب عليه عند الحنفية والمالكية خلافا لغيرهم الكفارة: وهي عتق رقبة مؤمنة عند الجمهور، ولو غير مؤمنة عند الحنفية، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكينا. ولا كفارة بالإفطار أو الجماع في قضاء رمضان. والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة، فمات من علته تلك، أو سافر، فمات في سفره ذلك: أنه لا شيء عليه. ومن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه عنه أحد: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يصوم أحد عن أحد، لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم 53/ 39] وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام 6/ 164] ، ولما خرجه النسائي عن ابن

عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة» . وقال أحمد: يستحب للولي أن يصوم عن الميت إذا مات بعد إمكان القضاء، لأنه أحوط لبراءة ذمة الميت، ويصوم عنه أيضا إذا كان الصوم نذرا، لما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات، وعليه صيام، صام عنه وليه» وهذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك» . 6- ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن آية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ليست بمنسوخة، وأنها محكمة في حق من لا يقدر على الصيام، وفيه ضرر، كالشيخ الفاني والشيخة الفانية، وعليهم الفدية: طعام مسكين. فالناس على ثلاث أحوال: الأصحاء المقيمون، ويلزمهم الصوم عينا في رمضان، والمرضى والمسافرون، ولهم الفطر إن أرادوا، وعليهم إن أفطروا أيام أخر، وقوم لا يقدرون على الصوم، وفيه ضرر، فهؤلاء يفدون. والراجح أن هذه الآية تتناول الحامل والمرضع، سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما أو ولدهما، فقال: أي مرض أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي. وأجمع العلماء على أن الواجب على الشيخ الهرم الفدية ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه، أما الحامل والمرضع، فعليهما القضاء دون الفدية عند الحنفية،

والفدية والقضاء عند الشافعية والحنابلة إن خافتا على ولدهما فقط، والفدية والقضاء على المرضع فقط، لا الحامل عند المالكية. ومقدار الفدية عند أبي حنيفة: نصف صاع (مدان) من برّ، أو صاع من غيره كالتمر أو الشعير، ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن كل يوم عند الجمهور. ومن تطوع بالزيادة على مسكين أو في مقدار الفدية على المسكين، أو بالصيام مع الفدية، فهو خير له. والمد 675 غم، والصاع 2751 غم. 7- دل قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ على أن الصيام في السفر والمرض غير الشاق وغير ذلك خير، والأولى حمله على العموم، لعموم اللفظ كما قال الفخر الرازي، وهو يقتضي الحض على الصوم مطلقا، كما قال القرطبي. 8- امتاز رمضان باختصاصه بالصوم فيه من بين الشهور، لأنه أنزل فيه القرآن، أي ابتدأ إنزاله في رمضان، ولا منافاة بين إنزاله في رمضان، وإنزاله في ليلة القدر والليلة المباركة، لأن هذه الليلة في رمضان. والقرآن: اسم لكلام الله المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهو مشتق من القراءة، وهو بمعنى المقروء، فهو مصدر: قرأ قراءة وقرآنا، فأطلق المصدر وأريد به اسم المفعول، كما في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 17/ 78] أو مشتق من القرآن، لأن آياته قد قرن بعضها ببعض. 9- فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ: هناك قولان في مفعول شَهِدَ. أحدهما- أن مفعول شَهِدَ محذوف، والمعنى: فمن شهد البلد في الشهر، أي لم يكن مسافرا، ويكون الشهر منصوبا على الظرفية. والثاني- أن مفعول شَهِدَ هو الشهر، والتقدير: فمن شهد الشهر

وشاهده بعقله وبمعرفته، فليصمه، هذا.. مع ملاحظة أن خطابات الله جميعا تتوجه إلى المكلفين، فتكون الآية مخصوصة بمن يتأتى تكليفهم. أما الوجه الأول فيعتمد على تقدير محذوف أي إضمار، والمقرر في الأصول: إذا تعارض التخصيص والإضمار، تعين المصير إلى التخصيص. ويرى الجمهور أن الآية عامة في المكلفين، وهي تشمل المسافر والمقيم، غير أن المسافر يترخص بالفطر كالمريض، وعليهما عدة من أيام أخر. ويرى الجمهور أيضا أن شهود أي جزء من أجزاء الشهر يكفي في وجوب الصوم، إلا أن الحنفية رأوا أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أي جزء منه، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء. أما من جنّ في رمضان، فقال المالكية: إنه يقضي ما مضى، ولو جن سنين. وقال غيرهم: إنه لا قضاء عليه لما مضى، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم. ومن أفاق في بعض الشهر يصوم في الأصح لدى الشافعية والحنابلة ما شهد فقط، ولا قضاء عليه لغيره. وأما الصبي يبلغ، والكافر يسلم في بعض رمضان، فقال الجمهور غير الحنابلة: إنهما يصومان ما بقي، وليس عليهما قضاء ما مضى، ولا اليوم الذي حصل فيه البلوغ والإسلام. وقال الحنابلة في الأصح: يلزمهما قضاء اليوم الذي حدث فيه البلوغ والإسلام. وبه يعلم أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر. وشهود الشهر: يكون برؤية الهلال أو بالعلم أنه قد رئي، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم في رأي الجمهور (منهم أئمة المذاهب الأربعة) ، لما رواه ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون، ولا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» ، أي فأكملوا المقدار،

بدليل حديث أبي هريرة عند النسائي: «فأكملوا العدة» . وهذا موافق لظاهر قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة 2/ 189] . وأجاز بعضهم الاعتماد على المراصد والحساب عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت، ولو مع المحافظة على رؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته، للجمع بين ظاهر النص والمراد منه، تحقيقا لاتفاق الأمة في عبادتها، وإبعادها عن الخلاف، ما أمكن الاتفاق وسيلة ومقصدا، لأن العلم مقدم على الظن، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها، ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد «1» . وأفتى علماء السعودية في صفر 1409 هـ بجواز الاعتماد على مكبرات الرؤية في المراصد. 10- هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين؟ للعلماء رأيان: قال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد، لأنها شهادة على هلال، فلا يقبل فيها أقل من اثنين، كالشهادة على هلال شوال وذي الحجة. وقال الجمهور: يقبل قول الواحد العدل، لما روى أبو داود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة، ولا تقبل عند المالكية والشافعية. 11- من رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال: قال الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، وليخف ذلك. وقال مالك وأحمد: الذي يرى هلال رمضان وحده يصوم، لأنه لا ينبغي

_ (1) تفسير المنار: 2/ 150، ط 1972 بمصر.

له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، لأن الناس يتّهمون من يفطر منهم بأنه ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر أمرهم: قد رأينا الهلال. وإذا لم ير الهلال بسبب كسوف الشمس مثلا، كما حدث في رمضان عام 1404 هـ، وصام بعض الناس ثمانية وعشرين يوما، بسبب رؤية هلال شوال، وجب قضاء يوم، إكمالا لعدة الشهر، وهو 29 يوما على الأقل. 12- اختلاف المطالع: قال الجمهور: إذا رئي الهلال في بلد وجب على أهل البلاد الأخرى الصيام، سواء قربت البلاد أو بعدت، توحيدا للصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع. وقال الشافعية: إن قرب البلد فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم، والمسافة بين القريب والبعيد في الأصح لديهم بحسب مسافة القصر (89 كم) . ومثل هذا الرأي لم يعد مقبولا. 13- لا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا، بل هو لليلة التي تأتي، وهو الصحيح. 14- دل قوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل، فهذه الآية دليل على مشروعية التكبير في عيد الفطر. ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثا. ومن العلماء: من يكبّر ويهلّل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وأما وقت التكبير ومدته: فقال أبو حنيفة ومالك: يندب التكبير في عيد الفطر بالخروج من داره إلى المصلى، فإذا انقضت الصلاة، انقضى العيد. وقال الشافعي وأحمد: يندب التكبير في أي وقت عقب الصلاة وفي أي زمن من

غروب شمس ليلة العيد إلى أداء صلاة العيد، أي من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة. 15- ما يفطّر الصائم وما لا يفطره: يفطر الصائم بالأكل والشرب والجماع عمدا بالنص والإجماع، ويفطر أيضا بالدواء، والقيء عمدا، والاستمناء (إخراج المني بغير جماع) ، وإنزال الماء إلى الجوف أثناء المبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتناول الدخان المعروف «التبغ» ، وابتلاع النخامة في رأي الشافعية، وتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمدا، سواء أكان مغذيا أم غير مغذ. ولا يفطر الصائم بالفصد اتفاقا، كما لا يفطر عند الجمهور بالأكل ونحوه ناسيا، ويفطر عند المالكية. ولا يفسد الصوم بالقطرة أو بالحجامة، أو بالحقنة، أو بالاكتحال في العين في رأي الحنفية والشافعية، ويفطّر الاكتحال بكحل يتحقق معه وصوله إلى الحلق في رأي الحنابلة والمالكية، وكذا تفطر الحجامة عندهم إذا ظهر دم. ولا يفسد الصوم بالسواك والمضمضة والاستنشاق من غير مبالغة، ولا بالاغتسال والسباحة. ويفطر عند المالكية بوصول ماء المضمضة والاستنشاق والسواك ولو سهوا أو خطا ولو من غير مبالغة. ولا يفطر إذا غلبه القيء ولم يبتلع منه شيئا، ولا بخلع الضرس ما لم يبتلع شيئا من الدم أو الدواء. ولا بحقنة في إحليل الرجل في رأي الحنفية والمالكية، وأما في إحليل المرأة فيفطر عند الحنفية، وتفطر الحقنة مطلقا عند الشافعية. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج. وأما المجامع ناسيا ففيه أقوال ثلاثة:

أحدها- لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين. والثاني- عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك. والثالث- عليه الأمران وهو المشهور عن أحمد. وتجب الكفارة بالجماع عمدا في نهار رمضان باتفاق الفقهاء، وكذا بالأكل والشرب عمدا عند الحنفية والمالكية، ويجب الإمساك بقية النهار. ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في رأي أكثر العلماء. وتتداخل الكفارة، فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة في رأي الجمهور. واختلف العلماء فيما يجب على المرأة التي يطؤها زوجها في شهر رمضان: فقال المالكية والحنفية والحنابلة: عليها مثل ما على الزوج إن مكنته طائعة، ولا كفارة عليها إن كانت مكرهة. وقال الشافعي: ليس عليها كفارة، وعليها القضاء فقط، سواء طاوعته أو أكرهها. ولا كفارة على من أمنى بالنظر أو التفكير عند الجمهور، وعليه الكفارة عند الحنابلة، ولا يفسد صومه أيضا عند الحنفية.

أحكام الصيام [سورة البقرة (2) الآيات 186 إلى 187] :

أحكام الصيام [سورة البقرة (2) : الآيات 186 الى 187] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) الإعراب: أُجِيبُ إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في فَإِنِّي. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ ليلة: منصوب على الظرف ب أحل. وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير تُبَاشِرُوهُنَّ. البلاغة: الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ كناية عن الجماع، وعدّي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: استعارة، شبّه كل واحد من الزوجين، لاشتماله على صاحبه في الاقتراب والعناق والضم، باللباس المشتمل على لابسه. الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: استعارة، يراد بها تشبيه بياض الصبح بالخيط الأبيض، وسواد الليل بالخيط الأسود، والخيطان مجاز، والتشبيه بالخيطين، لأنهما ضعيفان عند الطلوع. وقال الزمخشري: إنه تشبيه بليغ، لأن قوله: مِنَ الْفَجْرِ أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: «رأيت أسدا» مجاز، فإذا زدت: «من فلان» رجع تشبيها. وقوله:

المفردات اللغوية:

مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للثاني. ويجوز أن تكون مِنَ للتبعيض، لأنه بعض الفجر وأوله (الكشاف: 1/ 258) . المفردات اللغوية: فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم بعلمي، فأخبرهم بذلك فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فليلبوا دعوتي إياهم بالإيمان والطاعة وَلْيُؤْمِنُوا بِي يداوموا على الإيمان بي. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يهتدون. لَيْلَةَ الصِّيامِ ليالي الصوم. الرَّفَثُ الأصل فيه: الفحش من الكلام أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، ثم أطلق على الجماع أو كل ما يريده الرجل من المرأة، لأنه لا يخلو مما ذكر غالبا. هُنَّ لِباسٌ.. كل من الزوجين بمثابة لباس للآخر، لأنه يستر صاحبه، كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور، والتعبير القرآني كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه تَخْتانُونَ تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام. الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ: أول ما يبدو من بياض النهار، كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر. الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: هو ما يمتد من سواد الليل، مختلطا مع بياض النهار، كأنه خيط ممدود مِنَ الْفَجْرِ أي الصادق، بيان للخيط الأبيض، وأما بيان الأسود فهو محذوف أي: من الليل، واكتفى بالأول، لأن بيان أحدهما بيان للثاني. شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ من الفجر إلى اللَّيْلِ أي غروب الشمس، والإتمام: الأداء على وجه التمام. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي نساءكم، وحقيقة المباشرة: مس كلّ بشرة الآخر: أي ظاهر جلده، والمراد به الجماع وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ: الاعتكاف: لغة: اللبث وملازمة الشيء، وشرعا: المكث في المسجد طاعة لله وتقربا إليه. حُدُودُ اللَّهِ مفردها حد: وهو في اللغة: الحاجز بين شيئين، ثم أطلقت على ما شرعه الله لعباده من الأحكام، فإن جاء بعدها: فَلا تَقْرَبُوها فالمراد بها ممنوعاته ومحارمه، وإن جاء بعدها: فَلا تَعْتَدُوها فالمراد بها أحكامه، أي ما حده وقدره، فلا يجوز أن يتعداه الإنسان. وإن أريد بالحدود: الأحكام عامة، فيكون المقصود من قوله: فَلا تَقْرَبُوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير، أو لا تقربوا الحد الحاجز بين حيّز الحق وحيّز الضلال، مثل منع الاقتراب من الحمى في حديث: «فمن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه» .

سبب نزول الآية (186) :

سبب نزول الآية (186) : أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أقريب ربنا، فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فنزلت الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي.. ورويت أسباب أخرى، سأذكرها في التفسير والبيان. سبب نزول الآية (187) : أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا، امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: قيس بن صرمة صلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح مجهودا، وكان عمر أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فأنزل الله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ.. إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام، كان كل إنسان يجتهد فيما يراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية. سبب زيادة مِنَ الْفَجْرِ: قال الزمخشري: لو لم يذكر مِنَ الْفَجْرِ لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد مِنَ الْفَجْرِ فكان تشبيها بليغا، وخرج من أن يكون استعارة. فإن قلت: فكيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان، حتى قال: عمدت إلى عقالين: أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فكنت أقوم من الليل، فأنظر إليهما، فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت، غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته فضحك، وقال: «إن كان وسادك لعريضا» .

التفسير والبيان:

وروي: «إنك لعريض القفا، إنما ذاك بياض النهار، وسواد الليل» . قلت: غفل عن البيان، ولذاك عرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. فإن قلت: فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي: «أنها نزلت ولم ينزل: من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب، حتى يتبينا له، فنزل بعد ذلك: من الفجر، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار» «1» . وكيف جاز تأخير البيان، وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة، ولا بتشبيه، قبل ذكر: الفجر، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة، وهي غير مرادة؟!. قلت: أما من لا يجوز تأخير البيان، وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم، فلم يصح عندهم هذا الحديث. وأما من يجوزه، فيقول: ليس بعبث، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله، إذا استوضح المراد منه «2» . التفسير والبيان: هذه الآيات تذكير للعباد وتعليم للمؤمنين ما يراعونه في عبادة الصيام وغيرها من الطاعة والإخلاص والآداب والأحكام، والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء الذي يعدّهم للهدى والرشاد. وقال البيضاوي في وجه الربط بين الآيات: واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير

_ (1) رواه البخاري عن ابن أبي مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن ابن أبي مريم. (2) الكشاف: 1/ 258

والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيدا له وحثا عليه. وقد روي أن سبب نزول الآية: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم سمع المسلمين يدعون الله بصوت مرتفع في غزوة خيبر، فقال لهم: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» . وروي أيضا عن قتادة: أن الصحابة قالوا: كيف ندعوا ربنا يا نبي الله؟ فأنزل الله هذه الآية. وروي كذلك أنه: لما نزلت آية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، فهموا منها تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا، وندموا، وتابوا، وسألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هل يقبل الله تعالى توبتنا؟ فنزلت. وليس المراد بالقرب هنا قرب المكان، بل المراد: القرب بالعلم وما تقتضيه إجابة الدعاء. ويرى السلفيون: أن ما ذكر في القرآن والسنة من قرب الله ومعيّته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء. ومعنى الآية (186) : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي أي عن شأن من شؤون ذاتي، وهي جهة القرب أو البعد، فإني قريب منهم، أي أعلم أحوالهم، وأسمع أقوالهم، وأرى أعمالهم، وهو المراد بالقرب في آية أخرى مماثلة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق 50/ 16] فليس بيني وبين أحد حجاب، وأجيب دعوة من يدعوني مخلصا لي، دون وسيط، وقرن دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله تعالى. وإجابة الدعاء تشمل الهداية للأسباب كتيسير سبل الرزق والشفاء والنجاح، وتحقيق النتائج المترتبة على الأسباب بالتوفيق والرعاية.

فقه الحياة أو الأحكام:

وتتطلب إجابة الدعاء: الاستجابة لأوامر الله بالإيمان الصحيح، والطاعة وإقامة العبادات النافعة للعباد من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها، وحينئذ يجازيهم الله على عملهم أحسن الجزاء. وإذا صدرت الأعمال الخالصة لله مقترنة بالإيمان، كانت سبيلا للرشاد والاهتداء إلى الخير الشامل للدنيا والآخرة، لأنهم إن أجابوا ما دعاهم إليه الله، أجابهم إلى ما يطلبون. والاستجابة هنا: الاستسلام والانقياد. والإيمان: الإذعان القلبي. وبما أن كلمة «لعل» تفيد الرجاء، وذلك مستحيل على الله، لاستعلائه واستغنائه، فيكون المراد بها حيث وردت في القرآن: راجين بعملكم الرشاد، أو بمعنى التعليل، أي لترشدوا، أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون. قال ابن تيمية: وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطّلع إليهم، فدخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه. وفي الصحيح: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» . ومعنى قوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ: أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم. فقه الحياة أو الأحكام: قال ابن كثير: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة» فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر، دعا أهله وولده ودعا. ورواه ابن ماجه بلفظ: «إن للصائم عند فطرة دعوة ما ترد» وكان عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر:

هل الدعاء يفيد؟ :

«اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي» وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك، ولو بعد حين» «1» . هل الدعاء يفيد؟ زعم بعضهم أن الدعاء لا فائدة فيه، لأن الأمر المدعو فيه إن كان في علم الله واقعا، فهو لا بد واقع، وإن لم يكن واقعا فهو غير واقع لا محالة. وقرر الجمهور أن الدعاء أهم مقامات العبودية، لقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] فالله طلبه منا، مما يدل على فضله، وبين في آية أخرى أنه تعالى إذا لم يسأل غضب، فقال: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام 6/ 43] . وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء مخ العبادة» «2» وقال أيضا: «الدعاء هو العبادة» «3» وقرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] وقال أيضا: «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين، ونور السموات والأرض» «4» . وهناك أمور معلقة على شروط وأسباب في تقدير الله، منها الدعاء. والدعاء عبادة، لأنه معرفة، إذ يتطلب أن يكون الداعي عارفا بربه تمام المعرفة، وأنه القادر على كل شيء، والقاهر فوق عباده.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 219 (2) رواه الترمذي عن أنس، لكنه ضعيف. (3) رواه أحمد وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير. (4) رواه أبو يعلى والحاكم عن علي، وهو صحيح.

وهذه الآية دليل قاطع على فائدة الدعاء، ومعناها كما بينا: إذا سألوك عن المعبود، فأخبرهم أنه قريب، يثيب على الطاعة، ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. والمراد بقوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أي بالإجابة، وقيل: بالعلم. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أي أقبل عبادة من عبدني، ومنها الدعاء، والدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. بدليل الأحاديث السابقة. وكان خالد الرّبعي يقول: «عجبت لهذه الأمة في ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. لكن إجابة الدعاء مقيدة بقيود بالنسبة للعبد، منها: عدم الاعتداء بتجاوز حدود الله، فكل مصرّ على كبيرة عالما بها أو جاهلا، فهو معتد، وقد أخبر تعالى أنه لا يحب المعتدين، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف 7/ 55] وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو سعيد الخدري: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخر له، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها» . وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: «لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر «1» عند ذلك، ويدع الدعاء» . ومنها أكل الحرام وما في معناه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «الرجل يطيل

_ (1) أي ينقطع عن الدعاء ويملّه.

السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء، يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟» وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته. وإجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي: أن يكون عالما بأن لا قادر إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخّرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يملّ من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه: أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما جاء في الحديث السابق: «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» . ويدخل في الإثم جميع الذنوب، ويدخل في الرحم: جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبد الله التّستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. ومن شرائط الدعاء كما ذكر ابن عطاء: أربع: أولها- حفظ القلب عند الوحدة. ثانيها- وحفظ اللسان مع الخلق. ثالثها- وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحلّ. رابعها- وحفظ البطن من الحرام. ومواقيت الدعاء: وقت الأسحار، والفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار، وحالة السفر

والمرض، وعند نزول المطر، والصّف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الآثار. فإذا تحققت شروط الدعاء وقيوده استجيب، قال ابن عباس: «كل عبد دعا استجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا، ذخر له» . أما آية الصيام (187) فأرشدت إلى ما يأتي: 1- إباحة الجماع في أثناء الليل، وحرمته كالأكل والشرب أثناء النهار: وقد كان الجماع حراما بعد الإفطار والنوم، ثم نسخ، كما بينا في أسباب النزول. ومحظورات الصيام في الآية هي الأكل والشرب والجماع، أما القبلة والجسّة ونحوها فلا تفطر، لكن ذلك في رأي المالكية والشافعية: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن البصري والشافعي: إن قبّل فأمنى، فعليه القضاء ولا كفارة. ولو قبل فأمذى، لم يكن عليه شيء. وقال أحمد: من قبّل فأمذى أو أمنى، فعليه القضاء، ولا كفارة عليه، إلا من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وأوجب مالك عليه القضاء والكفارة، ولا كفارة على من أنزل بالنظر عند الجمهور، وعليه الكفارة عند الحنابلة، ولا يفسد صومه أيضا عند الحنفية. 2- وجوب الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بشرط النية قبل الفجر في رأي الجمهور غير الحنفية، لأن الصيام من جملة العبادات، فلا يصح إلا بنية «1» . ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، لكن لا يخرج من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقال الحنفية: تبييت

_ (1) وقال الزمخشري: قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي صوم الوصال (الكشاف: 1/ 258) .

النية غير لازم، لأن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ يدل على ذلك، لأن «ثم» يفيد التراخي. 3- قرر جمهور العلماء صحة صوم من طلع عليه الفجر، وهو جنب، قال ابن العربي: «وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام، ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا، فإن صومه صحيح» «1» ، لأن الجنابة لا تؤثر في صحة الصوم، للزومها الصوم للضرورة، لأنه يجوز له الوطء قبل الفجر، ولأن آية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ترشد إلى احتمال بقاء الشخص جنبا حتى مطلع الفجر، فيصاحب جزءا من الصوم، وهو جنب، لأن حَتَّى غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد، ويحرم عليه الأكل، إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. لكن الغسل فرض للصلاة، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة 5/ 6] . 4- الحائض إذا طهرت: قال الجمهور: إذا طهرت الحائض قبل الفجر، وتركت التطهر حتى تصبح، وجب الصوم عليها وأجزأ، سواء تركت التطهر عمدا أو سهوا كالجنب. وقال الأوزاعي: تقضي لأنها فرّطت في الاغتسال. وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان، فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أم بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها. 5- الحجامة لا تفطر الصائم، لأنه صلّى الله عليه وسلّم احتجم عام حجة الوداع وهو محرم

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 94 وما بعدها.

صائم ، فيكون ذلك ناسخا لحديث شداد بن أوس عام فتح مكة: «أفطر الحاجم والمحجوم» . 6- إن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره، فأفطر، ثم ظهرت الشمس، فعليه القضاء في رأي أكثر العلماء. ومثله لو أذّن المؤذن خطأ قبل الغروب، أو ضرب مدفع الإفطار قبل الغروب ولو بدقيقة، فأفطر بناء عليهما، وجب القضاء. وإن أفطر وهو شاك في غروب الشمس، كفّر مع القضاء في رأي مالك، إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك في طلوع الفجر، لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه، فعليه القضاء كالناسي، في مذهب مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا شيء عليه حتى يتبين له طلوع الفجر. فإن تبين طلوع الفجر وجب عليه القضاء باتفاق أئمة المذاهب إذ «لا عبرة بالظن البين خطؤه» . ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غمّ عليه الهلال في أول ليلة من رمضان، ثم بان أنه من رمضان. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان، ثم بان خلافه. قال ابن كثير: وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب، ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحث على السحور، ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسحروا فإن في السّحور بركة» . والمقصود بالفجر: الفجر الصادق، لا الفجر الكاذب، بدليل حديث عائشة في الصحيحين: «لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» - لفظ

البخاري، وحديث قيس بن طلق عن أبيه «ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكن المعترض الأحمر» . وفي حديث مرسل جيد: «الفجر فجران: فالذي كأنه ذنب السّرحان- أي الذئب- لا يحرم شيئا، وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام» . 7- دل قول تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ على النهي عن صوم الوصال، إذ الليل غاية الصيام. ويؤكد المنع منه ما رواه البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والوصال، إياكم والوصال» فيكره الوصال في رأي جمهور العلماء. وحرمه بعضهم لما فيه من مخالفة ظاهر القرآن والتشبه بأهل الكتاب. أخرج مسلم وأبو داود: «إن فصل «1» ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السّحر» . وأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: لست كهيئتكم، إني أبيت، لي مطعم يطعمني وساق يسقيني» وهذا يدل على إباحة تأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. قال القرطبي: ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات «2» . ودلت هذه الآية أيضا على أن وقت الإفطار عند غروب الشمس، بدليل ما جاء في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم» .

_ (1) بمعنى الفاصل. (2) تفسير القرطبي: 2/ 330

وقد فهم الحنفية من هذه الآية لزوم إتمام ما شرع فيه من صوم التطوع، لأن لفظ الصيام عام يتناول كل صوم، فكل صوم شرع فيه، لزمه إتمامه، لأن الله سبحانه أمر بإتمام الصوم إلى الليل، والأمر للوجوب، فإن لم يتم لزمه قضاؤه. وهكذا الحكم في جميع النوافل من صلاة وحج وصيام، يجب إتمامها بالشروع فيها، وعليه إعادتها مطلقا، سواء أكان معذورا أم غير معذور. ودليلهم قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد 47/ 33] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فوجب عليه عدم إبطاله، فإذا بطل أو أبطله، فقد ترك واجبا، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته. وفصل المالكية فقالوا: إن أبطله، فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده، فلا قضاء عليه. وقال الشافعية والحنابلة: إن أفسد ما دخل فيه من تطوع، فلا قضاء عليه إلا في الحج النفل عند الحنابلة، فيجب إتمامه. ودليلهم قوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة 9/ 91] وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصائم المتطوع أمير نفسه» . 8- ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود والدارقطني عن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء» . ويستحب الدعاء بعد الإفطار، لما روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر قال: «اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا، إنك أنت السميع العليم» وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» . ويندب إفطار المسلم، لما رواه ابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني قال:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من فطر صائما، كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» . 9- ويستحب صيام ستة أيام من شوال، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان له كصيام الدهر» . وكره المالكية اتصالها برمضان. 10- الجماع يفسد الاعتكاف، لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. أما مباشرة الزوجة من غير جماع: فإن قصد بها التلذّذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجّل (تمشط) رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معتكف، وكانت لا محالة تمسّ بدنه بيدها. فدل ذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة. وهو قول عطاء والشافعي وابن المنذر. أما دواعي الجماع كالقبلة والمباشرة وإن لم ينزل فهي حرام وتفسد الاعتكاف عند المالكية، ولا تفسده عند الجمهور، لكن قال الشافعية: يفسد إن أنزل المني بحسب المعتاد له، وقال غيرهم: يفسد الاعتكاف مطلقا بالإنزال في حال المباشرة بشهوة كالقبلة واللمس والتفخيذ. 11- يسن الاعتكاف في المسجد، وهو في اللغة: الملازمة، وفي الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وإنما هو قربة من القرب، ونافلة من النوافل، عمل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأزواجه. ويلزم بالنذر. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقوله تعالى: فِي الْمَساجِدِ. وأقل الاعتكاف عند مالك يوم وليلة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: أقله لحظة، ولا حدّ لأكثره. ولا يشترط له عندهم الصوم، وجعل

أكل الأموال بالباطل [سورة البقرة (2) آية 188] :

المالكية الصوم شرطا مطلقا، وشرطه الحنفية في الصوم المنذور فقط دون غيره من التطوع، ودليل المشترطين حديث ضعيف رواه الدارقطني والبيهقي وهو: «لا اعتكاف إلا بصوم» . وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بدّ له منه، لما روى الأئمة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» تريد الغائط والبول. واستحب مالك وأحمد لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد، حتى يغدو منه إلى المصلى. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غربت الشمس. 12- يجب التزام أحكام الله من أوامر ونواه، ومنها المباشرة في الاعتكاف، فهي حدود الله، وسميت بذلك لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سمي الإحداد في العدة، لأن المعتدة تمتنع من الزينة. أكل الأموال بالباطل [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) الإعراب: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ: وَتُدْلُوا إما مجزوم عطفا على قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا فكأنه قال: «ولا تدلوا» ، وإما منصوب على تقدير: «أن» بعد الواو التي وقعت جوابا للنهي وهي بمعنى الجمع، فكأنه يقول: لا تجمعوا بين أن تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وأن تدلوا بها إلى الحكام.

المفردات اللغوية:

وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في لِتَأْكُلُوا. المفردات اللغوية: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ أي يأكل بعضكم مال بعض بغير وجه مشروع، والمراد بالأكل: الأخذ والاستيلاء، وعبر به، لأن المقصود الأعظم من المال هو الأكل. وأكل المال بالباطل له وجهان: الأول- أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب ونحو ذلك. والثاني- أخذه من جهة محظورة كالقمار، وأجرة الغناء، ونحو ذلك من سائر الوجوه التي حرمها الشرع. وقد انتظمت الآية تحريم كل هذه الوجوه. والباطل: في اللغة: الذاهب أو الزائل، والمراد به هنا الحرام شرعا كالسرقة والغصب. ويشمل كل ما أخذ دون مقابل، أو دون رضا من صاحبه، أو أنفق في غير وجه حقيقي نافع. وَتُدْلُوا تلقوا بالأموال إلى الحكام رشوة للوصول إلى الحكم القضائي لصالحكم. فَرِيقاً الفريق من الشيء: الجملة والطائفة منه. بِالْإِثْمِ أي متلبسين بالإثم، أي الظلم والتعدي: وهو شهادة الزور أو اليمين الكاذبة الفاجرة أو نحوها، وسمي ذلك إثما، لأن الإثم يتعلق بفاعله. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم مبطلون آثمون، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية. سبب النزول: قال مقاتل بن حيان: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عبدان بن أشوع الحضرمي، وذلك أنهما اختصما إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أرض، وكان امرؤ القيس هو المطلوب (المدعى عليه) ، وعبدان هو الطالب (المدعي) ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحكم عبدان في أرضه، ولم يخاصمه «1» . وقال سعيد بن جبير: إن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي، اختصما في أرض، وأراده امرؤ القيس أن يحلف، ففيه نزلت: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.

_ (1) البحر المحيط: 2/ 55

المناسبة:

المناسبة: مناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام، فحبس نفسه عمّا تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة للمرأة في النهار، ثم حبس نفسه عن الممنوعات في الصيام، جدير به ألا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة، فنهي عن أكل الحرام المؤدي إلى عدم قبول صيامه. التفسير والبيان: أبان الله تعالى في آيات الصيام حلّ أكل الإنسان من ماله، وناسب هنا أن يذكر حكم أكل مال الغير. نهانا الله تعالى أن يأكل بعضنا أموال بعض بغير وجه مشروع، وأضاف كلمة أَمْوالِ إلى الجماعة إشعارا بأن المال في الحقيقة مال الأمة أو الجماعة، فهي أمة واحدة متكافلة، وتنبيها إلى أن احترام وحفظ مال غيرك احترام وحفظ لمالك. فيكون التعدي على مال الآخرين جناية على الأمة التي هو فرد منها وعضو فيها. وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي، لأن كل واحد منهي ومنهي عنه. والأكل بالباطل: يشمل كل ما أخذ بغير وجه الحق، كالرّبا والقمار، لأنه أخذ بدون مقابل، والرشوة والدفاع بالباطل، لأنهما إعانة على الظلم، والصدقة على القادر على الكسب، لأنها إذلال له، ولا تحل للآخذ إذا كان غير مضطر إليه، والسرقة والغصب، لأنهما اعتداء على مال الغير، سواء أكان غصب مال عيني أم غصب المنافع، أم التعدي على منفعة الآخرين، كالتسخير بدون مقابل أو الإنقاص من الأجر، وأكل مال اليتيم ظلما، وأجور الرقص والغناء، ومهور البغايا، ومقابل التمائم والعزائم وختمات القرآن، والمأخوذ غشا واحتيالا وزورا

وبهتانا، ونحو ذلك من أموال السحت والحرام، التي تؤدي إلى النار، لأن كل جسم نبت من حرام فالنار أولى به. وقد جاء النهي عن أكل الأموال بالباطل في آيات أخرى، منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء 4/ 29] ، ومنها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ... [النساء 4/ 10] . ومعنى وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ: ألا تلقوا بالأموال إلى الحكام رشوة لهم، لأخذ شيء من أموال الناس بالإثم كاليمين الكاذبة الفاجرة أو شهادة الزور، أو نحو ذلك من وسائط الوصول إلى الحرام. وتشمل هذه الآية وجهين: الأول- تقديم الأموال رشوة للحكام، ليقضوا لهم بالباطل وأخذ حق الغير. الثاني- رفع القضايا للمحاكم، اعتمادا على الحجة الباطلة، وتزييف الحقائق، وشهادة الزور، واليمين الغموس. وهذا ما حذر منه النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة، قالت: «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء أخرى» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» ، فبكى الخصمان، وقال كل واحد منهما: أنا حلّ لصاحبي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اذهبا فتوخّيا، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» «1» .

_ (1) ألحن: أفطن وأعرف وأقدر عليها من صاحبه. والتوخي: قصد الحق، والاستهام: الاقتراع، أي اقصدا الحق في القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من النصيب أو السهم. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: منعت هذه الآية جميع أفراد الأمة المحمدية من أن يأكل بعضهم مال بعض بغير حق، ويشمل ذلك القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس المالك، أو حرّمته الشريعة وإن أداه الإنسان برضاه، كمهر البغي (الزانية) وحلوان الكاهن «1» وأثمان الخمور والخنازير وغيرها من وجوه اللهو الحرام. ومن الأكل بالباطل: أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالآية صريحة في أن الإثم على من أكل، وهو يعلم أنه ظالم في الأكل، وأما غيره فلا إثم عليه. والحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، كما دلّ حديث أم سلمة المتقدم، وهو الموافق للواقع. لكن مع ذلك ظهر خلاف في الموضوع بين الفقهاء: فقال أبو حنيفة: ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ، ظاهرا وباطنا، لأن مهمته القضاء بالحق، فإذا حكم الحاكم ببينة بعقد أو فسخ عقد، فحكمه نافذ، ويكون كعقد عقداه ابتداء، وإن كان الشهود شهود زور. مثل أن يدعي رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على ادعائه شاهدي زور، فقضى القاضي بعقد الزواج بينهما، حلّ للرجل الاستمتاع بها، ولو قضى القاضي بالطلاق، فرّق بينهما، وإن كان الرجل منكرا. ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين: 1- ألا يعلم بكون الشهود زورا.

_ (1) الكهانة: ادعاء معرفة الغيب أو التنجيم، والعرافة: ادعاء معرفة الماضي والمستقبل، والمقصود النهي عن الأمرين، لأنهما ادعاء العلم بالغيب.

2- وأن يكون من الأمور التي له فيها صلاحية الإنشاء. وقد قضى علي كرّم الله وجهه بما يؤيد هذا الرأي، حيث جاءه رجل ادعى زواجا على امرأة وهي تنكر، وجاء بشاهدين، فقالت: إني لم أتزوجه، فقال لها: زوجك الشاهدان. وكذلك قصة لعان هلال بن أمية مع امرأته، وقضى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالفرقة بينهما، وكان ذلك بعد أن قال: «إن جاء الولد على صفة كذا فهو لهلال. وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به على الصفة المكروهة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من الأيمان، لكان لي ولها شأن» فقصة اللعان تدل على أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه، لحدّها وما فرّق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه» . وقال جمهور العلماء: ينفذ حكم القاضي ظاهرا لا باطنا، في المال وغيره من أحكام الزواج والطلاق والجنايات، فلا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال، ولا ينشئ الحقوق، وإنما يظهرها، ويكشف عنها في الوقائع، بدليل حديث أم سلمة المتقدم، الذي أخذت منه القاعدة التالية: «نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر» . وهذا هو الحق بنحو عام، إلا ما خص منه بنص كاللعان. وعلى أي حال، لا يجوز لمؤمن أن يلجأ إلى المحاكم، معتمدا على مهارة وكلاء الدعاوي (المحامين) ، وهو يعلم أنه مبطل في ادعائه. ولا يحل لمؤمن أن يأخذ مال أخيه أو غير حقه، وإن قضى له به القاضي، لأن القاضي بشر معذور يقضي بالظاهر، وحكمه لا يغير الواقع، وإنما الذي يجب أن ينظر إليه هو الحساب الحق العدل أمام الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية،

التوقيت بالشهر القمري وحقيقة البر [سورة البقرة (2) آية 189] :

ويجزي كل إنسان بما عمل، فهو الذي تجب مراقبته في السرّ والعلن، وهو الذي يجب أن يخشاه المسلم في الظاهر والباطن. وإن تقديم المال رشوة إلى الحكام، تضييع للأموال وإهدار لها وإتلاف. فلا يصح لمؤمن أن يصانع بأمواله الحكام ويرشوهم ليقضوا له على أكثر من حقه أو غير حقه. واتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم «مال» قل أو كثر: أنه يفسّق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. التوقيت بالشهر القمري وحقيقة البر [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) الإعراب: هِيَ مَواقِيتُ مبتدأ وخبر. الْبِرُّ اسم لَيْسَ مرفوع، وجملة: بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ خبرها. وَلكِنَّ الْبِرَّ اسم لكِنَّ منصوب، وخبرها محذوف وتقديره: برّ من اتقى. البلاغة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ هذا يسمى في البلاغة «الأسلوب الحكيم» فقد سألوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن الهلال، لم يبدو صغيرا ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟ فصرفهم إلى بيان الحكمة من الأهلة، فهي الأولى بالسؤال عنها. إذ من المعلوم أن كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا عن حكمة بالغة ومصلحة لعبادة، فدعوا السؤال عن أشكال القمر نقصا وتماما، وانظروا في أمر ليس من البر، وأنتم تحسبونه برّا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الْأَهِلَّةِ جمع هلال، وهو القمر، لم يبدو دقيقا في ليلتين أو ثلاث من أول كل شهر، ثم يزيد حتى يمتلئ نورا، ثم يعود كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس. مَواقِيتُ جمع ميقات، وهو ما يعرف به الوقت أي الزمن المقدر المعين. فبالأهلة يعرف الناس أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم وصيامهم وإفطارهم، وأوقات صلواتهم، وزمان الحج، فيعلم بالأهلة وقته أيضا، وهو من عطف الخاص على العام. وإنما سمي هلالا، لظهوره بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج، لظهور الصوت بالتلبية، أو لأن الناس عند ظهور الهلال يرفعون أصواتهم بذكره عند رؤيته. ويسمى هلالا لليلتين أو لثلاث من الشهر، ثم يسمى قمرا. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها في الإحرام، بأن تنقبوا فيها نقبا تدخلون منه وتخرجون، وتتركوا باب البيت، وكانوا يفعلون ذلك، ويزعمونه برّا. وَلكِنَّ الْبِرَّ ذا البر. مَنِ اتَّقى الله بترك مخالفته، والبر: التقوى. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها في الإحرام كغيره. تُفْلِحُونَ تفوزون. سبب النزول: قال ابن عباس: إن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم «1» - وكانا من الأنصار- قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ويعظم، ثم لا يزال ينقص ويدقّ، حتى يعود كما كان، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية. ويروى أيضا أن اليهود سألت عن الأهلة. وقال البراء في سبب نزول: وَلَيْسَ الْبِرُّ..: كانت الأنصار إذا حجّوا، فجاءوا، لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل، فدخل من قبل الباب، فكأنه عيّر بذلك، فنزلت هذه الآية. رواه البخاري ومسلم.

_ (1) كتبها بعضهم: غنيمة.

المناسبة:

وقال المفسرون: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة، لم يدخل حائطا (بستانا) ولا بيتا ولا دارا من بابه، فإن كان من أهل المدن نقب نقبا في ظهر بيته، منه يدخل ومنه يخرج، أو يتخذ سلما فيصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل من الباب، حتى يحلّ من إحرامه، ويرون ذلك ذمّا، إلا أن يكون من الحمس «1» : وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضير بن معاوية، سمّوا حمسا لشدتهم في دينهم. قالوا: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجل من الأنصار وهو قطبة بن عامر الأنصاري على إثره من الباب وهو محرم، فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم دخلت من الباب وأنت محرم؟» فقال: رأيتك دخلت من الباب، فدخلت على إثرك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أحمسيّ» ، قال الرجل: إن كنت أحمسيّا فإني أحمسيّ، ديننا واحد، رضيت بهديك وسمتك ودينك، فأنزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر، وهذا القول هو أصح الأقوال. المناسبة: هذه الآية تكملة لأحكام الصيام، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال، كما جاء في الحديث الثابت: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» «2» . ولم يذكر في الآية تحديد المسؤول عنه في الأهلة، أهي حقائقها أم أحوالها؟ لكن الجواب ووروده بقوله تعالى: قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مشعر بأن السؤال عن الحكمة في تغيرها، وأيده الخبر في سبب النزول.

_ (1) الحمس: جمع أحمس، من الحماسة: وهي الشدة، والصلابة، لتشددهم في دينهم. (2) البحر المحيط: 2/ 61

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يسألونك يا محمد عن سبب اختلاف حجم الأهلة نقصا وإتماما، وهذا لا فائدة بالسؤال عنه، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث معلما لعلوم الفلك وأحوال النجوم، وإنما الأولى أن يوجه السؤال عن الحكمة أو الغاية من الأهلة، فأجبهم عن ذلك، بأن الأهلة معالم للتوقيت والحساب في شؤون الزراعة والتجارة وآجال العقود والديون، ومعالم أيضا لتوقيت العبادات من صوم وإفطار وصلاة وحج وعدة وغير ذلك. والتوقيت بالشهر القمري والسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب. والمواقيت جمع ميقات بمعنى الوقت، كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم: الميقات: منتهى الوقت، كما في قوله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف 7/ 142] ، والهلال ميقات الشهر، ومواضع الإحرام: مواقيت، لأنها التي ينتهي عندها الحل. ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه، لإبطال عادة الجاهلية: وهي الامتناع بعد الإحرام بالحج أو بالعمرة من دخول البيوت من أبوابها، وإنما كانوا يدخلونها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر، أو من نقب في ظهر البيت إذا كانوا من أهل المدر، زاعمين أنه من البرّ، فقيل لهم: ليس البرّ هذا، وليس بقربة إلى الله تعالى، وذلك خطأ، وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والتّحلي بالفضائل، والتّخلي عن المعاصي والرذائل، والخوف من الله ومن عقابه. فأتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله في كل شيء، رجاء أن تكونوا من المفلحين في أعمالكم، فالمتقي في رشاد، والعاصي في ضلال، كما قال الله تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق 65/ 4] ،فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس 10/ 32] . ويلاحظ أن أبا بكر الجصاص الرازي قال: وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، لعموم اللفظ في سائر الأهلّة، أنها مواقيت للحجّ، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج، فوجب أن يكون المراد الإحرام «1» . وهو استدلال غير ظاهر، لأن الآية في بيان الحكمة في تغيير الأهلّة بالزيادة والنّقص: وهي أن يوقّت الناس بها في معاملاتهم، وعباداتهم، وحجّهم، وليس الكلام في بيان ما يكون في الشهر من العبادات وغيرها. وجاءت السنّة القولية مبينة وقت الإحرام بالحج والعمرة، ودلّ قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ على أن وقت الحج شهران وبعض الثالث. فقه الحياة أو الأحكام: الإسلام دين الموضوعية والحياة والواقع النافع، فهو ينبذ الشكليات والمظاهر والأوضاع التي لا نفع فيها، ويوجه الناس إلى الاعتناء بما ينفعهم ويعود عليهم بالخير والمصلحة. لذا أبان الله تعالى في آية سابقة بمناسبة تحويل القبلة أن البرّ ليس هو بالاتجاه نحو المشارق والمغارب، وإنما البرّ هو الإحسان والتقوى والعمل الصالح. ونبّه في هذه الآية إلى الحكمة من زيادة القمر ونقصانه، وهي الاستفادة من الهلال في ضبط الحساب وتوقيت الزمان ومعرفة الآجال والمعاملات والأيمان، والحج، وأنواع عدة المرأة (العدد) ، والصوم والفطر، ومدّة الحمل، والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً،

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 254

لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء 17/ 12] ، وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] ، وإحصاء الأهلّة شهريا أيسر من إحصاء الأيام. وسمّي الشهر شهرا، لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية، ويدلون عليه. ويؤيد الآيات أحاديث، منها ما رواه عبد الرزاق والحاكم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جعل الله الأهلّة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم، فعدوا ثلاثين يوما» . والعلم بالآجال أو المدد أمر مشروط في كل العقود كالإجارة والبيع بثمن إلى أجل معلوم، والسّلم والمساقاة والمزارعة ونحوها. وبهذا يرد على الظاهرية الذين قالوا: تجوز المساقاة إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير توقيت. ويجاب عنه: بأن هذا لا دليل فيه، لأنه عليه الصلاة والسلام قال لليهود: «أقركم فيها ما أقركم الله» ، وهذه خصوصية له، لا يقاس عليه غيره، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه. وأجاز الجمهور البيع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء ونحوه، لأن الأجل معروف، وتأخره يسيرا متسامح فيه، ولم يجز الشافعي ذلك للجهل بالأجل. وقد أفرد الله الحج بالذكر، لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز فيه التأجيل أو النسيء عن وقته، بخلاف ما كان عليه العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدّل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم. واستدل مالك وأبو حنيفة رحمهما الله بهذه الآية على أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج، لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصحّ أن يحرم

قواعد القتال في سبيل الله [سورة البقرة (2) الآيات 190 إلى 195] :

في جميعها بالحج. وخالف الشافعي في ذلك لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة 2/ 197] ، ولأنّ معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: هذه السلعة لخالد وعمر، أي بعضها لخالد وبعضها لعمر، ولا يجوز أن يقال: جميعها للأول وجميعها للثاني. وفي هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة، ولا ندب إليه، لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب، فدخول الدار من ظهرها لا من بابها ليس قربة يثاب عليها الشخص. وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رجلا اسمه أبو إسرائيل عن القيام في الشمس، وقال: «مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» «1» . وأكّد الله تعالى أوامره ونواهيه في كثير من الآيات بالأمر بتقوى الله للوصول إلى الفلاح، والمعنى: اتقوا الله، فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه، لتفلحوا غدا أو رجاء أن تكونوا من المفلحين إذا وقفتم بين يديه، فيجازيكم على التمام والكمال. قواعد القتال في سبيل الله [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

_ (1) رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس.

لبلاغة:

لبلاغة: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فيه ما يسمى بحذف الإيجاز، تقديره: هتك حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ سمي جزاء العدوان عدوانا من قبيل «المشاكلة» : وهي الاتفاق في اللفظ، مع الاختلاف في المعنى، مثل قوله تعالى أيضا: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] ، وقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال 8/ 30] ، تقول العرب: ظلمني فلان فظلمته، أي جازيته بظلمه. ومثل: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة 2/ 193] سمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا. المفردات اللغوية: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دينه، لأنه طريق إلى مرضاته، فالقتال في سبيل الله: هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. يُقاتِلُونَكُمْ أي يتوقع منهم قتالكم. وَلا تَعْتَدُوا أي لا تبدءوهم بالقتال. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين ما حدّ لهم من الشرائع والأحكام. ومحبة الله لعباده: إرادة الخير والثواب لهم. ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم وأدركتموهم. مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة، وقد فعل بهم ذلك عام فتح مكة. وَالْفِتْنَةُ الشرك منهم أعظم من القتل لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه. وقيل: إن المراد بالفتنة: ما يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والتعذيب. عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي في الحرم. كَذلِكَ أي القتل والإخراج. فَإِنِ انْتَهَوْا عن الفكر وأسلموا. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله، لا يخشى غيره، ولا يصدّ عنه، ولا يحتاج إلى محاباة أو استخفاء. والدين: يشمل الاعتقاد والعبادة والعمل الصالح.

سبب النزول:

فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك. فَلا عُدْوانَ أي لا تتعدوا عليهم بقتل أو غيره. إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي المتجاوزين حدودهم المعتدين على غيرهم، فمن انتهى عن الشرك والاعتداء فليس بظالم، فلا عدوان عليه. الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ردّ على استعظام القتال في الأشهر الحرم، إذ هتك حرمة الشهر الحرام من المسلمين مقابل هتك حرمة الشهر الحرام من الكفار. وَالْحُرُماتُ جمع حرمة: وهي ما يجب احترامه. قِصاصٌ أي يقتص بمثلها إذا انتهكت. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الحرم أو الإحرام، أو الشهر الحرام. فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ.. سمّى مقابلة الاعتداء اعتداء، لشبهها بالمقابل به في الصورة. وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار، وترك الاعتداء. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر. وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته بالجهاد وغيره. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أي أنفسكم. إِلَى التَّهْلُكَةِ الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو تركه، لأنه يقوي العدو عليكم. وَأَحْسِنُوا بالنفقة وغيرها. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم. سبب النزول: قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية. قال ابن عباس فيما أخرجه الواحدي: نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صدّ عن البيت هو وأصحابه، نحر الهدي بالحديبية، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه، ثم يأتي القابل، على أن يخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء. وصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان العام المقبل، تجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعني قريشا. وقوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية، قال قتادة فيما أخرجه الطبري: أقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في ذي القعدة، حتى إذا كانوا بالحديبية، صدّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القعدة،

المناسبة:

وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية، فأقصّه الله تعالى منهم، فأنزل: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية. وقوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية، قال الشعبي: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله تعالى، فنزلت هذه الآية. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما شاء الله، فأصابتهم سنة (قحط) ، فأمسكوا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وروى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي أيوب الأنصاري قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّا: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يردّ علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، فكانت التهلكة: الإقامة على أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو. المناسبة: وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم، إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها، لأن الآية السابقة بيّنت أن الأهلّة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم وحجهم، والحج يكون في أشهر هلالية مخصوصة، كان القتال فيها محرما في الجاهلية، فأوضحت هذه الآيات أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر، دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد، لا لأهواء النفوس، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان

مشروعية القتال:

البيوت من ظهورها حال الإحرام. ثم إنه بعد الأمر بالتقوى ذكر أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس. مشروعية القتال: كان القتال قبل الهجرة محظورا بآيات كثيرة، منها: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت 41/ 34] ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة 5/ 13] ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] ، فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل 16/ 82] ، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 22] ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق 50/ 45] ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية 45/ 14] . ثم نسخ الله وجوب هذا كله في المدينة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] ، وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 29] . وأما أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال، فهي كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [الحج 22/ 39- 40] . وروي عن جماعة من الصحابة والربيع بن أنس وغيره «1» أن أول آية نزلت في الإذن بالقتال هي: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وهذا رأي أكثر علماء التفسير «2» .

_ (1) قال القرطبي وأبو حيان وغيرهما: وأكثر الرواة على هذا. (2) البحر المحيط: 2/ 65

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: قاتلوا في سبيل الله ونصرة دينه وإعزاز كلمته أيها المؤمنون، فإني أذنت لكم في قتال المشركين الذين فتنوكم عن دينكم، وأخرجوكم من دياركم، وقاتلوكم ونكثوا عهودكم. والمقاتلة في سبيل الله: هي الجهاد للكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته. ولا تعتدوا بالبدء بالقتال، ولا بقتل المسالمين، ولا بقتل غير المقاتلة من النساء والصبيان والعجزة والشيوخ، ولا بتخريب الدور وقطع الأشجار، وإحراق الزروع والثمار، فإن الله يكره الاعتداء، ولا سيما حين الإحرام، وفي أرض الحرم، وفي الأشهر الحرم. وإذا نشب القتال بينكم وبين أعدائكم، فاقتلوهم أينما أدركتموهم، وحيثما وجدتموهم، ولو في أرض الحرم، وأخرجوهم أو أجلوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة. فإنهم أخرجوكم من وطنكم وهو مكة، وتعاونوا على إخراجكم منها، وصادروا أموالكم، وأخذوا ممتلكاتكم، وفتنوكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب والاضطهاد بسبب عقيدتكم، وهذه الفتنة في الدين أشد على المؤمن الحرّ الأبيّ من قتل النفوس، لأن العقيدة أقدس شيء في الوجود، وأغلى وأسمى من كل شيء في الكون، وليس هناك بلاء ومضايقة على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده في دينه، وتعذيبه من أجل عقيدته التي تمكنت في قلبه وعقله ونفسه، ورأى السعادة في الدنيا والآخرة بسلامتها وصحتها ووجودها لديه، فهي الكنز ورأس المال الرابح، ويهون في سبيلها التضحية بالنفس والنفيس، فيكون ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقل مما يتصفون به من الفتنة، أي التعذيب من أجل إرجاعكم إلى الكفر، وقال بعضهم: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشدّ خطرا من القتل الذي عيّروكم به «1» .

_ (1) البحر المحيط: 2/ 65

ثم استثنى الحقّ سبحانه وتعالى مكانا خاصّا من عموم الأمة بقتل المحاربين في أي مكان، وهو قتالهم في المسجد الحرام، لأن من دخله كان آمنا، فلا تقاتلوهم فيه حتى يقاتلوكم، ولا تستسلموا لهم أبدا، لأن الشّر بالشّر، والبادئ أظلم، فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم، لأنّ سنّة الله أن يجازى الكافرون مثل هذا الجزاء، وأن يعذبوا مثل هذا العذاب، بسبب بدئهم بالعدوان، وظلمهم أنفسهم، فيلقون جزاء ما صنعوا. فإن توقفوا عن القتال أو كفّوا عن الكفر والشّرك، ودخلوا في دين الله، فإن الله يتقبل أعمالهم ويغفر لهم ما تقدّم منهم، لأنه غفور للسيئات، رحيم بالعباد، يمحو عنهم الخطيئات إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأحسنوا واتّقوا: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] ، وتفسير المنتهى عنه فيه رأيان: ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية: فإن انتهوا عن القتال، وذهب الحسن إلى أن المعنى: فإن انتهوا عن الشرك، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . وبعد أن بيّن الله بقوله أوّلا: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الإذن بالقتال أو البدء به، ذكر الغاية من القتال: وهي إقرار مبدأ الحرية، وألا يوجد شيء من الفتنة في الدين، فقال: اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضّرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة، وإزالة الفتنة: بألا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم، ويؤذونكم، ويمنعونكم من إظهار دعوة الله تعالى. واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين من كل شخص خالصا لله، لا أثر لخشية غيره فيه، وحتى يكون الدين ظاهرا قائما تمارس شعائره، دون خوف أو إرهاب أو استخفاء، وحتى يأمن المسلم في الحرم، فيعلن أمور دينه دون تهيب من أحد، فيكون معنى وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: أن يكون الله هو المعبود وحده.

هذا مع العلم بأن الكفار في مكة كانوا أحرارا آمنين في عبادتهم الأصنام، والمؤمنون بالله مطرودون منها، ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه. فإن انتهوا عما كانوا عليه وكفّوا عن قتالكم، ورجعوا عن الكفر، وأسلموا وسالموا، فلا تعتدوا عليهم إلا على من ظلم واعتدى، فيكون قتاله تأديبا له وإصلاحا لشأنه، حتى يكفّ عن ظلمه ويرتدع عن غيّه، وتطبق عليه أحكام الشرع. والحرمة: ما منعت من انتهاكه، والقصاص: المساواة. وعلى هذا تكون مقابلة العدوان وانتهاك الحرمات أمرا مطلوبا في موازين الشرع والعقل والعرف، فمن استحلّ دمكم في الشهر الحرام، فاستحلوا دمه فيه، وقابلوا بالمثل هتك حرمة الشهر، ولا تتحرّجوا بالقتال فيه للدفاع عن الدين والنفس وإعلاء كلمة الله. والحرمات وهي الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، يجب قصاص المشركين على انتهاكها، ومعاملتهم بالمثل. فمن انتهك حرمتها، فافعلوا به مثل فعله، وإن منعوكم عن قضاء العمرة هذه السّنة بموجب العهد والاتّفاق معهم، وقاتلوكم، فاقتلوهم، لأن الدفاع عن النفس أمر واجب ولا حرج فيه ولو كان في مكة، أو في حال الإحرام، أو في شهر حرام. ثمّ أبان الله تعالى حكما دائما، وسنة مستقرة: وهو أن العدوان يقابل بمثله، وما كان على سبيل القصاص (المعاملة بالمثل) فهو مأذون فيه. ولكن مقابلة العدوان مقيدة بمبادئ الفضيلة والتقوى والمدنية والإنسانية، فاتّقوا الله ولا تظلموا، واحذروا أن تعتدوا، والتزموا حدود العدل ودفع الضرر وإحقاق الحق والبقاء على المدنيات، ومنافع الناس، والترفع عن الانتصار للأهواء والشهوات وحظوظ النفس التي قد تتمادى في الغي والحقد والتهور والطيش، واعلموا أن الله نصير المتقين، ومؤيد الأتقياء، ومثيب الصلحاء، فهو ينصرهم

على الأعداء، ويحقق لهم الغلبة، ويمكّن لهم في الأرض، تأييدا لدين الله وإعلاء لكلمته. والجهاد كما يكون بالنفس يكون أيضا بالمال، فهو يحتاج إلى الأنفس المقاتلة، وإلى الأموال التي يشترى بها السلاح، وينفق بها على المحاربين، لذا أمر الله بإنفاق المال في سبيل الجهاد، فقال: وابذلوا المال في سبيل الله أي سبيل الجهاد لشراء العتاد والسلاح ونفقات الحرب، فالإنفاق في الحروب والمال في المعارك يدعم القتال، ويحقق النصر والفوز، واحذروا من التلكؤ والتقصير في واجب الإنفاق، فإنه مهلكة للأمة، مضيعة للجماعة، إتلاف للأنفس، وإياكم أن تلقوا بأنفسكم إلى سبل الدمار والهلاك، وأعدوا العدة اللازمة المكافئة للقتال بحسب كل زمان ومكان وحال كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال 8/ 60] بتعليم الرجال القتال، وإعداد السلاح المناسب المتطور، وتحصين النفوس بالخلق المتين والعلم الصحيح، فإن الجيوش الجرارة قد تصاب في كبدها من ضعفاء النفوس الذين يشتريهم العدو بالرشوة والمال وأنواع الإغراءات المادية والمعنوية، كما أنها قد تخسر الحرب بسبب جهلها ونقص تكوينها وتقصيرها عن مستوى أعدائها في التخطيط والتدبير والتدرب على استعمال السلاح الحديث. وما أروع وأحكم ما ختمت به هذه الآية: وهو إحسان العمل، فأحسنوا أعمالكم بامتثال الطاعات وأتقنوها، فالله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء، وذلك مكمل للجانب الأدبي الرفيع والحضاري السامي الذي ختمت به الآية السابقة وهو التزام التقوى والفضيلة، فتكون الخاتمتان قد جمعتا بين وسائل القوتين المادية والمعنوية ومقوماتها وقيودها.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستخلص من هذه الآية وغيرها الواردة في بيان حالات مشروعية القتال، وحكمة الإذن بالجهاد ما يأتي: 1- شرع القتال في سبيل الله لرد العدوان وحماية الدعوة، وحرية الدين الإلهي. 2- كان تشريع القتال متصفا بالعدل والحق، فهو لا اعتداء فيه على أحد، ولا يتجاوز فيه ما تقتضيه الضرورة الحربية، وليس الهدف منه التدمير والتخريب، ولا الإرهاب المجرد، فلا يقتل غير المقاتلين، ولا تقتل النساء والصبيان ونحوهم من الرهبان والعجزة والمرضى والشيوخ، ولا تقطع الزروع والثمار، ولا تذبح الحيوانات إلا لمأكلة، كما جاء في الوصايا النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين. 3- لم يكن القتال لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، فذلك منفي أصلا في شريعة القرآن، بآيات كثيرة منها: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة 2/ 256] أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 99] . 4- لم يشهد التاريخ أمة منصفة، رحيمة بالضعفاء، مترفعة عن الدنايا وسفساف الأمور، مثل أمة الإسلام، كما اعترف بذلك المنصفون من قادة الفكر في الغرب، قال الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب» . أما ما يزعمه الحاقدون والجهلة من أن الإسلام دين قام بالسيف، فهو مجرد فرية أملاها الحقد الدفين وتشوية الحقائق وكذبها التاريخ والواقع. وأما المفسرون فقد أثاروا وبحثوا عدة مسائل بمناسبة هذه الآية أهمها ما يأتي:

1 - هل آية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم منسوخة؟ :

1- هل آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخة؟ أ- قال جماعة من العلماء: مفاد هذه الآية أنه يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة 9/ 36] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة 9/ 123] وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.. [التوبة 9/ 29] وهذه كلها تأمر بالقتال لجميع الكفار، وتدل على عموم شرع القتال للمشركين، سواء قاتلوا المسلمين أو لم يقاتلوهم. ب- وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: الآية محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر. أما السنة فحديث ابن عمر الذي رواه الأئمة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان. وأما النظر: فإن (فاعل) لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزّمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، فيما رواه مالك وغيره، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية. أما النساء: فإن قاتلن برأي أو تحريض على القتال أو إمداد بمال قتلن، في حالة المقاتلة وبعدها في رأي سحنون، لعموم قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة 2/ 190] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة 2/ 191]

ولا تقتل المرأة التي لا تقاتل، سواء في أثناء المعركة، أو بعد الأسر والأخذ، لما رواه الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «.. ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا» . وأما الصبيان: فلا يقتلون أيضا، للنهي الثابت في السنة عن قتل الذرية، فقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتل النساء والصبيان. وقال فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن رباح بن ربيع: «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفا» أي أجيرا، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل. وأما الرهبان: فلا يقتلون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان في وصيته المشهورة «1» فيما رواه مالك في الموطأ: «.. وستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له» . وأما الزّمنى (المرضى) : فالصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا، وما هم بسبيله من الزمانة. وأما الشيوخ: ففي رأي جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة، فإنه لا يقتل، لقول أبي بكر ليزيد، ولأنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو، فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرّته بالحرب أو الرأي أو المال، فيخير فيه الإمام في رأي المالكية إذا أسره بين خمسة أشياء: القتل، أو المن، أو الفداء، أو عقد الذمة على أداء الجزية، أو

_ (1) أوصى أبو بكر سنة 13 هـ يزيد بن أبي سفيان بن حرب الذي أرسله قائدا على جيش إلى الشام، بعد أن شيعه راجلا: «وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن» . رواه مالك في الموطأ- باب الجهاد.

الاسترقاق (في الماضي) . وكذلك أجاز الشافعي بعد الأسر قتل ما عدا النساء والصبيان. وأما العسفاء وهم الأجراء والفلاحون: فلا يقتلون في رأي مالك، للحديث السابق عن رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلنّ ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرّية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار، إلا أن يسلموا، أو يؤدوا الجزية. ج- ولم ير الفخر الرازي نسخ آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ بآية وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ لأن ذكر العام بعد الخاص يثبت زيادة حكم على حكم الخاص، من غير أن ينسخه. وقال: وتحقيق القول: أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ زاد في التكليف، فأمر بالجهاد معهم، سواء أقاتلوا أم لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام بقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ... وأما ما روي عن مقاتل: أن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منسوخة بقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم تلك منسوخة أيضا بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فقال عنه الفخر الرازي: وهو ضعيف، أما أن قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخ، فقد تقدم إبطاله. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله بنسخ آية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فهو خطأ أيضا، لأنه

2 - أمان اللاجئ إلى الحرم:

لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم باق لم ينسخ، فثبت أن قوله ضعيف. ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتالية، تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى «1» . 2- أمان اللاجئ إلى الحرم: تمسك الحنفية بآية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم، ما دام لم يقاتل في الحرم. وتدل أيضا بعمومها على أن القاتل إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل. ويؤيد حكم الاثنين قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة 2/ 125] . 3- غاية القتال وحكمته: شرع القتال في الإسلام للدفاع عن النفس والبلاد والأعراض والحرمات، ولم يشرع للعدوان والتقتيل وسفك الدماء. وكانت الغاية السامية منه إقرار حرية الدعوة إلى الدين، وإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ونصرة شريعته وحماسة أهله ودعاته. وهل سبب القتال رد العدوان والإيذاء أو الكفر؟ بالأول قال جمهور من الفقهاء، وبالثاني قال جماعة كالشافعية بدليل آية: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وفسروا الفتنة بالشرك أو الكفر، وبقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا

_ (1) تفسير الرازي: 5/ 129

4 - الظفر بالحق:

الله» قال القرطبي: فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر «1» . أي أن المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى: «تقاتلونهم أو يسلمون» . 4- الظفر بالحق: دلت آية فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ على جواز أخذ الحق من الظالم بأي طريق، ما لم يعد سارقا. وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهم. قال ابن العربي «2» : من أباح دمك فمباح دمه لك، لكن بحكم الحاكم، لا باستطالتك وأخذ ثأرك بيدك، ولا خلاف فيه. ومن أخذ مالك فخذ ماله، إذا تمكنت منه، إذا كان من جنس مالك، طعاما بطعام، وذهبا بذهب، وقد أمنت من أن تعدّ سارقا. وأما أخذ ما ليس من جنس مالك، فاختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: لا يؤخذ إلا بحكم حاكم، ومنهم من قال: يتحرّى قيمته، ويأخذ مقدار ذلك، هو الصحيح عندي. ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعداه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه. لكن ليس لك أن تكذب عليه، وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل المعصية، فلو قال مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر، وإن قال لك: يا زاني، فقصاصك أن تقول: يا كذاب، يا شاهد زور، ولو قلت له

_ (1) تفسير القرطبي: 2/ 354 (2) أحكام القرآن: 1/ 111- 112

5 - المماثلة في القصاص:

يا زان، كنت كاذبا، فأثمت في الكذب، وأخذت فيما نسب إليك من ذلك، فلم تربح شيئا، وربما خسرت. وإن مطلك غني دون عذر، قل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس. قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» «1» أما عرضه فيما فسرناه، وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدّي. 5- المماثلة في القصاص: وأرشدت أيضا آية فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ إلى مبدأ المماثلة في القصاص، ونظيرها آية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل 16/ 126] ، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، ما لم يقتله بفسق أو معصية كاللواط وإسقاء الخمر، فيقتل بالسيف، وهذا قول الجمهور، واستثنى المالكية أيضا القتل بالنار أو السّم، لا يقتل به، لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يعذب بالنار إلا الله» والسم نار باطنة. وقال أبو حنيفة، وأحمد في الأصح في مذهبه: إنه لا قود إلا بحديدة، بدليل حديث النعمان بن بشير- فيما رواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني-: «لا قود إلا بحديدة، ولا قود إلا بالسيف» . وانفرد أبو حنيفة بالقول فيمن قتل بخنق أو بسمّ أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة، إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إذ القتل بمثقل عنده لا يوجب القصاص، لأنه قتل شبه عمد، يوجب الدية على عاقلة القاتل. وإنما القصاص يجب بالقتل بمحدّد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتّردية.

_ (1) اللي: المطل، والواجد: القادر على قضاء دينه. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد. [.....]

6 - الجهاد بالنفس والمال:

6- الجهاد بالنفس والمال: يكون الجهاد بالنفس والمال، لأن تجهيز الجيوش يحتاج إلى عتاد وسلاح ونفقات، كاحتياج المعارك إلى الرجال الأشداء. فلو قصّر المسلم في الإنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله، فقد ألقى بنفسه إلى الهلاك، وأهلك الجماعة، ودمر الأمة التي ينتمي إليها. وقد نزلت آية: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] كما عرفنا في الأنصار حينما تعرضوا لقحط وجدب في بعض السنوات، وظنوا ألا حاجة للنفقة، لأن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلم يقبل الله ذلك منهم، لأن الجهاد فريضة دائمة، والإعداد للقتال واجب شرعي مستمر. 7- اقتحام أهوال الحرب أو العمل الفدائي: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب، وحمله على العدو وحده، أيعد ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟. قال جماعة من المالكية: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم، إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة، فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة، وخلصت النية، فليحمل، لأن مقصوده واحد من الأعداء، وذلك بيّن في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة 2/ 207] . وهذا هو الفدائي بحق. روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: فلك الجنة» فانغمس في العدو حتى قتل. وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين،

وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرّض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه، فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم صلابة المسلمين في الدّين، فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة 9/ 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعليه ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنه متى رجا نفعا في الدّين، فبذل نفسه فيه، حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان 31/ 17] . وروى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أفضل الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر، فقتله» .

أحكام الحج والعمرة [سورة البقرة (2) الآيات 196 إلى 197] :

أحكام الحج والعمرة [سورة البقرة (2) : الآيات 196 الى 197] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) الإعراب: ... وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ متعلق بأتموا، وهو مفعول لأجله، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وعامله محذوف تقديره: كائنين لله. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ما: مبتدأ، وخبره مقدر، وتقديره: فعليكم ما استيسر. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ مبتدأ وخبر، ولا بد فيه من محذوف مقدر، وفي تقديره وجهان: أحدهما- أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والثاني: الحج حج أشهر معلومات. فَلا رَفَثَ.... فِي الْحَجِّ لا: نافية للجنس، كما في قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ واسمها

البلاغة:

وهو رفث: مبني على الفتح، وبني مع «لا» لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر» . و «لا» مع النكرة المبنية في موضع مبتدأ، وقوله فِي الْحَجِّ خبر. وَما تَفْعَلُوا ما: شرطية منصوب بتفعلوا، وتفعلوا مجزوم بما، ويعلمه: مجزوم لأنه جواب شرط. البلاغة: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ: كناية عن ذبحه في مكان الإحصار. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً فيه إيجاز بالحذف، أي كان مريضا فحلق وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ فيه التفات من الغائب إلى المخاطب. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فيه إجمال بعد التفصيل، لزيادة التأكيد، ويسمى «الإطناب» . وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ إظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار لتربية الهيبة والجلال. لِمَنْ اللام بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ نفي بمعنى النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا أي لا تماروا مع الرفقاء والخدم والمكارين، والنفي أبلغ من النهي الصريح، أي لا ينبغي أن يقع أصلا، والأمر بالاجتناب في الحج مع أن وجوبه في كل حال، لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن. المفردات اللغوية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أدوهما بحقوقهما فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم عن إتمامهما بعدو أو مرض اسْتَيْسَرَ تيسر الْهَدْيِ أي سهل عليكم وهو شاة، أو كل ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النّعم، ليذبح ويفرق على الفقراء وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي لا تتحللوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ مكان الحلول والنزول، حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار عند الشافعي ومالك، فيذبح فيه بنية التحلل، ويفرق على مساكينه، ويحلق به، وبه يحصل التحلل. وفي رأي الحنفية: هو الحرم. أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كقمل وصداع، فحلق في الإحرام فَفِدْيَةٌ عليه مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ ثلاثة أصوع «1» من غالب قوت البلد، على ستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة، وأصل النسك: العبادة، والمراد هنا الذبيحة، وسميت نسكا لأنها من أشرف

_ (1) الصاع: أربعة أمداد، وهو عند الحنفية (3900 غم) ، وعند الجمهور (2751 غم) والمد (675 غم) .

العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى. وأو: للتخيير. وألحق به: من حلق لغير عذر، ومن استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره. فَإِذا أَمِنْتُمْ قيل: برأتم من المرض، وقيل: من خوفكم من العدو. فَمَنْ تَمَتَّعَ استمتع بِالْعُمْرَةِ أي بسبب فراغه منها، أي تمتع بمحظورات الإحرام إِلَى الْحَجِّ أي الإحرام به، بأن يكون أحرم بها في أشهره. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تيسر عليه من الهدي وهو شاة يذبحها بعد الإحرام بالحج بمكة، والأفضل يوم النحر. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي، لفقده أو فقد ثمنه، فعليه صيام ثلاثة أيام في حال الإحرام بالحج، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس، لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق في الأصح عند الشافعي. وسبعة أيام بعد الرجوع إلى الوطن: مكة أو غيرها. وحاضرو المسجد الحرام: هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت في رأي الحنفية، وإلى ما دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وقته شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، في رأي الشافعي، وقال الجمهور: يجوز الإحرام بالحج فيما عدا هذه الأشهر مع الكراهة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وأوجبها الظاهرية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما، بيّن أن الحج له وقت معلوم. فَلا رَفَثَ جماع فيه، وَلا فُسُوقَ عصيان وَلا جِدالَ خصام ومجادلة «1» والمراد بالنفي في الثلاثة: النهي عنها. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به، ونزل في أهل اليمن، وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلّا على الناس. وَتَزَوَّدُوا ما يبلغكم لسفركم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ما يتقى به سؤال الناس وغيره، واتقوا الله يا أولي العقول. والألباب: جمع لبّ، ولبّ كل شيء: خالصة، ولذلك قيل للعقل: لبّ.

_ (1) قال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا: أن تماري مسلما حتى تغضبه، فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة: الجدال: السباب. ورجح القرطبي قول من قال: لا جدال في وقت الحج ولا في موضعه.

سبب النزول:

سبب النزول: سبب نزول قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فقال: أين السائل عن العمرة، قال: ها أنا ذا، فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعا في حجك، فاصنعه في عمرتك. وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً: روى البخاري عن كعب بن عجرة أنه سئل عن قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ قال: حملت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قال: قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة. وروى مسلم عن كعب بن عجرة قال: «فيّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أدنه، فدنوت مرتين أو ثلاثا، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال ابن عون، وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تيسر» . وروى أحمد عن كعب قال: كنا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصر المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تسّاقط على وجهي، فمرّ بي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ فأمره أن يحلق، قال: ونزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ. وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا: روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال:

المناسبة:

كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله: وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. المناسبة: ذكرت أحكام الصيام، ثم ذكرت أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام والقتال فيها وفيه، ثم ذكرت هنا أحكام الحج، لأن شهوره بعد شهر الصيام، فأوضح تعالى فيها حكم المحصر الذي منعه العدو من إتمام الحج، وحكم المتمتع إلى زمن الحج من غير أهل الحرم، ووقت الحج في أشهر معلومات. التفسير والبيان والأحكام: كان الحج معروفا بين عرب الجاهلية، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات، وزاد فيه بعض المناسك. وقد فرضه الله تعالى على المسلمين سنة ست من الهجرة بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 3/ 97] وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، ثم حج النّبي صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] . واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان

1 - إتمام الحج والعمرة:

ومخالفة الأوامر الإلهية، وهم في صفوفهم وتحركاتهم الجماعية منصهرون ماديا وفعليا بمعنى المساواة، دون تفرقة بين سيد ومسود وحاكم ومحكوم وغني وفقير، ومتجردون من مظاهر الدنيا وزينتها، فلا تكاد تجد في أنحاء العالم تجمعا كثيفا ومؤتمرا عالميا، مثل مؤتمر الحج كل عام، حيث تجد فيه مختلف الجنسيات والألوان والألسنة من كل أنحاء العالم. ويبين الله تعالى في هذه الآيات بعض أحكام الحج وهي: 1- إتمام الحج والعمرة: أي أداؤهما تامين كاملين لا ينقصهما شيء من شروطهما وأفعالهما من غير أن يفعل أثناءهما شيء من المحظورات، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها المطلوب شرعا، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد شيء دنيوي. والتعبير بالإتمام مشعر بأن المسلمين قد شرعوا فيهما، وبدؤوا في العمرة سنة ست وصدوا عنها، ولذلك تسمى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء. ودل قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ على وجوب القضاء على من أحصر بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي، في رأي الحنفية، لأن الأمر في الآية يقتضي الإيجاب بالشروع في العبادة، والمراد بقوله وَأَتِمُّوا.. تمامهما بعد الشروع فيهما. وقال مالك والشافعي: إن أحصر المحرم بعدو، فحلّ فلا قضاء عليه في الحج ولا العمرة، والمراد بالآية: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: فَأَتَمَّهُنَّ وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. 2- اتفق العلماء على فرضية الحج، واختلفوا في العمرة ، بالرغم من الأمر إتمامهما في هذه الآية. فقال الشافعية والحنابلة: العمرة واجبة كالحج، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة 2/ 158] . ولما روي في

4 - الإحصار:

الصحيح أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: «من كان معه هدي، فليهلّ بحج وعمرة» وقوله أيضا: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وروى الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهما بدأت» . وذهب المالكية والحنفية: إلى أن العمرة سنة، لأن كل الآيات التي فرض فيها الحج، جاءت مجردة عن ذكر العمرة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 3/ 97] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ.. [الحج 22/ 27] ، ولأن أحاديث أركان الإسلام لم يذكر فيها العمرة، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجه وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي- «الحج جهاد، والعمرة تطوع» وأخرج الترمذي وصححه عن جابر: أن رجلا سأل رسول الله عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم» ، وتأولوا أحاديث فريضة العمرة بأنها بعد الشروع فيها، وهي واجبة حينئذ بلا خلاف. والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها، كما أمر بإتمام الحج. 4- الإحصار: إن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وجب عليكم إن أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر من الهدي: وهو ناقة (بدنة) أو بقرة أو شاة، فإن لم يجدها المحصر قوّم الحيوان، واشترى بقيمته طعاما، وتصدق به، فإن لم يجد، صام عن كل مدّ من الطعام يوما. والإحصار يكون عن الحج، وعن العمرة، لأن المنع قد يحصل منهما على سواء. واختلف الفقهاء في أسباب الإحصار: فذهب الحنفية: إلى أنه يشمل كل حالات المنع من دخول مكة بعد الإحرام، بمرض أو عدو، أو سجن أو غيره،

4 - حلق الرأس أو التقصير:

لأن الله تعالى علّق الحكم على مطلق الإحصار: وهو الحبس، وهو عام، يتناول الكل. وذهب الشافعية والمالكية: إلى أن معنى الإحصار: المنع بالعدو، أخذا بما روي عن ابن عباس وابن عمر، ولأن الحصر هو المنع، والمنع لا بد له من مانع قادر على المنع، وذلك يتصور في العدو لا في المرض، ولأن الأمن في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ إنما يستعمل في الخوف من العدو، لا في المرض. وأما من أحصره المرض فلا يحلّه إلا الطواف بالبيت، وإن أقام سنين، حتى يفيق. والظاهر هو الرأي الأول، لأن الأمن عام ليس مقصورا على الأمن من العدو، ولأن المانع هو كل حاجز عن الشيء، والمرض حاجز عن متابعة السير وإتمام الأعمال المطلوبة في المناسك، وتخصيص بعض أفراد العام بحكم في آية: فَإِذا أَمِنْتُمْ لا يخصص العام المفهوم في آية: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ. وأما اشتراط المحرم: بأن يقول: لبيك اللهم لبيك، ومحلّي حيث حبستني من الأرض، فلا ينفعه عند الجمهور، وعليه دم. وأجاز أحمد وأبو ثور وإسحاق بن راهويه الاشتراط، ولا دم ولا هدي عليه، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أذن بذلك لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فيما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما. 4- حلق الرأس أو التقصير: يعبر عن الدخول بالحج أو العمرة بالإحرام، وذلك بالنية من الميقات، وتجرد الرجال من لبس المخيط والحذاء، ولبس النعل، والامتناع عن الطيب والنساء والصيد البري ونحوها، ويكون الخروج من الإحرام بما يسمى بالتحلل: وهو حلق الرأس أو التقصير، وقد نهى الله تعالى عن الحلق قبل بلوغ الهدي مكان ذبحه، وهو مكان الإحصار في رأي مالك والشافعي، عملا بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عام الحديبية، وفي الحرم المكي في رأي الحنفية، لقوله تعالى في جزاء الصيد: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة 5/ 95]

5 - جزاء الحلق وقتل الهوام:

فبين أن شرط الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة، فلا يصح أن تغير هذه الصفة، وكان الذبح من النّبي صلّى الله عليه وسلّم في طرف الحرم من جهة الحديبية. والظاهر الرأي الأول لأن منع العدو أو المرض لا يتحدد بمكان معين، ويحول بين المحرم وبين تقدمه أو تجاوزه المكان الممنوع، فكيف يتصور وصوله إلى الحرم، وهو ممنوع منه؟! قال الله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح 48/ 25] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. وهل لذبح الهدي وقت معين؟ لا خلاف في أن هدي العمرة غير مؤقت بزمان مخصوص، بل له أن يذبح متى شاء، ويحل من إحرامه. وأما هدي الإحصار في الحج: فيذبح عند الجمهور متى شاء ويحل، لأن قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار، ولأن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه، فلا يفرق بين دم إحصار الحج ودم إحصار العمرة، ولأن تأخير الذبح حتى يجيء يوم النحر فيه ضرر واضح. وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد: لا يذبح الهدي قبل يوم النحر. وهل على المحصر حلق؟ قال أبو حنيفة ومحمد: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال الجمهور: يحلق المحصر أو يقصر، لأن ذلك قادر عليه، ولقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة 2/ 196] ولا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، لأن سنة الذبح الحلاق، وللآية المذكورة: وَلا تَحْلِقُوا.. 5- جزاء الحلق وقتل الهوام: إذا خالف المحرم شروط الإحرام، فحلق رأسه أو قصر بسبب المرض، أو الأذى في رأسه من قمل أو جرح أو صداع وغيره، أو قلم ثلاثة أظافر، أو قبّل زوجته مثلا، أو تطيب أو ادّهن في جسمه مثلا، فعليه فدية مخير فيها بين صيام ثلاثة أيام أو صدقة وهي إطعام ستة مساكين، أو

نسك «1» وهو ذبح شاة، والتخيير بين هذه الخصال مستفاد من (أو) التي تقتضي التخيير. وتجب الفدية المذكورة عند مالك وأبي حنيفة، سواء فعل المخالفة عامدا أو ناسيا، ولا تجب عند الشافعي وأحمد إن خالف ناسيا. وتقدير الطعام: إما بستة صيعان لكل مسكين صاع «2» ، كما في رواية، وإما بثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، في رواية أخرى، فجمع الجمهور بينهما، بحمل رواية الستة الآصع على التمر، والثلاثة الآصع على طعام القمح، لأنه المعهود في سائر الصدقات. ودليل التقدير: ما أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة، قال: «وقف عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا، فقال: يؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك» قال: فنزلت هذه الآية، وذكرها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق «3» بين ستة، أو انسك بما تيسر» . قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن: لا يجزي أن يغدّي المساكين ويعشّيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدّين بمد النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم. وأما موضع الفدية: فقال الحنفية: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، والذبح هنا نسك وليس بهدي، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة. وقال الشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم. وقال أحمد: فدية الحلق في الموضع الذي حلق فيه،

_ (1) النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى، ويجمع أيضا على نسائك، والنسك: العبادة في الأصل. (2) الصاع البغدادي: (2751 غم) (3) الفرق: مكيال ستة عشر رطلا أي بغداديا، والرطل البغدادي (408 غم) والرطل المصري (450 غم)

6 - فدية المتمتع:

وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة. وأما الإطعام فهو بمكة، وأما الصوم فحيث شاء. 6- فدية المتمتع: من أمن العدو والحصار وتمتع بسبب فراغه من المناسك والتحلل من الإحرام بالعمرة، وبقي متمتعا إلى زمن الحج، ليحرم من مكة به، فعليه دم أي ذبح هدي (شاة) شكرا لله تعالى، يذبحه يوم النحر بمنى ويأكل منه كالأضحية، أو يذبحه في مكة في رأي الشافعي، وهذا يحقق اليوم فائدة أكثر، لإيصاله إلى الفقراء. والقارن بالحج والعمرة مثل المتمتع في وجوب الفدية، لأن التمتع يشمل معنيين: استباحة التمتع بالنساء والتفرقة بترك محظورات الإحرام، وجمع الحج مع العمرة في أشهر الحج بأعمال واحدة. فمن لم يجد الهدي، لعدم وجوده، أو لم يجد المال الذي يشتري به، فعليه صيام ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج قبل السادس من ذي الحجة قبل يوم التروية «1» ويوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى بلده، أو شرع في الرجوع، فله أن يصوم في الطريق. هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، لتأكيد المراد بالسبعة وهو العدد، دون الكثرة في الآحاد، ووصفت بالكمال للتنبيه إلى رعاية العدد فلا ينقص منها شيء، وللإشارة إلى أن البدل قائم تماما مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء. ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج، وإيجاب الفدية، تخفيف ورخصة للآفاقيين الذين حضروا من البلاد البعيدة، دون أهل الحرم، لأن الغريب يتحمل مشاق السفر أكثر من المقيم بمكة، فالغرباء هم الذين يحتاجون إلى

_ (1) سمي يوم التروية: لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعد، وهو اليوم الثامن الذي يسن الخروج فيه إلى منى.

هذه الرخصة، حتى لا يؤدوا كلا من الحج والعمرة على انفراد، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام. واتقوا الله واخشوه بالمحافظة على امتثال أمره، والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن تجاوز حدود الله تعالى. ومن المعلوم أن كيفيات أداء الحج والعمرة الجائزة إجماعا ثلاث: الأولى- الإفراد: الإحرام بالحج وحده، ثم بالعمرة بعد إنهائه. الثانية- التمتع «1» : الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من الميقات وكان من أهل الآفاق، ثم الإحرام بالحج من مكة. الثالثة- القرآن: أن يحرم الشخص بالحج وبالعمرة معا، أو يحرم بأحدهما ثم يدخل الآخر عليه في عام واحد وفي أشهر الحج. وأيها هو الأفضل؟ للعلماء آراء ثلاثة: قال الحنفية: القرآن أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الطحاوي عن أم سلمة: «أهلّوا يا آل محمد بعمرة في حجة» ، وقال أنس فيما أخرجه البخاري ومسلم: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبي بالحج والعمرة يقول: لبيك عمرة وحجة» . وقال المالكية والشافعية: الإفراد بالحج أفضل، ثم التمتع، ثم القرآن: لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حج مفردا على الأصح، قالت عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من

_ (1) سمي المتمتع متمتعا، لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حلّه في العمرة إلى وقت إنشائه الحج، أو لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، إذ من حق العمرة والحج أن يقصد كل منهما بسفر.

7 - وقت الحج الحج أشهر معلومات فيه حذف، تقديره:

أهل بحج وعمرة، وأهلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحج» وروي حديث آخر: «القران رخصة» ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق، والثواب على قدر المشقة وهذا أصح الآراء. وقال الحنابلة: التمتع أفضل، فالإفراد، فالقرآن، لأن التمتع جاء ذكره في القرآن، ولما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: «تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة» وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» «1» . وعلى كل حال، فإن الآية لا تدل لأحد المذاهب السابقة، إذ ليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وهو لا يقتضي شيئا منها، وإنما المعول على ما في السنة، والترجيح بين الروايات. ويلاحظ أن من اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده ومنزله، ثم حج من عامه، فليس بمتمتع في رأي الجمهور. وقد جمع المحدثون بين روايات حجه صلّى الله عليه وسلّم بوجوه: أقواها أنه أهل بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة فصار قرانا، فيحمل قول القائلين بالإفراد على ما أهل به، وقول القائلين بالقرآن على ما انتهى إليه عمله من إدخال العمرة على الحج. 7- وقت الحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فيه حذف، تقديره: وقت أعمال الحج أشهر معلومات، أو الحج في أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فلا تصح نية الحج في مذهب الشافعي إلا في هذا الوقت، وتنتهي أعماله في أيام التشريق الثلاث. والأشهر المعلومات هي ما ذكر في رأي الجمهور غير المالكية. وقوله مَعْلُوماتٌ: إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله

هذه الأشهر أشهرا للحج، وذلك من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقال مالك: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. وفائدة الخلاف: تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج، قال: تم حجه، ولا يلزمه دم بالتأخير. ومن قال: إلى عشر ذي الحجة، قال: يلزمه دم بالتأخير، كما ذكر الشوكاني. وذكر الجصاص الرازي توفيقا بين القولين، فقال: وقال قائلون: وجائز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، وأن يكون مراد من قال: وذو الحجة: أنه بعضه، لأن الحج لا محالة، إنما هو في بعض الأشهر، لا في جميعها، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام (منى) شيء من مناسك الحج. وقالوا: ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله: مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج، كان الاختيار عنده فعل العمرة في غيرها، كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج «1» . وأضاف الجصاص قائلا: ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله: أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيام منى ثلاثة» وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: حججت عام كذا، وإنما الحج في بعضه، ولقيت فلانا سنة كذا، وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة، والمراد البعض، وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت، كان المعقول منه البعض.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 299

ثم قال: ولقول من يقول: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة وجه آخر، وهو ينتظم القولين جميعا، وهو أن الآية سيقت لبيان أن هذه هي الأشهر التي يكون فيها الحج، بدون تبديل ولا تغيير، على نحو ما كان يفعله أهل الجاهلية من التغيير والتبديل، فكانوا ينسئون الشهور، فيجعلون صفرا المحرم، ويستحلون المحرم، على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال، وكانوا يغيرون في أشهر الحج، فمعنى قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ: أن عمال الحج تقع في هذه الأشهر، على مقتضى بيان السنة، دون ما كان يفعله أهل الجاهلية من تبديل الشهور، وتأخير الحج وتقديمه. وهل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟ اختلف السلف وأئمة المذاهب في ذلك، فقال الجمهور غير الشافعية «1» : يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وينعقد حجا، ولا ينقلب عمرة، ولكنه مكروه، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» وتكون فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر لبيان أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وأما صحة الإحرام في غيرها، فلأنه شرط للحج، فيجوز تقديمه على أدائه، كتقديم الطهارة على أداء الصلاة. وقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج، وينعقد إحرامه بالعمرة، وظاهر الآية يشهد له، لأنها قد جعلت وقت الحج هذه الأشهر المعلومات، والإحرام بالعبادة قبل وقتها لا يجوز، كما لا تجوز نية الظهر قبل الظهر. ونية الإحرام بالحج: تجب فرضا، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ومن تمام العبادة: حضور النية، وهي فرض عند الإحرام، لقوله عليه الصلاة والسلام لما

_ (1) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح المؤرخ الحنبلي: 3/ 113

8 - من هم حاضرو المسجد الحرام؟ :

ركب راحلته: «لبيك بحجة وعمرة معا» ، فمن شهد مناسك الحج، وهو لا ينوي حجا ولا عمرة، وهو بالغ عاقل، لم يسقط عنه الفرض. وأما المواقيت: فروى الأئمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم «1» ، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلّون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. وأما ميقات أهل العراق فهو ذات عرق «2» ، جاء في كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق. وأجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، ولكنه مكروه، لأنه ضيّق على نفسه ما قد وسّع الله عليه. 8- من هم حاضرو المسجد الحرام؟ اختلف العلماء في حاضري المسجد الحرام بعد إجماعهم على أهل الحرم (مكة وحاضريها) فقال الحنفية: هم أهل المواقيت ومن دونها من كل ناحية، وقال المالكية: هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة، وقال الشافعية والحنابلة: هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر (89 كم) . 9- ما يحظر في الإحرام: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن، وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته وهو المعبر عنه بالرفث، وعن أنواع المعاصي والمخالفات مثل

_ (1) ذو الحليفة: قرية خربة بينها وبين مكة مائتا ميل. والجحفة: قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل، ويقرب منها القرية المعروفة برابغ، يصح الإحرام منها. وقرن: جبل مشرف على عرفات، وهو على مرحلتين من مكة، ويلملم: مكان على مرحلتين من مكة. (2) ذات عرق: قرية على مرحلتين من مكة.

10 - حكمة محرمات الإحرام:

صيد البر والطيب والزينة ولبس المخيط، وعن كل ما يؤدي إلى التنازع والتباغض والاختلاف، كالجدال والمراء والخصام والتنابز بالألقاب، لأن الشرع يريد من الحاج أن يتجرد عن كل مظاهر الدنيا ومغرياتها ومفاسدها، ويتطهر من الذنوب والسيئات، فيتحقق الغرض المنشود من الحج وهو تهذيب النفس وإشعارها بالعبودية لله الواحد الأحد، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حج، ولم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وقد جمعت الآية والحديث أصول الأخلاق الفاضلة، ونهت عن كل ما يعكر صفوها، فالآية خبر لفظا، نهي معنى، ويراد من الرفث الوقاع ومقدماته وقول الفحش، والفسوق: (وهو الخروج عن طاعة الله إلى المعصية) جميع أنواع المعاصي، والجدال جميع أنواع الخصام. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم، وتتخلى عن الرذائل، وتتحلى بالفضائل، لأن الله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم على كل خير تقدمونه لأنفسكم، فالآية شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء. وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم، واتخذوا التقوى زادا لمعادكم، فإن خير الزاد اتقاء المنهيات، وأخلصوا لي يا أهل العقول أعمالكم، بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، فإن فعلتم ذلك نجوتم من العقاب، وأدركتم الفوز بالرضا والرحمة الإلهية. وخص أولي الألباب بالخطاب- وإن كان الأمر يعم الكل- لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. 10- حكمة محرمات الإحرام: السر في محرمات الإحرام: هو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى قاصد له، فيتجرد من عاداته

تتمة أحكام الحج [سورة البقرة (2) الآيات 198 إلى 203] :

ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك من تصفية النفس وتهذيبها وإشعارها من حقيقة العبودية لله والأخوة للناس ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره، وفي الحديث الصحيح المتقدم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت «1» . تتمة أحكام الحج [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 203] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

_ (1) تفسير المنار: 2/ 183

الإعراب:

الإعراب: عَرَفاتٍ التنوين في عرفات بمنزلة النون من زيدون، وليست للصرف، لأنها لو كانت للصرف، لكان ينبغي أن يحذف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم لبقعة مخصوصة. كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ الكاف في موضع نصب إما لكونه صفة لمصدر محذوف وتقديره: ذكرا كذكركم آباءكم، أو لكونه في موضع نصب على الحال من ضمير «فاذكروا» أي فاذكروه مشبهين ذكركم آباءكم. أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور عطفا على «ذكركم» أو منصوب على تقدير فعل، والتقدير: واذكروه ذكرا أشدّ من ذكركم آباءكم. البلاغة: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ تشبيه تمثيلي يسمى «مرسلا مجملا» . فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فيهما مقابلة. المفردات اللغوية: جُناحٌ أي حرج وإثم. أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا. فَضْلًا عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج. أَفَضْتُمْ أصله: أفضتم أنفسكم ودفعتموها، والمراد: الدفع منه بكثرة. عَرَفاتٍ موقف الحاج لأداء النسك، وسمي بذلك لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة: اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذي الحجة. فَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء. والذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد. الْمَشْعَرِ الْحَرامِ هو جبل في آخر المزدلفة يقال له: قزح، وسمي بالمشعر، لأنه معلم للعبادة، والشعائر: العلامات، ووصف بالحرام لحرمته، فلا يفعل فيه ما نهي عنه. روى مسلم: أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدا وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ لمعالم دينه ومناسك حجه، والكاف للتعليل، وَإِنْ مخففة من الثقيلة. ثُمَّ أَفِيضُوا يا قريش مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة، بأن تقفوا بها معهم، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ترفعا عن الوقوف معهم، وثم للترتيب في الذكر. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من ذنوبكم. فَإِذا قَضَيْتُمْ أديتم. مَناسِكَكُمْ عبادات حجكم، بأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى، أي إذا فرغتم من مناسك الحج فأكثروا من ذكر الله بالتكبير والثناء، كما كنتم تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.

سبب النزول:

خَلاقٍ نصيب. حَسَنَةً توفيقا وصحة ونعمة (أو رزقا) . وَقِنا عَذابَ النَّارِ بعدم دخولها، القصد منه: الحثّ على طلب خير الدارين. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ ثواب. مِمَّا كَسَبُوا من أجل ما عملوا من الحج والدعاء. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث بذلك. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ أي بالتكبير عند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة. فَمَنْ تَعَجَّلَ أي استعجل بالنفر من منى فِي يَوْمَيْنِ في ثاني أيام التشريق (العيد) بعد رمي جماره فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بالتعجيل. وَمَنْ تَأَخَّرَ بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، أي هم مخيرون في ذلك. لِمَنِ اتَّقى الله في حجه، لأنه الحاج في الحقيقة. تُحْشَرُونَ إليه في الآخرة، فيجازيكم على أعمالكم. سبب النزول: نزول الآية (198) : روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في موسم الحج. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: «قلت لابن عمر: إنا نكري (أي الدواب للحجاج) ، فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ... فدعاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم حجاج» . نزول الآية (199) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.

نزول الآية (200) :

نزول الآية (200) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم، فأنزل الله: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم، وقفوا عند الجمرة، وذكروا آباءهم في الجاهلية، وفعال آبائهم، فنزلت هذه الآية، حتى إن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبّة، عظيم الجفنة» ، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية، ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية. نزول آخر الآية (200) والآيتين (200- 201) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا، فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ويجيء آخرون من المؤمنين، فيقولون: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ... إلى قوله: سَرِيعُ الْحِسابِ. المناسبة: بعد أن حضّ الله تعالى على التقوى والتزوّد ليوم الحساب ومخافة الله، وبعد أن منع الله تعالى الجدال في الحج، وكانت المعاملات التجارية تفضي عادة إلى الجدال والمخاصمة، جاءت آية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. للاستدراك مما قد يفهم أن التجارة مظنة المنع، أي ممنوعة في الحج، وأيضا لما حظر الله لبس المخيط.

_ (1) الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع. [.....]

التفسير والبيان:

والإنسان قد يكون شديد الحاجة، وكانت التجارة مظنة الحظر، فدفعا لذلك التوهم أباح الله تعالى الاتّجار في أثناء الحج، لأن ذلك سعي من أجل الرزق، والرزق أو الكسب فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة، فلا مانع من انضمام قصد الاتّجار إلى الحج، وإنما الممنوع هو قصد التجارة فحسب. وقد تحرج المسلمون من التجارة في بادئ الأمر، خشية التأثير على العبادة، كما بيّنا في سبب النزول، فكانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا إثم فيه مع إخلاص العبادة. التفسير والبيان: لا إثم عليكم في طلب الرزق الحلال أثناء الحج من طريق البيع والشراء والكراء إذا لم يكن هو المقصود الأساسي بالذات، وإنما يجوز أن يكون تبعا للعبادة، إذ هو مع حسن المقصد عبادة أيضا، ولكن التفرغ لأداء المناسك أفضل وأكمل، لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة 98/ 5] . ويشترط أيضا لإباحة التجارة في الحج: ألا يترتب عليها نقصان في الطاعة، ولا تشغله عن أعمال الحج، لذا أمر الله تعالى بذكره بعد الوقوف بعرفات الذي هو أهم أركان الحج للحديث النّبوي: «الحج عرفة» «1» ، وبعد الإفاضة من عرفات: أي الاندفاع في السير بكثرة، فعلى الحاج إذا دفع إلى المزدلفة وبات فيها أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالتلبية والتهليل والدعاء والحمد والثناء، وإنما طلب منه الذكر خشية أن يتركه في هذا الموضع المبارك. والمشعر الحرام: هو الجبل الذي يقف عليه الإمام، فقد روي: «عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما صلّى الفجر بالمزدلفة، ركب ناقته، حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبّر، وهلل، ولم

_ (1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي عن عبد الرحمن بن يعمر.

يزل واقفا حتى أسفر جدا» أي دخل في الإسفار وهو بياض النهار، وورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال: كان الناس في هذه الليلة لا ينامون. ثمّ بيّن الله سبحانه طريقة الذّكر، فقال: واذكروه كما علّمكم كيفيّة الذّكر، بأن يكون بتضرع وإخلاص وإنابة قلبية وخشوع وحضور القلب مع الله، وهذا هو الذّكر الحسن، كما هداكم هداية حسنة، وإن كنتم من قبل هذا الهدى من الضّالين عن الحق في العقيدة والعمل، إذ كنتم تعبدون الأوثان والأصنام، وتتخذونها وسطاء أو شفعاء عند الله، لتقربكم إلى الله زلفى. ثم أمرت الآية قريشا وبعض القبائل بالإفاضة من عرفات، كما يفيض الناس منها ويقفون عليها، بعد أن كانوا يقفون في المزدلفة، ترفعا عن غيرهم. روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس «1» كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة، ترفّعا عن الوقوف مع العرب في عرفات. وتحقيقا لمبدأ المساواة ونبذ الامتيازات في الإسلام أمر الله نبيّه بأن يقف مع المسلمين جميعا في عرفات، وأن يفيضوا منها إبطالا لما كانت عليه قريش. ولما كانت أعمال الحج كثيرة، وهي لا تخلو عن تقصير، أمرهم بالاستغفار، فالله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يطلب ذلك منه مع التوبة الخالصة. ثم أبطل الله تعالى عادة جاهلية أخرى وهي المفاخرة بأمجاد الآباء حيث إنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل، بعد الفراغ من أعمال الحج، كما بيّنا في سبب النزول، ويؤكده ما روى ابن عباس: أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم، يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة، والحماسة، وصلة الرحم،

_ (1) الحمس: مفرده أحمس: وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.

ويتناشدون فيها الأشعار، فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام، أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم. وروى القفال عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء، يوم الفتح، يستلم الركن بمحجنه، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم حميّة الجاهلية وتفككها، يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: برّ تقيّ كريم على الله، أو فاجر شقيّ هيّن على الله، ثم تلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.. الآية [الحجرات 49/ 13] . وخطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا في حجة الوداع في ثاني أيام التشريق، فأرشد العرب إلى ترك تلك المفاخرات، وقال: «أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلّغت؟» قالوا: بلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإبطال تلك العادة كان بالأمر بذكر الله ذكرا كثيرا مبالغا فيه، كما كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم، بل أشدّ من ذكرهم آباءهم. ثم ذكر ما يكون من الناس الذاكرين في الدعاء، ليأخذوا بأحسن الأحوال ويتركوا غيره، فقال: الناس في الحج قسمان: قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا، والاستزادة من خيراتها، ويسكت عن الآخرة، وكأنها لا تخطر له ببال، ولا يهتم بشيء من أمورها، فيطلب الجاه والغنى والنصر على الأعداء ونحو ذلك من حظوظ الدّنيا، هذا القسم لا خلاق (لا حظّ) لهم في الآخرة، مما أعدّه الله للمتقين من رضوانه وجناته.

وقسم يحرص على طلب خيري الدّنيا والآخرة، فيقول: ربّنا هب لنا حياة طيبة سعيدة هانئة في الدنيا، وحياة راضية رغيدة مطمئنة في الآخرة، وطلب كلّ من سعادة الدّنيا والآخرة منوط بالعمل الطيب النافع، فالدّنيا تتطلب الجهد والسعي في سبيل الرزق، وحسن المعاملة والمعاشرة، والتّخلّق بمحاسن الأخلاق، والآخرة لا تنال إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وهذا القسم حريص على اجتناب المعاصي وأسباب العذاب في النار، فيقول: ربّنا احفظنا من شهوات نفوسنا، وباعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقنا للعمل بما يرضيك، فإذا قام المؤمن بفرائض الله واجتنب المعاصي والمنكرات، وطلب سعادة الدارين، حقق الله له النجاح فيهما. والحسنة في الدّنيا: هي الصّحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء. والحسنة في الآخرة: هي الفوز بالثواب والخلاص من العقاب. ثم أشار الله إلى الفريقين: الذين طلبوا الدنيا، والذين طلبوا الدنيا والآخرة معا، فأبان أنّ كلّا منهما يعطى حظّا مما طلب ودعا، وقيل: إن قوله: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ.. راجع للقسم الثاني فقط، لأن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وعلى كل حال يكون نوال الجزاء مبتدءا من الكسب، لأن فَمِنَ لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، والله سريع الحساب، يوفي كلّ كاسب أجره عقب عمله، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطّلاع كل عامل على عمله، ويتمّ ذلك في لحظة، فقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم بمقدار لمحة البصر، وروي بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وفي الجملة: آية رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، وما دام الحساب محقق الوقوع، فهو قريب سريع.

وهناك شبيه لهذه الآية، وهي قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء 17/ 18- 20] . وقوله عزّ وجلّ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا، نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] . ثم أمر الله تعالى بذكره في أيام منى بعد الأمر السابق بذكره عند المشعر الحرام، وعند تمام أداء المناسك بعد منى، فقال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي أيام منى أو أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر، وهي الأيام التي يرمون فيها الجمار، وينحرون فيها الهدي والأضاحي. والذكر في هذه الأيام يكون بالتهليل والتكبير عقب الصلاة وعند رمي الجمار وذبح القرابين، ويستوي في نوع هذا الذكر الحاج وغيره إلا أن غير الحاج يكبّر أيضا في يوم عرفة، والحاج يلبي، والمأثور من التّكبير: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا» . ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكبّر في فسطاطه بمنى، فيكبّر من حوله، حتى يكبّر الناس في الطريق. وروي عن الفضل بن العباس قال: «كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جمع- مزدلفة- إلى منى، فلم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة» . ويلاحظ أنه ورد الأمر بالذكر في الحج في هذه السورة في أيام معدودات، وفي سورة الحج في أيام معلومات: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (الآية: 28) ، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنّ

«المعلومات» هي العشرة الأوائل من ذي الحجة، آخرها النّحر، وأما «المعدودات» فهي ثلاثة بعد يوم النّحر، وهي أيام التشريق. وقد أكّد القفال هذا بما رواه في تفسيره أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديا فنادى: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع- مزدلفة- قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه» ، وروى أصحاب السّنن عن عبد الرحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا ينادي: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع «1» - مزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» . ومذهب مالك أن أيام الرّمي معدودات وأيام النّحر معلومات، فيوم النّحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم. ومعنى آية فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ..: أنّ من تعجل في الإتيان بالمطلوب في الأيام الثلاثة، بأن جعله في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر، بأن لم يأخذ برخصة التعجيل، فلا إثم عليه، فالأفضل البقاء في منى والمبيت بها ثلاثة أيام وليال، لرمي الجمار «2» الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات، تأسّيا بفعل إبراهيم عليه السلام، وتمتاز جمرة العقبة بأنها ترمى وحدها يوم النحر أيضا. ويجوز الترخص والمبيت بمنى ليلتين الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ثم النّفر إلى مكة. ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني، فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر، ولا إثم عليه بترك الترخص. هذا التخفيف والتخيير في التعجيل والتأخير، ونفي الإثم عن المستعجل

_ (1) سميت جمعا: لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام. (2) الجمار: جمع جمرة: وهي مجتمع الحصى.

فقه الحياة أو الأحكام:

والمتأخر أو هذا الغفران، إنما هو لمن اتّقى «1» الله وترك ما نهى عنه، فلم يلبس حجه بالمظالم والمآثم، لأنه هو الحاج الحقيقي، لأن الغرض من كل عبادة هو التقوى، كما قال الله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة 5/ 27] . وتحقيق التقوى: بذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال. ثم أمر الله بالتقوى فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي واتّقوا الله حين أداء مناسك الحج، وفي جميع الأحوال، ثم أكّد الأمر بالتقوى فقال: واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للحساب والجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والحشر: من ابتداء الخروج من الأجداث إلى انتهاء الموقف، والعاقبة للمتّقين، والعاقبة للتقوى، قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم 19/ 63] ، وقال أيضا: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] . ومن علم أنه محاسب على أعماله، التزم العمل الصالح، واتقى ربّه، وقد كرّر الأمر بذكر الله وبالتقوى، للإرشاد بأن المهم في العبادة هو إصلاح النفس وفعل الخير، والبعد عن الشر والمعاصي. وأما من ظن أو شك في المصير المحتوم فيعمل تارة ويترك أخرى. ولما ذكر الله تعالى النفر الأول من عرفات، والنفر الثاني بعد إنهاء المناسك وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، كما قال: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك 67/ 24] . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. على جواز التجارة في الحج للحاج، مع

_ (1) اللام من قوله لِمَنِ اتَّقى متعلقة بالغفران على تفسير ابن مسعود وعلي، التقدير: المغفرة لمن اتقى. وروي عن ابن عمر: التقدير: الإباحة لمن اتقى. وقيل: السلامة لمن اتقى.

أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن شرط الإخلاص المفترض عليه. لكن الحج دون تجارة أفضل، لبعده عن شوائب الدّنيا وتعلّق القلب بغيره. وفي آية: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ.. دلالة على أن الوقوف بعرفة أمر واجب لا بدّ منه، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، ولأنه قد رتب عليه الأمر بالذكر عند المشعر الحرام. وقد أجمع العلماء على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال (الظهر) ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك. وأجمعوا على تمام حجّ من وقف بعرفة بعد الزوال، وأفاض نهارا قبل الليل، إلا الإمام مالك، فإنه قال: لا بدّ أن يأخذ من الليل شيئا. ولا خلاف أيضا في أن من وقف بعرفة بالليل فحجّه تام. وحجة الجمهور: مطلق قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ولم يخصّ ليلا من نهار، وحديث عروة بن مضرّس قال: أتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الموقف من جمع- مزدلفة-، فقلت: يا رسول الله، جئتك من جبلي طيء، أكللت مطيّتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل «1» إلا وقفت عليه، فهل لي من حجّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع، وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد قضى تفثه «2» ، وتمّ حجّه» «3» .

_ (1) أي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه. (2) المراد أنه أتى بما عليه من المناسك. والمشهور: أن التفث: ما يصنعه المحرم عند حلّه من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل ضمن ذلك نحر الإبل وغيرها وقضاء جميع المناسك، لأنه لا يقضى التفث إلا بعد ذلك. (3) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وحجة مالك: حديث جابر الطويل عند مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصّفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأفعاله عليه الصلاة والسلام على الوجوب، لا سيّما في الحج، وقد قال: «خذوا عني مناسككم» . وهل على من وقف نهارا فقط في عرفات شيء؟ أوجب الجمهور (غير الشافعية) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، اقتداء بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن أفاض (دفع) قبل غروب الشمس، ولم يرجع، فحجّه صحيح تام، وعليه دم عند الحنفية والحنابلة، وقال مالك: عليه حجّ قابل، وهدي ينحره في حجّ قابل، وهو كمن فاته الحج. وذهب الشافعية: إلى أنه يسنّ الجمع بين الليل والنهار فقط، اتّباعا للسّنة، فإن أفاض قبل الغروب، فلا دم عليه، وإن لم يعد إلى عرفة ليلا، للخبر الصحيح: «من أتى عرفة قبل الفجر ليلا أو نهارا، فقد تمّ حجه» . والأفضل أن يقف بعرفة راكبا لمن قدر على الركوب، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه أعون على الدعاء، فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف. وفي الوقوف راكبا تعظيم للحج قال الله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج 22/ 32] . وظاهر عموم القرآن والسّنة الثابتة يدلّ على أن عرفة كلها موقف، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف» . ويوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «صوم يوم عرفة يكفّر السنة الماضية والباقية» ، وهذا سنّة لغير الحاج، وصام بعض أهل العلم بعرفة يوم عرفة، وقال أيضا: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت

أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» ، وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عزّ وجلّ، ثم يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء» . ورغّبت الآيات في ذكر الله في مواضع كثيرة في الحج، عند المشعر الحرام، وفي أيام منى، وبعد الانتهاء من الحج، وذلك بالدعاء والتّلبية عند المشعر الحرام، وبالتهليل والتّكبير في منى، وبالاستغفار والدعاء في عرفات وبعد الإفاضة منها وبعد إنهاء أعمال الحج، لتقوى الصّلة والارتباط بالله، ولتكون خشية الله في مرأى ومسمع وقلب المسلم إذا عبد الله أو تعامل مع الناس. روى أحمد ومسلم حديثا عن نبيشة الهذلي: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر» . وقيل: الأمر الأول: أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني: أمر بالذكر على حكم الإخلاص، والثالث المداومة على الذكر كذكر مفاخر الآباء والتغني بالأمجاد الذي كان في الجاهلية عقب الحج، بل كأشد ذكرا من ذكر الآباء. ومن أكمل الأذكار والدعاء في هذه الآيات: الصيغة الجامعة لخيري الدّنيا والآخرة، فهي من جوامع الدعاء التي يطلب من المؤمن الإكثار منها، وهي: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ. جاء في الصحيحين عن أنس قال: «كان أكثر دعوة يدعو بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهمّ آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار» . وثبت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر والعصر في يوم عرفة جمع تقديم مع خطبة كخطبة الجمعة، وصلّى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمع تأخير، بأذان واحد وإقامتين، كما ثبت في الصحيح. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين. وليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج عند الجمهور، وقال مالك: الوقوف بها

واجب، ويكفي مقدار حطّ الرّحال وجمع الصّلاتين، وتناول شيء من الطعام والشراب، والمبيت بها سنّة مؤكّدة، فمن لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله، فلا شيء عليه. وقال الحنفية: يجب الوقوف بالمزدلفة ولو لحظة بعد الفجر، ولو مارّا كالوقوف بعرفة، ويسنّ المبيت فيها. وقال الشافعية: يكفي في المبيت بالمزدلفة الحصول بها لحظة بعد منتصف الليل. وقال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب لما بعد منتصف الليل، من تركه فعليه دم. والواجب عند الكل من الفدية أو الدم هو شاة، ودليل وجوب الوقوف بالمزدلفة حديث عروة بن مضرّس المتقدم: «من صلّى معنا هذه الصلاة، ثم وقف معنا حتى نفيض، وقد أفاض قبل ذلك- من عرفات «1» - ليلا أو نهارا، فقد تمّ حجه، وقضى تفثه» . ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة في رأي أكثر العلماء، والمشهور عن مالك قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة. ودليل الجمهور: ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس: «لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبّي حتى رمى جمرة العقبة» . ويحصل التحلل الأصغر للحاج برمي جمرة العقبة والحلق والذبح، لما روى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رميتم وحلقتم وذبحتم، فقد حلّ لكم كلّ شيء إلا النساء، وحلّ لكم الثياب والطّيب» .

_ (1) الزيادة عن الدارقطني.

وبعبارة أخرى: يحصل بفعل اثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحلّ النساء وجميع محظورات الإحرام. وقت التكبير: إن ذكر الله في الأيام المعدودات: هو التّكبير عقب الصلوات وعند رمي الجمرات، قال مالك: يبدأ التّكبير من ظهر يوم النّحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات التي يكبّر فيها خمس عشرة صلاة. وفي رواية عن الشافعي: يبدأ بالتكبير من صلاة المغرب ليلة النّحر. وفي رواية أخرى عنه وعن أبي حنيفة: إنه يبدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة، ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النّحر. ومذهب الحنفية والحنابلة والمشهور عند الشافعية: أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات ثلاثا وعشرين صلاة، بدليل ما روى جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه صلّى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا، فقال: الله أكبر، ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق» . وفي قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا: قال ابن عباس: هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب، وروي عنه- فيما رواه الدارقطني- في هذه الآية أنّ رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان على أبيك دين، فقضيته، أما كان ذلك يجزي؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» ، وقول ابن عباس نحو قول مالك، أي أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأن له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، لذا لا فرق بين أن يكون النائب حجّ عن نفسه حجة الإسلام أم لم يحجّ.

ولا خلاف في أن المخاطب بالذكر في الأيام المعدودات هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمرات، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند إدبار الصلوات دون تلبية. وغير الحاج في رأي جماهير الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار مثل الحاج مطالب بالتكبير، فيكبّر عند انقضاء كل صلاة، سواء صلّى وحده أو في جماعة، تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم، على النحو الذي بيّناه في وقت التّكبير. وفي المدونة لمالك: إن نسي التّكبير إثر صلاة، فإن كان قريبا قعد فكبّر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبّر، والقوم جلوس فليكبّروا. ولفظ التّكبير في مشهور مذهب مالك: ثلاث تكبيرات، وفي رواية يزاد: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. وأجمع الفقهاء على أن يوم النّحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرم يوم النّحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال. وأجمعوا أيضا على أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب. وأجاز الجمهور (غير الشافعي) رمي جمرة العقبة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يجوز رميها قبل الفجر. وأباح الشافعي رميها بعد نصف الليل. فإذا مضت أيام الرمي، فلا رمي، وعليه الهدي (دم) ، سواء ترك الجمار كلها، أو جمرة منها، أو حصاة من جمرة، في رأي مالك. وقال أبو حنيفة: إن ترك الجمار كلها فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء، إلا جمرة

الناس إما منافقون أو مخلصون [سورة البقرة (2) الآيات 204 إلى 207] :

العقبة فعليه دم. وقال الشافعي: إن في الحصاة الواحدة مدّا من الطعام، وفي حصاتين مدين، وفي ثلاث حصيات دم. وينتهي عند الجميع وقت الرمي بغروب شمس اليوم الرابع من أيام النحر. والمبيت بمنى «1» عند الجمهور ليالي التشريق واجب، فلا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى في تلك الليالي إلا للرّعاء ولمن ولي السقاية من آل العباس، ومن ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء وأهل السقاية، فعليه دم، لأن المبيت من شعائر الحج ونسكه. ويرمى عن المريض والصّبي اللذين لا يطيقان الرمي، ويتحرى المريض حين الرمي عنه، فيكبّر سبع تكبيرات، لكلّ جمرة، وعليه الهدي عند مالك. وقال الجمهور: لا دم عليه. الناس إما منافقون أو مخلصون [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) الإعراب: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ مبتدأ وخبره، والخصام إما جمع خصم أو مصدر خاصم بمعنى الخصومة، يقال: خاصم خصاما، كقاتل قتالا، والمعنى: شديد الخصومة.

_ (1) سميت منى: لما يمنى فيها من الدماء، أي يراق.

البلاغة:

البلاغة: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ذكر لفظ الإثم بعد قوله: العزة من باب «التتميم» في علم البديع، ليدلّ على أنها عزّة مذمومة. وَلَبِئْسَ الْمِهادُ من باب التهكّم، أي لبئس الفراش هي جهنم، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، فالله يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله، سيكون مهاده ومأواه النار. المفردات اللغوية: يُعْجِبُكَ يروقك لوافقته إياك بالإيمان والخير. أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة والعداوة. تَوَلَّى ذهب وانصرف عنك. سَعى مشى. الْحَرْثَ الزرع. النَّسْلَ ما تناسل من الحيوان. لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ حملته العزة الكاذبة أي الأنفة والحمية، على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه. فَحَسْبُهُ كافيه. الْمِهادُ الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسمى جهنم مهادا، لأنها مستقر الكفار، أو لأنها بدل لهم من المهاد. يَشْرِي نَفْسَهُ يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله أي رضاه. سبب النزول: روى ابن جرير عن السّدي في نزول الآيات (204- 206) : أن الأخنس بن شريق الثقفي «1» أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأظهر له الإسلام، ثم خرج، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر (قتل) الحمر، فأنزل الله الآية. وقال سعيد بن المسيّب- فيما يرويه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم-: أقبل صهيب الرومي مهاجرا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فاتبعه نفر من

_ (1) اسمه أبي، والأخنس لقب، لقّب به، لأنه خنس يوم بدر بثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان رجلا حلو القول والمنظر.

المناسبة:

قريش، فنزل عن راحلته، وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش: لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وأيم الله، لا تصلون إليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي، ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة، وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قال: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع» ، ونزلت الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ... المناسبة: ذكر الله في الآيات السابقة أن الناس في الحج صنفان: منهم من يدعو الله للدنيا، ومنهم من يدعو للآخرة، وأن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله، ومحل التقوى هو القلب لا اللسان، وهنا ذكر صنفين آخرين في ميزان التقوى: منافق ومؤمن، الأول يظهر غير ما يبطن، والثاني مخلص في عمله يبتغي مرضاة الله تعالى. التفسير والبيان: بعض الناس يروقك قوله ويعجبك لسانه وبيانه، ولكنه منافق يظهر غير الحقيقة، فيعلن غير ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، ليحظى بشيء من أعراض الدنيا الفانية، ويزيد في الإيهام والتضليل أنه يحلف بالله أنه صادق، فيقول: يعلم الله هذا، ويشهد أني صادق، وهو في الواقع قوي الجدل، يغش الناس بما يظهر، شديد العداوة للمسلمين. وهذه الخصال الثلاث (حسن القول، وإشهاد الله على صدقه، وقوته في الجدل) وجدت في الأخنس بن شريق، كما بيّنا في سبب النزول. وهذا الصنف سرعان ما ينكشف أمره، فتراه إذا توارى عن الأعين يكون ضدّ ما قال، فيسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث (الزرع) ويقضي على

فقه الحياة أو الأحكام:

النسل، إرضاء لنزعات نفسه الأمّارة بالسوء، وانقيادا لأهوائه وشهواته، وإيثارا لمقاصده الدنيوية الحقيرة، والله سبحانه لا يرضى بالفساد ولا يحبه، ولا يحب المفسدين، ولا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال. وإذا نصحه إنسان، فقال له: اتّق الله، حملته الحمية الجاهلية، والعزّة الشيطانية على ارتكاب الإثم والحرام، لأنه ينفر من الصلاح والمصلحين، فيكفيه عذاب جهنم، فهي مأواه ومهاده، ولبئس المهاد مهاده، بسبب سوء عمله في الدنيا، وسوء خداعه وحاله ولحنه في كلامه، قال الله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد 47/ 30] . وأما الصنف الثاني: فهو فريق يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، فتراه يجاهد في سبيل الله لإقرار الحق والعدل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتحرى صالح الأعمال وقول الحق، مع الصدق والإخلاص فيهما، وليس له لسانان أو وجهان، ولا يؤثر عرض الدنيا على ما عند ربه من حسن الجزاء، والله رءوف بالناس، فيجزيهم بالنعيم الدائم على العمل القليل، ولا يكلفهم فوق الطاقة، وينشر عليهم واسع رحمته وإحسانه وكرمه، ولولا ذلك لغلب شرّ أولئك المفسدين في الأرض، حتى لا يبقى فيها صلاح: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة 2/ 251] . فقه الحياة أو الأحكام: قال علماء المالكية: في هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط في أمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم، حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله تعالى بيّن أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا، وهو ينوي قبيحا.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن أم سلمة: «فأقضي له على نحو ما أسمع» فكان هذا في صدر الإسلام حيث يكتفي بالظاهر لسلامة أحوال الناس، أما بعد أن عمّ الفساد، فلا بدّ من التزكية والتعرّف على البواطن «1» . والصحيح كما قال القرطبي: أن الظاهر يعمل به حتى يتبيّن خلافه، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري: «أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة» «2» . وأرشدت الآية إلى أن فريق المنافقين شأنه الإفساد والتدمير والتخريب من الباطن، وهو لا يتّقي الله، ولا يخشاه، فحقّ له العذاب في جهنم، فهي مأواه ومصيره، وبئس المصير. كما أرشدت الآية إلى أن المخلص في عمله لله، والذي جاهد في سبيل الله، يستحق رضوان الله ورحمته، ويظفر بجنان الخلد، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. إلى قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة 9/ 111] . والفريق الأول يوجد في كل أمة، فقد يخدع الشخص فردا واحدا أو أفرادا معدودين، وقد يخدع الأمة بأجمعها، فيوقعها في مهاوي الشرّ والعذاب. وقد يعتمد هذا الصنف على الأيمان الكاذبة، فيحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 143 (2) تفسير القرطبي: 3/ 16

ويدّعي، وفي معنى الحلف: أن يقول الإنسان: الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا، وأريد كذا، قال العلماء: إن هذا آكد من اليمين، ورأى بعض الفقهاء: أن من قاله كاذبا يكون مرتدا، لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى، وعلى كل حال: إن أقل ما يدل عليه هذا هو عدم المبالاة بالدين، ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عز وجل، فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا.. [البقرة 2/ 9] «1» . ودلّ التعبير القرآني الموجز: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ على حقيقة ثابتة وهي أن وجود فئة المخلصين بين الناس رحمة عامة للعباد، لا خاصة بهم، فكثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم، إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم، وعلى من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدّر الأمور بقدرها، إذ ليس المقصود بهذا الشراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.. [التوبة 9/ 111] إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشرّ، وفعل الخير العام، رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة «2» وكون آية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. نزلت في الأخنس، فلا يخصصها، وإنما هي عامة في كل من يتصف بصفته، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال سعيد المقبري: إن في بعض الكتب: إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر «3» ، لبسوا للناس مسوك «4» الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: عليّ تجترئون

_ (1) تفسير المنار: 2/ 196 [.....] (2) المرجع السابق: 2/ 204 (3) جاء في الترمذي حديث: «إن في بعض كتب الله أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر..» الحديث. (4) المسوك: الجلود، جمع مسك.

الدعوة إلى قبول الإسلام واتباع أحكامه وجزاء المخالف [سورة البقرة (2) الآيات 208 إلى 212] :

وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب القرظي: «هذا في كتاب الله» فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: «إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعد» . قال ابن كثير: وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح «1» . الدعوة إلى قبول الإسلام واتباع أحكامه وجزاء المخالف [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 212] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) الإعراب: كَافَّةً منصوب على الحال من ضمير ادْخُلُوا.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 246

البلاغة:

سَلْ فعل أمر، وأصله «اسأل» إلا أنه حذفت الهمزة تخفيفا، ونقلت حركتها إلى السين قبلها، فاستغنى عن همزة الوصل. وكَمْ منصوب على الظرف، وتقديره: كم مرة، وعامله: آتَيْناهُمْ. وجملة آتَيْناهُمْ مع كَمْ في موضع نصب مفعول ثان لفعل سَلْ. ولا يجوز أن يكون العامل في كَمْ هو سَلْ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. زُيِّنَ لم يقل «زينت» وإن كانت الْحَياةُ مؤنثة لسببين، لوجود الفاصل بينهما، ولأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، فيجوز ترك علامة التأنيث، مثل: حسن الدار، واضطرم النار. البلاغة: هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام إنكاري في معنى النفي، بدليل مجيء إِلَّا بعدها، أي ما ينتظرون. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ التنكير للتهويل. وَقُضِيَ الْأَمْرُ عطف على المضارع: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ للدلالة على تحققه، فكأنه قد كان. فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أظهر لفظ الجلالة لتربية المهابة والروعة. زُيِّنَ أورد بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مستقرا في طبعهم. وَيَسْخَرُونَ عطف بالمضارع لإفادة استمرار السخرية منهم. المفردات اللغوية: السِّلْمِ: التسليم والانقياد، ويطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام، والمراد هنا الإسلام. كَافَّةً في اختيار السيوطي: حال من السلم، أي في جميع شرائعه، وقال أهل اللغة: حال من ادْخُلُوا أي جميعا. خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق، جمع خطوة، والمراد تزيينه ووساوسه بالتفريق. عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة. زَلَلْتُمْ ملتم عن الدخول في الإسلام جميعه، والزلل في الأصل: عثرة القدم، ثم استعمل في الانحراف عن الحق. الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرة والأدلة التي ترشد إلى أن الإسلام الذي دعيتم إليه هو الحق. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء عن الانتقام منكم. حَكِيمٌ في صنعه، يعاقب المسيء، ويكافئ المحسن. هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظرون أي تاركو الدخول فيه. يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي يأتيهم عذابه أو أمره كقوله: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي عذابه. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة، وهي ما أظلك. مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض الرقيق. وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي في لا حرة فيجازي الناس.

سبب النزول:

وقال أهل السلف: الإتيان في ظلل من الغمام كالمجيء في آيات أخرى: مما وصف به الله تعالى نفسه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. آيَةٍ بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة لا يخفى أنها من عند الله، كالعصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى، فبدلوها كفرا. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ التبديل: تغيير الشيء من حال إلى حال، ونعمة الله: آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه، وجعلها مصدر الهداية والنجاة. الْعِقابِ العذاب. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا حسّن لأهل مكة. الْحَياةُ الدُّنْيا بالتمويه، فأحبوها. وَيَسْخَرُونَ يستهزئون من الذين آمنوا لفقرهم، كبلال وعمار وصهيب، ويتعالون عليهم بالمال. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك وهم هؤلاء. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقدير ولا حصر ولا تعداد على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور، أو أنه كناية عن السعة، فيرزقهم رزقا واسعا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبالتسلط على أولئك الساخرين، وأما في الآخرة فبالفوز بالجنة والرضوان الإلهي، وهذا كما يقال: «هو ينفق بغير حساب» على معنى أنه ينفق كثيرا. سبب النزول: نزلت الآية (208) في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة. وروى عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة:

المناسبة: أوضح الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يفسد في الأرض ويخرب العامر، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته، وأتبع ذلك هنا بأن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفرق والانقسام، فأمرهم بقوله: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه. التفسير والبيان: يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب انقادوا إلى الله تعالى في كل شيء، وادخلوا في الإسلام كله، وخذوا الإسلام بجملته، ولا تخلطوا به غيره، وافعلوا كل ما أمركم به الإسلام من أصول وفروع وأحكام دون تجزئة أو اختيار «1» ، كالعمل بالصلاة والصيام مثلا، وترك الزكاة والحدود، وتناول الخمر، وأخذ الربا، وفعل الزنى، ونحوه مما نراه الآن. وحافظوا على وحدة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، كما قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.. [آل عمران 3/ 103] واحذروا التنازع والاختلاف، كما قال عز وجل: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي قوتكم [الأنفال 8/ 46] وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» . ولا تتبعوا طرق الشيطان في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع، فهذه

_ (1) قال أبو حيان: إن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه، فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام وألا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بأنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة (البحر المحيط: 2/ 120) .

وسائله ووساوسه التي يزخرفها أو يزينها للناس، يسوّل لهم المنافع والمصالح. ويصرف الشخص عن الحق والهداية، ويفرق بين الجماعة، كما حدث من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وحرفوا وبدلوا، ونقصوا وزادوا، فتمزقت وحدتهم، وسلّط الله عليهم الأعداء. والسبب في تحذيرنا من اتباع خطوات الشيطان: أنه العدو اللدود الظاهر العداوة، فإن جميع ما يدعو إليه هو الضلال والباطل بعينه. ثم توعد الله من حاد عن جادة الاستقامة، فأعلمهم أنكم إن ملتم عن الحق، وابتعدتم عن صراط الله وهو الإسلام، بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات القاطعات، وسرتم في طريق الشيطان، طريق الخلاف والنزاع والتفريق، فإن الله عزيز لا يغلب، أو غالب على أمره، لا يعجزه الانتقام منكم، حكيم في صنعه، لا يهمل المذنب، وإنما يعاقبه ويؤاخذه في الدنيا والآخرة. وهكذا الحكم في كل الأفراد، إذا لم يلتزموا طريق الاستقامة، ولم يتحصنوا بدرع متين من الأخلاق، وأهملوا شرع الله كله أو بعضه، فلن يوفقوا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم زاد في التهديد والوعيد، فأورد هذا الاستفهام: ما ينتظر هؤلاء المكذبون دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إثباتها بالأدلة والبراهين الساطعة، وأولئك الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من العذاب في ظلل من الغمام (السحاب) حيث ينتظرون الخير، تنكيلا بهم، وتأتيهم الملائكة وتنفذ ما قدره الله وأراده لهم، وهو أمر قضاه الله وأبرمه، فلا مفرّ منه، والمرجع في كل الأمور في النهاية إلى الله يوم القيامة، فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول مبدئ الخلائق، وهو الآخر تصير إليه الأمور.

وحكمة إنزال العذاب في الغمام الذي هو مظنة الرحمة والأمل في الخير، هو إنزاله فجأة من غير سابق إنذار، كما في آية أخرى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان 25/ 25] . وهذا يومئ للمؤمن بأن يبادر إلى التوبة وإصلاح الحال، حتى لا يفاجئه العذاب، ويأتيه بغتة وهو لا يشعر، فإذا لم تفاجئه القيامة، فاجأه الموت، أو المرض الذي يعجزه عن العمل الصالح، كما جاء في آية أخرى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر 39/ 54- 55] . ثم فتح الله سبيل الحوار والمناقشة مع بني إسرائيل عن الآيات العديدة التي حدثت على يد رسلهم، كي يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي قامت على مثل تلك الآيات أو المعجزات. فقال: سل يا محمد بني إسرائيل سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ لهم عن الآيات الكثيرة التي جاءت على أيدي رسلهم الكرام، مثل موسى وعيسى عليهما السلام، فهي تدل دلالة قاطعة على صدقهم، ومثلها المعجزات الدالة على صدقك، فهي متنوعة وكثيرة تؤدي إلى الاقتناع والتصديق بالنبوات. فهل لهم أن يتعظوا ويتدبروا، ويقلعوا عن جحودهم بالحق وطغيانهم؟ وإلا حلّ بهم من النكال مثل ما حلّ بأسلافهم. ثم هدد كل من يغيّر سنن الله، فقال: ومن يغير نعمة الله وهي الأدلة والبراهين الدالة على الحق والخير والهداية، من بعد ما وصلت إليه وعرفها، ويجعلها من أسباب ضلاله وكفره وعصيانه، فله العذاب الشديد، والعقاب الصارم، والجزاء المحتم، لأنه من سنن الله العامة القائمة على العدل والإنصاف،

تمييزا بين المحسن والمسيء، والله شديد العقاب لمن خالف وأساء، رؤف رحيم بمن أطاع وأحسن. ولكن طبيعة الكافرين الجاحدين قائمة على حب الدنيا حبا شديدا، وتحسينها في أعينهم، وتمكّن محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وفتنوا بمباهجها وزخارفها، وآثروها على كل شيء، حتى ما عند الله من نعيم مقيم، لأنهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا بالآخرة، ثم يتبعون التأويلات والأوهام والآمال الكاذبة التي علقت في خواطرهم. وتراهم يسخرون من المؤمنين، ويستهزئون بالفقراء منهم، كابن مسعود وعمار وصهيب، ويعجبون: كيف ترك هؤلاء لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات؟ كما يعجبون من الأغنياء، كيف لا يتقلبون في النعيم، ويستعدون لما بعد الموت، بتصحيح الاعتقاد، وإصلاح الأعمال، والتخلق بفضائل الأخلاق؟ ويتلخص موقفهم أو نظرتهم بأنه موقف مادي، لا أثر فيه للروحانية. ثم ردّ الله على هؤلاء الساخرين الذين يظنون أنهم في لذاتهم ودنياهم خير من أهل اليقين والإيمان، ومفاد الرد: إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين فترة من الدهر، بالمال أو المنصب والجاه، أو العزة والسلطان وكثرة الأنصار والأتباع، فإن المتقين سيكونون أعلى رتبة منهم في الآخرة، وأعلى مقاما عند ربهم، فهم في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم 19/ 63] . وقد تساءل الزمخشري عن السبب في قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا؟ ثم أجاب: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن

التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك «1» . هذا هو الجزاء المفضل الخالد في الآخرة، أما الدنيا فليس الارتفاع فيها خالدا، وإنما هو موقوت، بل هو في الحقيقة شيء حقير، يغتر بها سذاج الناس، أو السطحيون العاديون، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء. والله سبحانه يرزق من فضله من يشاء، ولو كان كافرا فاسقا، ويقدر الرزق أو يقلله على من يشاء، ولو كان مؤمنا طائعا، ويعطي الرزق عطاء كثيرا جزيلا، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث: «ابن آدم، أنفق أنفق عليك» «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا، ولا تخش من الله ذي العرش إقلالا» «3» وقال الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ 34/ 39] فيكون لكلمة الحساب في الآية (212) وجهان: التقدير أي من غير تقدير له، أو كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي ينفق كثيرا. وتكرر معنى هذه الآية في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء 17/ 18- 21] . ويلاحظ أنه لم يسترط السعي لرزق الدنيا، لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز أو ارتفاع أثمان ما يملك من عقار

_ (1) الكشاف: 1/ 269 (2) حديث قدسي متفق عليه عن أبي هريرة بلفظ «أنفق أنفق عليك» . (3) رواه الطبراني في الكبير والقضاعي في مسنده عن ابن مسعود، وكذا البزاز.

فقه الحياة أو الأحكام:

وعروض، واشترط للآخرة السعي مع الإيمان، كما خصّها هنا بالذين اتقوا من المؤمنين «1» . والرزق بلا حساب في الدنيا يكون بالنسبة إلى الأفراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار، وكثيرا من الفجار أغنياء أو فقراء، لكن المتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر، كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلّص من كل ضيق، ويرى من عناية الله به رزقا غير محتسب. أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، وسنته فيها أن يرزقها بعملها، ويسلبها بزللها، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر، ولا تعمل ولا تتدبر «2» . فقه الحياة أو الأحكام: الإسلام كلّ لا يتجزأ، فمن آمن به وجب عليه الأخذ به كله، فلا يختار منه ما يرضيه، ويترك ما لا يرضيه، أو يجمع بينه وبين غيره من الأديان، لأن الله تعالى أمر باتباع جميع تعاليمه وتطبيق كل فرائضه، واحترام مجموع نظامه، بالحل أو الإباحة، وبالحظر أو الحرمة، فهو دليل الإيمان الحق به، فضلا عن القول بأن شرائعه نسخت كل الشرائع السماوية السابقة حال تعارضها معه. واختيار غير هذا المنهاج أو الخطة يكون اتباعا لخطوات الشيطان ووساوسه وأباطيله. وقد دلت آية فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع.

_ (1) تفسير المنار: 2/ 219 (2) تفسير المنار، المرجع والمكان السابق.

وأرشدت آية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ إلى أن مصير المخالفين أو العصاة هو الهلاك والعذاب، وهو أمر محتم نافذ لا مردّ له، وهذه النتيجة يقدرها كل عاقل، وهي التي قررها القرآن، فذكر تعالى: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه، يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض. وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء، كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه! وما أكثر الأدلة التي ترشد الناس إلى اتباع الحق والإسلام، لذا سئل بنو إسرائيل سؤال تقريع وتوبيخ: كم جاءهم من الآيات التي أيد الله بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظّلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك؟ كما قال مجاهد والحسن البصري وغيرهما، وقال غيرهم: كم جاءهم في أمر محمد عليه الصلاة والسلام من آية معرّفة عليه دالة عليه؟ ولا مانع من الجمع بين التفسيرين، كما فعلت. فإن بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومثلهم كل مبدّل نعمة الله، فلهم العقاب الشديد. وأما الماديون الكفار الذين فتنوا بالدنيا، وهم رؤساء قريش وأمثالهم، وصنفوا الناس على حسب الغنى والترف، وسخروا من المؤمنين الفقراء، وأقبلوا على الدنيا، وكانت موازينهم مادية محضة، وأعرضوا عن الآخرة بسبب الدنيا، فإنهم قصيرو النظر، لأن الله جعل ما على الأرض زينة لها، ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملا، ولأنهم لا يعتقدون غير الدنيا، وأما المؤمنون الذين هم على سنن الشرع، فلم تفتنهم زينة الدنيا، وسيكونون أرفع درجة من الكفار، لأنهم في الجنة، والكفار في النار، وسيلقون جزاء سخريتهم بالمؤمنين، كما قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين 83/ 34- 36] .

وروى عليّ رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة، أو حقّره لفقره وقلة ذات يده، شهره الله يوم القيامة، ثم فضحه، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى على تلّ من نار يوم القيامة، حتى يخرج مما قال فيه. وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرّب، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة. وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء، كما يعرف الرجل أهله وولده» . ومع جدارة الكافر لاستحقاق العقاب في الآخرة، فإن الله تعالى من باب العدالة والرحمة لا يحجب عنه الرزق والعطاء الذي يستمتع به في الدنيا، ويضمن له معيشته وكرامته، والله يرزقه ويرزق كل دابة في الأرض، ويعطي الإنسان عطاء بغير حساب أي بغير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى، والكفر والفجور، أو أن عطاءه واسع خصب كثير، لا حدود له، فهو جلت قدرته لا ينفق بعدّ، وفضله كله بغير حساب، أما الذي بحساب فهو ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ 78/ 36] لذا كان رزق المؤمن التقي في الآخرة أوسع من رزقه في الدنيا، وحينئذ يتميز المؤمن عن الكافر في زيادة الرزق واستمراره في الآخرة، وأما الكافر فلا رزق له هناك، وإنما جزاؤه العذاب في جهنم. قال الله تعالى عن المؤمنين: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات 77/ 41- 44] وقال الله سبحانه عن الكافرين: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الحاقة 69/ 35- 37] .

الحاجة إلى الرسل وما يلاقونه مع المؤمنين في دعوتهم [سورة البقرة (2) الآيات 213 إلى 214] :

الحاجة إلى الرسل وما يلاقونه مع المؤمنين في دعوتهم [سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 214] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) الإعراب: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ نصب على الحال. أَمْ حَسِبْتُمْ: أَمْ تكون متصلة ومنقطعة، فالمتصلة: لا تكون إلا بعد الاستفهام بالهمزة، والمراد بها تعيين المسؤول عنه بمنزلة (أي) نحو: أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك. والمنقطعة: بمنزلة «بل» والهمزة، وهي تقع بعد الاستفهام والخبر، وأم هاهنا منقطعة. وأَنْ تَدْخُلُوا في موضع المفعولين. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ الفعل منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وتقديره: حتى أن يقول، وحتى: هاهنا غاية، بمعنى: «إلى أن» فجعل قول الرسول غاية لخوف أصحابه. وحَتَّى لا ينتصب الفعل بعدها إلا إذا كان بمعنى الاستقبال. فأما إذا كان بمعنى الماضي أو الحال، فلا ينتصب بعدها بتقدير (أن) لأن (أن) تخلصه للاستقبال.

البلاغة:

البلاغة: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فيه إيجاز بالحذف أي كانوا على ملة واحدة وهي الإيمان والتمسك بالحق، فاختلفوا، بأن آمن بعض وكفر بعض. أَمْ حَسِبْتُمْ استفهام إنكاري، وأم هنا منقطعة بمعنى: بل أحسبتم. وَلَمَّا يَأْتِكُمْ: لما: تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فيها أربعة تأكيدات، وهي «ألا» أداة الاستفتاح، وإنّ، والجملة الاسمية، وإضافة النصر إلى الله القادر على كل شيء. المفردات اللغوية: أُمَّةً ورد لفظ الأمة في القرآن بعدة معان: 1- الجماعة: الذين يرتبطون برابطة واحدة، مثل قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف 7/ 181] وقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران 3/ 110] . 2- الملة: أي العقائد وأصول النشريع، مثل قوله: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الأنبياء 21/ 92 والمؤمنون 23/ 52] . 3- الزمن: مثل قوله: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود 11/ 8] وقوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف 12/ 45] . 4- الإمام: مثل قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل 16/ 120] أي رجلا جامعا للخير. والمراد بها هنا في رأي كثير من المفسرين: الملة: أي أن جميع الأنبياء والرسل على دين واحد. وقال آخرون: إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة. مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة. وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار. الْكِتابَ أي الكتب. الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرة على التوحيد. مِنْ بَعْدِ متعلقة باختلف، وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى. بَغْياً حسدا. مِنَ الْحَقِّ من بيانية. بِإِذْنِهِ بإرادته. أَمْ حَسِبْتُمْ بمعنى بل أحسبتم، وبل: تفيد افتتاح كلام جديد. وَلَمَّا لم مَثَلُ وصف عظيم وحال ذات شأن.

سبب النزول نزول الآية (214) :

مَسَّتْهُمُ جملة مستأنفة مبينة ما قبلها الْبَأْساءُ: شدة الفقر، وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته، كأخذ المال، والطرد من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة نشاط الدعوة إلى الله الضَّرَّاءُ المرض، وكل ما يصيب الإنسان في نفسه، كالجرح والقتل وَزُلْزِلُوا أزعجوا بأنواع البلايا، والزلزال: الاضطراب في الأمر. مَتى نَصْرُ اللَّهِ أي متى يقع نصر الله، وقَرِيبٌ خبر إن، وقريب: لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى، قال الله عز وجل: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] . سبب النزول: نزول الآية (214) : قال قتادة والسّدّي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق (الأحزاب) حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الأذى، وكان كما قال الله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب 33/ 10] وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب 33/ 11] . أما المنافقون فقالوا: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب 33/ 12] وقال صادقو الإيمان: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب 33/ 22] . وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة، اشتد الضر عليهم، بأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسرّ قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم: أَمْ حَسِبْتُمْ. المناسبة: أمر الله تعالى في الآية السابقة المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة ويأخذوا الإسلام بجملته، دون تجزئة أو خلط بينه وبين غيره، وأبان في هاتين الآيتين مدى الحاجة إلى الرسل، وأن الاهتداء بهديهم ضروري للبشر، وأن من آمن

التفسير والبيان:

بدعوة الأنبياء قد يتعرض للمحنة والشدة والبلاء، فعليه بالصبر حتى يأذن الله بالفرج أو النصر، وإن إصرار هؤلاء على كفرهم هو بسبب حب الدنيا. التفسير والبيان: كان الناس (أي بنو آدم) في وضع يحتاجون فيه إلى الهداية الإلهية، فأنعم الله عليهم بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إرسال الرسل، وأنزل مع بعضهم كتابا يرشدهم إلى الحق. وما ذلك الوضع الذي كانت عليه البشرية قبل الرسل والأنبياء؟ قال الجمهور: كانت أمة هداية على ملة واحدة، ودين قويم واحد، وعقيدة واحدة وتشريع واحد وهو دين الإسلام، فاختلفوا فيما بينهم، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين. روى أبو داود عن ابن عباس قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» . واستدلوا أيضا على صحة قولهم: بأن آدم عليه السّلام كان نبيا، وكان أولاده على ملته هادين مهتدين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه، وكان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف. وذهبت طائفة أخرى (ابن عباس وعطاء والحسن البصري) : إلى أن الأمة أمة الضلال التي لا تهتدي بحق، ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة، ودليلهم: ما اقتضاه وضعهم من إرسال الرسل، لتظهر مهمتهم بنحو معقول، وليحكموا بينهم في الاختلافات الناشئة عن فساد العقيدة، واتباع الأهواء الضالة في الأعمال، وإلا لم يكن هناك معنى أو حاجة للرسل.

وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني: المعنى: كان الناس على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدي إلهي، مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام. واختار صاحب تفسير المنار معنى آخر: وهو أن الإنسان اجتماعي بالخلقة، أي أن الله خلق الإنسان أمة واحدة، أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش، لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله إلا مجتمعين، يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فلا بدّ من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم: «الإنسان مدني بالطبع» «1» . ويكون المعنى أن الناس خلقوا ولهم صفة الجماعية والتجمع، وذلك يؤدي إلى التنافس والتنازع والاختلاف، فكان إرسال الرسل لفض النزاع بين البشر، والإرشاد إلى الحق والخير، وبيان الباطل والضلال. وكان عدد النبيين مائة وأربعة وعشرين ألفا (124000) والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر (313) ، والمذكورون في القرآن بالاسم ثمانية عشر، وأول الرسل آدم، على ما جاء في حديث أبي ذرّ «2» ، وقيل: نوح، لحديث الشفاعة الذي قال له الناس فيه: أنت أول الرسل، وقيل: إدريس. ثم أبان الله تعالى أنه أنزل مع النبيين الكتاب: وهو اسم جنس بمعنى الكتب، وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة. ومهمة الكتاب أن يكون مصدرا للتشريع والحكم والفصل بين الناس في الخلافات، وهداية الناس إلى العقيدة الحقة، والآداب الفاضلة، والأعمال

_ (1) تفسير المنار: 2/ 225 (2) أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي.

الصالحة، وتحذيرهم من عاقبة الشرّ والفساد، والبعد عن الأهواء والتأويلات الباطلة، فهو ملتبس بالحق دائما. وهذا موافق لما عبرت عنه آية أخرى وهو النطق بالحق: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية 45/ 29] وآية الهدى والتبشير في القرآن: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ [الإسراء 17/ 9] ، فكل كتاب سماوي هو الحق والحكم الفصل في أمور الدنيا والدين. وعبر بالكتاب عن كتب النبيين وإن تعددت للإشارة إلى أنها في جوهرها كتاب واحد، ومشتملة على شرع واحد في الأصول. ثم ذكر الله تعالى أن بعض أهل الكتاب جعلوا كتابهم مصدر الاختلاف عدوانا وتجاوزا للحق، فقال: لقد اختلف الرؤساء والأحبار وعلماء الدين في الكتاب الذي أنزله الله للحق، بعد ما جاءتهم البينات الواضحة والأدلة على سلامة الكتاب وعصمته من إثارة الخلاف، وأنه لإسعاد الناس، لا لإشقائهم والتفريق بينهم، ولم يكن ذلك الاختلاف من أولي العلم القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، والمطالبين بتقرير ما فيه إلا حسدا وبغيا (جورا) منهم، وتعديا لحدود الشريعة التي أقامها حواجز للناس. ولكن هذه الجناية من هؤلاء الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس لا تقدح في هداية الكتاب إلى الحق، فليس العيب فيه، وإنما في القائمين عليه. غير أن الإيمان الصحيح مع سلامة القصد يهدي إلى الحق ويمنع الاختلاف، وإن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحق، ويصلون إلى ما يرضي ربهم، بتوفيقه وإنعامه، والله يهدي دائما إلى الطريق المستقيم. أما الذين يؤولون الدين بحسب أهوائهم فهم في ضلال وفساد وشرّ، ولهم العذاب الأليم عند الله، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام 6/ 159] .

وبعد إيراد هذه الصورة القبيحة لفعل العلماء بكتاب الله، حثّ الله رسوله والمؤمنين على الثبات والصبر وتحمل المشاق في أثناء مواجهة الكفار، فإنهم متعرضون لأنواع من البلاء والمحن، كما تعرض الأنبياء السابقون لمختلف أنواع الشدائد ومقاساة الهموم، فصبروا وثبتوا، حتى تحقق لهم الفرج والنصر، لأن دخول الجنان والفوز برضوان الله يتطلب الجهاد، وتحمل الشدائد، والصبر على الأذى، واجتياز محنة الفتنة والاختبار بنجاح وثبات، دون تسخط ولا تبرم ولا ضجر، ولا انحراف عن خط الهداية، والقيام بأعباء التكاليف الإلهية. وليس للمؤمن الحق أن يستبطئ النصر، فإن نصر الله لأوليائه وأحبائه قريب. هذا مثل صادق للعبرة والعظة بما تعرض له الأنبياء السابقون وأتباعهم المؤمنون، فأنتم أيها المسلمون في صدر الإسلام، لم تبتلوا مثل ابتلائهم، مسّتهم الشدة والخوف والفقر والآلام والأمراض، وأزعجوا إزعاجا شديدا، حتى اضطر الألم والقسوة إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بالله تعالى وأوثق بنصره: متى نصر الله؟ حيث كاد أن ينفد صبرهم من هول ما لا قوا، فأجيبوا: ألا إن نصر الله قريب التحقق والحصول، وكما قال تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، جاءَهُمْ نَصْرُنا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف 12/ 110] . وفي هذا كله (موقف الأنبياء وموقف المسلمين الأوائل) عبرة لمن يأتي بعدهم، ويظنون أن الإسلام عبادة فقط، دون أن يمروا بشيء من الاختبار، أو يتعرضوا لنوع من الإيذاء، والمصائب والشدائد، جهلا منهم بسنة الله في ابتلاء أهل الهداية، من أجل التعرف على مدى قدرتهم في الثبات على الحق والإيمان، وما تتطلبه الدعوة إلى الله من عناء ومقاساة، قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 155] وقال عز وجل: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا

فقه الحياة أو الأحكام:

أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت 29/ 1- 3] . وقال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] . بل ولم يصل المسلمون في الماضي أو الحاضر إلى ما تعرض له الرسل السابقون، فقد قتل بعضهم، ونشر بعضهم بالمنشار وهو حيّ «1» ، وأحرق بعض المؤمنين بالنار، كما فعل بأصحاب الأخدود باليمن بإخبار الله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 4- 8] . فقه الحياة أو الأحكام: إن الحاجة إلى الرسل والأنبياء والكتب السماوية قائمة ومؤكدة في كل زمان ومكان، لأنهم يرشدون الناس إلى الدين الحق، والاعتقاد الصحيح، ويبينون للناس طريق الحياة الصحيحة، ومنهج السعادة في الدنيا والآخرة، ويضعون الحدود الواضحة بين الحق والباطل، ويفصلون بالعدل في منازعات الناس. ولا تصلح الفطرة أو الطبيعة بمجردها سبيلا للهداية والرشد، لأنها مجهولة وغائمة وغير منضبطة، كما لا تصلح العقول البشرية لتسيير شؤون الحياة، فهي متفاوتة، مضطربة أحيانا، عاجزة وقاصرة عن إدراك الحقائق، وإذا أدركت

_ (1) روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» .

بعض عقول الحكماء سبيل الحق ونطقت بالحكمة، فذلك محصور في فئة قليلة من الناس، ولا يستقيم القول أو يظهر صدق النظرية التي يقررها العالم إلا بعد أن تمرّ بتجارب طويلة، وحلقات متواصلة من البحث والدراسة والتأمل والفكر، فيتضرر الناس الذين ينتظرون نتائج مصداقية القول أو الحكمة إلى زمن قد يطول وقد يقصر، وربما تأثر الإنسان بالأهواء والشهوات، أو بالمنافع والمصالح الخاصة، فلا يكتب لرأيه القبول أو النجاح. فكان من حكمة الله تعالى وفضله ورحمته إرسال الرسل والأنبياء ليقودوا الفطرة والعقل البشري إلى ما هو خير للدنيا والآخرة، قبل فوات الأوان، والوقوع في العثرات، وانتظار ما تسفر عنه التجارب والنظريات، ولإقرار الحق والعدل، دون التأثر برعاية مصلحة خاصة. وقد صحح الله أخطاء الأفهام وبيّن وجه الخطأ في ظن الصواب، من بعد ما جاءهم العلم، وسطعت البينات (الدلائل على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف) وهو ما استدركته الآية: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ.. ومفاد الاستدراك: أن غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم، فلا بدّ لهم من هداية أخرى تعليمية تتفق مع القوة المميزة لنوعهم، وهي قوة الفكر والنظر، تلك الهداية التعليمية هي هداية الرسل منهم، والكتب التي ينزلها الله عليهم، مع الأدلة القائمة على عصمة الرسل من الكذب، وعصمة الكتب من الخطأ، فعلى الناس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلة على الرسالة والعصمة أولا، وإذا فهموها استعدوا حتما للتصديق بدعوة الرسل. وإذا آمنوا بتلك الدعوة، وعقلوا ما جاءت به الرسل، وجب عليهم أن يلازموه ولا يعدلوا عنه «1» . وأرشدت آية أَمْ حَسِبْتُمْ.. إلى أن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدي إلى

_ (1) تفسير المنار: 1/ 228 وما بعدها. [.....]

مقدار نفقة التطوع ومصرفها [سورة البقرة (2) آية 215] :

سعادة الدارين، فمن أهملها أو فرط بها حرم النعمة الجليلة التي أنعم الله بها على سلف هذه الأمة، من السيادة والعزة. وإن الجنة لا تنال بغير ثمن، ولا تفيد الأماني شيئا، وما على المسلم إلا أن يكون مقدرا لدوره ورسالته في الحياة، فلا يكفيه مجرد الإيمان القلبي، وإنما لا بدّ له من أعمال جسام، وتضحيات عظام، ومجاهدة نفس حتى يهذبها ويصلح عيوبها، وتعاون على البرّ والتقوى، وهجر لزينة الدنيا والافتتان بها، وعمل خالص للآخرة، وإرضاء لله وحده، دون أن يشوبه شائبة رياء أو سمعة أو شهرة زائفة. وإذا أعيد تكوين المسلم على طراز تربية السلف الصالح، أمكن تحقيق العزة الإسلامية المنشودة، والنصر المرجو على الأعداء، بعد استكمال وسائل القوة اللازمة المكافئة لقوى العدو، والتخطيط لبناء الأمة، ووضع أسس النهضة والتقدم موضع التنفيذ الفعلي بكل حزم وإصرار وإخلاص. مقدار نفقة التطوع ومصرفها [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) الإعراب: ماذا ما: مبتدأ، وذا: الخبر، وهو بمعنى الذي. ما أَنْفَقْتُمْ ما: في موضع نصب بأنفقتم وكذا وما تنفقوا وهو شرط، والجواب: فللوالدين. وكذا: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ شرط، وجوابه: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. المفردات اللغوية: مِنْ خَيْرٍ من مال كثير طيب، وسمي به لأن حقه أن ينفق في وجوه الخير، وهو شامل

سبب النزول:

للقليل والكثير. وَالْأَقْرَبِينَ هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة. واليتيم: من فقد والده وهو صغير. والمسكين: من عجز عن كسب ما يكفيه ورضي بالقليل. وابن السبيل: المسافر. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ إنفاق أو غيره. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعلمه ويجازي عليه. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين يضعون أموالهم، فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ. وأخرج ابن المنذر عن أبي حيان: أن عمرو بن الجموح سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها، فنزلت. ويؤيده ما قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله، بماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت هذه الآية. المناسبة: ذكر في الآيات السابقة أن حب الدنيا هو سبب الشقاق والخلاف، وأن المؤمنين بحق هم الذين يتحملون الشدائد في أموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوان الله، فناسب أن يذكر ما يرغب الإنسان في الإنفاق في سبيل الله، لأن الكسب والإنفاق يتطلبان الصبر والسماحة، وبذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان. هذا مع العلم بأنه لا حاجة إلى التناسب بين كل آية وما يتصل بها، لا سيما إذا كانت الأحكام المسرودة أجوبة لأسئلة وردت، أو كان من شأنها أن ترد، وذلك للحاجة إلى معرفة حكمها كهذه الآية، والسؤال عنها وقع بالفعل «1» ، كما ذكرنا في سبب النزول.

_ (1) تفسير المنار: 2/ 244

التفسير والبيان:

ويلاحظ ما ذكرناه سابقا: أن بداية سورة البقرة إلى ما قبل آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (172) في القرآن والرسالة، وأن هذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ (243) في سرد الأحكام العملية. وهذه الآية بيان لمصرف ما ينفقونه. التفسير والبيان: يسألك أصحابك يا محمد عن مقدار ما ينفقون نفقة تطوع، لا الزكاة الواجبة، وعن بيان الجهة (أو المصرف) التي ينفقون فيها. فأجبهم أن أي مقدار تنفقونه قليلا كان أو كثيرا، فثوابه خاص بكم، وأن جهات الإنفاق: إعطاء الوالدين (الأب والأم) والأولاد، لأنهم قرابة قريبة، ثم بقية الأقارب، للأقرب فالأقرب، ثم اليتامى الذين مات كافلهم، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب، ثم إعطاء المسافرين الذين انقطعوا في الطريق إلى بلادهم، وكل ما تنفقونه في وجوه البرّ والطاعة مطلقا، فإن الله سيجازي به، لأنه عليم بكل شيء، لا يغيب عنه شيء، فلا ينسى الجزاء والثواب عليه، بل يضاعفه. والأصح أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، فهي لبيان صدقة التطوع، لأنها لم تعين مقدار المنفق، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع «1» . وترتيب جهات الإنفاق يظهر فيما رواه أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: تصدقوا، فقال رجل: عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 1/ 320

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي رواية عطاء: نزلت الآية في رجل أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن لي دينارا، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: إن لي دينارين، فقال: أنفقهما على أهلك، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: أنفقها على خادمك، فقال: إن لي أربعة، فقال: أنفقها على والديك، فقال: إن لي خمسة، فقال: أنفقها على قرابتك، فقال: إن لي ستة، فقال: أنفقها في سبيل الله، وهو أخسها» . وقد بينت الآية أن صدقة التطوع للوالدين والأقربين أفضل، بدليل ما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر النساء، تصدقن ولو بحليكن» فقالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود لزوجها: أراك خفيف ذات اليد، فإن أجزأت عني فيك صرفتها إليك، فأتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم فسألته، فقالت: أتجزي الصدقة على زوجي، وأيتام في حجري، فقال لها النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك أجران: أجر الصدقة وأجر القرابة» ، وفي رواية: «زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه» . وروى مسلم عن جابر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابدأ بنفسك، فتصدق عليها» . وروى النسائي وغيره أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يد المعطي العليا: أباك، وأمك، وأختك، وأخاك، وأدناك أدناك» ولا شك أن الحنو على القرابة أبلغ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح أوقع في الإخلاص» . وكون الجواب في الآية أتى ببيان المنفق عليه، مع أنهم سألوا عن المنفق: هو على أسلوب الحكيم، فقد سألوا عن شيء، وأجابهم عما هو أهم منه: وهو بيان مواطن الإنفاق، لأن الإنفاق لا يحقق الخير حتى يصادف موقعه. فقه الحياة أو الأحكام: الآية لبيان مصارف صدقة التطوع، ومنها أنه يجب على الرجل الغني أن

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 146، والكاشح: الذي يضمر لك العداوة.

ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحان في قدر حالهما، من طعام وكسوة وغير ذلك. وهل على الولد تزويج أبيه؟ قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، سواء كانت أمّه أو أجنبية. وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه، قال القرطبي: لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب عليه أن يزوجه، لولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. أما ما يتعلق بالعبادات من الأموال، فليس عليه أن يعطيه ما يحجّ به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام «1» . وقال الشافعية على المشهور: يلزم الولد ذكرا كان أو أنثى إعفاف الأب والأجداد، لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها شرعا «2» . ودلت الآية على معان منها: 1- أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله، وينتظم ذلك الصدقات من النوافل والفروض. 2- أن الأقرب فالأقرب أولى بالنفقة، لقوله تعالى: فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مع بيان النّبي عليه السّلام. لمراد الله بقوله المتقدم: «ابدأ بمن تعول: أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك» . 3- فيها الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الولد، كما بينا.

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 37 (2) مغني المحتاج: 3/ 211 وما بعدها.

فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرام [سورة البقرة (2) الآيات 216 إلى 218] :

واقتصر الإيجاب عليهم دون نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكرتهم الآية، لأن هؤلاء داخلون في الزكاة والتطوع، وللحديث المرفوع عن أبي هريرة: «دينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أنفقته على أهلك، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا» وعن ابن مسعود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله، كانت له صدقة» . فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرام [سورة البقرة (2) : الآيات 216 الى 218] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) الإعراب: قِتالٌ بدل اشتمال من الشهر، والهاء في فِيهِ: تعود على الشهر، وبدل الاشتمال لا بد أن يعود ضمير منه إلى المبدل منه. قُلْ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: الْقِتالُ: مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة، لأنه

البلاغة:

وصفه بقوله: فيه، فتخصص، والنكرة إذا تخصصت جاز أن تكون مبتدأ. وكَبِيرٌ: خبر المبتدأ. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مبتدأ، وعطف عليه: وَكُفْرٌ بِهِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ، وخبر الثلاثة: أكبر عند الله. البلاغة: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي مكروه، وضع المصدر موضع اسم المفعول للمبالغة. وهناك ما يسمى في علم البديع بالمقابلة بين جملتي: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وقوله وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فيه ما يسمى طباق السلب. المفردات اللغوية: كُتِبَ فرض الْقِتالُ للكفار كُرْهٌ مكروه وَعَسى هنا للإشفاق لا للترجي، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر وَصَدٌّ منع للناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وَكُفْرٌ بِهِ بالله الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون أَكْبَرُ أعظم وزرا عِنْدَ اللَّهِ من القتال فيه. وَالْفِتْنَةُ أي فتنة المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم، حتى يهلكوا «1» وَمَنْ يَرْتَدِدْ يرجع حَبِطَتْ بطلت وفسدت في الدنيا والآخرة، فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها. والتقييد بالموت فَيَمُتْ على الردة يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام، لم يبطل عمله، فيثاب عليه ولا يعيده، كالحج مثلا، وهو مذهب الشافعي، ورأى مالك وأبو حنيفة: أنه يعيده آمَنُوا ثبتوا على إيمانهم وهاجَرُوا فارقوا أوطانهم وأهلهم وَجاهَدُوا من الجهد: وهو المشقة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه يَرْجُونَ يتوقعون النفع باتخاذ الأسباب رَحْمَتَ اللَّهِ أي ثوابه. سبب النزول: نزول الآية (216) : قال ابن عباس: لما فرض الله الجهاد على المسلمين شق عليهم وكرهوا، فنزلت هذه الآية.

_ (1) هذا رأي الجمهور، وهو أن ذلك أشد إجراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقال مجاهد وغيره: الفتنة هنا: الكفر أو الشرك، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك.

نزول الآية (217) :

نزول الآية (217) : أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رهطا وبعث عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فلقوا ابن الحضرمي، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ فسبب نزولها قصة عبد الله بن جحش باتفاق المفسرين. وقال المفسرون: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليترصدوا عيرا «1» لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون معه، فقتلوه وأسروا اثنين، واستاقوا العير، وفيها عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وتجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب، وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لهم عند ما قدموا عليه: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأوقف توزيع الغنيمة، وقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم «2» . وقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرا، فليس لهم أجر، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآية. المناسبة: ذكرت أحكام القتال بعد أحكام الصدقة (نفقة التطوع) لما بينها من الصلة

_ (1) العير: الإبل التي تحمل الميرة. (2) أسباب النزول للواحدي بتصرف وإيجاز: ص 36- 38

التفسير والبيان:

الوثيقة، فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال، والمال قرين الروح، والإنفاق جهاد بالمال، فناسب أن يذكر الجهاد الذي هو أسمى من بذل المال، لأنه يستقيم به الدين، ويحتاج إلى بذل المال والنفس. التفسير والبيان: فرض عليكم معشر المسلمين قتال الكفار، فرض كفاية إن تحققت الحاجة، فإن لم تتحقق ودخل العدو بلاد المسلمين، كان فرض عين. قال الجمهور: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، ثم استمر الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام، فيكون فرض عين. وقال عطاء: فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما استقر الشرع، صار على الكفاية «1» . والقتال مكروه لكم وشاق عليكم طبعا، لما فيه من بذل المال وتعريض النفس إلى الهلاك، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان، فهو قد يرضى بتناول المرّ لما فيه من النفع. ولعلكم تكرهون شيئا طبعا، وفيه خير ونفع لكم فيما بعد، لأن فيه إما الظفر والغنيمة، أو الشهادة والأجر، ومرضاة الله، وفي الجهاد إعلاء كلمة الإسلام ورفع منارة الحق والعدل ودفع الظلم، ولعلكم تحبون شيئا كترك القتال، وهو في الواقع شر لكم، لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وتسلط الأعداء على بلاد المسلمين وأموالهم، واستباحة حرماتهم، وقد يؤدي ذلك إلى القضاء عليهم. والله يعلم أنه خير لكم في عاجل أمركم، ولا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، وأنتم لقصور علمكم لا تعلمون ما يعلمه الله، فلا تركنوا إلى القعود عن واجب الجهاد، فإنه شر لكم، لأن الدنيا قامت على التدافع، وبادروا إلى ما يأمركم به ربكم، واحذروا الميل مع طباعكم وأهوائكم، فقد سبق في علم الله أنه سيظهر دينه

_ (1) البحر المحيط: 2/ 143

وينصر أهله على قلتهم، ويخذل المبطلين على كثرتهم، كما قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 249] . والله الذي فرض عليكم القتال يعلم أيضا أن هؤلاء الأعداء لا ينفع معهم إلا القتل والتشريد والإذلال، حتى لا يعودوا إلى الاعتداء على المسلمين أبدا. وقد اختلف العلماء فيمن كتب عليهم القتال في هذه الآية: فقال الأوزاعي وعطاء: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد. وقال الجمهور: إن القتال فرض على جميع المسلمين بحسب الحاجة أو الحال، فإن كان الإسلام غالبا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو غالبا فهو فرض على الأعيان، حتى يتحقق النصر. وهذا هو الراجح، قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . وهذه الآية أول آية فرض فيها القتال، وذلك في السنة الثانية للهجرة، إذ كان القتال على المسلمين محظورا في مكة، ثم أذن الله لهم في مقاتلة المقاتلين من المشركين بعد الهجرة إلى المدينة، بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج 22/ 39] ، ثم أبيح القتال لكل المشركين، ثم فرض الجهاد. وأحدثت قضية قتل الحضرمي على يد سرية عبد الله بن جحش اضطرابا وتساؤلا، حكاه القرآن، فقال تعالى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام وهو رجب، هل هو حلال أو حرام؟. فقل لهم: نعم، القتال فيه كبير الإثم والجرم وهو أمر مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ، ولكن صد قريش عن سبيل الله بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، والكفر

بالله، والصد عن المسجد الحرام (مكة) بمنع المسلمين من الحج والعمرة، وإخراج أهله من مكة وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، كل ذلك أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام، والفتنة أشد من القتل، فأعمالهم المنكرة وفظائعهم الوحشية مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم أكبر بكثير من قتل الحضرمي، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخف الضررين وأهون الشرين. وما يزال أولئك المشركون أو الكفار على الشر والمنكر وقتال المسلمين حتى يردوهم عن دينهم، ويحاولوا استئصال الإسلام من قلوبهم. ومن يوافقهم ويرتد عن دينه، ويموت كافرا ولا يتوب بالرجوع إلى الإسلام، فقد بطل عمله، وذهب ثوابه وأجره، وصار هباء منثورا، وأصبح من أهل النار خالدا فيها، وهذا جزاء الكافرين المرتدين. وأما المجاهدون في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأمثاله، فهم الذين صدقوا بالله ورسله، وفارقوا الأهل والأوطان، وتركوا مساكنة المشركين في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فهاجروا خوفا من الفتنة في الدين، ولإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وحاربوا في سبيل الله، ولحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك يطمعون في رحمة الله، وأولئك هم الكمّل، فالله يجازيهم أحسن الجزاء، ويستر ذنوبهم، ويرحمهم بفضله وإحسانه، وهو الغفور الرحيم بهم وبأمثالهم. هذا المعنى على أن السائلين من الصحابة. وهناك رواية أخرى «1» : وهي أن وفدا من المشركين سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام، وحينئذ يكون المعنى: أن المشركين متناقضون، يتمسكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن

_ (1) اختلف في السائلين عن ذلك، فقال الحسن البصري وغيره: إن الكفار هم الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة العيب على المسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقال آخرون: المسلمون سألوا عن ذلك، ليعلموا كيف الحكم فيه (أحكام القرآن للجصاص: 1/ 322) .

فقه الحياة أو الأحكام:

سبيل الله، والكفر بالله، والمنع من المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وفتنتهم المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أن الجهاد فرض، وهو امتحان للمؤمن، وطريق إلى الجنة، ويراد به قتال الأعداء من الكفار، ولم يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم في القتال مدة إقامته بمكة ثلاثة عشر عاما، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج 22/ 39] ثم أذن له في قتال المشركين عامة. وإنما كان الجهاد كرها، لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشّجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبّوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب، هان في جنبه مقاساة العذاب، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق. وبالرغم من كراهة الجهاد لما فيه من المشقة، فإنه سبيل العزة والغلبة والنصر، أو الشهادة، وعند ما ترك المسلمون الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، وتفرقت كلمتهم، وتشتتت وحدتهم، استولى العدو على بلادهم في الأندلس وفلسطين وغيرهما. ودلت الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، لأن آية القتال عامة وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاص. ولكن الجمهور على نسخ هذه الآية، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، والناسخ في قول الزهري: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة 9/ 36] أو:

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 29] . وقال المحققون: نسخها قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] يعني أشهر التسيير في آية فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة 9/ 2] فلم يبق لهم حرمة إلا لزمان التسيير. ويؤيدهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس «1» لمحاربة المشركين، وكان ذلك في الشهر الحرام. قال ابن العربي: والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفتنة- وهي الكفر- في الشهر الحرام أشد من القتل، فإذا فعلتم ذلك كلّه في الشهر الحرام، تعيّن قتالكم فيه «2» . والأشهر الحرم: هي رجب، وذو القعدة وذو الحجّة والمحرم، ثلاثة سرد، وواحد فرد «3» . وإن انتهاك حرمات المسلمين بفتنتهم عن دينهم وتعذيبهم وطردهم من ديارهم، وهي جرائم مادية محسوسة، أشد جرما من انتهاك حرمة الشهر الحرام، وهي مسألة معنوية. ودلت آية وَلا يَزالُونَ على تحذير المؤمنين من شر الكفرة، بنحو دائم.

_ (1) هو أبو عامر الأشعري، ابن عم أبي موسى الأشعري. وأوطاس: واد في ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين. (2) أحكام القرآن: 1/ 147 (3) سرد أي تتابع، وهي ما عدا رجب، ورجب فرد مستقل، لأنه يفصل بينه وبين ذي القعدة ثلاثة أشهر، وهي شعبان ورمضان وشوال.

علة مشروعية القتال:

علة مشروعية القتال: صرح القرآن الكريم بعلة مشروعية القتال، وهي فتنة المسلمين عن دينهم، فقال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة 2/ 217] وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات أو بتعذيبهم، كما فعلوا بعمار بن ياسر وأسرته، وبلال، وخبّاب بن الأرت وصهيب وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بكيّ النار ليرجع عن دينه، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يمر به، فيرى أثر النار به كالبرص، وعذبوا أباه وأخاه وأمه، عن أم هانئ قالت: إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله، وسميّة أمه كانوا يعذبون في الله، فمرّ بهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة» . مات ياسر في العذاب، وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها- وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة- فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها، فلم تجبه لما يسأل، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي الله عنها، وكانت عجوزا كبيرة. وكان أمية بن خلف يعذب بلالا ليفتنه عن دينه، فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزّى، فيأبى ذلك، وتهون عليه نفسه في سبيل الله عز وجل، وكانوا يعطونه للولدان، فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: «أحد، أحد» . وعذب خباب رضي الله عنه بإلقاء النار على ظهره. بل إنهم آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوضعوا سلا الجزور (كرش البعير المملوء بالفرث) على ظهره، وهو يصلي عند الكعبة، حتى نحّته فاطمة

الارتداد والمرتد:

رضي الله عنها، وآذوه بأنواع أخرى كثيرة من الإيذاء، كفاه الله شرها، كما قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] . الارتداد والمرتد: إن آية وَمَنْ يَرْتَدِدْ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. واتفق المسلمون على أن الردة تحبط أي تبطل الأعمال وتفسدها، وهل الإحباط مشروط بالموت «1» ؟. أخذ الشافعي من الآية: ... فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ: أن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة كافرا، وظاهر الآية يؤيده، ويدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر. ورأى مالك وأبو حنيفة: أن الردة بمجردها محبطة للعمل، حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام، اعتمادا على عموم قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] وقوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام 6/ 88] وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة 5/ 5] وهذه الآيات في الردة فقط، وقد علق الحبوط فيها بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو مراد به أمته، لاستحالة الشرك عليه. أما آية وَمَنْ يَرْتَدِدْ.. الواردة هنا فرتبت حكمين: الحبوط، والخلود في النار، ومن شروط الخلود: أن يموت على كفره. ورأى الشافعية: أن آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ من باب التغليظ على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كما غلظ على نسائه في قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب 33/ 30] . وتظهر ثمرة الخلاف فيمن حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك وأبو حنيفة:

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 147- 148، تفسير القرطبي: 3/ 48 [.....]

وهل يستتاب المرتد قبل قتله؟ :

عليه الحج، لأن ردته أحبطت حجه. وقال الشافعي: لا حج، لأن حجه قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره. وهل يستتاب المرتد قبل قتله؟ قال الحنفية: يستحب أن يستتاب المرتد، ويعرض عليه الإسلام، لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب، لأن دعوة الإسلام قد بلغته، ودليلهم أن بعض الصحابة قتلوا في عهد عمر رجلا كفر بالله تعالى بعد إسلامه، ولم يستتيبوه «1» . وقال الجمهور: تجب استتابة المرتد قبل قتله ثلاث مرات، لأن امرأة يقال لها: «أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت» «2» وثبت عن عمر وجوب الاستتابة. وأما ميراث المرتد: فلورثته من المسلمين في رأي علي والحسن البصري وجماعة. ولبيت المال في رأي مالك والشافعي وأحمد، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم» «3» . وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء لبيت المال، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام، ثم ارتد، يرثه ورثته المسلمون. وقال أبو يوسف ومحمد وابن شبرمة: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين. وبعد معرفة حال المشركين وحكم المرتدين، بين تعالى جزاء المؤمنين المهاجرين «4» والمجاهدين: وهو استحقاق الفوز والفلاح والسعادة، وإسباغ

_ (1) رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي. (2) رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر، وإسناده ضعيف. (3) رواه أحمد والأئمة الستة عن أسامة بن زيد. (4) الهجرة: معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقد كانت في مبدأ الإسلام فرضا من مكة إلى المدينة.

المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار [سورة البقرة (2) آية 219] :

الرحمة والإحسان والفضل الإلهي والمغفرة والنعمة. وإنما عبّر سبحانه عن هذا الجزاء الحسن بقوله: يَرْجُونَ وقد مدحهم، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في الطاعة كل مبلغ، وذلك لأمرين: أحدهما- لا يدري بم يختم له. والثاني- لئلا يتّكل على عمله، والرجاء مصحوب أبدا بالخوف، كما أن الخوف معه رجاء. والهجرة التي امتدح الله بها المؤمنين كانت فرضا على المسلمين من مكة إلى المدينة، ثم نسخت بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» ومع ذلك يؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده، أو عمل بما يجب عليه. المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار [سورة البقرة (2) : آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) الإعراب: ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ماذا كلمة واحدة منصوبة بفعل: يُنْفِقُونَ. والْعَفْوَ: منصوب ب: ينفقون المقدر، وتقديره: قل: ينفقون العفو. وقرئ: الْعَفْوَ بالرفع على أن ما استفهامية مبتدأ، وذا خبره، ويُنْفِقُونَ: صلته، والعفو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو العفو.

البلاغة:

البلاغة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فيه إيجاز بالحذف، أي عن تعاطيهما، بدليل قوله تعالى: قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فيه إطناب، وهو التفصيل بعد الإجمال. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فيه تشبيه مرسل مجمل، أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. المفردات اللغوية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي عن حكم شربهما وتعاطيهما. والسائلون: هم المؤمنون. والخمر: من خمر الشيء: إذا ستره وغطاه، سميت بها، لأنها تستر العقل وتغطيه. وهي عند الحنفية: النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وتطلق في رأي الجمهور على عصير العنب والتمر والذرة وكل ما يسكر. والميسر: القمار، مأخوذ من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا جهد ولا مشقة. قال مجاهد: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالخرز. وكان قمار العرب في الجاهلية بالأقداح أو الأزلام وهي عشرة، سبعة يكتب على كل واحد منها نصيب معلوم، وثلاثة غفّل لا نصيب لها، كانوا يشترون جزورا نسيئة (لأجل) وينحرونه قبل أن ييسروا، ويقسمونه 28 قسما أو 10 أقسام، ويجعلون الأقداح العشرة في كيس يحركها شخص ثقة منهم، ويدخل يده، فيخرج منها الأقداح، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يشترك معهم. فِيهِما في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ الإثم: الذنب، ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل، والضرر إما في البدن أو النفس أو العقل أو المال. والكبير: العظيم، وسبب الوقوع في الإثم: ما يقع بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ باللذة والفرح في الخمر وتحقيق الربح بالتجارة فيها، وإصابة المال بلا كدّ ولا جهد في الميسر، فهي منافع اقتصادية أو شهوانية. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي ما ينشأ عنهما من المفاسد وعقاب التعاطي أعظم من نفعهما: وهو الالتذاذ بشرب الخمر، ولعب القمار، والطرب فيهما، وسلب الأموال بالقمار والافتخار على الأقران، فالكثرة تعني أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة.

سبب النزول:

الْعَفْوَ: الفضل والزيادة عن الحاجة التي يحتاجها الإنسان هو ومن يعوله، فلا ينفق ما يحتاج إليه ويضيع نفسه. سبب النزول: نزلت آية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وروى أحمد عن أبي هريرة قال: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فنزلت الآية، فقال الناس: ما حرّم علينا، إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم، صلى رجل من المهاجرين، وأمّ الناس في المغرب، فخلّط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] . ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة 5/ 90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا: انتهينا ربّنا» . من هذه الرواية وغيرها يتبين أن تحريم الخمر مرّ في أربع مراحل تدرج فيها التشريع لينقل الناس من الأخف إلى الأشد تدريجيا، وتلك سياسة تربوية ناجحة، فلو قيل لهم دفعة واحدة: لا تشربوا الخمر، لقالوا جميعا: لا ندع الخمر، فنزل في الخمر أربع آيات في مكة، لمعالجة الإدمان على الخمر، وتخليص الناس من هذا الداء العضال: الأولى- وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل 16/ 67]

_ (1) البحر المحيط: 2/ 156

وأما سبب نزول قوله تعالى ويسئلونك ماذا ينفقون:

فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. والثانية- قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة 2/ 219] ، التي نزلت كما بينا باستفتاء عمر ومعاذ ونفر من الصحابة، فشربها قوم، وتركها آخرون. والثالثة- لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء 4/ 43] نزلت بعد أن دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا من الصحابة، فشربوا وسكروا، فأمّ بعضهم، فقرأ: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «أعبد ما تعبدون» فنزلت، فقلّ بعدها من يشربها، وامتنعوا عن شربها نهارا، لأن أوقات الصلاة متقاربة، وشربوها ليلا. والرابعة- إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ التي نزلت بعد أن دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير، فشجه شجّة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر: «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة 5/ 90- 91] فقال عمر: انتهينا يا رب «1» . قال القفّال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق. وأما سبب نزول قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ: فهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في

_ (1) تفسير الكشاف: 1/ 272

المناسبة:

سبيل الله، أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ: الْعَفْوَ والسائل هم المؤمنون، وهو الظاهر من واو الجماعة، وقيل: السائل: عمرو بن الجموح. والنفقة هنا: قيل: في الجهاد، وقيل: في الصدقات أي التطوع في رأي الجمهور، وقيل: في الواجب أي الزكاة المفروضة «1» . المناسبة: أبان الله تعالى في الآيات السابقة أحكام القتال، وذلك أمر له صلة بالعلاقات الخارجية، ثم انتقل إلى إصلاح الأوضاع الداخلية، على أساس من الفضيلة والكرامة والتضامن الاجتماعي وطهر الاعتقاد وطهر الجسد، ولا بد لكل نهضة أو رسالة من الإصلاح الخارجي والداخلي، لتتمكن من تحقيق المسيرة الظافرة والأمجاد السامقة، وبناء الأمة (أو الجماعة) والفرد على أسس متينة ودعائم وطيدة الأركان. وكانت هذه الآية كسابقتها وتاليها إجابة عن أسئلة الصحابة، قال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلهن في القرآن: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة 2/ 222] ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة 2/ 217] ، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة 2/ 220] ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم «2» . التفسير والبيان: يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، ولعب الميسر، أحلال هما أم حرام؟ ومثل شرب الخمر: بيعها وشراؤها وكل الوسائل التي تساعد أو تؤدي إلى

_ (1) البحر المحيط: 2/ 158 (2) تفسير القرطبي: 3/ 40

الخمر وأضرارها:

تناولها. قل لهم: إن في تعاطيهما إثما كبيرا، لما فيهما من أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة. أما إثم الخمر: فإيذاء الناس وإيقاع العداوة والبغضاء. وأما إثم الميسر: فهو أن يقامر الرجل، فيمنع الحق، ويظلم، فتقع العداوة والبغضاء. وفيهما منافع للناس، أما منفعة الخمر: فهي الاتجار بها، والالتذاذ بها، والنشوة، وبسط يد البخيل، وتقوية قلب الجبان. وأما منفعة الميسر: فهي ما يصيبهم من الربح أو الأنصباء، أو التصدق بلحم الجزور على الفقراء، ومنفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية، إذ المقامر يبذل ماله لربح موهوم، فيبتز منه المحترفون ثروته كلها، وهو في طلبه الربح المتوهم يفسد فكره، ويضعف عقله، ويعظم همه، ويضيع وقته. وإثمهما أكبر من نفعهما، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا قامروا وقع بينهم الشر والنزاع، ونشأت في صدورهم الأحقاد. وإذا كان الضرر أكبر من النفع وجب الامتناع عنهما، لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» لذا امتنع كثير من عرب الجاهلية عن الخمر، مثل العباس بن مرداس، فقد قيل له: ألا تشرب الخمر، فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم، وأمسي سفيههم. وأجمع الأطباء على ضرر الخمور، وقامت جمعيات كثيرة في أوربا وأمريكا تدعو لمنع المسكرات وإصدار القوانين بمنع بيعها وشرائها. الخمر وأضرارها: اختلف العلماء في بيان المراد بالخمر، فذهب أبو حنيفة وجماعة العراقيين:

إلى أن الخمر: هي الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره، كشراب التمر أو الحنطة أو الشعير أو الذرة ونحوها، فلا يسمى خمرا، بل يسمى نبيذا، فتكون آية تحريم الخمر مقتصرة عليها، وأما الأشربة المسكرة الأخرى وهي الأنبذة فالقليل منها حلال، والكثير المسكر منها حرام بالسنة النّبوية. وذهب الجمهور (غير أبي حنيفة) وأهل الحجاز والمحدثون: إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره، فكل مسكر من عصير التمر، والشعير والبر خمر. وإذا كانت الخمر اسما لكل ما أسكر، كان تحريم جميع المسكرات قليلها وكثيرها بنص القرآن. واحتج الفريق الأول باللغة والسنة: أما اللغة: فإن الأنبذة لا تسمى خمرا، ولا يسمى الشيء خمرا في اللغة إلا النيء المشتد من ماء العنب. وأما السنة: فحديث أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر بعينها حرام، والسّكر من كل شراب» وفي رواية عن علي: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» «1» والسكر: كل ما يسكر، ويطلق على نبيذ الرطب. قالوا: ومما يدل على أن قليل الأنبذة ليس بحرام أن الله ذكر في علة تحريم الخمر العداوة والبغضاء ونحوها بقوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة 5/ 91] وهذه المعاني لا تحصل إلا بالسكر، فلا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة. واحتج الفريق الثاني باللغة والسنة الثابتة: أما اللغة: فلأن الخمر تطلق لغة على ما خامر العقل أي ستره، وهذه الأنبذة

_ (1) أخرجه النسائي والدارقطني موقوفا على ابن عباس، وقال الدارقطني: وهذا هو الصواب عن ابن عباس، لأنه قد روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر حرام» .

تخامر العقل. وإذا كانت اللغة لا تثبت قياسا فإن الصحابة فهموا مدلول «الخمر» وهم أدرى باللغة والقرآن، وأنها تطلق على كل مسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره. وأما السنة: فقد ورد فيها أحاديث كثيرة تحرم قطعا كل مسكر، منها الحديث المتواتر الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ستة عشر صحابيا كعمر وابن عمر وغيرهما: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» والحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن جابر، وأحمد والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . والحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» والحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير: «إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا، ومن التمر خمرا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» . فصريح هذه الأحاديث الصحيحة يدل على أن الأنبذة تسمى خمرا، لأنها مسكرة، فتكون حراما، ويدل على حرمتها قليلها وكثيرها ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البتع (نبيذ العسل) وعن نبيذ العسل، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام» . والراجح قول أهل الحجاز (الفريق الثاني) ، لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر، فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت ذلك من حديث أنس قال: «كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ- نقيع البسر- فحين سمعوا تحريم الخمر، أحرقوا الأواني وكسروها» وأثبت المؤرخون أنه كان

مضار الخمر:

تحريم الخمر في المدينة، وكان المشروب نبيذ البر والتمر. وقد اتفق العراقيون مع الحجازيين على أن الله حرم من عصير العنب الكثير للسكر، والقليل، لأنه ذريعة إلى الكثير، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة حيث لا فرق. وأما أضرار الخمر فكثيرة مادية ومعنوية أشارت إليها الآية القرآنية: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة 5/ 91] وجمع الحديث النّبوي الصحيح مضارها، وهو الذي رواه الطبراني عن ابن عمر: «الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وعمته وخالته» . [مضار الخمر] ومضارها تشمل البدن والنفس والعقل والمال وتعامل الناس بعضهم مع بعض، من ذلك: 1- مضارها الصحية: إفساد كل أعضاء جهاز الهضم، وفقد شهوة الطعام، وجحوظ العينين، وعظم البطن بسبب اتساع المعدة، وتشمع الكبد، ومرض الكلى، وداء السل، وتعجل الشيخوخة أو إسراع الهرم، بسبب تصلب الشرايين، وإضعاف النسل أو انقطاعه، فولد السكير يكون هزيلا ضعيف العقل. 2- مضارها العقلية: إنها تضعف القوى العقلية، لتأثيرها في الجملة العصبية، وقد تؤدي إلى الجنون. 3- مضارها المالية: تبدد الثروة وتتلف المال، وتؤدي إلى إهمال واجب النفقة على الزوجة والأولاد. 4- مضارها الاجتماعية: وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع

5 - مضارها الأدبية:

بعض، وبينهم وبين الناس الآخرين، وكثيرا ما تقع حوادث قتل وضرب وجرح من السكارى وعليهم. 5- مضارها الأدبية: يصبح السكران ذليلا مهينا وموضع هزء وسخرية وضحك وتهكم، لاضطراب كلامه وهيئته وحركاته. ويتجرأ السكران على القذف والشتم والسب والزنى والقتل، لذا سميت الخمر (أم الخبائث) . 6- مضارها العامة: إفشاء الأسرار، فكثيرا ما تسربت أخبار الدولة الخطيرة إلى الجواسيس على موائد السكر «1» . 7- مضارها الدينية: لا تتأدى من السكران عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، فالخمر تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبقية الواجبات الدينية، لأن السكران لا يهمه إلا معاقرة الخمر، والانقياد للأهواء والشهوات، ويصبح ضعيف الإرادة، خاملا كسولا، بل لا يستطيع الامتناع عن السكر بسهولة بسبب الإدمان، ومخالطة الكحول الدم، فيصبح المدمن متعطشا لتناول الشراب المسكر قهرا عنه ودون إرادة. والخلاصة: إن الخمر أم الخبائث، فهي وسيلة إلى كل منكر وقبيح، روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن قبلكم متعبد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا، فقال:

_ (1) تفسير المنار: 2/ 259 وما بعدها

الميسر أو القمار وأضراره:

زيدوني، فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه» . الميسر أو القمار وأضراره: الميسر: إما من اليسر كما بينا، أو من يسرت الشيء: إذا جزأته، ويطلق على الجزور، لأنه موضع التجزئة، والميسر الذي ذكره الله وحرمه: هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار. وكيفية الميسر عند العرب كما بينا: أنه كانت لهم عشرة قداح، وتسمى الأزلام والأقلام أيضا «1» ، وأسماؤها: الفذّ، والتّوأم، والرقيب، والحلس، والمسبل، والمعلّى، والنّافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها، إما عشرة أجزاء، أو ثمانية وعشرين جزءا، ولا شيء للثلاثة الأخيرة، فكانوا يعطون للفذ سهما، وللتوأم سهمين، وللرقيب سهمين، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أعلاها «2» . وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة، وهي الخريطة (الكيس) توضع على يد عدل، يجلجلها، ويدخل يده، ويخرج منها واحدا باسم رجل، ثم واحدا باسم رجل آخر، وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء، أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها شيئا، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم أي الوغد: اللئيم عديم المروءة «3» ، كما بينا سابقا.

_ (1) واحدها قدح وزلم وقلم، وهي قطع من الخشب. (2) ومنه يقال للفائز بأكبر الحظوظ: هو صاحب القدح المعلى. (3) تفسير القرطبي: 3/ 58

إنفاق الزائد عن الحاجة (العفو) :

وللقمار أضرار كثيرة: منها: أنه يورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، كالخمر، كما أبان القرآن. ومنها إفساد التربية، بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران. ومنها وهو أشهرها: إفلاس المقامر وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من ثروة بددت في ليلة من الليالي، وأصبح المقامر في عداد الفقراء. إنفاق الزائد عن الحاجة (العفو) : ويسألونك يا محمد عن مقدار ما ينفقه المسلم، امتثالا لقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة 2/ 195] ، فقل لهم: ينفقون العفو، أي الفضل (ما فضل) الزائد عن الحاجة، فأنفقوا ما فضل عن حاجتكم، ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه، وتضيعوا أنفسكم. كذلك «1» : أي وكما بين لكم ما ذكر (أي مثل ذلك البيان السابق في تحريم الخمر والميسر ووجوب إنفاق الزائد عن الحاجة) يبين الله لكم الأحكام والآيات الواضحات في سائر كتابه، فيما يحقق مصالحكم ومنافعكم، ويوجهكم لما فيه من نفع وضر. والحكمة من شرع هذه الأحكام: هي لتتفكروا بعين البصر والوعي في أمور الدنيا والآخرة، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها، وبقاء الثانية وجلالها، أو

_ (1) كذلك: الكاف للتشبيه، وهي في موضع نعت لمصدر محذوف أو في موضع الحال على مذهب سيبويه أي تبيينا مثل ذلك يبين، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه، أي يبين التبيين مماثلا لذلك التبيين. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

لتحسبوا من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقوا الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة: منها ما روى ابن جرير الطبري عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل ببيضة من ذهب، أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه صدقة، فو الله، ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: هاتها مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابته شجته أو عقرته. ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى» وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ارضخ «1» من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» . وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي-: «إذا كان أحدكم فقيرا، فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل، فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك، فليتصدق على غيره» . والأصح أن هذه الآية ثابتة الحكم غير منسوخة، فليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون نفقة تطوع، لا زكاة مفروضة، فبين لهم ما فيه الله رضا من الصدقات. فقه الحياة أو الأحكام: يحرم كل ما يسكر، قليلا كان أو كثيرا، سواء أكان من عصير العنب أم من

_ (1) رضخ له: أعطاه قليلا.

غيره، ويجب الحد في تناوله، ولا فرق بين المسكرات التي كانت في الماضي والمسكرات ذات التسميات الحديثة المتخذة من التفاح أو البصل أو غيرهما، فكل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع الصحة والمال، وتقضي على الكرامة الشخصية، فهي حرام كالخمر، لوجود علة الإسكار فيها، وبالأولى ما هو أفتك منها وأشد كبعض السموم التي تؤخذ حقنا تحت الجلد، أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهيروين. ومن خصائص التشريع الإسلامي ومزاياه الطيبة أنه لم يوجب على المسلمين الشرائع دفعة واحدة، ولكن تدرج بهم، وأوجب عليهم مرة بعد مرة تكريما لهذه الأمة وبرا بها، وهذا هو مبدأ التدرج في التشريع، وقد جاء تحريم الخمر والربا على هذا النحو. وكل لعب فيه غرم بلا عوض، وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق ولا جهد معقول فهو حرام، فالميسر أو القمار ولعب الموائد والسباق على عوض من أحد المتسابقين يغرمه للآخر الفائز، وأوراق اليانصيب، كل ذلك حرام، لما فيه من المتسابقين يغرمه للآخر الفائز، وأوراق اليانصيب، كل ذلك حرام، لما فيه من إضاعة المال أو الكسب من غير طريق شرعي، ولاشتماله على أضرار كثيرة مدمرة للجماعة والأفراد. روي عن أبي موسى عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا هذه الكعاب الموسوسة التي يزجر بها زجرا، فإنها من الميسر» . وقال عليه الصلاة والسّلام أيضا- فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي موسى-: «من لعب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله» . وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وآخرون من الصحابة والتابعين: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب «1» ، إلا ما أبيح من الرّهان في الخيل، والقرعة في إفراز الحقوق، بأن

_ (1) هي فصوص النرد.

يكون العوض أو المكافأة من شخص ثالث كالدولة أو بعض الأغنياء، أو من أحد المتسابقين دون أن يلتزم الآخر بشيء إذا خسر. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النّرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه. وذكر العلماء: أن المخاطرة (المراهنة) من القمار، قال ابن عباس: المخاطرة قمار، وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة، وقد كان ذلك مباحا، إلى أن ورد تحريمه، وقد خاطر أبو بكر المشركين، حين نزلت: الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم 30/ 1] وخسر الرهان، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «زد في الخطر، وأبعد في الأجل» ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار. وأما ما يسمى باليانصيب الخيري لمواساة الفقراء ورعاية الأيتام وأولي العاهات، أو لبناء المدارس والملاجئ والمشافي وغيرها من أعمال البر والصالح العام، فهو حرام أيضا، لأن هذه الأعمال، وإن كانت معتبرة في الشريعة، ولكن الطريق إليها حرام، لأن الحرام في ذاته كالرشوة وشهادة الزور لا يجوز اللجوء إليه للوصول إلى الحلال، ولا ينتج عن العصيان طاعة كما قال عليه الصلاة والسّلام في الحديث الصحيح: «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا» . وقد حرّم الشرع الميسر الذي كان عليه عرب الجاهلية، وإن كانوا يطعمون الأنصباء الفقراء، ولا يأكلون منها شيئا. وكون اليانصيب غير الخيري لا يؤدي إلى ضرر العداوة والبغضاء، لعدم معرفة الرابح من قبل الخاسرين، خلافا لميسر العرب وقمار الموائد، لا يسوغ القول بالجواز، لأن فيه مضار القمار الأخرى وأهمها: أنه طريق لأكل أموال

الناس بالباطل، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، وهذا محرم بنص القرآن. والادعاء بأن في ميدان اليانصيب قد سمح المشتركون للرابح بأموالهم وخرجوا له عن طيب أنفسهم: غير صحيح، لأن التراضي لا وجود له في الحقيقة، وكل من يدفع ثمن بطاقة يحلم بالربح، وهو في حال الخسران يحقد على الرابحين. والرضا المعتبر هو في العقود والمعاملات بشرط خلوة من العيوب، وبخاصة الإكراه في أي صورة، سواء أكان ماديا أم معنويا. والرضا في اليانصيب رضا قسري، كالرضا الحاصل في الربا والرشوة، والرضا شرعا لا يعتبر إلا إذا كان في حدود الشرع. ويمكن تحقيق المقصد الخيري لليانصيب من أجل الصالح العام بطريق فرض ضرائب على أموال الأغنياء، وتؤخذ بدون مقابل، لسد حاجة البلاد، وفقا لقاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام» أو يستدين الحاكم من الأغنياء إذا كان هناك احتمال امتلاء الخزينة. وإن وجود بعض المنافع التجارية أو اللذة والطرب في الخمر، أو مواساة الفقراء في الميسر أو سرور الرابح وصيرورته غنيا بدون تعب، لا يمنع تحريمهما، لأن المعول عليه في التحريم أو الحظر غلبة المضار على المنافع، والإثم أكبر من النفع في الدنيا نفسها، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم. وأما نفقة التطوع: فهي الزائدة عن الحاجة وهي العفو، وقد كان السؤال في هذه الآية عن قدر الإنفاق، أما السؤال في الآية المتقدمة التي نزلت في شأن عمرو بن الجموح فكان عن الجهة التي تصرف إليها: «قل: ما أنفقتم من خير فللوالدين..» .

الولاية على مال اليتيم [سورة البقرة (2) آية 220] :

والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ويكون المعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم، فتكونوا عالة. وأما حكمة إطلاق الأمر بالنفقة في مبدأ الإسلام: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة 2/ 195] فلأن المسلمين كانوا في الماضي فئة قليلة تحتاج إلى التضامن والتعاون فيما بينها لتحقيق المصلحة العامة، ولأن الإنفاق ينبغي فيه أن يحقق الكفاية، سواء كان لإغناء الفقراء، أو لصد الأعداء. فلما كثر المسلمون، وتحقق ما يكفي الصالح العام، ظهرت الحاجة إلى تقييد الإنفاق، لذا سأل المسلمون: ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة عن حاجة من يعولونهم. وأرشد قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وما تلاه بعدئذ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ في الآية التالية إلى ضرورة استخدام الفكر، وتنمية دائرة التفكير، واستعمال العقل في مصالح الدارين معا. لذا قال علماؤنا: إن تعلم ما تحتاج إليه الأمة في معايشها من الفنون والصناعة والزراعة والتجارة وشؤون الحرب والدفاع من الفروض الدينية الكفائية، إذا أهملها الكل أثموا. الولاية على مال اليتيم [سورة البقرة (2) : آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) الإعراب: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جار ومجرور في موضع نصب، متعلق إما بفعل: تَتَفَكَّرُونَ في الآية السابقة أو بفعل: يُبَيِّنُ، وتقدير: يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة، لعلكم

البلاغة:

تتفكرون إِصْلاحٌ مبتدأ، وهو نكرة ساغ الابتداء به لتقييده بالمجرور الذي هو: لَهُمْ، وخَيْرٌ: خبر إصلاح. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ الألف واللام فيهما للجنس، لا للمعهود، أي يعلم هذين الصنفين، كقولهم: الرجل خير من المرأة، أي جنس الرجال خير من جنس النساء. البلاغة: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فيه التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله: وَيَسْئَلُونَكَ والحكمة من الالتفات: أن يتهيأ المخاطب لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه. الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فيه من علم البديع ما يسمى: الطباق. المفردات اللغوية: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمر الدنيا والآخرة، فتأخذوا بالأصلح لكم فيهما، والجار والمجرور متعلق بفعل: تَتَفَكَّرُونَ في الآية السابقة، أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين، فتأخذون بما هو أصلح لكم. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى أي عن الإشراف على اليتامى وكفالتهم وما يلقونه من الحرج في شأنهم، فإن واكلوهم أثموا، وإن عزلوا ما لهم عن أموالهم وصنعوا لهم طعاما وحدهم، فحرج. واليتيم: من فقد أباه قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ في أموالهم بتنميتها خير من ترك ذلك. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ تخلطوا أموالكم بأموالهم لَأَعْنَتَكُمْ لضيق عليكم بتحريم المخالطة، والعنت: المشقة والإحراج إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره. حَكِيمٌ في صنعه. سبب النزول: أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام 6/ 152] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى الآية [النساء 4/ 10] ، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه،

المناسبة:

فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى الآية. قال الضحاك والسدي: سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما. المناسبة: الحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر: هي التذكير بطائفة من الناس هي أحق بالإنفاق عليها لإصلاحها وتربيتها، وهي جماعة اليتامى، فينفق عليها من العفو الزائد عن الحاجة. التفسير والبيان: ويسألونك عن مخالطة اليتامى والقيام بأمرهم، هل يخالطونهم أو يجعلون أموالهم مستقلة؟ فأجابهم تعالى: قصد إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من اعتزالهم، فإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة، فذلك خير، فهم إخوانكم في الدين والنسب، والأخ يخالط أخاه ويداخله ولا حرج في ذلك، وإن كان في عزل بعض أموالهم كالنقود إصلاح لأموالهم، فهو خير، فعليكم أن تراعوا المصلحة فيهم، وأن تحسنوا النظر في أموالهم. فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد، لا أن يقصد الولي نفع نفسه بهذه الخلطة ويضر اليتيم، ولا يقبل أن تكون مخالطتهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق، فالله سبحانه يعلم المحسن والمسيء وكل ما تضمره النفوس. وجملة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ معناها التحذير، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح، والمعنى: أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير.

فقه الحياة أو الأحكام:

ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأن يوجب الاعتزال وعزل أموال اليتامى عن أموالكم، لفعل ذلك، ولكنه ينظر للمصلحتين: مصلحة اليتيم، ومصلحة التيسير ودفع الحرج، فشأنه تعالى الأخذ باليسر، كما قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] وقال: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 22/ 78] . وهو تعالى القوي الذي لا يغلب، فهو قادر على أن يكلف بالشاق من الأعمال، ولكنه حكيم في صنعه لا يكلف إلا ما فيه الطاقة كما قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يتاجر بأموال اليتامى بيعا وشراء ومضاربة وقسمة وأن يكون الولي نفسه هو المضارب. وأن يخلط ماله بماله إذا توافر الصلاح ومراقبة الله في الأعمال، وبعد عن الفساد والإفساد، خلافا لما عليه أكثر الأوصياء على اليتامى. قال الجصاص الرازي: دل قوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ على إباحة خلط ماله بماله، والتصرف فيه في الصهر والمناكحة، وأن يزوجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله، واختلط هو بهم، والدليل: هو إطلاق لفظ المخالطة. وإذا كانت الآية قد دلت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله، على ما روي عن ابن عباس، فقد دلت على جواز المناهدة «1» التي يفعلها الناس في الأسفار، فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما،

_ (1) المناهدة: الأكل الجماعي المشترك من زاد السفر المختلط.

فيخلطونه، ثم ينفقونه، وقد يختلف أكل الناس. ويدل لجواز المناهدة أيضا قوله تعالى في قصة أهل الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الكهف 18/ 19] فكان الورق (الفضة) لهم جميعا بقوله: بِوَرِقِكُمْ فأضافه إلى الجماعة، وأمر أحدهم بالشراء، ليأكلوا جميعا منه «1» . ودل قوله: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي، لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد. ودل ظاهر الآية على أن ولي اليتيم يعلّمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلّمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء، فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح «2» . أما الإشهاد من الوصي أو الكفيل على الإنفاق من مال اليتيم، فله عند المالكية حالتان: حالة يمكنه الإشهاد عليها، فلا يقبل قوله إلا ببينة، كإعطاء الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة، فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة (سنويا) . وحالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبول بغير بينة، كالأكل واللبس في كل وقت. وقد نشأت من هذه الآية مذاهب في تزويج الرجل نفسه من يتيمته إن كانت تحل له، وفي الشراء لنفسه من مال اليتيم. فقال مالك: لا يزوج الرجل نفسه من اليتيمة، ولكن يشتري لنفسه من مال اليتيم. وقال أبو حنيفة: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوّج منه. وله كما قال مالك أن يشتري من مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 331. (2) المرجع والمكان السابق.

الاجتهاد:

المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن. والشافعي: لا يرى في التزويج إصلاحا، إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ، ولا يجوز له الشراء من مال اليتيم، لأنه لم يذكر في الآية التصرف. وأحمد: يجوز للوصي التزويج، لأنه إصلاح «1» . الاجتهاد: استنبط الجصاص من قوله: قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث، لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظن «2» . وأرشدت الآية إلى أن الأحكام الإسلامية مبنية على اليسر والسماحة، متلائمة مع القدرة والطاقة البشرية المعتادة دون إعنات ولا إحراج، مع أن الله قادر على أن يضيق علينا ويشدد في أحكامه، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل علينا. زواج المسلم بالمشركة [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 64، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 330 (2) الجصاص، المرجع والمكان السابق.

البلاغة:

البلاغة: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ يوجد طباق بين كلمتي النار والجنة. المفردات اللغوية: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ لا تتزوجوا بالنساء الحربيات غير الكتابيات. واحدها مشركة: وهي من ليس لها كتاب، وقيل: المشركات: الكافرات. وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لجمالها ومالها، وهذا على تفسيرها بالكافرات مخصوص بغير الكتابيات بآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة 5/ 5] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، وهو قول ابن عباس والأوزاعي. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ لا تزوجوا نساءكم المؤمنات الكفار مطلقا. وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ لماله وجماله أُولئِكَ أي أهل الشرك. يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى العمل الموجب لها، فلا تليق مناكحتهم. وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسله. إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أي العمل الموجب لهما. بِإِذْنِهِ بإرادته، فتجب إجابته بتزويج أوليائه. يَتَذَكَّرُونَ يتعظون. سبب النزول: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنويّ استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في «عناق» أن يتزوجها وهي مشركة، وكانت ذات حظ من جمال، فنزلت. وفي عبارة أو في رواية أخرى: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة، ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها، عناق، فأتته، وقالت: ألا تخلو؟ فقال: ويحك، إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت: فهل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأستأمره، فاستأمره، فنزلت» . وأخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، وإنه غضب، فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره وقال: لأعتقنها ولأتزوجنها،

التفسير والبيان:

ففعل، فطعن عليه ناس، وقالوا: ينكح أمة؟! فأنزل الله هذه الآية وأخرجه ابن جرير الطبري عن السدي منقطعا. ويلاحظ في أسباب النزول أمران كما ذكر السيوطي: الأول- إن رواية الصحابة سبب نزول آية هو لتوضيح معناها ويتناول أمثال ما حدث. والثاني- قد يكون السبب الذي ذكروه حصل عقب نزول الآية. التفسير والبيان: هذه الآية من جملة الأحكام التي تنظم المجتمع الإسلامي الداخلي، فلما أذن الله تعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة الزواج، بيّن أن مناكحة المشركين لا تصح. ومعناها: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله واليوم الآخر، ويصدّقن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة 2/ 105] وقوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة 98/ 1] والخلاصة: لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن. ولأمة مؤمنة بالله ورسوله، وإن كانت رقيقة وضيعة، أفضل من حرة مشركة، وإن كرم أصلها، وإن أعجبتكم في الجمال والحسب والمال، إذ بالإيمان كمال الدين والحياة معا، وبالمال والجاه كمال الدنيا فقط، ورعاية الدين وما يستتبعه من دنيا أولى من رعاية الدنيا. ولا تزوجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهن من عبد مؤمن بالله ورسوله، مع ما به من مهانة، خير لكم من أن تزوجوهن من حرّ مشرك، وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف.

فقه الحياة أو الأحكام:

وسبب تحريم زواج المسلم بالمشركة والمسلمة بالكافر مطلقا كتابيا كان أو مشركا: هو أن أولئك المشركين والمشركات يدعون إلى الكفر والعمل بكل ما هو شرّ يؤدي إلى النار، إذ ليس لهم دين صحيح يرشدهم، ولا كتاب سماوي يهديهم إلى الحق، مع تنافر الطبائع بين قلب فيه نور وإيمان وبين قلب فيه ظلام وضلال. فلا تخالطوهم ولا تصاهروهم، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة والألفة والمحبة والتأثر بهم، وانتقال الأفكار الضالة، والتقليد في الأفعال والعادات غير الشرعية، فهؤلاء لا يقصرون في الترغيب بالضلال، مع تربية النسل أو الأولاد على وفق الأهواء والضلالات. والخلاصة: أن العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار. والله يدعو ويرشد بكتابه المنزل وأنبيائه إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها، وإلى المغفرة وستر الذنوب بإذنه وأمره وإرادته وبإعلامه السبيل الحق، ويوضح آياته وأحكامه وأدلته للناس، ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر، وليتعظوا فلا يخالفوا أمره، ولا يسيروا بأهوائهم أو وراء الشيطان، لأن ذكر الأحكام بعللها وأدلتها يكون أدعى لقبولها والرضا بها والمبادرة إلى تنفيذها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن زواج المسلم بالمرأة المشركة كالوثنية والبوذية والملحدة لا يصح بحال. أما المرأة الكتابية (اليهودية أو النصرانية) فقد أباح الشرع التزوج بها بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ- مهورهن- مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [المائدة 5/ 5] . والمحصنات: العفائف.

والفرق بين المشركة والكتابية واضح، وهو أن الأولى لا تؤمن بدين أصلا، وأما الثانية فتشترك مع المسلم بالإيمان بالله واليوم الآخر، وبالحلال والحرام، ووجوب فعل الخير والفضيلة، والبعد عن الشر والرذيلة. وأجاز الشرع زواج المسلم بالكتابية، ولم يجز زواج المسلمة بالكتابي، لأمر واضح أيضا وهو أن الكتابية لها أن تبقى على دينها بزواجها بمسلم ولا تتضرر فيما تدين به، ولأن المسلم يؤمن بدينه المتضمن الإقرار بأصول الأديان الأخرى، ومنها الدين اليهودي والدين النصراني في أصوله الأولى التي تتفق مع الإسلام في الدعوة إلى التوحيد والفضائل الإنسانية، فهي مع المسلم في دائرة متسعة تسع دينها وغيره، وربما إذا لمست روح التسامح وحسن المعاملة من زوجها عاشت سعيدة هانئة معه دون تضرر. وبما أن للرجل عادة سلطة القوامة على المرأة، وهي أقوى من سلطة المرأة، فلو تزوج الكتابي المسلمة أمكن التأثير عليها، فربما تركت دينها، وتضررت غالبا بمعاشرة زوجها، لعدم توافر الانسجام والوئام الروحي والحسي، والكتابي لا يؤمن بالإسلام، فتكون معه في دائرة ضيقة الأفق، وهي متسعة الاعتقاد، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فعزة المسلمة تأبى عليها أن تكون زوجة لكتابي. هذا ما عليه جمهور العلماء، مع القول بأن زواج المسلم بالكتابية مكروه، وحينئذ تحمل الآية هنا على العرف الخاص، وهو المشركة بالمعنى الضيق (أي عابدة الوثن وأمثالها) ، ولا تكون الآية منسوخة ولا مخصصة، وإنما تفيد حكما: هو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات، وتكون آية المائدة وَالْمُحْصَناتُ.. المتقدمة مفيدة حكما آخر هو حل الزواج بالكتابيات، فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ

رَبِّكُمْ [البقرة 2/ 105] وقوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة 98/ 1] ففرّق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بعد قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل. وذهب بعضهم إلى أن لفظ الْمُشْرِكاتِ يعم كل مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم ينسخ أو يخص منها شيء، فيكنّ جميعا قد حرم على المسلم زواجهن. روي عن ابن عباس أنه قال: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكلّ من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في «المائدة» . ويؤيده قول ابن عمر في الموطأ: «ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة: ربّها عيسى» . وروي عن عمر بن الخطاب القول بحرمة الكتابيات، وأنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين، وقالا: نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأة. لكن قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما، فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام، فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو ذلك. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر «1» . وهذا ما عليه الأمة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. والخلاصة: أن الذي صح إسنادا عن عمر هو إباحة زواج المسلم بالكتابية، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي الله عنهما نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 68

اقتداء الناس بهما، والزهد بالمسلمات، أو خشية الوقوع بالمومسات، أو غير ذلك من المعاني والحكمة البعيدة الأفق بالنظر لمصلحة المسلمين العامة. وأما الكتابية الحربية: فلا تحل في رأي ابن عباس، لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله صاغِرُونَ [التوبة 9/ 29] وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرّفها في الخمر والخنزير. واتفق أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم على حرمة نكاح نساء المجوس، لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وهن الوثنيات والمجوسيات. وأجمعت الأمة على حرمة زواج المسلمة بالكافر، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، ولما بينا سابقا، وللآية: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك. ودلت آية وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ على أن لا نكاح إلا بولي، وهو رأي جمهور العلماء لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» «1» وقوله: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» «2» . وأجاز أبو حنيفة للمرأة مباشرة عقد زواجها بنفسها أو بالوكالة عن غيرها، لكمال أهليتها، ولإسناد لفظ النكاح إلى المرأة في آيات كثيرة، مثل حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة 2/ 230] ومثل: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة 2/ 232] والمراد بالعضل: منع النساء من مباشرة عقد الزواج عند اختيارهن الأزواج. وحملوا حديث «لا نكاح إلا بولي» على الكمال أو الندب والاستحباب، لا على الوجوب.

_ (1) رواه أصحاب السنن الخمسة إلا النسائي عن أبي موسى الأشعري. (2) رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة.

الحيض وأحكامه [سورة البقرة (2) الآيات 222 إلى 223] :

وأخيرا، يمكن القول: إن إباحة زواج المسلم بالكتابية عند غير الشيعة هو في الواقع حالة استثنائية، وليست أصلا، ولذا فإنا نشجب إقبال الشبان على الزواج بالأجنبيات، افتتانا بالجمال الأشقر، واستسهالا للزواج، لكونه بغير مهر يذكر، لأن هاتيك الزوجات تفسد على الرجل غالبا دينه ووطنيته، وتعزله عن انتمائه لبلاده وقومه، وتربي الأولاد على هواها ودينها، فضلا عن نظرة الاستعلاء والفوقية عندها، واحتقار العرب والمسلمين، وقد تقتل الزوج، وقد تأخذ الأولاد إلى بلادها وتترك الزوج، وقليل جدا منهن من أسلم، فلا مطمع فيهن. وأما زواج المسلمة بغير المسلم فهو أشد وأنكى، إذ الزواج باطل حرام بإجماع المسلمين، والأولاد أولاد زنا، والعلاقة القائمة بينها وبين الرجل لا تجيز الاستمتاع وإن طال الأمد، لبطلانها أصلا، فإن استحلّت المرأة ذلك فهي مرتدة كافرة. والإقامة في دار الكفر لا تسوغ القول بالحلّ، إذ يحرم على المسلم والمسلمة المقام بين الكفار إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحة أو موقوتة، ونعوذ بالله تعالى من هذا الانحراف الخطير، والتهاون في أمر الدين. الحيض وأحكامه [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

الإعراب:

الإعراب: حَتَّى يَطْهُرْنَ قرئ بتشديد الطاء وتخفيفها، فمن قرأ بالتشديد أراد: حتى يغتسلن وأصله: يتطهرن، وكرهوا اجتماع التاء والطاء، فأسكنوا التاء وأبدلوا منها طاء، وأدغموا الطاء في الطاء. ومن قرأ بالتخفيف أراد: ينقطع دمهن، وعلى هاتين القراءتين ينبني الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة، في جواز وطء الحائض إذا انقطع دمها لأكثر الحيض (10 أيام) قبل الغسل، فأجازه أبو حنيفة وأباه الشافعي. البلاغة: قُلْ هُوَ أَذىً تشبيه بليغ أي كالأذى، والأذى كناية عن القذر على الجملة، أي أن الحيض شيء يستقذر ويؤذي من بقربه نفرة منه وكراهة له، فتتأذى منه المرأة وغيرها برائحة دم الحيض. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ كناية عن الجماع. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ على حذف مضاف أي موضع حرث، أو على سبيل التشبيه، فالمرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج. المفردات اللغوية: الْمَحِيضِ هو الحيض كالمعيش أي العيش: وهو لغة: السيلان، يقال: حاض السيل وفاض. وشرعا: دم فاسد يخرج من أقصى رحم المرأة كل شهر مرة واحدة، أقله عند الشافعي وأحمد: يوم وليلة، وغالبة: ست أو سبع، وأكثره: خمسة عشر يوما. والحكمة: الاستعداد للحمل حين المعاشرة الزوجية، إبقاء للنوع البشري. وقد يراد بالمحيض: مكانه الذي يفعل بالنساء فيه أَذىً قذر أو محله، أو هو ضرر ومؤذ مكروه تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. واعتزال النساء من الحيض: ترك غشيانهن في هذه المدة. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ مثل فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ كناية عن عدم الجماع. يَطْهُرْنَ يغتسلن بالماء إن لم يوجد مانع، أو التيمم خلفا عنه في رأي الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن طهرت لأقل من عشرة أيام، فلا تحل له إلا إذا اغتسلت، أو مضى وقت صلاة كامل والدم منقطع، وإن طهرت لأكثر مدته وهي عشرة أيام، حلت له ولو لم تغتسل. فَأْتُوهُنَّ بالجماع مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بتجنبه في الحيض، وذلك في المكان المأمور به وهو القبل، لا الدبر التَّوَّابِينَ من الذنوب وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ من الأقذار. حَرْثٌ لَكُمْ موضع حرث

سبب النزول:

كالأرض التي تستنبت، شبهت بها النساء، لأنها منبت للولد، كالأرض للنبات فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي جامعوا في القبل، كيف شئتم من قيام وقعود، واضطجاع وإقبال وإدبار، ونزل ردا لقول اليهود: من أتى امرأته في قبلها من جهة دبرها، جاء الولد أحول. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ العمل الصالح، كالتسمية قبل الجماع وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمره ونهيه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذي اتقوه بالجنة. سبب النزول: نزول الآية (222) : روى مسلم والترمذي عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل الأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الآية، فقال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» . نزول الآية (223) : روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها- أي يأتي امرأته من ناحية دبرها في قبلها-: إن الولد يكون أحول، فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ.. الآية «1» . وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وروى الحاكم عن ابن عباس قال: إن هذا الحي من قريش كانوا يتزوجون النساء، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى في ذلك: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية.

_ (1) زاد في رواية الزهري: «إن شاء مجبّية، وإن شاء غير مجبّية، غير إن ذلك في صمام واحد» والمجبية: المنكبة على وجهها كهيئة السجود

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو، لاتصالها بما قبلها وما بعدها، وقد سئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حكم الحيض، لأن اليهود كانوا يقولون: إن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها، يكون نجسا، وكانوا يتشددون في معاملة الحائض، فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم، كما بينا، وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، فلا تفرق بين الحيض وغيره، وكانت العرب في الجاهلية كاليهود والمجوس لا يساكنون الحائض، ولا يؤاكلونها، فصارت هذه الأحوال مدعاة للتساؤل عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض، فأجابهم تعالى: إن الحيض ضرر وأذى، يضر الرجل والمرأة على السواء، فامتنعوا من جماع النساء في مدة الحيض، ولا حرج في غير الجماع من التقبيل والمفاخذة مثلا، في رأي الحنابلة، للحديث المتقدم الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن: «اصنعوا كل شيء إلا الجماع» «1» . وحرم الجمهور الاستمتاع بما بين السرة والركبة، لما روى أبو داود عن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: «لك ما فوق الإزار» أي ما فوق السرة، ولأن الاستمتاع بما دون الإزار يدعو إلى الجماع. وأيّد الطب اتجاه الشرع، فأثبت الأطباء أن الوقاع في أثناء الحيض يحدث آلاما والتهابات حادة في أعضاء التناسل لدى الأنثى، كما أن تسرب الدم في فوهة عضو الرجل قد يحدث التهابا صديديا يشبه السيلان، وقد يصاب الرجل بالزهري إذا كانت المرأة مصابة به، وقد يؤدي الجماع إلى عقم كل من الرجل والمرأة. ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض، فإذا تطهرن بالاغتسال بالماء

_ (1) وفي رواية: «إلا النكاح» وفي رواية «إلا الفرج»

- والطهر: انقطاع دم الحيض، والتطهر: الاغتسال- فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله وأذن به: وهو القبل، لأنه موضع النسل، إن الله يحب الذين يتوبون من المعاصي، كإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن، ونحو ذلك مما يصادم الفطرة والطبع السليم، ويحب الذين يتطهرون من رجس الفاحشة أو المعصية، ومن كل دنس مادي كالحيض والنفاس. ومحبة الله: إرادته ثواب العبد. والتوبة: هي رجوع العبد عن حالة المعصية. وكنى بالإتيان عن الوطء. نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم وإنجاب نسلكم، فالنطفة كالبذرة في الأرض، ولا يحل إتيان النساء في زمن الحيض، حيث لا استعداد لقبول الزرع، ولا في الدبر، لأنه غير محل الإنجاب، ويؤدي إلى ضرر واضح ظهر حديثا: وهو إفساد الدم والموت. وهذه الآية تعد شارحة للآية السابقة، ومبّينة وجه الحكمة التي من أجلها شرع الاستمتاع: وهو حفظ النوع البشري بالاستيلاد. فأتوا حرثكم بلا حرج بأي كيفية شئتم، قائمة وقاعدة ومضطجعة ومقبلة ومدبرة، ما دام المأتى واحدا وهو في القبل الذي هو موضع الحرث، كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم، فلا تحظر عليكم جهة من الجهات. وكذلك تفيد الآية إباحة إتيان النساء بالنكاح لا بالسفاح، وفي الوقت المأذون به شرعا، لا محرمات، ولا صائمات، ولا معتكفات. وقدموا لأنفسكم الخير وصالح الأعمال «1» عدة لكم يوم الحساب، واتقوا الله واحذروا معاصيه، فلا تقربوها، وحدوده فلا تضيعوها، ولا تريقوا ماء الحياة في الحيض أو في غير موضع الحرث، واختاروا المرأة المتدينة، وأعرضوا عن سيئة

_ (1) وقيل: ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنّة. وقيل: هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا.

فقه الحياة أو الأحكام:

الأخلاق التي تسوء معاشرتها للزوج، وتفسد تربية الأولاد. واعلموا علما يقينيا أنكم ستلقون ربكم في الآخرة، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. وبشر المؤمنين المستقيمين على أوامر الله بالفوز والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة. أما الذين يتجاوزون حدود الله، ويتبعون شهواتهم، ويخرجون عن السّنن المشروعة، فلا يسلمون من الضرر في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وقد يكون ضرر الدنيا بالقلق والاضطراب، والهمّ والخوف ونحوهما من الأمراض النفسية. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية (222) على وجوب اعتزال المرأة في المحيض، لقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وهو أمر، والأمر يقتضي الوجوب. واختلف العلماء فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال ثلاث: 1- يجب اعتزال جميع بدن المرأة، لأن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصص من ذلك شيئا. وهو قول ابن عباس وعبيدة السّلماني، وهذا قول شاذّ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه، فالسّنة الثابتة بخلافه. 2- يجب اعتزال موضع الأذى، وهو مخرج الدم، وهو قول الحنابلة، أخرج ابن جرير الطبري عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: «كل شيء إلا الجماع» وهذا موافق للحديث المتقدم، ويؤيده «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض» فعلم منه أن المطلوب اعتزاله بعض جسدها دون بعض. 3- يعتزل ما بين السّرة والركبة، أي ما فوق الإزار، وهو قول الجمهور،

لقوله صلّى الله عليه وسلّم للسائل حين سأله: «ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟» فقال: «لتشدّ عليها إزارها، ثم شأنك «1» بأعلاها» . وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: «شدّي على نفسك إزارك، ثم عودي إلى مضجعك» ، وقالت عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر، ثم يباشرها» . ودلّت آية وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ على حرمة الجماع في الحيض حتى الطهر، وللعلماء في ذلك آراء ثلاثة: 1- قال أبو حنيفة: يجوز أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء، فإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحلّ حتى يمضي وقت صلاة كامل، وإذا انقطع دمها لأكثر الحيض، حلّت حينئذ. 2- قال الجمهور: لا تحلّ حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة. 3- قال طاوس ومجاهد: يكفي في حلّها أن تتوضأ للصلاة. وسبب الخلاف: حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ: حمل أبو حنيفة الفعل الأول على انقطاع دم الحيض، والثاني على المعنى نفسه، أي فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل الفعل المشدد بمعنى المخفف. وقال الجمهور بالعكس، أي إنهم استعملوا المخفف بمعنى المشدد، والمراد: ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهن، بدليل قراءة: حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتشديد، وبدليل قوله: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وللعلماء رأيان فيما يجب على من وطأ الحائض: فقال الجمهور: يستغفر الله ولا شيء عليه، لأن الحديث مضطرب عن ابن عباس، وإن مثله لا تقوم به

_ (1) منصوب بإضمار فعل، ويجوز رفعه مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: مباح أو جائز. [.....]

حجة، وإن الذمة على البراءة، ولا يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مطعن فيه. وقال الحنابلة: عليه دينار إن كان في مقتبل الدم، ونصف دينار في مؤخر الدم، لما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يتصدق بدينار، أو نصف دينار» ، وفي كتاب الترمذي: «إن كان دما أحمر فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار» . وهذا مستحب عند الشافعية والطبري. وأجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر، وهي: الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، وتترك له الصلاة والصوم، وتقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة. واختلف العلماء في مقدار الحيض: فقال فقهاء المدينة منهم (مالك والشافعي وأحمد) : أكثر الحيض خمسة عشر يوما، وما زاد على ذلك فهو استحاضة. وأقلّه عند الشافعي وأحمد: يوم وليلة، وما دونه استحاضة، وأقلّه عند مالك: دفقة أو دفعة في لحظة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وما نقص أو زاد عن ذلك فهو استحاضة. ودم النفاس عند الولادة كالحيض، وأقله عند الشافعية لحظة، ولا حدّ لأقله عند الأئمة الآخرين، وغالبة عند الشافعية أربعون، وأكثره عند المالكية والشافعية: ستون يوما، وعند الحنفية والحنابلة: أربعون يوما. والغسل منه كالغسل من الحيض والجنابة.

ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا، وهي: وجوب الصلاة، وصحة فعلها، وفعل الصوم دون وجوبه، والجماع في الفرج وما دونه، والعدّة، والطلاق، والطواف، ومسّ المصحف، ودخول المسجد، والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن رأيان: الحرمة عند الجمهور، والإباحة عند المالكية. ودم الاستحاضة: وهو دم ليس بعادة ولا طبع منهن، ولا خلقة، وإنما هو نزيف أو عرق انقطع، سائله: دم أحمر، لا انقطاع له إلا عند البرء منه، والمستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ولكنها تتوضأ لكل صلاة. ويجمع أحكام الحيض والاستحاضة ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي» . وفي قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج ورغبت عن الرهبانية، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج بقوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم 30/ 21] ، وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق بالسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان 25/ 74] ، وقال: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [البقرة 2/ 201] وهي الزوجة الصالحة. فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل قربة لله تعالى، وتركه مع القدرة عليه مخالف لطبيعة الفطرة وسنة الشرع، قال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «وفي

بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟» . وتجبر الكتابية على الاغتسال من الحيض في رأي مالك- وفي رواية ابن القاسم عنه- ليحلّ لزوجها وطؤها، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي بالماء، ولم يخصّ مسلمة من غيرها. وهذا موافق لرأي الشافعية والحنابلة القائلين بأن الكافر مكلف بفروع الشريعة. وقال الحنفية: إنه غير مكلف بها. وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في رأي الحنفية والمالكية، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله، إني أشدّ ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين» . ويجب نقض الضفائر في رأي الشافعية والحنابلة إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، لما روى البخاري عن عائشة: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها إذ كانت حائضا: «خذي ماءك وسدرك وامتشطي» ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور. وخصصه الحنابلة في الحيض أو النفاس، ولم يوجبوا النقض في حال الجنابة إذا أروت أصوله، أخذا بحديث أم سلمة. وقوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى كما بيّنا: جامعوهن من أي شق أردتم، بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث. قال الزمخشري: قوله تعالى: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ: من الكنايات اللطيفة

الحلف بالله ويمين اللغو [سورة البقرة (2) الآيات 224 إلى 225] :

والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم «1» . وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تحذير، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم. روى مسلم عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب يقول: «إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا «2» ، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ. الحلف بالله ويمين اللغو [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) الإعراب: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ عُرْضَةً: منصوب مفعول ثاني لتجعلوا. أَنْ تَبَرُّوا فيه ثلاثة أوجه: النّصب والجر والرفع. فأما النصب: فعلى تقدير: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم لئلا تبروا، فحذفت لا، أو كراهة أن تبروا، والتقدير الثاني أولى، لأن حذف المضاف أكثر في كلامهم من حذف «لا» . وأما الجرّ: فعلى تقدير حرف الجر وإعماله، لأنه يحذف مع «أن» كثيرا، لطول الكلام.

_ (1) الكشاف: 1/ 274 (2) الغرل: هو الأقلف الذي لم يختن.

المفردات اللغوية:

وأما الرفع: فعلى أن تكون: أن وصلتها مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أمثل وأولى من تركها. المفردات اللغوية: عُرْضَةً هي المانع المعترض دون الشيء. لِأَيْمانِكُمْ أي ما حلفتم «1» عليه من البر والتقوى والإصلاح، ويكون: أَنْ تَبَرُّوا بدلا من أيمانكم، ويكون المعنى: لا تجعلوا الله مانعا من البر، وهذا المعنى موافق لخبر الصحيحين في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه» . وهناك معنى آخر هو: لا تجعلوا الحلف بالله معرّضا لأيمانكم، تبتذلونه بكثرة الحلف به، ويكون أَنْ تَبَرُّوا علّة للنهي، أي أن لا تبروا أو إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلّاف مجترئ على الله، غير معظم له، فلا يكون برّا متقيا، ولا يثق به الناس، وعلى هذا تكون الآية نهيا عن كثرة الحلف بالله، وابتذاله في الأيمان. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأحوالكم. بِاللَّغْوِ هو اليمين الذي لا قصد فيه ولا نيّة، كأن يجري على لسانه: إي والله، ولا والله، وبلى والله، من غير قصد اليمين، وإنما يسبق إليه اللسان عادة، فلا مؤاخذة فيه بكفارة ولا إثم ولا بعقوبة. واليمين اللغو عند أبي حنيفة: أن يحلف على ظن شيء أنه حصل، ثم يظهر خلافه. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدته من الأيمان إذا حنثتم، وهو مثل قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة 5/ 89] . وَاللَّهُ غَفُورٌ ليمين اللغو. حَلِيمٌ يؤخر العقوبة عن مستحقها. سبب النزول: نزول الآية (224) : روى ابن جرير الطبري عن ابن جريج، أن قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نزلت بسبب أبي بكر الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح، حين خاض مع المنافقين في حديث الإفك وتكلم في عائشة رضي الله عنها، وفيه

_ (1) اليمين: الحلف، وأصله: أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت، أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ثم كثر ذلك، حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.

المناسبة:

نزل: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النور 24/ 22] . وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة، حين حلف ألا يكلم ختنه زوج أخته (صهره) : بشير بن النعمان، وألا يدخل عليه أبدا، ولا يصلح بينه وبين امرأته، ويقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحلّ إلا أن أبرّ في يميني، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . المناسبة: أمر تعالى في الآية السابقة بتقوى الله وحذّر من معصيته، ونبّه هنا على أن مما يتّقى ويحذر منه: أن يجعل اسم الله مانعا من البرّ والتقوى. وقال العلماء أيضا: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة، قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعلّلا بأنّا حلفنا ألا نفعل كذا. التفسير والبيان: للآية معنيان: الأول- إذا حلف الشخص ألا يفعل خيرا من صلة رحم أو صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أو عبادة ونحوها، فلا يكون الحلف بالله مانعا من المحلوف عليه من برّ وتقوى، وما على المؤمن إذا أراد أن يفعل البر والخير إلا أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه، كما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة- فيما رواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه-: «إذا حلفت على يمين، ورأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» فتكون الآية لرفع الحرج عن الحالفين بالله إذا أرادوا فعل الخير.

_ (1) البحر المحيط: 2/ 176

والمعنى الثاني: لا تتعرّضوا كثيرا للحلف بالله من أجل إرادة البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، لما في كثرة الحلف بالله من استخفاف واستهانة وتجرؤ على الله، وعلى المؤمن تعظيم الله تعالى وتوقيره، والابتعاد عن اليمين قدر الإمكان، سواء أكان الحالف صادقا أم كاذبا، فكان صاحب الورع مثل عمر والشافعي لا يحلف بالله ذاكرا ولا آثرا عن غيره، فتكون الآية للنهي عن كثرة الحلف بالله، وابتذاله في الأيمان، توفيرا للثقة بكلام المتكلم بدون يمين، قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم 1068] . هذا في اليمين المنعقدة التي يلزم فيها الكفارة بالحنث فيها: وهي على الموسر: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد وهو المعسر الفقير فيصوم ثلاثة أيام. وقد أخبر تعالى أنه يؤاخذ على ما كسبت القلوب أي قصدت إيقاع اليمين، والمؤاخذة بالكفارة أو العقوبة عند عدم الكفارة، حتى لا يتخذ اسم الله عرضة للابتذال وتوفيرا لتعظيمه، أو مانعا من صالح الأعمال. أما اليمين اللغو: فأخبر تعالى أنه لا مؤاخذة ولا عقاب ولا كفارة عليها بالحنث، لصدورها عن غير قصد اليمين، لأن الله غفور لعباده، فلا يؤاخذهم بما لم تقصده قلوبهم، ولم يكلفهم بما يشق عليهم، لحصوله دون اختيار. ويمين اللغو عند الشافعيّة: هي التي تجري على اللسان دون قصد الحلف، مثل قول الشخص: لا والله، بلى والله. وإن عدم المؤاخذة عليها: هو عدم إيجاب الكفارة بها. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: هي أن يحلف على شيء يظنه أنه حصل، ثم يظهر خلافه، وبعبارة أخرى: اللغو: ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه. فهذا لا مؤاخذة فيه، أي لا يجب تكفيره. وأما ما يجري على اللسان من غير قصد فتجب فيه الكفارة.

فقه الحياة أو الأحكام:

والظاهر هو الرأي الأول، لأن الله قسم اليمين قسمين: ما كسبه القلب، واللغو. وما كسبه القلب: هو ما قصد إليه، وحيث جعل اللغو مقابله، فيعلم أنه هو الذي لم يقصد إليه. قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وقالت عائشة رضي الله عنها: أيمان اللغو: ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب. فقه الحياة أو الأحكام: تعظيم الله تعالى واجب شرعا، والإكثار من اليمين، والحنث فيه يتنافى مع واجب التعظيم لله، وفيه قلة مراعاة لحق الله تعالى، فلا يصحّ جعل الأيمان مبتذلة في كلّ حقّ أو باطل، أو في الصدق أو الكذب. أما إذا حلف المؤمن معظّما الله تعالى، وكان المحلوف عليه أمرا خيريا، فلا تمنعه اليمين من فعل الخير المحلوف عليه، وعليه أن يكفّر عن يمينه، وهذا نوع من التسامح والتيسير في شرع الله تعالى، حبّا في فعل الخير: من صدقة أو معروف أو صلة رحم أو إصلاح بين الناس. كما أن من فضل الله تعالى، وتيسيره على الناس، وعدم تكليفهم بالشاق من الأحكام، ودفعا للحرج عنهم، أنه رفع المؤاخذة والإثم والكفارة عن اليمين اللغو، لأنه الغفور الحليم، الرءوف الكريم.

حكم الإيلاء [سورة البقرة (2) الآيات 226 إلى 227] :

حكم الإيلاء [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) الإعراب: لِلَّذِينَ اللام تفيد الاستحقاق، كقولك: الرحمة للمؤمنين واللعنة للكفار. مِنْ نِسائِهِمْ جار ومجرور متعلقان بمحذوف تقديره: كائنا من نسائهم. وليست مِنْ متعلقة بفعل يُؤْلُونَ، لأنه يقال: آلى على امرأته، ولا يقال: آلى من امرأته، فهو غلط. البلاغة: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ خرج الخبر عن ظاهره إلى معنى الوعيد والتهديد. المفردات اللغوية: يُؤْلُونَ يحلفون أو يقسمون، والأليّة: الحلف، جمع ألايا، والإيلاء: أن يحلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر فأكثر. وإنما عدّيت يُؤْلُونَ بمن، وهي إنما تعدى بعلى، إما لأنه ضمن يُؤْلُونَ معنى يعتزلون، وإما لأن في الكلام حذفا، وتقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكر: يعتزلون، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه. تَرَبُّصُ انتظار. فاؤُ رجعوا إلى نسائهم عن اليمين. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما حلفوا عليه من ضرر المرأة. رَحِيمٌ بهم. عَزَمُوا الطَّلاقَ صمموا على إيقاع الطلاق، وعزموا ألا يعودوا إلى الاستمتاع بنسائهم. فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم. عَلِيمٌ بعزمهم، أي ليس لهم بعد تربص مدة أربعة أشهر إلا الفيئة أو الطلاق.

سبب النزول:

سبب النزول: قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السّنة والسّنتين وأكثر من ذلك، فوقّت الله أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك، لا أيّما ولا ذات بعل، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الآية «1» . وذكر مسلم في صحيحة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم آلى وطلّق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده. وذكر ابن ماجه سببا آخر: وهو أن زينب ردّت عليه هديته، فغضب صلّى الله عليه وسلّم، فآلى منهن. ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تقدم شيء من أحكام النساء وشيء من أحكام الأيمان، وهذه الآية جمعت بين الشيئين. التفسير والبيان: حدد الله تعالى مدة قصوى للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم، وهي أربعة أشهر، إشارة إلى أن الإيلاء لمدة طويلة مما لا يرضي الله تعالى، لما فيه من قطيعة واستمرار نزاع، ومنعا من إلحاق الضرر بالمرأة وامتهانها وإهدار حقوقها. فإن رجعوا بالفعل لا بالقول «2» إلى ما حلفوا على الامتناع منه وكانوا عليه، فإن الله يغفر لهم ما كان من الحنث في أيمانهم، لأن الفيئة توبة في حقهم، رحيم

_ (1) البحر المحيط: 2/ 180 (2) إن الفيء بالفعل عند الجمهور غير الحنفية هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها

فقه الحياة أو الأحكام:

بهم وبغيرهم من المؤمنين، فلا يؤاخذهم بما سلف، لأن رحمته وسعت كل شيء. ومعنى تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف، ويطالب بالفيئة أو الطلاق، ولهذا قال: فَإِنْ فاؤُ. وإن عزموا الطلاق، فلم يفيئوا إلى نسائهم، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، وبما ارتكبوه مما يحرم أو يحلّ، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن أرادوا إيذاء النساء ومضارتهن، فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي مثل حملهن على إقامة حدود الله، فالله يغفر لهم. ومجمل الحكم: أن من حلف على ترك قربان امرأته واستمر على امتناعه أربعة أشهر، فإما أن يفيء إلى زوجته، ويحنث في يمينه، ويكفّر عنها، وإما أن يطلق، فإن أبى الطلاق طلّق عليه القاضي. أي له الخيار بين أمرين: الفيئة أو الطلاق. والفيئة أفضل من الطلاق، لأن الله جعل جزاءها المغفرة والرحمة، وهدد في حال الطلاق بأن الله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم وأفعالهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ على أن الإيلاء يختص بالزوجات. ويلزم الإيلاء كلّ من يلزمه الطلاق، فالحرّ والعبد والسكران يلزمه الإيلاء، وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي غير المجبوب، والشيخ الكبير إذا كان فيه بقية قوة ونشاط. أما المجبوب: فللشافعي فيه قولان: قول: لا إيلاء له، وقول: يصحّ إيلاؤه، والأول أصح. ويصحّ إيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة، ويقع إيلاء الأعجمي كالعربي بلغته. واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين:

فقال الشافعي في الجديد: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت» . وقال الحنفية والمالكية: يصحّ الإيلاء باليمين، أو بالحلف على ترك الوطء بالطلاق أو العتاق، أو نذر التصدق بالمال أو الحج، أو الظهار، لقول ابن عباس: «كلّ يمين منعت جماعا فهي إيلاء. وكلّ من حلف بالله أو بصفة من صفاته، فقال: أقسم بالله أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمّته، فإنه يلزمه الإيلاء اتفاقا» . وأضاف المالكية: أنه لا تشترط اليمين في الإيلاء، فإذا امتنع الرجل من الوطء بقصد الإضرار من غير عذر، ولم يحلف، كان موليا، لوقوع الضرر. وقال الحنابلة على الرواية المشهورة: لا يكون الإيلاء بالحلف بالطلاق والعتاق، بدليل قراءة أبي وابن عباس: «للذين يقسمون» بدل يُؤْلُونَ. فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى، بأن قال: إن شاء الله، فالأصح لدى المالكية وفقهاء الأمصار: ليس بمول، لأن الاستثناء يحلّ اليمين، ويجعل الحالف كأنه لم يحلف. وكذا إن حلف بالنّبي أو بالملائكة أو بالكعبة ألا يطأها، أو قال: هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها: ليس بمول، في رأي مالك وغيره. واختلف العلماء في صفة اليمين التي يكون بها الحالف موليا. فقال جماعة (علي وابن عباس والزهري) : لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك الوطء إضرارا بها، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار، فلا يكون موليا، لأن الله جعل مدة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته، فإذا لم يقصد الضرر، وإنما قصد الصلاح والخير، لم يكن موليا، فلا معنى لتحديد الأجل، حتى تتخلّص من مساءته.

وقال آخرون: إنه يكون موليا، سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أم لمصلحة. وقال بعضهم: ليست يمين الإيلاء مقصورة على الحلف بترك الوطء، بل تكون بالحلف على غيره أيضا، كأن يحلف ليغضبنها، أو ليسوءنها، أو ليحرمنها، أو ليخاصمنها، كل ذلك إيلاء. واختلف الفقهاء في الفيء: فقال الجمهور: هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه، لا فيئة له إلا ذلك، فإن كان هناك عذر من مرض أو سفر، ومضت مدة الإيلاء دون وطء، بانت منه في رأي طائفة، وقال الأكثرون منهم المالكية: لا تبين منه، وارتجاعه صحيح وهي امرأته. وقال الحنفية: الفيء إما بالفعل وهو الجماع في الفرج، وإما بالقول: كأن يقول: فئت إليك، أو راجعتك، وما أشبه ذلك. وأما الطلاق بعد ترك الفيء في الإيلاء ففيه اختلاف أيضا: فقال الحنفية: الفيء يكون قبل مضي المدة، فإذا مضت الأربعة الأشهر بدون فيئة، وقع الطلاق طلاقا بائنا. وقال الجمهور: لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة، فإن مضى الأجل، لا يقع به طلاق، وإنما ترفع المرأة الأمر إلى القاضي، فإما فاء وإما طلّق، أي إن الطلاق يقع بتطليق الزوج، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه. ومنشأ الخلاف: اختلافهم في تأويل آية: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فرأى الحنفية: إن فاءوا في هذه الأشهر، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار

بالزوجة، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر، واستمروا في أيمانهم، كان ذلك عزما منهم على الطلاق، ويقع الطلاق بحكم الشرع. ويكون معنى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي بترك الفيئة، وقد شبهوا مدة الإيلاء بالعدة. والمولى عنها بالرجعية، وشبهوا الطلاق بالطلاق الرجعي. وكان الإيلاء في الجاهلية طلاقا، فأقره الشرع طلاقا، وزاد فيه الأجل. والمعنى عند الجمهور: للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر، فإن فاءوا بعد انقضاء المدة، فإن الله غفور رحيم، وإن قصدوا إيقاع الطلاق، فإن الله سميع لطلاقهم، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شرّ، فيجازيهم عليه. وقد شبهوا أجل الإيلاء بالأجل الذي يحدد في العنّه (العجز الجنسي) ، لأن الإيلاء ضرر بالزوجة، فإن رفعه الزوج وإلا رفعه الشرع كما في أي ضرر يتعلق بالوطء، وهذا هو الظاهر، لأن قوله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة «1» . ولا فرق في لزوم الإيلاء بين المرأة المدخول بها وغير المدخول بها. ولا يشترط في المولي عند الجمهور: أن يكون مسلما، فيصح إيلاء المسلم والكافر، ولكن لا تلزمه الكفارة بالحنث عند الحنفية، وتلزمه الكفارة في رأي الشافعية والحنابلة. واشترط المالكية أن يكون المولي مسلما، فلا يصح إيلاء الذّمي، كما لا يصحّ ظهاره ولا طلاقه، لأن نكاح أهل الشرك لديهم غير صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع، حتى تلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء، لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم، حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطء زوجته، ضرارا من غير يمين.

_ (1) روى مالك والبخاري عن ابن عمر قال: «إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق، وإما أن يفيء» .

عدة المطلقة وحقوق النساء [سورة البقرة (2) آية 228] :

واتفق أئمة المذاهب الأربعة على وجوب كفارة اليمين على المولي الحانث بيمينه إذا فاء بجماع امرأته. وأجمع العلماء على مشروعية تقديم الكفارة على الحنث في الإيلاء، واختلفوا في مسألة الأيمان، فرأى أبو حنيفة: أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث فيها. وذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي لأربعة أشهر الأثر الذي رواه مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بن دينار، قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسودّ جانبه ... وأرّقني أن لا خليل ألا عبه فو الله لولا الله أني أراقبه ... لحرّك من هذا السرير جوانبه فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستّة أشهر أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك. عدّة المطلّقة وحقوق النساء [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

الإعراب:

الإعراب: يَتَرَبَّصْنَ خبر بمعنى الأمر، أي ليتربصن، وجاز ذلك لأن المعنى مفهوم. ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب ثَلاثَةَ على أنه مفعول به، أو ظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء. وقُرُوءٍ جمع كثرة، وأقراء جمع قلة، وإضافة العدد القليل وهو من الثلاثة إلى العشرة، إلى جمع القلة أولى من إضافته إلى جمع الكثرة، والسبب في مجيء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء: هو أن العرب يتسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر، لاشتراكهما في الجمع، ألا ترى إلى قوله: بِأَنْفُسِهِنَّ، وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء، فأوثر عليه، تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل. وفي ذكر الأنفس: تهييج لهن على التربّص، وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكف منه، فيحملهن على أن يتربص، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن بقمع أنفسهن وجبرها على التربّص (الكشاف: 1/ 277) . وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِثْلُ: مبتدأ، ولَهُنَّ خبره، وعَلَيْهِنَّ: صلة الَّذِي، ويتعلق بفعل مقدر: وهو الذي استقر عليهن. وبِالْمَعْرُوفِ: متعلق بلهن، وتقديره: استقرّ لهن حق مثل الذي عليهن بالمعروف، أي بالذي أمر الله في ذلك. البلاغة: يَتَرَبَّصْنَ خبر في معنى الأمر، أي ليتربصن، كما بيّنا. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ للتهييج والحثّ والبعث على الأمر. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ فيه طباق بين لهن وعليهن، وفيه إيجاز، والمعنى: لهن على الرجال من الحقوق مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق. المفردات اللغوية: يَتَرَبَّصْنَ ينتظرن ويصبرن. قُرُوءٍ جمع قرء، ويطلق في كلام العرب على الطهر، وعلى الحيض حقيقة، فهو من ألفاظ الأضداد. وأصل القرء: الاجتماع، وسمي الطهر قرءا لاجتماع الدم في البدن، وسمي الحيض قرءا لاجتماع الدم في الرحم، وقد يطلق القرء على الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. ولما كان الحيض معتادا مجيئه في وقت معلوم، سمت العرب وقت مجيئه قرءا. وجاء القرء بمعنى الحيض في قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» لذا قال الحنفية والحنابلة: المراد بالقرء الحيض، وقال المالكية والشافعية: المراد به الطهر. والاعتداد للمطلقات ثلاثة قروء مخصوص بالحرائر المدخول بهن، أما غيرهن أي قبل الدخول، فلا عدّة عليهن، لقوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب 33/ 49] ، والقروء

سبب النزول:

مخصوصة أيضا بغير الآيسة والصغيرة، لأن عدتهما ثلاثة أشهر، وكذلك غير الحوامل لأن عدة الحوامل بوضع الحمل، كما في قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. [الطلاق 65/ 4] . وعدة الإماء: قرءان، بالسّنة. ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد أو الحيض. وَبُعُولَتُهُنَّ أزواجهن، مفرده بعل أي زوج، والمراد هنا الزوج الذي طلق. إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً بينهما، لا إضرار المرأة، وهو تحريض على قصده، لا شرط لجواز الرجعة، وهذا في الطلاق الرجعي. وَلَهُنَّ للنساء على الأزواج. مِثْلُ الَّذِي لهم عَلَيْهِنَّ من الحقوق. بِالْمَعْرُوفِ شرعا، من حسن العشرة وترك الإضرار ونحو ذلك. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي فضيلة في الحق، من وجوب طاعتهن لهم، لما ساقوه من المهر والإنفاق. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ فيما دبّره لخلقه. سبب النزول: أخرج أبو داود وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصارية، قالت: طلّقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن للمطلقة عدّة، فأنزل الله العدة للطلاق: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. التفسير والبيان: لتتربص ثلاث حيضات أو أطهار بعد الطلاق حرائر النساء اللاتي يطلقن، وهن من ذوات الحيض، للتعرف على براءة الرحم من الولد، فيؤمن من اختلاط الأنساب، وقد أخرج من حكم الآية كما بيّنا ثلاثة أصناف من النساء: وهنّ المطلقات قبل الدخول، فلا عدّة عليهن، والصغيرات قبل سنّ الحيض واليائسات من المحيض لكبر السّن، فعدتهن ثلاثة أشهر، والحوامل فعدتهن وضع الحمل، فصارت الآية هنا خاصة بعدّة النساء الممكنات الحيض، غير المدخول بهنّ، وغير الحوامل. والتعبير بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ يشير إلى أن على النساء أن يحملن

أنفسهن على الصبر والانتظار لإتمام تلك المدة، حتى تنقضي العدّة، فلا يسايرن أهواءهن وشهواتهن، إذ قد تكون أنفسهن تواقة إلى سرعة انقضاء العدّة، والتزوّج بزوج آخر. وفي هذا التعبير لفت نظر لطيف، فيه تعظيم وتبجيل، إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا. وحكمة هذا التربّص: هو التعرّف على براءة الرحم، فلا تختلط الأنساب، لذا لا يحلّ للنساء أن يكتمن شيئا مما في أرحامهن من حمل أو حيض، وإن طالت العدة للتزوج بزوج آخر، ولا يحلّ لهنّ الكذب بكتمان الحيض أيضا لأجل استدامة النفقة ما دمن في العدّة، وقد جرت المحاكم الآن على أن أقصى العدّة سنة قمرية، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى. وذلك إذا كنّ مؤمنات إيمانا صادقا بالله وباليوم الآخر، فلا يخفى على الله شيء، ويحاسب كل إنسان على قوله وفعله يوم القيامة، مما يقتضي أن تكون المرأة أمينة على ما في رحمها، فإن لم تكن أمينة لعدم إيمانها الكامل أضلّت نفسها وغيرها. وفي هذا تهديد شديد ووعيد لهن على خلاف الحق، مما يدل على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البيّنة غالبا عليه، فردّ الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالا منها لانقضاء العدّة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في الحالين من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في شأنها من غير زيادة ولا نقصان. وأزواجهن في حال الطلاق الرجعي أحقّ برجعتهن إلى بيت الزوجية، في مدة العدّة، حرصا من الشرع على إبقاء الرابطة الزوجية السابقة، فليس هناك من الحلال أبغض عند الله من الطلاق، وعلى المرأة الاستجابة إلى طلب الزوج الرجعة، بشرط أن يكون المقصود بالرجعة: الإصلاح والخير للزوجين. أما إذا كان القصد هو الانتقام والإضرار ومنعها من الزواج بآخر، حتى تكون كالمعلّقة،

لا هي زوجة له بالمعنى الكريم، ولا يمكّنها من التزوّج بغيره، فهو آثم عند الله، بإلحاق الضرر بها، والحيلولة بينها وبين الزواج برجل آخر. وهذا يدل على أن الرجعة مشروطة ديانة بإرادة الإصلاح، ونية المعاشرة بالمعروف. وبمناسبة الرجعة ذكّر الله الزوجين بما لهما من الحقوق وما عليهما من الواجبات، فللرجل حقوق، وعليه واجبات للمرأة، وللمرأة مثل ذلك. وهما متساويان في الحقوق والواجبات، لأن لكل منهما كرامة إنسانية وأهلية تامة من عقل وتفكير ورغبات ومشاعر وإحساسات، وحقّا في العيش الحرّ الكريم، إلا في درجة القوامة: أي تسيير شؤون الأسرة المشتركة والقيام على مصالحها بقيادة الرجل، لما فضله الله على المرأة بسعة العقل والخبرة، والحكمة والاتّزان دون التأثر السريع بالعواطف العابرة، ولأنه الذي ينفق ماله وكسبه من بداية تكوين الزواج بدفع المهر، إلى نهايته بالنفقة الدائمة على شؤون الحياة بتوفير المسكن والملبس والطعام، كما قال الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء 4/ 34] . وسبب القوامة أن كل شركة أو حياة اجتماعية تتطلب وجود رئيس مسئول عنها، يتحمل الأعباء، ويستعد لتحمل المغارم والخسارات، ويدير أمر هذه المؤسسة بما يوصلها إلى شاطئ الأمن والسعادة والاستقرار، في داخل المنزل وخارجه، تعليما وتعلّما، وتمكينا من ممارسة الخبرات والمهارات التي تفيد الزوجة والفتاة في حاضر الزمان ومستقبله. وإذا كان اضطلاع الرجل غالبا بالمهام الملقاة على عاتقه خارج المنزل، لتوفير المورد والكسب المطلوب لحياة الأسرة، فإن المرأة تضطلع غالبا بمسؤوليات جسام تكمل مهمة الرجل، في رحاب البيت، فهي الملكة التي تربي الأولاد على الأخلاق والفضائل، وهي التي تعين الرجل على توفير متطلبات الحياة

الضرورية، وهذا هو حكم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه، وعليّا كرّم الله وجهه خارج البيت يكافح ويبحث عن الرزق، ويجاهد في سبيل الله والحق، وفي سبيل أسرته. ولا مانع من عمل المرأة خارج المنزل عند الحاجة بشرط التزام ما يقتضيه الدّين والخلق وعدم الخلوة، والسّتر المطلوب شرعا، فكل المرأة عورة ما عدا الوجه والكفين، لكنهما مما يجب غضّ البصر عنهما كباقي جسد المرأة «1» ، كما يشترط أن تكون المرأة في العمل حرّة أبية لا تلين في الكلام، لقوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.. [الأحزاب 33/ 32- 33] . وأما عدم التقيد بالقيود الشرعية لعمل المرأة فيؤدي إلى كثير من المفاسد والفتن، ولتكن المرأة متيقظة دائما، فإنه لا يراد بمحادثتها غالبا إلا السوء، وجعلها أداة تسلية ومتعة. وما أروع ما ختمت به الآية من التذكير بعزة الله وقدرته التي لا تغلب، وبحكمته بوضع الشيء في موضعه المناسب له، فهو حكيم الصنع والأمر والبيان، فمن عزته وحكمته: إنصاف المرأة بجعلها في الحقوق والواجبات كالرجل، بعد أن كانت كالمتاع لا تتمتع بالحقوق الكريمة، وإعطاء الرجل حق القوامة (الرياسة) ، فلا يغترن بهذه الدرجة، فإذا دعته قدرته إلى ظلم المرأة أو غيرها، فليذكر قدرة الله عليه، وليكن الرجل حكيم القيادة، متحملا لمهام المسؤولية الملقاة على عاتقه، بكل ثقة وأمانة وجرأة وعدالة فلا يتساهل في حكم شرعي، لأنه راع، وكل راع مسئول عن رعيته، ولا يفرط في واجب عند القدرة، ولا يغمط أحدا في الأسرة حقه، لأن الله سائله عما يعمل. وفي هذا من الوعيد لمن خالف أحكام الله تعالى.

_ (1) إلا في حدود ما تتطلبه المعاملة، أو تقتضيه الضرورة كالعلاج والتعلّم والشهادة أمام القضاء.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى أحكام في الطلاق: 1- وجوب العدة: تجب العدة لأهداف كثيرة: منها التعرف على براءة الرحم، ومنها صون سمعة المرأة، والحفاظ على نعمة الزوجية وتقديرها، والتفكير في عواقب الطلاق، والتدبر في أمر الحياة، فيصلح كل من الرجل والمرأة أخطاءه، وتعطى الفرصة الملائمة للعودة إلى الحياة الزوجية بنمط جديد أحسن مما كان في الماضي، لتستقيم شؤون المعاشرة، وينظر في مستقبل الأولاد والمعيشة الهانئة. والعدة: ثلاثة أطهار في رأي ابن عمر وزيد وعائشة، وفقهاء المدينة السبعة، والمالكية والشافعية، لأن القرء في اللغة: الانتقال من الطهر إلى الحيض، وليس الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا، لأن الانتقال من الطهر إلى الحيض هو الذي يدل على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب، فبحيضها نعلم براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد، انقطع دمها. ثم إن لفظ ثَلاثَةَ المؤنث يدل على أن المعدود مذكر، لا مؤنث، وهو الطهر، لا الحيضة، لضرورة التغاير بين العدد والمعدود في اللغة في التذكير والتأنيث. والله تعالى قال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي في وقت العدة، والطلاق للعدة: ما كان في الطهر، وهو الطلاق السّني، أما الطلاق في زمن الحيض فهو طلاق بدعي منهي عنه، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الطهر، وإذا كان الطلاق للعدة ما كان في الطهر، فهو يدل على كون القرء مأخوذا من

الانتقال، وتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات. والعدة في رأي عمر وعلي وابن مسعود، والحنفية، والحنابلة بمقتضى الرواية الأخيرة عن أحمد أو في أصح الروايتين: ثلاث حيضات، لأن عدة الأمة اتفاقا بالحيضة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» فتقاس الحرة على الأمة، ولأن الذي يدل على براءة الرحم، إنما هو الحيض لا الطهر. ورجح هذا الرأي من جهة المعنى. وتظهر فائدة الخلاف في حالة ما إذا طلقها في أثناء الطهر، فعلى الرأي الأول يحتسب من العدة وتنتهي بمجيء الحيضة الثالثة، وعلى الرأي الثاني: لا يحتسب من العدة، ولا تنتهي إلا بانقضاء الحيضة الثالثة. وعلى كلا الرأيين: المرأة مؤتمنة على ما في رحمها من حمل أو حيض، يقبل قولها فيه، لأنه لا يعلم إلا من قبلها. وإنما حرم الله أن يكتمن ما في أرحامهن، لأنه يتعلق بخبرها حق الرجل في الرجعة، وعدم اختلاط الأنساب. فإذا ادعت انتهاء عدتها، حرمت الرجل من حقه في الرجعة، وإذا كانت حاملا وادعت انقضاء العدة، ثم تزوجت بآخر، اختلطت الأنساب. واختلف الفقهاء في أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء: فقال أبو حنيفة: أقل ما تصدق فيه الحرة: ستون يوما، عملا بالوسط في مدة الحيض، وهو خمسة أيام، فتكون الحيضات الثلاث خمسة عشر يوما، والأطهار خمسة وأربعين يوما، على أن يبدأ بالطهر، فيكون المجموع ستين يوما. وأقل مدة عند المالكية تنقضي بها العدة بالأقراء (الأطهار) شهر: ثلاثون يوما، بأن يطلقها زوجها في أول ليلة من الشهر، وهي طاهرة، ثم تحيض، وينقطع عنها الحيض قبل الفجر، لأن أقل الحيض عندهم يوم، أو بعض يوم

2 - مشروعية الرجعة:

بشرط أن تقول النساء: إنه حيض، ثم تطهر خمسة عشر يوما، ثم تحيض في ليلة السادس عشر، وينقطع قبل الفجر أيضا، ثم تحيض عقيب غروب آخر يوم من الشهر وينقطع قبل الفجر، فتكون قد طهرت ثلاثة أطهار: الطهر الذي طلقها فيه، ثم الطهر الثاني، ثم الثالث، فيحدث تمام الشهر ثلاثين يوما. وأقل مدة تنقضي بها العدة في رأي الشافعية: اثنان وثلاثون يوما ولحظتان، ولا يقبل أقل من ذلك بحال، لأنه لا يتصور عندهم أقل من تلك المدة، بأن تطلق وقد بقي لحظة من الطهر، وهي قرء عندهم، ثم تحيض يوما وليلة أقل الحيض عندهم، ثم تطهر خمسة عشر يوما أقل الطهر، وذلك قرء ثان، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، وذلك قرء ثالث، ثم تحيض. وهذه الحيضة ليست من العدة، بل لتيقن انقضائها، فذلك اثنان وثلاثون يوما ولحظتان. وأقل مدة عند الحنابلة على أن الأقراء هي الحيضات، كما يقول الحنفية: تسعة وعشرون يوما ولحظة، وذلك بأن يطلقها مع آخر الطهر، ثم تحيض بعده يوما وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوما، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوما، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر لحظة، ليعرف بها انقطاع الحيض. ويلاحظ أن المعقول والغالب هو رأي أبي حنيفة، وأما الآراء الأخرى فيمكن أن تقع، ولكنها نادرة. 2- مشروعية الرجعة: أي ارتجاع الرجل زوجته إلى عصمته وملك زواجه ما دامت في عدتها، والرجل مندوب إلى المراجعة. وهذا من أحكام الطلاق، للآية: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً والرجعة مشروعة بشرط قصد إصلاح حاله معها، لا الضرر، فإذا أراد المضارة وتطويل العدة وجعلها كالمعلقة،

فحرام، وليس له حق الرجعة، لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة 2/ 231] لكن لو فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن خالف وظلم نفسه، إذ لما كانت هذه الإرادة لا اطلاع لنا عليها، عاملناه بظاهر أمره، وجعل الله التطليقات الثلاث علما على امتناعها. ودل لفظ «أحق» على أن حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «الثيب أحق بنفسها من وليها» «1» . وحق الرجعة بغير عقد ولا شهود مقصور على المطلقة رجعيا في أثناء العدة لا بعد انقضائها، ولم يشترط الإشهاد إلا الظاهرية، وإنما هو مستحب أو مندوب عند العلماء الآخرين. فإن لم يراجعها المطلّق حتى انقضت عدتها، فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة وزواج مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، بإجماع العلماء. واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة: فقال الشافعية: تحصل الرجعة في العدة بالقول الصريح، أو بلفظ كنائي بنية مثل قول المرتجع: تزوجتك أو نكحتك، ولا تحصل بالوطء. وقال الجمهور: تحصل الرجعة في العدة بالقول، أو بالفعل ومنه الخلوة كتقبيل بشهوة ووطء، وأضاف المالكية: وتحصل أيضا بالنية: وهي حديث النفس، بأن يقول في نفسه: راجعتها، ولم يجز الحنابلة الرجعة بالكناية. واختلفوا أيضا في حكم المطلقة الرجعية في مدة التربص: أحكمها حكم الزوجة أم ليست كذلك؟ فذهب الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب: إلى أن حكمها حكم الزوجة،

_ (1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس.

فلا يحرم الاستمتاع بها أو مباشرتها مدة التربص، وأحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء. وذهب المالكية والشافعية: إلى أنها ليست كالزوجة، فيحرم الاستمتاع بها قبل المراجعة، بوطء أو غيره، حتى بالنظر ولو بلا شهوة، لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع، والطلاق يحرمه، لأنه ضده. ومنشأ الخلاف: اختلاف الفهم في هذه الآية، فقد سماهم الله بعولة (أزواجا) وهذا يقتضي أنهن زوجات، لكنه قال: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهذا يقتضي أنهن لسن بزوجات، إذ الرد إنما يكون لشيء قد انفصم. فذهب الفريق الأول إلى أن الرجعية زوجة، وفائدة الطلاق نقص العدد، وأن أحكام الزوجية وإن كانت باقية، فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة. وأوّلوا قوله أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فقالوا: إنهن كن سائرات في طريق لو وصلن إلى نهايته، لخرجن عن الزوجية، فالارتجاع رد لهن عن التمادي في ذلك الطريق. والفريق الثاني أوّلوا قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ على الماضي، سماهم بعولة باعتبار ما كان، ومعنى أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ: ردهن إلى الزوجية. وأرى أن هذا هو الحق، وإلا لم يكن للطلاق أثر في التحريم. واتفق الفريقان على أنه ليس له أن يسافر بها قبل أن يرتجعها. ولها في رأي الفريق الأول: أن تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وليس لها أن تفعل ذلك لدى الفريق الثاني، وليس له أن يخلو معها، ولا أن يدخل عليها إلا بإذن، ولا أن ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها. ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها.

3 - حقوق الزوجين:

وأجمع العلماء على أن المطلّق إذا قال بعد انقضاء العدة: إني كنت راجعتك في العدة، وأنكرت: أن القول قولها مع يمينها، ولا سبيل له إليها. 3- حقوق الزوجين: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ: ليس الزواج في الإسلام عقد استرقاق وتمليك، وإنما هو عقد يوجب حقوقا مشتركة ومتساوية بحسب المصلحة العامة للزوجين، فهو يوجب على الزوج حقوقا للمرأة، كما يوجب على المرأة حقوقا للزوج. وفي هذا التعبير الموجز ثلاثة أحكام: الأول- للنساء من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، مثل حسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف، وترك المضارّة، واتقاء كل منهما الله في الآخرة، وطاعة الزوجة لزوجها، وتزين كل منهما للآخر، قال ابن عباس: «إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي..» «1» وتكون زينة الرجال بالمظهر اللائق والنظافة، وحسن الهندام واللباس، والتطيب والخضاب، وما يليق بالأحوال في وقت الشباب والكهولة والشيخوخة، روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أمرني ربي أن أعفي لحيتي، وأحفي شاربي» . الثاني- إعفاف كل من الزوجين الآخر بحسب الحاجة، ليستغني كل منهما عن التطلع إلى غيره، ويتوخى الوقت المناسب، ويعالج كل منهما نفسه بالأدوية اللازمة إذا شعر من نفسه عجزا عن تأدية حق الآخر. الثالث- للرجال درجة (أي منزلة) على النساء: وهي درجة القوامة والولاية، وتسيير شؤون الأسرة، كما قال الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى

_ (1) رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم.

النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء 4/ 34] أي أن مسوغ التفضيل وإعطاء درجة القيادة له أمران: أ- تكوين الرجل بزيادة خبرته واتزانه وعقله، وإعداده لتحمل الأعباء والكفاح والعمل. ب- إلزامه بالإنفاق على المرأة: بدفع المهر وتوفير الكفاية لها من مسكن وملبس ومطعم ومشرب ومداواة ونحو ذلك. هذه الدرجة في الحقيقة كما تبيّن: هي غرامة وتكليف للرجال أكثر من تكليف النساء، لذا كان حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» . وقال ابن عباس: «الدرجة إشارة إلى حضّ الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق» أي أن الأفضل ينبغي أن يتحمل أخطاء الآخر، ويتحامل على نفسه، ويضبط أعصابه في معالجة المشكلات أو الأزمات الطارئة. قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع. والخلاصة: الزواج شركة بين اثنين، وعلى كل شريك أن يؤدي للآخر حقوقه، ويقوم بما يجب عليه له بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته في حجة الوداع: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ قال:

عدد الطلاق وما يترتب عليه من أحكام [سورة البقرة (2) الآيات 229 إلى 230] :

«أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت» . وأما الدرجة للرجال: فهي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة «1» . عدد الطلاق وما يترتب عليه من أحكام [سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الإعراب: الطَّلاقُ مَرَّتانِ مبتدأ وخبر، وهذا الكلام فيه اتساع، وتقديره: الطلاق في مرتين، والطلاق في معنى التطليق. وقيل: تقديره: عدة الطلاق الرجعي مرتان. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: فعليه إمساك بمعروف. ومثله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء من غير الجنس. وأن لا يقيما: في موضع نصب، لأن تقديره: من أن لا يقيما، فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل إليه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 271

البلاغة:

البلاغة: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ طباق بين لفظي إمساك وتسريح. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والتعظيم في النفس. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قصر صفة على موصوف. وجاء هذا الوعيد بعد النهي للمبالغة في التهديد. المفردات اللغوية: الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي التطليق الذي يراجع فيه، كالسلام بمعنى التسليم، ومرتان: دفعتان أو اثنتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي فعليكم إمساكهن بعد المراجعة من غير إضرار، بل بإصلاح وحسن معاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إيقاع الطلقة الثالثة بدون رجعة وأداء حقوقها المالية، دون أن يذكرها بعد المفارقة بسوء. حُدُودَ اللَّهِ أحكامه وشرائعه تَعْتَدُوها تتجاوزوها، والاعتداء: تجاوز الحد في قول أو فعل. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي لا إثم ولا حرج على الزوج في أخذ المال الذي افتدت به نفسها ليطلقها، ولا حرج أيضا على الزوجة في بذله. تِلْكَ الأحكام المذكورة الظَّالِمُونَ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. حَتَّى تَنْكِحَ تتزوج زوجا غيره ويطأها، كما في الحديث الصحيح عند الشيخين: البخاري ومسلم. فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجة والزوج الأول أن يتراجعا إلى الزواج الجديد بعقد جديد بعد انقضاء العدة يَعْلَمُونَ يتدبرون. سبب النزول: لم يكن للطلاق لدى عرب الجاهلية حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال، وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة، ثم يستأنف طلاقا جديدا، مرة تلو مرة إلى أن يسكن غضبه، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر. نزول الآية (229) : أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: «كان الرجل يطلق

امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبيني مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي، راجعتك، فذهبت المرأة، وأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسكت حتى نزل القرآن: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ... الآية: أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال: كان الرجل يأكل من امرأته نحلة- عطاءه- الذي نحلها وغيره، لا يرى أن عليه جناحا، فأنزل الله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما ... الآية: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فدعاه، فذكر ذلك له، قال: وتطيب لي بذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فنزلت: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ ... الآية. وروى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ بن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضا، وأكره الكفر في الإسلام «1» ، قال: أتردين عليه حديقته «2» ؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» .

_ (1) تريد كفران نعمة العشير وخيانته. (2) وكان قد أصدقها إياها.

نزول الآية (230) :

نزول الآية (230) : أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقا بائنا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، فطلقها، فأتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إنه طلقني قبل أن يسمني، أفأرجع إلى الأول؟ قال: لا حتى يمس، ونزل فيها: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فَإِنْ طَلَّقَها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا. التفسير والبيان: هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة 2/ 228] فهي واردة لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة، والعدد الذي لا رجعة فيه. والمعنى: إن عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان، أي اثنتان أو طلقتان فقط، وليس بعد المرتين إلا أحد الأمرين: الإمساك بالمعروف والمعاشرة الحسنة، أو التسريح لها بإحسان، بمعنى أن تتركها، حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، ولا تراجعها. وقيل: المراد من الآية إيقاع الطلاق مفرّقا، لا مجموعا، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام، كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، بدليل حديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلق لكل قرء تطليقة» . وقال مجاهد وعطاء وجمهور السلف وعلماء الأمصار: المراد من التسريح

بإحسان: الطلقة الثالثة، بدليل حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره، أنه سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، سمعت الله تعالى يقول: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان. ويكون قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ بيانا لهذا «1» . والحكمة من جعل الطلاق مرتين وإثبات حق الرجعة بعد كل من الطلاق الأول والثاني: هو إعطاء الفرصة لإصلاح كل من الزوجين حاله، لأن الأوضاع تعرف بأضدادها، فلا يجد المرء مقدار النعمة ولذتها حتى يذوق طعم النقمة ويشعر بمرارتها، فقد يكون الرجل عصبي المزاج، حاد الطبع، سيء الخلق، فيتورط في الطلاق، مرة بعد أخرى، فتذكره الفرقة، وما تتركه الزوجة من وحشة وفراغ «2» ، وما يتطلبه البيت والأولاد من خدمات، فيثوب لرشده، ويحد من سوء خلقه، ويصلح معاملته لزوجته، ويعاشرها بالمعروف كما أمر الله تعالى. وقد تكون المرأة مهملة حقوق زوجها وبيتها وأولادها، مترفعة سادرة «3» في كبريائها، فإذا أحست بألم الفرقة، ووحشة الطلاق، وأدركت أخطاءها، عادت إلى الحياة الزوجية بوجه جديد، وسلوك أفضل من السابق.

_ (1) قال ابن عطية: ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه: أولها- هذا الحديث، والثاني- أن التسريح من ألفاظ الطلاق، والثالث- أن فعّل تفعيلا، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل (البحر المحيط: 2/ 193- 194) . [.....] (2) قال الرازي في تفسيره الكبير (6/ 98) : الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري، هل تشقّ عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه، فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع، لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المنحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده. (3) السادر: الذي لا يهتم ولا يبالي بما يصنع.

وعلى هذا النحو من التنازلات من كلا الزوجين، والعتاب الخفيف اللطيف، والتماس أوسط الحلول وأقربها إلى مصلحة الطرفين، والنظر البعيد إلى مستقبل الأسرة والأولاد، يمكن تجديد بنية العلاقات الزوجية، وتوجيهها وجهة معقولة متسمة بالحكمة والاتزان، ومراقبة الله تعالى في كل شيء، دون تفريط ولا إفراط، ولا بغي أو ظلم أو اعتداء من طرف على آخر، والله يحب المحسنين. فإن اختار الرجل التسريح على الإحسان- وهو أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق الذي لم يشرع إلا للضرورة-، حرم عليه أخذ شيء مما أعطاها: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة 2/ 229] سواء من مهر أو غيره، بل يجب عليه إهداؤها شيئا من الهدايا العينية أو النقدية زائدا عن حقوقها السابقة، عملا بقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب 33/ 49] وهذا تحذير للرجال من إلحاق الظلم بالنساء وهضم حقوقهن. ولكن يجوز للرجل أخذ ما تبذله المرأة من فداء مالي عن الطلاق، لتفتدي به نفسها، لأنه برضاها واختيارها دون إكراه، إذا كانت المرأة هي الطالبة لفراق زوجها، لكراهتها إياه، أو لسوء خلق منها أو منه، دون قصده الإضرار، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق 65/ 6] ، وخاف الزوجان تجاوز حدود الله- أي أحكامه- التي شرعها للزوجين من حسن العشرة وأداء الحقوق المطلوبة في ظل ولاية الرجل، بأن خافت المرأة الوقوع في المعصية مثل جحد نعمة العشرة أو الخيانة، أو خاف الرجل تجاوز الحدود في مؤاخذة الناشز، وهذا الفراق على عوض مالي من المرأة يسمى الخلع، وتجب بعده العدة كالطلاق، ولا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة، بخلاف الطلاق الرجعي، وقد حث النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ترك طلب الخلع من المرأة من غير ضرورة، روى أحمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرأة سألت

زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات» «1» . ثم حرّم الله تعالى تحريما قاطعا تجاوز حدود الله التي حدها في العلاقات الزوجية وغيرها: وهي الأحكام المقررة المشتملة على الأوامر والنواهي، فلا يجوز تجاوز ما أحله إلى ما حرمه، وما أمر به إلى ما نهى عنه. ثم حذر وأوعد المخالفين الذين يعتدون على أحكام الشرع، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويتعدون حدود الله، ووصفهم بأنهم الظالمون، ولا ظالم غيرهم. ثم أبان تعالى حكم الطلاق الثالث الذي تصبح المرأة بعده بائنا بينونة كبري، فقال: فإن طلقها بعد الطلقتين السابقتين، فلا تحل له أبدا من بعد هذا الطلاق الثالث، حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به الدوام والاستمرار دون أن يقصد به مجرد تحليل المرأة المطلقة لزوجها، ولا بد في الزواج الثاني من الدخول الحقيقي بالمرأة (أي الجماع) عملا بما رويناه سابقا في قصة رفاعة، التي رواها الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم بعبارة أخرى مشهورة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» «2» . فإن طلقها الزوج الثاني بنحو طبيعي، وانقضت العدة، فيجوز للزوج الأول أن يعقد عليها عقدا جديدا، إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية

_ (1) رواه أحمد عن أبي هريرة (2) العسيلة: هي أقل ما يكون من غشيان الرجل المرأة.

والتزام ما أمر الله به من المعاشرة الحسنة، فتلك حدود الله، وأما إن ظنا حين المراجعة أنهما يعودان لما كان، من إضرار بها، أو نشوز منها، فالرجوع ممقوت عند الله، وإن صح قضاء. ويلاحظ أنه لم يقل: «إن علما أنهما يقيمان» لأن اليقين مغيب عنهما، لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم، فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه قام، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظنا «1» . أما نكاح التحليل المؤقت: وهو الذي يقصد به تحليل المرأة لزوجها الأول بشرط أو اتفاق في العقد أو غيره بالنية، فهو زواج باطل غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول الذي طلقها، وهو معصية لعن الشرع فاعلها، سواء علم الزوج المطلّق أو جهل بذلك وهو رأي مالك وأحمد والثوري والظاهرية. وقال الحنفية والشافعية: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط التحليل في العقد. والرأي الأول أصح وأحق بالاتباع، لما روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود، وابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» . وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المحلّل، قال: «لا، إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل، ثم تذوق العسيلة» . وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال: كلاهما زان» . وسأل

_ (1) الكشاف: 1/ 279

رجل ابن عمر، فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلّها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وسئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته ثلاثا، ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه. بهذا يتبين أن التحليل المؤقت ليس من شرع الله ولا دينه، وفيه مفاسد كثيرة، وهو زنى، وإن تم بعقد في الظاهر. ثم ختم الله تعالى الآية بإعلان صريح: وهو أن هذه الأحكام هي حدود الله يبينها بأجلى بيان، ويوضحها بأتم وضوح، لقوم يدركون فائدتها، ويعلمون مصلحتها، فلا يحيدون عنها، ولا يتحايلون عليها، وإنما يعملون بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة المرجوة، فلا يضمر الرجل السوء أو يبيت الانتقام إذا راجع امرأته. إن أحكام الله وشرعه ومنها الطلاق والرجعة منسجمة مع الحكمة والواقع، فقد تستعصي الحلول، فيلجأ إلى الطلاق، وما أكثر حوادث الطلاق في بلاد الغرب لأتفه الأسباب التي نستغربها أشد الغرابة في بلادنا. ويحدث الندم عادة وغالبا في الطلاق بين المسلمين والمسلمات إذا لم يكن هناك انحراف واضح أو سلوك معوج يصعب تقويمه، كالخيانة الزوجية أو السلوك المشبوه الذي يعجز الرجل عن إثباته، فيكون الطلاق حال الانحراف أو الشذوذ طريق الخلاص المحتوم، وتكون الرجعة في الأحوال التي تحتمل الإصلاح والتربية الناجعة. وأما الأخطاء التي يرتكبها الرجل في الإقدام على الطلاق بغير وجه مشروع أو يسيء استعمال هذا الحق الممنوح له لأحوال اضطرارية أو استثنائية، فيتحمل

فقه الحياة أو الأحكام:

وزرها أصحابها، ويكون الإسلام منها براء. تلك حدود الله أي ما منع منه يبينها لقوم يعلمون الحقائق ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها، لأن الجاهل لا يحفظ الأمر والنهي ولا يتعاهده، والعالم يحفظ ويتعاهد. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآيتان على أحكام ثلاثة: هي الطلاق الرجعي وهو الطلاق الأول والثاني، والخلع وهو الفراق على عوض من المرأة، والطلاق الثلاث أو البائن بينونة كبري: وهو حكم المبتوتة. 1- عدد الطلاق والسنة فيه: نزلت الآية كما عرفنا لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة والعدد المشروع الذي تصح بعده المراجعة، ردا على ما كان عليه العرب في الجاهلية من أن الطلاق لا حد له، وقد تستخدم الرجعة للإضرار بالمرأة، فتصبح لا هي مزوجة ولا هي مطلقة، وإنما معلقة. والطلاق: هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: «فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق» وقد طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة ثم راجعها «1» . وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلّق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب.

_ (1) أخرجه ابن ماجه.

وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، وكيف يطلقون أي مفرقا، فمن طلق اثنتين، فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية كما قال القرطبي: تتضمن المعنيين، أي تحديد عدد الطلاق وتفريقه، ودليلهم ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن مسعود في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.. قال: «يطلقها بعد ما تطهر، من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها، راجعها، ثم إن شاء الله طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض، وتبين منه بها» . وعلى هذا يكون قد بين الله سنة الطلاق في هذه الآية، وبين أن من سنته تفريق الطلاق، ولأنه قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرقتين، لأنهما إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين. فإذا خالف المطلق وجمع التطليقات الثلاث في لفظ واحد، فاختلف العلماء في ذلك. قال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة: يقع به ثلاث طلقات، مع الكراهة عند الحنفية والمالكية، لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة، ثم يتركها، حتى تنقضي عدتها. وقال الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء. وقال الزيدية وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه. ومنشأ الخلاف: كيفية فهم آية الطَّلاقُ مَرَّتانِ هل هي متعلقة بما قبلها، أم مستقلة عنها؟ وكيفية تأويل حديث ابن عباس. أما الآية: فقال الإمامية ومن وافقهم: إن التعريف للعهد، أي الطلاق

المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، أي ليس مشروعا كون الطلاق كله دفعة واحدة. ورأى مالك أن معناه: الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها، فالله لما ذكر أن بعولتهن أحق بردهن، أراد أن يبين الطلاق الذي فيه الرجعة. وذهب أبو حنيفة إلى أن معناه: الطلاق الجائز مرتان. وأما حديث ابن عباس الذي رواه أحمد ومسلم من طريق طاوس فهو كما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم» . أما أئمة المذاهب الأربعة فأوّلوا الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول الرجل: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» فيلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، وكان مسلمو الصدر الأول يصدقون في إرادة التوكيد، لورعهم وتقواهم، ثم تبدل الحال، فصار الغالب عليهم قصد الثلاث، بدليل قول عمر: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» وهذا الحكم إنما هو في القضاء، أما في الديانة فيعمل كل واحد بنيته. وأما الإمامية وموافقوهم فقالوا: يجب العود إلى سنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وترك اجتهاد عمر، لأن إمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق 65/ 1] . وبالرغم مما أراه وهو رجحان مذهب الجمهور، لا أجد مانعا من الأخذ برأي ابن تيمية ومن وافقه، لأن الطلاق هدم للأسرة، وتعريض لضياع الأولاد، وهو

2 - الخلع:

كما قال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر-: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» والشريعة أجازته لدفع ضرر أشد، وتحصيل مصلحة أكثر، ولا يلجأ إليه إلا للضرورة القصوى، والله شرع الطلاق مرتين متفرقتين في طهرين كما أرشدت إليه السنة، لا مجتمعتين، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق. وفي هذا تيسير على الناس، وبخاصة أنهم يقصدون غالبا بالطلاق التهديد والزجر، لا الحقيقة والوقوع الفعلي، ثم إن الفرقة تحدث بطلقة واحدة، فيكون ما يتلوها مؤكدا لها. 2- الخلع: نهى الله تعالى الأزواج أن يأخذوا شيئا من أزواجهم على وجه المضارّة، إذا طلقوهن وكان مما آتوهن، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهن، لأن العرف بين الناس: أن يطلب الرجل عند وقوع النزاع ما قدم من صداق وجهاز. ولكن إذا بذلت الزوجة الفدية على الطلاق، جاز الأخذ في رأي الجمهور إذا كان النشوز من قبلها. وذهب بعضهم (داود الظاهري) إلى أن الذي يبيح أخذ الفداء هو خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا، لكراهة كل منهما صحبة الآخر. والظاهر الرأي الأول وهو أن نشوزها وسوء عشرتها لزوجها كاف في جواز أخذ الفداء، وإن كان ظاهر الآية يؤيد رأي غير الجمهور. وعليه، فإن الخلع جائز عند أكثر الأئمة، سواء أكان في حالة الخوف أم في غير حالة الخوف، بدليل قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء 4/ 4] . وذهب الجمهور: إلى أنه يجوز الخلع بأزيد مما أعطاها، لأنه عقد معاوضة يوجب ألا يتقيد بمقدار معين، لكن يكره عند الحنفية، ولا يستحب عند غيرهم أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لقصة امرأة ثابت بن قيس المتقدمة، التي قال

وهل الخلع طلاق أو فسخ؟ :

النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيها: «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أما الزيادة فلا» . ومنع الشعبي والزهري والحسن البصري الخلع بأكثر مما أعطاها، لقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي مما آتيتموهن. وأخذ الجمهور بإطلاق هذه الآية. وأجاز الجمهور غير الشافعي الخلع على غرر (أمر محتمل) أو معدوم ينتظر وجوده، كثمرة لم يبد صلاحها، وجمل شارد، وجنين في بطن أمه، أو نحو ذلك من وجوه الغرر، بخلاف البيوع والزواج، وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه. وقال الشافعي: الخلع جائز وله مهر مثلها. وقال أبو ثور: الخلع باطل. وهل الخلع طلاق أو فسخ؟ ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية، والشافعية على الراجح) : إلى أن الخلع طلاق لا فسخ يقع به طلقة بائنة، لقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وإنما يكون فداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولو لم يكن بائنا لملك الرجل الرجعة، وكانت تحت حكمه وقبضته، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر. أما كونه طلاقا: فلأنه لو كان فسخا لما جاز بأكثر من المهر، كالإقالة في البيع، مع أنه يجوز بالأكثر، وإذا بطل كونه فسخا، تعين كونه طلاقا. واستدلوا أيضا بما ورد عن ابن عباس في امرأة ثابت بن قيس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: اقبل الحديقة، وطلقها طلقة واحدة» «1» .

_ (1) أخرجه بهذا اللفظ البخاري، وأبو داود والنسائي.

والمعتمد لدى الحنابلة التفصيل: وهو أن الخلع طلاق بائن، إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما، أو بكنايات الطلاق، ونوى به الطلاق، لأنه كناية نوى بها الطلاق، فكانت طلاقا. وهو فسخ لا ينقص به عدد الطلاق إذا لم ينو طلاقا، بأن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة، ولا ينوي به طلاقا، فيكون فسخا لا ينقص به عدد الطلاق. وذهب ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد: إلى أن الخلع فسخ لا طلاق، لأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم ذكر الخلع، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فلو كان طلاقا لكان ذلك يدل على أن للرجل أربع تطليقات. ورد عليهم بأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم بين أنه لا يجوز أخذ مال على الطلاق، إلا في الحال التي ذكرها الله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما.. سواء أكان ذلك عند الطلقة الأولى أم الثانية أم الثالثة، ثم بين الطلقة الثالثة بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ. واستدلوا أيضا بما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه، جعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عدتها حيضة» . ولو كان طلاقا لكانت عدتها ثلاثة قروء كما قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 2/ 228] . وإذا وقع الخلع على غير عوض، كان طلاقا بائنا في رواية عن مالك. ووقع خلعا بعوض في الرواية الأخرى عنه، وفي رأي الحنفية والشافعية والحنابلة، لأن البدل في ذاته كالمهر لازم في الخلع على كل حال، بل إنه عند الحنابلة ركن، فإن خالعها بغير عوض، صح الخلع ولزم العوض عند الحنفية والشافعية، ولم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ طلاق، فيكون طلاقا رجعيا.

وهل يجبر الرجل على قبول الخلع؟ :

وهل يجبر الرجل على قبول الخلع؟ جميع الفقهاء يرون أنه لا يجبر الرجل على قبول الخلع، فلا بد فيه من التراضي بين الطرفين، لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء 4/ 19] وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة 2/ 229] وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا. وقال ابن رشد: والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك (أبغض) المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل «1» . وأما أهلية الخلع: فكل من يصح طلاقه يصح خلعه، فيصح الخلع عند الجمهور من البالغ العاقل، رشيدا أو سفيها. وأجاز الحنابلة: أن يكون مميزا يعقله. أما من لا يصح طلاقه ولا يصح خلعه فهو كالصبي والمجنون والمعتوه ومن اختل عقله لمرض أو كبر سن. وللرشيدة «2» أن تخالع عن نفسها في رأي الجمهور، أما السفيهة فلا تخالع لأنها محجورة. ويصح الخلع من الحاكم ولي غير المكلف من صبي أو مجنون إذا كان في الخلع مصلحة. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي وأحمد للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها. وقال مالك: يخالع الأب على ابنه الصغير وابنته الصغيرة، لأنه في رأيه يطلّق على الابن، ويزوج الصغيرة. وأما الطلاق بعد الخلع في العدة: بأن خالع الرجل زوجته، ثم طلقها، وهي في العدة، فيلحقها في رأي الحنفية، ولا يلزمها في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) .

_ (1) بداية المجتهد: 2/ 81 (2) الرشد عند الحنفية: صلاح المال ولو كان فاسقا، وعند الشافعية: صلاح الدين والمال، فلا يكون الفاسق رشيدا.

3 - نكاح المبتوتة:

3- نكاح المبتوتة: وهي المطلقة طلاقا ثلاثا. لها أن تتزوج بزوج آخر بعد انتهاء العدة من الزوج الأول، وتحل للزوج الأول إن كان الزواج الثاني قائما على الرغبة والدوام والبقاء لا السفاح، وحدث طلاق من غير تواطؤ، وانقضت العدة بعد هذا الطلاق. واختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد، فتحل المطلقة ثلاثا للأول بمجرد العقد على الثاني. وهذا من شذوذاته» . وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء، كما بينا: وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج، ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق. واشترط مالك أن يكون الوطء مباحا: بألا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا. واشترط أحمد أيضا أن يكون الوطء حلالا، وأن يكون الواطئ له اثنا عشر سنة. ولم يشترط أبو حنيفة كون الوطء مباحا، فيجوز في وقت غير مباح كحيض أو نفاس، وأجاز كون الواطئ بالغا عاقلا أو صبيا مراهقا أو مجنونا، لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. واتفق علماء المذاهب الأربعة على أن النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا، ويشترط أن يكون النكاح صحيحا. ومنشأ الخلاف بين ابن المسيب والجمهور: أن النكاح ورد في القرآن بمعنى العقد والوطء، واحتمل أن يكون المراد بقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ:

_ (1) وقال بقوله سعيد بن جبير، ولعله لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما، فأخذا بظاهر القرآن: «حتى تنكح زوجا غيره» أي تعقد عليه.

وهل على الزوجة خدمة؟ :

العقد أو الوطء، فجاءت السنة وبينت أن المراد به الوطء، كما قدمنا في الأحاديث. وقد عرفنا حكم نكاح المحلل، وهو البطلان في رأي مالك وأحمد والثوري وأهل الظاهر. والكراهة في رأي الحنفية والشافعية، ما لم يشترط التحليل في العقد. وإذا عقد الزوج الأول على المطلقة من الثاني ضمن قيود الشريعة عادت إليه بطلقات ثلاث. وهل يهدم الزواج الثاني مادون الثلاث؟ فيه رأيان: قال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة، ومحمد وزفر من الحنفية) : لا يهدم، أي أن المطلقة مرة واحدة أو مرتين، ثم تزوجت زوجا آخر، ثم رجعت إلى زوجها الأول، تكون على ما بقي من طلاقها، لأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث، لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها، لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلا يتسع ثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى. وهل على الزوجة خدمة؟ اختلف المالكية، فقال بعضهم: ليس على الزوجة خدمة، لأن العقد يتناول الاستمتاع، لا الخدمة، فهو ليس بعقد إجارة، ولا تملّك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء 4/ 34] .

واجب الرجل في معاملة المطلقة وولاية التزويج [سورة البقرة (2) الآيات 231 إلى 232] :

وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوّة أو ترفه، فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقمّ البيت وتطبخ وتغسل، لقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة 2/ 228] وهذا الرأي أسلم، عملا بما جرى عليه عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه، ألا ترى أن أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك. وقسم النّبي صلّى الله عليه وسلّم- كما بينا- شؤون المعيشة بين علي وفاطمة، فجعل لفاطمة شؤون البيت، ولعلي شؤون الكسب والمعاش خارج البيت. واجب الرجل في معاملة المطلّقة وولاية التزويج [سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) الإعراب: ضِراراً مفعول لأجله. إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ إذا: ظرف زمان، ويتعلق إما بفعل: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أو بقوله: أَنْ يَنْكِحْنَ. والواو في تَراضَوْا يراد به الأزواج

البلاغة:

والنساء، لكن غلب جانب المذكر على جانب المؤنث. وقوله: بِالْمَعْرُوفِ جار ومجرور متعلق بفعل تَراضَوْا أو بفعل يَنْكِحْنَ والأولى الأول، لأنه أقرب إليه. ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ وحد الكاف، وإن كان الخطاب لجماعة، لأنه أراد به الجمع، كأنه قال: أيها الجمع، والجمع: لفظه مفرد، ويجوز أن يثنى ويجمع على العدد، مثل قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. البلاغة: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: مجاز مرسل، أطلق فيه الكل على الأكثر، لأنه لو انقضت العدّة لما جاز له إمساكها. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ من باب عطف الخاص على العام، لأن الكتاب والسّنة من أفراد النعمة الإلهية. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ جناس اشتقاق بين اعْلَمُوا وعَلِيمٌ. أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ من باب المجاز المرسل، إذ المراد به المطلقين، وسمّوا أزواجا باعتبار ما كان. المفردات اللغوية: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ قاربن انقضاء عدتهن، والأجل يطلق على المدّة كلها وعلى آخرها، فيقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل. والمراد به هنا زمن العدّة. فَأَمْسِكُوهُنَّ بالمراجعة. بِمَعْرُوفٍ من غير ضرر، والمعروف ما استحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة. أَوْ سَرِّحُوهُنَّ التسريح: ترك المراجعة حتى تنقضي العدة. ضِراراً أي بقصد الإضرار بهنّ. لِتَعْتَدُوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل العدّة. والاعتداء: الظلم. ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعذاب الله. آياتِ اللَّهِ هي أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحوها. هُزُواً مهزوءا بها بالإعراض عنها والتهاون في الحفاظ عليها. نِعْمَتَ اللَّهِ الإسلام وسائر نعم الله والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ أي ما أنزل الله في القرآن من آيات أحكام الزوجية التي تحقق السعادة في الدارين. وَالْحِكْمَةِ السّنة الشريفة، أو سرّ تشريع الأحكام وما فيها من منافع ومصالح، وقيل: هي الإصابة في القول والعمل. يَعِظُكُمْ بِهِ بأن تشكروها بالعمل به. فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ البلوغ: الانتهاء، والأجل هنا آخر مدّة العدّة، فهو على الحقيقة

سبب النزول:

لاقربها، كما في الآية السابقة، لأن إمكان المراجعة لا يتأتى إلا في العدّة، قال الشافعي: دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الخطاب للأولياء، أي لا تمنعوهنّ من نكاح أزواجهنّ المطلقين لهنّ. والعضل: الحبس والتضييق والمنع. إِذا تَراضَوْا أي الأزواج والنساء. بِالْمَعْرُوفِ شرعا. ذلِكَ النهي عن العضل. يُوعَظُ بِهِ العظة: النّصح والتذكير بالخير، وكان مقتضى الظاهر: أن يقال: «ذلكم يوعظ به» ، لأنه يخاطب جماعة، وإنما قال: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ لكثرة تردده على ألسنة العرب في كلامها. أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أفضل وأطيب، من الزكاء: وهو النماء والبركة والخير، ومن الطّهر: وهو الطيب والنقاء. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في ذلك من المصلحة والزكاء والطّهر. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، فاتبعوا أمره. سبب النزول: نزول الآية (231) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك، يضارّها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج الطبري عن السّدّي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلّق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، ثم طلّقها مضارّة، فأنزل الله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «1» . وقوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء، قال: كان الرجل يطلّق، ثم يقول: لعبت، ويعتق، ثم يقول: لعبت، فأنزل الله: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: «ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: الطلاق والنكاح والرّجعة» . وقال أيضا: «من طلّق لاعبا، أو أعتق لاعبا، فقد جاز عليه» .

_ (1) البحر المحيط: 2/ 207

نزول الآية (232) :

نزول الآية (232) : روى البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار: أنه زوّج أخته رجلا من المسلمين، فكانت عنده، ثم طلّقها تطليقة، ولم يراجعها، حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته، فخطبها مع الخطّاب، فقال له: يا لكع «1» ، أكرمتك بها، وزوجتكها، فطلقتها؟! والله لا ترجع إليك أبدا، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إليه، فأنزل الله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، فلما سمعها معقل، قال: سمعا لربّي وطاعة، ثم دعاه، وقال: أزواجك، وأكرمك، فزوجها إياه. التفسير والبيان: إذا طلقتم النساء، وقار بن إتمام العدّة، فعليكم أحد أمرين: إما إمساك المرأة بالمعروف (أي بالمراجعة دون إيذاء) ، أو إخلاء سبيلها بالمعروف (أي الخلو من إلحاق ضرر بها) . وفسّر بلوغ الأجل بقرب إتمام العدّة، لأن العدّة إذا انقضت لا تجوز مراجعتها، فهذا المعنى مضطر إليه، أما بلوغ الأجل في الآية التالية فهو الانتهاء، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية، مجاز في الأولى. ثم أكّد منع الضرر، فقال: ولا تراجعوهنّ بقصد إلحاق الضرر بهنّ وإيذائهنّ بالحبس وتطويل العدّة، حتى يضطرن إلى الفدية ودفع المال لكم، فهذا اعتداء عليهن، ومن يفعل هذا الفعل الممنوع وهو الإمساك على سبيل الضرار والعدوان، فقد ظلم نفسه في الدنيا بإقلاق ضميره وفتح باب الشّر والعداء مع أسرة المرأة، وفي الآخرة بتعريض نفسه لعذاب الله وغضبه، بسبب تسلطه على الضعفاء، واستغلاله حاجة المرأة إلى الخلاص منه.

_ (1) أي يا لئيم.

ولا تتهاونوا في امتثال أوامر الله تعالى، والتزام حدوده التي شرعها لكم، فإن تهاونتم وقصرتم كنتم كمن يستهزئ بالله وأمره. وفي هذا وعيد شديد لمن يتجاوز الحدود الشرعية، وفيه حثّ للمؤمن على احترام صلة الزوجية، والبعد عن أفعال الجاهلية. واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وسائر نعمه، ومنها جعل الرحمة والمودة بين الزوجين، كما قال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم 30/ 21] . واذكروا ما أنزل الله عليكم في القرآن والسّنة النّبوية من أحكام وحكم تشريعيّة، لتوفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة والهناءة وغير ذلك، مما فيه مصلحة ومنفعة، إذ أن الأحكام تضع أصول النظام، وأسرار الحكمة التشريعية تساعد على الامتثال والاتّعاظ والاقتناع. ثم وثّق الحقّ سبحانه وتعالى الأحكام التشريعية في الزواج بما يبعث على احترامها، وهو التقوى أي خوف الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وترك احتقار المرأة وعدم المبالاة برابطة الزوجية المقدسة، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية من الاستهانة بالمرأة، واتّخاذها مجرد متاع، وتطليقها لأتفه الأسباب، ومضارّتها بالمراجعة، وجعلها كالمعلّقة، وهذا ما يفعله الجهّال والطّائشون اليوم. واعلموا أن الله يعلم بكلّ شيء وبما عملتم من تعدي حدوده وتضييع أوامره، فيجازيكم على ما عملتم، فهو تعالى لا يرضى إلا باتّباع أحكامه، مع الإخلاص له في السّر والعلن. وإذا طلقتم النساء معشر المؤمنين، وانقضت عدّتهن تماما، فلا يجوز لكم أيها الأولياء أن تمنعوهنّ من العودة إلى الزواج بالزوج السابق بعد الطلقتين الأولى والثانية، ولا يجوز لكم أيها الأزواج أيضا أن تمنعوهنّ بما لكم من النفوذ من الزواج

فقه الحياة أو الأحكام:

بزوج آخر بعد الطّلقة الثالثة وانقضاء العدّة، إذا حصل التّراضي بين المرأة والخاطب لها، وكان الخاطب كفؤا، وبمهر المثل، ولم يكن هناك محظور شرعي. وعلى الأمة أيضا ممثلة بوجهائها وعلمائها وحكامها وعقلائها أن تكون متكافلة متضامنة في تحقيق المصلحة العامة، فلا تمنع المعروف، ولا تقرّ المنكر، فتهلك وتتضرّر. ذلك الذي تقدّم من نهي الأولياء عن عضل النساء وأحكام التشريع، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم الذين يتقبلونه، وتخشع له قلوبهم، امتثالا لأمر ربّهم، فشأن المؤمن الطاعة والعظة، وذلك النهي عن ترك العضل أزكى لكم، وأطهر من أدناس الآثام، أي أن فيه بركة وصلاحا لمتّبعيه، وفيه الطّهر بحفظ العرض والشّرف وعدم التّسبّب في الفسوق والفساد وانحراف المطلقات، والنّجاة من التّورّط في الآثام والمحرّمات والذّنوب والسّيّئات. والله يعلم ما في ذلك من النّفع والصّلاح لكم، والزّكاة والطّهر وصون السمعة، فامتثلوا أوامره، وأنتم لا تعلمون الحقائق وأبعاد المستقبل، ومخاطر ترك المرأة الأيم أو الثّيب من غير زواج، إرضاء للأهواء وحظوظ النّفس المريضة غير المتعقّلة، وإنما التي تتّبع الأوهام أو تناسق مع الأنفة والكبرياء. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على أحكام كثيرة هي ما يأتي: 1- الإمساك بالمعروف: وهو القيام بما يجب للمرأة من حقّ على زوجها، كالنّفقة، فإذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، خرج عن حدّ المعروف، ويطلّقها، فإن لم يفعل طلّق عليه الحاكم من أجل الضّرر اللاحق بها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وهو رأي الجمهور (مالك والشافعي

وأحمد) لقوله صلّى الله عليه وسلّم في صحيح البخاري: «تقول المرأة: إما أن تطعمني، وإما أن تطلّقني» . وقال الحنفية: لا يفرّق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمته بحكم الحاكم، لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة 2/ 280] . 2- التّسريح بإحسان: أي الطّلاق بدون إضرار لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة 2/ 231] ، والتّسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتمّ العدّة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها. وهذا قول السّدّي والضّحاك. والمعنى الآخر: أن يطلّقها ثالثة فيسرحها، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصحّ لوجوه ثلاثة ذكرها القرطبي «1» : أحدها- ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فلم صار ثلاثا؟ قال: «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» وفي رواية هي الثالثة. الثاني- أن التّسريح من ألفاظ الطّلاق. الثالث- أن فعّل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل. قال ابن عبد البرّ: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ هي الطّلقة الثالثة بعد الطّلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة 2/ 230] .

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 127

3- يحرم الاستهزاء بالأحكام الشرعية: لأنه تعالى قال: لا تأخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو، فإنها جدّ كلها، فمن هزل فيها لزمته. ومن الهزء: الاستغفار من الذّنب قولا مع الإصرار فعلا. 4- من طلّق هازلا يلزمه الطّلاق بالإجماع، لما روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح، والطّلاق، والرّجعة» . وقال علي وابن مسعود وأبو الدرداء: «ثلاث لا لعب فيهنّ، واللاعب فيهنّ جادّ: النّكاح، والطّلاق، والعتاق» . 5- شكر النعمة: أمر الله تعالى بتذكر نعمه علينا من الإسلام وبيان الأحكام، وتشريع الأنظمة، وتبيان القرآن بالحكمة أي الأسرار التشريعية والسّنة النّبوية. كل ذلك للتخويف وإعداد النفس للتقوى، لأن الله عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. نهي أولياء المرأة عن أن يعضلوها: أي يمنعوها حقّ الزواج إذا خطبها الكفء، وتراضت المرأة والخاطب لها. 7- لا يجوز النّكاح بغير ولي: دلّت الآية على أنه لا يجوز النّكاح بغير ولي، بدليل سبب النزول في أخت معقل، فقد كانت ثيّبا، ولو كان الأمر إليها دون وليّها لزوّجت نفسها، ولم تحتج إلى وليّها: معقل، فالخطاب إذن في قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهنّ، ولأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بدون رضا وليّها، ولم يكن للولي شأن لما كان معنى لنهي الأولياء عن أن يعضلوا النساء. وهذا رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) . وقال الحنفية: للمرأة أن تزوّج نفسها، لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها، كما قال: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ولم يذكر الولي، ولأن الخطاب في آية

الاسترضاع بأجر ومدة الرضاع ونفقة الأولاد وأحكام أخرى [سورة البقرة (2) آية 233] :

فَلا تَعْضُلُوهُنَّ للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارّة عضلا عن نكاح الغير، بتطويل العدّة عليها، ولأن قوله إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها، ويتّفق معها على التزوّج بها. والعضل يكون بعد انتهاء الأجل أي بعد انتهاء العدّة. ودلّ قوله بِالْمَعْرُوفِ على أن العضل من غير الكفء غير محرم. وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل. والمدار في الكفاءة على العرف الشرعي السائد، لا على التقاليد المصطنعة. 8- الإيمان مدعاة الاتّعاظ: دلّت الآية: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على أن المؤمن حقّا لا بدّ له أن يتّعظ، فالذين لا يتّعظون ولا يعملون بأوامر الله ليسوا بمؤمنين، وإنما آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. 9- التشريع الإلهي يحمي المصالح الاجتماعية العامة البعيدة الأمد التي لا يتنبه لها الناس أحيانا، بسبب قصور العقل البشري وعدم قدرته على الاستيعاب، والاطّلاع على المستقبل. الاسترضاع بأجر ومدّة الرضاع ونفقة الأولاد وأحكام أخرى [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

الإعراب:

الإعراب: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ خبر بمعنى الأمر، أي ليرضعن، مثل وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، ومجيء الخبر بمعنى الأمر كثير في العربية. لِمَنْ أَرادَ اللام إما متعلّق بيرضعن، فهو منصوب، وإما متعلق بمحذوف على أنه مرفوع خبر مبتدأ تقديره: هذا الذي ذكرنا لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ تقديره: وعلى المولود له الولد، والولد نائب فاعل للمولود. لا تُضَارَّ قراءة الفتح على أن يكون لا نهيا، وتضارّ مجزوم بها، وحرّكت بالفتح لأن الفتحة أخف الحركات، وقراءة الرفع على أن يكون لا نفيا يراد به النهي مثل قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ويصحّ كون الفعل مبنيّا للمعلوم أو للمجهول. والِدَةٌ فاعل تضارّ، على أن أصله: تضارر بكسر الراء الأولى، ويقدر مفعول محذوف، تقديره: لا تضارر والدة بولدها أباه، ولا يضارر مولود له بولده أمّه. أَوْلادَكُمْ أي لأولادكم، فحذف حرف الجرّ، فاتّصل الفعل بالاسم، فنصبه. ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ آتى: يتعدى إلى مفعولين، لأنه بمنزلة أعطى، وتقديره: آتيتموه المرأة، أي أعطيتموه المرأة. البلاغة: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ خبر بمعنى الأمر للمبالغة في الحمل على تحقيقه، أي ليرضعن، كما بيّنا. أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فيه إيجاز بالحذف، أي تسترضعوا المراضع لأولادكم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والغيبة في قوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا والالتفات لتحريك مشاعر الآباء نحو الأبناء. المفردات اللغوية: يُرْضِعْنَ أي ليرضعن. حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الحول: العام أو السنة. وكاملين: صفة مؤكّدة. الْمَوْلُودِ لَهُ هو الأب الوالد. رِزْقُهُنَّ إطعام الوالدات. وَكِسْوَتُهُنَّ على الإرضاع إذا كنّ مطلّقات. بِالْمَعْرُوفِ بقدر طاقته. وُسْعَها طاقتها، وهي آخر درجات القدرة، وما بعدها العجز. والتكليف: الإلزام. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها بسببه بأن تكره على

المناسبة:

إرضاعه إذا امتنعت. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ أي بسببه بأن يكلّف فوق طاقته. وإضافة الولد إلى كلّ منهما في الموضعين للاستعطاف. والمضارّة: تقتضي المشاركة أي مشاركة كلّ من الوالدين للآخر في الضّرر. وهذا يدلّ على أن الإضرار بالآخر إضرار بنفسه، وينعكس أثر المضارّة على الولد. وَعَلَى الْوارِثِ وارث الأب وهو الصّبي مثل ذلك، أي على الولد في ماله للوالدة من الرزق (النفقة) والكسوة وعدم الإضرار بها مثل الذي على الأب للوالدة، إن كان له مال، أي إن نفقة إرضاعه تكون من ماله إن كان له مال، وإلا فهي على عصبته. وقال بعضهم: إن المراد بالوارث: هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه، وهو قريبه إذا مات، فتؤخذ النفقة ممن يرث الطفل إذا لم يكن له مال، لو مات. واللفظ يحتمل المعنيين، والأول: اختيار الطبري والزمخشري وغيرهما، وهو معطوف على قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وما بينهما تفسير للمعروف، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، ويكون المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أي إن مات المولود له، لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بشرط المعروف وتجنّب الضّرار. فَإِنْ أَرادا أي الوالدان. فِصالًا فطاما له قبل الحولين، وسمّي بذلك، لأنه يفصل الولد من أمه، ويفصلها منه، فيكون مستقلا في غذائه دونها. عَنْ تَراضٍ اتّفاق بينهما. وَتَشاوُرٍ بينهما فيما يحقق مصلحة الصبي. والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي من المستشارين. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي لا حرج. أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ تتخذوا مراضع غير الوالدات. ما آتَيْتُمْ سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه لهنّ من الأجرة.. بِالْمَعْرُوفِ بالجميل كطيب النفس. المناسبة: لما ذكر الله أحكام النكاح والطلاق الذي يحصل به الفراق، ذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح، لأن المطلّقات قد يكون لهنّ أولاد رضّع، وربّما ضاعوا بين كراهة الأزواج وعنت المطلّقات، فربما حرمتهم الرضاع انتقاما من الأبّ، فأوصى الوالدات بالأولاد، فجعل مدّة الرّضاع حولين كاملين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة، وألزم الآباء بكسوة الوالدات ونفقتهن مدّة الرّضاع بقدر سعتهم أو طاقتهم، ونهى عن مضارّة أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، فترفض الأمّ إرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، أو تبالغ في طلب النفقة والكسوة، وينتزع الأبّ

التفسير والبيان:

الولد منها إضرارا بها وهي تريد إرضاعه، أو يكرهها على الإرضاع، أو يمنعها حقّها في النفقة والكسوة، كما أنه تعالى نهى الوالدين عن إلحاق الضرر بالولد، فيحدث تقصير فيما ينبغي له، وكل ذلك رعاية من الله للصبي، لأنه عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرر عنها. وعلى هذا تكون الآية في المطلّقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ، فهنّ أحقّ برضاع أولادهنّ من الأجنبيّات، لأنهنّ أحنى وأرقّ، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها. وسبب كون المراد بالوالدات المطلّقات: أن الله تعالى قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ولو كانت الزوجية قائمة باقية لوجب على الزوج ذلك بالزوجية لا بالولادة، وأيضا ذكرت هذه الآية عقب آيات الطّلاق. ورأى بعضهم: أن المراد بالوالدات: كلّ والدة مطلّقة أو زوجة، أخذا بعموم اللفظ. التفسير والبيان: على الوالدات المطلقات، أو على جميع الوالدات مطلقات أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدة سنتين كاملتين دون زيادة عليهما، إذا أريد إتمام المدة، ولا مانع من نقص ذلك إذا رئيت المصلحة فيه، والأمر متروك للاجتهاد والتقدير. والرضاع مندوب للأم بصفة عامة، لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء، وقد يجب إذا امتنع الطفل من الرضاع من غيرها، أو لم يجد الوالد مرضعة لفقر أو غيره. ورغبة بعض النسوة عن الإرضاع ترفعا أو محافظة على الجمال والصحة مناف لمقتضى الفطرة، مسيء لمصلحة الولد. وهل الرضاع حق للوالدة أو واجب عليها؟ فيه اختلاف.

فقال مالك: الرضاع حق على الوالدة إذا كانت زوجة أو لم يقبل الولد ثدي غيرها، واستثنى من ذلك الشريفة فلم يجعل حقا عليها، عملا بالعرف الذي كان عليه العرب وقت نزول الآية «1» ، فكان نساء قريش يلتمسن المراضع بأجر أنفة واعتزازا. وقال الجمهور: إن ذلك مندوب، إلا عند الضرورة كأن لم يقبل ثدي غير الأم، لقوله تعالى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق 65/ 6] . ومدة الرضاع التام: سنتان، لاحتياج الطفل إلى اللبن فيهما، ولا مانع من جعله أقل من ذلك حسبما يرى الوالدان المصلحة، ويعوّد الولد الآن بتناول شيء من الغذاء مع اللبن في أواخر الحول الأول، ثم يفطم إذا استغنى عن اللبن بالطعام المعتاد. وإنما قال الله حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لئلا يتوهم أنه أراد حولا وبعض الثاني. والمقصود من تحديد مدة الرضاع بحولين كاملين ليس وجوب ذلك، لأنه قال: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فهو يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد أدنى لا يتعدى، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ الحولين إذا لم يكن فيه ضرر للولد، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما [البقرة 2/ 233] فالمقصود بيان المدة التي يرجع إليها عند الاختلاف، أو بيان المدة القصوى قضاء. وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة، للقيام بحق الولد، وأجرة لها على الإرضاع، واستئجار الأم غير جائز ما دامت في الزواج أو العدة، ويجوز عند الشافعي رضي الله عنه مطلقا. وتقدير الأجرة على قدر حال الأب من اليسار والإعسار والتوسط، كما قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 161 [.....]

عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها [الطلاق 65/ 7] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] والآية هنا لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها أي لا تلزم نفس إلا بقدر سعتها. وأخذ من الآية أيضا وجوب نفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع، لأجل الولد، وإنما وجبت لضعف الولد واحتياجه، والوالد أقرب الناس إليه. وعلة تشريع الأحكام السابقة منع الضرار من جانبي الرجل والمرأة، بإعطاء كل ذي حق حقه، فيحرم إضرار أحدهما الآخر بسبب الولد، فلا تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للأب بالتماس الظئر (المرضع) ، أو تكلفه من النفقة فوق طاقته، أو تقصّر في تربية الولد، كذلك لا يجوز أن يمنعها من إرضاع ولدها وهي ترغب به، لأنها أرأف الناس به، وأحناهم عليه، وأنفعهم له، أو يضيّق عليها في النفقة، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة. وعلى وارث الأب مثل ذلك من النفقة والكسوة وترك الضرار للمرضع، وقيل: على وارث الصبي الذي لو مات ورثه، فدل هذا القول على وجوب النفقة على أقارب الصبي عند عدم الوالد. وهذا أصل في وجوب نفقة الأقارب، وهو مذهب أبي حنفية، وأحمد، إلا أن الحنفية أوجبوا النفقة لكل ذي رحم محرم كالعمة والخال، ولا تجب لغير ذي الرحم المحرم كابن العم وبنت العم، وأوجبها الحنابلة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة والعمة ونحوهم ممن لا يرث بفرض ولا تعصيب، لأن قرابتهم ضعيفة. ورأى مالك والشافعي أن النفقة لا تجب إلا على الوالدين، فنفقة الولد على أبيه، فإن مات ففي مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى الأم. والآية تؤيد

الرأي الأول، إلا أن يراد بالآية: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ترك الإضرار فقط، أو يراد من الوارث الولد نفسه. وتحديد مدة الرضاع بحولين كاملين إنما كان لبيان المدة القصوى التي يرجع إليها عند الاختلاف كما بينها الله، فإن أراد الوالدان فطام الولد قبل الحولين أو بعدهما، برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل، فلا إثم عليهما فيه، حيث اقتضت المصلحة ذلك، ولم يلحق ضرر بالولد. ولا مانع من استئجار المراضع، وهو ما أبانته الآية التي أفصحت عن أنه: إذا أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم أو لأولادكم بسبب حمل أو مرض أو عدم اتفاق، فلا حرج فيه، بشرط إعطاء المرضعة أجرها بالمعروف أي بحسب أجرة أمثالهن في كل عصر ومكان، لما في الأجر من تحقيق مصلحة الولد والوالدين أيضا. وهذا خطاب للأب والأم على سبيل التغليب، للإشارة إلى أنه من الأدب والمصلحة تشاور الأبوين في الاسترضاع، لأنه ولدهما. والقول بجواز استرضاع المراضع الأجنبيات هو مذهب أبي حنيفة. وقوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ليس شرطا لجواز الاسترضاع، وإنما هو ندب إلى الأولى، تطييبا لنفس المرضع. ثم ضرب الله نطاقا محكما لتنفيذ الأحكام السابقة: وهو أن يتم في ظل تقوى الله، فعلى المؤمن أن يخشى الله، فلا يفرط في شيء من الأحكام المذكورة، لأن الله تعالى خبير وبصير بكل شيء، فيجازيكم على أعمالكم، فإن أنتم أديتم حقوق النساء والأطفال، واجتنب الوالدان المضارّة، كان الأولاد مثلا صالحا في الدنيا وسبب مثوبة في الآخرة، وإن سرتم على وفق الأهواء، كان الأولاد نذير سوء، وعنوان بلاء وفتنة في الدنيا، وسبب عذاب في الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات، لأنهن أحنى وأرقّ، وانتزاع الولد الصغير من والدته إضرار به وبها. وهذا يدل على أن الولد، وإن فطم، فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، ما لم تتزوج بزوج آخر باتفاق العلماء لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لامرأة- فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو-: «أنت أحق به ما لم تنكحي» . وإذا كانت المطلقة أولى بالرضاع والحضانة فإن الزوجات حال الزوجية أولى بهما أيضا، بل إن الزوجة تستحق النفقة والكسوة، أرضعت أو لم ترضع، في مقابلة التمكين من الاستمتاع. وأما إيجاب النفقة في حال الرضاع بعد الطلاق فبسبب اشتغال المرأة في مصالح الزوج، لذا قال الله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الزوج رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ دفعا لتوهم سقوط النفقة إذا اشتغلت المرأة بالإرضاع ولم يحدث التمكين. ودل قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ على أن إرضاع الحولين ليس حتما، فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكن التحديد بالحولين لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل الحولين، ولم ترض الأم، لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود، وعند رضا الوالدين. وقد أخذ مالك في موطئه والشافعي وأحمد من آية: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ أن مدة الرضاع المحرّم أي التي يحرّم الرضاع فيها المصاهرة كما يحرّم بالنسب: هي حولان فقط، فإذا لم يقع الرضاع فيهما لا يحرم.

ولم يعتبر الحنفية، والمالكية أخذا بما روى ابن القاسم عن مالك «1» : أن الآية جاءت لتحديد مدة الرضاع المحرّم، فذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وقال زفر: ثلاث سنين، وذهب المالكية في الصحيح إلى أن ما قرب من زمان الفطام عرفا لحق به، وما بعد عنه خرج عنه، من غير تقدير. قال القرطبي «2» : والصحيح الأول، لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» «3» فهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير، وأنه لا حرمة له. واستنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أقل مدة الحمل، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا، يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقل المدة. وأرشدت الآية: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ.. إلى وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. والمراد بالمولود له: الذي ولد له، والذي يعبر به عن الواحد والجمع. ويجوز في العربية القول: «وعلى المولود لهم» كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس 10/ 42] . والنفقة الواجبة من الطعام والكسوة (اللباس) هي بالمعروف أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. والإنفاق يكون على قدر غنى الزوج وحال الزوجة في رأي المالكية.

_ (1) قال مالك: الرضاع: الحولين والشهرين بعد الحولين. (2) تفسير القرطبي: 3/ 162 (3) قال الدارقطني: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ.

ودلت الآية على أن الحضانة للأم، وهو حق لها، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة، ومدة الحضانة عند مالك في الغلام إلى البلوغ، وفي الفتاة إلى الزواج. وقال الشافعي وأحمد: إذا بلغ الولد ثمان سنين، وهو سن التمييز، خيّر بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم العلوم ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والفتاة، بدليل تخيير النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولدا حينئذ، فلحق بأمه، كما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة. ويظل الحق للأم بالحضانة ما لم تتزوج اتفاقا كما سبق بيانه، قال ابن المنذر: «وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حقّ للأم في الولد إذا تزوجت» وينقطع حقها بمجرد عقد الزواج عند الشافعي، وقال مالك: إذا تزوجت الأم لم ينزع منها ولدها، حتى يدخل بها زوجها. ولا فرق في رأي الحنفية بين الذمية والمسلمة في أحقية الأم بالحضانة إذا افترق الزوجان بطلاق. وقال مالك والشافعي: الولد مع المسلم من الزوجين. وإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهي فارغة غير مشغولة بزوج، ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا، لم يكن لها بعدئذ أخذه. وتحرم المضارّة بين الزوجين وغيرهما، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولقوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ.. أي لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، كما بينا. ودل قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ على وجوب نفقة الأقارب، كما بينا، كما أنه يدل على وجوب النفقة على الصبي نفسه من ماله إن كان له مال.

ومدة الرضاع الكاملة حولان كاملان عند اختلاف الزوجين في تحديد المدة القصوى التي تجب فيها أجرة الرضاع. ويجوز اتفاقهما على أقل من ذلك من غير مضارّة الولد. وقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما، لا على الحقيقة واليقين. وإذ أرشد القرآن إلى التشاور في أدنى الأعمال لتربية الولد، فهو مطلوب بالأولى في أجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، وهي مشورة الحكام في مصالح الأمة، لذا أمر الله رسوله بمشاورة أصحابه قائلا: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] ومدح المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 38] . ودل قوله سبحانه: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ على جواز اتخاذ الظئر (أي استئجار المرضع) إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك، ويجب حينئذ تسليم الأجرة إلى المرضعة الظئر لقوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ.. والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها، كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة كما بينا، فقال: لا يلزمها رضاعه، فأخرجها من الآية، وخصصها بأصل من أصول الفقه، وهو العمل بالعادة: وهو ما كان عليه عرب الجاهلية، فجاء الإسلام ولم يغيره، واستمر ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمّهات للمتعة، بدفع الرّضعاء للمراضع إلى زمن مالك فقال به، وكذا إلى زماننا «1» . وجاء الأمر الإلهي بإرضاع الأمهات أولادهن على مقتضى الفطرة، فأفضل

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 172

عدة المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (2) آية 234] :

اللبن للولد لبن أمه باتفاق الأطباء، ولبن المرضع يؤثر في جسم الطفل وفي أخلاقه وسجاياه، ولذلك يحتاط في انتقاء المراضع، ويجتنب استرضاع المريضة، والفاسدة الأخلاق والآداب «1» . عدة المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) الإعراب: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ.. الذين: مبتدأ، وفي الخبر أربعة أوجه: الأول- أن يكون خبره مقدرا، وتقديره: فيما يتلى عليكم الذين، مثل وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أي فيما يتلى عليكم. الثاني- أن يكون خبره: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ على تقدير: يتربصن بعدهم بأنفسهن، فحذف «بعدهم» للعلم به، لأن الجملة إذا وقعت خبرا للمبتدأ، فلا بد من أن يعود منها عائد إليه. الثالث- أن يكون التقدير: فأزواجهن يتربصن، والجملة من المبتدأ أو الخبر: خبر الَّذِينَ. الرابع- أن يكون الخبر: يَتَرَبَّصْنَ، على أن يكون التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. المفردات اللغوية: يُتَوَفَّوْنَ يموتون بأن يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، قال الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر 39/ 42] فإذا حذف الفاعل أسند الفعل إلى المفعول وَيَذَرُونَ: ويتركون

_ (1) تفسير المنار: 2/ 329- 330

المناسبة:

أَزْواجاً يطلق الزوج على الذكر والأنثى، كما قال تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ أي ليتربصن أي لينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ بعدهم عن الزواج أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً من الليالي، وهذا في غير الحوامل، أما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق (4) . فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي أتممن عدتهن وانتهت مدة تربصهن وانتظارهن. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للخطاب. بِالْمَعْرُوفِ شرعا خَبِيرٌ عالم بباطن العمل وظاهره. المناسبة: هذا بيان متصل في أنواع العدة، فقد ذكر أولا عدة الطلاق بالحيض، وذكر هنا عدة الوفاة المخالفة لها. التفسير والبيان: ذكر الله في هذه الآية حكم الحداد على الأزواج ووجوب العدة على النساء، عقب بيان أحكام الطلاق والرجعة والإرضاع وواجبات الوالد نحو ولده وزوجته، وكان بيان عدة الوفاة لئلا يتوهم أنها مثل عدة الطلاق. والعدة: هي المدة التي تمكث فيها المرأة في بيت الزوجية دون زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعي للتعرف على براءة الرحم أو للحداد على الزوج. وعدة المطلقة: ثلاثة قروء، وعدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام، أما الحامل فعدتها بوضع الحمل، ولو بعد الوفاة بساعة. ولا حداد على غير الزوج من أخ أو أب أو قريب أكثر من ثلاثة أيام. ولا فرق في حال الوفاة بين الصغيرة والكبيرة، والمدخول بها وغير المدخول بها، لأن العدة في الأصل للحداد، وبراءة الرحم تبعا. وقد بدأ الله تعالى بذكر الرجال الذين يتوفون، وترك الخبر عنهم إلى الإخبار عن أزواجهم، ليبين صلة العدة بالرجل، ومعنى الآية: إن زوجات

ما تمتنع منه المعتدة:

الذين يموتون: عدتهن أربعة أشهر وعشرة أيام، قال الزمخشري: وقيل: عشرا، ذهابا إلى الليالي، والأيام داخلة معها. فلا يحل لهن فيها الخطبة والزواج والخروج من المنزل إلا لعذر شرعي. وهذا الحكم لغير الحوامل، أما الحامل التي يموت زوجها فتنقضي عدتها بوضع الحمل، ولو بعد الموت بساعة، عملا بآية الطلاق السابق الإشارة إليها، وبما روى أبو داود من حديث سبيعة الأسلمية أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر. ما تمتنع منه المعتدة: اختلف العلماء في الذي يتربص عنه هذه المدة، فقال بعضهم: يتربصن عن النكاح والطيب والزينة والنقلة من المسكن الذي يسكنه في حياة أزواجهن، وأدلتهم من السنة الصحيحة كثيرة، منها: ما رواه الشيخان عن زينب بنت أم سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان (والدها) فدعت بطيب فيه صفرة- خلوق وغيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وقالت زينب: سمعت أمّي أمّ سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر» . والكحل الذي منعه النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو كحل الزينة، لا كحل التداوي بدليل

حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار» . وقال بعضهم: إنما عدة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والنقلة من المنزل، فلم تنه عن ذلك. واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت: «لما أصيب جعفر، قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تسلّبي «1» ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت» ويرد عليهم بأنه يحتمل أن يكون أمرها بالتسلب ثلاثا، ثم لبس ما شاءت من الثياب التي يجوز للمعتدة لبسها، مما لم يكن زينة، ولا تطيبا، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة، ولا ثياب تسلب. وتقدير المدة بأربعة أشهر وعشر أمر تعبدي، لا يبحث عن حكمته، فهو كأعداد الركعات ومقادير الزكوات. والحكمة في هذه العدة: استبراء الرحم من ماء الزوج المتوفى، فيمنع نكاح المعتدة حتى تمضي مدة تتبين فيها: أهي حامل، فيلحق ولدها بالزوج المتوفى؟ أم حائل (غير حامل) فإذا تزوجت وولدت لحق الولد بالزوج الثاني. ومنعت الطيب والزينة، لأنهما من دواعي الزواج، وذريعة إليه. ومنعت الخروج من البيت الذي كانت تسكنه لأن هذه الرقابة أدعى إلى الصيانة. ومنع عقد الزواج عليها وخطبتها صراحة في العدة، لأن ذلك ذريعة، ورخص في التعريض بالخطبة لمعتدة الوفاة. أما في الجاهلية فكانت المرأة تحد على زوجها سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم.

_ (1) تسلّبي: البسي ثياب الحداد السواد، وهي السّلاب على وزن كتاب.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أبان الله تعالى ما يباح بعد انتهاء العدة بقوله: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.. «1» فخاطب الأولياء بأنه إذا أتممن عدتهن، فلا إثم عليكم أيها الأولياء وجميع الناس فيما فعلن في أنفسهن ما كان محظورا عليهن قبل ذلك من التزوج فما دونه من التزين، والتعرض للخطاب، واختيار الأزواج وتقدير الصداق، والخروج من البيت على الوجه المعروف شرعا وعرفا: وهو ما أذن الله لهن فيه، والله بما تعملون خبير، فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، ويعلم من يعضل النساء فيجازيه، ويعلم من يحسن توجيه النساء نحو التزام حدود الشرع، أو يتساهل ويفرط في حقوق الله، فإن جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع سعدتم، وإن فرطتم وانحرفتم عن حدود الله وقعتم في الشقاء والعذاب. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم، ومعناها الخصوص فهي مخصوصة بغير الحوامل، لقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 4] . وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة 2/ 240] . لأن الناس كانوا في مبدأ الإسلام إذا توفي الرجل وخلّف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة، وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وبالميراث.

_ (1) بلوغ أجلهن: هو انقضاء المدة المضروبة في التربص، والمخاطبون بعليكم: الأولياء أو الأئمة والحكام والعلماء، إذ هم المرجع.

وعدة الحامل المتوفى عنها زوجها: وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين. لكن روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. وحجتهما الجمع بين قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وبين قوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. لأنها إذا قعدت أقصى الأجلين، فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل، فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق علماء الأصول ما عدا الحنفية الذين يقدمون الترجيح على الجمع. ويرد على هذا الاتجاه بحديث سبيعة الأسلمية في الصحيح، كما تقدم، وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأباح لها أن تتزوج. قال الزهري: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. واتفق العلماء على أن عدة الحامل المطلقة تنتهي بوضع الحمل. وليس لمعتدة الوفاة نفقة في رأي الجمهور، لانتهاء الزوجية بالموت، وأوجب لها المالكية السكنى مدة العدة إذا كان المسكن مملوكا للزوج، أو مستأجرا ودفع أجرته قبل الوفاة، وإلا فلا، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام للفريعة: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» . وأجمع أهل العلم على وجوب نفقة الحامل المطلقة ثلاثا أو الرجعية، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 6] . وعلى المرأة في رأي مالك إذا أتاها نعي زوجها، وهي في بيت غير بيت زوجها، الرجوع إلى مسكنه. وقال سعيد بن المسيب والنخعي: تعتد حيث أتاها الخبر حتى تنقضي العدة.

والإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيّب والحليّ والكحل والخضاب بالحنّاء ما دامت في عدتها، لأن الزينة داعية إلى الأزواج. فنهيت عنها سدا للذرائع، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك. والحداد على القريب ثلاثة أيام فقط، وعلى الزوج أربعة أشهر وعشر، وهو مقصور على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة أو عذر «1» ، روى البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحدّ امرأة على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب «2» ، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار» «3» وفي حديث أم حبيبة: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» الحديث، وهو يدل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، خلافا للأعراف الفاسدة السائدة اليوم. وأجاز الحنفية والمالكية «4» للمتوفى عنها زوجها لا المطلقة أن تخرج من منزل العدة نهارا في حوائجها الضرورية، لاكتساب ما تنفقه، لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى، بل نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة، ثم تعود فتبيت في ذلك المنزل، ولا تخرج بالليل، لعدم الحاجة إلى الخروج ليلا، كما لا تخرج لزيارة ولا تجارة ولا تهنئة ولا تعزية.

_ (1) قال المالكية: ولا تدخل حماما ولا تكتحل إلا لضرورة، وتمسح الكحل نهارا (الشرح الصغير: 2/ 686) (2) العصب: من برود اليمن، وهو الذي يصبغ غزل السدي فيه دون اللحمة، ثم ينسج مصبوغا فيخرج موشيا، لبقاء بعض ما عصب منه أبيض ولم ينصبغ. (3) النّبذة: الشيء اليسير، والقسط والأظفار: نوعان من البخور، ونبذة: منصوب على الاستثناء. (4) البدائع: 3/ 204- 220، الشرح الصغير: 2/ 689، تفسير القرطبي: 3/ 179

ولا خلاف في أن الخضاب والكحل داخلان في جملة الزينة المنهي عنها، وأنه لا يجوز لبس الثياب المصبوغة والمعصفرة، إلا ما صبغ بالسواد فإنه مرخص فيه في المذاهب الأربعة. وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، واتفقوا على عدم وجوبه على المطلقة طلاقا رجعيا، لأنها في حكم الزوجة، لها أن تتزين لزوجها، ليرغب في إعادتها إلى الزوجية. أما المطلقة طلاقا بائنا فلا يجب عليها الحداد عند الجمهور، وإنما يستحب فقط، لأن الزوج أذاها بالطلاق البائن، فلا تلزم بإظهار الحزن والأسف على فراقه، واستحباب الحداد لها لئلا تدعو الزينة إلى الفساد. وأوجب الحنفية الحداد على المبتوتة والمطلقة طلاقا بائنا، لأنه حق الشرع، ولإظهار التأسف على فوات نعمة الزواج، كالمتوفى عنها. وتبدأ العدة في المذاهب الأربعة في الطلاق والوفاة من يوم الموت أو الطلاق. وأجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها، ثم توفي قبل انقضاء العدة: أن عليها عدة الوفاة وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض، فقالت طائفة: وهي مالك والشافعي: تعتد عدة الطلاق، لأن الله جعل عدة المطلقات الأقراء. وقال أبو حنيفة ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر، تستكمل في ذلك ثلاث حيض. وتلزم عدة الوفاة الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة، والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت، واليائسة من المحيض، والكتابية، دخل بها أو لم يدخل، إذا كانت غير حامل، ومدة العدة كما بينا أربعة أشهر وعشرة أيام، لعموم الآية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. وقوله تعالى: عَشْراً: سئل أبو العالية: لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها.

خطبة المتوفى عنها زوجها تعريضا ووقت العقد [سورة البقرة (2) آية 235] :

وقال الخطابي: قوله وَعَشْراً يريد- والله أعلم- الأيام بلياليها. وذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول، وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليال، كان باطلا، حتى يمضي اليوم العاشر. وإنما ورد لفظ العشر مذكرا، فلأن المراد به المدة، في رأي المبرد، المعنى: وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة. والمراد به الليالي في رأي الزمخشري، كما تقدم، فلم يقل «عشرة» تغليبا لحكم الليالي، إذ الليلة أسبق من اليوم، والأيام في ضمنها. ثم إن قوله عَشْراً أخف في اللفظ. وفي آية فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ.. دليل على أن للأولياء والحكام منع النساء من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة، بل إن الأولياء من آباء وإخوة وغيرهم ممن له شأن مؤاخذون ومعاقبون على خروج النساء وتهتكهن وفعلهن غير المعروف شرعا، فإن ذلك مما يضعف الأمة، ويهدم الأخلاق. خطبة المتوفى عنها زوجها تعريضا ووقت العقد [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

الإعراب:

الإعراب: عُقْدَةَ النِّكاحِ منصوب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ولا تعزموا على عقدة النكاح، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، فنصبه، كقولهم: ضرب زيد البطن والظهر، أيّ على البطن والظهر. ويجوز نصبه على المصدر بمعنى: تعقدوا عقدة النكاح، والوجه الأول أولى وأوجه. البلاغة: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ عبر بالعزم للمبالغة في تحريم مباشرة الزواج، فإذا نهي عن العزم، كان النهي عن فعل الزواج من باب أولى أو أشد نهيا. وقيل: لا تقطعوا عقد عقدة النكاح، لأن العزم: القطع، فيكون الكلام صريحا في النهي عن اليأس من الزواج وتحطيم الآمال، وتدمير الثقة بالنفس وتفويت عقد الزواج. المفردات اللغوية: عَرَّضْتُمْ لوّحتم، والتعريض في الكلام: أن تفهم المخاطب المقصود الذي تريد بلفظ لم يوضع له صراحة، وإنما بالإشارة والتلويح، ويحتاج فهمه إلى قرينة، لبعده عن ذهن السامع، وبعبارة موجزة: هو القول المفهم للمقصود، وليس بنص فيه. خِطْبَةِ النِّساءِ المتوفى عنهن أزواجهن، والخطبة: طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس. والتعريض بخطبة معتدة الوفاة في أثناء العدة: أن يقول الإنسان مثلا: إنك لجميلة، ومن يجد مثلك، ورب راغب فيك. أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أضمرتم في النفس قصد النكاح أو العزم عليه بعد انقضاء العدة. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بالخطبة ولا تصبرون عنهن، فأباح لكم التعريض وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي زواجا قَوْلًا مَعْرُوفاً أي ما عرف شرعا من التعريض، فالقول المعروف: ما لا يستحيا منه في المجاهرة كذكر حسن المعاشرة ورحابة الصدر للزوجات ونحو ذلك. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي عقده، والعزم: التصميم على تنفيذه الْكِتابُ أي المكتوب المفروض من العدة أَجَلَهُ أي نهايته. ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم وغيره فَاحْذَرُوهُ أن يعاقبكم إذا عزمتم غَفُورٌ لمن يحذره حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عن مستحقها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: لا يزال الكلام في أحكام النساء، ففي الآيات السابقة بيان أحكام الطلاق والرجعة والإرضاع وحقوق الزوجات والأولاد، وواجبات الأب من نفقة وسكنى وكسوة، ووجوب العدة والحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها، وفي هذه الآية توضيح جواز خطبة معتدة الوفاة في العدة تلميحا لا تصريحا، وصحة إبرام العقد عليها بعد انقضاء العدة. فأبان الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض بالخطبة للمرأة المتوفى عنها زوجها أو لوليها، ومثلها المطلقة طلاقا بائنا، في أثناء العدة، أو يضمر في نفسه قصد زواجه بها، لأن التعريض لا يمس حق الزوج السابق، وربما كان فيه نوع من الإيحاء بالثقة والطمأنينة على أوضاع المستقبل، حيث تصبح المرأة لا عائل لها، ولأن إضمار شيء في النفس أمر طبيعي يشق الاحتراز عنه، لذا قال الله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ في أنفسكم، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم، ولا ضرر ولا خطر في قصد شيء بالنفس. ولكن يحرم المواعدة على الزواج في السر، لأن في المواعدة مدرجة للفتنة، ومظنة للقيل والقال، ولا تحرم المواعدة بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات ونحو ذلك، فيكون المراد بالقول المعروف: هو التعريض لا التصريح، أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض. والمراد بالسر في الأصل: هو الوطء، ويقصد به هنا عقد الزواج في العدة سرا، فأطلق على العقد الذي هو سبب الوطء، وقيل كما اختار الطبري: المراد به هنا هو الزنى، أو القول لها: إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري. قال ابن كثير: وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك. والتعريض بالخطبة للمعتدة بسبب الوفاة أو لوليها في العدة: كأن يقول: إنك لجميلة، أو عسى أن ييسر الله لي امرأة صالحة بنت حلال مثلك، حتى تدخر

نفسها له، أو يمتدح نفسه أمامها فيقول: إني حسن الخلق، كريم الأصل، سخي النفس، جميل العشرة، محسن إلى الزوجة، ونحو ذلك من الكنايات التي يستعملها الناس، ويتفننون فيها بأنواع من الذكاء وحسن الدهاء في كل عصر. وفائدة ذلك ظاهرة: هي أن تختار من الخطّاب من هو الأفضل والأكرم. أما خطبة المعتدة من طلاق رجعي تلميحا أو تصريحا فحرام، لأنها لا تزال في عصمة زوجها، ما دامت في العدة. وأما التصريح بخطبة المعتدة من وفاة أو طلاق بائن فحرام أيضا. ودليل جواز التعريض: ما أخرج الطبري عن سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر: محمد بن علي الباقر، وأنا في عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة، أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضعي، قد دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة. فالقول المعروف غير المنكر شرعا: وهو القول العفّ والإشارة الخفيفة والكلام اللطيف غير الجارح الذي يدخل في التعريض هو الجائز، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها، حيث ذكر لها منزلته عند الله تعالى. ثم ذكر سبحانه وقت إباحة عقد الزواج على المعتدة: وهو ما بعد انقضاء العدة، ونهى نهيا شديدا عنه قبل ذلك، فقال: ولا تصمموا على إبرام الزواج

فقه الحياة أو الأحكام:

الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهي عدتها من زوجها السابق: وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وحذر الله تعالى من تجاوز هذا الحد، فقال: اعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا التجاوز من قول أو فعل على ما منع الله، وفي هذا التحذير قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، لتأكيد المحافظة عليها. ومع هذا اعلموا أن الله غفور لمن تعدى حدود الله وفرط بارتكاب الذنب ثم تاب وأصلح، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا أعمالهم، فلا تغتروا بإمهاله. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- يحرم التصريح بالخطبة للمعتدة أيا كانت عدتها، فلا يجوز بالإجماع «1» الكلام مع المعتدة في أمر الزواج سرا، أو التواعد معهن عليه، لكن يجوز التعريض بالخطبة لمعتدة الوفاة والمطلقة طلاقا بائنا، تمهيدا للمشاورة والتفكير بالموافقة على مبدأ الزواج الجديد في المستقبل. ولا يجوز إجماعا التعريض لخطبة الرجعية، لأنها كالزوجة. قال سحنون وكثير من العلماء: والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض. 2- يحرم شرعا إبرام عقد الزواج على أية معتدة في العدة، لقوله تعالى:

_ (1) الإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ولا التنبيه عليه ولا الرفث وذكر الجماع والتحريض عليه (البحر المحيط: 2/ 225) .

وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وهذا من المحكم المجمع على تأويله: أن بلوغ أجله: انقضاء العدة، مراعاة لحقوق الزوجية والتعرف على براءة الرحم من الحمل لئلا تختلط الأنساب. 3- استدل الشافعية بهذه الآية على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، وقالوا: لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح، دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح قائما مقام التصريح. ورد عليهم بأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف، والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرّض، لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح، ويلزم على قول الشافعية: أن التعريض بالقذف جائز مباح، كما أبيح التعريض بالخطبة بالنكاح «1» . 4- اختلف العلماء في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة: فقال مالك في رواية أشهب وابن القاسم: إنه يفرّق بينهما إيجابا. وقال الشافعي: إن صرّح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح، حتى تنقضي العدة، فالنكاح ثابت، والتصريح لهما مكروه، لأن النكاح حادث بعد الخطبة. 5- إذا عقد على المعتدة في العدة، وبنى بها، فسخ الحاكم النكاح، لنهي الله عنه، وتأبد تحريمها عليه، فلا يحل نكاحها أبدا عند مالك والشعبي، وبه قضى عمر رضي الله عنه قائلا: «ثم لا يجتمعان أبدا» ، لأنه استحل ما لا يحل، فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله.

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 190، أحكام القرآن للجصاص الرازي: 1/ 422

وقال الجمهور: يفسخ النكاح، فإذا انتهت عدتها، كان خاطبا من الخطاب، ولم يتأبد التحريم، لأن الأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم دليل على الحرمة: من كتاب أو سنة أو إجماع، وليس في المسألة شيء من هذا، ورأي الصحابي ليس حجة، وأنكر علي هذا القضاء من عمر، وقال المحدثون: هذا الأثر عن عمر منقطع، وقد روي عن مسروق: أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان، ولذا جعل القرطبي رأي عمر مع الجمهور الذين احتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها، لم يحرم عليه تزوجها، فكذلك وطؤه إياها في العدة. وهو قول علي وابن مسعود والحسن البصري. 6- لا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة زواجا، وهي في العدة من غيره أن النكاح فاسد، واتفق عمر وعلي أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد، وذلك أمر متفق عليه مع الجهل بالتحريم، ومختلف فيه مع العلم بالتحريم. واختلفوا هل تعتد منهما جميعا؟ وهذه مسألة العدتين. قال مالك في رواية المدنيين عنه والشافعي وأحمد والليث وإسحاق: إنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر، وهو رأي عمر وعلي رضي الله عنهما، أي فعليها عدتان. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرّق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالأقراء أو بالشهور. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه، فدل على أنها في عدّة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه. أجاب الأولون فقالوا: هذا غير لازم، لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين، كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه.

المطلقة قبل الدخول ومتعتها أو وجوب نصف المهر لها [سورة البقرة (2) الآيات 236 إلى 237] :

7- قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه، لأن الله توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. المطلقة قبل الدخول ومتعتها أو وجوب نصف المهر لها [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) الإعراب: ما لَمْ ما: إما شرطية، أي إن لم تمسوهن، وإما ظرفية زمانية مصدرية، أي مدة لم تمسوهن. مَتاعاً اسم أقيم مقام التمتع، وهو منصوب على المصدر، أي متعوهن متاعا حَقًّا منصوب أيضا على المصدر، وتقديره: حقّ ذلك حقا فَنِصْفُ مرفوع إما مبتدأ وخبره محذوف وتقديره: فعليكم نصف ما فرضتم وإما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فالواجب نصف ما فرضتم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أن: حرف ناصب، والنون في يعفون نون النسوة، فهي علامة جمع، لا علامة رفع، وإذا اتصلت بالفعل المضارع صار مبنيا، كاتصاله بنون التوكيد. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مبتدأ وخبر.

البلاغة:

البلاغة: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ كنّى تعالى بالمسّ عن الجماع تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ في التخاطب. الخطاب في قوله وَأَنْ تَعْفُوا ولا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ عام للرجال والنساء، ولكن بطريق التغليب. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والخوف. المفردات اللغوية: لا جُناحَ لا إثم ولا تبعة عليكم، والمراد لا شيء عليكم تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن أَوْ تَفْرِضُوا أي ولم تفرضوا لهن فرضا أي تقدروا لهن مقدارا توجبونه على أنفسكم وهو المهر، أي لا تبعة ولا مسئولية عليكم بإثم ولا مهر في الطلاق زمن عدم المسيس وعدم فرض المهر. وَمَتِّعُوهُنَّ أي فطلقوهن وأعطوهن ما يتمتعن به عَلَى الْمُوسِعِ الغني منكم الْمُقْتِرِ: الفقير قَدَرُهُ: أي قدر الإمكان والطاقة. مَتاعاً أي متعوهن تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ شرعا، وهو صفة مَتاعاً. حَقًّا صفة ثانية أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا ثابتا واجبا. والمعروف: ما يتعارفه الناس ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم. الْمُحْسِنِينَ المطيعين الذين يحسنون في معاملة المطلقات. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ: لكن إذا ترك الزوجات المطلقات حقهن أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو الولي يعني: إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن، فلا يطالبنهم بنصف المهر، إن كن مالكات أنفسهن، أو يسقط الولي الذي يلي عقد النكاح ما وجب للمطلقات قبل الدخول من نصف الصداق، إن لم يكنّ مالكات أنفسهن. والولي: هو الأب في ابنته البكر، وهو رأي مالك وابن عباس وجماعة من التابعين. وقيل: هو الزوج، وعفوه: تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي أعطاه للمرأة. ويكون المعنى: إلا أن يعفو المطلقات، أو يعفو الزوج عن نصف الصداق، فيجعل المهر كله لها، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي في قوله الجديد، والثوري وابن شبرمة والأوزاعي، وهو رأي علي وشريح وسعيد بن المسيب، وحجتهم: أن الله قال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وليس إعطاء المرء مال غيره فضلا، فلا ينطبق على الولي. وحجة الفريق الأول: أن الخطاب في أول الآية للأزواج، فلو أراد الزوج، لقال: أو يعفو، ولا موجب لمخالفة مقتضى الظاهر. ولأن معنى يَعْفُونَ، يسقطن وكذلك معنى يَعْفُوَا يسقط، والولي هو الذي يسقط، أما الزوج فيعطي.

سبب النزول:

قال الزمخشري: والأول ظاهر الصحة، وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيها نظر «1» . وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي أن يتفضل بعضكم على بعض، والفضل: المودة والصلة. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبير بأعمالكم، فيجازيكم عليها. سبب النزول: روي أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة، ولم يسم لها صداقا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت هذه الآية، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أمتعها ولو بقلنسوتك» «2» . التفسير والبيان: لا شيء عليكم أيها الأزواج من الصداق المسمى أو مهر المثل إن لم يسمّ المهر إن طلقتم النساء قبل الدخول وقبل تحديد أو تقدير مهر لهن. وقد دل على أن الجناح هنا تبعة المهر قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ فأوجب نصف المهر في مقابله. وقوله أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً: بمعنى إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة: تسمية المهر، لأن المطلقة قبل الدخول بها إن سمي لها مهر، فلها نصف المهر المسمى، وإن لم يسم، فليس لها نصف مهر المثل، ولكن المتعة. وقال بعضهم: إن أَوْ بمعنى الواو. وإنما الواجب عليكم المتعة، أي إعطاء المطلقات شيئا من أموالكم يتمتعن به بحسب حالكم من الثروة والغنى والمنزلة والفقر، جبرا للخاطر، ولم يحدده الله تعالى، وإنما ترك تقديره لحالة الزوج من غنى وفقر حسب الطاقة. وكان ابن

_ (1) الكشاف: 1/ 285 [.....] (2) البحر المحيط: 2/ 231

عباس يقول: متعة الطلاق: أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة. وجعل الله تعالى هذه المتعة حقا واجبا على الذين يحسنون معاملة المرأة. وللفقهاء فيها آراء، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر، لظاهر قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ وقوله حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وهي مستحبة لسائر المطلقات، كالمطلقة بعد الدخول، والمطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر «1» . وذهب مالك في المشهور عنه: إلى أن المتعة مندوبة ما عدا المطلقة قبل الدخول التي لم يسم لها المهر، وقيل بوجوبها. ورأى الشافعي وأحمد: أنها واجبة للمطلقة قبل الدخول سواء التي فرض لها مهر أو لم يفرض لها إلّا المطلقة قبل الدخول المسمى لها المهر، وأوجبها الشافعية أيضا للمطلقة بعد الدخول، لقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 241] يعني أن المتعة واجبة لكل مطلقة في مذهب الشافعي الجديد ما عدا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر. والظاهر القول بالوجوب، لظاهر الأمر: وَمَتِّعُوهُنَّ وكأن الله جعل لها المتعة في مقابل ما جعل المسمى لها من نصف الصداق حال التسمية. وأما قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فليبين أن مقتضى الإحسان يوجب ذلك. هذا هو القسم الأول المذكور في الآية وهو حكم المطلقة قبل الدخول والتي لم يسم لها المهر، وهذه لها المتعة. ثم بيّن الله تعالى حكم القسم الثاني وهو المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، وهذه لها نصف الصداق، فقال الله تعالى فيما معناه:

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 428

فقه الحياة أو الأحكام:

إذا طلقت المرأة قبل الدخول، وقد سمّي لها صداق، فيجب لها نصفه ولها حق أخذه في كل حال، إلا أن تعفو المطلقة، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الولي، وعفوه: إسقاط الحق في نصف المهر، وقيل: هو الزوج وعفوه: التنازل عن نصف الصداق المستحق له، فتأخذ المهر كله، كما بينا في شرح المفردات. والعفو أقرب لتقوى الله، أي أن من عفا من الرجال والنساء فهو المتقي. ولا تنسوا التفضل بينكم بالإحسان، فتتركوه وتستقصوا أخذ كل المستحق، فإن العفو خير لكم جميعا، والله بما تعملون بصير، فيجازي كلا على حسب نيته وعمله، ويعلم من عفا، وعامل بالإحسان من لم يفعل ذلك. وهذه خاتمة للتذكير باطلاع الله على كل ما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في الإحسان والفضل، وترهيبا من المخاشنة والجهل. فقه الحياة أو الأحكام: 1- ذكر الله تعالى في هذه الآية حكم حالتين من الطلاق: المطلقة قبل الدخول وقبل تسمية المهر، فجعل لها المتعة، والمطلقة قبل الدخول وبعد تسمية المهر، وجعل لها نصف الصداق. والحكمة في المتعة وإيجاب نصف المهر قبل الدخول: جبر وحشة الطلاق، والتعويض عما لحق المرأة من أذى وسوء سمعة، فيكون ذلك سبيلا لرفع معنويات المرأة المطلقة، ودفع الشبهات والريبة عنها، وتوفير حسن الصيت وطيب الشهرة لها، حتى لا تتضرر باحتمال إعراض الخطّاب عليها، وتعكير صفو المستقبل المنتظر لها. وهناك صنفان آخران من المطلقات: المطلقة المدخول بها المفروض لها المهر، وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية (في الآية: 229) ، وأنه لا يسترد

منها شيء، وأن عدتها ثلاثة قروء. والمطلقة المدخول بها غير المفروض لها المهر، وقد ذكر الله تعالى حكمها في قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن [النساء 4/ 24] . 2- إن قسمة الله تعالى حال المطلقة قبل الدخول إلى قسمين: مطلقة مسمى لها المهر، ومطلقة لم يسمّ لها، يدل على أن نكاح التفويض جائز: وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق، ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق. فإن فرض بعد العقد وقبل الطلاق، كان من المسمى، فيكون لها نصف المسمى، ويلتحق الفرض بالعقد في رأي مالك، ولا يكون لها نصف المسمى ولا يلتحق بالعقد في رأي أبي حنيفة، نظرا إلى أنها لم يسم لها في العقد. وأما إن لم يفرض لها، وكان الطلاق، لم يجب صداق إجماعا، كما قال ابن العربي «1» . 3- إذا مات الزوج قبل أن يفرض لها، فقال مالك: يكون حكمها حكم المطلقة، لها الميراث دون الصداق، وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: لا يكون لها حكم المطلقة، فيجب لها الصداق والميراث «2» . وحجة مالك: أنه فراق في نكاح قبل الفرض، فلم يجب فيه صداق، أصله الطلاق، أي كالحكم في الطلاق. وحجة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة: ما رواه النسائي وأبو داود عن ابن مسعود: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في بروع بنت واشق- وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها- بالمهر، والميراث، والعدة. قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وقد روي عنه من غير وجه.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 218 (2) المرجع والمكان السابق، تفسير القرطبي: 3/ 198

4- ومذهب أبي حنيفة وأحمد: أن المهر جميعه يتقرر بالخلوة الصحيحة، لخبر ابن مسعود قال: «قضى الخلفاء الراشدين فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا: أن لها الميراث، وعليها العدة» «1» . ومشهور مذهب مالك، والشافعي: أنه لا يتقرر المهر بالخلوة إلا إذا اقترن بها مسيس (وطء) ، وظاهر القرآن يعضدهما. 5- ليس للمتعة بمقتضى القرآن والسنة حد معروف في قليلها ولا كثيرها. لذا اختلف الناس فيها، فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها، وهو قول الشافعي القديم، وقال في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليّ: أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم، ثم كسوة، ثم نفقة. وقال عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. وقال أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال الحسن البصري ومالك: يمتّع كل بقدره، هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة. وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلّق قبل الدخول والفرض لا يتجاوز بها نصف مهر مثلها، لا غير، لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة: هي بعض مهر المثل، فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلّق قبل الدخول، فيكون لها الأقل من نصف مهر مثلها ومن المتعة، وهي على قدر المعتاد المتعارف في كل وقت، كثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار «2» . وروى الدارقطني أن الحسن بن علي رضي الله عنه متّع زوجته: عائشة الخثعمية بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق. 6- قال ابن القاسم من المالكية: من جهل المتعة حتى مضت أعوام، فليدفع

_ (1) وروي أيضا مرفوعا، أخرجه الدارقطني. (2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 433- 434

ذلك إليها، وإن تزوّجت، وإلى ورثتها إن ماتت، لأنه حق ثبت عليه، وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق. وهذا يشعر بوجوبها في المذهب المالكي. وقال أصبغ: لا شيء عليه، لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق، وقد فات ذلك. 7- دل قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ على وجوب المتعة. والموسع: الذي اتسعت حاله، والمقتر: المقل القليل المال. وكذلك قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي يحق ذلك عليهم حقا: دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله حَقًّا تأكيد للوجوب. 8- الواجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر المسمى بالإجماع. ولا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها، وقد سمّى لها مهرا: أن لها ذلك المسمّى كاملا، والميراث، وعليها العدة. 9- لكل امرأة تملك أمر نفسها وكانت بالغة عاقلة راشدة أن تترك النصف الذي وجب لها عند الزوج، لأن معنى يَعْفُونَ: يتركن ويصفحن، وقوله إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء منقطع، لأن عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهنّ. وأما التي في حجر أب أو وصي: فلا يجوز وضعها لنصف صداقها بلا خلاف. ولولي المرأة في مذهب مالك العفو عن نصف الصداق، لأن الذي بيده عقدة النكاح: هو الولي، لأوجه أربعة: الأول- لأن الزوج قد طلق، فليس بيده عقدة. الثاني- أنه لو أراد الأزواج لقال: إلا أن تعفون، فلما عدل عن مخاطبة

الحاضر المبدوء به في أول الكلام: وهو الزوج، إلى لفظ الغائب دل على أن المراد به غيره. الثالث- أنه تعالى قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني يسقطن، ولا يتصور الإسقاط عن شيء من المهر إلا من الولي، أما الزوج فيعطي. الرابع- أنه تعالى قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني يسقطن أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ يعني يسقط، وكل هذا يرجع إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة، فأما النصف الذي لم يجب، فلم يجر له ذكر. ورجح ابن العربي هذا القول قائلا: والذي تحقق عندي بعد البحث والسّبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه «1» . وللزوج في رأي الشافعي وأبي حنيفة: أن يترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي سماه للزوجة، لما رواه الدارقطني عن ابن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولي عقدة النكاح: الزوج» . وروى الدارقطني عن جبير بن مطعم: أنه تزوج امرأة من بني نصر (بطن من هوازن) فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملا، وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وأنا أحق بالعفو منها. 10- أقرب الزوجين للتقوى: الذي يعفو. وعلى الزوج ألا ينسى مودة أهل البيت الذين تزوج منهم ثم طلق، وألا يهجرهم أو يسبهم ويلعنهم ويحقد عليهم، كما هو حال الناس اليوم مع الأسف بعد حدوث الطلاق بين زوجين، فصارت رابطة المصاهرة بعد انفصالها مرتعا للمخاصمات والمنازعات والمهاترات والمكائد، وهذا كله مناقض لكتاب الله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ.

_ (1) راجع أحكام القرآن: 1/ 221

الحفاظ على الصلاة [سورة البقرة (2) الآيات 238 إلى 239] :

قال مجاهد: الفضل: إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها. بل إن الآية تذكّر بالإحسان واستعمال الفضل في المعاملات، لأن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه ولا يستغل حاجته ويعطيه إذا كان محتاجا، ولا يبخل ولو بالدعاء له. 11- دلت آية إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ ... على صحة هبة المشاع، لأن الله تعالى أوجب للمرأة بالطلاق نصف الصداق، فعفوها للرجل عن جميعه كعفو الرجل، ولم يفصل بين مشاع ومقسوم. وقال أبو حنيفة: لا تصح هبة المشاع إلا بعد القسمة، لأن القبض شرط صحة الهبة، وقبض المشاع أمر متعذر. الحفاظ على الصلاة [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) الإعراب: قانِتِينَ حال أي ذاكرين الله في قيامكم، والقنوت: أن تذكر الله قائما. فَرِجالًا حال منصوب، وعامله محذوف تقديره: فصلوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام. كَما عَلَّمَكُمْ الكاف بمعنى مثل، وما: المصدرية أو موصولة مفعول لفعل «علمكم» . البلاغة: الصَّلاةِ الْوُسْطى عطف خاص على عام، تنويها بفضلها وتنبيها على شرفها في جنسها. هناك طباق بين خِفْتُمْ وأَمِنْتُمْ. وعبر بكلمة الشرط فَإِنْ لعدم تحقق وقوع الخوف،

المفردات اللغوية:

وأورد الثانية بكلمة فَإِذا لتحقق وقوع الأمن وكثرته، وأوجز في جواب الأولى مراعاة لظرف الخوف، وأطنب في جواب الثانية لمناسبته ظرف الأمن والاستقرار. المفردات اللغوية: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ داوموا على الصلوات الخمس بإتقان وأداء في أوقاتها وإتمام أركانها وشروطها مع خشوع القلب، دون تضييع ولا عجلة ولا تأجيل. الصَّلاةِ الْوُسْطى من الوسط: وهو العدل والخيار، والوسطى: الفضلى، ويحتمل أنها وسط أو متوسطة في العدد، لأنها متوسطة بين صلاتين قبلها وصلاتين بعدها، وقيل: إنها وسط من الوقت. والراجح من الأقوال: أنها صلاة العصر، لما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن علي مرفوعا يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر» ، وروى أحمد والشيخان: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذا اليوم: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس» ولم يذكر العصر. وفي رواية عن علي عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه: «كنا نعدّها الفجر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي العصر» وأخرج الشيخان: «الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله» . وَقُومُوا لِلَّهِ في الصلاة قانِتِينَ ذاكرين الله تعالى في القيام، مداومين على الضراعة والخشوع، وقيل: مطيعين، لما رواه أحمد: «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» وقيل: ساكتين، لما رواه الشيخان عن زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت، فأمرنا بالسكوت» . فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو سيل أو سبع فَرِجالًا جمع راجل، أي مشاة صلوا أَوْ رُكْباناً جمع راكب، أي كيف أمكن، مستقبلي القبلة أو غيرها، ويومئ بالركوع والسجود، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله. وعن أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلون في حال المشي والمسابقة، ما لم يمكن الوقوف. فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي صلوا على النحو الذي علمكم إياه من الإتيان بالفرائض وحقوق الصلاة كاملة. سبب النزول: أخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والبيهقي وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات

المناسبة:

على أصحابه، فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر، وبه قال جماعة. وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. وأخرج الأئمة الستة وغيرهم عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. المناسبة: ختمت آيات الأحكام السابقة في العبادات والمعاملات ومعاملة الزوجات بالأمر بتقوى الله والتذكير بعلمه بحال عباده وما أعد لهم من جزاء على العمل، لتقوية الوازع الديني في النفوس، كما هي سنة القرآن. ثم توسطت آيات المحافظة على الصلاة آيات أحكام الأسرة لحكمة «1» : وهي الحاجة إلى مذكّر عملي يصل الإنسان بالله، للترفع عن البغي والعدوان، والميل إلى العدل والإحسان في معاملة الأسر، ولا سيما بعد الطلاق الذي يولد الشحناء والبغضاء، وذلك المذكّر هو الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتدعو إلى الإحسان والتسامح، وتنفي الجزع وتنسي هموم الدنيا، فتتربى النفس الإنسانية على أفضل سلوك، وأقوم طريق، وإشارة إلى أنه يجب ألا تشغلنا البيوت وأوضاعها ولا أنفسنا عن الصلاة.

_ (1) قال المفسرون: هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها والمطلقات، وهي متقدّمة عليهن في النزول متأخرة في التلاوة ورسم المصحف (البحر المحيط: 2/ 239) .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: داوموا على الصلوات جميعها، لما فيها من مناجاة الله ودعائه والثناء عليه، ولأنها عماد الدين، ولما لها من الأثر الفعال في تطهير النفس، إذا كانت على النحو المقرر في الحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» «1» . والصلاة الوسطى داخلة في الصلوات، وإنما خصها الله بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها، وتذكيرا بها، سواء أكانت صلاة الظهر بسبب شدة الحر في الأقاليم الحارة، ولأنها في وسط النهار، كما رجح القرطبي، أم صلاة العصر حيث يشغل الناس عنها لإنهاء أعمالهم اليومية، وشكرا لله تعالى على التوفيق في إنجاز العمل اليومي الذي يعود بالثمرة الطيبة على النفس والأهل والوطن، أم صلاة الصبح، كما قال ابن عباس وابن عمر وأبو أمامة وعلي، بسبب الحرص على النوم والتكاسل عن أدائها، ولأنها أثقل صلاة على المنافقين، أم غير ذلك وهي المغرب أو العشاء أو الجمعة، وفي ذلك سبعة أقوال للعلماء، رجح ابن العربي أن تعيينها متعذر «2» . وقوموا خاشعين لله في صلاتكم، متفرغين من كل مشاغل الدنيا التي تصرف القلب عن الخشوع، ذاكرين الله دون سواه، ساكتين لا تتكلمون بغير آي القرآن والدعاء والمناجاة بحسب تنظيم الشرع أحوال الصلاة. والقنوت في رأي مجاهد: هو السكوت، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في سبب النزول المتقدم. والمحافظة على الصلاة في وقتها مع الخشوع وحضور القلب دليل الإيمان وصحة الإسلام، وأخوة الدين، وحفظ الحقوق، والمحافظ عليها هو الذي يرجى خيره، ويؤمن شره، روى أحمد وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: سمعت

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (2) أحكام القرآن: 1/ 224، وانظر أيضا البحر المحيط: 2/ 240 وما بعدها.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «العهد الذي بيننا وبينكم: الصلاة، فمن تركها فقد كفر» وروى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه ذكر الصلاة يوما، فقال: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف» . وكان من أثر ترك الصلاة على الوجه الشرعي فشو المنكرات والفواحش، وظهور الخيانة، وزعزعة الأمن على النفس والمال، وكثرة الاعتداءات، وانقباض الأيدي عن فعل الخير، وقلة التراحم والتعاطف، وسوء الظن، وضعف الثقة بين الناس. ونظرا لأهمية الصلاة وخطورتها لم يجز الإسلام تركها في أي حال من الأحوال، لذا قال الله تعالى ما معناه: لا عذر لأحد في ترك الصلاة، حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض من العدو، فإن خفتم أي ضرر من القيام، فصلوا كيفما كان راجلين (مشاة) أو ركبانا. فإذا أمنتم أي زال الخوف عنكم، فاذكروا الله واعبدوه، واشكروه على نعمة الأمن، كما علمكم من الشرائع، وكيفية صلاة الأمن، ما لم تكونوا تعلمون. والمراد: ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن، واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن «1» . وقال القرطبي: المعنى: ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان، واشكروا الله على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء، ولم تفتكم صلاة من الصلوات، وهو الذي لم تكونوا تعلمونه «2» .

_ (1) الكشاف: 1/ 285- 286 (2) تفسير القرطبي: 3/ 225

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها، لفضلهن، وتخصيص الفضلى منهن بزيادة محافظة، أي الزائدة الفضل «1» ، تشريفا لها، كما قال الله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [البقرة 2/ 98] وقال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب 33/ 7] وقال: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن 55/ 68] . 2- لا تسقط الصلاة بحال، ولا يجوز تركها لأي عذر، ولو في حال اللقاء مع العدو، أو في وسط المعارك الحربية، أو في شدة المرض، إذ شرع الإسلام أداءها بكيفية تتناسب مع كل الأحوال، ففي أثناء الخوف تؤدى إما حال الركوب أو حال المشي، أو حال الوقوف إيماء على أي وضع كان. وفي حالة المرض تصلى قياما أو قعودا أو اضطجاعا، أو على جنب، أو بالإشارة إلى الأركان بجفن العين، أو بإجراء الأركان على القلب، كما أبان الشافعية والمالكية وغيرهم، قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين- فيما رواه الجماعة-: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . وسبب عدم سقوطها في كل حال: أنها تذكر بسلطان الله على كل شيء، وبأنه وحده الغاية والهدف، وإليه المرجع والمآل، فإن الأعمال الظاهرة تساعد القلب على استحضار الذات الإلهية، والإقبال على الله في كل شيء صعب أو

_ (1) قال صاحب تفسير المنار (2/ 347) : إن المراد بالصلاة: الفعل، وبالوسطى: الفضلى، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة: وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب، وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى، ويخشع لذكره وتدبر كلامه، لا صلاة المرائين ولا الغافلين.

سهل، وفي حال الصحة أو حال المرض، وفي حال الأمن أو الخوف، فسبحانه وتعالى هو المهيمن على كل شيء، وهو صاحب الجلال والعظمة، وهو وحده الفعال لما يريد، وهو الذي ينجز مطلب عبده إذا أخلص الدعاء له، وكل ذلك أمر مجرب يحتاج إلى الإيمان الصحيح، والعمل الصالح، وصدق الطلب. 3- دل قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى على أن الوتر ليس بواجب، لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد عن ثلاثة، وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة، والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة، وفي حديث الإسراء: «هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي» . 4- إذا كان المراد من قوله تعالى: قانِتِينَ ساكتين وأن القنوت هنا: السكوت كما صحح القرطبي، كانت الآية آمرة بالسكوت في الصلاة، ناهية عن الكلام فيها. قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة، إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته: أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه قال: «من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام، لم تفسد صلاته بذلك» وهو قول ضعيف في النظر، لقول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. وقال مالك: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها، فلو صلّى الإمام ركعتين، وسلّم ساهيا، فسبّحوا للتنبيه، فلم يفقه، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة: إنك لم تتمّ، فأتم صلاتك. فالتفت إلى القوم، فقال: أحقّ ما يقول هذا؟ فقالوا: نعم، صحت صلاة الجميع. ودليله قصة ذي اليدين: وهي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سلّم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: كلّ ذلك لم

يكن، فقال: بعض ذلك قد كان، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أصحيح ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم» . وأما إذا تكلم عابثا فتبطل صلاته. ووافق الشافعية والحنابلة مالكا في أن الصلاة لا تبطل بكلام لمصلحتها إن صدر ذلك سهوا، فمن تكلم بعد أن سلّم قبل إتمام صلاته سهوا بكلام يسير عرفا لمصلحة الصلاة، بأنه سبق لسانه إليه أو نسي الصلاة، لا تبطل صلاته عملا بقصة ذي اليدين، وأضاف الشافعية القول بأن الصلاة لا تبطل بكلام من جهل تحريم الكلام في الصلاة إن قرب عهده بالإسلام. وذهب الحنفية: إلى أن الصلاة تفسد بالكلام عمدا أو سهوا، أو جاهلا، أو مخطئا، أو مكرها، على المختار، بالنطق بحرفين أو بحرف مفهم مثل: «ع» و «ق» ، لتحريم الكلام في الصلاة، ولقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» «2» . وقالوا: إن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم «3» . 5- ذكر أبو بكر الأنباري أن القيام أحد أقسام القنوت، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما. وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الأئمة-: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما، فصلوا قياما» وهو بيان لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. [.....] (2) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود عن معاوية بن الحكم السّلمي. (3) قال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله أحدث من أمره ألا تكلّموا في الصلاة» وقال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: «وقوموا لله قانتين» .

وأجاز جمهور العلماء للمأموم الصحيح أن يصلي قائما خلف إمام مريض لا يستطيع القيام، لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته، تأسّيا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ صلّى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا، وأبو بكر إلى جنبه قائما، يصلي بصلاته، والناس قيام خلفه. والمشهور عن مالك: أنه لا يؤمّ القيّام أحد جالسا، فإن أمّهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمّنّ أحد بعدي قاعدا» . 6- دلت آية فَإِنْ خِفْتُمْ على جواز الصلاة حالة القتال، أو الخوف الطارئة أحيانا، رجالا (مشاة) على الأقدام، وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، ولا تبطل بالقتال، ويسقط استقبال القبلة. وهو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) ، بدليل ظاهر الآية، ويؤيده ما روي في الصحيح عن ابن عمر في حال الخوف: «فإن كان خوف أكثر من ذلك، صلوا قياما وركبانا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها» . وذهب أبو حنيفة: إلى أن الصلاة تبطل بالقتال. لكن ظاهر الآية حجة عليه، وحديث ابن عمر يرد عليه. واختلف العلماء في تحديد صفة الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا: فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم، فيتراءون معا، والمسلمون في غير حصن، حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره، فيخبر بأن العدو قريب منهم ويصف مسيرهم، جادّين فيه، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين، فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف. فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف، ثم ذهب العدو، لم يعيدوا، وقال أبو حنيفة: يعيدون.

أما صلاة الخوف مع الإمام وقسمة الناس قسمين فليس حكمها في هذه الآية، وإنما في سورة النساء. ولا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماهير العلماء. وتشريع صلاة الخوف دليل على أن الصلاة لا تسقط بحال ولا بعذر، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، والله سبحانه وتعالى أمر بالمحافظة على الصلوات في كلّ حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز، وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلّف بحال، ولا يتطرّق إلى فرضيتها اختلال. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتّفق فعلها إلا بالإشارة بالعين، لزم فعلها. وبهذا تميزت الصلاة عن سائر العبادات، كلّها تسقط بالأعذار، ويترخّص فيها بالرّخص. قال ابن العربي: ولذلك قال علماؤنا- وهي مسألة عظمي- إن تارك الصلاة يقتل، لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام، لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها، وأصله الشهادتان «1» .

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 228

وصية الحول للمتوفى عنها زوجها ومتعة كل مطلقة [سورة البقرة (2) الآيات 240 إلى 242] :

وصية الحول للمتوفى عنها زوجها ومتعة كلّ مطلّقة [سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الإعراب: وَالَّذِينَ مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: يوصون وصية، والوصية هاهنا: قائمة مقام المصدر وهو الإيصاء، واللام في لِأَزْواجِهِمْ تتعلّق بالمصدر، أو بالفعل المقدر. مَتاعاً منصوب على المصدر، وغير إخراج: صفة له، أي: متاعا لا يخرجهن، أو منصوب على الحال من الموصين المتوفين، وتقديره: متاعا إلى الحول غير ذوي إخراج، أي مخرجين لهن. وهذه الآية منسوخة بما تقدّمها وهي آية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ.. [البقرة 2/ 234] . المفردات اللغوية: وَيَذَرُونَ يتركون زوجات بعد وفاتهم. وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ أي فليوصوا وصية، أو يوصي الله وصية لأزواجهم، ومن قرأ: وصية بالرفع: كان مرفوعا على أنه مبتدأ، وخبره مقدر، وتقديره: فعليهم وصية لأزواجهم، والجملة من المبتدأ والخبر: خبر الَّذِينَ أو مرفوع بفعل محذوف تقديره: كتبت. مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ أي ليعطوهن ما يتمتعن به من النفقة والكسوة إلى تمام الحول من موتهم، أو جعل الله لهن ذلك متاعا مدّة الحول. غَيْرَ إِخْراجٍ حال أي غير مخرجات من مسكنهن، أي لهنّ ذلك المتاع، وهنّ مقيمات في البيت غير مخرجات منه، ولا ممنوعات من السكنى فيه. فَإِنْ خَرَجْنَ بأنفسهن. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا إثم عليكم يا أولياء الميت.

سبب النزول:

فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ شرعا كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ في صنعه. سبب النزول: نزول الآية (240) : أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حيان: أنّ رجلا من أهل الطائف قدم المدينة، وله أولاد ورجال ونساء، ومعه أبواه وامرأته، فمات بالمدينة، فرفع ذلك إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعطى الوالدين، وأعطى أولاده بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول، وفيه نزلت: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، وَيَذَرُونَ أَزْواجاً الآية «1» . نزول الآية (241) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال: لما نزلت: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة 2/ 236] قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. المناسبة: هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الزواج، وتوسطت بينها آية الأمر بالمحافظة على الصلاة، لأنها عماد الدين، للعناية بها، فمن حافظ على الصلوات، كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته، كما قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة 2/ 45] وقد سبق بيان ذلك.

_ (1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 44- 45

التفسير والبيان:

قال الإمام محمد عبده: وقد خطر لي وجه آخر: هو الذي يطّرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض، من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبديّة ومدنيّة وغيرها، وهو نفي السآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطهما وفهمهما واعتبارهما في الصلاة وغيرها «1» . التفسير والبيان: على الذين يشرفون منكم على الموت، ويتركون زوجات بعدهم أن يوصوا لهنّ بوصية التّمتع المستمر في البيت إلى نهاية الحول، بدون إخراج منه أو منع السكنى فيه. فيكون للزوجة الأرملة النفقة من مال زوجها المتوفى مدّة سنة كاملة، ويجب على الورثة ألا يخرجوا المتوفى عنها زوجها ولا يمنعوا النفقة عنها قبل مضي السنة. وهل هذا الأمر أمر وجوب وإلزام أو أمر ندب واستحباب؟ قولان «2» : 1- قول الجمهور: كانت عدّة الوفاة في أول الإسلام سنة كاملة، مجاراة لعادة العرب، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث في سورة النساء والآية المتقدمة المتأخرة في النزول: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة 2/ 234] ، فصارت عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، بدل السّنة، وتأخذ حقّها المقرر في الميراث. أخرج ابن جرير الطبري عن همام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، كان لها السكنى والنفقة، حولا في مال زوجها، ما لم تخرج،

_ (1) تفسير المنار: 2/ 353 (2) البحر المحيط: 2/ 244

ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة: الثّمن إن كان له ولد، والرّبع إن لم يكن له ولد، وعدّتها: أربعة أشهر وعشرا، فقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، وَيَذَرُونَ أَزْواجاً.. الآية، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول. 2- قول مجاهد وأبي مسلم الأصفهاني من قدماء المفسّرين: هذه الآية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء. ورجح الرازي في تفسيره هذا القول. أما مجاهد: فروى عنه ابن جرير أنه يقول: نزل في عدّة المتوفى عنها زوجها آيتان: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وقد تقدمت، وهذه الآية، أما الآية الأولى: فكانت هذه للمعتدة تعتدّ عند أهل زوجها واجبا ذلك، فأنزل الله هذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ.. إلى قوله: عَزِيزٌ حَكِيمٌ، قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره: غَيْرَ إِخْراجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ والعدّة كما هي. أي أنه يجب حمل الآيتين على حالتين: فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفى، والنفقة من ماله، فعدّتها سنة، وإلا فعدّتها أربعة أشهر وعشر، فيكون للعدّة على قوله أجل محتم وهو الأقل، وأجل مخيّر فيه، وهو الأكثر. وأمّا أبو مسلم: فيقول: إن معنى الآية: من يتوفون منكم، ويذرون أزواجا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصية الأزواج، بعد أن يقمن المدّة التي ضربها الله تعالى لهنّ، فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون

بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، على هذا التقدير، فالنسخ زائل. أما الفقهاء: فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إلى أنه لا يجب لها السكنى مدة الأربعة الأشهر والعشر في تركة زوجها، وتعتدّ حيث شاءت. وذهب مالك: إلى أن لها السكنى مدّة العدّة إذا كان المسكن مملوكا للزوج، أو مستأجرا ودفع أجرته قبل الوفاة وإلا فلا، لحديث الفريعة وهو: ما رواه مالك في موطئه عن زينب بنت كعب بن عجرة: أن الفريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» ، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة، ناداني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أمر بي، فنوديت له، فقال: «كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» . قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به «1» . وأما بقية تفسير الآية فهو: فإن خرجن من تلقاء أنفسهن بعد مضي العدّة، فلا إثم عليكم أيها الورثة المخاطبون بتنفيذ الوصية، فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالخروج والتعرّض للخطّاب والزينة والتّزوج، ما دام ذلك

_ (1) رواه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به، ورواه النسائي أيضا وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

لا يتنافى مع الشرع، إذ لا ولاية لكم عليهن، والله عزيز لا يغالب ويعاقب من خالفه، حكيم في كل أمر يراعي مصالح عباده. ثمّ بيّن تعالى حكم متعة المطلّقات عموما، فذكر أنه شرعت المتعة (وهي ما يتّفق عليه الزوجان أو يقدرها القاضي) لكل مطلّقة مدخول بها أو غير مدخول بها، وهذا حقّ على المتّقين الذين يخافون الله ويرهبون عقابه، ومثل ذلك البيان السابق لحقوق الأزواج يبيّن الله لكم سائر الأحكام بآياته المحكمة مع توضيح فائدتها، لتدفعنا إلى الخير في الدنيا والآخرة، ولنتدبر الأشياء ونتعقل ما فيها من الحكمة والموعظة الحسنة والمصلحة الحقيقية. وهل الأمر بالمتعة على سبيل الوجوب أو الندب؟ بيّنا سابقا آراء الفقهاء، وموجزها أن الأمر بالمتعة هنا مستحب عند الجمهور، واجب عند الشافعية، وهو رأي ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وآخرين من التابعين، أما المالكية فقالوا: إن المتعة مستحبة لكل مطلقة، ما عدا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، وقال الشافعية: المتعة واجبة لكل مطلقة قبل الدخول أو بعده، إلا المطلقة قبل الدخول المسمى لها المهر، وقال الحنفية والحنابلة برأي متوسط: المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول التي لم يسمّ لها مهر، مستحبة لغيرها من المطلقات. ولا متعة للمتوفى عنها زوجها لورود النص في المطلقات. والراجح لدي ما ذهب إليه الشافعية وموافقوهم، لأن هذه الآية أثبتت المتعة لكل مطلقة، سواء أكانت مدخولا بها أم لم تكن مدخولا بها، فيكون تعالى قد ذكر أولا المتعة، وأثبتها أو أوجبها لمن طلقت قبل الدخول (المسيس) وعمّ هنا المتعة لكل مطلّقة، فهو تعميم بعد تخصيص. وروى ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً

بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة 2/ 236] ، قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وعلى هذا فإن من طلّق ظلما، أو مللا وسآمة، أو تعسّفا، يحكم عليه بالمتعة، أخذا برأي سعيد بن جبير والشافعية، أو ما يسمى بالتعويض عن الطلاق التعسّفي، ويكون ذلك بقدر حال الزوج من عسر ويسر، وهذا الرأي يحقق المصلحة ويدفع الضرر عما أصاب المرأة من طلاق جائر، ويقلل حالات الطلاق. وتكون أحوال المطلّقات أربعة: 1- مطلّقة مدخول بها قد فرض لها مهر، فلها كل المفروض، لقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة 2/ 229] ، وقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء 4/ 4] ، وعدتها ثلاثة قروء. 2- ومطلّقة غير مدخول بها ولا مفروض لها: فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلّق، ولا مهر لها، لقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة 2/ 236] ولا عدة عليها. 3- ومطلّقة مفروض لها غير مدخول بها: لها نصف المهر المفروض، لقوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة 2/ 237] ولا عدّة عليها. 4- ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها: لها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها العصبات بلا خلاف، لقوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء 4/ 24] ، ومعناه في رأي بعضهم: فأعطوهنّ مهورهنّ بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى.

فقه الحياة أو الأحكام:

هذا مع ملاحظة أن الله تعالى لم يأمرنا بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلّقات إلا غير المدخول بهنّ (غير الممسوسات) مطلقا أي سواء سميّ لهنّ مهر أو لم يسم كما في آية الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب 33/ 49] ، أو مقيّدا بحالة عدم تسمية المهر بقوله: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة 2/ 236] ، أي مدّة عدم مسّكم إياهنّ وتسمية المهر لهنّ، أي فحينئذ يجب عليكم شيء وهو المتعة بقوله: وَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهنّ شيئا يتمتّعن به، كما بيّنا سابقا. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على أمرين: الأول- عدّة المتوفى عنها زوجها: وهي حول كامل تسكن فيه في بيت المتوفى عنها، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت، لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها. ثمّ نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالرّبع والثّمن في سورة النساء، كما قال ابن عباس وقتادة والضّحاك وابن زيد والرّبيع. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثمّ جعل الله لهنّ وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عزّ وجلّ: غَيْرَ إِخْراجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. الثاني- متعة المطلّقات: واختلف الناس في الآية، فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكلّ مطلّقة، وكذلك قال الزّهري، وسعيد بن جبير، والشافعي في الأصحّ، لكنه استثنى المطلّقة قبل الدخول المسمّى لها المهر. وقال مالك:

موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والإنفاق [سورة البقرة (2) الآيات 243 إلى 245] :

تستحب المتعة لكل مطلّقة إلا المطلّقة قبل الدّخول، وقد سمّى لها صداقا، فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمّى لها، كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حدّ. وزعم ابن زيد أن هذه الآية نسختها الآية المتقدمة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة 2/ 237] ، وهي المطلّقة التي سمّي لها المهر ولم يدخل بها، لها نصف المسمّى، فأخرجت من المتعة. وأوجب الشافعية المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا؟! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمّى لها صداقا أم لا. موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والإنفاق [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

الإعراب:

الإعراب: مَنْ ذَا الَّذِي من: استفهامية مبتدأ، وذا: خبره، والذي: صفة: ذا أو بدل منه. قَرْضاً منصوب، لأنه اسم أقيم مقام المصدر، وهو الإقراض، فانتصب انتصاب المصدر. فَيُضاعِفَهُ بالنصب، معطوف بالفاء حملا على المعنى دون اللفظ، كأنه قال: من ذا الذي يكون منه قرض، فتضعيف من الله تعالى، فقدر (أن) بعد الفاء ونصب بها الفعل، وصيّرها مع الفعل في تقدير مصدر، ليعطف مصدرا على مصدر. وعلى قراءة الرفع: إما معطوف على صلة الَّذِي وهو يُقْرِضُ، وإما منقطع عما قبله. البلاغة: قال أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط: 3/ 253) : تضمنت الآية الكريمة من ضروب البلاغة وصنوف البيان أمورا كثيرة، منها الاستفهام الذي أجري مجرى التعجّب في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ والحذف بين مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ أي فماتوا ثمّ أحياهم، والطّباق في قوله: مُوتُوا وأَحْياهُمْ، وكذلك في قوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، والتكرار في قوله: فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ووَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، والالتفات في وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والتشبيه بدون الأداة في قوله: قَرْضاً حَسَناً شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله بالقرض الحقيقي، فأطلق عليه اسم القرض، والتجنيس في قوله: فَيُضاعِفَهُ وقوله: أَضْعافاً. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ استفهام تعجيب واعتبار وتشويق إلى استماع ما بعده، أي ألم ينته علمك، والرؤية بمعنى العلم، إذ الاستفهام الحقيقي محال على الله. وَهُمْ أُلُوفٌ أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا، وهو جمع كثرة، والقلّة: آلاف، ومعناه كثرة كاثرة وألوف مؤلفة. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول لأجله، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففرّوا، والحذر: الخوف والخشية. مُوتُوا أي فماتوا. ثُمَّ أَحْياهُمْ بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيّهم حزقيل، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن، واستمرت في أسباطهم. لَذُو فَضْلٍ ومنه إحياء هؤلاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار. لا يَشْكُرُونَ القصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال، ولذا عطف عليه الأمر بالقتال بقوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دينه. سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأحوالكم فيجازيكم. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أي يتصدّق لوجه الله. قَرْضاً حَسَناً بأن ينفقه لوجه الله عن طيب قلب.

سبب النزول نزول الآية (245) :

فَيُضاعِفَهُ يضيف له مثله ومثله. أَضْعافاً كَثِيرَةً من عشرة إلى أكثر من سبعمائة. يَقْبِضُ يقتر أو يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء. وَيَبْصُطُ يوسعه لمن يشاء امتحانا. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم. سبب النزول: نزول الآية (245) : روى ابن حبان في صحيحة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر، قال: لما نزلت: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة 2/ 261] الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ، زد أمتي فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. المناسبة: ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحكام الأسرة لتنظيم العلاقة بين أفرادها، وبنائها على دعائم وطيدة وأسس ثابتة راسخة، ثم ذكر بعدها أحكام الجهاد للدفاع عن الأمة وصون مقدّساتها والدّفاع عن عقيدتها، إذ لا صلاح للأسرة إلا بصلاح المجتمع، وللجمع بين الحفاظ على المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، فيتحقق التوازن والتعادل بين ما يحفظ الجماعة وما يحفظ الفرد والأسرة، بل إن صون المصالح الخاصة لا يتمّ في الحقيقة بدون صيانة المصالح العامة وحماية الأمة، والذود عن حياضها ووجودها أمام أعدائها. التفسير والبيان: ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم، وهم قوم كثيرون من بني إسرائيل، لما لحقهم العدو وطاردهم؟ خرجوا وهم كثرة تعدّ بالألوف المؤلفة، حذر الموت والخوف منه، بسبب الجبن والخوف والهلع، وضعف

العزيمة، وعدم الإيمان بالله ورسله، مع أن كثرتهم تدعو إلى الثبات، والشجاعة، والصمود، والدفاع عن النفس والحمى. ولم يبيّن الكتاب الكريم عددهم وجنسهم وبلدهم، لأن المقصود هو العظة والاعتبار، وذكر جماعة من السلف أنهم قوم من بني إسرائيل أو في زمان بني إسرائيل وهم أهل قرية يقال لها: داوردان: قرية على فرسخ من قبل واسط، أو أهل أذرعات، خرجوا هاربين فرارا من الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فتمكن منهم العدو، ففتك بهم، وقتل أكثرهم، وفرّق شملهم، أو أنّ الله أماتهم دون قتال ثم أحياهم، ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله وقضائه. وعلى التأويل الأول: لما فرّوا أماتهم الله ببطش أعدائهم وتنكيله بهم وتعذيبه لهم، ولم يكن تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم وتخاذلهم، ثم أحياهم الله بدعاء نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فأحسّوا بخطئهم الفاحش، وكتّلوا صفوفهم، وقاتلوا عدوهم بإخلاص، واستعادوا عزّتهم وكرامتهم واستقلالهم. وقيل عن الضّحّاك: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، فهربوا، حذرا من الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم، ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قال ابن عطية: وهذا القصص كلّه ليّن الأسانيد. وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة. وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة. وقوله: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا قال فيه الزمخشري: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة، للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد، بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقّف، كقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ:

كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرّض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بدّ، ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله «1» . وقال أبو حيان: وفي الكلام حذف، التقدير: فماتوا، وظاهر هذا الموت: مفارقة الأرواح الأجساد، قيل: ماتوا ثمانية أيام، وقيل: سبعة أيام «2» . وعلى أي حال فقد وقع الموت والإحياء فعلا، كما يدل عليه ظاهر الآية، والله على كل شيء قدير، وتكرر مثل هذا في زمان بني إسرائيل وغيرهم في قصص القرآن. وإذ لم تثبت الروايات المنقولة في سبب خروج القوم، أهو الفرار من الحمّى أو الطاعون، أو الفرار من الجهاد، فإني أرى أن المعنى ما رآه الطبري: وهو أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله تعالى. ثم أحياهم، ليروا هم وكلّ من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى، لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد. إن الله لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة، وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، أو لذو فضل عليهم فيما ابتلاهم به من الطاعون أو المرض أو العدو، ليعتبروا ويتعظوا ويأخذوا من المصائب عبرة ودرسا في الإيمان، أو فيما تتمخض عنه الحوادث من تصفية وصقل وتمييز الخبيث من الطيب، لأن الحوادث تنبت الرجال، وتحيي الأمة، وتوقظها من رقادها، وتنبهها إلى أخطائها ومفاسدها.

_ (1) الكشاف: 1/ 286 (2) البحر المحيط: 2/ 250

فقه الحياة أو الأحكام:

ولكن أكثر الناس لا يؤدون شكر ما أنعم الله عليهم في دينهم ودنياهم، لذا أمر الله تعالى بالتضحية والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ونشر الدين، لأنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، والله سميع لكل قول، عليم بكل فعل، يحاسب كل إنسان على ما قدم. وبما أن لفناء الأمم سببين: الجبن والبخل، قرن الله الآية السابقة التي تندد بالجبن والخوف والفرار من قدر الله، بالآية التي تدعو إلى البذل والإنفاق: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ.. إذ عبر الله تعالى عن الإنفاق بالقرض، ليحث عباده على الإنفاق في سبيل الله، وكرر الله تعالى هذه الآية في غير موضع من كتابه العزيز، ولله ملك السموات والأرض، وبيده وحده خزائن السموات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويضاعف ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله، ومن نماذج تضعيف الثواب ما قاله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 261] ، فأنفقوا ولا تبالوا، فالله هو الرزاق، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك، وإليه المرجع والمآب يوم القيامة، فاعملوا أيها المؤمنون عملا صالحا تجدون ثمرته عند الرجوع إلى الله في الدار الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: يرى القرطبي أن أصح الأقوال وأشهرها عملا بما روي عن ابن عباس: أنهم خرجوا فرارا من الوباء، فقال ابن عباس: خرجوا فرارا من الطاعون، فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم الله. وروي عن الحسن البصري أيضا أنهم فروا من الطاعون «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 232، وانظر أحكام القرآن للجصاص: 1/ 450

1 - الأعمار والأقدار والبلايا والأمراض بيد الله:

وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية: 1- الأعمار والأقدار والبلايا والأمراض بيد الله ، والإيمان بذلك واجب، ولن يغني في الواقع حذر من قدر، ولكن لما كانت الأقدار غير معروفة لدينا، جاز للإنسان اتخاذ أسباب الوقاية من المكاره، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، والحذر من المهالك، قال الله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء 4/ 71] وقال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] فإذا نزلت المصيبة فعليه الصبر وترك الجزع، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها، فرارا منه. وهكذا الواجب على كل متقّ من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» «1» . وهذا ما دلت عليه الأحاديث، روى الأئمة، واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الوجع «2» ، فقال: «رجز أو عذاب عذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض، فلا يقدمنّ عليه، ومن كان بأرض وقع بها، فلا يخرج فرارا منه» . وبمقتضى هذا الحديث ونحوه عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم، لما رجعوا من سرغ «3» حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. روى الزهري عن ابن عباس: أن عمر خرج إلى الشام،

_ (1) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة. (2) ورد الحديث في البخاري في كتاب الحيل بلفظ الوجع، وفي كتاب الطب بلفظ الطاعون. (3) سرغ: قرية بوادي تبوك على طريق الشام، وهي على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.

2 - وجوب القتال:

حتى إذا كان بسرغ، لقيه التجار، فقالوا: الأرض سقيمة، فاستشار المهاجرين والأنصار، فاختلفوا عليه، فعزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟! فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت بها واديا له عدوتان «1» : إحداهما خصيبة، والأخرى جديبة، ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله، فجاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: عندي من هذا علم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم به في أرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه» فحمد الله عمر وانصرف. ومعنى قول عمر: لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهالك، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. وإذا كانت الآجال محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها، فإن وجه النهي عن دخول أرض الطاعون في الحديث: هو أن الإنسان لو مات فيها فلا يقول: لو لم يدخلها ما مات. 2- وجوب القتال: قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقتال في سبيل الله، في قول الجمهور، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا، وسبل الله كثيرة، فهي عامة في كل سبيل. قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا.

_ (1) العدوة: جانب الوادي وحافته، قال الله تعالى: وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى والخصيبة والخصبة بمعنى واحد. [.....]

3 - الإنفاق في سبيل الله:

وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك. والواو في قوله وَقاتِلُوا على القول الأول: عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. وعلى القول الثاني عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم: قاتلوا. 3- الإنفاق في سبيل الله: لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق، حرّض على الإنفاق في ذلك، لأن إعداد المقاتلة والجيش يحتاج إلى نفقات كثيرة، وفي النفقة في سبيل الله ثواب عظيم، كما فعل عثمان رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة. قصة أبي الدحداح: روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، أو إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: «نعم، يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي عز وجل حائطي (بستاني) وكان له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه، وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل. 4- أداء القرض: يجب على المستقرض رد القرض، لأن الله تعالى بيّن أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى، بل يردّ الثواب قطعا، وأبهم الجزاء، وفي الخبر: «النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر» . 5- ثواب القرض: ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه، أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض

6 - بعض أحكام القرض:

بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» . 6- بعض أحكام القرض: على المقترض رد مثل ما أقرضه، ويجوز إقراض النقود والأطعمة والحيوان، وأجمع المسلمون على أن اشتراط الزيادة في السلف ربا، ولو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه نصا أو عرفا، لأن ذلك من باب المعروف، استدلالا بحديث أبي هريرة لدى البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة في البكر «1» : «إن خياركم أحسنكم قضاء» . ولا يجوز- في رأي مالك- أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها، إلا أن يكون عادتهما ذلك، كما جاء في السنة، أخرج ابن ماجه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته، فلا يقبلها ولا يركبها، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» . وهل يجوز القرض أو التصدق بالعرض؟ أي من سبّك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. فيه رأيان: رأي يجوز عملا بحديث أبي ضمضم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك» . وقال أبو حنيفة وروي عن مالك: لا يجوز التصدق بالعرض، لأنه حق الله تعالى، وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» .

_ (1) البكر: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة.

قصة النبي صمويل والملك طالوت وترك بني إسرائيل الجهاد [سورة البقرة (2) الآيات 246 إلى 247] :

قصة النّبي صمويل والملك طالوت وترك بني إسرائيل الجهاد [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 247] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) الإعراب: عَسَيْتُمْ من أفعال المقاربة، يشبه «كان» في رفعه الاسم ونصبه الخبر، ولا يكون خبرها إلا «أن» مع الفعل، والتاء والميم في عسيتم: اسمها، وألا تقاتلوا: خبرها، وقد فصل الشرط بين الاسم والخبر وهو: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ. وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ: ما: مبتدأ، و «لنا» خبره، وتقديره: أي شيء لنا في ألا نقاتل، فحذف حرف الجر. وقيل: أن: زائدة، ولا نقاتل: جملة فعلية في موضع الحال، وتقديره: وما لنا غير مقاتلين. وطالوت: اسم أعجمي كجالوت وداود، وإنما امتنع من الصرف للعلمية والعجمة. وَاللَّهُ واسِعٌ فيه وجهان: إما بمعنى ذو سعة، مثل: لابن وتامر، أي ذو لبن وتمر، وإما

المفردات اللغوية:

بمعنى: موسع، على طريقة حذف الزوائد، كقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر 15/ 22] بمعنى ملقحات. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ استفهام مفاده: ألم ينته إلى علمك خبر الملأ: وهم الجماعة الأشراف أو القوم، سموا بذلك لأنهم يملئون العيون رهبة إذا اجتمعوا. والنّبي: هو شمويل معرّب صمويل أو صموئيل ابْعَثْ أقم لنا ملكا نقاتل معه في سبيل الله لتنتظم به كلمتنا ونرجع إليه. هَلْ عَسَيْتُمْ أراد بالاستفهام، التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان 76/ 1] معناه التقرير وأَلَّا تُقاتِلُوا: خبر عسى وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ: وأيّ داع لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه. وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي بسبيهم وقتلهم، وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت، أي لا مانع من القتال مع وجود مقتضيه، وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون على ساحل البحر المتوسط بين مصر وفلسطين، فأسروا أربعمائة وأربعين. تَوَلَّوْا عنه وجبنوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين عبروا النهر مع طالوت. قيل: كان عددهم ثلثمائة وثلاثة عشر، على عدد أهل بدر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد، فهو مجازيهم، وسأل النّبي ربه إرسال ملك، فأجابه إلى إرسال طالوت. أَنَّى كيف ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لأنه ليس من سبط المملكة ولا النّبوة، وكان دباغا أو راعيا. والواو في وَنَحْنُ للحال، وفي وَلَمْ يُؤْتَ لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، والمعنى: كيف يتملك علينا؟ والحال أنه لا يستحق التملك، لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير، ولا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن النّبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين، ولأنه كان رجلا سقاء أو دباغا فقيرا. وطالوت: معرب شاول، لقب به لطوله. وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ يستعين بها على إقامة الملك. اصْطَفاهُ اختاره للملك بَسْطَةً سعة فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم وأتمهم خلقا، وكان أطول من كل الشعب، وبسطة الجسم: عظمه وامتداده.

المناسبة:

والظاهر: أن المراد بالعلم: المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب، ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها، فمقومات الملك وهي العلم والجسامة متوافرة فيه، لأن الجاهل مزدرى غير منتفع به، والجسيم أعظم في النفوس وأهيب في القلوب. المناسبة: قال البقاعي: ولعل ختام بني إسرائيل بهذه القصة، لما فيها للنبي صلّى الله عليه وسلّم من واضح الدلالة على صحة رسالته، لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل «1» . وبعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السابقة حكمة تشريع القتال لحماية الحق وصون عزة الأمة وكرامتها، بيّن هنا قصة قوم من بني إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن، لكن جاءت هذه القصة مفصلة تبين ما في القصة الأولى المجملة. والهدف من هذه الآيات البيان للمؤمنين بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة، فليس حكما مخصوصا بهم «2» . التفسير والبيان: ألم ينته إلى علمك قصص جماعة من بني إسرائيل بعد موسى في عصر داود عليهما السلام، حين قالوا لنبيهم، قيل: إنه «صمويل» : اختر لنا قائدا للحرب وجمع الكلمة، فإنا صممنا على طرد أعدائنا واسترداد حقوقنا المغتصبة، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل الله، كما قال الله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء 4/ 84] وقال سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا.. [آل عمران 3/ 167] .

_ (1) محاسن التأويل للقاسمي: 3/ 650 (2) البحر المحيط: 2/ 253

ولكن نبيهم بسبب معرفته لهم وتجربته معهم قال لهم: أتوقع منكم التخلي عن القتال إن فرض عليكم، فردوا عليه: أي شيء يدعونا إلى ترك القتال، وقد أخرجنا من ديارنا وأوطاننا، ومنعنا من أبنائنا، واغتربنا عنهم؟! فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا، تخلفوا عن الجهاد وجبنوا وأعرضوا إلا قليلا منهم، عبروا النهر مع طالوت، وانتحلوا المعاذير، ولكن الله عليم بالذين يظلمون أنفسهم، بتركهم الجهاد في سبيل الله، دفاعا عن أمتهم ووطنهم، وردا لحقهم المغتصب، فصاروا أذلة في الدنيا، معذبين في الآخرة. ثم أوضح القرآن ما دار من نقاش بين شيوخ بني إسرائيل وبين نبيهم صمويل، إذ طلبوا منه أن يختار لهم ملكا، لأن أهل فلسطين تسلطوا عليهم، وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم. فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك، فألحوا، فاختار لهم طالوت (شاول) ملكا وقائدا حربيا. فقالوا: كيف يكون ملكا علينا؟ وهو لا يستحق هذا الملك، لأنه ليس من سلالة الملوك ولا من سلالة الأنبياء، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب، ومنهم داود وسليمان، وكانت النّبوة في سبط لاوي بن يعقوب، ومنهم موسى وهرون، وهناك من هو أحق بالملك منه، ولأنه فقير لا مال له فلا يستطيع الحكم، وهذا قائم على وهم أن الغنى شرط أساسي في الملك، وأن الملك حق موروث، لا يتجاوز أبناء الملوك أو الأشراف، حتى يخضع الناس له، فقولهم أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا..؟ كلام من تعنت وحاد عن أمر الله، وهي عادة بني إسرائيل «1» .

_ (1) البحر المحيط: 2/ 257

فقه الحياة أو الأحكام:

فقال لهم نبيهم: إن الله قد اختاره ملكا عليكم، والله لا يختار إلا ما فيه الخير لكم، وما عليكم إلا الطاعة والامتثال، ومقومات الملك متوافرة فيه وهي ما يأتي: الاستعداد الفطري، وسعة العلم والمعرفة بتدبير الأمور، وبسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر والهيبة وفرض النفوذ، وتوفيق الله تعالى له بسبب أهليته وصلاحه، وهذا هو المراد بقوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ أي الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء ومن يصلح للملك، فلا اعتراض على حكم الله، وهو أعلم بخلقه وبالصالح منكم، وبما يستحقونه، والله واسع عليم، أي واسع التصرف والقدرة، لأحد لسعة قدرته وتصرفه، وواسع الفضل والعطاء يوسع على من يشاء ويغنيه بعد فقر، عليم بما يحقق الحكمة والمصلحة، وبما يؤدي إلى الفوز والنصر، وبمن يصطفيه للملك. فقه الحياة أو الأحكام: هذه قصة أخرى للتحريض على القتال، جرت في بني إسرائيل، يستفاد منها ما يأتي: 1- الجهاد في سبيل الله يتطلب إعدادا نفسيا وتربويا وعلميا، وخبرة وكفاءة ومهارة، وجرأة وشجاعة، وعزيمة صادقة وإخلاصا، وتضحية وتفانيا في سبيل المبدأ والعزة والكرامة، فهو لا يكون بالأماني والتعللات، وإنما بالبطولة ومضاء العزيمة وقوة الإرادة. ولم يكن لدى بني إسرائيل شيء من هذه المقومات لسببين جوهريين: هما خبث النفوس وعدم طهارتها وصدقها، وضعف الإيمان وحب الحياة بدون تضحيات وعناء، لذا تولوا وأعرضوا عن المشاركة في القتال، لفقد مقوماته السابقة.

مع أن القتال يحقق لهم أسمى الآمال من استرداد الحقوق المغتصبة، وتطهير البلاد من المحتل والعدو القاهر، وتتويج الجهود بالعزة والكرامة والفوز والغلبة. 2- إن الملك أو الحكم ليس بالوراثة أو بالغنى، وإنما بالكفاءة والعلم والمهارة، وقوة الشخصية، وصلابة الإرادة. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل: سمي طالوت لطوله. وقد بين الله في هذه الآية تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء. فتضمنت الآية بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة، لا بالنسب، فلا حظّ للنسب فيها، مع العلم وفضائل النفس، وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوّته، وإن كانوا أشرف نسبا. ودل قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ على أن الله مالك جميع ما في الكون من إنسان وحيوان وجماد، إذ إن إضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى في الآية إضافة مملوك إلى ملك. ودلت الآية أيضا على أن منح الملك أو السلطة لإنسان إنما هو بمشيئة الله الذي لا يصدر عنه إلا الخير للناس، فهو يصطفي لهم من يحقق المصلحة وتتوافر فيه الكفاءة المطلوبة. 3- لا ينضب الخير في الأمة، فإن تولى الأكثرون عن واجب الجهاد، فإن الخير في القليل، والخيار هم الأقلون، وهم يعملون ما لا يعمله الأكثرون، والله عليم بأعمال هؤلاء فيجازيهم خيرا، وعليم بأفعال الظالمين، فيعذبهم بما يستحقون.

إثبات ملك طالوت واختباره الأتباع وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة [سورة البقرة (2) الآيات 248 إلى 252] :

إثبات ملك طالوت واختباره الأتباع وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة [سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

الإعراب:

الإعراب: آيَةَ أصلها: «أيية» فقلبت العين التي هي الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من التابوت، وكذلك تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من التابوت أيضا. غُرْفَةً قرئ بفتح الغين وضمها مثل حسوة وحسوة. كَمْ مِنْ فِئَةٍ.. كم: للعدد وهي هنا خبرية، ويراد بها الكثرة، وهي مبنية كنقيضتها «ربّ» ، وهي مبتدأ، وغلبت: خبره. دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قرئ أيضا: دفاع الله، وهما مصدران لدفع، وكل من المصدرين مضاف إلى الفاعل. والناس: مفعول المصدر المضاف، وبعضهم: بدل من الناس. تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، ونَتْلُوها جملة فعلية حال من آياتُ. البلاغة: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً: فيه استعارة تمثيلية، فقد شبه حالهم والله تعالى يفيض عليهم بالصبر، بحال الماء الذي يصب على الجسم كله. المفردات اللغوية: آيَةَ علامة التَّابُوتُ الصندوق المحفوظ فيه التوراة، ويروى أنه مصنوع من خشب مموه (مطلي) بالذهب، أخذه العمالقة ثم ردوه إلى بني إسرائيل الذين كانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه في القتال، ويسكنون إليه، كما قال تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ فيه طمأنينة لقلوبكم. ثم أخذه الفلسطينيون من بني إسرائيل حينما انتصروا عليهم، ولما طلب الإسرائيليون من نبيهم صمويل الذي كان قاضيا أن يبعث لهم ملكا، ففعل، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت. وَبَقِيَّةٌ أي قطع الألواح، وعصا موسى ونعلاه، وعمامة هارون، وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ على ملكه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت، فأقروا بملكه، وسارعوا إلى الجهاد، فاختار من شبابهم سبعين ألفا. فَلَمَّا فَصَلَ خرج عن بلده بيت المقدس مصاحبا الجنود، لقتال العمالقة، وكان الحر شديدا، وطلبوا منه الماء قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ مختبركم، والابتلاء: الاختبار والامتحان بِنَهَرٍ كان بين فلسطين والأردن، وكان الاختبار بشرب شيء من مائه ليظهر المطيع من العاصي. فَلَيْسَ مِنِّي أي من أتباعي وأنصاري وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يذقه غُرْفَةً المقدار

التفسير والبيان:

الذي يملأ الكف بالاغتراف، وكان المسموح به هو غرفة واحدة لا زيادة عليها. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أصحاب الغرفة الذين اقتصروا عليها، وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا لا طاقَةَ قوة بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا طاقة بقتالهم وقد جبنوا ولم يجاوزه الذين شربوا من النهر، وجالوت: أشهر أبطال الفلسطينيين أعدائهم. كَمْ مِنْ فِئَةٍ كم: خبرية بمعنى كثير، والفئة: الجماعة من الناس، سواء كانوا قليلين أو كثيرين وَلَمَّا بَرَزُوا ظهروا لقتالهم وتصافوا أَفْرِغْ أصبب وَثَبِّتْ أَقْدامَنا قونا على الجهاد ولا تزلزلنا عند المقاومة. فَهَزَمُوهُمْ كسروهم بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته وَقَتَلَ داوُدُ وكان في عسكر طالوت، وهو داود بن يسّى، وكان راعي غنم، وله سبعة إخوة هو أصغرهم. وَآتاهُ أي داود الْمُلْكَ في بني إسرائيل وَالْحِكْمَةَ النبوة بعد موت شموئيل (صموئيل) وطالوت، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبل داود، وعليه نزل الزبور، كما قال تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء 4/ 163] . وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ [البقرة 2/ 251] كصنعة الدروع، كما قال تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ، لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء 21/ 80] ومعرفة منطق الطير، كما قال تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل 27/ 16] وفصل الخصومات، لقوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص 38/ 20] . لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بغلبة المشركين، وقتل المسلمين، وتخريب المساجد. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فدفع بعضهم ببعض تِلْكَ هذه الآيات نَتْلُوها نقصها عَلَيْكَ يا محمد بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أكد الكلام بإن واللام ردا لقول الكفار: لست مرسلا. التفسير والبيان: كان لبني إسرائيل مواقف تشدد وغلو ومطالب مادية مع أنبيائهم، ومنها هذا الموقف، إذ لم يقبلوا باختيار طالوت ملكا عليهم واشتدوا في عنادهم، فقال لهم نبيهم: هناك دليل مادي على صحة اختياره ملكا وقائدا لكم، وعلامة ذلك عودة التابوت (وكان له شأن ديني عندهم) إليكم عن طريقه ووصوله إلى بيته، وفيه تحقيق الطمأنينة لقلوبكم وارتياح ضمائركم، وبخاصة عند ما تقدمونه رمزا وشعارا وحاميا في قتالكم، وفيه أيضا بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وتلك

البقية: هي قطع الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون وشيء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون. وقول النبي لهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ لا يكون إلا بوحي، لأنهم سألوه تعيين ملك لهم يقاتل في سبيل الله، فأخبرهم النبي أن الله قد بعثه لكم. وستحمل الملائكة التابوت إلى طالوت تشريفا وتكريما له، وإن في مجيئه أو عودته دليلا على عناية الله بكم، واختيار طالوت قائدا لكم، لينهض بشؤونكم، وينتصر على عدوكم، فعليكم مؤازرته والرضا بملكه إن كنتم صادقي الإيمان بالله تعالى. فالتفّ الناس حول قيادته واختار من شبابهم سبعين أو ثمانين ألفا، وكان الوقت حرا، فأراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدقهم في القتال، فلما خرج طالوت من البلد مع هؤلاء الجند، بدأ بالاختبار، كما يفعل كل قائد حكيم. فقال لهم: إن الله مختبركم- وهو الأعلم بكم- بنهر يصادفنا في أثناء الطريق إلى الأعداء، فمن شرب منه فليس من أتباعي وأنصاري، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبي وأعواني، وكذا من اغترف بيده غرفة فقط يبل بها ريقه ويدفع بها شيئا من العطش، فالمرفوض هو النوع الأول، والمقبول: النوعان الآخران. فكانت نتيجة الاختبار: أن شربوا منه جميعا، لاعتيادهم العصيان، وضعف الإيمان، إلا قليلا منهم وهم أهل الإيمان، وصدق الاتباع، والإخلاص في الدين. والخير في الواقع في هذه الفئة القليلة، التي تفعل بصدق إيمانها، وصلابة عزيمتها ما لا تفعله الفئة الكثيرة العدد، ولكنها غثاء كغثاء السيل. فلما جاوز طالوت النهر مع هذه القلة من المؤمنين الصادقين الذين أطاعوه ولم يخالفوه فيما منعهم منه، ثم تبعهم الذين شربوا من النهر أخيرا، قال بعض

الجيش المؤمن لبعض، لما رأوا جالوت وكثرة جنوده، وتفوقهم عددا وعددا: لا قدرة لنا على محاربة هؤلاء الأعداء، وهم جالوت وجنوده، فضلا عن الأمل في التغلب عليهم، فرد عليهم بقية المؤمنين الذين يوقنون بلقاء ربهم ومجازاته على أعمالهم في الآخرة، والذين ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة في سبيل الله، وإما النصر على الأعداء: لا تغرنكم كثرة الأعداء، فكثيرا ما غلبت الفئة القليلة العدد بقوة إيمانها ومشيئة الله الفئة الكثيرة العدد، والله مع الصابرين بالتأييد والعون، فإن النصر مع الصبر. ولما ظهر طالوت ومن معه من جماعة المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين: جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد وقوة العدد، لجأوا إلى الله يدعونه، كما هي عادة المضطر الخائف الذي لا يجد ملاذا غير الله في وقت الشدة وعسر المحنة، فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي ألهمنا الصبر، وثبّت نفوسنا في القتال، وحقق النصر لنا على الكافرين: عبدة الأوثان، الذين يحبون الدنيا وتمتلئ قلوبهم بالأباطيل. وهذا دعاء عظيم في مثل هذا الموقف الرهيب، وفيه حكمة وعقل، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأحق الناس بالنصر هم المؤمنون. وهنا تجلت عظمة الله ونعمته عند صدق الإيمان وصدق اللجوء إليه، فأذن بنصر المؤمنين، واستجاب دعاءهم، وهزمت الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته، وقتل داود الفتى القوي جالوت جبار الفلسطينيين في مبارزة، إذ رماه بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ثم دنا منه، وأخذ سيفه، واحتزّ به رأسه، وجاء به فألقاه بين يدي طالوت، وانهزم جنوده وأتباعه. فاشتهر داود بين الناس، وورث ملك بني إسرائيل، وآتاه الله النبوة، وأنزل عليه التوراة، وعلمه صنعة الدروع، وعرفه منطق الطير، وعلمه علوم

الدين وكيفية فصل الخصومات، كما قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ، وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص 38/ 20] ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله، إذ كان لبني إسرائيل في الماضي نبي وملك، وكان النبي قبل داود هو شمويل (صموئيل) ، والملك هو طالوت، فلما توفيا صار له الملك والنبوة. ثم بيّن الله تعالى الحكمة من القتال، فإذا كانت الحرب ظاهرة اجتماعية منذ أن اقتتل أبناء آدم، فقتل قابيل هابيل، ولا تخلو من ضرر وخطر، فإنها لا تخلو أيضا من نفع وخير، فلولا دفع الله أهل البغي والشر بأهل العدل والإصلاح والخير، وتسليط جماعة على أخرى، لغلب أهل الفساد، وفسدت الأرض، وعمت الفوضى، وساد الظلم، وهدّمت أماكن العبادة لذكر الله، ولكن الله ذو فضل كبير على الناس جميعا، وذو رحمة بهم، حيث يسلط على الظالم من يهلكه، ويدحر أهل الباطل بجند الحق، فإذا ظهر ظالم آخر، أرسل الله له في الوقت المناسب من يخلص الناس منه، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب، ويؤيد أعوانه في اللحظة الحاسمة التي يريدها. تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد، وتلك القصص الغابرة نعرفك بها، فهي مطابقة للواقع والتاريخ، ولم تكن تعلمها، لأنك نبي أمي، لتكون دليلا على صدق نبوتك وصحة رسالتك، وليقتنع بها معاصروك وتصدّق بها الأجيال المتلاحقة على ممر الزمان، وهكذا تكون القصص عبرة وعظة يستفيد منها كل إنسان، كما قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً، وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف 12/ 111] .

أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت:

أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت «1» : ظل بنو إسرائيل بعد مجيئهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السّلام من غير ملك 356 سنة، وتعرضوا في تلك الفترة لغزوات الأمم القريبة منهم كالعمالقة من العرب، وأهل مدين وفلسطين والآراميين وغيرهم، فمرة يغلبون وتارة يغلبون. وفي أواسط المائة الرابعة أيام «عالي الكاهن» تحارب العبرانيون مع الفلسطينيين سكان أشدود قرب غزة، فغلبهم الفلسطينيون، وأخذوا تابوت العهد منهم، وهو التابوت (الصندوق) الذي فيه التوراة أي الشريعة، فعزّ عليهم ذلك، لأنهم كانوا يستنصرون به. وكان من قضاة بني إسرائيل نبي اسمه صمويل، جاء إليه جماعة من أشرافهم وشيوخهم في بلدة الرامة، وطلبوا منه تعيين ملك عليهم، يقودهم إلى قتال أعدائهم الذين أذلوهم وقهروهم زمنا طويلا، فلم يقتنع بمطلبهم لما يعلمه من تخاذل نفوسهم، إن فرض عليهم القتال، فأجابوه بأن دواعي القتال موجودة: وهي إخراج الأعداء لهم من أوطانهم وأسرهم أبناءهم. فجعل عليهم طالوت ملكا، واسمه في سفر صمويل: شاول بن قيس، من سبط بنيامين، وكان شابا جميلا عالما وأطول بني إسرائيل، فرضي به جماعة، ورفضه آخرون، لأنه ليس من سلالة الملوك، وهو راع فقير. وحاول صمويل إقناعهم بكفاءة طالوت وجدارته للملك والسلطة، وحسن الاختيار، ورضا الله عنه، وأن الدليل المادي على ملكه هو عودة التابوت الذي أخذه منهم الفلسطينيون إليهم، وأن الملائكة تحمله إلى بيت طالوت تشريفا وتكريما له، فرضوا به. قام طالوت بتكوين الجيش وجمع الجنود لمحاربة الفلسطينيين (العمالقة)

_ (1) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص 303، ط رابعة.

فقه الحياة أو الأحكام والعبرة من هذه القصة:

بزعامة أو إمارة جالوت الجبار الذي كان قائدهم وبطلهم الشجاع الذي يهابه الناس. وتم فعلا اختيار سبعين أو ثمانين ألفا من شباب بني إسرائيل، وخرج معهم لقتال الأعداء. ولكن حكمة القائد طالوت ومعرفته بهم وتشككه في صدقهم وثباتهم، دفعته إلى اختبارهم في أثناء الطريق وفي وقت الحر بالشرب من نهر بين فلسطين والأردن، فتبين له عصيان الأكثرين، وطاعة الأقلين، فتابع الطريق وتجاوز النهر مع القلة المؤمنة، ولكن بعضهم قالوا حين مشاهدة جيش جالوت العظيم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فرد عليهم الآخرون بأنه كثيرا ما غلبت الفئة القليلة فئات كثيرة بإذن الله. وكان من حاضري الحرب داود بن يسّى الذي كان شابا صغيرا راعيا للغنم، لا خبرة له بالحرب، أرسله أبوه ليأتيه بأخبار إخوته الثلاثة مع طالوت، فرأى جالوت يطلب المبارزة، والناس يهابونه، فسأل داود عما يكافأ به قاتل هذا الفلسطيني، فأجيب بأن الملك يغنيه غنى جزيلا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرا. فذهب داود إلى طالوت يستأذنه بمبارزة جالوت أمير العمالقة وكان من أشد الناس وأقواهم، فضن به وحذره، فقال: إني قتلت أسدا أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دب فقتلته. ثم تقدم بعصاه وخمسة أحجار ماس في جعبته، ومعه مقلاعه، وبعد كلام مع جالوت، رماه داود بحجر، فأصاب جبهته فصرع، ثم تقدم منه وأخذ سيفه، وحزّ به رأسه، وهزم الفلسطينيون، فزوجه الملك ابنته «ميكال» وجعله رئيس الجند. فقه الحياة أو الأحكام والعبرة من هذه القصة: ذكر أن التابوت أنزله الله على آدم عليه السّلام، ثم وصل إلى يعقوب عليه

السلام، فكان في بني إسرائيل، يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا، فغلبوا على التابوت، غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه، وسلبوا منهم التابوت. وهذا أدل دليل على أن العصيان سبب الخذلان، كما أوضح القرطبي «1» . وظاهر بداية الآية: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ... وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوة هذا النبي الذي كان معهم «2» . ودل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ على مبدأ سد الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، لذا لم يقل: «ومن لم يشرب منه» . ودل ذلك أيضا على أن الماء طعام، وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به، فوجب أن يجري فيه الربا، وهو الصحيح من مذهب مالك، وهو أيضا مذهب الشافعي، فلا يجوز بيع الماء متفاضلا، ولا يجوز إلى أجل، والعلة فيه: كونه مأكولا ومتحد الجنس. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل. ولا يجوز بيعه كذلك عند محمد بن الحسن، لأن علته في الربا الكيل والوزن، وهو مما يكال ويوزن. ودفع الله الناس بعضهم ببعض قد يكون بجماعة في مواجهة أخرى، وقد يكون بالفرد الواحد، قال ابن عمر: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء» ، ثم قرأ ابن عمر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة 2/ 251] ، وروى جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم» .

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 247 (2) البحر المحيط: 2/ 261

وقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ بيان واضح أن دفعه سبحانه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة. ونبه تعالى نبيه بقوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل. وفي هذه القصة القرآنية أحكام عامة أهمها ما يأتي: 1- إن الشعور بالظلم والذل والاستعباد هو الذي يولد الانفجار، وإن الأمم إذا اعتدي عليها لا سبيل إلى استرداد عزتها إلا بتوحيد صفوفها تحت قيادة زعيم عادل وقائد باسل، كما فعل بنو إسرائيل حينما تغلب عليهم أهل فلسطين. 2- إن أول من يتنبه للخطر والضرر اللاحق بالأمة هم خواصها وعلماؤها وأشرافها وأهل الفضل فيها، كما حدث من ملأ بني إسرائيل حينما طلبوا تنصيب ملك عليهم. 3- يظن الجهال أن أحق الناس بالزعامة والقيادة أصحاب النفوذ والثروة، كما زعم بنو إسرائيل: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ مع أن الأجدر بالقيادة أهل العلم والخبرة والمقدرة الشخصية والخلق الكريم. 4- إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار القائد أو الرئيس، فيجب أن يكون هناك مرجح وحاسم للخلاف، وكان ذلك المرجح هو ما يختاره نبي بني إسرائيل بطلب الملأ منهم، والمرجح في الإسلام بعد النبي رأي أهل الحل والعقد: وهم العلماء وأصحاب المكانة في الأمة. 5- تتجلى شروط الإمامة في اختيار الأكفاء، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وإذا انضم إلى ذلك قوة العصبة والقبيلة

والنفوذ كان أولى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأئمة من قريش» «1» . 6- دل قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ على أن التوفيق الإلهي في اختيار القائد قائم على العدل التام والسنة الحكيمة ورعاية المصلحة العامة. 7- إن من أوليات شروط النصر والغلبة توافر الطاعة التامة للقائد من قبل الجنود، وهذا ما أخذت به قوانين الجيوش الحالية. 8- إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة بقوة الإيمان والصبر والثبات وإطاعة القواد. والمقصود بالإيمان: هو الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه، وانتظار الثواب العظيم، وتحقيق المكانة العالية للشهداء في الجنة. 9- إن الدعاء في وقت الشدة وفي أثناء المعركة مفيد ومحقق للغاية، لأن الدعاء آية الإيمان، والعون على الثبات، كما قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ... الآية، وقال: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وقال الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال 8/ 45] . 10- إن نظرية تنازع البقاء وبقاء الأصلح تشبه إلى حد كبير قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وقوله عز وجلّ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد 13/ 17] . انتهى الجزء الثاني

_ (1) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب.

درجات الرسل وأحوال الناس في اتباعهم [سورة البقرة (2) آية 253] :

[الجزء الثالث] [تتمة سورة البقرة] درجات الرسل وأحوال الناس في اتباعهم [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) الإعراب: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا: تلك: مبتدأ، والرسل: صفة له أو عطف بيان، وفضلنا: جمله فعلية في موضع رفع خبر المبتدأ ولم يقل: ذلك، وقال: تلك، مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ من: اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد، فصلته: كَلَّمَ اللَّهُ والعائد محذوف تقديره: كلمه الله، وهو وصلته: في موضع رفع مبتدأ، وخبره: منهم. البلاغة: تِلْكَ الرُّسُلُ أشار بالبعيد لعلو مرتبتهم في الكمال وسمو درجتهم. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ يسمى في البلاغة: التقسيم، وهو تفصيل ذلك التفضيل. ويوجد طباق بين قوله: آمَنَ وكَفَرَ. كرر جملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ في الآية، ويسمى ذلك إطنابا، لتأكيد المقصود. المفردات اللغوية: فَضَّلْنا بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ كموسى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم دَرَجاتٍ على غيره بعموم الدعوة، وأنه رحمة للعالمين، وختم النبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة والخصائص العديدة الْبَيِّناتِ الآيات الواضحات الدالات على رسالته وَأَيَّدْناهُ قويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل يسير معه حيث سار. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة إلجاء وقسر. مِنْ بَعْدِهِمْ أي الأمم التي أتت بعد الرسل فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ

المناسبة:

ثبت على إيمانه وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ كالنصارى بعد المسيح واليهود بعد موسى، والكفر: ضد الإيمان، وهو أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من توفيق من شاء وخذلان من شاء. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة طالوت وجالوت وداود، وأعقبها بقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ليقيم الدليل بمعرفة تلك القصص على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من المرسلين الذين أوحي إليهم الوحي المبين لأحوال الماضين. ذكر تعالى هنا أن الرسل درجات، ميّز الله بعضهم على بعض، بمزايا ومناقب ليست لغيره، وأن أحوال الناس عموما في اتباع الرسل: إما مؤمنون وإما كفار، وإما مسالمون وإما متقاتلون، لحكمة ربانية مردها إلى قضاء الله وقدره. التفسير والبيان: هؤلاء الرسل المشار إليهم في الآية السابقة: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على مراتب في الكمال، وقد فضل الله بعضهم على بعض بتخصيصه بمآثر أو خصائص أو مفاخر جليلة ليست لغيره، مع استوائهم جميعا في اختيارهم لتبليغ الرسالة الإلهية وهداية الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة. وجاءت عبارة التفضيل في آية أخرى هي: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [الإسراء 17/ 55] وهنا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ. من هؤلاء الرسل: من فضله الله بأنه كلمه مشافهة من غير واسطة وهو موسى عليه السلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء 4/ 164] ، وَلَمَّا جاءَ

مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف 7/ 143] ، فسمي «كليم الله» . ومنهم من رفعه الله على غيره درجات ومراتب في الفضل والشرف، والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما رواه الطبري عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا. وتفضيله بأوجه ذكرناها، وبأوجه أخرى منها رؤيته الأنبياء في السموات ليلة الإسراء والمعراج بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل، ومنها سمو أخلاقه الشريفة، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم 68/ 4] ، ومنها تأييده بالقرآن الخالد إلى يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر 15/ 9] وقال في فضل القرآن: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء 17/ 9] ومنها تفضيل أمته: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران 3/ 110] وجعل أمته وسطا بين الأمم عدولا وشهداء على الأمم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة 2/ 143] . ولو لم يؤت من المعجزات والخصائص إلا القرآن وحده، لكفى به فضلا على سائر الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية أبد الدهر، روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» . وآتى الله عيسى بن مريم عليه السلام البينات: وهي الآيات الواضحات التي يتبين بها الحق من الباطل، كتكليمه في المهد، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه

والأبرص بإذن الله ومشيئته، وتأييده بروح القدس: جبريل عليه السلام، ردا على اليهود الذين أنكروا نبوته والطعن به، وحفظا له من أذاهم، وتبيانا لحقيقته أنه بشر مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات، لا إله، كما زعمت النصارى في عيسى، فكان الناس في شأنه بين مفرّط ومفرط. ولو شاء الله ما اقتتلت الأمم التي جاءت بعد الرسل، من بعد ما جاءهم الرسل بالبينات والمعجزات الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم، ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل وقبول الحق من ربهم، وإنما ترك لهم حرية التفكير والنظر والإدراك بالعقل الذي أودعه فيهم، ليختاروا طريق الخير والسعادة بأنفسهم، ولكنهم لم يفكروا تفكيرا سليما واختلفوا اختلافا بينا كبيرا في قبول الدين، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر برسالاتهم، وقد اختلف اليهود في دينهم واقتتلوا، وكذلك النصارى اختلفوا وانقسموا، وتعددت الفرق والانقسامات في كل من اليهودية والنصرانية، واتهم كل فريق الآخر بالخروج عن أصل الدين، ووجد هذا الاختلاف أيضا بين المسلمين، حيث عصفت بهم الأهواء، وفرقتهم المصالح، واحتدم القتال فيما بينهم. ولو شاء الله- بالرغم من اختلاف ميولهم ونزعاتهم وأهوائهم- ما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، ولكن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وكل ذلك من قضاء الله وقدره، فصارت ردود الفعل متفاوتة، إما بخصومة الكلام والطعن والنقد والسب، وإما بالاحتكام إلى حد السيف وإراقة الدماء. وقد كرر تعالى قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا للتأكيد. والله قادر على كل شيء، فإن أراد التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه، فالخذلان والعصمة من فعل الله وإرادته.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على التفضيل بين الأنبياء في زيادة الأحوال والخصوصيات والكرامات والألطاف الإلهية والمعجزات المتباينات. أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، فكلهم في النبوة والتبليغ ووحدة الهدف والغاية سواء، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليل الله، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات. والرسل أفضل من الأنبياء، فمن أرسل بشرع وأمر بتبليغه أفضل ممن لم يؤمر بالتبليغ، وأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أفضل من بقية الرسل. ومحمد صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء والمرسلين على الإطلاق، لأن رسالته عامة للناس جميعا، وللإنس والجن أيضا، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ 34/ 28] ولأن رسالته توجهت بالقرآن المجيد الذي هو شرع الله الدائم والذي ختمت به الشرائع، والمتكفل بحفظه إلى يوم القيامة، ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرناها سابقا، لذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب 33/ 7] فعمّ ثم خص وبدأ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» . وأما قوله عليه السلام: «لا تخيروني على موسى» أو «لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى» فهو على معنى التواضع. وهذا القول ينطبق على الصحابة رضوان الله عليهم، اشتركوا في الصحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والخصائص، فهم متفاضلون بالمآثر، مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، ويشير القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الآية [الفتح 48/ 29] وقوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح 48/ 26] وقوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ.. [الحديد 57/ 10] وقوله: لَقَدْ

الأمر بالإنفاق في سبيل الخير [سورة البقرة (2) آية 254] :

رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح 48/ 18] فعمّ وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، ووعد كلا منهم الحسنى. وأما النزاع والاقتتال بين الناس بعد الرسل فكله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان، ولكنه المستأثر بسرّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. الأمر بالإنفاق في سبيل الخير [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) الإعراب: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ قرئ بالرفع بالابتداء، أو على أن يجعل: لا بمعنى ليس، وفِيهِ الخبر، وقرئ بالبناء على الفتح، لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر» . البلاغة: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ مبتدأ محصور في خبره أي قصر صفة على موصوف، وقد أكدت بالجملة الاسمية وبضمير الفصل، أي: ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ وهو كافر وهُمُ: مبتدأ ثان، والظَّالِمُونَ خبر الثاني، أو أن: هُمُ ضمير فصل، والظَّالِمُونَ: خبر. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل: والظالمون هم الكافرون. أي يصبح كل ظالم كافرا، وما أكثر الظلم بين الناس. المفردات اللغوية: يَوْمٌ المراد به هنا يوم الحساب لا بَيْعٌ فِيهِ البيع في الأصل: الكسب بأي نوع من أنواع المبادلة أو المعاوضة، والمراد به هنا: لا فداء، فيتدارك المقصّر تقصيره. وَلا خُلَّةٌ أي

المناسبة:

ولا صداقة ولا مودة تنفع وَلا شَفاعَةٌ بغير إذنه يوم القيامة وَالْكافِرُونَ بالله أو بما فرض عليهم، والمراد به في رأي الحسن البصري: تاركو الزكاة، لأن الأمر بالإنفاق هو الإنفاق الواجب، لاتصال الوعيد به وهو أن تاركي الزكاة هم الظالمون، كما قال الزمخشري. والظالمون: هم الذين جحدوا أمر الله أو أنفقوا المال في غير محله المشروع. المناسبة: حثت الآيات السابقة على الجهاد بالنفس، وهذه الآية حث على الجهاد بالمال وإنفاقه في سبيل الخير، ليدخر الناس ثواب ذلك عند ربهم، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا. التفسير والبيان: يأمر الله المؤمنين الذين اتصفوا بصفة الإيمان الصادق بالإنفاق في سبيل الله، وذلك يشمل- في رأي ابن جريج وسعيد بن جبير- الزكاة المفروضة والتطوع أو المستحبة، قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال. وقوله: مِمَّا رَزَقْناكُمْ يؤكد الحث على الإنفاق، لأنه يدل على أنه لا يطلب إلا بعض ما رزقه الله لعباده. ويتأكد الأمر أيضا بأنه سيأتي يوم يندم فيه الإنسان ولا يفيده الندم، وهو يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الذي لا ينفع فيه البديل أو الفداء، ولا الصداقة أو المودة، ولا الشفاعة أو الوساطة أو النسب، يوم تختلف فيه مقاييس الآخرة عن مقاييس الدنيا، وذلك مثل آية أخرى هي: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة 2/ 48] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والكافرون وهم كل من كفر بالله أو التاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، أي فإنهم يقاتلون بالنفس والمال، وإن المنفقين وضعوا المال في غير موضعه، وقد سماهم الله كافرين تهديدا وتغليظا، كما قال: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 97] وإشعارا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار، كما قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت 41/ 6- 7] قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل: «والظالمون هم الكافرون» . فقه الحياة أو الأحكام: تأمر الآية بإنفاق المال في وجوه الخير، سواء أكان بطريق الزكاة المفروضة أم بالصدقات والتطوعات المندوبة، فلكل ثوابه العظيم يوم الآخرة، وفيه تحقيق التضامن والتكافل بين أبناء الأمة الواحدة، بل إنه السبيل الواجب للحفاظ على عزة الأمة ومكانتها وهيبتها واسترداد حقوقها المغتصبة، وصون كرامتها وحرماتها وديارها، فمن يقصر في ذلك وهو من الأغنياء القادرين على الإنفاق، كان سببا في تدمير أمته وإذلالها، إذ لا بقاء ولا حياة ولا سعادة للأغنياء أنفسهم إذا فتك الثالوث المخيف (وهو المرض والفقر والجهل) في بقية أفراد الأمة. قال ابن عطية: وظاهر هذه الآية: أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير وصلة رحم، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال «1» .

_ (1) البحر المحيط: 2/ 275، طبعة الرياض.

آية الكرسي [سورة البقرة (2) آية 255] :

آية الكرسي [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) الإعراب: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: اللَّهُ مبتدأ أول، ولا: نافية للجنس، وإِلهَ: اسمها، وخبرها محذوف تقديره: لا إله معبود إلا هو، والجملة مبتدأ ثان، وهُوَ ضمير فصل مرفوع على البدل من موضع: لا إِلهَ، ويجوز رفعه خبرا لكلمة: لا. والْحَيُّ الْقَيُّومُ: مرفوعان إما صفة لله تعالى، أو بدل من هُوَ أو على تقدير مبتدأ. هذا عند ابن الأنباري، والأصح عند العكبري وغيره أن اللَّهُ مبتدأ، وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبره، وليس بمبتدإ ثان. البلاغة: في الآية حسن افتتاح بأجل أسماء الله تعالى، وفيها تكرار اسمه ظاهرا ومضمرا في ثمانية عشر موضعا، وفيها إطناب بتكرير الصفات، وقطع الجمل حيث لم يصلها بحرف العطف، لأنها كلها في حكم البيان، وطباق في ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. هذا ما قاله أبو حيان في البحر المحيط (2/ 281) وعدّ أحمد رحمه الله سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا وخفيا، فالظاهر ستة عشر وهي: الله، هو، الحي، القيوم، ضمير لا تأخذه، وضمير له، وضمير عنده، وضمير إلا بإذنه، وضمير يعلم، وضمير علمه، وضمير شاء، وضمير كرسيه، وضمير: ولا يؤده، وهو العلي، العظيم. وأما الخفي: فالضمير الذي اشتمل عليه مصدر: حفظهما، فإنه مصدر مضاف إلى المفعول، ولا بد له من فاعل وهو الله (حاشية الكشاف: 1/ 292) .

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اللَّهُ هو المعبود بحق، والعبادة: استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما، ولا تدرك حقيقتها لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا معبود بحق في الوجود سوى الله الْحَيُّ: الدائم البقاء أو ذو الحياة، والحياة صفة لله تعالى تستلزم اتصافه بالعلم والإرادة والقدرة الْقَيُّومُ دائم القيام أو القائم بتدبير خلقه في آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم، وحفظهم ورعايتهم، كما قال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد 13/ 33] . لا تَأْخُذُهُ الأخذ: الغلبة والاستيلاء سِنَةٌ نعاس وهو فتور قبل النوم. والنوم: حال تعرض للحي، بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور. كُرْسِيُّهُ علمه الإلهي بدليل قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر 40/ 7] ولأن أصل الكرسي: العلم، ومنه يقال للعلماء: كراسي، للاعتماد عليهم، وقيل: المراد بها عظمته ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، كقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 39/ 67] ، وقيل: ملكه، وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش. قال ابن كثير في تفسيره (1/ 310) : والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار. وَلا يَؤُدُهُ: ولا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض ومن فيهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، وهو القاهر لكل شيء، العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ العلي: المتعالي عن الأشباه والأنداد وهو فوق خلقه بالقهر، والعظيم: هو الكبير الذي لا شيء أعظم منه وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ مثل قوله: وهو الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. فضل آية الكرسي: آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، وقد صح الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنها أفضل آية في كتاب الله، وفيها اسم الله الأعظم، قال أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي أمامة مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذ دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة، وآل عمران، وطه» قال هشام بن عمار خطيب دمشق: أما البقرة فقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي آل عمران: الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ. ووردت أحاديث كثيرة أخرى في فضلها، منها «سيد الكلام: القرآن، وسيد القرآن: البقرة، وسيد البقرة: آية الكرسي» ، ومنها «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد» ومنها: «من قرأ دبر

المناسبة:

كل صلاة مكتوبة آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» «1» . وعن علي رضي الله عنه قال: «سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول، وهو على أعواد المنبر: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه، آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره، والأبيات حوله» . وقال ابن كثير: هذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة، متعلقة بالذات الإلهية، وفيها تمجيد الواحد الأحد «2» . المناسبة: ذكر تعالى في الآيات السابقة أن العمل الصالح الفردي هو أساس النجاة، فلا ينفع المال والشفاعة والصداقة والمودة، وأن الرسل صلوات الله عليهم- وإن تفاوتوا في الفضل- إلا أن دعوتهم واحدة ورسالتهم واحدة ودينهم واحد قائم على دعوة التوحيد وصون الفضائل والأخلاق وعبودية الله تعالى، ثم جاءت آية الكرسي لتقرر أصل التوحيد وأساس العبادة، ولتحصر الاتجاه بأي عمل نحو الله تعالى، وليستشعر العبد عظمة الله وسلطانه، ويطيع أوامره، ويذعن لأحكامه. التفسير والبيان: الله هو المتفرد بالألوهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق في الوجود إلا هو، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الواجب الوجود، ذو الملك والملكوت، الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم بذاته على تدبير خلقه، كقوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] ، الذي لا يشبه أحد من خلقه في الذات ولا في الصفات، ولا في الأفعال، كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 42/ 11] .

_ (1) رواه النسائي وابن حبان في صحيحة عن أبي أمامة. (2) تفسير ابن كثير: 1/ 308

لا يعتريه نوم ولا يغلبه نعاس لأنه قائم بتدبير أمور خلقه آناء الليل وأطراف النهار. وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها، مقررة لمعنى الحياة والقيومية الدائمة الكاملة، جاء في الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربع كلمات فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» . وجميع ما في السموات وما في الأرض عبيده وفي ملكه، خاضعون لمشيئته، وتحت قهره وسلطانه، كقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ، وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 93- 95] . وهذه الجملة مؤكدة أيضا لقيوميته وتفرده بالألوهية. ومن عظمة الله وجلاله وكبريائه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] وقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود 11/ 105] وفي حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش، فأخر ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة» . وهذا دليل على انفراد الله بالملك والسلطان. والله محيط علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ويعلم أمور الدنيا وأمور الآخرة، كقوله إخبارا عن الملائكة: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا، وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم 19/ 64] قال

الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» . ولا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل، وأطلعه عليه، ومن تلك الأشياء: الشفاعة، فهي متوقفة على إذنه تعالى، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه. والله تعالى واسع الملك والقدرة، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، يحيط علمه بجميع ما في السموات والأرض، ويعلم صغار الأمور وكبارها، دقيقها وعظيمها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا شأن عن شأن، ولا يشق عليه أمر. وقد أورد الزمخشري أربعة أوجه في تفسير قوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ «1» : أحدها- أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته، وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة، ولا قعود ولا قاعد، كقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 39/ 67] من غير تصوّر قبضة، وطي، ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي، ألا ترى إلى قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. والثاني- وسع علمه: وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم. والثالث- وسع ملكه: تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك. والرابع- ما روي أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش، دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعلى كل حال أرى أنه يجب الإيمان

_ (1) الكشاف: 1/ 291- 292

فقه الحياة أو الأحكام:

بوجود العرش والكرسي، كما ورد في القرآن، ولا يجوز إنكار وجودهما إذ في قدرة الله متسع لكل شيء. ولا يثقله تعالى حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه. وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه، وأعظم من كل شيء، لا تحيط به العقول والمدارك، ولا يعرف حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى. وهذا كقوله: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ والمقصود بالعلو: علو القدر والمنزلة، لا علو المكان لأن الله منزّه عن التحيّز في المكان. وفسر بعضهم العلي: بأنه القاهر الغالب للأشياء. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وعظمته وجلاله وكماله، فهي تدل على أن الله تعالى متفرد بالألوهية والسلطان والقدرة، قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة، لا يغفل عن شيء من أمور خلقه، وهو مالك كل شيء في السموات والأرض، لا يجرأ أحد على شفاعة بأحد إلا بإذنه، ويعلم كل شيء في الوجود، ويحيط علمه بكل الأمور وأوضاع الخلائق دقيقها وعظيمها، ويظل بالرغم من التدبير للخلائق والعلم المحيط بالأشياء هو العلي الشأن، القاهر الذي لا يغلب، العظيم الملك والقدرة على كل شيء سواه، فلا موضع للغرور، ولا محل لعظمة أمام عظمة الله تعالى. منع الإكراه على الدين والله هو الهادي إلى الإيمان [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

الإعراب:

الإعراب: لَا انْفِصامَ لَها: هذه الجملة في موضع نصب على الحال من بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أولياء: مبتدأ، والطاغوت خبره، وبما أن خبر المبتدأ يكون على وفق المبتدأ، فيجب أن يكون الطاغوت جمعا لأن أولياء جمع، والطاغوت: تصلح للواحد والجمع. وأصل طاغوت: طغيوت، إلا أنهم قلبوا الياء التي هي لام إلى موضع العين، فصار طيغوتا، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار طاغوتا. البلاغة: اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى: استعارة تمثيلية، حيث شبه المتمسك بدين الإسلام بالمتمسك بالحبل المحكم. وعدم الانفصام ترشيح. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة تصريحية، حيث شبه الكفر بالظلمات، والإيمان بالنور. المفردات اللغوية: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين، والدين هنا: المعتقد والملة بقرينة قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي ظهر بالآيات البينات الواضحات أن الإيمان رشد، والكفر غي، والرشد والرشاد: الهدى وكل خير، وضده الغي أي الضلال في الاعتقاد أو الرأي. أما الجهل فهو كالغي إلا أنه في الأفعال لا في الاعتقاد. بِالطَّاغُوتِ الشيطان أو الأصنام، مأخوذ من الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الشيء. ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه، ويتحدد المراد بحسب المعنى. اسْتَمْسَكَ تمسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى بالعقد المحكم. والعروة: من الدلو والكوز ونحوهما: المقبض الذي يمسك به من يأخذهما. والوثقى: مؤنث الأوثق: وهو الحبل الوثيق المحكم. ويجوز أن يراد بالعروة الوثقى: الشجر الملتف لَا انْفِصامَ لَها لا انقطاع لها.

سبب النزول:

اللَّهُ وَلِيُّ الولي: الناصر والمعين، أي أن الله يتولى أمور المؤمنين بالرعاية والعناية والهداية مِنَ الظُّلُماتِ الكفر والضلالات إِلَى النُّورِ الإيمان. وأفرد النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد لا يتعدد، وأما أنواع الضلال والكفر فكثيرة، كما قال ابن كثير. سبب النزول: نزول الآية (256) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: نزلت: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ في رجل من الأنصار من بني سالم يقال له: الحصين «1» ، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية. وفي رواية: أنه حاول إكراههما، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: أيدخل بعضي النار، وأنا أنظر؟ فنزلت، فخلاهما. وروى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال: كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاة «2» ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. نزول الآية (257) : أخرج ابن جرير الطبري عن عبدة بن أبي لبابة في قوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى فلما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم آمنوا به وأنزلت فيهم هذه الآية.

_ (1) وفي قول السدي: يقال له أبو الحصين. (2) المقلاة: هي المرأة التي لا يعيش لها ولد. [.....]

المناسبة:

المناسبة: حددت آية الكرسي ما يتصف به الله عز وجل من تفرد بالألوهية والملك والسلطان في السموات والأرض، والحياة، والقيام بأمر الخلائق دون عناء ولا مشقة، وإحاطة العلم بكل شيء، فلا يصح بعدئذ أن يكون هناك إكراه على الدخول في الدين لأن الفطرة، والمشاهدات الكونية، والفكر السليم تهدي إلى الإيمان بوجود الله ووحدانيته والاقتناع بالإسلام دينا ومنهج حياة. التفسير والبيان: لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، فإن دلائل صحته لا تحتاج بعدها إلى إكراه، ولأن الإيمان يقوم على الاقتناع والحجة والبرهان، فلا يفيد فيه الإلجاء أو القسر أو الإلزام والإكراه، كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 99] . وقد بان طريق الحق من الباطل، وعرف سبيل الرشد والفلاح، وظهر الغي والضلال، وأن الإسلام هو منهج الرشد، وغيره طريق الضلال، فمن شاء فليؤمن به ومن شاء فليكفر. وهذه الآية أوضح دليل على بطلان زعم أن الإسلام قام بالسيف، فلم يكن المسلمون قبل الهجرة قادرين على مجابهة الكفار أو إكراههم، وبعد أن تقووا في المدينة وعلى مدى القرون الماضية لم يكرهوا أحدا على الإسلام، كما يفعل أتباع الملل الأخرى كالنصارى، وقد نزلت هذه الآية في بداية السنة الرابعة من الهجرة، حيث كان المسلمون أعزاء وأقوياء. ولم يلجأ المسلمون إلى الحرب أو الجهاد إلا لرد العدوان، والتمكين من حرية التدين، ومنع تعسف السلطة الظالمة الحاكمة من استعمال المسلمين حقهم في الدعوة

إلى الله، ونشر الإسلام في أنحاء الأرض، بدليل قبول المعاهدات والصلح على دفع الجزية وتخيير العدو بين ذلك وبين الاحتكام إلى القتال. ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، بسبب عدم استخدامه وسائل النظر والمعرفة الصحيحة، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. وبناء عليه، من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله، وكفر بعبادة أي مخلوق من الناس أو الجن أو الشيطان أو الكواكب أو الأوثان والأصنام، وعبد الله وحده وشهد أن لا إله إلا هو، فقد تمسك بالحق، وثبت على الهدى، واستقام على الطريق المستقيم، وكان مثله مثل الممسك بعروة حبل محكم مأمون الانقطاع، أي أن الله تعالى شبه من استمسك من الدين بأقوى سبب بمن استمسك بالعروة القوية التي لا تنفصم، فصارت محكمة مبرمة قوية، لا يحلّ ربطها القوي الشديد. والعروة الوثقى فسرت بعبارات ترجع إلى معنى واحد: وهي الإيمان، أو الإسلام، أو لا إله إلا الله. والله يرصد بدقة أقوال الناس وأفعالهم وتصوراتهم وأفكارهم، فهو سميع لقول من يدعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، عليم بما يضمره قلبه من تصديق أو تكذيب لأن الإيمان: ما نطق به اللسان واعتقده القلب، والله سميع عليم بكل شيء ظاهر وباطن، يعلم حقائق الأشياء والأقوال والمعتقدات والأفعال. قال القرطبي: ولما كان الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات: سَمِيعٌ من أجل النطق، عَلِيمٌ من أجل المعتقد. والله يتولى أمور المؤمنين بالرعاية والعناية والهداية لأرشد الأمور، وهو يخرجهم بهداية الحواس والعقل والدين من ظلمات الشك والشبهة، والجهل

فقه الحياة أو الأحكام:

والضلالة، والكفر والانحراف، إلى نور العلم والمعرفة واليقين والإيمان الصحيح، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف 7/ 201] قال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات «1» . وأما الكافرون بالله ورسوله فلا سلطان على نفوسهم إلا لمعبوداتهم الباطلة التي تقودهم إلى الضلال، فإن لاح لهم نور الحق والإيمان، بادر الشيطان وما يلقيه من وساوس إلى إطفاء هذا النور، وإبقاء الكفار في ظلمات الشك والضلال، والكفر والعصيان، أو النفاق والتردد. وكان جزاؤهم الحق المنتظر هو الخلود في النار والملازمة لها بسبب بعدهم عن الهدى، وتماديهم في الضلال، وعدم استنارة قلوبهم بنور الحق. وبما أن الحق واحد وحّد الله تعالى لفظ النور، وجمع الظلمات لأن الكفر أجناس مختلفة كثيرة، وكلها باطلة، كما قال: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام 6/ 153] وقال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام 6/ 1] ونحو ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتشعبه. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية قاعدة من قواعد الإسلام الكبرى، وركن عظيم من أركان سياسته ومنهجه، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه.

_ (1) البحر المحيط: 2/ 283

وهذا يكون إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا، ويكون الجهاد ضد السلطة الباغية أمرا اضطراريا لتأمين حرية الدعوة، وأمن الفتنة، وتترك قضية التدين أو اعتناق الإسلام في المجال الفردي أو الجماعي أو الشعبي للمجادلة بالتي هي أحسن، وللإقناع بالحجة والبرهان. وأما ادعاء كون هذه الآية منسوخة بآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة 9/ 73] كما روي عن ابن مسعود، فهو يتنافى مع كون هذه الآية نزلت في السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة، بعد تشريع الجهاد والإذن بالقتال، ويتناقض مع سبب بالنزول كما بينا، فضلا عن الاختلاف في النسخ على ستة أقوال أوردها القرطبي «1» . فقال الشعبي وقتادة والحسن البصري والضحاك: ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون: أهل الأوثان من العرب، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، فهم الذين نزل فيهم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وحجتهم: ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. وضعّف ابن العربي القول بنسخ الآية، وقال: لا إِكْراهَ عموم في نفي إكراه الباطل، فأما الإكراه بحق فإنه من الدين، ورأى أن قتل الكافر في الحرب قتل على الدين «2» ، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتواتر الذي رواه الأئمة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 280 (2) أحكام القرآن: 1/ 233

[البقرة 2/ 193] لكن فاته أن المراد بالناس بإجماع العلماء هم مشركو العرب. وهذا راجع لسبب خاص بالعرب لأنهم حملة رسالة الإسلام، وبلادهم منطلق الإسلام، فجاز إكراههم بحق لهذين السببين. ودلت آية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ على ظهور أدلة الرشد والإيمان وتميز الدين الحق عن الغي والضلال والجهالة، وأن الإسلام هو دين الحق، وأن أنواع الكفر كلها باطلة. ودلت آية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا على أن من آمن من الناس، فالله متولي أموره، يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم، الداعي المرسل، فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معه. ودلت أيضا على أن الحكم على الكفار بالدخول في النار، لكفرهم هو عدل منه تعالى، ولا يسأل عما يفعل. وهذه الآية بمثابة الدليل على منع الإكراه في الدين لأن الولاية على العقول والقلوب هي لله تعالى وحده، والهداية إلى الإيمان تكون بتوفيق الله تعالى من شاء، وإعداده للنظر في الآيات والخروج من الشبهات، بما ينقدح لنظره من نور الدليل، لا بالإجبار والإكراه. والخلاصة: أن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، وتكوين الإيمان يكون باستعمال الهدايات التي وهبها الله للإنسان وهي الحواس والعقل والدين. أما الكفار فلا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة المؤدية إلى الطغيان، فهي التي تقوده إلى إخلاء قلبه من الإيمان، والانصراف إلى التمتع بالشهوات الحسية أو المعنوية كالسلطة أو الجاه، والاسترسال في الفواحش والمنكرات أو الظلم والطغيان. وعرف ابن القيم الطاغوت: بأنه ما تجاوز به

قصة النمروذ الملك [سورة البقرة (2) آية 258] :

العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، وقال: الطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، من عبد وهو راض، من دعا الناس إلى عبادة نفسه، من ادعى شيئا من علم الغيب، من حكم بغير ما أنزل الله. قصة النّمروذ الملك [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) الإعراب: رَبِّهِ الهاء تعود على الذي وهو نمروذ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن آتاه الله، فحذف اللام فاتصل الفعل به. والهاء في آتاهُ فيها وجهان: إما أن تكون عائدة على إبراهيم، أي: أن آتى الله إبراهيم النبوة، وإما أن تعود على الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ وهو نمروذ الذي خاصم إبراهيم لأن آتاه الله الملك. إِذْ قالَ إذ: ظرف زمان والعامل فيه تَرَ. والياء في رَبِّيَ يجوز فيها التحريك والإسكان، فمن حركها شبهها بالكاف في رَأَيْتَكَ، ومن سكّنها استثقل الحركة عليها، لأن الحركات تستثقل على حرف العلة. البلاغة: أَلَمْ تَرَ الاستفهام للتعجب، والرؤية قلبية. يُحْيِي وَيُمِيتُ عبر بالمضارع لأنه يفيد التجدد والاستمرار. وصيغة رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ تفيد القصر لورود المبتدأ والخبر معرفتين، أي أنه تعالى وحده هو الذي يحيي ويميت. ويوجد طباق بين يحيي ويميت أو بين المشرق والمغرب. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ يشعر التعبير بأن العلة وسبب الحيرة هو كفره، ولو قال: فبهت الكافر لما أدى ذلك المعنى.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ الاستفهام للتعجب والإنكار حَاجَّ جادل أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي حمله بطره بنعمة الله على ذلك وهو نمروذ. فَبُهِتَ تحير ودهش، وفي الحديث: «إن اليهود قوم بهت» ، الظَّالِمِينَ المعرضين عن قبول الهداية بالنظر فيما يؤدي إلى الحق. المناسبة: لما ذكر الله تعالى فيما سبق أن الله ولي الذين آمنوا، وأن الطاغوت ولي الكافرين، أعقبه بذكر نموذج للإيمان ونموذج للطغيان، ليبين تلك القضية ويشهد على صدقها وصحتها، وهو أن إبراهيم وفقه الله للأدلة التي تدحض الشبهات، وأن الملك عمي عن نور الحق، فكانت حججه متهافتة ساقطة، تتردد في ظلمات الشكوك والأوهام، فصارت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما «1» . التفسير والبيان: ألم تعلم قصة النمروذ الملك الذي تجبر وادعى الربوبية وهو النّمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام ملك زمانه، وعارض إبراهيم في ربوبية الله «2» . والذي حمله على المجادلة: هو الملك وما يعقبه من كبر وبطر وغرور، وهو ملك بابل، وقيل: إنه ملك زمانه، ملك الدنيا بأجمعها، قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران: فالمؤمنان: سليمان بن داود

_ (1) البحر المحيط: 2/ 286 (2) تفسير ابن كثير: 1/ 313

وذو القرنين، والكافران: نمروذ وبختنصّر «1» . فالنمروذ الملك لم يشكر النعمة، بل أبطرته، وجعلته يطغى، مع أن النعمة مدعاة الشكر، فجعل ما كان سببا في الطاعة سببا في المعصية. وهو في رأي ابن عباس ومجاهد وجماعة آخرين: صاحب النار والبعوضة، فهو الذي أضرم النار لإحراق إبراهيم عليه السلام، وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى: بأن فتح الله تعالى عليه بابا من البعوض، وبعثها على عسكره، فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، ودخلت واحدة منها في دماغه، فأكلته حتى صارت مثل الفأرة، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما «2» . وكان قوم الملك يعبدون ملوكهم مع آلهتهم، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه، وان يعبده وآلهته. وهذه قصة المجادلة «3» : حينما كسّر إبراهيم عليه السلام الأصنام التي تعبد من دون الله، وسفّه عقول عابديها، سأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته، فأجابه: ربي الذي يحيي ويميت فهو مصدر الحياة وسبب الممات، أي ينشئ الحياة والموت، فأنكر الملك الطاغية الذي كان أول من تجبر وقال: أنا أحيي بعض البشر بالعفو عمن حكم عليه بالإعدام، وأميت البعض الآخر بالقتل وتنفيذ الحكم المقرر عليه، وأحضر رجلين عفا عن أحدهما، وقتل الآخر، وأخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا وتركهم بدون طعام وشراب، ثم أطعم اثنين فحييا، وترك اثنين فماتا.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 313 (2) تفسير القرطبي: 3/ 284 (3) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص 81

وهذا أول السقوط والضعف في حجة النمروذ، لأن المراد في قول إبراهيم: إنشاء الحياة وتكوينها بعد العدم، وإزالة الحياة القائمة لجميع الكائنات الحية من نبات وحيوان وغيرهما، لا مجرد التسبب في بقاء الحياة، وإعدامها لفئة من الناس حكم عليهم بالإعدام، فجواب النمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة. ولما رأى إبراهيم مغالطة الطاغية وتجاهله المقصود من معنى الإحياء والإماتة، انتقل إلى حجة أخرى لا مجال فيها للمكابرة أو المغالطة، فقال: إن ربي الذي يمنح الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته المطلقة هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فإن كنت تدعي الربوبية، فغيّر نظام طلوع الشمس وغروبها، وائت بها من جهة المغرب. فلم يجد من تولى كبره جوابا، ودهش وتحير، وأعجزته الحجة، وأفحمه إبراهيم، وغلبه وأسكته، وقطع حجته، ولم يمكنه، أن يقول: آنا الآتي بها من المشرق، لأن الواقع يكذبه. والله لا يهدي الظالمين أنفسهم المعرضين عن قبول هداية الله إلى طريق الخير والفلاح أبدا، بل يطمس الله على قلوبهم وبصائرهم، ويفضح شأنهم في أحلك أوقات الشدة والأزمة أمام الملأ من الناس. وهذا يدل على أن عدم الهداية ليس للطائعين، وإنما للظالمين، والمراد: هداية خاصة، أو ظالمون مخصوصون «1» . وقد ذكر السّدّي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك، إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة، وكان ذلك نصرا لخليل الله إبراهيم بعد نصر، وهكذا تتوالى الانتصارات لأولياء الله وأصفيائه، وتتعاقب الهزائم لأعداء الله، وتبدو مواقف الخذلان لهم

_ (1) البحر المحيط: 2/ 289

فقه الحياة أو الأحكام:

لكل ناظر عاقل متأمل، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] . فقه الحياة أو الأحكام: تدل هذه الآية على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الله الملك والعزّ والرّفعة في الدنيا، وتدل أيضا على جواز أن ينعم الله على الكافرين في الدنيا، ثم يحرم منها في الآخرة، ولا يجد إلا النار. وتدل على إثبات المناظرة وصحة المجادلة في الدين وإقامة الحجة، وفي القرآن والسنة مواقف كثيرة من هذا الجدال، كما في قصة نوح عليه السلام مثلا: قالُوا: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود 11/ 32- 35] إلى قوله: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ، لأن الجدال في الدّين لا يظهر فيه الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الكتاب، وباهلهم «1» بعد بيان الحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم السقيفة وتدافعوا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، ثم تناظروا أيضا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران 3/ 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. وأدب المجادلة محدد مرسوم في القرآن الكريم في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] .

_ (1) المباهلة: الملاعنة، ومعنى المباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.

قصة العزير وحماره [سورة البقرة (2) آية 259] :

وذكر الأصوليون في، هذه الآية: أن إبراهيم عليه السلام، لما وصف ربه تعالى بالإحياء والإماتة، قصد إلى الحقيقة، وأما النمرود فلجأ إلى المجاز وموّه على قومه، فسلّم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه إلى أمر لا مجاز فيه، وعارضة بالشمس، فبهت الذي كفر. ويستفاد من الآية أيضا أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه، وأن طريق معرفته: ما في الكون من الدلائل القاطعة على توحيده، لأن أنبياء الله عليهم السلام إنما حاجوا الكفار بمثل ذلك، ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه، وإنما وصفوه بأفعاله واستدلوا بها وبآثاره عليه. قصة العزير وحماره [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) الإعراب: أَوْ كَالَّذِي: الكاف إما زائدة، وتقديره: أو الذي مر على قرية على عروشها، وهي خاوية. والذي: في موضع جر، معطوف على قوله: إِلَى الَّذِي حَاجَّ، وإما للتشبيه، معطوفا على معنى ما تقدمه من الكلام، لأن معنى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ، وألم تر كالذي حاج: واحد. عَلى عُرُوشِها في موضع نصب، لأنه بدل من قوله: عَلى قَرْيَةٍ، ويكون

البلاغة:

وَهِيَ خاوِيَةٌ جملة اعتراضية. وفسر قوم: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة سقوفها، فلا يكون هناك اعتراض. كَمْ لَبِثْتَ: كم: في موضع نصب على الظرفية الزمانية، وتقديره: كم لبثت يوما. لَمْ يَتَسَنَّهْ إما أصله: يتسنّن، من قوله: حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي متغير، قلبت النون الثالثة ياء كراهية اجتماع ثلاث نونات، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار «يتسنّى» ثم حذفت الألف للجزم، فصار: يتسن، وأدخلت عليه هاء السكت، وإما مأخوذ من «تسنّه وسانهت» تفعل من السنة، فيكون المعنى: لم يتغير بمرّ السنين، وأصل سنة: سنهة. وَلِنَجْعَلَكَ الواو عطف على فعل مقدر، تقديره: انظر إلى حمارك لتتيقن ما تعجبت منه، حين قلت: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، ولنجعلك آية للناس. البلاغة: بَعْدَ مَوْتِها أي موت سكان القرية، مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فيها استعارة الكسوة للحم الذي غطى العظم، كما يستر الجسد باللباس، ثم حذف المشبه به وهو الثوب، وأتى بشيء من لوازمه وهو الكسوة على سبيل الاستعارة المكنية. المفردات اللغوية: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ أي عزير الذي مر على ضيعة هي بيت المقدس، راكبا ومعه سلة تين وقدح عصير خاوِيَةٌ ساقطة، أو خالية من السكان، والعروش: السقوف، لما خربها بختنصر. أَنَّى يُحْيِي كيف، وهو استبعاد منه للإحياء بعد الموت، والمراد بالإحياء هنا: العمارة بالبناء والسكان بَعْدَ مَوْتِها خرابها فَأَماتَهُ اللَّهُ أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا، كما حدث لأهل الكهف ثُمَّ بَعَثَهُ أرسله من بعثت الناقة: إذا أطلقتها من مكانها، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا كامل المدارك. ويرى الأطباء أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا، لكنه يكون فاقد الحس والشعور، وهو المسمى لديهم بالسبات: وهو النوم المستغرق، ومرد كل ذلك إلى قدرة الله بالحفظ مائة سنة أو ثلثمائة سنة أو أكثر أو أقل، وقال القرطبي: وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. طَعامِكَ التين وَشَرابِكَ العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ لم يتغير مع طول الزمان، والهاء إما للسكت من سانيت، وإما من أصل الكلمة وهي سانهت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف هو، فرآه ميتا وعظامه باقية وَلِنَجْعَلَكَ فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية على البعث، أي علامة على قدرة

المناسبة:

الله نُنْشِزُها نرفعها من الأرض ثم نردها إلى أماكنها من الجسد وقرئ «ننشرها» أي نحييها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فنظر إليها وقد تركبت وكسيت لحما، ونفخ في الجسد الروح، وظهرت عليه علائم الحياة أَعْلَمُ علم مشاهدة. المناسبة: القصة السابقة لإثبات وجود الله، وهذه القصّة والتي تليها في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لإثبات الحشر والبعث بعد الفناء. التفسير والبيان: أرأيت مثل هذا الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، أي ساقطة جدرانها على سقوفها «1» ، وهي معطوفة على قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ وهي بمعنى قوله: هل رأيت مثل الذي حاجّ في ربّه. وما هي القرية؟ ومن هو المارّ؟ قيل: إنّه بيت المقدس، والمارّ: هو عزير بن شرخيا، وهو القول المشهور، وقيل: هي دير هرقل على شطّ الدّجلة، والمارّ: هو أرميا من سبط هارون عليه السلام. وقيل: إنه الخضر عليه السلام، وقيل: اسمه حزقيل بن بوار، وقال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل. فقال: كيف يعمّر الله هذه القرية بعد خرابها، والمراد استبعاد عمرانها بالبناء والسّكان، بعد أن خربت وتفرّق أهلها، ولكنّه في الوقت نفسه يستعظم قدرة الله تعالى لما رأى شدّة خرابها، فقوله: اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الأحياء، واستعظام لقدرة المحيي. فجعله الله فاقد الحسّ والحركة مائة عام، مع بقائه حيّا، ثمّ أطلق فيه

_ (1) قال السّدي: يقول: هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السّقف، ثم سقطت الحيطان عليها. واختاره الطّبري. وقال غير السّدّي: معناه خاوية من الناس، والبيوت قائمة، وخاوية معناها خالية.

الحركة وبعثه بسرعة وسهولة، كأنّه كان نائما ثم استيقظ، فوجد القرية قد عمرت بعد سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، ورجع إليها بنو إسرائيل. فقيل له بواسطة الملك: كم وقتا لبثت؟ وسئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن الإحاطة بشؤون الله تعالى. وأكثر المفسّرين على أن ظاهر هذه الإماتة: أنها بإخراج الرّوح من الجسد، والأظهر أن القائل: هو الله تعالى، من طريق ملك أو هاتف من السماء يقول له ذلك. فقال: لبثت يوما أو بعض يوم، على التّقريب والظنّ والتّخمين، لأنّه مات أوّل النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظنّ أنها شمس ذلك اليوم، فقوله هذا على ما عنده وفي ظنّه، فلا يكون كاذبا فيما أخبر به، ومثله قول أصحاب الكهف: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف 18/ 19] ، وإنّما لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين. فأجيب: بل لبثت مائة عام، فانظر لترى دلائل قدرتنا إلى طعامك وشرابك طوال هذه المدّة، لم يتغيّر ولم يفسد، مع أنّ العادة جرت بفساد مثله بمضي مدّة قليلة. وانظر أيضا لترى الدّليل على قدرتنا إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطّعت أوصاله، لتتبيّن تطاوّل مرور الزّمان عليه وعليك وأنت راقد أو نائم فعلنا بك ما فعلنا لتعاين ما استبعدته، ولتتيقّن ما تعجبت منه، ولنجعلك دليلا على المعاد، وآية دالّة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة، كقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] ، فقوله: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ دليل على البعث بعد الموت. وانظر كيف نرفع عظام حمارك المتناثرة يمينا وشمالا، فيركب بعضها على بعض، ونردها إلى أماكنها من الجسد، ثم نكسوها لحما وعصبا وعروقا وجلدا،

فقه الحياة أو الأحكام:

كما يستر الثوب الجسد، ثم بعث الله ملكا فنفخ الرّوح في هذا الجسم، فنهق كله بإذن الله عزّ وجلّ، وذلك كلّه بمرأى من العزير. فالقادر على هذا الإحياء بعد موت مائة سنة قادر على الإحياء بعد آلاف السنين، لأن الأفعال الإلهية تشبه بعضها. فلما تبيّن له هذا كله قال: أنا عالم بهذا، وقد رأيته عيانا، وأعلم علما يقينيا أن الله على كل شيء من الأشياء قدير لا يستعصي عليه أمر. فقه الحياة أو الأحكام: هذه القصة دليل واضح على إمكان البعث بعد الفناء، والحشر بعد النشر من القبور، والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتجّ به على البعث في كل زمان ومكان: هو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه، والإنشاء معناه: التقوية، والإنشاز معناه: التنمية. وهذه حالة خاصة، وأما الآية الكبرى العامة وهي كيفية التّكوين الدّالة على قدرة الله على البعث، فهي قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف 7/ 29] ، وقوله: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء 21/ 104] . والرّاجح أن الذي مرّ على القرية كان من الصدّيقين أو الأنبياء، وقيل: إنه كان من الكافرين، وهو ضعيف، لأن الكافر لا يؤيّد بآيات الله. والكلام على الوجه الأوّل الصّحيح مثل لهداية الله تعالى للمؤمنين، وإخراجهم من الظّلمات إلى النّور، كما كان شأن إبراهيم مع ذلك الكافر. والإخبار أو اليمين على الظنّ لا يكون كذبا، ولا يوجب كفارة اليمين، وهذا هو المراد عند الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) بلغو اليمين الذي عفا الله عنه، أخذا بقوله تعالى: قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وقوله في سورة الكهف: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف 18/ 19] ، ونظيره قول

حب الاستطلاع عند إبراهيم عليه السلام [سورة البقرة (2) آية 260] :

النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة ذي اليدين (الخرباق بن عمرو) في حديث متفق عليه عن أبي هريرة: «لم أقصر ولم أنس» . وعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السّهو والنسيان. وجعل عزيز آية للناس: كان في إماتته مدة مائة عام، ثم إحيائه بعدها. حبّ الاستطلاع عند إبراهيم عليه السلام [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) الإعراب: كَيْفَ تُحْيِ كيف: في موضع نصب بفعل (يحيي) وهو سؤال عن الحال، وتقديره: بأي حال تحيي؟ ولا يجوز أن يكون العامل فيه أَرِنِي لأن كيف للاستفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. أَوَلَمْ دخلت همزة الاستفهام على واو العطف، ولا يدخل شيء من حروف الاستفهام على حروف العطف إلا الهمزة لأنها الأصل في حروف الاستفهام. لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي اللام إما لام «كي» وهي متعلقة بفعل مقدر، وتقديره: ولكن سألتك ليطمئن قلبي، أو أرني ليطمئن قلبي، وإما لام الأمر والدعاء، كأنه دعا لقلبه بالطمأنينة، والوجه الأول أوجه. سَعْياً مصدر منصوب في موضع الحال، أي يأتينك ساعيات، كقولهم: جاء زيد ركضا أي راكضا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذْ قالَ واذكر حين قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكّا في إحياء الله الموتى قط، ولا في قدرة الله، وإنّما طلب المعاينة لكيفية الإحياء لأن النفوس تحبّ الاطلاع على المجهول ورؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه الطبراني عن أنس. أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بقدرتي على الإحياء، والسؤال والجواب مع علمه تعالى بإيمان إبراهيم لتعليم السامعين. بَلى حرف جواب أي آمنت. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي سألتك ليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال. فَصُرْهُنَّ أي قطعهنّ، وقيل: المعنى: أملهنّ إليك أي ضمهنّ واجمعهنّ إليك، وقوله: إِلَيْكَ على تأويل التقطيع، متعلق بفعل «خذ» أي اجمعهنّ عندك ثم قطّعهن، واخلط لحمهن وريشهن، ثم وزّع أجزاءهنّ على مجموعة من الجبال، ثُمَّ ادْعُهُنَّ (نادهنّ) إليك، يَأْتِينَكَ سَعْياً مسرعات، طيرانا ومشيّا. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ في صنعه وتدبيره. التفسير والبيان: ونفّذ إبراهيم الخطّة ولم يعين الله تعالى الأربعة من أي جنس هي من الطّير، وقيل عن ابن عباس: أخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا، وفعل بهنّ ما ذكر، وأمسك رؤوسهن عنده، ودعاهنّ، فتطايرت الأجزاء إلى بعضها، حتى تكاملت، ثم أقبلت إلى رؤوسها. وقال مجاهد: كانت طاووسا وغرابا وحمامة وديكا «1» ، فذبحهنّ، ثمّ فعل بهنّ ما فعل، ثمّ دعاهنّ، فأتين مسرعات، وهكذا يحيي الله الموتى بمجرد الأمر الإلهي: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت 41/ 11] .

_ (1) البحر المحيط: 2/ 299

فقه الحياة أو الأحكام:

وخلاصة القصّة: كان إبراهيم عليه السلام محبّا للاستطلاع، فلما أوحى الله تعالى إليه أنه سيحيي الموتى ويحشرهم يوم القيامة، ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فأحبّ أن يرى ميتا عاد حيّا، فسأل الله ذلك، ليطمئن قلبه، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة طيور، فيذبحها، ويفرّق أجزاءها على الجبال، ثم يدعوها إليه، وحينئذ يرى كيف يعود الميت حيّا، ففعل ودعا الطيور إليه، فجاءت صحيحة، كأنها لم تمت أصلا. فقه الحياة أو الأحكام: هذه القصة دليل آخر على إثبات قدرة الله على إحياء الموتى، مهما تلاشت أجزاؤها، وتفتت ذراتها، وتطاول الزمان على موتها. ولم يكن إبراهيم عليه السلام شاكّا في القدرة الإلهية على ذلك، وإنما ليثبت الاعتقاد بالتجربة الحسيّة أو الخبر والمعاينة، وهذا يشير إلى أهمية العلم التجريبي، والاختبارات العملية، لمعرفة كيفية تركيب الأشياء. ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشّك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث، وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل، فقال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الإسراء 17/ 65] ، وقال الشيطان: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟! وإنما سأل إبراهيم عليه السلام أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله: أَرِنِي كَيْفَ طلب مشاهدة الكيفية، وليس اختبار القدرة الإلهية على الإحياء أو الإنشاء. ثم إنه طلب طمأنينة القلب: وهي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد،

ليتبيّن الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. ولقد ذهبت كلمة إبراهيم مثلا بين الناس عند التصديق بالشيء، وطلب التأكّد من حصول الفعل، فيطلب الشخص من غيره ما يؤكد الوعد أو القول أو الفعل قائلا: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مع توافر الثقة والائتمان. وطلب إبراهيم وجيه، وبخاصة في عصرنا، حيث كثرت الشكوك، وسخر بعض الناس من احتمال بعث الأجساد والأرواح التي مات أصحابها في البرّ والبحر والجوّ، على مدى مرور آلاف السنين، وكثرة ملايين البشر من بدء الخليقة إلى يوم القيامة، فكان هذا الطلب في محله ليخرس الألسنة، ويطمئن الأفئدة، ويزيل الشكوك في المعتقدات. وهو أيضا مثال ثالث لولاية الله تعالى للمؤمنين، وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور، وهو كالذي قبله من آيات البعث. وكان المثال الأول: وهو محاجّة من آتاه الله الملك لإبراهيم، للدّلالة على وجود الله، والمثال الثاني: إماتة العزير مائة عام، والمثال الثالث: إماتة أربعة من الطيور. والحكمة في ذكر مثال واحد في إثبات الرّبوبيّة ومثالين في إثبات البعث أن منكري البعث أكثر من منكري الألوهيّة. وأرشد قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه. وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمن تأديب للمؤمنين كافة، ومنع لهم عن التّفكر في كيفية التّكوين، وشغل نفوسهم بما استأثر الله تعالى به، فلا يليق بهم البحث عنه. والحكمة في اختيار الطير على غيره: أن الطّير أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان، ولسهولة إجراء التجربة عليها، ولأن الطير أكثر نفورا من الإنسان في الغالب، فإتيانها بمجرد الدعوة أبلغ في المثل.

ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابه [سورة البقرة (2) الآيات 261 إلى 264] :

وأما كون الطيور أربعة فيفوّض فيه أمره إلى الله تعالى لأن العدد تعبدي غالبا، وقيل: إنه الموافق لعدد الطبائع أو لعدد الرياح، وهو ليس بشيء، كما جاء في تفسير المنار. ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابه [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 264] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) الإعراب: أَنْبَتَتْ جملة فعلية في موضع جر صفة «لحبة» . فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ قول: مبتدأ، ومغفرة: معطوف عليه، وخير: خبر.

البلاغة:

يَتْبَعُها أَذىً جملة فعلية في موضع جر صفة صَدَقَةٍ. كَالَّذِي يُنْفِقُ الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف وتقديره: إبطالا كالذي. رِئاءَ النَّاسِ منصوب: إما لأنه مفعول لأجله، أو لأنه حال، أو صفة لمصدر محذوف تقديره، إنفاقا. كَمَثَلِ في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ وهو: مثله. وصفوان: إما مفرد أو اسم جنس واحده صفوانة، مثل درّ ودرّة. وقال عَلَيْهِ بالتذكير لأن اسم الجنس مذكر. عَلَيْهِ تُرابٌ جملة اسمية في موضع جر لأنها صفة لصفوان. البلاغة: كَمَثَلِ حَبَّةٍ تشبيه مرسل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه، شبه تعالى الصدقة التي تنفق في سبيله بحبة زرعت وباركها الله، فأصبحت سبعمائة حبّة. أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ مجاز عقلي إذا أسند الإنبات إلى الحبة، مع أن المنبت هو الله تعالى. مَنًّا وَلا أَذىً ذكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول لأن الأذى أعمّ من المنّ. كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فيه تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. المفردات اللغوية: مَثَلُ صفة نفقات المنفقين في سبيل الله. سَبِيلِ اللَّهِ ما يؤدي إلى مرضاته تعالى. حَبَّةٍ واحدة الحبّ الذي يزرع. واسِعٌ فضله. عَلِيمٌ بمن يستحقّ مضاعفة الثواب. مَنًّا المنّ: أن يذكر المحسن إحسانه على المنفق عليه، ويظهر تفضله عليه، فيقول: قد أحسنت إليه وجبرت حاله. أَذىً الأذى: التّطاول والتّفاخر بالإنفاق، وذكره إلى من لا يحبّ اطّلاعه عليه، أو التّبرّم منه. لَهُمْ أَجْرُهُمْ ثواب إنفاقهم. يَحْزَنُونَ في الآخرة. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام حسن وردّ جميل على السائل. وَمَغْفِرَةٌ ستر وتجاوز لإلحاحه في السؤال وغيره. خَيْرٌ أنفع وأكثر فائدة. غَنِيٌّ عن صدقة العباد. حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي. لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أي أجورها كإبطال نفقة المرائي للناس.

سبب النزول:

رِئاءَ النَّاسِ مراءة لهم وسمعة، أي يفعل الخير مباهاة أو لأجل أن يروه فيحمدوه. صَفْوانٍ حجر أملس. وابِلٌ مطر شديد. صَلْداً صلبا أملس ليس عليه تراب أو غبار. لا يَقْدِرُونَ استئناف كلام لبيان مثل المنافق المنفق رئاء الناس. وجمع الضمير باعتبار معنى الذي، والمراد لا يجدون ولا يملكون شيئا. مِمَّا كَسَبُوا عملوا، أي لا يجدون له ثوابا في الآخرة، كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه، لإذهاب المطر له. سبب النزول: قال الكلبي: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» . وأما عثمان رضي الله عنه، فقال: عليّ جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهّز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وتصدّق برومة ركية كانت له على المسلمين «1» ، فنزلت فيهما هذه الآية. وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رافعا يده يدعو لعثمان، ويقول: «يا ربّ، إن عثمان بن عفان رضيت عنه، فارض عنه» فما زال رافعا يده حتى طلع الفجر، فأنزل الله تعالى فيه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية «2» .

_ (1) وفي رواية: ووضع بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألف دينار، فصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقلّبها ويقول: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» . (2) أسباب النزول للنيسابوري: ص 47- 48، تفسير القرطبي: 3/ 303 [.....]

المناسبة:

المناسبة: أثبتت الآيات السابقة أمر البعث، وأن الناس يبعثون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، وذكر هنا فضيلة الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله كثيرة، مثل نشر العلم ومحاولة القضاء على الجهل والفقر والمرض، وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله (أي دين الإسلام) هي العليا، فمن جاهد بعد هذا البرهان على البعث الذي لا يأتي به إلا نبيّ، فله في جهاده الثواب العظيم. وقد رغّب القرآن الكريم في مواضع عديدة بالإنفاق لأنه وسيلة إغناء وتحقيق رفاه للجميع، وواسطة متعيّنة لصون عزّة الأمة وكرامتها ودحر عدوان المعتدين عليها، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذّل والاستعباد، وتكالبت عليها الأمم، روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ زد أمتي» فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ زد أمتي» فنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. التفسير والبيان: هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فأبان تعالى أن صفة نفقات المنفقين أموالهم في طاعة الله تعالى وابتغاء رضوانه وحسن مثوبته كنشر العلم والجهاد وإعداد السلاح والحج والدفاع عن الوطن والأهل، كصفة حبة زرعت في أرض خصبة، فأنبتت سبع سنابل، في كلّ سنبلة مائة حبة، وقد ثبت لدى متخصصي الزراعة أن الحبة الواحدة من قمح أو أرز أو ذرة مثلا لا تنبت سنبلة واحدة، بل أكثر، قد تصل إلى أربعين أو ست وخمسين أو سبعين، وأن السنبلة قد تشتمل على أكثر من مائة حبة، وقد أنبتت فعلا مائة

وسبع حبات. وهذا تصوير لمضاعفة ثواب المنفق. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي بحسب إخلاصه في عمله، فيزيده أكثر من ذلك، والله تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحدّ عطاؤه، ففضله واسع كثير، أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحقها. وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة لأن التحديد والتعداد يظل فيه قصور، وأما عدم التحديد بحدّ فيشير إلى احتمال النمو والبركة والزيادة. وفيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزّ وجلّ لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السّنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف. روى ابن ماجه وابن أبي حاتم الحديث الأول عن علي وأبي الدّرداء، والثاني عن عمران بن حصين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة، ومن غزا في سبيل الله، وأنفق في جهة ذلك، فله بكل درهم سبعمائة درهم» ، ثم تلا هذه الآية: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ. وروى الإمام أحمد عن أبي عبيدة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أنفق نفقة في سبيل الله، فسبع مائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا أو ماز أذى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنّة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله عزّ وجلّ ببلاء في جسده، فهو له حطة» وروى النسائي بعضه في الصوم. ومن شروط الإنفاق وآدابه لاستحقاق هذا الثواب في الآخرة: ألا يتبعوا ما أنفقوا أو بذلوا منّا على الفقير بأن يحاسبه على ما أعطاه ويظهر تفضّله عليه، ولا أذى أو ضررا بأن يتطاول عليه ويطلب جزاء عمله. فهؤلاء الباذلون الذين

لا يمتنون ولا يؤذون من أحسنوا إليهم لهم ثواب كامل لا يقدر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس، ولا هم يحزنون حين يحزن الناس البخلاء الذين لا ينفقون شيئا في سبيل الله، فيندمون، كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون 63/ 10] . والكلام الحسن، والرّد الجميل على السائل وعدم الصدقة، وستر ما يقع منه من إلحاف في السؤال وغيره، خير للسائل والمسؤول من صدقة يتبعها أذى وضرر إذ الصدقة شرعت للأخذ بيد الضعيف، وتخفيف حدّة الحسد والحقد على الأغنياء، ولتحصين مال الغني من السرقة والنهب والضياع والمنّ والأذى يخرجها عن هذه الغاية السامية التي شرعت لها، والله غني عن صدقة عباده، فيستطيع أن يرزق الجميع، حليم لا يعجل بعقوبة المسيء، كمن يمنّ أو يؤذي، ولكنها الحكمة البالغة التي مدارها الابتلاء والاختبار، ومعرفة من يجاهد نفسه الشحيحة، فيحملها على البذل وتنفيذ التكاليف الإلهية عن رضا وطيب خاطر، وقد شرع الله الصدقة سبيلا لكسب المودّة، وجلب المحبّة، وتأكيد الصلة والتعاطف والتعاون بين الجميع. ومن أجل استئصال طبيعة المنّ والأذى في نفوس الناس، أكّد سبحانه ما أخبر به من صفات المستحقين للثواب العظيم وهو عدم إتباع صدقاتهم بالمنّ والأذى، وأن الأذى من شوائب الصدقة المكروه الذي يسقط الأجر والثواب، أكّد ذلك بخطاب المؤمنين بصفة الإيمان التي تدعو إلى التقيّد بالأمر الإلهي، فنهاهم وحرم عليهم المنّ والأذى لأن صفاء الصدقة وجعلها خالصة لله أدعى لقبولها واستحقاق ثوابها. ولأن من يتبع صدقته بمنّ أو أذى يشبه حال من ينفق ماله رياء وسمعة، لأجل أن يحمده الناس، وليقال عنه: إنه كريم جواد، ونحو ذلك من مقاصد

فقه الحياة أو الأحكام:

الدّنيا الفانية، لا لابتغاء رضوان الله، وترقية شؤون الأمة، وهذا المرائي في الواقع لا يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا، حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا، ومثله الذي يمنّ ويؤذي السائل. وصفة عمل كل من المرائي والذي يمنّ ويؤذي كصفة تراب على حجر أملس، نزل عليه مطر شديد، فأزال التراب وترك الحجر أملس لا شيء عليه، أي أنه لا ثمرة ولا بقاء لعمله، وإنما يضمحل ويتبدد بالظواهر الطارئة، ويبقى فارغا لا أثر لعمله، ولا ينتفع بشيء مما فعل لا في الدّنيا ولا في الآخرة، أما في الدّنيا فلأنّ المنّان بغيض إلى الناس، والمرائي مذموم منبوذ لدى المجتمع، وأما في الآخرة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغي به وجهه، والرّياء ومثله المنّ والأذى ينافي الإخلاص، وهو نوع من الشرك بالله إذ هو الشرك الخفي فإن صاحبه يقصد به غير الله. والله لا يهدي القوم الكافرين لما فيه خيرهم ورشادهم ما داموا على الكفر، أو لا يهديهم في أعمالهم وهم على الكفر «1» ، وأما الإيمان فهو الذي يهدي صاحبه إلى الإخلاص والخير وابتغاء وجه الله، والتأدّب بالإنفاق بما أدّب الله به أهل الإيمان. وهذا يشير إلى أنّ كلّا من الرياء والمنّ من صفات الكافرين لا من صفات المؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: 1- تضمنت الآية بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله، والتحريض والحثّ على الإنفاق في سبيل الله، إما عن طريق حذف مضاف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة، وإما بطريق آخر: مثل الذين

_ (1) البحر المحيط: 2/ 310

ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة، فأنبتت الحبة سبع سنابل، فشبه المتصدّق بالزارع، وشبّه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة. 2- وهي تشمل الإنفاق المندوب إليه، والواجب أيضا لأن سبل الله كثيرة، ولا حاجة للقول: بأنها نزلت قبل آية الزكاة، ثم نسخت بآية الزكاة لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كلّ وقت. 3- وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، ثم دلّ قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ على أنه تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف، بدليل حديث ابن عمر المتقدم في مناسبة الآية. 4- وفي هذه الآية دليل على أن اتّخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتّخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ. وفي صحيح مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له صدقة» ، وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزرع. والزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وغرس الأشجار في معناها. 5- الإنفاق في سبيل الله دون منّ ولا أذى سبب لرضوان الله، كما رضي الله ورسوله عن عثمان الذي جهز جيش العسرة، وجاء بألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم، اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان» . وهذا الرضا الإلهي والثواب العظيم إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منّا ولا أذى

لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدقة، كما أخبر تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى.. وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا، قال تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان 76/ 9] . ومن طلب بعطائه الجزاء والشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء. قال ابن عباس: في قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر 74/ 6] ، أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها. 6- المنّ من الكبائر، والمنّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك، ونعشتك ونحوه، وقال بعضهم: المنّ: التحدّث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. ودليل كونه من الكبائر: ما ثبت في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجّلة تتشبه بالرجال، والدّيوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقّ لوالديه، والمدمن الخمر، والمنّان بما أعطى» «1» . والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ لأن المنّ جزء من الأذى، لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. والمن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها: وهو تخفيف بؤس المحتاجين ودفع غائلة الفقر عنهم. 7- جعل الله تعالى ثواب النفقة في سبيله أمورا ثلاثة: ضمن الله له الأجر،

_ (1) وروى القسم الأخير أيضا ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه.

والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته في المستقبل، وأذهب عنه الحزن أو الألم على ما سلف في الدنيا لأنه يغتبط بآخرته، فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وفيها دلالة لمن فضّل الغنى على الفقر. 8- القول المعروف خير من صدقة الأذى، والقول المعروف: هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله. وهذا فيه أجر، ولا أجر فيها، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم: «الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» أي يتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى، ومعذورا إن منع، وهو نظير قوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الإسراء 17/ 28] . وأيضا الفعل المؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. والمغفرة: ستر سوء حالة المحتاج، أو التجاوز عن السائل إذا ألحّ وأغلظ وجفا. ودلت آية قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ على مبدأ مهم عام في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» . 9- لا تقبل الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها، وعبر الله تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال. والمراد إبطال الصدقة المصحوبة بالمن أو الأذى، لا غيرها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، وإنما يقتصر الأمر على حرمان المرائي والمنان من الانتفاع بصدقته المشتملة على الرياء أو المن. ودل قوله تعالى: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ على تسلية الفقراء، وتعليق قلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني الحليم، وتهديد الأغنياء وإنذارهم بأن لا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم.

10- كره الإمام مالك لهذه الآية: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه، لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منّته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، وأن يولّي غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى. وهذا بخلاف صدقة التطوع السرّية لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد، وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه، لكونه في حكم من لم يفعل. 11- صاحب المن والأذى مثل المرائي المنافق، عمل كل منهما باطل لا فائدة فيه، ولا فضل له، ولا دوام لأثره. وإنما ينمحي بسرعة، كما تعصف الرياح بالغبار الموجود على الحجارة أو الصخور الصلبة الملساء، وتعد أفعال المرائي الواجبة أو الخيرية من صلاة وصيام وتطوع كلها باطلة، لا تجاه قلبه إلى من يرائيه، لا إلى الله الصمد الذي يستحق العبادة دون سواه. ويوصف كل من المرائي والمنّان أيضا بأنه لا يؤمن حقا بالله ولا باليوم الآخر لأن قصده من فعله مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكره الناس أو ليقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية. ولا يقدر المرائي الكافر والمانّ على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم، عند حاجتهم إليه إذ كان لغير الله، فعبّر عن النفقة بالكسب لأنهم قصدوا بها الكسب. وفي قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من صفات الكافرين، لا المؤمنين، فلا ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها، وعليهم تجنبها لأن الإخلاص لله هو من صفات الإيمان، قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة 98/ 5] .

الإنفاق لمرضاة الله والإنفاق لغير وجه الله [سورة البقرة (2) الآيات 265 إلى 266] :

الإنفاق لمرضاة الله والإنفاق لغير وجه الله [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) الإعراب: ابْتِغاءَ ووَ تَثْبِيتاً منصوبان على المفعول لأجله. كَمَثَلِ جَنَّةٍ الكاف في موضع رفع خبر مبتدأ وهو قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ. بِرَبْوَةٍ جار ومجرور في موضع جر صفة لجنة أَصابَها وابِلٌ جملة فعلية في موضع جر صفة لجنة أو لربوة. مِنْ نَخِيلٍ جار ومجرور في موضع رفع وصف لجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا إما مرفوع وصف ثان للجنة، وإما منصوب على الحال من جَنَّةٌ لأنها قد وصفت. لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ في موضع نصب على الحال من أَحَدُكُمْ. ووَ أَصابَهُ الْكِبَرُ عطف على قوله: فِيها. وقال الزمخشري: الواو للحال، لا للعطف، ومعناه: أن تكون له جنة، وقد أصابه الكبر. البلاغة: لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ذكر العام بعد الخاص وهو النخيل والعنب لأنهما أكرم الشجر وأكثرهما منافع فخصهما بالذكر تغليبا لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات: المنافع التي كانت تحصل له فيها. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ استعارة تمثيلية، وهي تشبيه حال بحال، لم يذكر المشبه

المفردات اللغوية:

ولا أداة التشبيه، وإنما ذكر المشبه به فقط، ودلت القرائن على إرادة التشبيه. وهمزة أَيَوَدُّ للاستفهام الإنكاري أي ما يود أحد ذلك. المفردات اللغوية: وَمَثَلُ صفة نفقات المنفقين ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضوانه وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ تحقيقا للثواب أو تصديقا ويقينا بثواب الإنفاق من عند أنفسهم، ومن: ابتدائية، أي مبتدأ من أنفسهم، أو تمكين أنفسهم في مرتبة الإيمان والإحسان، بخلاف المنافقين المترددين في إيمانهم ولا يرجون الثواب، وقال ابن كثير: أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا الحديث المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا» أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه كَمَثَلِ جَنَّةٍ بستان بِرَبْوَةٍ مكان مرتفع من الأرض وابِلٌ مطر غزير فَآتَتْ أعطت أُكُلَها ثمرها ضِعْفَيْنِ مثلي ما يثمر غيرها فَطَلٌّ مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى: تثمر وتزكو، كثر المطر أم قل، فكذلك نفقات من ذكر، تزكو عند الله، كثرت أم قلت وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به. أَيَوَدُّ أيحب، والهمزة للاستفهام الإنكاري والنفي، أي ما يود أحد ذلك. وَأَعْنابٍ ثمر الكرم وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ أولاد صغار لا يقدرون على شيء. إِعْصارٌ ريح شديدة، تستدير في الأرض بشدة، ثم ترتفع إلى الجو حاملة الغبار، كهيئة العمود وهي الزوبعة نارٌ سموم شديدة، المراد: ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر «1» كَذلِكَ كما بين ما ذكر يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فتعتبروا. وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمانّ، في ذهابها وعدم نفعها، مع أن أحوج ما يكون لثوابها في الآخرة. التفسير والبيان: صفة نفقات المنفقين أموالهم طلبا لرضوان الله ومغفرته، وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، أو تثبيتا لأنفسهم على الإيمان

_ (1) قال الحسن البصري: الإعصار: ريح فيها برد شديد. وقال ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة، وكذا قال السدي: الإعصار: الريح والنار السموم، قال ابن عطية: ويكون ذلك في شدة الحر، ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها.

واليقين «1» بترويض أنفسهم على إنفاق المال الذي هو شقيق الروح، وبذل أشق شيء على النفس من سائر العبادات ومن الإيمان، صفة نفقاتهم الكثيرة والقليلة كبستان جيد التربة، ملتف الشجر، خصب النبات، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء، ينزل عليه المطر الغزير، فيثمر ضعفي غلته، وإذا نزل عليه مطر خفيف أثمر أيضا لجودة تربته وكرم منبته، وحسن موقعه. وإنما وصف البستان بكونه في ربوة: مكان مرتفع، فلأن الشجر في الربوة أزكى وأحسن ثمرا. وإنما قال من أنفسهم أي مبتدأ منها دون عامل خارجي ليدل على أن إنفاقه نابع من ذاته ويقينه، وقناعته بجدوى فعله، ومجاهدته بخل النفس، كما قال تعالى: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال 8/ 72] . والمعنى في هذا التشبيه: أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على بذل المال وفعل الخير أو التأكد من نيل الثواب يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا، وإن أصابه قليل أنفق بقدر طاقته، فخيره دائم وبره لا ينقطع، فهو محسن في كلا الحالين، ويجد ثمرة بذله على كل حال، فهو كالأرض الجيدة التربة الخصبة النبات تثمر مطلقا وتغل الخير، ونتاجها وفير دائما، سواء أصابها مطر كثير أو قليل.

_ (1) قال ابن عباس: معناه: تصديقا ويقينا، وقال قتادة: معناه: احتسابا من أنفسهم، وقال الشعبي والسدي وغيرهما: معناه: وتيقنا، أي أن نفوسهم لها بصائر، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. قال القرطبي: وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول غيرهم. والخلاصة: أن لهذه الكلمة معنيين: إما التيقن من ثواب الله، وإما تثبيت النفس على الإيمان ومجاهدتها من أجل البذل في سبيل الله، أي تزكية النفس وتطهيرها من مرض البخل وحب المال، والمعنى الثاني أولى لأنه قال: من أنفسهم، ولم يقل: لأنفسهم، قال أبو حيان: (في البحر المحيط: 2/ 311) معناه أن من بذل ماله لوجه الله، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها.

والله لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ويجازي كلا من المخلص والمرائي بما يستحق. هذا هو المثال الأول لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الرحمن وطلب رضوانه، والمثال الثاني لمن ينفق على عكس الأول في سبيل الشيطان والهوى أو لغير وجه الله. وبدأه تعالى بالإنكار والنفي لأن شأن المؤمن المخلص ألا يقصد ذلك، فهو مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي وجه الله، فإذا كان يوم القيامة، وجدها محبطة مبددة متلاشية، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنات وأجمعها للثمار، فبلغ الكبر، وله أولاد ضعاف، والجنة معاشهم ومنتعشهم، فهلكت بالصاعقة. قال البخاري عند تفسير هذه الآية: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيمن ترون هذه الآية نزلت؟: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ... قالوا: الله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر نفسك، فقال: ضربت مثلا بعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله «1» . وقال الحسن البصري: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، فجاءها الإعصار فأحرقها، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله، إذا انقطعت عنه الدنيا «2» . وتوضيح هذا المثل: أتحب أيها المنفق لغير الله أن تكون لك جنة فيها

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 319 (2) تفسير الكشاف: 1/ 299

فقه الحياة أو الأحكام:

النخيل والأعناب ومختلف الأثمار، وتجري فيها الأنهار، فتسقيها، وقد علقت الآمال عليها، ورجوت أن تنتفع بها مع صغارك، وأنت في حال الكبر لا تقدر على الكسب، وهم لا يقدرون على شأنك وشأنهم، ولا مورد لك غير هذه الجنة، ثم أصابتها ريح السّموم «1» اللافحة بحرها أو بردها القارس، فأحرقتها وأبادت ثمرها. هذا حالك إذ أنفقت مالك رياء، أو بالمن والأذى، لن تجد له أية فائدة في يوم القيامة، ولن تجد لعملك غير الحسرة والندامة، وأنت في ذلك اليوم الرهيب في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك، وثواب ما بذلت لأن إعصار الرياء، والمنّ والأذى بدّد كل ما فعلته من خير في الظاهر، وهو شر في الحقيقة والباطن. ومثل هذا البيان الجلي الواضح يبين الله لكم الآيات ودلائل الشريعة وأسرارها وغاياتها وفوائدها لتتفكروا فيها، وتتعظوا بما اشتملت عليه من الأمثال والمعاني والعبر، وتنزلوها على المراد بها، فتقصدوا بنفقاتكم أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، دون أن يصاحبها رياء أو منّ وأذى، كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت 29/ 43] . فقوله لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي في العواقب، فتضعون نفقاتكم في مرضاة الله مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس على فعل الخير المحض. فقه الحياة أو الأحكام: في الآيتين مثلان واضحان يوجبان التأمل والتفكر والمقارنة، ولا شك بأن كل مؤمن عاقل يختار الموقف الأول، فيجعل نفقته خالصة لوجه الله، لأنها هي التي تفيده وتحقق له الثواب يوم القيامة، ولا يغتر العاقل بمظاهر الدنيا الفانية وسمعتها وشهرتها الزائلة لأن كلام الناس في كل حال مؤذ ومضر، فإن راءى

_ (1) السموم: الريح الحارة، وتؤنث، وجمعها سمائم.

بعمله ذمّوه وحسدوه ومقتوه، وقد يتهمونه بالتهور والطيش إن كانت نفقته كثيرة، وإن مدحوه فلا قيمة ولا غناء لمديحهم لأن ما عند الله خير وأبقى أو أنفع وأخلد. والله تعالى بكرمه وفضله ينمي نفقات المخلصين ويكافئهم بالمزيد، كالبستان الذي يثمر ضعفي ثمرته، تقريبا لأذهاننا، أخرج مسلم ومالك وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه «1» ، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم» . وأما المنفق لغير وجه الله فيتلاشى فضل عمله سراعا في الدنيا، ولا يجد له ثمرة في الآخرة. روي عن ابن عباس وغيره أن هذا- أي الموقف الثاني- مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا، فأكثر فيه من الثمر، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء- يريد صبيانا بنات وغلمانا- فكانت معيشته ومعيشة ذرّيته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار، فأحرقته، ولم يكن عنده قوة، فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير، فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة، ليست له كرّة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عند من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنىّ عنه. وقد دل تعليل الإنفاق بعلتين في آية: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. على أن نقصد بأعمالنا أمرين: أولهما- ابتغاء رضوان الله لذاته، تعبدا له.

_ (1) الفلو: بضم الفاء وفتحها مع ضم اللام، وبكسرها مع سكون اللام: المهر الصغير.

إنفاق الطيب من الأموال لا الخبيث [سورة البقرة (2) آية 267] :

وثانيهما- تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال، كالبخل والمبالغة في حب المال، وتوطينها على البذل في سبيل الله. والخلاصة: أن الله في الآية (265) ضرب المثل للمخلصين في الإنفاق وفي الآية (266) ضرب مثلا آخر للمرائين، والمؤذين والمنّانين، والقصد هو المقارنة والمقابلة بين حال الفريقين، وأن المثل الثاني ليس خاصا بالآخرة أو المرائي، وإنما ينطبق أيضا على حال الدنيا فيشمل المنان والمؤذي. إنفاق الطيب من الأموال لا الخبيث [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الإعراب: تَيَمَّمُوا أصله تتيمموا، فكرهوا اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد وهما التاءان فسكنوا التاء الأولى، وأدغموها في الثانية تُنْفِقُونَ حال من ضمير تيمموا إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أن وصلتها: في موضع نصب بآخذيه لأن التقدير: بأن تغمضوا، فلما حذفت الباء اتصل بآخذيه. البلاغة: تُغْمِضُوا فِيهِ مجاز مرسل يراد به التساهل لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك، أو تشبيه على سبيل الاستعارة. المفردات اللغوية: أَنْفِقُوا زكوا مِنْ طَيِّباتِ جياد وحسان، مفرده طيب أي جيد مستطاب، وضده

سبب النزول:

الخبيث المستكره ما كَسَبْتُمْ من المال وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ومن طيبات ما أنبتنا من الحبوب والثمار وَلا تَيَمَّمُوا تقصدوا الْخَبِيثَ الرديء وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ بالتساهل وغض البصر، فكيف تؤدون منه حق الله؟! غَنِيٌّ عن نفقاتكم حَمِيدٌ مستحق للحمد على نعمه الكثيرة. سبب النزول: روى الحاكم والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن البراء بن عازب، قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشّيص والحشف «1» ، وبالقنو قد انكسر، فيعلّقه «2» ، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ. وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهل بن حنيف قال: كان الناس يتيممون شر ثمارهم، يخرجونها من الصدقة، فنزلت: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. وروى الحاكم عن جابر قال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بزكاة الفطر بصاع من تمر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزل القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ الآية. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشترون الطعام الرخيص، ويتصدقون به، فأنزل الله هذه الآية.

_ (1) القنو: العذق وهو عنقود النخلة والشماريخ مثمرة. والشيص: التمر الذي لا يشتد نواه، وإنما يتشيّص إذا لم تلقح النخل. والحشف: التمر يجف قبل النضج، فيكون رديئا وليس له لحم. (2) على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول صلّى الله عليه وسلّم، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف، وهو يظن أنه جائز عنه.

المناسبة:

المناسبة: بيّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ما يجب أن يتصف به المنفق عند الإنفاق من الإخلاص لله، وقصد تزكية النفس، والبعد عن الرياء، وما يجب أن يتحلى به بعد الإنفاق من البعد عن المن والأذى. ثم بين تعالى هنا صفة المال المبذول: وهو أن يكون من جيد الأموال. التفسير والبيان: يا من اتصفتم بالإيمان آمركم أن تنفقوا الطيب الجيد من الأموال، سواء أكان نقودا أم ماشية أم حبوبا وزروعا أم سلعا تجارية وغيرها، كالمعادن والكنوز والركاز (دفين الجاهلية) ، كقوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 3/ 92] وأنهاكم أن تقصدوا إلى الخبيث الرديء من أموالكم، فتنفقونه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يقبل ما تكرهه نفوسكم. والخبيث ينطلق على معنيين: أحدهما- ما لا منفعة فيه، كما في حديث الشيخين: «كما ينفي الكير خبث الحديد» والثاني- ما تنكره النفس، وهو مقصود الآية: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. وكيف يروق لكم أن تتصدقوا بالخبيث الرديء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم إلا أن تتساهلوا وتتسامحوا فيه تساهل من غض بصره عن شيء فلم ير العيب فيه، ولو كان لأحدكم حق أو دين، فجاءكم دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! فحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه. واعملوا أن الله- وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها- فهو غني عنها وعن إنفاقكم وغني عن جميع خلقه، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، ولتحقيق المساواة بين الغني والفقير، وليختبركم فيما تنفقون، فلا تتقربوا إليه بالرديء، وهو أيضا

فقه الحياة أو الأحكام:

مستحق للحمد والشكر على جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ونعمه. ومن الحمد اللائق بجلاله: إنفاق الطيب مما أنعم به. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآية: وجوب اختيار الطيب الجيد من مكاسب الأموال عند إنفاقها في سبيل الله، سواء أكانت من الزكوات الواجبة أم من الصدقات المندوبة لأن القصد هو التقرب إلى الله تعالى، وادخار الثواب على فعل الخير، وذلك لا يتحقق إلا بجياد الأموال وأطيبها. والآية خطاب لجميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم «1» ، واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السّلمانيّ وابن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد. وقال البراء بن عازب والحسن البصري وقتادة: إن الآية في التطوع، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد. والظاهر أن الآية عامة تشمل الزكاة والصدقة، لكن الزكاة الأمر فيها على الوجوب، ومخصوصة بالقدر المفروض، وأما التطوع فالأمر فيه على الندب، وليس مخصوصا بقدر معين، فيجوز بالقليل وبالكثير، لكن يختار الجيد، وليس القصد هو الممتاز، فهو الأولى، ولكن الحد الأدنى المطلوب هو الوسط، كما قرر الفقهاء في الزكاة. ودلت الآية على أن للوالد أن يأكل من كسب ولده لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أولادكم من طيّب أكسابكم، فكلوا من أموال أولادكم هنيئا» «2» . واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ

_ (1) البحر المحيط: 2/ 316 (2) رواه البزاز بلفظ: «أولادكم من هبة الله لكم، فكلوا من كسبهم» .

على وجوب زكاة العشر فيما سقي بالمطر، ونصف العشر فيما سقي بالبئر ونحوه مما فيه كلفة، في كل ما تخرجه الأرض من أصناف زراعية، قليلا كان أو كثيرا، من غير تقدير بنصاب، ولا تخصيص بنوع معين من الأقوات، فتجب الزكاة عنده في الزروع والثمار كلها، ويعضده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية «1» نصف العشر» . وأجيب من قبل الجمهور: بأنه لا متعلق له من الآية لأنها إنما جاءت لبيان محل الزكاة، لا لبيان نصابها أو مقدارها، وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم الأنصبة بقوله فيما رواه ابن ماجة: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة» «2» . وهناك أدلة أخرى للفريقين «3» . ويلاحظ أن الآيات التي تطالب بالإنفاق تختم عادة أو غالبا إما بقوله تعالى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أو بقوله: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وذلك يرشدنا إلى أن النفقة جزء مما أنعم الله به من رزق على العباد، وأنه تعالى سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة، ويخلف المبذول على المنفق لأنه واسع الفضل والرحمة والعطاء، ويرشدنا أيضا إلى أن القصد هو اختبار الناس فهو لا يأمرهم بالصدقة حين العوز، وإنما حال السعة واليسر، فكل إنسان مكلف حسب طاقته وقدرته على الإنفاق، وهو سبحانه محمود على كل حال، وعلى جميع نعمه،

_ (1) الدالية: الغرافة التي تديرها البقرة أو الجمل ونحوهما من الدواب، والناعورة التي يديرها الماء. والحديث رواه الجماعة إلا مسلما عن ابن عمر. (2) الذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير: أذواد. ونصاب الفضة: مائتا درهم، والدرهم العربي (975، 2 غم) ، والخمسة الأوسق تعادل (653 كغ) . [.....] (3) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 1/ 458، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 235 وما بعدها.

تخويف الشيطان من الفقر والفهم الصحيح للقرآن [سورة البقرة (2) الآيات 268 إلى 269] :

ومقتضى الحمد والشكر تذكر المحتاج ومواساة الفقير والمسكين، ومما يرغب في النفقة أن اليد العليا- المنفقة- خير من اليد السفلى- الآخذة. تخويف الشيطان من الفقر والفهم الصحيح للقرآن [سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 269] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) الإعراب: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ مبتدأ، وجملة يَعِدُكُمُ خبره، وسمي شيطانا (فيعالا) من شطن أي بعد لأنه بعد عن رحمة الله، وقيل في وجه ضعيف: على وزن فعلان: من شاط يشيط: إذا احترق. البلاغة: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وفي قراءة «تشاء» على الخطاب، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب. المفردات اللغوية: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يخوّفكم من الفقر إن تصدقتم، فتمسكون ما بأيدكم، فلا تنفقوه في مرضاة الله، والفقر: سوء الحال وضيق ذات اليد. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي يغريكم بالبخل ومنع الزكاة وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ على الإنفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ صفحا من الله عن ذنوبكم. وَفَضْلًا رزقا وخلفا منه وَاللَّهُ واسِعٌ فضله عَلِيمٌ بالمنفق. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ العلم النافع المؤدي إلى العمل، المؤثر في النفس، واختلف العلماء في

التفسير والبيان:

الحكمة: فقال السدي: هي النبوة. وقال ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدّمه ومؤخره (أي العلم بأصول الفقه) . وقال قتادة ومجاهد: الحكمة: هي الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الإصابة في القول والفعل. وقال ابن زيد: الحكمة: العقل في الدّين. وقال مالك بن أنس: الحكمة: التفكر في أمر الله والاتّباع له، أو هي طاعة الله والفقه في الدين والعمل به. وكل هذه الأقوال تشترك في أن الحكمة: هي الفهم الصحيح والعلم النافع واتباع المعلوم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة «1» . خَيْراً كَثِيراً لأن الحكمة أوصلته إلى السعادة الأبدية وَما يَذَّكَّرُ يتعظ، وأصله: يتذكر، فأدغم التاء في الذال أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول. التفسير والبيان: الشيطان عدو الإنسان من قديم، وهو الذي أقسم فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 38/ 82- 83] يوسوس للناس ويخوفهم من الفقر إذا تصدقوا أو أنفقوا في سبيل الله ويقول لهم: إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، ويحرضهم ويغريهم على البخل والإمساك إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب: البخيل. والوعد: يستعمل في الخير والشر، قال الله تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج 22/ 72] . وسمي ذلك التخويف وعدا: مبالغة في الإخبار بتحقق وقوعه، وكأن مجيئه بحسب إرادته، مع العلم بأن الوعد: هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر، والشيطان لم يقل: إني سأفقركم. ويوضح هذا التخويف: ما رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة «2» بابن آدم، وللملك لمّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد

_ (1) البحر المحيط: 2/ 320 (2) اللّمّة: المس والشيء القليل من الجن، والمراد: الخطرة التي تقع في القلب بوسوسة الشيطان أو الملك.

الأخرى، فليتعوذ من الشيطان» ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا «1» . والله تعالى في مقابلة إغراءات الشيطان ووساوسه وأمره بالفحشاء (البخل) يعدكم على لسان نبيكم مغفرة بسبب الإنفاق لذنوبكم، وتعويضا وإخلافا في الدنيا لما أنفقتموه، والفضل: المال والخير، والله واسع الرحمة والفضل، فيحقق ما وعدكم به، وهو عليم بما تنفقون، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء، كما قال تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ 34/ 39] وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» أي أن الأول يعوضه الله بتسهيل أسباب الرزق له، والآخر يذهب ماله. والله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، وليست الحكمة على الصحيح النبوة، ولكنها كما قال الجمهور: العلم والفقه والقرآن، فهي لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، وذلك يرشد إلى تمييز الحقائق من الأوهام، والتفرقة بين الوسواس والإلهام. وآلة الحكمة: العقل، فمن عرف ما في القرآن من أحكام وأسرار، وأدرك بسلامة عقله ما في الإنفاق من فوائد تعود على الأمة بالخير وعلى المنفق بالثواب الجزيل، لم يتأثر بوساوس الشيطان، ولم يتردد في البذل والإنفاق في سبيل الله. عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها» «2» . ومن يوفقه الله للعلم النافع، وعلى التخصيص فهم القرآن والدين، ويرشده

_ (1) وهكذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب، والنسائي، وابن حبان في صحيحة. (2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.

فقه الحياة أو الأحكام:

إلى هداية العقل، فقد هدي إلى خيري الدنيا والآخرة، وأدرك الأمور على حقيقتها. ولا يتعظ بالعلم ويتأثر بالموعظة وينتفع بالتذكار إلا كل ذي عقل سليم يفهم به الخطاب الشرعي ومعنى الكلام الإلهي. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية متصلة بما قبلها، فهي تحث المؤمن على الإنفاق في سبيل الله: سبيل الخير لأن الله وعد بالمغفرة جزاء الإنفاق، وبالإخلاف والتعويض والإمداد بالفضل الإلهي من المال والرزق، والله تعالى يعطي من سعة، فلا تنفد خزائنه، ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة. وتحذر الآية من وساوس الشياطين، فإن للشيطان مدخلا في تثبيط الإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالبخل والفحشاء وهي المعاصي، والإنفاق فيها. ومن أعطي الحكمة (العلم النافع الصحيح) وفهم القرآن، فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع كتب علم الأولين من الصحف وغيرها. والآية تحض على العلم وترفع شأن الحكمة، وتهدي إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له. قال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم: فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا، فقال: قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء 4/ 77] وسمّى العلم والقرآن خَيْراً كَثِيراً.

صدقة السر وصدقة العلن [سورة البقرة (2) الآيات 270 إلى 271] :

صدقة السر وصدقة العلن [سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) الإعراب: فَنِعِمَّا أصله نعم ما وهي لغة هذيل، ونعم فعل ماض مخصوص للمدح، وفيه ضمير مرفوع، والتقدير: نعم الشيء شيئا إبداؤها، وإبداؤها: هو المقصود بالمدح وهو مرفوع لأنه مبتدأ، وما قبله: الخبر، ثم حذف (إبداء) وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فصار الضمير المجرور المتصل ضميرا مرفوعا منفصلا وهو هِيَ مرفوعا بالابتداء، لقيامه مقام المبتدأ. و «ما» في موضع نصب على التمييز. يُكَفِّرُ بالرفع: استئناف وتقديره: ونحن نكفّر ومِنْ سَيِّئاتِكُمْ: من للتبعيض، أي شيئا من سيئاتكم. وقيل: من زائدة، والأكثرون على أنها ليست زائدة لأن «من» لا تزاد في الإيجاب، وإنما تزاد في النفي، نحو: ما جاءني من أحد. البلاغة: يوجد جناس اشتقاق بين «أنفقتم ونفقة» وبين «نذرتم ونذر» . ويوجد طباق بين «تبدوا وتخفوها» . لمفردات اللغوية: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أديتم من زكاة أو صدقة أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ النذر: لغة: العزم على التزام شيء خاص، وشرعا: التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ تظهروا الصدقات النوافل أو التطوعات فَنِعِمَّا هِيَ الأصل: فنعم ما هي، بمعنى شيئا إبداؤها وَإِنْ تُخْفُوها تسروها خير لكم من إبدائها وإيتائها الأغنياء والضمير يعود على الصدقات. أما صدقة الفرض (الزكاة) فالأفضل إظهارها ليقتدى به ولئلا يتهم المزكي بالمنع، وإيتاء الفقراء: متعين.

سبب النزول:

سبب النزول: قال ابن أبي حاتم في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.. الآية أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، أما عمر فجاء بنصف ماله، حتى دفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا عمر؟» قال: خلفت لهم نصف مالي. وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟» فقال: عدة الله وعدة رسوله. فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبابكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط، إلا كنت سابقا «1» . وقال الكلبي: لما نزل قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية، قالوا: يا رسول الله، صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» . المناسبة: بعد أن رغب تعالى في الإنفاق في سبيله، أوضح أن الله يعلم مصرف كل صدقة، سواء أكانت في طاعة أم في معصية، وخيرنا بين إخفاء صدقة التطوع وإظهارها، ولكن الإخفاء هو الأفضل، ويؤيده حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» «3» فكان موضوع الآية الترغيب في إخفاء الصدقات بعدا عن الرياء.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 323 (2) أسباب النزول للنيسابوري: ص 48- 49 (3) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ما أنفقتم من نفقة، سواء كانت لله أو للرياء أو كانت مصحوبة بالمن أو الأذى أو لم تصحب بهما أو نذرتم نذرا في طاعة (وهو نذر التبرر) أو في معصية (وهو نذر اللجاج والغضب) ، فإن الله عالم به ومجاز عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا ترغيب في الخير وترهيب من الشر. وما للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بأن بخلوا بالمال ولم يتصدقوا من أنصار ينصرونهم يوم القيامة، كقوله: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر 40/ 18] . وإن تظهروا صدقات التطوع بقصد حمل الناس على فعلها فنعم ما فعلتم، وإن تخفوها، ولم تعلموا بها أحدا، وتعطوها الفقراء، فهو خير لكم بعدا عن الرياء والسمعة، ويمحو عنكم بالصدقة بعض ذنوبكم لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب أو السيئات. والله خبير وبصير بكل عمل تعملونه وبكل دقائق الأمور، فهو يعلم السر وأخفى، فيجازيكم على أعمالكم، واحذروا الرياء والإنفاق لغير الله، فلا تخفى عليه نياتكم في الإبداء والإخفاء. فقه الحياة أو الأحكام: كانت العرب تكثر من النذور، فذكر الله تعالى النوعين: ما يفعله المرء تبرعا، وما يفعله نذرا أي بإلزامه نفسه. ويخبر الله تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، ويجازي كل واحد بحسب فعله، خيرا أو شرا، وفي الآية معنى الوعد والوعيد، فمن كان خالص النية، ينفق في طاعة الله فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو قرن صدقته بالمن أو الأذى ونحو ذلك، فهو ظالم، يذهب فعله هدرا، ولا يجد له يوم القيامة ناصرا فيه ينقذه من عذاب الله ونقمته. ولا فرق في

مشروعية نذر التبرر بين أن يكون بشرط أو بغير شرط، مثال الأول: أن يقول الناذر: لله علي أن أصوم أو أتصدق بكذا، ومثال الثاني: أن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بكذا. وقد اتفق العلماء على وجوب الوفاء بنذر الطاعة، وحرمة فعل المعصية المنذورة، بدليل ما أخرجه النسائي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله تعالى، فذلك لله تعالى، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى، فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفّره ما كفّر اليمين» . وأما نذر المباح كالأكل والركوب واللبس فيخير فيه في رأي جمهور الفقهاء بين الفعل والترك، لخبر أبي داود: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى» . وأما المرأة التي نذرت أن تضرب الدف يوم قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقول الرسول لها: أوفي بنذرك ، فإن فعلها صار من القرب، لسرور المسلمين بقدومه صلّى الله عليه وسلّم، وإغاظة الكفار، وإرغام المنافقين. وذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية (271) في صدقة التطوع، وفيها دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، وكذلك سائر العبادات: الإخفاء أفضل في تطوعها لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فمن تصدق لجهة عامة أو لمشروع خيري، أو لأي أمر عام مثلا، فلا بأس من إعلان صدقته أو مشاركته ومساهمته، لترغيب الناس، وللاقتداء به، وليكون أدعى للتسابق في الخيرات. ويؤكد التخيير ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر والحاكم عن معاذ: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة» . ويؤكد أفضلية الإسرار بصدقة التطوع ما ذكرناه وهو

ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ومنهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وروى أحمد وابن أبي حاتم عن أبي أمامة: «أن أبا ذرّ قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة سرّ إلى فقير، أو جهد من مقلّ، ثم قرأ الآية: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ وروى الطبراني مرفوعا: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» . ودليل إعلان الصدقة المفروضة: ما روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: «جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا. وأما الصدقة الواجبة (الزكاة) : فأكثر العلماء على أن إظهارها أفضل من إسرارها لأن الفرائض لا يدخلها رياء، والنوافل عرضة لذلك، أخرج مسلم في صحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » ومن هنا قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التّهمة. بل إن إظهار الفرائض أمر لا بد منه لإقامة شعائر الدين، وفيه الدلالة على قوة الإسلام، كما أن فيه الأخذ والعمل بمبدإ القدوة الحسنة. وتجوز صدقة التطوع للمسلم والكافر، والبر والفاجر، والفقير والغني، لأن الله تعالى قال: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فقد أطلق كلمة الْفُقَراءَ ولم يقيدها بفقراء المسلمين، وجعل الخيرية في إعطائها للفقير، ولم يمنعها عن الغني، وورد في الصحيحين: «في كل كبد حرّى رطبة أجر » أي أن رحمة جميع المخلوقات مدعاة للثواب. وأما الزكاة المفروضة وزكاة الفطر فهي خاصة بالمسلمين وبالفقراء، لقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ولحديث معاذ حينما أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم واليا إلى اليمن: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» «1» .

_ (1) رواه الجماعة عن ابن عباس.

مستحقو الصدقات [سورة البقرة (2) الآيات 272 إلى 274] :

والخلاصة: إن الصدقة الواجبة، والإنفاق في المصالح العامة كبناء المدارس والمشافي والدعوة إلى الدين والجهاد، ونفقة التطوع بقصد ترغيب الآخرين في التصدق ينبغي إعلانها، وهو أفضل من الإخفاء. وأما الصدقة على الفقراء لسد حاجاتهم فإسرارها أفضل من إعلانها، سترا لحالهم وحفظا لكرامتهم. مستحقو الصدقات [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الإعراب: لِلْفُقَراءِ جار ومجرور: إما مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: الصدقات للفقراء، وإما منصوب لتعلقه بفعل: وَما تُنْفِقُوا في الآية السابقة، أي: وما تنفقوا من خير للفقراء، أو متعلق بمحذوف والمعنى اعمدوا للفقراء أو اجعلوها لهم. لا يَسْتَطِيعُونَ جملة فعلية حال

البلاغة:

منصوب من ضمير أُحْصِرُوا. يَحْسَبُهُمُ جملة فعلية حال من الفقراء، وكذلك: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ويحتمل أن يكون ذلك كله حالا من ضمير أُحْصِرُوا ويحتمل أن يكون مستأنفا، فلا يكون له موضع من الإعراب. ومعنى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا يسألون ولا يلحفون. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ مبتدأ موصول، وتمت الصلة عند قوله: سرا وعلانية: وهما مصدران في موضع الحال من ضمير يُنْفِقُونَ. ثم أخبر عن المبتدأ بقوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ودخلت الفاء في خبر المبتدأ، لتضمن المبتدأ الموصول حرف الشرط، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الصلة جملة فعلية، ولم يدخل على عامل يغير معناه نحو ليت ولعل وكأن. البلاغة: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ خبر بمعنى النهي، أي لا تطلبوا غير ثواب الله من أعراض الدنيا. وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ إطناب بعد قوله: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. ويوجد طباق بين قوله: بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وقوله سِرًّا وَعَلانِيَةً. المفردات اللغوية: هُداهُمْ إدخال الناس في الإسلام، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الخير والله هو الهادي إلى الدخول في الإسلام، فالهدى نوعان: هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة وهو مختص بالله تعالى، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ خَيْرٍ مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ثوابه لأنفسكم لا ينتفع به غيركم ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طلب مرضاته وثوابه أُحْصِرُوا منعوا وحبسوا في طاعة الله لجهاد أو تعلم علم يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يصل إليكم جزاؤه غير منقوص وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون منه شيئا، وهذه الجملة وجملة يُوَفَّ تأكيد للجملة الأولى: فَلِأَنْفُسِكُمْ. لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً.. سفرا وسيرا في الأرض للكسب والتجارة والمعاش بسبب شغلهم عنه بالجهاد التَّعَفُّفِ إظهار العفة وترك السؤال بِسِيماهُمْ علامتهم من التواضع وأثر الجهد لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا يسألون الناس أصلا شيئا، ولا يقع منهم إلحاف أي إلحاح: وهو أن يلازم السائل المسؤول حتى يعطيه بِهِ عَلِيمٌ خبير، مطلع عليه ومجاز عليه.

سبب النزول:

سبب النزول: 1- نزول الآية (272) : ورد في سبب نزولها روايات عديدة مضمونها واحد منها: ما رواه النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا «1» لأنسابهم من المشركين، فسألوا، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية. وروي أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم. وقيل: حجت أسماء بنت أبي بكر، فأتتها أمها تسألها، وهي مشركة، فأبت أن تعطيها، فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية، فأمر بالتصدق على كل من سأل من كل دين. وروى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة، فلما كثر فقراء المسلمين، قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتصدّقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. وحكى الطبري أن مقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنع الصدقة إنما كانوا ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ.

_ (1) رضخ له: أعطاه قليلا.

2 - نزول الآية (273) :

والخلاصة: إن مضمون سبب نزول هذه الآية: أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك أو على المشركين أو نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من التصدق عليهم فنزلت الآية. 2- نزول الآية (273) : نزلت في أهل الصّفّة «1» : وهم أربعمائة من المهاجرين، أرصدوا لتعلم القرآن والخروج مع السرايا «2» . 3- نزول الآية (274) : أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: نزلت هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، سِرًّا وَعَلانِيَةً، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ في أصحاب الخيل «3» : وهم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله تعالى، ينفقون عليها بالليل والنهار، سرّا وعلانية، نزلت فيمن لم يرتبطها تخيلا ولا افتخارا. وروي عن ابن عباس: أن هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ نزلت في علف الخيل. ويدلّ على صحة هذا حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ارتبط فرسا في سبيل الله، فأنفق عليه احتسابا، كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه، وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» .

_ (1) تفسير القرطبي: 3/ 337 (2) كان أهل الصفة من مهاجري قريش، ولم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفّة المسجد: وهي سقيفته، يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى بالنهار، ويخرجون مع سرية بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. (3) قال السيوطي: يزيد وأبوه مجهولان.

المناسبة:

المناسبة: أرشدت الآية السابقة المؤمنين إلى إعطاء الفقراء عامة، مسلمين وغير مسلمين، وصرحت هذه الآية بإباحة صدقة التطوع لغير المسلمين، سواء أكانوا مشركين أم من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لأن الله تعالى يرزق المؤمن والكافر من خير الدنيا، وشأن المؤمن أن يتخلّق بأخلاق الله، وأن يكون خيره عاما للناس إشعارا بحبّ الخير والنّفع للبشرية، وإدلالا على توافر صفة الرحمة والمحبة في قلب المسلم لكل إنسان، وإبعادا للعصبية الدّينية التي من شأنها التهديم والتفريق والفتنة، وزرع الأحقاد والضغائن، والتنفير من قبول الإسلام ذاته القائم على التسامح، وترك أمر الهداية للدين لله تعالى، فإن الهداية من الله، وتقتضي الشفقة إعطاء المحتاج أيّا كان دينه. التفسير والبيان: ليس عليك أو لا يجب عليك يا محمد أن تقود الناس إلى هداية الإسلام كرها، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الدين فقط، فتبشر من أطاع بالجنة، وتنذر من عصى بالنار، وأمر الهداية بمعنى التوفيق إلى الخير والسعادة والاهتداء إلى الإسلام مردّه إلى الله، بما وضع في النفوس من العقول، وما أبانه لهم من سنن وأدلّة ترشدهم إلى الدين الحق، فأمر يا محمد بالصدقة إلى كل من سألها من كل دين. وثواب الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله عائد بذاته لأنفسكم، ولا ينتفع به غيركم في الدنيا والآخرة. أما في الدّنيا فيصون المال، ويحصّن الثروة، ويحميكم من أذى الفقراء بالنّهب والسلب والسرقة لأن الجائع يستبيح لنفسه كل شيء. وأما في الآخرة فثوابه لكم بدخول الجنة وتكفير بعض السيئات والذنوب. وإنكم لا تنفقون إلا طلبا لرضوان الله، لا لمصلحة دنيوية أو لإرضاء

الشيطان، وعلى ذلك فلا فرق بين فقير وفقير أيّا كان دينه، ولا داعي للمنّ والأذى، أو الرياء والسمعة لأنك تقصد بنفقتك وجه الله وحده، وفعل الخير المحض، دون انتظار ثناء، أو جزاء الناس في الدّنيا، قال صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص في الحديث الصحيح: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلّا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك» أي فمها. ثم أكّد سبحانه الآية السابقة: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ بمؤكّدين: الأول- قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يصلكم ثوابه كاملا غير منقوص في الآخرة. الثاني- قوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا يضيع عليكم منه شيء، ولا تبخسون منه شيئا، فيكون ذلك البخس ظلما، كقوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] . وكلّ هذا يدل على أن الإنفاق يكون للفقراء عامة، مسلمين أو غير مسلمين، وذلك نحو قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان 76/ 8- 9] . والأسير في دار الإسلام لا يكون عادة إلا مشركا وقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة 60/ 8] . ويؤيد ذلك ما روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدّثون: تصدّق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد: على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا

ثم بين الله تعالى أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء بالصفات الخمس التالية:

يتحدّثون: تصدّق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد: على غني! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر، فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته» . ثم بيّن الله تعالى أحقّ الناس بالصدقة وهم الفقراء بالصفات الخمس التالية: الصفة الأولى- الإحصار في سبيل الله: أي الذين حبسوا أنفسهم للجهاد أو العمل في مرضاة الله كطلب العلم إذ لو اشتغلوا بالكسب مثل غيرهم لتعطلت المصلحة العامة، فهم فداء الأمة وحماتها وقادتها الموجهون لها في وقت السّلم والحرب، وفي الشدّة والأزمة أو المحنة، والرفاه والرخاء أو السعادة. وقد عرفنا أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفّة: وهم فقراء المهاجرين الذين كانوا حوالي أربعمائة رجل، وكانوا مرابطين في سقيفة المسجد، يتعلمون القرآن في الليل، ويجاهدون في النهار، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف يوما على أصحاب الصّفّة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصّفّة، فمن بقي من أمتي على النّعت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه، فإنه من رفقائي» . الصفة الثانية- العجز عن الكسب: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي لا يتمكنون من القيام بالسفر أو السّير في البلاد للتجارة والكسب. والضرب في الأرض: هو السّفر، وعجزهم لأسباب عديدة: منها الكبر والشيخوخة، ومنها المرض، ومنها الخوف من العدو، ونحو ذلك من الضرورات.

الصفة الثالثة - التعفف:

الصفة الثالثة- التّعفف: إظهار العفّة والتّرفع عن الطّمع مما في أيدي الناس، حتى إن الجاهل بحقيقة حالهم يظنّهم أغنياء، لعفّتهم وصبرهم وقناعتهم وتعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. ورد في هذا المعنى حديث متّفق على صحّته عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا» «1» . الصفة الرابعة- القرائن المميزة لهم: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي علامتهم، والتّعرّف عليهم يحتاج إلى فراسة المؤمن «2» ، وخبرة المجرّب، وحنكة ذوي البصيرة والعقل، والتّحرّي عنهم بالسؤال لمن يعرفهم من جيران وأقارب، وربما يستأنس بمظاهر الضّمور والنّحول والضّعف ورثاثة الثياب، وربما لا يكون ذلك دليلا مقنعا، فقد يتظاهر بعضهم بالفقر، وقد يكتسي بعضهم اللباس المعقول لعزّة نفسه، ويكون هو المحتاج، وغيره هو الكاذب. الصفة الخامسة- عدم السؤال أصلا وعدم الإلحاح في السؤال: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ومعناه في رأي جمهور المفسرين: أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.

_ (1) رواه أحمد أيضا عن ابن مسعود. [.....] (2) جاء في حديث السّنن: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.

وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي إنهم يسألون الناس غير إلحاف، وهذا هو المتبادر إلى الذهن والسابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين، فلا يلحّون في المسألة، ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد ألحف في المسألة. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا، وهذا شأن أغلب الشّحاذين اليوم. روى الأئمة، واللفظ لمسلم، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلحفوا في المسألة، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا، فتخرج له مسألته مني شيئا، وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته» . ثم ختمت الآية بأنه ما من نفقة صغيرة أو كبيرة إلا ويعلمها الله، ولا يخفى عليه الباعث على النفقة أو النيّة أيضا، فبحسن النية والإخلاص ففي النفقة دون أذى يحسن الجزاء، وبسوء النية يسوء الجزاء. وفي هذا ترغيب في الإنفاق الطيّب، وترهيب من الإنفاق الخبيث. ثم أوضح الله تعالى ثواب المنفقين وجزاء الإنفاق في جميع الأحوال والأوقات، فمن تصدّق بأمواله ليلا أو نهارا، سرّا أو علانية، ولم يمتنع عن نفقة وقت الحاجة إليها، ومنها النفقة على الأهل، كما دلّ حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد المتقدّم، فله الأجر الكامل عند ربّه وثوابه على الله لا على أحد سواه، ولا خوف عليه في الآخرة، ولا يتعرّض للحزن أبدا، أي فلا خوف عليه فيما يستقبله من أهوال يوم القيامة، ولا يحزن على ما خلّفه من أولاد ولا على ما فاته من الحياة الدّنيا وزهرتها، فلا يأسف عليها لأنه قد صار إلى ما هو خير له من ذلك. وإنما قدّم الليل على النهار، والسرّ على العلانية، للإشارة إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلانية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أباحت الآية دفع صدقة التطوع لأي إنسان كان. أما الصدقة المفروضة (الزكاة) فلا يجزئ بالإجماع دفعها لكافر، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن ابن عباس: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم» . وكذلك لا يجوز في رأي الجمهور دفع زكاة الفطر لكافر لأنها طهرة للصيام، فلا تصرف إلى الكافر، كصدقة الماشية والنقود، وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عمر: «أغنوهم عن سؤال هذا اليوم» يعني يوم الفطر، لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد، وهذا لا يتحقّق في المشركين. وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى غير المسلم من أهل الذّمة، أخذا بعموم الآية في البرّ وإطعام الطّعام وإطلاق الصدقات. ودلّت آية: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ على أن ثمرة النفقة عائد في الواقع إلى المنفق لأنه سيجد جزاء أوفى على فعله، وأكّد تعالى هذا المعنى في جملتين تاليتين وهما: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وأرشد قوله تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ إلى أن النفقة المعتدّ بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله. وأبانت آية: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا.. صفات مستحقي النفقة وهم الفقراء، وقد أوضحناها في التفسير المتقدّم. وأن من أدب السؤال عدم الإلحاح في المسألة. والسؤال في الإسلام محرّم إلا لضرورة، فلا يحلّ للقادر على الكسب بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه-: «لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سوي» . والمرّة: القوة، والسّوي: سليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.

ولا تحلّ المسألة إلا لثلاث حددهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «المسألة لا تحلّ إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دمّ موجع» «1» ، والفقر المدقع: هو الشديد، وهو الذي يلصق صاحبه بالدقعاء: وهي الأرض التي لا نبات فيها، والغرم: ما يلزم أداؤه تكلّفا لا في مقابلة عوض، كالكفالة والنفقة لإصلاح ذات البين ونحوه من أعمال البرّ، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة، والمفظع: الشديد، فلمن تحمل ذلك أن يسأل الإعانة على سداد ما غرم، وأما ذو الدّم الموجع: فهو الذي يتحمل الدّية عن الجاني من قريب أو نسيب أو صديق لئلا يقتل، فيتوجع لقتله. والإلحاح في المسألة مع الغنى عنها حرام لا يحل، أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل الناس أموالهم تكثّرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر» ، وأخرج أيضا عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة «2» لحم» ، وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغديه أو يعشيه» . أما إذا كان السائل محتاجا فلا بأس أن يكرّر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا، والأفضل تركه. فإن كان المسؤول يعلم بذلك، وهو قادر على ما سئله، وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به، فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله،

_ (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) المزعة: القطعة، قال القاضي عياض: قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله. وقيل: هو على ظاهره، فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه، عقوبة له، حين سأل بوجهه.

الربا وأضراره على الفرد والجماعة [سورة البقرة (2) الآيات 275 إلى 281] :

فلا يفلح في ردّه «1» . وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ.. مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال سرّا أو علانية، لكن تقديم الليل على النهار، والسرّ على العلانية يومئ إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلن، كما بيّنا. الرّبا وأضراره على الفرد والجماعة [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

_ (1) وأما حديث أحمد وأبي داود عن الحسين بن علي: «للمسائل حقّ وإن جاء على فرس» فهو مرسل، وفيه مجهول.

الإعراب:

الإعراب:: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ الذين وصلته: مبتدأ، ولا يقومون: خبره. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ مبتدأ وخبره بِأَنَّهُمْ. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ إنما ذكّر: جاء، لثلاثة أوجه: الأول- حملا على المعنى لأن موعظة بمعنى «وعظ» . الثاني- لأن تأنيث موعظة مجازي ليس بحقيقي. الثالث- لوجود الفصل بالهاء. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان هاهنا تامة بمعنى حدث ووقع، ولا خبر لها، كقول الشاعر: «إذا كان الشتاء فأدفئوني» أي حدث ووقع، وذو عسرة: عام في حقّ كل أحد. فَنَظِرَةٌ خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فشأنه أو حاله فنظرة. وَأَنْ تَصَدَّقُوا مبتدأ، وخبره لَكُمْ. وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ يوما: منصوب لأنه مفعول اتَّقُوا، وترجعون: جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة يوم. ورجع: يكون لازما ومتعديا، يقال: رجع زيد ورجعته، كما يقال: زاد الشيء وزدته، ونقص ونقصته. البلاغة: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الأصل أن يقال: الرّبا مثل البيع، ولكنهم قلبوا التّشبيه، فجعلوا المشبّه مكان المشبّه به، على سبيل «التشبيه المقلوب» . ويوجد طباق بين لفظ أَحَلَّ وحَرَّمَ، وبين يَمْحَقُ ويُرْبِي. كَفَّارٍ أَثِيمٍ كلاهما من صيغ المبالغة، أي عظيم الكفر شديد الإثم. فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ تنكير «حرب» للتهويل أي بنوع شديد من الحرب. لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ فيه ما يسمى «الجناس الناقص» لاختلاف شكل الحروف. المفردات اللغوية: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذون، عبّر بالأكل عن الأخذ أو الانتفاع بالرّبا لأنه الغرض الأساسى منه، أي أن أغلب حالات الانتفاع هو الأكل. ويشمل ذلك الآخذ والمعطي،

سبب النزول نزول الآيتين (278 - 279) :

لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء» «1» . والرّبا في اللغة: الزّيادة، وفي الشرع: زيادة مال مخصوص بلا عوض في معاوضة مال بمال، أو الزّيادة في المعاملة من بيع أو قرض بالنقود والمطعومات في القدر أو الأجل. وهذا في رأي الشافعية، وحصره المالكية في ربا الفضل بالمقتات المدّخر، وأما في ربا النّسيئة فهم كالشافعية. وعمه الحنفية والحنابلة على كل مكيل وموزون. لا يَقُومُونَ أي من قبورهم. يَتَخَبَّطُهُ يصرعه. الْمَسِّ الجنون والصرع. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. مَوْعِظَةٌ وعظ وزجر. فَلَهُ ما سَلَفَ أي لا يسترد منه ما أخذه قبل النّهي. وَأَمْرُهُ في العفو عنه إلى الله. وَمَنْ عادَ إلى أكل الرّبا مشبّها له بالبيع في الحلّ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ينقصه ويذهب بركته. وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها وينميها ويضاعف ثوابها. كَفَّارٍ مقيم على كفره بتحليل الرّبا. أَثِيمٍ فاجر أي بأكله الرّبا، ومصرّ على الإثم ومبالغ فيه. لا يُحِبُّ أي يعاقبه. اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه. وَذَرُوا اتركوا. فَأْذَنُوا اعلموا، من أذن بالشيء: علم به. بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ بغضب منه، وحرب من رسوله: بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره، واعتباركم أعداء له في كلّ عصر. وَإِنْ تُبْتُمْ رجعتم عنه. فَلَكُمْ رُؤُسُ أصول. لا تَظْلِمُونَ لا تأخذون الزّيادة من الغريم. وَلا تُظْلَمُونَ بنقص شيء من رأس المال. وَإِنْ كانَ وجد غريم. ذُو عُسْرَةٍ معسر بفقد المال أو كساد المتاع. فَنَظِرَةٌ له، أي فعليكم تأخيره وانتظاره. مَيْسَرَةٍ وقت اليسر والرّخاء. وَأَنْ تَصَدَّقُوا على المعسر بالإبراء. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير فافعلوه. سبب النزول: نزول الآيتين (278- 279) : أخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده عن ابن عباس قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يربون لثقيف «2» ، فلما أظهر الله رسوله على مكة، وضع يومئذ

_ (1) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود بلفظ: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» . (2) أي فكانت الدّيون لبني عمرو من ثقيف، انظر البحر المحيط: 2/ 339

نزول الآية (280) :

الرّبا كلّه، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد، وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالرّبا، ووضع عن الناس غيرنا. فقال بنو عمرو: صالحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها. وأخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في ثقيف، منهم مسعود، وحبيب، وربيعة، وعبد ياليل بنو عمرو وبنو عمير. فقالت ثقيف: لا يد لنا- أي لا طاقة لنا- بحرب الله ورسوله، وتابوا، وأخذوا رؤوس أموالهم فقط. نزول الآية (280) : قال الكلبي: قالت بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، ولكم الرّبا ندعه لكم، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة، فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ الآية. المناسبة: كانت الآيات السابقة في النفقة أو الصدقة من المال بغير عوض، تقرّبا إلى الله، وطلبا لمرضاته، وتثبيتا لأنفسهم على الإيمان. وهذه الآيات في المرابين الذين يأخذون المال بلا عوض يقابله، والصدقة يبارك الله فيها، وأما الرّبا فيمحقه الله ويبطل بركته ونماءه، فالمناسبة بين الآيات التّضاد لأن الضدّ أقرب خطورا بالبال من غيره. التفسير والبيان: الذين يأخذون الرّبا، ويستحلّونه حبّا في المال وعملا بالأهواء، ويأكلون

أموال الناس بالباطل ومن غير عمل ولا جهد: مثلهم في الاضطراب والقلق وتعذيب الضمير والوجدان والانهماك في الأعمال والدّنيا كمثل المصروعين الذين تتخبطهم الشياطين، وتمسّهم الجنّ، وتضربهم وتصرعهم، وهم في الآخرة- من وقت قيامهم من قبورهم إلى البعث والنشور- أشدّ تخبّطا واضطرابا وتثاقلا في حركاتهم، بسبب ثقل المال الحرام الذي أكلوه من الرّبا، مما جعلهم متميزين عن بقية الناس في تعثرهم وسقوطهم كلما همّوا بالنهوض والقيام، وهذه صورة في غاية القبح والبشاعة، ودليل على ما يحدثه النظام الرأسمالي الرّبوي في العالم المعاصر من هزّات وقلق واضطراب وخوف وأمراض عصبية ونفسية. وجمهور المفسرين على أن المراد بقوله تعالى: لا يَقُومُونَ القيام من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم ونشورهم، فعلامتهم أنهم لا يقومون منها إلا كما يقوم المصروع حال صرعة وتخبّط الشيطان له، قال ابن عباس- فيما رواه ابن أبي حاتم-: «آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق» . واقتصر جماعة (وهم ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة ومقاتل بن حيان) على القول: بأنهم لا يقومون يوم القيامة. وإنما عبّر بالقيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في ممارسة العمل. وذلك لأنهم فهموا خطأ وتصوروا باطلا أن الرّبا مثل البيع، أي أن الزّيادة الرّبوية عند حلول أجل الدين آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد لأن العرب كانت لا تعرف إلا ذلك، فكانت إذا حلّ دينها قالت للغريم (المدين) : إما أن تقضي، وإما أن تربي، أي تزيد في الدّين، فحرّم الله سبحانه ذلك عليهم. وبعبارة أخرى: كما يجوز لك أن تبيع الشيء في الحال نقدا بدرهمين، فلماذا لا يصحّ أن تأخذ درهما في وقت الحاجة، ثم تدفع في وقت اليسار درهمين؟! وسبب الزيادتين واحد وهو الأجل.

فردّ الله تعالى عليهم وأبان قياسهم الفاسد بقوله الحق: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبا أي أن البيع لا يكون إلا لحاجة وهو معاوضة لا غبن فيه، والرّبا محض استغلال لحاجة المضطر، وليس له مقابل ولا عوض «1» ، فقياسهم فاسد، فمن يشتري شيئا من الطعام ويدفع ثمنه في الحال، هو محتاج إليه في الأكل أو البذر أو أي انتفاع يصون به حياته وجسده، أما من يرابي، فلا يعقد عقد معاوضة، وإنما يأخذ الزّيادة عن أصل الدّين وقت حلول أجل الوفاء بدون مقابلة شيء، بل إن المصارف اليوم تشبه في عملها أفعال الجاهلية بتجميع الفوائد المتراكمة أو المركّبة، وأخذ الفائدة وفائدة الفائدة مع مرور السنوات، فصار حملة أسهم المصرف يأكلون الرّبا أضعافا مضاعفة، وأخذ هذه الزّيادة وتوابعها ظلم موجب للإثم والمعصية الكبيرة. فمن بلغه تحريم الرّبا، فانتهى عمّا كان يفعله، فله ما سلف أخذه من الرّبا في الجاهلية، وأمره بالعفو عنه أو بالحكم فيه بالعدل، وإسقاط التّبعة عنه يوم القيامة إلى الله تعالى. ومن عاد إلى أخذ الرّبا بعد تحريمه، فقد استوجب العقوبة، واستحقّ الخلود في نار جهنم. والمراد بالخلود هنا: المكث الطويل إذا كان الفاعل مؤمنا، وعبّر به تغليظا لفعله. ثم نبّه الله تعالى على أضرار الرّبا وتبديد أثره، فالرّبا يذهب الله بركته، ولا ينميه ولا يزيده في الحقيقة والواقع، وإن زاد المال بسببه في الظاهر، فهو إلى ضياع وفناء. أما الصدقة: فالله ينميها ويبارك فيها، ويضاعف ثوابها، ففي الدنيا ما نقصت صدقة من مال قط، والله يعوّض المتصدّق خيرا في بيع أو شراء أو ارتفاع ثمن أرض أو سلعة أو متاع، وفي الآخرة يجد المتصدق ثواب عمله أضعافا

_ (1) البحر المحيط: 2/ 335

مضاعفة. ومن مظاهر النّماء المعنوية في الصدقة: أنّ المتصدّق محبوب عند الله وعند الناس، فلا حسد ولا بغض ولا سرقة ولا إيذاء، ومن مظاهر المحق الأدبية في الرّبا: أنّ المرابي مبغوض مكروه عند الله وعند الناس، الكلّ حاسد له وشامت إن ألمّ به أمر مكروه، والكلّ ينتظر له المصير المشؤوم، وهذا أمر ملحوظ في واقع المرابين، فسرعان ما يبدّدون المال، وعاقبتهم تكون في صحّتهم وثروتهم سيئة للغاية، فهم إن بدا عليهم الغنى وقتا ما، فإن الفقر في النهاية هو المحدق بهم غالبا. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيّبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل» . هذا في نماء الصدقة، وأمّا الرّبا فقد عبّرت الآية بالإضافة إلى محقه، بأن الله يعاقب صاحبه ويبغضه، ولا يرضى عن كل من يصرّ على ارتكاب المحرّمات ويحلّها، ويبغض كل كفّار أي متماد مبالغ في كفر ما أنعم الله عليه، فلا ينفق منه في سبيله، ويبغض كل أثيم أي منهمك في ارتكاب الآثام أو المعاصي، فيستغل حاجة المعسرين، ففيه تغليظ أمر الرّبا وإيذان بأنه من فعل الكفار، لا من فعل أهل الإسلام. ثم قارن الله- كما هو شأن القرآن- فعل الكفار الآثمين بفعل المؤمنين الصالحين، ليظهر الفرق واضحا بين الفريقين، فيكون ذلك أدعى إلى امتناع الجاحد وامتثال المؤمن الصادق. فقال: إن الذين صدقوا بالله ورسوله وبما جاءهم من الأوامر والنواهي، وعملوا الصالحات التي تصلح بها نفوسهم كمواساة المحتاجين، وإنظار المعسرين، وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بربّه وتقرّبه إليه، وأتوا الزكاة المفروضة التي تساهم في تخفيف الفقر ومحبة الناس لبعضهم، لهم

ثواب كامل مدّخر عند ربّهم الذي تعهدهم بالرّعاية في شؤونهم، ولا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات. وخصّ الله تعالى الصّلاة والزّكاة مع شمول الأعمال الصالحة لهما، اهتماما بشأنهما لأنهما أعظم أركان العبادة العملية. وبعد هذه المقارنة بين جزائي أكلة الرّبا والمؤمنين العاملين الصالحات، جاء الأمر الصريح القاطع بترك الرّبا والتخلّص من مختلف آثاره، ومضمونه: يا من اتّصفتم بالإيمان المتنافي مع كلّ حرام، قوا أنفسكم عقاب ربّكم على ترك الأوامر وفعل المنهيات، واتركوا ما بقي لكم من الرّبا عند الناس حالا، وإياكم والتعامل به من جديد إن كنتم مؤمنين حقّا، وإلا فلستم بمؤمنين كاملي الإيمان لأن الإيمان طاعة والتزام فلا إيمان مع المعاصي، وهو سلام ورحمة وعطف وصلة، فلا إيمان مع تعاطي الرّبا لأن الرّبا ظلم وجشع واستغلال يتنافى مع الإخاء والإنسانية. ثم ذكر الله الوعيد على المخالفة فقال: فإن لم تتركوا الرّبا وما بقي منه- والخطاب للمؤمنين- فإنكم محاربون لله ولرسوله أي أعداء خارجون عن شريعته، وهذا معنى قوله: فَأْذَنُوا أي اعلموا، وحرب الله: غضبه وانتقامه من أكلة الرّبا، في الدّنيا بإلحاق الضّرر، وفي الآخرة بالعذاب في النار، وحرب رسوله: معاداته، ومن حارب الله ورسوله استحقّ القتال، لتجاوز شرع الله وأحكامه. وإن رجعتم عن الرّبا امتثالا لأمر الله، فتستحقون رؤوس أموالكم كاملة فقط، لا نقص ولا زيادة، فلا تظلمون أحدا بأخذ الرّبا، ولا تظلمون بنقص شيء من أموالكم. ثم يأمر الله تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقرر ما يلي: إن تعاملتم مع فقير معسر. ولم يتمكن من سداد دينه في الأجل المحدد،

فأمهلوه وانتظروه إلى وقت اليسر والرّخاء، حتى يتمكّن من أداء الدّين، كقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة: «من نفّس عن مؤمن كربة، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة» ، والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، والنّظرة: التّأخير، والميسرة: مصدر بمعنى اليّسر. وأن تتصدّقوا على المعسر أو الغريم بإبرائه من الدّين كله أو بعضه، فهو خير لكم من الإنظار والتّأجيل، وأكثر ثوابا عند الله، إن كنتم تعلمون أنه خير، ومن علم بشيء عمل به. وفي هذا حثّ على السماحة للمدين المعسر، لما فيه من تعاون وتعاضد وتراحم، كقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ، وقوله أيضا- فيما رواه الطّحاوي عن بريدة بن الخصيب-: «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة، ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة قال: بكل يوم صدقة ما لم يحلّ الدّين، فإذا أنظره بعد الحلّ، فله بكل يوم مثله صدقة» . وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرّج عن معسر» . وروى مسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلّا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عزّ وجلّ: نحن أحقّ بذلك منه، تجاوزوا عنه» . وفي حديث طويل لأبي اليسر (كعب بن عمرو) أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيما رواه أحمد ومسلم: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظلّه» ، وإنظار المعسر: تأخيره إلى أن يوسر، والوضع عنه: إسقاط الدّين عن ذمّته. ثم أمر الله تعالى بالتّقوى أمرا عامّا ونبّه خلقه على محاسبتهم يوم القيامة،

مراحل تحريم الربا:

وحدد مصير المتّقين وذكرهم بزوال الدنيا وما فيها من أموال، ومضمون ذلك: اتّقوا واحذروا يوما عظيما ترجعون فيه إلى الله تعالى، فيحاسبكم على ما عملتم، ويجازيكم على ما كسبتم من خير أو شرّ، فيثيبكم على الخير ويعاقبكم على الشّر، ويجازى كل امرئ بما يستحق من خير أو شرّ، ولا تظلمون فلا ينقص من ثوابكم شيئا، ولا يزاد في عقوبتكم، كقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] . قال ابن جريج: إنّ آية وَاتَّقُوا يَوْماً ... نزلت قبل موت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال، وروي: بثلاث ليال، أو بثلاث ساعات، وقال عليه الصلاة والسلام: «اجعلوها بين آية الرّبا وآية الدّين» . وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: «آخر ما نزل من القرآن كله: وَاتَّقُوا يَوْماً.. وعاش النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول» . وروى النسائي وغيره عن عبد الله بن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فكان بين نزولها وموت النّبي صلّى الله عليه وسلّم واحد وثلاثون يوما. مراحل تحريم الرّبا: حرّم الله الرّبا في القرآن كتحريم الخمر في أربعة مواضع، وسار التّحريم في مراحل أربع، الموضع الأول منها مكي، والباقي مدني. 1- ففي مكّة أنزل الله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم 30/ 39] ، وهذا يقابل آية الخمر المكيّة: وَمِنْ ثَمَراتِ

النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل 16/ 67] ، وفي كلا الآيتين تمهيد للتحريم وتعريض به وإيماء إلى ضرورة تجنّبه. 2- ثم قصّ علينا القرآن في المدينة سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الرّبا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، فقال: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ.. «1» [النساء 4/ 161] ، وهذا نظير المرحلة الثانية في تحريم الخمر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة 2/ 219] ، وكلا الآيتين إنذار بالتّحريم، وتعريض به، وإيذان بعقوبة المخالف. 3- ثم نهى تعالى عن الرّبا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة، وهو ما كان في الجاهلية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.. [آل عمران 3/ 130] . وهذا يشابه المرحلة الثالثة من مراحل تحريم الخمر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. [النساء 4/ 43] ، فكلا الآيتين نهي جزئي صريح، إلا أنّ آية الرّبا نهي عن صورة فاحشة من صور الرّبا وهو الرّبا الجاهلي، وآية الخمر نهي جزئي عن تناول المسكر وقت إرادة الصلاة. 4- ثم جاء التّحريم القاطع لكلّ من الرّبا والخمر، أما الرّبا فقد نهى الله عن كل ما يزيد عن رأس مال المدين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.. الآيات. وأما الخمر فقد أمر الله باجتنابه في كل الأحوال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة 5/ 90] .

_ (1) قال القرطبي: ولم يرد به الرّبا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا، و7 نما أراد المال الحرام، كما قال تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي المال الحرام من الرّبا وما استحلوه من أموال غير اليهود.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوله تعالى: وَحَرَّمَ الرِّبا اللام للجنس أي حرّم جنس الرّبا، وليست للمعهود الذهني وهو ربا الجاهلية أو ربا النّسيئة، وإنما يفيد النّص بإلاقه تحريم جميع أنواع الرّبا، مثل إباحة أنواع البيع في قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ. فقه الحياة أو الأحكام: وفيه بيان نوعي الربا وسبب تحريمه: تضمّنت الآيات أمورا خمسة: إباحة البيوع، وتحريم الرّبا والحملة الشديدة على أكلة الرّبا، والصبر على المعسر (نظرية الميسرة) ، وجزاء الإيمان والعمل الصالح، والأمر بالتقوى والتذكير بزوال الدنيا وإتيان الآخرة. الموضوع الأول: إباحة سائر البيوع التي ليس فيها نهي شرعي عنها، والبيع: هو تمليك مال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما. الموضوع الثاني: تحريم الرّبا وإعلان الحرب على أكلته من الله ورسوله: والرّبا في اللغة: الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد. وفي الشرع: فضل مال بدون عوض في معاوضة مال بمال. والرّبا نوعان: ربا النّسيئة وربا الفضل. وربا النّسيئة: هو الزيادة الفعلية في أحد العوضين بسبب الأجل، أو تأخير تسليم أحد العوضين لأجل بدون زيادة. ويكون إما في القرض أو في البيع. وصورته في القرض: أن يتمّ إقراض قدر معيّن من المال لزمن محدود كسنة أو شهر، مع اشتراط زيادة عند الوفاء بسبب امتداد الأجل. وهذا هو الذي كان متعارفا في الجاهلية بين العرب، لا يعرفون غيره، فكانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر

قدرا معيّنا، فإذا حلّ أجل الدّين طولب المدين بكلّ الدّين، فإذا تعذّر الأداء زادوا في الحقّ والأجل، قائلين: إما أن تقضي أو تربي، أي تزيد الدّين مع زيادة الأجل، فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه. وهذا هو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نصّ القرآن الكريم على تحريمه. وقد اتّفق العلماء على أنّه محرّم، وأنه من الكبائر، وأنّ التّحريم لا يقتصر على آخذ الرّبا، وإنما يشتمل الدافع والكاتب والشاهدين، للحديث المتقدم الذي رواه أحمد وغيره عن ابن مسعود: «لعن الله آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهده» . وأما ربا النّسيئة في البيوع: فمثاله: بيع رطل من القمح برطل ونصف يدفع للبائع بعد شهرين، أو بيع صاع من القمح بصاعين من الشعير يدفعان له بعد ثلاثة أشهر، فهو حرام بسبب الزيادة الواضحة، وقد يكون بدون زيادة وهو حرام أيضا كبيع رطل من التمر ناجز تسليمه برطل آخر من التمر مؤجل التسليم، ولا يلجأ لهذا البيع عادة إلا بسبب كون الرّطل الحالي أكثر قيمة في الواقع من المؤخر تسليمه لأن المعيّن خير من الدّين في الذّمة، والمعجّل أكثر قيمة من المؤجّل. وهذا النوع حرام لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الشيخان من حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة» . وربا الفضل في البيوع: هو أن يباع مال مخصوص مع زيادة أحد العوضين على الآخر، كبيع رطل من القمح أو العسل أو التّمر برطلين، وبيع درهم بدرهمين. وهو حرام للحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- وأختار هنا ما رواه مسلم- قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه

الأجناس، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» أي مقابضة. وهذا الحديث حينما بلغ ابن عباس الذي كان لا يحرّم إلا ربا النّسيئة، ويجيز ربا الفضل، رجع عن قوله. وأجيب عن حديث: «إنما الرّبا في النّسيئة» بأن القصد منه بيان الرّبا الأشد خطورة، الأكثر وقوعا، أو أنه محمول على حالة التفاضل بين جنسين مختلفين كبيع رطل من القمح برطلين من الشّعير إلى أجل، فإن النّسيئة في ذلك حرام، وأما التفاضل في الحال فليس حراما. وقد يكون ربا الفضل في القرض: وهو الزيادة المشروطة للدّائن بغير مقابل، كأن أقرض خالد عليّا مائة دينار على أن يدفع له في العام القادم مائة وعشرة. والخلاصة: أن الآية دلّت بإطلاقها عن التقييد بربا النّسيئة على تحريم كل من ربا النّسيئة الجاهلي وربا الفضل أيضا بسبب الزيادة، ويحرم أيضا الصلح على خمسمائة حالّة (معجّلة) مثلا مع من عليه ألف مؤجّلة، فإن هذا في معنى ربا الجاهلية الذي كان قرضا مؤجّلا بزيادة مشروطة، فكانت الزّيادة عوضا عن الأجل، وفي مسألة الصلح انتفع المدين بباقي الدّين مقابل إسقاط الأجل، فيصبح منتفعا بزيادة (فضل) من المال بدون عوض مالي. ومن أنواع الرّبا: بيع الدّين بالدّين، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» . والخلاصة: أن قوله تعالى: وَحَرَّمَ الرِّبا مجمل متوقف على ورود البيان، فمن الرّبا ما هو بيع، ومنه ما ليس ببيع وهو ربا الجاهلية: وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض. وهل تحريم الرّبا مقصور على الأصناف الستّة المذكورة في الحديث السابق، أو يقاس عليها ما في معناها؟

قال نفاة القياس وهم الظاهرية: إن الحرمة مقصورة على هذه الأصناف الستّة، لا يزاد عليها. وقال جمهور الفقهاء منهم أئمة المذاهب الأربعة: إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأصناف، وإنما تتعدّاها إلى كل شيء هو في معناها، لأن النّص معلل بعلة مفهومة منه، فتتعدى الحرمة إلى كلّ ما توجد فيه العلّة، إذ لا تعقل التّفرقة بين متماثلين، وإنما نصّ الحديث على أصول الأشياء في عصر النّبوّة. فقال الحنفية، والحنابلة في أشهر الروايات الثلاث عندهم: إنّ العلّة هي اتّحاد هذه الأصناف في الجنس والقدر، أي الكيل والوزن، فمتى اتّحد العوضان في الجنس، والقدر الذي يباع به من كيل أو وزن، حرم الرّبا بنوعيه، كبيع الحنطة بالحنطة، والحديد بالحديد، وإذا عدما معا حلّ التفاضل والنّسيئة كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل، وإذا عدم القدر واتّحد الجنس حلّ التفاضل دون النّسيئة، كتفاحة بتفاحتين، وإذا عدم الجنس واتّحد القدر حلّ الفضل دون النّسيئة أيضا كبيع الحنطة بالشّعير. وقال الشافعية، والمالكية في ظاهر المذهب: علّة تحريم الزيادة في الذهب والفضة هي النقدية (أي الثمنية- كونهما ثمنا للأشياء عادة) . والعلّة في الطّعام في ربا النّسيئة: هي مجرّد المطعومية، لكن عند المالكية: على غير وجه التداوي، وعند الشافعية: ولو بقصد التداوي، فيحرم هذا الرّبا في الخضار والفاكهة، وأما المأخوذ تداويا فلا ربا فيه عند المالكية، وفيه الرّبا عند الشافعية. وأما علّة ربا الفضل: فقد اختلف هذان المذهبان فيها، فذهب المالكية إلى أنّ العلّة هي اتّحاد الجنس مع الاقتيات والادّخار، فيجري هذا الرّبا في الحبوب كلّها والزّبيب واللحوم والألبان وما يصنع منها، ولا يجري في الخضروات والفواكه

لعدم قابليتها الادّخار، وفي معنى الاقتيات: إصلاح القوت كملح ونحوه من التوابل والخلّ والبصل والثوم والزيت والسّمن. وذهب الشافعية إلى أن العلة في الطعام: هي اتّحاد الجنس والطعمية أي كونها مطعومة، والمطعوم يشمل كل ما يصلح الجسد مما يؤخذ اقتياتا أو تفكها أو تداويا. واتفق الجمهور على منع بيع التمرة الواحدة بالتمرتين والحبة الواحدة من القمح بحبتين، إذ لا فرق بين كثرة المال الربوي وقلته، وأجاز الحنفية هذا البيع، لأنه لا مكيل ولا موزون، فجاز فيه التفاضل. وقال الجمهور: عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، فيجب فسخ صفقة الربا ولا تصح بحال. وقال الحنفية: بيع الربا فاسد، لأنه بيع جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا، فيسقط الربا ويصح البيع. ويلاحظ أن أكثر البيوع الممنوعة إنما منعت بسبب وجود معنى الزيادة إما في عين المال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه. وهناك بيوع ممنوعة ليس فيها معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة. ويلاحظ أيضا أن الجودة والصنعة في الأموال الربوية ملغاة، فجيدها ورديئها سواء، سدا للذرائع، ولا ينظر إلى الصنعة، فالدينار الذهبي المسكوك والدرهم الفضي المسكوك والذهب والفضة غير المسكوكين (التبر) سواء، وكذا الذهب أو الفضة غير المصوغ والمصوغ حليا سواء أيضا، خلافا لما كان يراه معاوية بن أبي سفيان، فقد اتفق العلماء على أن ما ذهب إليه معاوية غير جائز، وليس مستبعدا أن يكون قد خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة اللذان جادلا معاوية في خطأ رأيه، لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من تحريم التفاضل في بيع الذهب والفضة والمطعومات.

سبب تحريم الربا:

وبناء عليه يجب بيع الشيء بجنسه بوزن مساوله، وإن اختلفا في الصياغة وعدمها، ويصح بيع الذهب أو الفضة بالنقود الورقية الحالية مع التفاضل، لاختلاف الجنس، بشرط التقابض في مجلس العقد لكونهما نقدين، سدا للذرائع، وبسبب تفاوت سعر الذهب والفضة ارتفاعا وانخفاضا بين وقت وآخر، فما يحدث في أسواق الصاغة من بيع وشراء كيلو ذهب مثلا أو سبيكة بوزن معين وبسعر معين دون قبض المبيع ودفع الثمن نقدا: لا يجوز شرعا، درءا للمنازعات. سبب تحريم الربا: الإسلام دين الجهد والعمل، والتعاطف والتراحم، والود والحب والوئام، والصفاء وسلامة النفوس من الأحقاد، والحق والعدل. فلا يجيز كسبا بغير عمل، ويرغب في الصدقة والقرض الحسن، ويحرم استغلال حاجة الضعيف، ويحظر كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمنازعات، ويستأصل الحقد والحسد والجشع والطمع من النفوس، ويوجب أخذ المال من طريق مشروع حلال لا ظلم فيه، ويكره تكديس الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس تتحكم في مصائر الآخرين وأقواتهم وتتلاعب باقتصاديات الدولة والأمة. لهذه المبادئ السامية كلها، وحفاظا عليها حرم الله الربا للأضرار التالية: 1- إنه يعوّد الإنسان على التكسب بدون عمل أو حرفة، كالتجارة أو الصناعة أو الزراعة أو المهنة الشريفة التي اقتضتها ظروف الحياة المعاصرة مثل الطبابة والهندسة والصيدلة والمحاماة بشرط الدفاع عن الحق والعدل وتحامي الدفاع بالباطل، أو تبرئة الجاني أو المجرم. وهذا يجعل المرابين مصاصين لدماء الفئة العاملة الكادحة، ويعتمد في عيشه ودخله على مورد بغير جهد، وذلك مما يستفيده من فوائد الأموال المودعة في المصارف الربوية للإقراض بفائدة.

2- والربا هو مجرد كسب من غير عوض، والشرع يحرم أخذ المال ظلما بغير حق شرعي، ويمنع استغلال القوي الضعيف. 3- إنه يؤدي إلى زرع الأحقاد والحسد في قلوب الفئة الفقيرة على الأغنياء، ويولد العداوة والبغضاء، ويثير المشاحنات والخصومات بين الناس، إذ هو يقضي على عاطفة التراحم والتعاون، ويجعل الإنسان عبدا للمال، وكأنه ذئب ينقض على ما في جيوب الناس بأسلوب هادئ ماكر خبيث دون إثارة أو معرفة الغريم. 4- إنه يقضي على وشائج الصلة بين الناس، ويقطع المعروف بينهم بالقرض الحسن، ويسلب مال الفقير أو المحتاج وهو في أشد حالات الحاجة والعوز، لتسيير شؤون عمله وحياته. 5- إن عاقبته العامة تدمير القيم الإنسانية وتوليد الصراع بين الأفراد، والتحكم في الاقتصاد العام للأمة، وعاقبته الخاصة الوقوع في الخراب والفقر والحرمان في نهاية الأمر، إذ يمحق الله الربا، ويربي الصدقات، كما بينا. والخراب يشمل المرابي، كما يشمل دافع الربا، فكثير ما أدى اقتراض المزارعين من المصارف الزراعية إلى بيع أراضيهم لتسديد القروض المصرفية وفوائدها، لأن الزراعة كثيرة النفقات، معرضة للآفات الزراعية، والقحط والجدب. وكذلك أصحاب المعامل وتجار المحلات إذا اقترضوا من المصارف لا يتمكنون غالبا من سداد الديون، ويصبحون عاجزين عنها وبخاصة في السنوات الأولى من العمل والإنتاج، فكيف يسددون أصل الدين مع ما يضم إليه من فوائد؟! والفوائد المصرفية تتضاعف مع مرور السنوات، فتصبح الفوائد تكاد تعادل أصل القرض. ولا فرق في تحريم الربا بين ما يسمى بالقروض الإنتاجية، والقروض

الموضوع الثالث - نظرية الميسرة:

الاستهلاكية، إذ لا يجوز الاقتراض بفائدة إلا لضرورة قصوى، وهي الحالة التي يغلب على الظن فيها الوقوع في الهلاك أو التسيب في الشارع ونحو ذلك من الحالات النادرة التي لا تنطبق على ما يدعيه أصحاب المعامل والمحلات التجارية من ضرورات، وهم يقصدون بذلك إما توسيع دائرة العمل والنشاط، أو دعم المصنع بآلات حديثه مثلا، وكل هذه المزاعم لا تدخل في دائرة الضرورة بحسب ضوابطها الشرعية، ولا تحل الحرام القطعي التحريم. والربا حرام ويبطل ما قبض منه، ولا يجوز أخذ ما زاد على أصل رأس المال، قلّ أو كثر، وقد دلت الآية على ذلك: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ودلت أيضا على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، لكونه سببا في معاداة الله ورسوله، جاء رجل إلى مالك بن أنس رضي الله عنه، فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرّ من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه، فلم أر شيئا أشرّ من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب. وسبيل التوبة مما بيد الإنسان من الأموال الحرام إن كانت من ربا، فليردّها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه. الموضوع الثالث- نظرية الميسرة: لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند المدينين، حكم في ذي العسرة بالانتظار إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة، شكوا- أي بنو المغيرة- العسرة، كما بينا في سبب النزول، وقالوا:

ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ. ودل قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ مع قوله: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على ثبوت حق المطالبة لصاحب الدين (الدائن) على المدين، وجواز أخذ ماله بغير رضاه، ودل أيضا على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان، كان ظالما، فإن الله تعالى يقول: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ فجعل له المطالبة برأس ماله، فإذا كان له حق المطالبة، فعلى من عليه الدين (المدين) لا محالة وجوب قضائه. ومن كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم، فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته، والمشهور عن مالك أنه يترك له كسوته المعتادة، ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزريا به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم، ولا ثوب جمعة ما لم تقلّ قيمتها، والأصل في هذا قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ. ويحبس المفلس في قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتّهم أنه غيّب ماله، ولم يتبين لدده أي خصومته ومماطلته. وكذلك لا يحبس إن ثبت عسره، للآية المتقدمة: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ... وقوله: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ يدل على أن الله تعالى ندب بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر، وجعل ذلك خيرا من إنظاره. وقد أوردت سابقا الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل إنظار المعسر وإبرائه من الدين، ومدى الثواب العظيم في ذلك عند الله تعالى.

الموضوع الرابع - جزاء الإيمان والعمل الصالح:

الموضوع الرابع- جزاء الإيمان والعمل الصالح: مدح الحق تعالى المؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مخبرا عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون، ليكون ذلك في خلال المقارنة مع أكلة الربا أدعى إلى الامتثال، والبعد عن الربا الحرام، وفي هذا تعريض بأكلة الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكفوا عن تعاملهم الربوي. والخلاصة: أن الله تعالى أتبع وعيد المرابي بهذا الوعد، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات لمنزلتهما العظمى في الإسلام. الموضوع الخامس- التحذير من أهوال يوم القيامة: ختم الله تعالى آيات الربا بموعظة بالغة، إذا وعاها المؤمن هانت عليه الدنيا ومطامعها وسامح بالمال والنفس، فالدنيا زائلة، والأموال فانية، والآخرة آتية خالدة باقية، والحساب أمام الله أمر حتمي، يجازي كل امرئ بما عمل من خير أو شر، دون بخس أو ظلم أو نقصان، فليحذر المؤمن عقوبة ربه، وليتق الله بامتثال الأوامر الإلهية، واجتناب النواهي ومن أخطرها الربا، فمن التقى وحذر العقوبة لقي خيرا، ونال سعادة دائمة في جنان الخلد الباقية. آية الدين وآية الرهن توثيق الدين المؤجل بالكتابة أو الشهادة أو الرهن [سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

الإعراب:

الإعراب: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ كما: في موضع نصب متعلق بفعل لْيَكْتُبْ أو بقوله: فَلْيَكْتُبْ أو بقوله: يَأْبَ. وَلِيُّهُ الضمير يعود على المدين. فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ: إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فالشاهد رجل وامرأتان، وإما مرفوع بتقدير فعل وتقديره: فليكن رجل وامرأتان. ويكون «فليكن» تامة. ومِنْ رِجالِكُمْ: متعلق باستشهدوا، ومن ابتدائية، أو متعلق بمحذوف صفة لشهيدين، ومن تبعيضية، أي بعض رجالكم المسلمين الأحرار، لأن الكلام في معاملاتهم. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ في موضعه ثلاثة أوجه: الجر والنصب والرفع، فالجر: على أنه بدل من قوله: مِنْ رِجالِكُمْ والنصب على أنه صفة لشهيدين، والرفع على أنه وصف لقوله: رجل وامرأتان. أَنْ تَضِلَّ أن: مصدرية في موضع نصب بتقدير فعل، وتقديره: يشهدون أن تضل إحداهما، وقرئ بكسر إن الشرطية ورفع: تذكر.

البلاغة:

صَغِيراً أَوْ كَبِيراً منصوبان على الحال من هاء تَكْتُبُوهُ وهي عائدة على الدين. إِذا ما دُعُوا ما: زائدة. أَلَّا تَرْتابُوا أن وصلتها في موضع نصب بأدنى، وتقديره: وأدنى من ألا ترتابوا، فحذف حرف الجر فاتصل به. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وتجارة: بالنصب خبر تكون الناقصة، واسمها مقدر فيها، والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. وعلى قراءة الرفع: تَكُونَ تامة أي تقع. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ: الكاتب والشهيد إما فاعلان ليضارّ وهو الأحسن، فيكون أصله: يضارر: بكسر الراء. وإما نائب فاعل فيكون أصله: يضارر بفتحها، فأدغمت الراء الأولى في الثانية. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ حال مقدرة، أو مستأنف. فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ وقرئ «فرهنّ» وكلاهما جمع رهن عند الأكثرين، وهو مبتدأ، وخبره مقدّر، وتقديره: فرهان مقبوضة تكفي من ذلك. اؤْتُمِنَ أصله أؤتمن على وزن افتعل، إلا أنه أبدلت الهمزة الثانية واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، فصار: اؤتمن. آثِمٌ قَلْبُهُ فيه ثلاثة أوجه: أن يكون آثم خبر «إن» وقلبه فاعل له، أو أن يكون قَلْبُهُ مبتدأ، وآثِمٌ خبره، والجملة منهما في موضع رفع خبر إن، أو أن يكون آثِمٌ خبر إن، وقَلْبُهُ: بدل من الضمير المرفوع في آثِمٌ، بدل بعض من كل. البلاغة: توجد أنواع من الجناس في قوله تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ واؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ويُعَلِّمُكُمُ وعَلِيمٌ. ويوجد طباق في قوله: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً وأَنْ تَضِلَّ وفَتُذَكِّرَ تضل: أي تنسى. وتشتمل الآية على إطناب في قوله: فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ وفي وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ... فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وفي أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.

المفردات اللغوية:

وتكرار لفظ الجلالة في جمل وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لتربية المهابة في النفس وتعظيم الأمر. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ الجمع بين لفظ الجلالة والوصف بالربوبية: للمبالغة في التحذير. المفردات اللغوية: تَدايَنْتُمْ: داين بعضكم بعضا أي تعاملتم بدين مؤجل بِدَيْنٍ: أي ببيع مؤجل أو سلم أو قرض، والدين: هو المال الذي يثبت في الذمة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى الأجل: هو الوقت المحدد لانتهاء شيء، والمسمى: الموعد المعلوم أو المحدود بالأيام أو الشهور أو السنين، ويشمل الدين المؤجل: بيع الأعيان إلى أجل، والسلم (السلف) ، والقرض فَاكْتُبُوهُ ندبا استيثاقا للدين ودفعا للنزاع وَلْيَكْتُبْ سند الدين أو كتابه بِالْعَدْلِ بالحق في كتابته، أو بالتسوية بين الجانبين، من غير ميل إلى أحدهما، ولا زيادة أو نقص في المال والأجل. وَلا يَأْبَ أي لا يمتنع كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق، فلا يبخل بها ولا يقصر في شيء وَلْيُمْلِلِ أي وليلق على الكاتب ما يكتبه، والإملال والإملاء بمعنى واحد الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أي الدين، والمراد به هنا المدين، لأنه المشهود عليه، فيقر بكامل الحق، ليعلم ما عليه. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في إملائه وَلا يَبْخَسْ لا ينقص من الحق شيئا فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً مبذرا ضَعِيفاً عن الإملاء لصغر أو كبر بأن كان صبيا أو شيخا هرما أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ بأن كان جاهلا أو أخرس أو نحو ذلك. فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ متولي أمره من والد ووصي وقيّم ومترجم وَاسْتَشْهِدُوا اطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لدينه وعدالته. أَنْ تَضِلَّ لأجل أن تنسى أو تخطئ إحداهما الشهادة لعدم ضبطها وقلة عنايتها فتذكر إحداهما (الذاكرة) الأخرى (الناسية) ، وجملة «تذكر» للتعليل أي لتذكر إن ضلت. وقرئ بكسر إن شرطية، ورفع فعل «تذكر» المستأنف، وهو جواب الشرط، والشرط والجزاء يكونان صفة للنكرة: وَامْرَأَتانِ. دُعُوا إلى تحمل الشهادة وأدائها وَلا تَسْئَمُوا تملوا وتضجروا من أَنْ تَكْتُبُوهُ أي ما شهدتم عليه من الحق، لكثرة وقوع ذلك. إِلى أَجَلِهِ وقت حلول أجله. ذلِكُمْ أي الكتب أَقْسَطُ أعدل وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أعون على إقامتها وأثبت لها، لأنه يذكّرها. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى ألا تشكوا في قدر الدين وأجله

المناسبة:

تُدِيرُونَها أي تقبضونها ولا أجل فيها، والمراد تتعاملون بها يدا بيد. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ نهي عن وقوع الضرر من الجانبين، فلا يضر الكاتب والشاهد صاحب الحق ومن عليه الحق بتحريف أو زيادة أو نقص، أو امتناع من الشهادة أو الكتابة، ولا يضرهما صاحب الحق بتكليفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة. وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خروج عن الطاعة لا حق بكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمره ونهيه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مصالح أموركم. وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين وتداينتم، وبينت السنة جواز الرهن ووجود الكاتب في الحضر. وذكرت حالة السفر لأن التوثيق فيه أشد فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ تستوثقون بها، ودل قوله: مقبوضة على اشتراط القبض في الرهن، والاكتفاء بقبض المرهون من المرتهن أو وكيله. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي أمن الدائن المدين على حقه، فلم يرتهن أو لم يكتب الدين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أي المدين أَمانَتَهُ دينه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في أدائه وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ إذا دعيتم لأدائها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ خص القلب بالذكر لأنه محل الشهادة، ولأنه إذا أثم تبعه غيره، فيعاقب عليه معاقبة الآثمين. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. المناسبة: لما ذكر الله تعالى الإنفاق وجزاءه الطيب، والربا وقباحته وخطره، أعقبه بذكر القرض الحسن بلا فائدة، والتعامل بالدين المؤجل، وطريق توثيقه وحفظه بالكتابة والشهادة والرهن، وطريق تنميته بالتجارة التي تقتضي السرعة، ففي الصدقة والقرض الحسن تراحم وتعاون، وفي الربا قسوة وطغيان، وفي أحكام التعامل بالدين المؤجل والتجارة الحاضرة غاية الحكمة والمصلحة والعدل إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة والقرض، وينهى عن التعامل بالربا لا بد له من تنمية ماله بالتجارة، وحفظ حقه من الضياع. فتكون مناسبة الآية لما قبلها بيان حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية بين الناس، ببيع السلع بالدين المؤجل، بطريقة تحفظ الأموال وتصونها عن الضياع، بعد بيان حكم التعامل بالربا ومنعه، أو أن المراد بيان كيفية حفظ المال الحلال، بعد بيان الإنفاق في سبيل الله وتحريم الربا، اللذين يترتب عليهما نقص المال إما حالا أو مآلا.

التفسير والبيان:

وكون هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم دليل على أن المال في ذاته ليس مبغوضا عند الله، وعلى أن الإسلام معني باقتصاديات الأمة، وأنه دين ودولة وحياة ونظام مجتمع، وليس دين رهبنة وفقر، وانعزال عن الحياة، فتنظيم التعامل بين الناس، وتبيان طريق حفظ الحقوق، وتعاطي التجارة وتنمية المال، يدل كل ذلك على أن الإسلام دين عمل وجهد وكفاح، وحرص على الكسب والربح من أوجه الحلال، روى أحمد والطبراني من حديث عمرو بن العاص: «نعمّا المال الصالح للمرء الصالح» . وأما البذل في المصالح العامة وتحريم الربا فهو عنوان على تضامن الأمة وتراحمها، ونبذها الظلم والاستغلال والكسب من غير جهد وكدّ وعمل. وأما ذمّ الدنيا أو المال في بعض الآيات والأحاديث: فإنما هو عند نسيان جانب الآخرة، واستعباد المال صاحبه، فيبخل في إنفاقه، ولا يبالي في جمعه من طريق حلال أو حرام، قال تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن 64/ 15] وقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد 57/ 20] . وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم» . التفسير والبيان: يا من اتصفتم بالإيمان إذ تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا، كبيع شيء بثمن مؤجل، أو بيع سلعة مؤجلة إلى أجل مسمى مع بيان الجنس والنوع والقدر، بثمن معجل وهو المسمى بالسلم أو السلف، وقرض مبلغ من المال، إذا تعاملتم ببدل مؤجل، فاكتبوا ما يدل على هذا التعامل، مع بيان الأجل بالأيام أو بالأشهر أو بالسنين، أي بكونه معلوما، لا بالتأجيل إلى

الحصاد والدياس مما لا يرفع الجهالة في رأي الجمهور لأن الكتابة أوثق في ضبط المتفق عليه، وأرفع للنزاع. ثم بيّن الله كيفية الكتابة وعين من يتولاها: بأن يكتب كاتب مأمون عادل محايد، فقيه متدين يقظ: الحقّ دون ميل لأحد الجانبين، مع وضوح المعاني، وتجنب الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة، فهو كالقاضي بين الدائن والمدين. وهذا يدل على اشتراط العدالة في الكاتب. ثم أوصى الكاتب ونهاه عن الإباء: فلا يمتنع أحد من الكتاب عن كتابة وثيقة الدين، ما دام يمكنه ذلك، على الطريقة التي علمه الله في كتابة الوثائق، أو كالتي علمه الله، فالكاف صفة لموصوف محذوف، فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا، والكتابة نعمة من الله عليه، فمن شكرها ألا يمتنع عنها، وإن كانت بأجر، وهذا يدل على اشتراط كون الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا ونظاما. وقدّم اشتراط العدالة على العلم لأنها أهم من العلم. فالعادل يمكنه تعلم ما تتطلبه كتابة الوثائق، وأما العالم غير العادل فلا يهديه علمه للعدالة، وإنما يفسد ولا يصلح. ودل قوله: وَلا يَأْبَ على أن العالم العادل إذا دعي للقيام بالكتابة ونحوها، وجب عليه تلبية الدعوة، ثم أكد الله تعالى النهي عن الإباء بالأمر بالكتابة بالحق، لكون الوثيقة متعلقة بحفظ الحقوق. ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يتولى إملاء البيانات على الكاتب إنما هو المدين، فإنه المكلف بأداء مضمون الكتابة، ليكون بيانه وإملاؤه حجة عليه، ثم أوصاه تعالى بأمرين: هما تقوى الله في الإملاء، بأن يذكر ما عليه كاملا، وألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا. ويلاحظ أن الكاتب أمر بالعدل فلا يزيد ولا ينقص، والمدين نهي عن

مقبول الشهادة ومرفوضها:

النقص فقط لأن هذا هو المنتظر منه أو المتصور منه دون سواه. ثم أوضح تعالى أحوال ناقصي الأهلية، فإن كان المدين (الذي عليه الحق) سفيها أي مبذرا في ماله ناقص العقل والتدبير، أو ضعيفا بأن كان صبيا أو مجنونا أو جاهلا أو هرما لم تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور، أو عاجزا عن الإملاء لكونه جاهلا أو ألكن أو أخرس أو معتقل اللسان، أو أعمى، فعلى وليه الذي يتولى أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يملي الحق على الكاتب بالعدل والإنصاف، بلا زيادة ولا نقص. ثم جاء دور الإثبات، فأرشد تعالى على سبيل الندب لضبط الوقائع وحفظ الأموال إلى الشهادة على المداينة، ونصاب الشهادة: رجلان أو رجل وامرأتان. وقوله: مِنْ رِجالِكُمْ دليل على اشتراط الإسلام والحرية في الشهود لأن الكلام وارد في معاملاتهم. وأما العدالة في الشهود فاشترطوها بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق 65/ 2] . مقبول الشهادة ومرفوضها: يرى أبو يوسف أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود، وما يجب فيها من العظائم، وأدّى الفرائض، وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار، قبلت شهادته لأنه لا يسلم عبد من ذنب، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر، ولا من يلعب الشطرنج يقامر عليها، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافا أو فسقا، لا أن تركها على تأويل، وكان عدلا، ومن يكثر الحلف بالكذب، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر، ولا معروف بالكذب الفاحش، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا شتام الناس والجيران، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا: سمعناه يشتم.

وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: تقبل شهادة أهل الأهواء العدول إلا صنفا من الرافضة وهم الخطابية. وقال محمد: لا أقبل شهادة الخوارج، وأقبل شهادة الحرورية لأنهم لا يستحلون أموالنا، فإذا خرجوا استحلوا «1» . واشتراط إسلام الشهود هو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض لأنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى. وقال ابن القيم في (أعلام الموقعين والطرق الحكمية) : البينة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بيّنة، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى، إذا تبين للحاكم الحق بها. وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ مؤكد لاشتراط الإسلام والعدالة لأن المعنى: ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء، أو من النساء وجيء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها، والخطاب يعم جميع الناس، حكاما وغيرهم، ولا بد في رأي الجمهور من ثبوت العدالة للشهود بالتزكية. وقال أبو حنيفة: لا حاجة للتزكية، فكل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل، وإن كان مجهول الحال. وذكر الله تعالى السبب في جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل، أي اعتبار العدد في شهادة النساء: وهو التذكير صونا لحكم الشهادة لعدم ضبط المرأة وقلة عنايتها ونسيانها، فتذكر كل منهما الأخرى. وبما أن العلة في الحقيقة هي التذكير، وكان الشأن في النساء النسيان، نزّل النسيان منزلة العلة، أي نزل السبب منزلة المسبب. فقد جرت العادة أن المرأة لا تهتم كثيرا بالمعاملات المالية

_ (1) البحر المحيط: 2/ 347

ونحوها من المعاوضات، فتكون معلوماتها محدودة، وخبرتها قليلة، واهتمامها بالوقائع المالية ضعيفا، وأما اشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية فلا يغير الحكم لأن الأحكام إنما للأعم الأغلب، وبالرغم من إسناد الوظائف المالية للمرأة، فإنها لا تأبه بغير العمل الذي وكّلت به وفوض إليها، فلا تلتفت لما يجري بين الآخرين من منازعات على قضايا مالية، ويظل اهتمامها بالنواحي المالية أو العامة بالرغم من توظفها محصورا بشؤون منزلها أثاثا وترفها ونظافة، وتوفير مواد تموينية، وإعداد طعام وشراب لأسرتها، وتربية أولاد، فكان تذكرها للمعاملات- فيما عدا مشترياتها الخاصة- قليلا. والخلاصة: أن الحكم للأغلب، ولا عبرة بالنادر، والشرع ينظر للمجموع. ثم نبّه القرآن إلى قضية مهمة، فشا بين الناس في عصرنا بل وفي الماضي نقيضها، وهي الإدلاء بالشهادة، فأوصى تعالى الشهود، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة أو التقاعس في أدائها وتحملها، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة، فلا يجوز للشهود الامتناع عن تحمّل الشهادة (أي استيعاب وقائع القضية المشهود عليها) وأدائها أمام القاضي، كقوله تعالى بعدئذ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة 2/ 283] إذ بالشهادة تثبت الحقوق ويمنع الجور والظلم والتسلط على الضعفاء. ودلت الآية أيضا على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم. روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير، فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. ثم عاد إلى أمر الكتابة، فأكد طلبها في عقود المداينات، فنهى عن الملل أو الضجر من كتابة الدين، فلا ينبغي التكاسل أو التقصير أو الاستحياء في كتابة الدين، مهما قلّ، وسواء أكان صغيرا أم كبيرا تطلب كتابته، قطعا للنزاع والشقاق، وحفظا لأصل الحق.

وهذا دليل على اعتبار الكتابة في أدلة الإثبات، وعلى أنها مطلوبة في القليل والكثير إلى أجل الحق، أي وقت وفائه الذي أقر به المدين. ثم بيّن الله تعالى الحكمة من الأوامر والنواهي المتقدمة، وهو أن ذلك البيان الذي أمر به القرآن من الكتابة والإشهاد أعدل في إصابة حكم الله تعالى لأنه يكون إلى الصدق أقرب وعن الكذب أبعد، وهو أيضا أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على أداء الشهادة على وجهها الصحيح، وأقرب إلى إزالة الشكوك في تعيين جنس الدين ونوعه وقدره وأجله، فهذه مزايا ثلاث تؤكد العمل بكتابة الدين. وهذا يدل على أن للشاهد طلب وثيقة الدين المكتوب ليتذكر وضعه. ثم خفف القرآن من قيد المطالبة بالكتابة أخذا بما تقتضيه ظروف التجارة من حرية وحركة وسرعة، فأبان أن الكتابة مطلوبة إلا إذا تمت مبادلة العوضين في التجارة وقبضهما في الحال، فلا داعي للكتابة، ولا حرج ولا إثم في تركها حينئذ، إذ لا يترتب عليها شيء من التنازع والتخاصم، وهذا يدل على أن الإسلام متمش مع الواقع، متجاوب مع ما تقتضيه المعاملات من تطور وسرعة ورعاية مصلحة. وإذ لا بأس من عدم الكتابة في التجارة الحاضرة أو التعامل يدا بيد، فيطلب الإشهاد على التبايع لأن اليد الظاهرة التي تحوز الشيء قد لا تكون محقة، فيحدث النزاع والخلاف، فكان الإشهاد أحوط، ويكفي. أما المعاملات والديون المؤجلة والسّلم فتجب كتابتها لأن مرور الزمان قد ينسي بعضها، فيقع التنازع. والمبدأ الواجب اتباعه في علاقة الكاتب والشاهد بالمتعاملين هو عدم المضارّة، فلا يجوز لهما إلحاق ضرر بأحد المتعاملين أو كليهما بزيادة أو نقص أو

تحريف أو ترك الإجابة بالاستفسار عن بعض ظروف الواقعة، أو عما يطلب منهما من توضيح بعض الأمور الغامضة، كما لا يجوز أيضا للمتعاملين إلحاق الضرر أو الأذى بالكاتب أو الشاهد، كتحريف وتغيير بعض الوقائع، أو إهمال الإشارة إلى كلمة أو قيد مثلا، أو محاولة المنع من أداء الشهادة بالترهيب أو الترغيب برشوة أو وعد بمال لأن الإسلام دين الحق والعدل، والله تعالى يأمر بإقامة الحق والعدل كاملا غير منقوص. ويؤيد ذلك الآية التالية: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي أن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة فسق وإثم، أو إن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار، فإن فعلكم هذا فسوق بكم، وخروج عن الطاعة ملتبس بكم. ومنع المضارّة مستفاد من تحليل أصل يُضَارَّ: فإن كان أصله «يضارر» بكسر الراء الأولى، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة، فالمعنى: لا يضر الكاتب ولا الشهيد غيره بترك الإجابة، أو التغيير، والتحريف في الكتابة والشهادة. وإن كان أصله «يضارر» بفتح الراء الأولى، وكذا قرأ ابن مسعود، فالمعنى لا يجوز لطالب الحق أو المطالب به أن يضرّ الكاتب والشهيد، بأن يقهر هما على الانحراف في الكتابة والشهادة. ثم ذكّر تعالى بالقاعدة العتيدة العامة إثر الأمر والنهي وهي التزام التقوى بامتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، والمعنى: فاتقوا الله في جميع ما أمركم به وما نهاكم عنه، ومن جملة ذلك: ما حذركم منه من الضرار، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح دنياكم وحفظ أموالكم، كما يعلمكم ما يصلح أمر الدين، وهو العليم بكل شيء، لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن، فإذا شرع شيئا فإنما يشرعه عن علم دقيق شامل بما يدرأ المفاسد ويجلب المصالح، وشرعه كله حكمة وعدل. وختم الآية بهذه الموعظة الحسنة للتذكير بامتثال جميع الأحكام السابقة.

وتكرار لفظ الجلالة في الجمل الثلاث: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لتربية المهابة في نفس السامع، ولتقرير استقلال كل منها بحكم معين. ثم انتقل البيان إلى تشريع حكم يتناسب مع السفر، وهو الرهان التي يستوثق بها في الحصول على الدين، فإن إثبات المبايعات المؤجلة بالكتابة والإشهاد عليها أمر ممكن في الحضر، أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك، فشرع تعالى ما يناسبه وهو الرهن، ودلت السنة على جوازه في الحضر، فقد أخرج النسائي عن ابن عباس، والشيخان عن عائشة: «أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله» . ومعنى آية الرهان: إن كنتم مسافرين، ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة، أو لم تسمح ظروف السفر بالجلوس والكتابة، أو لم تجدوا أدوات الكتابة، فاستوثقوا برهن تقبضونه. وتقييد الرهان في الآية بوصف السفر، وعدم وجود الكاتب: بيان للعذر الذي رخص في ترك الكتابة، ووضع الرهن وثيقة للدين محلها. وإنما نص على السفر دون الأعذار الأخرى لأنه هو غالب الأعذار، لا سيما في وقت نزول القرآن، لكثرة المعارك والحروب. ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، مثل ظرف الليل، وزحمة الأشغال والأعمال، وتهديد حالة الغريم (المدين) بالإفلاس. وأشارت الآية إلى أن عدم وجود الكاتب مقيد بحال السفر، لا في حال الإقامة والحضر. لكن وصف الرهان بكونها مقبوضة: يدل على أنه ما لم يقبض المرهون لا يظهر وجه للتوثق به. واشتراط القبض يستلزم عند الحنفية أن يكون المرهون معينا مفرزا، فلا يجوز لديهم رهن المشاع سواء فيما يقسم وفيما لا يقسم لتعذر

القبض، وأجاز الجمهور رهن المشاع مثل بيعه وهبته، ويسلّم للمرتهن كل الشيء المشترك، ويتم التناوب عليه بطريق المهايأة. ثم عادت الآية إلى تقرير احتمال وجود الثقة والائتمان بين المتعاملين، فصرحت بأنه إن أمن بعض الدائنين بعض المدنيين، لحسن ظنه به، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره، وهذا هو البيع بالأمانة، فليؤد المدين الذي اؤتمن أمانته أي دينه الذي ائتمنه الدائن عليه، فلم يأخذ منه رهنا، وليكن عند حسن ظن الدائن به، وليتق الله ربه في رعاية حقوق الأمانة، وعدم خيانتها ولا جحودها ولا التأخر في دفعها، فالله خير الشاهدين، وهو أولى أن يتّقى. وسمي الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان عليه. وجمع في قوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ بين الألوهية وصفة الربوبية للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب الإله المعبود بحق، وربه الذي يربيه ويلي شؤونه ويدبر مصالحه. ثم أكد سبحانه النهي السابق عن الإباء عن أداء الشهادة وتحملها، فنهى عن كتمانها أي إخفائها بالامتناع عن أدائها، مجددا النهي فيما يليق ببيع الأمانة، مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد، وتهدده بعقوبة كتمان الشهادة واستحقاق الإثم، والآثم والفاسق متقاربان، فقال بالمعنى: لا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا احتيج إليها، ومن يكتمها أو يمتنع عنها كان مرتكبا للذنب، مجترحا للمعصية والإثم، وخص القلب بالذكر في تحمل الإثم لأنه مركز الإحساس والشعور ووعي الوقائع وإدراكها، ولأنه أحد الأعضاء التي تقترف ذنبا، كما يسند الزنى إلى العين والأذن ونحوهما، فالإثم قد يكون بعمل القلب كما يكون بعمل بقية الأعضاء، كقوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء 17/ 36] ومن آثام القلب: إضمار السوء وسوء النية والقصد، والحقد والحسد.

فقه الحياة أو الأحكام:

وكل ما سبق من أعمال كأداء الشهادة وكتمها وغيرها يعلمه الله، والله بكل شيء عليم وبصير، يجازي عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاحذروا مخالفة الأوامر واقتراف المعاصي، ومنها كتمان الشهادة، واعلموا بما أمركم به، فإن علم الله عام في جميع الأعمال. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع آية الدين في توثيق المبايعات المؤجلة والديون والسّلم «1» بالكتابة والشهادة والرهن، فإن لم يكن توثيق برهن أو بكتابة جاز البيع بالأمانة، فالمبايعات في هذه الآية ثلاثة أنواع: بيع بكتابة وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع بالأمانة. قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السّلم خاصة، معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا. وقال ابن خويز منداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما، منها ما يلي: 1- استدل بها بعض علماء المالكية على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه. 2- مشروعية تأجيل الديون، لقوله تعالى: بِدَيْنٍ: وحقيقة الدين: عبارة عن كل معاملة، كان أحد العوضين فيها نقدا، والآخر في الذمة

_ (1) السّلم: هو بيع آجل بعاجل. ويقال له السلف، غير أن السلم خاص به، والسلف يطلق أيضا على القرض.

نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والذين: ما كان غائبا. وتشمل الآية كلا من بيع العين بالدين كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجل، وبيع الدين بالعين: وهو السلم. أما بيع العين بالعين كبيع سلعة حاضرة بنقد حاضر فهو جائز، وأما بيع الدين بالدين كبيع صاع من القمح في ذمة إنسان، بصاعين من الشعير في ذمة إنسان آخر، فهو باطل للنهي عنه. 3- دل قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، وأكدت السنة ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» «1» . وأجمع أهل العلم على مشروعية السلم: وهو أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامّة لا يخطئ مثلها، بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ثمن ما أسلم منه قبل أن يفترق العاقدان من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسمّيا المكان الذي يقبض فيه الطعام. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، وهو مستثنى من نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السلم، لحاجة الناس إليه، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج أو بيع المفاليس. وأجاز المالكية السّلم إلى الحصاد والجذاذ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم. وأجازوا أيضا تأخير قبض رأس المال (الثمن) يومين أو ثلاثة، بشرط وبغير شرط، لأن ذلك في حكم المقبوض في المجلس، لقرب هذه المدة. ولم يجز باقي الأئمة تأخير شيء من رأس مال السّلم عن مجلس العقد والاتفاق ورأوا أنه كالصرف، وتحرزا من بيع الدّين بالدّين.

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس.

وأجاز الشافعي السلم الحالّ، ولم يجزه باقي الأئمة، للحديث المتقدم: «إلى أجل معلوم» . 4- ودل قوله: فَاكْتُبُوهُ أي الدّين والأجل على مشروعية الاحتجاج بالكتابة. ويقال: أمر بالكتابة، ولكن المراد الكتابة والإشهاد لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. وهل كتابة الكاتب فرض أو ندب؟ قيل: إنها فرض كفاية، وقيل: فرض عين على الكاتب متى طلب منه، وكان في حال فراغه لقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقوله: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ وقيل: إنه ندب، والصحيح أنه أمر إرشاد، فيجوز له أن يتخلف عن الكتابة، حتى يأخذ أجره إذ لو كانت الكتابة واجبة على الكاتب ما صح الاستئجار بها لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة. 5- هل الكتابة والإشهاد واجبان؟ ذهب جماعة إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجلة واجبان، بقوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ وقوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ثم نسخ الوجوب بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. واختار الطبري أن كتب الديون واجب على أربابها بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود. وقال الجمهور: الأمر بالكتابة والإشهاد للندب، وهما مندوبان، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل، وقد تطرأ عوارض من موت أو غيره، فشرع الله الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنهم كانوا يتشددون فيهما، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد، ولم يقع نكير منهم، فدل ذلك على أن الأمر للندب.

وقرينة صرف ظاهر الأمر من الوجوب إلى الندب منصوص عليها في الآية ذاتها، وهو قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. 6- التزام العدل: طالبت الآية بالتزام العدل في الكتابة، وفي الإملاء، وفي إملاء الولي عن السفيه والضعيف، وهذا واضح من قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقوله: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ وقوله: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وقوله: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. وهل يحجر على السفيه؟ أجاز الجمهور الحجر على السفيه المبذر من قبل القاضي حتى لا يصبح عالة على الناس، وقال أبو حنيفة: يمنع السفيه من ماله ما لم يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها دفع إليه ماله، وإن لم يؤنس منه رشد لأن الحجر عليه إهدار لآدميته. 7- نصاب الشهادة: رجلان أو رجل وامرأتان. وتجوز شهادة النساء مع الرجال عند المالكية في الأموال وتوابعها خاصة، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص، والنكاح والطلاق والرجعة. وتجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة. واتفق الفقهاء على رد الشهادة بسبب التهمة: وهي التي تجلب للمشهود له نفعا أو تدفع عنه ضررا، وترد شهادة أحد الزوجين للآخر في رأي الجمهور، ولا ترد في رأي الشافعية وإنما تقبل لأن عقد الزوجية أمر طارئ ويزول. وقال أبو حنيفة: إن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء، وإن كان عدلا استحسانا. ولا يجوز في رأي الحنفية القضاء بشاهد ويمين المدعي لأن الله لم يذكر في الآية إلا قسمين وهما: شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، فلا ثالث لهما. وأجاز الجمهور القضاء بشاهد ويمين في الأموال لا في الأبدان، لا باعتباره قسما ثالثا للشهادة، وإنما هو باعتبار اليمين مع الشاهد ترجيحا لجانب المدعي، بدليل ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه قضى بشاهد ويمين» «1» . وأما عدم ذكر ذلك في

_ (1) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس.

القرآن، فلا يمنع مشروعيته والعمل به، بدليل جواز القضاء بالنكول عند الحنفية، وهو قسم ثالث لم يذكره القرآن. 8- ودل قوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا على منع الإباء عن تحمل الشهادة وأدائها وإثباتها عند اللزوم أمام القاضي، وأن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم. وهذا في حال طلب الشهادة، فأما في غير حال طلبها من القاضي فأداؤها مندوب، فقد فرض الله الأداء عند الدعاء (الطلب) ، فإذا لم يدع الشاهد، كان أداء الشهادة ندبا لقوله عليه الصلاة والسلام: «خير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» «1» . ورأى المالكية في الصحيح أن أداء الشهادة فرض، وإن لم يسألها، إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، حتى لا يضيع الحق، سواء في حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين، لقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ [الطلاق 65/ 2] وقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف 43/ 86] وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقد تعين عليه نصره إذا كان مظلوما بأداء الشهادة التي له عنده، إحياء لحقه الذي أماته الإنكار. وذهب الحنفية إلى أن أداء الشهادة في حقوق الله تعالى قبل سؤالها مطلوب، أما في حقوق العباد فلا يشهد الشاهد قبل أن يستشهد، لما أخرجه الصحيحان عن عمران بن حصين: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن» وأوّله المالكية وحملوه على شاهد الزور فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يتحمّله ولا حمّله، أو على الذي يحمله الشّرة على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها، فهي شهادة مردودة، أو على الغلمان. واتفق الجميع على أن أداء الشهادة فرض كفاية،

_ (1) رواه مسلم عن زيد بن خالد الجهني.

فإذا أداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم، سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزئ بهما تعينت الشهادة على الآخر. 9- الكتابة مندوبة في المبايعات والديون المؤجلة، سواء أكان المؤجل صغيرا أم كبيرا. ولا تطلب الكتابة في التجارة الحاضرة التي يتم فيها التبادل في الحال، ويحدث التقابض في البدلين عقب العقد، إذ يقلّ في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان، وبيع بأمانة، وقرأ هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب. 10- ودل قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ على طلب الإشهاد على صغير ذلك وكبيره، وهل الإشهاد على البيع على الوجوب أو الندب؟ قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وجماعة من التابعين: هو على الوجوب، أخذا بظاهر الأمر في هذه الآية، ورجحه الطبري. وذهب الشعبي والحسن البصري إلى أن ذلك على الندب والإرشاد، لا على الحتم والإيجاب. وهذا قول مالك والشافعي وأهل الرأي، وزعم ابن العربي أن هذا قول الكافّة، قال: وهو الصحيح، ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له: إن آية الدّين منسوخة قال: لا والله، إن آية الدّين محكمة ليس فيها نسخ، قال: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب، لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير

نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه. 11- أداء الشهادة، وكتابة الكاتب يكونان بالحق والعدل، فلا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها، فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق، وكذلك إذايتهما من الخصوم معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله بقول الحق، فلا يجوز إلحاق الضرر بهما، ولا إضرارهما المشهود له أو عليه إذ لا مضارّة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وإن تفعلوا المضارة، فإنه فسوق (أي معصية) حالّ بكم. 12- وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه. أما قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو إشارة إلى إحاطته تعالى بالمعلومات، فلا يشذ عنه منها شيء، وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي. 13- دلت آية فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ على مشروعية الرهن في السفر إذا لم يتوافر الإشهاد وكتابة الدين. وجاءت السنة مبينة جواز الرهن في الحضر، كما بيّنا. والرهن: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحقّ من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم. ولا يظهر وجه للتوثق بالمرهون من غير قبضه، وقد اتفق الفقهاء على أن القبض شرط في الرهن، واختلفوا في نوع الشرط، فقال الجمهور: القبض شرط لزوم للرهن، فلا يلزم إلا بالقبض، وما لم يلزم للراهن أن يرجع عنه لأن مشروعية الرهن للتوثق، ولا توثق إلا بالقبض. وقال المالكية: القبض شرط تمام الرهن، أي لكمال فائدته، وليس شرط صحة أو لزوم، فإذا انعقد الرهن لزم

بمجرد العقد، ويجبر الراهن على الإقباض، ومتى قبض تم وكمل، قياسا على سائر العقود، فإنها تلزم بمجرد العقد. والمعتمد لدى المالكية أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن، بطل الرهن. وهو قول أبي حنيفة أيضا، للآية: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. فإذا خرج عن يد القابض، لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكما. وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا، لا يبطل حكم القبض المتقدم. ويصح قبض المرتهن أو وكيله، وقال الجمهور: يصح أيضا قبض عدل (طرف ثالث محايد غير العاقدين) يوضع الرهن في يديه لأنه إذا صار عند العدل، صار مقبوضا لغة وحقيقة لأن العدل نائب عن صاحب الحق، وبمنزلة الوكيل. والعدل أمين غير ضامن، فلو ضاع المرهون منه دون تهاون ولا تقصير، لم يضمنه. ويجوز رهن المشاع عند الجمهور، خلافا للحنفية، كما بينا. ويجوز لدى المالكية خلافا للجمهور رهن ما في الذمة لأنه مقبوض، ومثاله: رجلان تعاملا، ولأحدهما على الآخر دين، فرهنه دينه الذي عليه. قالوا: وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه، فيجوز رهن ما في الذمة لأن بيعه جائز، ولأنه مال تقع الوثيقة به، فجاز أن يكون رهنا، قياسا على سلعة موجودة. وقال الجمهور: لا يجوز رهن الدين في الذمة لأنه لا يتحقق إقباضه، والقبض شرط في لزوم الرهن لأنه لا بد أن يستوفي الحق منه عند حلول أجل وفاء الدين المرهون به، ويكون الاستيفاء من مالية المرهون، لا من عينه، ولا يتصور ذلك في الدّين.

انطباعات عامة مستفادة من آية الدين:

ولا يجوز غلق الرهن «1» : وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه، إن لم يأته به عند أجله، وكان هذا من فعل الجاهلية، فأبطله النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله فيما رواه الشافعي والدارقطني وغيرهما عن أبي هريرة: «لا يغلق الرهن من صاحبه، له غنمه، وعليه غرمه» . قال الجمهور: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة، فإذا آجر المرتهن المرهون بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن ولا يعود. وأجاز الحنابلة انتفاع المرتهن بالرهن مقابل نفقته إذا كان المرهون مركوبا أو محلوبا، لما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» . انطباعات عامة مستفادة من آية الدين: 1- إن الذي أمر الله تعالى به في آية الدين من الشهادة والكتابة «2» : قصد به الحفاظ على ووشائج الود والصلة والمحبة وصلاح ذات البين بين الناس، ومنع وقوع التنازع المؤدي إلى فساد علاقات الناس، وسدّ كل المنافذ أمام الشيطان الذي قد يسول للمدين جحود الحق، وتجاوز ما حدّ له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق. ومن أجل هذه الغايات السامية، حرّم الشرع البيوع المجهولة التي تؤدي إلى

_ (1) غلق الرهن: كان من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين، ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام. [.....] (2) يلاحظ أن صيغة الشهادة تكررت في الآيتين ثمان مرات، وصيغة الكتابة تكررت عشر مرات.

الاختلاف والتنازع وفساد العلاقات وإيقاع التضاغن والتباين. وبناء عليه أيضا حرم الله الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة 5/ 91] فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره، حاز صلاح الدين والدنيا، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [النساء 4/ 66] . 2- لا ينبغي للإنسان استدانة دين إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحّة لأنه كما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الديلمي في الفردوس عن عائشة، وهو ضعيف: «الدّين همّ بالليل، ومذلّة بالنهار» . لما فيه من شغل القلب والبال والهمّ اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمّل منّته بالتأخير إلى حين أوانه. وقد يقع المدين في عجز مستحكم فلا يستطيع وفاء دينه، لذا تعوّذ منه النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري عن أنس- فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل، وضلع الدّين، وغلبة الرجال» قال العلماء: ضلع الدين: هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه. وإذا حسنت نية المدين أعانه الله على إيفاء الدين، روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله» . 3- لما أمر الله تعالى بكتابة الدين والإشهاد وأخذ الرهان، كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج أحدهم أو افتقر عياله، فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهي عنه.

لله ملك السموات والأرض وإحاطة علمه بكل شيء ومحاسبة العباد على أفعالهم ونواياهم [سورة البقرة (2) آية 284] :

لله ملك السموات والأرض وإحاطة علمه بكل شيء ومحاسبة العباد على أفعالهم ونواياهم [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) الإعراب: فَيَغْفِرُ ومثله وَيُعَذِّبُ: يجوز فيه الرفع والجزم والنصب، فالرفع على الاستئناف وتقديره: فهو يغفر، والجزم بالعطف على يُحاسِبْكُمْ، والنصب ضعيف، على تقدير (أن) بعد الفاء، والفعل وما بعده في تأويل المصدر لعطف مصدر على مصدر حملا على المعنى دون اللفظ، كأنه قال: إن يكن إبداء أو إخفاء منكم، فمحاسبة، فغفران منّا. البلاغة: يوجد طباق بين: وَإِنْ تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ وبين فَيَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ. المفردات اللغوية: تُبْدُوا.. تظهروا ما في أنفسكم من السوء والعزم عليه أَوْ تُخْفُوهُ تسرّوه يُحاسِبْكُمْ.. يخبركم به الله يوم القيامة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يستر من أراد المغفرة له وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعاقب من أراد تعذيبه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عظيم القدرة على أي شيء، ومنه محاسبتكم وجزاؤكم، قال أبو حيان: لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء، عقب ذلك بذكر القدرة إذ ما ذكر جزء من متعلّقات القدرة. المناسبة: هذه الآية متممة لآخر كل من الآيتين السابقتين وهما: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ

التفسير والبيان:

عَلِيمٌ ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ودليل على إحاطة علم الله بالأشياء لأن من ملك شيئا وخلقه، فلا بد من أن يعلمه، كقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك 67/ 14] ، وكذلك من ملك شيئا فله حسابه على أفعاله وما يخفيه صدره، ومنها كتمان الشهادة، وصاحب السلطة المطلقة في شيء وهو الحساب، له الإرادة المطلقة في العفو عمن شاء ممن أخطأ، وعقاب من شاء، وذلك كله مقترن بالقدرة المطلقة على كل شيء. وللآية أمثال كثيرة في القرآن الكريم نحو: قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران 3/ 29] ونحو: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] . التفسير والبيان: يخبر الله تعالى في هذه الآية أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر والسرائر والضمائر وإن دقت وخفيت، وأنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم، كما قال ابن كثير فلله ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما، وهو العليم بكل شيء، فإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه، أو تكتموه عن الناس وتخفوه، فالله يحاسبكم عليه ويجازكم به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهو يغفر بفضله لمن يشاء من عباده، ويعاقب من يشاء عقابه، ومما يكون عونا على المغفرة توفيق الله عبده إلى التوبة والعمل الصالح، كما قال تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ

فقه الحياة أو الأحكام:

آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر 40/ 7- 9] . والحساب من الله لعباده: أن يطلعهم على جميع أعمالهم، ثم يسألهم: لم فعلوها؟. فقه الحياة أو الأحكام: تتضمن الآية إنذارا وتخويفا شديدا من الحساب الإلهي، لكون الإنسان مملوكا لله، والله مطلع على كل أفعاله، محاسب له على جليل الأعمال وحقيرها، مما أدى إلى إيقاع الرهبة في النفوس والإشفاق عليها من شدة العذاب، وتفويض أمره مطلقا إلى الله وحده أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جثوا على الرّكب، فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير؟» . فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ.. الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية. وظاهر قوله: «نسخها الله» يدل على نسخ هذه الآية بالآية التي بعدها وهي: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ.. وقد فهم بعض المفسرين «1» من ذلك أن هذه الآية

_ (1) وهم الإمام علي وابن عمر وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وآخرون من الصحابة والتابعين.

منسوخة لأنها تثبت الحساب على الوساوس وخواطر النفوس. والراجح أن الآية غير منسوخة، وأن المراد من قوله: «نسخها الله» : أزال ما أخافهم، وأن آية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ليست ناسخة، ولكنها موضحة، أيدها الحديث الذي رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلّم أو تعمل» ، وقد قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إن الآية محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى الله عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب. ويدل على منع القول بالنسخ الأدلة التالية: 1- إن قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خبر، والأخبار لا تنسخ عند جمهور الأصوليين. 2- إن كسب القلب وعمله مما دل الكتاب والسنة والإجماع والقياس على ثبوته والجزاء عليه، ظهر أثره على الجوارح أم لم يظهر، كقوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة 2/ 225] وقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء 17/ 36] . 3- إن الوساوس العارضة وحديث النفس الذي لا يصل إلى درجة القصد الثابت والعزم الراسخ لا يدخل في مفهوم الآية، كما قال المحققون. 4- إن تكليف ما ليس في الوسع ينافي الحكمة الإلهية. 5- لا يظهر معنى للنسخ وهو تغيير الحكم لتغير مصلحة المكلفين لأن ما في النفس لا يتغير ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال.

الإيمان برسالات الرسل والتكليف بالطاقة [سورة البقرة (2) الآيات 285 إلى 286] :

وأما قول الصحابة والتابعين بالنسخ فهو مما يتفق مع علو مرتبة هؤلاء وكمالهم، حتى إنهم ليجدون أن وسوسة النفس مما تخضع للحساب، وهم يريدون التطهر من كل آثار الإثم، لذا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتحرجهم من باب كمال التزكية وتمام الطهاوة واعتقاد النقص في أنفسهم. الإيمان برسالات الرسل والتكليف بالطاقة [سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) الإعراب: وَالْمُؤْمِنُونَ إما معطوف على الرَّسُولُ فكأنه قال: آمن الرسول والمؤمنون. وإما مبتدأ، وكُلٌّ: مبتدأ ثان، وآمَنَ بِاللَّهِ: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: خبر المبتدأ الأول. والعائد من الجملة إليه محذوف، وتقديره: كلهم آمن بالله. وقال: آمَنَ: بالإفراد، ولم يقل: آمنوا بالجمع، حملا على لفظ كل. وأضيف بَيْنَ إلى أَحَدٍ لأن المراد به هاهنا الكثرة لأن «أحدا» في سياق النفي يدل على الكثرة، كقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ.. ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما [البقرة 2/ 102] . إذ لا تجوز إضافة بَيْنَ إلى الواحد.

البلاغة:

غُفْرانَكَ منصوب على المصدر بفعل مقدر تقديره: اغفر لنا غفرانك، أو نسألك غفرانك، وحذف للعلم به لوجود الدلالة عليه. البلاغة: يوجد طباق بين كَسَبَتْ في الخير واكْتَسَبَتْ في الشر. ويوجد جناس اشتقاق بين آمَنَ.. وَالْمُؤْمِنُونَ وهناك إطناب في قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وإيجاز بالحذف في قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ أي آمنوا بالله ورسله. المفردات اللغوية: آمَنَ الرَّسُولُ صدّق النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من القرآن وَرُسُلِهِ يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي في الرسالة والتشريع، فلا نفضل بعضهم على بعض في ذلك، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض سَمِعْنا ما أمرنا به سماع قبول وتدبر الْمَصِيرُ المرجع بالبعث. وُسْعَها طاقتها: وهو ما تسعة قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر. كَسَبَتْ من الخير وثوابه مَا اكْتَسَبَتْ من الشر أي وزره، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد، ولا بما لا يكسبه مما وسوست به نفسه لا تُؤاخِذْنا تعاقبنا أَوْ أَخْطَأْنا تركنا الصواب لا عن عمد، كما آخذت به من قبلنا إِصْراً أمرا أو حملا يثقل علينا حمله أو يشق تحمله كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أي بني إسرائيل، من قتل النفس في التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وقرض موضع النجاسة. ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء، فالتكليف بما يطاق: هو ما يمكن الإتيان به ولو بمشقة معتادة متحملة، والتكليف بما لا يطاق: هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وقدرته، بأن اقترن بمشقة زائدة غير معتادة. وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا الرحمة أمر زائد على المغفرة مَوْلانا مالكنا وسيدنا ومتولي أمورنا. جاء في الحديث الذي يرويه مسلم عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، فقرأها صلّى الله عليه وسلّم، قال الله عقب كل كلمة: قد فعلت. سبب النزول: سبق بيان سبب نزول هذه الآية فيما رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة في بحث «فقه الحياة» في الآية السابقة. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه.

المناسبة:

المناسبة: بدأ الله تعالى هذه السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين ومقارنتهم بالكافرين، ولا سيما أخبار اليهود، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطالق، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، ومحاجة الضالين، وختم السورة بالكلام عن إيمان الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالكتب السماوية وبالرسل الكرام دون تفريق أو تفضيل في أصل الرسالة والتشريع، وكان مسك الختام إبداء ما تفضل الله به على هذه الأمة من التكاليف السمحة السهلة التي لا ضيق ولا حرج فيها، وأن الإيمان وأهله منصور على الكفر وأعوانه، إذا صح وصدقت العزيمة وتوافر الإخلاص والصدق وتنفيذ الأحكام الشرعية. فضل هاتين الآيتين: ورد في السّنة النّبوية أحاديث كثيرة تشير إلى فضائل هاتين الآيتين، منها: ما رواه البخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» ، ورواه مسلم عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ: «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» . ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبيّ قبلي» . وروى ابن مردويه عن علي قال: «لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز أعطيه نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم من تحت العرش» . ومنها: ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد

التفسير والبيان:

فتح من السماء، ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته» . التفسير والبيان: أخبر الله تعالى عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وعن المؤمنين بالإيمان بأصول الاعتقاد فقال: صدّق الرسول محمد والمؤمنون برسالته، بالذي أنزل على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم من ربّه، من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان. قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية فيما رواه الحاكم في مستدركه: «حقّ له أن يؤمن» . كلّ منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتمام حكمته في خلقه، وبوجود الملائكة الذين لهم مهام عديدة منها السفارة بالوحي بين الله ورسله، وبالرّسل الكرام الذين أنزل الله عليهم كتبا وصحفا لهداية البشر، قائلين جميعا: لا نفرق بين الرّسل في الرّسالة والتّشريع من حيث المبدأ، وأن دعوتهم واحدة هي الإقرار بوجود الله ووحدانيته والدّعوة إلى مكارم الأخلاق. وأما التّفضيل بين الرّسل في آية سابقة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة 2/ 253] ، إنما هو في مزايا أخرى غير الرّسالة والتّشريع. وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض الرّسل ويكفرون بالبعض الآخر. وقال المؤمنون: بلّغنا الرّسول بالوحي، فسمعنا القول سماع تدبّر وفهم وقبول، وأطعنا الأوامر إطاعة إذعان وانقياد، معتقدين أن كل أمر ونهي إنما هو لسعادة الدّنيا والآخرة. ويسألون الله تعالى المغفرة بالسّتر في الدّنيا وترك الجزاء في الآخرة، فأنت المتصرف في أمورنا وإليك المرجع والمآب، فتفعل فينا ما تشاء. قال جبريل: «إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل: لا يُكَلِّفُ

اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلى آخر الآية» . لا يكلّف الله أحدا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى ورأفته بهم، وهذه الآية هي التي أوضحت للصحابة ما أشفقوا منه في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي أنه تعالى وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذّب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلّف به الإنسان، علما بأن كراهية وسوسة السّوء من الإيمان. ومنع التّكاليف الشّاقة والتّكليف باليسير مشار إليه في كثير من آي القرآن، نحو: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] ، ونحو: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 22/ 78] . وللنّفس الإنسانيّة من الأعمال التي تدخل تحت التّكليف المحتمل غير الشّاق ما كسبت من خير وما اكتسبت من شرّ، ولها الثواب على الخير، وعليها العقاب على الشّر. وأضيف الاكتساب إلى الشّر لبيان أنه يحتاج إلى تكلّف وعناء وتخطيط ومصادمة الطبيعة والأعراف، أما الخير فلا يحتاج إلى جهد كثير لأنه مما أودع الله في طبع الإنسان، وترتاح النفس لفعله، ولا يحتاج إلى حذر وتدبير، ويقدم الإنسان عليه كلما صفت نفسه وأحسّت بضعفها أمام الخالق، وبفقرها إليه يوم المحنة الكبرى وكشف الحساب الدّقيق الشامل الرّهيب أمام الله والنّاس. ثم أرشد الله تعالى عباده إلى هذا الدّعاء، وقد تكفّل لهم بالإجابة وهو: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي إن تركنا فرضا نسيانا، أو فعلنا حراما ناسين، أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي، فلا تعاقبنا عليه، يؤيده ما رواه ابن ماجه والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي ذرّ

وابن عباس وثوبان أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . - رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أي لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها، كما كلفت الأمم الماضية قبلنا كبني إسرائيل الذين كانت توبتهم بقتل التائب نفسه، وإيجاب ربع المال في الزّكاة، وقطع موضع النّجاسة من الثوب إذا تنجّس. أما رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ففيها التّخفيف والتّيسير والسّماحة والسّهولة لأنه نبيّ الرحمة المهداة للأمم قاطبة، روى الخطيب وغيره عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السّمحة» . - رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي من التكليف والمصائب والبلاء، فلا تبتلينا بما لا قدرة لنا عليه من الفتن. وَاعْفُ عَنَّا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا. وَاغْفِرْ لَنا فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة. وَارْحَمْنا فيما يستقبل، فجنبنا بتوفيقك الوقوع في ذنب آخر. ويلاحظ أن عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ يستتبع العفو، وأن عدم حمل الإصر (الحرج والحمل الثقيل) يستوجب المغفرة، وأن عدم تحميل ما لا يطاق يتطلب الرحمة. - أَنْتَ مَوْلانا متولي أمورنا ومالكنا، وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بك. - فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيّك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدّنيا والآخرة. وكان معاذ رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال: آمين.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد تكفّل الله بالإجابة، ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: نعم» ، وعن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: قد فعلت» . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على ما يلي: 1- الإيمان لا يتجزّأ: فالمؤمن يجب عليه الإيمان بكل ما أوحى الله به، والمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون، راشدون، مهديون، هادون إلى سبيل الخير. وليس المؤمنون كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض. 2- الإيمان يستلزم الطاعة: المؤمن بالله يؤمن بصدق لقائه، ويسمع ويطيع أوامره، ويتجنّب نواهيه، فلا يقصر في واجب، ولا ينغمس في معصية، فذلك يتصادم مع الإيمان. 3- الإسلام دين اليسر: فهو يمتاز بقلّة التّكاليف والفرائض والواجبات، وبيسر تكاليفه، وعدم التّكليف بالشّاق من الأعمال، فلا تكليف فوق الطاقة، وإنما التّكليف بحسب الوسع والقدرة، والطاعة على قدر الطاقة، فقد يكلّفنا الله بأمور فيها شيء من المشقّة لكنها معتادة متحمّلة مقدور عليها، كثبوت الواحد للعشرة من الكفار في مبدأ الإسلام حينما كان المسلمون قلّة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه، ومفارقة أهله ووطنه وعادته، أما المشقات الثّقيلة والأمور المؤلمة فهي مرفوعة عنا، وكان بعضها على الأمم السابقة، كتكليفهم بقتل أنفسهم

للتوبة، وقرض موضع النّجاسة كالبول من ثيابهم وجلودهم، فلله الحمد والمنّة، والفضل والنّعمة. والخلاصة: إن قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها نصّ على أن الله تعالى لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه، ولو كلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه، لكان مكلّفا له ما ليس في وسعه. وهذا أصل عظيم في الدّين وركن من أركان الإسلام. هذا من حيث الواقع الفعلي، أما من حيث الجواز العقلي، فلم يمنع الأشاعرة من تكليف ما لا يطاق، فهو جائز عقلا وإن لم يقع شرعا. 4- المسؤولية الشخصية: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة 2/ 286] : للإنسان ما كسب من الحسنات، وعليه ما اكتسب من السّيئات، مثل قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] ، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام 6/ 164] . روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي، ضحك، وقال: إنهما من كنز الرحمن تحت العرش» ، وإذا قرأ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء 4/ 123] ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم 53/ 39- 41] استرجع واستكان. 5- ودلّت آية لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ على أنه يطلق على أفعال العباد الكسب والاكتساب، وعلى أن من قتل غيره بمثقّل كحجر وخشب، أو بخنق أو تغريق، فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لأبي حنيفة الذي جعل ديته على العاقلة (القبيلة) وذلك يخالف الظاهر. ودلّت على أن سقوط القصاص عن الأب بقتل ولده لا يقتضي سقوطه عن شريكه، فالقود واجب على

شريك الأب في رأي المالكية خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك المخطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، ودلّت أيضا على وجوب الحدّ على المرأة العاقلة البالغة إذا مكنت مجنونا من نفسها. 6- رفع الإثم عن الخطأ والنسيان: دلّت الآية على أن الإثم مرفوع حال الخطأ والنسيان. وأما الأحكام الدّنيوية المتعلّقة بهما فالصّحيح أنها تختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتّفاق كالغرامات والدّيات والصّلوات المفروضات، وقسم يسقط باتّفاق كالقصاص والنّطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا. وهذا يدل على أن أحكام العباد وحقوق الناس ثابتة، كما سنبيّن في سورة النساء. خلاصة أهم الأحكام في سورة البقرة المسمّاة «فسطاط القرآن» : أولا- العقائد: 1- دعوة جميع الناس إلى عبادة الله تعالى. 2- تحريم اتّخاذ الأنداد والشركاء مع الله. 3- إثبات الوحي والرّسالة بالقرآن وتحدّي الناس بالإتيان بسورة من مثله. 4- أساس الدّين: توحيد الله، وإثبات البعث ومحاجة الكافرين الضالين في ذلك. ثانيا- الأحكام العملية الفرعية: 1- إباحة الأكل من الطّيّبات. 2- الحفاظ على حق الحياة بتشريع القصاص والقتال في سبيل الله.

3- أحكام أركان الإسلام: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج والعمرة. 4- إنفاق المال في سبيل الله تحقيقا للتّكافل الاجتماعي في الإسلام. 5- تحريم الخمر والميسر والرّبا. 6- الولاية على اليتامى ومخالطتهم في المعيشة. 7- أحكام الزواج من طلاق ورضاع وعدّة ونفقة. 8- الوصية الواجبة. 9- كتابة وثيقة الدّين والإشهاد عليه والرّهان وكتمان الشهادة ونصاب الشهادة المطلوب في المعاملات. 10- أداء الأمانة. 11- صيغة الدّعاء المطلوبة في التّشريع.

سورة آل عمران:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة آل عمران هي السّورة الثالثة، وهي سورة مدنيّة وآياتها مائتان. نزلت بعد الأنفال مدى صلتها بسورة البقرة: هناك أوجه اتّصال وشبه ومقارنة بين السورتين: البقرة وآل عمران، وهي ما يأتي: 1- موقف الناس من القرآن: بدئت السورتان بذكر القرآن (أو الكتاب) وحدد موقف الناس منه، ففي البقرة: ذكر حال المؤمنين وغير المؤمنين به، وفي آل عمران: ذكر موقف الزائغين الذين يتصيّدون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وموقف الرّاسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، قائلين: كلّ من عند ربّنا. 2- عقد التّشابه بين خلق آدم وخلق عيسى: ففي البقرة تذكير بخلق آدم، وفي آل عمران تذكير بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في خلق غير معتاد. 3- محاجّة أهل الكتاب: في السورة الأولى: إفاضة في محاجّة اليهود وبيان عيوبهم ونقائصهم ونقضهم العهود، وفي الثانية: إيجاز في محاجّة النصارى، لتأخرهم في الوجود عن اليهود. 4- تعليم صيغة الدّعاء في ختام كلّ منهما: في الأولى دعاء يناسب بدء الدّين ويمسّ أصل التّشريع وبيان خصائصه في قلّة التّكاليف ودفع الحرج والأخذ باليسر والسماحة، وفي الثانية: دعاء بالتّثبيت على الدّين وقبول دعوة الله إلى الإيمان، وطلب الثواب عليه في الآخرة.

ما اشتملت عليه السورة:

5- إثبات الفلاح للمؤمنين: ختمت السورة الثانية بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو ما بدئت به السّورة الأولى بقوله تعالى واصفا المؤمنين: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ما اشتملت عليه السورة: تضمّنت هذه السّورة الكلام على جانبي العقيدة والتّشريع، أما العقيدة: فقد أثبتت الآيات وحدانية الله، والنّبوة، وصدق القرآن، وإبطال شبهات أهل الكتاب حول القرآن والنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإعلان كون الدّين المقبول عند الله هو الإسلام، ومناقشة النصارى في شأن المسيح وألوهيته والتكذيب برسالة الإسلام، واستغرقت المناقشة قرابة نصف السورة، كما استغرقت سورة البقرة ما يزيد عن ثلثها في مناقشة اليهود وتعداد قبائحهم وجرائمهم، بالإضافة إلى ما تضمنته هذه السّورة من تقريعاتهم، والتحذير من مكائد أهل الكتاب. وأما التّشريع: فقد أبانت الآيات بعض أحكام الشرع مثل فرضية الحج والجهاد وتحريم الرّبا وجزاء مانع الزّكاة، وبعض الدروس والعبر والعظات من غزوتي بدر وأحد، والتّنديد بمواقف أهل النّفاق. ثم ختمت السورة بما يناسب الجانبين، فطالبت بالتّفكير والتّدبّر في خلق السّموات والأرض وما فيهما من عجائب وأسرار، وأوصت بالصبر على الجهاد والمرابطة في سبيل الله، ليحظى الإنسان برتبة الفلاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. سبب التّسمية: سميت السورة سورة آل عمران لإيراد قصة أسرة عمران والد مريم أم عيسى فيها، وإعداد مريم التي نذرتها أمها للعبادة، وتسخير الله الرّزق لها في المحراب

فضلها:

واصطفائها وتفضيلها على نساء عالمي زمانها، وتبشيرها بإنجاب عيسى صاحب المعجزات «1» وسميت آل عمران والبقرة بالزّهراوين لأنّهما النّيّرتان الهاديتان قارئهما للحقّ بما فيهما من أنوار، أي معان، أو لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، أو لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم، روى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أسماء بن يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، والتي في آل عمران: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» . فضلها: أخرج مسلم عن النّواس بن سمعان قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران» ، وأخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزّهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «2» .

_ (1) وسميت السورة أيضا: الزهراء والأمان والكنز والمعينة والمجادلة وسورة الاستغفار وطيبة (البحر المحيط: 2/ 373) . (2) الغمامة: السحاب الملتف، وهو الغياية، إذا كانت قريبا من الرأس، وهي الظّلّة أيضا، والمعنى أن قارئهما في ظل ثوابهما، كما جاء في حديث «الرجل في ظل صدقته» . تحاجان: أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة. والبطلة: السّحرة.

إثبات التوحيد وإنزال الكتاب [سورة آل عمران (3) الآيات 1 إلى 6] :

إثبات التوحيد وإنزال الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) الإعراب: الم: أحرف مقطعة مبنية غير معربة، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور، كما قلنا أول البقرة، إلا أنه فتحت الميم هاهنا لسكونها وسكون اللام بعدها. وأما قول من قال: إنها فتحت لالتقاء الساكنين، ففاسد لأنه لو كان كذلك، لوجب فتحها في الم ذلِكَ الْكِتابُ وفي حم وفي ن وفي كل حرف من حروف التهجي التي في أوائل السور. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: الله: مبتدأ، ولا إله: مبتدأ ثان، وخبره محذوف وتقديره: لا إله معبود إلا هو، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول. و «هو» مرفوع لوجهين: أحدهما- لكونه مرفوعا على البدل من موضع: لا إله، والثاني: لكونه خبر: لا إله. ويجوز جعل الجملة في موضع نصب على الحال من الله تعالى، أو حال من ضمير نَزَّلَ. بِالْحَقِّ جار ومجرور في موضع نصب على الحال وعامله فعل مقدر وتقديره: نزل عليك الكتاب كائنا بالحق. مُصَدِّقاً حال من ضمير الحق، وتقديره: نزّل عليك الكتاب محققا مصدقا لما بين يديه. وكلتا الحالين مؤكدة.

البلاغة:

التَّوْراةَ في مذهب البصريين على وزن فوعلة، وأصله: وورية، فأبدلت الواو الأولى تاء، وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. مِنْ قَبْلُ مبني لأنه مقطوع عن الإضافة هُدىً حال بمعنى هادين من الضلالة. البلاغة: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ عبر عن القرآن بالكتاب، لكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية. لِما بَيْنَ يَدَيْهِ كناية عما تقدمه من الكتب السماوية، وعبر بذلك لصلته الوثيقة بها ولظهوره واشتهاره. وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل، وهو من باب عطف العام على الخاص، حيث ذكر الكتب الثلاثة أولا، ثم عمّ الكتب كلها. المفردات اللغوية: الم الحروف المقطعة في أوائل السور للتنبيه مثل ألا ويا، لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها إِلهَ الإله هو المعبود بحق الْحَيُّ ذو الحياة، وهي صفة تستلزم الاتصاف بالعلم والإرادة الْقَيُّومُ القائم على كل شيء بحفظه ورعايته. نَزَّلَ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القرآن مقترنا بالحق أي الصدق في أخباره فكل ما فيه حق لا شك فيه. ونزل: تفيد التدرج، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث. التَّوْراةَ كلمة عبرية معناها الشريعة، وتشتمل على خمسة أسفار هي «سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع» ويقول اليهود: إن موسى كتبها، ويسميها النصارى: العهد القديم أو العتيق، وفيها حكاية قصص الأنبياء وتاريخ بني إسرائيل قبل المسيح. الْإِنْجِيلَ كلمة يونانية، معناها التعليم الجديد أو البشارة. ويسمى العهد الجديد، ويشتمل في سيرة المسيح عليه السلام وبعض تعاليمه على أربعة أناجيل هي إنجيل متى ويوحنا ومرقس ولوقا وعلى أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب، ورؤيا يوحنا، وهي كلها مكتوبة بعد قرن أو قرنين من وفاة المسيح، وليس لها سند متصل إلى كاتبها. والتوراة في عرف القرآن: ما أنزل الله على موسى، والإنجيل: ما أوحاه الله إلى عيسى عليه السلام، وفيه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه هو الذي يتمم الشريعة. مِنْ قَبْلُ تنزيله هُدىً هادين من الضلالة لِلنَّاسِ ممن تبعهما. وعبر عن

سبب النزول:

التوراة والإنجيل بأنزل، وعن القرآن بنزّل لأنهما نزلا دفعة واحدة، وأما القرآن فنزل تدريجيا، والتعبير عن الوحي بالتنزيل أو بالإنزال للإشارة بأن منزلة الموحي أعلى من منزلة الموحى إليه، فتكرار نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ لاختلاف الإنزال بآيات الله وكيفيته وزمانه، والله كرر اسمه تعالى تفخيما لأن في ذكر الظاهر من التفخيم ما ليس في ذكر المضمر. الْفُرْقانَ ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين، وهو عموم بعض خصوص ليعم ما عدا الكتب الثلاثة. بِآياتِ اللَّهِ القرآن وغيره وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده ذُو انْتِقامٍ عقاب شديد ممن عصاه، لا يقدر على مثله أحد. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ كائن في الأرض ولا في السماء، لعلمه بما يقع في العالم من كلي وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يتجاوزهما. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ التصوير: جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والأرحام: جمع رحم، وهو مستودع الجنين من المرأة كَيْفَ يَشاءُ من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وطبائع وأخلاق وغير ذلك. الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري وابن إسحاق وابن المنذر «1» أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران، وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحو ستين راكبا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم، وخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وتكلم منهم ثلاثة، فمرة قالوا: عيسى ابن مريم إله لأنه يحيي الموتى وتارة هو ابن الله، إذ لم يكن له أب وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله تعالى: «قلنا، وفعلنا» ولو كان واحدا، لقال: قلت وفعلت.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 53، البحر المحيط: 2/ 373 وما بعدها.

التفسير والبيان:

وقالوا على الله الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى أتى عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر في الرّحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته، كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّي كما يغذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران، إلى بضعة وثمانين آية منها. التفسير والبيان: بدأ الله تعالى السورة بإثبات التوحيد أساس الدين لينفي عقيدة التثليث، ثم أبان أنه تعالى أنزل الكتب على الأنبياء، وأن عيسى نبي مثلهم فهو منزل عليه، وأن الله هو صاحب القدرة المطلقة الذي يصور في الأرحام، ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فآدم مخلوق من غير أب ولا أم، والخالق هو الإله، والمخلوق عبد كيفما خلق. ألم: الحروف المقطعة لتحدي العرب بالإتيان بشيء من مثل القرآن، ما دام هو مكوّنا من لغتهم ومن الحروف التي ينطقون بها وتتركب منها كلماتهم. الله لا معبود بحق في الوجود سواه لأنه الخالق المسيطر على الكون والنفوس، ولأنه مصدر الخير ودافع الضر، الحي الدائم الحياة التي لا أول ولا نهاية لها، القائم على خلقه بالتدبير والتصريف، وعلى السموات والأرض قبل خلق عيسى، فكيف قامت ودبّرت قبل وجوده وبعد موته؟!

والله هو الذي نزّل القرآن عليك يا محمد بالحق الذي لا شك ولا شبهة فيه، مصدقا ومؤيدا ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين، وهو تصديق إجمالي لا تفصيلي في أصل الوحي وأصل الرسالة الداعية إلى توحيد الإله ومكارم الأخلاق، والإخبار والبشارة، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت قديما، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن العظيم عليه. وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل القرآن، هداية للناس في زمانهما، وإرشادا، فالله هو الذي أنزل الوحي والشرائع قبل وجود عيسى وبعده، وليس عيسى مصدر الوحي، وإنما هو كغيره من الأنبياء متلقّ للوحي، فكيف يكون إلها؟! وأنزل الله الفرقان: وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بالدلائل والبينات الواضحات، والبراهين القاطعات. إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة الدالة على توحيده وتنزيهه عما لا يليق، أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب كفرهم، والله منيع الجناب عظيم السلطان، ذو انتقام ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام، ينفذ بعزته مراده، وينتقم ممن خالف وحيه. وإن الله لا يخفى عليه شيء في الكون، فيعلم حال الصادق في إيمانه، وحال الكافر والمنافق والمكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وعيسى وغيره لا يعلم شيئا من ذلك، فكيف يكون إلها؟ والله هو الذي يخلق الإنسان في الرحم كما يشاء، ذكرا أو أنثى، حسنا وقبيحا وغير ذلك من الطبائع والألوان والمقادير والسلامة والعاهة، وعيسى وغيره لا يصوّر أحدا في رحم ولا يخلق شيئا، بل هو مصوّر مخلوق في رحم أمه،

فقه الحياة أو الأحكام:

وخارج منه، فكيف يكون إلها؟ لا إله إلا هو العزيز الحكيم: أي هو الخالق الموجد المستحق للألوهية وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، المنزه عن الوالد والولد، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم المنزه عن العبث الذي يضع الأمور في محالّها على وفق الحكمة. وهذا دليل صريح بأن عيسى عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر لأن الله صوّره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلها، كما زعمت النصارى؟ وقد تدرج خلقه، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ، خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر 39/ 6] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتب السماوية على الأنبياء، وأن هذه الكتب يصدّق بعضها بعضا لأن غايتها واحدة، وهدفها واحد وهو إرشاد الناس إلى الحق، والإقرار بتوحيد الإله، والاعتراف بوجوده. وإنزال الكتب، والخلق والإيجاد في الأرحام، والعلم بغيب السماء والأرض دون أن يخفى عليه شيء كلي أو جزئي: أدلة وبراهين ثلاثة قاطعة تثبت الألوهية لله وحده، دون مشاركة أحد من خلقه له، أو اتصاف بشر بما يزعم المبطلون من ألوهية إنسان مخلوق ضعيف بحاجة إلى الخالق في كل أموره، سبحانه لا إله إلا هو، أي لا خالق ولا مصوّر سواه، وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصوّرا وهو بشر مصوّر؟!

المحكم والمتشابه في القرآن [سورة آل عمران (3) الآيات 7 إلى 9] :

المحكم والمتشابه في القرآن [سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) الإعراب: مِنْهُ آياتٌ جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الكتاب، وتقديره: أنزل عليك الكتاب كائنا منه آيات. وآيات: فاعل لاسم الفاعل: كائن، المقدر. ومحكمات: صفة لآيات. هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ: جملة اسمية في موضع رفع صفة لآيات أيضا. وَأُخَرُ معطوف على قوله: آيات محكمات. وأخر: ممنوع من الصرف للوصف والعدل، معدول عن آخر. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إما مبتدأ، وخبره: آمنا به، وإما عطف على الله تعالى، فكأنه قال: لا يعلم تأويله إلا الله ويعلمه الراسخون. والهاء في تأويله: تعود على المتشابه. البلاغة: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ استعارة، شبّه أصول الآيات المحكمات بالأم، وسائر الآيات يتبعها أو يتعلق بها، كما يتعلق الولد بأمه. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استعارة أيضا، شبه المتمكنين في العلم بالأشياء الثقيلة الراسخة في الأرض.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مُحْكَماتٌ واضحات الدلالة، لا خلاف في معناها، من أحكم الشيء: وثقه وأتقنه، مفردها محكم: وهو ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره أُمُّ الْكِتابِ أصله المعتمد عليه في الأحكام مُتَشابِهاتٌ هي التي لم يظهر معناها ولم يتضح، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد، كأوائل السور. وقال القرطبي: المتشابه: ما استأثر الله بعلمه دون خلقه، ولم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجال، والدابة التي تكلم الناس إذا وقع القول عليهم، ونحو ذلك. وجعل الكتاب في آية أخرى: أُحْكِمَتْ آياتُهُ كله محكما: بمعنى أنه ليس فيه عيب، وفي آية أخرى: كِتاباً مُتَشابِهاً كله متشابها: بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق. فلكل آية معنى خاص غير الآخر، فلا تعارض بين الآيات. زَيْغٌ: ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: طلب الفتنة لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: تفسيره وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ تفسيره ومعرفة حقيقته وبيان ما يؤول إليه في الواقع الرَّاسِخُونَ: المتمكنون في العلم المتفقهون في الدين المتأكدون منه، وهو أبلغ من قول: والثابتون في العلم آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: أي كل من المحكم والمتشابه من عند الله. وَما يَذَّكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه: ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما أزغت قلوب أولئك. بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أرشدتنا إليه وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك رَحْمَةً عناية إلهية وتوفيقا وتثبيتا على الحق. جامِعُ النَّاسِ جمع الناس: حشرهم للحساب والجزاء لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في وقوعه، وهو يوم القيامة لأنك أخبرت به، وقولك الحق، فتجازي الناس بأعمالهم، كما وعدت بذلك. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ موعده بالبعث فيه. فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة. والغرض من الدعاء بذلك: بيان أن همهم أمر الآخرة، ولذلك سألوا الثبات على الهداية، لينالوا ثوابها. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أن في القرآن آيات محكمات وآيات متشابهة في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فالمحكم العبارة: هو الواضح الدلالة التي لا التباس فيها

والمحكم:

على أحد، والمتشابه: هو الذي لم يظهر معناه ولم يتضح المراد منه بسبب التعارض بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منه، أو هو ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة. وهذا الإخبار للرد على النصارى الذين يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميز عيسى على غيره من البشر. والمراد بالكتاب هنا: القرآن باتفاق المفسرين. والمحكم: مثل قوله تعالى: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وما بعدها من الآيات [الأنعام 6/ 151- 153] ، وقوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ والآيات الثلاث بعدها من سورة [الإسراء 17/ 23- 26] وقوله عز وجل في شأن عيسى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف 43/ 59] . فهذه الآيات وأمثالها وهي تمثل أغلب القرآن في تبيان أحكام الفرائض وأصول الاعتقاد والأمر والنهي والحلال والحرام، كلها واضحة الدلالة على المعنى المراد ولا تحتمل أي معنى آخر، هي أم الكتاب أي أصل القرآن وعماده ومعظمه، وغيرها متفرع عنها تابع لها، فإن اشتبه علينا آية منها، ردت إلى المحكم وحملت عليه، كقوله تعالى في شأن عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 4/ 171] يحمل على قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف 43/ 59] وقوله سبحانه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران 3/ 59] أي أننا نؤمن بأن كل الآيات من عند الله، وأنه لا ينافي الأصل المحكم. والمتشابه: مثل قوله تعالى في عيسى عليه السلام وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 4/ 171] ، وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 3/ 55]

وقوله تعالى عن ذاته: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه 20/ 5] وقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 48/ 10] . فهذه الآيات تحتمل عدة معان، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد، فربما وافقت المحكم، وربما وافقت شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. فليس لكم أيها النصارى الاحتجاج بأمثال هذه الآيات التي هي من المتشابه الذي يحتمل أكثر من معنى، وإنما عليكم الوقوف عند محكم التنزيل، مثل قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء 4/ 172] . ومعنى المتشابه والمحكم هنا يختلف عن معناه في آيات أخرى، فقد وصف القرآن كله بالمحكم في قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود 11/ 1] والمراد أنه ليس فيه عيب وأنه كلام حق فصيح الألفاظ صحيح المعاني، أحكم نظمه وأتقن، واشتمل على الحكمة، ووصف القرآن أيضا بالمتشابه في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر 39/ 23] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق والهداية، والسلامة من التناقض والاختلاف، كما قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] . فأما الذين في قلوبهم زيغ، أي ضلال وميل عن الحق إلى الباطل، فيتبعون أهواءهم، فيأخذون بالمتشابه الذي يتمسكون به، ويمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، ويتركون المحكم الذي لا التباس فيه، بقصد إيقاع الناس في الفتنة في الدين وإضلال أتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على مزاعمهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: إِنْ هُوَ

إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف 43/ 59] وبقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] . وهم يفعلون ذلك أيضا بقصد تأويل القرآن على غير حقيقته، وتحريفه على ما يريدون، متبعين أهواءهم وتقاليدهم وموروثاتهم، وتاركين الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وهو عبودية عيسى لله وإطاعته إياه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الآية، ثم قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّاهم الله، فاحذروهم» . وروى ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه، فآمنوا به» . وما يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فهو مما استأثر الله بعلمه، أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه، فلا يعلم حقيقته إلا الله. ويرى جماعة من الصحابة كأبي بن كعب وعائشة وابن عباس وابن عمر الوقوف على لفظ الجلالة، فلا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، وأما الراسخون في العلم فكلام مستأنف، يقولون: آمنا به لأنه تعالى وصفهم بالتسليم المطلق لله تعالى، والعارف بالشيء لا يعبر عنه بالتسليم المطلق أو المحض. ويرى جمهرة من الصحابة كابن عباس، وتبعهم كثير من المفسرين «1» وأهل

_ (1) هذا رأي ابن كثير، وعكس القرطبي الأمر، فقال: مذهب أكثر العلماء الوقوف التام عند لفظ الجلالة، وتم الكلام عند قوله: «إلا الله» . والراسخون مقطوع مما قبله، وهو استئناف كلام آخر.

الأصول أنه لا يوقف على لفظ الجلالة، والراسخون معطوف عليه، على معنى: لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. قال ابن عباس: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. فالمتشابه يعلمه الراسخون لأن الله تعالى ذم الذين يبتغون التأويل بقصد الفتنة والإضلال، ذاهبين فيه إلى ما يخالف المحكم، والراسخون في العلم ليسوا كذلك، فهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، إذ يفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم. وأما قوله تعالى: يَقُولُونَ: آمَنَّا فهو كلام مستأنف، لا ينافي العلم، فهم يجعلون المحكم هو الأساس، ويؤمنون بأن كلا من المحكم والمتشابه من عند الله، وكلاهما حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر، ويدل لذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا لابن عباس بقوله: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» . والحكمة من وجود المتشابه مع العلم بأن القرآن نزل هاديا للناس: هو تمييز الصادق الإيمان من ضعيفة، وبيان فضيلة الراسخين في العلم الذين ينظرون ويبحثون لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به، وإن لم يعلموا بحقائق الأشياء، ولهذا قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة، والفهوم المستقيمة. ووصف النبي صلّى الله عليه وسلّم الراسخين في العلم- فيما يرويه ابن أبي حاتم عن عبيد الله بن يزيد التابعي الذي أدرك أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الراسخين في العلم، فقال: «من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم» . ثم ذكر دعاء هؤلاء الراسخين للثبات على فهم المتشابه وهو: 1- رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا.. الآية، أي إن الراسخين في العلم المؤمنين بالمتشابه يطلبون من الله الثبات على الهداية، والحفظ من الزيغ بعد الهداية،

فقه الحياة أو الأحكام:

وهبة الرحمة والفضل من الله، والتوفيق إلى الخير والسداد، إنك أنت الوهاب. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يدعو: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» . 2- رَبَّنا، إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ... أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه، ووعدك الحق الذي لا يخلف. وتعليمنا هذا الدعاء لنشعر بالخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلب الرحمة في ذلك اليوم. وفي هذا إقرار بالبعث يوم القيامة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن آيات القرآن أكثرها محكم، وبعضها متشابه، وأن المتشابه لا يعلم المراد منه إلا الله والمتمكنون من العلم، لكن علمهم الله طريق العصمة من الزيغ في فهم المتشابه بدعاءين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ... رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ... وأما الزائغون فيتبعون المتشابه. وقد أوردت أمثلة من المحكم والمتشابه، وأبنت المراد منهما على الأصح، وسأذكر أمثلة أخرى للمتشابه. نماذج من المتشابه: روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: ما هو؟ قال: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون 23/ 101] وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات 37/ 27] . وقال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء 4/ 42] وقال:

وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات: أَمِ السَّماءُ بَناها ... [النازعات 79/ 27] إلى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] ، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... [فصلت 41/ 9] إلى قوله: أَتَيْنا طائِعِينَ فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم في ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأما قوله: ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين فختم الله على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها، فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين فذلك قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. فخلقت الأرض في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. وقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يريد نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. ويحك! فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 12.

متبعو المتشابه:

متبعو المتشابه: متبعو المتشابه إما أن يتبعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوامّ، كما فعلته الزنادقة والقرامطة «1» الطاعنون في القرآن وإما أن يتبعوه طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسّمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة، مما ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم، وصورة مصوّرة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك! أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها. أو يكثروا السؤال عنها. فهذه أربعة أقسام: أما القسم الأول: فلا شك في كفرهم، ويقتلون في رأي المالكية من غير استتابة، وأما القسم الثاني: فالصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام، وحكمهم كالمرتدين، يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا. وأما القسم الثالث: فاختلفوا في جواز تأويلها، فمذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، ويؤمنون بها كما جاءت وهو الأولى. ومذهب آخرين: إبداء تأويلاتها وحملها على مقتضى اللسان العربي من غير قطع بتعيين مجمل منها. وقد قيل: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم. وأما القسم الرابع: فيعزرون تعزيرا بليغا.

_ (1) القرامطة: فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة الذين يعتقدون نبوّة زرادشت ومزدك وماني، وكانوا يبيحون المحرمات.

عاقبة الكفار المغرورين بالمال والولد ومثال ذلك [سورة آل عمران (3) الآيات 10 إلى 13] :

عاقبة الكفار المغرورين بالمال والولد ومثال ذلك [سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) الإعراب: كَدَأْبِ ... الكاف إما مرفوع خبر مبتدأ محذوف وتقديره: دأبهم كدأب، وإما منصوب بفعل مقدر تقديره: يتوقّدون توقّد آل فرعون، دل عليه ما قبله وهو: فأولئك هم وقود النار. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إما مرفوع مبتدأ والخبر: كَذَّبُوا بِآياتِنا، وإما مجرور بالعطف على آلِ فِرْعَوْنَ. فِئَةٌ إما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: إحداهما فئة، وإما مجرور بدل من فِئَتَيْنِ وَأُخْرى يجوز فيه الرفع والجر بالعطف على فِئَةٌ بالرفع ولأجر. وجملة يَرَوْنَهُمْ حال من كاف لَكُمْ أو صفة لأخرى بالرفع أو الجر البلاغة: مِنَ اللَّهِ فيه إيجاز بالحذف أي من عذاب الله شَيْئاً التنكير للتقليل، أي لن تنفعهم أي نفع ولو قليلا. وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الجملة اسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ التفات من الحضور إلى الغيبة، والأصل: (فأخذناهم) . لَكُمْ آيَةٌ قدم الجار والمجرور للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وتنكير آية للتفخيم والتهويل، أي آية عظيمة، ومثله تنكير «ورضوان» . ويوجد جناس اشتقاق بين يَرَوْنَهُمْ ورَأْيَ الْعَيْنِ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لَنْ تُغْنِيَ تنفع. مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله. وَقُودُ النَّارِ: ما توقد به النار من حطب أو فحم ونحوهما. كَدَأْبِ كعادة، أي دأبهم كدأب. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أهلكهم بها، والجملة مفسرة لما قبلها. الْمِهادُ الفراش. آيَةٌ علامة على صدق ما يقول الرسول. الْتَقَتا يوم بدر للقتال. مِثْلَيْهِمْ ضعفي المسلمين، بل أكثر منهم، إذ كانوا نحو ألف، والمسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا. رَأْيَ الْعَيْنِ أي رؤية ظاهرة معاينة. يُؤَيِّدُ يقوي. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي البصائر، أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنوا. سبب النزول: نزول الآية (12- 13) : روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك، والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إلى قوله: لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» المناسبة: ذكر الله تعالى في مطلع السورة مبدأ التوحيد والكتب الناطقة به وبخاصة القرآن وإيمان العلماء الراسخين به كله، ثم ذكر حال الكفرة وسبب كفرهم وهو اغترارهم في الدنيا بالمال والولد، وبيّن أنها لن تغني عنهم شيئا في الآخرة والدنيا.

_ (1) البحر المحيط: 2/ 392

التفسير والبيان:

وضرب على ذلك المثل بغزوة بدر حيث التقى جند الإيمان والرحمن بجند الكفر والشيطان، فانتصرت الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة، فلم تنفعهم كثرة الأموال والأولاد والسلاح. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار يوم القيامة، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، كما قال تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 85] . وقد كانوا يقولون: نحن أكثر أموالا وأولادا، وما نحن بمعذبين، فرد الله عليهم بقوله: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سبأ 34/ 37] . ومعنى قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كذبوا بآياته ورسله وخالفوا كتابه ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه، وذلك يشمل وفد نجران والنصارى واليهود والمشركين، وكل كافر. فهؤلاء كلهم لن تنجيهم أموالهم ولا أولادهم، وأولئك المبعدون هم وقود النار وأهلها، وحطبها الذي تسجر به وتوقد به، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء 21/ 98] . وصنيعهم وحالهم في تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم وشريعته كحال آل فرعون ومن قبلهم من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود، كذبوا بآيات الله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والله شديد العقاب قوي العذاب. ثم هددهم الله وتوعدهم بالعقاب في الدنيا، فقال: قل يا محمد للكافرين ومنهم اليهود ستغلبون في الدنيا، وتحشرون يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد الذي

مهدتم لأنفسكم، أي يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. والآية أي الدلالة والعلامة على أنكم مغلوبون، وأن الله معزّ دينه، وناصر رسوله: التقاء جماعتين، إحداهما معتزة بكثرة مالها، مغترة بعددها، كافرة بالله، تقاتل في سبيل الشيطان، وهم مشركو قريش يوم بدر والأخرى فئة قليلة العدد، مؤمنة بالله، تقاتل في سبيل الله، وهم المسلمون في معركة بدر. فقد كان المؤمنون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا، معهم فرسان، وست أدرع، وثمانية سيوف، وأكثرهم رجالة مشاة. وكان الكافرون نحو ألف، أي ثلاثة أمثال المسلمين في الواقع. روى محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش، قال: كثير، قال: «كم تنحرون كل يوم؟» قال: يوما تسعا ويوما عشرا، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «القوم: ما بين تسعمائة إلى ألف» . لكن في رأي العين- وهي الرؤية المكشوفة الظاهرة لهم كسائر المعاينات- دلت الآية على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين فقط، أي ضعفيهم في العدد، وإن كانوا ثلاثة أمثالهم في العدد، لأن الله قللهم في أعينهم، حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين، كما في قوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ، بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الانفعال 8/ 66] أي أن الله تعالى أراهم الكفار على غير عدتهم، لتقوى قلوبهم بذلك، وليطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل ورأى المشركون المؤمنين مثلي عددهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع. هذا في بدر، أيد الله المؤمنين بنصره، وكذلك صدق الله وعده، فقتل

فقه الحياة أو الأحكام:

المسلمون يهود بني قريظة الذين خانوا العهد، ونقضوا الميثاق، ودخلوا مع المشركين في غزوة الأحزاب (أو الخندق) وأجلى المسلمون بني النضير المعتدين على حرمات الإسلام والمسلمين، وفتحوا خيبر، وفرضوا الجزية على من عداهم حينما قاتلوا المسلمين وبدؤوهم بالعدوان. والله دائما يؤيد ويدعم بمعونته من يشاء، كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو، وتقليل الأعداء في عين المسلمين، كما قال تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «1» ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الأنفال 8/ 44] وقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ.. [آل عمران 3/ 123] . إن في هذا النصر الحاصل في بدر مع قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر، وأعمل البصيرة والفكر، ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، بشرط نصرة دين الله، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] وقوله: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم 30/ 47] والمؤمن: هو من يشهد له القرآن بإيمانه، لا من يدعي الإيمان بلسانه، وأخلاقه وأعماله تكذب دعواه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشد الآيات إلى مبادئ ثلاثة كبري في ميزان الله وهي: 1- تأكد وقوع العذاب للكفار في نار جهنم، دون أن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.

_ (1) أي ليفرق بين الحق والباطل، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان، ويعز المؤمنين، ويذل الكافرين.

محبة الشهوات في الدنيا [سورة آل عمران (3) آية 14] :

2- الشأن والعادة المقررة: توجيه المؤاخذة وإيقاع العقاب الشديد بسبب الذنوب والتكذيب بآيات الله المتلوة، فلا يختلف الحكم بين كفار قريش وبين آل فرعون ومن قبله من قوم لوط وعاد وثمود غيرهم، كما قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا.. وقال: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر 40/ 45- 46] وقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. [الانفعال 8/ 54] . 3- النصر منوط بإرادة الله على وفق الحكمة الإلهية، ولمكافأة المؤمنين الممتثلين أوامر ربهم، وليست موازين النصر بالكثرة العددية أو بالتفوق في السلاح، وإنما بمقدار الإيمان والثقة بالله، فقد ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 249] ودلت الآية على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجهين: الأول- غلبة الفئة القليلة العدد الفئة الكثيرة العدد، وذلك على خلاف مجرى العادة، لما أمدهم الله به من الملائكة. والثاني- أن الله تعالى كان قد وعدهم إحدى الطائفتين، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة، وقال: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم. محبة الشهوات في الدنيا [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

الإعراب:

الإعراب: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: الله مبتدأ مرفوع، وحسن: مبتدأ ثاني، وعنده: خبر المبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره: خبر عن المبتدأ الأول. والمآب: مضاف إليه، أصله مأوب على وزن مفعل: من آب يئوب، إلا أنه نقلت حركة الواو إلى الهمزة، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفا نحو: مقام ومقال. البلاغة: حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشتهيات، وعبّر بالشهوات عن الأعيان المشتهاة، مبالغة في كونها مشتهاة، محروصا على الاستمتاع بها. والقصد تخسيسها، وأن المزيّن لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير. ويوجد جناس ناقص بين الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ. المفردات اللغوية: زُيِّنَ حبّب لهم، والمزين: هو الله للابتلاء، أو الشيطان بوسوسته وتحسينه الميل إليها الشَّهَواتِ جمع شهوة: وهي ما تشتهيه النفس وتميل إليه وتستلذه، والمراد بها المشتهيات، كما يقال: شهوة فلان: الطعام، أي ما يشتهيه. وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار: وهو المال الكثير، وعن سعيد بن جبير: مائة ألف دينار. ولقد جاء الإسلام وفي مكة: مائة رجل قد قنطروا الْمُقَنْطَرَةِ المجمعة الْمُسَوَّمَةِ الحسان المعلمة، من السومة: وهي العلامة، أو المرعية في المروج والمراعي: من أسام الدابة وسوّمها: رعاها وَالْأَنْعامِ: الإبل والبقر والمعز والغنم وَالْحَرْثِ الزرع والنبات ذلِكَ أي المذكور أو المتقدم ذكره مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتمتع به فيها ثم يفنى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره. المناسبة: ذكر في الآيات السابقة عاقبة الغرور بالمال والولد، ثم ذكر هنا وجه الغرور وسببه، تحذيرا للناس من استعباد الشهوات لأنفسهم، والانشغال بها عن أعمال الآخرة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: حببت الشهوات للناس وحسّنت في أعينهم وقلوبهم، حتى صار حبها غريزة أو فطرة عندهم، فمن أحب شيئا ولم يزين له، يوشك أن يعدل عنه يوما ما، ومن زين له حبه، فلا يكاد يعدل عنه. ولقد عبر القرآن عن الأشياء المشتهاة بالشهوة ذاتها مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها، وإشارة إلى أن الشهوة مذمومة حتى يعتدل الإنسان في حبه لها، ويعدّل غريزته نحوها، ولا يحمله حبّه الدنيا حبا أعمى، وتعلقه بالزعامة الموقوتة، والمال الزائل على طمس معالم الحق وعدم الإيمان بدين الحق، الذي عرفوه كما عرفوا أبناءهم، مثل وفد نصارى نجران وغيرهم من زعماء الكفر. ومن المزين للشهوات؟ قيل: المزين هو الله للابتلاء والاختبار، بمعنى أن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات، كما قال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف 18/ 7] وقال: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام 6/ 108] . وقيل: المزين هو الشيطان بالوسوسة وتحسين الميل للشهوات للإضلال، كما قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال 8/ 48] . وعلى أي حال، الإسلام دين ودنيا، فلا يقصد من هذه الآية المنع من مجرد حب معتدل للشهوات، وإنما الممنوع المبالغة في الحب والإسراف في الشهوات، والاشتغال بها، حتى تطغى على العقيدة والدين، ويهمل أمر الآخرة، بدليل قوله تعالى: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] . ثم ذكر الله تعالى أصنافا ستة من المشتهيات والملاذ وهي:

1 - النساء:

1- النساء: فإن الرجل متعلق بالمرأة، ميال إليها، فهي مطمح النظر، وموضع العناية، وإليها تسكن نفسه: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم 30/ 21] وعليها ينفق ماله بسخاء. وبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» «1» . وقدم النساء على الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول، وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا غلو ولا إسراف فيه، كحب المرأة. أما إذا كان القصد بتعلق الرجل بالمرأة هو الإعفاف وكثرة الأولاد، فهو مطلوب، مرغب فيه، مندوب إليه شرعا، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا: المرأة الصالحة» «2» . وفي رواية: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة: إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» . ولم يمنع النبي صلّى الله عليه وسلّم من حب المرأة حبا معقولا فقال: «حبّب إلي من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» «3» . 2- البنون: أي الأولاد مطلقا، فهم فلذة الأكباد، وقرة الأعين. لكنهم مع الأموال فتنة تتطلب الحذر، كما قال تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن 64/ 15] والفتنة بالأولاد: الابتلاء بجمع المال لأجلهم.

_ (1) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (الجماعة) عن أسامة بن زيد. (2) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو. (3) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك.

3 - القناطير المقنطرة من الذهب والفضة:

وسبب حب الأولاد والزوجات واحد: هو بقاء النوع الإنساني، وحب بقاء الأثر والسمعة والذّكر. وعبر بالبنين ويشمل البنات من باب التغليب إذ أن حب الابن عادة أقوى من حب البنت لأن بقاء الذّكر والسمعة بين الناس يكون عن طريق البنين، ولأن الأنثى تنفصل من عشيرتها وتلتحق بعشيرة أخرى، ولأن الأمل بدعم الولد لوالده وكفالته له حين الحاجة يتعلق بالابن، ولأن مخاطر الأنثى أكثر من مخاطر الذكر. 3- القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: المراد المال الكثير لأن العرب تريد بالقناطر المال الكثير، والمقنطرة تأكيد. وحب المال غريزة في البشر لأنه وسيلة لتحقيق الحوائج وتلبية الرغبات. جاء في السنة: «لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» «1» . وذم المال ليس لذاته، فهو نعمة من الله، وإنما لما يؤديه من طغيان وتكبر وفسوق كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6- 7] ، أما إذا أدى المسلم فيه حقوق الله والناس، وشكر النعمة، ووصل به الرحم، وأنفق منه في سبيل الله، كان خيرا وسببا للسعادة والتقرب من الله، جاء في الحديث الثابت المتقدم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» .

_ (1) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس بن مالك، ورواه أحمد والشيخان أيضا عن ابن عباس. [.....]

4 - الخيل المسومة:

4- الخيل المسوّمة: المعلمة أو التي ترعى في المراعي أو المطهّمة الحسان الأصيلة التي يقتنيها السادة والأغنياء: من المتع التي يفاخر بها الناس بعضهم، ويتنافسون فيها، وهي مذمومة إن كانت سببا للشر والبعد عن الله وإهمال واجبات الله. وتكون محمودة إن استخدمت للجهاد في سبيل الله، عملا بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال 8/ 60] . قال العلماء أخذا بحديث: حب الخيل على ثلاثة أقسام: تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله، فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر، وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها، فهذه لصاحبها ستر. 5- الأنعام: وهي ثروة الناس الأصلية إلى عهد قريب، وبها معايشهم، وتفاخرهم وتكاثرهم، وهي زينة، فإن اقتناها صاحبها بقصد المعيشة كانت خيرا، وإن اقتناها مفاخرة ورياء، كانت شرا. 6- الحرث: الزرع والنبات: هو مصدر دائم للحياة في البادية والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة لما سواه من الأنواع السابقة، فإن قصد به نفع العباد، كان صاحبه مأجورا، وإن قصد به التكثر والبطر كان عليه شرا. ثم وصف الله تلك الأصناف الستة وصفا عاما وهو أنها متاع يتمتع به في الدنيا، والله عنده حسن المآب أي المرجع في الحياة الآخرة. فعلى المؤمن ألا يغتر بهذه الشهوات، وإنما يعتني بها بجعلها مجرد وسيلة للمعيشة في الدنيا، ولا تشغله عن واجباته الدينية نحو الآخرة، فالمؤمن يعمل لسعادة الدارين، كما قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة 2/ 201] . فقه الحياة أو الأحكام: الآية توبيخ لمعاصري محمد صلّى الله عليه وسلّم من اليهود وغيرهم، ممن صرفتهم الأهواء والشهوات عن اتباع دعوة الإسلام، فإذا أراد الإنسان النجاة من حساب الله يوم القيامة، ابتعد عن مزالق الشهوات الممنوعة، فإن اتباع الشهوات مرد في النار ومهلكة، جاء في صحيح مسلم عن أنس: «حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات» والمعنى أن الجنة لا تنال إلا بتجاوز المكاره وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. والشهوات المذكورة في الآية هي التي يحدث فيها الإفراط أو المغالاة أو التي تكون سببا للتفريط في الواجبات الدينية، فإن قصدت ضمن الحدود المعتدلة المعقولة لم تكن وبالأعلى صاحبها، وقد تكون سببا للثواب وزيادة الأجرة إن قصد بها الخير والصون والعفاف وتسخيرها في سبيل الله ومرضاته. قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس: أما الذهب والفضة فيتموّل بها التجار، وأما الخيل المسوّمة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الريف والقرى. ودل قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى، على تزهيد الناس في الدنيا وتحقيرها، والترغيب في الآخرة، روى ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الدنيا متاع، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة» . وثبت في الحديث الصحيح: «ازهد في الدنيا يحبّك الله» أي ازهد في متاعها من الجاه والمال الزائد

الجنات التي هي خير من الدنيا ومفاتنها [سورة آل عمران (3) الآيات 15 إلى 17] :

على الضروري، وأخرج الترمذي عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف «1» الخبز والماء» . وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ فيدل على تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة. الجنات التي هي خير من الدنيا ومفاتنها [سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 17] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) الإعراب: جَنَّاتٌ: مبتدأ، وخبره المقدم: للذين اتقوا، كقولك: لله الحمد. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ: جملة فعلية في موضع رفع صفة: جنات. خالِدِينَ فِيها منصوب على الحال من الَّذِينَ المجرور باللام. الَّذِينَ يَقُولُونَ الذين: بدل مجرور من قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ. الصَّابِرِينَ إما منصوب على المدح، وتقديره: أمدح الصابرين، وإما مجرور بدل من الذين، أو وصف للذين أو وصف للعباد.

_ (1) الجلف: الخبز وحده لا أدم معه.

البلاغة:

البلاغة: أَأُنَبِّئُكُمْ استفهام تقرير. بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ إبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ عبّر بكلمة الرب، وأضافها لضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم. المفردات اللغوية: أَأُنَبِّئُكُمْ أخبركم مِنْ ذلِكُمْ المذكور من الشهوات لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك مُطَهَّرَةٌ طاهرات من الفواحش والحيض والنفاس وَرِضْوانٌ رضا كثير وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بهم، فيجازي كلا منهم بعمله. الصَّابِرِينَ على الطاعة وعن المعصية، والصبر: حبس النفس عند كل مكروه يشق عليها احتماله وَالصَّادِقِينَ في الإيمان. والصدق يكون في القول والعمل، والصفة كالحب وَالْقانِتِينَ المداومين على الطاعة والعبادة. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي المصلين وقت السحر، القائلين: اللهم اغفر لنا. بِالْأَسْحارِ أواخر الليل، جمع سحر: وهو الوقت الذي يختلط فيه ظلام آخر الليل بضياء النهار. المناسبة: هذه الآية تفضيل وتفصيل، فهي تبين الأفضل من زخارف الدنيا وزينتها التي تشتمل على فضيلة إن استعملت في خير وحق ولم تؤد إلى إهمال الواجب نحو الله. وهي تفصل المراد من قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ الذي أبهم فيه الخير تفخيما لشأنه وتشويقا إليه، ثم وضح بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ. التفسير والبيان: قل لهم يا محمد: أأخبركم بما هو خير من جميع الأصناف المذكورة للشهوات؟

وعبر بالاستفهام التقريري لاجتذاب الأنظار وتشويق النفوس إلى الجواب. ثم أجاب عن الاستفهام: للمتقين: جنات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وزوجات طاهرات من النقائص والفواحش والشوائب كالحيض والنفاس. وهذا نعيم جسدي مادي: وهو الجنة، ولهم أيضا نعيم روحاني وهو رضوان الله الذي لا يشوبه شيء، وهو أعظم وأكبر من كل نعمة ولذة مادية. وقد بدأ بذكر المقر وهو الجنات، ثم ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة، ثم ذكر ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني حيث علم برضا الله عنه. وقوله: للذين اتقوا عند ربهم جنات: جواب عن الاستفهام، وكلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من أصناف الشهوات، سواء استعملت في محالها ومواضعها التي خلقت من أجله: وهي تحقيق حوائج الناس، أو أسيء استعمالها، وقرن بها الشر والفساد، كما تقول: هل أدلك على رجل عالم، أو تاجر صدوق في السوق؟ هو فلان. هذه الآية التي اشتملت على بيان نوعين من الجزاء: المادي وهو الجنة والأزواج، والروحي وهو رضوان الله، تشبه قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة 9/ 72] وقوله: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد 57/ 20] . ثم ختمت الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي خبير بأحوالهم، وبأسرارهم، وحقيقة تقواهم، فيجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وفي هذا إيماء ليحاسب كل إنسان نفسه على التقوى، فليست التقوى بالمظاهر، وإنما

المتقي: من يعلم منه ربه التقوى. وهذه الجملة وعد ووعيد. ولما ذكر المتقين ذكر شيئا من صفاتهم. فذكر الله تعالى أوصاف المتقين، وهم الذين يقولون: ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا ثابتا راسخا في القلب، مهيمنا على كل أعمالنا، فاستر ذنوبنا بعفوك، وادفع عنا عذاب النار، إنك أنت الغفور الرحيم. وهم أيضا الصابرون على أداء الطاعات وترك المعاصي، الراضون بقضاء الله وقدره، ولا شك أن الصبر يقوي الإرادة، ويعصم النفس عن الانزلاق في الأهواء والشهوات والمنكرات. وهم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم، يترجمون عنه بكل شيء حميد وخلق عال، كما قال تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ، وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الزمر 39/ 33- 34] . وهم القانتون المداومون على الخشوع والطاعة والضراعة إلى الله، وذلك لب العبادة وروحها. والمنفقون أموالهم في سبيل الله نفقة واجبة أو مستحبة. والمستغفرون بالأسحار بالتهجد في آخر الليل، والدعاء بالمغفرة والرضا. والاستغفار المطلوب: ما يقرن بالتوبة النصوح والعمل على وفق حدود الدين، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإقامة على المعصية، فإن المستغفر من الذنب، وهو مقيم على معصيته، كالمستهزئ بربه. وأفضل صيغة للاستغفار: ما رواه البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: سيد الاستغفار أن تقول: «اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن نظرة الإنسان في الغالب آنية وقتية، لا ينظر إلى المستقبل البعيد، ولا يقارن بين الباقي الدائم والمنقطع الموقت، لذا كان القرآن أكبر مساعد للعقل على التزام جادة التفكير السوي والاستقامة. فإن الخالد المستمر أفضل من الذي يزول بسرعة، وهكذا كانت هذه الآية مع الآية السابقة مقارنة مبينة ما هو الأصلح للإنسان، تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها. وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع: لما لها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» «1» . والذي هو خير من الدنيا وشهواتها وكل ما فيها هو جنان الخلد وما فيها من متع خالصة كالحور العين والولدان المخلدين، وعبر عن الحور بالأزواج المطهرة المبرأة من عيوب نساء الدنيا خلقا وخلقا، وهو أيضا الفوز برضوان الله، وهو أعظم المتع كلها في الآخرة عند أهل التقوى، فإذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى لهم: «تريدون شيئا أزيدكم؟» فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: «رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» «2» . والجمع بين الجنات والرضوان الإلهي يشير إلى أن أهل الجنة درجات، كما أن أهل النار في دركات، فمن أهل الجنة: من يرغب في لذات الدنيا الحسية، ومنهم من ارتقى إدراكه واشتد اهتمامه بقربه من ربه، فيتمنى رضاه ويفضله على أي شيء سواه.

_ (1) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة، ومعنى: تربت يداك: افتقرت، ولا يراد بها الدعاء، وإنما يراد الحث والتحريض. (2) أخرجه مسلم.

والقصد من قوله: آمَنَّا في دعاء المتقين: الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذا الإيمان: اعتقاد وقول وعمل. وصرحت الآية بصفات المتقين: وهي الإيمان، والصبر، والصدق، والقنوت (الخشوع والطاعة) والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار: وهو الصلاة في آخر الليل (أي التهجد) وسؤال المغفرة، فإن المستغفرين بالأسحار يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لأنه مظانّ القبول ووقت إجابة الدعاء. سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل: «أي الليل أسمع؟» فقال: «لا أدري غير أن العرش يهتزّ عند السحر» . والسحر: من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وقيل: هو سدس الليل الأخير. والأصح من هذا: ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني، فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» «1» . ووضحت وقت السحر رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد: «إن الله عز وجل يمهل، حتى يمضي شطر الليل الأول..» وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح «2» . والاستغفار: طلب المغفرة باللسان مع حضور القلب لأن الله لا يستجيب دعاء غافل، لاه، معرض قلبه عن الله.

_ (1) هذا لفظ مسلم، وتأول القرطبي أول الحديث: «ينزل الله..» بأنه من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا، فيقول. ويرى أهل السلف: أن هناك نزولا يليق بذات الله من غير تحديد بمكان وكيفية، وهو أولى. (2) رواه ابن أبي حاتم.

الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ونوع الدين المقبول عند الله [سورة آل عمران (3) الآيات 18 إلى 20] :

الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ونوع الدين المقبول عند الله [سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) الإعراب: قائِماً بِالْقِسْطِ حال مؤكدة من هُوَ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الدين اسم إن والإسلام خبره. ومن قرأ إِنَّ بفتحها، فهي بدل منصوب من قوله: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بدل الشيء من الشيء، ويجوز أن يكون بدل الاشتمال، على تقدير اشتمال الثاني على الأول لأن الإسلام يشتمل على شرائع كثيرة، منها التوحيد، ويجوز كونها بدلا مجرورا من بِالْقِسْطِ في قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ بدل الشيء من الشيء. بَغْياً بَيْنَهُمْ في نصبه وجهان: إما لأنه مفعول لأجله أو لأنه حال من الذين. وَمَنْ يَكْفُرْ من: شرطية مبتدأ، وخبره: جملة، فإن الله سريع الحساب، والعائد من الجملة إلى المبتدأ مقدر، وتقديره: فإن الله سريع الحساب لهم. وَمَنِ اتَّبَعَنِ إما مرفوع بالعطف على تاء أَسْلَمْتُ أو مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: ومن اتبعن أسلم وجهه لله متبعا.

البلاغة:

أَأَسْلَمْتُمْ لفظة استفهام، والمراد به الأمر، أي أسلموا، مثل فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي انتهوا. البلاغة: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الجملة معرفة الطرفين، فتفيد الحصر، أي لا دين إلا الإسلام. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ التعبير بذلك عن أهل الكتاب لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم. بِآياتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة وإلقاء الروعة في النفوس. أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أطلق الوجه، وأراد الكل، فهو مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. المفردات اللغوية: شَهِدَ اللَّهُ الشهادة: الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان إما بالمشاهدة الحسية، وإما بالمشاهدة المعنوية وهي الحجة والبرهان. والمراد: بيّن وأعلم الله تعالى لخلقه بالدلائل والآيات والبراهين «1» أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود في الوجود بحق إلا هو وَأُولُوا الْعِلْمِ هم أهل البرهان القادرون على الإقناع، وهم الأنبياء والمؤمنون، بالاعتقاد واللفظ قائِماً بتدبير مصنوعاته، أي تفرد بِالْقِسْطِ بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره تأكيدا الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه إِنَّ الدِّينَ أي الملة والشرع، والمراد: الدين المرضي هو «الإسلام» أي الشرع المبعوث به الرسل المبني على التوحيد. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى، في الدين، بأن وحّد بعض وكفر بعض إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بالتوحيد بَغْياً حسدا أو ظلما من الكافرين سَرِيعُ الْحِسابِ المجازاة له. حَاجُّوكَ خاصمك الكفار يا محمد في الدين أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ انقدت له، وخص الوجه بالذكر، لشرفه، فغيره أولى أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ مشركي

_ (1) قال الواحدي: شهادة الله: بيانه وإظهاره، والشاهد: هو العالم الذي بين ما علمه، والله تعال بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق.

سبب النزول:

العرب أَأَسْلَمْتُمْ أي أسلموا الْبَلاغُ التبليغ للرسالة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ خبير بأعمالهم، فيجازيهم عليها، وهذا من قبيل الأمر بالقتال. سبب النزول: لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم، قالا: إنا نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله تعالى على نبيه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ فأسلم الرجلان، وصدّقا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . التفسير والبيان: بيّن الله تعالى لجميع الخلائق وحدانيته أو أنه المتفرد بالألوهية بالدلائل التكوينية والتصرفية في الآفاق والأنفس. وأخبر الملائكة الرسل بهذا، وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم بدهي، وكذلك أخبر أولو العلم بذلك، وبينوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدليل والحجة، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة. وأنه القائم بالعدل في جميع الأحوال من العقائد والعبادات والآداب والأعمال وفي الكون والخليقة، ومن صفة العدل أنه يأمر حقا بالعدل في الأحكام، كما تقرر في نحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] وقوله:

_ (1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 54

وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء 4/ 58] ، فالله عادل في الشريعة وفي الكون، حيث إنه أتقن نظام الكون وعدل بين القوى الروحية والمادية، وأقام التوازن الدقيق في الأحكام بين الإنسان والخالق، وبين الفرد والجماعة، وبين الإنسان وأخيه، وبين فئات الناس في مجتمع ما، بين الغني والفقير ونحو ذلك. ثم أكد سبحانه انفراده بالألوهية بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والعزيز: هو القوي الذي لا يغلب، الكامل القدرة، السامي العظمة والكبرياء. والحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح، سواء في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ثم ذكر نوع الدين الذي ارتضاه لعباده من بدء الخليقة إلى يوم القيامة: وهو دين الإسلام لا غيره، فهذا إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد، سوى الإسلام: وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أي اتباع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، فهم إن اختلفوا في الفروع، لم يختلفوا في الأصول وجوهر الدين: وهو التوحيد والسلام، والعدل في كل شيء. فمن لقي الله بعد بعثه محمد صلّى الله عليه وسلّم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85] . ومعنى الإسلام: السلام والصلح، والخضوع والانقياد لله، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النساء 4/ 125] . وتشريع الدين له هدفان: تصحيح الاعتقاد وحصر معنى الألوهية والربوبية بالله تعالى، وإصلاح النفوس بالنية الخالصة لله وللناس وبالعمل الصالح.

ثم أخبر الله تعالى بأن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، وبأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة 2/ 146] . فصاروا شيعا ومذاهب يقتتلون في الدين، وتفرقت كلمتهم في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد ما جاءهم العلم اليقيني بنبوته، وبأن الدين واحد لا مجال للاختلاف فيه، إلا بسبب البغي والحسد، فكان ذلك سببا للفرقة، وكان اختلافهم في شأن محمد حسدا من عند أنفسهم، وبغيا بينهم، وحرصا على الدنيا وما فيها. والخلاصة: أن اختلافهم في أصل الدين الحق وفي نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان بسبب بغي بعضهم على بعض، وتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فخالف بعضهم البعض الآخر في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقا. ثم هدد تعالى بأن من أنكر آيات الله التكوينية في الأنفس والآفاق وجحد ما أنزل الله في كتابه مما يوجب الاعتصام بالدين ووحدته، فإن الله سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه. ثم حسم الله تعالى مجادلة أهل الكتاب وغيرهم في التوحيد، فقال: فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم في التوحيد، فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ولا ندّ له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، وهذا مبدئي ومبدأ من اتبعني على ديني من المؤمنين، كما قال تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف 12/ 108] فلا فائدة في الجدل مع أمثال هؤلاء، بعد أن قامت الأدلة على وجود الله ووحدانيته، وبطلت شبهات الضالين. ثم قال تعالى آمرا عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به، أهل الكتاب ومشركي العرب، فيقول لهم:

فقه الحياة أو الأحكام:

أسلموا، فإن أسلموا فقد اهتدوا إلى الصراط المستقيم، وتركوا الضلال، وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه، فلن يضيرك شيء، إذ ما عليك إلا البلاغ فقط، والله خبير بعابده عليم بحالهم وبمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، فيحاسبهم ويجازيهم. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآية (18) : إثبات وحدانية الله بالأدلة التكوينية التي أبانها الله في الآفاق والأنفس وإنزال آيات التشريع، وأخبر الملائكة والعلماء بذلك وبينوه، قال القرطبي: دلت الآية على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء. ويؤكده أنه تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستزيد من العلم، بقوله: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء في السنن: «العلماء ورثة الأنبياء» وقال: «العلماء: أمناء الله على خلقه» «1» . وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحلّ لهم في الدّين خطير «2» . روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، عند منامه، خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة» . وأعلنت الآية (19) أن الدين المرضي عند الله هو الإسلام فقط، والإسلام هو الإيمان بالله وإطاعة أوامره، وهو شيء واحد متفق عليه بين جميع الأنبياء. وأما الخلاف في الدين أي الملة فحاصل من قبل الأتباع والأنصار، حسدا وظلما. ويكون القصد من الآية نبذ الفرقة والخلاف في الدين، والابتعاد عن التفرق فيه إلى شيع ومذاهب لأن اختلاف أهل الكتاب في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا، فقد أبانت كتبهم صفته ونبوته،

_ (1) رواه القضاعي وابن عساكر عن أنس، وهو حسن. (2) تفسير القرطبي: 4/ 41

وأوضحت أن الله إله واحد، وأن جميع الخلائق عبيده، لذا وجب على أهل الإيمان الصادق نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق بين أتباع الدين، بالاعتقاد بوحدانية الله، والتصديق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع البشر، كما دل عليه القرآن والسنة في غير ما آية وحديث، منها قوله تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] ومنها أيضا: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة: أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم، من عربهم وعجمهم، كتابيهم ومشركهم، امتثالا لأمر الله بذلك. وروى مسلم وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» . وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الثابت: «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . وروى البخاري عن أنس: أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلّى الله عليه وسلّم وضوءه، ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليه، وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان، قل: لا إله إلا الله» فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: «الحمد لله الذي أخرجه بي من النار» .

جزاء قتل الأنبياء [سورة آل عمران (3) الآيات 21 إلى 22] :

جزاء قتل الأنبياء [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) الإعراب: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ. ودخلت الفاء في الخبر، لشبه اسمها الموصول بالشرط، أي ضمّن معنى الشرط، أو للإبهام الذي في الَّذِينَ مع كون صلته جملة فعلية. ولا يجوز أن تدخل الفاء في خبر الذي إذا وقع مبتدأ حتى يكون صلته جملة فعلية، ولم يغيّر العامل معناها. فلو كانت صلته جملة اسمية نحو: الذي أبوه منطلق فقائم، أو غيّر العامل معناها نحو: ليت الذي انطلق أبوه فقائم، لم يجز دخول الفاء في خبره. البلاغة: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ استعمل البشارة في الشّر، والأصل أن تكون في الخير، للتهكم ويسمى «الأسلوب التهكمي» مثل قوله: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً حيث نزل الإنذار منزلة البشارة. المفردات اللغوية: الَّذِينَ يَكْفُرُونَ المراد بهم اليهود خاصة. بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير شبهة لديهم. بِالْقِسْطِ بالعدل. مِنَ النَّاسِ وهم اليهود، روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيّا، فنهاهم مائة وسبعون من عبّادهم، فقتلوهم من يومهم كما ذكر السيوطي. فَبَشِّرْهُمْ أعلمهم، والبشارة: الخبر السّارّ، واستعمالها في الشّر من باب التّهكم بهم والسّخرية. بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم. حَبِطَتْ بطلت. أَعْمالُهُمْ ما عملوا من خير، كصدقة وصلة رحم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مانعين من العذاب.

سبب النزول:

سبب النزول: قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل، جاءهم النّبيون يدعونهم إلى الله عزّ وجلّ، فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين، فأمروهم بالإسلام، فقتلوهم ففيهم نزلت هذه الآية. وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية. ذكره المهدي وغيره. فهذه الآية جاءت وعيدا لمن كان في زمانه صلّى الله عليه وسلّم. التفسير والبيان: كانت الآيات السابقة في تبيان اختلاف أهل الكتاب الذي نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم اليقيني، وفي محاجّة أهل الكتاب والمشركين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ذكر هنا موقف اليهود من الأنبياء، ومنهم النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي همّوا أيضا بقتله زمن نزول الآية، ويتمثّل موقفهم فيما يأتي: إن الذين يجحدون من اليهود بآيات الله بعد معرفتها في كتبهم، ويقتلون الأنبياء، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم، ولا حق ولا ذنب إلا أنهم قالوا: ربّنا الله، وجهروا بالحق، وبلغوا الرّسالة، ويقتلون الحكماء الذين يأمرون الناس بالعدل والقسط، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلي مرتبة الأنبياء، أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدّنيا والآخرة. هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الجرائم الشنيعة، البعيدون في الضلال، بطلت أعمالهم في الدّنيا والآخرة، وما لهم في الآخرة من ناصرين ينصرونهم من

فقه الحياة أو الأحكام:

بأس الله وعذابه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء 26/ 88] . والإخبار عن اليهود السابقين، ونسبة الكفر إلى اليهود المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم راضون عنه، بل إنهم همّوا بمثل فعل آبائهم بقتل النّبي صلّى الله عليه وسلّم إمعانا في الفساد والضلال. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى وقائع خطيرة وأحكام مهمة متعلقة باليهود وغيرهم: 1- اليهود كانوا قتلة الأنبياء والحكماء أو العلماء، وكفروا بآيات الله وشرائعه التي بلّغتها إياهم الرّسل، استكبارا عليهم وعنادا لهم، وتعاظما على الحق، واستنكافا عن اتّباعه، فذمّهم الله على مآثمهم. 2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النّبوة. قال الحسن: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه» . وجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فارقا بين المؤمنين والمنافقين، فقال: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة 9/ 67] . ثم قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة 9/ 71] . فدلّ على أن أخصّ أوصاف المؤمن: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ورأسها الدعوة إلى الإسلام والقتال عليه. وهناك أحكام أخرى متعلقة بمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها: أ- ليس من شرط النّاهي أن يكون عدلا، عند أهل السّنة لأن الأمر

بالمعروف والنّهي عن المنكر عام في جميع الناس. ب- أجمع المسلمون- فيما ذكر ابن عبد البر- أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدّى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه، فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. والأحاديث في هذا المبدأ ومراحل تطبيقه كثيرة جدا، ولكنها مقيدة بالاستطاعة. روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوامّ الناس. ويبدأ بإزالة المنكر بالأخف فالأخف، باللسان أولا، ثم بالعقوبة، أو بالقتل. وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره، فله ذلك ولا شيء عليه. ج- متى يترك؟ أخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» ، قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» ، قال زيد: تفسير معنى قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «والعلم في رذالتكم» إذا كان العلم في الفسّاق. 3- قد جعل الله وعيد الكفار ومنهم اليهود ثلاثة أنواع: أ- إيقاع العذاب الأليم في الدّنيا والآخرة، الألم والقلق والاضطراب في الدّنيا، ونار جهنم في الآخرة. ب- إحباط الأعمال في الدّنيا والآخرة، ففي الدّنيا الذّم والخزي واللعن،

إعراض أهل الكتاب عن حكم الله [سورة آل عمران (3) الآيات 23 إلى 25] :

وفي الآخرة العذاب كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . ج- دوام هذا العذاب لقوله تعالى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. والخلاصة: ذكرت هذه الآية ثلاثة أوصاف لليهود: أولها- الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة. وثانيها- قتل من أظهر آيات الله واستدلّ بها. وثالثها- قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر «1» . إعراض أهل الكتاب عن حكم الله [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) الإعراب: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ كيف: استفهام عن الحال، وهو هاهنا بمعنى التهديد والوعيد، وهي منصوبة بفعل مقدّر، وتقديره: في أي حال يكونون إذا جمعناهم. وإذا: منصوب

_ (1) البحر المحيط: 2/ 413

المفردات اللغوية:

على الظرف. ولِيَوْمٍ اللام تتعلق بجمعناهم. ولا رَيْبَ فِيهِ في موضع جرّ صفة ليوم. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ استفهام للتعجب من حالهم. نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظّا من التّوراة، والمراد: أحبار اليهود أو اليهود أنفسهم، ومن: إما للتبعيض، وإما للبيان. يُدْعَوْنَ يطلبون، وهو حال والداعي هو النّبي صلّى الله عليه وسلّم كِتابِ اللَّهِ التوراة أو القرآن. لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليفصل بين اليهود. ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض بالبدن أو بالقلب. مُعْرِضُونَ عن قبول حكمه. ذلِكَ التولي والإعراض. يَفْتَرُونَ يختلقون ويكذبون. لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه، وهو يوم القيامة. ما كَسَبَتْ عملت من خير أو شرّ. وَهُمْ أي الناس. لا يُظْلَمُونَ بنقص حسنة أو زيادة سيئة. سبب النزول: نزول الآية (23- 24) : أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المدراس «1» على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: «على ملّة إبراهيم ودينه» ، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلمّا إلى التّوراة، فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى قوله: يَفْتَرُونَ. المناسبة: الآيات استمرار في تعداد قبائح اليهود، ولكنها خطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستدعي التّعجب من شأنهم، وهو أنهم يرفضون التّحاكم إلى كتابهم، بدافع الغرور والكبرياء، واغترارهم باتّصال نسبهم بالأنبياء، وزعمهم النّجاة من عذاب الله يوم القيامة، فردّ الله عليهم بأن الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب.

_ (1) مدرسة اليهود لدراسة التّوراة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: انظر يا محمد وتعجّب من صنع هؤلاء اليهود الذين يحفظون بعض كتابهم الذي أوحاه الله لنبيّهم موسى عليه السلام، وفقدوا سائره أو حرّفوه وغيّروه لأن التّوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة، وبقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وموضع العجب: أنهم يرفضون قبول حكم كتابهم، حينما زنى بعض أشرافهم، وحكّموا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم بمثل حكم التّوراة، فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه. وعمم ابن كثير الآية وجعلها إنكارا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم، وهما التّوراة والإنجيل «1» . فإذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم أي بعد تردّد في قبول الحكم، ثم أدبروا وهم معرضون. وفي قوله: فَرِيقٌ مِنْهُمْ إشارة إلى أن منهم طائفة متمسكة بالحق كعبد الله بن سلام وغيره، كما قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف 7/ 159] . وفي قوله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى دوام إعراضهم. ثم ذكر الله تعالى سبب هذا التّولي والإعراض أو العناد والجحود: وهو اعتقادهم النّجاة، فاليهودي يعتقد أنه مهما فعل لن يدخل النار إلا أياما معدودة، ثم يدخل الجنة، فلم يبالوا بارتكاب المعاصي والذنوب، اعتمادا على اتّصال نسبهم بالأنبياء. وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ [البقرة 2/ 80] . ولم يثبت في عدد الأيام التي يدخلون فيها النار شيء، وقيل: هي أربعون يوما، وهي مدّة عبادتهم للعجل.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 355

فقه الحياة أو الأحكام:

وغرهم افتراؤهم في الدين أي خدعهم ما كانوا يختلقونه في الدّين، كقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وسيشفع لنا الأنبياء، ونحن أولاد الأنبياء، وشعب الله المختار، وإن الله وعد يعقوب ألا يعذّب أبناءه إلا تحلّة القسم أي مدّة قصيرة. فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا شك فيه، يوم تتقطع فيه الأنساب، ولا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شرّ، دون نقص، وهم لا يظلمون فلا يزاد في العذاب شيء، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] . فقه الحياة أو الأحكام: توجب الآيات الالتزام في الأحكام الشرعية وأحكام القضاء بما أمر الله به في كتابه، وتندّد بفعل اليهود وغيرهم الذين إذا دعوا إلى التّحاكم بكتاب الله، وما فيه من اتّباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، تولوا وهم معرضون عن حكم الله. وهذا في غاية ما يكون من ذمّهم ووصفهم بالمخالفة والعناد. وتندّد الآيات أيضا بمزاعم اليهود أنهم ناجون يوم القيامة من النّار، وأنهم يعتمدون على الأنساب، وكونهم من سلالة الأنبياء، وأنهم شعب الله المختار. والحقيقة أن الجزاء يكون على قدر العمل من خير أو شرّ. وفي الآية دليل على أن من دعي إلى مجلس الحاكم ليحكم بينه وبين خصمه بكتاب الله، وجب عليه أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه، فإن لم يجب زجر وعزر. واستنبط المالكية من الآية أنها تدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا، إلا ما علمنا نسخه، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا إذا ثبتت من طريق المسلمين بنقل صحيح. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده

دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه [سورة آل عمران (3) الآيات 26 إلى 27] :

غير أمين عليها، وقد غيّرها وبدّلها، بل ولم يثبت نقلها إلى موسى عليه السلام، وإنما كتبت بعده بخمسة قرون. ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغيّر ولم يتبدّل، جاز لنا قراءته. والبرهان القاطع الساطع المصادم أن هؤلاء الكتابيين المعتمدين على مجرد الأوهام والمزاعم والأباطيل، كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادّعوها في الدّنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم. وهذا تهديد ووعيد. دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) الإعراب: الجمل كلها في الآية الأولى جمل فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير مالِكَ، ويجوز كونها في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: أنت تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وكذلك الجمل في الآية الثانية مثل الآية الأولى في النصب والرفع. البلاغة: يوجد طباق بين تُؤْتِي وتَنْزِعُ، وتُعِزُّ وتُذِلُّ، واللَّيْلَ والنَّهارِ، والْحَيَّ والْمَيِّتِ. ويوجد جناس ناقص بين مالِكَ والْمُلْكِ.

المفردات اللغوية:

وهناك ما يسمى بردّ العجز على الصدر في تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ووَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ. والتّكرار في جمل تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ للتفخيم والتعظيم. والإيجاز بالحذف في قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أي من تشاء أن تؤتيه. وكذا في قوله: تَنْزِعُ وتُعِزُّ وتُذِلُّ. وفي قوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ استعارة لإدخال هذا على هذا، وهذا على هذا، فما ينقصه الليل يزيده في النهار والعكس. ولفظ الإيلاج أبلغ في التعبير عن الإدخال. الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... الحيّ والميّت مجاز عن المؤمن والكافر، شبه المؤمن بالحيّ والكافر بالميّت. بِيَدِكَ الْخَيْرُ أي والشر خلقا وتقديرا: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ولكنه ذكر الخير دون الشّر تأدّبا مع الله، فلا ينسب له الشّر أدبا. المفردات اللغوية: اللَّهُمَّ أي يا الله. الْمُلْكِ السلطة والتصرف في الأمور. تُؤْتِي تعطي. تَنْزِعُ تقلع وتخلع. مَنْ تَشاءُ أي من خلقك. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بإيتائه. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بنزعه منه. بِيَدِكَ الْخَيْرُ بقدرتك الخير، أي والشرّ خلقا وتقديرا، لا كسبا وعملا. تُولِجُ تدخل، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل وبالعكس بحسب الفصول والبلاد، فيزيد كلّ منهما بما نقص في الآخر. قال السيوطي: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كإخراج الإنسان من النطفة، والطائر من البيضة. وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ كالنطفة والبيضة. بِغَيْرِ حِسابٍ أي رزقا واسعا. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل ربّه أن يجعل ملك الرّوم وفارس في أمته، فأنزل الله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الآية.

المناسبة:

وقال ابن عباس وأنس بن مالك: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة، ووعد أمته ملك فارس والرّوم، قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والرّوم؟ هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة، حتى طمع في ملك فارس والرّوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. المناسبة: هذه الآية بقصد تسلية النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمام موقف المشركين وأهل الكتاب بإنكار دعوته فيما ذكرته الآيات السابقة، والتذكير له بقدرته تعالى على نصرة دينه وإعلاء كلمته، فكان المشركون ينكرون النّبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأهل الكتاب ينكرون النّبوة في غير بني إسرائيل. التفسير والبيان: إذا أعرض المشركون وأهل الكتاب كوفد نجران عن قبول دعوتك يا محمد، فالجأ إلى الله مالك الملك وصاحب الأمر، وتوجه إليه وقل: يا الله، يا مالك الملك، لك السلطان المطلق، وأنت المتصرف في خلقك، الفعّال لما تريد، ومدبّر الأمور على وفق حكمتك، فأنت المعطي وأنت المانع، تؤتي الملك والنّبوة من تشاء من عبادك، وتنزع الملك ممن تشاء من خلقك، كما نزعت النّبوة من بني إسرائيل ببعثة رسولك العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن. والظاهر المتبادر أن المراد بالملك: السلطة والتصرف في الأمور، وأنه تعالى صاحب السلطان المطلق في تدبير الأمور وتحقيق التوازن في الكائنات. والله يعطي من يشاء إما النّبوة فقط كهود ولوط، وإما الملك فقط كالملوك الغابرين والمعاصرين، وإما الملك والنّبوة كآل إبراهيم ومنهم داود وسليمان:

فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء 4/ 54] ، وهكذا يعطي النّبوة لمن يريد، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] ، وقال: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء 17/ 21] . وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء، وللعزّة والذلّة مظاهر وآثار، ولا يتوقف ذلك على الملك أو المال، فكم من ملك ذليل، وكم من غني مهين، وكم من فقير عزيز. ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلّتها، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم والفئة القليلة المؤمنة، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا، كما قال تعالى: يَقُولُونَ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون 63/ 8] . بقدرتك وحدك الخير كلّه، تتصرّف فيه بحسب مشيئتك، فكل ما كان أو يكون فيه الخير والنعمة إما لصاحبه أو للجماعة، إنك صاحب القدرة المطلقة على كل شيء، خير أو شرّ، فأنت المفوض إليك كل شيء، ونحن المتوكّلون عليك. وذكر الخير، مع أنّ كلّا من الخير والشّر بقدرته، لمناسبته للمقام، بتحويل النّبوة والملك من قوم إلى قوم ومن شخص إلى شخص. والخير: شامل للنصر والغنيمة والعزّة والجاه والمال ونحو ذلك مما يرغب به الإنسان ويحرص عليه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. ومن مظاهر القدرة الإلهية وإبراز تمام الملك والعظمة إدخال الليل في النهار، زيادة ونقصا، فتأخذ من طول هذا، فتزيده في قصر هذا، فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا، فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وقد يطول التفاوت جدا في بعض البلاد والأوقات، وهكذا يتفاوت طول الليل والنهار وقصره بحسب فصول

السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء، وبحسب مواقع البلدان الجغرافية، فقد يكون الليل ستة أشهر والنهار كذلك، وقد يطول النهار إلى ثماني عشرة أو عشرين ساعة، وقد تطلع الشمس في بعض البلاد والأزمان بعد غروبها بساعة أو أكثر. بيده تعالى أمر الزمان، كما قال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 39/ 67] . وهو الذي خلق الأرض مكورة يلف عليها الليل والنهار: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر 39/ 5] ، والتّكوير: اللف على الجسم المستدير، وجعل الشمس دليلا على النّهار. وتخرج الحيّ من الميّت إما إخراجا ماديا كالنخلة من النواة، والزرع من الحب، والإنسان من النّطفة، والطائر من البيضة، أو إخراجا معنويا كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر. وتخرج الميّت من الحيّ ماديا ومعنويا أيضا كالنّواة من النّخلة، والبيضة من الطائر، والجاهل من العالم، والكافر من المؤمن. وفسّر بعض الأطباء إخراج الحيّ من الميّت: بأن الحيّ ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شيء ميّت. وأما إخراج الميت من الحيّ فهو الإفرازات مثل اللبن، فهو سائل ليس فيه حياة، ومثله اللحوم ومنتجات الزروع والنباتات، بخلاف النّطفة فإن فيها حيوانات حيّة، وهكذا ينمو الحيّ من الميّت، ويخرج الميّت من الحيّ. وترزق من تشاء بغير حساب، أي تعطي من شئت من المال والرّزق بغير عدّ ولا حصر ولا إحصاء، ولا إعياء ولا تعب «1» ، فلك خزائن السّموات والأرض،

_ (1) كلمة الحساب في القرآن: إما بمعنى العدد، مثل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ، وإما بمعنى التعب في هذه الآية، وإما بمعنى المطالبة، مثل: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ.

فقه الحياة أو الأحكام:

وتقتّر على آخرين على وفق حكمتك وإرادتك ومشيئتك. فقوله: بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تضييق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، كأنه لا يحسب ما يعطي. وأنت القادر على انتزاع الملك من العجم إلى العرب، والنّبوة من بني إسرائيل إلى العرب. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على أن الله تعالى صاحب السلطان المطلق، والقدرة الشاملة، والإرادة والمشيئة العليا، بيده الخير والشّر خلقا وتقديرا، لا كسبا، فالخير منه مطلقا، والشّر لا ينسب إليه أدبا، وإنما ينسب لفاعله. وإنّ النّبوة والملك والرّزق بيده تعالى، يمنحها بحسب الإرادة ومقتضى الحكمة البالغة، والحجة التامة. وإنّ إدخال الليل بالنهار وإدخال النهار بالليل دليل على كروية الأرض ودورانها لأن تعاقب الليل والنهار، وتفاوت مقدارهما بحسب الفصول والأزمنة والأمكنة يشير إلى الكروية والدوران. ويخرج الله الحيّ من الميّت، والميّت من الحيّ بكلّ من المعنى المادي والمعنوي المتقدم. وإنعامه عام يتولى من يشاء، والرزق على الله مضمون، يعطي منه ما يشاء ويمنع بمقتضى الحكمة والإرادة والمشيئة. روى الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب: في هذه الآية من آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .

موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة [سورة آل عمران (3) الآيات 28 إلى 30] :

موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة [سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) الإعراب: لا يَتَّخِذِ لا ناهية، فالفعل مجزوم، أو نافية، فالفعل مرفوع، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ليس من دين الله أو ثواب الله في شيء، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. مِنَ اللَّهِ في موضع نصب على الحال لأن التقدير: فليس في شيء كائن من دين الله. فلما قدم صفة النكرة عليها انتصب على الحال. وفِي شَيْءٍ: في موضع نصب، خبر ليس. وتُقاةً منصوبة على المصدر. وأصلها وقية فأبدل الواو تاء ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت تقاة. يَوْمَ تَجِدُ يوم: منصوب بفعل مقدر، وتقديره: اذكر يوم تجد كل نفس. وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ما: إما بمعنى الذي، وهي معطوفة بالنصب على ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وجملة: تودّ منصوبة على الحال، أو هي مرفوعة مبتدأ وخبره: تَوَدُّ. وإما أن تكون ما شرطية مبتدأ، وعملت: فعل الشرط، وتَوَدُّ: جواب الشرط خبر المبتدأ. البلاغة: يوجد طباق في تُخْفُوا وتُبْدُوهُ، وفي مِنْ خَيْرٍ ومِنْ سُوءٍ، وفي مُحْضَراً وبَعِيداً.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَوْلِياءَ مفرده ولي وهو النصير والمعين. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي يواليهم. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ أي ليس من دين الله في شيء. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر تقية، أي تخافوا مخافة، فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. وهذا في حال ضعف المسلم بأن يكون في بلد ليس قويا فيها. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يخوّفكم الله أن يغضب عليكم إن واليتموهم. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيكم. مُحْضَراً حاضرا لديها. أَمَداً بَعِيداً الأمد: المدة التي لها حدّ محدود، والمراد: غاية في نهاية البعد، فلا يصل إليها. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرر للتأكيد. سبب النزول: نزول الآية (28) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد- وهؤلاء كانوا من اليهود- قد بطنوا (لازموا) بنفر من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيتمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم (ملازمتهم) ، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبوا، فأنزل الله فيهم: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ.. الآية. أي أن هذه الآية نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود، فحذرهم جماعة من المؤمنين من تلك الموالاة أو المخالطة والمصاحبة، فأبوا النصيحة، وظلّوا على ملازمة اليهود ومباطنتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أيضا عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري البدري النقيب، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أن الأمر بيد الله، وأنه مالك الملك، المعزّ والمذلّ، المعطي والمانع، وأنه على كلّ شيء قدير، نبّه المؤمنين إلى أنه يجب الالتجاء إليه وحده والاستعانة بأوليائه دون أعدائه، وأنه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه، أو يستعينوا بهم لقرابة أو صداقة قديمة. وقد جاء في هذا المعنى آيات كثيرة، منها: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران 3/ 118] ، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة 58/ 22] ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة 5/ 51] ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [النساء 4/ 144] ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... إلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة 60/ 1] ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال 8/ 73] . وفي مقابل ذلك قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة 9/ 71] . التفسير والبيان: نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، ثم توعّد على ذلك بقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فلا يحلّ للمؤمنين اتّخاذ الكافرين أولياء لقرابة أو صداقة أو جوار ونحو ذلك، يطلعونهم على أسرارهم، ويودونهم، ويقدمون مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، وإن كان في ذلك مصلحة خاصة،

فالمصلحة العامة أولى وأحقّ بالمراعاة. فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين، فلا مانع منها، فقد حالف النّبي صلّى الله عليه وسلّم خزاعة، وهم على شركهم. وإنما الواجب موالاة المؤمنين بعضهم بعضها، والاعتماد عليهم في الشؤون العامة. قال ابن عباس: نهى الله أن يلاطفوا الكفار، فيتّخذوهم أولياء. ومعنى الموالاة الممنوعة: الاستنصار بهم والتعاون معهم والاستعانة بهم لقرابة أو محبة، مع اعتقاد بطلان دينهم لأن الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم، والموالاة بمعنى الرّضا بكفرهم كفر، لأن الرّضا بالكفر كفر. أما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدّنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرّضا عن حالهم، فليس ممنوعا منه. ومن يوالي الكافرين من غير المؤمنين أي يتجاوز المؤمنين إلى الكفار، كأن يكون جاسوسا للكفار، فليس من دين الله ولا من حزبه أو من ولاية الله في شيء، أي يكون بينه وبين الله غاية البعد، ويطرد من رحمته، ويكون منهم، ولا يكون مطيعا لدينه، كما قال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: إشارة إلى اتّخاذهم أولياء، وهذا يدلّ على المبالغة في ترك الموالاة إذ نفى عن متوليهم أن يكون في شيء من الله. ثم استثنى سبحانه حالة تجوز فيها موالاة الكفار، وهي حالة الخوف من شيء، يجب اتّقاؤه منهم، كالقتل مثلا أي حال اتّقاء الضّرر فتجوز موالاتهم حينئذ لأن «درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح» . وإذا جازت موالاتهم لدفع الضّرر، فتجوز لنفع الإسلام والمسلمين. ويكون ذلك للضّرورة، مثل النّطق بالكفر حال الإكراه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل 16/ 106] . ويحذركم الله عقابه، وفي ذكر نَفْسَهُ إشارة إلى أن الوعيد صادر منه

فقه الحياة أو الأحكام:

تعالى، وأنه القادر على إنفاذه، ولا يعجزه شيء عنه. وهذا تهديد شديد على المخالفة. وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيحاسب كل امرئ بما عمل، ويجازيه بما فعل. ثم بيّن تعالى سعة علمه بالمخلوقات، فإن تخفوا ما صدوركم وتكتموه، أو تبدوه وتظهروه، فالله يعلمه ويجازي عليه، وهو يعلم كل شيء في السّموات والأرض، ومنه الميل إلى الكفار أو البعد عنهم. والله قدير على عقوبتكم، فلا تعصوا نواهيه، إذ ما من معصية ظاهرة أو خفية إلا يعلمها. واحذروا يوم الآخرة الذي تجد فيه كل نفس ما عملت في الدّنيا من خير حاضرا لديها، فتسرّ وتنعم بما عملت، وتجد ما عملت من شرّ صغر أو كبر حاضرا أيضا، فتساء وتندم، وادّة أن يكون بينها وبين عملها بعد طويل ومسافة كبعد المشرقين. ثم أكّد تعالى تحذيره، فيحذركم الله عقابه وسخطه من ارتكاب المخالفات، وعليكم ترجيح جانب الخير على الشّر. والله بهذا التحذير والتهديد رؤف بعباده، إذ أنذرهم عاقبة أمرهم، وعرّفهم جزاءهم ومصيرهم. قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذّرهم نفسه، وعرّفهم كمال علمه وقدرته لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة، دعاهم ذلك إلى طلب رضاه، واجتناب سخطه. فقه الحياة أو الأحكام: 1- دلّت الآية على تحريم الاطمئنان إلى الكفار أو الثقة بهم والرّكون إليهم في أمر عام، والتّجسس لهم، واطّلاعهم على أسرار المسلمين الخاصة بمصلحة

الدّين، واتّخاذهم أولياء وأنصارا في شيء تقدّم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة لأن فيه إعانة للكفر على الإيمان. وقصة حاطب المسندة في الصحيحين وغيرهما ملخصها: «أن حاطبا كتب كتابا لقريش يخبرهم فيه باستعداد النّبي صلّى الله عليه وسلّم للزّحف على مكة، إذ كان يتجهّز لفتحها، وكان يكتم ذلك، ليبغت قريشا على غير استعداد منها، فتضطر إلى قبول الصلح- وما كان يريد حربا- وأرسل حاطب كتابه مع جارية وضعته في عقاص شعرها، فأعلم الله نبيّه بذلك، فأرسل في أثرها عليّا والزّبير والمقداد، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فلما أتي به، قال: يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ! إنّي كنت حليفا لقريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاني ذلك من النّسب فيهم أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما إنه قد صدقكم» ، واستأذن عمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قتله فلم يأذن له، قالوا: وفي ذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة 60/ 1] . أي أن آية: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.. لم تنزل في قصة حاطب، وإنما هذه الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين. ولا تمنع هاتان الآيتان وأمثالهما التّحالف أو الاتّفاق بين المسلمين وغيرهم، وإن كان التّحالف أو الاتّفاق لمصلحة غير المسلمين لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان محالفا خزاعة، وهم على شركهم.

كما لا تمنع الآيات في هذا الموضوع موادّة ومجاملة غير الحربيين من غير المسلمين في الظاهر مع عدم الرّضا بكفرهم في الحقيقة والباطن، ولا تمنع معاملة غير المسلم أو معاشرته أو الثقة به في أمر خاص من الأمور، لا يمسّ مصلحة المسلمين العامة، بدليل آيات: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة 60/ 7- 9] . فالكفار الحربيون الذين آذوا المسلمين أو ظاهروا على إخراجهم من بلادهم أو اغتصبوا بعض بلادنا كفلسطين، لا تحلّ موالاتهم بل تجب معاداتهم، للآية المتقدّمة. 2- وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب، وإليه ذهب بعض المالكية، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن عائشة- لرجل تبعه يوم بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك» ، ولأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار. وأجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، وقيّد الشافعية ذلك أيضا بالحاجة لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم- استعان بصفوان بن أمية يوم حنين لحرب هوازن، وتعاونت خزاعة مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام فتح مكة، وخرج قزمان- وهو من المنافقين- مع الصحابة يوم أحد، وهو مشرك. وأما حديث «ارجع فلن أستعين بمشرك» فهو منسوخ بدليل استعانته صلّى الله عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم من الغنيمة. 3- وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التّقية: وهي المحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.

والواقع أن التّقية نوعان بحسب نوع العدوّ: عدو في الدّين، وعدوّ في الأغراض الدّنيوية كالمال والمتاع والإمارة. أما النوع الأول: فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه، وهذا يجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه فيه. أما إن كان من المستضعفين وهم الصبيان والنساء والعجزة فيجوز له البقاء في ديار الكفر وموافقة الكافرين في الظاهر بقدر الضرورة، مع السّعي في حيلة للخروج والفرار بدينه، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً [النساء 4/ 97- 99] . والموافقة حينئذ للكفار رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد، بدليل ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، ثم قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه ثم دعا الثاني وقال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما هذا المقتول، فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأما الآخر، فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه» «1» . وأما النوع الثاني- وهو من كانت عداوته بسبب المال ونحوه، فقد اختلف

_ (1) التلخيص الحبير: 4/ 103 [.....]

محبة الله باتباع الرسول وطاعته [سورة آل عمران (3) الآيات 31 إلى 32] :

العلماء في وجوب هجرة صاحبه من ديار الأعداء، فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] وللنهي عن إضاعة المال، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان عن سعيد بن زيد: «من قتل دون ماله فهو شهيد» . وقال آخرون: لا تجب لأنها مصلحة دنيويّة ولا تضرّ بالدّين. ولكن الراجح أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك عرضه. 4- مداراة الناس بإظهار المحبة والولاء والموافقة: إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير، كما أنها لا تخالف أصول الدّين، فهي جائزة. وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزّور، فلا تجوز. قال الحسن البصري: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. 5- ينبغي دوام الحذر من عقاب الله وغضبه، حتى يكون الإنسان على طهر من المعاصي، ويحرص على زيادة القربات إلى ربّه، فهي التي تنفعه يوم القيامة، فيجازي كل إنسان بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. 6- علم الله واسع شامل، يعلم كل شيء كبيرا أو صغيرا، ويعلم ما في السموات والأرض، ويعلم خفيات النفوس وجلياتها، فسواء أظهر الإنسان شيئا أو أخفاه في صدره، فإن الله تعالى عالم به علما دقيقا تامّا، لا يختلف عليه شيء. محبّة الله باتّباع الرّسول وطاعته [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

البلاغة:

البلاغة: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أقام الظاهر وهو اسم الجلالة مقام المضمر، لتربية المهابة والرّوعة وتعظيم الله في النفوس. ويوجد جناس مماثل في تُحِبُّونَ ويُحْبِبْكُمُ، وجناس مغاير في تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وفي يَغْفِرْ لَكُمْ وغَفُورٌ. المفردات اللغوية: تُحِبُّونَ اللَّهَ المحبّة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، قال ابن عرفة: المحبّة عند العرب: إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري: محبّة العبد لله ورسوله: طاعته لهما واتّباعه أمرهما، ومحبّة الله للعباد: إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يغفر لهم. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي يثيبكم. وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يتجاوز عن سيئاتكم وأباطيلكم. أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فيما يأمركم به من التوحيد. فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الطاعة، ولم يجيبوا دعوتك فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي يعاقبهم. سبب النزول: نزول الآية (31) : أخرج ابن المنذر عن الحسن البصري قال: قال أقوام على عهد نبيّنا: والله يا محمد، إنا لنحبّ ربّنا، فأنزل الله: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الآية. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادّعوه في عيسى حبّ لله عزّ وجلّ. وقال ابن عباس: إن اليهود لما قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.

المناسبة:

وعلى كلّ فالخطاب في الآية عام يشمل كل من ادّعى حبّ الله، أي طاعته واتّباع أمره، ولم يتّبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبّة الله، وليس هو على الطريقة المحمديّة، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتّبع الشّرع المحمدي والدّين النّبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» . المناسبة: بعد أن نهى الله المؤمنين عن موالاة الكافرين، أوضح هنا أن طريق محبّة الله تعالى متابعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه. التفسير والبيان: قل يا محمد لهم: إن كنتم تطيعون الله وترغبون في ثوابه، فامتثلوا ما أنزل الله علي من الوحي، يرض الله عنكم، ويغفر لكم ذنوبكم، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إياه، وهو محبّته إياكم، وهو أعظم من الأوّل. والله غفور لمن أطاعه، واتّبع دينه، رحيم به في الدّنيا والآخرة، والطاعة تكون باتّباع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. روي أنه لما نزل قوله: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ.. قال عبد الله بن أبيّ زعيم المنافقين: إنّ محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبّه، كما أحبّ النصارى عيسى، فنزل قوله: قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. أي قل لهم: أطيعوا الله باتّباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا الرّسول باتّباع سنّته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره. وهذا يدلّ على أنّ الله إنما أوجب عليكم متابعة نبيّه لأنه رسوله، لا كما يقول النّصارى في عيسى عليه السلام.

فقه الحياة أو الأحكام:

فإن تولوا وأعرضوا، وخالفوا أمره، ولم يجيبوا دعوته غرورا منهم، بادّعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه، أي محبون لله، فإنّ الله يجازي الكافرين ولا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم ويغضب عليهم لأنهم اتّبعوا أهواءهم، ولم يهتدوا إلى الدّين الحنيف. وهذا دليل على أنّ مخالفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الطريقة والمنهج كفر، والله لا يحبّ من اتّصف بذلك، وإن ادّعى وزعم في نفسه أنه محبّ لله ويتقرّب إليه. فقه الحياة أو الأحكام: إن محبّة الله والرّسول تتجلّى في اتّباع الإسلام وإطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعمل بشريعته، واتّباع أوامره واجتناب نواهيه. ومحبة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لا لذاته وإنما لكونه رسولا مرسلا من عند الله إلى جميع الثقلين: الجنّ والإنس. فاتّباع شرع النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم هو دليل الحبّ الصادق، كما قال الورّاق: تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع وقال سهل بن عبد الله: علامة حبّ الله: حبّ القرآن، وعلامة حبّ القرآن: حبّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلامة حبّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: حبّ السّنّة، وعلامة حبّ الله وحبّ القرآن وحبّ النّبي وحبّ السّنّة: حبّ الآخرة، وعلامة حبّ الآخرة: أن يحبّ نفسه، وعلامة حبّ نفسه: أن يبغض الدّنيا، وعلامة بغض الدّنيا: ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبلغة. وروى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فقال: إني أحبّ فلانا فأحبّه، قال: فيحبّه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه، قال: فيحبّه أهل السماء، وإذا

اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله [سورة آل عمران (3) الآيات 33 إلى 37] :

أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض» . اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) الإعراب: ذُرِّيَّةً منصوب على الحال من الأسماء المتقدمة. إِذْ ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر تقديره: اذكر يا محمد إذ قالت، أو متعلق بقوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ. مُحَرَّراً حال من ما. وعبر ب ما عمن يعقل للإبهام، مثل: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

البلاغة:

وَضَعَتْها الهاء عائدة على «ما» حملا على المعنى، ومعناها التأنيث. أُنْثى منصوب على الحال من ضمير وَضَعَتْها. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا بالتشديد، وزكريا مفعول به، ومن قرأها بالتخفيف رفع زكرياء لأنه فاعل. والهمزة في زكرياء للتأنيث. البلاغة: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جملتان معترضتان لتعظيم الأمر. أُعِيذُها التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجديد. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً شبه تربيتها الصالحة ونموها بالزرع الذي ينمو شيئا فشيئا عن طريق الاستعارة التبعية، بحذف المشبه والإتيان بشيء من لوازمه. المفردات اللغوية: اصْطَفى اختار. ذُرِّيَّةً الذرية في الأصل: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، وللواحد والكثير، والمراد: ذرية يشبه بعضها بعضا. امْرَأَتُ عِمْرانَ اسمها حنة بنت فاقود. مُحَرَّراً عتيقا خالصا من شواغل الدنيا، مخصصا للعبادة وخدمة البيت المقدس (المسجد الأقصى) . فَتَقَبَّلْ مِنِّي خذه على وجه الرضا والقبول. أُعِيذُها بِكَ أي أمنعها وأحفظها بحفظك، وأصل التعوذ والاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، والاستجارة به، واللجوء إليه بالدعاء والرجاء. مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود. مَرْيَمَ بالعبرية: خادم الرب أي العابدة. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً رباها بما يصلح أحوالها. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا جعل زكريا كافلا لها. وزكريا: من ولد سليمان بن داود عليهما السلام. الْمِحْرابَ: الغرفة وهي أشرف المجالس، وتسمى عند أهل الكتاب بالمذبح: وهي مقصورة في مقدم المعبد، ذات باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا، والزمان زمان قحط وجدب. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يأتيني به من الجنة. بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته، فهو رزق واسع بلا تبعة.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن محبته تستلزم محبة رسوله واتباعه وطاعته، وأن طاعة الله مقترنة بطاعة الرسول، ناسب أن يذكر من أحبهم واصطفاهم من الرسل وذرياتهم الذين يبينون للناس طريق المحبة: وهي الإيمان بالله مع طاعته وطاعة رسله الكرام. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة فيهم، فاختار آدم أبا البشر، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد الملائكة له، وعلمه أسماء الأشياء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة، وتاب عليه واجتباه، كما قال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ، وَهَدى [طه 20/ 122] وكان من ذريته الأنبياء والمرسلون. واصطفى من بعده نوحا أبا البشر الثاني، الذي جعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض فهو شيخ المرسلين، لما عبدوا الأوثان، وانتقم له بإغراقهم بالطوفان، ونجاه هو ومن تبعه من المؤمنين في الفلك العظيم، وكان من ذريته كثير من الأنبياء والمرسلين، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات. واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران: وهم عيسى وأمه مريم بنت عمران التي ينتهي نسبها إلى يعقوب عليه السلام. والمراد بعمران هذا: هو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وهو عمران بن

ياشم، ابن ميشا بن حزقيا بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام. فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم. اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وجعل النبوة والرسالة فيهم. فهم ذرية واحدة وسلالة واحدة، ويشبه بعضها بعضا في الفضل والمزية والتناصر في الدين، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح، ونوح من آدم. وآل عمران: وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم. واصطفاؤهم على جميع الخلق كلهم، فهم صفوة الخلق، فأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحاكم وابن عساكر عن أبي هريرة: «إنما أنا رحمة مهداة» يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله، وقوله «مهداة» أي هدية من الله للخلق. هذه الذرية هم المذكورون بمناسبة الكلام عن إبراهيم: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا.. [الأنعام 6/ 84- 87] . وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن جميع الأنبياء والرسل من نسلهم. والله سميع لأقوال العباد، عليم بنياتهم وضمائرهم. واذكر وقت أن قالت امرأة عمران (وهي أم مريم واسمها حنّة بنت فاقود) وكانت عاقرا لم تلد، واشتاقت للولد، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فلما تحققت الحمل قالت: رب إني نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك الكريم، متفرغا للعبادة وخدمة بيت المقدس وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على الولد الطاعة. ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر، وهو

السميع لكل قول ودعاء، العليم بنية صاحبه وإخلاصه، وهذا يستدعي تقبل الدعاء، فضلا منه وإحسانا، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى. والنذر: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه. فهو لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويلاحظ أن المراد بعمران أولا في قوله: آلَ عِمْرانَ هو أبو موسى عليه السلام، وثانيا في قوله امْرَأَتُ عِمْرانَ هو أبو مريم، وبينهما نحو ألف وثمانمائة عام (1800) تقريبا. فلما وضعت بنتا، قالت متحسرة حزينة: إني وضعتها أنثى، وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد، فلا تصلح لهذا، والله أعلم بما وضعت وبمكانتها، وفي هذا تعظيم لشأن الأنثى، وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر. أما قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فهو من كلام الله عز وجل. وقرئ بضم تاء «وضعت» فيكون من كلام امرأة عمران عن طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وأما: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فهو من كلام الله بالمعنى المذكور. ويجوز كونه من كلام امرأة عمران، قالته معتذرة إلى ربها من ولادة أنثى على خلاف ما قصدته من خدمة المسجد لأنه أنثى لا تصلح للخدمة بسبب كونها عورة. وقالت امرأة عمران: إني سميتها مريم، أي خادمة الرب، وإني أجيرها وأعيذها بحفظك ورعايتك من شر الشيطان المطرود من الخير، وأدعوك أن تقيها وذريتها وهو عيسى عليه السلام من الشيطان وسلطانه عليهما، فاستجاب الله دعاءها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل بني آدم

فقه الحياة أو الأحكام:

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» «1» أي أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها. فتقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن، ورضي أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت على صغرها وأنوثتها، ورباها ونماها بما يصلح أحوالها تربية عالية تشمل الجسد والروح، كما يربى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزارع إياه بالسقي والتسميد والعزق وقلع الأعشاب الضارة من حوله. وجعل زكريا- وكان زوج وخالتها وكان معروفا بالخلق والتقوى- كافلا لها وراعيا مصالحها حتى شبت وترعرعت. وإنما قدر الله كون زكريا كفيلها لسعادتها، لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا. وكان كلما دخل زكريا عليها المحراب، وجد عندها خيرا كثيرا ورزقا وافرا، وألوانا من الطعام لا توجد في مثل ذلك الوقت، قال جماعة من مفسري التابعين: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. فيقول لها: يا مريم، من أين لك هذا؟ والأيام أيام جدب وقحط، قالت: هو من عند الله الذي يرزق الناس جميعا، بتسخير بعضهم لبعض، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب. قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد. فقه الحياة أو الأحكام: كان المشركون وأهل الكتاب ينكرون نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه بشر مثلهم، ولأنه ليس من بني إسرائيل، فرد الله عليهم: إن الله اصطفى آدم أبا البشر.

_ (1) وفي لفظ: «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسّه إياه، إلا مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.

ونوحا الأب الثاني، واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم، واختار آل عمران من آل إبراهيم. وآل عمران هم من سلالة بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فإذا كان الاصطفاء لله فهو يصطفي أيضا نبيا من العرب وهو سليل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. فكانت هذه القصة لتقرير نبوة النبي العربي صلّى الله عليه وسلّم، ودحض شبهة أهل الكتاب الذين حصروا النبوة في بني إسرائيل، وإبطال شبهة المشركين الذين تصوروا كون النبي غير بشر، وهو لا يكون إلا بشرا من جنس المبعوث إليهم. وفي القصة إرهاص بنبوة عيسى، إذ ولدت أمه من أم عاقر كبيرة السن، على خلاف المعهود، وقبلت الأنثى في خدمة بيت المقدس، لتكون سيرتها الطاهرة عنوانا على كون ولدها من روح الله وكلمته. ودل قوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ على جواز التسمية يوم الولادة، وهو شرع من قبلنا، وأكده ما ثبت في السنة عند البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي: إبراهيم» . وكان من أثر دعاء امرأة عمران الذي قبله الله بصون مولودها وذرريتها من مس الشيطان أن صان عيسى عليه السلام من إغواءات الشيطان، كما يصون الله تعالى سائر أنبيائه الكرام من وساوس الشياطين وسلطانهم، فكم تعرّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر 15/ 42 والإسراء 17/ 65] . ووجود الرزق الكثير عند مريم مما ليس كالعادة دليل على كرامات الأولياء، كما ذكر ابن كثير «1» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 360

قصة زكريا ويحيى (دعاء زكريا وطلبه الولد الصالح وإنجاب يحيى) [سورة آل عمران (3) الآيات 38 إلى 41] :

قصة زكريا ويحيى (دعاء زكريا وطلبه الولد الصالح وإنجاب يحيى) [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) الإعراب: هُنالِكَ الأصل أن يكون ظرف مكان، ولكنه استعمل هنا ظرف زمان، وقيل: بهما في هذه الآية أي في ذلك المكان والوقت، وهو متعلق بدعاء أي دعا زكريا في ذلك الوقت، وهذا الاستعمال جائز على سبيل التوسع، ويعرف المراد بدلالة الحال، وقد تجيء هُنالِكَ محتملة الزمان والمكان، كما في قوله تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ. والظرف منه «هنا» واللام للتأكيد، والكاف للخطاب، لا موضع لها من الإعراب. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي جماعة الملائكة. ومن قرأ «فناداه» أراد جمع الملائكة إذ يجوز في فعل الجماعة التذكير والتأنيث، سواء كانت الجماعة للمذكر أو المؤنث، نحو: قال الرجال وقالت الرجال، وقال النساء وقالت النساء، فالتذكير بالحمل على معنى الجمع، والتأنيث بالحمل على معنى الجماعة. وَهُوَ قائِمٌ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من هاء فَنادَتْهُ. أَنَّ اللَّهَ مفعول ثان لنادته، ومن قرأها بالكسر فعلى الابتداء، على تقدير: قال: إن الله يبشرك. مُصَدِّقاً حال من يحيى، وكذلك: سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا. وَامْرَأَتِي عاقِرٌ إنما جاء بغير تاء لأنه أراد النّسب، أي: ذات عقر أي عقم، مثل طالق وحائض.

البلاغة:

البلاغة: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ المنادي جبريل، وعبر عنه باسم الجماعة تعظيما له لأنه رئيسهم. بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ فيه طباق وهو أحد المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: هُنالِكَ أي لما رأى زكريا ذلك، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء من غير حينه قادر على الإتيان بالولد على الكبر، وكان أهل بيته انقرضوا ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ولدا صالحا مباركا. الذرية: الولد، وتقع على الواحد والكثير وهو هنا واحد، والطيب: ما تستطاب أفعاله سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه وقابله، كما يقال: سمع الله لمن حمده، إذ من لم يجب، فكأنه لم يسمع مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي يصدق بعيسى أنه روح الله، فهو قد وجد بكلمة كائنة من الله، وكلمة الله: عيسى عليه السلام، وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة: كن، قال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى بن مريم. وَسَيِّداً السيد: الرئيس المتبوع الذي يسود قومه. وَحَصُوراً قال السيوطي وغيره: ممنوعا من النساء، من الحصر: وهو المنع، فهو لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن تعففا وزهدا. وقال آخرون: منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه، أو أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها، كأنه حصور عنها، كما قال القاضي عياض. وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي من أصلابهم، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها أَنَّى كيف غُلامٌ ولد وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي بلغت نهاية السن، مائة وعشرين سنة وَامْرَأَتِي عاقِرٌ عقيم لا تلد بلغت ثمانيا وتسعين سنة. كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أي من خلق الله غلاما منكما اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ: لا يعجزه عنه شيء. آيَةً علامة على حمل امرأتي أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي تمتنع من كلامهم ما عدا ذكر الله تعالى رَمْزاً إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وسمي الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه بِالْعَشِيِّ الوقت من الزوال إلى الليل. وَالْإِبْكارِ من طلوع الفجر إلى الضحى، فشمل قوله: بالعشي والإبكار: أواخر النهار وأوائله. التفسير والبيان: حينما رأى زكريا حال مريم وتفرغها للعبادة وتفضل الله عليها بالأرزاق الوفيرة، دعا ربه أن يرزقه ولدا صالحا مثلها من ولد يعقوب عليه السلام،

قائلا: إنك يا رب سميع لكل قول، مجيب لكل دعاء صالح لأن رؤية الأولاد النجباء تشوق النفس لو يكون له مثلهم. فخاطبته الملائكة شفاها، والمخاطب في رأي الجمهور: هو جبريل عليه السلام «1» ، والأظهر في رأي القرطبي: ناداه جميع الملائكة، أي جاء النداء من قبلهم. وهو قائم يدعو الله ويصلي في محراب عبادته، وقالت له: إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم 19/ 7] وهو معرّب يوحنا، ويطلق عليه في إنجيل متى: «يوحنا المعمداني» لأنه كان يعمّد الناس في زمانه. وهو أول من يصدق بعيسى بن مريم عليه السلام المسمى (كلمة الله) لأنه ولد ونشأ بكلمة الله: كُنْ، لا بالطريقة المعتادة من الولادة من أب وأم. ويحيى أيضا سيد قومه، ومعصوم من الذنوب، ومانع نفسه من شهواتها، ونبي يوحى إليه- وهذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى- وهو صالح ناشئ من أصلاب الصالحين: أنبياء الله الكرام صلوات الله عليهم. ولكن زكريا تعجب قائلا: كيف يكون لي غلام، وقد أصبحت كبير السن، وامرأتي عقيم لا تلد، فأجابه الله تعالى من طريق الملائكة: كذلك الله يفعل ما يشاء، أي مثل ذلك الخلق غير المعتاد الحاصل مع امرأة عمران، يفعل

_ (1) في التنزيل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ يعني جبريل، والروح: الوحي. وجائز في العربية: أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني: نعيم بن مسعود.

فقه الحياة أو الأحكام:

الله ما يشاء في الكون، فمتى شاء أمرا أوجده، سواء بسبب معروف أو بغير سبب، ومنه إيجاد الولد والمرأة عاقر. فطلب زكريا من ربه أن يجعل له علامة تدله على الحمل ووجود الولد منه، استعجالا للسرور، أو ليشكر تلك النعمة، فجعل الله علامة ذلك ألا يقدر على كلام الناس مدة ثلاثة أيام متوالية إلا بالإشارة والرمز بيد أو رأس أو نحوهما. وأمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال طوال الوقت، وعلى التخصيص في الصباح والمساء. فقه الحياة أو الأحكام: دلت هذه الآية على مشروعية طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصدّيقين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد 13/ 38] وقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان 25/ 74] وقال مخبرا عن إبراهيم الخليل: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] ، وروي من حديث أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيّ رجل مات، وترك ذرّية طيبة، أجرى الله له مثل أجر عملهم، ولم ينقص من أجورهم شيئا» . وخرّج ابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «النكاح من سنّتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» . وأخرج أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم» . والأخبار في هذا المعنى كثيرة، تحث على طلب الولد وتندب إليه لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته، روى مسلم وغيره أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر: أو ولد صالح يدعو له» ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.

ودلت الآية أيضا على أن الواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه وطلب التوفيق لهما، والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونوا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه. ألا ترى قول زكريا: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم 19/ 6] وقال: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وقال: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان 25/ 74] ، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنس، فقال فيما رواه البخاري ومسلم: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه» . ومن مهام الملائكة البشارة، كما بشرت بيحيى عليه السلام، والأنبياء معصومون من الذنوب والمعاصي الكبيرة والصغيرة قبل النبوة وبعدها، وقد يعصمون ويمنعون عن الشهوات المباحة، كما حصل ليحيي عليه السلام أنه كان حصورا، ولعل هذا كان شرعه، فأما شرعنا فالنكاح. وكان يحيى أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، ويقال بستة أشهر. واستبعاد زكريا عليه السلام وتعجبه كان على وفق المعتاد أن حاله وحال امرأته لا يولد لمثلهما، لا أن ذلك ليس من مقدور الله. وقد طلب إتمام النعمة بأن يجعل له آية تكون دليلا على زيادة النعمة والكرامة. وفي هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات: ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمر السوداء حين قال لها: «أين الله؟» فأشارت برأسها إلى السماء، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة» فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك. وهذا قول عامة الفقهاء، قال مالك: إن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه

قصة زكريا عليه السلام:

يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه، فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس، وإنما هو استحسان. وقد منع زكريا الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة. أما عن ذكر الله فلا، فقد أمره الله بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه. قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكريا بقول الله عز وجل: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الأنفال 8/ 45] . وكذلك الصلاة لا تترك لأن معنى قوله: وَسَبِّحْ أي صلّ، سميت الصلاة سبحة، لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. قصة زكريا عليه السلام: ذكر زكريا في القرآن الكريم ثماني مرات في آل عمران وفي الأنعام وفي مريم وفي الأنبياء. ويظهر أن لزكريا أبي يحيى شركة في خدمة الهيكل، فهو «لاوي» وهو زوج خالة «مريم» . لما رأى زكريا آيات الله الباهرات وإكرامه تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، فدعا ربه ليرزقه ذرية طيبة مباركة تلي أمور بني إسرائيل لأنه كان يخشى ابتلاءهم بمواليه الذين لم يكونوا متمسكين بالشريعة، فحملت زوجه بيحيى وبشره الله بنبوته، وأعلمه أن آية ذلك أن يعجز عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام لا يكلمهم إلا رمزا. وقتل زكريا وابنه يحيى في حادث واحد.

قصة يحيى عليه السلام:

قصة يحيى عليه السلام: ذكر يحيى في مواضع أربعة من القرآن الكريم: في آل عمران، وفي الأنعام، وفي مريم، وفي الأنبياء. وحملت زوجة زكريا، واسمها «اليصابات» في الزمن الذي حملت فيه مريم بعيسى، وولد يحيى ثم شب ونشأ بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا مهما لكل من يستفتي في أحكامها. وكان «هيرودس» أحد حكام فلسطين، وله بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال، أراد أن يتزوج منها، وأرادت البنت وأمها ذلك، فلم يرض يحيى عن هذا الزواج لأنه حرام. فانتهزت الأم ليلة الزفاف بين العم وابنة أخيه، فرقصت العروس في زينتها أمامه، فسر منها، وطلب منها أن تقول ما تتمناه، ليعمله لها، فطلبت منه- عملا بمشورة أمها- رأس يحيى بن زكريا في هذا الطبق، فوفى لها عمها الحاكم بذلك وقتل يحيى. وامتاز يحيى منذ صباه بأكمل أوصاف الصلاح والتقوى، وأوتي النبوة وهو صبي قبل بلوغ الثلاثين، كما قال تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم 19/ 12] وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد عمّد المسيح، ويسميه المسيحيون «يوحنا المعمدان» . ولما قتل يحيى، جهر المسيح بدعوته، وبدأ في وعظ الناس. قصة مريم [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 44] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

الإعراب:

الإعراب: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، تقديره: ينظرون أيهم يكفل مريم. البلاغة: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ المراد جبريل، على سبيل المجاز المرسل من إطلاق الكل، وإرادة البعض. اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ تكرار لفظ اصْطَفاكِ ولفظ مَرْيَمَ من باب الإطناب. المفردات اللغوية: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل يا مَرْيَمُ مريم في لغتهم: العابدة، وسميت بذلك تفاؤلا لها بالخير. اصْطَفاكِ اختارك. وَطَهَّرَكِ من الحيض والنفاس، ومن مسيس الرجال، ومن سفساك الأخلاق. وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ أي أهل زمانك. والاصطفاء الأول: قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال. والاصطفاء الثاني: الاختصاص بولادة نبي من غير أن يمسها رجل، وذلك بمعنى أنها مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود. اقْنُتِي أطيعي، والقنوت: الطاعة مع الخضوع. وَاسْجُدِي تذللي. وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ صلي مع المصلين، والمراد من السجود والركوع لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة. نُوحِيهِ الوحي: تعريف الموحى إليه بأمر خفي، وقد جاء الوحي في القرآن لمعان: لكلام جبريل للأنبياء كما هنا، ومثل: نُوحِي إِلَيْهِمْ، وللإلهام مثل: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص 28/ 7] ولإلقاء المعنى المراد مثل: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة 99/ 5] وللإشارة مثل: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم 19/ 11] . أَنْباءِ الْغَيْبِ أخبار ما غاب عنك. أَقْلامَهُمْ قداحهم المبرية التي يقترعون بها،

المناسبة:

وتسمى السهام. أما الأزلام: فهي التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها. إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتنازعون في كفالتها. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة ولادة يحيى من أب كبير وأم عاقر، وذلك شيء خارق للعادة، أعقبه بذكر قصة ولادة عيسى من غير أب، وهو شيء أغرب من الأول. وغاية القصة: الرد على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى، فذكر ولادته من مريم ليدل على بشريته. التفسير والبيان: أخبرت الملائكة مريم عليها السلام أن الله اختارها لكثرة عبادتها وزهدها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس ومن سفساف الأخلاق وذميم الصفات (وهو التطهير المعنوي) ثم اصطفاها ثانيا بالتطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس والولادة من غير جماع، وفضلها على نساء عالمي زمانها، فهي طاهرة من الأدناس والأرجاس من الحيض والنفاس وغيرهما، ومن العيوب والنقائص البشرية الحسية والمعنوية. ومثلها السيدة فاطمة الزهراء التي ما كانت تحيض، ولذلك لقبت بالزهراء. يا مريم الزمي الطاعة مع الخضوع لله، واسجدي له مع الخشوع، وصلي جماعة مع المصلين، لا وحدك. فالقنوت: الطاعة في خشوع، كما قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم 30/ 26] . والسجود: التذلل، والركوع: الانحناء، والمراد: ما يلزمه وهو التواضع والخشوع في العبادة. تلك القصص التي أخبرناك عنها من أخبار زكريا ويحيى ومريم، هي من أخبار الغيب التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك، وإنما هي بالوحي

فقه الحياة أو الأحكام:

الذي نوحيه إليك على يد جبريل الروح الأمين، لتكون دليلا على صحة نبوتك، وإلزام المعاندين لك. فهذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى، والمعلم به قصتان: قصة مريم، وقصة زكريا. وما كنت حاضرا معهم حينما جاءت امرأة عمران، وألقت مريم في بيت المقدس، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها، فهي بنت سيدهم وكبيرهم، وأخذوا يستهمون (يقترعون) في ذلك، فجاءت القرعة لزكريا، فكان كافلها. وما كنت شاهدا عليهم إذ يتنازعون ويتخاصمون في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة. وإذ لم تعلم بهذه القصة ولا قومك لأنك أمي مثلهم، فلم يبق لك طريق للعلم إلا الوحي من الله تعالى. أما المشاهدة للخصومة فقد نفاها الله تعالى على سبيل التهكم. وهي كما قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود 11/ 49] . وأما تعليم البشر- كما زعموا- فرده الله تعالى بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل 16/ 103] وهو النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب. وهذه الآية مثل المذكور عقب قصة نوح عليه السلام: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود 11/ 49] والمذكور بعد قصة موسى وشعيب: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص 28/ 44] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى تفضيل السيدة مريم عليها السلام على نساء العالمين أجمع في قول الزجاج وغيره، وعلى عالمي زمانها في قول أكثر المفسرين. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول: الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى.

روى مسلم والجماعة إلا أبا داود عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . والكمال: هو التناهي والتمام، وكمال كل شيء بحسبه، والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان: الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وروي من طرق صحيحة أنه عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة وأنس بن مالك: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» وفي رواية أخرى: «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم: فاطمة وخديجة» . فهذه الأحاديث تدل على فضيلة مريم وأن روح القدس كلمها، وظهر لها، ونفخ في درعها، ودنا منها للنفخة، وصدقت بكلمات ربها، ولذلك سماها الله في تنزيله صدّيقة فقال: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ وقال: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم 66/ 12] . ودلت الآية على أن مريم كانت كثيرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل، مما هيأها لمحنة لها ورفعة في الدارين. ودل قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حيث أخبره الله عن قصة زكريا ومريم، ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر الناس عن ذلك، وصدّقه أهل الكتاب بذلك. والإيحاء هنا: الإرسال إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. واستدل بعض علماء المالكية بهذه الآية وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ ... على إثبات القرعة، وهي في أصل شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي

سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظّنّة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. وردّ العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وأجيبوا بالآثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» «1» وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه. ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدّة، وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابنة حمزة- واسمها أمة الله- لجعفر، وكانت عنده خالتها، وقال فيما رواه الترمذي والشيخان عن البراء: «الخالة بمنزلة الأم» وكان زكريا قد قال لأحبار بيت المقدس: ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فأبوا واقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا، فكفلها. وكيف تمت القرعة؟ لما نذرت امرأة عمران والدة مريم ما في بطنها لخدمة الهيكل، جاءت بها إلى خدام الهيكل، فكل واحد منهم أراد أن يكفلها وألقوا قرعة على ذلك، فكانت مريم نصيب زكريا، فقام بأمرها كما قال تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا. قال بعض العلماء: الحكمة في أنّ الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا (مريم) : هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس، ولينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له، ولهذا قال في الآية التالية: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.

_ (1) حديث صحيح رواه أحمد والشيخان والنسائي.

قصة عيسى عليه السلام [سورة آل عمران (3) الآيات 45 إلى 51] :

قصة عيسى عليه السلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) الإعراب: إِذْ ظرف زمان ماض، وهو بدل من قوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ في الآية السابقة. اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اسمه المسيح: جملة اسمية في موضع صفة لكلمة. وعِيسَى: بدل من المسيح.

البلاغة:

ابْنُ مَرْيَمَ إما بدل من عِيسَى أو خبر مبتدأ محذوف وتقديره: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون وصفا لعيسى لأن اسمه عيسى فقط، وليس اسمه: عيسى بن مريم. وإذا كان كذلك وجب إثبات الألف في الخط من قوله: ابن مريم لأن الألف من ابْنُ إنما تسقط إذا وقعت وصفا بين علمين، ولا يجوز أن يكون هاهنا وصفا، فوجب أن تثبت. وَجِيهاً وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: كل ذلك أحوال من عيسى. أَنِّي أَخْلُقُ فيه ثلاثة أوجه: الجر بدلا من بِآيَةٍ والرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أني أخلق، والنصب بدلا من «أن» في قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وهي في موضع نصب، وتقديره: جئتكم بأني قد جئتكم، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به. كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره: خلقا مثل هيئة الطير. وهاء فِيهِ إما أن تعود على الهيئة وهي الصورة بمعنى المهيأ، أو تعود على المخلوق لدلالة: أخلق عليه، أو تعود على الكاف في: كهيئة الطير لأنها بمعنى «مثل» . وَمُصَدِّقاً منصوب على الحال من تاء جِئْتُكُمْ أي جئتكم مصدقا. البلاغة: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ كناية عن الجماع، مثل الكناية عنه بالحرث واللباس والمباشرة. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يوجد طباق بين لفظي لِأُحِلَّ وحُرِّمَ. المفردات اللغوية: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ المراد بها عيسى، وسمي بالكلمة لأنه وجد بكلمة كُنْ فَيَكُونُ. الْمَسِيحُ لفظ معرب من العبرانية، وأصله: مشيحا لأنه مسح بالبركة أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، وهو دهن طيب الرائحة. وعيسى: معرب يسوع بالعبرانية. وَجِيهاً ذا جاه وكرامة في الدارين فِي الدُّنْيا بالنبوة وَالْآخِرَةِ بالشفاعة والدرجات العلا وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله فِي الْمَهْدِ مقر الصبي حين الرضاع وَكَهْلًا الكهل: الرجل التام السوي، وهو من بلغ الأربعين فأكثر قَضى أراد شيئا الْكِتابَ الكتابة والخط وَالْحِكْمَةَ العلم النافع وهو الذي يبصّر الإنسان بفقه الأحكام وسر التشريع. وَالتَّوْراةَ كتاب موسى وَالْإِنْجِيلَ كتاب عيسى الذي أوحي إليه به.

المناسبة:

أَنِّي أَخْلُقُ أصور، والخلق: التصوير والتكوين على مقدار معين، لا الإنشاء والاختراع كَهَيْئَةِ مثل صورة الطير الْأَكْمَهَ: من ولد أعمى الْأَبْرَصَ: الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا ويحيى أقارب عيسى، وذكر قصة أمه، ناسب أن يذكر قصة عيسى وكيفية ولادته. التفسير والبيان: اذكر يا محمد لقومك وقت أن قال جبريل من الملائكة: إن الله يبشرك يا مريم بعيسى الموصوف بالكلمة على معنى: نبشرك بمكون منه أو بموجود من الله، إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادي، استحق أن يوصف بهذه الصفة، وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات وجدت بكلمة الله كما ذكر عقب خلق عيسى بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ وذكر في مكان آخر: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] لكن في العرف تنسب الأشياء الأخرى إلى الأسباب العادية، وأطلق اسم الكلمة على عيسى مجازا كما قال تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء 4/ 171] . والمراد من الملائكة هنا جبريل، لقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم 19/ 17] وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم. اسمه المسيح الذي جاء لرفع الظلم وهداية الناس وإشاعة الأخوة الصادقة فيما بينهم، وكانت مملكته روحانية لا جسدية. والمسيح: لقب الملك عندهم، فهو من ألقاب المدح. وقال القرطبي: معناه الصدّيق. وإنما قيل: ابن مريم، مع أن الخطاب لها، إشارة إلى أنه ينسب لها، لولادته من غير أب، وليظل هذا الوصف ثابتا مقررا في الأذهان في كل زمان،

وردا على من ألّهه، وبيانا لمكانتها وتكريما لها. وهو ذو وجاهة في الدنيا لما له من مكانة عند أتباعه والمؤمنين، وفي الآخرة بين الناس، ومن المقربين إلى الله يوم القيامة. ويمتاز أيضا بأنه يكلم الناس وهو رضيع في المهد، وفي حال الكهولة وتمام الرجولة، كلاما متزنا معقولا. وهذا يشير إلى أنه سيكون رجلا سويا. قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصة الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام. وكانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش. وهو كذلك من الصالحين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والاستقامة وصلاح الحال. ولما بشرت مريم بعيسى المتصف بما ذكر، قالت متعجبة: كيف يكون لي ولد، وليس لي زوج؟ فأجابها الله: مثل هذا الخلق المتعجب منه وهو خلق الولد بغير أب، يخلق الله ما شاء، فخلق السماء والأرض، وخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق جميع الموجودات في الأصل من غير سبب ظاهر. وسبب التعبير في قصة زكريا وابنه يحيى بقوله تعالى: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وفي قصة خلق عيسى بقوله: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ: هو أن إيجاد يحيى من شيخين عجوزين كإيجاد سائر الناس في العادة، فعبر عنه بالفعل، وأما إيجاد عيسى فهو من أم بلا أب، خلافا للمعتاد في التوالد، بل بمحض القدرة الإلهية، وهو أبلغ من إيجاد يحيى، فناسب التعبير عنه بالخلق والإيجاد والإبداع، لكونه من غير سبب عادي. ثم أعقبه بما يناسبه ويؤكده فقال: إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني، لا الأمر التكليفي في مثل قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وهذا تبيان لعظمة الله، ونفاذ أمره ومشيئته، وسرعة إنجاز مطلوبه، تقريبا للأذهان، وإلا فالإيجاد أسرع مما هو قائم بين حرفي

كُنْ. وهو يشبه قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت 41/ 11] . وهناك خلق آخر أعظم من خلق عيسى وهو خلق آدم من غير أب ولا أم: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] . فهذه الأحوال في الخلق على نحو غير عادي دليل على قدرة الله المطلقة، وإرادة تكميل الكون بعجائب المخلوقات. ومن أوصاف عيسى: أن الله يعلمه الكتابة والخط، والعلم النافع الذي يبعث النفس إلى تنفيذ الفعل ويرشد إلى أسرار الأحكام، ويعرفه التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أوحي إليه. وأنه رسول مرسل إلى بني إسرائيل، مؤيد بآيات تدل على صدق رسالته وهي: 1- أنه يصور من الطين صورة على قدر معين كصورة الطير، لا ينشئ ويخترع من الطين هيئة جديدة، فينفخ فيه، فيكون طيرا بقدرة الله ومشيئته، لا بقدرته وأمره، فإنه مخلوق لا يقدر على هذا. روي أنهم طالبوه بخلق خفّاش، فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير، وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، وليعلم أن الكمال لله. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز من خلق الله. 2، 3- ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله: وتخصيصهما بالذكر لأن مداواتهما أعيت الأطباء، علما بأن الطب كان متقدما في زمن عيسى، فأراهم

الله المعجزة من جنس الطب. قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب في مصر على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند الله العظيم الجبار، انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره. وقد أحيا صديقا له اسمه عازر، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال. وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتحليق الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، لم يستطيعوا أبدا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا أن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا. 4- وأخبركم بما تأكلونه، وما تخبئونه وتحفظونه للمستقبل في بيوتكم. والفرق بين إخبار النبي بالمغيباب وإخبار المنجمين والكهنة: أن النبي يخبر بإعلام الله من غير اعتماد على شيء آخر، أما الكاهن والمنجم فيعتمد على طرق الاحتيال واستخدام بعض الأسباب المؤدية إلى معرفته كالنجوم والجن وبعض الإنس. إن في ذلك لدليلا قاطعا على صدق رسالتي، إن كنتم مصدقين بآيات الله الباهرة، مقرين بتوحيده وبقدرته الكاملة على كل شيء. 5- وجئتكم مصدقا لما تقدم من التوراة، لا ناسخا لها، ولا مخالفا أحكامها إلا ما خفف الله في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، كما قال تعالى: وَلِأُحِلَّ

فقه الحياة أو الأحكام:

لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي بعض الطيبات التي كانت محرمة على بني إسرائيل بظلمهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء 4/ 160] قيل: من ذلك: السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت. وما عدا ذلك جئت متفقا مع التوراة في أصول الدين كالتوحيد والبعث وفضائل الأخلاق، جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام: «ما جئت لأنقض الناموس- أي شريعة التوراة- ولكن لأكمله» . 6- وجئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقي وصحة رسالتي. كرر ذلك للتأكيد وليبني عليه الأمر بالتقوى. وقد وحد الآية وهي آيات لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته. فاتقوا الله في المخالفة، وأطيعوا فيما أدعوكم إليه وهو توحيد الإله: إن الله ربي وربكم، فاعبدوه، وهذا هو الطريق السوي الذي اتفقت عليه الرسل قاطبة، وهو المؤدي إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن تعدى ذلك فهو في ضلال. ففي هذا تلخيص لمهمة الرسالة وهي الأمر بالتقوى وإطاعة الله، والإقرار بالتوحيد: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، والاعتراف بالعبودية والخضوع لله، وهو منهج الحق المبين في مريم وابنها. وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. والأب: السيد في تلك اللغة، بدليل أنه قال: وأبي وأبيكم، فعلم أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة. فقه الحياة أو الأحكام: ذكرت الآيات بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بأنه سيوجد منها ولد

عظيم، له شأن كبير، يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له: كن فيكون، واسمه المسيح مشهور في الدنيا يعرفه المؤمنون، وله وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب والحكمة، وله وجاهة في الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه أولي العزم من الرسل عليهم السلام. ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، وهو صالح القول والعمل. روى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريج» . وروى مسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاث: عيسى، وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر» . وهذا حصر نسبي في وقت ما، ثم أخبر الله نبيه في وقت آخر بآخرين، ومجموعهم سبعة: شاهد يوسف، وصبي ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج، وصاحب الجبار، وصبي قصة الأخدود: وهو- كما في مسلم وغيره- أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي يرضع، فتقاعست أن تقع فيها، فقال الغلام: يا أمّه، اصبري، فإنك على الحق. ودل قوله تعالى: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ على أن أمر الله عظيم لا يعجزه شيء. وأكده بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فلا يتأخر شيئا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] . أي إنما نأمر مرة واحدة دون تكرار ولا تثنية، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر. ودلت الآيات على خصائص عيسى عليه السلام وما أيده الله به من معجزات

عيسى مع قومه المؤمنين والكفار [سورة آل عمران (3) الآيات 52 إلى 58] :

خارقة للعادة، وهي كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة. وكان عيسى أحد الرسل إلى بني إسرائيل. روي أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفع إلى السماء. ولا تختلف دعوة عيسى عن دعوات سائر الأنبياء، كما أوضحت هذه الآيات، فهو يدعو إلى تقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه، ويأمر بالتوحيد والاعتراف بالعبودية لله، وذلك هو الصراط المستقيم أي أقرب طريق موصل إلى الله تعالى. عيسى مع قومه المؤمنين والكفار [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

الإعراب:

الإعراب: إِذْ قالَ اللَّهُ إذ: تتعلق بفعل مقدر، تقديره: اذكر أني متوفيك ورافعك إليّ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وجهان: إما أنه معطوف على ما قبله، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما قبله خطاب لعيسى، وإما أنه معطوف على مُتَوَفِّيكَ وكلاهما لعيسى. مِنَ الْآياتِ حال من الهاء في نَتْلُوهُ وعامله ما في ذلك من معنى الإشارة. البلاغة: فَلَمَّا أَحَسَّ استعارة، إذ الكفر ليس بمحسوس وإنما يعلم ويفطن به. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ من باب المشاكلة. ويوجد جناس اشتقاق بين مَكَرُوا والْماكِرِينَ. فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، تنويعا للفصاحة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب. المفردات اللغوية: أَحَسَّ علم علما لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس. واستعمالها في إدراك الأمور المعنوية مجاز مَنْ أَنْصارِي أعواني إِلَى اللَّهِ أي مع الله، فإلى بمعنى مع، أو من أعواني في السبيل إلى الله لأنه دعاهم إلى الله عز وجل، أو من يضم نصرته إلى نصرة الله عز وجل. قالَ الْحَوارِيُّونَ: واحدهم حواري، وحواري الرجل: صفيّه وناصره، فالحواريون: هم أصحاب عيسى وأنصاره وأصفياؤه. والحور: البياض الخالص، وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم «1» . ورد في الصحيحين: «لكل نبي حواري، وحواريّ الزبير» . نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أعوان دينه، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا. بِأَنَّا مُسْلِمُونَ منقادون لما تريده منا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق.

_ (1) وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها.

سبب النزول نزول الآية (58) :

وَمَكَرُوا المكر: تدبير خفي يفضي بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيء. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم به وأعرفهم بالتدابير، وهو المجازي على المكر. وكان مكر كفار بني إسرائيل بعيسى: أن وكلوا به من يقتله غيلة، ولكن الله ألقى شبه عيسى على من قصد قتله، فقتلوه، ورفع عيسى إلى السماء. إِنِّي مُتَوَفِّيكَ التوفي: أخذ الشيء وافيا تاما، ثم استعمل بمعنى الإماتة، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر 39/ 42] فمعنى مُتَوَفِّيكَ قابضك. وَرافِعُكَ إِلَيَّ من الدنيا من غير موت، فإذا كان عيسى حيا حين الرفع كان في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: أني رافعك إليّ ومتوفيك، والواو لا تدل على الترتيب. وقيل: معنى: إني متوفيك: قابضك ورافعك إلي، أي إلى كرامتي. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مبعدك، وتطهيره من الذين كفروا: براءته مما كانوا يزمونه به بتهمة أمه بالزنا. وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وهم اليهود، والفوقية بمعنى العلو عليهم بالحجة والسيف. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يشمل المسيح والمختلفين معه والاختلاف بين أتباعه والكافرين به. عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والجزية وَالْآخِرَةِ بالنار ناصِرِينَ مانعين منه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يعاقبهم ذلِكَ المذكور من أمر عيسى نَتْلُوهُ نقصه وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ المحكم أي القرآن. سبب النزول: نزول الآية (58) : أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راهبا نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعجل حتى يؤامر ربه، فنزل عليه ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إلى قوله مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وسيأتي بيان روايات أخرى في بيان سبب نزول آية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إلى قوله مِنَ الْمُمْتَرِينَ. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى معجزات وخصائص عيسى عليه السلام، ذكر هنا

التفسير والبيان:

قصته مع قومه، حيث دعاهم للإيمان، فآمن به بعضهم، وأعرض الآخرون، وما لقيه منهم من إيذاء وعزم على قتله، وإنجائه منهم برفعه إليه، وإنذار الكافرين بالعذاب الشديد، ومجازاة المؤمنين الذين عملوا الصالحات. وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن الأدلة وحدها لا تؤدي إلى الإيمان، وإنما لا بد من هداية الله وتوفيقه. التفسير والبيان: لما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالتصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، وتحقق من ذلك، أراد التعرف صراحة عن المؤمنين بدعوته، فقال: من يتبعني إلى الله، ومن ينصرني ملتجئا إلى الله؟ والظاهر أنه يريد: من أنصاري في الدعوة إلى الله، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مراسم الحج قبل أن يهاجر: «من رجل يؤويني حتى أبلّغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي؟» فوجد الأنصار، فآووه ونصروه وهاجر إليهم، فواسوه ومنعوه من الأعداء. وهكذا عيسى انتدب طائفة من بني إسرائيل لنصرته، فآمنوا به وآزروه ونصروه، كما جاء في آية أخرى: «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ [الصف 61/ 14] . قال الحواريون أي الأنصار: نحن أنصار دين الله وجنوده المخلصون المؤيدون دعوتك، آمنا بوجود الله وبوحدانيته إيمانا صادقا، واشهد بأنا مسلمون، أي خاضعون منقادون لأوامره، وجوهر الإسلام متفق عليه بين كل الأديان. ثم تضرعوا إلى الله قائلين: ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك

بالصدق. وذكر الاتباع في قولهم دليل على صحة الإيمان، لأن الإيمان يقتضي العمل. ثم أخبر الله تعالى عن مؤامرة جماعة من بني إسرائيل على قتل عيسى، فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافرا: أن هنا رجلا يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، وهذا هو مكرهم بتوكيل من يقتله غيلة، فأبطل الله مكرهم وأفسد تدابيرهم، إذ بعث الملك في طلبه لأخذه وصلبه والتنكيل به، فلما أحاطوا بمنزله، وظنوا أنهم قد ظفروا به، بإلقاء شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، نجّاه الله تعالى من بينهم، ورفعه إلى السماء. والله خير المدبرين، وأنفذهم خطة، وأحكمهم وأقواهم صنعا، وأقدرهم على إضرارهم، وإتمام حكمته، وإنفاذ مشيئته، وتركهم في ضلالهم يعمهون: يعتقدون أنهم قد ظفروا بمطلبهم، وحققوا مأربهم. وقال أبو حيان: معناه: أي المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل لأنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب «1» . ثم ذكر الله رفع عيسى إلى السماء مخاطبا نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقائلا: اذكر يا محمد حين قال الله لعيسى: إني موفيك أجلك كاملا، ورافعك إلي، وهذه بشارة له بنجاته من كيدهم وتدبيرهم. وللمفسرين رأيان في تأويل هذه الآية: 1- إن في الآية تقديما وتأخيرا: والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك من

_ (1) البحر المحيط: 2/ 472

الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، أي أنه رفعه إلى السماء حيا بجسمه وروحه، وسينزل في آخر الزمان، فيحكم بشريعة الإسلام، ثم يميته الله. وهذا ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» . 2- التوفي: الإماتة العادية، والرفع: رفع الروح والمكانة، لا المكان، كما قال تعالى في شأن إدريس عليه السلام: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم 19/ 57] وقال في شأن المؤمنين: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر 54/ 55] ويكون المعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان علي رفيع. ويؤيد التأويل الأول أكثر العلماء، وقال بعضهم وهو الربيع بن أنس: المراد بالوفاة هاهنا: النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر 39/ 42] وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا، بعد ما أماتنا» . وقال القرطبي: والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس. وذكر الله تعالى قصة صلب عيسى ورفعه في آيات أخرى هي: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النساء 4/ 156- 159] . والضمير في قوله قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن

بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام. ثم أبان الله تعالى بعض وجوه أخرى من إكرام عيسى عليه السلام، فقال: وجاعل الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله، وصدقوه في قوله، واتبعوا دينه فوق الذين كفروا أي أعلى منهم، وهي إما فوقية روحانية: وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد عن الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وليس ذلك أمرا مطردا دائما في كل وقت، مما يرجح كون الفوقية روحانية ومعنوية وأدبية. هذه الفوقية في صحة العقيدة وسمو الآداب والأخلاق وقوة الحجة وعلو القدر تدوم لأهل الإيمان إلى يوم القيامة. ثم مصيركم جميعا إلى يوم البعث، فأحكم بينكم فيما اختلفتم فيه من أمور الدين. ثم بيّن الله جزاء المحق والمبطل: فأما الذين كفروا بعيسى وكذبوه وهم اليهود فلهم عذاب في الدنيا بذنوبهم بالإذلال والقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، وعذاب في الآخرة بنار جهنم، وما لهم في الآخرة من نصير ولا معين. وأما الذين آمنوا بعيسى وصدقوا بنبوته وبما جاء به من عند الله، وعملوا صالحا بتنفيذ الأوامر وترك النواهي، فيعطيهم الله أجورهم كاملة غير منقوصة. ثم أكد تعالى جزاء الكافرين فقال: والله لا يحب الظالمين أي يعاقبهم ويجازيهم بما يستحقون، أو لا يريد ظلم الظالمين. هذه الأخبار عن عيسى نتلوها عليك يا محمد، وهي من الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتك، وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبرة والحكمة

فقه الحياة أو الأحكام:

والعظة في الأخبار والأحكام، فيهتدي المؤمنون بها إلى الحق ومعرفة سر الشريعة وجوهر الدين. وشبيه ذلك قوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [مريم 19/ 34- 35] . فقه الحياة أو الأحكام: أصحاب الدعوات الإصلاحية وعلى رأسهم الأنبياء يتعرضون بسبب دعوتهم إلى مختلف أنواع الأذى والطرد ومحاولة الاغتيال. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية ألا ينضب الخير والفلاح بين الناس، فيهيّئ أناسا يؤازرون المصلحين، ويحتاج القائد إلى أن يتعرف على أتباعه وأنصاره المخلصين، كما فعل عيسى عليه السلام بالتعرف على الحواريين، ليعتمد عليهم وقت الشدة والأزمة، ويساعدونه في تحمل عبء الدعوة إلى الله، وهذا هو المراد بقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. ولما أخرج بنو إسرائيل عيسى وأمه من بين أظهرهم، عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهموا بقتله، وتواطؤوا على الفتك به، فذلك مكرهم. ومكر الله في رأي الفراء: استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، وفي رأي الزجاج: مكر الله: مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهُوَ خادِعُهُمْ وهذا على طريق المشاكلة، وهو الرأي المشهور بين العلماء: رأي الجمهور. والصحيح لدى المحققين من العلماء أن الله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء من غير وفاة ولا نوم. وسينزل في آخر الزمان. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركنّ القلاص «1» ،

_ (1) القلاص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.

الرد على من زعم ألوهية عيسى والمباهلة [سورة آل عمران (3) الآيات 59 إلى 63] :

فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد» . وأما تطهيره من الذين كفروا: فهو إنجاؤه مما كانوا يرمونه به، أو يرومونه منه، ويريدونه به من الشر. وأما قوله وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ففيه رأيان: قال الضحاك ومحمد بن أبان: المراد الحواريون. وقال آخرون: الخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والفوقية: بالحجة وإقامة البرهان، وقيل: بالعز والغلبة. والتفوق بالحجة على صحة دين الإسلام بالمعنى العام الذي يتفق عليه جميع الأنبياء وأتباع عيسى وموسى وغيرهم من أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم: هو الأولى، مثل آية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. [النور 24/ 55] . وجزاء الكافرين: النار في الآخرة، والقتل والصلب والسبي والإذلال في الدنيا. وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات: السعادة والاطمئنان في الدنيا، والجنة في الآخرة، فهي سعادة في الدارين. الرّدّ على من زعم ألوهية عيسى والمباهلة [سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

الإعراب:

الإعراب: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للمثل، وهي موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ما المثل؟ فقال: خلقه من تراب، أي المثل خلقه من تراب. ولا يجوز أن يكون وصفا لآدم لأن آدم معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف بالنكرة. ولا يجوز أيضا أن يكون حالا لأن خَلَقَهُ فعل ماض، والفعل الماضي لا يكون حالا. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الحقّ من ربّك، أو هو الحقّ، أي أمر عيسى. وَما مِنْ إِلهٍ من: زائدة للتوكيد. البلاغة: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أتى بوصف الربوبية وأضافه إلى الرّسول عليه الصلاة والسلام لتشريفه. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ هذا من باب الإثارة والإلهاب، لزيادة التّثبيت. المفردات اللغوية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى المثل: الشأن الغريب والحال المدهشة. عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أوقع في النفس وأقطع لقول الخصم. والمراد أنّ شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق، كشأن آدم في ذلك، ثم فسّر هذا المثل بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي خلق قالبه وقدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميّت أصابه الماء، فكان طينا لازبا لزجا. ثم قال له: كن بشرا، فكان، وكذلك عيسى قال له: كن من غير أب فكان. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فيه، الامتراء: الشّك. فَمَنْ حَاجَّكَ جادلك من النصارى. ثُمَّ نَبْتَهِلْ نتضرّع في الدّعاء، وابتهل القوم: تلاعنوا، والبهلة: اللعنة. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ بأن نقول: اللهمّ العن الكاذب في شأن عيسى. وقد دعا صلّى الله عليه وسلّم وفد نجران لذلك، لما حاجوه به، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فقال ذو رأيهم- مستشارهم، واسمه «العاقب» : «لقد عرفتم نبوّته، وأنه ما باهل قوم نبيّا إلا هلكوا» ، فودّعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد خرج، ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وقال لهم: إذا دعوت، فأمّنوا، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية. رواه نعيم.

سبب النزول:

الْقَصَصُ الخبر. الْحَقُّ الذي لا شكّ فيه. الْعَزِيزُ أي ذو العزّة الذي لا يغالبه أحد في ملكه. الْحَكِيمُ ذو الحكمة الذي لا يساميه أحد في صنعه. سبب النزول: قال المفسّرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال: أجل، إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية «1» . المناسبة: ذكر الله تعالى سابقا قصة عيسى وأمه، وإيمان بعض قومه به، وكفر بعض آخر، وهنا ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه «كلمة الله وروح الله» : أنّ الله حلّ في أمه، وأن كلمة الله تجسّدت فيه، فصار إنسانا وإلها ذا طبيعة مزدوجة، فردّ الله عليهم بأن خلق آدم أعجب من خلق عيسى. التفسير والبيان: إن صفة عيسى في قدرة الله حيث خلقه من غير أب كمثل آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل خلقه من تراب، وقدره جسدا من طين، ثم قال له: كن فيكون أي أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه. شبّه الغريب بالأغرب منه، والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب، والشيء قد يشبّه بالشيء لاتّفاقهما في وصف واحد، وإن اختلفا في أمور أخرى. فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى،

_ (1) البحر المحيط: 2/ 477

وإن جاز ادّعاء النبوّة في عيسى، لكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ادعائها في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتّفاق أن ذلك باطل، فدعوى النبوّة في عيسى أشدّ بطلانا. ولكن الله تعالى أراد أن يظهر قدرته للناس حين خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى. ولهذا قال تعالى في سورة مريم: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [21] ، وقال هنا: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. هذا الذي أخبرتك به من شأن عيسى ومريم هو القول الحق، لا ما اعتقده النصاري في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النّجار. فلا تشكنّ في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وهذا النهي يثير في النّبي وأمّته ضرورة الاعتصام باليقين واطمئنان النفس إلى الخبر الإلهي. أي واظب على يقينك وطمأنينة نفسك إلى الحقّ والبعد عن الشّك فيه، أو أن الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن شاكّا في أمر عيسى عليه السّلام. فمن جادلك في شأن عيسى عليه السّلام بعد معرفة الحقّ واليقين فادعهم إلى المباهلة أي الملاعنة: بأن نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته. وهذه الآية تسمى آية المباهلة. وقد ثبت أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم دعا نصارى نجران للمباهلة، فأبوا. جاء في سيرة ابن إسحاق: أنه قدم سنة تسع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستون راكبا: فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، منهم: «العاقب» واسمه عبد المسيح، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. ومنهم السيّد وهو الأيهم، وكان عالمهم، ومنهم أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وكان أسقفهم. فدخلوا بعد العصر

مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلوا صلاتهم إلى المشرق، ثمّ كلّموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا عن عيسى: هو الله، هو ولد الله، هو ثالث ثلاثة، فنزل القرآن للرّدّ عليهم. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: أنه جاء العاقب والسيّد صاحب نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيّا، فلاعناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقال: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حق أمين، قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح، فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمّة. وروي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما: الحسن والحسين، وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت، فأمّنوا أنتم. وبعد أن رفضوا المباهلة صالحوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية: وهي دفع ألف حلّة في صفر، وألف في رجب ودراهم. وهذا يدلّ على قوة اليقين والثّقة بما يقول، وعلى أن امتناعهم عن المباهلة فيه تقرير للخطر وكونهم على غير بيّنة فيما يعلنون، فما أمكنهم الإقدام على المباهلة. إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو القصص الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال، لا ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدّعيه اليهود من كونه ابن زنا. وسمّيت قصصا لأن المعاني تتابع فيها. وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغلبه أحد، الحكيم: ذو الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح المناسب له. فإن أعرضوا بعد هذا عن اتّباعك وتصديقك، ولم يعلنوا وحدانية الله، ولم يجيبوا

فقه الحياة أو الأحكام:

إلى المباهلة، فإن الله عليم (واسع العلم) بحال المفسدين، وسيجازيهم على أعمالهم شرّ الجزاء. وكلّ من عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد، والله قادر عليه لا يفوته شيء. فقه الحياة أو الأحكام: إن عجائب الخلق وخلق الكائنات وأمر الخليقة تدلّ على وجود الخالق وهو الله تعالى، كما قال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام 6/ 73] . ومن خلقه تعالى: خلق الناس على وفق قوانين عادية، أو على غير العادة، مثل خلق آدم، وحواء، وعيسى. وعقد الشّبه بين آدم وعيسى هو في أنهما خلقا من غير أب، وذلك للرّدّ على وفد نجران الذين أنكروا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: إن عيسى عبد الله وكلمته، فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب؟! فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: آدم، من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه السّلام ليس له أب ولا أم. وآية المباهلة حدّ فاصل في الجدال لأن اللعنة محقّقة فيها على الكاذب. وهذه الآية من أعلام نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه دعاهم إلى المباهلة، فأبوا ورضوا بالجزية، بعد أن أعلمهم كبيرهم: العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا، فإن محمدا نبيّ مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى فتركوا المباهلة، وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلّة في صفر، وألف حلّة في رجب، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك بدلا من الإسلام. ودلّ قوله تعالى: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحسن: «إنّ ابني هذا سيّد» «1» على خصوصية تسمية الحسن والحسين: ابني النّبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيرهما، لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» «2» .

_ (1) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي بكرة. (2) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر.

الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وملة إبراهيم [سورة آل عمران (3) الآيات 64 إلى 68] :

الدّعوة إلى توحيد الله وعبادته وملّة إبراهيم [سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) الإعراب: سَواءٍ صفة لكلمة، أي كلمة مستوية. أَلَّا نَعْبُدَ بدل مجرور من كلمة. ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره: هي ألا نعبد إلا الله، أو جعله مبتدأ، أي بيننا وبينكم ترك عبادة غير الله. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه، وأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره. حاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى أي أنتم هؤلاء أنكم جادلتم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: خبر إن. وَهذَا عطف عليه. النَّبِيُّ صفة لهذا أو بدل منه أو عطف بيان. البلاغة: كَلِمَةٍ مجاز إذ أطلق الواحد على الجمع. أَرْباباً فيه تشبيه طاعتهم لرؤساء الدّين في أمر التحليل بالرّب المستحق وحده للعبادة. أَوْلَى وأَوْلَى فيه جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يا أَهْلَ الْكِتابِ هم اليهود والنصارى. تَعالَوْا أقبلوا. سَواءٍ مستو أمرها بين الفريقين، والسّواء: العدل والوسط الذي لا تختلف فيه الشرائع. أَرْباباً جمع ربّ: وهو السّيّد المربي المطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا: ما له حق التشريع من تحريم وتحليل. أما الإله: فهو المعبود الذي يدعى حين الشدائد ويقصد عند الحاجة لأنه مصدر الفرج. مُسْلِمُونَ منقادون لله مخلصون له موحدون. تُحَاجُّونَ تخاصمون وتجادلون. حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائفة الباطلة إلى الدّين الحق القيّم. مُسْلِماً موحّدا مخلصا مطيعا له. إِنَّ أَوْلَى أحق. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ناصرهم وحافظهم. سبب النزول: نزول الآيات (65- 67) : أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ الآية» . نزول الآية (68) : سأل اليهود قائلين: والله يا محمد، لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وإنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكلّ نبيّ ولاة من النّبيين، وإن وليي أبي وخليل ربي، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ الآية.

المناسبة:

المناسبة: أقام القرآن الحجة على النصارى في ادّعائهم ألوهية المسيح، ثم دعا هنا اليهود والنصارى إلى أصل الدّين وروحه الذي اتّفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو توحيد الله وعبادته، والاقتداء بإبراهيم أبي الأنبياء عليهم السّلام إذ أن ملّته ملّة الإسلام، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا. التفسير والبيان: قل يا محمد: يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى جميعا، أقبلوا وهلمّوا إلى كلمة عادلة وسطى سواء بين الفريقين اتّفقت عليها جميع الشرائع والرّسل والكتب التي أنزلت إليهم، فأمرت بها الصّحف والكتب الأربعة: التّوراة والزّبور والإنجيل والقرآن، وهي كلمة التّوحيد: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وعبادة الله وتفويض سلطة التشريع والتحليل والتحريم إليه، وعدم الشرك به شيئا، وعدم اتّخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، كالوثن والصليب والصنم والطاغوت والنار. هذه الآية حوت وحدانية الألوهية في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، ووحدانية الرّبوبية في قوله: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. وهذه دعوة جميع الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . وكان اليهود موحدين، ولكن مفهوم الإله فيهم أصبح ليس هو الإله الحق، واتبعوا رؤساء الدين فيما يخترعون من أحكام، وكذلك كان النصارى موحدين وما زالوا يدعون الوحدانية، لكنهم انتقلوا من ادعاء نبوة عيسى لله والتثليث إلى

ادعاء ألوهيته وأن الثلاثة واحد، وهو عيسى، ورفضت فرقة الإصلاح «البروتستانت» فكرة ألوهية عيسى. روى عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [31] فقلت له: يا رسول الله، لم يكونوا يعبدونهم، فقال: ما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال: نعم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: هو ذاك» ، وعلى هذا خوطب أهل الكتاب بهذا الخطاب لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب. فإن أعرضوا عن هذه الدعوة أو التحكيم، وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، فقولوا لهم: إنا مسلمون حقا، منقادون لله، مخلصون له الدّين، لا نعبد أحدا سواه، ولا نطلب النّفع أو دفع الضّرر من غيره، ولا نحلّ إلا ما أحلّه الله، ولا نحرّم إلا ما حرّمه الله. وهذه الآية هي جوهر رسائل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكتبه إلى ملوك وأمراء العالم من أهل الكتاب وغيرهم، مثل كسرى ملك الفرس الوثنيين، وهرقل ملك الرّوم النصارى، والنّجاشي النّصراني والمقوقس عظيم أقباط مصر وغيرهم. واشتملت كل تلك الكتب على هذه الآية، وهنا أذكر كتابه إلى هرقل، جاء في صحيح مسلم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم. سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين- أي الشعب من فلاحين وخدم وأتباع وغيرهم، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .

المحاجة في انتماء إبراهيم:

المحاجّة في انتماء إبراهيم: أيها اليهود والنصارى، لم تتنازعون في إبراهيم الخليل عليه السلام ويدّعي كل منكم أنه كان منكم على دينه؟ كيف تدّعون أيها اليهود أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ فما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأزمان طويلة، قيل: كان بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالي ألف سنة. لهذا قال تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أن المتقدم على الشيء لا يكون تابعا له؟ وألا تعقلون ضعف حجّتكم وانهيارها وبطلان قولكم؟ ثم أشار الله تعالى إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه، فقال: ها أنتم هؤلاء تجادلون وتحاجّون فيما لكم به علم ومعرفة من أمر عيسى «1» عليه السّلام مما نطق به التّوراة والإنجيل، وقد قامت عليكم الحجّة وظهر الغلط، فكيف تحاجّون، وعلى أي أساس تجادلون في شأن إبراهيم عليه السّلام أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وليس لكم به علم ولا نزل في شأنه شيء في دينكم وكتبكم، فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، وأنتم لا تعلمون إلا ما عرفتم وعاينتم وشاهدتم أو سمعتم؟ فهذا إنكار من الله عليهم مثل تلك الدّعاوى والمحاجّة في إبراهيم والمحاجّة فيما لا علم لهم به، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقيقتها.

_ (1) وقال القرطبي: يعني في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يعلمونه من نعته في كتابهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم جاء القرار الإلهي الحاسم في شأن إبراهيم، وهو أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية، مسلما منقادا لله مطيعا لأوامره، مجتنبا نواهيه، فأهل دينه الذين هم على منهاجه وشريعته هم أهل الإسلام، فهم الصادقون، وأما اليهود والنصارى فهم الكاذبون. وما كان أيضا من المشركين الذين يسمون أنفسهم الحنفاء، ويدّعون أنهم على ملّة إبراهيم، وهم قريش ومن تبعهم من العرب. ثم أكّد تعالى ما سبق بقوله: إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته هم المؤمنون بالله وحده لا شريك له، المخلصون له الدّين، وهذا النّبي محمد والذين آمنوا معه، فهم أهل التوحيد المتفقون على وحدانية الله وألوهيته وربوبيته، وهذا هو روح الإسلام، والله ناصر المؤمنين ومؤيدهم، وموفقهم ومتولي أمورهم ومصلح شؤونهم، بإرسال الرّسل إليهم. فقه الحياة أو الأحكام: إن إطاعة غير الله تعالى من الأحبار وعلماء الدّين في الأحكام الشرعية بالتحليل والتحريم يجعل الأحبار كالأرباب، وهذا يقتضي تخصيص الطاعة لله تعالى. وإن ملتقى الأديان هو الانصياع تحت راية التوحيد وهي كلمة «لا إله إلا الله» وعبادته وحده، والاعتماد في التشريع على الله تعالى فهو مصدر الشرائع الحقّ. لذا خاطبهم القرآن بقوله: أجيبوا إلى ما دعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وهي قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ. ودلّ قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ على أنه لا يجوز اتّباع من سوى الله في تحليل شيء أو تحريمه، إلا فيما حلله الله تعالى،

وهو نظير قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] ، معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربّهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرّمه الله ولم يحلّه الله. وفي هذا حجّة على أنّ مسائل الدّين كالعبادات والتّحريم والتّحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النّبي المعصوم، لا بقول إمام ولا فقيه، وإلا كان إشراكا في الرّبوبية، وهذا ما ندّد به القرآن في آيات مثل قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 42/ 21] ، وقوله: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ، وَهذا حَرامٌ [النحل 16/ 116] . أما المسائل الدّنيوية كالقضاء والسياسة فهذه فوّض أمرها إلى أهل الحلّ والعقد وهم أهل الشورى، فما أمروا به وجب تنفيذه وقبوله. وإن أعرض أهل الكتاب عما دعوا إليه وهي الكلمة السواء نقول: نحن مسلمون أي متّصفون بدين الإسلام، منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من النّعم، غير متّخذين أحدا ربّا، لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة لأنهم بشر مثلنا، ولا نقبل من الرّهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرّمه الله علينا، فنكون قد اتّخذناهم أربابا. وأبين آية وحجّة على اليهود والنصارى الذين ادّعوا أن إبراهيم كان على دين كل منهم آية: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ ... فهي تكذبهم بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده، وذلك قوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملّة حادثة بعده؟ هذا فضلا عن أن اليهودية ملّة محرّفة عن ملّة موسى عليه السلام، والنّصرانية ملّة محرّفة عن شريعة عيسى عليه السلام. ودلّت آية: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ ... على المنع من الجدال لمن لا علم

محاولة بعض أهل الكتاب إضلال المسلمين والتلاعب بالدين والعصبية الدينية [سورة آل عمران (3) الآيات 69 إلى 74] :

له. أما الجدال لمن علم وأيقن، والاحتجاج للحقّ فهو جائز، لقوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] ، ومثاله: ما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق «1» ؟ قال: نعم. قال: «فمن أين ذلك؟» قال: لعل عرقا نزعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وهذا الغلام لعل عرقا نزعه» ودلّت هذه الآية على وجوب المحاجّة في الدّين وإقامة الحجّة على المبطلين، كما احتجّ الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام، وأبطل بها شبهتهم. وإبراهيم كان على الحنيفية الإسلامية، ولم يكن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا، وأحقّ الناس بإبراهيم ونصرته: هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده، وكانوا حنفاء مسلمين مثله غير مشركين، وأيضا هذا النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد. والله ولي المؤمنين، أي ناصرهم. أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النّبيين، وإن وليي أبي وخليل ربّي، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ» . محاولة بعض أهل الكتاب إضلال المسلمين والتلاعب بالدين والعصبية الدينية [سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

_ (1) الأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة.

الإعراب:

الإعراب: أَنْ يُؤْتى مفعول به لتؤمنوا، وتقدير الكلام: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم، فتكون لام لِمَنْ على هذا زائدة وهو اختيار السيوطي، ومن في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. ويجوز أن تكون اللام غير زائدة، ومتعلّقة بفعل مقدّر دلّ عليه الكلام لأن معناه: لا تقرّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فتتعلّق الباء واللام (بتقروا) . والتأويل عند الزمخشري: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أي أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم. وجملة قُلْ: إِنَّ الْهُدى.. اعتراضية. وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى. والضمير في يُحاجُّوكُمْ عائد لكلمة أَحَدٌ لأنه في معنى الجمع. البلاغة: الْحَقَّ وبِالْباطِلِ بينهما طباق. يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ فيهما جناس تام. المفردات اللغوية: وَدَّتْ أحبّت ورغبت. طائِفَةٌ جماعة وهم الأحبار والرؤساء. يُضِلُّونَكُمْ

سبب النزول:

يوقعونكم في الضلال بالرّجوع عن دين الإسلام والمخالفة له، والضلال: نوع من الهلاك. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن إثم إضلالهم عليهم، والمؤمنون لا يطيعونهم فيه. بِآياتِ اللَّهِ ما يدلّ على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو القرآن المشتمل على نعته عليه الصلاة والسلام. تَلْبِسُونَ تخلطون الحقّ بالباطل، بالتّحريف والتّزوير. وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي نعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق. وَجْهَ النَّهارِ أوله. لَعَلَّهُمْ أي المؤمنين. يَرْجِعُونَ عن دينهم. وَلا تُؤْمِنُوا تصدقوا. قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والجملة اعتراضية. إِنَّ أي بأن، وأن: مفعول تؤمنوا. مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكتاب والحكمة والفضائل. أَوْ يُحاجُّوكُمْ أي بأن يحاجّوكم وهم المؤمنون، أي يغلبوكم بالحجّة. الْفَضْلَ الزيادة، والمراد به هنا النّبوة. سبب النزول: نزول الآية (69) : نزلت في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان حين دعاهم اليهود إلى دينهم. نزول الآية (72) : روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل الله على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعوا عن دينهم، فأنزل الله فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إلى قوله: واسِعٌ عَلِيمٌ.

المناسبة:

وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي عن أبي مالك قال: كانت اليهود تقول أحبارهم للذين من دونهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأنزل الله: قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. المناسبة: ذكر الله تعالى سابقا موقفا لأهل الكتاب وهو الإعراض عن الحق، وذكر هنا موقفا آخر وهو شدّة حرصهم على إضلال المؤمنين. التفسير والبيان: أحبّت طائفة من الأحبار والرؤساء إيقاع الضلال بين المسلمين، بزرع الشّبهات ومحاولة كسب بعض المسلمين بإدخالهم في دينهم، ولكنهم خائبون، فهم لا يضلون إلا أنفسهم وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، إذ شغلوها بما لا يجدي، بل بما يضرّ، ويوقعهم في الإثم والمعصية، وما يشعرون بذلك وما يفطنون إلى سوء حالهم، وفي هذا نهاية الذّم والاحتقار لهم. والآية نظير قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً.. [البقرة 2/ 109] . يا أهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لأي سبب تكفرون بالآيات الدّالة على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنتم تشهدون بصحّتها، بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به. يا أهل الكتاب لم تخلطون الحقّ الذي جاء به الأنبياء بالباطل الكذب الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وبإلقاء الشّبه، والتّحريف والتّبديل، وأنتم تكتمون شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو مكتوب عندكم في التّوراة والإنجيل وهو البشارة بنبيّ من بني إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة، وأنتم تعلمون أنكم مخطئون مبطلون، وتفعلون ذلك حسدا وعنادا.

ثمّ ذكر نوعا آخر من مكرهم وكيدهم: وهو أن طائفة منهم كما بان في سبب النزول المتقدم أظهروا الإسلام في أول النّهار فصلّوا مع المسلمين صلاة الصّبح، ثم ارتدّوا عنه في آخره، ليلبسوا على الضعفاء والجهلة من الناس أمر دينهم، فيقولوا: إنما ردّهم إلى دينهم اطّلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عنه. ولم يدروا أن من عرف الحقّ لم يرجع عنه، سأل هرقل أبا سفيان عن شؤون محمد صلّى الله عليه وسلّم: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان: لا. ومن تتمة كلام اليهود أن قالوا لبعضهم زعما منهم أنّ النّبوة لا تكون إلا فيهم «1» : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم، دون المسلمين، لئلا يزيدهم ثباتا على دينهم، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام، أي أن المعنى كتم التصديق بأن للمسلمين من كتاب الله مثل أهل الكتاب. وقال ابن كثير: لا تطمئنوا أو تظهروا سرّكم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجّوا به عليكم، فالمعنى حجب أسرارهم عن المسلمين. ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحق، ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجّة. وقال ابن كثير في تفسير ذلك: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلّموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدّة الإيمان به، أو يتّخذوه حجّة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدّلالة، وتترتب الحجة في الدّنيا والآخرة. وتخلل ذلك جملة اعتراضية: وهي أن الهدى هدى الله، فمن شاء الله هدايته

_ (1) قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: من جملة قول اليهود لأنه معطوف على كلامهم، وهو الظاهر، قال ابن عطية: ولا خلاف في ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام:

إلى الإيمان آمن بما أنزله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البيّنات والدّلائل القاطعات والحجج الواضحات، ولا يؤثر كيدكم وخبثكم وحيلكم وكتمكم شيئا، فسواء أظهرتم الحق، أم كتمتم أيها اليهود ما عندكم من صفة محمد النّبي الأميّ في كتبكم، فلن يغيّر ذلك شيئا من نعمة الهداية الإلهية على أحد من الناس. ثم ردّ الله على اليهود ردّا قاطعا لزعمهم أنّ النّبوة لا تكون إلّا فيهم فقال: إن الأمور كلها ومنها أمر النّبوة تحت تصرفه، وليس إليكم، وإنما بيد الله وحده، فهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم، ويضلّ من يشاء فيعمي بصيرته وبصره ويختم على قلبه وسمعه، وهو صاحب الفضل المطلق، والخير كله بيده، يؤتيه من يشاء من عباده، يختصّ برحمته أي بالنّبوة من شاء، ويختصّ المؤمنين بالفضل بما لا يحدّ ولا يوصف، وفضله واسع عظيم، ورحمته وسعت كل شيء، فلا حدّ لها، ولا حصر لآثارها، ولا قصر للنّبوة على بني إسرائيل على حدّ زعمهم، ولا لنسب أو شرف معين. فقه الحياة أو الأحكام: يحسد اليهود المؤمنين ويبغون إضلالهم، ولكن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون. وهكذا يحلم الكفار قديما وحديثا بردّ المسلمين عن دينهم، إلى دين اليهودية أو النصرانية، أو أن يصبحوا من غير دين، ولكنهم خابوا وخسروا، وأثبتوا أنهم ضعاف العقول، سفهاء الأحلام فإن العقيدة الإسلامية في قلب المسلم أثبت من رواسخ الجبال، وهم لا يعلمون بصحّة الإسلام، وواجب عليهم أن يعلموا لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة على وحدانية الله، وعلى صحّة الشريعة ونضارتها وأصالتها ووفائها بالحاجات وسمّوها وتفضيلها على كلّ شرائع العالم قاطبة لأنها شرع الله ودينه. ومن المستنكر عقلا وعادة أن يخلط أهل الكتاب الحقّ بالباطل، أو يكتموا

أداء الأمانة والوفاء بالعهد عند بعض أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) الآيات 75 إلى 77] :

الحقّ الأبلج، وهم به عالمون. ومحاولة التّدليس والخداع في إظهار أناس إيمانهم فترة ما، للتضليل والتشكيك، ثم العودة إلى الكفر هي محاولة صبيانية طائشة، لا يغترّ بها إلا السّذّج أمثالهم لأن التلاعب بالدّين والإيمان ليس من سمة المخلصين، ولأن الإيمان إذا وقر في القلب عن دليل وبرهان، استحال نزعه وسلخه من صاحبه إلا بالموت أو القتل. والنّبوات ليست قصرا على أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، وإنما يختص الله برحمته من يشاء، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو صاحب السلطان المطلق والأمر المبرم، ينزّل الوحي أو الملائكة على من يشاء من عباده، فليس لليهود أن يقولوا: إن النّبوات محصورة فيهم، أو أن تفوق الحجة عند الله لهم، فهم لا حجّة لهم، والإسلام أصح من معتقداتهم، والمسلمون أصحّ منهم دينا. وإن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عزّ وجلّ بيد الله جلّ ثناؤه، يؤتيه أنبياءه، فليس لأهل الكتاب أن ينكروا أن يؤتى أحد مثلما أوتوا، فإن أنكروا يقال لهم: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فالأمور كلها تحت تصرف الله، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتّصرف التامّ، ويضلّ من يشاء، فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجّة التّامة والحكمة البالغة. أداء الأمانة والوفاء بالعهد عند بعض أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

الإعراب:

الإعراب: بَلى إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم. مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدّت مسدها. والضمير في بِعَهْدِهِ راجع إلى مَنْ أَوْفى. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى. البلاغة: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا أشار إليهم بالبعيد لازدياد غلوهم في الشّر والفساد. لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ مجاز بالحذف أي ليس علينا في أكل الأموال سبيل. يَشْتَرُونَ فيه استعارة، استعار لفظ الشراء للاستبدال أي يستبدلون. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ مجاز عن شدّة الغضب والسخط الإلهي. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، تقول: «فلان لا ينظر إلى فلان» أي لا يعتدّ به. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يحسن إليهم ولا يثني عليهم، فهو مجاز عن معنى الإحسان. يوجد جناس اشتقاق بين اتَّقى والْمُتَّقِينَ. المفردات اللغوية: تَأْمَنْهُ أي تأتمنه، وهو من فعل أمنته. بِقِنْطارٍ المراد العدد الكثير، وقيل: هو المعيار الذي يوزن به، ومقداره عند أهل الشام مائة رطل، والرطل كيلوان ونصف. بِدِينارٍ المراد العدد القليل. فِي الْأُمِّيِّينَ أي العرب. سَبِيلٌ مؤاخذة وذنب أو تبعة. بَلى

سبب النزول نزول الآية (77) :

كلمة تقع جوابا عن نفي سابق، لإثباته، أي عليهم فيه سبيل. بِعَهْدِهِ العهد: ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من جانبين يقال: عاهد فلان غيره عهدا. ويَشْتَرُونَ يستبدلون. بِعَهْدِ اللَّهِ ما أنزله في كتابه من الإيمان بالنّبي وأداء الأمانة. وَأَيْمانِهِمْ جمع يمين: وهي الحلف بالله، والمراد هنا: أيمانهم الكاذبة أو حلفهم بالله تعالى كاذبين. ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يأخذونه من الدّنيا، أو رشوة، وهو قليل لأن المال الذي يكون سببا في العقاب قليل مهما كثر. لا خَلاقَ لَهُمْ لا نصيب لهم. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي يغضب عليهم. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أي يسخط عليهم ولا يرحمهم. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يثني عليهم ولا يطهرهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. سبب النزول: نزول الآية (77) : روى الشيخان وغيرهما أن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألك بيّنة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله، إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا. وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.. الآية. قال الحافظ ابن حجر في (شرح البخاري) : لا منافاة بين الحديثين، بل يحمل على أن النزول كان لسببين معا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن الآية نزلت في حييّ بن الأخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدلوه، وحلفوا أنه من عند الله. وقيل: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق

المناسبة:

وحيي بن أخطب: حرّفوا التّوراة، وبدّلوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخذوا الرّشوة على ذلك «1» . قال الحافظ ابن حجر: والآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح. المناسبة: تتابع الآيات في تبيان أوصاف أهل الكتاب، فمنهم الأمين، ومنهم الخائن، ومنهم المستحل أموال غير اليهود بالباطل بتأويلات واهية، لذا فإن القرآن يحذر المؤمنين من الاغترار بهم. التفسير والبيان: لقد أنصف القرآن في وصف أهل الكتاب، فمنهم طائفة تؤتمن على الأموال القليلة والكثيرة، والودائع أو الأمانات، مثل عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأدّاها إليه، ومثل السموءل بن عاديا اليهودي المشهور بالوفاء. ومنهم طائفة أخرى تخون الأمانة، وإن كانت قليلة، ويتعذر استردادها منهم إلا بمتابعة المطالبة والتحصيل، أو باللجوء إلى التقاضي والمحاكمة وإقامة البيّنة عليهم، مثل كعب بن الأشرف أو فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل قرشي دينارا، فجحده وخانه. والذي حمل هذه الطائفة من اليهود على الخيانة: زعمهم أن التوراة تبيح لهم أكل أموال الأميين وهم العرب، قائلين: إنه لا تبعة ولا إثم عليهم في أكل أموال العرب بل وكل ما عدا اليهود، إذ هم شعب الله المختار، فلهم السمو والتفوق

_ (1) البحر المحيط: 2/ 501 [.....]

العنصري على غيرهم، وأما من سواهم فلا حرمة له عند الله، فهو مبغوض عنده، محتقر لديه، ولا حق له ولا حرمة، روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية مانعة من ذلك «1» . وهذا أمر مرفوض في شرعة الله التي لا تفرق في أداء الحقوق بين المؤمن والكافر، ولكنهم اليهود الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويتأوّلون النصوص على وفق أهوائهم. ومن أمثلة ذلك أيضا: ما رواه ابن جرير الطبري: أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن، فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. فليحذر أتباع شرع مثل فعل اليهود، روى عبد الرزاق وأبو إسحاق أنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة: الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فماذا تقولون؟ قال: نقول: ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إنهم إذا أدّوا الجزية، لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم. وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر» هذا ردّ عليهم. وردّ الله عليهم أيضا بأنهم يكذبون على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم، وهم يعلمون كذبهم الصريح فيه لأن التوراة خالية من هذا الحكم الجائر وهو خيانة الأميين.

_ (1) البحر المحيط: 2/ 500

بل إن حكم التوراة عكس ذلك، فإنها توجب الوفاء بالعقود، وتأمر بوفاء الأمانات، وقال الله لهم: بلى عليهم في الأميين سبيل العذاب بكذبهم، واستحلالهم أموال العرب، فمن اقترض إلى أجل، أو باع بثمن مؤجل، أو اؤتمن على شيء مثلا، وجب عليه الوفاء به، وأداء الحق لصاحبه في حينه، دون حاجة إلى إلحاح في الطلب أو تقاض، وهكذا فإن كل من أوفى بما عاهد عليه، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإن الله يحبه ويرضى عنه لأن الله عهد إلى الناس في كتبه أن يلتزموا الصدق والوفاء بالعهود والعقود. وليس العهد مقصورا على الوفاء بالعقود والالتزامات وأداء الأمانات وإنما يشمل أيضا عهد الله تعالى: وهو الوفاء بما التزم به المؤمن من تكاليف وأوامر وواجبات شرعية. ولو وفي اليهود بعهودهم لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أنصفوا لما فرقوا في وفاء العهد بين اليهودي وغيره. ثم بيّن الله تعالى جزاء الذين يخونون العهد، ويكتمون ما أنزل الله، ويبدلون بالحق الباطل، ويستبدلون بكلام الله وأوامره عوضا حقيرا، وثمنا قليلا: وهو متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك، ذلك الجزاء هو خسارة نعيم الآخرة، واستحقاق غضب الله وسخطه، وعدم الثناء عليهم، وانعدام الإحسان إليهم والرحمة بهم، والاستهانة بأحوالهم وأوضاعهم، ولهم عذاب مؤلم شديد في نار جهنم. وقد عبر الله تعالى عن كل ذلك بطريق المجاز، فجعل نكث العهد وأخذ شيء مقابله بمثابة الشراء والمعاوضة، ولكنها صفقة خاسرة لأن المقابل أو الثمن مهما كان كثيرا، فهو في الواقع قليل إذا قيس بعظم الجرم والذنب وشدة العقاب الذي يلقاه في الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أخبر الله تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يستطيعون التمييز بينهم، فعليهم اجتناب جميعهم. وخصّ أهل الكتاب بالذكر، وإن كان المؤمنون كذلك لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والأمين لا فرق عنده بين الكثير والقليل، فمن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر. واستدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم (المدين) بقوله تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً وأباه سائر العلماء. والأمانة عظيمة القدر في الدّين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرّحم على جنبتي الصراط، كما في صحيح مسلم، فلا يمكّن من العبور بسلام إلا من حفظهما. وليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم، في رأي المالكية، خلافا لمن ذهب إلى ذلك لأن فسّاق المسلمين يوجد فيهم من يؤدّي الأمانة، ويؤمن على المال الكثير، ولا يكونون بذلك عدولا، فطريق العدالة وقبول الشهادة لا يدل عليه أداء الأمانة في المال في التعامل والوديعة. ولا يوجد في شرع الله مطلقا التفريق في أداء الحقوق والأمانات بين المؤمن وغيره لأن الحق مقدس، لا تتأثر صفته بشخص مستحقه، أما اليهود فلم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته. ودلّ قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ على أن الكافر ليس أهلا لقبول شهادته لأن الله تعالى وصفه بأنه كذّاب. وفيه ردّ على الكفرة الذين يحرّمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله، ويجعلون ذلك من الشرع.

وإن الوفاء بالعهد: عهد الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعهد الناس في المعاملات والعقود والأمانات من الإيمان، بل من أجل خصال الإيمان، وهو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته ورضوانه. أما الانتساب إلى أمة أو عنصر أو شعب بعينه فلا أثر له عند الله. وإن خائن العهد ليس من التقوى في شيء، بل هو في زمرة المنافقين، وإن آكل المال بالباطل يستحق غضب الله وسخطه، روى أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، لقي الله وهو عليه غضبان» وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وروى الطبراني في الأوسط عن أنس حديثا هو: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . وجزاء ناكثي العهد وخائني الأمانات أشدّ عند الله من مرتكبي بقية الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر ولعب الميسر وعقوق الوالدين لأن مفسدة نقض العهد عامة شاملة، وضررها أعظم وأخطر. ودلت هذه الآية وأحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم المتقدمة على أن حكم الحاكم لا يحلّ المال في الحقيقة والباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، روى الأئمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة» . ورأى أبو حنيفة أن قضاء القاضي ينفذ في الظاهر والباطن إذا حكم بعقد أو فسخ أو طلاق لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث السابق فهو في قضية لا بينة فيها، فإذا ادّعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي- دون أن يعلم بزور الشهود- بالنكاح

من أكاذيب اليهود [سورة آل عمران (3) آية 78] :

بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حلّ للرجل ووطؤها، وحلّ لها التمكين. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكرا. ويقاس عليه البيع ونحوه. من أكاذيب اليهود: [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) المفردات اللغوية: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ من اللّي وهو الفتل والعطف، أي يفتلون ألسنتهم ويميلونها ويعطفونها عن الكلام المنزل إلى المحرّف والمبدل كإثبات النبوة الحقيقية لعيسى عليه السلام، بدلا من المعنى المجازي الوارد على لسان عيسى، وكتحريف صفة نبي آخر الزمان. لِتَحْسَبُوهُ أي المحرف مِنَ الْكِتابِ الذي أنزله الله. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون. سبب النزول: عن ابن عباس: قال عن هذه الفئة الثالثة من أهل الكتاب الذين افتروا على الله ما لم يقله: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف- وكان من ألدّ أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم- غيّروا التوراة، وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم «1» .

_ (1) الكشاف: 1/ 331

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إن من أهل الكتاب جماعة من أحبارهم وعلمائهم وزعمائهم، وهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحييّ بن أخطب وغيرهم، يفتلون ألسنتهم بقراءة كتابهم المنزل عن الصحيح إلى المحرّف، بالزيادة في كلام الله أو النقص أو تغيير المعنى، أو قراءته بنغمة توهم الناس أنه من التوراة، وتجعلهم يظنون أن ذلك المحرّف من كلام الله، وما هو من عند الله، فهم كاذبون فيما يقولون، فإنهم يدعون أنه من عند الله، وهذا تأكيد لقوله: هُوَ مِنَ الْكِتابِ. فهم لم يكتفوا بالتعريض ولكنهم يصرحون بنسبة الكلام إلى الله كذبا، لفرط جرأتهم على الله وقساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة. وبناء عليه سجّل الله تعالى عليهم صفة الكذب الدائمة الملازمة لهم وهي افتراء الكذب على الله عمدا، لا خطأ لأنهم يعلمون تمام العلم أنه كذب وافتراء محض، فهذه الجملة تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب. من أمثلة ليّ لسانهم: أنهم كانوا إذا سلّموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخفوا لام «السلام» وقالوا: «السام عليكم» والسام هو الموت. ومن الأمثلة قولهم: راعِنا من الرعونة والحمق، لا من الرعاية، كما جاء في آية: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ [النساء 4/ 46] . التحريف والتبديل: هذا وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة في تحريف التوراة والإنجيل، منها هذه الآية، وآية النساء المتقدمة، وآية البقرة: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 75] وآية المائدة: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ

فقه الحياة أو الأحكام:

الْكِتابِ [المائدة 5/ 15] والآية الأخرى في المائدة: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة 5/ 13] وآيات الإسراء: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء 17/ 4- 7] وآية إبراهيم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم 14/ 9] وآية الأنعام: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها، وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام 6/ 91] . فقه الحياة أو الأحكام: أثبتت الآية صفتين شنيعتين لليهود والنصارى وهما تحريف التوراة والإنجيل، وتأويلهما، ووضع كتب يكتبونها من عند أنفسهم، والكذب والافتراء على الله. وهاتان الصفتان يصدر عنهما عادة أسوأ الأفعال وأخس المؤامرات، وأخطر أنواع التضليل والتدليس والخداع الذي يمارسونه في حق البشرية. افتراء أهل الكتاب على الأنبياء [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

الإعراب:

الإعراب: وَلا يَأْمُرَكُمْ على قراءة النصب معطوف على أَنْ يُؤْتِيَهُ أو على ثُمَّ يَقُولَ وضميره وهو «كم» للبشر. وعلى قراءة الرفع على الاستئناف والاقتطاع مما قبله، وتكون لا بمعنى «ليس» والضمير المرفوع في يَأْمُرَكُمْ لله تعالى. البلاغة: يوجد طباق بين لفظ بِالْكُفْرِ ومُسْلِمُونَ. لا يَأْمُرَكُمْ الهمزة للاستفهام الإنكاري أي لا ينبغي له. المفردات اللغوية: لِبَشَرٍ إنسان ذكرا أو أنثى، واحدا أو جمعا. وَالْحُكْمَ الحكمة وهي فقه الشريعة وفهم القرآن، وذلك يوجب العمل به. عِباداً مفرده عبد بمعنى عابد. رَبَّانِيِّينَ واحده رباني: منسوب إلى الرب لأنه عالم به مواظب على طاعته، مثل: رجل إلهي. فالمراد بالربانيين: هم العلماء الفقهاء العاملون المنسوبون إلى الرب. قال محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس: «اليوم مات ربانيّ هذه الأمة» . تَدْرُسُونَ تقرؤون الكتاب. سبب النزول: أخرج ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله، ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال: معاذ الله، فأنزل الله في ذلك: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن البصري قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله، نسلّم عليك، كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: لا، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، فأنزل الله: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

التفسير والبيان:

والغرض من الآية تكذيب أهل الكتاب الذين يعظمون عيسى والعزير تعظيم عبادة. التفسير والبيان: لا ينبغي لبشر ينزل الله عليه الكتاب، ويعلمه الحكمة: فقه الدين ومعرفة أسرار الشرع، ويؤتيه النبوة والرسالة، ثم يقول بعد هذا للناس: اعبدوني من دون الله أي متجاوزين ما يجب من إفراد العبادة لله تعالى، فهذا هو الشرك بعينه، وإنما يجب إخلاص العبادة لله وحده، كما قال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر 39/ 14] . وروى مسلم وغيره حديثا قدسيا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه» وفي رواية: «فأنا منه بريء، هو للذي عمله» . وروى أحمد عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» . ولكن يقول الرسول للناس: كونوا ربانيين أي علماء فقهاء عاملين بما أمر الله، مطيعين له طاعة تامة لأن العلم الصحيح هو الذي يبعث على العمل، وإن تعلم الكتاب الإلهي ودراسته يوجب الطاعة، ويحقق وصف الرباني. ولا يعقل أن يأمر الرسول باتخاذ إله أو رب غير الله، أو بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب. وقد كان مشركو العرب يعبدون الملائكة، وحكى القرآن: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] . وهذا كله مخالف لرسالات الأنبياء التي تأمر بعبادة الله وحده. أيأمركم هذا النبي بالكفر بعد الإسلام، وهذه شهادة لهم بأنهم مسلمون، أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا

فقه الحياة أو الأحكام:

إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف 43/ 45] وقال إخبارا عن الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 29] . فقه الحياة أو الأحكام: من المستبعد أن يأتمن الله تعالى رسولا أو نبيا على وحيه، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه، فإن الأمين يقوم عادة بما كلفه به المؤتمن له. وإنما تكون دعوة الأنبياء موجّهة نحو عبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتطلب الإخلاص، قال تعالى: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر 39/ 14] وقال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [البينة 98/ 5] . ودلّت الآية على أن العلم الصحيح والفقه وفهم أسرار الشريعة يستدعي العمل والطاعة والتزام التكاليف الشرعية لأن من عرف الله هابه، ومن هابه امتثل أمره، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله. فمن تعلم علوم الشريعة وترك العمل بها فهو ساقط الاعتبار أمام الله، وكان علمه وبالا عليه، وحجة على ضلاله وهلاكه وفساده. والتقرب إلى الله لا يكون إلا بالعمل بالعلم، والعلم الذي لا يبعث على العمل لا يعدّ علما صحيحا. والكفر يتنافى مع الإسلام، والإسلام دين الفطرة، وهو في عرف القرآن: دين جميع الأنبياء.

ميثاق الأنبياء بتصديق بعضهم بعضا وأمرهم بالإيمان [سورة آل عمران (3) الآيات 81 إلى 83] :

ميثاق الأنبياء بتصديق بعضهم بعضا وأمرهم بالإيمان [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) الإعراب: لَما: من قرأ بكسر اللام علقها بأخذ، وما بمعنى الذي. ومن فتح اللام جعلها لام الابتداء، وهي جواب لما دل عليه الكلام من معنى القسم لأن أخذ الميثاق إنما يكون بالأيمان والعهود، ويجوز حينئذ أن تكون «ما» بمعنى الذي أو شرطيه، فإذا كانت بمعنى «الذي» كانت مرفوعة مبتدأ، وآتَيْتُكُمْ: صلته، والعائد محذوف تقديره: آتيتكموه، وخبر المبتدأ: مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ومِنْ: زائدة، وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ معطوف على الصلة، وعائده محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به. وإذا كانت شرطية فهي في موضع نصب بآتيتكم، وآتَيْتُكُمْ في موضع جزم بما، وكذا ثُمَّ جاءَكُمْ. وقوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب قسم مقدر ينوب عن جواب الشرط، وحينئذ لا تحتاج الجملة إلى عائد، ولهذا كان هذا الوجه أوجه عند كثير من المحققين، لعدم العائد في الجملة المعطوفة إذا كانت شرطية. طَوْعاً وَكَرْهاً منصوبان على المصدر في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين. البلاغة: لَما آتَيْتُكُمْ التفات من الغيبة في قوله: النَّبِيِّينَ إلى الحاضر.

المفردات اللغوية:

ويوجد جناس اشتقاق بين لفظ فَاشْهَدُوا والشَّاهِدِينَ. ويوجد طباق بين طَوْعاً وكَرْهاً. المفردات اللغوية: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ اذكر حين قبل الله مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الموثّق: وهو أن يلتزم المعاهد شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بمؤكدات أخرى من ألفاظ العهود. أَأَقْرَرْتُمْ أقرّ بالشيء: أخبر بما يلزمه أو بما يدل على ثبوته، مأخوذ من: قرّ الشيء: إذا ثبت في مكانه. وَأَخَذْتُمْ قبلتم. إِصْرِي عهدي، الإصر: العهد المؤكد الذي يحمل صاحبه على الوفاء بما التزمه. تَوَلَّى أعرض. بَعْدَ ذلِكَ الميثاق. الْفاسِقُونَ الخارجون عن الطاعة وحدود الله. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الهمزة للإنكار أي: أيتولون غير دين الله؟ وقدم المفعول الذي هو فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار متجه إلى المعبود بالباطل. وَلَهُ أَسْلَمَ انقاد. طَوْعاً اختيارا بلا إباء. وَكَرْهاً بالسيف بمعاينة ما يلجئ إليه. المناسبة: الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا، وعلى التخصيص المتضمنة خيانة أهل الكتاب بتحريفهم كلام الله، وتغييرهم أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموجودة في كتبهم، قصد بها حملهم على الإيمان برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وإثبات نبوته، وتؤكد هذه الآية القصد المذكور من طريق إقامة الحجة عليهم: وهو أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء من لدن آدم إلى عيسى عليهم السلام أن يؤمن كل واحد بمن يأتي بعده، ويصدق برسالته، وينصره في مهمته، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع المبعوث بعده ونصرته. فإذا كان هذا هو ميثاق الأنبياء، فالواجب على أتباعهم الإيمان بكل المرسلين والتصديق بما معهم لأن رسالتهم واحدة، وهي رسالة الإسلام بالمعنى العام وبالمعنى الخاص الذي هو رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم: وهو الخضوع والانقياد لأوامر الله،

التفسير والبيان:

وإعلان مبدأ التوحيد، والتمسك بأصول الفضائل والأخلاق، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله سواه. التفسير والبيان: اذكر يا محمد لهم وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على جميع الأنبياء أنهم مهما آتيناهم من كتاب وحكم ونبوة، ثم جاءهم رسول مصدق وموافق لما معهم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين: محمد صلّى الله عليه وسلّم، لتؤمنن به ولتنصرنه لأن رسالات الأنبياء يكمل بعضها بعضا، والقصد من إرسالهم واحد، فهم متفقون في الأصول، وأما اختلافهم في الفروع فهو لخير الإنسان ومصلحته، ولمناسبته مع تقدم وتطور الحياة الإنسانية. فإن تعاصر نبيان مثلا في أمة واحدة مثل موسى وهرون عليهما السلام، كانا متفقين في كل شيء وإن اختلفت أقوامهما فالمتأخر يؤمن بدعوة المتقدم وبالعكس، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم عليهما السلام وأيده في دعوته، وإن تعاقبا مثل موسى وعيسى عليهما السلام صدق كل منهما بدعوة الآخر. وهكذا بعثة خاتم النبيين يجب على أتباع الأنبياء السابقين الإيمان بها وتأييدها. فليس الدين مصدر شقاق واختلاف، وسبب عداوة وبغضاء، كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو سبب تجمع واتحاد، وسبيل حب ووداد، وطريق إنقاذ وإسعاد. ثم قال الله تعالى لمن أخذ عليهم الميثاق من النبيين: أأقررتم وقبلتم ذلك الإيمان والعهد بالرسول المصدق لما معكم، ونصرته وتأييده، أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟! قالوا: أقررنا واعترفنا بذلك، فقال تعالى: فليشهد بعضكم على بعض، وأنا معكم شاهد عليكم وعلى إقراركم، أعلم بكل شيء عنكم، لا يفوتني شيء. روى

الشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك» . هذه المحاورة على طريق التمثيل توكيد عليهم وتحذير من الرجوع عن الإقرار إذا عملوا بشهادة الله، وشهادة بعضهم على بعض. فمن تولى بعد ذلك الميثاق والتوكيد، واتخذ الدين أداة للتفريق والعداء، ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان، المصدّق لمن تقدمه، المهيمن على الرسالات والكتب السابقة، كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك هم المتمردون من الكفار، الخارجون عن عهد الله وميثاقه، الناقضون العهد. وإذا كان الدين واحدا، وأن الرسل متفقون في الأصول العامة لوحدة الدين الحق، كما بيّن تعالى، فلماذا ينكر أهل الكتاب نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم؟! أيتولون غير دين الله، وغير الحق بعد ما تبين، ويريدون غير الإسلام دينا؟ وقد أسلم وخضع لله تعالى وانقاد لحكمه ومراده أهل السموات والأرض، إما طوعا واختيارا من أنفسهم بالإنصاف والنظر في الأدلة، أو كرها بالسيف أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون والإشراف على الموت، فلما رأوا بأس الله وتصرفه بالكون والتكوين والإيجاد قالوا: آمنا بالله وحده، وإلى الله المرجع والمآب يوم المعاد، يرجع إليه سائر الخلق، فيجازي كلّا بعمله، سواء من أسلم وخضع وانقاد لله، ومن اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى، وهذا تهديد ووعيد لهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بعضا، فذلك معنى النصرة بالتصديق، ومن بنود الميثاق: أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم. ثم جاءهم الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما عليهم إلا أن يؤمنوا برسالته ويؤيدوا دعوته، تنفيذا للميثاق العظيم على الأنبياء، إن كانوا من أتباعهم، ووفاء بالعهد المؤكد، ولأنه مصدّق لرسالات الأنبياء السابقين لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف، وهم قد شهدوا على بعضهم بموجب الميثاق وشهد الله عليهم جميعا به. ومن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب. ومن أعرض عن اتباع رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتولى من أمم الأنبياء أو من غير أممهم عن الإيمان بوحدانية الله وبصدق رسالة خاتم الأنبياء، بعد أخذ الميثاق، فأولئك هم الخارجون عن دائرة الإيمان، المصنّفون مع الكفار المتمردين عن طاعة الله. أهم يطلبون غير دين الله؟! وقد خضع لحكمه أهل السموات والأرض، وكل مخلوق هو منقاد مستسلم لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه. قال الكلبي: إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أيّنا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دينه» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ يعني: يطلبون.

وهذه الآية نظير قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] . عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابّة أحدكم أو كانت شموسا «1» ، فليقرأ في أذنها هذه الآية: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. والخلاصة: إن الدين الحق هو الانقياد لله والإخلاص له، وإن دين الله واحد، وإن رسالات الأنبياء ومللهم واحدة في أصولها العامة، وإن الأنبياء يكمل بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا ويؤيد دعوته، وهم جميعا عبيد لله مؤمنون بوحدانيته، مذعنون لوجهه الكريم، مخلصون له الدين حنفاء، وقد أدّوا رسالتهم على الوجه الأكمل، وما على البشرية إلا التزام منهجهم، والسير على سنتهم، دون اختلاف ولا نزاع ولا معاداة، ولا تمسك بالموروثات، وبما عندهم من كتاب وحكمة، فقد انصبّت كل الأديان في الإسلام في صورته الأخيرة، وانصهرت كل الأحكام في حكم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان القرآن مصدّقا لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السماوية ومهيمنا عليها، ودين الله الواحد: هو عبادة الله وحده لا شريك له الذي أسلم له من في السموات والأرض، أي استسلم له من فيهما طائعين أو كارهين، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد 13/ 15] وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ، وَالْمَلائِكَةُ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل 16/ 48- 50] فالمؤمن مستسلم بقلبه

_ (1) الشموس: الدابة النفور التي لا تخضع لأمر صاحبها.

الإيمان بكل الأنبياء وقبول دين الإسلام [سورة آل عمران (3) الآيات 84 إلى 85] :

وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، بالقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع. الإيمان بكل الأنبياء وقبول دين الإسلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) الإعراب: قُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ فيه وجهان: أحدهما- على تقدير محذوف: قل: قولوا: آمنا بالله، وحذف القول كثير في القرآن وكلام العرب. الثاني- أن يكون المقصود من خطاب النبي عليه الصلاة والسلام خطاب أمته، مثل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ومثل: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد به الأمة. دِيناً منصوب إما لأنه مفعول يَبْتَغِ، ويكون غَيْرَ حالا منصوبا، تقديره: ومن يبتغ دينا غير الإسلام، فلما قدم صفة النكرة عليها انتصبت على الحال، أو لأنه منصوب على التمييز. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ.. متعلق بفعل مقدر تقديره: وهو خاسر في الآخرة، من الخاسرين، ولا يجوز أن يتعلق بالخاسرين لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول، فلو تعلّق به لأدى إلى أن يتقدم معمول الصلة على الموصول، وهو لا يجوز. البلاغة: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ هو من عطف العام على الخاص.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني القرآن. وَالْأَسْباطِ الأحفاد وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وأبناؤهم، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يقرّون بنبوتهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق والتكذيب. مُسْلِمُونَ موحدون مخلصون له عبادتنا، ومستسلمون مطيعون له. غَيْرَ الْإِسْلامِ يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى، ويمكن أن يراد به شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. مِنَ الْخاسِرِينَ أريد به تضييع رصيد الفطرة وهو الانقياد لله وطاعته. سبب النزول، نزول الآية (85) : قال مجاهد والسدّي: نزلت هذه الآية في الحارث بن سويد أخو الحلاس بن سويد، وكان من الأنصار، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه، ولحقوا بمكة كفارا، فنزلت هذه الآية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة. قال ابن عباس: وأسلم بعد نزول الآيات. المناسبة: ذكر فيما سبق ميثاق النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وينصروه، وهنا أمر لمحمد وأمته أن يؤمنوا بجميع الأنبياء المتقدمين وبكتبهم وبالإسلام الذي هو دين الأنبياء قاطبة. التفسير والبيان: قل يا محمد: آمنت وأمتي بوجود الله ووحدانيته وسلطانه. فهذا أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يخبر عن نفسه وعن أمته بالإيمان، فلذلك وحّد الضمير في قُلْ وجمع في آمَنَّا، ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه، كما ذكر الزمخشري. وآمنا بما أنزل علينا وهو القرآن، وصدقنا بما أنزل الله من وحي على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريته الأسباط، فجوهر المنزّل واحد، كما قال

تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء 4/ 163] . وصدّقنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل وسائر المعجزات. وخص هذان النبيان بالذكر، تبيانا لأتباعهم وهم اليهود والنصارى بأن الإيمان عام في منهج القرآن. وكذلك صدقنا بما أوتي بقية النبيين من رسالات كداود وسليمان وصالح وهود وأيوب وغيرهم ممن لم نعلم قصصهم. وقدم الإيمان بالله على الإيمان بالكتب لأنه المصدر والأساس، وقدم المنزل علينا وهو القرآن، مع أنه متأخر عن نزول الكتب الأخرى لأنه طريق المعرفة بما سبق، ولأنه المهيمن على سائر الكتب السماوية، ولأنه الكتاب الإلهي إلى الأبد، وأما غيره فاندثر وضاع، ثم بدّل وغيّر. والأمر بالإيمان بالله وبأنبيائه أمر شامل عام، لا يختلف فيه أهل ملة عن غيرهم، ولا تفرقة فيه بين الأنبياء تصديقا وكفرا، فلسنا في ذلك كاليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بالكل على أن كل نبي مرسل من قبل الله تعالى، ونحن له مستسلمون منقادون له بالطاعة. وبعد الأمر بالإيمان جاء الأمر بالإسلام لأن الإيمان بوجود الله وهو التصديق به هو الأصل، وعنه يصدر العمل الصالح، وأما الإسلام فهو توحيد الله وإخلاص العبادة له والانقياد لشرعه ومنهجه، وهو يأتي تبعا لأصل الاعتقاد. ومن يطلب غير الإسلام (وهو التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى) دينا، فلن يقبل منه قطعا، وهو من الذين وقعوا في الخسران مطلقا لأنه سلك طريقا سوى ما شرعه الله، وأضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله

فقه الحياة أو الأحكام:

والانقياد لأوامره، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر 39/ 15] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» وقال أيضا فيما رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجّسانه» . فقه الحياة أو الأحكام: إن خلود شريعة الإسلام نابع من شيئين: أولهما- الإيمان الشامل المطلق بكل الأنبياء وبكتبهم ورسالاتهم، دون تفرقة بين أحد منهم، فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله. وثانيهما- الإيمان بوجود الله ووحدانيته، والانقياد لطاعته، والتزام منهجه وشرعه، وهو شرع الأنبياء، ودين الرسل الذي ارتضاه لعباده، وجعله أساس الاحتكام إليه، وطريق النجاة به يوم المعاد، فمن سلك طريقا آخر سوى ما شرعه الله، فلن يقبل منه قطعا في الآخرة، وكان من الذين خسروا أنفسهم، وأضاعوا حياتهم في غير المفيد لهم. أنواع الكفار من حيث التوبة [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 91] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

الإعراب:

الإعراب: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ: أُولئِكَ: مبتدأ، وجَزاؤُهُمْ: مبتدأ ثان، وأَنَّ عَلَيْهِمْ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون جَزاؤُهُمْ بدلا من أُولئِكَ بدل اشتمال، وأَنَّ عَلَيْهِمْ خبر أُولئِكَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء متصل. خالِدِينَ فِيها حال من ضمير عَلَيْهِمْ ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ حال أخرى، ويجوز أن يكون مستأنفا منقطعا عن الأول. وَهُمْ كُفَّارٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير ماتُوا. ذَهَباً تمييز. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما: نافية، ومِنْ: زائدة، وناصِرِينَ: مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، والجملة الاسمية حال من ضمير لَهُمْ الأول. ودخلت الفاء في خبر إن فَلَنْ يُقْبَلَ لشبه الذين بالشرط، وإيذانا بتسبب الكفر لعدم القبول. البلاغة: أَلِيمٌ مؤلم، وهو صيغة فعيل للمبالغة. المفردات اللغوية: كَيْفَ يَهْدِي أي لا يهدي. الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرات على صدق النبي. الظَّالِمِينَ أي الكافرين، والظلم: الانحراف عن سبيل الحق والعدل. لَعْنَةَ اللَّهِ اللعن: الطرد والإبعاد من رحمة الله. خالِدِينَ فِيها أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها. يُنْظَرُونَ يمهلون ويؤخرون.

سبب النزول نزول الآية (86) :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بعيسى بَعْدَ إِيمانِهِمْ بموسى ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إذا غرغروا أو ماتوا كفارا. مِلْءُ الْأَرْضِ مقدار ما يملؤها. أَلِيمٌ مؤلم. ناصِرِينَ مانعين منه. سبب النزول: نزول الآية (86) : روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله: هل لي من توبة؟ فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأرسل إليه قومه، فأسلم. وأخرج مسدّد في مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم كفر، فرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه القرآن: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ فحملها إليه رجل من قومه، فقرأها عليها، فقال الحارث: «إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة» فرجع وأسلم وحسن إسلامه. وقال الحسن البصري وقتادة: نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشّرون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ويستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث عاندوا وكفروا، فأنزل الله عز وجل: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أخرجه عبد بن حميد وغيره «1» . أي أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم، وأقروا بذلك، وشهدوا أنه حق، ولذا كانوا يستفتحون به

_ (1) البحر المحيط: 2/ 519

التفسير والبيان:

على المشركين، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك، وأنكروه، وكفروا به بعد إيمان سابق. وأرى أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول، وإن كانت القرائن ترجح أن الآية نزلت في أهل الكتاب- ومثلهم المشركون- لأن الآيات السابقة تدور حول محاورتهم ومناقشتهم واستئصال جذور الشرك من نفوسهم. وهذا ما رجحه أيضا ابن جرير الطبري، وأيده في (تفسير المنار) . مجمل بيان الآيات: هذه الآيات جعلت الكفار أصنافا ثلاثة: 1- الذين تابوا توبة صادقة، وهم الذين أشارت إليهم الآية: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. 2- الذين تابوا توبة غير صحيحة، وهم المذكورون في قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. 3- الذين لم يتوبوا أصلا وماتوا على الكفر، وهم الموصوفون بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. التفسير والبيان: كيف يهدي الله قوما كاليهود والنصارى الذين كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حق، وأرشدتهم الآيات الواضحات من القرآن والكتب السابقة وسائر المعجزات الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته؟! هذا استبعاد لهداية هؤلاء وتيئيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم منهم، كما قال البيضاوي. فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات، مع إزالة الموانع من النظر فيها على النحو المؤدي إلى المطلوب، وقد مكنهم الله من هذا كله، وآمنوا به ثم كفروا.

والله لا يهدي أولئك الظالمين لأنفسهم لأنهم عرفوا الحق وحادوا عنه، وتركوا دلائل النبوة، وهداية العقل. فجزاؤهم استحقاق غضب الله وسخطه والطرد من رحمته، وسخط الملائكة والناس، وصبّ اللعنات عليهم، والدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله في الدنيا، وكذا في الآخرة، كما قال تعالى: وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت 29/ 25] . وهم خالدون أبدا في اللعنة أو في النار لأن مستحق اللعنة جزاؤه النار، ولا يخفف عنهم العذاب ساعة واحدة، ولا يؤجلون لعذر يعتذرون به. ثم استثنى الله تعالى التائبين، فمن تاب من هؤلاء عن ذنبه، وترك الكفر، ورجع إلى الله، وأصلح قلبه وعمله، وندم على ما فعل، فإن الله غفور لما تقدّم منه، رحيم بعباده كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [الشورى 42/ 25] . هذا هو الصنف الأول من الكفار وهم التائبون. وأما الصنف الثاني فهم أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا قبل بعثته أنه حق، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد، ومقاومة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومحاربة المؤمنين، فهؤلاء لن تقبل توبتهم ما داموا على الكفر، ثم ماتوا وهم كفار، وأولئك هم الواقعون في الضلال، المخطئون سبيل الحق والنجاة، الذين تمكن الكفر في قلوبهم. والآية تشير إلى أن الكفر يزداد قوة واستقرارا، وتمكنا في القلب بعمل ما يقتضيه ويقويه وينميه، من طريق القيام بأعمال تنافي الإيمان، وتدعم الكفر وأهله. وكذلك الإيمان يزداد وينقص بعمل الصالحات أو بالإنقاص منها، كما

فقه الحياة أو الأحكام:

قال تعالى في الحالين: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] . والتوبة سبيل التزكية والتطهير والإصلاح، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] فمن أهمل إصلاح نفسه خسر، ومن حاول الإصلاح نجح، فإذا تراكمت المساوئ، وأهملت تزكية النفس، وتدنست بالمعاصي الكثيرة، صعب في العادة الرجوع إلى جادة الاستقامة. وهذا ما أشارت إليه آيات التوبة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [النساء 4/ 17- 18] . وأما الصنف الثالث فهم الذين يموتون وهم كفار، فهؤلاء لن يقبل منهم الفداء، ولو كان ملء الأرض ذهبا، ولو افتدى به في الآخرة، لا يقبل منه، على افتراض أنه يملكه، ويريد استخدامه وسيلة النجاة، ولهم عذاب أليم أي عقاب مؤلم، وليس لهم ناصر ولا شفيع يمنع عنهم العذاب، أو يخففه، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ، هِيَ مَوْلاكُمْ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد 57/ 15] . فقه الحياة أو الأحكام: صنفت الآيات الكفار إلى أصناف ثلاثة بحسب بقائهم على الكفر وقبولهم الإيمان، وهو تصنيف صريح واقعي. فمن كفر بعد إسلامه، وكان ظالما مقيما على الظلم لا يهديه الله ما دام مقيما

على كفره وظلمه، ولا يقبل على الإسلام، وله جزاء شديد هو استحقاق غضب الله وسخطه، والخلود في نار جهنم، دون تخفيف لشيء من العذاب، ولا تأجيل له لمعذرة ما. فأما إذا أسلم هؤلاء وتابوا، وأصلحوا ما أفسدوا، فباب المغفرة والرحمة مفتوح لهم. وهذا الباب مفتوح أيضا بالأولى لمن كان مسلما عاصيا ثم تاب وأصلح وأخلص عمله لله. ولن تقبل التوبة من الكفار الذين كفروا بعد إيمانهم، وبقوا مقيمين على الكفر، وسماها الله تعالى توبة غير مقبولة لأنه لم يصح منهم عزم عليها، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم وصدقت الإرادة. كما لا تقبل توبتهم إذا عزموا عليها عند الموت، كما قال عز وجل: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء 4/ 18] ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . ومن مات كافرا فلن يقبل منه خير أبدا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة، ولن ينفعه بعد موته بديل ولا فداء مهما كثر، كما قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [البقرة 2/ 123] وقال: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [البقرة 2/ 254] وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ، لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة 5/ 36] . وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» «1» .

_ (1) هذا لفظ البخاري، وقال مسلم بدل «قد كنت» : «كذبت، قد سئلت» وقد تقدم الحديث قريبا في تفسير الآية (81) .

نوع النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق [سورة آل عمران (3) آية 92] :

وأما عدم جدوى فعل الخير الذي صدر منه في الدنيا، ففيه حديث آخر وهو أن عبد الله جدعان سئل عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقري الضيف، ويفك العاني «1» ، ويطعم الطعام: هل ينفعه ذلك؟ فقال: «لا، إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. نوع النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) المفردات اللغوية: لَنْ تَنالُوا لن تصيبوا وتجدوا. الْبِرَّ كلمة جامعة لوجوه الخير، والمراد بها هنا: لن تنالوا ثواب البر وهو الجنة. تُنْفِقُوا تصدّقوا. مِمَّا تُحِبُّونَ من أموالكم. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازي عليه. المناسبة: ادعى أهل الكتاب في الآيات السابقة الإيمان، وأن النبوة محصورة فيهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وناسب هنا أن يذكّرهم بأن آية الإيمان هو الإنفاق في سبيل الله من أحب الأموال، مع الإخلاص. التفسير والبيان: لن تصلوا إلى ثواب البر وهو الجنة، ولن تكونوا بررة تستحقون رضوان الله وفضله ورحمته، وصرف عذابه عنكم، حتى تنفقوا من أحب الأموال إليكم من

_ (1) العاني: الأسير.

كرائم الأموال. وما تنفقون من شيء، سواء أكان كريما أم رديئا، فإن الله به عليم فيجازي عليه، ولا يخفى عليه أمر الإخلاص والرياء. ومما يدل على سمو رتبة الصحابة أنهم كانوا يتصدقون بأحب الأموال لديهم، روى الأئمة الستة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «1» (بستان في المدينة) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: بخ بخ (كلمة استحسان تدل على الرضا والإعجاب) ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وفي رواية لمسلم: فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب. قال العلماء: إنما تصدّق به النبي صلّى الله عليه وسلّم على قرابة المصدّق لوجهين: أحدهما- أن الصدقة في القرابة أفضل، الثاني- أن نفس المتصدق تكون بذلك أطيب وأبعد عن الندم. وكذلك فعل زيد بن حارثة، أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية، جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها (سبل) لم يكن له مال أحب إليه منها فقال: هي صدقة، فقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحمل عليها ابنه أسامة- أي أعطاها له-، فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه (أي حزن) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قد قبلها منك» .

_ (1) وضبطها ابن العربي «بيرحاء» وفي الموطإ: «وكانت أحب أمواله إليه بئرحاء» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي الصحيحين: أن عمر قال: يا رسول الله، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: «حبّس الأصل، وسبّل الثمرة» . وأعتق ابن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأوّل قول الله عز وجل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وأخرج عبد بن حميد والبزار عن ابن عمر قال: حضرتني هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ، فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحبّ إليّ من مرجانة (جارية رومية) فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافعا (مولاه الذي كان يحبه) . ولم يمت ابن عمر إلا وأعتق ألف رقبة. أما معنى البر فاختلفوا في تأويله على أقوال ثلاث: الجنة، أو العمل الصالح، أو الطاعة، والتقدير على المعنى الأول: لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون أي لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون، وعلى المعنى الثاني: لن تصلوا إلى العمل الصالح ... وعلى المعنى الثالث وهو معنى جامع: لن تصلوا إلى الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات حتى تنفقوا مما تحبون. وقال الحسن البصري: حَتَّى تُنْفِقُوا: هي الزكاة المفروضة. والأولى أن يكون المراد كما قال الزمخشري: لن تبلغوا حقيقة البر حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها، كقوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [البقرة 2/ 267] . وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أمرين: الأول- أن يكون الإنفاق في سبيل الله للوصول إلى حقيقة البر من أحب

الأموال وأفضلها عند مالكها، وبمقدار طيبها وحسنها يكون الثواب عليها. الثاني- الترغيب والحث على إخفاء الصدقة، بعدا عن الرياء، وإخلاصا في العمل لوجه الله، وترفعا عن نفاذ الشيطان إلى قلب المؤمن الصالح. انتهى الجزء الثالث ولله الحمد

الرد على اليهود في تحريم بعض الأطعمة [سورة آل عمران (3) الآيات 93 إلى 95] :

[الجزء الرابع] [تتمة سورة آل عمران] الرّد على اليهود في تحريم بعض الأطعمة [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) البلاغة: قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ الأمر للتوبيخ واللوم. المفردات اللغوية: الطَّعامِ المراد به هنا المطعومات كلها، ويكثر استعماله في البرّ وفي الخبز. حِلًّا حلالا. إِسْرائِيلَ لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه: الأمير المجاهد مع الله، ثم أطلق على جميع ذريته، فالمراد الآن شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى، وذلك بعد إبراهيم، ولم تكن المطعومات على عهده حراما كما زعموا. افْتَرى اختلق الكذب. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، لا من عهد إبراهيم. الظَّالِمُونَ المتجاوزون الحق إلى الباطل. حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق. المناسبة: اشتملت سورة آل عمران من أولها إلى هنا على إقامة الدلائل على إثبات وحدانية الله، ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومحاجّة أهل الكتاب وإبطال مزاعمهم وبدعهم وتقاليدهم. وجاءت هذه الآيات وما بعدها إلى الآية (97) حول البيت الحرام للرّد على شبهتين لليهود: الأولى- قولهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وذريته، فكيف تستحلّ ما كان محرّما عندهم من الطعام كلحم الإبل؟ فنزلت الآية:

التفسير والبيان:

كُلُّ الطَّعامِ ردّا عليهم. قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه على ملّة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم، فنحن نحلّه» ، فقالت اليهود: كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه، فإنّه كان على نوح وإبراهيم، حتى انتهى إلينا، فأنزل الله عزّ وجلّ تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ ... الثانية- قولهم أيضا: كيف تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وأنك أولى الناس به؟ وإبراهيم وإسحاق وذريته من الأنبياء كان يعظمون بيت المقدس ويصلّون إليه، فلو كنت على منهجهم لعظّمته، ولما تحوّلت عنه إلى الكعبة، فنزلت آية: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ... للرّد عليهم. قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . التفسير والبيان: كلّ الطعام بأنواعه الطّيبة المباحة كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما حرّم إسرائيل أو شعب إسرائيل على نفسه، وهو لحوم الإبل وألبانها، وذلك قبل أن تنزل التوراة على موسى، والذي حرّم الله تعالى على شعب إسرائيل في التوراة هو بعض الطّيبات عقوبة لهم وتأديبا، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 4/ 160] ، وقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام 6/ 146] . والمراد في رأي بعضهم من

_ (1) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص 65- 66

إِسْرائِيلَ هنا ليس يعقوب عليه السّلام الذي ذكرت بعض الرّوايات «أنه لما حصل له عرق النّسا، فنذر إن شفي لا يأكل الإبل» لأنه كان بينه وبين نزول التوراة زمن طويل، وإنما المراد شعب إسرائيل كما هو مستعمل عند اليهود، والمعنى في تحريمهم أشياء على أنفسهم: أنهم كانوا سبب التحريم لارتكابهم الظلم واجتراح السيئات. هذا ما رجحه صاحب (تفسير المنار) «1» . أما الذي سار عليه جمهور المفسرين: فهو أن المراد بإسرائيل يعقوب عليه السّلام، روى التّرمذي عن ابن عباس: أنّ اليهود قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: أخبرنا، ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النّساء، فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها» قالوا: صدقت، وذكر الحديث «2» . وجاء في رواية الإمام أحمد أن اليهود سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء، فقالوا: أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه؟ فقال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا، وطال سقمه، فنذر لله نذرا: لئن شفاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطّعام والشّراب إليه، وكان أحبّ الطّعام إليه لحم الإبل، وأحبّ الشّراب إليه ألبانها» . وخلاصة الجواب: كلّ أنواع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، وإلا ما حرّمه الله في التّوراة على شعب إسرائيل من مطعومات تأديبا وزجرا لهم بسبب جرائم ومخالفات ارتكبوها، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته لم يرتكبوا هذه السّيئات والمخالفات، فلا تحرم عليهم هذه الطّيبات، وإبراهيم لم يكن محرّما عليه شيء من هذا لأن التّحريم حصل بعد نزول التّوراة، وكان كلّ طعام حلالا له.

_ (1) تفسير المنار: 4/ 4 (2) تفسير القرطبي: 4/ 134، تفسير الكشاف: 1/ 335، تفسير ابن كثير: 1/ 381

ثم أمر الله نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالاحتكام إلى التوراة كتاب اليهود لتكذيب دعواهم، وقال لهم: فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم، لا تخافون تكذيبها لكم، ولو جئتم بها لوجدتم أن تحريم شيء على بني إسرائيل ما كان إلا عقوبة تأديبية زاجرة، فيظل غير الجاني على أصل الحلّ لأن الأصل في الأطعمة الحلّ والإباحة. فمن اخترع الكذب على الله، وزعم أن التّحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التّوراة، وادّعى ما لم ينزله الله في كتابه، فأولئك هم الظالمون أنفسهم بطمس معالم الحق وإظهار الكذب على الله. روي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة، فبهتوا، وفي ذلك دليل واضح على صحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه يعلم بوحي من الله ما في التوراة، وهو لم يقرأها لأمّيته المعروفة، وأنها مؤيّدة لما في القرآن. وإذ ظهر الحقّ واندحر الباطل، قل لهم يا محمد: صدق الله فيما أخبرني به أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل، وأنه لم يحرّم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة، وأن ما حرّم الله على اليهود كان جزاء وتأديبا وعقوبة لهم بسبب أفعالهم القبيحة. وإذ استبان الحق، وظهرت الحجّة عليكم، فعليكم اتّباع ملّة إبراهيم التي أدعوكم إليها، والتي تبيح أكل لحوم الإبل وألبانها، وهي الملّة الحنيفيّة السمحاء الوسط التي لا إفراط فيها ولا تفريط، وهي التي شرعها الله في القرآن، وكان إبراهيم حنيفيّا مائلا عن الأديان الأخرى الباطلة إلى الدّين الحقّ الذي يقوم على مبدأ التوحيد وإباحة الطّيبات، وما كان مشركا يدعو مع الله إلها آخر، أو يعبد سواه، كما يفعل عبدة الأوثان، ويدعيه اليهود أن عزيرا ابن الله، ويعتقده النصارى أن المسيح ابن الله.

فقه الحياة أو الأحكام:

فملّة إبراهيم القائمة على التوحيد: هي شرعة القرآن التي دعا إليها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهي الحقّ الذي لا مرية فيه، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 161] ، وهو الذي أمره الله به صراحة، كما جاء في آية أخرى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل 16/ 123] . فقه الحياة أو الأحكام: إن شريعة القرآن واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهي التي تلتقي مع الشرائع السابقة في أصول الحلال والحرام، فلذا اتّفقت مع ملّة إبراهيم ومع ما كان مقررا من إباحة أنواع المطعومات كلها على بني إسرائيل، إلا أمرين: الأول- ما حرّمه يعقوب (إسرائيل) على نفسه باجتهاد منه، لا بإذن من الله تعالى، على الصحيح لأن الله تعالى أضاف التّحريم إليه بقوله تعالى: .. إِلَّا ما حَرَّمَ..، وأنّ النّبي إذا أدّاه اجتهاده إلى شيء، كان دينا يلزمنا اتّباعه، لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وقد حرّم نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم العسل على نفسه- على الرواية الصحيحة، أو خادمه «1» مارية، فلم يقرّ الله تحريمه، ونزل في القرآن: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم 66/ 1] ، وهل عليه الكفارة بتحريم المباح؟ رأيان لعلمائنا: أو حنيفة أجراه مجرى اليمين وجعله أصلا في تحريم كلّ مباح، والشافعي: لم يوجب فيه الكفارة، وجعله مخصوصا بموضع النّص. وأما سبب تحريم يعقوب لحوم الإبل فهو كما قال ابن عباس: «لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النّسا، وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّمها على نفسه، فقالت اليهود: إنما نحرّم على أنفسنا لحوم الإبل لأن يعقوب حرّمها، وأنزل الله تحريمها في التّوراة فأنزل الله هذه الآية:

_ (1) الخادم: الغلام أو الجارية.

منزلة البيت الحرام وفرضية الحج [سورة آل عمران (3) الآيات 96 إلى 97] :

قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فلم يأتوا، فقال عزّ وجلّ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » . قال الزّجاج: «في هذه الآية أعظم دلالة لنبوّة محمد نبينا صلّى الله عليه وسلّم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة، فأبوا، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي» . الثاني- ما حرّمه الله في التّوراة على بني إسرائيل من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء 4/ 160] ، وقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام 6/ 146] . ويرى الكلبي: أنه لم يحرّم الله عزّ وجلّ لحوم الإبل في التوراة عليهم، وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكان بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما، حرم الله تعالى عليهم طعاما طيّبا، أو صبّ عليهم رجزا وهو الموت، فذلك قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ ... وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا.... ودلّت الآيات صراحة على اتّفاق شريعة القرآن مع ملّة إبراهيم، بل وملل الأنبياء قاطبة في الدّعوة إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ومحاربة الشرك والوثنية، واتّباع الإسلام بالمعنى العام: وهو الخضوع والانقياد إلى الله تعالى في كلّ ما أمر به وما نهى عنه. منزلة البيت الحرام وفرضية الحج [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

الإعراب:

الإعراب: بِبَكَّةَ صلة الذي، وتقديره: استقرّ ببكّة. مُبارَكاً وَهُدىً منصوبان على الحال من ضمير: استقر. مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ وخبره محذوف تقديره: من الآيات مقام إبراهيم. وقيل: هو بدل من الآيات. وَمَنْ دَخَلَهُ معطوف على مقام. ويجوز كونه مبتدأ منقطعا عما قبله، وكانَ آمِناً خبر المبتدأ. مَنِ اسْتَطاعَ إما بدل مجرور من الناس، وإما مرفوع بالمصدر وهو: حج البيت، وتقديره: أن يحج، ويجوز إضافة المصدر إلى المفعول، أو مرفوع على أن مَنْ شرطية مبتدأ، واستطاع: مجزوم بمن، وجواب الشرط محذوف تقديره، فعليه الحج. والهاء في إِلَيْهِ إما عائدة على الحج أو على البيت. البلاغة: لَلَّذِي بِبَكَّةَ حذف الموصول للتفخيم وتقديره: للبيت الذي ببكّة. وَمَنْ كَفَرَ وضع موضع «ومن لم يحجّ» تأكيدا لوجوبه. وكان إيجاب الحج بالجملة الاسمية للدلالة على الثبات والاستمرار. وفي الآية تدرج من التعميم إلى التخصيص، ومن الإبهام إلى التبيين، ومن الإجمال إلى التفصيل. المفردات اللغوية: بِبَكَّةَ مكّة، أبدلت ميمها باء، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس، وسميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها. مُبارَكاً أي ذا بركة وكثير الخيرات. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم. آياتٌ بَيِّناتٌ علامات ودلائل. مَقامُ إِبْراهِيمَ موضع قيامه وعبادته، وفيه الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، فأثر قدماه فيه، وبقي إلى الآن، مع تطاول الزمان، وتداول الأيدي عليه. وهو من الآيات البينات، التي منها تضعيف الحسنات فيه وأن الطير لا يعلوه. حِجُّ الْبَيْتِ الحج لغة: القصد، شرعا: قصد بيت الله الحرام للنّسك. سَبِيلًا طريقا، فسّره صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وغيره- بالزّاد والرّاحلة. وَمَنْ كَفَرَ بالله أو بما فرضه من الحجّ. فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ عن الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم. سبب النزول: نزول آية وَمَنْ كَفَرَ: أخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فرض الله على المسلمين حجّ البيت» ، فقالوا:

التفسير والبيان:

لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجّوا، فأنزل الله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وقد ذكرت عن مجاهد سبب نزول آية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ في مقدّمة تفسير الآيات السابقة. التفسير والبيان: إنّ البيت الحرام قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء: هو أوّل بيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام للعبادة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة 2/ 127] ، ثمّ بني المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون، بناه سليمان بن داود سنة 1005 قبل الميلاد، فكان جعله قبلة أولى، فيكون النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ملّة إبراهيم الذي كان يتّجه بعبادته إلى الكعبة المشرّفة. فالبيت الحرام أول بيت عبادة، وهي أولية زمان، تستتبع أولية الشرف والمكانة، وله مزايا عديدة هي: 1- إنه مبارك كثير الخيرات، فهو بالرغم من كونه في واد غير ذي زرع، بصحراء جرداء، كما قال تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص 28/ 57] ، ففيه الخضار والفواكه ومنتجات الدّنيا، وهو أيضا كثير البركة في الثواب والأجر، ففيه تضاعف الحسنات، ويستجاب الدّعاء. 2- إنه مصدر هداية للناس، يتّجه إليه المصلّون، وتهواه الأفئدة، ويزحف إليه الملايين مشاة وركبانا، يأتون إليه من كلّ فجّ عميق، لأداء مناسك الحجّ والعمرة، ببركة دعوة إبراهيم عليه السّلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم 14/ 37] ، وقد

أجاب الله دعاء إبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ... الآية [الحجّ 22/ 27- 28] . 3- فيه آيات واضحات، منها مقام إبراهيم (موضع قيامه للصلاة والعبادة) تعرفه العرب بالنقل المتواتر جيلا عن جيل، ويدلّ عليه أثر قدمه الشريف على الحجر. 4- ومن دخله كان آمنا على نفسه وماله من أي اعتداء وإيذاء، فلا يسفك فيه دم حرام، ولا يقتل الشخص فيه ولو كان مطلوبا للثأر أو القصاص، لقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت 29/ 67] ، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص 28/ 57] ، وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة 2/ 125] ، وكما دعا إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة 2/ 126] . وقال عمر بن الخطاب: «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» . وقال أبو حنيفة: «من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا، فالتجأ إلى الحرم، لم يتعرّض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه» . واتّفقت قبائل العرب على تعظيمه واحترامه، بنسبته إلى الله، حتى إن القاتل اللاجئ إلى الحرم يصير فيه آمنا ما دام فيه. قال الجصاص الرازي: «هذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إلى الحرم، وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله، ولما عبّر تارة بذكر البيت، وتارة بذكر الحرم، دلّ على أنّ الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه» «1» . وقد أقرّ الإسلام ميزة البيت الحرام. وأما ما كان من فتح مكّة عنوة بالسّيف

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 23

فكان لضرورة تطهيره من الشّرك، ولأجل أن يعبد الله وحده، واستحلّ ساعة من نهار لم تحلّ لأحد بعد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أعلن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في السيرة: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . وأما ما حدث أيام الحجاج فهو شذوذ لم يقرّه عليه أحد، ولم يعتقد أحد حل ما فعل بابن الزّبير، وإنما هو ظلم وإلحاد فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج 22/ 25] . وأما بعض حوادث الاعتداء على الأنفس والأموال فهو فعل الفجار الفساق الذين لم يرعوا لله حرمة في كعبة ولا غيرها. وأما ما أجازه الإمامان مالك والشافعي من الاقتصاص من القاتل عمدا في الحرم كله فهو عقوبة حقّ وعدل أمر بها القرآن الكريم، لا تجاوز فيها على أحد. واتّفق أهل العلم على أنه إذا قاتل أحد في الحرم قتل، قال الله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة 2/ 191] ، ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه. روي عن ابن عبّاس وبان عمر وغيرهما من الصّحابة والتابعين، فيمن قتل غيره ثم لجأ إلى الحرم: إنه لا يقتل. قال ابن عبّاس: «ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ» «1» . 5- ومن مزايا البيت الحرام تجمع الحجيج فيه وجعل الحجّ واجبا على المسلمين، فيجب الحجّ على المستطيع منهم، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفي هذا تعظيم للبيت. واستطاعة السبيل إلى الشيء: إمكان الوصول إليه، والسبيل عام يشمل الشيء البدني والمالي، فالحج فريضة على كلّ مسلم ما لم يوجد مانع من

_ (1) المرجع السابق: ص 21

الوصول إلى الحرم، سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا، فالبدني: كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السّباع، أي ألا يكون الطريق مأمونا. والمالي كفقد الزّاد والرّاحلة إذا كان ممن يتعسّر عليه الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة. والبدني والمالي معا: فقد الزّاد والراحلة والمرض أو عدم أمن الطريق. وقد اتّفق أكثر العلماء على أنّ الزّاد والرّاحلة شرطان في الاستطاعة، بدليل ما رواه علي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه الترمذي من حديث ضعيف: «من ملك زادا وراحلة تبلّغه بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» ، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وفسّر الصحابة كابن عمر وغيره استطاعة السبيل: بالزّاد والرّاحلة. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي من جحد كون هذا البيت أول بيت وضع للعبادة، ولم يمتثل أمر الله في الحجّ، فإن الله غير محتاج إليه، إذ هو الغني عن جميع العالمين. والجمهور حملوا ذلك على تارك الحجّ إعراضا عنه مع توافر الاستطاعة، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي وفيه ضعف: «من مات ولم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديّا أو نصرانيّا» . وبدليل ما روي عن الضّحّاك في سبب النزول قال: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان الستّة: المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمشركين والمجوس وقال فيما رواه أحمد وسلم والنسائي: «إنّ الله كتب عليكم الحج، فحجّوا» فآمن به المسلمون، وكفر به الباقون، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلّي ولا نحجّ، فأنزل الله قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. والغرض من الآية والأخبار التنفير من ترك الحجّ والتغليظ على المستطيعين حتى يؤدّوا الفريضة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية الأولى إلى أن البيت الحرام أول بيت وضعه الله للعبادة، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام. وهو يمتاز بمزايا عديدة هي وجود مقام إبراهيم عليه السّلام، وكونه ذا بركة وخير كثير، ومصدر هداية للناس، وسبب وحدة المسلمين لاتّجاههم إليهم في صلاتهم، وموضع أمن وسلام لمن دخله في الدّنيا: بمنع قتله والاعتداء عليه، وفي الآخرة: يكون آمنا من النّار، لقضاء النّسك معظّما له، عارفا بحقّه، متقرّبا إلى الله تعالى. وأرشدت الآية الثانية إلى فرضيّة الحجّ على المستطيع الذي لم يجد مانعا من الوصول إلى البيت الحرام، وهو فرض في العمر مرّة، وتكراره كل خمس سنوات سنّة، لحديث في هذا المعنى أخرجه ابن حبّان في صحيحة والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله عزّ وجلّ: إن عبدا صححت له جسمه، ووسّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ المحروم» أي من الأجر ومطرود من رضوان الله. ودلّ الكتاب والسّنة على أنّ الحجّ على التّراخي، لا على الفور، وهو مذهب الشافعية ومحمد بن الحسن، قال القرطبي: وهو الصحيح لأن الله تعالى قال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا [الحج 22/ 27] وسورة الحج مكيّة، وقال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 3/ 97] ، وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة، ولم يحجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سنة عشر. وورد في السّنة ما يدل على فرضية الحج مثل حديث ضمام بن ثعلبة السعدي قدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله عن الإسلام، فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج. واختلف في وقت قدومه، فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع. قال ابن عبد البرّ: ومن الدّليل على أن الحج على التراخي: إجماع العلماء

على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخّره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حجّ من بعد أعوام من حين استطاعته، فقد أدّى الحجّ الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها، فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه، ولا كمن أفسد حجّه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حجّ بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاض لما وجب عليك، علمنا أن وقت الحج موسّع فيه، وأنه على التّراخي، لا على الفور. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والمالكية في أرجح القولين، والحنابلة: يجب الحجّ بعد توافر الاستطاعة وبقية شروط الوجوب على الفور في العام الأول، أي في أول أوقات الإمكان، فيفسق وتردّ شهادته بتأخيره سنينا لأنّ تأخيره معصية صغيرة، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار، لأنّ الفورية ظنيّة، بسبب كون دليلها ظنيّا، كما ذكر الحنفيّة. واستدلّوا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة 2/ 196] ، والأمر على الفور. واستدلّوا أيضا بأحاديث منها: «حجّوا قبل أن لا تحجّوا» «1» ، ومنها: «تعجّلوا إلى الحجّ- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» «2» ، ومنها: «من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر، فلم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» «3» ورواية الترمذي المتقدمة: «من ملك زادا أو راحلة تبلّغه إلى بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 3/ 97] » «4» .

_ (1) حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن علي. [.....] (2) رواه أحمد والأصبهاني عن ابن عباس، وهو ضعيف. (3) رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة مرفوعا، وهو ضعيف. (4) قال الترمذي: غريب، في إسناده مقال، وفيه ضعف.

هذه الأخبار مع غيرها تدلّ على وجوب الحجّ على الفور فإنه ألحق الوعيد بمن أخّر الحجّ عن أوّل أوقات الإمكان لأنه قال: «من ملك.. فلم يحجّ» والفاء للتعقيب بلا فصل، أي لم يحجّ عقب ملك الزاد والراحلة، بلا فاصل. وأجمع العلماء على أن الخطاب في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ عام في جميع الناس، ذكرهم وأنثاهم، ما عدا الصغار فإنهم غير مكلّفين. وإذا وجدت الاستطاعة فقد يمنع مانع من الحجّ كالغريم يمنعه الدّائن عن الخروج حتى يؤدّي الدّين، أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم، فلا يلزمه الحجّ، حتى يوفّر لهم النّفقة مدّة الغياب، وتقديم العيال أولى، قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عمرو: «كفى المرء إثما أن يضيّع من يقوت» . وكذا الأبوان يخاف الضيعة عليهما، ولم يكن له من يتلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحجّ، فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة، فلا يلتفت إليه. وإذا منع الرجل زوجته من الحجّ، لم تحجّ على الصّحيح. وإذا لم يتوافر المحرم للمرأة أو الزّوج فلا يجب عليها الحجّ، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين عن ابن عمر: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاث إلا مع ذي رحم محرم أو زوج» فليس للمرأة أن تحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم. وهل تكون الاستطاعة للبعيد عن البيت بالمشي؟ قال الشافعية والحنابلة: لا حجّ على الفقير البعيد عن البيت الذي لا يجد الزّاد والرّاحلة إذا أمكنه المشي، وإن حجّ أجزأه ذلك عن حجّة الإسلام. وحكي عن مالك: أن عليه الحجّ إذا أمكنه المشي، ووجد الزّاد أو القدرة على الكسب، أو لم يجد الزّاد والرّاحلة أيضا إذا أطاق المشي. والحجّ لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة لأنه ليس في الآية ما يوجب

التّكرار، وقد روى أحمد والنسائي عن ابن عبّاس أن الأقرع بن حابس سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، الحجّ في كلّ سنة، أو مرّة واحدة؟ فقال: «بل مرّة، فمن زاد فتطوع» . ولم يجز الإمام مالك خلافا للجمهور النّيابة في الحجّ، فلا يجزئ أن يحجّ عن الشّخص غيره لأن حجّ الغير لو أسقط عنه الفرض، لسقط عنه الوعيد المذكور في الآية: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. أما المريض والمغضوب الذي لا يستطيع الثبات على الراحلة، فيسقط عنه فرض الحج أصلا، في رأي مالك، سواء كان قادرا على من يحجّ عنه بالمال أو بغير المال، واحتجّ بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم 53/ 39] ، والمغضوب لا يستطيع السّعي، ولأنه غير مستطيع، والحجّ فرض على المستطيع. لكن أجاز المالكية الإجارة على الحجّ عن الميت الذي أوصى به، ويجوز أن يكون الأجير على الحجّ عندهم لم يحجّ حجّة الفريضة. ويجوز في رأي الجمهور النّيابة في الحجّ عن الغير لمن مات ولم يحج، أو كان مريضا عاجزا عن الحجّ لعذر وله مال، لحديث ابن عبّاس وغيره الذي رواه الجماعة: «أن المرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحجّ شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستوي على ظهره؟ قال: فحجّي عنه» وكان ذلك الإذن في حجّة الوداع. وجاء في رواية: «لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره» ، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فحجّي عنه، أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحقّ أن يقضى» ، فأوجب النّبي صلّى الله عليه وسلّم الحجّ بطاعة ابنتها إياه، وبذلها من نفسها له بأن تحجّ عنه، فيجوز له أن يستأجر عنه شخصا يحجّ عنه إذا كان قادرا على المال. ولا تتحقق الاستطاعة بالهبة بأن يهب له شخص أجنبي عنه مالا يحجّ به،

إصرار أهل الكتاب على الكفر وصدهم عن سبيل الله [سورة آل عمران (3) الآيات 98 إلى 99] :

ولا يلزمه قبوله إجماعا، لما يلحقه من المنّة في ذلك. وقال الشافعي: لو وهب الابن لأبيه مالا يلزمه قبوله لأن ابن الرّجل من كسبه، ولا منّة عليه في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يلزمه قبوله لأن فيه سقوط حرمة الأبوة إذ يقال: قد جزاه، وقد وفّاه. هذا ... وقد تقدّمت أحكام أخرى للحجّ والعمرة في تفسير سورة البقرة- الجزء الثاني. إصرار أهل الكتاب على الكفر وصدهم عن سبيل الله [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) الإعراب: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ جملة حالية فيها تهديد ووعيد، وشَهِيدٌ: صيغة مبالغة، وما: متعلقة بقوله شَهِيدٌ، وهي اسم موصول. المفردات اللغوية: بِآياتِ اللَّهِ دلائل الله الدالة على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. شَهِيدٌ عالم بالشيء مطلع عليه، فيجازي عليه. تَصُدُّونَ تصرفون. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه، والسبيل يذكر ويؤنث، وهو الطريق. تَبْغُونَها تطلبون السبيل. عِوَجاً مصدر بمعنى معوجة أي مسائلة عن الحق، فالعوج: الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول، والمراد هنا: الزيغ

سبب النزول:

والانحراف. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ عالمون بأن الدين المرضي القيم دين الإسلام، كما في كتابكم. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب، وإنما يؤخركم إلى وقتكم، ليجازيكم. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري عن زيد بن أسلم قال: مرّ شاس بن قيس اليهودي- وكان شيخا قد غبر في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد، لا والله، مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار. فأمر شابا من اليهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكّرهم يوم بعاث «1» وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كان تقاولوا فيه من الأشعار. وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل، فتكم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت رددتها جذعا «2» وغضب الفريقان جميعا وقالا: ارجعا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة «3» ، وهي حرّة، فخرجوا إليها، فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى

_ (1) أحد أيام الجاهلية التي وقع فيها حرب طاحنة بين الأوس والخزرج. (2) أي شابة فتية، يعنون الحرب. (3) وهي الحرة: وهي أرض مستوية بظاهر المدينة. والحرة: ذات حجارة سود.

المناسبة:

بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألّف بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا، الله الله، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين. فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- يعني الأوس والخزرج- إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- يعني شاسا وأصحابه- يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم «1» . المناسبة: بعد أن أورد الله تعالى أدلة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم واعتراضهم على ذلك، وإبطال شبهاتهم ومزاعمهم، وبخهم على إصرارهم على الكفر، وصدهم عن دين الله، مستعملا الخطاب بأهل الكتاب، ليدعوهم باللين إلى تغيير موقفهم من دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإيمانهم برسالته، مع علمهم بصدقه وصحة ما جاء به.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 66 وما بعدها، البحر المحيط: 3/ 13

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: قل لهم يا محمد: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله، وما سبب ذلك، وما دليلكم على موقفكم الرافض دعوة الإسلام، ولأي سبب تصرفون المؤمنين عن جادة الإيمان الذي يرقى بالعقل عن طريق إعمال النظر في الكون، ويزكي الروح بالأخلاق، ويرفع مستوى الإنسان بالأعمال الطيبة الصالحة؟ إنكم بهذا الموقف المعاند القائم على الحسد والاستعلاء والكبر وإلقاء الشبهات الباطلة، تريدون الانحراف عن منهج الحق، والزيغ عن سبيل الاستقامة على الهدى، وأنتم عارفون معرفة تامة بصدق محمد في نبوته، وتقدم البشارة به، وقد غيّرتم وبدّلتم صفاته، وكذبتم على الله، وما الله بغافل عن أعمالكم ومكائدكم، فمجازيكم عليها. والسبب في ختم الآية الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ ... : هو أن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود، وأما سبب ختم الآية الثانية بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ ... فهو أن الصد عن الإسلام كان عن طريق المكر والاحتيال. وتكرر الخطاب بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ للتوبيخ بلطف ولين، ولحملهم على الانضمام لدعوة الإسلام المتفقة مع أصول كتبهم الصحيحة. والآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال «1» . فقه الحياة أو الأحكام: إن أصول الأديان واحدة، وغاياتها واحدة، وطريقها بالدعوة إلى التوحيد الإلهي، وسمو الأخلاق والفضائل، وعبادة الله واحدة أيضا، فما على أتباع الأديان إلا أن ينضم بعضهم إلى بعض، دون تمسك بما لديه، وبما أن الإسلام خاتم

_ (1) تفسير المراغي: 4/ 14

توجيه المؤمنين إلى الحفاظ على الشخصية والاعتصام بالقرآن والإسلام [سورة آل عمران (3) الآيات 100 إلى 103] :

الرسالات السماوية، فعلى المتقدمين من أتباع الملل الأخرى الانضمام تحت لوائه، ليكون جند الإيمان في خندق واحد وصف واحد أمام معسكر الشرك والوثنية، وأما المسلمون فهم مؤمنون بكل الرسل دون تفرقة بين أحد منهم، وبما أنزل عليهم من كتب وصحف ووصايا. وهذا ما ركز عليه القرآن بدعوة أهل الكتاب بالكف عن عنادهم وحسدهم، وقبولهم سراعا دعوة القرآن. وهاتان الآيتان لون من ألوان التعنيف والتوبيخ من الله تعالى بلطف ولين لأهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله (وهي القرآن وما اشتمل عليه من دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم) وصدّهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم، ومكرهم، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله، وبما عندهم من بشائر الأنبياء المتقدمين بالنبي محمد. واستحقوا في هاتين الآيتين التهديد والوعيد، والإعلان الصريح عن إحباط المؤامرات، وكشف أنواع الخداع، وإلقاء الشبهات، وألوان المكر لأن الله تعالى شهيد على صنيعهم ذلك، غير غافل عن مكائدهم، وسيجازيهم على سوء أعمالهم ومواقفهم المستغربة المتسمة بالتكذيب والجحود والعناد. أجل! إنه إنذار في الدنيا قبل فوات الأوان، وإعلام بالحق لئلا يضل الناس، وتحذير من الميل مع أهواء النفوس التي من أخصها الحسد والعناد والكبر التي حملت أصحابها على الضلال بأنفسهم ومحاولة الإضلال لغيرهم. توجيه المؤمنين إلى الحفاظ على الشخصية والاعتصام بالقرآن والإسلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 103] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

الإعراب:

الإعراب: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا الجار والمجرور في موضع نصب لأنه خبر كان. وشَفا: أصله شفو، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقبلت ألفا. البلاغة: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ استفهام تعجب وتوبيخ واستبعاد وقوع الكفر منهم مع تلاوة القرآن ووجود الرسول فيهم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ استعارة تصريحية، شبه القرآن بالحبل، وأستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه وهو القرآن، بجامع النجاة في كل منهما. شَفا حُفْرَةٍ استعارة تمثيلية، شبه حالهم في الجاهلية بحال المشرف على حفرة عميقة. المفردات اللغوية: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ تجحدون، وهو استفهام تعجب وتوبيخ يَعْتَصِمْ يتمسك به حَقَّ تُقاتِهِ الحق: الوجوب والثبوت، والتقاة: التقوى، والأصل فيه: اتقاء حقا، أي اتقوه التقوى الواجبة: بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، فقالوا: يا رسول الله، ومن يقوى على هذا، فنسخ بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وَاعْتَصِمُوا تمسكوا بِحَبْلِ اللَّهِ هو العهد أو الدين أو القرآن أو الإسلام، وكل ذلك مترادف المعنى شَفا حُفْرَةٍ طرف حفرة، وأشفى على الشيء: أشرف عليه. وهو مثل يضرب في القرب من الهلاك. وأريد به هنا القرب من النار أي ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا كفارا فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإيمان كَذلِكَ كما بيّن لكم ما ذكر يبين لكم الآيات.

سبب النزول:

سبب النزول: أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر، فبينما هم جلوس، ذكروا ما بينهم حتى غضبوا، وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ الآية والآيتان بعدها. وهذا مؤيد لما ذكر في بيان سبب نزول الآيتين المتقدمتين. التفسير والبيان: حذر الله المؤمنين من إطاعة الكافرين وإغوائهم وإضلالهم، بعد أن وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وذلك من أجل تماسك الشخصية الإسلامية والحفاظ على تميزها واستقلالها، بعد أن انحرف أهل الكتاب عن صراط الله المستقيم، وتبيان ذلك فيما يأتي: أيها المؤمنون إذا أطعتم هؤلاء اليهود فيما يثير الفتنة ويؤجج نار الجاهلية العمياء، ردّوكم إلى الكفر بعد الإيمان، وإلى التفرق بعد الوحدة، وإلى الكراهية والحقد والضغينة بعد المحبة والصفاء والوداد، كما قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة 2/ 109] والكفر مهلكة في الدين بخسارة الآخرة وسوء الحال في الدنيا والمعاش، ومهلكة في الدنيا بإثارة الفتنة والعداوة والبغضاء. وكيف تكفرون بالله وحاشاكم منه وكيف تطيعون الكفرة فيما يشيرون به؟ والحال أن فيكم أمرين: الأول- تلاوة آيات الله التي تنزل على رسوله ليلا ونهارا، وهو يتلوها عليكم، ويبلّغها إليكم، وهو القرآن الظاهر الإعجاز، كقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد 57/ 8] . والثاني- وجود الرسول فيكم الذي ظهرت على يديه الخوارق المؤيدة

لدعوته. ووجود هاتين الحالتين ينافي الكفر، وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر، فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون، ولذلك نودوا بوصف الإيمان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا «1» . ومن يعتصم بالله وكتابه ويتمسك بدينه ويتوكل عليه، فقد أحرز الهداية، وابتعد عن الغواية، وسار في طريق الرشاد والسداد وتحقيق المراد. ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالتزام التقوى حقا، بأن يؤدوا الواجبات ويجتنبوا المنهيات، وذلك باجتناب المعاصي كلها، واتباع الأوامر قدر المستطاع، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 64/ 16] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» «2» وقال ابن مسعود: «حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» «3» وقال ابن عباس: هو ألّا يعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشقّ عليهم، فأنزل الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت هذه الآية. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية. والأصوب أن قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بيان لهذه الآية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى. ثم نهاهم بقوله: ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، أي: ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت. وهذا حث على المبادرة إلى الإسلام ابتداء

_ (1) البحر المحيط: 3/ 14 (2) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. (3) إسناده صحيح موقوف رواه البخاري.

واستمرارا، والمحافظة عليه في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، وليس معناه النهي عن الموت حتى يسلموا، وإنما المطلوب هو التدين بالإسلام قبل مفاجأة الموت. ثم أمر بالاعتصام بكتاب الله وعهده الذي عهد به إلى الناس، ونهى عن التفرق عنه أبدا، والتزام الألفة والاجتماع على طاعة الله والرسول. وحبل الله: هو الإيمان والطاعة والعمل بالقرآن، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: فيما أخرجه الترمذي: «القرآن: حبل الله المتين، ونوره المبين، لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به، هدي إلى صراط مستقيم» . ثم ذكّرهم بالنعمة العظمى التي أنعم بها على العرب وهي نعمة الوحدة والتجمع بعد التفرق، والألفة بعد العداوة والخصام، وقتل بعضهم بعضا، وتسلط القوي على الضعيف، والأخوة الإيمانية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات 49/ 10] بعد الكفر والشرك، والإشراف على حافة النار والهلاك بسبب الشرك والوثنية، فصاروا سادة البشر وأساتذة العالم، وأنقذهم الله بالإسلام من الدمار والهلاك: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم 14/ 34] . وقد كان بين العرب ومنهم الأوس والخزرج حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم واقتتالهم، فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال 8/ 63] . مثل هذا البيان الناصع الذي بيّنه لكم ربكم في هذه الآيات لما يضمره اليهود

فقه الحياة أو الأحكام:

نحوكم، ولما أمركم به ونهاكم عنه، ولما كنتم عليه في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإسلام، يبين سائر آياته وحججه في تنزيله على رسوله، لتهتدوا هداية دائمة، وتزدادوا هداية، حتى لا تعودوا إلى أوضاع الجاهلية من التفرق والعدوان، والوثنية والشرك، والضلال في العقيدة والأخلاق والتعامل. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- الحفاظ على الشخصية الإسلامية وتميزها، ورفض تبعتها لغير المسلمين، والتحذير من الإصغاء لمشورتهم، والتفكير العميق في آرائهم، كيلا تؤدي إلى الضرر والشر والفساد، أو الفرقة والخلاف والانقسام. 2- تحكيم القرآن والسنة فيما قد يقع فيه المسلمون من نزاع أو اختلاف في الرأي، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى 42/ 10] فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء 4/ 59] . 3- الاعتصام والتمسك بالقرآن وبدين الله تعالى وطاعته، والالتفاف الموحد حول أحكام الله حلالها وحرامها، واجتماع المسلمين على وحدة الهدف والغاية من أجل صون الحرمات والبلاد من عدوان المعتدين فإنه لم يتوافر لأمة مقومات تجمع بين شعوبها وأفرادها مثل ما توافر لأمة الإسلام، وهي الآن مع الأسف أبعد الناس عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف والغاية والمنهج، وتلك المقومات واضحة في تلاوة آي القرآن وآثار رسول الله. قال قتادة: في هذه الآية علمان بيّنان: كتاب الله ونبيّ الله فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. 4- ليس الاختلاف مذموما إذا كان في مجال مسائل الاجتهاد واستخراج

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأكيد النهي عن التفرق [سورة آل عمران (3) الآيات 104 إلى 109] :

الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون، ولا فيما كان أثناء تبادل الآراء فيما يحقق مصلحة الأمة بإخلاص، فليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الجزئيات والفروع، وتقدير المصالح العامة، وإنما الخلاف المذموم هو في اتباع الأهواء والأغراض المختلفة، وما يؤدي إليه من تقاطع وتدابر وتقاتل. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» «1» وأخرجه أيضا عن ابن عمر بزيادة: «كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» . 5- أوجب الله تعالى علينا التّمسك بكتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم والرّجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسّنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتّفاق الكلمة، وانتظام الشّتات الذي يتمّ به مصالح الدّنيا والدّين، والسّلامة من الاختلاف، كما بيّنا. وقرن ذلك بأمره تعالى بتذكّر نعمه وأعظمها الإسلام واتّباع نبيّه محمد عليه الصّلاة والسّلام، فإن به زالت العداوة والفرقة، وكانت المحبّة والألفة. الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وتأكيد النّهي عن التّفرّق [سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

_ (1) قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

الإعراب:

الإعراب: يَوْمَ تَبْيَضُّ يوم: منصوب إما بمحذوف مقدر بفعل، تقديره: اذكر يا محمد يوم تبيض وجوه، وإما بقوله: لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي استقر لهم هذا العذاب في يوم تبيض وجوه. أَكَفَرْتُمْ فيه محذوف مقدر تقديره: فيقال لهم: أكفرتم، وحذف لدلالة الكلام عليه، وحذفت الفاء تبعا للقول، وحذف القول كثير في كلامهم. والهمزة: همزة استفهام ومعناها التّوبيخ والإنكار. البلاغة: يوجد طباق مقابلة في قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فيه قصر صفة على موصوف، حيث قصر الفلاح عليهم. ويوجد طباق أيضا بين كلمتي تَبْيَضُّ وتَسْوَدُّ. فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ مجاز مرسل، من باب إطلاق الحال وإرادة المحل، أي في الجنة لأنها مكان تنزل الرّحمات. أما معنى المقابلة الذي جعله بعض البلغاء من أنواع الطباق: فهو أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مِنْكُمْ من للتبعيض لأن ما ذكر فرض كفاية، لا يلزم كلّ الأمّة، ولا يليق بكلّ أحد كالجاهل. أُمَّةٌ جماعة تربطهم رابطة معينة تجمعهم. إِلَى الْخَيْرِ ما فيه المنفعة وصلاح الناس في الدين والدنيا. بِالْمَعْرُوفِ ما استحسنه الشرع والعقل. الْمُنْكَرِ ما استقبحه الشرع والعقل. الْمُفْلِحُونَ الفائزون. تَبْيَضُّ تشرق وتسرّ. وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ تكتئب وتحزن، وذلك يوم القيامة. بِالْحَقِّ أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا شبهة فيه. ظُلْماً الظّلم: وضع الشيء في غير موضعه، إما بالنّقص أو الزّيادة أو بالتعديل في وقته أو مكانه. المناسبة: هذه الآيات كالشّرح لقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا فشرح الاعتصام بحبل الله بقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وشرح وَلا تَفَرَّقُوا بقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا «1» . أمرنا تعالى بالاعتصام بالقرآن والتّمسك بالدّين، ونهانا عن التّفرّق والاختلاف، ثمّ بيّن لنا سبيل الاعتصام بالدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فهذه تذكّر بالله وباليوم الآخر، وترشد إلى الإسلام، وتعصم من الزّيغ والانحراف، بقصد الحفاظ على وحدة الأمة، وترشد أبنائها، وتكثير سوادها بالأتباع الذين يؤمنون بدعوة الإسلام، وتضامن الأفراد في كلّ ما هو حضاري يؤدّي إلى القوة والتقدّم والسّمو، روى مسلم وأحمد حديثا معروفا عن النّعمان بن بشير هو: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر السجد بالحمّى والسّهر» . وروى البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي عن أبي موسى الأشعري: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» .

_ (1) البحر المحيط: 3/ 21

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يأمر الله تعالى الأمة الإسلامية بأن يكون منها جماعة متخصصة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأولئك الكمّل هم المفلحون في الدّنيا والآخرة. وتخصص هذه الفئة بما ذكر لا يمنع كون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجبا على كلّ فرد من أفراد الأمّة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» ، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل» . وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم، عقابا من عنده، ثّم لتدعنّه فلا يستجيب لكم» . وكان الواحد من السّلف الصالح لا يتوانى في هذا الواجب، ولا يخشى في الله لومة لائم، فقد خطب عمر على المنبر قائلا: «إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموه» فقام أحد رعاة الإبل، وقال: لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا. ولا تكونوا أيّها المؤمنون كأهل الكتاب الذين تفرّقوا، في الدّين، وكانوا شيعا، واختلفوا اختلافا كثيرا، من بعد ما جاءتهم الأدلّة الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتّبعوها، لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فاستحقّوا العذاب العظيم في الدّينا والآخرة، أما في الدّنيا فيجعل بأسهم بينهم شديدا، ويذيقهم الخزي والنّكال، وأما في الآخرة ففي جهنم هم فيها خالدون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة 5/ 78- 79] .

وهذا الوعيد لأهل الكتاب يقابل الوعد بالفلاح والنّجاة والفوز لأهل الإيمان، والاختلاف المنهي إنما هو الاختلاف في أصول الدّين وتحكيم الهوى والمصلحة الشخصية في القضايا العامة. أما الاختلاف في الفروع المذهبية والاجتهادات الجزئية، كاختلاف المذاهب في كثير من تفاصيل العبادات والمعاملات، فليس مذموما لتعدد المفاهيم المستوحاة من النّصّ القرآني، وتعدّد أفعال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكيفيّة ثبوت الأخبار والرّوايات. وزمان العذاب للكفار هو يوم القيامة، يوم تبيضّ وتشرق وتسرّ وجوه المؤمنين كما في آية أخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] وتسودّ وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحقّ والصّبر من أهل الكتاب والمنافقين حينما يرون ما أعدّ لهم من العذاب الدّائم، وذلك مثل قوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة 75/ 24- 25] ، وقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس 80/ 40- 41] ، وقوله: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [يونس 10/ 27] . ثمّ أوضح الله تعالى مصير الفريقين، فبيّن سوء حال الفريق الثاني ثمّ حال الفريق الأوّل على طريقة اللّف والنّشر المشوش، أمّا الذين اسودّت وجوههم بسبب تفرّقهم واختلافهم، فيوبخهم تعالى ويؤنّبهم بقوله: أكفرتم بالرّسول محمد بعد إيمانكم به، فقد كنتم على علم ببعثته، ولديكم أوصافه والبشارة به؟ ولكن كفرتم به حسدا وحقدا، فكان جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بكفركم. وأمّا الذين ابيضّت وجوههم باتّحاد الكلمة وعدم التّفرق في الدّين، فهم خالدون في رحمة الله، أي ماكثون في الجنّة أبدا، لا يبغون عنها حولا. هذه الآيات: آيات الله وحججه وبيّناته نتلوها عليك يا محمد مقررة ما هو

فقه الحياة أو الأحكام:

الحقّ الثابت الذي لا شبهة فيه، كاشفة حقيقة الأمر في الدّنيا والآخرة. والله لا يريد ظلما للعباد، أي ليس بظالم، بل هو الحاكم العدل الذي لا يجوز لأنه القادر على كلّ شيء، العالم بكلّ شيء، ولأن الظلم يصادم الحكمة والكمال في النّظام وفي التّشريع، فلا يحتاج إلى ظلم أحد من خلقه، وأما ما يأمر به وينهى عنه، فإنما يريد هدايتهم إلى أقوم الطّرق، فإذا خرجوا عن حدود الطّاعة وفسقوا كانوا هم الظالمين لأنفسهم، والظالم هو الذي سبب لنفسه العقاب، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] ، وقال: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود 11/ 117] . ومما يدلّ على عدم احتياج الله لظلم أحد من خلقه: أن جميع ما في السموات والأرض من مخلوقات وكائنات ملك له وعبيد له، وأنهم إليه راجعون، فهو الحاكم المتصرّف في الدّنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: أوّلا- إنّ الدعوة إلى الإسلام ونشرها في آفاق العالم والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من فروض الإسلام الكفائية، لقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة 9/ 122] . ويجب أن يكون الدّعاة علماء بما يدعون الناس إليه، وقائمين بفرائض الدّين، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج 22/ 41] ، والسبب أن الدّاعية هو القدوة الحسنة والمثل الصالح

الذي يحتذي به، ويقلّده الآخرون ويتأثّرون به، وتحليل تلك الضوابط يتجلّى في الشروط الآتية المطلوبة في الدّعاة: 1- العلم بالقرآن والسّنّة والسّيرة النّبويّة وسيرة الرّاشدين. 2- تعلّم لغة القوم الذين يراد دعوتهم إلى الدّين، إذ يتعذّر تحقيق الغاية بدون ذلك، وقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعض الصحابة بتعلّم العبريّة لمحاورة اليهود. 3- معرفة الثقافة الحديثة والعلوم العامة وأحوال الأقوام وأخلاقهم وطبائعهم، والملل والنحل، وشبهات التّيارات والمبادئ الاقتصادية والاجتماعية السائدة في العالم المعاصر، وموقف الإسلام منها. ثانيا- إن التّفرق في الدّين وسياسة الأمة العامة أمر حرام ومنكر عظيم مؤذن بتدمير المصلحة العامة والقضاء على وجود الدولة المسلمة والأمة المؤمنة، وقد عدّ القرآن المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين، كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم 30/ 32] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام 6/ 159] . ومن خرج عن حدود الدين ومقاصده كان ظالما، ومن لازم الظلم كان كافرا، كما قال تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] . ومن ترك الاعتصام بالقرآن والإسلام ورد الأمر المتنازع فيه إلى غير الكتاب والسنة كان أيضا من الكافرين. هذا.. والاختلاف المحظور إنما هو الاختلاف في العقيدة وأصول الدين، وأما اختلاف الفقهاء في الفروع الاجتهادية فهو محمود غير مذموم ومن يسر الشريعة.

سبب خيرية الأمة الإسلامية وضرب الذلة والمسكنة على اليهود [سورة آل عمران (3) الآيات 110 إلى 112] :

ثالثا- إن أهل الطاعة لله عز وجل والوفاء بعهده هم الذين تبيض وجوههم وتسر يوم القيامة، ولهم الخلود في الجنة ودار الكرامة، جعلنا الله منهم، وجنبنا الضلالة بعد الهدى. وأما أهل المعصية الذين كفروا بعد الإيمان فلهم سوء العذاب بسبب كفرهم. وكل من بدل أو غيّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه، ولم يأذن به الله فهو من المسوّدي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من رحمة الله من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال ذرة من خير أو حبة من إيمان. رابعا- كل ما في الكون وكل ما في السموات والأرض ملك لله تعالى وعبيد له، يتصرف بهم كيفما شاء، ولا يشاء إلا ما فيه الحكمة والخير ومصلحة العباد، فهو قادر على كل شيء، وغني عن الظلم، لكون كل شيء في قبضته وتصرفه، فلا يصح لأحد من الخلق أن يسأل غير الله أو يعبد غير الله، وعليهم أن يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره. سبب خيرية الأمة الإسلامية وضرب الذلة والمسكنة على اليهود [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)

الإعراب:

الإعراب: أُخْرِجَتْ جملة فعلية في موضع جر لأنها صفة لأمة. لِلنَّاسِ جار ومجرور في موضع نصب، ويتعلق إما ب أُخْرِجَتْ أو ب خَيْرَ وقوله: تَأْمُرُونَ.. كلام مستأنف أبان به كونهم خير أمة. إِلَّا أَذىً منصوب لأنه استثناء منقطع، وكذلك قوله إِلَّا بِحَبْلٍ أي ولكن قد يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، فيأمنون على أنفسهم وأموالهم. والجملتان وهما مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ولَنْ يَضُرُّوكُمْ واردتان على طريق الاستطراد، بمناسبة الكلام عن أهل الكتاب. البلاغة: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ استعارة تبعية حيث شبه الذل بالخباء المضروب على أصحابه، ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو الضرب. وَباؤُ بِغَضَبٍ نكّر كلمة الغضب للتفخيم والتهويل. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ تساءل الزمخشري قائلا: هلا جزم المعطوف في قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ؟ ثم أجاب بقوله: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، أي لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم. والفرق بين الجزم والرفع: أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا (الكشاف: 1/ 342) . المفردات اللغوية: كُنْتُمْ أي وجدتم وخلقتم خير أمة، أي في الماضي، وقد تستعمل للأزلية والدوام كما في

سبب النزول:

صفاته تعالى مثل: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. أُخْرِجَتْ أي أظهرت. أَذىً أي ضررا يسيرا كالسب باللسان والوعيد. يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ كناية عن الانهزام أي يكونوا منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ وعد مطلق من الله للمسلمين في الماضي، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم أنهم بعد التولي مخذولون غير منصورين، لا تنهض لهم قوة بعدها، ولا يستقيم لهم أمر، وكان ذلك كما أخبر في هزيمة طوائف اليهود في المدينة وهم «بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع» ويهود خيبر. والتراخي في ثُمَّ هو في المرتبة. الذِّلَّةُ الذل الذي يحدث في النفوس من فقد السلطة، وضربها عليهم: إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم، كضرب السكة بما ينقض فيها. ثُقِفُوا حيثما وجدوا. بِحَبْلِ أي عهد، وهو تأمينهم وعهد المؤمنين إليهم بالأمان على أداء الجزية، أي لا عصمة لهم غير ذلك، وتظل صفة الذل بهم، سواء كانوا حربا أو أهل ذمة. وَباؤُ رجعوا، من البوء وهو المكان أي حلوا فيه يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحد. سبب النزول: نزول الآية (110) : قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن خير وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. نزول الآية (111) : قال مقاتل: إن رؤوس اليهود: وهم كعب ويحرى والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنهم: عبد الله بن سلام وأصحابه، فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. المناسبة: هذه الآيات تثبيت للمؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على

التفسير والبيان:

الحق والدعوة إلى الخير، وهي أيضا ترغيب لهم في المحافظة على مزيتهم باتباع الأوامر وترك النواهي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وأعقب ذلك بمقارنتهم بحال أهل الكتاب وبيان سبب إلحاق صفة الذل بهم والغضب عليهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن الأمة الإسلامية بأنها خير الأمم في الوجود الآن، ما دامت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله إيمانا صحيحا صادقا كاملا. وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان لأنهما أدل على بيان فضل المسلمين على غيرهم، ولأن الإيمان يدعيه غيرهم، وتظل الخيرية والفضيلة لهذه الأمة ما دامت تؤمن بالله حق الإيمان وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وأما الأمم الأخرى فقد غلب عليهم تشوية حقيقة الإيمان، وشاع فيهم الشر والفساد، فلا يؤمنون إيمانا صحيحا، ولا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر. والإيمان المطلوب: هو الموصوف بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات 49/ 15] وقوله أيضا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] . وفي قوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك، لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ، وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ

سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النساء 4/ 150- 151] . والدليل عليه قوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع إيمانهم بالله، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام، حبا للرياسة، واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع، وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين. هذه المقومات والأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان الحق بالله وبعناصر الإيمان الأخرى هي سبب الفضيلة والخيرية، ولا تثبت للأمة إلا بمحافظتها على هذه الأصول الثلاثة، روى ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها، رأى من الناس دعة، فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم قال: «من سرّه أن يكون من هذه الأمة، فليؤد شرط الله فيها» . ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة 5/ 79] . ولهذا لما مدح الله تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال: ولو آمنوا بما أنزل على محمد، لكان خيرا لهم إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، ويؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى، ويكفرون بمحمد، مع أن كتبهم تتضمن البشارة بمحمد وصفته! إلا أن هذا الذم ليس كليا ولا جماعيا شاملا، لذا استطرد الله تعالى فذكر أن بعض أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي ورهطه مؤمنون إيمانا حقا، لكن أكثرهم فاسقون خارجون عن حدود دينهم وكتبهم، متمردون في الكفر، فقليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان. ومرة يعبر تعالى بالأكثر كما هنا، وكما في قوله

عن بني إسرائيل: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء 4/ 46] ، وتارة يعبر بالكثير، كما في قوله عن النصارى واليهود: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [المائدة 5/ 66] . ويكثر الفسق عادة بعد طول الأمد على ظهور الدين، كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد 57/ 16] . ثم أخبر الله تعالى عباده المؤمنين وبشرهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب، فذكر أن هؤلاء الكافرين الفاسقين لن يلحقوا بكم إلا ضررا بسيطا كالسب والهجاء والتوعد باللسان ومحاولة الصد عن دين الله، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات، وتحريف النصوص، والطعن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما يفعل المبشرون اليوم. وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم، ولا ينصرون عليكم أبدا ما داموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم بالحفاظ على الأصول الثلاثة، وقد تحققت لسلف أمتنا هذه البشارات الثلاث من أخبار الغيب، فانهزم يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ويهود خيبر. وتحقق مثل هذه الانتصارات مرهون بنصر دين الله، كما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] وبالحفاظ أيضا على الأصول الثلاثة المذكورة هنا وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة 9/ 112] . والخلاصة: إن النصر ليس هبة تمنح كما يتوقع بعض المخدوعين، وإنما هو

مشروط بالإتيان بمقومات دينية أساسية، فما دمنا نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله إيمانا صحيحا، تحقق لنا النصر والسيادة والعزة، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان، ظلوا أذلة مقهورين. والله تعالى ألصق بهم الذل والهوان أبدا أينما كانوا، لا ينعمون بأمن ولا استقرار، إلا بعهدين: عهد الله وعهد الناس. أما عهد الله فهو ما قررته الشريعة لهم من الأمان وتحريم الإيذاء والمساواة في الحقوق والقضاء إذا تم لهم عقد الذمة وفرض الجزية وإلزامهم أحكام الملة. وأما عهد الناس: فهو ما يصدر لهم من الأمان كالمهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه أحد المسلمين ولو امرأة، وكذا التاجر الذي يتعامل معه في داخل البلاد أو على الحدود الخارجية، لتبادل المنافع والصنائع والتجارات. ومثل ذلك ما نجده من الحماية الثابتة لليهود في فلسطين، سواء من أمريكا وأوربا وروسيا وغيرها من الدول الكبرى. والله تعالى أيضا ألزمهم غضبا منه فالتزموه، واستوجبوه واستحقوه، وأحاط بهم المسكنة والصغار إحاطة المكان بما فيه، فهم تابعون أذلاء لغيرهم، دائمون في الذل والحاجة والتبعة لغيرهم، متفرقون في أقطار الأرض على قلتهم، وسيظلون كذلك بالرغم من محاولاتهم المستميتة في التجمع والاستيطان والاستقرار في الأراضي المحتلة بفلسطين، وبالرغم من غناهم واعتمادهم على جمع المال والسيطرة على اقتصاديات العالم. ثم بيّن تعالى سبب كل ذلك وعلته من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بسخط الله عليهم: وهو كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وبدافع من الكبر والبغي والحسد، مع اعتقادهم أنهم على غير حق فيما

فقه الحياة أو الأحكام:

يرتكبونه من جريمة قتل أناس يقولون: ربنا الله. وفي هذا غاية التشنيع عليهم، والتوبيخ لهم. وما جرأهم على ذلك، وما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله، إلا كثرة المعاصي لأوامر الله، والانغماس الدائم في المعصية، والاعتداء على شرع الله وحدوده، فمن اعتاد العصيان، وانتهك حرمات الله، هان عليه كل شيء حرام ومنكر في الحياة. والتشنيع على اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتوجيه اللوم لهم على الكفر وقتل الأنبياء، مع أنه صدر من أسلافهم، إنما كان لأنهم منتسبون إليهم، متكافلون متعاطفون معهم، راضون بأفعالهم، سائرون على منهجهم، فإنهم حاولوا أيضا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات وصف فريقين أو أمتين من الناس، وأبانت سبب الاتصاف، وقارنت بينهما، على أساس دقيق من التعادل والحق. فالأمة الإسلامية خير الأمم بسبب إيمانها الصحيح التام بكل ما أمر به الله، وبقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتظل الخيرية والفضيلة لها على الشرائط المذكورة، والتزامها الأصول الثلاثة. وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم، فإن السنة النبوية أوضحت أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم، بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» «1» وهذا مذهب معظم العلماء، فمن صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورآه ولو مرة في عمره مؤمنا به، فهو أفضل ممن يأتي بعده. وفضل قرن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم، قليلون في عددهم، مع

_ (1) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود. [.....]

كثرة الكفار، صابرون على أذاهم، متمسكون حق التمسك بدينهم. وأما أواخر هذه الأمة فلهم فضيلة أخرى لا تمنع ولا تحجب فضيلة السلف الصالح إذا أقاموا الدّين، وتمسكوا به، وصبروا على طاعة ربهم، في وقت ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر، فيصيرون بذلك أشباه السلف غرباء أيضا، وتزكو أعمالهم في ذلك الوقت، كما زكت أعمال أوائلهم، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء» وقوله فيما رواه الترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجه وغيرهم عن أبي ثعلبة الخشني: «إن أمامكم أياما: الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثل عمله، قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: بل منكم» وذكر أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي: «أمتي كالمطر لا يدرى أوّله خير أم آخره» وذكره الدارقطني في مسند حديث مالك عن أنس: «مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره» . وحينئذ يستوي أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية. ومدح الأمة الإسلامية ما داموا قائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بكل ما يجب الإيمان به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم. وإيمان أهل الكتاب بالنبي صلّى الله عليه وسلّم خير لهم، ومنهم المؤمن والفاسق، والفاسق أكثر. ووعد الله المؤمنين ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، لا ينالهم منهم أذى إلا بالافتراء والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين. وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام لأن من قاتله من اليهود انهزم وولى الأدبار.

الفئة المؤمنة من أهل الكتاب والثواب على أعمالهم [سورة آل عمران (3) الآيات 113 إلى 115] :

وسبب الغضب من الله على اليهود وإلصاق صفة الذل والهوان أينما وجدوا هو كفرهم بآيات الله، ومنه عدم إيمانهم بالقرآن والإسلام، وقتلهم الأنبياء ظلما وعدوانا، ومنه محاولة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وتأليب المشركين عليه وتحريضهم على قتاله واستئصال شأفة المسلمين إلى الأبد، كما حدث في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وغزوة الأحزاب (الخندق) في السنة الخامسة، وغير ذلك من ألوان العصيان والاعتداء. الفئة المؤمنة من أهل الكتاب والثواب على أعمالهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) الإعراب: لَيْسُوا سَواءً: الواو في لَيْسُوا اسم ليس، وسواء: خبرها. أُمَّةٌ قائِمَةٌ إما بدل من ضمير لَيْسُوا، والتقدير: ليس أمة قائمة وأمة غير قائمة سواء. فحذف «غير قائمة» مثل حذف البرد في آية سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وإما مبتدأ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: خبر مقدم، أو مرفوع بالجار والمجرور على قول الأخفش والكوفيين يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة أُمَّةٌ. آناءَ اللَّيْلِ ظرف زمان متعلق ب يَتْلُونَ. وَهُمْ يَسْجُدُونَ إما حال من ضمير يَتْلُونَ، ويكون المراد بالسجود هنا الصلاة لأن التلاوة لا تكون في السجود، وإما معطوف على يَتْلُونَ ويكون المراد بالسجود: السجود بعينه.

البلاغة:

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جملة فعلية: إما في موضع نصب على الحال من ضمير يَسْجُدُونَ أو يَتْلُونَ أو قائِمَةٌ، وإما في موضع رفع لأنها صفة (الأمة) ، وإما مستأنفة. وهذه الأوجه تجري في جمل يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ. البلاغة: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ جملة اسمية للدلالة على الاستمرار. يَتْلُونَ.. يَسْجُدُونَ جملة فعلية للدلالة على التجدد. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الإشارة بالبعيد لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم. المفردات اللغوية: لَيْسُوا أي أهل الكتاب. سَواءً متساوين، يستعمل للواحد والمثنى والجمع، فيقال: هما سواء، وهم سواء قائِمَةٌ مستقيمة عادلة ثابتة على الحق، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه، مأخوذ من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى: استقام يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي القرآن. آناءَ اللَّيْلِ أي في ساعاته، واحدها أنى كعصا. وَهُمْ يَسْجُدُونَ يصلون. يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يبادرون إلى فعل الخيرات. وَما يَفْعَلُوا أي الأمة القائمة، والقراءة بالتاء: أي أيتها الأمة. فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي يعدموا ثوابه، بل يجازون عليه، والقراءة بالتاء: أي أنتم أيتها الأمة. سبب النزول: نزول الآية (113) : أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في الصحابة عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعنة (أو سعية) ، وأسيد بن سعنة (أو سعية) ، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله في ذلك: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذكر مثله عن مقاتل. وأخرج أحمد وغيره عن ابن مسعود قال: أخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة

المناسبة:

العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا بالناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم، وأنزلت هذه الآية لَيْسُوا سَواءً ... حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. وبعبارة أخرى لابن مسعود: نزلت الآية في صلاة العتمة (العشاء) يصليها المسلمون، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها. المناسبة: هذه الآيات استمرار في بيان أوصاف أهل الكتاب، ففي الآيات السابقة صنفهم القرآن صنفين: منهم المؤمنون وكثير منهم الفاسقون، ثم بين حال الفاسقين ومصيرهم، وهنا بيّن حال المؤمنين منهم الذين وإن كانوا قلة دخلوا في الإسلام. التفسير والبيان: ليس من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب متساوين أو على حد سواء في الفسق والكفر، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، فمنهم فئة قائمة بأمر الله، مستقيمة على دينه، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، يتلون القرآن في صلواتهم ليلا، ويكثرون التهجد. وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا صادقا لا شبهة فيه، ويأمرون غيرهم بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويبادرون إلى فعل الخيرات بسرعة، ويعملون الصالحات دون تلكؤ، وهم موصوفون عند الله بأنهم من الصالحين الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم. وهم من أحبار أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن سعنة وغيرهم ممن نزلت فيهم هذه الآيات، ردا على اليهود الذين زعموا أن من آمن منهم شرارهم لا خيارهم، ولو كان فيهم خير لما آمنوا.

فقه الحياة أو الأحكام:

وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه، ولا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء، والله شكور عليم بالمتقين، أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا. فقه الحياة أو الأحكام: يأبى عدل الله إلا أن يظهر الأخيار، ويبعد الأشرار، لذا أكد سبحانه وتعالى في هذه الآيات التنويه بإيمان المؤمنين من أهل الكتاب، فإنهم آمنوا بالإسلام، وصدقوا بالقرآن، ورغبوا في دين الله ورسخوا فيه. وقاموا بالأعمال الصالحة، فأصلحوا أنفسهم، وجاهدوا في إصلاح غيرهم، وقاوموا دعوة الفساد والانحراف، فاستحقوا الاتصاف بالصالحين، والوصف بالصلاح هو غاية المدح والثناء، بدليل مدح إسماعيل وإدريس وذي الكفل بهذا الوصف، فقال تعالى: وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنبياء 21/ 86] وقال عن سليمان: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل 27/ 19] . وهذا هو واجب الإنسان العاقل في هذه الحياة، فلا قيمة لحياة دون عقيدة صحيحة، ولا مدنية لإنسان دون العمل الصالح، ومحاربة ألوان الفساد. وسيجد العامل الصالح ثمرة عمله، ويجازى بأوفر الجزاء، ويشكر عليه، ولن يجحد ثوابه، وقد سمى الله في آية أخرى إثابته للمحسنين شكرا في قوله: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 19] ، وسمى نفسه شاكرا في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 158] ، وعبر تعالى هنا عن عدم الإثابة بالكفر.

ضياع أعمال الكافرين يوم القيامة [سورة آل عمران (3) الآيات 116 إلى 117] :

ضياع أعمال الكافرين يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) الإعراب: كَمَثَلِ رِيحٍ: خبر المبتدأ وهو مثَلُ ما يُنْفِقُونَ فيها صِرٌّ: في موضع جر لأنها صفة ريحٍ أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: جملة في موضع جر صفة لقوم. البلاغة: كمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ: أي باردة: تشبيه تمثيلي، شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله، بالزرع الذي أصابته الريح الباردة، فذهب حطاما (الكشاف: 1/ 344) . المفردات اللغوية: لَنْ تُغْنِيَ: لن تجزئ وتنفع كمثَلُ ما يُنْفِقُونَ: أي صفة إنفاق الكفار صرٌّ أو صرّة: برد شديد حرْثَ: زرع ظلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: بالكفر والمعصية. المناسبة: هذه الآيات وعيد للكفار وإحباط لآمالهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة

التفسير والبيان:

بنفقاتهم فائدة، ولن ترد عنهم عذابا، وذلك بعد أن ذكر في الآيات السابقة أحوال الكافرين وعقابهم، قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. التفسير والبيان: أخبر الله تعالى عن مصير أعمال الكافرين يوم القيامة، وهم اليهود والمنافقون والمشركون جميعا، فهم بافتخارهم بأموالهم، وإنفاقهم لها فيما يكيد النبي صلّى الله عليه وسلّم ويعاديه في هذه الحياة الدنيا، لن تجزي عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا إذا أراده بهم، وخص الأموال والأولاد بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال، وتارة بالاستعانة بالأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم. وأكد تعالى هذه المعنى في آيات كثيرة منها: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة 2/ 48] ومنها يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء 26/ 88] ومنها فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً، وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمران 3/ 91] ومنها: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ 34/ 37] . وأولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها، وهم دائمون فيها بسبب كفرهم وفساد عقيدتهم. وكما أن أموالهم لا تغني عنهم شيئا، كذلك لا تجديهم أموالهم التي أنفقوها في أغراض الدنيا ولذاتها، أو للرياء والسمعة والمفاخرة، وكسب الثناء والشهرة لأنها لغير وجه الله، وقد يكون منها للصد عن سبيل الله وعن اتباع النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعداوته ومقاومته. وما مثل أو صفة تلك الأموال التي أنفقوها في غير مرضاة الله، إلا كمثل

فقه الحياة أو الأحكام:

ريح عاتية شديدة البرد أتت على نبات مزروع، فأحرقته وأهلكته، فلم يبق منه شيء، وأعقب على صاحبه الحسرة والندامة، ونظير ذلك قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور 24/ 39] . وهكذا يمحق الله ثواب وثمرة أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا، كما يذهب ثمرة زرع بذنوب أصحابه، وما ظلمهم الله بهذا بأن لم يقبل نفقاتهم بل جازاهم على عملهم الشر بالشر، وكانوا هم الظالمين أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . وسبب إحباط أعمال الكفار يوم القيامة ولو كانت صدقة في الخيرات، هو فقد الإيمان، وبناؤهم العمل على قاعدة الكفر، وتركهم النظر في الدلائل الموصلة إلى الحق والصواب. فإن توافر الإيمان، وصح اليقين، وكان الإنفاق بقصد وجه الله تعالى، لا للرياء والسمعة، كان مقبولا عند الله، لقوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة 5/ 27] . فقه الحياة أو الأحكام: إن الكفر أساس بلاء الإنسان في الآخرة، وهو سبب ضياع ثمرة أعماله التي عملها في الدنيا، فيكون جزاء الكافرين النار خالدين فيها أبدا، ولن تفيدهم نفقاتهم المنفقة في دنياهم إلا الحسرة والندامة، وليس عدم قبول نفقاتهم ظلما من الله لهم، وإنما هم الظالمون لأنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول فكفروا وعصوا ومنعوا حق الله تعالى، وأنفقوا أموالهم رياء وسمعة ومفاخرة، ولم يبتغوا بها وجه الله تعالى. وحالهم حال بؤس وشقاء وقلق واضطراب، فهم كمن يزرع

الثقة بالكفار واطلاعهم على الأسرار وموقفهم الثابت من المؤمنين [سورة آل عمران (3) الآيات 118 إلى 120] :

زرعا تأمّل منه خيرا ونفعا ورزقا يعيش منه طوال العام، فأصابته ريح باردة، فأحرقته، فوقف مبهوتا حائرا، خائب الظن، خائر القوى لا يستطيع فعل شيء، عافانا الله من السوء، وألهمنا الرشد والصواب، وثبت قلوبنا على الإيمان، وجعل أعمالنا كلها ظاهرها وباطنها في سبيله، ومن أجل رضوانه فقط. الثقة بالكفار واطلاعهم على الأسرار وموقفهم الثابت من المؤمنين [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) الإعراب: لا يَأْلُونَكُمْ صفة ل بِطانَةً. خَبالًا تمييز منصوب وَدُّوا وبَدَتِ

البلاغة:

الْبَغْضاءُ : إما صفة بِطانَةً أو جملة مستأنفة ما عَنِتُّمْ ما: مصدرية، وتقديره: ودوا عنتكم، أي هلاككم ها أَنْتُمْ أُولاءِ ها: للتنبيه، وأنتم: مبتدأ، وأولاء: خبر أنتم، تُحِبُّونَهُمْ حال من اسم الإشارة. لا يَضُرُّكُمْ إنما ضمه وإن كان مجزوما لكونه جواب الشرط اتباعا لضمة ما قبله. شَيْئاً منصوب على المصدر. البلاغة: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً استعارة، شبه فيها خواص الرجل بالبطانة، لملازمتهم له ملازمة الثوب للجسم. عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ إما حقيقة تبين وصف المغتاظ والنادم، وإما من مجاز التمثيل الذي يبين شدة الغيظ والتأسف على عدم إذاية المؤمنين. ويوجد مقابلة الحسنة بالسيئة والمساءة بالفرح في آية: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. ويوجد جناس اشتقاق في لَمَهُمُ وظْلِمُونَ وفي الْغَيْظِ وبِغَيْظِكُمْ وفي تُؤْمِنُونَ وآمَنَّا. المفردات اللغوية: بِطانَةً بطانة الرجل: خاصته الذين يطلعهم على أسراره، مأخوذ من بطانة الثوب: وهي القماش الرقيق الذي يبطن به الثوب من الداخل، وعكسه الظهارة، وهي تستعمل للواحد والجمع، مذكرا ومؤنثا مِنْ دُونِكُمْ: من غيركم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يقصرون لكم في الفساد، وخَبالًا: منصوب بنزع الخافض وهي مثل قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التوبة 9/ 47] أي فسادا وضررا وَدُّوا تمنوا ما عَنِتُّمْ إيقاعكم في العنت وهو الهلاك والمشقة وشدة الضرر قَدْ بَدَتِ ظهرت الْبَغْضاءُ العداوة لكم مِنْ أَفْواهِهِمْ بالوقيعة فيكم واطلاع المشركين على سركم وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من العداوة. الْأَنامِلَ أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغضب لما يرون من ائتلافكم، ويعبر عن شدة الغضب أو الندم بعض الأنامل مجازا، وإن لم يكن ثمّ عض قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أي ابقوا عليه إلى الموت، فلن تروا ما يسركم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب، ومنه ما يضمره هؤلاء. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ إن تصبكم نعمة كنصر وغنيمة تَسُؤْهُمْ تحزنهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ كهزيمة وجدب، يفرحوا بها، وعبر أولا بالمس إشارة إلى أن الحسنة تسوء الأعداء، ولو

سبب النزول:

كانت بأيسر الأشياء، وعبر ثانيا بالإصابة إشارة إلى أن السيئة تفرح الأعداء مهما كانت كبيرة وخطيرة «1» . والحسنة: المنفعة المادية أو المعنوية مثل صحة البدن والفوز بالغنيمة، وانتشار الإسلام، وتألف المسلمين. والسيئة: الفقر والهزيمة والتفرقة. والمعنى: أنهم متناهون في عداوتكم والحقد عليكم، فلا توالوهم واجتنبوهم. وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا الله في موالاتهم وغيرها لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً لا يؤثر عليكم احتيالهم، للإيقاع في المكروه، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عالم، فيجازيهم به، مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري وابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم، يتهاهم عن مباطنتهم، تخوف الفتنة عليهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية. وروي مثل ذلك عن مجاهد. المناسبة: كانت الآيات السابقة في بيان صفات الكافرين من أهل الكتاب والمشركين وعقوباتهم في الآخرة، وفي بيان أحوال المؤمنين وثوابهم. وهذه الآيات تحذير للمؤمنين من عقد الصلات والصداقات العميقة مع الكافرين والمنافقين لأنها تؤدي إلى تسرب الأسرار، والاطلاع على أحوال المسلمين، مما تقضي المصلحة بكتمانه، ويؤدي إلى مخاطر تؤثر على كيان الأمة الإسلامية، وهذا التحذير في غاية الحكمة والتعقل وحماية المصالح العامة العليا، شأن كل أمة لا تأتمن على أسرارها إلا خواصها.

_ (1) حاشية الكشاف: 1/ 346 بتصرف.

التفسير والبيان:

ولا يصح أن تكون القرابات والصداقات والعهود والمحالفات والجوار والرضاع والمصاهرة وغير ذلك سببا في توطيد الصلات والثقة بالأعداء. التفسير والبيان: أيها المؤمنون بالله ورسوله، وشأن الإيمان السماع إلى الكلام، لا تتخذوا الكافرين من اليهود والنصارى والمنافقين بطانة أي أصدقاء وخواص ومستشارين، تطلعونهم على أسراركم ودخائلكم، لأسباب عديدة هي: 1- لا يقصرون في إضراركم وإفساد أموركم، ما استطاعوا ذلك. 2- يتمنون إلحاق الضرر والمشقة والهلاك بكم في دينكم ودنياكم. 3- يظهرون لكم العداوة والبغضاء أثناء الكلام وعلى صفحات الوجوه وفلتات اللسان، ويكذبون كتابكم ونبيكم. 4- ما تخفي صدورهم من الحسد والحقد والبغضاء للإسلام وأهله أشد وأكثر مما يظهرون. وهذا النهي المطلق الذي له أمثال كثيرة في القرآن الكريم، يوضحه ويقيده آيتا الممتحنة: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة 60/ 8- 9] . فإذا اطمأن الحاكم أو الإمام المسلم إلى موادة غير المسلمين، ووثق بهم، جاز التعاون معهم، كما حدث من عون اليهود للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط، إذ عاونوا المسلمين في فتح مصر. وجاز توظيفهم في أعمال الدولة الإسلامية، فقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجال دواوينه من الروم، وتابعه الخلفاء من بعده على هذا النهج، وأناط العباسيون أعمال الدولة باليهود

والنصارى، وكان كثير من سفراء الدولة العثمانية من النصارى «1» . ثم عاد القرآن محذرا ومنبها المؤمنين قائلا لهم: قد بينا وأظهرنا لكم الدلائل والعبر التي ترشدكم إلى الخير، وتهديكم إلى سواء السبيل، إن كنتم تدركون هذه الحقائق التي ترشدكم إلى الخير، وتهديكم إلى سواء السبيل، إن كنتم تدركون هذه الحقائق التي ترشدكم إلى ضرورة التفرقة بين الأعداء والأولياء. ثم أكد القرآن تحذيره السابق من اتخاذ الأعداء بطانة وموضع سر وثقة لأسباب ثلاثة أخرى، كل منها يستدعي الامتناع عن المودة والمخالطة حال انعدام الثقة وهي: الأول- إنكم تحبون أولئك الكفار، وهم لا يحبونكم وإنما يعادونكم. الثاني- إنكم تؤمنون بالكتب السماوية كلها ومنها كتابهم، وتصدقون بكل الرسل والأنبياء، ومنهم رسولهم ونبيهم، وهم يجحدون بكتابكم ونبيكم. الثالث- إذا لقوا المؤمنين لاطفوهم حذرا على أنفسهم، وقالوا: آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإذا خلوا مع أنفسهم وشياطينهم، أظهروا شدة الغيظ والحقد والعداوة لكم، وتألموا وندموا وعضوا الأنامل على أنهم لا يستطيعون إلحاق الأذى بكم. ويكون عض الأنامل مجازا عن الغيظ والحقد أو الندم. فأنتم مخطئون في موالاة المنافقين والكفار، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، كما قال الزمخشري، ومثل هذه الآية قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء 4/ 104] . ثم أمر الله نبيه محمدا بأن يقول لهم: موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، أي مهما كنتم تحسدون المؤمنين، ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومظهر له، ومعل كلمته، ومعز أهل

_ (1) تفسير المنار: 4/ 68 وما بعدها.

الإسلام، فموتوا أنتم بغيظكم، والله عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا، بأن يريكم خلاف ما تأملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها. ثم أوضح الله تعالى حالا دالة على شدة عداوتهم للمؤمنين: وهو أنه إذا أصاب المؤمنين نعمة أو خير من خصب أو نصر وتأييد وكثرة وعزة أنصار، ساء ذلك المنافقين وإن أصاب المسلمين شر كجدب أو تغلب الأعداء عليهم- لحكمة إلهية في ذلك كما جرى يوم أحد- فرح المنافقون بذلك. ويلاحظ فرق التعبير البلاغي في القرآن بين جملتي: مس الحسنة وإصابة السيئة، فهم يستاءون عند أدنى مس للحسنة، ولا يفرحون حتى تتمكن الإصابة بالسيئة. ولكن الله تعالى ذكر للمؤمنين العلاج الناجع، وأرشدهم إلى السلامة من شر الأشرار، وكيد الفجار، وهو استعمال الصبر، والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه. فإذا صبروا على أداء التكاليف الشرعية، واتقوا ما نهاهم الله عنه، لم يضرهم كيد الكفار واحتيالهم، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 2- 3] . والله تعالى عالم محيط علمه بعمل الفريقين، فهو خبير بمكائد الأعداء وخفاياهم، وسيحبطها لهم ويردها في نحورهم، ويجازيهم على أفعالهم، وعليم بالمؤمنين الذين يستعينون بالصبر، ويتمسكون بالتقوى، وهما شرط النجاح والغلبة على الأعداء.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية (118) - آية اتخاذ البطانة «1» إلى أربعة أمور: الأول- تأكيد الزجر عن الركون إلى الكفار، وذلك للآية السابقة: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. الثاني- نهي المؤمنين أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء مستشارين أمناء في إبداء الآراء المهمة، وإسناد الأمور الخطيرة في الدولة إليهم. أما اتخاذ أهل الكتاب كتبة وموظفين في أعمال الحكومة مما لا يتصل بالقضايا الحساسة للدولة فيظهر من عمل الخلفاء أنه لا مانع منه. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم: من عصم الله تعالى» . الثالث- دل قوله تعالى مِنْ دُونِكُمْ أي من سواكم على أن النهي موجه إلى استعمال غير المسلمين بطانة، لأسباب ذكرتها الآية: وهي: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يقصّرون في إفساد أموركم ووَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي ودّوا عنتكم أي ما يشق عليكم، والعنت: المشقة وقَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواهم ووَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم. الرابع- في هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك. ودلت الآية (119) : ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ أي المنافقين من أهل

_ (1) بطانة الرجل: خاصته الذين يستنبطون أمره.

الكتاب، بدليل قوله تعالى: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا: آمَنَّا على عدم التكافؤ في المواقف بين المسلمين والمنافقين، فالمسلمون يصافونهم، وهم لا يصافون المسلمين لنفاقهم، وهي أيضا بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء، والحال أن المسلمين يؤمنون بكتاب الكتابيين كله، وهم مع ذلك يبغضون المسلمين، فلم يحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابهم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب من المسلمين في حقهم! وأما قوله: قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد بزيادة الغيظ: زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والخسران. وربما يكون المعنى: أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك، فيزول معنى الدعاء، ويبقى معنى التقريع والإغاظة، كما في قوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [الحج 22/ 15] . وذكرت الآية (120) سببا آخر لعدم اتخاذ الأعداء بطانة: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.. والمعنى من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة، لا سيما في الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والآخرة. لكن يلاحظ أن هذا فيمن كانت حاله مثل المنافقين في صدر الإسلام، بدليل أن المذاهب الأربعة أجازت الاستعانة بالكفار في القتال، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، أو عند الحاجة في رأي الشافعية «1» .

_ (1) انظر القسطلاني شرح البخاري: 5/ 170، نيل الأوطار: 7/ 136، الفقه الإسلامي وأدلته للمؤلف: 6/ 424، ط أولى.

غزوة أحد تنظيم الجيش الإسلامي والتذكير بالنصر في غزوة بدر [سورة آل عمران (3) الآيات 121 إلى 129] :

ودل قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا على ترغيب المسلمين بالتزام الصبر في القيام بالتكاليف الشاقة وتنفيذ الأوامر الإلهية، والاعتصام بتقوى الله بالابتعاد عما نهى الله عنه وحظر منه، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيد الأعداء شيئا. وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر في كل مقام يشق على النفس احتماله، والموقف هنا يتطلب الصبر على عداوة الكافرين واتقاء شرهم، حتى يأذن الله بالفرج القريب والنصر العاجل، والله محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بالمسلمين، فلا بد من الثقة بالله والتوكل عليه. غزوة أحد تنظيم الجيش الإسلامي والتذكير بالنصر في غزوة بدر [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

الإعراب:

الإعراب: وَإِذْ غَدَوْتَ إذ متعلق بفعل مقدر، تقديره: واذكر إذ غدوت. إِذْ هَمَّتْ متعلق بعليم من الآية السابقة، أي: يعلم إذ همت. إِذْ تَقُولُ إما متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ أو بدل من إِذْ هَمَّتْ ولا يجوز أن يبدل من: نصركم لأن النصر كان يوم بدر، وإذ همت كان يوم أحد، أو متعلق بفعل مقدر تقديره: اذكروا. أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ أن وما بعدها في تقدير المصدر فاعل يكفيكم أي إمداد ربكم. وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ الهاء في بِهِ فيها خمسة أوجه: إما أن تعود على الإمداد، أو على المدد، أو على التسويم من مُسَوِّمِينَ أو على الإنزال من مُنْزَلِينَ أو على العدد الذي دل عليه: خمسة آلاف وثلاثة آلاف. ولام لِتَطْمَئِنَّ: لام كي، والفعل منصوب بها بتقدير: أن. لِيَقْطَعَ طَرَفاً اللام إما متعلق بفعل دل عليه الكلام، تقديره: ليقطع طرفا: نصركم، أو متعلق بيمددكم، أو متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ على نية التقديم، وقوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ وما بعده اعتراض. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إما بمعنى «إلا أن يتوب» وإما عطف على قوله لِيَقْطَعَ وتقديره: ليقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم. البلاغة: إِذْ تَقُولُ أتى بالمضارع لحكاية الماضي بطريق استحضار الصورة في الذهن. أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ الإتيان بصفة الربوبية وإسنادها للمخاطبين لإظهار كمال العناية بهم. يَغْفِرُ ويُعَذِّبُ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: غَدَوْتَ خرجت في الغداة: وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. تُبَوِّئُ تهيأ وتنزل مَقاعِدَ مراكز وأماكن يقفون فيها. إِذْ هَمَّتْ بنو سلمة وبنو حارثة جناحا العسكر. والهم: حديث النفس واتجاهها إلى شيء. أَنْ تَفْشَلا تجبنا وتضعفا، لما رجع عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ وقال لأبي جابر السلمي القائل له: «أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم» : لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فثبتهما الله ولم ينصرفا. وَلِيُّهُما ناصرهما. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ليثقوا به دون غيره، والتوكل: الاعتماد على الله في كفاية الأمور. أَذِلَّةٌ واحدها ذليل: وهو من لا منعة له ولا قوة، وقد كان المسلمون في بدر قليلي العدد والسلاح يَكْفِيَكُمْ الكفاية مرتبة دون الغنى، وهي سد الحاجة يُمِدَّكُمْ يعينكم، والإمداد: إعطاء الشيء حالا بعد حال مُنْزَلِينَ بكسر اللام، ويقرأ بالتخفيف والتشديد. بَلى كلمة للجواب مثل نعم، ولكنها لا تقع إلا بعد النفي، وتفيد إثبات ما بعده، أي نعم يكفيكم ذلك، فأمدهم بألف أولا، ثم صارت ثلاثة، ثم صارت خمسة. إِنْ تَصْبِرُوا على لقاء العدو. وَتَتَّقُوا الله في المخالفة. وَيَأْتُوكُمْ أي المشركون. مِنْ فَوْرِهِمْ وقتهم أو ساعتهم، والفور: الحال السريعة التي لا إبطاء فيها ولا تراخ. مُسَوِّمِينَ بكسر الواو بمعنى معلمين أنفسهم أو خيلهم، أو بفتح الواو، فكانت عليهم علامات تميزهم، فإنهم صبروا، وأنجز الله وعده، بأن قاتلت معهم الملائكة على خيل بلق، عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد. إِلَّا بُشْرى لَكُمْ بالنصر. وَلِتَطْمَئِنَّ تسكن. قُلُوبُكُمْ بِهِ فلا تجزع من كثرة العدو وقلتهم، فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، وليس بكثرة الجند. لِيَقْطَعَ متعلق بنصركم، أي ليهلك طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر. أَوْ يَكْبِتَهُمْ يذلهم بالهزيمة. فَيَنْقَلِبُوا يرجعوا. خائِبِينَ لم ينالوا ما راموا. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بل الأمر لله فاصبر إلى أن يتوب عليهم بالإسلام أو يعذبهم بظلمهم بالكفر. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. سبب النزول: نزول آية وَإِذْ غَدَوْتَ في غزوة أحد، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى عن المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف، أي خالي: أخبرني عن قصتكم يوم أحد، فقال: اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا، أي من قوله: وَإِذْ

سبب نزول قوله تعالى ليس لك من الأمر شيء:

غَدَوْتَ ... إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً أي وما بعد ذلك بمقدار ستين آية. سبب نزول قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ: روى أحمد ومسلم عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد كسرت رباعيته، وشج رأسه، حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهم العن فلانا، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلى آخرها، فتيب عليهم كلهم. وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه. قال الحافظ ابن حجر: طريق الجمع بين الحديثين: أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا على المذكورين في صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد، فنزلت الآية في الأمرين معا فيما وقع له، وفيما نشأ عنه في الدعاء عليهم. الخلاصة: إن الآية نزلت في قصة أحد، ويمكن أن تشمل حوادث أخرى وقعت بعدها. وأما ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من الكف عن الدعاء على رعل وذكوان بعد نزول هذه الآية، ففي الخبر علة وهي الإدراج من قول الزهري عمن بلغه: وهو قوله «حتى أنزل الله» لأن هذه القصة حدثت بعد قصة أحد. ونص رواية مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في الفجر: اللهم العن رعلا وذكوانا وعصية، حتى أنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. ورواية البخاري: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة

المناسبة:

يكبر ويرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد ووطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف، اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية، عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك، لما نزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ. المناسبة: لما حذّر الله تعالى من اتخاذ بطانة السوء، ذكر هنا مثالا واقعيا من ميدان المعارك والغزوات، وهو أن سبب همّ الطائفتين بالفشل (الجبن والضعف) هو تثبيط المنافقين لهم بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول. روى الشيخان عن جابر قال: فينا نزلت: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل، لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. وقد تحدثت الآيات عن غزوة أحد التي أنزل فيها ستون آية من 121- 180، وجاء في أثنائها الحديث عن غزوة بدر اعتراضا، ليذكّرهم بنعمته تعالى عليهم، حينما نصرهم ببدر وهم قلة. نبذة يسيرة عن غزوتي بدر وأحد: غزوة بدر: حدثت معركة بدر في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، بعد أن تعرض المسلمون لقافلة أبي سفيان القادمة من الشام، التي تحمل الأموال والتجارة، في وسط من قيام حالة الحرب بين المسلمين وبين مشركي قريش بمكة،

بقصد الحصار الاقتصادي، وتعويض المسلمين ما صادره لهم القرشيون في مكة من أموال وعقارات وممتلكات. وقد عزّ على المكيين هذا الحادث، وأحسوا بالخطر على وجودهم، وشعروا بقوة المؤمنين في المدينة، وملأ الحقد والعزة بالإثم صدورهم. فحشدوا قواهم من قبائل العرب، ولم يتخلف من قريش إلا القليل النادر، وكان عددهم ألفا وزيادة، فيهم الفرسان والأبطال وصناديد قريش. فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشار أصحابه، ثم خرج إليهم مسرعا في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، لم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيرا، والباقون مشاة ليس معهم من العدد ما يحتاجون إليه. وتقابل الجيشان في بدر: وهي بئر بين مكة والمدينة، كانت لرجل يسمى بدرا، فسمي به الموضع، والأكثر على أنه ماء هنالك، وبه سمي الموضع. وانجلت المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين، وكارثة كبري على المشركين، وكانت معركة حاسمة قررت مصير الفريقين، وأحدثت دويا هائلا بين العرب، فسماها الله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ فقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال 8/ 41] . فيها انتصرت الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ وأمد الله تعالى فيها المؤمنين بالملائكة يقاتلون مع المسلمين، وظهر فيها مدى ثبات المسلمين وجرأتهم النادرة، واشترك فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاتل- وكان اشتراكه في تسع غزوات- وبرز فيها عنصر الإيمان والعقيدة والتوكل على الله في قلب المعركة وأثناء المشاركة بالسلاح، وتمثل ذلك بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل التحام الصفين فقال: «اللهم، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم نصرك» ورفع يديه إلى السماء، حتى سقط الرداء عن منكبيه ،

غزوة أحد:

فأخذه أبو بكر فرده، ثم التزمه من ورائه يسري عنه، ويشفق عليه من كثرة التضرع والاستغاثة والابتهال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . غزوة أحد: اشتد غيظ المشركين بعد معركة بدر على المسلمين، وبدأ أبو سفيان زعيم قريش يؤلب المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجمعوا الأموال، وجهزوا جيشا نحو ثلاثة آلاف مقاتل، فيهم سبعمائة دارع، ومائتا فارس، على رأسهم صفوان بن أمية. فاستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فأشار الشيوخ ومعهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة بالبقاء في المدينة والقتال في شوارعها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره الخروج. وأشار الشباب بالحرب، ومعهم رجال لم يشهدوا بدرا، وقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. وما زالوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى دخل بيته ولبس وتجهز ووافق الأغلبية رأي القائلين بالحرب، ثم ندم الذين اقترحوا الخروج وقالوا: استكرهناك يا رسول الله! ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد، صلى الله عليك، فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته- درعه- أن يضعها حتى يقاتل» . فخرج في ألف أو إلا خمسين رجلا من أصحابه، فيهم مائة دارع وفرسان فقط، ونزل الشّعب من جبل أحد (على بعد نحو 3 كم من شمال المدينة) يوم السبت سابع شوال في السنة الثالثة من الهجرة، وجعل ظهره وعسكره إلى «أحد» وسوى صفوفهم، وأجلس جيشا من الرماة وهم خمسون رجلا، وأمرّ عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل، وقال: انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من

ورائنا، ولا تبرحوا، غلبنا أو نصرنا. وفي (سيرة ابن هشام) : ادفعوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا. وفي (زاد المعاد) : أمرهم بأن يلزموا مركزهم، ولا يفارقوا، ولو رأوا الطير تتخطف العسكر. وكان لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع مصعب بن عمير، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام، وعلى الآخر المنذر بن عمرو، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وعلى رماتهم وكانوا مائة: عبد الله بن أبي ربيعة. ورجع زعيم المنافقين مع ثلاثمائة من أصحابه قائلا: أيعصيني ويطيع الولدان: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمران 3/ 167] . وكاد بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ألا يخرجوا إلى أحد، ثم وفقهم الله، فخرجوا، وهو معنى قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا سبعمائة رجل. ولما التقى الجمعان، قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في نسوة يضربن بالدفوف، ويمشين وراء الصفوف. وقاتل أبو دجانة الذي أخذ السيف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووعده بأن يأخذه بحقه، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، وقتل عددا من الأبطال، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم الراية لعلي بن أبي طالب، وقتل وحشي غلام جبير بن مطعم حمزة بحربة دفعها عليه، حتى خرجت من بين رجليه، فسقط شهيدا سيد الشهداء. وانهزم المشركون، وسقط لواؤهم من يد طلحة، فحمله ابنه، ثم أخوه،

وكاد النصر يتحقق للمسلمين، لولا أن الرماة على ظهر الجبل خالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وانحدروا يجمعون الغنائم، وفارقوا مكانهم. ففطن خالد بن الوليد لمكان الضعف، فبادر من قناة مع خيل المشركين إلى تطويق المسلمين من أعلى جبل الرماة من الخلف، وانقض مع جيشه يفتك بالمسلمين، وشاع بين الناس أن محمدا قد قتل، فتراجع المسلمون، وهربوا، وأصيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة، حتى وقع لشقه، فكسرت رباعيته، وشج في رأسه، وجرحت شفته، وسال الدم على وجهه، وغاب حلق المغفر في وجنتيه، وأصيبت ركبتاه، وجعل يمسح الدم ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟!» وأخذ بيده علي ورفعه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان الدم عن وجهه صلّى الله عليه وسلّم وابتلعه. ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو المسلمين في أخراهم، ويقول: «إليّ عباد الله، أنا رسول الله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران 3/ 153] . وصار أبو سفيان يقول: يا معشر قريش، أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة: أنا قتلته. وكان كعب بن مالك أول من بشر بنجاة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسلمه الله من أذى المشركين: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . ولم يقتل صلّى الله عليه وسلّم في حياته سوى أبي بن خلف الذي تآمر على قتل النبي وفيه نزلت آية: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال 8/ 17] . وكان يوم بلاء شديد على المسلمين، استشهد فيه منهم سبعون رجلا، وعدة قتلى المشركين اثنان وعشرون رجلا. ووجد في ساحة المعركة حمزة سيد الشهداء، وكانت هند بنت عتبة قد بقرت كبده ولاكتها، ولم تستسغها، وصرخ أبو سفيان بأعلى صوته: الحرب

التفسير والبيان:

سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل (صنم عند الكعبة) أي ظهر دينك. ولما انصرف ومن معه قال: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قولوا له: هو بيننا وبينكم. ثم بحث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عمه الحمزة، فوجده مبقور البطن، مجدوع الأنف، مصلوم الأذن، فحزن حزنا شديدا، وقال: «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم» . ثم سجّاه ببردته، وصلى عليه، وكبر سبع تكبيرات، وصف إلى جانبه القتلى، وصلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة. ثم دفن حمزة، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بدفن بقية القتلى قائلا: ادفنوهم حيث صرعوا. وكان سبب الهزيمة كما تبين مخالفة الرماة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وطمعهم في الغنائم، وكانت هذه المعركة محنة للمسلمين، وتمحيصا وتربية للمؤمنين، وتعليما لهم بأن النصر منوط باتخاذ الأسباب، وأن الهزيمة لا تعني نكسة في الإيمان واضطرابا في اليقين، لذا قال تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [آل عمران 3/ 153] . وأن البلاء يعم، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] . التفسير والبيان: اذكر لهم يا محمد وقت خروجك من بيتك غدوة يوم السبت سابع يوم من شوال سنة ثلاث للهجرة تنزل المؤمنين أمكنة القتال، وتعبئ الجيش، فتضع جماعة على جبل الرماة، وآخرين في الميمنة، وأولئك في الميسرة، وتخصص مواضع معينة للفرسان. والله سميع لما قاله المؤمنون فيما شاورتهم فيه، سواء الذين قالوا: «لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا» والذين قالوا: «اخرج بنا حتى نلقاهم في

خارج المدينة» والله عليم بكل نية وفعل، سواء من أخلص القول، وإن أخطأ، ومن نافق وإن أصاب كعبد الله بن أبي وجماعة المنافقين. والله أيضا سميع عليم حين همت طائفتان من الأنصار وهم بنو سلمة من الأوس، وبنو حارثة من الخزرج- وكانتا جناحي عسكر المسلمين ونحو ثلثهم- أن تضعفا وتجبنا عن القتال ولا تخرجا إلى المعركة، حين رأوا تراجع المنافقين، ولكن الله متولي أمورهما لصدق إيمانهما، فعصمهم من الخذلان والذل، وحماهم من الجبن والفرار لأن الهم بالشيء لا يعد معصية بدليل قوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وليثقوا به، وليعتمدوا على تأييده، لا على قوتهم وأنصارهم، بعد اتخاذ الأسباب، وإعداد العدة، وتجهيز الجيش والسلاح الملائم لكل عصر، فإن الإنسان مأمور باتخاذ الأسباب، ثم ترك النتائج والمسببات إلى الله تعالى، فهو تعالى ينصر الفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكثيرة بإذنه، كما نصر المؤمنين يوم بدر. لذا اقتضى المقام تذكيرهم بنصر الله لهم يوم بدر، لما توكلوا عليه وامتثلوا أوامره وأوامر نبيه، وكانوا قليلي العدد والعدد، إذ كانوا نحو ثلاثمائة والكفار نحو ألف، وليس معهم سوى فرسين، ومع المشركين الخيول والدروع والفرسان والأبطال. فذلك دليل على أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد، وكما قال تعالى يوم حنين: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 25- 27] . فاتقوا الله بطاعته واجتناب محارمه، والثبات مع رسوله، والصبر على المشاق، لتشكروا الله أو لتصيروا شاكرين أو لتعدّوا أنفسكم لشكره، فإن الطاعة والصبر والثبات عدة الشكر على النعمة والنصر.

واذكر يا محمد حين تقول للمؤمنين يوم بدر، تعدهم تطمينا، وقد هابوا العدو لكثرتهم: ألن يكفيكم إمداد ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة أنزلهم الله تعالى لقتال الكفار. أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربيّ يريد أن يمدّ المشركين، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين، فأنزل الله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إلى قوله: مُسَوِّمِينَ فبلغ كرزا الهزيمة، فلم يمدّهم ورجع، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدّوا بألف. قال قتادة: كان الإمداد بالملائكة يوم بدر، أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فذلك قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وقوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ وقوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فصبر المؤمنون يوم بدر، واتقوا الله، فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة، على ما وعدهم فهذا كله يوم بدر. وكان هذا الإمداد ماديا فعليا من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم، وشاركت الملائكة في القتال، وأكد ذلك روايات كثيرة ثابتة في البخاري ومسلم «1» وليس ذلك من قبيل الإمداد المعنوي، كما جنح إليه صاحب (تفسير المنار) وهو رأي قديم لبعضهم إذ قال: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبّحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت. والرأي الأول هو ما عليه أكثر

_ (1) وقد كنت تورطت بمقال نشر في مجلة (حضارة الإسلام) بعنوان «الإمداد بالملائكة» تأثرا بما رجحه صاحب تفسير المنار والشيخ محمد عبده، ثم عدلت عن ذلك، لتضافر الروايات الصحيحة في السنة على أن الإمداد كان فعليا.

المفسرين «1» . قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون، إنما يكونون عددا أو مددا. وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار «2» . هذا على القول بأن آية إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ.. هي تذكير بالقول يوم بدر. وقيل عن عكرمة والضحاك: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا، فلم يمدّهم بملك واحد، ولو أمدّوا لما هزموا. ومجمل القول: اختلف المفسرون في هذا الوعد: إِذْ تَقُولُ.. هل كان يوم بدر أو يوم أحد؟ على قولين: القول الأول- للحسن البصري وجماعة واختاره الطبري: وهو أنه متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ. والقول الثاني- لمجاهد وجماعة آخرين: وهو أن هذا الوعد متعلق بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ.. وذلك يوم أحد، والظاهر القول الأول. ثم ذكر تعالى: بلى يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بزيادة الإمداد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا، حثا لهم عليهما، وتقوية لقلوبهم. فإن تصبروا على لقاء العدو، وتتقوا المعاصي، ومخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه لقتالكم، يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (بكسر الواو وفتحها) أي معلمين أنفسهم أو خيلهم، أو معلمين بعمائم صفر

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 194 (2) التفسير الكبير للرازي: 8/ 213، تفسير الألوسي: 4/ 47

مرخاة على أكتافهم، كما قال الكلبي، وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها، وعن قتادة: كانوا على خيل بلق. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت. والخلاصة: دل القرآن على أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، في قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ، أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وأما الإمداد بثلاثة آلاف أو بخمسة آلاف فأثبته بعضهم، لكن قال الطبري: ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وعلى أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على النحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف «1» . وأضاف الطبري قائلا: أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينل منهم ما نيل. وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون، ولإلقاء الطمأنينة في قلوبكم بأن معونة الله ونصرته معكم، أي: أن للإمداد بالملائكة غايتين: 1- التبشير بالنصر على الأعداء، وإدخال السرور على القلوب. 2- تطمين المؤمنين بأن الله معهم وأنه مؤيدهم، فلا يجبنون عن المحاربة. وما النصر الحقيقي إلا من عند الله العزيز: القوي الذي لا يغلب، الحكيم الذي يدبر الأمور على أحكم الخطط وأقوم الوسائل، والذي يعطي النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة.

_ (1) جامع البيان للطبرسي.

فقه الحياة أو الأحكام:

حقق الله نصركم يوم بدر وأمدكم بالملائكة ليهلك طائفة من رؤوس الكفر والشرك بالقتل والأسر، فقد قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من رؤساء قريش وصناديدهم أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، فينقلبوا خائبين غير ظافرين بمبتغاهم، وذلك نحو قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنالُوا خَيْراً [الأحزاب 33/ 25] أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والعداوة، فيكونون ظالمين لأنفسهم. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله، فقال: ليس لك يا محمد من أمر البشر شيء، وما عليك إلا تنفيذ أمري وإطاعتي، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تتألم منهم، ولا تدع عليهم، فربما تاب بعضهم، وقد تاب وأسلم أبو سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية. ثم أكد سبحانه وتعالى أن الأمر بيده، فلله ملك السماء والأرض وما فيهما، وكلهم خلقه وعبيده، يحكم فيهم بما يشاء، فيغفر لمن يشاء المغفرة له، ويعذب من يشاء تعذيبه، بحكمة وعدل، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب من أوليائه، الرحيم بأهل طاعته، فيعفو ويصفح، ويترك العقاب عاجلا أو آجلا. وفي ذلك تعليم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأمته إذ الأمر كله لله، والكل خاضعون له، لا فرق في ذلك بين ملك مقرّب أو نبي مرسل أو بشر آخر ممن خلق، إلا من سخره الله لمهمة أو أذن له بشفاعة، على وفق السنة الكونية العامة، وبمقتضى المشيئة الإلهية المطلقة، ولحكمة قد لا ندركها إلا يوم القيامة. فقه الحياة أو الأحكام: خلاصة ما دلت عليه الآيات ما يأتي: - لا بد للبشر في كل أمورهم من اتخاذ الأسباب والقيام بواجباتهم المعتادة،

سواء في حال السلم أو في حال الحرب والقتال، ومنها إعداد القوة وتعبئة الجيش وتنظيم المقاتلين. - ومن اتخاذ الأسباب المطلوبة في الظاهر والفعل: إطاعة أوامر الله والقائد، فقد انتصر المسلمون في بدر، وأمدهم الله تعالى بالملائكة فعلا، وشاركوهم في القتال، لما صبروا وثبتوا واتقوا وأطاعوا الله سبحانه، وهزموا في أحد لما خالفوا أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركوا مواقعهم في جبل الرماة، وهذا دليل واضح على أثر التقوى والصبر في غزوتي بدر وأحد، كما أن لهما أثرا في التعامل مع الأعداء، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، كما في الآية (120) . - وإنجاز النصر مرهون بنصر الله تعالى ودينه، وتحقيق النتائج إنما هو بيد الله تعالى وحده، ولله الأمر كله، وله ملك السموات والأرض وما فيهن. أما تفصيل دلالات الآيات وأهم الأحداث التي صاحبت غزوتي بدر وأحد فهو ما يأتي: 1- لا بد لكل قائد حربي من وضع خطة استراتيجية للمعركة التي يخوضها مع الأعداء، ولا بد من تنظيم صفوف المقاتلين وترتيب مواقعهم وإنزالهم في أماكن معينة يتم من خلالها لقاء المحاربين، وقد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك بوصفه قائد الحرب في معركة أحد، كما أشارت الآية: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ... 2- إن صدق الإيمان وإخلاص المقاتلين يعصمان من الوساوس والهم بالشيء وأحاديث النفس، كما عصم الله طائفتي بني حارثة وبني الأوس من الأنصار من التراجع بقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما حين رجع المنافقون إلى المدينة. 3- شارك النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلا في القتال في تسع غزوات، منها غزوة أحد، وفيها جرح في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة

(الخوذة) «1» من على رأسه، وكان الذي رماه في وجهه عمرو بن قميئة الليثي، الذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. 4- كان من كوارث أحد أن قتل حمزة عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وسيد الشهداء، قتله وحشي الذي كان مملوكا لجبير بن مطعم، وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلّها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر. فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله. وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرّت به قالت: إيها أبا دسمة، اشف واستشف. فكمن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين فلما رجع من حملته، ومرّ بوحشي زرقه بالمزراق (رمح قصير) فأصابه فسقط ميّتا، رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة، فلاكتها، ولم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت أبياتا مطلعها: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمّه وبكري 5- دل قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ على أن التوكل على الله من الإيمان. والتوكل في اللغة: إظهار العجز والاعتماد على الغير. وأما في الشرع فليس هو ترك الأسباب، كما زعم قوم، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من

_ (1) وهي زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.

مطعم ومشرب وتحرز من عدوّ، وإعداد الأسلحة، واستعمال سنة الله تعالى المعتادة «1» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» . 6- أرشدت الآيات وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [123- 125] إلى أن الله تعالى نصر عباده المؤمنين في بدر أول لقاء مسلح مع المشركين، فرق الله بين الحق والباطل وسماه «يوم الفرقان» ، وأسفر عن معركة حاسمة بعيدة المدى في التاريخ الإنساني، وأمد الله تعالى به المؤمنين بالملائكة، باعتباره سببا من أسباب النصر، لتطمئن قلوبهم وتتعلق بالله وتثق به، وليمتثلوا ما أمرهم به من اتخاذ الأسباب التي قد خلت من قبل: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب 33/ 62] . أما في الحقيقة فالناصر هو الله تعالى بسبب وبغير سبب: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . وأما كلمة مُسَوِّمِينَ بكسر الواو اسم فاعل: فمعناها أنهم أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم، وقال كثير من المفسرين: مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة. وأما بفتح الواو اسم مفعول: فالمعنى: معلّمين بعلامات. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة، فروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما «أن الملائكة اعتمّت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم» ذكره البيهقي عن ابن عباس، وحكاه المهدوي عن الزجاج. وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق «2» . وذلك دليل على اتخاذ الشارة (الهيئة) والعلامة للقبائل والكتائب، يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة عن غيرها عند الحرب.

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 189 (2) البلق: سواد وبياض.

7- إن الإمداد بالملائكة يوم بدر كان إمدادا فعليا، لا معنويا، بدليل الثابت في الروايات الكثيرة في السنة النبوية. وقد جعله الله بشرى للمؤمنين بالنصر وتطمينا لقلوبهم، وإهلاكا لأعدائهم. والنصر الحقيقي بسبب أو بغير سبب هو من عند الله القوي الغالب الحكيم الصنع، المدبر لكل الأمور على وفق الحكمة بوضع كل شيء في المحل المناسب له. 8- إن جرح النبي صلّى الله عليه وسلّم في معركة أحد أمر عظيم الوقع والتأثير على النبي نفسه وعلى المؤمنين، لذلك قال كما ثبت في صحيح مسلم حينما جعل يمسح الدم عنه: «كيف يفلح قوم شجّوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله تعالى» فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. قال الضحاك: همّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو على المشركين، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية، علم أن منهم من سيسلم، وقد آمن كثير، منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عمر قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فهداهم الله للإسلام، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وعلى أي حال: فهذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ دليل قاطع على أن القرآن من عند الله، فهذا تنبيه لرسول الله وإعلام له بأن الأمر كله لله، سواء دعا على المشركين أو لم يدع. 9- بناء على ما ثبت من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على جماعة من المشركين في صلاة الفجر، اختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها. فمنعه الكوفيون (الحنفية والحنابلة) لما روي في الموطأ عن ابن عمر: «أنه كان لا يقنت في شيء

إرشادات للمؤمنين بفعل الخيرات وترك المنكرات وجزاء الطائعين والعصاة [سورة آل عمران (3) الآيات 130 إلى 136] :

من الصلاة» ولما روى النسائي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين لم يقنتوا. وأجازه الحجازيون (المالكية والشافعية) لكن الأفضل عند المالكية قبل الركوع، وعند الشافعية بعد الركوع لما روى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: «ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا» . وروى أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاء القنوت وهو دعاء عمر: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ... » إلخ. وروى البيهقي صيغة القنوت بلفظ: «اللهم اهدني فيمن هديت..» إلخ. إرشادات للمؤمنين بفعل الخيرات وترك المنكرات وجزاء الطائعين والعصاة [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)

الإعراب:

الإعراب: أَضْعافاً مُضاعَفَةً: أضعافا حال منصوب من الربا، ومضاعفة: صفة له وَسارِعُوا معطوفة على ما قبلها من القصص عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وأُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الأولى جملة اسمية والثانية فعلية، وهما في موضع جر صفة لجنة. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ: مَنْ استفهام معناه النفي: مبتدأ، ويَغْفِرُ: خبره، وفيه ضمير يعود إلى مَنْ. وإِلَّا اللَّهُ: بدل من ضمير يَغْفِرُ، وتقديره: ما يغفر الذنوب إلا الله. وَجَنَّاتٌ تَجْرِي.. جملة: تجري فعلية في موضع رفع صفة لجنات، والعائد إليها الهاء في تَحْتِهَا. خالِدِينَ فِيها حال من أولئك، أي مقدرين الخلود فيها. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ونعم أجر العاملين الجنة، وحذف لدلالة الكلام المتقدم عليه. البلاغة: أَضْعافاً مُضاعَفَةً جناس اشتقاق. لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا مجاز مرسل، سمي الأخذ أكلا لأنه يؤول إليه. عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تشبيه بليغ حذف منه أداة الشبه، أي كعرض السموات والأرض. سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ أي إلى موجب مغفرة، تسمية للشيء باسم سببه. السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فيه طباق. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام يقصد منه النفي أي لا يغفر. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ الإشارة بالبعيد للدلالة على علو منزلتهم. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ حذف منه المخصوص بالمدح أي ونعم أجر العاملين الجنة. المفردات اللغوية: أَضْعافاً مُضاعَفَةً بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب، وضعف

سبب النزول:

الشيء: مثله، وهذه المضاعفة: إما في الزيادة فقط التي هي الربا، وإما بالنسبة إلى رأس المال كاستدانة مائة بثلاثمائة وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الربا بأن تجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه تُفْلِحُونَ تفوزون وَاتَّقُوا النَّارَ أن تعذبوا بها أُعِدَّتْ هيئت وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ بادروا إلى الأسباب المؤدية إليها من الأعمال الصالحة، كالصدقة وفعل الخير والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي كعرضهما لو وصلت إحداهما بالأخرى، والعرض: السعة، والمراد وصف الجنة بالسعة. السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ السراء: الحال التي تسر، والضراء: الحال التي تضر، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الحابسين والكاتمين له مع القدرة على إمضائه. والغيظ: أشد أنواع الغضب، وهو ألم شديد يحدث في النفس عند الاعتداء على حق مادي كالمال والولد، أو معنوي كالشرف والعرض والكرامة. الْمُحْسِنِينَ الإحسان: الإنعام والتفضل على الغير على نحو لا مذمة فيه فاحِشَةً الفاحشة: الذنب الكبير والفعل القبيح الذي يتعدى أثره إلى الغير كالزنا والغيبة ونحوهما. وظلم النفس: هو الذنب الذي يقتصر أثره على الفاعل كشرب الخمر ونحوه. ذَكَرُوا اللَّهَ تذكروا وعده ووعيده، وأمره ونهيه، وعظمته وجلاله. يُصِرُّوا يداوموا، والمراد شرعا بالإصرار على الذنب: الاستمرار في فعل القبيح دون إقلاع عنه من غير تراجع ولا استغفار ولا توبة وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الذي أتوه معصية. سبب النزول: نزول الآية (130) : أخرج الفريابي عن مجاهد قال: كانوا يبتاعون إلى الأجل، فإذا حل الأجل، زادوا عليهم، وزادوا في الأجل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً. وأخرج أيضا عن عطاء قال: كانت ثقيف تداين بني النصير، فإذا جاء الأجل قالوا: نربيكم وتؤخرون عنا، فنزلت: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.

نزول الآية (135) :

نزول الآية (135) : قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت الآية في نبهان التّمّار، وكنيته أبو مقبل، أتته امرأة حسناء، باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبّلها، ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. المناسبة: بعد أن حذر الله المؤمنين من اتخاذ البطانة من غير المسلمين، وبيّن أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، وذكر مثالا للصبر والتقوى في غزوتي بدر وأحد وما فعله المشركون واليهود، حذر هنا المسلمين من فحش صفة لازمة لليهود والمشركين وهي الربا، واستتبع هذا بيان ألوان من الترغيب والترهيب والإرشادات وثمرة فعل الخير والشر. التفسير والبيان: يا أيها المؤمنون، إياكم أن تأكلوا الربا كما كان الناس يفعلون في الجاهلية، فهو نهي صريح للمؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة، وزاده الآخر في قدر الفائدة، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا. وضم الله تعالى إلى هذا النهي لتأكيد تحريم الربا أمر المؤمنين بالتقوى لعلهم يفلحون في الدنيا والآخرة، ثم زاد النهي تأكيدا فتوعدهم بالنار، وحذرهم منها ثم شدد في الأمر بإطاعة الله والرسول، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات، والمسارعة إلى نيل القربات. وقد أوضحت في الجزء الثالث في تفسير آيات الربا (275- 276،

278- 279) من سورة البقرة أن هذه الآية نزلت في المرحلة الثالثة من مراحل تدرج التشريع في تحريم الربا، وأن قليل الربا ولو 1 وكثيره حرام، وأن الآيات القرآنية التي في سورة البقرة والتي هي آخر الأحكام نزولا دلت على تحريم نوعي الربا: ربا النسيئة (أي الأجل) وربا الفضل (أي الزيادة الحالية) وأن تحريم الربا بنوعيه إنما هو لمصلحة الأمة، لما فيه من خطر على الفرد والجماعة، وأن تحريم ربا الفضل من باب سد الذرائع، أي حتى لا يكون ذريعة يتذرع به إلى ربا النسيئة، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا مادية كثيرة أو قليلة. وربا الجاهلية أو ربا النسيئة هو ما يسمى اليوم في المصارف الربوية بالربا الفاحش أو الربح المركب أو الفائدة المركبة مع مرور الزمن، وهو محرم قطعا بنص القرآن الكريم، وأما التقييد بالأضعاف المضاعفة في الآية فهو قيد لبيان الواقع وتصوير للحالة التي كان عليها الناس في الجاهلية، وتشنيع عليهم بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا واستغلالا واضحا لحاجة المدين. ولا يعني هذا التقييد أصلا أن الربا اليسير حلال، وأن الحرام هو الربا الفاحش فقط، فذلك ليس مرادا من الآية، فالربا قل أو كثر هو حرام وكبيرة من الكبائر، وليس لهذا القيد أي مفهوم. ولا يبلح الربا بحال إلا للمضطر في حدود الضرورة القصوى، مثل الإقدام على أكل الميتة، كأن غلب على ظنه الوقوع في الهلاك جوعا، أو تعرض للعيش في الشارع بلا مسكن يأوي إليه، أما الاقتراض بفائدة للتوسع في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، فهو حرام، إلا إذا كان مهددا بغالب الظن بالإفلاس أو تلف المحصول الزراعي، فهو حرام، إلا إذا كان مهددا بغالب الظن بالإفلاس أو تلف المحصول الزراعي، ولم يجد أحدا يقرضه القرض الحلال، فله الاقتراض بفائدة بقدر إنقاذ نفسه من الضائقة المستحكمة لأن الضرورة تقدر بقدرها. ومما يبشر بخير في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحالية نجاح مؤسسات المصارف

وشركات التأمين الإسلامية التي تقوم على أساس عقود المضاربة والمرابحة والضمان وغيرها مما أباحه الفقهاء، وليس فيه الربا الحرام أو الغرر والمقامرة المحرمان شرعا. وأكد الله تعالى النهي عن الربا بالأمر بتقوى الله فيما نهينا عنه من الأمور، ومنها الربا، لنحقق لأنفسنا الفوز والفلاح في الدنيا بالتعاون والتراحم المؤديين إلى المحبة، والمحبة أساس السعادة، وفي الآخرة بالظفر برضوان الله وبالجنة. وزاد النهي تأكيدا بالتحذير مما يؤدي إلى النار، ومنه الربا، تلك النار التي هيأها الله للكافرين ومنهم المرابون، فإذا لم يمتثلوا جانب التقوى واتقاء المعاصي، صاروا في عداد أهل النار، روي عن أبي حنيفة رحمه الله: إن هذه أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمه. وقد عرفنا في سورة البقرة أن الله تعالى أعلن الحرب والعداوة من الله ورسوله على أكلة الربا. ثم شدد تعالى في النهي تشديدا بليغا، فأمر بإطاعة الله ورسوله فيما نهى عنه الله ورسوله من أخذ الربا، كي يرحم الناس في الدنيا بصلاح حالهم، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالهم. ثم أمر عز وجل بالمبادرة إلى ما يوجب مغفرة الذنوب ودخول الجنان الواسعة الفسيحة التي أعدها الله للمتقين، وهذا دليل على أن الجنة مخلوقة الآن. روى الإمام أحمد في مسنده: أن هرقل كتب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟» أي أنه إذا دار الفلك كان النهار في جانب من العالم، والليل في الجانب الآخر، فكذا الجنة في ناحية العلو، والنار في جهة السفل، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار. ويمكن أن يكون

المعنى: أنه لا يلزم إن عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل، قال ابن كثير: وهذا أظهر لحديث أبي هريرة عند البزار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أرأيت قوله تعالى: جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ قال: «أرأيت الليل إذا جاء، لبس كل شيء، فأين النهار؟» قال: حيث شاء الله، قال: «وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل» . هذه أربعة تأكيدات للتّنفير من الرّبا: اتّقوا الله، اتّقوا النّار، أطيعوا الله، أطيعوا الرّسول. ثمّ رغب تعالى بفعل الخير بعد التّرهيب، فأمر بالمبادرة إلى فعل الطاعات كالصدقة والصّلة والتّراحم والتّعاون والبعد عن الآثام كالرّبا ونحوه، وتلك الأعمال الخيرية هي التي تجعل المجتمع الإسلامي متراحما سعيدا مطمئنا لا أحقاد فيه ولا صراعات ولا حسد ولا بغض ولا كراهية بين الفقراء والأغنياء. ثم ذكر الله تعالى أوصاف أهل الجنة، وهي: 1- الذين ينفقون في السّراء والضراء، أي في الشدة والرّخاء، والمنشط والمكره، والصّحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة 2/ 274] ، والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البرّ، وجاء في الحديث عند أحمد والشيخين عن عدي: اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة» . والأمر بالإنفاق له هدفان: الأول- أنّ الصدقة عون المحتاج وأخذ بيده إلى طريق الكفاية، والرّبا استغلال الغني حاجة الفقير، لذا قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ

الْمُضْعِفُونَ [الرّوم 30/ 39] ، وقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة 2/ 276] . الثاني- أنّ الإنفاق في مختلف الأحوال يسرا وعسرا وغيرهما أدلّ على التّقوى، وأعون على سدّ الحاجات المتكررة، بنحو تدريجي بطيء، فلا يكون فيه إرهاق على المنفق، ولا إهمال للمحتاج حتى يصير في أدنى درجات الحاجة، والحكمة تقول: «أعط القليل فالحرمان أقل منه» . وحبّ الخير وتذكّر الآخرة هو الذي يحرّك في الإنسان عاطفة الرّحمة، وداعية البذل لإنفاق القليل الدائم، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع، والقليل إذا اجتمع من الأفراد والجماعات صار كثيرا محققا للمطلوب، لذا قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق 65/ 7] . 2- والكاظمين الغيظ أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموا، فلم يعملوه مع القدرة على إمضائه وإنفاذه، لا عن ضعف وعجز، قال عليه الصّلاة والسّلام: «ليس الشديد بالصّرعة، لكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «1» . وروى أحمد أيضا أن حارثة بن قدامة السعدي قال: يا رسول الله، أوصني، قال: «لا تغضب» . وطريق علاج الغضب ما رواه أحمد وأبو داود عن عطية بن سعد السعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» . وروى عبد الرّزاق عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه، ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا» .

_ (1) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأثر عن عائشة رضي الله عنها أن خادما لها أغاظها فقالت: لله درّ التّقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء. 3- والعافين عن الناس أي الذين يتسامحون ويعفون عمن أساء إليهم مع القدرة على ردّ الاعتداء، وتلك منزلة ضبط النفس التي تدلّ على سعة العقل ورجاحة الفكر وقوة الإرادة ومتانة الشخصية، وهي أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة، وهذا مثل قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى 42/ 37] ، وروى الحاكم والطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن يشرف له البنيان، وترفع له الدّرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه» «1» . وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربّكم، وخذوا أجوركم، وحقّ على كلّ امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة» . وفي هذا إشارة إلى عفو النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرّماة الذين خالفوا أمره في غزوة أحد، وإلى تركه مجازاة المشركين بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حين قال- وقد رآه مثّل به كما جاء في السيرة-: «والذي نفسي بيده لأمثّلنّ بسبعين منهم» . 4- والله يحبّ المحسنين: الذين يقابلون الإساءة بالإحسان، إما بإيصال النّفع لمن أساء، وإما بدفع الضّر عنه في الدّنيا بألا يقابل الإساءة بمثلها، أو في الآخرة بالعفو عماله عند النّاس من الحقوق. وهذه مرتبة هي أعلى المراتب السابقة. أخرج البيهقي أنّ جارية لعلي بن الحسين رضي الله عنه جعلت تسكب عليه الماء، ليتهيأ للصّلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه، فقالت: إن الله يقول: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال لها: قد كظمت غيظي،

_ (1) قال الحاكم: هو صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

قالت: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفا الله عنك، قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله تعالى. 5- والذين إذا فعلوا فاحشة، أي ذنبا يتعدّى ضرره إلى الغير كالزّنى والرّبا والسّرقة والغيبة ونحوها، أو ظلموا أنفسهم أي فعلوا ذنبا يقتصر ضرره عليهم كشرب الخمر ونحوه، ذكروا وعد الله ووعيده، وعظمته وجلاله، فرجعوا إليه تائبين مستغفرين لذنوبهم، طالبين رحمته. علما- وهذه جملة اعتراضية- بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، ومن فضله وإحسانه وكرمه أنه يعفو عن المسيء، ويتجاوز عن المذنب مهما عظمت الذنوب، غير الشرك، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] ، وقال أيضا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف 7/ 156] . وشرط قبول التوبة: عدم الإصرار على الذّنب، وهذا قوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمرّوا على المعصية ويصرّوا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذّنب تابوا منه، كما قال الحافظ أبو يعلى في مسنده، فإنه مع أبي داود والترمذي والبزار في مسنده رووا عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصرّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» «1» . وهم يعلمون أن الذي أتوه معصية، ويذكرون ذنوبهم فيتوبون منها، وأن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] ، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء 4/ 110] .

_ (1) حديث حسن. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أبان الله تعالى بعد وصف المتّقين بالأوصاف السابقة: أن أولئك المتّقين الموصوفين بهذه الصّفات جزاؤهم مغفرة من ربّهم على ذنوبهم، وأمن من العقاب، ولهم ثواب عظيم عند ربّهم في جنّات تجري من تحتها الأنهار، أي من أنواع المشروبات، وهم خالدون فيها أي ماكثون فيها، ونعم هذا الجزاء على تلك الأعمال الصالحة وهو الجنة، فهو تعالى يمدح الجنة، وحقّ له المدح، ففيها النعيم الأبدي المطلق، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات (130- 132) على تحريم الرّبا من نواح أربعة: النّهي عنه لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا واتّقاء الله في أموال الرّبا فلا تأكلوا، والوعيد لمن استحلّ الرّبا بالنّار، ومن استحلّ الرّبا فإنه يكفر، والأمر بإطاعة الله في تحريم الرّبا، وإطاعة الرّسول فيما بلّغ الناس من التّحريم، كي يرحمهم الله. قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حلّ الأجل زادوا في الثّمن على أن يؤخّروا، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً. قال القرطبي «1» : وإنما خصّ الرّبا هنا من بين سائر المعاصي لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة 2/ 279] ، والحرب يؤذن بالقتل فكأنه يقول: إن لم تتّقوا الرّبا هزمتم وقتلتم، فأمرهم بترك الرّبا لأنه كان معمولا به عندهم. ودلّت عبارة أَضْعافاً مُضاعَفَةً المؤكّدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التّضعيف خاصة، فإنهم كانوا يكرّرون التّضعيف عاما بعد عام.

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 202

ودلّت آية وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ على أنّ النّار مخلوقة، ردّا على الجهمية لأنّ المعدوم لا يكون معدّا. وأرشدت آية وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ إلى وجوب المبادرة إلى ما يوجب المغفرة، وهي الطاعة، وقدم المغفرة على الجنّة لأنّ التّخلي مقدم على التّحلي، فلا يستحقّ دخول الجنّة من لم يتطهّر من الذّنوب أولا. واختلف العلماء في تأويل قوله: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فقال ابن عبّاس: تقرن السّموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنّة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه. وأشارت آية أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ إلى أن الجنّة مخلوقة موجودة كالنّار، وهذا قول عامّة العلماء. ويؤيده نص حديث الإسرار وغيره في الصحيحين وغيرهما، وحديث أبي ذر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما السّموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» . وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السّموات والأرض، ابتدأ خلق الجنّة والنّار حيث شاء لأنهما دار جزاء بالثّواب والعقاب، فخلقتا بعد التّكليف في وقت الجزاء لئلا تجتمع دار التّكليف ودار الجزاء في الدّنيا كما لم يجتمعا في الآخرة. ويلاحظ أنه تعالى أمر بالمسارعة إلى عمل الآخرة في آيات كثيرة: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [آل عمران 3/ 133] ، سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [الحديد 57/ 21] ،اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [البقرة 2/ 148] ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة 62/ 9] ، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين 83/ 26] ، وأما السّعي للدّنيا فذكر بها تذكيرا برفق مثل: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها

[الملك 67/ 15] ، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ [المزمل 73/ 20] . وفي الآية (134) صفات المتّقين الأبرار: وهي الإنفاق في الرّخاء والشّدة، وفي حال الصّحة والمرض وكظم الغيظ وكتمه وردّه في الجوف دون إنفاذ وإمضاء مع القدرة على ذلك، والغيظ أصل الغضب والفرق بينهما: أن الغيظ لا يظهر على الجوارح (الأعضاء) بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما، ولا بدّ أن يظهر، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم والعفو عن النّاس عند الإساءة، وكل من استحقّ عقوبة فتركت له، فقد عفي عنه، والإحسان بعد الإساءة أعلى المراتب، والإحسان: أن تحسن وقت الإمكان، فليس كلّ وقت يمكنك الإحسان. ومعنى قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم على إحسانهم. وهذه أصول الفضائل وأمّهات مكارم الأخلاق. ثم ذكر الله تعالى بقوله: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ... صنفا هم دون الصنف الأول، فألحقهم به برحمته ومنّه، وهم التّوابون. ذكر التّرمذي وقال: حديث حسن، وأبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد يذنب ذنبا، ثم يتوضأ ويصلّي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له» ، ثم تلا هذه الآية: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ... الآية ، والآية الأخرى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء 4/ 110] . والفاحشة تطلق على كلّ معصية، وقد كثر اختصاصها بالزّنى، حتى فسّر جابر بن عبد الله والسّدّي هذه الآية بالزّنى. وذكر الله: معناه الخوف من عقابه والحياء منه، وذكر العرض الأكبر على الله، والتّفكر في النّفس أن الله سائل عن الذّنب. والاستغفار عظيم وثوابه جسيم، ووقته الأسحار، روى التّرمذي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم،

وأتوب إليه، غفر له، وإن كان قد فرّ من الزّحف» . وروى مكحول عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . قال علماء المالكية: الاستغفار المطلوب: هو الذي يحلّ عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التّلفّظ باللسان. فأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصرّ على معصيته، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لا حقة بالكبائر. قال الحسن البصري: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. وليس أحد يغفر المعصية، ولا يزيل عقوبتها إلا الله تعالى. والباعث على التوبة وحلّ الإصرار: إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنّة، ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدّد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه، فدعا الله رغبا ورهبا، والرّغبة والرّهبة: ثمرة الخوف والرّجاء، يخاف من العقاب، ويرجو الثّواب، والله الموفق للصّواب. وتصحّ التّوبة بعد نقضها بمعاودة الذّنب لأن التّوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحّت، وهو محتاج بعد مواقعة الذّنب الثّاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذّنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه أضاف إلى الذّنب نقض التّوبة، فالعود إلى التّوبة أحسن من ابتدائها لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذّنوب سواه. ودليل ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فيما يحكي عن ربّه عزّ وجلّ قال: «أذنب عبد ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب، ويأخذ بالذّنب، ثم عاد فأذنب فقال: أيّ ربّ اغفر لي ذنبي- فذكر مثله مرّتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك» . ومعنى العبارة الأخيرة وهو الأمر: الإكرام، فيكون من باب قوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ.

ودلّت الآية وهذا الحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذّنب والاستغفار منه، أخرج الشّيخان في صحيحيهما، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه» . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون، فيغفر لهم» وهذه فائدة اسم الله تعالى: الغفار والتّواب. أنواع الذّنوب: الذّنوب التي يتاب منها: إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر: إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرّد الإيمان نفسه توبة. وغير الكفر إما حقّ الله تعالى، وإما حقّ لغيره. فحقّ الله تعالى يكفي في التّوبة منه التّرك، لكن مع القضاء كالصّلاة والصّوم، أو مع الكفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك. وأما حقوق الآدميين: فلا بدّ من إيصالها إلى مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدّق عنهم. فإن كان معسرا فعفو الله مأمول وفضله مبذول. وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه: أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه. ودلّ قوله: وَلَمْ يُصِرُّوا على أنّ الإنسان يؤاخذ بما وطّن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية. وهذا يدلّ على أنّ الهم بالمعصية يؤاخذ عليه إن وطّن نفسه عليها «1» . وأما معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام في الحديث الصحيح: «من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» أي لم يعزم على عملها، فإن أظهرها أو عزم عليها عوقب عليها. وفي التّنزيل: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحجّ 22/ 25] عوقبوا قبل فعلهم بعزمهم.

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 215

عاقبة المكذبين والمتقين وتوفير العزة للمؤمنين بالجهاد [سورة آل عمران (3) الآيات 137 إلى 141] :

وقوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ.. فيه ترتيب فضل الله وكرمه بغفران الذّنوب لمن أخلص في توبته، ولم يصرّ على ذنبه، وهذا يشمل من فرّ في غزوة أحد، ثم تاب ولم يصرّ، فله مغفرة الله. عاقبة المكذّبين والمتّقين وتوفير العزّة للمؤمنين بالجهاد [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 141] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) الإعراب: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الواو إما للعطف، أو للحال فيكون المعنى: ولا تضعفوا ولا تحزنوا، وهذه حالكم. نُداوِلُها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الأيام. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الواو: إما عاطفة على فعل مقدّر، والتّقدير: لئلا يغترّوا وليعلم الله الذين امنوا، وإما زائدة، أي ليعلم الله. والوجه الأول أوجه.

البلاغة:

البلاغة: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ التفات من الحاضر في كلمة نُداوِلُها إلى الغيبة، لتعظيم شأن الجهاد في سبيل الله. المفردات اللغوية: قَدْ خَلَتْ مضت سُنَنٌ طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم، واحدها سنة: وهي الطريقة المعتبرة والسّيرة المتّبعة. وَهُدىً من الضلالة أي تبصير وإرشاد إلى طريق الدّين القويم. وَمَوْعِظَةٌ ما يلين القلب ويدعو إلى التّمسك بالطاعة. وَلا تَهِنُوا تضعفوا عن قتال الكفار، من الوهن: الضعف في العمل وفي الرّأي وفي الأمر. وَلا تَحْزَنُوا على ما أصابكم بأحد أو غيرها من المعارك من الهزيمة. والحزن: ألم يعرض للنّفس من فقد ما تحبّ. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بالغلبة عليهم. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقّا. قَرْحٌ جهد من جرح بسلاح ونحوه. الْأَيَّامُ المراد هنا أزمنة الفوز والظّفر، واحدها يوم: وهو الزمن المعروف من الليل والنهار. نُداوِلُها نصرّفها بين النّاس، يوما لهؤلاء ويوما لآخرين، ليتّعظوا، كما وقع في يومي بدر وأحد. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي ليظهر الله علمه. الَّذِينَ آمَنُوا أخلصوا في إيمانهم من غيرهم. شُهَداءَ واحدهم شهيد: وهو قتيل المعركة. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يعاقب الكافرين، وأما ما ينعم به عليهم فهو استدراج. وَلِيُمَحِّصَ يطهرهم من الذّنوب ويخلّصهم من العيوب بما يصيبهم. وَيَمْحَقَ يهلك وينقص. سبب النزول: نزول الآية (139) : وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا: قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلونّ علينا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النّفر» فأنزل الله تعالى هذه

نزول آخر الآية (140) :

الآيات، وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «1» . سبب نزول أوّل الآية: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ: قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا يوم أحد، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين، وهي تلدم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أهكذا يفعل برسولك؟ فأنزل الله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ الآية «2» . نزول آخر الآية (140) : وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النّساء الخبر، خرجن ليستخبرن، فإذا رجلان مقبلان على بعير، فقالت امرأة: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالا: حيّ، قالت: فلا أبالي يتّخذ الله من عباده الشهداء، ونزل القرآن على ما قالت: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ. المناسبة: إنّ ما حدث في وقعتي بدر وأحد، وجزاء المؤمنين والكافرين هو سنة الله في الخلق مع بيان الحكمة في النصر والانهزام، فالحق لا بدّ أن ينتصر على الباطل مهما طال أمد وجوده، وقد جرى ذلك على أتباع الأنبياء السابقين، كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين، كما وعد الله رسله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 171- 173] ، وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 71، لكن هذه الرّواية غير مخرجة، ويظهر منها الضعف. (2) المصدر السابق. واللّدم: صوت الحجر أو الشيء يقع بالأرض، وليس بالصوت الشديد.

التفسير والبيان:

التّفسير والبيان: إن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة، ترتبط فيها الأسباب بالمسببات، والمقدّمات بالنتائج، وإن كان الله قادرا على كلّ شيء، وتلك السّنة في الماضين واللاحقين هي أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين، حظي بالسعادة والنّصر والفلاح، ومن سار في طريق العصاة المكذّبين، كانت عاقبته خسرا ودمارا وهلاكا. ففي أحوال السّلم إن سار المرء على الأصول المطلوبة والنّظم العلمية والخبرات المعروفة في شؤون الزراعة والصّناعة والتّجارة وغيرها، نجح وظفر بمراده، وإن كان ملحدا أو وثنيّا أو مجوسيّا. وإن جانب المعقول، وخرج عن المألوف، كان من الخاسرين، وإن كان صالحا تقيّا. وفي أحوال الحرب إن أعدّ القائد العدّة المناسبة في كلّ عصر لقتال العدوّ، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... [الأنفال 8/ 60] ودرّب الجيش على فنون الحرب تدريبا صحيحا عاليا، تحقق النصر والغلبة، وإن أهمل الإعداد والتّدريب، أدركته الهزيمة. ومن سار في الأرض، وتعقب أحوال الأمم، وتدبّر التاريخ وعرف الأخبار، يجد مصداق تلك السّنة الإلهية الثابتة وهي الفوز لمن أحسن، والخيبة لمن أساء. وفي هذا تنبيه لمن أساء وخالف أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أحد، وتذكير بأنّ النّصر يوم بدر كان بسبب الثبات وصدق اللقاء وإطاعة الله والرّسول وحسن التّوكل على الله والثقة بقدرته ورحمته وفضله. وهذا كلّه في القرآن بيان صريح للنّاس جميعا، وهداية وموعظة للمتّقين

منهم خاصة، لأنهم المنتفعون بهدي القرآن: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان 31/ 2- 3] ، إنه بيان الأمور على نحو واضح، وكيف كان الأقدمون مع أعدائهم، وهو زاجر عن المحارم والمخالفات. وذلك يدحض قول المشركين والمنافقين: «لو كان محمد رسولا حقّا لما غلب في وقعة أحد» مما يتبين أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرّسل وسائر الخلق، فما من قائد لا يطيعه جنوده ويخالفون أوامره، إلا كان جيشه عرضة للهزيمة. وإذا عرف المؤمنون هذه الحقيقة فيجب عليهم ألا يضعفوا عن القتال بسبب ما جرى في أحد، وما يجري من مسّ السّلاح، ولا يحزنوا على ما أصابهم من قتل في أحد، فالقتيل شهيد مكرم عند الله يوم القيامة، وتلك الموقعة درس وتربية وتعليم للمسلمين، لذا قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو خيّرت بين الهزيمة والنّصر يوم أحد لاخترت الهزيمة» . وليس لكم أن تضعفوا وتحزنوا، وأنتم الأعلون، والعاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون، بمقتضى سنّة الله في جعل العاقبة للمتّقين، وقتلاهم في الجنّة، وقتلى الكافرين في النّار. والمراد بالنّهي عن الوهن والحزن: النّهي عن الاستسلام، والعودة إلى التّأهّب والاستعداد، مع صدق العزيمة، وقوّة الإرادة، وحسن الظّن بالله، والتّوكّل عليه والثّقة بالنّصر. وكيف تضعفون بسبب الآلام والجراح والقتل، فإن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم طائفة في أحد، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، بل وتعرّضوا لألم أكثر في بدر، فإن هزمتم في أحد، فقد انتصرتم في بدر، والأيّام دول، والحرب سجال، ويوم لكم ويوم عليكم، وذلك كلّه لحكمة، فنجعل للباطل دولة في يوم، وللحقّ دولة في أيّام، والعاقبة والنّصر في النهاية

للمتّقين المخلصين. جاء في السّيرة أنّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد، فمكث ساعة، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، وهو أبوه من الرّضاع، أين ابن أبي قحافة؟ - أي أبو بكر- أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم، والأيّام دول، والحرب سجال. فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النّار، فقال: إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا «1» . إن تقلّب الأحوال بين الدّول ليظهر العدل ويستقرّ النظام، ويعلم الناظر في السّنن العامة، وليظهر الله علمه بتحقق إيمان المؤمنين، وانكشاف الصابرين على مناجزة الأعداء، كقوله: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال 8/ 37] أي ليعلم الناس الفرق بينهما ويميزوه، ولذا قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موقعة أحد لمطاردة المشركين: «لا يذهب معنا في القتال- أي في غزوة حمراء الأسد- إلا من قاتل» فذهب المؤمنون الصّادقون بالرّغم من تعبهم وعنائهم. وقد فسّرنا: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ بأن يظهر الله علمه بذلك للناس بما يعلم به، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل، فما يقع يكون مطابقا لعلم الله السابق في الأزل، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة. وليعدّ الله أناسا للشهادة في سبيل الله، فيقتلون في سبيله ويبذلون أرواحهم في مرضاته، فقد فات بعض المؤمنين الاستشهاد يوم بدر، فتمنوا لقاء العدو، ليحظوا بمرتبة الشهادة. وقد كرّم الله الشهداء بالحياة البرزخية، وبالدرجة الموازية للأنبياء، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران 3/ 169] ، وقال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ [النساء 4/ 69] .

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 412، تفسير القرطبي: 4/ 234

وبصدد ذلك ذكر أضداد الشّهداء تنويها بإخلاصهم، فقال تعالى: والله يعاقب الظالمين الكافرين، بسبب ظلمهم أنفسهم وفسادهم في الأرض، وبغيهم على الناس، ويعجل زوال دولتهم وسلطتهم، لأن الظلم لا بقاء له. ثم أكّد الله تعالى أنّ المعارك مجالات كشف وإبراز وتطهير، ففيها يتميّز المؤمنون الصادقون عن المنافقين، وبها عرف صدق الإيمان وصلابة العزيمة والثبات عند الابتلاء، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران 3/ 143] ، ففي غزوة أحد تراجع المنافقون ولا ذوا بالفرار، بل إن بعض المؤمنين في أثناء المعركة هرب، وثبت الآخرون حول النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فتبيّن أن تمنيات اللقاء مع العدو مجرد آمال لا قرار ولا ثبات لها، وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف» . ومن فوائد المعارك أيضا تبيان حال الكفار، فهم إن ظفروا كما في أحد بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، فلا بقاء ولا استمرار لهم، ولا ثبات لأحوالهم أمام المؤمنين الصادقين. وإذا هزموا كما في بدر عاجلهم الله بالدّمار والفناء، والعاقبة للمتّقين. وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآيات منها: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا ... [البقرة 2/ 214] ، ومنها: الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت 29/ 1- 2] ، ومنها الآية التالية: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: موضوع هذه الآيات بتعبير العصر: تقوية الرّوح المعنوية للمؤمنين، وجعلها عالية سامية لا تتأثر ولا تهتز بأحداث المعارك والقتال. وفي تعبير المفسّرين: هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين. وهي تذكرهم بسنّة الله الدّائمة في الكون، وهي ارتباط الأسباب بالمسببات، مع الإيمان بالقدرة المطلقة لله في إيجاد ما يشاء، إنها تذكير بهلاك من كذب قبلنا أنبياءهم كعاد وثمود، والعاقبة أي آخر الأمر للمؤمنين، فإن انتصر المشركون يوم أحد، فهذا إمهال واستدراج، وسيكتب النّصر النهائي للنّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وسيهلك أعداؤهم الكافرون. ثمّ عزّى الله المؤمنين وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثّهم على قتال عدوّهم، ونهاهم عن العجز والفشل والقعود عن جهاد الأعداء، فإن الهزيمة أو المصيبة تذكر بضرورة تصحيح الأخطاء، وتهيئ لدراسة عميقة لمستقبل الأحداث، وتخطط لمعارك كثيرة، يكون الماضي خير درس وعبرة فيها، وعندئذ تكون العاقبة بالنصر والظفر للمؤمنين إذا أحسنوا الإعداد، واستفادوا من أخطاء الماضي. وتحقق وعد الله للمؤمنين بأنهم الأعلون أي الغالبون على الأعداء بعد أحد، فكان النّصر والظّفر في المعارك المتوالية، في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عهد الصحابة من بعده أيضا. وهذا دليل على فضل هذه الأمّة: لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، فقال لموسى عليه السّلام: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه 20/ 68] ، وقال لهذه الأمّة: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. وتداول الأيام بين الناس في الحرب، فيكون النّصر مرّة للمؤمنين لنصر الله عزّ وجلّ، ومرّة للكافرين إذا عصى المؤمنون، إنما هو ليرى المؤمن من المنافق،

فيميز بعضهم من بعض، كما قال تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا [آل عمران 3/ 166] . ومن فوائد المداولة: إكرام قوم بالشّهادة، فيقتلون، فيكونون شهداء على النّاس بأعمالهم، وليصيروا مشهودا لهم بالجنّة، وللشهادة فضل عظيم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. [التوبة 9/ 111] ، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إلى قوله: ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصّف 61/ 10- 12] . وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة» . ودلّ قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ على أن الإرادة غير الأمر، كما يقول أهل السّنة، فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه، وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة، وأراده، فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده، فامتنع منه، وأشار تعالى لذلك: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة 9/ 46] . وأمر تعالى الجميع بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير، فقعدوا. ودلّ قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي المشركين على أنه تعالى وإن حقق نصر الكفار على المؤمنين مرة، فهو لا يحبّهم ويعاقبهم، وإن أوقع ألما بالمؤمنين فإنه يحبّهم ويثيبهم. وتتلخّص نتيجة المداولة بين المؤمنين والكفار في الحروب: أن الله شرع اللقاء ليبتلي المؤمنين ويثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم، ويستأصل الكافرين بالهلاك.

عتاب لبعض أهل أحد بقدسية الجهاد وضرورة الثبات على المبدأ وتذكير بأن الموت بإذن الله [سورة آل عمران (3) الآيات 142 إلى 148] :

وللجنة ثمن وبدل ثمين، فهل حسبتم يا من انهزموا يوم أحد أن تدخلوا الجنّة، كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل، من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟! لا. عتاب لبعض أهل أحد بقدسية الجهاد وضرورة الثبات على المبدأ وتذكير بأن الموت بإذن الله [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 148] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

الإعراب:

الإعراب: أَمْ حَسِبْتُمْ أم هاهنا المنقطعة، لأنها ليس قبلها همزة. وَلَمَّا حرف لنفي ما قرب من الحال. يَعْلَمِ مجزوم بلما، وكسرت لالتقاء الساكنين، ويَعْلَمِ: هاهنا بمعنى يعرف، ولهذا تعدّت إلى مفعول واحد وهو الذين. وَيَعْلَمَ منصوب بتقدير أن، أي لم يجتمع العلم بالمجاهدين والصابرين. أَنْ تَلْقَوْهُ في موضع بإضافة قَبْلِ إليه، والهاء تعود على الموت، وكذا هاء: رَأَيْتُمُوهُ أي رأيتم أسبابه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أَنْ تَمُوتَ أن وصلتها في تأويل مصدر في موضع رفع اسم كان. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ خبر كان. كِتاباً مُؤَجَّلًا منصوب على المصدر. نُؤْتِهِ مِنْها قرئ بالإشباع وهو أحسن من الاختلاس والإسكان، لأنه الأصل، ثم الاختلاس ثم الإسكان وهو أضعفها. وَكَأَيِّنْ بمنزلة «كم» في الدّلالة على العدد الكثير، وأصلها «أي» أدخلت عليها كاف التّشبيه. رِبِّيُّونَ فاعل مرفوع لقاتل، والجملة في موضع جر صفة لنبيّ. وخبر كَأَيِّنْ مقدر، وتقديره: في الدّنيا، أو في الوجود وما أشبه ذلك. البلاغة: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يعني الموت، شاهدتموه، فيه ما يسمى بالتخييل: وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيّل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قصر موصوف على صفة. انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ استعارة، شبّه سبحانه الرّجوع عن الدّين في الارتياب بالرّجوع على الأعقاب. المفردات اللغوية: أَمْ بل. وَلَمَّا لم، لكن لنفي قريب الحصول. يَعْلَمِ علم ظهور. جاهَدُوا الجهاد: تحمّل المشاق ومكافحة الشدائد، وهو يشمل جهاد النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء بالنفس دفاعا عن الدّين وأهله وإعلاء كلمته (الجهاد الأصغر) ، والجهاد بالمال للدّين والأمة، ومجاهدة الباطل ونصرة الحق.

سبب النزول:

تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي تتمنون الشهادة في سبيل الله. تَلْقَوْهُ تشاهدوا أهواله وتروا مخاطره. رَأَيْتُمُوهُ رأيتم أسباب الموت من لقاء الشجعان ومصاولة الفرسان. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ تتأملون وتبصرون الحال كيف هي، فلم انهزمتم. ونزل في هزيمتهم لما أشيع أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قتل، وقال لهم المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم. انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أصل معناه: رجعتم إلى الوراء، والمراد هنا رجعتم كفارا بعد إيمانكم. وهذه الجملة استفهام إنكاري، أي ما كان محمد معبودا فترجعوا إلى الكفر. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بقضائه. كِتاباً مصدر أي كتب الله ذلك. مُؤَجَّلًا ذا أجل مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر، والأجل: المدّة المضروبة للشيء. وَكَأَيِّنْ كلمة بمعنى كم، تفيد كثرة ما دخلت عليه. رِبِّيُّونَ جماعات كثيرة، واحدهم ربّي: وهو الجماعة. فَما وَهَنُوا وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وهنوا: ضعفوا وجبنوا، والوهن: ضعف يصيب القلب، والضعف: اختلال قوة الجسم، والاستكانة: الاستسلام والخضوع للعدو ليفعل ما يريد. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يثيبهم، والصبر: احتمال الشدائد وتحمل المكاره. وَإِسْرافَنا الإسراف: تجاوز الحدّ في كلّ شيء، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف 7/ 31] . وَثَبِّتْ أَقْدامَنا بتقوية قلوبنا على الجهاد وإزالة الوساوس من صدورنا. سبب النزول: نزول الآية (143) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس: أنّ رجالا من الصحابة، كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، أو ليت لنا يوما كيوم بدر، نقاتل فيه المشركين، ونبلي فيه خيرا، أو نلتمس الشهادة والجنة، أو الحياة والرزق، فأشهدهم الله أحدا، فلم يلبثوا إلا من شاء منهم، فأنزل الله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الآية.

نزول الآية (144) :

نزول الآية (144) : أخرج ابن المنذر عن عمر، قال: تفرقنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فصعدت الجبل، فسمعت اليهود تقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحدا يقول: قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس يتراجعون، فنزلت هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن الرّبيع قال: لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح، وتداعوا نبي الله، قالوا: قد قتل، فقال أناس: لو كان نبيّا ما قتل، وقال أناس: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية. وقال عطية العوفي: لما كان يوم أحد، انهزم الناس، فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم، فإنما هم إخوانكم وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب، ألا ما تمضون على ما مضى عليه نبيّكم، حتى تلحقوا به، فأنزل الله تعالى في ذلك: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ.. الآية. وأخرج ابن راهويه في مسنده عن الزّهري: أنّ الشيطان صاح يوم أحد، إن محمدا قد قتل، قال كعب بن مالك: وأنا أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأيت عينيه من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية. المناسبة: ما يزال الكلام عن أهل غزوة أحد، ففي الآيات السابقة إرشاد إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأنّ ما أصابهم من المحنة والبلاء، جاء على سنّة الله الثابتة في المداولة بين الناس، ولتمحيص أهل الحق والإيمان، وكان فيها

التفسير والبيان:

تقوية معنوية وتسلية للمؤمنين كي يتربّوا على حبّ الجهاد والتّحلي بالصفات التي ينالون بها النصر. وهذه الآيات تبيّن أن طريق السعادة في الآخرة بالجهاد والصّبر، وفي الدّنيا بالثبات على المبدأ والالتفاف حول النّبي في المعركة، والتضحية والإحسان، وملازمة الحق والعدل والإنصاف. التفسير والبيان: هل ظننتم دخول الجنة وأنتم لم تجاهدوا في سبيل الله، ولم تصبروا في القتال؟ لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا وتختبروا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء. وهذا مثل قوله تعالى: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت 29/ 1- 2] . ويلاحظ أن أَمْ منقطعة بمعنى بل، ومعنى الهمزة فيها الإنكار. وللجهاد أنواع: جهاد النفس والهوى والشيطان، وخاصة في عهد الشباب، وجهاد العدوّ بالنفس لإعلاء كلمة الله والدّفاع عن البلاد والأوطان، والجهاد بالمال في سبيل الدّين والأمّة والمصلحة العامة، وجهاد الباطل ومدافعته ونصرة الحق. والصبر مطلوب عند أداء التكاليف الشرعية الدائمة والمؤقتة، وطاعة الله والرّسول، وفي وقت البلاء والشدة والمحنة، وعند مقاومة الأعداء. والمراد بنفي العلم من الله عدم ظهوره ووقوعه، فهو دليل على عدم وقوع الجهاد والصبر منكم، أما في الحقيقة فالله يعلم ذلك منذ الأزل، ولكن المراد إقامة الدّليل والبرهان على الناس بصدور ما يوجب لهم الجنة والمغفرة. ثم خاطب الله بعض المؤمنين الذين لم يشهدوا بدرا، وكانوا يتمنون أن

يحضروا مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. فقال الله لهم: قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتحترقون عليه، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا. فلما كان يوم أحد ولّى جماعة منهم، فعاتبهم الله على ذلك. روي عن الحسن البصري أنه قال: بلغني أنّ رجالا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: لئن لقينا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم لنفعلنّ ولنفعلنّ، فابتلوا بذلك، فلا والله، ما كلّهم صدق، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ. وتمني الموت: معناه تمني الشهادة في سبيل الله. ولقد تمنى الشهادة جماعة لم يشهدوا بدرا، حتى إذا دارت معركة القتال مع الأعداء في أحد، وشهدوا أسباب الموت من اشتباك الرّماح، وظهور الأسنة، واصطفاف الرجال للقتال، جبنوا وضعفوا، وتركوا رسول الله يتلقى السهام، وهو يدعوهم إلى الوقوف بجانبه، ويدعوهم إلى عبادة الله، وصدق اللقاء والثبات. فمعنى قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي رأيتم الموت، أي أسبابه، معاينين مشاهدين له، حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم، وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه، وقلة ثباتهم عنده. ولما انهزم المسلمون يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمدا، وإنما كان ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشجه في رأسه، فظنّ الكثيرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فأنزل الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية، أي

له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه، فقد توفي موسى وعيسى عليهما السّلام، وقتل زكريا ويحيى عليهما السّلام، ومع هذا ظلّت ديانتهم كما هي، وأتباعهم متمسكون بها، فعليكم الثبات على الدين والمبدأ كما كنتم ولو مات أو قتل، فالرّسول بشر كسائر الأنبياء، له مهمة تنتهي بانتهاء أجله، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيّ باق لا يموت. ثم أنكر الله تعالى على من حصل له ضعف بأن من يرجع عن دينه والجهاد في سبيل الله ومقاومة الأعداء، فلن يضرّ الله شيئا بما فعل، بل يضرّ نفسه. وسيجزي الله الشاكرين نعمه الذين قاموا بطاعته، وقاتلوا عن دينه، واتّبعوا رسوله حيّا وميّتا بأن يمنحهم من فضله ورحمته في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم. وكانت هذه تمهيدا لموت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتذكيرا لأمثال عمر رضي الله عنه. وهذا يعني أن المصائب التي تحلّ بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل. قال أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك في ساعة اشتداد الأزمة على المسلمين في أحد، وحين شاع بين الناس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، وظهر على لسان بعض ضعفاء المؤمنين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال بعض المنافقين: إن كان محمد قد قتل، فالحقوا بدينكم الأول، قال: «إن كان محمد قد قتل، فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه» . ثم قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء» ، ثم شدّ بسيفه، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه «1» . وقال البخاري: عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أنّ أبا بكر

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 221، تفسير ابن كثير: 1/ 413

رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح «1» ، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وهو مغطّى (مغشى) بثوب حبرة (برد يمان) ، فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه وقبّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها. وقال الزّهري: وحدثني أبو سلمة عن ابن عبّاس أن أبا بكر خرج، وعمر يكلّم الناس، وقال: اجلس يا عمر، قال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- إلى قوله- وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلّهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. وروى ابن ماجه عن عائشة مثل ذلك «2» . وقال الزّهري أيضا: وأخبرني سعيد بن المسيّب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرقت حتى ما تقلني رجالي، وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبري بسنده- فيما حدثوا به- عن ابن عبّاس: أنّ عليّا كان يقول في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ: والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل، لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به منّي «3» ؟

_ (1) موضع بعوالي المدينة، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج، بينهما وبين منزل النّبي صلّى الله عليه وسلّم ميل. (2) تفسير القرطبي: 4/ 222- 223 (3) تفسير ابن كثير: 1/ 409- 410

ثم أخبر تعالى أنه لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي حددها الله له، ولذا قال: كِتاباً مُؤَجَّلًا أي أثبته الله مقرونا بأجل معين، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فقد يظل الشجاع الذي تعرض لأهوال الحرب حيّا، ويموت الجبان الذي تخبأ في مأواه. وهذا مثل قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر 35/ 11] ، وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام 6/ 2] ، وقوله: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] . فالأعمار محدودة، والآجال محتومة، والأقدار هي الحاكمة، والله وحده هو المتصرف في كل شيء، فيأذن بقبض كل نفس على وفق علمه دون تأخير ولا تقديم، سواء في الحرب أو في السلم. وفي هذه الآية تشجيع للجبناء، وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، فكيف يسوغ الجبن والضعف ما دام العمر بيد الله، وانقضاؤه بمشيئة الله؟ ثم بيّن الله تعالى غاية البشر: وهي إما إرادة الدّنيا، وإما إرادة الآخرة. فمن قصد بعمله التوصل للدّنيا فقط، ناله منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله من ثوابها وما قسم له من الدّنيا، كما قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] ، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 18- 19] ، وآخر هذه الآية يطابق ما هاهنا: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي سنعطيهم من

فضلنا ورحمتنا في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم، ونؤتيهم الثواب الأبدي على ترك الانهزام. أما أنتم يا من قصدتم الدنيا وهرعتم لجمع الغنائم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم في أحد، بإمكانكم الحصول على الدنيا، ولكنكم ضيعتم ما يدعوكم إليه نبيكم وهو الدنيا والآخرة. ففي الآية تعريض بهؤلاء الذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، وفيها إشارة بقوله يُرِدْ إلى أن الإرادة الشخصية هي التي تحدد طبيعة العمل من خير أو شر، وهذا مطابق لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الشيخان عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . ثم قال الله تعالى مسليا المؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ... أي أن كثيرا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله، وقاتل معهم كثير من أصحابهم الذين آمنوا بهم لإعلاء كلمة الله، وكانوا هداة معلمين فما ضعفوا بعد ما قتلوا وقتل نبيهم، ولا وهنت عزائمهم عن الجهاد بعدئذ، ولا استسلموا للأعداء، ولا خضعوا للدنيا ومتاعها، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا وصبروا بعد قتل نبيهم، كما ثبتوا في حال الحياة، والله يحب الصابرين الذين صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله، فهو يديهم ويرشدهم ويثيبهم أجزل الثواب، وهذه نبذة من مفاخر أفعالهم، وتعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا الأمان من أبي سفيان. أما محاسن أقوالهم أي الربيين فهي أنهم قالوا عند نزول الكارثة: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا وتجاوزنا أمرك، وثبّت أقدامنا في مواطن الحرب ولقاء العدو، وانصرنا على القوم الكافرين. وطلبهم المغفرة من الذنوب وغيرها مع كونهم ربانيين إشعار لأنفسهم

بالتقصير، وكان دعاؤهم بالاستغفار مقدما على طلب تثبيت الأقدام في أثناء المعركة، بقصد جعل طلبهم إلى ربهم عن تزكية نفس وطهارة وخضوع أقرب إلى الاستجابة. فآتاهم الله ثواب الدنيا بالنصر والظفر على الأعداء والعزة وطيب السمعة، وحسن ثواب الآخرة بتحصيلهم رضوان الله ورحمته والقرب منه في دار الكرامة، ونحو ذلك مما أخبر به تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] وأخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . ثم وصفهم الله بأنهم محسنون أعمالهم على وفق ما يرضي الله، فهم الذين يقيمون سننه في أرضه، والله يثيبهم على حسن فعلهم. وإنما جمع لهم بين الثوابين لأنهم مؤمنون عملوا الصالحات وأرادوا تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة، كشأن المؤمن الصالح: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة 2/ 201] . وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عند الله تعالى. ورتبت أوصافهم بالتوفيق على الطاعة، ثم إثابتهم عليها، ثم تسميتهم محسنين لتوجيه العبد إلى أن ذلك كله بعناية الله وفضله، وتوفيقه وإحسانه. وفي هذه الآية تربية لأصحاب محمد ولفت نظر إلى أنهم أولى بهذا كله، وما عليهم إلا الاعتبار بأحوال أولئك الرّبيين، والصبر على الأعداء كما صبروا، والاقتداء بأعمالهم الصالحة والقول مثلهم، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أحكام كثيرة لصيقة بنفسية الإنسان وتطلعاته ومواقفه التي يمر بها في الحياة من خوف وضعف، وتردد وإدبار، وانهزام وسطحية في التفكير، بالرغم من وجود أصل الإيمان الذي ينبغي أن يكون مذكرا بالثبات والجرأة والشجاعة والحرص على انتزاع النصر، وقطع طريق العودة إلى سبيل الكفر والكافرين، وعدم التأثر بموت القائد أو النبي لأن الاستقامة أبدية دائمة ليست موقوتة بحياة النبي ولا من أجل شخصية النبي. 1- إن دخول الجنة مرهون بسلوك طريق المجاهدين المخلصين الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح، وضحوا بأنفسهم في سبيل الله. 2- إن الظفر بشرف الشهادة في سبيل الله لا يكون بالأماني والتمنيات، وإنما بالثبات والصبر على الجهاد. وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة بالوصف السابق، لا تمني قتل الكفار لهم، فذلك معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وهذا هو مراد المسلمين وسؤالهم من الله أن يرزقهم الشهادة، فهم يسألون الصبر على الجهاد، وإن أدى إلى القتل. 3- إن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وإنما يجب التمسك بما أتت به الرسل، وإن فقد الرسول بموت أو قتل، وأما من حاول الردة إلى الكفر بعد الإيمان، فلن يضر الله شيئا، بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لغناه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، وسيجزي الله الشاكرين الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا. وكل هذه الأحكام عتاب للمنهزمين يوم أحد، وهو درس لأمثالهم. وإن

موقف أبي بكر الصديق يوم وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أدل دليل على شجاعته وجرأته، فإن الشجاعة والجرأة: هما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي ثباته واستدلاله بالآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ تثبيت للمؤمنين، وقطع لدابر الفتنة، واستئصال لأوهام ومقالات الجاهلين. وأما تأخر الصحابة عن دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أن السنة تعجيل الدفن فلأمور ثلاثة: عدم اتفاقهم على موته، وعدم علمهم بمكان دفنه، حتى أخبرهم أبو بكر بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما دفن نبي إلا حيث يموت» «1» ، واشتغالهم بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، حتى انتهوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه في مبدأ الأمر، ثم بايعوه في الغد عن رضا واتفاق شامل. ثم نظروا في دفنه عليه الصلاة والسلام وغسّلوه وكفنوه، ثم صلوا عليه فرادى، أخرج ابن ماجه بإسناد حسن صحيح عن ابن عباس: «فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا «2» يصلّون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد. 4- إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهم قد ماتوا، وإن مهمة كل نبي وهي تبليغ الدين تنتهي بتحقيق الغرض المقصود، ولا يلزم من ارتحالهم نقض رسالتهم. وإن المصائب التي تنزل بالإنسان لا صلة لها بكونه على حق أو باطل، فقد يبتلى الطائع بأنواع المصائب، والعاصي بأصناف النعم. 5- الموت أمر حتمي مقضي به في أجل معين لا يتجاوزه ولا يتقدم عنه لحظة، وكل إنسان مقتول أو غير مقتول ميّت إذا بلغ أجله المكتوب له، وهذا

_ (1) أخرجه ابن ماجه والموطأ وغيرهما. (2) أرسالا: أفواجا وفرقا متقطعة، بعضهم يتلو بعضهم، واحدهم: رسل.

معنى قوله: كِتاباً مُؤَجَّلًا. وأما معنى قوله بِإِذْنِ اللَّهِ أي بقضاء الله وقدّره. وأجل الموت: هو الوقت الذي في معلومه سبحانه أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش، لقوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلًا إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس 10/ 49] فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت 29/ 5] لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] . ودلت الآية وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ.. على الحض على الجهاد، وعلى أن الموت لا بد منه، وأن كل إنسان يموت بأجله، والقتيل يموت بأجله. 6- من قصر رغبته وعمله على الدنيا دون الآخرة، آتاه الله منها ما قسم له، ومن جعل رغبته في الآخرة من تضعيف الحسنات لمن يشاء، آتاه الله الآخرة والدنيا معا. 7- دلت آية وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ.. على غاية التجرد والموضوعية والعدالة وإنصاف الحقائق، فليس العمل الصالح والجهاد في سبيل الله والثبات والصبر في الحرب مقصورا على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكثير من أتباع الأنبياء السابقين كانت لهم مواقف رائعة، وبطولات خارقة، فجاهدوا وقاتلوا، وصبروا وقتلوا، وما لانت لهم قناة، ولا خارت لهم عزيمة، ولا ذلوا ولا خضعوا لما أصابهم في الجهاد، وكان فعلهم هذا مقرونا بقولهم الدال على قوة إيمانهم، وطهارة نفوسهم، وإخلاصهم في طلب رضوان الله، فتضرعوا إلى ربهم وقت الشدة والمحنة وعند لقاء العدو، فاستحقوا إنعام الله عليهم في الدنيا بالنصر والظفر على عدوهم، وفي الآخرة بالجنة، ووصفوا بالإحسان، وأوتوا ثوابا عظيما دائما لا يحده حصر. وفي موقفهم المهيب بالابتهال والتضرع والدعاء والاستغفار دليل على أن إجابة الدعاء تتطلب الإخلاص وطهارة النفس وخشوعها لله، وأن الذنوب

التحذير من طاعة الكافرين [سورة آل عمران (3) الآيات 149 إلى 151] :

والمعاصي من عوامل الخذلان والهزيمة، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والغلبة. 8- والدعاء المفضل يكون بالمأثور لبلاغته وجمعه معاني كثيرة قد لا يدركها الإنسان، مثل المذكور في دعاء الرّبيين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني» . التحذير من طاعة الكافرين [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) الإعراب: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي ناصركم لا تحتاجون إلى نصرة أحد وولايته، مبتدأ وخبر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل محذوف هو: بل أطيعوا الله مولاكم. البلاغة: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم من الإيمان إلى الكفر، فيه استعارة الرجوع إلى الوراء إلى الرجوع إلى الكفر، بتشبيه الثاني بالأول. ويوجد طباق بين آمَنُوا وكَفَرُوا.

المفردات اللغوية:

وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ لم يقل: مثواهم، بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ والتهويل. والمخصوص بالذم محذوف: أي بئس النار. المفردات اللغوية: الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه، وقيل: اليهود والنصارى، وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة في أحد: ارجعوا إلى دين آبائكم يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان خاسِرِينَ الدنيا بانقيادكم للأعداء واستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام، والآخرة بحرمانكم من نعيم الله وثوابه ووقوعكم في العذاب. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم ومعينكم. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ أي فأطيعوه دونهم. الرُّعْبَ شدة الخوف التي تملأ القلب، وكان المشركون قد عزموا بعد ارتحالهم من أحد على العود واستئصال المسلمين، فرعبوا ولم يرجعوا بِما أَشْرَكُوا بسبب إشراكهم. سُلْطاناً حجة وبرهانا، والمقصود بما لم ينزل به سلطانا أي حجة على عبادته وهو الأصنام. مَثْوَى مأوى. الظَّالِمِينَ الكافرين. سبب النزول: نزول الآية (149) : قال علي رضي الله عنه: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم. وعن الحسن البصري رضي الله عنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى، وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونكم ويوقعون لكم الشبه في الدين، ويقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يوما له ويوما عليه. وعن السدي: إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينكم. نزول الآية (151) : قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة،

المناسبة:

انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما هموا به، وأنزل الله تعالى هذه الآية: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ. المناسبة: تستمر الآيات في تبيان عظات غزوة أحد والدروس المستفادة منها، فلما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء، حذّر من طاعة الكافرين وهم مشركو العرب واليهود والنصارى والمنافقون الذين تآمروا على الدعوة الإسلامية بتثبيط عزائم المؤمنين. التفسير والبيان: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، لذا قال: يا أيها المؤمنون إن تطيعوا الذين كفروا بدينكم وجحدوا نبوة نبيكم كأبي سفيان وأصحابه وعبد الله بن أبي زعيم المنافقين وأتباعه، ورؤوس اليهود والنصارى، يردوكم كافرين بعد الإيمان، فتصبحوا خاسرين في الدنيا بذل الكفر بعد عزة الإسلام، وتحكم العدو فيكم، وحرمانكم من متعة الملك والتمكين في الأرض، المذكورين في وعد الله المؤمنين الصادقين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور 24/ 55] وخاسرين في الآخرين أيضا بحرمانكم من نعيم الله وثوابه وتعرضكم لعذاب الله وعقابه في النار. فلا تأبهوا بمناصرة وعون الكفار وإغوائهم، فإن الله هو ناصركم ومعينكم، كما في آية أخرى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال 8/ 40]

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد كتب الله العزة لرسوله وللمؤمنين: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] وجرت سنته في تولي الصالحين وخذلان الكافرين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد 47/ 10- 11] . ومن مظاهر مناصرته وعونه تعالى للمؤمنين إلقاء الرعب في قلوب الكافرين بسبب إشراكهم بالله، واتخاذهم أصناما وحجارة ومعبودات تعبد من دون الله، لم يقم برهان ولا حجة من عقل أو حس على صحة استحقاقها للعبادة، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وحجتهم الوحيدة في عبادتها تقليدهم آباءهم الذين وجدوهم عابدين لها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف 43/ 23] وهم إنما يعتمدون في واقعهم على الأخيلة والأوهام، والوساوس والهواجس أنها ذات تأثير، مما يؤدي إلى اضطراب قلوبهم وعقولهم، وفساد أفكارهم، وضعف نفوسهم. ومسكنهم في النهاية والآخرة النار بسبب ظلمهم وكفرهم وعنادهم الحق وأهله، وبئس المثوى والمأوى مثواهم ومأواهم فإنهم ظالمون لأنفسهم، وللناس بسوء معاملتهم، وفقد مقومات الحضارة والمدنية عندهم. وهم إن رأوا المؤمنين متمسكين بدينهم، ازداد الشك في أنفسهم، واستمر الخوف والرعب والقلق في نفوسهم. فقه الحياة أو الأحكام: العبرة دائما بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآيات تحذير دائم للمؤمنين من طاعة الكافرين على مختلف أنواع كفرهم، لعداوتهم وحقدهم وغشهم وعدم الثقة بنصحهم وأمانتهم. والمؤمن بقوة إيمانه، وثقة لقائه ربه، واعتقاده بسلطان الله وتأييده

أسباب انهزام المسلمين في أحد وتفرقهم بعد وعدهم بالنصر [سورة آل عمران (3) الآيات 152 إلى 155] :

ونصره، يكون دائما قوي العزيمة، شديد الشكيمة، صلب الإرادة. فإن ظهرت فيه علائم الخوف من الكفرة كان مسلما بالوراثة والاسم الظاهر فقط، وليس مؤمنا حقا. والمشرك والكافر في قلق دائم، واضطراب مستمر، وخوف مستحكم في قلبه وفي أعماق نفسه، إذ إن الكفر لا يلقي في نفسه شيئا صحيحا ثابتا من الطمأنينة والثقة، وإنما هي موروثات وتقاليد يرددها، وعصبية عمياء حجبته عن رؤية الحقائق، وصدّته عن التفكير الصحيح بوحدانية الله وقدرته الشاملة وسلطانه القاهر في الدنيا والآخرة. وآية إلقاء الرعب في قلوب الكفر دليل على بطلان الشرك عقلا وحسا، وعلى سوء أثره في النفس، إذ لا يلقي في النفس الثقة والأمان والطمأنينة، وإنما على العكس يخلق الرعب، وينشر الهلع والخوف في كل وقت. وما أقوى وأشد تأثيرا من تهديدات القرآن وإنذاراته بالنار الحامية للكافرين، ولو غضوا الطرف عنها، فإنهم لا بد سامعون لها. ودل قوله: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المنبئ عن المكث الطويل على أنهم خالدون في النار، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يخرجون منها، ولو لراحة وقتية، أو تنفس واستنشاق هواء عليل فترة ما، يرد عليهم نسيم الحياة، وحلاوتها العذبة الرقراقة. أسباب انهزام المسلمين في أحد وتفرقهم بعد وعدهم بالنصر [سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

الإعراب:

الإعراب: أَمَنَةً نُعاساً في نصبهما وجهان: إما أن تكون أَمَنَةً منصوبا بأنزل، ونُعاساً بدلا منه، وإما أن تكون أَمَنَةً مفعولا لأجله، ونُعاساً منصوبا بأنزل. يَغْشى أي النعاس، ومن قرأ بالتاء ردّ إلى الأمنة. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ مبتدأ وخبر، والجملة منهما حال. والواو: إما واو الحال، أو واو الابتداء، أو بمعنى إذ.

البلاغة:

يَظُنُّونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير أَهَمَّتْهُمْ أو في موضع رفع صفة لطائفة. إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ كلّه بالنصب تأكيد للأمر، وبِاللَّهِ: خبر إِنَّ. ومن قرأ بالرفع: فهو مبتدأ، وبِاللَّهِ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ. وَلِيَبْتَلِيَ لام كي، متعلقة بفعل مقدر دل عليه الكلام وتقديره: وليبتلي ما في صدوركم أوجب عليكم القتال. وَلِيُمَحِّصَ: معطوف على لِيَبْتَلِيَ. البلاغة: يوجد طباق بين يُخْفُونَ ويُبْدُونَ وبين فاتَكُمْ وأَصابَكُمْ. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تنكير: فضل للتفخيم، وإظهار الْمُؤْمِنِينَ في موضع الإضمار للتشريف. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنَّ وفَتَوَكَّلْ والْمُتَوَكِّلِينَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إياكم بالنصر. تَحُسُّونَهُمْ تقتلونهم وتستأصلونهم، مأخوذ من حسّه: أذهب القاتل حسّه بالقتل، كما يقال: بطنه: أصاب بطنه. بِإِذْنِهِ بإرادته وأمره وتأييده وعونه. فَشِلْتُمْ جبنتم وضعفتم عن القتال. وَتَنازَعْتُمْ اختلفتم. فِي الْأَمْرِ أي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمقام في سفح الجبل للرمي، فقال بعضكم: نذهب فقد نصر أصحابنا، وبعضكم قال: لا نخالف أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَعَصَيْتُمْ أمره، فتركتم المركز لطلب الغنيمة. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ الله. ما تُحِبُّونَ من النصر. وجواب إِذا: دل عليه ما قبل أي منعكم نصره. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي الغنيمة. وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه. ثُمَّ صَرَفَكُمْ ردّكم للهزيمة، وهو عطف على جواب إِذا المقدر. عَنْهُمْ أي الكفار. لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحنكم ويختبركم، فيظهر المخلص من غيره، والمراد ليعاملكم معاملة من يختبر ويمتحن، وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. عَفا عَنْكُمْ تاب عليكم لما ارتكبتموه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بالعفو. إِذْ تُصْعِدُونَ اذكروا إذ تذهبون في الأرض أو الوادي وتبعدون هاربين. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تلتفتون لأحد. أُخْراكُمْ آخركم أو من ورائكم يقول: إليّ عباد الله، إلي عباد الله. فَأَثابَكُمْ فجازاكم. غَمًّا بالهزيمة. بِغَمٍّ بسبب غمكم ومضايقتكم للرسول بالمخالفة. والغم: ألم وضيق في الصدر من أمر محرج.

سبب النزول:

أَمَنَةً أي أمنا وهو ضد الخوف. يَغْشى يغطي ويستر. يُبْدُونَ يظهرون. لَبَرَزَ لخرج. مَضاجِعِهِمْ مصارعهم التي قدر قتلهم فيها. لِيَبْتَلِيَ يختبر. ما فِي صُدُورِكُمْ قلوبكم من الإخلاص والنفاق. وَلِيُمَحِّصَ يميز. بِذاتِ الصُّدُورِ عليم بما في القلوب لا يخفى عليه شيء، وإنما يبتلي ليظهر للناس. الْجَمْعانِ جمع المؤمنين وجمع المشركين بأحد، والذين تولوا: هم المسلمون إلا اثني عشر رجلا. اسْتَزَلَّهُمُ أزلهم الشيطان بوسوسته، أي أوقعهم في الزلل والخطأ. بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من الذنوب، وهو مخالفة أمر النبي، فمنعوا التأييد والنصر الإلهي الذي كان وعدهم به ربهم. سبب النزول: نزول الآية (152) : وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ... : قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الآية- إلى قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد «1» . نزول الآية (154) : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ: أخرج ابن راهويه عن الزبير قال: لقد رأيتني يوم أحد، حتى اشتد علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا ذقنه في صدره، فو الله، إني لأسمع كالحلم قول معتّب بن قشير: لو كان لنا من الأمر شيء، ما قتلنا هاهنا، فحفظتها فأنزل الله في ذلك: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً- إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. ومعنى قوله: ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان الاختيار إلينا لم نخرج، فلم

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 72

التفسير والبيان:

نقتل، لكنّا أخرجنا كرها. فرد الله عليهم: قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ.. الآية، أي أن من قدّر عليه القتل قاده أجله إلى الخروج في مكان فقتل فيه، ولم ينجه قعوده في منزله لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة. التفسير والبيان: والله لقد وفي لكم ربكم وعده النصر على العدو حين أخذتم تقتلونهم قتلا ذريعا وتفتكون بهم فتكا بتأييد الله ومعونته ومشيئته وإرادته. صدقكم الله وعده، حتى إذا جبنتم وضعفتم عن القتال واختلفتم في الرأي والعمل في تنفيذ أمر نبيكم بالثبات على جبل الرماة، فقال بعضكم: فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبدا، ولم يثبت إلا عبد الله بن جبير مع نفر من أصحابه، لما حدث ذلك تأخر النصر وأحدقت الهزيمة بكم. وبعبارة أخرى: فلما واجهتموهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام، ولما اختلفتم وحصل ما حصل من عصيان الرماة، وفشل بعض المقاتلة، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة «1» . عن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول، وتركوا مصافّهم. وترك الرّماة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فصدق الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء «2» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 411- 412 (2) تفسير القرطبي: 4/ 235 [.....]

فألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم: أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات، لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الغنيمة، قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يوم أحد. وهؤلاء هم الذين تركوا أماكنهم على الجبل طلبا للغنيمة. وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين، فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم، لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب. ثم بعد أن استوليتم عليهم، ردكم عنهم بالانهزام، فعل هذا ليمتحن إيمانكم، ولقد عفا الله عنكم وغفر لكم ذلك الصنيع، بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرطتم به، والله ذو فضل على المؤمنين أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، وربما كان سبب العفو والفضل والرحمة كثيرة عدد العدو وعددهم، وقلة عدد المسلمين وعددهم. ثم ذكّر هم الله تعالى، فقال: اذكروا وقت أن صرفكم عنهم حين أصعدتم في الجبل أي ذهبتم منهزمين، وأنتم لا تلتفتون لأحد من الدهش والخوف والرعب، والحال أن الرسول قد خلفتموه وراء ظهوركم، يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، قائلا: «إلي عباد الله، إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة» وقال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي عباد الله ارجعوا» فالرسول يدعوكم في آخركم، جاء في البخاري: أخراكم: تأنيث آخركم. قال البراء بن عازب: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرّجّالة يوم أحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا.

وكان جزاؤكم غمّا بغمّ، والغم الأول: إلحاق الهزيمة وحرمان الغنيمة والقتل بالصحابة، والغم الثاني الذي سبّب الغم الأول: هو ما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم من ألم وضيق بسبب عصيانكم أمره، ومخالفتكم رأيه. وهذا أرجح الأقوال كما قال ابن جرير الطبري. وقد فعل بكم ذلك كله لتتمرنوا على الشدائد، وتتعودوا احتمال المكاره، فإنها تصقل الأمم والأفراد، ولئلا تحزنوا على ما فاتكم من المنافع والمغانم، ولا على ما أصابكم من المضارّ من عدوكم، كالجراح والقتل، والله خبير بأعمالكم، فمجازيكم عليها، إذ العمل سبب النجاح والظفر، وتكميل الإيمان والتحلي بالفضائل. وفي هذا ترغيب بالطاعة وزجر عن المعصية. ثم ذكر الله تعالى ما امتنّ به على عباده من بعد الغم الذي اعتراهم، وهو إنزال السكينة والأمن «1» وهو النعاس الذي غشيهم وغلبهم، وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، ليستردوا ما فقدوه من القوة، وما عرض لهم من الضعف، كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال 8/ 11] . قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه «2» . وروى البخاري أيضا في التفسير عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس، ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه «3» . وكان النعاس يغشى طائفة من الناس- والطائفة: تطلق على الواحد

_ (1) الأمن والأمنة سواء. (2) هكذا رواه البخاري في المغازي معلقا. (3) ورواه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم بلفظ مقارب.

والجماعة-، وهم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة في إيمانهم، كما قال ابن عباس، أو هم أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل على الله، وهم الجازمون بأنّ الله سينصر رسوله، وينجز مأموله. وطائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم أي حملتهم على الهم، وملأ الخوف قلوبهم، لعدم ثقتهم بنصر الله، ولعدم إيمانهم بالرسول، وهم جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي ومعتّب بن قشير وأتباعهم، لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف، ولا يهتمون بأمر الرسول والدين، وهم كما أخبر الله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه إذ قالوا: لو كان محمد نبيا حقا ما تسلط عليه الكفار، وهو قول أهل الشرك بالله. وهذه الطائفة الثانية يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لنا من الأمر والنصر والفتح نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء لأنهم يعتقدون أن هذا ليس بحق. وهذا سبب خطئهم الفاحش، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا، والمهم تمام الأمر والعاقبة. فرد الله تعالى عليهم: بأن كل أمر يجري فهو بحسب سنته تعالى في الخليقة، تلك السنة القائمة على ربط الأسباب بالمسببات، وأن الأمر والنصر كله لله، لا لغيره، وهو ناصر عباده المؤمنين كما وعدهم بقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] وقوله: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 173] . وهؤلاء المنافقون يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد، ويتساءلون في الظاهر سؤال المؤمنين المسترشدين: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ لكنهم يبطنون الإنكار والتكذيب والنفاق. ويقولون في أنفسهم أو لبعضهم بعضا منكرين لقولك لهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ

لِلَّهِ : لو كان الأمر كما قال محمد: إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، فهم يربطون بين النبوة والنصر، وأنه لو كان محمد نبيا ما هزم، وفاتهم أن النصر من عند الله وتوفيقه، وأن الهزيمة بسبب مخالفات المسلمين. فرد الله عليهم بأن الآجال والأعمار بيد الله، وأن النصر من عند الله، وأن من كتب عليه القتل فلا بد أنه مقتول، فلو كان في بيته وانتهى أجله، لخرج إلى مكان مصرعه، والحذر لا يمنع القدر، والأمر كله بيد الله. وقد فعل الله ما فعل من إلحاق الهزيمة بالمسلمين في نهاية غزوة أحد، ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص والثبات، وليميز ما في القلوب من أمراض ووساوس الشيطان، والله عليم بذات الصدور أي بالأسرار والخفيات، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وإنما فعل هذا لينكشف حال الناس، وتظهر الحقائق، وتنجلي مواقف المؤمنين الصابرين والمنافقين المخادعين. وإن المؤمنين الذين انهزموا أو تركوا أماكنهم يوم التقاء الجمعين من المسلمين والمشركين في أحد، إنما أوقعهم الشيطان فريسة له في الزلل والخطأ، بسبب بعض ما كسبوا من ذنوبهم، ومعناه أن الذين انهزموا يرم أحد، كان السبب في توليهم الأدبار: أنهم كانوا أطاعوا الشيطان، فاقترفوا ذنوبا أدت بهم إلى منع التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وهذا يدل على أن الذنب يجز إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وتكون لطفا فيها، كما قال الزمخشري «1» . وتكون المصائب والعقوبات ومنها الهزائم آثارا للأعمال السيئة، فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

_ (1) الكشاف: 1/ 356

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي عما كان من الفرار، ولم يؤاخذهم في الآخرة، وجعل عقوبتهم في الدنيا درسا وتربية وتمحيصا، وهذا يفتح أمامهم باب الأمل، ويدفع استيلاء اليأس على نفوسهم. إن الله غفور يغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتراف بالتقصير، حليم لا يعجل بالعقوبة على الذنب، وإنما يترك فرصة للعبد لتصحيح أخطائه، ومعالجة تقصيره. فقه الحياة أو الأحكام: الناس في الماضي كالناس في الحاضر يعيشون في الأحلام والخيالات، فهم ينتظرون النصر منحة إلهية خالصة للمؤمنين، دون أن يقوموا بواجباتهم ويعملوا بما تقتضيه متطلبات الحروب مع العدو، فهم المكلفون من الخلق بالجهاد وحمل الأمانة، وإذا جاهدوا وصبروا وثبتوا، أيدتهم العناية الإلهية، وتحقق لهم النصر والفوز. والله صادق الوعد بنصر المؤمنين ما داموا على الحق ثابتين، وفي ميدان المعارك مجاهدين صابرين مطيعين متوحدين غير متفرقين، وأما الجبن والضعف والتفرق والنزاع والأطماع الدنيوية فهي سبب الخذلان والهزيمة المنكرة، وقد صدق الله وعده للمؤمنين في أحد، وأراهم الفتح في بداية المعركة حين صرع صاحب لواء المشركين وقتل معه سبعة نفر، فلما عصوا وخالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالثبات على جبل الرماة، واشتغلوا بالغنيمة أعقبهم البلاء، وأدى بهم إلى الجراح والقتل، والهزيمة وفرار الناس من حول قائدهم النبي. وتغير وجه المعركة من نصر إليه هزيمة، فبعد أن استولى المسلمون على المشركين ردهم عنهم بالانهزام، لقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وهذا دليل على أن المعصية مخلوقة لله تعالى.

ولكن من لطف الله بعباده الذين أخطئوا هذه المرة أن عفا عنهم، ولم يستأصلهم بالمعصية والمخالفة، والله ذو فضل دائم على المؤمنين بالعفو والمغفرة، قال ابن عباس: ما نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم كما نصر يوم أحد، فأنكر الصحابة ذلك، فقال لهم: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحسّ: القتل. ولم يكن فرار المسلمين في أحد مقبولا لأن القائد وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يزال صامدا يقاتل في قلب المعركة، ويدعو الفارّين إلى العودة والكرّ، فلما لم يرجعوا جازاهم الله بالغم والحزن وهو القتل والجراح وعدم الظفر بالغنيمة، بسبب الغم والضيق الذي ملأ قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم لمخالفتهم إياه. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا. ولكن فضل الله ورحمته بالمؤمنين بعد هذا الغم ألقى عليهم النعاس أو النوم ليشعرهم بالأمن وليجددوا عزائمهم وترتاح نفوسهم من بعد هذه الهزيمة. أما المنافقون فظلوا في قلقهم واضطرابهم لا ينامون ولا يشعرون بالطمأنينة والأمن، ويقولون: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ استفهام معناه الجحد والإنكار، أي ما لنا شيء من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، بدليل قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتّب بن قشير، والنعاس يغشاني يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. وقيل: المعنى: يقول ليس لنا من الظّفر الذي وعدنا به محمد شيء. فرد الله تعالى عليهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي النصر بيد الله، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء. والأجل والعمر بيد الله، وما من ميت إلا ويموت بأجله، سواء في الحرب وساحاتها، أم في المنازل والمضاجع وغرفها وحدائقها. وهكذا كان أهل غزوة أحد بعد انتهائها فريقين:

تحذير المؤمنين من أقوال المنافقين وترغيبهم في الجهاد وبيان فضله [سورة آل عمران (3) الآيات 156 إلى 158] :

1- فريق ذكروا ما أصابهم، فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم، فاستغفروا لذنوبهم وآمنهم ربهم. 2- وفريق أذهلهم الخوف، حتى شغلوا عن كل ما سواه، إذ لم يثقوا بوعد الله ولم يؤمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما سبب انهزام المؤمنين يوم أحد فكان بتأثير الشيطان وإغوائه ووسوسته، وبما اقترفوا من ذنوب سابقة، فإنه ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، ولكن الله بفضله ورحمته عفا عنهم ولم يعاجلهم بالعقوبة. قال القرطبي: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام، وقوله عليه الصلاة والسلام: «فحجّ آدم موسى» أي غلبه بالحجة وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذرّيته من الجنة، بسبب أكله من الشجرة فقال له آدم: «أفتلومني على أمر قدّره الله تعالى عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، تاب عليّ منه، ومن تاب عليه، فلا ذنب له، ومن لا ذنب له، لا يتوجّه عليه لوم» . وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم، إذ لا علم لهم بذلك «1» . تحذير المؤمنين من أقوال المنافقين وترغيبهم في الجهاد وبيان فضله [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 245

الإعراب:

الإعراب: إِذا ضَرَبُوا أتى بالفعل الماضي بعد إذا التي هي للاستقبال لأن إذا بمنزلة إن، و (إن) تنقل الفعل الماضي إلى معنى المستقبل. لِيَجْعَلَ لام العاقبة، ومعناه: لتصير عاقبتهم إلى أن يجعل الله جهاد المؤمنين وإصابة الغنيمة أو الفوز بالشهادة حسرة في قلوبهم، مثل آية: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] . وَلَئِنْ مُتُّمْ يقرأ ميم مُتُّمْ بالضم والكسر، وهما لغتان. واللام في لَئِنْ: عوض عن القسم. وإنما لم تدخل نون التوكيد مع اللام على فعل تُحْشَرُونَ الذي هو جواب القسم مثل: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ [الإسراء 17/ 86] لأنه فصل بين اللام والفعل بالجار والمجرور. لَمَغْفِرَةٌ مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. البلاغة: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ استعارة، شبّه المسافر برا بالضارب السابح في البحر. المفردات اللغوية: كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون بزعامة عبد الله بن أبي وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي في شأنهم، والأخوة تشمل أخوة النسب والدين والمودة إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ سافروا في الأرض للتجارة والكسب.

المناسبة:

أَوْ كانُوا غُزًّى أي مقاتلين في الحرب، واحدهم غاز لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ القول في عاقبة أمرهم حَسْرَةً ندامة في قلوبهم. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فلا يمنع الموت قعود. المناسبة: حذر الله تعالى في الآية السابقة من وسوسة الشياطين التي أدت إلى الهزيمة يوم أحد، وحذر هنا من وسواس المنافقين أعوان الشياطين. التفسير والبيان: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين ويحذرهم من مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الذي وضح بقولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم. يا أيها المؤمنون لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في البلاد للتجارة فماتوا، أو كانوا غزاة محاربين فقتلوا: لو كانوا باقين عندنا ما ماتوا وما قتلوا. لأن هذا جهل في الدين وضلال في الإيمان لأن الحياة والموت بيد الله، كما قال: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران 3/ 145] . والقضاء والقدر لا يجعلان الإنسان مجبورا على أفعاله لأن القضاء: معناه تعلق العلم الإلهي بالشيء، والعلم انكشاف وإحاطة بالشيء لا يقتضي الإلزام والقدر: وقوع الشيء بحسب العلم، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، وإلا كان جهلا. والإنسان مختار في أعماله، لكنه ناقص القدرة والإرادة والعلم، وله حدود لا يتعداها، فقد يعزم على شيء أو يختار عملا، ولكنه لا يحيط علما بأسباب الموت. ومتى وقع الشيء علم أن وقوعه لا بد منه، وإذا كان الإنسان مؤمنا بمعونة الله وتأييده وأنه يوفقه إلى ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل وأبعد عن العثرات والفشل.

لا تكونوا كالذين كفروا الذين قالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول حسرة في قلوبهم على من فقدوا، تزيدهم ضعفا، وتورثهم ندما، فإذا كنتم مثلهم أصابكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كضعفهم. فالله خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم. ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي بيده الخلق والإيجاد، وإليه يرجع الأمر والإعدام، ولا يحيى أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره، ولا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره. والله بما تعلمون بصير، أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ظاهرها وباطنها، يعلم بما تكنّه النفوس وما تعتقده، وإن لم تعبر عنه. وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين. والقتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجميع حطامها الفاني الذي يجمعونه. فما أجدر المؤمن أن يؤثر مغفرة الله التي تمحو الذنوب، ورحمته التي ترفع الدرجات على حظوظ الدنيا الفانية، فما هو خالد باق خير مما هو مؤقت فان. ثم حث سبحانه وتعالى على العمل في سبيل الله لأن المال إليه، فأخبر بأن كل من مات أو قتل، فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فبأي سبب كان هلاككم فإلى الله مرجعكم، وتحشرون، أي تجمعون إليه لا إلى غيره. وهذا حث على العمل وبث لروح التضحية والجهاد من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام والدفاع عن الأوطان، ووعد قاطع بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه، وله عند الناس أطيب الذكر والثناء الجميل.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يحرص القرآن الكريم على بروز الشخصية الذاتية للمسلمين، وعلى تعهدهم بالرعاية والعناية، وإيجاد الموقف المتميز لهم أمام خصوم الدعوة الإسلامية، لذا حذرهم ونهاهم من أن يقولوا مثل قول المنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة. فالحياة والموت بيد الله، والله واسع العلم نافذ البصر بأعمال الناس وخفاياهم، فمن الخطأ القول بأن الشخص لو كان في منزله أو بلده ما مات ولا قتل لأن القعود عن الجهاد لا يحفظ الحياة، وكذا التعرض لقتال الأعداء لا يسلب الحياة ولا يعجل بالموت. لا تكونوا مثلهم، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم. والله يقدر أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله، فذلك تهديد للمؤمنين حتى لا يتشبهوا بالكفار في أقوالهم وأفعالهم. ثم أخبر الله تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا، ثم وعظ المؤمنين بقوله: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي لا تفرّوا من القتال ومما أمركم به، بل فرّوا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردّكم إليه، لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره. والخلاصة: إن الآيات تضمنت تحذيرا أو تهديدا للمؤمنين، ووعدا، وحثا على العمل والجهاد. أما التحذير فهو من مشابهة الكافرين بأقوالهم وأفعالهم، وأما الوعد فهو أن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من مغفرة الذنوب ورحمة الله التي ترفع الدرجة خير له من الدنيا وما فيها من لذات وشهوات. وأما الحث على العمل في سبيل الله وبث روح التضحية والجهاد فهو مفهوم

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالرفق والعفو والمشاورة والوعد بالنصر [سورة آل عمران (3) الآيات 159 إلى 160] :

من المصير المنتظر لجميع الخلائق، وهو حشرهم إلى الله لا إلى غيره، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى نفع من غيره، ولا يدفع ضرر أو عقاب من سواه. معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه بالرفق والعفو والمشاورة والوعد بالنصر [سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 160] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) الإعراب: فَبِما رَحْمَةٍ..: ما زائدة مؤكدة، والتقدير: فبرحمة من الله، وهي في موضع نصب لأن التقدير: لنت لهم برحمة من الله. يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ الهاء في: بعده إما عائدة على الله تعالى، أو عائدة على الخذلان، لدلالة قوله تعالى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كقولهم: من كذب كان شرّا له، أي كان الكذب شرا له. البلاغة: توجد مقابلة بين إِنْ يَنْصُرْكُمُ.. وإِنْ يَخْذُلْكُمْ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ.. قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر.

لمفردات اللغوية:

لمفردات اللغوية: لِنْتَ لَهُمْ اللين: الرفق والتساهل في المعاملة، أي سهلت أخلاقك إذ خالفوك. فَظًّا سيء الخلق، شرس الطباع غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيا جافيا لا يتأثر قلبه بشيء لَانْفَضُّوا تفرقوا من حولك فَاعْفُ تجاوز عما أتوه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ذنبهم لأغفر لهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ تعرّف على آرائهم في سياسة الأمة في الحرب والسلم وشؤون الحياة الدنيوية تطييبا لقلوبهم، وليستن بك، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثير المشاورة لهم فَإِذا عَزَمْتَ على إمضاء ما تريد بعد المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به بعد المشاورة، والتوكل: الاعتماد على الله في كل أمر. المناسبة: المناسبة واضحة، فالآيات ما تزال تتحدث عن غزوة أحد وآثارها، فبعد أن عفا الله عما بدر من المسلمين في أحد، وحذرهم من التأثر بأقوال المنافقين، أعقبه بعفو القائد المصطفى الذي ساءه هذا الموقف وما أدى إليه من الجراح والآلام، فقد عاملهم بالرفق واللين والحلم، وخاطبهم باللطف وحسن المعاشرة، بل استشارهم في مستقبل الأحداث ومصالح الدنيا لما عرف عنه من سمو الأخلاق وحكمة القيادة، فهو رحمة للعالمين، ووصفه القرآن بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم 68/ 4] . التفسير والبيان: خاطب الله نبيه بعد خطاب المؤمنين، ممتنا عليه وعليهم فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره. فبرحمته تعالى وتوفيقه لك ولهم جعلك الله ليّن المعاملة، رفيق المعاشرة، لطيف اللفظ والكلام، في إرشادهم وقبول عذرهم فيما فرط منهم في غزوة أحد. وهذا إظهار لسمو القيادة، وحكمة الرئاسة، وأخلاق النبوة، وهي مثل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم 68/ 4] وقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ

رَحِيمٌ [التوبة 9/ 128] . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا حلم أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه» . ولو كنت غليظ الكلام خشنا قاسي القلب جافّ الطبع في معاملتهم، لتفرقوا من حولك، وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم، تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: «إني أرى صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» وروى محمد بن إسماعيل الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض» «1» . وإذا كنت يا محمد بهذه الأخلاق فاعف عنهم، وتجاوز عما صدر منهم، واطلب لهم المغفرة من الله حتى يغفر لهم، وشاورهم في أمور السياسة العامة ومصالح الأمة في الحرب والسلم، وكل شؤون المصالح الدنيوية. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعلا يشاور أصحابه في الأمور كلها، تطييبا لقلوبهم، وليستن الناس بفعله، قال الحسن رضي الله عنه: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعدهم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ذكره الماوردي: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» وقال أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه الترمذي: «لم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . - شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا

_ (1) حديث غريب.

هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون. - وشاورهم أيضا أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم. - وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم. - وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك. - وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصدّيق: إنا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال. - وقال صلّى الله عليه وسلّم في قصة الإفك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي «1» ورموهم، وايم الله، ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه إلا خيرا» . - واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها «2» . وللشورى فوائد كثيرة أهمها تقدير المستشارين، وإنضاج بحث الرأي المقترح بعد تقليب وجهات النظر، واتحاد الناس على مسعى واحد، واختيار الرأي الأصوب. جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستشار مؤتمن» .

_ (1) أبن فلان يؤبن بكذا: يذكر بقبيح. (2) تفسير ابن كثير: 1/ 420

فإذا عزمت فتوكل على الله، أي إذا شاورتهم في الأمر، وعزمت عليه، فتوكل على الله فيه، إن الله يحب المتوكلين عليه الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه الخير لهم. وليس معنى التوكل هو التواكل وإهمال الأسباب، وإنما هو حسن الاعتماد على الله والثقة به وتفويض النتائج إليه، بعد اتخاذ الأسباب. قال الرازي: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال، وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل عليه أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحكمة. ففي الكسب والمعاش لا بد من السعي في الأرض، كما قال تعالى: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك 67/ 15] . وفي السياسة والحرب يجب الانتباه والحذر والإعداد المكافئ لقوى العدو: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء 4/ 71] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال 8/ 60] . ومن أجل الدنيا والآخرة لا بد من الصلاح والاستقامة والتزود بالتقوى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة 2/ 197] . وفي كل شيء يكون التوكل مقرونا بالسعي، روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» وأخرج ابن حبان في صحيحة: «حديث الرجل الذي جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأراد أن يترك ناقته، وقال: أأعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اعقلها وتوكل» . ثم أعلن الله تعالى عن مصدر النصر في الحقيقة فأخبر أنه إن أراد الله أن ينصركم في أحد، كما نصركم في بدر، حين التزمتم الطاعة، وثبتم، واتكلتم على

فقه الحياة أو الأحكام:

توفيق الله ومعونته، فلا غالب لكم من الناس. وإن يرد خذلانكم وهزيمتكم ويمنعكم تأييده بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به، كما جرى يوم أحد، فلا يملك لكم أحد تحقيق النصر. وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وليثقوا به بعد اتخاذ الأسباب لأنه لا ناصر لهم سواه. وفي هذا ترغيب في التوكل على الله بعد المشاورة والاستعداد وعقد العزيمة الصادقة على فعل شيء مرغوب به شرعا. فقه الحياة أو الأحكام: إيراد هذه الأخلاق للنبي صلّى الله عليه وسلّم يقصد به الاقتداء به فيها لأنه الأسوة الحسنة للمؤمنين، وهو قائدهم وهاديهم بالقول والفعل والصفات. ودلت آية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق، وكان يجمع بين دواعي السمو كشرف النسب والحسب، وطهر النفس، والسخاء، وفصاحة البيان، وخاتم النبيين، وبين التواضع التام، فكان يرقع ثوبه ويخصف نعله ويجامل أهله والمستضعفين. قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب. هذا مالا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 38] . ودل قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون، مع إمكان الوحي فإن الله أذن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك. وهل الشورى ملزمة وواجبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ اختلف الفقهاء على قولين، والظاهر القول الأول لما روي الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العزم، فقال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم» .

عدالة النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم ومهامه في إصلاح أمته [سورة آل عمران (3) الآيات 161 إلى 164] :

وصفة المستشار- كما قال العلماء: إن كان في الأحكام أن يكون عالما ديّنا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. وصفة المستشار في أمور الدنيا: أن يكون عاقلا مجرّبا وادا في المستشير، روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه النسائي الحديث المتقدم عن أبي هريرة: «المستشار مؤتمن» . والعزم في الآية- كما بينا- هو إمضاء الأمر وتنفيذه بعد المشاورة. ولا بد فيه من التوكل على الله، والتوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز. وقال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والنصر مرهون بتنفيذ الأوامر وإطاعة الله والقائد، والخذلان وهو ترك العون الإلهي منتظر عند العصيان والمخالفة، والمخذول: المتروك لا يعبأ به. فعليه توكلوا فإنه سبحانه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا، وإن يخذلكم ويترككم من معونته لا ينصركم أحد من بعد خذلانه إياكم. والتوكل على الله محقق لأمرين: أحدهما- محبة الله للعبد: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. الثاني- كفاية الرحمن للإنسان: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. عدالة النبي صلّى الله عليه وسلّم في قسمة الغنائم ومهامه في إصلاح أمته [سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 164] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

الإعراب:

الإعراب: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ: أَنْ يَغُلَّ: اسم كان، ولِنَبِيٍّ خبر كان، والمعنى: ما كان لنبي أن يخون. هُمْ دَرَجاتٌ أي هم ذوو درجات عند الله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. البلاغة: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي ما شأنه، ونفي الشأن أبلغ من نفي الفعل. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ استعارة، جعل ما شرعه الله كدليل الهداية إلى رضوانه، وجعل العاصي كمن أمر أن يتبع شيئا فامتنع. بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ التنكير للتهويل أي بسخط لا يوصف. هُمْ دَرَجاتٌ على حذف مضاف أي ذوو درجات متفاوتة. المفردات اللغوية: أَنْ يَغُلَّ يخون في الغنيمة، فلا تظنوا به ذلك. أي ما كان من شأن أي نبي أن يغل: يأخذ شيئا من الغنيمة خفية لأن الله عصم أنبياءه من سفساف الأمور، فلا يقع منهم ما لا يليق يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ حاملا له على عنقه اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي أطاع ولم يغل كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي بغضب عظيم، لمعصيته وغلوله. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي

سبب النزول:

هُمْ دَرَجاتٌ أصحاب درجات عِنْدَ اللَّهِ أي مختلفو المنازل، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العقاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ أي يشاهد ويرى كل شيء. لَقَدْ مَنَّ أنعم وتفضل مِنْ أَنْفُسِهِمْ عربيا من جنسهم، ليفقهوا كلامه ويشرفوا به. وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الذنوب وأدران الوثنية والعقيدة الفاسدة الْكِتابَ القرآن وَالْحِكْمَةَ السنة النبوية مِنْ قَبْلُ أي قبل بعثته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ضلال بيّن واضح لا ريب فيه. سبب النزول: أخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء، افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها، فأنزل الله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ. وقال الكلبي ومقاتل: إن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم، كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أنّا نغل ولا نقسم» «1» . التفسير والبيان: تتابع الآيات في بيان صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومهامه في إصلاح أمته، فما كان من شأنه أن يخون، بل وما كان لنبي أن يخون لأن الله عصم أنبياءهم عما لا يليق بمقامهم لأن النبوة منزلة عالية تربأ بصاحبها عن فعل ما فيه دناءة وخسة، مما يدل على هول الاتهام والخطأ الصادر من المنافقين بنسبة الخيانة والغلول من المغنم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو منه براء.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 72- 73

وكل من يخون فيأخذ شيئا من الغنائم خفية، يأتي به يوم القيامة حاملا إياه على عنقه، أي متحملا مسئولية فعله ووزر ما ارتكبه. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أيدته السنة النبوية، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال: ألا لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة «1» فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق «2» ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت «3» ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» وهذا كله من قبيل تمثيل الذنب وثقله وفضيحة صاحبه، وأنه يتحمل وزره يوم القيامة، كما جاء في آية أخرى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [الأنعام 6/ 31] . فأخذ أي شيء بغير حق يستوجب العقاب، كما قال تعالى حكاية عن لقمان:

_ (1) حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل. والثغاء: صياح الغنم. (2) الرقاع: هي التي يكتب عليها، وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة، وخفوقها: حركتها. (3) الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] . ثم توفى كل نفس في الآخرة ما كسبت من خير أو شر، فينال الغالّ وغيره جزاء فعله دون ظلم، لا ينقص منه شيء، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] . ثم بين سبحانه نفي المساواة بين المحسن والمسيء، فأخبر أن من اتقى الله وعمل صالحا لا يستوي مع من عصى الله وعمل سوءا، أي فلا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه، فاستحقّ به رضوان وجزيل ثوابه وأمن العذاب، ومن استحق غضب الله وألزم به، فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير. وهذا مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة 32/ 18] وقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] . وإن لكل من أهل الخير وأهل الشر درجات ومنازل، يتفاوتون فيها، فللمتقين الطائعين درجات في الجنة، وللعصاة دركات في النار، فهم يتفاوتون في الجزاء بسبب تفاوت أعمالهم في الدنيا. فأعلى الدرجات درجة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأسفل الدركات درك المنافقين: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145] والله تعالى بصير بأعمال العباد، فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم بدءا من تزكية نفوسهم إلى أرفع الدرجات، ومن إهمال التزكية إلى أسفل الدركات، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] . وسيوفيهم جزاء

أعمالهم، لا يظلمهم خيرا، ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كل عامل بعمله. ثم بيّن تعالى ما امتن وتفضل به على الناس، فأرسل نبيه محمدا متصفا بأوصاف ومكلفا بمهام هي: - إنه عربي من ولد إسماعيل من جنس قومه، مما يدعوهم إلى الاهتداء به والثقة برسالته، فضلا عن أنهم شرفوا به، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] وتخصيصهم بالذكر يقتضيهم مزيد الانتفاع به، وإن كان هو للناس كافة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] . - إنه يتلو عليهم آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال أوصافه، كما أشار تعالى في آية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران 3/ 190] . - إنه يزكيهم ويطهرهم من زيف الوثنية وفساد العقيدة الجاهلية، كاعتقادهم بتأثير الأصنام والأحجار، وبدلالة الطير، وغير ذلك من الأوهام والخرافات، وينقلهم إلى معطيات العقل الصحيح والفكر الناضج، والمدنية والحضارة، وإقامة الدولة والإدارة والسياسة التي تفاخر العالم وتنافس المجتمع الدولي القائم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم. - إنه يعلمهم القرآن والسنة، فيصبح منهم العلماء والكتاب والحكماء والقادة وأساتذة العلوم والمعارف والثقافات المتنوعة، وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غي وجهل ظاهر، إذ كانوا أمة أمية، فأصبحوا بنور الإسلام، وعلم القرآن، ومعرفة الحياة أمة متمدنة متحضرة نافست الأمم الأخرى وسبقتهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا يومئ إلى أن معرفة القرآن والسنة كانت للعرب مفتاح النور والعلم وتعلم أصول الحياة الراقية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن الأنبياء على درجة عالية من السمو والأخلاق، فما كان من شأن نبي أن يخون، أو يجور في القسمة، أو يأخذ شيئا من الغنائم بغير حق واضح، فما كان من حقكم أن تتهموا نبيكم بتهمة باطلة. روى الطبراني عن عمرو بن عوف حديثا: «لا إغلال ولا إسلال» أي لا خيانة ولا سرقة. ومن خان وبّخه الله سلفا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، ويعاقب على ذنبه، وجعل الله تعالى هذه العقوبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه. والغلول كبيرة من الكبائر بدليل هذه الآية وحديث أبي هريرة المتقدم: أنه يحمله على عنقه. وإذا غلّ الرجل في المغنم ووجد لديه، أخذ منه، وأدّب وعوقب بالتعزير. وقال أحمد والأوزاعي وإسحاق: يحرق متاع الغالّ كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشيء الذي غلّ، عملا بحديث رواه أبو داود والترمذي عن عمر: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ، فأحرقوا متاعه، واضربوه» لكن فيه صالح بن محمد بن زائدة، وهو ضعيف لا يحتجّ به. وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه، إذ لم يثبت ذلك في السنة النبوية.

وتجوز العقوبة في المال، بدليل أن عمر رضي الله عنه أراق لبنا شيب بماء، وإذا باع الذمي خمرا لمسلم أريقت على المسلم، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له، لئلا يبيع الخمر من المسلمين. وأجمع العلماء على أن للغالّ أن يرد جميع ما غلّ إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى الرد، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخروج عن ذنبه. فإن افترق العسكر دفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي في رأي مالك والأوزاعي. وفي تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر، فمن غصب شيئا منها أدّب اتفاقا. ومن الغلول: هدايا العمال أو الولاة، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغالّ، بدليل حديث ابن اللتبية عند مسلم في صحيحة وأبي داود الذي فيه: «لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء، وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تبعر «1» » وروى أبو داود عن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» . ومن الغلول: حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها. 2- من اتبع شرع الله بترك الغلول والصبر على الجهاد له في الجنة رتبة، وتتفاوت درجات الطائعين. ومن عصى الله بكفر أو غلول أو تولى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحرب، له في النار رتبة، وتتفاوت دركات العصاة. 3- إن بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم تدل على عظيم منّة الله تعالى، وخصائص النبي

_ (1) العيار: صوت الغنم والمعزى.

بعض أخطاء المؤمنين في غزوة أحد وبعض قبائح المنافقين [سورة آل عمران (3) الآيات 165 إلى 168] :

ومهامه تقتضي مبادرة العرب خاصة والناس كافة إلى الإيمان برسالته واتباع شريعته، فهو من أقحاح العرب من بني إسماعيل، وهو معلّم الكتاب والحكمة، وهو مزكي النفوس ومطهرها من أدناس الجاهلية وأرجاسها في العقيدة والأخلاق ونظام الحياة. وليس أدل على فضله من تحول العرب بدعوته من الجاهلية الجهلاء إلى نور العلم والعرفان. بعض أخطاء المؤمنين في غزوة أحد وبعض قبائح المنافقين [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الإعراب: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ الَّذِينَ: إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين أو منصوب من ثلاثة أوجه: أن يكون وصفا للذين في قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أو بدلا منهم، أو على تقدير: أعني.

البلاغة:

البلاغة: أَنَّى هذا استفهام إنكاري. يوجد طباق بين لِلْكُفْرِ ولِلْإِيمانِ. ويوجد جناس اشتقاق في قوله: أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ. المفردات اللغوية: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ: ما أصابهم بأحد من غلبة المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أي من المسلمين قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها أي ما وقع لهم ببدر بقتل سبعين من المشركين، وأسر سبعين منهم. قُلْتُمْ متعجبين. أَنَّى أي من أين لنا هذا، وهو تركيب يفيد التعجب، أي كيف يكون لنا هذا الخذلان، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا؟ ويراد بهذه الجملة الاستفهام الإنكاري. قُلْ لهم. هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي من شؤم معصيتكم، لأنكم تركتم المركز فخذلتم. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه النصر، وقد جازاكم، بسبب مخالفتكم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. الْجَمْعانِ جمع المؤمنين، وجمع المشركين. فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط الأسباب بمسبباتها. فَادْرَؤُا فادفعوا عن أنفسكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دفع المكاره بالحذر وأن القعود ينجي من الموت. سبب النزول: نزول الآية (165) : أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ ... : أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال: عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة (الخوذة) على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية، إلى قوله: قُلْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال: بأخذ الفداء. المناسبة: تستمر الآيات في بيان الأخطاء يوم أحد، ففي الآيات السابقة أبان سبحانه

التفسير والبيان:

نسبة المنافقين الخيانة والغلول من المغنم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تبرئته من ذلك، وهذه الآيات تبين أخطاء الغزاة قبل هذه الوقعة وبعدها وتصوراتهم المنافية للواقع وأقوالهم وأفعالهم المغلوطة. التفسير والبيان: هذه الآية معطوفة على ما مضى من قصة أحد من قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا: أنى هذا، من أين هذا، وهو كقوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا [آل عمران 3/ 37] . والمعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة أو لتخليتكم المركز في جبل الرماة، وعن علي رضي الله عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم. والهمزة في قوله: أَوَلَمَّا للتقرير والتقريع، فلا ينبغي لكم أيها المنافقون والغزاة أن تعترضوا وتقولوا تعجبا: كيف ومن أين جرى علينا هذا أو من أين حدث لنا هذا المصاب؟ وهو ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم، كأنهم يظنون أن النصر دائما في جانب المسلمين مهما عصوا وخالفوا أوامر الله، مع أنهم أصابوا من المشركين في بدر ضعفي هذا العدد، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. ثم أجابهم سبحانه وتعالى عن تساؤلهم موبخا ومقرعا: إن ما وقع حدث بشؤم معصيتكم، وبسبب عصيانكم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم، فعصيتم أيها الرماة. وكانت أوجه العصيان كثيرة: الخروج من المدينة وكان من رأي النبي صلّى الله عليه وسلّم البقاء فيها، وفشلكم وضعف رأيكم، وتنازعكم، وعصيانكم أوامر الرسول عليه

الصلاة والسلام بمفارقة المكان الذي طلب منكم الوقوف فيه لحماية ظهور المقاتلين. ومن المعلوم أن العقوبات نتائج لازمة للأعمال، وأن الله وعدكم النصر بشرط ترك المعصية واتباع أوامر الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] . إن الله على كل شيء قدير، أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، وهو القادر على حجب النصر عنكم إن خالفتم وعصيتم، وذلك كله خاضع لقانون ربط الأسباب بالمسببات، وليس هناك شيء خارج عن القدرة الإلهية. ثم أشار الله تعالى معزيا ومسليا إلى أن كل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقاء الجمعين: جمع المسلمين وجمع المشركين في أحد، فبإذن الله وإرادته وقضائه وقدره، وله الحكمة في ذلك، فما من شيء في الوجود إلا وهو خاضع لإرادته وحكمته. ومن مظاهر الحكمة: أن يظهر الله علمه بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه، والصبر والثبات وعدمه، فيعلم الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا، ويعلم المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي بن سلول الذين رجعوا معه في الطريق، وكانوا ثلاثمائة رجل. هؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى القتال في سبيل الله، أو إلى الدفاع عن النفس والأهل والوطن، أجابوا: لو نعلم أنكم تلقون قتالا في غزوتكم لاتبعناكم وسرنا معكم، ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون. وهذا يدل على تأصل النفاق في قلوبهم، وأن غايتهم التلبيس والتدليس والاستهزاء وتعمية الحقائق، مع أن جمع المشركين في أحد وخروج المسلمين لمقابلتهم قرينة قاطعة على إرادة القتال. روي أن الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة

الألف الذين خرج بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجعوا من الطريق، وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الهزيمة. إنهم بمقالتهم هذه: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا أقرب إلى الكفر يومئذ منهم إلى الإيمان، لظهور القرائن والأمارات برجوعهم وتصميمهم على إيقاع الهزيمة بالمسلمين، فإن من يتخاذل عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأوطان عند هجوم الأعداء ليس من المؤمنين، لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات 49/ 15] . واستدلوا بآية هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان. إنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وهذا شأن المنافقين، ومنه قولهم: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فإنهم- كما بينا- يعلمون أن جندا من المشركين قد جاؤوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، ويعلمون أنه كائن بينهم قتال لا محالة مما يدل على أنهم كاذبون في كل ما يقولون. ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من الكفر والكيد للمسلمين، وهذا تهديد واضح وافتضاح علني أنه لا ينفعهم النفاق، فهو بضاعة مزجاة لأن الله أعلم بسرائرهم ونواياهم. ومن أقوالهم أيضا بعد القتال في أحد أنهم قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في وقعة أحد: لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل، وفي هذا دلالة على أنهم نصحوهم بالتراجع. أخرج ابن جرير الطبري عن السّدّي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ألف رجل، وقد وعدهم بالفتح إن

فقه الحياة أو الأحكام:

صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبيّ في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السّلمي يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا، فنعى الله عليهم ذلك بقوله: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ.... فرد الله تعالى قولهم: قل يا محمد لهم: إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه. فقه الحياة أو الأحكام: تعقد الآية (165) مقارنة بين نتائج غزوتي بدر وأحد، محورها أن المسلمين أصيبوا إصابة شديدة يوم أحد بقتل سبعين منهم، مع أنهم يوم بدر أصابوا من المشركين ضعفي ذلك العدد، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، والأسير في حكم المقتول لأن الأسر يقتل أسيره للضرورة إن أراد، وقد هزموا المشركين يوم بدر، ويوم أحد أيضا في ابتداء المعركة، وقتلوا منهم في يومين قريبا من عشرين. ومن الخطأ قولهم: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهم مشركون! والسبب أن هزيمتهم كانت بسبب من أنفسهم، وهو مخالفة الرماة، وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. ومصابهم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة إنما هو بعلم الله وقضائه وقدره لحكمة في ذلك، وهي تربيتهم وتحذيرهم من المخالفة، وتمييز المؤمنين من المنافقين.

والإشارة بقوله: نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا ثلاثمائة، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو جابر بن عبد الله، فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيّكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبيّ: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم واستشهد رحمه الله تعالى. ودل قوله: أَوِ ادْفَعُوا على أن الدفاع عن الأوطان مثل القتال في سبيل الله، وعلى أن تكثير سواد المسلمين وإن لم يقاتلوا معهم، يكون دفعا وقمعا للعدو، فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو. ويؤكده أن المرابط المستعد للقتال في ثغر إسلامي مدافع لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاء إليها العدو. وكان موقف المنافقين هذا سببا في ظهور أمرين: الأول- تبيان حالهم والكشف عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على الحقيقة: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ. الثاني- إظهار كذبهم وعدم استحيائهم في الإتيان بالمغالطات، فهم أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. ومن دلائل عدم إيمانهم أنهم قالوا لأجل إخوانهم- وهم الشهداء المقتولون من الخزرج، وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة دين-: لو قعدوا بالمدينة ما قتلوا.

منزلة الشهداء المجاهدين في سبيل الله [سورة آل عمران (3) الآيات 169 إلى 175] :

وكان الرد القرآني مفحما لهم: إن صدقتم مع أنكم قاعدون في المدينة، فادفعوا الموت عن أنفسكم، وهذا يدل على أن الحذر لا يمنع القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة. قال أبو الليث السمرقندي: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت الآية: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ: مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين. منزلة الشهداء المجاهدين في سبيل الله [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) الإعراب: فَرِحِينَ حال منصوب من ضمير يُرْزَقُونَ. أَلَّا خَوْفٌ بدل من بِالَّذِينَ.

البلاغة:

وَأَنَّ اللَّهَ قرئ بفتح أن وكسرها، فمن فتحها عطفها على قوله: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ومن كسرها جعلها مبتدأة مستأنفة الَّذِينَ اسْتَجابُوا مبتدأ، وخبره: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا. الَّذِينَ قالَ بدل من الَّذِينَ قبله، أو نعت. يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ تقديره: يخوفكم بأوليائه، فحذف المفعول الأول وهو «كم» والباء من المفعول الثاني، مثل قوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً [الكهف 18/ 2] وتقديره: لينذركم ببأس شديد. البلاغة: يوجد إطناب في يَسْتَبْشِرُونَ وفي لَنْ يَضُرُّوا وفي اسم الجلالة في مواضع، ويوجد طباق في أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ. المفردات اللغوية: فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجل دينه. يُرْزَقُونَ يأكلون من ثمار الجنة. يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون، الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة. بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ هم الذين بقوا في الدنيا من إخوانهم المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي يفرحون بألا خوف على الذين لم يلحقوا بهم. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة، المعنى يفرحون بأمنهم وفرحهم فَرِحِينَ مسرورين. بِنِعْمَةٍ ثواب. وَفَضْلٍ زيادة عليه. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ بل يأجرهم. اسْتَجابُوا أجابوا وأطاعوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي أجابوا دعاءه بالخروج للقتال، لما أراد أبو سفيان، وأصحابه العود، وتواعدوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سوق بدر العام المقبل من يوم أحد الْقَرْحُ الألم الشديد والجراح في يوم أحد. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعته، والإحسان: إتقان العمل على أكمل وجه. وَاتَّقَوْا مخالفته. أَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة. قالَ لَهُمُ النَّاسُ أي نعيم بن مسعود الأشجعي. إِنَّ النَّاسَ أبا سفيان وأصحابه. قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجموع ليستأصلوكم. فَاخْشَوْهُمْ ولا تأتوهم. فَزادَهُمْ ذلك القول. إِيماناً تصديقا بالله ويقينا. حَسْبُنَا اللَّهُ كافينا أمرهم. وَنِعْمَ الْوَكِيلُ المفوض إليه الأمر، وقد خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوافوا سوق بدر، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه، فلم يأتوا، وكان معهم تجارات فباعوا وربحوا. فَانْقَلَبُوا رجعوا بسرعة، أي من بدر. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ بسلامة وربح. لَمْ

سبب النزول:

يَمْسَسْهُمْ من قتل أو جرح. إِنَّما ذلِكُمُ أي القائل لكم المثبط: إن الناس. الشَّيْطانُ المراد بالشيطان نعيم بن مسعود أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف بمعنى: إن ذلكم قول الشيطان أي قول إبليس لعنه الله، وهو الأولى. يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يخوفكم أنصاره من المشركين، وهم أبو سفيان وأصحابه. وَخافُونِ في ترك أمري. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا. سبب النزول: نزول الآية (169) : وَلا تَحْسَبَنَّ: روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الآية وما بعدها، وروى الترمذي عن جابر نحوه. نزول الآية (172) : الَّذِينَ اسْتَجابُوا: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أحد، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك، فندب النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس، لينطلقوا معه، فجاء الشيطان فخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبي عليه الناس أن يتبعوه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:

تاريخ غزوة حمراء الأسد:

«إني ذاهب، وإن لم يتبعني أحد» فانتدب معه أبا بكر وعمر وعثمان وعليا والزبير وسعدا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبا عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا، فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون من أحد، قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية. وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال، فأتوه، فلم يجدوا به أحدا، وتسوقوا فأنزل الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة، فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فنزل هذه الآية. تاريخ غزوة حمراء الأسد: روي أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع، حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان وقال: لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع جماعة من أصحابه، حتى بلغوا حمراء الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القراح (الجراح)

تاريخ غزوة بدر الصغرى:

فتحاملوا على أنفسهم، حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا إلى مكة مسرعين، فنزلت الآية. وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهي تابعة لغزوة أحد. تاريخ غزوة بدر الصغرى: روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن آية الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ نزلت في غزوة بدر الصغرى. وهي أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ذاك بيننا وبينك إن شاء الله ، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب في قلبه، فبدا له الرجوع، فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان: إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج، فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبّطهم، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو. فأتى نعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فو الله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذين نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حتى وافى بدرا

المناسبة:

الصغرى «بدر الموعد» فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ، فلم يلق أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجل، قسماه أهل مكة: «جيش السويق» وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق. ووافي المسلمون سوق بدر، وكانت معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا، فربحوا وأصابوا بالدرهم الدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. المناسبة: هذه الآيات متصلة بما قبلها، فبعد أن ذكر الله تثبيط المنافقين للراغبين في الجهاد، وقولهم: لو قعدوا في المدينة ما قتلوا: والرد عليهم بأن الموت يحدث بقضاء الله وقدره، أبان هنا منزلة الشهداء، حتى لا يتأثر أحد بأقوال المنافقين، وليكون ذلك حثا على الجهاد في سبيل الله. التفسير والبيان: الآية في شهداء أحد. يخبر الله تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في الدنيا، فإن أرواحهم حية مرزوقة في الدار الآخرة، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد، والمعنى: لا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين المتقدم أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا لا يجازون على أعمالهم التي قدموها، بل هم أحياء في عالم آخر، مقربون عند ربهم، ذوو زلفى، كقوله تعالى: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت 41/ 38] ، يرزقون مثلما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء، ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله. فالعندية (عند الله) هنا عنديّة كرامة ومكانة وتشريف، وهي تقتضي

غاية القرب، لا عندية مكان ومسافة وقرب وحدود. والحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية، لا ندرك حقيقتها، ونؤمن بها كما أخبر القرآن، وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فيه حذف مضاف: تقديره: عند كرامة ربهم. وهؤلاء الشهداء مسرورون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير، وتفضيل على غيرهم، بسبب الشهادة، وهم مسرورون أيضا بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله، وإنما هم على الطريق سائرون يقتفون أثر من تقدمهم من قوافل الشهداء، حينما رأوا ما أعد لهم من الجزاء الحسن، وهو الحياة الأبدية والنعيم الدائم الذي لا يكدره خوف من مكروه ولا حزن على ما فات. وهم يفرحون أيضا بما يتجدد لهم من الثواب على عملهم والرزق والفضل الإلهي الذي يؤتيهم الله من الجنة ونعيمها- والفضل في هذه الآية: هو النعيم المذكور- وأن الله يأجرهم، أي أنهم يستبشرون بنعمة من الله، ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. وهذه الجملة بيان وتفسير لما تقدمها: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأن من كان في نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مدخرا ثوابها لا يخاف العاقبة. وذلك تحريض على الجهاد وترغيب في الاستشهاد. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، في ظل العرش..» إلخ الحديث المتقدم. ثم وصفهم الله بحسن أعمالهم الذي هو سبب زيادة ثوابهم، فأخبر تعالى أن هؤلاء المجاهدين الذين استجابوا لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذهاب للقاء أبي سفيان في

غزوة حمراء الأسد عقب غزوة أحد، بالرغم مما كانوا عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، فلهم أجر عظيم يتناسب مع جهادهم وشجاعتهم. وأشار بقوله: مِنْهُمْ إلى أن من استجاب حظي بهذا الفضل والأجر، وأما الباقون فكانت لهم موانع وأعذار في أنفسهم أو أهليهم. ثم أشاد تعالى أيضا بمن شارك في غزوة بدر الصغرى في العام المقبل بعد أحد، بالرغم مما قال لهم الناس: أي نعيم بن مسعود الأشجعي الذي كان ما يزال مشركا: إن الناس أي أبا سفيان وأعوانه جمعوا لكم الجموع لقتالكم، فاخشوهم وخافوهم، ولا تخرجوا إليهم. فزادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة بوعده، وثباتا على دينه، إذ إنهم خافوه، ولم يخافوا تلك الجموع، واعتمدوا على تأييد الله وعونه ونصره، بعد أن صدقت نياتهم، واشتدت عزائمهم للقاء المشركين مهما كانت النتائج، وذلك مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين في غزوة الخندق (الأحزاب) : وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب 33/ 22] . وقالوا معبّرين عن صدق إيمانهم بالله: الله كافينا ما يهمنا من أمر الجموع، ونعم الوكيل الذي فوضنا أمورنا إليه، نعم المولى ونعم النصير. وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار «1» ، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال أحد الناس: إن الناس (المشركين) قد جمعوا لكم فاخشوهم. ويستحب قولها عند الغم والمصيبة وإحاطة الداهية.

_ (1) روى البخاري عن ابن عباس قال: «كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل» . [.....]

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» «1» . وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتد غمّه، مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل» . ولما فوضوا أمورهم إلى الله واتكلوا عليه، عادوا بأربعة جزاءات: النعمة من الله، والفضل، وصرف السوء، واتباع ما يرضي الله فرضي عنهم، أي لما توكلوا على الله وخرجوا للقاء عدوهم، كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم، وربحوا في تجارتهم، ولم يصبهم قتل ولا أذى، واتصفوا بطاعة رسولهم ورضا ربهم الذي هو أساس النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، والله صاحب الفضل العظيم عليهم إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى الجهاد، والحفظ من السوء الذي يضمره لهم عدوهم. وفي هذا إشارة إلى خسارة القاعدين المتخلفين إذ حرموا ما حظي به غيرهم، وهو معنى قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ. روى البيهقي عن ابن عباس في قول الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال: «النعمة: أنهم سلموا، والفضل: أن عيرا مرت في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فربح فيها مالا، فقسمه بين أصحابه» . وأخرج الطبري عن السدي قال: «أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم، ابتاعوا بها في الموسم، فأصابوا ربحا كثيرا» . ثم قال تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم أولياءه،

_ (1) هذا حديث غريب من هذا الوجه، وله مؤيدات كثيرة (انظر تفسير ابن كثير: 1/ 430) .

فقه الحياة أو الأحكام:

ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، فليس القول الذي قيل لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ إلا من الشيطان الذي يخوفكم أنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم ذوو عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، فلا تخرجوا إليهم. ولكن عليكم أيها المؤمنون إذا سول لكم الشيطان أمرا وأوهمكم، فتوكلوا علي، والجؤوا إلي، فإني كافيكم وناصركم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إلى قوله: قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر 39/ 36- 38] وقال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج 22/ 40] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] وقال أيضا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر 40/ 51- 52] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا.. وما بعدها على ما يأتي: 1- إن من لم ينهزم أمام العدو، وصبر وثبت، وقاتل حتى قتل، له منزلة عالية عند الله، وهي منزلة الشهداء، وهي الكرامة والحياة عند الله. فهم أحياء في الجنة يرزقون، وأرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين، وإن ماتوا ودفنت أجسادهم في التراب. وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. والذي عليه معظم المفسرين أن حياة الشهداء محققة، ولكنها من نوع خاص، فإما أن ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فينعّمون، وإما أنهم يرزقون من

ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وقيل: إن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة. والصحيح من الأقوال: أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون في الجنة، ويأكلون ويتنعمون. 2- غسل الشهداء وتكفينهم والصلاة عليهم: للعلماء رأيان: قال الحنفية: يكفن الشهيد بثيابه، ويصلى عليه، ولا يغسل إذا كان مكلفا طاهرا، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهدوا، فيغسلون عند أبي حنيفة، كما يغسل الصبي والمجنون، وقال الصاحبان: لا يغسّلون. والدليل على عدم التكفين وعدم الغسل حديث جابر عند البخاري: «ادفنوهم بدمائهم» وفي رواية الشافعي وأحمد والبيهقي والنسائي: «زمّلوهم بدمائهم» يعني يوم أحد ولم يغسّلهم. وقد صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم على شهداء أحد اثنتين وسبعين صلاة. وقال الجمهور: لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم لأنها ليست من أثر الشهادة بدليل حديث جابر المتفق عليه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» . وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا، ولم يمت في المعترك، وعاش وأكل، فإنه يصلّى عليه، كما قد صنع بعمر رضي الله عنه. وأما من قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطرق وشبه ذلك، فقال أبو حنيفة والثوري: كل من قتل مظلوما لم يغسّل، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد. وقال الجمهور: يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب. وأما إذا صبّح العدو قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم، فيغسلون ويكفنون ويصلى عليهم لأنهم لم يقتلوا في المعترك بين الصفين. 3- القتل في سبيل الله والشهادة فيه له ثواب عظيم عند الله، حتى إنه يكفّر

الذنوب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدّين» «1» وهذا تنبيه على ما في معنى الدين من الحقوق الشخصية المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحة وغير ذلك من التّبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدّين، فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات، حسبما وردت به السنة الثابتة، منها حديث مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» . وفي حديث صحيح آخر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين» . والدّين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة- والله أعلم-: هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤدّه، أو ادّانه في سرف، أو في سفه، ومات ولم يوفّه. وأما من ادّان في حق واجب لفاقة وعسر، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله لأن على السلطان فرضا أن يؤدّي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين، قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «من ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالا فلورثته» . 4- الرزق في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ هو الرزق المعروف في العادات، وهو المعنى الحقيقي للفظ. ومن قال: هي حياة الذكر، قال: يرزقون الثناء الجميل، وهو معنى مجازي.

_ (1) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بلفظ «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين» .

5- قال السدي في آية وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ..: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا، يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه، فيسرّون ويفرحون لهم بذلك. 6- الفضل في قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.. لزيادة البيان، والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد. روى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للشهيد عند الله ست خصال «1» : يغفر له في أول دفعة «2» ، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وما تضمنه الحديث تفسير للنعمة والفضل. 7- أشارت آية: الَّذِينَ اسْتَجابُوا.. إلى أن الصحابة الذين تابعوا القتال ومطاردة أبي سفيان وجماعته في «حمراء الأسد» لإرهاب العدو، وكان عددهم سبعين رجلا، استحقوا المديح والثناء من الله تعالى لسببين: إطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما ندبهم إليه من الخروج معه، وتحاملهم على أنفسهم بالرغم مما فيهم من جراح وآلام شديدة مبرّحة أصابتهم في وقعة أحد.

_ (1) كذا في الترمذي وابن ماجه: «ست» وهي في العدد: سبع، وفي حاشية السندي على ابن ماجه: قوله: ست خصال، المذكورات سبع إلا أن يجعل الإجازة والأمن من الفزع واحدة. (2) الدفعة بالضم مثل الدفقة: ما دفع من إناء أو سقاء، فانصب بمرة واحدة.

8- أرشدت آية: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إلى أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا، فالجبن لا يجتمع مع الإيمان لأن علته: الخوف من الموت والحرص على الحياة، وهما بعيدان عن المؤمن، وكان الصحابة الذين ذهبوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في العام التالي لأحد في بدر الصغرى مثلا عالية للشجاعة والتضحية والجرأة في سبيل الله. 9- ودلت هذه الآية أيضا على أن المؤمن يمكنه التخلص من عوامل الخوف، فيقول: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا الله. 10- قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وقوة وجرأة واستعدادا، يومئ إلى أن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة. ويرى العلماء في زيادة الإيمان ونقصه: أن أصل الإيمان وجوهره وهو التصديق شيء واحد، لا يدخل فيه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال. وأما الزيادة والنقصان ففي متعلّقاته دون ذاته. والذي عليه الجمهور: أن الإيمان يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه، لحديث مسلم والترمذي: «الإيمان بضع وسبعون بابا، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» وهذه الزيادة في رواية مسلم فقط. 11- وآية فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يراد بها كما قال العلماء: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضّاهم عنه، ورضي عنهم. 12- يشير قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ.. إلى أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط، لا من الأعداء، وأن أولياء الله لا يخافون الشيطان إذا خوّفهم، وإنما يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين.

إزالة الحزن من قلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد ومناقشة الكفار والبخلاء وتمييز الخبيث من الطيب [سورة آل عمران (3) الآيات 176 إلى 180] :

فالإيمان الصادق يحمل صاحبه على الخوف من الله وحده، وقد مدح الله المؤمنين بالخوف، فقال: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل 16/ 50] . وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت «1» السماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصّعدات «2» تجأرون «3» إلى الله» قال أبو ذر: «والله لوددت أني كنت شجرة تعضد «4» » . إزالة الحزن من قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أحد ومناقشة الكفار والبخلاء وتمييز الخبيث من الطيب [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 180] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

_ (1) أطت السماء: صوتت. (2) الصعدات: الطرق. (3) تجأرون: رفع الأصوات بالدعاء متضرعين. (4) تعضد: تقطع بالمعضد كالمنجل.

الإعراب:

الإعراب: وَلا يَحْزُنْكَ قرئ بفتح الياء وضمها، فمن قرأ بالفتح جعله من حزنه وهو فعل ثلاثي، ومن قرأ بالضم جعله من أحزنه، وهو فعل رباعي. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْسَبَنَّ: قرئ بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء كان الَّذِينَ كَفَرُوا في موضع رفع بأنه فاعل يَحْسَبَنَّ، وتقديره: ولا يحسبن الكافرون. والَّذِينَ اسم موصول، والهاء المحذوفة من نُمْلِي هي العائد إليه. وخَيْرٌ خبر أن، وأن وما عملت فيه سدت مسدّ المفعولين. ومن قرأ بالتاء كان الَّذِينَ المفعول الأول، وأَنَّما وما بعدها بدلا من الَّذِينَ وسدّ مسد المفعول الثاني، وما بمعنى الذي، وتكون ما ونملي مصدرا. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يَحْسَبَنَّ: قرئ بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء فموضع الَّذِينَ يَبْخَلُونَ رفع لأنه فاعل حسب، وحذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه. وهُوَ ضمير فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين. وخَيْراً مفعول ثاني منصوب. وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله البخل خيرا لهم. ومن قرأ بالتاء فموضع الَّذِينَ يَبْخَلُونَ نصب لأنه مفعول أول على تقدير حذف مضاف تقديره: ولا تحسبن بخل الذين يبخلون. وهُوَ فصل. وخَيْراً هو المفعول الثاني. البلاغة: يوجد استعارة في اشْتَرَوُا الْكُفْرَ وفي يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وفي الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ إذ يراد به المؤمن والمنافق. ويوجد طباق في الْكُفْرَ، بِالْإِيْمانِ المفردات اللغوية: وَلا يَحْزُنْكَ يكدرك ويؤلمك، من حزن بمعنى أحزن يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يبادرون

سبب النزول:

في نصرته، وهم أهل مكة أو المنافقون، أي لا تهتم لكفرهم. حَظًّا نصيبا من الثواب فِي الْآخِرَةِ في الجنة، فلذلك خذلهم. اشْتَرَوُا الْكُفْرَ أخذوا الكفر بدل الإيمان، كما يفعل المشتري بمبادلة المبيع بالثمن. نُمْلِي نمهل، والإملاء: الإمهال لَهُمْ بتطويل الأعمار وتأخيرهم. لِيَزْدادُوا إِثْماً بكثرة المعاصي أي لتكون عاقبتهم زيادة الإثم. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة في الآخرة. يَمِيزَ أي يميّز ويفرز ويفصل الْخَبِيثَ المنافق مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن، أي ليظهر الفارق الواضح بين المنافق والمؤمن بالتكاليف الشاقة، كما في يوم أحد. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز. يَجْتَبِي يختار ويصطفي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على غيبه، كما أطلع النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال المنافقين وَتَتَّقُوا النفاق آتاهُمُ أعطاهم من مال غيره سَيُطَوَّقُونَ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ما بَخِلُوا بِهِ أي بزكاته يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما ورد في الحديث. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يرثهما بعد فناء أهلهما والميراث: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم به. سبب النزول: نزول الآية (179) : ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ: قال السدي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا: يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر، ونحن معه ولا يعرفنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الكلبي: قال قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة، والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

سبب نزول الآية (180) :

وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرق بها بين المؤمن والمنافق، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . سبب نزول الآية (180) : وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.. جمهور المفسرين على أنها أنزلت في مانعي الزكاة. وروى عطية عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوّته، وأراد بالبخل: كتمان العلم الذي آتاهم الله تعالى «2» . المناسبة: أدى انتصار المشركين في أحد وإصابة المؤمنين بشيء كثير من الأذى، إلى استغلال المنافقين تلك النتيجة، فصاروا يقولون: لو كان محمد نبيا ما قتل ولا هزم، وإنما هو طالب ملك، فتارة ينتصر وتارة ينهزم، وبادروا في نصرة الكفار وتثبيط المؤمنين عن القتال، فتألم النبي صلّى الله عليه وسلّم وحزن، فنزلت هذه الآيات تسري عنه وتزيل الحزن من نفسه، كما سرّى عنه حينما أعرض الكافرون عن الإيمان، وطعنوا في القرآن أو شخصه، في قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يونس 10/ 65] وقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] . التفسير والبيان: يخاطب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم لشدة حرصه على الناس: لا يحزنك أيها الرسول مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ومناصرة الكفر، كأبي سفيان وغيره من أهل مكة، واليهود والمنافقين.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 75- 76 (2) المرجع السابق: ص 76

إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحته شيئا من الضرر، وإنما يضرون أنفسهم، ويحاربون الله تعالى ويستعدونه عليهم والدائرة تكون عليهم، ويحرمون من ثواب الله تعالى في الآخرة، ولهم عذاب عظيم لا يعرف قدره، والله يعاقبهم على فعلهم لا يظلمهم، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وضلالهم ومناصرتهم ملة الكفر ومقاومة المؤمنين: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. [فاطر 35/ 43] وهذا يدل على أنه لا يؤبه بهم ولا يخشى خطرهم. وهي مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ، لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا: آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة 5/ 41] . وهذا لا يقتصر عليهم، وإنما هو حكم عام مقرر يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان، لذا قال: إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا، ولكن يضرون أنفسهم، ولهم عذاب مؤلم شديد الألم في الدنيا والآخرة. وهي تشبه آية أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 55] وآية: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم 68/ 44] وآية: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 85] . ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين، فأخبر أنه لا يحسبن هؤلاء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم لأنهم لا يستغلون العمر في عمل الخير، وإنما يستغلونه في الشر، فتكون عاقبتهم ازدياد الإثم على الإثم، والمبالغة في الباطل والبهتان، ولهم عذاب مهين: ذو إهانة وإذلال لهم، أي إنما هو معدّ لهم. ولا يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما الإمهال

لهم هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان، لا لزيادة الإثم وللتعذيب، فيكون الإملاء خيرا لهم، ولكن علم الله سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائرة الحق والخير والرشاد، فهؤلاء لهم عذاب مهين. قال الزمخشري في قوله: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ: ما: هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة، دون الأولى. وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرا لهم؟ فقيل: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض، فلو قلت: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، ليس شيء منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببا فيه. فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه، على طريق المجاز «1» . والخلاصة: إن هذا الإمهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سنته في الخلق: بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فإنما هو ثمرة عمله. ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يغتر الإنسان بهذا الإمهال، ويسترسل في فجوره، فيوقعه ذلك في الإثم، الذي يترتب عليه العذاب المهين «2» . ثم بيّن الله تعالى أن المحن والشدائد تظهر صدق الإيمان، وأنه لا بد من أن

_ (1) الكشاف: 1/ 364 (2) تفسير المنار: 4/ 205، تفسير المراغي: 4/ 141

يعقد شيئا من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه، فلا يترك الناس على مثل حالتهم يوم أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويعرف المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد 47/ 31] . يقصد به أن يوم أحد كان اختبارا امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهتك به ستار المنافقين، فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم. وقد يفكر بعض الناس أن تمييز المؤمن الصادق من المنافق يحدث بالوحي وبأن يطلع الله المؤمنين على الغيب، فأجاب الله تعالى: لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، وإنما خلق الإنسان وقدر له أن يصل إلى مراده بعمله الكسبي الذي ترشد إليه الفطرة ويهدي إليه الدين وتدل عليه النبوة، فهو تعالى يختار من رسله من يشاء، ويطلعه على بعض المغيبات، كما قال سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] ثم يخبر الرسول بعض الناس بنفاق رجل وإخلاص آخر، فيكون مصدر ذلك الخبر هو اطلاع الله على كفر أناس وإيمانهم، لا أنه يطلعه على ما في القلوب اطلاع الله. ثم يترك الناس لتمييز المؤمن منهم والمنافق بواسطة الأسباب الكاشفة عن ذلك. لذا يجب عليكم الإيمان بالله والرسل ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإطاعة الله والرسول واتباعه فيما شرع لكم، والاعتقاد بأن الرسل لا يخبرون عن شيء إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب. وهذا رد على الكافرين، قال السّدّي: قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فنزلت.

وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب، وتتقوا الله بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، فلكم ثواب عظيم لا يستطيع أحد تحديد مقداره. ويلاحظ أن القرآن يقرن دائما بين الإيمان والتقوى، كما يقرن بين الصلاة والزكاة، لتلازمهما والاعلام بأن الإيمان لا يكتمل إلا بهما، ويقرن أيضا بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال. وبما أن الآيات السابقة كانت في الحث على الجهاد والتحريض على بذل النفس، أعقب ذلك الحث على بذل المال في الجهاد. فلا يظننّ أحد أن بخل البخلاء خير لهم بكنز المال وادخاره، وأن الجود والإنفاق يفقر، وإنما هو شر عظيم على الأمة والفرد في الدنيا والآخرة، والمراد بالبخل: حجب الزكاة المفروضة عن المستحقين، وعدم الصدقة عند رؤية حاجات المحتاجين. أما ضرر البخل في الدنيا فتعريض مال الغني للضياع والنهب والسرقة والأحقاد، وفي عصرنا وغيره ظهور الحملات الشنيعة على الأغنياء المترفين، وانتشار الأفكار والنظريات المسماة بالاشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية. وأما ضرره في الآخرة والدين: فهو ما أخبر عنه تعالى بأنهم سيلزمون وبال بخلهم وعاقبة شحهم إلزام الطوق في العنق، فلا يجدون مناصا ولا مهربا من توجيه اللوم والسؤال والعقاب على فعلهم. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه- أي شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.. إلى آخر الآية.

فقه الحياة أو الأحكام:

والحقيقة أن لله ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فكيف يصح لقوم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. وهذا مثل قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد 57/ 7] فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل، فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم، والله خبير بنياتكم وضمائركم وأعمالكم، لا تخفى عليه خافية منها، ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو سوء. فقه الحياة أو الأحكام: لا داعي للغم والحزن على مناصرة الكفار واليهود والمنافقين ألوان الكفر، فهم لن يضروا إلا أنفسهم، بتعريضها للعذاب الشديد، وبالإعلام عن سوء تصرفهم وسخف عقولهم وخطأ رأيهم، ولن يضروا بالتأكيد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن المطلوب منه هو الإبلاغ، والله مؤيده وناصره وحافظه وعاصمه من الناس. لكن قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما قال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] وقال: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] . ولن يضروا الله شيئا أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا بكفرهم. وقد أكد تعالى هذا المعنى في كلتا الآيتين (176، 177) فهم سواء بادروا إلى نصرة الكفر، أو أخذوا الكفر بدلا عن الإيمان، لن يضروا الله شيئا قليلا ولا كثيرا، وإنما يضرّون أنفسهم بما أوجبوا لها من العذاب الأليم. والله تعالى لا يعجل أحدا بعقوبة على ذنب ولو كان الذنب كالكفر كبيرا، وإنما يمهله ويزيد في عمره ويوفر له رغد العيش ليتوب ويتمكن من العمل الصالح، فكأن شأن الإمهال وإطالة العمر أن يحقق الأثر المنشود وهو الإيمان

وطاعة الله والرسول وزيادة الحسنات، والإقلال من السيئات، ولكن الأمر في واقع الناس مفهوم خطأ، فاستمروا في غيهم وضلالهم وكفرهم، وتوهموا أن زيادة العمر ورغد العيش وإرجاء العذاب عنهم هو خير لهم، مع أنه شر مستطير وسبب لزيادة الإثم والذنب، واستحقاق العذاب الأليم جزاء وفاقا. لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين ويشككونهم في جدوى الإيمان والعمل الصالح أنهم يفعلون خيرا، فإن الله قادر على إهلاكهم، ولا يظنون أن ما أصابوه من ظفر يوم أحد كان خيرا لهم، وإنما كان ذلك سببا في زيادة عقوبتهم. قال ابن مسعود: ما من أحد برّ ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان برّا فقد قال الله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران 3/ 198] وإن كان فاجرا فقد قال الله: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. وفي الشدائد والمحن اختبار مدى صدق الإيمان، فبها يتميز المؤمن والمنافق، وحينئذ ينكشف حال المنافقين فيحذرهم المسلمون، ويقدرون مدى ما لديهم من القوة الصحيحة التي يمكن الاعتماد عليها، بل إن المحنة توضح مدى إيمان المؤمن، فلا يغتر بالظواهر، ويقف على حقيقة حاله من ضعف في الاعتقاد، وفساد في الأخلاق، ومرض في النفس. والاطلاع على الغيب مقصور على الأنبياء والرسل، فهم أهل الكرامة والمرتبة العالية التي تؤهلهم لذلك الاطلاع، وما على الناس إلا أن يؤمنوا بما جاء به الرسل من أخبار الغيب، ويتقوا الله حق تقاته بامتثال المأمورات وترك المنهيات والمحظورات. ولا يشتغل الكفار بما لا يعنيهم من تعريفهم بمن يؤمن منهم ومن لا يؤمن، وعليهم الاشتغال بما يعنيهم وهو الإيمان أي التصديق واليقين لا التشوف إلى اطلاع الغيب، فإن آمنوا واتقوا لهم الجنة. ودلت آية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.. على ما يأتي:

1- لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم، بل هو شر لهم لأنهم ببخلهم يعرّضون أموالهم للضياع والتلف والسرقة وغيرها، ويضرون أمتهم لتقصيرهم بما يجب عليهم من التكافل الاجتماعي والتعاون على القضاء على ظاهرة الفقر، والفقر يضر بالأمة جمعاء، وحياة الأمم متوقفة على بذل النفس والمال. والفرق بين البخل والشح: أن الأول: هو الامتناع من إخراج ما حصل عندك، والثاني: الحرص على تحصيل ما ليس عندك. والصحيح أن الشح هو البخل مع حرص، لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» . 2- وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدل على بقاء الله تعالى ودوام ملكه، وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم، فتبقى الأملاك والأموال لا مدّعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وهو ليس بميراث في الحقيقة، لأن الوارث في الحقيقة: هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما. ونظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها [مريم 19/ 40] والمعنى في الآيتين: أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا. 3- علم الله تعالى واسع ودقيق، فهو يعلم صغار الأشياء والأعمال وكبارها، ويعلم ما دقّ وخفي من الأعمال، بل يعلم السر وأخفى، فيجازي كل عامل بما عمل، ويكافئه بحسب نيته، كما جاء في الحديث المشهور عن عمر لدى الشيخين: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .

بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى الله وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم [سورة آل عمران (3) الآيات 181 إلى 184] :

بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى الله وتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 184] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) الإعراب: سَنَكْتُبُ ما ما: مفعول به، وقَتْلَهُمُ: معطوف منصوب على ما والْأَنْبِياءَ منصوب بالمصدر المضاف وهو قَتْلَهُمُ، وقرئ سيكتب بالبناء للمجهول، وحينئذ تكون ما مرفوعا نائب فاعل. البلاغة: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ أكد اليهود نسبة الفقر إلى الله على سبيل المبالغة والإغراق في الكفر، ووصفوا أنفسهم بالغنى بجملة اسمية دون تأكيد للدلالة على أن الغنى وصف لازم لهم لا يحتاج لمؤكد. سَنَكْتُبُ ما قالُوا الله لا يكتب وإنما يأمر بالكتابة ملائكته، فأسند الفعل إليه من قبيل المجاز العقلي.

المفردات اللغوية:

قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وذكر الأيدي بالذات لكثرة تداول الأعمال بهن. تَأْكُلُهُ النَّارُ إسناد الأكل إلى النار من طريق الاستعارة لأن حقيقة الأكل تكون للإنسان والحيوان. يوجد طباق بين فَقِيرٌ وأَغْنِياءُ وجناس مغاير في قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا وفي كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ليست للمبالغة وإنما هي للنسب مثل عطار ونجار. المفردات اللغوية: سَنَكْتُبُ نأمر بكتب ما قالُوا أي نأمر بكتب أقوالهم في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه، والمراد: أننا سنعاقبهم عليه ذُوقُوا أصل الذوق: إدراك الطعم في الفم، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات، وهو المراد هنا الْحَرِيقِ المحرق والمؤلم، والحريق: اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة والمراد عذاب هو المحرق والمؤلم، وهو النار، فعذاب الحريق يراد به عذاب هو الحريق، أي سننتقم منهم عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا في التوراة وأوصانا به. بِقُرْبانٍ هو ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما، أي فلا نؤمن لك حتى تأتينا به، والمراد من النار: النار التي تنزل من السماء. قُلْ لهم توبيخا بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحة وَالزُّبُرِ جمع زبور وهو الكتاب، مثل صحف إبراهيم الْمُنِيرِ الواضح، وهو التوراة والإنجيل، أي إذا كذبك الناس فتكذيب الرسل أمر شائع فيمن قبلك، فاصبر كما صبروا. سبب النزول: نزول الآية (181) : لَقَدْ سَمِعَ: أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر بيت المدارس «1» ، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له (فنحاص) فقال له: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر، فضرب

_ (1) المدراس والمدرس: الموضع الذي يدرس فيه، والمدرس أيضا: الكتاب.

المناسبة:

وجهه، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، انظر ما صنع صاحبك بي، فقال: يا أبا بكر، ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله، قال قولا عظيما، يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فجحد فنحاص، فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فقالوا: يا محمد، افتقر ربك، يسأل عباده، فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ.. الآية. المناسبة: تناولت الآيات السابقة أحداث معركة أحد، وما صاحبها من مكائد المنافقين ودسائسهم ومحاولاتهم تثبيط عزائم المسلمين عن الجهاد. وبدأت هذه الآيات ببيان دسائس اليهود في محاربة المسلمين، ليحذرهم الله منها كما حذرهم من المنافقين. غير أن أفعال اليهود كبائر ومخازي لا تحتمل، مثل نسبتهم الفقر إلى الله، ونقضهم العهود، وقتلهم الأنبياء، وخيانة الأمانة. هذه الآيات تسجيل لبعض قبائح اليهود، فإنه تعالى سمع قولهم الشنيع وسيعاقبهم عليه أشد العقاب، وهو تهديد ووعيد على مقالتهم، وهي نسبة الفقر إلى الله والغنى إلى أنفسهم، ولكنه تعالى سيجازيهم على ذلك، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه إنزال العقوبة عليه. ومن جرائمهم الشنيعة قتلهم الأنبياء قديما بغير حق ولا ذنب، ونسبة القتل إلى اليهود المعاصرين في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه كان من أجدادهم لأنهم كانوا راضين عنه، مقرين بما ارتكبوا، متعاطفين مع بني جنسهم، مما يدل على أن

الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها في القضايا العامة، وأنها تؤخذ بجريرة وذنب أفرادها، إذا كانوا مقرين أفعالهم ولم ينكروها عليهم. لذا قال تعالى: وَنَقُولُ: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار، أي سيجازيهم الله على ذلك شر الجزاء، وإن هذا العذاب المحرق المؤلم بسبب أعمالكم في الدنيا وبما سلف من الذنوب كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر، ومناصرة الكفر وغير ذلك. وأضيف العمل إلى الأيدي لأن أكثر أعمال الناس تكون بالأيدي، وللدلالة على أن العذاب بسبب عملهم الصادر منهم حقيقة، ولتوليهم الفعل ومباشرته، بل إنهم حاولوا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم بإلقاء الجدار عليه في المدينة، وبدس السم في شاة في خيبر. وليس هذا العذاب في غير محله، وإنما هو في غاية العدل والحكمة لأن الله لا يظلم أحدا، ولأنه لا يعقل التسوية بين العاصي والطائع، وبين الكافر والمؤمن، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 45/ 21] . أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ [القلم 68/ 35- 36] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] . يقال لهم تلك المقالات: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ تقريعا وتوبيخا، وتحقيرا وتصغيرا، وتبيانا لبشاعة جرائمهم، وذلك إما في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب، والقائل إما الله أو الملائكة. ثم يقول تعالى تكذيبا لليهود أيضا الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا لرسول، حتى يكون من معجزاته: أن من تصدق بصدقة من أمته أي قربان، فتقبلت منه: أن تنزل نار من السماء تأكلها.

والقربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك (إراقة دم من المواشي) وصدقة وعمل صالح. والقصد من زعمهم هذا عدم الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف، وفنحاص بن عازوراء في جماعة آخرين، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد، تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا، وقد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون للنار دويّ خفيف حين تنزل من السماء، فإن جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت الآية. ولكن ادعاء هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، لذا ردّ الله تعالى موبخا لهم ومكذبا، بأن نزول النار معجزة، والمعجزة لتأييد الرسالة، وإثبات صدق النبي المبعوث، وقد جاءكم رسل كثيرون مثل زكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات أو بالبينات الواضحة الدالة على صدق نبوتهم، فلم كذبتموهم؟ ولم تصدقوهم، ولم قتلتموهم؟ إن كنتم صادقين أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل. وقد نسب هذا الفعل لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل القرآني، مع أن تلك الجرائم كانت من أسلافهم لأنهم كما بينا سابقا رضوان عما فعلوه، معتقدون أنهم على حق في ذلك، والأمة أو القبيلة عادة تتأثر بصنع بعض أفرادها، ويعيبها جرمه وانحرافه، لنسبته إلى تلك الجماعة. ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أي معزّيا ومؤنسا له، ومخففا عليه سوء موقف اليهود وأمثالهم وهم قومه، وتكذيب الفريقين، فأخبر: إن كذبوك بعد أن جئتهم بالدلائل- والمعجزات، فقد كذّب رسل من قبلك، جاؤوا بمثل ما جئت به من البينات والمعجزات، والكتب ذات الأصل الإلهي كالصحف المنزلة

فقه الحياة أو الأحكام:

على المرسلين، والكتاب المنير أي الواضح الجلي وهو التوراة والإنجيل والزبور، فصبروا على الأذى والسخرية، والمخالفة والمعاندة. وهذا من طبيعة البشر في كل زمن، منهم من يصغي إلى الحق، ومنهم من يقاومه ويهزأ بصاحبه، فلا تعجب من مقاومة دعوتك، فإن نفوسهم لا تنشد الوصول إلى الحق، ولا تبغي الخير. فقه الحياة أو الأحكام: لم يرتكب شعب في الدنيا جرائم شنيعة مثل اليهود، ولم يقتصر إجرامهم على البشرية، وإنما تجاوز ذلك إلى الله والرسل، فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقتلوا الأنبياء بغير حق ولا ذنب، لذا قرعهم الله تعالى في القرآن الكريم وهددهم وأنذرهم بعذاب النار على أفعالهم. والسلف والخلف منهم راضون بتلك الجرائم، لذا صحت نسبة الجريمة إلى المتأخرين منهم، وإضافتها إليهم مع أن القول السابق وقتل الأنبياء حدثا من أسلافهم، وكان بينهم نحو سبعمائة سنة. وهذا يدل على أن الرضا بالمعصية معصية، وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها- وقال مرة: فأنكرها- كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» . ومن جرائمهم: الكذب السافر على الله وافتراؤهم عليه أنه عهد إليهم وأنزل عليهم كتابا فيه: ألا يؤمنوا لرسول يزعم أنه من عند الله، حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. ويكون هذا من قبيل المعجزة الدالة على صدقه. فرد الله تعالى عليهم أن معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى، ومن علم صدقه وجب تصديقه. والقضية قضية مخالفة ومعاندة، وليست قضية قناعة وحجة وبرهان،

الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة والابتلاء في الدنيا [سورة آل عمران (3) الآيات 185 إلى 186] :

فوضح الأمر وبان الطريق، والناس في الماضي والحاضر وكل زمان: منهم من يصغي إلى الحق ويستجيب لندائه، كما فعل الكثير من الناس ومنهم بعض اليهود الذين قبلوا بالإيمان بدعوة الإسلام والقرآن، ومنهم من يجهر بمقاومة الحق، ومناصرة الباطل، والإعراض عن دعوة الله الخيّرة المحققة لنفع البشرية وسعادتهم في الدنيا والآخرة. الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة والابتلاء في الدنيا [سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 186] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) الإعراب: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ مبتدأ وخبر، جملة تامة مفيدة. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ: ما في إِنَّما كافة، ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي لأنها لو كانت بمعنى الذي لوجب رفع أُجُورَكُمْ على أنه الفاعل، وتقديره: إن الذي توفّونه أجوركم. البلاغة: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ استعارة مثل قوله تَأْكُلُهُ النَّارُ لأن حقيقة الذوق تكون بحاسّة اللسان، كما أن حقيقة الأكل للإنسان والحيوان.

المفردات اللغوية:

زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فيه ما يسمى في علم البديع بالمقابلة. مَتاعُ الْغُرُورِ استعارة، شبه الدنيا بالمتاع الذي يغرر به المشتري ثم يظهر فساده، والمدلّس والمغرر هو الشيطان «1» . المفردات اللغوية: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي أن الموت مصير كل نفس ونهاية كل حي، ولا يبقى إلا وجهه الكريم تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ تعطون جزاء أعمالكم وافيا غير منقوص. ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها: أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم، والتوفية: تكميل الأجور، وما يكون قبل ذلك في القبر من روضة أو نعمة فبعض الأجور. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ نحّي عنها وأبعد، والزحزحة: التنحية والإبعاد. فَقَدْ فازَ نال غاية مطلوبة، وسعد ونجا أي تحقق له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله، والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي العيش فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ المتاع: ما يتمتع وينتفع به مما يباع ويشترى، والغرور: مصدر غره أي خدعه، والغرور: الخداع والغش، أي أن الدنيا مثل المتاع المشترى بسبب التغرير والغش والخداع ثم يتبين له فساده ورداءته. عن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها، فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن أي لتعاملن معاملة المختبر، لتظهر حالتكم على حقيقتها. فِي أَمْوالِكُمْ بإيجاب الزكاة المفروضة فيها والنفقة في سبيل الله، وبالجوائح والآفات وَأَنْفُسِكُمْ بالقتل والأسر والجراح والمخاوف والمصائب في سبيل الله وبالعبادات المفروضة، وبالأمراض وفقد الأحبة والأقارب. أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم مشركو العرب. أَذىً كَثِيراً كالسب والطعن في الدين والافتراء على الله والرسول والتشبيب بنسائكم. وَإِنْ تَصْبِرُوا على ذلك، والصبر: حبس النفس على ما تكره وكظم الغيظ ومقاومة الجزع والشدة بالتقوى والرضا وَتَتَّقُوا الله بامتثال الأمر واجتناب النهي، والتقوى: الابتعاد عن المعاصي والتزام المأمورات.

_ (1) الكشاف 1/ 366 [.....]

سبب النزول:

مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من معزومات الأمور التي يعزم عليها لوجوبها. والمعنى: أن الصبر والتقوى من صواب التدبير، وقوة الإرادة، وكمال العقل والفكر، ومن الأمور المحتمة التي لا يجوز التساهل فيها. سبب النزول: نزول الآية: وَلَتَسْمَعُنَّ..: روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بسند حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص من قوله السابق: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. وذكر عبد الرزاق: أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشعر، ويحرض عليه كفار قريش في شعره. المناسبة: كانت الآيات السابقة تسلية وتعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستمرت هذه الآيات في زيادة تسليته بأن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب، فلا تضجر ولا تحزن، وإنهم سيجازون على أعمالهم يوم القيامة، فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء. وهي أيضا خطاب للمؤمنين ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا فاجأتهم بغتة، وهم مستعدون لتحملها، لم يرهقهم شيء، كما يرهق غير المؤمن فتضيق نفسه ويشمئز ويكره الحياة. التفسير والبيان: هذا إخبار عام من الله تعالى يعم جميع الخلائق بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 26- 27] فكل الجن والإنس والملائكة وحملة العرش يموتون، والله وحده الحي القيوم الذي لا يموت، ينفرد بالديمومة والبقاء، فيكون آخرا كما كان أولا.

وفي الآية تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض وفي السماء حتى يموت، وتذوق كل نفس طعم مفارقة الروح البدن. ثم يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت، من خير أو شر، وتعطى ثواب عملها الطيب كاملا غير منقوص، ويجازى المسيء الجزاء الأوفى، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال ذرة. وفي ذكر توفية الأجور على الطاعات والمعاصي إشارة إلى أن بعض الأجور من خير أو شر قد تصل إليهم في الدنيا أو في القبور، بدليل ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» . فمن نحّي عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة، فقد فاز بالمقصد الأسمى والمطلوب الأعلى الكامل، ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه» . وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» . اقرؤوا إن شئتم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. فاللهم وفقنا لما ندرك به الفوز بالجنة والنجاة من النار. وما الحياة الدنيا التي نعيشها ونستمتع بها باللذات الجسدية من طعام وشراب والمعنوية من جاه ومنصب وسمو إلا كالمتاع المشترى بخداع وتغرير، ثم يتبين فساده ورداءته لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع بها، أو لأنها حقيرة متروكة فانية زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 16- 17] وقال: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها،

وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى [القصص 28/ 60] وفي الحديث: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع» «1» . وتهوين شأن الدنيا على هذا النحو لمن آثرها على الآخرة، قال سعيد بن جبير: «إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ» «2» . فمن فضل الدنيا على الآخرة، كان كمن اشترى صفقة خاسرة، غشه فيها البائع ودلس عليه، ثم تبين له فسادها ورداءتها. ثم أراد تعالى بعد غزوة أحد توطين النفس وتربيتها على تحمل الأهوال والشدائد والمصائب، فخاطب النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين مخبرا إياهم: أن الدنيا دار ابتلاء واختبار في الأنفس والأموال ففي الأنفس: بالقتل والأسر والجراح وأنواع المخاوف والمصائب، وفي الأموال: بالإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات، وهي مثل قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 155] . وأن المسلمين ونبيهم يسمعون ما يؤذيهم أذى كثيرا من اليهود والنصارى ومشركي العرب، والأذى قد يتناول الدين والقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى قال للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من هؤلاء، وواصفا لهم العلاج الناجع وهو الصفح والصبر والعفو والتزام تقوى الله بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، فإن تحقق منهم ذلك آتاهم أجرين من رحمته لأن الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي التي ينبغي أن يعزمها كل أحد.

_ (1) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن المستورد. (2) الكشاف: 1/ 366

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الحقائق التالية: 1- الدنيا فانية، والآخرة باقية، وكل شيء هالك إلى وجه الله الكريم، وكل حي سيموت، وأن الآخرة دار الجزاء والحساب، وأن السعادة كل السعادة، في الفوز بالجنة، والنجاة من النار. ويسن عند احتضار الميت تلقينه الشهادة دون إعادة لئلا يضجر، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد: «لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله» لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة. ويستحب قراءة (يس) ذلك الوقت، لقوله عليه الصلاة والسلام: «اقرؤوا يس على موتاكم» «1» . وذكر الآجرّي من حديث أم الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هوّن عليه الموت» . ويغسل الميت إلا الشهيد ويكفّن ويصلى عليه ويدفن في التراب، ويسن الإسراع في المشي بالجنازة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدّمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم» . 2- إن إيفاء الأجور على الطاعات والعقاب على السيئات مقره يوم القيامة، فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب. 3- الدنيا غرارة تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء وهي فانية. وهي أشبه بالمتاع الحقير الذي يتمتع وينتفع به كالفأس والقدر والدلو والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه. وهذا رأي أكثر المفسرين في قوله: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ.

_ (1) أخرجه أبو داود.

أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس ومحبتهم المدح بغير موجب [سورة آل عمران (3) الآيات 187 إلى 189] :

4- لا اطمئنان إلى نعيم الدنيا ولا إلى إعراضها وفقدها، فالناس فيها في مرصد الاختبار والابتلاء في الأموال بالمصائب والأحداث، والإنفاق في سبيل الله، وسائر تكاليف الشرع، وفي الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحباب. وقد يتأذى المؤمن بطعن في قرآنه ودينه ونبيه، فعليه الصبر والاعتصام بالتقوى، والإعراض عن الطاعنين الكافرين، والثبات على العقيدة، وتحمل الشدائد والقتال في سبيل الله عند اللزوم، فقد ندب الله عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من معزوماتها التي ينبغي أن يعزمها كل أحد، وهي دليل على قوة الإرادة، ومضاء العزيمة، وعلو الهمة. قال القرطبي: عزم الأمور: شدها وصلابتها. والأظهر أن هذه الآية- كما ذكر القرطبي- ليست بمنسوخة، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا، مندوب إليها، وكان عليه الصلاة والسلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين «1» . أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس ومحبتهم المدح بغير موجب [سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 304

الإعراب:

الإعراب: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ هذه القراءة بالتاء، ويكون الَّذِينَ يَفْرَحُونَ منصوبا على أنه مفعول أول، وحذف المفعول الثاني لدلالة ما بعده عليه وهو قوله بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ ويكون قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بدلا من لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والفاء زائدة، فلا تمنع البدل، وهذا على هذه القراءة وعلى قراءة من قرأ بالياء. ومن قرأ: (يحسبن) بالياء جعل الَّذِينَ يَفْرَحُونَ في موضع رفع فاعل، والَّذِينَ: اسم موصول، ويَفْرَحُونَ: صلته، و «هم» من قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ المفعول الأول. وبِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ: في موضع المفعول الثاني، وتقديره: فائزين. ومن قرأ الأول بالياء والثاني بالتاء فلا يجوز فيه البدل لاختلاف فاعليهما، ولكن يكون مفعولا الأول قد حذفا لدلالة مفعولي الثاني عليهما. البلاغة: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا توجد استعارة في النبذ والاشتراء، إذ شبه عدم التمسك بالميثاق بالشيء المنبوذ الملقى، وشبه العمل بالبديل باشتراء عوض قليل من أموال الدنيا، مقابل كتم آيات الله. وتوجد مقابلة بين لَتُبَيِّنُنَّهُ ووَ لا تَكْتُمُونَهُ. المفردات اللغوية: وَإِذْ اذكر إذ أخذ مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد، وهو العهد المأخوذ عليهم في التوراة بواسطة الأنبياء. أُوتُوا الْكِتابَ هم اليهود والنصارى. لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار بما فيها خبر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. وَلا تَكْتُمُونَهُ أي لا تخفون الكتاب. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ طرحوا الميثاق ولم يعتدّوا به. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أخذوا بدله من الدنيا عوضا حقيرا، بسبب رياستهم في العلم، فكتموه. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ شراؤهم هذا.

سبب النزول نزول الآية (188) :

أَتَوْا بما فعلوا في إضلال الناس. أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أن يحمدهم الناس بما لم يفعلوا من التمسك بالحق، وهم على ضلال. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد. بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي بمنجاة من العذاب في الآخرة، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم فيها. سبب النزول: نزول الآية (188) : لا تَحْسَبَنَّ: روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه. وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو، تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية. وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان، فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا؟ قال رافع: نزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا وقالوا: ما حسبنا عنكم إلا شغل، فلوددنا أنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان مروان أنكر ذلك، فجزع رافع من ذلك، فقال

المناسبة:

لزيد بن ثابت: أنشدك بالله، هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم. قال الحافظ ابن حجر: يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا. المناسبة: تحدثت سورة آل عمران عن أهل الكتاب، فناقشت النصارى، وحكت أفعالا غريبة عن اليهود ومطاعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستتبع ذلك بيان غزوتي أحد وبدر، وهنا ذكرت الآيات حالا عجيبة لليهود والنصارى وهي الطعن في الدين، مع أنهم أمروا ببيان ما في كتابهم (التوراة والإنجيل) من دلائل ناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق رسالته. التفسير والبيان: هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فكتموا ذلك، وأخذوا عوضا زهيدا عنه، وفاتهم ما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» «1» . وبيان معنى الآية: اذكر يا محمد حين أخذ الله العهد المؤكد (الميثاق) على أهل الكتاب من اليهود والنصارى بوساطة الأنبياء: أن يبينوا كتابهم للناس

_ (1) رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن أبي هريرة.

ويظهروه من غير كتمان شيء منه، وألا تحريف أو تأويل لبعض نصوصه، وتبيانه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم، ولغير المؤمنين به لدعوتهم إليه. لكنهم نبذوا كتابهم وراء ظهورهم، وتركوا التوراة والإنجيل، وكان منهم فئة يحملونه دون فهم ولا وعي لما جاء فيه، وفئة أخرى حرّفوه وأولوه على غير وجهه الصحيح، واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا، أي أخذوا عوضا عنه فائدة دنيوية حقيرة كالشهرة الزائفة، والرياسة الظاهرة، والمال الزائل، فكانوا في الحقيقة مغبونين في هذا البيع أو المبادلة، إذ تركوا الغالي الثمين في الدنيا والآخرة وهو الخير الذي وعدوا به، وأخذوا التافه الحقير، وهو الرشاوى والهبات والمنح المالية ليحافظوا على كيانهم ومراكزهم. فبئس الشيء المشترى من شرائهم لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم. وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتعليمه للناس، قال علي كرّم الله وجهه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. وقال الحسن البصري: لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه. ثم بيّن تعالى موقف المرائين المتكثرين من أهل الكتاب والمنافقين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلّة» وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» . هذه حال أخرى من أحوال أهل الكتاب وغيرهم، ليحذر الله المؤمنين منها، فلا تظنن يا محمد أن الذين موّهوا الحقائق، وكتموا العلم الصحيح ودلّسوا عليك، وفرحوا بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ورأوا لأنفسهم شرفا فيه وفضلا يستحقون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه، ويشكروا على شيء بغير

فقه الحياة أو الأحكام:

موجب ولا داع للشكر، أو على أنهم أخبروك بالصدق عما سألتهم عنه، أو على ما فعل المنافقون في التخلف عن الغزو (الجهاد) وجاؤوا به من العذر، وكل ما فعلوا أنهم حولوا الحق والنور والهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وعامة الناس. فهؤلاء لا تظنن أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم شديد الألم في الدنيا بالخذلان والخسف والزلزال والطوفان وغير ذلك من الجوائح والمصائب العامة المدمرة، وفي الآخرة بحشرهم في جهنم جزاء إفكهم وتحريفهم وتبديلهم وتغييرهم كتاب الله. وذلك كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] . ثم كان قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ احتجاجا على الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، وتكذيبا لهم، فقال للمؤمنين: ولا تحزنوا أيها المؤمنون على عمل أهل الكتاب وعلى ما فاتكم من نصر، ولا تضعفوا عن القيام بالواجب، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تأخذوا عن حكم الله الصحيح عوضا مهما كثر، فإنه قليل، ولا تفرحوا على ما لم تعملوا، فإن الله يكفيكم همومكم وينصركم على أعدائكم، ويمدكم بالخير والفضل لأنه تعالى مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فإنه الأعظم والأقدر من كل شيء في هذا الوجود. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات توبيخا، وتحذيرا، واحتجاجا وتكذيبا. فهي توبيخ لأهل الكتاب الذين أمروا بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبيان أمره، فكتموا نعته. ويفهم من هذه الآية واجبات ثلاثة: توضيح العلماء كتاب الله وإفهامه للناس وإظهار ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة والخاصة، وتبيين الدين للمسلمين حتى يفهموه على حقيقته ويعرفوا أنه طريق

توجيه النفوس نحو التفكر في خلق السموات والأرض وجزاء العاملين ذكورا وإناثا [سورة آل عمران (3) الآيات 190 إلى 195] :

الخلاص الوحيد من تخلف الأمة وضعفها وفسادها، وتوضيح أحكام الدين لغير المسلمين ودعوة الناس إلى صراط مستقيم حتى يهتدوا به. وهي أيضا تحذير من أفعال أهل الكتاب والمنافقين الذين يدلسون الحقائق، ويزيفون معاني الكتب المنزلة، ويتخلفون عن الجهاد بالأعذار الواهية. وهي كذلك احتجاج على اليهود الذين نسبوا الفقر إلى الله والغنى لأنفسهم، وتكذيب لهم، ورد قاطع بأن الله مالك السموات والأرض ومن فيهن، وله القدرة الباهرة على كل شيء، والسلطان النافذ في كل شيء. توجيه النفوس نحو التفكر في خلق السموات والأرض وجزاء العاملين ذكورا وإناثا [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

الإعراب:

الإعراب: الَّذِينَ إما في موضع جر صفة لأولي الألباب، أو في موضع رفع مبتدأ، وخبره: رَبَّنا على تقدير: يقولون: ربنا، أو خبر مبتدأ محذوف، أو في موضع نصب على تقدير فعل محذوف قِياماً حال منصوب من ضمير يَذْكُرُونَ. وَعَلى جُنُوبِهِمْ حال من ضمير يَذْكُرُونَ. ويَتَفَكَّرُونَ: معطوف على يَذْكُرُونَ. باطِلًا مفعول لأجله. سُبْحانَكَ اسم مصدر منصوب انتصاب المصادر. يُنادِي جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة مُنادِياً. لِلْإِيمانِ اللام إما بمعنى إلى الإيمان، أو متعلق ب مُنادِياً أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي. أَنْ آمِنُوا منصوب ب يُنادِي أي ينادي بأن آمنوا، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به. مَعَ الْأَبْرارِ أي أبرارا مع الأبرار، وهو جمع بارّ أو برّ. عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أَنِّي لا أُضِيعُ أي بأني، فحذف حرف الجر. فَالَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ، وخبره لَأُكَفِّرَنَّ. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا: عطف على عطف. ثَواباً إما منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، كأنه قال: لأثيبنهم ثوابا، أو منصوب على القطع بتعبير الكوفيين وهو الحال عند البصريين، أو منصوب على التمييز. والوجه الأول أوجه الأوجه. وَاللَّهُ مبتدأ، وحُسْنُ الثَّوابِ مبتدأ ثان، وعِنْدِ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو اسم الله تعالى. البلاغة: رَبَّنا كرر خمس مرات مبالغة في التضرع من قبيل الإطناب. وَما لِلظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر لتخصيص الخزي بهم. وهناك طباق في قوله السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واللَّيْلِ

المفردات اللغوية:

وَالنَّهارِ وقِياماً وَقُعُوداً وذَكَرٍ أَوْ أُنْثى. وهناك إيجاز بالحذف في عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك، وفي قوله وَيَتَفَكَّرُونَ.. رَبَّنا أي قائلين ربنا. وفي الآيات جناس مغاير في قوله آمِنُوا.. فَآمَنَّا وفي عَمَلَ عامِلٍ وفي مُنادِياً يُنادِي. لَآياتٍ.. دخول اللام في خبر إن لزيادة التأكيد، والتنكير للتفخيم. المفردات اللغوية: إِنَّ فِي خَلْقِ الخلق: التقدير والترتيب الدال على النظام والإتقان. السَّماواتِ كل ما علاك مما تراه في الأعلى. وَالْأَرْضِ ما تعيش عليه، وهو بشكل كروي، كوكب دائر غير ثابت وخَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: إيجادهما من غير مثال سابق، ويشمل كل ما فيهما من العجائب. اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما ومجيء كل منهما خلف الآخر، مع زيادة ونقصان بحسب الفصول والموقع الجغرافي من الكرة الأرضية. لَآياتٍ لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته. لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول. وَعَلى جُنُوبِهِمْ مضطجعين، أي في كل حال. وعن ابن عباس: يصلون كذلك حسب الطاقة. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ليستدلوا به على قدرة صانعهما. رَبَّنا يقولون: ربنا. باطِلًا عبثا لا فائدة منه، بل دليلا على قدرتك. سُبْحانَكَ تنزيها لك عن العبث وعما لا يليق بك. أَخْزَيْتَهُ أهنته. وَما لِلظَّالِمِينَ الكافرين، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بتخصيص الخزي بهم. مِنْ أَنْصارٍ من زائدة، أي مؤيدين يمنعونهم من عذاب الله تعالى. فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استر معاصينا، واحدها ذنب: وهو مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية. وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا غطّ إساءاتنا، أي الصغائر أو أنواع التقصير في حقوق العباد، فلا تظهرها بالعقاب عليها. وَتَوَفَّنا أمتنا أي اقبض أرواحنا. مَعَ الْأَبْرارِ في جملة الأخيار المحسنين أعمالهم وهم الأنبياء والصالحون. وَآتِنا أعطنا. عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك من الرحمة والفضل. ويلاحظ أن سؤال الناس تلك الأمور هو أن يجعلهم من مستحقيه، وتكرار: رَبَّنا مبالغة في التضرع. الْمِيعادَ الوعد بالبعث والجزاء.

سبب النزول:

فَاسْتَجابَ أجاب دعاءهم لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي لا أترك ثوابه. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضكم كائن من بعض أي الذكور من الإناث وبالعكس، والجملة مؤكدة لما قبلها، أي سواء في المجازاة بالأعمال وترك تضييعها. نزلت لما قالت أم سلمة: يا رسول الله، إني لا أسمع النساء في الهجرة بشيء. فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة. فِي سَبِيلِي أي بسبب ديني وطاعتي وعبادتي. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أسترها بالمغفرة. ثَواباً مصدر مؤكد من معنى لأكفرن. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه التفات عن التكلم. حُسْنُ الثَّوابِ الجزاء. سبب النزول: نزول الآية (190) : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..: أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى به من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه، فنزلت هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ.. فليتفكروا فيها. قال ابن كثير: وهذا مشكل، فإن هذه الآية مدنية، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة «1» . نزول الآية (195) : فَاسْتَجابَ لَهُمْ: أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ. المناسبة: ختمت سورة آل عمران بهذه الآيات، بعد مجادلة الكفار والمنافقين

_ (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 438

فضل هذه الآيات:

والمقصرين من المؤمنين وردّ الشبهات، لتوجيه الأنظار نحو ما يثبت وجود الله ووحدانيته وعظمته وكبرياءه. فضل هذه الآيات: ورد في فضل هذه الآيات أحاديث كثيرة منها: ما رواه ابن مردويه وعبد بن حميد عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا، فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبكت، وقالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي، ثم قال: «ذريني أتعبد لربي عز وجل» قالت: فقلت، والله، إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة، فتوضأ، ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد، فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه، فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» . قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرءوهن وهو يعقلهن «1» . التفسير والبيان: إن في إبداع السموات والأرض، الأولى في ارتفاعها واتساعها، والثانية في انخفاضها وكثافتها وصلاحيتها للحياة، وما فيها من نظام بديع وأفلاك وكواكب

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 440 وما بعدها.

ومجرّات، وبحار وجبال وأنهار، وزروع ونبات وأشجار مثمرة وغير مثمرة، ومعادن وثروات، وتعاقب الليل والنهار مع الطول والقصر والاعتدال على مدار العام وبحسب الفصول والموقع، لأدلة دالة على وجود الله وكمال قدرته وعظمته ووحدانيته، بشرط أن يكون من ذوي العقول التامة الناضجة التي تدرك الأشياء بحقائقها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ، وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف 12/ 105- 106] . ثم وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم يجمعون بين التذكر والتفكير، يذكرون الله في مختلف أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع، لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم. ويتفكرون ويفهمون ما في السموات والأرض من أسرار ومنافع وحكم دالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ورحمته. والتفكر يكون في مصنوعات الخالق لا في الخالق، لاستحالة الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته، أخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، وهم يتفكرون، فقال: تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون الله قدره» . وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. ويقول المتفكرون الذاكرون: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا ولا أوجدته باطلا زائلا، فأنت منزه عن الباطل والعبث، وكل خلقك حق مشتمل على فائدة وحكمة وقدرة، أي أن المؤمن المتفكر بعد أن تدبر ونظر ودقق وتفكر يتوجه إلى الله تعالى متضرعا معلنا قناعته بحكمة الله العليا في خلق المخلوقات، فاجعل لنا وقاية وحاجزا من عذاب النار، وأجرنا من عذابها، ووفقنا للعمل الصالح

والاعتقاد الجازم الثابت الصحيح. ومعنى سُبْحانَ اللَّهِ: تنزيه الله عن السوء، كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث موسى بن طلحة. إن من أدخلته النار بعدلك وبسبب انحرافه وضلاله وخطئه، فقد أهنته وجعلته ذليلا لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه، وما للكافرين الظالمين أنفسهم بسبب جورهم وظلمهم أعوان ومؤيدون ينقذونهم من عذاب الله تعالى. فهو جزاء عادل لمحض الظلم وتجاوز الحدود، وإعلام بأن من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها. ربنا إننا سمعنا مناديا داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: آمنوا بربكم، فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه، أي أنهم مزجوا إيمانهم بالله وبقدرته، بالإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شرائع وأحكام وآداب وأخلاق. ربنا فاستر ذنوبنا الكبائر، وسيئاتنا الصغائر، وأكرمنا بصحبة الأخيار الصالحين، المعدودين في جملتهم، العاملين بمثل أعمالهم، كما قال تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء 4/ 69] . رَبَّنا وَآتِنا: أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، على ألسنة رسلك، أو على الإيمان والتصديق برسلك. وفي هذا إشعار بتقصيرهم، والاعتماد على توفيق الله وعنايته. ولا تفضحنا أمام الناس يوم القيامة، إنك صادق الوعد ومنجزه على الإيمان والعمل الصالح، سواء في الدنيا بالتقدم والتفوق والسيادة، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] وفي الآخرة بالفوز بالجنة، كما قال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [التوبة 9/ 72] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فأجاب الله دعاءهم، لصدق إيمانهم، وجازى كل عامل بعمله، سواء أكان ذكرا أم أنثى، فالذكور والإناث متساوون في الحقوق والواجبات، وفي الجزاء على صالح الأعمال، ولا غرابة في ذلك فهم من أصل واحد، وكل واحد من الذكور والإناث من الآخر وبالعكس، فالرجل مولود من الأنثى، والأنثى مولودة من الرجل. وبعد أن ربط الله الجزاء بالعمل أوضح مظاهر العمل، منها الهجرة في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة تأييدا لدعوة الإسلام ومؤازرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنها الإخراج والطرد من الديار، ومنها الإيذاء في سبيل الله والقتال والقتل. فهؤلاء المحسنون أعمالهم يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، أثابهم الله ثوابا من عنده جزاء العمل الصالح، وليس عند الله إلا حسن الثواب والجزاء وهو الجنة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- على الإنسان النظر والتفكر والاستدلال بعجائب صنع السموات والأرض، فهي ترشده إلى الإيمان الصحيح، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير غني عن العالمين لأن الإيمان يجب أن يستند إلى دليل يقيني يدل على تحققه ووجوده، لا إلى التقليد أو محض الوراثة. 2- قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويقرأ هذه الآيات العشر، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ثم يصلي فرض الصبح وسنته أو ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل. أخرج أبو نصر الوائلي السّجستاني الحافظ عن أبي هريرة أن

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. 3- المؤمن يلازم ذكر الله تعالى في كل أحواله، من قيام وقعود واضطجاع وغيرها، ليظل على صلة بربه، فقال سبحانه: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب 33/ 41] وقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة 2/ 152] . ويدل هذا على أن المصلي يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، كما ثبت لدى الأئمة الستة من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: «كانت بي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال: صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» والقيام فرض على القادر في صلاة الفريضة، وتصح صلاة النافلة حال القعود وأجره نصف أجر القائم، والمضطجع نصف أجر القاعد، ورد في حديث عمران بن حصين في رواية: «صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد» . والذكر إما باللسان، وإما بالصلاة فرضها ونفلها. 4- ويضم إلى الذكر عبادة أخرى هي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته لزيادة التبصر، وتقوية الإيمان. 5- صيغ الدعاء في هذه الآيات تدل على الإيمان بالله والرسول، وعلى الثقة بوعد الله ومصاحبة الأبرار، وعلى كمال الطلب بمغفرة الذنوب وستر العيوب والبعد عن النار، فإن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعدوا بذلك دون الخزي والعقاب. والدعاء على هذا النحو على جهة العبادة، والدعاء مخّ العبادة. وطلب النصر على العدو معجّلا لإعزاز الدين، روى أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وعده الله عز وجل على عمل ثوابا، فهو منجزّ له رحمة، ومن وعده على ذنب عقابا فهو فيه بالخيار» . ومعنى الدعاء بإنجاز ما وعد الله: طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب

إنجاز الميعاد، أو هو من باب اللجوء إلى الله والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم السلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه. 6- تضمن وعد الله تعالى على صدق الإيمان وصلاح الأعمال أمورا ثلاثة: أ- محو السيئات ومغفرة الذنوب، لقوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. ب- الظفر بجنان الخلد، لقوله تعالى: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. ج- اقتران الثواب بالتكريم لقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ. 7- الجزاء منوط بالعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. 8- لا فرق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب، فهما من جنس واحد، ومن نفس واحدة، وبعضهم من بعض في التكليف والأحكام والطاعة والنصرة ونحو ذلك، كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة 9/ 71] . 9- تكرار النداء ب رَبَّنا خمس مرات للاستعطاف وإظهار فضل الله بالتربية والملك والإصلاح.

الكافرون والأتقياء ومؤمنو أهل الكتاب وجزاء كل [سورة آل عمران (3) الآيات 196 إلى 200] :

الكافرون والأتقياء ومؤمنو أهل الكتاب وجزاء كل [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الإعراب: مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره: تقلبهم متاع قليل، وحذف لدلالة ما تقدم وهو قوله: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ... تَجْرِي جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لجنات، أو في موضع نصب على الحال من الضمير: لَهُمْ. خالِدِينَ منصوب على الحال من ضمير لَهُمْ نُزُلًا منصوب على المصدر، والكلام عليه بمنزلة الكلام السابق على قوله: ثَواباً. خاشِعِينَ حال من ضمير يُؤْمِنُ المرفوع أو من ضمير إِلَيْهِمْ المجرور، أو من ضمير لا يَشْتَرُونَ المرفوع، أي لا يشترون خاشعين. اصْبِرُوا وَصابِرُوا: لا يجوز أن تدغم هذه الواو الساكنة في الواو المفتوحة التي بعدها لأنها واو الضمير، وهي تنزل منزلة ألف التثنية. وجاز الإدغام في عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لأن الواو متصل، وأما واو اصْبِرُوا وَصابِرُوا فهو منفصل. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفلحون: جملة فعلية في موضع رفع خبر: «لعل» .

البلاغة:

البلاغة: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ.. استعارة، أستعير التقلب للضرب في الأرض بقصد التجارة وجلب المكاسب. المفردات اللغوية: لا يَغُرَّنَّكَ لا يخدعنك ظاهرهم من غير امتحان تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا تصرفهم في التجارات والمكاسب في البلاد مَتاعٌ قَلِيلٌ أي شيء يتمتع به صاحبه تمتعا يسيرا في الدنيا، ثم يفنى ويزول، ووصف بالقلة لأنه قصير الأمد زائل، وكل زائل قليل مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ اسم لدار الجزاء للكفار في الآخرة وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش هي، والْمِهادُ: المكان الممهد الموطأ كالفراش، والمراد به جهنم، وسميت مهادا تهكما نُزُلًا هو ما أعد للضيف من الزاد وغيره لِلْأَبْرارِ جمع بارّ وهو التقي المبالغ في التقوى والبر، أي ما عند الله من الثواب خير للصلحاء من متاع الدنيا. خاشِعِينَ خاضعين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا لا يستبدلون بما عندهم في التوراة والإنجيل من بعثة النبي عوضا من الدنيا اصْبِرُوا احبسوا أنفسكم عن الجزع مما ينالها، وعلى امتثال التكاليف الدينية وَصابِرُوا اسبقوا الكفار في الصبر على شدائد الحرب، فلا يكونوا أشد صبرا منكم. وَرابِطُوا أي أقيموا في الثغور للجهاد، مترصدين لغزو العدو ومحصنين لها وَاتَّقُوا اللَّهَ أبعدوا أنفسكم عن غضب الله وسخطه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لتفلحوا أو راجين الفلاح: وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار والظفر بالأمل المقصود من العمل. سبب النزول: نزول الآية (196) : لا يَغُرَّنَّكَ: نزلت في مشركي مكة، فإنهم كانوا في رخاء ولين من العيش، وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت الآية. نزول الآية (199) : وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ: روى النسائي عن أنس قال: لما جاء نعى النجاشي

نزول الآية (200) :

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صلوا عليه، قالوا: يا رسول الله، نصلي على عبد حبشي، فأنزل الله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. وكذلك قال جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة: نزلت في النجاشي. نزول الآية (200) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا: روى الحاكم في صحيحة: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي- مخاطبا داود بن صالح- هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا..؟ قال: قلت: لا، قال: إنه يا ابن أخي، لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم ثغر يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة. المناسبة: لما وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في دنياهم فقراء، والكفار في نعيم ورخاء، ذكر تعالى في هذه الآية ما يسلّيهم ويصبرهم على تلك الشدة، عن طريق المقارنة بين نعيمي الدنيا والآخرة، فنعيم الدنيا فان زائل، ونعيم الآخرة خالد باق. التفسير والبيان: لا تنظر إلى ما عليه الكفار من الترف والنعمة والسرور، فإن هذا سيزول عنهم قريبا، ويصبحون مرتبطين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا، وتنقلهم في البلاد للكسب والتجارة مجرد متاع قليل، يتمتعون به فترة من الزمان، ثم تصير جهنم مستقرهم ومأواهم، وبئس المقر مقرهم في جهنم. وهذا كقوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ.. غافر 40/ 4] وقوله: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ، بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس 10/ 69- 70] وقوله: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] وقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص 28/ 61] . وبعد أن ذكر حال الكفار في الدنيا وأن مآلهم إلى النار، ذكر حال المؤمنين المتقين: الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات، ولهم جنات النعيم، خالدين فيها أبدا، تكريما من عند الله، وما عند الله من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل مما يتمتع به الذين كفروا من متاع قليل فان. وهذا كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف 18/ 107- 108] . روى ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما سمّوا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا، كذا لولدك عليك حق» . ثم أخبر الله تعالى عن طائفة من أهل الكتاب اهتدوا بالقرآن، كما اهتدوا بما عندهم من هدي الأنبياء، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي، وقد وصفهم الله بصفات ممتازة هي: 1- الإيمان بالله إيمانا صادقا تاما. 2- الإيمان تفصيلا بالقرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الباقي السالم من التحريف. 3- الإيمان إجمالا بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل. 4- الخشوع لله وهو ثمرة الإيمان الصحيح، ومتى خشع القلب لله خشعت النفس كلها.

5- عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله، أي يحافظون على الوحي كما هو دون كتم شيء منه من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته وبعثته وصفة أمته دون تحريف ولا تبديل. فهؤلاء المتصفون بهذه الصفات سواء كانوا هودا أو نصارى لهم الثواب الكامل على أعمالهم وطاعاتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق، والله سريع الحساب فهو سريع الإحصاء، يحاسب الناس جميعا في وقت قصير حسابا لا خلل فيه ولا قصور، ولا مهرب ولا معقب على حكم الله. وهذا كقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص 28/ 52- 54] وقوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف 7/ 159] . هذه الصفات وجدت في بعض اليهود وهم قلة مثل عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى إلى قوله تعالى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها [المائدة 5/ 85] . ثم ختم الله تعالى هذه السورة بوصية عامة للمؤمنين تؤهلهم لإجابة الدعاء والنصر في الدنيا والثواب في الآخرة، وتتضمن الوصية: - الصبر على التكاليف الدينية ومنها الصلوات الخمس، وعلى المصائب والشدائد من مرض وفقر وخوف. - المصابرة للأعداء أي مسابقتهم إلى تحمل الشدائد والمكاره، ومصابرة الأنفس والهوى.

فقه الحياة أو الأحكام:

- المرابطة في الثغور استعدادا للقاء العدو وفي المساجد، وفي مواطن الاستعداد للجهاد على الحدود القريبة للأعداء، روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان» أي الشيطان. - تقوى الإله والخوف منه والحذر من عذابه ومراقبته في السر والعلن وامتثال المأمورات واجتناب المحظورات. ولا شك أن من يلتزم بهذه الوصية يصل إلى الفلاح والفوز بالمأمول والنجاة والظفر في الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي وهي وصايا تصلح خلاصة لما تضمنته سورة آل عمران: 1- عدم الاغترار بما عليه الكفار من سعة ورفاه ورغد عيش في الدنيا، فذلك كله إلى زوال وعذابهم قريب في نار جهنم، والباقي الخالد وهو نعيم الآخرة خير منه، والإنعام على الإنسان مع بقائه على كفره ومعاصيه استدراج، لا دليل الرضا عنه. 2- للأتقياء الطائعين جزاء حسن واف وهو الخلود في جنان الله الفسيحة، إكراما لهم. 3- إن إقدام بعض أهل الكتاب على الإيمان بالقرآن هو استمرار للإيمان بكتبهم السابقة، وهو خير لهم وأبقى.

4- الصبر على الطاعات، ومصابرة العدو والنفس والهوى، والمرابطة عند الثغور، وتقوى الله طريق الفوز والنصر في الدنيا على الأعداء، والنجاة من عذاب الله، والظفر بنعيم الآخرة.

سورة النساء:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية، وهي السورة الرابعة من القرآن الكريم. مدنيتها: روى البخاري عن عائشة قال: «ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . وبدأت حياتها مع النبي في شوال من السنة الأولى للهجرة. فضلها: روى الحاكم في مستدركه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية، وإِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ الآية. ثم قال الحاكم: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف في ذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وابن جرير الطبري عن ابن مسعود بعبارة مقاربة. مناسبتها لآل عمران: هناك أوجه شبه ووشائج صلة تربط بين السورتين أهمها:

لتسمية:

1- اختتام آل عمران بالأمر بالتقوى للمؤمنين، وافتتاح هذه السورة بذلك للناس جميعا. 2- نزول آية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.. بمناسبة غزوة أحد، مع نزول ستين آية في الغزوة في آل عمران. 3- نزول آية وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ بمناسبة غزوة حمراء الأسد بعد نزول آيات الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ في تلك الغزوة في آل عمران (172- 175) . لتسمية: سميت «سورة النساء الكبرى» لكثرة ما فيها من أحكام تتعلق بالنساء، وسميت سورة الطلاق في مقابلها «سورة النساء القصرى» . ما اشتملت عليه السورة: تضمنت السورة الكلام عن أحكام الأسرة الصغرى- الخلية الاجتماعية الأولى، والأسرة الكبرى- المجتمع الإسلامي وعلاقته بالمجتمع الإنساني، فأبانت بنحو رائع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني بكون الناس جميعا من نفس واحدة، ووضعت رقيبا على العلاقة الاجتماعية العامة بالأمر بتقوى الله في النفس والغير وفي السر والعلن. وتحدثت السورة بنحو مطول عن أحكام المرأة بنتا وزوجة، وأوضحت كمال أهلية المرأة واستقلالها بذمتها المالية عن الرجل ولو كان زوجا، وحقوقها الزوجية في الأسرة من مهر ونفقة وحسن عشرة وميراث من تركة أبيها أو زوجها، وأحكام الزواج وتقديس العلاقة الزوجية، ورابطة القرابة المحرمية والمصاهرة، وكيفية فض النزاع بين الزوجين والحرص على عقدة النكاح، وسبب

وحدة الأصل الإنساني ووحدة الزوجين ورابطة الأسرة [سورة النساء (4) آية 1] :

«قوامة الرجل» وأنها ليست سلطة استبدادية، وإنما هي غرم ومسئولية وتبعة ولتسيير شؤون هذه المؤسسة الصغيرة. ثم أوضحت السورة ميزان الروابط الاجتماعية وأنها قائمة على أساس التناصح والتكافل، والتراحم والتعاون، لتقوية بنية الأمة. وتكاملت أنماط وصور علاقة هذا المجتمع بالمجتمعات الأخرى، سواء مع الجماعات أو الدول، فحددت السورة قواعد الأخلاق والمعاملات الدولية، وبعض أحكام السلم والحرب، ونواحي محاجة أهل الكتاب ومناقشتهم، وما يستتبع ذلك من الحملة المركزة على المنافقين. وذلك كله من أجل إقامة المجتمع الفاضل في دار الإسلام وتطهيره من زيغ العقيدة وانحرافها عن «عقيدة التوحيد» العقلية الصافية إلى فكرة التثليث النصرانية المعقدة البعيدة عن حيّز الإقناع العقلي والاطمئنان النفسي، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء 4/ 171] . وحدة الأصل الإنساني ووحدة الزوجين ورابطة الأسرة [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) الإعراب: وَالْأَرْحامَ: معطوف على اسم الله تعالى، وتقديره: واتقوا الله واتقوا الأرحام أن

البلاغة:

تقطعوها. ومن قرأه بالجر فقد قال الكوفيون: إنه معطوف على الهاء في بِهِ وأباه البصريون وقالوا: ولا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار لأن المضمر المجرور كالتنوين، ولا يعطف على التنوين. ومنهم من قال: إنه مجرور بباء مقدرة لدلالة الأولى عليها. البلاغة: يوجد طباق بين قوله: رِجالًا وَنِساءً ويوجد إيجاز في قوله: رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي ونساء كثيرات. المفردات اللغوية: النَّاسُ اسم للجنس البشري، واحده من غير لفظه: إنسان. اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي اتقوا عقابه بأن تطيعوه مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء، من ضلع من أضلاعه اليسرى وَبَثَّ فرق ونشر مِنْهُما من آدم وحواء من طريق التناسل والتوالد رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً كثيرات تَسائَلُونَ أي تتساءلون، أي يسأل بعضكم بعضا بأن يقول: سألتك بالله أن تفعل كذا، وأسألك بالله، وأنشدك بالله وَالْأَرْحامَ جمع رحم، وهي هنا القرابة من جهة الأب أو الأم، أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، والمراد: خافوا حق إضاعة الأرحام. ومن قرأ بالجر عطفه على الضمير في بِهِ وكانوا يتناشدون بالرحم رَقِيباً أي مشرفا والمراد: حافظا لأعمالكم، فيجازيكم بها، وهو لا يزال متصفا بذلك، فهو الحفيظ المطلع العالم بكل شيء. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى الناس العقلاء بتقواه بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات في كل ماله صلة بعبادته وحده لا شريك له وبحقوق العباد، ويؤكد الأمر بالتقوى بما يحمل على الامتثال، بذكر الربوبية المضافة إلى المخاطبين التي تربيهم بنعمه وتفيض عليهم من إحسانه، ثم ذكر لفظ الله في الأمر الثاني بالتقوى، لأن الله علم المهابة والجلالة، ثم التذكير بأنه خالقهم، والتنبيه على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، فهم من أصل واحد كلهم لآدم وآدم من تراب، وأنه خلق من تلك النفس زوجها وتناسل منهما البشر ذكورا وإناثا، وجعل من تلك الذرية رابطة الأسرة القائمة على الرحم وصلة الدم والقرابة مما يدعوهم إلى التراحم

والتعاون. وكل ذلك دليل على القدرة الإلهية الباهرة التي تستوجب التقوى، وتحذر من العقاب، كما أن نعمة القرابة تدعو إليها عرفانا بالوفاء وقياما بحق الشكر لأن القرابة دعم وصلة وتعاطف وود ومحبة تشعر الإنسان بالسعادة، وتجعله يحس بالقوة المعنوية في المجتمع، فيسر بسرور أسرته ويحزن بحزنها، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور: «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها..» . وفي التذكير بالأصل الإنساني الواحد دلالة على وجوب التزام حدود الإنسانية، وأن الإنسان أخ الإنسان أحب أم كره، والأخوة تقتضي المسالمة والتعاون ونبذ المحاربة والخصومة والتقاطع. والمقصود بالنفس الواحدة في رأي جمهور العلماء: آدم عليه السلام الذي هو أبو البشر، وأنه ليس هناك سوى آدم واحد، أما من يدعي وجود أوادم قبله، فهو يصادم ظواهر القرآن الكريم. والمقصود بالزوج هو حواء، وقد خلقت من ضلع آدم الأيسر، وهو نائم، فاستيقظ، فرآها فأعجبته، وأنس إليها وأنست إليه، بدليل الحديث الصحيح عند الشيخين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج» . وذهب بعض العلماء كأبي مسلم الأصفهاني إلى أن المراد: أنه خلق من جنسها زوجها، فهما من جنس واحد، وطبيعة واحدة، وأي فائدة من خلقها من الضلع لأنه سبحانه وتعالى قادر على خلقها كآدم من التراب؟ واستدل بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [الروم 30/ 21] أي من جنسكم، مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة 62/ 2] أي من جنسهم، ومثل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ويرد عليه بأن ذلك مخالف لما دل عليه الحديث الصحيح المتقدم، وتكون الحكمة هي إظهار قدرة الله على أن يخلق حيا من حي، لا على سبيل التوالد، كقدرته على أن يخلق حيا من جماد. ثم بين الله تعالى طريق تكاثر النوع الإنساني، فذكر أنه نشر وفرق من آدم وحواء نوعي جنس البشر وهما الذكور والإناث التي تفرع منهما الإنسان الذي سكن الأرض وعمرها. ثم أكد تعالى الأمر السابق بالتقوى من طريق سؤال الناس بعضهم بعضا بالله لقضاء حوائجهم، فذلك السؤال بالله يدل على الإيمان به وتعظيمه، فيقول: سألتك بالله أن تقضي هذه الحاجة، راجيا إجابة طلبه، فهذا القول من موجبات امتثال أوامر الله، ومن امتثل ذلك اتقى الله وحذر مخالفة أوامره واجتنب نواهيه. وكما يجب اتقاء الله يجب اتقاء قطع الأرحام، أي اتقوا الله الذي تتساءلون باسمه إيمانا به وتعظيما له، واتقوا الأرحام، أي صلوها بالود والإحسان ولا تقطعوها، فإن قطعها مما يجب أن يتقى. ثم ختم تعالى الآية بإعلامه أنه مطلع على كل شيء رقيب حفيظ لكل عمل وحال، فلا يشرع لنا إلا ما به حفظنا ومصلحتنا، وهو البصير بأحوالنا. وهذا في موضع التعليل للأمر بالتقوى ووجوب الامتثال. وهذه الخاتمة مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة 58/ 6] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى أحكام كثيرة: 1- وجوب التزام التقوى التي هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات. وقد أكد تعالى الأمر بها حثا عليها، فعبّر أولا للترغيب بلفظ (الرب) الذي

يدل على التربية والعناية والإنعام والإحسان، ثم للترهيب بلفظ اللَّهَ الذي يدل على الهيبة والجلال، وهو مصداق قوله تعالى: يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً هذا بالإضافة لمؤكدات أخرى كالسؤال بالله على سبيل الاستعطاف مما يدل على الإيمان بالله وتعظيمه، وكرقابة الله واطلاعه على جميع أحوال الناس وأعمالهم، مما يقتضي الاتقاء والحذر من العصيان والمخالفة للأوامر والنواهي. 2- كون البشرية من أصل واحد ومنشأ واحد، أبوهم آدم وآدم من تراب، فهي النفس الواحدة، ووحدتها تقتضي جعل الأسرة الإنسانية متراحمة متعاونة متحابة غير متعادية ولا متخاصمة ولا متقاطعة. 3- المراد بالنفس الواحدة آدم أبو البشر عليه السلام، والنفس هنا هي الجسم والروح. وللجسم أو الجسد وظائف عضوية مادية، وللنفس وظائف روحية ومعنوية، وآثار محسوسة مثل العقل والحفظ والتذكير. واختلف العلماء المسلمون في حقيقة النفس أو الروح على رأيين: رأي يقول: إنها حالة تعرض للجسم ما دام حيا، والرأي الأشهر: أنها جسم نوراني علويّ خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في النبات، منفصل عن الجسم، متصل به في حال الحياة. وافتتاح السورة ب أَيُّهَا النَّاسُ بالرغم من أن السورة مدنية براعة استهلال لما في السورة من أحكام الزواج والمواريث والحقوق الزوجية، وأحكام المصاهرة والرضاع وغيرها من أحكام الرابطة الإنسانية. والغالب إذا كان الخطاب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ وكان الخطاب للكافرين فقط أو معهم غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم. 4- المرأة جزء حقيقي من الرجل، منه خلقت، وإليه تعود، يأنس كل منهما بالآخر، ويألفه ويحن إليه، سواء أكانت المرأة أما أم أختا أم بنتا أم

زوجة، مما يوجب دوام التعاون بينهما في مسيرة الحياة، ويدل على تكامل الكون بوجود عنصري الذكورة والأنوثة، ويبرهن على أنهما مصدر بقاء النوع الإنساني، كما جاء في الآية: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. 5- جواز المساءلة بالله تعالى، روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم: «من سألكم بالله فأعطوه» . 6- تعظيم رابطة القرابة وحق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها، سواء أكانت من جهة الأب أم من جهة الأم إذ قرن الله الأرحام باسمه تعالى، وحذر من قطيعة الرحم في آية أخرى هي: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد 47/ 22] فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض. واتفق المسلمون على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرّمة، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأسماء، وقد سألته: «أأصل أمي» : «نعم صلي أمك» فأمرها بصلتها وهي كافرة مشركة. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: أما ترضين أني أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك» . والرحم هنا: اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم كالأخت والخالة وغيره، كابن العم. وتدل الآية أيضا على جواز التساؤل بالأرحام، على قراءة إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة: «الأرحام» بالجر، وليس في ذلك حلف بغير الله لأن قول الرجل لصاحبه: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف والتأكيد، فهو ليس بيمين، فلا يكون من المنهي عنه في حديث الشيخين عنه صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .

إيتاء اليتامى أموالهم وتحريم أكلها [سورة النساء (4) آية 2] :

7- دل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً على مراقبة الله في السر والعلن، فهو إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر- وهم مجتابو النمار أي من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر، فقال في خطبته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ حتى ختم الآية، ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر 59/ 18] ثم حضهم على الصدقة فقال: «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره» الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود. إيتاء اليتامى أموالهم وتحريم أكلها [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) البلاغة: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مجاز مرسل باعتبار ما كان، أي أتوا الذين كانوا يتامى. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ: الباء داخلة على المتروك، كما هو المقرر لغة، وفيهما طباق. المفردات اللغوية: الْيَتامى جمع يتيم: وهو من فقد أباه، وهو شرعا وعرفا مختص بمن كان دون البلوغ،

سبب النزول:

ويكون المراد: آتوا الصغار الذين لا أب لهم أَمْوالَهُمْ إذا بلغوا الْخَبِيثَ الحرام بِالطَّيِّبِ الحلال، أي لا تأخذوا بدل الطيب الحلال مالا حراما، كما تفعلون من أخذ الجيد من مال اليتيم، وجعل الرديء من مالكم مكانه. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي لا تجعلوها مضمومة إليها إِنَّهُ أي أكلها كانَ حُوباً كَبِيراً إثما وذنبا عظيما. سبب النزول: قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه، فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من يوق شح نفسه ورجع به هكذا، فإنه يحلّ داره، يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله تعالى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ثبت الأجر وبقي الوزر، فقالوا: يا رسول الله، قد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر، وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده «1» . التفسير والبيان: موضوع الآية: يأمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم. والخطاب للأوصياء ما دام المال بأيديهم واليتامى عندهم. وهذا شروع في بيان أحوال التقوى، وأولها الحفاظ على مال الأيتام الضعفاء، بعد تذكير الله بصلة الرحم والقرابة.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 81

والمعنى: يا أيها الأوصياء على اليتامى، أعطوا الأيتام أموالهم بعد البلوغ كاملة غير منقوصة، وأنفقوا عليهم في حال أصغر من أموالهم، ولا تضموا شيئا منها إلى أموالكم، وعبر بالأكل عن سائر التصرفات المتلفة للأموال وسائر وجوه الانتفاع لأن معظم ما يقع من التصرفات لأجل الأكل. وقوله: إِلى بمعنى «مع» أو بمعناها الحقيقي أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل. فإنكم إن فعلتم ذلك استبدلتم بالحلال وهو مالكم المكتسب من فضل الله، الحرام وهو مال الأيتام، ويكون هذا الأكل ذنبا عظيما وإثما كبيرا. روي أنهم كانوا يضعون الشاة الهزيلة ويأخذون بدلها شاة سمينة، فنهوا عن ذلك. واليتيم: من مات أبوه مطلقا، ولكن خصص في الشرع والعرف كما بينت بالصغير، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أبو داود عن علي رضي الله عنه-: «لا يتم بعد احتلام» . وليست الآية في إيتاء اليتامى أموالهم على ظاهرها، فلا يعطونها قبل البلوغ، ويكون إيتاء الأموال مجازا عن تركها سالمة من غير أن يتعرض لها بسوء، بدليل الآية الأخرى: وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا صلاحيتهم لتسلم أموالهم عند البلوغ، فهذه الآية حث على تسليم المال فعلا عند حصول البلوغ والرشد، وأما الآية: وَآتُوا الْيَتامى فهي حث على حفظ أموال اليتامى لتسلم لهم عند بلوغهم ورشدهم. والأولى أن يكون الإيتاء مستعملا بمعناه الحقيقي وهو الإعطاء بالفعل، وتكون كلمة الْيَتامى مجازا باعتبار ما كان، وعبر باليتامى لقرب العهد بالصغر، وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم لأن اليتم ضعف، وهو يستدعي الرحمة والعفة، حتى كأن اسم اليتم باق بعد البلوغ، وهذا المعنى يسمى في أصول الفقه بإشارة النص.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: قال مجاهد: وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها، فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة 2/ 220] . وليس المراد بالآية إيتاء اليتامى أموالهم في حال اليتم، وإلا تعرضت للضياع، وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، عملا بالآية التالية: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 6] . قال الجصاص الرازي الحنفي: أطلق الله تعالى في آية: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إيجاب دفع المال من غير قرينة الرشد، ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم، والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة، وأمكن استعمالهما على فائدتهما، لم يجز لنا الاقتصار بهما على فائدة إحداهما، وإسقاط فائدة الأخرى. ثم ذكر الجصاص رأي أبي حنيفة: وهو وجوب تسليم المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة على أي حال كان، فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد، وجب دفع المال إليه، لقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد، لاتفاق أهل العلم على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه «1» . وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدّا، فإذا صار يصلح أن يكون جدا، فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتم؟! وهل ذلك إلا في غاية البعد؟

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 49

إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ووجوب إيتاء المهر [سورة النساء (4) الآيات 3 إلى 4] :

ورد ابن العربي على ذلك الرأي فقال: الحكم بخمس وعشرين سنة لا وجه له، لا سيما وأبو حنيفة يرى المقدّرات لا تثبت قياسا، وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة نص ولا قول من جميع وجوهه، ولا يشهد له المعنى «1» . والخلاصة: دلت الآية على أمرين: 1- وجوب دفع أموال اليتامى لهم عند توافر الأهلية الملائمة لإدارة الأموال. 2- كل وجوه الانتفاع ومنها الأكل بمال اليتيم حرام ومن كبائر الذنوب العظيمة إلا عند الحاجة، عملا بالآية التالية: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء 4/ 6] . إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ووجوب إيتاء المهر [سورة النساء (4) : الآيات 3 الى 4] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) الإعراب: فِي الْيَتامى أي في نكاح اليتامى، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ منصوب على البدل من ما للعدل والوصف، أي أن الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد، معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة، وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها، فمثنى

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 309

المفردات اللغوية:

تدل على اثنين اثنين، وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة، ورباع تدل على أربعة أربعة. ويصح كونها منصوبا على الحال من فاعل طاب أو من مرجعه. فَواحِدَةً أي فانكحوا واحدة، وهو جواب الشرط في قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا وقرئ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره: فهي واحدة، أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فامرأة واحدة تقنع، والأول أولى. نِحْلَةً منصوب على المصدر نَفْساً منصوب على التمييز هَنِيئاً مَرِيئاً: حالان من هاء فَكُلُوهُ وهي تعود على شيء. والواو في فَكُلُوهُ تعود على الأولياء أو على الأزواج. المفردات اللغوية: تُقْسِطُوا تعدلوا ولم تظلموا، من أقسط: عدل، مثل قوله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وأما قسط: فمعناه جار، قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. ما طابَ لَكُمْ ما مال إليه القلب منهن. مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ هذه ألفاظ عدد معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فيهن بالنفقة والقسم في المبيت والمعاملة فَواحِدَةً أي انكحوا واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اقتصروا على ما ملكتم من الإماء، إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات. ذلِكَ أي نكاح الأربع فقط أو الواحدة أو التسري أَدْنى أقرب إلى أَلَّا تَعْدِلُوا تجوروا، أي ذلك أقرب إلى عدم العول والجور. وَآتُوا أعطوا صَدُقاتِهِنَّ مهورهن، جمع صدقة نِحْلَةً عطية وهبة عن طيب نفس فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً تمييز محول عن الفاعل، أي طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق، فوهبنه لكم هَنِيئاً مَرِيئاً الهنيء: ما يستلذه الآكل، والمريء: ما تحسن عاقبته وهضمه وتغذيته، أي أنه محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة. سبب النزول: نزول الآية (3) : وَإِنْ خِفْتُمْ: روى الصحيحان والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عروة بن الزّبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن هذه الآية،

نزول الآية (4) :

فقالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها، يشركها في مالها، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد أن يتزوّجها من غير أن يقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطى أترابها من الصداق، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع. وقال سعيد بن جبير وقتادة والرّبيع والضّحّاك والسّدّي: كانوا يتحرّجون عن أموال اليتامى ويترخّصون في النّساء، ويتزوّجون ما شاؤوا، فربّما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن اليتامى، فنزلت آية اليتامى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية، أنزل الله تعالى أيضا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يقول: كما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهنّ، فلا تتزوّجوا أكثر ما يمكنكم القيام بحقهنّ لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز. وهذا قول ابن عبّاس في رواية الوالبي (علي بن ربيعة بن نضلة ثقة من كبار الثالثة) . نزول الآية (4) : وَآتُوا النِّساءَ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوّج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، فأنزل: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. التفسير والبيان: موضوع الآية يتحدد بحسب النزول فهو إما في التزوّج بالنساء غير اليتيمات، أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه. وإما في العدل بين النساء ومنع إلحاق الظلم بهنّ حالة التعدد، أي أنه لما نزلت آية: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تحرج الأولياء من ولايتهم مع أنهم كانوا

لا يتحرّجون من ترك العدل في حقوق النساء، حيث كان تحت الرجل عشرة منهن، لا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى، فتحرجتم، فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء، وقللوا عدد المنكوحات منهن لأن من تحرّج من ذنب، وهو مرتكب مثله، فهو غير متحرج. والمراد من الخوف: العلم، عبر بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا. أي إن علمتم وأحسستم من أنفسكم إلحاق الظلم باليتامى بعدم إعطائهن مهورهن، أو بأكل أموال الأيتام بالباطل، فعليكم ألا تتزوّجوا باليتيمة، وتزوّجوا بغيرها من النساء واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا، أو عليكم أن تعدلوا بين النساء حال التعدد، فلا تتزوجوا بأكثر من أربع لتتمكنوا من العدل والقسم بينهن، وتكون أحوال الرجال زمرا متنوعة، فمنهم من يتزوّج اثنتين، ومنهم من يتزوّج ثلاثا، ومنهم من يتزوّج أربعا، وعدد الأربع هو الحدّ الأقصى الذي يمكن معه العدل بين الزوجات. والأمر في قوله: فَانْكِحُوا للإباحة، مثل قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة 2/ 187 وغيرها] ، وقيل: للوجوب أي وجوب الاقتصار على العدد المأخوذ من قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا وجوب أصل النكاح. وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ تدلّ كلّ كلمة منها على المكرر من نوعها، فمثنى تدلّ على اثنين اثنين، وثلاث تدلّ على ثلاثة ثلاثة، ورباع تدلّ على أربعة أربعة، والمراد منها الإذن لكلّ من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور، متّفقين فيه أو مختلفين. ثمّ أكّد الله تعالى ضرورة التزام العدل بين الزوجات المتعددات، المفهوم من قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ... فذكر أنه إن خفتم ألا تعدلوا حال تعدّد الزوّجات،

فعليكم أن تلزموا الزوّاج بواحدة، فإن الذي يباح له التعدّد هو من يثق بنفسه بتحقيق العدل المأمور به صراحة في قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء 4/ 129] . وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب، ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدّد بوجه ما. والخوف من عدم العدل يشمل حال الظنّ والشّك في ذلك. فإما أن تقتصروا على واحدة من الحرائر أو تقتصروا على الاستمتاع بما تشاؤون من الإماء (السّراري) بطريق التّسري لا بطريق النكاح لعدم وجوب العدل بينهن، وإنما المطلوب فقط حقّ الكفاية في نفقة المعيشة بحسب العرف. ذلك أي اختيار الواحدة أو التّسري أقرب إلى الوقوع في عدم الجور والظلم، فالمراد من قوله: أَلَّا تَعُولُوا ألا تجوروا. وحكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه فسّر أَلَّا تَعُولُوا بألا تكثر عيالكم، نقل الكسائي والأصمعي والأزهري عن فصحاء العرب: عال يعول: إذا كثرت عياله. والخلاصة: إن البعد عن الجور سبب في تشريع الاقتصار على واحدة أو على التّسري، وفيه إشارة إلى اشتراط العدل بين الزوجات. والعدل المطلوب بين النساء هو العدل المادي أي القسم بينهن في المبيت، والتّسوية في نفقات المعيشة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن. أما العدل المعنوي أو الأمر القلبي وهو الميل والحبّ فغير مطلوب لأنه ليس في وسع الإنسان ولا يدخل في حدود طاقته. لذا كان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يميل إلى عائشة أكثر من غيرها يقول فيما ذكرته السنن عن عائشة: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» أي من ميل القلب. وإذا خاف الشخص عدم العدل حرم عليه أن يتزوّج أكثر من واحدة. ثم خاطب الله الأزواج فأمرهم بإعطاء الزّوجات مهورهن عن طيب نفس دون تلكؤ، رمزا للمودّة التي تقوم بين الزّوجين، وعنوانا على المحبة وتكريم

فقه الحياة أو الأحكام:

المرأة. ذهب ابن عبّاس إلى أن الخطاب في هذه الآية: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ للأزواج، وكان الرجل يتزوّج بلا مهر، يقول: أرثك وترثينني، فتقول: نعم، فأمروا أن يسرعوا إلى إيتاء المهور. وقيل: الخطاب للأولياء، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرّجل إذا زوّج أيّما (وهي المرأة التي لا زوج لها) أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، ونزلت: وَآتُوا النِّساءَ. فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من المهر من غير ضرار ولا خديعة، فكلوه هنيئا مريئا، أي يحلّ لكم ذلك ولا ذنب عليكم في أخذه، لا تخافون في الدّنيا مطالبة، ولا في الآخرة تبعة. وعبر بالأكل وأراد حلّ التصرّف فيه، وخصّ الأكل بالذّكر لأنه معظم وجوه التّصرفات المالية، كما في قوله تعالى المتقدم: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت آية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا على ما يأتي: 1- وجوب التزام العدل في كلّ شيء، سواء في الإشراف على أموال اليتامى، أو في الزّواج بهن، أو في أثناء تعدّد الزوجات من غير اليتيمات، قال ابن عبّاس وابن جبير وغيرهما: المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا في النّساء لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى، ولا يتحرّجون في النّساء. وقالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ

فِيهِنَّ، وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ قالت: وقوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ المراد منه هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ والمعنى: وإن علمتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى اللاتي تلونهن، فانكحوا، ما مالت إليه نفوسكم من النّساء غيرهنّ. والمقصود النّهي عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل. 2- الآية على تأويل عائشة هذا تشهد لمن قال: إن لغير الأب والجدّ أن يزوّج الصغيرة أو يتزوّجها لأنها على هذا التأويل نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ولا يقسط لها في الصداق، وأقرب ولي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوّجها هو «ابن العم» . وعليه تكون الآية متضمنة جواز أن يتزوّج ابن العم اليتيمة التي في حجره. وإذا جاز له أن يتزوّجها، فإما أن يلي هو النكاح بنفسه، وإما أن يزوّجه إياها أخوها مثلا. وأيّا ما كان فلغير الأب والجدّ أن يزوّج الصغيرة. وأما من قال من الأئمة: لا يزوج الصغيرة إلا الأب أو الجد، يحمل الآية على أحد التّأويلين الآخرين (عدم الإقساط في مهرها، أو التّحرّج في ولاية الأيتام) أو يحمل اليتامى على الكبار منهن، وعلى طريق المجاز المرسل باعتبار ما كان لقرب عهدهن باليتيم. 3- تعلّق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وقال: إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي المرأة مطلقة لا يتيمة، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطّها عن صداق مثلها لأنها تختار ذلك، فيجوز إجماعا. وذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ

وتستأمر، لقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فكذلك اسم النساء، والمرأة لا يتناول الصغيرة. وقد قال: فِي يَتامَى النِّساءِ والمراد به هناك: اليتامى هنا، كما قالت عائشة رضي الله عنها، فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية، فلا تزوّج إلا بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها، لكن لا تزوّج إلا بإذنها، كما رواه الدّارقطني عن ابن عمر، قال: زوّجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال قدامة: يا رسول الله، ابنة أخي، وأنا وصي أبيها، ولم أقصّر بها، زوّجتها من قد علمت فضله وقرابته. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها» فنزعت مني وزوّجها المغيرة بن شعبة. 4- دلّ تفسير عائشة للآية على وجوب صداق المثل إذا فسد تعيين الصداق ووقع الغبن في مقداره، لقولها: «بأدنى من سنّة صداقها» . 5- إذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها، جاز له أن يتزوّجها، ويكون هو النكاح والمنكح، على ما فسّرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور، أي أنه يمكن انعقاد الزواج بعاقد واحد. وقال زفر والشافعي: لا يجوز له أن يتزوّجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها منه وليّ لها غيره لأن الولاية شرط من شروط العقد، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه البيهقي عن عمران وعن عائشة: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب، أي لا بدّ من تعدد العاقد. 6- في الآية دلالة على جواز تعدد الزوجات إلى أربع، وأنه لا يجوز التّزوج بأكثر من أربعة مجتمعات في عصمة رجل واحد لأن هذا العدد قد ذكر في مقام

التوسعة على المخاطبين، فلو كان وراء هذا العدد مباح، لاقتضى المقام ذكره. ولا يدلّ هذا العدد: مثنى وثلاث ورباع على إباحة تسع، وعضد ذلك بأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. ويرده إجماع الصحابة والتابعين على الاقتصار على أربع، ولم يخالف في ذلك أحد، وأخرج مالك في موطئه والنسائي والدّارقطني في سننهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لغيلان بن أميّة الثقفي، وقد أسلم وتحته عشر نسوة: «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن» . 7- وتمسّك الإمام مالك وداود الظاهري والطبري بظاهر هذه الآية في مشروعية نكاح الأربع للأحرار والعبيد، على حدّ سواء، فالعبيد داخلون في الخطاب بقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ.. فيجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار، ولا يتوقّف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح. وذهب الحنفية والشافعية إلى أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين، لما روى الليث عن الحكم قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين. قالوا: والخطاب في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ.. لا يتناول العبيد لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها، والعبد لا يملك ذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه عن ابن عمر: «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر» . ولأن قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لا يمكن أن يدخل فيه العبيد، لعدم الملك، وكذلك قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ.. لا يشمل العبيد لأن العبد لا يتملك، بل يكون الشيء الموهوب له لسيّده، فيكون الآكل السيّد لا العبد.

وما عقوبة الذي يتزوّج خامسة وعنده أربع؟ اختلف العلماء، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: عليه الحدّ إن كان عالما. وقال الزّهري: يرجم إذا كان عالما، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها، ويفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدا. وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه في شيء من ذلك. وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) : يحدّ في ذات الزواج المحرّم ولا يحدّ في غير ذلك من النّكاح، مثل أن يتزوّج مجوسية أو خمسة في عقد، أو تزوّج متعة أو تزوّج بغير شهود، أو أمة تزوّجها بغير إذن مولاها. 7- الاقتصار على امرأة واحدة واجب عند خوف الظلم لأن معنى قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً: إن خفتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فمن خاف من ذلك، فليقتصر على واحدة أو على الجواري السّراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج. وأرشدت الآية: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ إلى ما يأتي: 1- وجوب المهر للزّوجة: إن الفروج لا تستباح إلا بصداق يلزم، سواء أسمي ذلك في العقد أم لم يسمّ. وإن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع لأن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركة بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزّوجة المهر، فكان ذلك عطية من الله ابتداء. وهذا مجمع عليه ولا خلاف فيه: ونظير الآية قوله: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء 4/ 25] أي أعطوهن مهورهن.

وأجمع العلماء أيضا على أنه لا حدّ لكثير المهر، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً. 2- التنازل عن المهر: يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها أو جزءا منه، سواء أكان مقبوضا معينا أم كان في الذمة، فشمل ذلك الهبة والإبراء. ولكن ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: فَإِنْ طِبْنَ ولم يقل: فإن وهبن، إعلاما بأن المراعى في ذلك التنازل عن المهر طيبة به نفسها من غير إكراه مادي أو أدبي، أو سوء معاشرة، أو خديعة. ويدلّ عموم قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ على أن هبة المرأة صداقها لزوجها جائزة، سواء أكانت بكرا أم ثيّبا. وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها، وجعل ذلك للولي، مع أن الملك لها. واتّفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها، نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه. وإن تنازلت المرأة عن شيء من صداقها بشرط عند عقد النّكاح ألّا يتزوّج عليها، ثمّ تزوّج عليها، فلا شيء لها في رواية ابن القاسم عن مالك لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه. وقال ابن عبد الحكم: إن خالف هذا الشرط، رجعت عليه بتمام صداق مثلها لأنه شرط عليه نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا، كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الحاكم عن أنس وعائشة: المسلمون عند شروطهم» . 3- إباحة أخذ الزّوج المهر: يحلّ للزّوج أخذ ما وهبت زوجته بالشّرط السابق: «طيب النّفس» من غير أن يكون عليه تبعة في الدّنيا والآخرة.

الحكمة من تعدد الزوجات:

وليس المقصود من قوله: فَكُلُوهُ صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان. وهو معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ليس المراد نفس الأكل إلّا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتّع بالمال عبّر عن «التّصرفات» بالأكل. ونظيره قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة 62/ 9] إن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النّكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى. 4- إيجاب المهر في الخلوة الصحيحة: احتجّ الجصاص «1» بقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة، ولو طلقت قبل الدخول (المساس) . ويلاحظ أن الآية عامة في كلّ النساء، سواء المخلو بها وغيرها إلّا أن قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ يدلّ على أنه لا يجب للمخلو بها إلّا نصف المهر، وهذه الآية خاصة، والخاص مقدم على العام. الحكمة من تعدد الزوجات: الوضع الطبيعي وهو الأشرف والأفضل أن يكون للرجل زوجة واحدة، لأن الغيرة مشتركة بين الزوج والزوجة، فكما أن الزوج يغار على زوجته، كذلك الزوجة تغار على زوجها. ولكن الإسلام أباح التعدّد لضرورة أو حاجة وقيّده بقيود: القدرة على الإنفاق، والعدل بين الزّوجات، والمعاشرة بالمعروف. والإباحة لأحوال استثنائية منها:

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 57

أسباب تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:

1- عقم الزوجة: الرّجل بالفطرة يحبّ 7 نجاب الولد وأن تذهب ثروته ونتيجة جهوده لأولاده فإذا كانت المرأة عاقرا لا تلد، فأيهما أولى: الطلاق أم تعدد الزوجات؟ لا شك بأن الزواج من امرأة ثانية أخفّ ضررا على الزوجة الأولى بشرط صون كرامتها، وأداء حقوقها كاملة غير منقوصة. 2- كثرة النساء: إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في غالب البلاد، وقد تكثر النساء ويقل الرجال عقب أزمات الحروب، فيكون الأفضل تعدد الزوجات تحقيقا لعفاف المرأة وصونا لها عن ارتكاب الفاحشة، وتطهيرا للمجتمع من آثار الزنى وما يعقبه من انتشار الأمراض وكثرة المشردين واللقطاء. 3- الحالة الجنسية: قد تصاب المرأة بالبرود الجنسي ولا سيما عقب بلوغ سن اليأس أو قبله عند استئصال الرحم بسبب مرض. وقد يكون الرجل ذا قدرة جنسية زائدة أو شبق دائم مستمر، وهو لا يكتفي بامرأة واحدة، لعدم استجابتها أحيانا، أو لطروء الحيض عليها أسبوعا في كل شهر على الأقل، فيكون اللجوء للتزوج بزوجة ثانية حاجزا له عن الوقوع في الزنى الذي يضيّع الدّين والمال والصّحة، ويسيء إلى السّمعة. أما إساءة استعمال بعض المسلمين إباحة تعدّد الزوجات كالانتقام من الزوجة السابقة، أو لمجرّد الشّهوة، لا لهدف مما ذكر، فهو تصرّف شخصي لا يسيء إلى الأصول والمبادئ الإسلامية التي أباحت التعدّد مقيّدا بقيود معينة. وعلى كلّ حال، نادى كثير من فلاسفة الغرب بتعدّد الزّوجات، وهو لا شكّ أفضل بكثير من تعدّد العشيقات والمخادنات، وأما الطلاق فهو واقع في كلّ ديار الغرب لأسباب كثيرة بل تافهة يترفّع المسلمون عن مجاراتهم فيها. أسباب تعدّد زوجات النّبي صلّى الله عليه وسلّم: لم يعدد النّبي صلّى الله عليه وسلّم زوجاته إلى تسع بقصد شهواني أو لمتعة جنسية، واقتصر

على واحدة هي السيّدة خديجة أم المؤمنين إلى نهاية الكهولة وهي سنّ الرابعة والخمسين من عمره الشريف، وبعد هذه السّن تقل الرّغبة بالنّساء عادة، وكان أكثرهن ثيّبات لا أبكارا. وإنما كان تعدّد زوجاته لأغراض إنسانيّة واجتماعيّة وإسلاميّة، فقد يتزوّج امرأة بتزويج الله له كزينب بنت جحش لإبطال عادة التّبني، وقد يتزوّج امرأة لتعويضها عن زوجها الذي فقدته بسبب الهجرة أو الجهاد في سبيل الله، وقد يتزوّج من القبائل لتقوية رابطتهم بالإسلام، وربّما كان زواجه أحيانا بقصد نشر الإسلام بين القبائل العربية، فتكون مصاهرته لقبيلة مثل زواجه بجويرية بنت الحارث سببا في اعتناقها الإسلام، فدخل بنو المصطلق في الإسلام بسبب جويرية، وكان في هذا التعدّد فوائد كثيرة من أهمها تعليم نساء المسلمين الأحكام الخاصة بالنّساء أو الخاصة بين الزّوجين، وجعلهنّ قدوة في تطبيق الأحكام الإسلامية المتعلّقة بالأسرة وغيرها لأنه عليه الصلاة والسّلام القدوة الحسنة للمسلمين في أخلاقه ومعاشرته وسلوكه وعبادته ونحو ذلك. والخلاصة: إن تعدّد الزّوجات في الإسلام أمر تلجئ إليه الضرورة، أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة، وإصلاح مفاسده أولى من إلغائه، ولا يجرأ أحد على الإلغاء لأن النصوص الشرعية تدلّ صراحة على إباحته، وتعطيل النّص أو الخروج عليه أمر منكر حرام في شرع الله ودينه. والنّبي صلّى الله عليه وسلّم راعى الحكمة البالغة والمصلحة الإسلامية في اختيار كل زوجة من زوجاته، فأما خديجة فهي الزوجة الأولى التي رزق منها الأولاد، وذلك متّفق مع سنّة الفطرة. وأما سودة بنت زمعة، فلتعويضها عن زوجها بعد رجوعها من هجرة الحبشة الثانية، وهي من المهاجرات الأوليّات، فلو عادت إلى أهلها لعذّبوها وفتنوها عن دينها، وأما عائشة وحفصة فلإكرام صاحبيه ووزيريه:

أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وأما زينب بنت جحش فلإبطال توابع عادة التّبنّي مثل تحريم التّزوج بزوجة المتبنّى. وأما جويرية بنت الحارث سيّد قومه بني المصطلق فمن أجل إعتاق الأسرى، وكان ذلك سببا في إسلام بني المصطلق. وأما زينت بنت خزيمة الملقبة أم المساكين فلتعويضها عن زوجها وهو عبد الله بن جحش الذي قتل في أحد، فلم يدعها أرملة تقاسي المتاعب والأحزان. وكذلك زواجه بأم سلمة (واسمها هند) كان لتعزيتها بفقد زوجها أبي سلمة، ولفضلها وجودة رأيها يوم الحديبية. وأما زواجه بأم حبيبة: رملة بنت أبي سفيان بن حرب فلتأليف قلوب قومها وإدخالهم في الإسلام، بعد أن هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة الهجرة الثانية، فتنصّر هناك، وثبتت هي على الإسلام. وأما زواجه بصفية بنت حيي بن أخطب سيّدة بني قريظة والنّضير من سبي خيبر، فمن أجل تحريرها من الأسر وإعتاقها. وأما ميمونة بنت الحارث الهلالية (وكان اسمها برّة) آخر أزواجه بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى، فلتشعب قرابتها في بني هاشم وبني مخزوم «1» .

_ (1) تفسير المنار: 4/ 303- 305

الحجر على السفهاء والصغار ونحوهم وعدم تسليم المال إليهم إلا بالرشد [سورة النساء (4) الآيات 5 إلى 6] :

الحجر على السفهاء والصغار ونحوهم وعدم تسليم المال إليهم إلا بالرشد [سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) الإعراب: الَّتِي إنما قال التي بلفظ المفرد ولم يقل: اللائي بلفظ الجمع لأنها جمع ما لا يعقل، مثل: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم 19/ 61] ومثل: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ [هود 11/ 101] . ولو كان جمع من يعقل (العقلاء) لقال: اللاتي مثل: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي وقد تجيء التي في جمع العقلاء، واللاتي في جمع غير العقلاء. إِسْرافاً وَبِداراً منصوبان لأنهما مفعولان لأجله، أو لأنهما مصدران في موضع الحال، أي: لا تأكلوها مسرفين مبادرين. أَنْ يَكْبَرُوا أن المصدرية وصلتها في موضع نصب ب (بدار) أي مبادرين كبرهم. وجملة وَلا تَأْكُلُوها معطوفة على جملة: وَابْتَلُوا الْيَتامى. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كفاك الله حسيبا، فالكاف المفعول محذوفة، والباء زائدة، والجار والمجرور في موضع رفع فاعل كفى، مثل: ما جاءني من أحد، والتقدير: كفى الله حسيبا. وحسيبا: منصوب على التمييز، أو منصوب على الحال. البلاغة: غَنِيًّا وفَقِيراً: طباق، ويوجد مقابلة بين وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ.. وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. ويوجد جناس مغاير في دَفَعْتُمْ فَادْفَعُوا وفي قُولُوا

المفردات اللغوية:

قَوْلًا. ويوجد أيضا إطناب في فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وقوله: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ. وأضاف تعالى أموال السفهاء إلى الأوصياء للحث على حفظها وعدم تضييعها لأن مال السفيه مال الأمة. المفردات اللغوية: السُّفَهاءَ جمع سفيه، وهو المبذر من الرجال والنساء والصبيان الذي ينفق ماله فيما لا ينبغي، ولا يحسن التصرف فيه. وأصل السفه: الاضطراب في العقل والسلوك. أَمْوالَكُمُ أي أموالهم التي في أيديكم، وأضيفت إلى الأوصياء للحث على حفظها كما يحفظون أموالهم. قِياماً مصدر (قام) أي تقوم بها أمور معاشكم وصلاح أودكم. وَارْزُقُوهُمْ فِيها أطعموهم منها. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا. والقول المعروف: ما تطيب به النفوس وتألفه. وَابْتَلُوا اختبروا. الْيَتامى أي اختبروهم قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم. حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ صاروا أهلا له بالاحتلام أو السن وهو استكمال خمس عشرة سنة عند الشافعي وأحمد. آنَسْتُمْ أبصرتم وتبينتم. رُشْداً أي صلاحا في التصرف في الأموال. والرشد عند الإمام الشافعي: صلاح الدين والمال. إِسْرافاً مجاوزة الحد في التصرف في المال. وَبِداراً مبادرة ومسارعة إلى الشيء، أي مبادرين إلى إنفاق الأموال قبل بلوغ الكبر. أَنْ يَكْبَرُوا يصبحوا راشدين فيلزمكم تسليم أموالهم إليهم. فَلْيَسْتَعْفِفْ أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع عن أكله. والعفة: ترك ما لا ينبغي من الشهوات. بِالْمَعْرُوفِ بقدر أجرة عمله. حَسِيباً رقيبا حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم. سبب النزول: نزول الآية (6) : وَابْتَلُوا الْيَتامى: نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحلّ لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة:

المناسبة: أمر الله تعالى فيما سبق بإيتاء اليتامى أموالهم وبإعطاء النساء مهورهن، وهنا شرط للإيتاء شرطين يشملان الأمرين معا وهما: عدم السفه، والاختبار محافظة على أموالهم. التفسير والبيان: ينهى الله تعالى عن تمكين السفهاء المبذرين من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس طريق لتقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ويدل النهي على الحجر على السفهاء إما بسبب الصغر، وإما بسبب الجنون، وإما بسبب سوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وإما بسبب الفلس: وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا طلب الغرماء من الحاكم الحجر عليه، حجر عليه. واختلف العلماء في تعيين المخاطبين بالآية وفي المراد من السفهاء، على أقوال أشهرها: إن المخاطبين بمنع السفهاء أموالهم إما أولياء اليتامى، والسفهاء: هم اليتامى مطلقا أو المبذرون بالفعل أموالهم وإما مجموع الأمة، ويشمل النهي كل سفيه، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: إن الخطاب لكل عاقل من الناس جميعا، وإن المراد من السفهاء: النساء والصغار. والمقصود النهي عن إيتاء المال لمن لا رشد له من هؤلاء، فيشمل الصبي والمجنون والمحجور عليه للتبذير. وتكون إضافة الأموال على الرأي الأول إلى ضمير الأولياء المخاطبين، مع أنها أموال اليتامى للمبالغة في حملهم على المحافظة عليها، بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لما بين الولي واليتيم من رابطة النسب.

وتكون إضافة الأموال على الرأي الثاني إلى ضمير المخاطبين على حقيقتها. ومعنى قوله: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً: أن الأموال قوام الحياة، وسبب إصلاح المعاش، وانتظام الأمور، فبالمال تتقدم الأمم وتبني صرح الحضارة، وبالمال يسعد الفرد والجماعة، وبه أيضا يتحقق النصر على الأعداء. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن احتاج إلى الناس. وعن سفيان، وكانت له بضاعة يتاجر بها، وقيل له: إنها تدنيك من الدنيا فقال: لئن أدنتني من الدنيا، لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، إنكم في زمان إذا احتاج أحدكم، كان أوّل ما يأكل دينه «1» . وجعل الأموال وسيلة إصلاح شؤون الحياة يقتضي تثميرها وتشغيلها وتنميتها لا اكتنازها وادخارها، كما يقتضي إدارتها بحكمة والاقتصاد في الإنفاق منها، كما سنّ القرآن للمؤمنين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان 25/ 67] . وحث النبي صلّى الله عليه وسلّم على الاقتصاد، روى أحمد عن ابن مسعود: «ما عال من اقتصد» وروى الطبراني والبيهقي عن ابن عمر: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن العقل نصف العلم» . ومعنى قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ: اجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا فيها، فتكون النفقة من ثمرتها وربحها، لا من أصل رأس المال، لئلا يأكله الإنفاق. وهذا مفهوم من جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، فقال: فِيها ولم يقل: «منها» . ومعنى قوله: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً: أن يقول كل ولي للمولى عليه

_ (1) تفسير الكشاف: 1/ 377

كلاما طيبا تطيب به نفسه، ويعده وعدا حسنا، كأن يقول للصغير: المال مالك، وما أنا إلا وكيل أمين عليه، وإذا كبرت رددته إليك. وإذا كان سفيها وعظه ونصحه، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والحاجة إلى الناس. والقول المعروف: كل ما اطمأنت إليه النفس لحسنه شرعا، أو عقلا من قول أو عمل. وأما المنكر: فهو ما أنكرته النفس لقبحه شرعا أو عقلا. ثم بعد الأمر بإيتاء أموال اليتامى بيّن تعالى وقت الإيتاء ومقدماته، وهي الاختبار، فأمرنا أن نختبر اليتامى قبل الإيتاء، فإن بلغوا سن النكاح وهو بلوغ الحلم، كما قال تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي الوصول إلى حد البلوغ وهو حد التكليف والتزام الأحكام الشرعية، وذلك إمام بالاحتلام، أو مجيء الحيض عند الأنثى، أو بالسن وهو اكتمال خمس عشرة سنة في رأي الشافعي وأحمد، إذا بلغوا ذلك وأصبحوا راشدين أي يحسنون التصرف في أموالهم حفظا وإدارة وتنمية، فسلموهم أموالهم، وإلا فاستمروا على الابتلاء (الاختبار) حتى تأنسوا منهم الرشد، ورأى أبو حنيفة: أنه يدفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد، للآية المتقدمة: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولأن من بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره، فمنع ماله عنه أشبه شيء بالظلم، وفيه إهدار لكرامته الإنسانية وآدميته. لكن ظاهر الآية أنه لا تدفع إليهم أموالهم، ولو بلغوا، ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الجمهور. والاختبار في رأي أبي حنيفة والشافعي يكون قبل البلوغ بدليل الغاية: حَتَّى. وفي رأي مالك: يكون بعد البلوغ. ورتب أبو حنيفة على ذلك أن تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء مثلا، وذلك يقتضي صحة التصرف.

وقال الشافعي: الاختبار لا يقتضي الإذن في التصرف ولا يتوقف عليه، بل يكون الاختبار بدون التصرف على حسب ما يليق بحال الصبي، فابن التاجر مثلا يختبر بالبيع والشراء إلى ما قبل إبرام العقد، وحينئذ يعقد الولي إن أراد. ولو جاز إذن الصبي في التصرف بالفعل لجاز دفع المال إليه وهو صبي لأن سبب منع ماله عنه يقتضي عدم صحة تصرفه. وأيضا تصرف الصبي في ماله يتوقف على دفعه إليه، ودفعه إليه متوقف على شرطين: بلوغه ثم رشده. والرشد عند الشافعي: صلاح الدين والمال. وعند الجمهور: صلاح المال فقط. ثم نهى الله تعالى الأولياء فقال: ولا تأكلوا أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية مبادرة ومسارعة قبل بلوغهم، أي مسابقين الكبر في السن التي بها يأخذون أموالهم منكم. أما من كان محتاجا مضطرا إلى الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذه قبل البلوغ، مقابل عمله وإشرافه: فإن كان غنيا غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته، فليعفّ عن الأكل من ماله، ومن كان فقيرا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية من سد الجوعة، وستر العورة. ويؤيده ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ليس لي مال، ولي يتيم؟ فقال: «كل من مال يتيمكم غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك بماله» . واستدل الجصاص «1» بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا على أن اليتيم إذا صار في حد الكبر، استحق المال إذا كان عاقلا، من غير شرط إيناس الرشد لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ. واستدل بالآية

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 63 وما بعدها. [.....]

أيضا على أنه لا يجوز للولي إمساك مال اليتيم بعد ما يصير في حد الكبر، ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر هاهنا معنى، إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده، فهذا يدل على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه. وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة لأن مثله يكون جدّا، ومحال أن يكون جدا، ولا يكون في حد الكبار. وقال الشافعية: إن المراد من قوله: أَنْ يَكْبَرُوا أن يبلغوا راشدين عملا بقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وعبر عن ذلك بالكبر لأن الغالب أن من بلغ حد الرجال، كان رشيدا. وتساءل العلماء، هل ما يأكله الولي من مال اليتيم يعد أجرة أو لا؟ يرى الحنفية أنه ليس بأجرة. وقال آخرون: إنه أجرة ولم يفرق بين الغني والفقير، كما هو القياس في كل عمل يقابل بأجر، وحينئذ يكون الأمر في قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ محمولا على الندب، كما هو اللائق بمحاسن العادات. والقاعدة الفقهية تقتضي أن تكون هذه الأجرة مقدرة بأجر المثل، سواء أكفت الولي أم لا «1» . ثم بين الله تعالى طريقة الدفع وهي: فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء الأموال إلى اليتامى، فأشهدوا عليهم بقبضها، وبراءة ذمتكم منها لأن هذا الإشهاد- بعد رعاية الشرطين السابقين: البلوغ ثم الرشد- أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة. وهذا الإشهاد عملا بظاهر الآية واجب عند المالكية والشافعية إذ أن تركه يؤدي إلى التخاصم والتقاضي، والأمر يقتضي الوجوب، وجعله الحنفية مندوبا،

_ (1) تفسير الآلوسي: 4/ 188

فقه الحياة أو الأحكام:

وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمين، والأمين إذا ادعى الرد على من ائتمنه صدّق بيمينه. وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً يشهد لهم في عدم لزوم البينة، فإن معناه: أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم، وهذا مروي عن سعيد بن جبير. وهل يصدّق الوصي إذا ادعى أنه دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ، وهل يصدق فيما ينفقه حال الصغر؟ قال الإمامان مالك والشافعي: لا يصدق لأن الوصي غير مالك. وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: يصدق لأن الوصي أمين، والأمين يصدق بيمينه ما دام أمينا. ثم ختم تعالى الآية بتقرير رقابته على كل الأمور صغيرها وكبيرها، فذكر أنه كفى الله حسيبا أي رقيبا عليكم، يحاسبكم على ما تسرون وما تعلنون. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ على ما يأتي: 1- النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره، وحسن القيام عليه، حيث قد جعله الله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الأمور. 2- وجوب الحجر على السفهاء المبذرين من وجهين: أحدهما- منعهم من أموالهم، وعدم جواز دفع أموالهم إليهم. والثاني- إجازة تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم من أموالهم وشراء أقواتهم وكسوتهم، ويؤكد ذلك قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [البقرة 2/ 282] فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف.

3- السفهاء إما اليتامى أو المبذرون بالفعل، وإما النساء والصبيان، والمعنى الجامع المروي عن أبي موسى الأشعري: كل من يستحق الحجر، وهو كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال وحسن التصرف فيه، ويدخل فيه الصبي والمجنون والمحجور عليه للتبذير. واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه، فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده، وهو قول الشافعي وأبي يوسف. وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب الإمام على يده. واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال جمهور الفقهاء: يحجر عليه. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلّم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد لأنه يمكن أن يتزوج لاثنتي عشرة سنة، وتحمل زوجته، ثم يولد له لستة أشهر، فيصير جدّا وأبا، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّا. ويرده ما رواه الدارقطني عن عثمان أنه أجاز الحجر على الكبير وهو عبد الله بن جعفر الذي ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صلّى الله عليه وسلّم عام خيبر، فسمع منه وحفظ عنه، وكانت خيبر سنة سبع من الهجرة. 4- دل قول الله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ على وجوب نفقة الولد على الوالد، والزوجة على زوجها. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من

اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تطعمني، وإما أن تطلّقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني» قال المهلّب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع. قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوّجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها. وقال مالك: ولا نفقة لولد الولد على الجدّ. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض، ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال. وهذا قول الشافعي. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لهند فيما رواه الأئمة عن عائشة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . 5- القول المعروف للمولى عليهم: وهو تليين الخطاب والوعد الجميل أو الحسن بأن ينصحهم الولي ويعظهم، ويقول لهم: إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم. وأرشدت الآية: وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى ما يأتي: 1- اختبار الأيتام وتدريبهم على حسن التصرف بالأموال قبل دفع أموالهم إليهم. والاختبار يكون قبل البلوغ في رأي أبي حنيفة والشافعي. وبعد البلوغ في رأي مالك. ومعنى الاختبار قيل فيه: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله،

والإهمال لذلك. فإذا توسم الخير فلا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نمّاه وحسّن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وقال الحسن ومجاهد وغيرهم: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم. 2- إيناس الرشد بعد البلوغ، والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء وهي الاحتلام والسن والإنبات، واثنان يختصان بالنساء، وهما الحيض والحبل، فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنهما بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاث: فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه مسلم- أجاز ابن عمر في الجهاد يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، ولم يجزه يوم أحد لأنه كان ابن أربع عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يوجب عليه الحد. وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة وهي الأشهر: تسع عشرة سنة. وأما الإنبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي ومالك. والقول الآخر: لا بد من اجتماع الإنبات والبلوغ، قال أبو حنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ. 3- الرشد: هو في رأي الحسن البصري وقتادة وغيرهما: صلاح في العقل والدين. وفي رأي ابن عباس والسّدّي والثوري: صلاح في العقل وحفظ المال. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم، وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب الجمهور.

وقال أبو حنيفة وزفر والنخعي: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا، واحتجوا بحديث أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته «1» ضعف، فقيل: يا رسول الله، احجر عليه: فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: لا تبع، فقال: لا أصبر، فقال له: «فإذا بايعت فقل: لا خلابة «2» ، ولك الخيار ثلاثا» فلم يحجر عليه مع أنه كان يغبن، فثبت أن الحجر لا يجوز. ورد القرطبي بقوله: وهذا لا حجة لهم فيه لأنه مخصوص بذلك، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، والأظهر أنه إن كان مفسدا لدينه، مصلحا لماله، حجر عليه أيضا. 4- إن دفع المال للمحجور عليهم يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليهم، بنص الآية، وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي، فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة، قال أبو حنيفة: لكونه جدا. ورد ابن العربي «3» بقوله: هذا ضعيف لأنه إذا كان جدا، ولم يكن ذا جدّ «4» ، فماذا ينفعه جدّ النسب، وجدّ البخت فائت؟! واختلف العلماء في دفع المال إلى المحجور عليه، هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع

_ (1) أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه. (2) أي لا خديعة. (3) أحكام القرآن: 1/ 322 (4) الجد هنا الحظ والبخت.

إليه ماله. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. وإذا سلّم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عند المالكية، وعند الشافعية في قول. وقال أبو حنيفة: لا يعود لأنه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليل الرأي الأول قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ وقوله عز وجل: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [البقرة 2/ 282] . ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وشراء وبيع، وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله، ويؤدي عنه أروش (تعويضات) الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق. 5- نهى الله تعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، فلا يجوز لهم الإسراف والتبذير: وهو الإفراط ومجاوزة الحد. 6- أمر الله تعالى الغني بالإمساك عن أخذ شيء من مال اليتيم، وأباح للوصي أن يأكل من مال موليه بالمعروف. والأكل بالمعروف كما قال الحسن البصري: أن يأكل ما يسدّ جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. بدليل إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله. 7- أمر الله تعالى بالإشهاد عند دفع المال تنبيها على التحصين وزوالا للتّهم. وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء فإن القول قول الوصي لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض عملا بظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله.

حقوق الورثة في التركة وحقوق المحتاجين والأيتام والقرابة غير الوارثين [سورة النساء (4) الآيات 7 إلى 10] :

8- كما أن على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه وتثميره، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه، فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه. روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن في حجري يتيما أأكل من ماله؟ قال: «نعم غير متأثل «1» مالا، ولا واق مالك بماله» قال: يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: «ما كنت ضاربا منه ولدك» «2» . 9- كفى الله حاسبا لأعمال الناس ومجازيا بها، وفي هذا وعيد لكل جاحد حق. حقوق الورثة في التّركة وحقوق المحتاجين والأيتام والقرابة غير الوارثين [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

_ (1) متأثل: جامع. (2) قال ابن العربي (أحكام القرآن: 1/ 327) : وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا، أي منصرفا.

الإعراب:

الإعراب: نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب بفعل مقدر دلّ عليه الكلام لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ معناه: جعل الله لهم نصيبا مفروضا. ويصح كونه حالا، وهو أولى من التقدير. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الهاء في مِنْهُ تعود إلى القسمة، وإن كانت القسمة مؤنثة لأنها بمعنى المقسوم، فلهذا عاد إليها الضمير بالتذكير، حملا على المعنى، وهذا كثير في كلام العرب. البلاغة: يوجد طباق بين قوله: قَلَّ وكَثُرَ. ويوجد إطناب في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ.. وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. المفردات اللغوية: لِلرِّجالِ الأولاد والأقرباء. نَصِيبٌ حظ. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المتوفون. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي من المال. نَصِيباً مَفْرُوضاً أي جعله الله نصيبا مقطوعا بتسليمه إليهم. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ للميراث. أُولُوا الْقُرْبى ذوو القرابة غير الوارثين. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ شيئا قبل القسمة. وَقُولُوا لَهُمْ أيها الأولياء للورثة الصغار. قَوْلًا مَعْرُوفاً جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه، وأنه للصغار. وهذا الإعطاء ندب، وعن ابن عبّاس: واجب. وَلْيَخْشَ ليخف على اليتامى، الخشية: الخوف مع تعظيم المخوف حال الأمن. لَوْ تَرَكُوا أي قاربوا أن يتركوا. مِنْ خَلْفِهِمْ أي بعد موتهم. ذُرِّيَّةً ضِعافاً أولادا صغارا. خافُوا عَلَيْهِمْ الضياع. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر اليتامى وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم. وَلْيَقُولُوا لمن حضرته الوفاة. سَدِيداً صوابا محكما، والمراد موافقا للدين «1» . ظُلْماً بغير حق. وَسَيَصْلَوْنَ سيحرقون، من أصلاه: أراد إحراقه، ومنه صلى اللحم: شواه، وصلى يده: أدفأها، واصطلى: استدفأ. سَعِيراً نارا مستعرة مشتعلة.

_ (1) والسّداد (بالكسر) : ما يسد به الشيء كالثغر (موضع الخوف من العدو) والقارورة. ومن قولهم: فيها سداد من عوز: أي فيها الكفاية.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (7) : لِلرِّجالِ نَصِيبٌ: أخرج أبو الشيخ (أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني المولود سنة 274 هـ) وابن حبّان في كتاب الفرائض عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن الثابت، وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه: خالد وعرفطة «1» ، وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته أم كحلة «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك، فقال: ما أدري ما أقول، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عبّاس سببا آخر لنزول الآية مفاده أن الآية أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء أن يذكره بالوصية لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع، ولا يأمره بالتصدق من ماله، أو بالإعطاء منه في سبيل الله. نزول الآية (10) : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ: قال مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، وهو يتيم صغير، فأكله، فأنزل الله فيه هذه الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا،

_ (1) في بعض الكتب كالقرطبي: عرفجة وسويد. (2) في تفسير ابن كثير: أم كحّة، وفي تفسير القرطبي: أم كجّة.

التفسير والبيان:

أكّد تحريم أكلها، وأوضح أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء والأولاد الصغار، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة. قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنزل الله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... التفسير والبيان: إذا كان لليتامى مال مما تركه الوالدان والأقربون، فهم فيه سواء، لا فرق بين الذكور والإناث، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، فالجميع فيه سواء في حكم الله تعالى مهما قلّ المال، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية. ثم أكد تعالى هذا الحق للجميع بقوله: نَصِيباً مَفْرُوضاً للدلالة على أنه حق معين محتوم مقطوع به، ليس لأحد إنقاصه. ثم عالج القرآن الكريم ناحية نفسية وهي كراهية حضور الأقارب مجلس قسمة التركة، فقرر أنه إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوي القربى للوارثين واليتامى والمساكين، فأعطوهم شيئا من المال ولو قليلا، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يهدئ النفوس، وينتزع الحقد والسخيمة، ويستأصل الحسد من النفس. والمراد بالقسمة: قسمة التركة بين الورثة، وأولو القربى: من لا يرثون لكونهم محجوبين أو لكونهم من ذوي الأرحام، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ وتسلم المال. والضمير في قوله: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يرجع إلى ما ترك الوالدان والأقربون، أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها، لا باعتبار

لفظها مثل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يوسف 12/ 76] أي السقاية. وذهب جمهور المفسرين منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن الأمر بالإعطاء للوجوب، عملا بظاهر الأمر، وقد هجره الناس، كما هجروا الاستئذان عند دخول البيوت، والمخاطب بهذا الوارث الكبير وولي الصغير. وقال الحسن البصري والنّخعي: الأمر منصب على الأعيان المنقولة، وأما الأرضون فلا يعطون منها شيئا، وإنما يكتفى بالقول المعروف. وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة لأنه لو كان لهؤلاء حقّ معين لبيّنه الله تعالى كما بيّن سائر الحقوق، وحيث لم يبيّن علمنا أنه غير واجب. وأيضا لو كان واجبا لتوافرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين، ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا، أنه ليس بواجب. وقال سعيد بن المسيب والضّحاك وابن عباس في رواية عطاء عنه: الآية منسوخة بآية المواريث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. إلخ. وعلاجا لمرض نفسي آخر وهو تحامل النفس كثيرا على اليتيم والقسوة عليه، أمر الله الأولياء والأوصياء القائمين على اليتامى بالقول السديد لهم بأن يكلموهم كأولادهم بالأدب الحسن، والمناداة لهم بكلمة: يا ابني أو يا ولدي ونحو ذلك، وليتذكروا أنهم مقاربون أن يتركوا أولادهم من بعد موتهم، ويخافوا عليهم الإهمال والضياع، وليتقوا الله في اليتامى الذين يلونهم، فيعاملونهم بمثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم.

ويكون المقصود بالآية حث الأولياء على حفظ أموال اليتامى وإحسان القول إليهم، بتذكيرهم حال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعتبروا بها، وذلك من أقوى البواعث على العظة والاعتبار، فالإنسان كما يدين يدان، وهو مطالب بأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به. وتكون الآية مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ في معنى الأمر للورثة، أي أعطوهم حقهم، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه، ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم. ثمّ أكّد الله تعالى الأوامر والنواهي السابقة وقررها وذكّر بالعقاب الشديد لمن يأخذ مال اليتيم ظلما بغير حق، وهو دخول النار وإحراقهم بها، وهي نار مستعرة شديدة الإحراق، وقودها الناس والحجارة، وقانا الله منها. وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها يقصد به إما ملء بطونهم نارا للنهاية، وإما للتأكيد والمبالغة، كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 167] ، والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] ، والقلوب لا تكون إلا في الصدور، وقوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام 6/ 38] ، والطير لا يطير إلا بجناحين، الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، كما أن فيه تبشيعا لأكل مال اليتيم في حالة الظلم. وفي تقييد الأكل بحالة الظلم دلالة على مشروعية أخذ مال اليتيم بحق، كأجرة العمل، والقرض مثلا، وذلك لا يعدّ ظلما ولا الآكل الآخذ ظالما. والتعبير بالأكل يقصد به جميع وجوه الانتفاع والإتلاف والاستهلاك، ولكن عبّر به لأنه أهم حالات الانتفاع.

فقه الحياة أو الأحكام:

والتعبير بكلمة ناراً عند جمهور المفسرين على طريق المجاز المرسل، من قبيل ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإشارة في الآية إلى أكل واحد. وظاهر الآية أن الحكم عام لكل من يأكل ما اليتيم، سواء أكان مؤمنا أم كافرا. وإذا قيل بأن الآية نزلت في أهل الشرك فخصوص السبب لا يخصص، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وورد في بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية، تحرّز الناس من مخالطة اليتامى، حتى شق ذلك على اليتامى أنفسهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة 2/ 220] . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ على ما يأتي: 1- قال المالكية: في هذه الآية فوائد ثلاث: إحداها- بيان علّة الميراث وهي القرابة. الثانية- عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد. الثالثة- إجمال النصيب المفروض، وذلك مبين في آية المواريث فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي «1» . 2- إثبات الحق المقرر في الميراث لكلّ من الرّجال والنّساء، إبطالا لعادة أهل الجاهلية الذين كانوا يورثون الرّجال، ويحرمون النساء والصغار، فالمراد من الرّجال في الآية: الذكور البالغون، والمقصود من الوالدين: الأب والأم بلا واسطة، ومن النساء: الإناث البالغات. ويكون معنى الآية: للذكور

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 46

البالغين نصيب مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كإخوتهم وأخواتهم وأعمامهم وعماتهم، وللإناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن. فالإرث مشترك بين الرّجال والنّساء. وهذا القول فيه إبقاء للآية على ظاهرها، ويكون القصد من الآية إلغاء عادة الجاهلية. والتّنصيص على النساء اعتناء بشأنهن، وتقرير لأصالتهن في استحقاق الإرث، ومبالغة في إبطال حكم الجاهلية بتخصيص الإرث في الرّجال لأنهم المحاربون الغازون. وعمم بعض العلماء الحكم في الرّجال والنّساء، فجعل المراد من الرّجال: الذّكور مطلقا، سواء أكانوا كبارا أم صغارا، والمراد من النساء: الإناث مطلقا، ويكون المراد التّسوية بين الذّكور والإناث في أن لكلّ منهما حقّا فيما ترك الوالدان والأقربون. وهذا ما أميل إليه. 3- تدلّ الآية للحنفيّة القائلين بتوريث ذوي الأرحام لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين، فوجب إثبات حق الإرث لهم المقرر بقوله تعالى: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. 4- حق الإرث ثابت في قليل التركة وكثيرها، وهو حق مشاع لجميع الورثة، لا يختص بعضهم بشيء من الأموال كالسيف والخاتم والمصحف واللباس البدني. ودلّ قوله تعالى أيضا: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ على إثبات حق الإرث للبنات، وأما مقدار الحق، فأبانته آيات المواريث الأخرى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء 4/ 11] . ولما نزلت آية: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أرسل النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة ألا يفرّقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا، ولم يبيّن كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربّنا. فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ..

إلى قوله تعالى: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فأرسل إليهما: «أن أعطيا أم كجّة الثّمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال» . واستدلّ بعض المالكية والشافعية والحنفية بهذه الآية: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ على وجوب قسمة الشيء الصغير للقسمة كالحمام والبيت. ورأى ابن أبي ليلى وأبو ثور وابن القاسم: أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم: أن يباع ولا شفعة فيه لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد والبخاري عن جابر: «الشّفعة في كلّ ما لا يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» فجعل عليه الصلاة والسّلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلّق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. وهذا الرأي هو المعقول دفعا للضرر، قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. وأرشدت آية: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ إلى الآتي: 1- كلّ من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون: يكرم ولا يحرم، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ «1» . وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة، كما قال ابن عبّاس. وروي عن ابن عبّاس: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. [النساء 4/ 11] . وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث والوصية. قال القرطبي: والرأي الأول أصح فإنها مبيّنة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.

_ (1) الرضخ هنا: العطاء القليل.

2- إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله، فقالت طائفة: يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل: لا يعطي، بل يقول لمن حضر القسمة: ليس لي شيء من هذا المال، إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرّفته حقّكم، فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء، فإن أوصى يصرف له ما أوصى. 3- القول المعروف مطلوب مع جميع الناس، ويتأكد طلبه مع الأقارب. وهو القول الجميل والاعتذار اللطيف. وأومأت آية: وَلْيَخْشَ إلى ما يأتي: 1- الآية تذكير بالمعاملة بالمثل مع أولاد الأوصياء، فهذا كما قال ابن عبّاس وعظ للأوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. 2- القول السديد: وهو العدل والصواب من القول وهو مرغوب فيه في تربية اليتامى، فلا ينهرهم الولي ولا يستخف بهم. ودلّت آية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ على ما يأتي: 1- تحريم أكل مال اليتامى ظلما، فقد دلّ الكتاب والسّنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها: «وأكل مال اليتيم» . ويفهم منه جواز الأكل بحق إن كان فقيرا، فيأكل بالمعروف، وله أخذ الأجرة على عمله. 2- عقاب آكل مال اليتيم ظلما هو دخول نار جهنم. 3- هذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفّر بالذنوب. والذي

آيات المواريث [سورة النساء (4) الآيات 11 إلى 12] :

يعتقده أهل السنة أن بعض العصاة يحترق في نار جهنم ويموت، بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون. والكلمة الأخيرة: إن اليتامى عاجزون ضعاف يستحقون كل عناية ورعاية لمصالحهم، وتربية لهم تعوضهم عن فقد أبيهم، لذا عني القرآن بشأنهم فأنزل الله فيهم تسع آيات متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة، قرر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته، وأكّد فيها النّهي عن أكل ماله وتضييع حقّه. كما أنه أنزل فيهم آيات أخرى متفرقة منها: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء 17/ 34] ، ومنها: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النساء 4/ 127] ، ومنها: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى 93/ 9] ، ومنها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة 2/ 220] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى» . آيات المواريث [سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 12] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

الإعراب:

الإعراب: كُنَّ نِساءً كان واسمها وخبرها، وتقديره: إن كانت المتروكات نساء فوق اثنتين. وإنما ثبت للبنتين الثلثان بالسّنة، ودلالة النّص على أن الأختين لهما الثلثان في قوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ إذ ليس هاهنا في الآية نصّ يدلّ على ذلك. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً خبر كان الناقصة، وتقديره: فإن كان المتروك واحدة، وقرئ بالرفع على أنه فاعل كان التامة، وهي بمعنى: حدث ووقع. فَلِأُمِّهِ من ضمها فعلى الأصل، ومن كسرها فعلى الاتباع، كقولهم: المغيرة في المغيرة. آباؤُكُمْ مبتدأ، خبره: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ. نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نَفْعاً: تمييز، وفَرِيضَةً: منصوب على المصدر، وتقديره: فرض الله ذلك فريضة.

البلاغة:

وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً كانَ هنا تامة، ورَجُلٌ: فاعل، ويُورَثُ: جملة فعلية صفة رجل، وكَلالَةً: منصوب من أربعة أوجه: إما حال من ضمير يُورَثُ، وإما تمييز، والمراد بالكلالة في هذين الوجهين: الميت، وإما صفة مصدر محذوف تقديره: يورث وراثة كلالة، والمراد بالكلالة في هذا الوجه: المال، وإما خبر كان، والمراد بالكلالة في هذا الوجه اسم الورثة. وتقديره: ذا كلالة. غَيْرَ مُضَارٍّ حال من ضمير يوصى. وَصِيَّةٍ منصوب على المصدر. وقوله: وَلَهُ أَخٌ يعود على الرجل، وهذا في العطف بأو جائز. البلاغة: يوجد طباق في لفظ (الذكر) والْأُنْثَيَيْنِ، وفي آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ. ويوجد جناس اشتقاق في وَصِيَّةٍ يُوصِي، وهناك إطناب في مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ومِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ للتأكيد. وقوله: عَلِيمٌ حَلِيمٌ للمبالغة. المفردات اللغوية: يُوصِيكُمُ أي يأمركم الله ويفرض عليكم. والوصية: ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل، أي أمر له حَظِّ نصيب. عَلِيماً بخلقه. حَكِيماً فيما دبّره لهم. كَلالَةً مصدر وهو الإعياء، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع، وهو من لا والد له ولا ولد أي له قرابة فقط من الحواشي. عَلِيمٌ بما دبّره لخلقه من الفرائض. حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عمن خالفه. سبب النزول: نزول الآية (11) : يُوصِيكُمُ اللَّهُ: أخرج الأئمة الستة عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي، فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن جابر قال: جاءت امرأة

المناسبة:

سعد بن الربيع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإنّ عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمهما فقال: «أعط بنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك» . قالوا: وهذه أول تركة قسمت في الإسلام. قال الحافظ ابن حجر: تمسك بهذا من قال: إن الآية نزلت في قصة ابنتي سعد، ولم تنزل في قصة جابر، خصوصا أن جابرا لم يكن له يومئذ ولد، قال: والجواب أنها نزلت في الأمرين معا، ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين، وآخرها وهو قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً في قصة جابر، ويكون مراد جابر بقوله: فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية. المناسبة: ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة حكم ميراث القرابة إجمالا في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ثم فصّل في آيات المواريث أنصباء الورثة، فبيّن حقوق الأولاد (الفروع) وحقوق الآباء والأمهات (الأصول) ، وحقوق الزوجين، وحقوق الإخوة لأم، أما الإخوة لأب فحكمهم في آخر السورة. وكانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثا: 1- النسب: للرجال المقاتلين، وليس للنساء والصغار شيء. 2- التّبني: يعطى الولد المتبنى مثل الولد الأصلي في الميراث.

التفسير والبيان والأحكام:

3- الحلف والعهد: بأن يقول الرجل لآخر: «دمي دمك وهدمي هدمك «1» ، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك» . فأقرّ الإسلام ما عدا التّبني الذي أبطله بقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الأحزاب 33/ 4] . وأما التوارث بالنّسب فأقره بقوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء 4/ 33] ، وأما التوارث بالعهد فأجازه بقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء 4/ 33] . وزاد الإسلام في مبدأ الأمر سببين آخرين هما الهجرة والمؤاخاة، ثم نسخ العمل بهما بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال 8/ 75] . واستقر العمل على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، الزواج، الولاء، أي الإرث بسبب عتق السيد عبده أو أمته. التفسير والبيان والأحكام: حقوق الأولاد في الميراث: بدأ الله تعالى بالأولاد، لأنهم أحق بالعطف والعون لضعفهم، أما الأصول فقد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى، أو لهم قدرة على الكسب. فقال: يعهد إليكم في ميراث أولادكم، بمعنى يأمركم ويفرض عليكم في شأن أولادكم من بعدكم أو في ميراثهم ما يستحقون من أموالكم، على أساس قاعدة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي إذا مات الميت، وترك ذكورا وإناثا، فللذكر ضعف الأنثى لأن الرجل مطالب بالنفقة وبالعمل والتكسب وتحمل المشاق ودفع مهر زوجته، ولا تطالب المرأة بالإنفاق على أحد، سواء أكانت بنتا أم أختا أم أمّا أم زوجة أم عمة أم خالة، وإنما بعد الكبر أو البلوغ تنفق على نفسها إن لم تكن زوجة.

_ (1) أي إذا أهدر دمي أهدر دمك.

فإن كانت المتروكات نساء: بنات أو أخوات فوق اثنتين فلهما الثلثان مما ترك المتوفى، وإن كانت المتروكة واحدة ليس معها ذكر يعصبها فلها النصف. وقد وقع خلاف في ميراث البنتين إذا انفردتا عن أخ ذكر، فقال ابن عباس: حكمهما كالبنت الواحدة، لهما النصف، لظاهر الآية: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ. وقال الجمهور: البنتان كالأختين لهما الثلثان، قياسا لهما على الأختين اللتين قال الله فيهما: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ، ولأن البنت تأخذ مع أخيها الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها، ولأن ابن مسعود قضى في بنت وبنت ابن وأخت: بالسّدس لبنت الابن والنّصف للبنت تكملة الثلثين، فجعل لبنت الابن مع البنت الثلثين، فبالأحرى يكون للبنتين الثلثان. ويجوز أن يكون معنى قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: فإن كنّ نساء اثنتين فما فوق، مثل قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال 8/ 12] أي اضربوا الأعناق فما فوقها. والخلاصة: إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا فللذكر ضعف الأنثى. وإذا كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف، وإذا كان هناك أنثيان فأكثر، كان لهن الثلثان في رأي الجمهور، وإذا انفرد الولد الذكر يأخذ التركة، وإذا كان معه أخ فأكثر اقتسموا التركة بالمساواة. وأولاد الابن وأولادهم مثل الأبناء، الأعلى يحجب الأدنى، فإن كان الأعلى أنثى كبنت وابن ابن، أخذت البنت النصف، والباقي لابن الابن. وإن كان ولد الولي أنثى كان للعليا النصف، وللسفلى السدس تكملة الثلثين. وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين، ولم يبق للبنت السفلى شيء إلا إذا عصبها ذكر في درجتها أو أسفل منها.

ميراث الوالدين:

ميراث الوالدين: لكل واحد من أبوي الميت السدس من التركة إن كان للولد الميت ولد ذكر أو أنثى، واحد أو جماعة، والباقي للأولاد على النحو السابق، فإن لم يكن له ولد أصلا وورثه أبواه فلأمه الثلث. والسبب في تساوي الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد: هو توفير احترامهما على السواء. وأما سبب كون نصيب الوالدين أقل من نصيب الأولاد فهو إما كبرهما وإما استغناؤهما، وإما لوجود من تجب عليهما نفقتهما من أولاد أحياء. وأما الأولاد فبحاجة إلى نفقات كثيرة إما بسبب الصغر، وإما بسبب الحاجة إلى الزواج وتحمل أعباء الحياة حال الكبر. فإن كان للميت مع وجود أبويه إخوة جماعة ذكورا أم إناثا، كان للأم السدس بدلا من الثلث، سواء أكانت الإخوة أشقاء أم لأب أم لأم. والاثنان من الإخوة كالثلاثة فأكثر لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين قضوا بأن الأخوين والأختين يردان الأم من الثلث إلى السدس. أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه دخل على عثمان رضي الله عنهما، فقال: لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار؟ أي أن هناك إجماعا في الشرع على ذلك، ويؤيده أنه ورد في اللغة إطلاق الجمع على الاثنين، قال تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم 66/ 4] ، وقال: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص 38/ 21] ، ثم قال: خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص 38/ 22] . والخلاصة: إن للأم الثلث إذا لم يكن معها فرع وارث أو اثنان فصاعدا من الإخوة أو الأخوات، ولها السدس مع الفرع الوارث أو العدد من الإخوة أو

تقديم الديون ثم الوصايا:

الأخوات. وللأب السدس مع الفرع الوارث، فإن كان الفرع بنتا أخذت النصف، وأخذ الأب بالفرض والتعصيب، وللأم ثلث الباقي إذا كان مع الأبوين أحد الزوجين، وهي المسألة العمرية أو الغراء، كما في زوج وأب وأم، أو زوجة وأب وأم، ففي الأولى: للزوج النصف، وللأب الباقي تعصيبا، وللأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج وهو سهم من ستة، وفي الثانية: للزوجة الربع من 12 لعدم الفرع الوارث وللأب الباقي تعصيبا، وهو ستة، وللأم ثلث الباقي وهو ثلاثة أسهم. تقديم الديون ثم الوصايا: إن قسمة المواريث كلها بين الورثة مقدم عليه أولا إيفاء الديون المتعلقة بالتركة، وتنفيذ الوصايا، فالله تعالى يوصي ويأمر بقسمة المواريث على النحو الذي شرع من بعد وصية يوصى بها من الميت، ومن بعد دين تعلق بذمة الميت قبل موته. وقدمت الوصية على الدّين مع أن الواجب تقديم الدّين أولا في الوفاء، حثّا على تنفيذها واهتماما بشأنها ومنعا من جحودها، أما الدّين فمعلوم قوّته، قدم أو لم يقدم. ثم إن أَوْ هاهنا للإباحة، ولا تقتضي الترتيب. ودليل تقديم وفاء الدّين: ما رواه علي كرّم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة كابن جرير الطبري: إنكم تقرؤون هذه الآية: من بعد وصية يوصى بها أو دين، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدّين قبل الوصية، فليس لأحد من الورثة ولا من الموصى لهم حق في التركة إلا بعد قضاء الدّين. ولو استغرق الدّين التركة، فليس لأحد شيء. ويقدم على الدّين والوصية والميراث نفقات تكفين الميت وتجهيزه ودفنه، تكريما لإنسانيته واحتراما لآدميته.

ميراث الزوجين:

وإنما يقدم الدّين على الوصية والميراث لأن ذمة الميت مرتهنة به، وأداء الدين أولى من فعل الخير الذي يتقرب به. وتقديم الوصية على الميراث في حدود ثلث التركة لأنه القدر المأذون بالإيصاء به في السّنة النّبوية فيما رواه الجماعة عن سعد: «الثلث والثلث كثير» . ثم أتى النّص القرآني بجملة معترضة للتنبيه على جهل المرء بعواقب الأمور، فبيّن تعالى أن هؤلاء الذين أوصاكم الله بهم وقدر أنصباءهم، هم آباؤكم وأبناؤكم، فلا تجوروا في القسمة ولا تحرموا البعض كما كان يفعل العرب في الجاهلية إذ لا تدرون بمن هو أقرب لكم نفعا. فرض الله ذلك فريضة محتمة، وإن الله يعلم بما يصلح خلقه، حكيم في تدبيره، يضع الأمور في موضعها الصحيح المناسب، ولا يشرع لكم إلّا ما فيه المنفعة لكم، وقسم الميراث بينكم على أساس من الحق والعدل والمصلحة، فالزموا قسمته ومنهجه، واحذروا حرمان أحد من الورثة كالنساء والضعفاء كما كان أهل الجاهلية يفعلون. ميراث الزوجين: للزوج نصف تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد، سواء أكان منه أم من غيره، وسواء أكان ذكرا أم أنثى، واحدا أم أكثر، منها مباشرة أم من بنيها أم من بني بنيها، والباقي لأولادها، ولا يشترط الدخول بالزوجة وإنما يكفي مجرد العقد. فإن كان لها ولد فللزوج الربع، والباقي لأقاربها ذوي الفروض والعصبات، أو ذوي الأرحام- في رأي الحنفية- أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر. لكم ذلك في تركتهن من بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا. وللزوجة ربع تركة الزوج إن لم يكن له ولد، ولها الثمن إن كان له ولد.

ميراث الكلالة:

فإن تعددت الزوجات اشتركن في الربع أو في الثمن من بعد الدين والوصية، كما سبق. ميراث الكلالة: جعل الله الورثة في هذه الآيات أقساما ثلاثة: قسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما برابطة الدم وهم الأولاد والوالدان، وقسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما بعقد الزوجية وهما الزوجان، وقسم يتصل بالميت بواسطة وهم الكلالة: وهي ما عدا الوالد والولد. ونظرا لقوة القسم الأول قدمه تعالى في البيان، ثم أتبعه بالقسم الثاني، ثم ذكر القسم الثالث، ولأن القسمين الأوليين لا يعرض لهما السقوط بحال، بخلاف القسم الثالث، فإنه قد يعرض له السقوط بالكلية. والراجح أن الكلالة: من عدا الوالد والولد، وهو تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرج ابن جرير عن الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: إني رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا، فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء، إن الكلالة: ما خلا الوالد والولد. ويؤكد تفسيره: اشتقاق الكلمة، فهي مأخوذة من الضعف، والقرابة لا من جهة الولادة قرابة ضعيفة، وأما قرابة الولادة فهي قوية، فلا يطلق عليها كلالة. ثم إن الله تعالى حكم بتوريث الإخوة والأخوات عند عدم وجود الأب، فوجب ألا يكون الوالد من الكلالة. وحكم إرث الكلالة بحسب النص: أنه إذا وجد أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس، فإن تعددوا فهم شركاء في الثلث، وهم فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم. والدليل على أن المراد بالأخ والأخت في آية الكلالة الإخوة لأم: قراءة

سعد بن أبي وقاص: «وله أخ أو أخت من أم» ولأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمهما في آخر سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [4/ 176] فالمراد منهما هنا الإخوة الأشقاء أو لأب، لهم المال كله إن انفردوا، ويأخذون الباقي بعد ذوي الفروض. ولأن الفرض هنا الثلث أو السدس وهو فرض الأم، فناسب أن يكون فرض الإخوة الذين يدلون بها هم الإخوة لأم. والخلاصة: للإخوة لأم حالتان: 1- إذا انفرد الأخ أو الأخت لأم فلكل واحد منهما السدس. 2- إذا تعدد الإخوة لأم اشتركوا في قسمة الثلث بالتساوي، ذكرهم مثل أنثاهم لأن مطلق التشريك يدلّ عليه. وهذه القسمة للإخوة لأم من بعد إيفاء الدّين وتنفيذ الوصية اللذين لا إضرار فيهما بالورثة والدائنين، والضرار في الدين والوصية له أحوال: أولا- أن يقرّ الشخص بدين لأجنبي يستغرق المال كله أو بعضه، بقصد إضرار الورثة، ويظهر قصد الضرر كثيرا في الكلالة (الحواشي) ، أما في الوالدين والأولاد والأزواج فهو نادر. ثانيا- أن يقرّ بأن الدين الذي كان له عند فلان قد استوفاه. ثالثا- أن يوصي بأكثر من الثلث، قال ابن عبّاس: الضرار في الوصية من الكبائر. رابعا- أن يوصي بالثلث لا بقصد القربة إلى الله، بل لإنقاص أنصباء الورثة.

أحكام أخرى من آيات المواريث:

يوصيكم الله ويأمركم بذلك ويعهد إليكم به عهدا للعمل به وتنفيذه، والله عليم حليم، عليم بمصالح عباده وبمضارهم وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحق، وبمقدار المستحق، حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، فأضرّ في الوصية بالورثة أو بالدّائنين، أو حرم أحدا من النساء والأطفال حقه في الإرث. وفي هذه الخاتمة المؤثرة بمن أصغى إليها وفهمها: إشارة إلى أنه تعالى شرع المواريث على هذا النحو، وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة، فمن الواجب الإذعان لوصايا الله وفرائضه، والتزام منهجه وحدوده، فلا ينبغي الاعتداء وهضم الحقوق، أو التعديل في أنظمة الإرث كإعطاء المرأة مثل الرجل، كما في بعض الدّول الإسلامية أخذا بأعراف فاسدة لمصادمتها للنصوص القرآنية القطعية، أو محاكاة لأنظمة الغرب وقوانين البشر، زعما بأن ذلك عدل يقتضي المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، لكن لا عدل بعد عدل الله، ولا رحمة فوق رحمة الله، فإن افتتاح الآيات بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ دليل على أنه تعالى أرحم بالناس من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، ويؤيده الحديث الصحيح: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» . أحكام أخرى من آيات المواريث: 1- قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ بيان لما أجمل في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ فدل على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمّهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر، حتى إنها ثلث العلم، وروي نصف العلم، وهو أول علم ينزع من الناس وينسى. أخرج الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلموا الفرائض وعلّموه الناس، فإنه نصف العلم، وهو أول شيء ينسى، وهو أول شيء ينتزع من أمتي» .

2- قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ قال الشافعية: قول الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ حقيقة في أولاد الصّلب، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز فإذا حلف أن لا ولد له، وله ولد ابن لم يحنث وإذا أوصى لولد فلان، لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب. 3- ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر، فلما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يرث المسلم الكافر» «1» علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، على ظاهر الحديث. ودلت الأحاديث على أن موانع الإرث هي ثلاث: قتل، واختلاف دين، ورقّ، لكن القتل الخطأ لا يمنع من الميراث عند الإمام مالك، ويمنع كالقتل العمد عند باقي الأئمة. ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم لقوله فيما رواه أحمد: «إنا لا نورث ما تركناه صدقة» . وقال النخعي: لا يرث الأسير، وقال أغلب أهل العلم: إنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام لأن قوله تعالى: فِي أَوْلادِكُمْ دخل فيه الأسير في أيدي الكفار. 4- أصحاب الفرائض في الآيات يأخذون حقوقهم، والباقي للعصبات، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الأئمة: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته الفرائض فلأولى رجل ذكر» يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة: النصف والربع والثمن، والثلثان والثلث والسدس. وقوله: لأولى: أي لأقرب.

_ (1) روى الجماعة عن أسامة هذا الحديث بلفظ «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . [.....]

فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب، وابنة الابن والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والزوج، إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه. والربع: فرض الزوج مع الحاجب وهو الولد: وفرض الزوجة والزوجات مع عدم الحاجب. والثمن: فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب. والثلثان: فرض أربع: البنتان فصاعدا، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، أو لأب، إذا انفردن عمن يحجبهن عنه. والثلث فرض صنفين الأم مع عدم الولد وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم، وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة: زوج أو زوجة وأبوان، فللأم فيها ثلث ما يبقى. وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم، وكان ثلث ما يبقى أحظى له. والسدس فرض سبعة: الأبوان والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات الابن مع بنت الصلب، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى. ويسقط ولد الأم مع الفرع الوارث والأصل الوارث المذكر. وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجد والجدات، فإنه مأخوذ من السنة، ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى للجدة بالسدس. 5- لا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، كما بينت. 6- لما قال تعالى: فِي أَوْلادِكُمْ يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، من الطبقة الأولى أو بعدها، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم.

7- قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فرض الله تعالى للواحدة النصف بقوله: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت، علمنا أن للاثنتين الثلثين. وقيل: فَوْقَ زائدة أي كن نساء اثنتين، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال 8/ 12] أي الأعناق فما فوقها. وأقوى حجة في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول. 8- إذا كان مع البنت بنت ابن فللبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين. سئل ابن مسعود عن ذلك فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. 9- إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى، فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. فإن خرج ميتا لم يرث، وإن خرج حيا يرث ويورث. أما الخنثى وهو الذي له فرجان فأجمع العلماء على أنه يورّث من حيث يبول. 10- قوله تعالى وَلِأَبَوَيْهِ الأبوان: تثنية الأب والأبه، أو من قبيل التغليب عند العرب، كقولهم للأب والأم: أبوان، وللشمس والقمر: القمران، ولليل والنهار: الملوان، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. 11- للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم بإجماع العلماء، وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأمّ الأب، وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم. ولا يرث في رأي مالك إلا جدّتان: أم الأم وأم الأب وأمهاتهما. ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال. 12- قوله تعالى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس، وأبهم الولد، فكان الذكر والأنثى فيه سواء.

13- قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، وهذا هو حجب النقصان، سواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم، ولا سهم لهم. 14- الدين مقدم على الوصية، بدليل ما روى الترمذي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية. وهذا مجمع عليه. وتمسك الشافعي بالآية في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث، فقال: إن الرجل إذا فرّط في زكاته، وجب أخذ ذلك من رأس ماله لأنه حق من الحقوق، فيلزم أداؤه عنه بعد الموت لحقوق الآدميين، لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أديت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء، حتى لا يترك الورثة فقراء. 15- قوله تعالى: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل: في الدنيا بالدعاء والصدقة، كما جاء في الأثر: «إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده» وفي الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: «إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث- فذكر- أو ولد صالح يدعو له» . وقيل: في الآخرة، فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه. وفي الجملة: إن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب. 16- ليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم، وذلك في قوله تعالى: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا.

17- الضرر والإضرار حرام وهو في الوصية من الكبائر، وكذا في الدين، قال تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ والإضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد إلا أن يجيزه الورثة لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها، كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف، فذلك لا يجوز. وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة. فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين، فقالت طائفة منهم الحنفية: يبدأ بدين الصحة. وقالت طائفة منهم الشافعي: هما سواء إذا كان لغير وارث. قال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» . ومشهور مذهب مالك: أن الموصي لا يعد فعله مضارّة في ثلثه لأن ذلك حقه، فله التصرف فيه كيف شاء. 18- قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يعني عليم بأهل الميراث، حليم على أهل الجهل منكم.

حدود الله تعالى [سورة النساء (4) الآيات 13 إلى 14] :

حدود الله تعالى [سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) الإعراب: خالِدِينَ فِيها حال من هاء يُدْخِلْهُ، والهاء تعود على مَنْ ومَنْ: تصلح للواحد والجماعة، وإنما جمع حملا على المعنى. خالِداً فِيها حال من هاء يُدْخِلْهُ، والهاء تعود على مَنْ. ووحّد خالِداً حملا على لفظ مَنْ وهم تارة يحملون على اللفظ وتارة على المعنى. البلاغة: يوجد طباق في وَمَنْ يُطِعِ.. وَمَنْ يَعْصِ. المفردات اللغوية: حُدُودُ اللَّهِ جمع حد، وهي هنا شرائع الله وأحكامه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها. وقد تطلق الحدود على المحارم التي منعها الله، ومنه سميت العقوبات المقدرة «حدودا» . مُهِينٌ ذو إهانة وذل. التفسير والبيان: أكد سبحانه وتعالى مضمون الإنذار السابق في قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ

بهذه الآيات، منبها إلى أن تلك الأحكام المتقدمة من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث هي حدود الله أي فرائضه ومقاديره وأحكامه التي جعلها الله قانون الأسرة في شأن اليتامى والرابطة الزوجية وقسمة المواريث بين الورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه. هي حدود الله وأحكامه فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولا يصح لمسلم أن يتخطاها ومن يطع الله باتباع ما شرعه من الدين وأنزله على رسوله الكريم، ويطع الرسول باتباع ما بلّغ به عن ربه من أحكام وآيات، فطاعة الرسول طاعة لله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80] ، من يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ونحن نؤمن بها ونعتقد أنها أرفع من كل نعيم في الدنيا، وأن الطائعين خالدون فيها، وذلك هو الفوز العظيم: وهو الظفر والفلاح الذي لا يماثله فوز في الدنيا. ومن يتعدّ حدود الله ويعص الله ورسوله ويتجاوز حرمات الله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة، وهم خالدون فيها، ولهم عذاب مقترن بالإهانة والإذلال لأنه ضادّ الله في حكمه ولم يرض بما قسم الله وحكم. وفرق عظيم بين خلود أهل الجنة حيث يتمتعون بالنعيم الدائم والأنس مع بعضهم، وبين خلود أهل النار حيث يذوقون أشد العذاب مع إيحاش النفوس ونفرتها كما قال تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف 43/ 39] . وأما عصاة المؤمنين فيعذبون في النار بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون إلى الجنة، والعصيان الموجب للعذاب هو المقترن بتعمد المعصية والإصرار عليها، كما قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة 2/ 81] . أما المذنب الذي تورط في المعصية، ثم لام نفسه

فقه الحياة أو الأحكام:

وتاب، فهو من الناجين كما قال تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران 3/ 135] . فقه الحياة أو الأحكام: من رحمة الله العظمى بعباده أن بيّن لهم الحلال والحرام وأوضح الشرائع والأحكام، ورغّب وأرهب، وحذّر وأنذر، فمن أطاع أوامر الله والرسول واجتنب المعاصي والمنكرات فجزاؤه الجنة خالدا فيها أبدا. ومن عصى الله والرسول فإن أدى عصيانه إلى الكفر فهو خالد في النار أبدا، وأما إن ظل مؤمنا وارتكب الكبائر وتجاوز أوامر الله فيستحق عذاب النار لمدة ما، دون خلود ولا مكث. جزاء الفاحشة في مبدأ التشريع [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) الإعراب: وَالَّذانِ مبتدأ، وخبره: فَآذُوهُما.

البلاغة:

البلاغة: يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ مجاز عقلي، والمراد يتوفاهن الله أو ملائكته. ويوجد جناس مغاير في: «فَإِنْ تابا.. تَوَّاباً» . المفردات اللغوية: يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يفعلن الزنا. أَرْبَعَةً مِنْكُمْ من رجالكم المسلمين. فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بها فَأَمْسِكُوهُنَّ احبسوهن فِي الْبُيُوتِ امنعوهن من مخالطة الناس حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي يقبض أرواحهن ملك الموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا طريقا إلى الخروج منها. المناسبة: أبان سبحانه وتعالى سابقا حكم الرجال والنساء في الزواج والميراث، وحذر من تخطي حدود الله، ثم بيّن هنا حكم الحدود فيهن إذا ارتكبوا الفاحشة، أو الحرام أو الزنا لأن ذلك من أقبح المعاصي التي يتخطى بها حدود الله، ولئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف. التفسير والبيان: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت وثبت زناها بالبينة العادلة وهي أربعة شهود، حبست في بيت، فلا تمكّن من الخروج منه حتى تموت. وكانت عقوبة الرجال الشتم والتعيير باللسان والضرب بالنعال، وظل الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد للأبكار، والرجم للمحصنين والمحصنات. عقوبة الزانيات: معنى الآية: النساء اللاتي يأتين أي يفعلن الفاحشة: وهي الفعلة القبيحة، والمراد بها هنا الزنا، فأشهدوا على زناهن أربعة من الرجال، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت حتى يتوفاهن ملك الموت، أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به.

عقوبة الزناة:

وكان ذلك في مبدأ الأمر، ثم جعل الله لهن سبيلا: الجلد والرجم. أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور 24/ 2] فإن كانا محصنين رجما، فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما. وأخرج مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولفظه: «خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . واستقر رأي العلماء على أن الشطر الأخير من حديث عبادة منسوخ، وأن السبيل الذي جعل للثيب هو الرجم دون الجلد، لصحة الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم ولم يجلد ، فاستدلوا بما صح من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على قوله في حديث عبادة. عقوبة الزناة: معنى الآية: الرجلان الزانيان اللذان يأتيان الفاحشة، وهذا قول مجاهد، أو الرجل والمرأة البكران اللذان يأتيان الفاحشة، وهذا قول السدي وابن زيد، فآذوهما بالقول وعيروهما ووبخوهما على فعلهما إذا لم يتوبا، فإن تابا وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما، ورجعا عن فعل الفاحشة وندما، فاتركوا إيذاءهما، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله: إن الله كان توابا على عباده، رحيما بهم. وليس المراد بالإعراض: الهجر، ولكن المتاركة احتقارا لهم بسبب المعصية المتقدمة. والخطاب هنا لأولي الأمر الحكام، والآية اشتملت على حكم الزانيات

الأحكام:

الثيبات، وحكم الزاني والزانية البكرين، ولم يذكر حكم الزاني الثيب، ولعله مقيس على المرأة الثيب. وهذا العقاب كان في مبدأ التشريع من قبيل التعزير المفوض أمره إلى الأمة في كيفيته ومقداره، ثم نسخ ذلك بآية النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [24/ 2] وبالأحاديث السابقة. ويرى أبو مسلم الأصفهاني الذي أنكر النسخ في القرآن: أن المراد بالآية الأولى المساحقات التي تحصل بين النساء، وبالثانية: اللوطيان، وعلى هذا فلا نسخ. الأحكام: هذه أولى عقوبات الزناة في الإسلام، وكان هذا في ابتداء الإسلام، كما قال عبادة بن الصامت والحسن البصري ومجاهد حتى نسخ بآية النور وبالرجم للثيب في الحديث. وهل كان السجن في البيت حدا أو توعدا بالحد؟ على قولين: أحدهما- أنه توعد بالحد. والثاني- أنه حد، قال ابن عباس والحسن البصري. وقال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بالإجماع. أما الاستشهاد على الزنا بأربعة رجال مسلمين عدول فحكمه باق لم ينسخ. أما كونهم من المسلمين الذكور فلقوله تعالى: مِنْكُمْ وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدّعي وسترا على العباد، وتحديد الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور 24/ 4] .

وهل يجتمع النفي مع الجلد؟ :

وأما اشتراط العدالة في الشهود، فلأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة، والزنا أعظم، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل. ولا يصح كونهم من أهل الذمة، وإن كان الحكم على ذمية. وهل يجتمع النفي مع الجلد؟ الذي عليه الجمهور أنه ينفى الزاني مع الجلد، لحديث عبادة المتقدم، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وحديث العسيف وفيه: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما» «1» . وقال الحنفية: لا تغريب مع الجلد لأن النص الذي في القرآن إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ، فيلزم عليه نسخ النص القاطع بخبر الواحد. وقد غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرّب مسلما بعد هذا. قالوا: ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد. والجواب: قولهم: الزيادة على النص نسخ، ليس بمسلّم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل، ثم إنهم زادوا الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح، على الماء. واشترطوا الفقر في ذوي القربى (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) في إعطائهم من خمس الغنيمة في آية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال 8/ 41] . وأما حديث عمر وقوله: «لا أغرب بعده مسلما» فيعني في الخمر، لما أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب وغرّب ، وأن أبا بكر ضرب وغرّب، وأن عمر ضرب وغرّب» .

_ (1) أخرجه الأئمة.

حالة قبول التوبة ووقتها [سورة النساء (4) الآيات 17 إلى 18] :

والتغريب للذكر الحر، ولا تغرب المرأة في رأي المالكية لأنها إذا غرّبت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت بسببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها، ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار. حالة قبول التوبة ووقتها [سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) الإعراب: بِجَهالَةٍ حال. وَلَا الَّذِينَ مجرور بالعطف على قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ وتقديره: وليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا الذين يموتون وهم كفار. المفردات اللغوية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي التوبة التي كتب على نفسه قبولها بفضله السُّوءَ العمل القبيح أو المعصية. بِجَهالَةٍ جاهلين إذا عصوا ربهم. والمراد بالجهالة: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب، وكل من عصى الله فهو جاهل. أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا.

المناسبة:

المناسبة: أشار الله تعالى في الآية السابقة إلى أن توبة اللذين أتيا الفاحشة توجب ترك العقوبة والتعنيف وإزالة الإيذاء، فناسب أن يبين شروط قبول التوبة ووقتها. التفسير والبيان: إنما قبول التوبة والمغفرة متحقق على الله تفضلا وإحسانا للذين يتورّطون في ارتكاب المعصية، ويقعون فيها جاهلين لا يقدرون الآثار والنتائج والمخاطر، ولم يصرّوا على المعصية لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان، ثم تابوا قبل الغرغرة ولو بعد معاينة الملك يقبض الروح. وليس المقصود بالجهالة عدم العلم بالتحريم لأن كل مسلم مطالب بتعلم ما هو حرام شرعا، وإنما المراد تغلب الطيش والسفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب. قال مجاهد وغيره: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب. وذكر قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة «1» . وقال عبد الرّزاق: أخبر معمر عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. بدليل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر 39/ 53] فليس المراد بالجهالة: أن يعمل السوء عالما به. ويؤكد ذلك ما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السّلام: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف 12/ 33] ، وقال تعالى لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود 11/ 46] .

_ (1) رواه ابن جرير.

والسّبب في تسمية العاصي جاهلا وإن عصى عن علم: أنّ العاصي لربّه لو قدر ما معه من العلم بالثواب والعقاب، لما أقدم على المعصية، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد. هذا هو الشرط الأول: إيقاع المعصية عن جهالة، والشرط الثاني: أن يتوب الإنسان بعد الذنب بزمن قريب، والزمن القريب كما قال ابن عباس: ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضّحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. ومن: للتبعيض، والمعنى: ثم يتوبون بعد وقت قريب. وسمي ما بين وقوع المعصية وبين حدوث الموت زمنا قريب، ففي أي جزء من هذا تاب فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. ثم أكّد تعالى مبدأ قبول التوبة بالشرطين المذكورين فقال: أولئك الذين فعلوا الذنب بجهالة، وتابوا بعد زمن قريب، يتوب الله عليهم لأنهم لم يصرّوا على ما فعلوا. وكان الله عليما بضعف الإنسان أمام الشهوة والغضب، حكيما في قبول توبة ذلك الضعيف. وبعد بيان حال من تقبل توبتهم، ذكر تعالى حال أضدادهم الذين لا تقبل توبتهم فقال: أوّلا- لا توبة للذين يعملون السيئات، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن، فلا أمل في الإصلاح حينئذ، ولا فائدة من التوبة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 85] ، وقوله حكاية عن فرعون لما أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

فقه الحياة أو الأحكام:

[يونس 10/ 90- 91] ، وقوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا! إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون 23/ 99- 100] . ثانيا- لا توبة أيضا للذين يموتون وهم كفار. وهذا يحتمل وجهين: الأول- أن المراد بهم الذين قرب موتهم، بمعنى أن الإيمان لا يقبل من الكافر عند حضور الموت. الثاني- أن يكون المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر لا تقبل توبتهم. أولئك أي الفريقان السابقان أعتدنا أي هيأنا وأعددنا لهم عذابا مؤلما موجعا، جزاء لما كسبت أيديهم من السيئات، مع إصرارهم عليها حتى الممات. فقه الحياة أو الأحكام: اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور 24/ 31] . وقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قيل: هذه الآية عامّة لكلّ من عمل ذنبا. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية. هذا مذهب أهل السنة. وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق

ومالكهم، والمكلّف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى الله عن ذلك. لكن الله سبحانه قد أخبر في قرآنه أنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده- وهو الصادق في وعده- بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى 42/ 25] وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] وقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه 20/ 82] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والخلاصة: العقيدة أنه لا يجب على الله شيء عقلا، فأما النقل السمعي في القرآن فظاهره قبول توبة التائب. 2- التوبة تشمل كل أنواع السوء والمعاصي من كفر وغيره، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، كما تقدم، وأمور الدنيا كلها جهالة، سواء وقعت عمدا أو جهلا. 3- التوبة في أثناء زمن قريب قبل المرض والموت، وكل ما كان قبل الموت فهو قريب. قال المالكية: إنما صحت من العبد في هذا الوقت، لأن الرجاء باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل. روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى: «ما لم يغرغر» : ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به. 4- نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين صنفان: الأول- من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف.

معاملة النساء في الإسلام تحريم إرث النساء كرها والعضل عن الزواج وأخذ شيء من المهور كرها والمعاشرة بالمعروف [سورة النساء (4) الآيات 19 إلى 21] :

والثاني- الكفار الذين يموتون على كفرهم، فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع، فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه، وهذا على تفسير السيئات بما دون الكفر، أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات، ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. معاملة النساء في الإسلام تحريم إرث النساء كرها والعضل عن الزواج وأخذ شيء من المهور كرها والمعاشرة بالمعروف [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)

الإعراب:

الإعراب: أَنْ تَرِثُوا فاعل مرفوع لفعل (يحل) . كَرْهاً منصوب على المصدر في موضع الحال. لا تَعْضُلُوهُنَّ لا: إما نافية، والفعل منصوب بالعطف على أَنْ تَرِثُوا وتقديره: لا يحل لكم أن ترثوا وأن تعضلوا، وتكون لا تأكيدا للنفي غير عاملة. وإما ناهية، فيكون تَعْضُلُوهُنَّ مجزوما بلا. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع. أَنْ تَكْرَهُوا أن وصلتها في موضع رفع بعسى، لأن معناه: قربت كراهتكم لشيء. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً منصوب على المصدر في موضع الحال من واو. تَأْخُذُونَهُ وتقديره: تأخذونه مباهتين. إِثْماً مُبِيناً حال أيضا. البلاغة: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً استعارة تصريحية، استعار لفظ الميثاق للعقد الشرعي. ويوجد جناس ناقص في: فَإِنْ تابا ... تَوَّاباً وفي كَرِهْتُمُوهُنَّ ... أَنْ تَكْرَهُوا. وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً للمبالغة وتعظيم الشيء المعطى مهرا وأنه حق خالص للمرأة. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ استفهام للتوبيخ والإنكار. المفردات اللغوية: النِّساءَ أي ذاتهن. كَرْهاً أي مكرهين على ذلك، وهو فعل أهل الجاهلية، كانوا يرثون نساء أقربائهم، فإن شاؤوا تزوجوهن بلا صداق، وإن شاؤوا زوجوهن وأخذوا صداقهن أو عضلوهن حتى يفتدين بما ورثنه، أو يمتن، فيرثوهن، فنهوا عن ذلك. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم، بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضررا. مأخوذ من العضل: وهو التضييق والمنع والحبس ومنه الداء العضال: الشديد الذي لا نجاة منه. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الفاحشة: الفعلة الشنيعة القبيحة أي الزنى أو النشوز، والمبينة: بكسر الياء: أي هي بينة ظاهرة واضحة، أو بفتح الياء أي بينت، فحينئذ لكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإجمال في القول والنفقة والمبيت. والمعروف: ما تألفه الطباع السليمة ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فاصبروا.

سبب النزول نزول الآية (19) :

خَيْراً كَثِيراً لعله أن يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا. اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ بأن طلقتموها وأردتم أخذ بدلها. قِنْطاراً مالا كثيرا صداقا بُهْتاناً ظلما وكذبا يبهت المكذوب عليه. وَإِثْماً مُبِيناً حراما بينا. أَفْضى وصل. بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أي وصل كل منهما بالآخر بالجماع المقرر للمهر، كنى الله تعالى عن الجماع بلفظ الإفضاء لتعليم المؤمنين الأدب الرفيع، قال ابن عباس: الإفضاء في هذه الآية الجماع، ولكن الله كريم يكني. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً عهدا. غَلِيظاً شديدا. فالميثاق الغليظ: العهد المؤكد الذي يربط الرجل بالمرأة بأقوى رباط وأحكمه، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. سبب النزول: نزول الآية (19) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ: روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري بسند حسن عن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة، جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته، فألقى ثوبه على تلك المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها وضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها. فلما توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري، وترك

التفسير والبيان:

امرأة: كبيشة بنت معن الأنصارية، فطرح ابن له من غيرها يقال له: حصن ثوبه عليها، فورث نكاحها ثم تركها، فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها لتفتدي منه بمالها، فاشتكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها: اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. التفسير والبيان: كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحق، فقرر لها الله تعالى حقوقا في شؤون الزواج، ونهى عن الاعتداء عليها. الحق الأول- تحريم إرث ذات النساء: ليست المرأة متاعا يورث، فلا تورث زوجة المتوفى، ولا يحل لكم أيها المؤمنون تقليد أهل الجاهلية، فترثون المرأة كما ترثون الأموال والأمتعة، وتتصرفون فيها كما تشاؤون، وهن كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوجها، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء منعها الزواج. الحق الثاني- عضل المرأة: أي منعها من الزواج والتضييق عليها: ولا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن حتى تفتدي المرأة نفسها منكم بالمال من ميراث أو صداق ونحو ذلك. أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي الشهود فيكتب ذلك عليها، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال. والخطاب إلى الذين نهوا عن العضل إما الأزواج، وإما أولياء الميت الذين يرثون زوجته ويمنعونها من الزواج حتى تموت فيرثوها، وإما أولياء المرأة،

الحق الثالث - المعاشرة بالمعروف:

وهذا غير مقبول لأن أولياءها لم يؤتوها شيئا ثم يذهبوا ببعض ما آتوه لها. والمراد بقوله: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ألا تضاروهن في العشرة لتترك لكم ما أصدقتموها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليكم، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والإضرار. ثم استثنى الله تعالى حالا واحدة يجوز فيها العضل أي الحبس والتضييق وهي حالة إتيان الفاحشة المبينة كالزنى والسرقة والنشوز عن الطاعة، ونحو ذلك من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا، ففي هذه الحال يجوز العضل لاسترداد ما أعطوه من صداق وغيره من المال لأن الإساءة من جانبها، واشتراط كون الفاحشة مبينة أي ظاهرة ثابتة إنما هو لمنع عضلها بمجرد سوء الظن والتّهمة بسبب غيرة الرجل الشديدة وتسرعه في الحكم على الزوجة البريئة، أو المرأة العفيفة، فيقع الرجل في الظلم حينئذ. الحق الثالث- المعاشرة بالمعروف: أي تطييب القول وتحسين الأفعال والهيئات والإنصاف بالنفقة والمبيت، فإن المرأة ذات عواطف ومشاعر وحساسية مرهفة، وهي تحب من الرجل مثل ما يحب هو منها، كما قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة 2/ 228] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن عساكر عن علي: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم أنّه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها يتودد إليها بذلك، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلّى الله عليه وسلّم ، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ

الحق الرابع - حق المرأة في كامل المهر:

حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه ابن عمر في خطبة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . وأمره تعالى بقوله: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ للرد على ما كان في الجاهلية، إذ كان الرجال يسيئون عشرة النساء، فيغلظون لهن القول، ويضاروهن. فإن كرهتموهن لعيب في أخلاقهن أو قبح في خلقهن، أو لتقصير في عمل واجب عليهن كخدمة البيت، أو لميل منكم إلى غيرهن، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن، فربما يجعل الله فيهن خيرا كثيرا، فيجعل منهن زوجات رضيات يصلحن أحوالكم، أو يرزقكم منهن بأولاد نجباء صالحين، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها آخر» المعنى: لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها، فلا ينبغي له ذلك، بل يعفو ويصفح ويتغاضي عما يكره لما يحب. ولو تعقل الرجل الآية والحديث وعمل بهما شعر بالسعادة وأسعد الأسرة وتجنب كل ما قد يحدث من منازعات تؤدي إلى أبغض الحلال، وتوقع في الشقاء والخسران. الحق الرابع- حق المرأة في كامل المهر: الظلم قديم في الإنسان وفي طبعه، والرجل الظالم يعتمد على قوته عادة وعلى كون الطلاق بيده، وكان من ظلم الرجال للنساء، وأطماعهم أن الرجل إذا أراد تطليق امرأته، استرد ما دفعه لها من مهر، متذرعا بوسائل كثيرة ومضايقات متنوعة منها الرمي بالفاحشة، فنهى الله عن ذلك في آيتي: وَإِنْ أَرَدْتُمُ

اسْتِبْدالَ.. ووَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ.. وجعله بهتانا وإثما مبينا، ووبخهم وأنكر عليهم ذلك بعد الإفضاء إلى المرأة وأخذ الميثاق الغليظ منهم، فقال: وإذا أردتم استبدال زوج مكان زوج كرهتموها، فاصبروا وأحسنوا المفارقة، ولا تتهموها بالفاحشة الظاهرة، ولا تأخذوا شيئا من المهر الذي دفعتموه، ولو كان المدفوع قنطارا: مالا كثيرا ثم أنكر عليهم ذلك وبخهم بقوله: أ- أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي باهتين مبطلين ظالمين آثمين. ومناسبة البهتان: وهو افتراء الكذب إما بإطلاق البهتان على كل باطل محيّر في بطلانه، وإما لإلصاق تهمة الفاحشة بالمرأة وهو طعن بها وظلم، وإما لرميها بتهمة باطلة لأخذ المهر. ب- وكيف تأخذونه وتستحلون أخذ مهور النساء لا لذنب ولا لتقصير في التزام حدود الله، وقد حدث بينكم ما حدث من استمتاع أو جماع، أو إفضاء متبادل، وملابسة قد يتسبب منها إنجاب الولد، كيف تقطعون هذه الصلة، وتهتكون ستر المرأة، وتسيئون إلى سمعتها، ظلما وغضبا وطمعا في مالها، وأنتم أهل القدرة على العمل واكتساب الأموال. ج- وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي عهدا مؤكدا والتزاما بحق الصحبة والمعاشرة بالمعروف. قال قتادة ومجاهد: هذا الميثاق: هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] . ووصفه الله بالغلظة لقوته وعظمته. وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ إن هذا الفعل قطع لصلة الود والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: نهى الله الأولياء عن إرث النساء كرها، والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهنّ. وإبطال لعادة الجاهلية القبيحة بإطلاق حق التصرف بزوجة الميت لأوليائه، وجعلهم أحق بامرأته، وهذا مناف للكرامة الإنسانية وإخلال باحترام المرأة وجعلها متاعا يورث، وإساءة لزوجها السابق. كذلك نهى الله الأزواج وأولياء الميت عن عضل المرأة أي منعها من الزواج بمن تشاء، وحبسها والتضييق عليها، إلا في حال التلبس بفاحشة مبينة كالزنى والنشوز وغيرهما، بقصد أن يأخذوا بعض ما آتاه الزوج لها من مهر. أما في حال النشوز أو الزنى فيحل للرجل أخذ جميع المال الذي قدم مهرا للمرأة. ثم أمر الله بمعاشرة المرأة بالمعروف جميع الأزواج والأولياء، وإن كان المراد في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ بأن يوفيها حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول، لا فظّا ولا غليظا، ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. والمقصود من هذا الأمر الإلهي بحسن صحبة النساء بعد الزواج توفير مناخ السعادة والهدوء والاستقرار وهناءة العيش، لكل من الزوجين، وهذا واجب ديانة على الزوج، ولا يلزمه في القضاء. وتأثير الواجب ديانة بما يذكر بمراقبة الله وخشيته والعرض عليه في الحساب أوقع في نفس المؤمن من حسبان حساب القضاء. واستدل المالكية بقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 97

وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها. وفي حالة طروء كراهية للزوجة لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، يندب للرجل الصبر والاحتمال، فعسى أن تتبدل الأحوال وتحسن المرأة عشرة زوجها، ويرزقه الله منها أولادا صالحين. وبعد أن بيّن الله حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها حال الزنى أو النشوز مثلا، أتبعه بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وأنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة، فليس له أن يطلب منها مالا. ودل قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثّل إلا بمباح، والقنطار: المال الكثير الوزن. وقد فهم الناس ذلك من الآية بدليل قصة عمر والمرأة: خطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر! وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار «1» . وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 99

صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد عن ابن عباس: «من بنى لله مسجدا، ولو كمفحص قطاة لبيضها، بنى الله له بيتا في الجنة» ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة. وقد ورد في السنة وفعل الصحابة الإقلال من المهور، قال صلّى الله عليه وسلّم لابن أبي حدرد، وقد جاء يستعينه في مهره، فسأل عنه، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرّة «1» أو جبل» . وأرشد صلّى الله عليه وسلّم إلى يسر المهور وعدم التعالي في أحاديث أخرى منها: ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة: «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها» . وأجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق لقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ. والصحيح أن قوله تعالى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً وقوله في سورة البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [2/ 229] محكم غير منسوخ، لا يتعارض مع جواز أخذ عوض الخلع الذي تبذله المرأة بطواعية ورضا نفس، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.. [البقرة 2/ 229] . قال أبو بكر الجصاص الرازي: ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول. فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة، فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ قد أفاد الفرقة والطلاق. وسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول «2» .

_ (1) الحرة: أرض ذات حجارة نخرة سوداء. (2) أحكام القرآن: 2/ 111

المحارم من النساء [سورة النساء (4) الآيات 22 إلى 23] :

يفهم منه أن الرازي استدل بهذه الآية (20) على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر لأن الله تعالى منع الزوج أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق، ترك العمل به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة. أما الفقهاء فاختلفوا في ذلك، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المهر يتقرر بالخلوة، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه يتقرر بالجماع، لا بالخلوة، لكن قرر المالكية المهر أيضا بإقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء. والقائلون بأن المهر لا يتقرر بالخلوة رأوا أن هذه الآية مختصة بما بعد الجماع، بدليل قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى بعض: هو الجماع. المحارم من النساء [سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

الإعراب:

الإعراب: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، يقدر البصريون إلا بلكن ويقدره الكوفيون بسوى. وَساءَ سَبِيلًا سبيلا: تمييز منصوب. البلاغة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فيه حذف مضاف، أي حرم الله عليكم نكاح الأمهات. اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ كناية عن الجماع، مثل قولهم: بنى بها أو عليها. تَنْكِحُوا ما نَكَحَ جناس ناقص. المفردات اللغوية: سَلَفَ مضى فاحِشَةً قبيحا وَمَقْتاً سببا للمقت من الله وهو أشد البغض، وكانوا يسمونه نكاح المقت وَساءَ بئس سَبِيلًا طريقا إلى ذلك. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أن تنكحوهن، وشملت الجدات من جهة الأب أو الأم وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة: وهي بنت الزوجة من غيره اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي تربونهن في بيوتكم، وهي صفة موافقة للغالب من كون بنت الزوجة تعيش غالبا مع أمها في بيت زوج الأم، فلا مفهوم له، أي تحرم بنت الزوجة ولو لم تكن تتربى في بيت زوج الأم. دَخَلْتُمْ بِهِنَ أي جامعتموهن. فَلا جُناحَ أي لا إثم ولا تضييق في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن، ومن هنا استنبط العلماء قاعدة شرعية هي: «العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات» . وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي تحرم زوجات الأبناء، بخلاف زوجات الأولاد بالتبني، فلكم نكاحهن.

سبب النزول نزول الآية (22) :

سبب النزول: نزول الآية (22) : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ: نزلت في حصن بن أبي قيس، تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وصفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه: فاختة بنت الأسود بن عبد المطلب، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه: مليكة بنت خارجة. قال أشعث بن سوار: توفي أبو قيس، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدّك ولدا!! ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. وذكر النضر بن شميل في كتاب (المثالب) أن حاجب بن زرارة من العرب تمجّس وتزوج ابنته، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة. المناسبة: بيّن الله تعالى سابقا حكم نكاح اليتامى، وعدد من يحل من النساء بشرط العدل والنفقة، وأوصى بحسن معاشرة الزوجات، وحذر من أخذ مهورهن ظلما بغير حق، ثم عقبه هنا بذكر النساء اللاتي لا يجوز التزوج بهن بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 84، تفسير القرطبي: 5/ 104

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: اشتملت الآية على تحريم زوجة الأب، والأقارب بسبب النسب أو المصاهرة أو الرضاع. أولا- النكاح المقت: حرم الله تعالى في آية: وَلا تَنْكِحُوا.. امرأة الأب لأنها تشبه الأم، ولأنه فعل قبيح شنيع لا تألفه الطباع السليمة، ولأنه مقت مبغوض مكروه عند ذوي العقول الراجحة، لذا سماه العرب: «النكاح المقت» ويسمى ولد الرجل من امرأة أبيه: «مقيتا» ، ولأنه بئس الطريق ذلك، كما قال تعالى: وَساءَ سَبِيلًا وهو معطوف على خبر كان بتقدير: مقولا فيه ذلك لأنه إنشاء لا خبر. والمراد بالنكاح في قوله: ما نَكَحَ: العقد، كما قال ابن عباس، روى ابن جرير الطبري والبيهقي عنه أنه قال: «كل امرأة تزوجها أبوك، دخل بها أو لم يدخل بها، فهي حرام» . والمراد بالآباء: ما يشمل الأجداد إجماعا. لكن نكاح ما مضى قبل نزول الآية لا مؤاخذة فيه، أي أن هذا النكاح يستحق فاعله العقاب إلّا ما قد سلف ومضى، فإنه لا ذنب فيه، ومعفو عنه. والاستثناء منقطع، والمعنى: لكن ما قد سلف فلا تثريب عليكم فيه. وما هنا عبارة عن النساء، فقد وقعت على العاقل، وقيل: إنها مصدرية، والمعنى: لا تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آباؤكم من أنكحة الجاهلية الفاسدة. ثانيا- المحرمات بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع: بيّن الله تعالى أنواع المحرمات من النساء، لمنافاتها ما في النكاح من الصلة المتبادلة بين الجنسين، وهي ستة أقسام:

1 - نكاح الأصول:

1- نكاح الأصول: أي الأمهات والجدات، لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ والمراد بالأم: ما يشمل الجدات. 2- نكاح الفروع: أي البنات وبنات الأولاد من الأبناء والبنات، لقوله تعالى: وَبَناتُكُمْ والمراد: بنات الصلب وبنات الأولاد، ممن كن سببا في ولادتهن. 3- نكاح الحواشي القريبة والبعيدة: القريبة: نكاح الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم لقوله تعالى: وَأَخَواتُكُمْ. والبعيدة من جهة الأب والأم وهي نكاح العمات والخالات لقوله تعالى: وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وذلك يشمل أولاد الأجداد وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون. ومن القرابة البعيدة: الحواشي من جهة الإخوة، لقوله تعالى: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ من جهة أحد الأبوين أو كليهما. وهذه الأنواع الثلاثة: ما يحرم من جهة النسب. 4- ما يحرم بسبب الرضاع: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لقوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، فكل أقارب الأم المرضع أقارب للرضيع، فالمرضعة تصبح أما للرضيع، وبنتها أخته، وزوجها أبوه، وأولادها إخوته. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» وروى البخاري أيضا عن ابن عباس «أنه سئل

عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ قال: لا، اللقاح واحد» . وظاهر الآية أن قليل الرضاع ككثيره، وهو رأي الحنفية والمالكية. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره قال: «لا تحرّم المصّة والمصّتان ولا الإملاجة والإملاجتان» . وهو مروي عن الإمام أحمد. وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات لما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت: كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهن مما يقرأ من القرآن. ورد الحنفية على الحديث بأنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد لأنها محكمة ظاهرة المعنى، بينة المراد. وأخرج أبو بكر الرازي عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال: إن الناس يقولون: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، قال: قد كان ذاك، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم. ولا يحرم الرضاع إلا في سن الصغر وهو ضمن الحولين لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وروى الدارقطني عن ابن عباس قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» . وهل لبن الفحل يحرّم أو لا؟ كأن يتزوج رجل امرأتين، فتلد منه، وترضع إحداهما صبية، والأخرى غلاما، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرم وهو مذهب أكثر الأئمة، حرم الصبية على الغلام لأنهما أخوان من الرضاع لأب. وهذا هو المنصوص عليه، لما ثبت في البخاري عن عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب، فقالت عائشة: والله

5 - ما يحرم بسبب المصاهرة:

لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني، إنما أرضعتني المرأة! قالت عائشة: فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: يا رسول الله، إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن علي، فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال: إنه عمك، فليلج عليك. 5- ما يحرم بسبب المصاهرة: حرم الله بسبب المصاهرة ثلاثة أنواع تكريما لتلك الرابطة كتكريم رابطة النسب: الأول- أم الزوجة التي دخل بها الزوج أو عقد عليها، والجدة كالأم، لقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أي أمهات الزوجات. ولا يشترط في تحريم أم المرأة الدخول بالبنت، بل يكفي مجرد العقد. وهو رأي الجماهير. الثاني- الربيبة: وهي ابنة الزوجة من غيره، بشرط الدخول بأمها، وكذا يحرم أولاد أولادها، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها لقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي إن مجرد العقد على امرأة دون دخول لا يحرم عليه بناتها. وقال الحنفية: إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذا إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى فرجها بشهوة، أو لمس يد أم امرأته بشهوة. وتحرم عليه امرأته تحريما مؤبدا. وخالفهم باقي الأئمة وقالوا: الزنا لا يحرم أصول المزني بها ولا فروعها. الثالث- زوجة الابن وابن الابن: تحرم على الأب والجد لقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ والحلائل جمع حليلة: وهي الزوجة.

6 - ما يحرم بسبب عارض:

ويقال للرجل: حليل، لحلول الزوجين في مكان واحد وفراش واحد. ومثلها زوجة الابن من الرضاعة، للحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . ويلاحظ أن قيد كون الربيبة في حجر الزوج خرج مخرج الغالب، لا أنه قيد في التحريم، والربيبة حرام على زوج أمها سواء كانت في حجره أو لم تكن في حجره. ولا تحرم زوجة الابن بالتبني لإبطاله وتحريمه في الإسلام، لقوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب 33/ 37] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب 33/ 5] . 6- ما يحرم بسبب عارض: وهو الجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها، والضابط: كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكر، لحرم عليه نكاح الأخرى، بل تظل الحرمة قائمة لو طلق إحداهما حتى تنتهي عدتها. ويدل لذلك ما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» وفي رواية الترمذي وغيره: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» وهذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] . ويؤكده ما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «طلق أيتهما شئت» . وأشار النبي صلّى الله عليه وسلّم في رواية ابن حبان وغيره: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» أي أن تحريم الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها: لوجود الكراهة والبغضاء بين الضرائر عادة.

فقه الحياة أو الأحكام:

هذا التحريم لا يشمل ما قد سلف قبل التحريم، فما مضى لا مؤاخذة فيه. إن الله كان وما يزال غفورا رحيما يغفر لكم ما قد سلف من آثار أعمالكم السيئة، ويغفر لكم ذنوبكم بالتوبة والإنابة، ويرحمكم بتشريع أحكام الزواج التي فيها الخير والمصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم. فقه الحياة أو الأحكام: وضح في أثناء التفسير كثير من الأحكام الشرعية، وأوجزها هنا مع الإشارة إلى أحكام أخرى. دلت الآية: وَلا تَنْكِحُوا على تحريم منكوحة الأب أو الجد، إلا ما قد سلف، والاستثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ولا إثم فيه، فهو كما وصف سبحانه: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا وهو دليل على أنه فعل في غاية من القبح، لذا سماه العرب نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها. ويقال للولد إذا ولدته: المقتيّ. وأصل المقت: البغض. واختلف العلماء فيمن زنى بها الأب، أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته، أم لا تحرم، فيكون الوطء الحرام غير ناشر للحرمة كالوطء الحلال. واختلفوا في الزنى بأم الزوجة، أيحرم الزوجة أم لا يحرمها؟ ذهب إلى الرأي الأول الحنفية والأوزاعي والثوري ومالك في رواية ابن القاسم عنه، وذهب إلى الثاني الليث والشافعي ومالك في رواية الموطأ عنه، وهو الراجح لدى المالكية. وسبب الخلاف: الاشتراك في لفظ النكاح، فهو يطلق على الوطء وعلى العقد، فمن قال: إن المراد به في الآية الوطء، حرم من وطئت ولو بزنا. ومن

إطلاقه على الوطء قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة 2/ 230] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور 24/ 3] إذ لو كان العقد للزم الكذب، وقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء 4/ 6] وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ضعيف: «ناكح اليد ملعون» . ومن قال: المراد به العقد لم يحرم بالزنا. ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب 33/ 49] وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور 24/ 32] وقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء 4/ 3] وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه: «النكاح من سنتي» أي العقد، وقوله في الحديث الثابت: «أنا من نكاح ولست من سفاح» . فما الراجح أن تحمل عليه الآية أهو الوطء أم العقد؟ ذهب الحنفية: إلى أن الراجح أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء لأن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء، فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام. والوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطئا مباحا إلا وهو موجب للتحريم كالوطء بملك اليمين ونكاح الشبهة، وقد وجدنا وطئا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم، فكيفما وجد ينبغي أن يحرم، سواء كان مباحا أو محظورا. ورأى الشافعية: أن النكاح وإن كان مجازا في العقد، ولكنه اشتهر فيه، حتى صار حقيقة فيه، كالعقيقة كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقة مجازا، واشتهر ذلك حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق. وقد عبر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله:

وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. ثم إنه كيف يجعل للزنا حرمة وهو فاحشة ومقت؟ ثم إن النسب لا يثبت بالزنا، فكذلك التحريم لا يثبت بالزنا. وهذا هو الراجح. ودلت آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... على تحريم سبع من النسب وهي: الأم ومثلها الجدات وان علون، والبنت ومثلها بنت الأولاد وإن سفلن، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت. وتحريم الأم من الآية لأن الأم حقيقة في الأم مباشرة، مجاز في الجدة، ويكون تحريم الجدات من الإجماع، وقال بعضهم: من الآية لأن الأم تطلق على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي. وأما البنت من الزنى فهل هي داخلة في قوله: وَبَناتُكُمْ؟ قال أبو حنيفة: إنها داخلة في الآية ولها حرمة البنت الشرعية لأنها متخلقة من مائه وبضعة منه، فحرمها عليه، فهو قد نظر إلى الحقيقة. وقال الشافعي: ليست داخلة في الآية، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية لأن الشارع لم يعطها حكم البنتيه، فلم يورثها منها، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها به لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» . ورجح بعض علماء العصر رأي أبي حنيفة قياسا على ولد الزنا، فإنه تحرم عليه أمه لأنه متخلق منها. ورأى آخرون ترجيح رأي المالكية والشافعية، حتى لا يجعل الزنى في مرتبة القرابة والمصاهرة والرضاع، والقاعدة الشرعية تقرر أن النقمة لا تكون طريقا إلى النعمة. ودلت الآية على تحريم ست بغير النسب وهم: الأم من الرضاع، والأخت من الرضاع، ومثلهما جميع أصول وفروع

المرضع. وأمهات الزوجات، والربائب المدخول بأمهن، وزوجات الأبناء، والجمع بين الأختين، ومثل الأخت: العمة والخالة وابنة الأخ وابنة الأخت. وأما زوجة الابن المتبنى فأحلها الإسلام، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية، وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه عليه الصلاة والسلام ، عملا بقوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب 33/ 37] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب 33/ 5] . وقد استنبط العلماء من قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.. القاعدة الشرعية وهي: «العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات» فأم المرأة تحرم بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها. وأما الربيبة: وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد حتى يدخل بأمها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها، جاز له أن يتزوج بنتها. ودل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ على أن تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه. وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات، فهو تحريم مؤبد دائم. والتحريم بالرضاع مثل التحريم بالنسب تماما، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . ويجوز للمرأة أن يحج معها أخوها من الرضاعة، كما صرح الإمام مالك رحمه الله. وأجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا

ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح لأن النكاح الفاسد إن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلّق بالصحيح لاحتمال أن يكون نكاحا، فيدخل تحت مطلق اللفظ، والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلّب التحريم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطأ بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه، وعلى أجداده وولد ولده. أما الوطء بالزنى فهو يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال في رأي الحنفية، بدليل قصة جريج، وقوله: «يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي» فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرّم الوطء الحلال. وقال المالكية والشافعية: إن الزنى لا حكم له لأن الله تعالى قال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وليست التي زنى بها من أمّهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه، روى الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح» . وأما اللائط: فقال مالك والشافعي والحنفية: لا يحرم النكاح باللواط. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها: أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك رجعتها، فقال الحنفية والحنابلة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلّق. وقال المالكية والشافعية: له أن ينكح أختها وأربعا سواها.

وإذا عقد المسلم على أختين في عقد واحد بطل نكاحها عند أبي حنيفة. ويخير بين الأختين في رأي مالك والشافعي، سواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما، أو جمع بينهما في عقدين. وأما النكاح القائم بين الأختين في الجاهلية فهو نكاح صحيح، ثم يخير بينهما إذا أسلم الزوج. والخلاصة: روى هشام بن عبد الله بن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرّمات كلّها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين: إحداهما- نكاح امرأة الأب. والثانية- الجمع بين الأختين. ألا ترى أنه قال: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ولم يذكر في سائر المحرمات: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. انتهى الجزء الرابع ولله الحمد

حرمة الزواج بالمتزوجات وإباحة الزواج بغير المحارم بشرط المهر [سورة النساء (4) آية 24] :

[الجزء الخامس] [تتمة سورة النساء] حرمة الزواج بالمتزوجات وإباحة الزواج بغير المحارم بشرط المهر [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) الإعراب: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على المصدر بفعل دل عليه قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لأن معناه: كتب ذلك كتابا الله، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل. مثل قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ [النمل 27/ 88] : منصوب على المصدر بما دل عليه الكلام قبله، وتقديره: صنع ذلك صنعا الله، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل. وَأُحِلَّ لَكُمْ بالضم فعل ماضى مبني للمجهول، وما نائب الفاعل، وقرئ بفتح الهمزة على أنه مبني للمعلوم، وما مفعول به. وأَنْ تَبْتَغُوا إما منصوب على أنه بدل من ما إذا كانت في موضع نصب مفعول به، أو على أنه مفعول لأجله، أي لأن تبتغوا بأموالكم. وإما مرفوع على أنه بدل من ما على أنها نائب فاعل. مُحْصِنِينَ وغَيْرَ مُسافِحِينَ حال من ضمير تَبْتَغُوا. البلاغة: يوجد طباق بين مُحْصِنِينَ ومُسافِحِينَ. آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: استعار لفظ الأجور للمهور لأن المهر يشبه الأجر في الصورة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَالْمُحْصَناتُ أي حرمت عليكم ذوات الأزواج لأنهن دخلن في حصن الزوج وحمايته، ويطلق الإحصان في القرآن الكريم على أحد أربعة معان: 1- التزوج: كما في الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء 4/ 24] يقال: أحصن الرجل: إذا تزوج. 2- الإسلام: كما في الآية: فَإِذا أُحْصِنَّ أي أسلمن، يقال: أحصن: إذا أسلم. 3- العفة: كما في الآية: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [النساء 4/ 25] يقال: أحصن: إذا عف، وفي آية أخرى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور 24/ 4] . 4- الحرية: كما في الآية: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء 4/ 25] يقال: أحصن: إذا صار حرا، وفي الآية نفسها: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وفي جميع ذلك: معنى المنع وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، فالرجل إذا تزوج، منع نفسه من الزنى، وإذا أسلم، منع نفسه من القتل، والعفيف يمنع نفسه من الفحش، وإذا عتق منع نفسه من الاستيلاء. وورد الإحصان في السنة بمعنى التزوج، قال صلّى الله عليه وسلّم: أحصنت؟ بمعنى تزوجت، قال: نعم. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» من أحصن منهم ومن لم يحصن. ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي المملوكات بالسبي في جهاد مشروع، فينفسخ نكاحهن من أزواجهن الكفار في دار الحرب، ويحل الاستمتاع بهن بعد استبراء الحامل بوضع حملها، وغير الحامل (الحائل) بحيضة ثم تطهر، واشترط الحنفية اختلاف الدار بينها وبين زوجها، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله تحريم ذلك عليكم وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي أبيح لكم من النساء سوى ما حرم عليكم أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا النساء بِأَمْوالِكُمْ بصداق، فالأموال: المهور مُحْصِنِينَ متزوجين أو متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ غير زانين، والمسافح: الزاني، وذلك لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين. أُجُورَهُنَّ مهورهن، والأجر في الأصل: الجزاء في مقابلة شيء من عمل أو منفعة، والمهر في مقابل الاستمتاع المباح. فَرِيضَةً مفروضة ومقدرة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا حرج ولا إثم ولا تضييق فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي اتفقتم أنتم وهن من حط بعض الفريضة أو كلها أو الزيادة عليها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخلقه فيما يصلحهم حَكِيماً فيما دبره لهم.

سبب النزول:

سبب النزول: روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا من سبي أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، ولهن أزواج، فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بها فروجهن. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: نزلت يوم حنين، لما فتح الله حنينا، أصاب المسلمون نساء من نساء أهل الكتاب لهن أزواج، وكان الرجل إذا أراد أن يأتي المرأة قالت: إن لي زوجا، فسئل صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فأنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ. أما قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.. الآية، فنزل بسبب ما يأتي، أخرج ابن جرير الطبري عن عمرة بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة فنزلت: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. المناسبة: هذه الآية ملحقة في مطلعها بالمحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها، في الآية السابقة. وناسب أن يذكر سبيل إباحة غير المحرمات من النساء بشرط المهر وبقصد التعفف لا الزنى. التفسير والبيان: قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ معطوف على أُمَّهاتُكُمْ في الآية السابقة، فهن من المحرمات. والمعنى: وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا المسبيات في جهاد

مشروع بيننا وبين الأعداء الكفار، دفاعا عن الدين، لا حرب استعمار واستغلال. فالآية تدل على تحريم ذوات الأزواج إلا ما ملكتموهن بسبي، فسباؤكم إياهن هادم لنكاحهن السابق أو فاسخ له، إذا بقي أزواجهن الكفار في دار الحرب. والزواج بإحدى السبايا طريق لكفالة المسبية وصونها عن التبذل ببذل العرض أو البحث عن الرزق. وجيء بقيد مِنَ النِّساءِ لإفادة التعميم، فيشمل كل متزوجة. وقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أي كتب الله ذلك (وهو تحريم ما حرم عليكم) كتابا وفرضه فرضا، وبعبارة أخرى: كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا، وفرضه فرضا ثابتا، موافقا للمصلحة دون شك ولا تغيير. وأحل الله ما وراء ذلكم مما هو عدا المحرمات المذكورات، فقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ معطوف على قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ عند من قرأ وَأُحِلَّ بالبناء للمعلوم، أما على قراءة البناء للمجهول وَأُحِلَّ فهو معطوف على كتب المقدر المفهوم من قوله تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تطلبوا النساء بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة، حالة كونكم أعفاء غير زناة، فلا تضيعوا أموالكم في الزنى، فتذهب أموالكم وتفتقروا. وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها فأعطوها الأجر أي المهر وسمي المهر أجرا لأنه في مقابلة الاستمتاع، وهذا الحكم مفروض من الله فريضة، فقوله فَرِيضَةً إما حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو مصدر مؤكد أي

فقه الحياة أو الأحكام:

فرض الله ذلك فريضة لأن المهر يفرض ويعين في عقد الزواج، ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء، كما في آية: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وآية: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أو أن المقصود الحث على إيفاء المهر الذي هو حق للزوجة بفرض الله وشرعه وحكمه المبرم، لا مجال للمساومة فيه أو التهرب منه. ولكن لا إثم ولا تضييق على الأزواج بالاتفاقات التي تحدث عقب الزواج، فلا مانع من التراضي على أن تحط المرأة عن الرجل المهر كله أو بعضه أو تهبه له، أو على الزيادة في مقدار المهر، فكل من النقص في المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه أمر مباح مشروع لأن المقصود بالزوجية أن تكون قائمة على أساس متين من المودة والمحبة، والتعاون والتعاطف، والله تعالى عليم بما فيه صلاح خلقه وبنواياهم، حكيم فيما دبره لهم من أحكام، فهو لا يشرع لهم تفضلا ورحمة منه إلا ما فيه خيرهم وصلاحهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على الأحكام السبعة التالية: الأول: تحريم الزواج بالمتزوجات من النساء، رعاية لحق الأزواج، ما دامت الزوجية قائمة فعلا أو في أثناء العدة، فإذا طلقن وانقضت عدتهن فهن لكم حلال، وأكد الله تعالى وجوب احترام مبدأ تحريم المحرمات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله عليكم ما قصه من التحريم، فهو عهد وميثاق، وهو أيضا إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله. الثاني: إباحة المسبيات المملوكات بسبب السبي في الجهاد، أو بسبب الشراء لأن

الثالث:

السبي يؤدي إلى فسخ زواجهن السابق، ما دام أزواجهن كفارا في دار الحرب، واشترط الحنفية اختلاف الدار بين المسبية وزوجها، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره لأن الزوج قد صار له عهد وعصمة لما يملكه، وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها. ولا فرق في رأي المذاهب الأخرى بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين. ولا بد من استبراء المسبية بوضع الحمل إن كانت حاملا، وبحيضة إن كانت حائلا غير حامل، قال الحسن البصري: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستبرءون المسبيّة بحيضة وروى أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري حديثا في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» . والعلماء كافة رأوا استبراء المسبية بحيضة واحدة، سواء أكانت ذات زوج أم لا زوج لها. هذا.. ويلاحظ أن الإسلام لم يفرض السبي أو الاسترقاق، وإنما كان مشروعا لدى الأمم جميعها، أما إنه لم يحرمه فمن أجل المعاملة بالمثل لأن الرقيق كان عماد الحركة والحياة الاقتصادية والاجتماعية، ولا يعقل أن يسترق العدو أسرانا ونحن لا نسترق أسراه. وكان الرق أحيانا من أجل توفير سبل المعيشة عند السيد، ويظهر هذا بنحو خاص بالنسبة للمرأة، إذ الغالب أن يكون زوجها قتل في الحرب، فمن مصلحتها أن تعيش في ظل من يعيلها وينفق عليها، ويعفها حتى لا تصبح أداة فساد أو عالة على المجتمع. الثالث: إباحة الزواج بجميع النساء الأجنبيات غير المحارم المذكورة في الآية:

الرابع:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء 4/ 23] وما أضيف إليها في السنة النبوية كالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لما روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها» . وضابط حرمة الجمع عند العلماء: ما ذكر عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا، لم يجز له أن يتزوج الأخرى، فالجمع بينهما باطل. وعلة التحريم: هو ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة، مما يقع بين الضرائر من البغضاء والشرور بسبب الغيرة، قال ابن عباس: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج الرجل المرأة على العمّة أو على الخالة، وقال: «إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» «1» . الرابع: أباح الله تعالى الاستمتاع بالنساء بعقد الزواج المشتمل على المهر، وهو المال المتقوم الذي يباح الانتفاع به شرعا، وهذا دليل على وجوب المهر، فإذا حصل الزواج بغير المال لم تقع الإباحة به لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه. الخامس: دلّ قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على أن المهر يسمى أجرا، وأنه في مقابلة البضع (الاستمتاع) لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. والظاهر أن المعقود عليه: هو بدن المرأة، ومنفعة البضع، والحلّ لأن العقد يقتضي كل ذلك. واختلف العلماء في معنى الآية على قولين:

_ (1) رواه ابن حبان وغيره.

1- قال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح فآتوهن مهورهن (أجورهن) فإذا جامعها مرة واحدة، وجب المهر كاملا إن كان مسمّى، أو مهر مثلها إن لم يسمّ. أما إذا كان النكاح فاسدا فيجب مهر المثل لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها مهر مثلها بما استحلّ من فرجها» «1» . ولا يجوز في رأيهم أن تحمل الآية على جواز نكاح المتعة: (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن نكاح المتعة وحرّمه ولأن الله تعالى قال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النساء 4/ 25] ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك. 2- وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، فقد كان مرخصا فيه في بدء الإسلام، أذن فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أو مرتين في الجهاد، لبعد المجاهدين عن نسائهم، وخوفا من الزنى، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين، وعلى أساس مبدأ العفو الذي لم يتعلق به تحريم في مبدأ الأمر، وذلك في غزوة أوطاس، وعام فتح مكة، ثم حرّمه النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدئذ واستقر الأمر على التحريم، بدليل آية: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون 23/ 6/ 5] وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين. وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة ، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وثبت في الصحيحين عن علي قال: «نهى رسول الله

_ (1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عائشة.

وهل يحد من دخل بامرأة في نكاح المتعة؟ :

صلّى الله عليه وسلّم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» وفي لفظ آخر في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» . ونهى أيضا عنها عمر رضي الله عنه، ودلت الأحاديث الكثيرة على تحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، كما تقدم. بل إن نكاح المتعة على النحو الذي يجيزه الشيعة الإمامية بشروط كثيرة غير مطبّق الآن في الواقع لأن المتمتع لا يقصد بالمتعة الإحصان، وإنما يقصد السفاح، وهو لا يلتزم بتوابع الوطء، والمرأة لا تلتزم أيضا بالعدة. قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها. واتفقت المذاهب الأربعة ما عدا زفر على بطلانه. وقال زفر: الزواج صحيح وشرط التأقيت باطل. وهل يحد من دخل بامرأة في نكاح المتعة؟ قال الحنفية والشافعية والحنابلة: لا يحد للشبهة وإنما يعزر ويعاقب لشبهة العقد. وقال المالكية في مشهور المذهب: يحد بالرجم. السادس: قوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعم المال وغيره من منافع الأعيان، وبه قال جمهور العلماء إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على المنفعة فالنكاح جائز، وهو في حكم من لم يسمّ لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة.

السابع:

احتج الجمهور بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: «اذهب فقد ملّكتكها بما معك من القرآن» . وفي رواية قال: «انطلق فقد زوجتكها فعلّمها من القرآن» «1» . وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها. السابع: دل قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ على جواز الزيادة والنقصان في المهر، فهو سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة، والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلّق قبل الدخول. شروط الزواج بالأمة وعقوبة فاحشتها [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

_ (1) متفق عليه بين أحمد والشيخين.

الإعراب:

الإعراب: طَوْلًا الطول: مصدر: طلت القوم، أي علوتهم، وهو مفعول به لفعل: يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ منصوب بطول انتصاب المفعول به. ولا يجوز نصبه ب يَسْتَطِعْ لأن المعنى يتغير، ويصير: ومن لم يستطع أن ينكح المحصنات طولا، أي للطول، فيصير الطول علة في عدم نكاح الحرائر، وهذا خلاف المعنى لأن الطول به يستطاع نكاح الحرائر، فبطل أن يكون منصوبا ب يَسْتَطِعْ فثبت أنه منصوب بالطول. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر. الْمُحْصَناتُ منصوب على الحال من الهاء والنون في وَآتُوهُنَّ وكذلك قوله تعالى: غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. البلاغة: يوجد طباق في الْمُحْصَناتِ.. ومُسافِحاتٍ ويوجد جناس ناقص أو مغاير في الْمُحْصَناتِ.. فَإِذا أُحْصِنَّ. المفردات اللغوية: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الاستطاعة: كون الشيء في مقدورك طَوْلًا الطول: الغنى والفضل الزائد من مال أو قدرة على تحصيل المطلوب الْمُحْصَناتِ هنا: الحرائر. الْمُؤْمِناتِ هو جري على الغالب، فلا مفهوم له. فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ينكح. مِنْ فَتَياتِكُمُ إمائكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أي اكتفوا بالظاهر واتركوا السرائر إلى الله، فإنه العالم بتفصيلها، وربّ أمة تفضل الحرة، وهذا تأنيس بنكاح الإماء. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم وهن سواء في الدين، فلا تستنكفوا من نكاحهن. بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مواليهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أعطوهن مهورهن بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل ولا نقص. الْمُحْصَناتِ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات جهرا أَخْدانٍ أخلاء يزنون بهن سرا. والأخدان جمع خدن: وهو الصاحب، ويطلق على الذكر والأنثى فَإِذا أُحْصِنَّ تزوجن بِفاحِشَةٍ زنى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر الأبكار إذا زنين الْعَذابِ هو الحد المقدر شرعا وهو مائة جلدة، ونصفها وهو عقوبة الرقيق خمسون، ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف خَشِيَ خاف الْعَنَتَ الجهد والمشقة، والمراد هنا: الزنى، سمي به الزنى لأنه سبب المشقة بالحد في الدنيا والعقوبة في الاخرة مِنْكُمْ أي أن من لا يخاف الوقوع في الزنى من الأحرار، فلا يحل له نكاح الأمة، وكذا من استطاع طول حرة أي مهرها، في رأي الشافعي. وبشرط كون

المناسبة:

الأمة مؤمنة لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فلا يحل نكاح الإماء الكافرات ولو عدم الرجل مهر الحرة وخاف الوقوع في الزنى. وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح المملوكات خَيْرٌ لَكُمْ لئلا يصير الولد رقيقا. المناسبة: هذه الآية تابعة لما قبلها، تبيّن حكم التّزوج بالإماء وحكم عقوبتهن عند ارتكاب الفاحشة، بعد أن بيّنت الآية المتقدّمة إباحة الزواج بكل النّساء الأجنبيّات غير المحرّمات، فلما بيّن الله من لا يحل من النّساء ومن يحلّ منهنّ، بيّن لنا هنا فيمن يحلّ أنه متى يحلّ، وعلى أي وجه يحلّ؟ التفسير والبيان: ومن لم يجد لديه زيادة في المال والسعة ليتمكن من الزواج بالحرائر، فله أن يتزوج بالإماء، وعبّر عنهنّ بالفتيات تكريما لهنّ وإرشادا لمناداة الأمة والعبد بلفظ الفتاة والفتى، روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقولنّ أحدكم عبدي أمتي، ولا يقل المملوك: ربّي، ليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرّب: هو الله عزّ وجلّ» . والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وشأن الحرّة الإحصان، كما أن شأن الأمة البغاء، لذا قالت هند للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعجب: أوتزني الحرّة؟ وظاهر الآية يدلّ على أن زواج الإماء مشروط بشروط ثلاثة: الأول- ألا يجد الزّوج صداق الحرّة. الثاني- أن يخشى العنت أي الوقوع في الزنى. الثالث- أن تكون الأمة المتزوّج بها مؤمنة غير كافرة.

ومهر الحرّة يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، فلكلّ شخص وبيئة ما يناسبهما عرفا، فقد يقدر الرجل على مهر الحرّة، ولكن النساء تنفر منه لسوء خلقه أو خلقه، وقد يعجز عن القيام بحقوق الحرّة من النفقة والمساواة بينها وبين غيرها، وليس للأمة مثل هذه الحقوق. وقدّر الحنفية المهر بربع دينار (ثلاثة دراهم) ، وقال بعضهم: عشرة دراهم. ولا أجد لهذا التحديد مستندا في الأدلة الشرعية، وإنما الثابت في السّنة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمن يريد الزواج: «التمس ولو خاتما من حديد» «1» . وتزوّج بعض الصحابة على تعليم امرأته شيئا من القرآن. وإنما اشترط التشرع هذه الشروط في نكاح الإماء تفاديا لما يشتمل عليه من أضرار، أهمها صيرورة الولد رقيقا لأن الولد يتبع الأم في الرّق والحرية، لذا قال الله تعالى في آخر الآية: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وذهب أبو حنيفة إلى جواز نكاح الأمة لمن لم يكن عنده حرّة، سواء أكان واجدا مهر الحرّة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، عملا بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء 4/ 3] ، وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور 24/ 32] ، وقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] ، وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة 5/ 5] ، وجميع ذلك يتناول الإماء والكتابيّات. ولم يشرط فيه عدم الطّول ولا خوف العنت، وهذه الآية لا تصلح لتخصيص العمومات السابقة لأنها أولا تدلّ على الشروط بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند أبي حنيفة رحمه الله. وثانيا على تقدير الحجية يكون

_ (1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سهل بن سعد.

مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، فيجوز أن يكون المراد ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط، كما يجوز ثبوت الحرمة، ولكن الكراهة أقلّ في مخالفة العمومات فتعينت. وأما قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ فليس بشرط، وإنما هو إرشاد للإصلاح لعموم مقتضى الآيات. وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض هذه الآية، إلا معارضة العام للخاص، والخاص مقدّم على العام. والحنفية خصصوا عموم الآيات فيمن لم يكن عنده حرّة، صونا للولد عن الإرقاق، وهذا المعنى يقتضي التخصيص أيضا بما إذا لم يكن لديه مهر الحرة، وخاف العنت. ثم إن الآية أباحت نكاح الأمة لضرورة من خشي العنت وفقد مهر الحرّة، بشرط كون الأمة مسلمة، وفيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح. وأما معنى قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فهو أنكم أيها المؤمنون مكلّفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر، فاعملوا على الظاهر في الإيمان، والإيمان الظاهر في الأمة كاف، ولا يشترط العلم بالإيمان يقينا إذ لا سبيل لكم إليه. وأنتم مع الإماء إما من جنس واحد وهو البشرية والرجوع إلى أصل واحد وهو آدم، وإما أنكم مشتركون مع الإماء في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل فلا تأنفوا نكاح الإماء عند الضرورة. وهذا رفع من شأن الإماء وتسوية بينهن وبين الحرائر. ثم أعاد الله تعالى الأمر بنكاح الإماء لزيادة الترغيب، وجعل نكاحهن مثل الحرائر بكونه بإذن أي رضا أهلهنّ، والأهل: المولى، أو المالك لهن لأن الإيمان رفع من قدرهن. واتفق الفقهاء على أن نكاح الأمة والعبد مشروط بإذن السيّد، لهذه الآية

ولحديث ابن عمر عند ابن ماجه: «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر» . فإذا لم يتوافر الإذن، كان النكاح في رأي الشافعي باطلا غير صحيح، وموقوفا غير نافذ كعقد الفضولي في رأي الفقهاء الآخرين. والأمة كالحرة أيضا في وجوب المهر لها، لقوله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي أدّوا إليهنّ مهورهنّ بالمعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل. ومهر الأمة عند الجمهور (أكثر الأئمة) للسيّد لأنه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيّد، وهو الذي أباحها للزوج بالنكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها، ولأن الرّقيق لا يملك شيئا أصلا لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل 16/ 75] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «العبد وما في يده لمولاه» . وقال الإمام مالك: المهر حق للزّوجة على الزّوج، ومهر الأمة لها، عملا بظاهر الآية. ورد الجمهور بأن المراد بالآية: وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن، أو أن المراد: وآتوا أهلهن مهورهن. وإنما أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر. لكن شرط استحقاق الإماء المهور أن يكنّ عفائف متزوجات منكن، لا مستأجرات للبغاء جهرا وهنّ المسافحات، ولا سرّا وهنّ متخذات الأخدان. وهكذا كان عرف الجاهلية في قسمة الزنى نوعين: علني وهو السّفاح، وسرّي وهو اتّخاذ الأخدان. وقد حرّم الله النّوعين بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام 6/ 151] ، وقوله: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف 7/ 33] . فالمراد بالمحصنات هنا: العفائف، والمرأة المسافحة: هي التي تؤاجر نفسها

مع أي رجل أرادها، والتي تتخذ الخدن: هي التي تتخذ صاحبا معينا. والسبب في اشتراط كون الأمة محصنة مصونة في السرّ والجهر إذا أراد الحرّ التزوّج بها: هو أن الزّنى كان غالبا في الجاهلية على الإماء، وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن، حتى إن عبد الله بن أبيّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن، فنزل في ذلك: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النور 24/ 33] . ثم أبان الله تعالى عقوبة الحدّ على الزّانية الأمة، فجعل عقوبتها نصف عقوبة الحرّة، وذلك بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ... أي أن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزّواج، فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر، وإذا كان حدّ الحرّة مائة جلدة بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فحدّ الأمة هو خمسون جلدة. هذا ما دلّ عليه القرآن، فلا رجم للإماء لأن الرّجم لا يتنصف، ودلّت السّنّة على حدّ الأمة غير المزوجة، روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال: «اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» . والسبب في تصدير الآية بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ هو دفع توهم أن التزوّج يزيد في حدهنّ، فهو قيد لم يجر مجرى الشرط، فلا مفهوم له. ثم ذكر الله تعالى بقوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ شرطا آخر لإباحة نكاح الإماء وهو الخوف من الزنى، وهذا ما أخذ به الشافعي رضي الله عنه، أما أبو حنيفة فلم يجعل ذلك شرطا، وإنما هو إرشاد للأصلح. ثم أوصى الله تعالى في نكاح الإماء بوصية أدبيّة خلقية عامة فقال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي أن صبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهنّ، وإن أبيح

فقه الحياة أو الأحكام:

لكم ذلك للضرورة بشروط، لما فيه من أضرار: بتعريض الولد للرّق، ولأنهنّ ممتهنات مبتذلات، خرّاجات ولّاجات، وذلك ذلّ ومهانة يرثه الواد منهن، ولأن حقّ المولى في الإماء أقوى من حقّ الزّوجية، فله الحقّ باستخدامهنّ، والسفر بهنّ وبيعهنّ، وفي ذلك مشقّة عظيمة على الأزواج. جاء في مسند الدّيلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرائر: صلاح البيت، والإماء: هلاك البيت» ، وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرّة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الأمة فقد أرقّ نصفه» . وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي والله واسع المغفرة كثيرها، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وفي ذلك تنفير عنه، ويغفر لمن صدرت منه هفوات كاحتقار الإماء المؤمنات، وهو واسع الرّحمة كثيرها إذ رخّص في نكاح الإماء وأبان أحكام الشريعة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى الأحكام التالية: 1- الترخيص بنكاح الإماء لمن لم يجد الطّول: وهو السّعة والغنى، والمراد هاهنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: إنّ من عنده حرّة فلا يجوز له نكاح الأمة، وإن عدم السّعة وخاف العنت لأنه طالب شهوة وعنده امرأة. وبه قال الطّبري واحتجّ له. واختلف العلماء فيما يجوز للحرّ الذي لا يجد الطّول ويخشى العنت، من نكاح الإماء، فقال مالك وأبو حنيفة والزّهري: له أن يتزوّج أربعا، وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة لقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة.

2- إيمان الأمة المتزوج بها: لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي من مملوكاتكم المؤمنات. وفيه إشارة إلى خطاب المملوك بالفتى، والمملوكة بالفتاة، وفي الحديث الصحيح: «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل: فتاي وفتاتي» . فلا يجوز التزوّج بالأمة الكتابية، وهو رأي الجمهور، وقال الحنفية: نكاح الأمة الكتابية جائز لأن قوله: الْمُؤْمِناتِ على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها، مثل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء 4/ 3] فإن خاف ألا يعدل فتزوّج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل ألا يتزوّج فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوّج إلا مؤمنة، ولو تزوّج غير المؤمنة جاز، واحتجّوا بالقياس على الحرائر لأنه لما لم يمنع قوله: الْمُؤْمِناتِ في الحرائر في مطلع الآية من نكاح الكتابيات، فكذلك لا يمنع قوله: الْمُؤْمِناتِ في الإماء من نكاح الإماء الكتابيات. 3- سعة علم الله تعالى ورفع الحرج عن نكاح الإماء: دلّ قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ على أن الله عليم ببواطن الأمور، ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم، وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من التزوّج بالإماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء، أو كانت خرساء وما أشبه ذلك، ففي اللفظ إيماء على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر. ويؤكد ذلك قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم من جنس واحد وإنكم بنو آدم، أو أنتم مؤمنون. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيّره وتسمّيه الهجين «1» ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له.

_ (1) الهجين: الذي أبوه عربي وأمه أمة غير محصنة. وقال المبرد: ولد العربي من غير العربية.

4- نكاح الأمة والعبد بإذن السيد: دلّ قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ على أن نكاح الأمة مقيّد بإذن أربابهنّ المالكين ورضاهم، وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيّده لأن العبد مملوك لا أمر له، وبدنه كلّه مستغرق بخدمة سيّده. لكن نكاح العبد بغير إذن سيّده موقوف عند المالكية والحنفية، فإن أجازه سيّده جاز، وأما الأمة فيفسخ نكاحها ولم يجز بإجازة السيّد لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح أصلا. وقال الشافعي والأوزاعي وداود الظاهري: يفسخ نكاح العبد بغير إذن سيّده لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته. 5- وجوب المهر: دلّ قوله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على وجوب المهر في النكاح، وأنه للأمة، وهو مذهب مالك، لقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ أي بالشرع والسّنّة، وهذا يقتضي أنهنّ أحقّ بمهورهنّ من السّادة. وقال الشافعي: الصداق للسيّد لأنه عوض فلا يكون للأمة لأن الزواج إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت الأمة لأن المهر وجب بسببها. 6- مقومات اختيار الأمة: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي عفائف غير زوان أي معلنات بالزنى، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أصدقاء على الفاحشة. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى، ولا تعيب اتّخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، بقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام 6/ 151] كما قال ابن عباس وغيره. 7- حدّ الأمة الزّانية: تحدّ الأمة إذا زنت خمسين جلدة، وهي نصف عقوبة الحرّة الزّانية البكر، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوّجة. أما حدّ المتزوّجة فلقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء 4/ 25] وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور، فلا تحدّ كافرة

إذا زنت، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون: إحصانها التزوّج بحرّ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوّج فلا حدّ عليها، وهو رأي سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة. وقالت فرقة: إحصانها التزوّج، إلا أن الحدّ واجب على الأمة المسلمة غير المتزوّجة بالسّنّة كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحدّ، كما قال الزّهري. فالمتزوّجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوّجة محدودة بالحديث. والسبب في الاكتفاء بجلد الأمة المتزوّجة (الثيّب) : أنّ الرّجم الواجب على المحصنات (الحرائر) لا يتبعّض. والفائدة في نقصان حدهنّ أنهنّ أضعف من الحرائر. وعقوبة العبد مثل عقوبة الأمة، إذ الذكورة والأنوثة لا تؤدي إلى التفرقة في أحكام الأرقاء. ففي الآية ذكر حدّ الإماء خاصة، ولم يذكر حدّ العبيد، ولكن حدّ العبيد والإماء سواء: خمسون جلدة في الزنى، وفي القذف. وفي شرب الخمر في رأي الجمهور غير الشافعية: أربعون. وعليه فإن الإماء يدخلن في قوله عليه الصّلاة والسّلام: «من أعتق شركا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه» «1» وهذا هو القياس في معنى الأصل، أو قياس المساواة. ومنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور 24/ 4] يدخل فيه المحصنون قطعا. هذا.. وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزّانية ليس بواجب لازم على سيّدها، وإن اختاروا له ذلك، لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها، فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبيّن زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» «2» .

_ (1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) والدارقطني عن ابن عمر. (2) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. [.....]

أسباب الأحكام الشرعية السابقة [سورة النساء (4) الآيات 26 إلى 28] :

وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة، لقوله: «فليبعها» ، فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال. 8- الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة: دلّ قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ على أفضلية العزوبة وكراهية نكاح الأمة لأن زواج الأمة يفضي إلى إرقاق الولد «1» ، ومغالبة النفس وكبح جماحها والصبر على مكارم الأخلاق أولى من معاشرة الإماء. قال عمر رضي الله عنه: «أيّما حرّ تزوّج بأمة فقد أرقّ نصفه» يعني يصيّر ولده رقيقا. وقد سبق ذكر الأحاديث في ذلك. وهذا يدلّ على أن العزل حقّ المرأة لأنه لو كان حقّا للرجل لكان له أن يتزوّج ويعزل، فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب، وبه قال مالك «2» . أسباب الأحكام الشرعية السابقة [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

_ (1) قال الفقهاء: إذا أحبل رجل حرّ أمة غيره بزنا أو نكاح، فالولد رقيق. (السراج الوهاج: ص 644) . (2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 407.

الإعراب:

الإعراب: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ دخول اللام على المفعول المتأخر عن فعله المتعدي ضعيف أو ممتنع، وقد خرجه النحاة على مذاهب: فمذهب سيبويه وجمهور البصريين: أن مفعول يُرِيدُ محذوف، واللام للتعليل. وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بمصدر، على حد «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» والتقدير: إرادة الله كائنة للتبيين. وذهب الكوفيون: أنها اللام الناصبة للفعل، وأنها تقوم مقام «أن» في فعل الإرادة والأمر، فيقال: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم. وفي التنزيل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصف 61/ 8] ، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام 6/ 71] . وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً منصوب على الحال. المفردات اللغوية: سُنَنَ طرائق، جمع سنة: وهي الطريقة والشريعة. الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته. أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يسهل عليكم أحكام الشرع. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عاجزا عن مخالفة نفسه وهواه. المناسبة: ذكر الله تعالى في هذه الآيات علل الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والزواج وحكمها التي من أجلها شرعت، كما هو الشأن في القرآن، لتطمئن النفوس، وتعلم الفائدة من تلك الأحكام، وتقبل عليها ببواعث ذاتية، ونفس رضية منشرحة لما تقوم به لأنها تحقق السعادة في الدّنيا والآخرة. التفسير والبيان: يريد الله بإنزال هذه الآيات أن يبيّن لكم التكاليف والأحكام الشرعية، ويميز فيها الحلال من الحرام، والحسن من القبيح، ويرشد إلى ما فيه المصلحة، ويهديكم إلى طرائق ومناهج الأنبياء والصالحين المتقدمين، لتقتفوا آثارهم،

وتسيروا سيرتهم، فالشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة باختلاف الأحوال والأزمان، إلا أنها متفقة في مراعاة المصالح. ويريد الله أيضا أن يقبل توبتكم من الإثم والمحارم، أو يرشدكم إلى ما يمنع من المعاصي، أو إلى ما يكفّرها ويسترها ويذهب أثرها. والمختار عند المحققين أن الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين، بل لطائفة معينة قد تاب الله عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في الآيات السابقة، وتابوا بالفعل لأنه لو كان عامّا لعارضه حالات أناس لم يتوافر عندهم المراد وهو التوبة. والله ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم ما شرع لكم وما سار عليه من قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرّهم، وهو حكيم في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله، يراعي الحكمة والمصلحة، ولا يكلّف بما فيه مشقة وضرر. ثم أكد الله تعالى إرادته قبول التوبة وتطهيركم وتزكية نفوسكم، وقارن بين تلك الإرادة المقترنة بالرحمة وبين إرادة الذين يتبعون الشهوات وهم الفسقة المنهمكون في المعاصي أو الزناة، وقيل: اليهود والنصارى أو المجوس الذين كانوا يحلّون الأخوات وبنات الإخوة والأخوات، فإنهم يريدون أن تميلوا مع أهوائهم ميلا عظيما، أي تنحرفوا معهم عن الحقّ إلى الباطل. ويريد الله بهذه الأحكام والتكاليف والشرائع والأوامر والنواهي التخفيف عنكم، فأباح لكم نكاح الإماء عند الضرورة، كما قال مجاهد وطاوس، وهذا مثل قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف 7/ 157] ، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] ، وقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ

فقه الحياة أو الأحكام:

[الحجّ 22/ 78] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بالحنيفية السمحة» «1» ، لأنه تعالى وإن حرم علينا بعض النساء، فقد أباح لنا أكثر النساء، وهكذا الحلال أكثر من الحرام في كل شيء. وأبان الله تعالى سبب التخفيف وهو: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي يستميله الهوى والشهوة، لا سيما في أمر النساء، ويستثيره الخوف والحزن، فهو عاجز عن مقاومة الأهواء، وتحمل مشاق الطاعات، لذا خفف الله عنه التكاليف، ورخّص له بعض الأحكام. ومن آفات الفسق تأثر أهل بيت الإنسان بالفسق والفجور لأنه قدوة لهم، روى الطبراني عن جابر حديثا هو: «عفّوا تعفّ نساؤكم، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم» . فقه الحياة أو الأحكام: أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعدّ هذه الآيات الثلاث: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إلى قوله: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. والرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء 4/ 31] . والخامسة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء 4/ 40] . والسادسة: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء 4/ 110] . والسابعة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . والثامنة: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء 4/ 152] . دلّت الآيات الثلاثة على ما يأتي:

_ (1) رواه الخطيب عن جابر، وهو ضعيف.

تحريم أكل المال بالباطل ومنع الاعتداء وإباحة التعامل بالتراضي [سورة النساء (4) الآيات 29 إلى 30] :

1- سعة فضل الله ورحمته: إذ أنه تعالى يبيّن لخلقه أمر دينهم ومصالح دنياهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم. وهو دليل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى، كقوله سبحانه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] . 2- ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل: إن منهج الاستقامة في العالم واحد، فهو سبحانه أراد أن يبيّن لخلقه طرق الذين من قبلهم من أهل الحق وأهل الباطل. 3- التجاوز عن الذنوب: فهو تعالى يريد توبة العباد، أي يقبلها، فيتجاوز عن الذنوب. 4- التخفيف في جميع أحكام الشرع: يريد الله في تشريعه التخفيف عن الناس. وهذا على الصحيح في جميع أحكام الشرع، وليس في نكاح الإماء فقط. 5- ضعف الإنسان: أي أن هواه يستميله، وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف، فاحتاج إلى التخفيف. ومن أبرز مظاهر ضعفه: أنه لا يصبر عن النساء. وكان عبادة بن الصامت وسعيد بن المسيّب رغم تقدّم السّنّ يخشيان على أنفسهما من فتنة النساء. تحريم أكل المال بالباطل ومنع الاعتداء وإباحة التعامل بالتراضي [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

الإعراب:

الإعراب: تِجارَةً خبر تكون الناقصة، واسمها مضمر فيها وتقديره: إلّا أن تكون التجارة تجارة. وأن تكون: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وعلى قراءة الرفع: فاعل تكون التامة، ولا تفتقر إلى خبر. عُدْواناً وَظُلْماً منصوبان على المصدر في موضع الحال، كأنه قيل: ومن يفعل ذلك متعديا وظالما. المفردات اللغوية: لا تَأْكُلُوا أي لا تأخذوا، وعبّر عن الأخذ بالأكل لأنه المقصود المهم. بِالْباطِلِ بالحرام في الشرع كالرّبا والقمار والغصب. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي لكن أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن طيب نفس، فلكم أن تأكلوها. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها، أيّا كان في الدّنيا أو في الآخرة بقرينة. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في منعه لكم من ذلك. عُدْواناً تعديا على غيره مع القصد، وتجاوزا مفرطا للحلال. وَظُلْماً هو تجاوز الحق بالفعل، وهو تأكيد نُصْلِيهِ ناراً ندخله ونحرقه بالنار. يَسِيراً هيّنا. المناسبة: ذكر الله تعالى هنا قاعدة التعامل العام في الأموال، بعد أن بيّن أحكام بعض المعاملات: وهي معاملة اليتامى، وإعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة، ووجوب دفع مهور النساء. والسبب واضح وهو أن المال قرين الرّوح، والاعتداء عليه يورث العداوة، بل قد يجرّ إلى الجرائم، لذا أوجب الله تعالى تداوله بطريق التراضي لا بطريق الظلم والاعتداء.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ينهى الله تعالى كل واحد من المؤمنين عن أكل مال غيره بالباطل، وعن أكل مال نفسه بالباطل لأن قوله تعالى: أَمْوالَكُمْ يقع على مال نفسه ومال غيره، فكل الأموال هي للأمة، وأكل مال نفسه بالباطل: إنفاقه في المعاصي، وأكل مال غيره بالباطل أي بأنواع المكاسب غير المشروعة كالرّبا والقمار والغصب والبخس، فالباطل: ما يخالف الشرع. وقال ابن عباس والحسن البصري: هو أن يأكل بغير عوض، فالباطل: ما يؤخذ بغير عوض. ويشمل الأكل بالباطل: كل ما يؤخذ عوضا عن العقود الفاسدة أو الباطلة، كبيع ما لا يملك، وثمن المأكول الفاسد غير المنتفع به كالجوز والبيض والبطيخ، وثمن ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقردة والخنازير والذباب والزنابير والميتة والخمر وأجر النائحة وآلة اللهو. فمن باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه، كان ثمنه حراما خبيثا وعليه ردّه. وإذا لم يجز أكل المال بالباطل وهو غير المشروع والمأخوذ من عين أو منفعة ظلما من غير مقابل، فيجوز أخذه بالتراضي الذي يقرّه الشرع، لذا قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي ولكن كلوا الأموال بالتجارة القائمة على التراضي ضمن حدود الشرع، والتجارة تشمل عقود المعاوضات المقصود بها الربح، وخصّها بالذّكر من بين أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا في الحياة العملية، ولأنها من أطيب وأشرف المكاسب، وأخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أطيب الكسب: كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا» .

وليس كلّ تراض معترفا به شرعا، وإنما يجب أن يكون التراضي ضمن حدود الشرع، فالرّبا المأخوذ عن بيع فيه تفاضل أو بسبب قرض جرّ نفعا، والقمار والرّهان وإن تراضى عليه الطّرفان حرام لا يحلّ شرعا. وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه في الظاهر النهي عن قتل المؤمن نفسه في حال غضب أو ضجر (وهو الانتحار) ، كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة-: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا» . ولكن اتفق جمهور المفسرين على أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، وإنما قال: أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الزّجر، كما قال في الأموال: أَمْوالَكُمْ. جاء في الحديث: «المؤمنون كالنفس الواحدة» «1» . ولا مانع أن تكون الآية نهيا عن قتل الإنسان نفسه وعن قتل الآخرين، وعن كلّ ما يؤدي إلى الموت كتناول المخدرات والسموم الضارة والمجازفة في المهالك. والسبب في إيراد هذه الآية هنا في مجال الكلام عن المعاملات المالية: أنه لما كان المال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها وبه صلاحها، حسن الجمع بين التوصية بحفظ المال والتوصية بحفظ النفس. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي السابق، أي إنما ينهاكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس لأنه لم يزل بكم رحيما. ومما يدلّ على حرمة المجازفة بالنفس في المهالك قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] ، وما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال:

_ (1) نص الحديث: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.

فقه الحياة أو الأحكام:

لما بعثني النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام ذات السلاسل، احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم، يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل شيئا. ففهم عمرو رضي الله عنه أن الآية تتناول بعمومها مثل حالته، وأقرّه النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. ثم ذكر الله تعالى عقوبة قاتل الأنفس، وهي أن من يفعل ذلك المحرم- وهو قتل النفس لأن الضمير المشار إليه يعود إلى أقرب مذكور- حال كونه معتديا ظالما، عاقبه الله على جرمه في الآخرة، بإدخاله نارا شديدة الإحراق، وذلك الإدخال هيّن سهل على الله، لا يمنعه منه مانع. وقد بيّنت أن العدوان: هو الإفراط في مجاوزة الحدّ، وأن الظلم: هو الجور ومجاوزة الحدّ أو وضع الشيء في غير موضعه. وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على الأحكام الشرعية الآتية: 1- تحريم أكل الأموال بالباطل أي بغير حق، وهو كل ما يخالف الشرع أو يؤخذ بغير عوض. وله أحوال كثيرة. وعبّر بكلمة أَمْوالَكُمْ للإشارة إلى أن مال الفرد هو مال الأمة، مع احترام الحيازة والملكية الخاصة وإباحة التصرف بالمملوك بحرية تامة، ما لم يكن هناك ضرر بالأمة أو بالمصلحة العامة.

وكذلك مال الأمة هو مال الفرد، فعليه المحافظة على الأموال العامة كما يحافظ الشخص على أمواله الخاصة. وهذا يومئ إلى وجوب التكافل الاجتماعي بين الفرد والأمة، وبين الشخص والمجتمع، فعلى الأمة ممثلة بالدولة إشباع حاجة الفرد عند الضرورة، وعلى الفرد دعم الأمة بالإنفاق في سبيل الله والجهاد والمصالح العامة، لتتمكن الأمة من الدفاع عن مصالح الأفراد، وحماية البلاد والأموال والأشخاص. ولكن ليس للمحتاج أن يأخذ شيئا من أموال الآخرين إلا بإذنهم، صونا للأموال، ومنعا للفساد والفوضى، ومنعا لانتشار البطالة وشيوع روح الكسل بين الأشخاص. 2- إباحة جميع أنواع التجارات (أي عقود المعاوضات التي يقصد بها الربح) بشرط التراضي بين العاقدين. وذلك يشمل البيع والعطاء، فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله بِالْباطِلِ أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ونحوهما، وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة وهبة التبرع. روى ابن جرير الطبري عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما» «1» . ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس، الذي قال به الشافعي وأحمد والليث وغيرهم، لما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» يعني أن الآية مخصوصة بالحديث.

_ (1) حديث مرسل.

ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام، وحسبما يتبيّن فيه مال البيع، ولو إلى سنة في القرية ونحوها في مشهور مذهب مالك رحمه الله. ومن التراضي الضمني: بيع المعاطاة مطلقا فهو صحيح في رأي الجمهور غير الشافعي. وأما الحنفية والمالكية فلم يقولوا بمشروعية خيار المجلس لأن الآية تقتضي حلّ التّصرف في المبيع بوقوع البيع عن تراض، سواء أتفرق المتبايعان أم لم يتفرّقا، فإن الذي يسمّى تجارة في عقد البيع إنما هو الإيجاب والقبول، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء. وخصص من التجارات أشياء إما بالقرآن وإما بالسنّة، فالخمر والميتة والخنزير وسائر المحرّمات في الكتاب لا يجوز الاتّجار فيها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي أن سائر وجوه الانتفاع محرمة، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل النّهي عن الشّحوم نهيا عن أكل ثمنها، ففي الحديث الصحيح: «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنها» . ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وبيع العبد الآبق، وبيع الغرر، وبيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان ، ونحوها من البيوع المجهولة أو المعقودة على غرر. كلّ ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. 3- الترغيب في التجارة: أباحت الآية التجارة ورغّبت فيها، لشدة حاجة الناس إليها، بدليل أن مدار حلّها على تراضي المتبايعين، أما الغش والكذب والتدليس فيها فهي محرّمة.

وفي الآية إيماء إلى أن جميع ما في الدّنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل الزائل الذي لا ثبات له ولا بقاء، فلا ينبغي أن يشغل العاقل بها عن الاستعداد للآخرة، لقوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور 24/ 37] ، وروى الدارقطني عن ابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النّبيين والصّدّيقين والشهداء يوم القيامة» . وفي الآية أيضا إشارة إلى أن معظم التجارات مشتملة على الأكل بالباطل للطمع في أخذ الأرباح الفاحشة، ولزخرفة البضاعة بمختلف الأساليب، ولاقترانها بالأيمان الكاذبة غالبا، لذا فإنها تحتاج إلى المسامحة والصدقة، قال عليه الصلاة والسلام- فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن قيس بن أبي غرزة-: «يا معشر التجار، إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب، فشوّبوه بالصدقة» ويلاحظ أن الأكل من غير إذن من المشتريات في الأسواق قبل تمام الشراء لا يحل، وفيه شبهة، فربما لا يتم الشراء. والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة، فذلك جائز. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا. قال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: «فليبعها ولو بضفير» أي بحبل، وقوله عليه السلام لعمر: «لا تبتعه- يعني الفرس- ولو أعطاكه بدرهم واحد» وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن جابر: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» وليس فيه تفصيل بين القليل والكثير من ثلث وغيره. 4- التراضي أساس العقود: لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ

جزاء اجتناب الكبائر [سورة النساء (4) آية 31] :

مِنْكُمْ أي عن رضى، فلا يصح العقد بالإكراه أو الإجبار. 5- تحريم قتل النفس (الانتحار) وتحريم قتل أنفس الآخرين، أجمع أهل التأويل على أن المراد بآية وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ النهي أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي. 6- عقوبة القتل وأكل المال بالباطل: دلت آية: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ.. على تحريم قتل النفس لأنه أقرب مذكور، وربما دل على تحريم كل ما سبق من أكل المال بالباطل وقتل النفس لأن النهي عنهما جاء عقبهما، ثم ورد الوعيد بحسب النهي. وقيل: هو عام على كل ما نهي عنه من القضايا، من أول السورة إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. وقال الطبري: ذلِكَ عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [الآية 19] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد، إلا قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ.. فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً. جزاء اجتناب الكبائر [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

الإعراب:

الإعراب: مُدْخَلًا مصدر أدخل، ومن قرأ بالفتح جعله مصدر دخل. ويجوز أن يكون مُدْخَلًا اسم المكان المدخول، والمراد به هاهنا الجنة. المفردات اللغوية: تَجْتَنِبُوا تتركوا الشيء جانبا، واجتناب الشيء: تركه والابتعاد عنه، كأنه ترك جانبه وناحيته كَبائِرَ جمع كبيرة: وهي المعصية العظيمة: وهي التي ورد عليها وعيد أو حد في القرآن أو السنة كالقتل والزنى والسرقة، وهي سبعون كبيرة كما في كتاب الكبائر للذهبي، وعن ابن عباس: هي إلى السبعمائة نُكَفِّرْ نغفر ونمح سَيِّئاتِكُمْ صغائركم، وغفرانها ومحوها بالطاعات مُدْخَلًا كَرِيماً بضم الميم: إدخالا، وبفتحها: موضعا أو مكانا كريما أي طيبا وهو الجنة. المناسبة: نهى الله سبحانه وتعالى فيما سبق عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس بغير حق، وتوعد على ذلك بنار جهنم، ثم نهى في هذه الآية نهيا عاما عن كل كبيرة، ووعد الممتثل بالجنة. التفسير والبيان: إن اجتنبتم وابتعدتم عن كبائر الآثام التي نهيتم عنها، كفّرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة. ما المقصود بالكبائر والصغائر؟ اتفق جمهور العلماء على أن الذنوب نوعان: كبائر وصغائر. والكبائر: هي كل معصية اقترنت بالوعيد الشديد أو أوجبت الحد. وقيل: إنها سبع لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،

فقه الحياة أو الأحكام:

والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . ورويت روايات أخرى تجعل من الكبائر عقوق الوالدين، وشهادة الزور لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، وليس ذلك للحصر. وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: أكثر، فقد روى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب. وروى سعيد بن جبير أنه قال: إلى السبعمائة أقرب. أما الصغائر أو السيئات: فهي التي لم تقترن بوعيد شديد أو بحدّ، كالنظر إلى المرأة الأجنبية والقبلة. وتصبح الصغائر مع الإصرار والاستهتار كبائر، فتطفيف الكيل والميزان، والهمز واللمز (الطعن في كرامات الناس) لمن أصرّ عليه، كبيرة. واجتناب الكبائر يكفّر الصغائر بشرطين: أولا- إذا كان الاجتناب مع القدرة والإرادة، كمن يأبى معاشرة امرأة دعته إلى نفسها، خوفا من الله، لا لشيء آخر. وثانيا- مع إقامة الفرائض، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» فمن اجتنب ترك الصلاة واجتنب الكبائر، كفرت سيئاته الصغائر، فدل الحديث على أن ترك إقامة الصلاة من الكبائر. ويمكن تكفير المعاصي التي تحدث عن جهل أو لظرف طارئ كثورة أو غضب بالندم والتوبة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جمهور الفقهاء والمفسرين.

ودلت أيضا على أن الله تعالى يغفر الصغائر كاللمسة والنظرة باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض، كما بينت في تفسير الآية. عن قتادة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ: إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا الكبائر، وسددوا، وأبشروا» . ورأى الأصوليون: أنه لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن، وقوة الرّجاء، وكون المشيئة الإلهية ثابتة. والكبيرة كما قال ابن عباس: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر: ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، وتصديقه قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ. وقال طاوس: قيل لابن عباس كما تقدم: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. ومن أمثلة الكبائر: الشرك بالله، والكفر بآيات الله ورسله، والسحر، وقتل الأولاد، ومن ادعى لله ولدا أو صاحبة، وقتل النفس بغير الحق، والزنى، واللواطة، والقمار، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف، وأكل الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمدا، وسب أصحابه،

النهي عن التمني (الحسد) وسؤال الله تعالى من فضله [سورة النساء (4) آية 32] :

وشهادة الزور، وسب الإنسان أبويه، وكتمان الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة. قال ابن مسعود: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا: قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ الآية. وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الآية. وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية. النهي عن التمني (الحسد) وسؤال الله تعالى من فضله [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) الإعراب: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ مفعوله محذوف لإفادة العموم، أي واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر.

البلاغة:

البلاغة: يوجد إطناب في قوله: نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا.. ونَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. مِمَّا اكْتَسَبُوا فيه استعارة تبعية، شبه استحقاقهم للإرث وتملكهم له بالاكتساب، واشتق من لفظ الاكتساب: اكتسبوا. وهذا على رأي ابن عباس أن المراد بذلك الميراث. المفردات اللغوية: وَلا تَتَمَنَّوْا التمني: طلب حصول الأمر المرغوب فيه، مما يعلم أو يظن أنه لا يكون. ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ حظ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن. مِنْ فَضْلِهِ أي إحسانه ونعمه، فإذا سألتم ما احتجتم إليه يعطكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومنه محل الفضل وسؤالكم. سبب النزول: روى الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لها نصف الميراث، فأنزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وأنزل فيها: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت امرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في العمل هكذا؟ إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا الآية. المناسبة: ينهى الله المؤمنين عن بعض أفعال القلوب وهو الحسد، ليطهر باطنهم، بعد أن نهاهم عن أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس، وهما من أفعال الجوارح الظاهرة، ليطهر ظاهرهم. ولما فضل الله الرجال في الميراث، جاءت هذه الآية

التفسير والبيان:

تنهى عن تمني ما خص الله به كلا من الجنسين لأنه سبب للحسد والبغضاء. التفسير والبيان: ينهى الله المؤمنين عن التحاسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى 42/ 27] فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له، علما بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يجوز له أن يحسد أخاه على حظه. وظاهر الآية يدل على أنه ليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر من المال والجاه وكل ما فيه تنافس، فإن التفاضل قسمة صادرة من حكيم خبير كما قال الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف 42/ 32] . قال ابن عباس: لا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلأن من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي، فإن ذلك يكون حسدا، ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله، أي أن الحسد ممنوع والغبطة جائزة. فعلى كل إنسان أن يرضى بما قسم الله له، ولا يحسد غيره لأن الحسد أشبه شيء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه. وقدر بعضهم محذوفا في الكلام فقال: ولا تتمنوا مثل ما فضل الله به بعضكم على بعض لأنه ليس المقصود طلب زوال النعمة عن الغير، وإنما هو طلب نعمة خاصة أن تكون له. وعلى هذا يكون تمني مثل ما للغير منهيا عنه لأنه قد يكون ذريعة إلى الحسد، فليس للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، ولا ولدا مثل ولده، بل يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي.

والتأويل الأول أولى لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنّ أحد مال أخيه، ولكن ليقل: اللهم ارزقني، اللهم أعطني مثله» . وفي الجملة: ينهى الله تعالى كل إنسان أن يتمنى ما فضل الله به غيره، بل الواجب عليه أن يعمل ما في جهده ويجد ويجتهد، وحينئذ يكون التفاضل بالأعمال الكسبية، ولكل من الرجال والنساء ثمرة مكاسبهم، والله تعالى جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسبا له، وما كان خاصا بالرجال من الأعمال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال. أي أن الثواب على العمل بحسب ما يتناسب مع طبيعة كل من الرجل والمرأة. وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة. ثم أراد الله تعالى توجيه الأنظار إلى مصدر الفضل والإحسان والإنعام، فقال: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي أسألوا الله ما شئتم من الإحسان والإنعام، فإنه تعالى يعطيكموه إن شاء، وخزائنه ملأى لا تنفد، فلا تتمنوا نصيب غيركم، ولا تحسدوا أحدا، ولا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض لأن التمني لا يجدي شيئا. روى الترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا الله من فضله، فإن الله يجب أن يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج» وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» . ومعنى قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أنه تعالى عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وبمن يستحق الآخرة فيقيّضه

فقه الحياة أو الأحكام:

لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه. ولذلك فضل بعض الناس على بعض بحسب استعدادهم وتفاوت درجاتهم. والتفاوت يشمل الناحية الجسدية (الخلقية) والناحية الأدبية كالعلم والجاه مثلا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- نهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني، لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل. والمراد النهي عن الحسد: وهو تمني زوال نعمة الغير، وصيرورتها إليه أو لا تصير إليه. أما الغبطة: وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه، وإن لم يتمن زوال حاله، فهي جائزة في رأي الجمهور، وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري وغيره: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» فمعنى قوله: «لا حسد» أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين. وقد نبّه البخاري على هذا المعنى، حيث بوّب لهذا الحديث «باب الاغتباط في العلم والحكمة» . قال المهلّب: بيّن الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنّيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها، أما التمني في الأعمال الصالحة فذلك جائز. والخلاصة: التمني مقرون عادة بالكسل، ولا يتمنى إلا ضعيف الهمة، وضعيف الإيمان. والتمني المنهي عنه في الآية: هو الحسد: وهو أن يتمنى الشخص حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أولا، وهو الذي ذمّه الله تعالى بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 54] . 2- المساواة بين الرجال والنساء في ثمرات الأعمال: للرجال ثواب وعقاب

إعطاء كل وارث حقه من التركة [سورة النساء (4) آية 33] :

وحق في الميراث، وللنساء مثل ذلك، فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها، كما للرجال، ولها الحق أيضا في الميراث مثل الرجال على قول ابن عباس، فإنه قال: المراد بالاكتساب هو الميراث، بمعنى الإصابة. 3- الأمر بالسؤال لله تعالى واجب: إن سؤال الله من فضله في الدين والدنيا أمر واجب شرعا، لقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وللحديث المتقدم: «سلوا الله من فضله» . قال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي. إعطاء كل وارث حقه من التركة [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الإعراب: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي، فحذف المضاف إليه، وهو في تقدير الإثبات، ولولا ذلك لكان مبنيا كما بني: «قبل وبعد» لما اقتطعا عن الإضافة. وقيل: التقدير: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي وارثا له. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ جملة مستقلة عن سابقتها مؤلفة من مبتدأ وخبر. وزيدت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. المفردات اللغوية: مَوالِيَ عصبة أو ورثة يعطون، وهو جمع مولى: وهو من يحق له الاستيلاء على التركة مِمَّا تَرَكَ أي مما ترك المورث لورثته من المال. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أي الحلفاء الذين

سبب النزول:

عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فآتوهم الآن حظوظهم من الميراث وهو السدس. وقيل: المراد بهم الأزواج. وعلى القول الأول يكون الحكم منسوخا بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال 8/ 75] . شَهِيداً مطلعا. سبب النزول: قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أخرج أبو داود في سننه عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر، فقرأت: «والذين عاقدت أيمانكم» فقالت: لا، ولكن وَالَّذِينَ عَقَدَتْ وإنما نزلت في أبي بكر وابنه حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما أسلم أمر أن يؤتيه نصيبه. وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ: قال سعيد بن المسيب: نزلت هذه الآية: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورّثونهم، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية، ورد الله تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة، ومنع تعالى أن يجعل للمدعين ميراث من ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية. المناسبة: هذه الآية متعلقة بالمال، الذي نهى الله فيما سبق عن أكله بالباطل، وعن التمني أو الحسد فيه، والآية السابقة قررت قاعدة عامة في حيازة الثروة وهي الكسب، وهذه الآية قررت نوعا آخر من الحيازة وهو الإرث. التفسير والبيان: ولكل من الرجال والنساء جعلنا موالي، أي ورثة أو عصبة يأخذون مما ترك الوالدان والأقربون من ميراثهم له. والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم قبل الإسلام بقول: «ترثني

وأرثك» فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك بآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وكان التوارث أيضا بعد الهجرة بسبب المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم، ثم نسخ ذلك بآية: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ. أي أن التوارث بالحلف والولاء، وبالمؤاخاة، أصبح منسوخا، واعلموا أن الله كان ولا يزال مطلعا على كل شيء تفعلونه، فيجازيكم عليه يوم القيامة، والله شهد معاقدتكم إياهم، وهو عز وجل يحب الوفاء. آراء المفسرين في تأويل: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ: اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية على أقوال أربعة هي ما يلي: 1- ولكل إنسان موروث جعلنا وارثا من المال الذي ترك. وبه تم الكلام. وأما قوله تعالى: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فهو جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. 2- ولكل إنسان وارث ممن تركهم الوالدان والأقربون جعلنا موروثين. والجار والمجرور في قوله مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف صفة للمضاف إليه، ومِمَّا بمعنى «من» والكلام جملة واحدة. 3- ولكل قوم جعلناهم ورّاثا نصيب مما تركه والدوهم وأقربوهم. فيكون في الكلام مبتدأ محذوف. ويكون قوله: مِمَّا تَرَكَ صفة للمبتدأ، وقوله: لِكُلٍّ خبره، والكلام جملة واحدة.

4- ولكل مال من الأموال التي تركها الوالدان والأقربون، جعلنا ورّاثا يلونه ويحوزونه. وعليه يكون لِكُلٍّ متعلقا بجعلنا، ومما ترك: صفة المضاف إليه، والكلام جملة واحدة أيضا. وهذا هو المختار. آراء المفسرين في تأويل: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ: الراجح أن هذه جملة مستقلة عن سابقتها وتأويلها على وجوه هي ما يلي: 1- المراد بالذين عقدت: «الحلفاء» وهم موالي الموالاة، وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك «1» ، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، ثم نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال 8/ 75] . 2- المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبني، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ بآية الأنفال. 3- المراد بهم إخوان المؤاخاة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤاخي بين الرجلين من أصحابه، وتكون المؤاخاة سببا في التوارث، ثم نسخ ذلك بآية الأنفال. 4- المراد بهم- في رأي أبي مسلم الأصفهاني- الأزواج، والنكاح يسمى عقدا. 5- المراد بهم- في رأي الجبائي- الحلفاء، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ معطوف على الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل شيء مما ترك الوالدان

_ (1) أي نحن شيء واحد في النصرة، تغضبون لنا ونغضب لكم.

فقه الحياة أو الأحكام:

والأقربون والذين عقدت أيمانكم موالي أي وارثا، فآتوا الموالي نصيبهم، ولا تدفعوا المال إلى الحليف. 6- المراد بهم الحلفاء يؤتون نصيبهم من النصرة والنصح وحسن العشرة والوصية، أي لهم حق في الوصية لا في الميراث، وهو مروي عن ابن عباس «1» . والظاهر هو الرأي الأول وما في معناه. فقه الحياة أو الأحكام: أبانت الآية أن لكل إنسان ورثة وموالي، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث، ولا يتمنّ مال غيره. وأوضحت أيضا وجوب الوفاء بالعقد أو العهد، فعلى الذين كانوا متحالفين في الجاهلية على التوارث أن يوفوا بالتزامهم، ويعطوا الحليف نصيبه من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك، والناسخ في رأي جمهور السلف لقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ هو قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وهناك قول آخر عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز وجل الذين تبنّوا غير أبنائهم في الجاهلية، وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى ذوي الرّحم والعصبة. وذكر الطبري والبخاري عن ابن عباس: أن قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ محكم غير منسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة والوصية وما أشبه ذلك. أما الميراث فقد ذهب. والخلاصة: تقسم التركة بين الورثة على النحو الذي بينه الله تعالى في سورة

_ (1) مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس: 2/ 93- 94

النساء (11، 12، 176) وهم الأقارب من ذوي الفروض والعصبات وهم الأصول والفروع والحواشي والأزواج، أما غيرهم فقد زال حكم توريثهم، ولا مانع من الإيصاء لهم بشيء من المال، سواء أكانوا حلفاء في الجاهلية، أم إخوة متآخين بعد الهجرة، أم أبناء بالتبني (أدعياء) . واحتج الحنفية بآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على توريث مولى الموالاة، فهي تدل على النصيب الثابت له المسمى في عقد المحالفة. وقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ لم ينسخ هذا الحكم، وإنما أولو الأرحام أولى من الحليف، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة، فالميراث للحليف الذي حالفه الشخص وجعله وارثا له. واحتجوا أيضا بما روي عن تميم الداري أنه قال: «يا رسول الله، ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته» أي أولاهم بميراثه. وقال الجمهور: ميراث مولى الموالاة للمسلمين. وهو: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده، ثم مات ولا وارث له غيره، لأن دلالة الآية على أن الحليف يرث متوقف على ثلاثة أمور: أن يكون المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء، وأن يكون المراد بالنصيب النصيب في الميراث، وأن تكون الآية محكمة غير منسوخة، والمفسرون مختلفون في كل ذلك كما تقدم. وحديث تميم الداري ليس نصا في الميراث فإنه يحتمل أنه أولى بمعونته وحفظه في محياه ومماته، ومع ذلك فهو معارض بما أخرجه مسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» «1» . فإذا كان الحديثان متعارضين والآية محتملة لعدة أوجه فالأولى الرجوع إلى ما قاله السلف كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أن الآية منسوخة بآية الأنفال.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 489، أحكام الجصاص: 2/ 187

قوامة الرجال على النساء وطرق تسوية النزاع بين الزوجين [سورة النساء (4) الآيات 34 إلى 35] :

قوامة الرجال على النساء وطرق تسوية النزاع بين الزوجين [سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) الإعراب: بِما حَفِظَ اللَّهُ: ما: إما مصدرية وتقديره: بحفظ الله لهن، وإما بمعنى الذي، أي الشيء الذي حفظ الله. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ قيل: معناه: من أجل تخلفهن عن المضاجعة معكم، كما تقول: هجرته في الله. أي: من أجل الله، فلا يكون فِي الْمَضاجِعِ ظرفا للهجران، لأنهن يردن ذلك. ولا يمتنع أن يكون ظرفا له، لأن النشوز يكون بترك المضاجعة وغيرها. وقال الزمخشري: «في المضاجع» : في المراقد أي التي لا تداخلوهن تحت اللحف، أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع، وقيل: لا تبايتوهن في بيوتهن التي يبتن فيها. البلاغة: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ كناية عن الجماع. الرِّجالُ قَوَّامُونَ صيغة مبالغة، ومجيء الجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار. يوجد جناس اشتقاق في حافِظاتٌ.. بِما حَفِظَ. ويوجد إطناب في حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن ويتسلطون عليهن بحق، ويؤدبونهن ويأخذون على أيديهن، أي أن القوامة تعني الرئاسة وتسيير شؤون الأسرة والمنزل، وليس من لوازمها التسلط بالباطل. بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك. قانِتاتٌ مطيعات للأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي يحفظن ما يغيب ويستتر من أمور الزوجية، فيحفظن فروجهن، وما يقال في الخلوة بالمرأة. تَخافُونَ تظنون نُشُوزَهُنَّ عصيانهن لكم وترفعهن على الزوج، بظهور أمارة أو قرينة. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز. وَاضْرِبُوهُنَّ ضربا غير مبرّح إن لم يرجعن بالهجران فَلا تَبْغُوا تطلبوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا طريقا إلى ضربهن ظلما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن. وَإِنْ خِفْتُمْ علمتم. شِقاقَ نزاع وخصام أو خلاف، كأن كلّا منهما في شقّ وجانب. بَيْنِهِما بين الزوجين. فَابْعَثُوا إليهما برضاهما. حَكَماً رجلا عدلا محكما. مِنْ أَهْلِهِ أقاربه. وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أقاربها. ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتوكل هي حكمها في الفرقة. إِنْ يُرِيدا أي الحكمان. بَيْنِهِما بين الزوجين، أي يقدرهما الله على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق. عَلِيماً بكل شيء. خَبِيراً ببواطن الأمور وظواهرها. سبب النزول: الرِّجالُ قَوَّامُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: جاءت امرأة إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: القصاص، فأنزل الله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية ، فرجعت بغير قصاص. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعد بن الرّبيع، وكان من النّقباء (نقباء

المناسبة:

الأنصار) وامرأته حبيبة بنت زيد بن أبي هريرة، وهما من الأنصار، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: لتقتصّ من زوجها، وانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا، هذا جبريل عليه السّلام أتاني، وأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير، ورفع القصاص. المناسبة: ذكر الله تعالى هنا سبب تفضيل الرجال على النساء، بعد أن بيّن نصيب كلّ واحد في الميراث، ونهى عن تمني الرّجال والنّساء ما فضل الله به بعضهم على بعض. التفسير والبيان: الرّجل قيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجّت، وهو القائم عليها بالحماية والرعاية، فعليه الجهاد دونها، وله من الميراث ضعف نصيبها، لأنه هو المكلّف بالنّفقة عليها. وسبب القوامة أمران: الأول- وجود مقوّمات جسدية خلقية: وهو أنه كامل الخلقة، قوي الإدراك، قوي العقل، معتدل العاطفة، سليم البنية، فكان الرجل مفضلا على المرأة في العقل والرأي والعزم والقوة، لذا خصّ الرّجال بالرّسالة والنّبوة والإمامة الكبرى والقضاء وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة والجهاد، وجعل الطلاق بيدهم، وأباح لهم تعدد الزوجات، وخصهم بالشهادة في الجنايات والحدود، وزيادة النصيب في الميراث، والتعصيب.

الأولى - الصالحات:

الثاني- وجوب الإنفاق على الزوجة والقريبة، وإلزامه بالمهر على أنه رمز لتكريم المرأة. وفيما عدا ذلك يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وهذا من محاسن الإسلام، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة 2/ 228] أي في إدارة البيت والإشراف على شؤون الأسرة، والإرشاد والمراقبة، وذلك كله غرم يتناسب مع قدرات الرّجل على تحمل المسؤوليات وأعباء الحياة. وأما المرأة فلها ذمة مالية مستقلة وحرية تامة في أموالها. ثم أبان الله تعالى حالتي النساء في الحياة الزوجية: إما طائعة وإما ناشزة. الأولى- الصالحات: وهنّ القانتات الطائعات ربّهن وأزواجهنّ، الحافظات حال الغيبة أنفسهنّ وعفتهنّ ومال أزواجهنّ وأولادهن وحال الخلوة مع الزوج، وفي حضور الزوج أحفظ. وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بسبب أمر الله بحفظه، فالله أمرهنّ أن يطعن أزواجهنّ ويحفظنهم في مقابلة ما حفظه الله لهنّ من حقوق قبل الأزواج من مهر ونفقة ومعاشرة بالمعروف، أي أن هذا بذاك. وقد وعدهنّ الله الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنّ بالعقاب الشديد على التفريط به. أخرج البيهقي وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء: امرأة إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى قوله تعالى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ» . وفي الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين عن أبي هريرة: «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» .

الثانية - الناشزات:

الثانية- الناشزات: وهنّ اللاتي تظنون أو تعلمون منهنّ التّرفع عن حدود الزوجية وحقوقها وواجباتها، وهؤلاء يتبع الزوج معهنّ المراحل الأربع التالية: 1- الوعظ والإرشاد إذا أثّر في نفوسهنّ: بأن يقول الرّجل للزّوجة: اتّقي الله، فإن لي عليك حقّا، وارجعي عمّا أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك بما يناسبها من تخويف بالله، وتهديد بعقاب الله، وتحذير من سوء العاقبة والمصير والحرمان من نعمة الحياة الزوجية السعيدة. وهذا إنذار وتذكير قد يردها عما عليه من نشوز. 2- الهجر والإعراض في المضجع (المرقد) : وهو كناية عن ترك الجماع، أو عدم المبيت معها في فراش واحد، ولا يحلّ هجر الكلام أكثر من ثلاثة أيام. وهذا أشد شيء في إيحاش المرأة وجعلها تتبصّر في أمرها وتفكّر في فعلها. قال ابن عباس: إذا أطاعته في المضجع، فليس له أن يضربها. 3- الضرب غير المبرّح: أي المؤذي إيذاء شديدا كالضّرب الخفيف باليد على الكتف ثلاث مرات، أو بالسواك أو بعود خفيف لأن المقصود منه الصلاح لا غير. أخرج الجصاص عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال: «اتّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهنّ ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف» . وروى ابن جرير الطّبري نحوه.

وروى ابن جريج عن عطاء قال: الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه. ومثله عن ابن عباس. وقال قتادة: ضربا غير شائن «1» . وإذا تجاوز الرجل المشروع فأدى الضرب إلى الهلاك وجب الضمان، كما يجب على المعلم الضمان في ضربه غلامه لتعلم القرآن والأدب. وينبغي ألا يوالي الرّجل الضرب في محل واحد، وأن يتّقي الوجه، فإنه مجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا بعصا، وأن يراعي التخفيف لأن المقصود هو الزّجر والتأديب لا الإيلام والإيذاء، كما يفعل بعض الجهلة. ومع أن الضرب مباح فإن العلماء اتّفقوا على أن تركه أفضل. أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصّدّيق رضي الله عنه قالت: كان الرّجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكونهنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخلى بينهم وبين ضربهنّ، ثم قال: ولن يضرب خياركم. وقال عمر رضي الله عنه: ولا تجدون أولئكم خياركم. فدلّ الحديث والأثر على أن الأولى ترك الضرب، بدليل الأمر القرآني بالإحسان في المعاملة: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] ، ويؤيده حديث آخر: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد، ثم يضاجعها في آخر اليوم؟!» . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا، أي إذا تحققت طاعتهنّ حينئذ فلا تطلبوا سبيلا آخر إلى التعدي عليهنّ ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيره، أو فلا تظلموهنّ بطريق آخر فيه تعذيب وإيذاء. إن الله كان وما يزال عليّا كبيرا، أي أنه تعالى قاهر كبير قدير ينتصف لهنّ ويستوفي حقهنّ، فلا تغترّوا بقوّتكم أو علوّكم أو درجتكم. وهذا تهديد للأزواج على

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 189

وهل العقوبات السابقة مشروعة على الترتيب أو لا؟ :

ظلم النساء. وقيل: المقصود منه حثّ الأزواج على قبول توبة النساء، فإذا كان المتعالي المتكبّر يقبل توبة العاصي، فأنتم أولى بأن تقبلوا توبة المرأة. وهل العقوبات السابقة مشروعة على الترتيب أو لا؟ يرى بعضهم أن هذه العقوبات مشروعة في مجموعها، دون ترتيب بينها لأن الواو لا تقتضي الترتيب. وذهب آخرون إلى أن ظاهر اللفظ، وإن دلّ على مطلق الجمع، فإن فحوى الآية يدلّ على الترتيب لأن الواو داخلة على جزاءات متفاوتة في القوة، متدرجة من الضعيف إلى القوي، إلى الأقوى: الوعظ، فالهجران، فالضرب، وذلك جار مجرى التصريح بالتزام التدرّج. وهذا مروي عن علي رضي الله عنه. 4- التحكيم: خاطب الله الحكام والزوجين وأقاربهما في هذه المرحلة، فقال: إن علمتم بوجود الخلاف أو النزاع والعداوة بين الزوجين فابعثوا حكمين: أحدهما من أهله، والآخر من أهلها، للسعي في إصلاح ذات بينهما بعد استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، ومعرفة سبب الخلاف، ومتى صدقت الإرادة وأخلص الحكمان النّيّة والنّصح لوجه الله، فالله يوفقهما بمهمتهما ويهدي إلى الخير، ويحقق الوفاق والتفاهم والعودة إلى التوادد والتراحم والألفة بين الزوجين ويبارك وساطتهما. فمعنى قوله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً أي الحكمان، ويُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما أي الزوجين. إن الله كان وما يزال عليما خبيرا: يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين، كما قال: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال 8/ 63] .

وهل الأمر في قوله تعالى: فَابْعَثُوا للوجوب أو للندب والاستحباب؟ قال الشافعي: الأمر للوجوب لأنه من باب رفع الظلامات، وهو من الفروض العامة والمتأكدة على القاضي، وهو ظاهر الأمر. أما كون الحكمين من أقارب الزوجين فهو على وجه الاستحباب، ويجوز كونهما من الأجانب لأن مهمتهما وهي استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين وإجراء الصلح بينهما والشهادة على الظالم منهما، تتحقق بالأجنبي، كما تتحقق بالقريب، لكن الأولى كونهما من أهل الزوجين، حفاظا على أسرار الحياة الزوجية، ومنعا من التشهير بالسمعة، ولأن الأقارب أعرف بحال الزوجين من الأجانب، وأشدّ حرصا على الإصلاح، وأبعد عن الميل إلى أحد الزوجين، وأقرب إلى اطمئنان النفس إليهم. وأما مهمة الحكمين: فهي في رأي الإمام مالك والشعبي وهو رأي علي وابن عباس الجمع والتفريق بين الزوجين، وإلزامهما بذلك بدون إذنهما، يفعلان ما فيه المصلحة من تطليق أو افتداء المرأة بشيء من مالها. ولا يملكان أكثر من طلقة واحدة بائنة. قال ابن العربي في قوله تعالى: حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها: هذا نصّ من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان «1» . ورأى الشافعية والحنابلة: أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين، فهما عندهم وكيلان للزوجين. وقال الحنفية: يرفع الحكمان ما يريدانه إلى القاضي، وهو الذي يطلّق طلاقا بائنا، بناء على تقريرهما، فليس للحكمين التفريق إلا أن يفوضا فيه. ويكون رأي الحنفية كالشافعية والحنابلة.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 424

فقه الحياة أو الأحكام:

وليس في الآية ما يرجّح أحد الرّأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلّ من الرّأيين، فالرّأي الأول يدلّ عليه تسمية كلّ منهما حكما والحكم هو الحاكم، والحاكم متمكن من الحكم. والرأي الثاني يدلّ عليه أنه تعالى لم يفوّض إليهما إلا الإصلاح، وما عدا ذلك غير مفوض إليهما. وبما أن المسألة اجتهادية فالقياس يقتضي ترجيح الرّأي الثاني لأن الزوجين غير مجبرين على شيء من طلاق أو افتداء قبل التحكيم، فلا يجبرهما الحكم على شيء بعد التّحكيم، ويكون كلّ من إيقاع الرّجل الطّلاق، وبذل المال من الزوجة منوطا برضاهما. فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم شيء إلا ما اتّفقا عليه. ويجوز للزوجين تحكيم شخص واحد، وينفذ حكمه لرضاهما مسبقا به. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على ما يلي: 1- إثبات القوامة في الأسرة للرجل، وتفضيل الرجل على المرأة في المنزلة والشرف. 2- العجز عن النفقة يسقط القوامة للرجل، ويمنح المرأة الحق في فسخ العقد، لزوال المقصود الذي شرع لأجله الزواج، للآية: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. وفي قوله تعالى هذا أيضا دلالة واضحة على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة 2/ 280] . 3- للزوج الحق في تأديب زوجته ومنعها من الخروج، وعلى الزوجة بقوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ طاعة الزوج في غير معصية

الله، والقيام بحقّه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج، وفي الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» . 4- للزوج حق الحجر على زوجته في مالها، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأن الله تعالى جعله قواما عليها- بصيغة المبالغة، والقوّام: الناظر على الشيء الحافظ له. وبهذا أخذ المالكية. 5- وجوب النفقة على الزوج لزوجته. 6- مشروعية وسائل تسوية النزاع بين الزوجين: وهي الوعظ والإرشاد، ثم الهجر في المضاجع (عدم المبيت في فراش الزوجية) ، ثم الضرب غير المبرّح (غير المؤذي: وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين عضوا، كاللّكزة ونحوها) ثم التحكيم بإرسال حكمين إما من الأقارب وإما من الأجانب. ولم يذكر الله تعالى إلا الإصلاح في مهمة الحكمين: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ولم يذكر التفريق إشارة إلى الحرص على الإصلاح دون التفريق المؤدي إلى خراب البيوت. 7- الامتناع عن الظلم: دلّ قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي تركوا النشوز فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا على تحريم ظلم الرجل للمرأة، أي لا تجنوا عليهنّ بقول أو فعل، وهو نهي عن ظلمهنّ بعد التزام أدبهنّ. 8- تواضع الرجل ولينه: دلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً على إرشاد الأزواج إلى خفض الجناح ولين الجانب أي إن كنتم تقدرون عليهنّ فتذكروا قدرة الله، فقدرته فوق كل قدرة، وهو بالمرصاد لكلّ أحد يستعلي على امرأته ويذلّها أو يهينها بغير حقّ. ويلاحظ أن الله عزّ وجلّ لم يأمر في شيء بالضرب صراحة إلا هنا وفي الحدود الشديدة، فجعل معصية المرأة من الكبائر، وولّى الأزواج صلاحية

أخلاق القرآن عبادة الله وحده والإحسان للوالدين والأقارب والجيران والتحذير من الإنفاق رياء [سورة النساء (4) الآيات 36 إلى 39] :

التأديب دون الأئمة والحكام، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بيّنات، ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء. أخلاق القرآن عبادة الله وحده والإحسان للوالدين والأقارب والجيران والتحذير من الإنفاق رياء [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) الإعراب: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ في موضع نصب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ.

البلاغة:

رِئاءَ النَّاسِ إما أنه منصوب مفعول لأجله تقديره: لرئاء الناس، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه، وإما أنه منصوب لأنه مصدر في موضع الحال من الَّذِينَ غير داخلة في صلته. البلاغة: يوجد إطناب في قوله: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ. مُخْتالًا فَخُوراً تعريض بذم الكبر المؤدي إلى احتقار الناس. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فيه الحذف، وتقدير المحذوف: أحسنوا إلى الوالدين إحسانا. المفردات اللغوية: وَاعْبُدُوا اللَّهَ العبادة: الخضوع لله والاستسلام له سرّا وعلنا، باطنا وظاهرا مع الإخلاص. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا لهما، والإحسان للوالدين: البرّ بهما بخدمتهما وتحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما عند الحاجة وبقدر الاستطاعة، ولين الجانب والكلام معهما. وَبِذِي الْقُرْبى صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولادهم. وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الجار القريب الجوار أو النسب. وَالْجارِ الْجُنُبِ: هو البعيد عنك في الجوار أو النسب. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: الرفيق في السفر أو الصناعة، وكل صاحب ولو وقتا قصيرا. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره: المسافر أو الضيف. ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء (الأرقاء) . مُخْتالًا هو ذو الخيلاء والكبر. فَخُوراً هو الذي يتفاخر على الناس بتعداد محاسنه تعاظما وتعاليا. أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا. مُهِيناً ذا إهانة وذلّ. رِئاءَ النَّاسِ أي للمراءاة والسمعة. وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كالمنافقين وأهل مكة. قَرِيناً صاحبا وخليلا يعمل بأمره كهؤلاء. فَساءَ بئس. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ... المعنى أيّ ضرر عليهم في الإيمان والإنفاق، والاستفهام للإنكار، ولو: مصدرية، أي لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه. سبب نزول الآية (37) : الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ الآية. وروي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود

المناسبة:

كانوا يأتون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزهّدونهم في نفقة أموالهم في الدين، ويخوفونهم الفقر، ويقولون لهم: لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. وقال أكثر المفسرين: نزلت في اليهود كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يبيّنوها للناس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم. وقال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته في كتابهم. وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله: عَلِيماً نزلت في اليهود. وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. المناسبة: الآيات السابقة من أول السورة في تنظيم روابط الأسرة، كاختبار اليتامى، والحجر على السفهاء، وكيفية معاملة النساء بالإحسان مع رقابة الله، وناسب هنا التذكير ببعض الحقوق العامة وتقوية رابطة القرابة والجوار والصداقة وترشيد الإنفاق بأن يكون بإخلاص لله تعالى لا رياء وسمعة. وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة الله لأنها الأساس. التفسير والبيان: بعد أن أرشد الله تعالى الزوجين إلى المعاملة الحسنة وأمر الحكام بإزالة أسباب الخصومة، أرشد الناس جميعا إلى بعض خصال الخير والإحسان، ودلّهم على أنواع من الأخلاق الحسنة في معاملة بعضهم بعضا، وهي ثلاثة عشر نوعا بين مأمور به ومنهي عنه.

1- عبادة الله وحده: العبادة: المبالغة في الخضوع لله تعالى، وذلك بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، سواء في أفعال القلوب أو أفعال الجوارح (الأعضاء) فإنه هو الخالق الرّازق المنعم المتفضّل على خلقه، لذا كان هو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته. 2- عدم الشرك به شيئا: والإشراك ضدّ التوحيد، وهو عطف خاص على عام. ويذكر هذان الأمران عادة معا، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال: «أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: أن لا يعذبهم» . وقدم في هذه الآية ما يتعلق بحقه تعالى لأمرين: الأول- العبادة والإخلاص أساس الدين، وبدونه لا يقبل الله من العبد عملا ما. الثاني- الإيماء إلى أهمية الأمور الآتية بعدها، وإن تعلقت بحقوق العباد. والإشراك أنواع مختلفة: منها: ما ذكره الله تعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم وسطاء إلى الله فقال: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس 10/ 18] وقوله حكاية عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] . ومنها: ما ذكره الله عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام،

فقال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة 9/ 31] . 3- الإحسان إلى الوالدين: قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع كثيرة من القرآن، كهذه الآية، وآية: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] وآية: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان 31/ 14] . وبر الوالدين: طاعتهما في معروف والقيام بخدمتهما، والسعي في تحصيل مطالبهما والبعد عن كل ما يؤذيهما لأنهما السبب الظاهر في وجود الأولاد، وتربيتهم بالرحمة والإخلاص. قال ابن العربي: بر الوالدين ركن من أركان الدين في المفروضات، وبرهما يكون في الأقوال والأعمال، أما في الأقوال فكما قال الله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء 17/ 23] فإن لهما حق الرحم المطلقة، وحق القرابة الخاصة «1» . 4- الإحسان إلى القرابة: وهو صلة الرحم كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهم، وذلك بمودتهم ومواساتهم، على نحو ما ذكر في أول السورة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [الآية 1] . وذلك يؤدي إلى ترابط الأسرة وتقوية معنوياتها وتساندها، فيقوى المجتمع، وتتقدم الدولة. 5- الإحسان إلى اليتامى: وصى الله تعالى بهذا في أول السورة وفي غيرها لأن اليتيم فقد الناصر والمعين وهو الأب. قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم، وإن كان وصيا فليبالغ في حفظ أموالهم.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 428

6- الإحسان إلى المساكين: وهم المحتاجون الذين لا يجدون ما يكفيهم، والإحسان إليهم بالتصدق عليهم أو بردهم ردا جميلا، كما قال تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى 93/ 10] . وهذا يحقق مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام. 7- الإحسان إلى الجار ذي القربى: وهو القريب في المكان أو بالنسب أو بالدين. والإحسان إلى الجيران يحقق مبدأ التعاون والتواصل والتوادد والشعور بالسعادة. 8- الإحسان إلى الجار الجنب: وهو الذي بعد جواره أو لم يكن ذا قرابة. وقد حث الإسلام على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم، فقد عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن جاره اليهودي ، وذبح ابن عمر شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيما رواه البيهقي عن عائشة: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه» وأخرج الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . وتحديد الجوار متروك إلى العرف، وحدده الحسن البصري بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة. وإكرام الجار له مظاهر عديدة منها مواساته إن كان فقيرا، ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه، ومنها إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وزيارته وعيادته ونحو ذلك. قال ابن العربي: حرمة الجار عظيمة في الجاهلية والإسلام، معقولة، مشروعة مروءة وديانة «1» . ومن الإحسان إلى الجار الحديث الصحيح في الموطأ: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» .

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 429

9- الإحسان إلى الصاحب بالجنب: وهو الرفيق بنحو مؤقت، كالتعلم والسفر والصناعة، والجلوس في مسجد أو مجلس. وقيل عن علي: إنه الزوجة أو المرأة. 10- الإحسان إلى ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع عن ماله، أو الضيف. والإحسان إليه بمساعدته للوصول إلى بلده أو غرضه. 11- الإحسان إلى ما ملكت أيمانكم: أي الأرقاء من العبيد والإماء. وقد أوصى النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم في مرض موته، في آخر وصاياه، أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: الصلاة وما ملكت أيمانكم» . وروى الشيخان عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» والإحسان إليهم يكون أيضا بإعتاقهم أو بمساعدتهم على تحرير رقابهم. 12، 13- تحريم الاختيال والتفاخر: المختال: هو المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأفعاله. والفخور: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله. والمختال الفخور مبغوض عند الله لاحتقاره حقوق الناس وتشبهه بصفات الإله، وهو لا يعبد الله حقا إذ لا خشوع عنده، ولا يحسن إلى الوالدين والأقارب والجيران والأصدقاء. ومعنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً أي أنه يعاقبه على خيلائه وفخره. وقد نهى الله تعالى عن الكبر والخيلاء في آية أخرى هي: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] . وليس من الكبر: الوقار في غير غلظة، وعزة النفس مع الأدب، وتحسين

البيت والمركوب والهيئة واللباس، بدليل ما روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس «1» » . ثم بيّن الله تعالى أوصاف المختال الفخور بقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أنه تعالى يذم الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجيران ونحوهم، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا، ويكتمون أفضال الله عليهم، فالبخيل جحود لنعمة الله ولا تظهر عليه آثارها في مأكل أو ملبس أو إعطاء وبذل، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات 100/ 6- 7] أي شهيد بحاله وشمائله. وذم النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا البخل فقال: «وأي داء أدوأ من البخل؟» وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «إياكم والشح، فإنه هلك من كان قبلكم بالبخل، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» . ولكل هذه الخصال القبيحة في البخلاء توعدهم الله بالعقوبة بقوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ... عَذاباً أَلِيماً أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهينهم ويذلهم، إنه عذاب جامع بين الألم والذل، جزاء على فعلهم، وسماهم الله كفارا إشعارا بأن هذه أخلاق الكفار لا المؤمنين ولأن الكفر: هو الستر

_ (1) بطر الحق: رده استخفافا وترفعا، وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم

والتغطية، والبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه. وفي الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمرو: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وفي الدعاء النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا» . وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمانهم إياها، ولهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وعلى كل حال: أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وهم من سبق، وفريق آخر ذكرهم القرآن بعدئذ وهم الذين ينفقون أموالهم مرائين الناس، أي يقصدون رؤية الناس لهم فيعظمونهم ويحمدونهم. وبعد أن ذكر الله الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ذكر الباذلين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون به وجه الله، فيبذلون المال لا شكرا لله على نعمه، ولا اعترافا لعباده بحق. هؤلاء الذين قال الله عنهم: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ [النساء 4/ 38] . جاء في الحديث الثابت: «الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار: وهم العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله: كذبت، إنما أردت أن يقال: جواد، فقد قيل» أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا، وهو الذي أردت بفعلك. وهؤلاء المراءون لا يؤمنون حقا بالله ولا باليوم الآخر، أي إنما حملهم على صنيعهم القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الصحيح: الشيطان، فإنه

فقه الحياة أو الأحكام:

سوّل لهم وأملى لهم وحسّن لهم القبائح، ولأن المؤمن الحق لا ينفق رياء بل الله، ويعمل للباقي الدائم وهو يوم القيامة، وهؤلاء قرناء الشيطان الذي يوحي إليهم، ويعدهم بالفقر لو أنفقوا، ويأمرهم بالفحشاء والمنكر، ومن يكن الشيطان له قرينا، فبئس هذا القرين، أي أن الذي حملهم على ما فعلوا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والمعلم، فحالهم في الشر كحال الشيطان. وفي هذا إيماء إلى ضرورة البعد عن قرين السوء، واختيار القرين الصالح. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ والمعنى: وأي ضرر يلحقهم لو آمنوا حقيقة بالله، وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء المحقق للخلود والسعادة، وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره. وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم إذ أنهم لو أخلصوا العمل وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص، والإيمان بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا فيما يحبه الله ويرضاه، لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة معا. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً أي هو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وخبير بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه للخير، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم، فيتخلى عنه، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل، ولن ينسى عمل العاملين المخلصين، وما على المؤمن إلا أن يجعل عمله خالصا لله، فهو الذي يراه ويتقبل منه، ويحاسبه على عمله. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات دستور التعامل بين الناس وربهم، وبين بعضهم بعضا. وهي من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وهي مقررة في جميع الكتب

السماوية، ولو لم يكن كذلك لعرف حكمها من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب. وهي مفتتحة بأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص في عبادته، وهي أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره، قال الله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف 18/ 110] . وتنهى الآية عن ضد التوحيد وهو الشرك، وهو كما قال العلماء مراتب ثلاثة وكلها محرمة منكرة. الأولى- اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . الثانية- اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل: وهو القول بأن موجودا غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، كالقدرية مجوس هذه الأمة. وقد تبرأ منهم ابن عمر. الثالثة- الإشراك في العبادة وهو الرياء: وهو أن يفعل العبد شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهو الذي حرمته الآيات والأحاديث، وهو مبطل للأعمال، وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي. روى ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» .

وأمرت الآيات بالإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران الأقارب والأباعد، والأصحاب لوقت ما كرفيق الأسفار وجليس المجلس والصلاة، والمسافرين، والأرقاء المماليك، وقد سبق الكلام تفصيلا عنهم. ونهت الآيات عن التكبر والخيلاء والتفاخر والتعاظم، والمختال: هو ذو الخيلاء المتكبر، والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا، والفخر: البذخ «1» والتطاول. وخص الله تعالى هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة والترفع من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية، فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم. وذكر الله تعالى صفات المتكبرين المختالين، ومن أشنعها البخل وأمر الناس بالبخل، والبخل المذموم في الشرع: هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه، وهو مثل قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الآية [آل عمران 3/ 180] . والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، والله لا يحب المختال الفخور أي يعاقبه، وأكّد ذلك بأنه تعالى أعد له عذابا مهينا. ويرى القرطبي أنه تعالى توعد المؤمنين الباخلين بعدم المحبة، وتوعد الكافرين عذابا مهينا «2» . والفريق الثاني من أهل الفخر هم الذين ينفقون أموالهم رياء، قال الجمهور: نزلت في المنافقين، لقوله تعالى: رِئاءَ النَّاسِ والرئاء من النفاق. ونفقة الرئاء لا تجزئ، لقوله تعالى: قُلْ: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة 9/ 53] .

_ (1) البذخ: الكبر. [.....] (2) تفسير القرطبي: 5/ 193

الترغيب في امتثال الأوامر والتحذير من المخالفة والعصيان [سورة النساء (4) الآيات 40 إلى 42] :

ثم وجّه الحق سبحانه وتعالى المنفقين رياء إلى ما هو الأصلح لهم وهو الإيمان الحق بالله (أي التصديق بواجب الوجود) واليوم الآخر، والإنفاق لوجه الله، فالله عليم بكل شيء، خبير بأحوال الناس، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل. الترغيب في امتثال الأوامر والتحذير من المخالفة والعصيان [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) الإعراب: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً بالنصب خبر تكن الناقصة، وتقديره: وإن تكن الذرة حسنة، وقرئ بالرفع على أنها فاعل تكن التامة. وأصل (تك) : تكون بالرفع، إلا أنه حذفت الضمة للجزم، فبقيت النون ساكنة والواو ساكنة، فاجتمع ساكنان، وهما لا يجتمعان، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وكان حذف الواو أولى لأنها حرف معتل، والنون حرف صحيح، فبقي «تكن» فحذفت النون لكثرة الاستعمال. شَهِيداً حال منصوب من الضمير في بِكَ وهو الكاف، والتقدير: جئنا بك شهيدا على هؤلاء. يَوْمَئِذٍ في موضع نصب والعامل فيه يَوَدُّ وكذلك: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ في موضع نصب ب يَوَدُّ أيضا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً إما معطوف على تُسَوَّى فيكون داخلا في التمني، أي ودوا تسوية الأرض وكتمان الحديث من الله تعالى، وإما أن تكون الواو فيه واو الحال، والجملة حالية.

البلاغة:

البلاغة: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا السؤال عن المعلوم لتقريع السامع وتوبيخه. المفردات اللغوية: لا يَظْلِمُ الظلم: النقص وتجاوز الحد، أي لا ينقص أحدا من حسناته ولا يزيد في سيئاته. مِثْقالَ أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره (المثقال العجمي: 80، 4 غم) والمراد به هنا وزن ذَرَّةٍ أصغر ما يدرك من الأجسام، والذرة في العلم الحديث: الجزء الذي لا يتجزأ، ومن الذرات: الهباء: وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من نافذة. يُضاعِفْها من عشر إلى أكثر من سبعمائة. مِنْ لَدُنْهُ من عنده. بِشَهِيدٍ هو نبي الأمة. لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي لو أن تتسوى بهم الأرض بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم الهول، كما في آية أخرى: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً . وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مما عملوه، وفي وقت آخر يكذبون ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ والحديث: الكلام. المناسبة: موضوع هذه الآيات الترغيب من الله تعالى في امتثال المأمورات والتحذير من المنهيات الواردة في الآيات السابقة، ونظيرها قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7- 8] . التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة، بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: «فيقول الله عز وجل: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار» وفي لفظ: «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار» فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ... الآية. ومعنى الآية: أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله شيئا مهما قل، ولا يعاقب أحدا على شيء مهما كان بغير حق لأن الظلم نقص، والله تعالى متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقص. فمن اقترف سيئة بعد أن زوده الله بالعقل والتقدير والميزان، كان هو الظالم لنفسه: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] . ومع أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ولو مثقال ذرة، يضاعف ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أما السيئة فلا تضاعف، ويجزى بمثلها فقط، كما في آية أخرى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام 6/ 160] . وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي إنه تعالى لا يكتفي بمضاعفة حسنات المحسن، بل يعطيه أجرا من غير مقابل له من الأعمال، فهو واسع الفضل كثير الإحسان. والأجر العظيم: الجنة، نسأل الله الرضا والجنة. وإذا كان هذا هو نظام الثواب، فيتعجب الخالق من بعض الناس قائلا: فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشاهد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة 5/ 117] . وجئنا بك يا محمد على هؤلاء المكذبين شهيدا. عن ابن

فقه الحياة أو الأحكام:

مسعود «أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ قوله: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: حسبنا» . وهذه الشهادة معناها: عرض أعمال الأمم على أنبيائهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها وكونها خاتمة أمم الوحي تكون شهيدة على الأمم السابقة، وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، والرسول صلّى الله عليه وسلّم بسيرته واستقامته يكون حجة على من ترك سننه. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول أي يتمنون لو يدفنون، فتسوى بهم الأرض، كما تسوى بالموتى، وقيل: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، كما قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ 78/ 40] . وهم لا يقدرون على كتمان كلام عن الله لأن جوارحهم تشهد عليهم، وقيل: الواو للحال، أي يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثا، ولا يكذبون في قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] لأنهم إذا قالوا ذلك، وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عندئذ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك، فلشدة الأمر عليهم يتمنون الدفن تحت التراب. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- اتصاف الله بكل كمال، وتنزهه عن كل نقصان: فلا يبخس الناس ولا بنقصهم من ثواب أعمالهم وزن ذرة، بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها، والمراد من

الكلام: أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس 10/ 44] . وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها» . 2- مضاعفة ثواب الحسنات ومنح الأجر العظيم وهو الجنة. روى أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي حسنة، وتلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. قال عبيدة: قال أبو هريرة: وإذا قال الله أَجْراً عَظِيماً فمن الذي يقدّر قدره! وقد عرفنا أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس. 3- التعجيب الإلهي من أفعال الكفار يوم الحساب: هذا التعجيب حافز على فعل المأمورات، وإنذار على التقصير في فعل الحسنات والخيرات. 4- تمني الكفار أن يكونوا ترابا عند مصادمتهم بأعمالهم المنكرة، وتمنيهم أنهم لم يكتموا الله حديثا، لظهور كذبهم، ولأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. سئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثا.

تحريم الصلاة حال السكر وكون التيمم عند فقد الماء [سورة النساء (4) آية 43] :

تحريم الصلاة حال السكر وكون التيمم عند فقد الماء [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) الإعراب: وَأَنْتُمْ سُكارى الواو واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر في موضع نصب على الحال بفعل: تَقْرَبُوا أي لا تقربوها في هذه الحالة. والدليل على أن الواو هاهنا واو الحال قوله تعالى: وَلا جُنُباً أي ولا تصلوا جنبا إلا عابري سبيل، استثناه من قوله: «جنبا» . والمراد بعابري سبيل: المسافرين لأنه يجوز للجنب أن يتيمم في السفر عند عدم الماء. وقيل: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد، ولا تقربوا منها جنبا إلا عابري سبيل، فيجوز للجنب العبور في المساجد عند الحاجة. المفردات اللغوية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تصلوا. وَأَنْتُمْ سُكارى جمع سكران وهو من شرب الخمر جُنُباً من أصابته الجنابة بالجماع أو إنزال المني. والجنب: يطلق على المفرد وغيره. إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مجتازي طريق أي مسافرين. وقيل: المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة، أي المساجد إلا عبورها من غير مكث. مِنَ الْغائِطِ المكان المنخفض من الأرض كالوادي، والمراد المكان المعد لقضاء الحاجة، وأهل البادية وبعض القرى يقضون حوائجهم في المنخفضات للستر عن أعين الناس. والقصد من قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط: أي أحدث. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ كناية عن الجماع في رأي

سبب النزول:

ابن عباس، وفي رأي ابن عمر والشافعي: بمعنى اللمس وهو الجس باليد، وألحق به الجس بباقي البشرة. فَلَمْ تَجِدُوا ماءً تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش في غير حال المرض. فَتَيَمَّمُوا اقصدوا. صَعِيداً طَيِّباً ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين. والصعيد: وجه الأرض. عَفُوًّا ذا عفو وهو محو السيئة وجعلها كأن لم تكن. غَفُوراً ذا مغفرة، والمغفرة: ستر الذنب بعدم الحساب عليه. سبب النزول: نزول آية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ: روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: «قل: يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون» فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. وروى ابن جرير عن علي أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن، وأن الصلاة صلاة المغرب، وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر. نزول آية: فَتَيَمَّمُوا: أخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: وَلا جُنُباً في المسافر تصيبه الجنابة، فيتيمم ويصلي. وأخرج ابن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحّل ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، فخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الآية كلها. وروى البخاري ومسلم من حديث مالك عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع

المناسبة:

عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء ... فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. وفي رواية: يرحمك الله يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا وجعل الله فيه للمسلمين فرجا. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته «1» . والظاهر أن صدر الآية نزل في حادثة الخمر، وعجزها في حادثة السفر، والجمهور على أنها نزلت في غزوة المريسيع. المناسبة: لما نهى الله سبحانه فيما مضى عن الشرك، ورغب في امتثال الأمر واجتناب النهي، نهى هنا عن الصلاة التي هي عبادة لله وحده لا شريك له في حال السكر وحال الجنابة، والخطاب موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه، وذلك حتى يكون الإنسان في صلاته كامل القوى العقلية، وطاهرا من الأنجاس أو الأرجاس والأخباث المادية والمعنوية. التفسير والبيان: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان مواضعها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازا المسجد من باب إلى باب من غير مكث. وقد كان هذا قبل تحريم الخمر. وقد أثر النهي، وفهم الصحابة أن الممنوع هو قربان الصلاة في حال السكر، فكانوا يمتنعون من شرب المسكر إلى ما بعد صلاة العشاء، فإذا صلوا العشاء شربوا، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا،

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 87- 88

فنزلت آية المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة 5/ 90] فتركوا الشراب كله. ومعنى الآية: يا أيها المؤمنون لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا ما تقولون في الصلاة. وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا، وكان نزول الآية في المرحلة الثالثة من مراحل التدرج في تشريع تحريم الخمر. واتفق أكثر المفسرين على أن الصلاة باقية على معناها الحقيقي، والمعنى إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا، ولا تصلوا وأنتم سكارى ولا وأنتم جنب إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا. ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء. ويدل لهذا الرأي قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي لا تقربوا نفس الصلاة لأن فيها قراءة من آي القرآن ودعاء وأذكارا، وكلها تتطلب الوعي والإدراك واستكمال القوى العقلية. وذهب الشافعي وابن عباس وابن مسعود والحسن البصري إلى أن الكلام على حذف مضاف وهو مجاز شائع، والمراد: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد، بدليل تفسير وَصَلَواتٌ [الحج 22/ 40] بأنها كما قال ابن عباس كنائس اليهود، وإلا لم يصح الاستثناء في قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وحتى لا يكون هناك تكرار بين قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد. وقد ترتب على هذا اختلافهم في حكم اجتياز الجنب المسجد، فعلى الرأي الثاني: يجوز له العبور دون أن يمكث، ويحرم عليه دخول المسجد في غير حال العبور. وعلى الرأي الأول: لا تدل الآية على حرمة دخول الجنب المسجد، وإنما يستدل عليها بمثل ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت عن

المسجد» ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا، رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد، وقال: «وجهوا هذه البيوت، فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» ولم يستثن صلّى الله عليه وسلّم في آخر عمره إلا خوخة (كوّة أو باب صغير) أبي بكر رضي الله عنه. ثم نهى الله تعالى فقال: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي ولا تقربوا الصلاة حال الجنابة إلا إذا كنتم عابري سبيل أي مجتازي الطريق. حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا، والغسل: أن يعم الماء جميع الجسد. ثم ذكر الله تعالى في هذه الآية وآية المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة 5/ 6] أسبابا أربعة للتيمم وهي: المرض، والسفر، والحدث (المجيء إلى الغائط) وملامسة النساء. فإذا توافر أحد هذه الأسباب، فاقصدوا صعيدا طيبا أي وجها ظاهرا من الأرض، طاهرا غير نجس، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه إلى المرافق عند الجمهور، وإلى الرسغين عند مالك، ثم صلّوا. هذه رخصة التيمم لأصحاب الأعذار، وسبب هذا الترخيص والتيسير هو أن الله عفوّ غفور، أي ذو عفو ومغفرة أي ستر للذنوب، أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب. ويلاحظ أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء 4/ 43] فتكون الأعذار ثلاثة: السفر والمرض وفقد الماء في الحضر، أما الحدث فأمر مفروغ منه، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء، والسفر وحده عذر كاف في التيمم، وجد الماء أو لم يوجد.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآية أحكاما عديدة هي: 1- حرمة الصلاة حال السكر من الخمر وغيره، وذلك قبل تحريم الخمر تحريما باتا قاطعا، فقد كان شرب المسكر مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. 2- السبب في تحريم المسكر في الصلاة هو إدراك معاني التلاوة والأدعية والأذكار الموجودة في الصلاة، وهذا معنى قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط، والسكران لا يعلم ما يقول. وأراد بعض المفسرين أن يفهم من هذه الآية وجوب القراءة في الصلاة لأنها تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلي ما يقول، فلا بد من أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر، ولا شيء سوى القراءة. ولكن وجوب القراءة في الصلاة له دليل آخر غير هذا، ومعنى النهي هنا: لا تصلوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكنكم من مناجاة الله والوقوف بين يدي ملك الملوك. واستنبط عثمان رضي الله عنه من الآية: أن السكران لا يلزم طلاقه. وهو مروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث وجماعة من الشافعية، واختاره الطحاوي قائلا: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس. وقال الجمهور: طلاق السكران نافذ، وأفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، واستثنى أبو حنيفة الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين منه امرأته إلا استحسانا.

3- تحرم الصلاة حال الجنابة بإنزال مني أو جماع. ويجب الغسل بالتقاء الختانين، لما أخرجه مسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل» وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل» زاد مسلم: «وإن لم ينزل» . وأجمع التابعون ومن بعدهم على الأخذ بحديث: «إذا التقى الختانان ... » . 4- لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الغالب في الماء أنه لا يعدم في الحضر فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده، ولا يدخل المسافر الجنب المسجد إلا بعد أن يتيمم في رأي الحنفية. ورخص الإمامان مالك والشافعي في دخول الجنب المسجد لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة: «إن المؤمن لا ينجس» ويؤيده أن الصحابة الذين كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، إذا أجنب أحدهم اضطر إلى المرور في المسجد. وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد، عملا بما كان يفعله بعض الصحابة. ويمنع الجنب عند المالكية وغيرهم من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ، لما أخرجه ابن ماجه عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن» . 5- نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال، والاغتسال: معنى معقول يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول. ولا بد أن يتدلك الجنب في اغتساله في المشهور من مذهب مالك لأن هذا هو المعقول من لفظ الغسل

لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمرّ يديه فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان العربي غاسلا، بل يسمونه صابّا للماء ومنغمسا فيه، ويؤكده الأثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» «1» وإنقاؤه: لا يكون إلا بتتبعه. قال ابن العربي: «حتى تغتسلوا» اقتضى هذا عموم إمرار الماء على البدن كله باتفاق، وهذا لا يتأتى إلا بالدلك. وقال الجمهور: يجزئ الجنب صبّ الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعمّ، وإن لم يتدلك، على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلّى الله عليه وسلّم، رواهما الأئمة، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفيض الماء على جسده. وهل يخلل الجنب لحيته؟ روايتان عن مالك: رواية ابن القاسم عنه: ليس عليه ذلك ، وقال ابن عبد الحكم: ذلك هو أحب إلينا لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخلل شعره في غسل الجنابة. وأوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق في الغسل، لقوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا ولأنهما من جملة الوجه، وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما وصلّى، أعاد كمن ترك لمعة «2» ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وأضاف الحنابلة: هما فرض أيضا في الوضوء لقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة. وقال مالك والشافعي: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء لأنهما باطنان كداخل الجسد لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل المضمضة ولم يأمر بها ، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل.

_ (1) حديث ضعيف. (2) اللمعة: الموضع لا يصيبه الماء.

وأما قدر الماء الذي يغتسل به: فروى مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. والفرق ثلاثة آصع، والصاع 2751 غم. وعن أنس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع «1» إلى خمسة أمداد ، والمد 675 غم، والصاع أربعة أمداد. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي، ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه سرف، والسّرف مذموم. 6- إباحة التيمم لفقد الماء، أو للمرض، أو للسفر، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى.. [النساء 4/ 43] ويؤيده آية: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 22/ 78] وآية: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد، ولم يأمره صلّى الله عليه وسلّم بغسل ولا إعادة. والمرض الذي يباح له التيمم على الصحيح من قول الشافعي: هو الذي يخاف فيه فوت الروح، أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء، أو خاف طول المرض. والسفر المبيح للتيمم: هو الطويل أو القصير عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة في رأي الجمهور. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. وذهب المالكية وأبو حنيفة ومحمد إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. فإن عدم الماء في الحضر مع خوف فوات الوقت، تيمم الصحيح والسقيم وصلّى ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت.

_ (1) ويؤيده حديث مسلم عن سفينة: «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يغسله الصاع، ويوضئه المدّ» .

ودليل جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء: القرآن: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي أن المقيم إذا عدم الماء تيمم. والسنة: وهو ما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصّمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم من نحو «بئر جمل «1» » فلقيه رجل، فسلّم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ «بئر» . 7- هل الحدث يبيح التيمم في الحضر؟ قيل: إنه يبيح لآية أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ: و «أو» بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا، فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحديث، لا المرض والسفر، فدل على جواز التيمم في الحضر، كما تقدم بيانه. قال القرطبي: والصحيح في «أو» أنها على بابها عند أهل النظر، أي أنها للتخيير، فلأو معناها، وللواو معناها، وهناك حذف، والمعنى: وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مسّ الماء أو على سفر، ولم تجدوا ماء، واحتجتم إلى الماء «2» . وقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كنى بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر. 8- ملامسة النساء: كناية عن الجماع «3» في رأي الحنفية، فالجنب يتيمم، واللامس بيده لا ينقض وضوءه، بدليل ما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. والمراد بها عند الشافعي: لمس بشرة المرأة باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد، فمن لمس بشرة امرأة

_ (1) بئر جمل: موضع بقرب المدينة. (2) تفسير القرطبي: 5/ 220 (3) قال ابن عباس: إن الله تعالى حيي كريم يعفّ، كنى باللمس عن الجماع.

نقض طهره، ويتيمم إن فقد الماء. وقال مالك وأحمد وإسحاق: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ، فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وهو مقتضى الآية. وأما حديث عائشة فهو مرسل. وتكون الآية مبينة حكمين: الحدث والجنابة عند عدم الماء، وسبب الحدث: المجيء من الغائط، وسبب الجنابة: الملامسة. ولا مانع من حمل اللفظ «الملامسة» على الجماع واللمس، وإفادة الحكمين. 9- إن طلب الماء للمسافر شرط في صحة التيمم عند مالك والشافعي وأحمد، وليس بشرط عند أبي حنيفة. والمقصود بوجود الماء: أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه، وهذا قول أكثر العلماء. وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير كماء الباقلاء وماء الورد، لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فقال: هذا نفي في نكرة، فيعم لغة، فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لإطلاق اسم الماء عليه. وأجمع العلماء على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء. والماء الذي يبيح عدمه التيمم: هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته. 10- قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا: يدل على مشروعية التيمم، وهو من خصائص هذه الأمة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «1» الحديث. والتيمم

_ (1) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن حذيفة.

شرعا: مسح الوجه واليدين بالتراب، لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي اقصدوا. ويلزم التيمم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء، ودخل وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة، فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء، جاز أيضا للفريضة، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ عند أبي داود والنسائي والترمذي: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج» . فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء، فحكمه إذن حكم الماء. ودليل المالكية والشافعية والحنابلة قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء، عاد جنبا كما كان أو محدثا لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ: «إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك» . وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلّى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء، ولم يكن في رحله: أن صلاته تامة لأنه أدى فرضه كما أمر، فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة، لما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين» .

واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة فقال مالك والشافعي: ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء، وليتمّ صلاته، وليتوضأ لما يستقبل لقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، ومن شرع في صوم عن كفارة ظهار أو قتل، ثم وجد رقبة لا يلغى صومه ولا يعود إلى الرقبة. وقال أبو حنيفة وأحمد والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة، فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض، ومثل ذلك الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة. واختلفوا: هل يصلّى بالتيمم صلوات أو يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؟ فقال مالك والشافعي: لكل فريضة لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة وداود الظاهري: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث لأنه طاهر، ما لم يجد الماء، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وهل يجوز التيمم قبل دخول الوقت؟ الشافعي ومالك: لا يجوزانه لأنه لما قال الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت، وعلى هذا فلا يصلّي الشخص فرضين بتيمم واحد. وأجاز أبو حنيفة التيمم قبل دخول الوقت لأن طلب الماء عنده ليس بشرط. 11- الصعيد الطيب: الصعيد: وجه الأرض، كان عليه تراب أو لم يكن. والطيب: الطاهر وقيل: الحلال. وبناء عليه قال مالك وأبو حنيفة: يتيمم بوجه الأرض كله، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة.

وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد: التراب المنبت، وهو الطيب، قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف 7/ 58] فلا يجوز التيمم عندهما على غيره. قال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. واشترط الشافعي: أن يعلق التراب باليد، ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. وأجمع العلماء على أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر منقول إلى العضو الممسوح لا مغصوب، وعلى أنه لا يتيمم على الذهب الصّرف والفضة والياقوت والزّمرّد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجازه مالك وغيره، ومنعه الشافعي وغيره. ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، وفي المدونة والمبسوط جواز التيمم على الثلج، وفي غيرهما منعه. والجمهور على منع التيمم على العود، وجمهور المالكية أجازوا التيمم على التراب المنقول من طين أو غيره، وعند المالكية قولان في التيمم على ما طبخ كالجص والاجرّ، وعلى الجدار، قال القرطبي: والصحيح الجواز على الجدار، لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصّمّة الأنصاري الذي أخرجه البخاري، قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نحو بئر جمل (موضع قرب المدينة) فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقول مالك ومن وافقه. وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللّبد. وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزّرنيخ والنّورة والجص والجوهر المسحوق. 12- كيفية التيمم: دل قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ على أن محل التيمم: الوجه واليدان، وقوله مِنْهُ يدل في رأي الشافعي على

أعمال اليهود وتصرفاتهم [سورة النساء (4) الآيات 44 إلى 46] :

أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم، ولا يشترط المالكية النقل، بدليل تيممه عليه الصلاة والسلام على الجدار. وقال الجمهور: يبدأ بالوجه ثم اليدين لقوله تعالى: بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. وقال الحنفية والشافعية: يبلغ بالتيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا على الوضوء، وبدليل رواية التيمم إلى المرفقين عن جابر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان، لحديث عمار بالتيمم إلى الكوعين: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود أمره بالتيمم للوجه والكفين. وذهب الحنفية والشافعية إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجة، وضربة لليدين لحديث ابن عمر «1» في ذلك. ورأى المالكية والحنابلة أن الفريضة: الضربة الأولى، أي وضع اليد على الصعيد، وأما الضربة الثانية فهي سنة. أعمال اليهود وتصرفاتهم [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

_ (1) أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي، وهو موقوف على ابن عمر.

الإعراب:

الإعراب: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو أُوتُوا ومثله وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا. مِنَ الَّذِينَ تتعلق مِنَ إما على أنها تفسير لقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا.. أو تتعلق بمحذوف، وتقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. وقوم: مبتدأ، ويحرفون: جملة صفة المبتدأ، وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا مقدم عليه. أو تتعلق بقوله: نَصِيراً على حد قوله: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا. غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من ضمير: واسمع، أي لا سمعت، ويظهرون أنهم يريدون: واسمع غير مسمع مكروها. وقيل: إنهم يريدون: واسمع غير مسمع، أي غير مجاب. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً منصوبان على المصدر، وتقديره: يلوون بألسنتهم ليّا، ويطعنون طعنا. وألسنتهم: جمع لسان، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، ويجمع على ألسنة وألسن، فمن جمعه على ألسنة جعله مذكرا، ومن جمعه على ألسن جعله مؤنثا. وَلَوْ أَنَّهُمْ.. لو: حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره، كقولك: لو جئتني لأكرمتك، فيكون عدم الإكرام لعدم المجيء. وأنهم: في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: ولو وقع قولهم: سمعنا وأطعنا، فإن لَوْ يقع بعدها الفعل ولا يقع بعدها المبتدأ. إِلَّا قَلِيلًا منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: إيمانا قليلا. البلاغة: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ: استعارة، وكذا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ استعارة لأن أصل اللي: فتل الحبل، فاستعير للكلام الذي قصد به غير ظاهره. أَلَمْ تَرَ استفهام للتعجب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ ألم تنظر أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا أو جزءا من التوراة وهم اليهود أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ تخطئوا الطريق الحق أو القويم لتكونوا مثلهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم، فيخبركم بهم لتجتنبوهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا حافظا لكم منهم يتولى شؤونكم نَصِيراً مانعا لكم من كيدهم، أو معينا يدفع شرهم عنكم مِنَ الَّذِينَ هادُوا هم اليهود يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يغيرون الكلام الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم عن مواضعه التي وضع عليها. غَيْرَ مُسْمَعٍ حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت، ويجوز أن يريدوا: غير مجاب قولك. وَراعِنا أصلها: راقبنا وانظرنا نكلمك، والمراد بها أنها كلمة سب بلغتهم وهي «راعينا» أو من الرعونة والطيش، وقد نهي عن خطابه بها لَيًّا تحريفا بألسنتهم وطعنا وفتلا بها. طَعْناً فِي الدِّينِ قدحا فيه وذما بالإسلام وَانْظُرْنا انظر إلينا وَأَقْوَمَ أعدل وأسدّ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به. سبب النزول نزلت في يهود المدينة، قال ابن إسحاق: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله فيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.... وقال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف- أحد أحبار اليهود- في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، ليحالفوا قريشا على غدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان، ونزلت اليهود في دور قريش ... فقال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب: اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء (الناقة

المناسبة:

الضخمة السنام) ، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني (الأسير) ، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ... يعني كعبا وأصحابه، الآية «1» . المناسبة: بعد أن أرشد الله تعالى إلى جزيل الثواب بامتثال الأحكام الشرعية، وحذر المخالف بشديد العقاب، من خلال الترغيب والترهيب، ذكر حال بعض أهل الكتاب الذين تركوا بعض أحكام دينهم، وحرّفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه المؤمنين إلى وجوب التزام ما أمروا به، ويحذرهم من إيقاع العقاب عليهم بترك أحكام دينهم، مثل العقاب الذي استحقه أولئك اليهود في الآخرة حينما يتمنون أن يدفنوا في التراب، ويزج بهم في نار جهنم. التفسير والبيان: ألم تنظر يا محمد إلى الذين أعطوا جزءا من التوراة (الكتاب الإلهي) ثم يستبدلون الضلالة بالهدي، ويؤثرون الكفر على الإيمان، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من الأحكام كالكذب وإيذاء الناس وأكل الربا، ومن العلم عن الأنبياء السابقين في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ليشتروا بما اصطنعوه من الطقوس والرسوم الدينية ثمنا قليلا من حطام الدنيا، ويريدون أن تضلوا معهم الطريق المستقيم، فتكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع، والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون، ويحذركم منهم، وكفى بالله وليا: حافظا لكم منهم ويتولى شؤونكم، وحصنا لمن لجأ إليه، وكفى

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 89

بالله نصيرا لمن استنصره، ومعينا يدفع شرهم عنكم، فهو سبحانه الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلاحكم، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من التعاون وإعداد وسائل القوة الحربية، فلا تطلبوا الولاية من غيره، ولا النصرة من سواه. وأما الذي يعملون به من التوراة: فهو ما أضاعوه ونسوه، وما تركوا العمل به من الأحكام الباقية لديهم. ثم بيّن الله تعالى المراد بأولئك الذين أوتوا الكتاب بقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود، ومِنَ هنا لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] وهم قوم يحرفون الكلم الذي أنزله الله في التوراة عن مواضعه الأصلية، إما بأن يحملوه على غير معناه الذي وضع له، كتأويل البشارات الواردة في النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتأويل ما ورد في المسيح وحمله على شخص آخر، لا يزالون ينتظرونه إلى اليوم، وإما بنقل كلمة أو جملة من الكتاب ووضعها فيه في موضع آخر، فقد خلطوا ما أثر عن موسى عليه السلام بما كتب بعده بزمن طويل، كما خلطوا كلام غيره من أنبيائهم بكلام آخر دوّنه واضعو التوراة الحالية، بدلا عن التوراة المفقودة باعترافهم. وكانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم، ومنشأ ذلك أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة الأصلية التي كتبها موسى عليه السلام، وأرادوا أن يؤلفوا بينها، فخلطوا فيها بالزيادة والتكرار، كما أثبت المؤرخون الباحثون الثقات، مثل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه «إظهار الحق» . ويقول هؤلاء اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا قولك وعصينا أمرك، قال مجاهد: إنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا قولك، ولكن لا نطيعك. وكانوا يقولون أيضا

حسدا وحقدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يدعون عليه بقولهم: لا أسمعك الله، أو غير مسمع دعاؤك، أو غير مقبول منك، بدلا من أن يقولوا أدبا: «لا سمعت مكروها» . وكانوا يقولون كذلك: راعِنا اسم فاعل من الرعونة أي الطيش والحمق، أو هي «راعينا» كلمة سب وطعن عندهم، بدلا من أن تستعمل بمعنى: أنظرنا وتمهل علينا. وقد نهى الله المؤمنين أن يستعملوا هذه الكلمة بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا، وَقُولُوا: انْظُرْنا [البقرة 2/ 104] . هذه جرائم ثلاث ارتكبوها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إما في مجلسه أو بعيدا عنه، بدافع الحسد والحقد، أو الاستهزاء والسخرية، يستعملون كلاما محتملا معنيين، وهم يريدون به الشتيمة والإهانة، لا التوقير والاحترام والتكريم، ليا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب، وطعنا في الإسلام وقدحا فيه، فيوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم: راعِنا وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذا منتهى الوقاحة والجرأة على الباطل. ومن تحريف لسانهم تحيتهم بقولهم: «السام- الموت- عليكم» يوهمون بفتل اللسان أنهم يقولون: «السلام عليكم» فيجيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وعليكم» أي كل أحد يموت. قال ابن عطية: وهذا موجود حتى الآن في اليهود، وقد شاهدناهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفّظونهم ما يخاطبون به المسلمين، مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير «1» . ثم وجّه الحق تعالى إلى الخطاب الأمثل فذكر: ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع منا ما نقول وانظرنا، أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل حتى نتفهم

_ (1) البحر المحيط: 3/ 264

فقه الحياة أو الأحكام:

عنك ما تقول، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه، لما فيه من الفائدة والأدب. ثم بيّن الله تعالى عاقبة تصرفاتهم النابية وهو الطرد من رحمة الله وعدم التوفيق للخير أبدا، فذكر أنه تعالى لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، والكفر يمنع عادة من التفكر والأدب في الخطاب، وهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يؤبه به، وقلوبهم مطرودة عن الخير، مبعدة عنه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وإذا لم يكن هناك إيمان، لم يبق أمل في صلاح عمل، ولا رقي عقل، ولا طهارة نفس. فقه الحياة أو الأحكام: الآيات تعجب وتوبيخ وتقريع ليهود المدينة وما والاها، ولكل من سلك سلوكهم، وسار على منهجهم، وسبب ذلك تصرفاتهم الشائنة، ومواقفهم المستهجنة التي جمعت ألوانا من الجرائم والمنكرات. فهم اشتروا الضلالة بالهدى، وأرادوا إضلال المسلمين عن طريق الحق والمنهج القويم، وأعلنوا عداوتهم للإسلام والمسلمين، فلا تستصحبوهم فإنهم الأعداء الألداء. وهم يحرفون الكلام الإلهي عن مواضعه الصحيحة، ويؤولونه تأويلا باطلا، أو يخلطونه بكتابات البشر المغلوطة أو المشوهة أو المنفرة، فإن توراتهم الحالية تمس سمو الذات الإلهية، وتشوه سمعة أنبيائهم وتطعن فيهم، وهي مشحونة بالأحقاد والبغضاء على الشعوب الأخرى غير اليهودية، وتدعو إلى تدمير المدن وتخريب الحضارة وإتلاف الثروات الحيوانية والزراعية والصناعية. ويعلنون وقاحتهم في خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحب الاستهزاء والسخرية منه، فيقولون: «سمعنا قولك وعصينا أمرك» ، واسمع لا سمعت، وهم يظهرون أنهم

أمر أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن وتهديدهم باللعنة [سورة النساء (4) آية 47] :

يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن البصري ومجاهد: معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. ويقولون: راعنا من الرعونة والحمق. وقوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ يدل على أنهم يلوون ألسنتهم عن الحق، أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، ويطعنون في الدين، بقولهم لأصحابهم: لو كان نبيا لدرى أننا نسبّه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك، فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ولو خاطبوه بما يقتضيه الأدب واللياقة في الكلام، لكان ذلك أقوم أي أصوب لهم في الرأي، والحقيقة أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان. أمر أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن وتهديدهم باللعنة [سورة النساء (4) : آية 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) الإعراب: كَما لَعَنَّا الكاف في كَما في موضع نصب، لأنها صفة لمصدر محذوف، وتقديره: لعنا مثل لعننا أصحاب السبت.

البلاغة:

البلاغة: نَطْمِسَ وُجُوهاً استعارة، شبه مسخ الوجوه بالصحيفة المطموسة التي أشكلت حروفها وغمضت سطورها. يوجد طباق بين وُجُوهاً ... أَدْبارِها. ويوجد جناس اشتقاق في نَلْعَنَهُمْ.. لَعَنَّا. المفردات اللغوية: أُوتُوا الْكِتابَ التوراة نَطْمِسَ الطمس: الإزالة، والمراد به هنا: محو آثار الإنسانية بإزالة ما في الوجوه من العين والأنف والحاجب، وترددت الكلمة في القرآن، مثل: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [يونس 10/ 88] أي أزلها وأهلكها، ومثل: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس 36/ 66] إما بإزالة نورها، وإما بمحو حدقتها وُجُوهاً جمع وجه: وهو الوجه المعروف، وطمسها: هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، أو المراد: ألا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أنفا. وقال ابن عباس: وطمسها: أن تعمى. وقد يطلق الوجه على اتجاه النفس: وهو ما تتوجه إليه من المقاصد، كما قال تعالى: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران 3/ 20] . وقال: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ [لقمان 31/ 22] . وقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم 30/ 30] . فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الأدبار: جمع دبر، وهو الخلف والقفا. والرد على الأدبار: جعلها كالأقفاء لوحا واحدا. ويستعمل الرد على الأدبار إما في الحسيات وهو الهزيمة أو الفرار في القتال، وإما في المعنويات: وهو الرجوع إلى الوراء أي العودة إلى الكفر، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ [محمد 47/ 25] . أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نجزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت قردة وخنازير، وقيل: أو نهلكهم، كما أهلكنا أصحاب السبت. سبب النزول: أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر يهود، اتقوا الله، وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق» فقالوا:

التفسير والبيان:

ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر، فأنزل الله عز وجل فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا.. الآية. التفسير والبيان: الآية متصلة بما قبلها، واردة لفتح باب الأمل أمام أهل الكتاب بعد أن اشتروا الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر، وهي تلزمهم العمل بما عرفوا والإيمان بالقرآن، لأن إيمانهم بالتوراة يستدعي الإيمان بما يصدقها. يأمر الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالإيمان بما نزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن المجيد الذي جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية في أصولها الأولى الصحيحة، وليس لما آلت إليه في صورتها الحالية، من تقرير التوحيد ورفض الشرك وترك الفواحش الظاهرة والباطنة، وتصديق الاخبار التي بأيديهم من البشارات بالنبي محمد، وتلك هي أصول الدين وغاياته الأساسية. خاطبهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنهم ضيعوا جزءا منه، وأحرقوا جزءا آخر، مما يدعو إلى إيمانهم بالقرآن، ويسجل عليهم تقصيرهم واستحقاقهم العقاب. ومما يدعوهم إلى الإيمان أن الأديان السماوية كلها متفقة في الأصول العامة، كالتوحيد، ونبذ الشرك، والتحلي بكريم الأخلاق، والبعد عن الفواحش والمنكرات. وأكد القرآن الكريم نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى وإبراهيم ونوح وغيرهم عليهم السلام، فكيف لا يؤمن أتباع أولئك الأنبياء بالقرآن وبرسالة محمد؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم، وموافقا لملة إبراهيم القائمة على التوحيد.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقل لهم يا محمد: آمنوا بما نزّلنا، فكل الكتب المنزلة ذات مصدر واحد، ولها غاية واحدة. ثم هددهم إن لم يفعلوا بطمس الوجوه والرد على الأدبار، فتجعل على هيئة أدبارها وهي الأقفاء، مطموسة مثلها، عديمة الإبصار، أو بالهلاك أو المسخ كما أهلك أصحاب السبت من اليهود، أو مسخهم قردة وخنازير. وأصحاب السبت: يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد بحواجز أقاموها يوم الجمعة، فإذا حدث المد ثم الجزر. تبقى الأسماك في الأحواض المقامة على الشواطئ. وكان أمر الله مفعولا، أي أن أمره التكويني وهو قوله: كُنْ فَيَكُونُ بإيقاع شيء ما نافذ لا محالة، فإذا أمر أمرا فإنه لا يخالف ولا يمانع. فاحذروا وعيده، وخافوا عقابه، ويراد بالأمر: المأمور، فالمعنى: أنه متى أراده أوجده. قال ابن عباس: يريد: لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لأمره. ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا. وقد تحقق الوعيد في معاصري الوحي بإذلال بني النضير وإجلائهم، وإهلاك بني قريظة، وهو معنى الطمس والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية. فقه الحياة أو الأحكام: اختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة، فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ قولان: روي عن أبي بن كعب أنه قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. والمراد به التمثيل، وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة.

ما يغفره الله تعالى وما لا يغفره [سورة النساء (4) آية 48] :

وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء، أي يذهب الله بالأنف والشفاه والأعين والحواجب، وهذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطّمس: أن تزال العينان خاصّة وتردّ في القفا، فيكون ذلك ردّا على الدّبر ويمشي القهقرى. فإذا آمن هؤلاء ومن اتّبعهم، رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرّد: الوعيد باق منتظر، وقال: لا بدّ من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة. ما يغفره الله تعالى وما لا يغفره [سورة النساء (4) : آية 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) المفردات اللغوية: وَيَغْفِرُ المغفرة: ستر الذنب، والمغفور له: أن يدخله الله الجنة بلا عذاب، ومن شاء عذّبه من المؤمنين بذنوبه، ثم يدخله الجنة. افْتَرى اختلق واعتمل وارتكب. إِثْماً عَظِيماً ذنبا كبيرا. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: وما دينه؟ قال: يصلّي ويوحّد الله، قال: استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل ذلك منه، فأبى عليه، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: وجدته شحيحا

المناسبة:

على دينه، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. المناسبة: بعد أن أوعد الله أهل الكتاب وهددهم على الكفر إن لم يؤمنوا، وأعلن أن الوعيد نافذ المفعول، بيّن هنا أن هذا الوعيد على الكفر أو الشرك، فأما سائر الذنوب فقابلة للغفران. التفسير والبيان: أخبر الله تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، والمراد بالشرك هنا مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء من عباده. ومن أشرك بالله فقد ارتكب ذنبا كبيرا. قال الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة، ففي مشيئة الله تعالى: إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بيّن الله تعالى ذلك بقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. والظاهر لدي هو قول الطبري. وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ... : اخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: لما نزل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53] ، قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال: يا رسول الله، والشرك بالله تعالى، فسكت مرّتين أو ثلاثا، فنزلت هذه الآية. أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه

فقه الحياة أو الأحكام:

الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على عظم جريمة الشرك، وأنه لا مغفرة له، وعلى فضل الله ورحمته بإمكان مغفرة بقية الذنوب لمن يشاء من عباده. والشرك بالله قسمان: 1- شرك في الألوهية: وهو اتّخاذ شريك مع الله تعالى، وله سلطة وتدبير في الكون. 2- وشرك في الربوبية: وهو جعل سلطة التشريع وتبيان أحكام الحلال والحرام لله ولغيره من البشر بغير الوحي، كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة 9/ 31] ، وقد فسّر النّبي صلّى الله عليه وسلّم اتّخاذهم أربابا بطاعتهم واتّباعهم في أحكام الحلال والحرام. وفي الآية إيماء إلى اتّصاف أهل الكتاب بالشرك بتأليه العزير والمسيح، وبجعل الأحبار والرهبان أصحاب السلطة في التحليل والتحريم. والسبب في شناعة الشرك: أنه كذب محض وافتراء صريح، وأنه وكر الخرافات والأباطيل، ومنه تنشأ سائر الجرائم التي تهدم حياة الأفراد ونظام الجماعات، ويتنافى مع رقي العقول، وطهارة النفوس، وصفاء الأرواح، ويحجب نور الإيمان الصحيح عن النفاذ إلى القلب. أما التوحيد ففيه عزّة النفس، وتحرير الإنسان من العبودية لأحد من البشر أو لشيء في الكون، والسمو بالذات البشرية إلى عبادة الله والاتّكال عليه

_ (1) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

نماذج أخرى من أعمال أهل الكتاب والجزاء عليها [سورة النساء (4) الآيات 49 إلى 55] :

والإخلاص له، وفي ذلك كله راحة النفس، واطمئنان القلب، وصفاء الروح، وتنوير البصيرة، والظفر بعون الله ونصره، والاستجابة لنداء الفطرة، والاعتماد على مصدر الخير الحقيقي، والثقة التامة بمن بيده إنقاذ العبد ونجاته من مخاطر الدنيا ومضارها، والتخلص من أوزار المعصية في الآخرة. ومن وسائل المغفرة المتروكة للبشر والمقيدة بالمشيئة الإلهية أيضا: الدعاء مع الإيمان والإخلاص والاستقامة وحسن الظّنّ بالله تعالى، وفعل الحسنات، لقوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] ، والتوبة الصادقة النّصوح التي حثّ عليها القرآن بعد التّفريط وارتكاب الذّنب جهلا. نماذج أخرى من أعمال أهل الكتاب والجزاء عليها [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 55] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

البلاغة:

البلاغة: أَلَمْ تَرَ استفهام يراد به التّعجب. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ تعجب بلفظ الأمر، وعبر بفعل المضارع يَفْتَرُونَ عن الماضي للدلالة على الدوام والاستمرار. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ وأَمْ يَحْسُدُونَ استفهام يراد به التوبيخ والتقريع. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ مجاز مرسل في كلمة النَّاسَ يراد بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، من باب إطلاق العام على الخاص. فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً تعريض بشدة بخلهم. ويوجد جناس اشتقاق في يُؤْتُونَ ... آتاهُمُ. المفردات اللغوية: يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يمدحونها وهم اليهود الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وهو استفهام تعجبي أي ليس الأمر بتزكيتهم أنفسهم، قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم 53/ 32] ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يطهر من يريد بالإيمان وَلا يُظْلَمُونَ ينقصون من أعمالهم، والظلم: النقص وتجاوز الحد، فله جانبان: سلبي وإيجابي. فَتِيلًا قدر قشرة النواة، والأدقّ: هو ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط. وبه يضرب المثل في الشيء الحقير، كما يضرب بمثقال الذرة. وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي ذنبا واضحا، والمراد به تعظيم الذّنب وذمّه. وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا. بِالْجِبْتِ الرديء الذي لا خير فيه، والمراد به هنا الأصنام وما يتبعها من الأوهام والخرافات. وَالطَّاغُوتِ مصدر بمعنى الطغيان والجبروت، ويطلق على كل ما يعبد من دون الله، وعلى الشيطان. والجبت والطاغوت: صنمان لقريش. نَقِيراً أي شيئا تافها قدر النقرة في ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة، ويضرب بها المثل في القلة والحقارة، وهم لا يؤتون الناس نقيرا لفرط بخلهم.

سبب النزول:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بل أيحسدون النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والحسد: تمنّي زوال نعمة الغير. عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من النّبوة، والعلم، والكرامة في الدّين والدّنيا، ويقولون: لو كان نبيّا لاشتغل عن النّساء. وَالْحِكْمَةَ العلم بالأسرار المودعة في أحكام الشريعة. مُلْكاً عَظِيماً ما كان لأنبياء بني إسرائيل كداود وسليمان عليهما السّلام. صَدَّ عَنْهُ أعرض عنه. سَعِيراً نارا مسعرة أي موقدة، والمراد عذابا شديدا لمن لا يؤمن. سبب النزول: نزول الآية (49) : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك وغيرهم. وقال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهم وقالوا: يا محمد، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، فقالوا: والذي نحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فهذا الذي زكّوا به أنفسهم. وقال الحسن البصري وقتادة: نزلت هذه الآية وهي قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ في اليهود والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] ، وقالوا أيضا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة 2/ 111] . نزول الآية (51) : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا: أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا المنصبر المنبتر

نزول الآية (54) :

من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير، فنزلت فيهم: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر 108/ 3] ، ونزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: نَصِيراً [آل عمران 3/ 23] . وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والرّبيع بن أبي الحقيق، وأبو عمارة، وهوذة بن قيس، وكان سائرهم من بني النّضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، أهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم، أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه، وممن اتبعه، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: مُلْكاً عَظِيماً. نزول الآية (54) : أَمْ يَحْسُدُونَ..: أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا، فأنزل الله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية. التفسير والبيان: ألم تنظر إلى حال الذين يمدحون أنفسهم، ويدّعون ما ليس فيهم، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن شعب الله المختار، ولا تمسّهم النار مهما فعلوا إلا أياما معدودات، ولن يدخل الجنّة إلا من كان هودا أو نصارى، وإن

أبناءنا توفوا وهم لنا قربة، وكذلك آباؤنا يشفعون لنا ويزكوننا، لكرامتهم على الله، والتّزكية: التطهير والتبرية من الذنب. وقد ردّ الله دعواهم بأنه لا قيمة لتزكيتهم أنفسهم، فإن التزكية تكون بالعمل الصالح، لا بالادّعاء، والله هو الذي يزكي من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل الصالح، وهدايته إلى العقيدة الصحيحة، والآداب الفاضلة. ولا ينقص الله المزكين أنفسهم شيئا من جزاء عملهم. ثم أكّد الله تعالى التعجب من حالهم بقوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكيتهم أنفسهم، وزعمهم أن لهم امتيازا على غيرهم. وكفى بهذا الكذب والافتراء والتزكية للنفس إثما ظاهرا، فالله لا يخصّ شعبا بمعاملة خاصة أو امتياز، وكل ذلك غرور وأمنيات مزعومة، وجهل فاضح. وانظر أيضا حال بعض أهل الكتاب الذين يجاملون المشركين، ويؤمنون بالأصنام والأوثان، وينصرون المشركين على المؤمنين بأنبيائهم وكتبهم، ويقولون: إن المشركين أرشد طريقة في الدّين من المؤمنين الذين صدقوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهم حرموا هداية العقل والفطرة، وهدموا أساس دينهم، وتجاوزوا الحقّ، وأعلنوا الظلم، حينما نصروا الشرك والوثنية وتكذيب الله ورسوله على مبدأ التدين الصحيح والتصديق بالإله الحق. وعاقبتهم أنهم مطرودون من رحمة الله وفضله، ومن يبعده الله من رحمته فلن يجد له نصيرا ينصره أبدا. ثم وبّخهم الله على البخل والطمع في الملك آخر الزمان، فذكر أنه لا حظ لهم من الملك، لظلمهم وطغيانهم وبخلهم، وحبّهم أنفسهم دون غيرهم، فهم مطبوعون

على حبّ الذّات وحبّ المادّة والغرور الكاذب والشّح، فلا يعطون الناس مقدار النقير (النقرة في ظهر النواة) والملك يحتاج إلى الترفع عن كل ذلك، وإلى كسب الأعوان بالبذل والسخاء، وقضاء حوائج الآخرين، والسمو عن الماديات، وحبّ الناس. ثم وبّخهم الله تعالى على الحسد الذي هو أسوأ من البخل، فهم يتمنون أن يكون الخير كله بأيديهم، ويريدون قصر فضل الله عليهم، ولا يحبّون أن يكون لأمة فضل مما لهم، فهم جماعة يحبون ذواتهم (أنانيّون) حاقدون حاسدون. لذا حسدوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من فضل النّبوة والعلم، وزعامة الدولة ورئاسة الحكم، وكثرة الأعوان والأنصار. ثم بيّن الله تعالى ما يدفع ذلك الحسد، ويقلل من أهمية الأشياء التي حسدوا عليها محمدا، فهم إن يحسدوه على ما أوتي، فقد أخطئوا إذ له نظائر وأمثال كثيرة وهي أنه تعالى آتى مثل هذا لآل إبراهيم، والعرب منهم لأنهم من ذرية ولده إسماعيل، وآتاهم الله الكتاب الإلهي المشتمل على تشريع الأحكام، والحكمة التي هي فهم أسرار التشريع، والملك العظيم في أبنائه وذريته. وفي هذا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين بزعامة نبيّهم ملك عظيم، بالإضافة إلى النّبوة والقرآن والحكمة، وقد بدأت تباشير القوة في المدينة شيئا فشيئا. والخلاصة: إن اليهود قوم مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله مقصور عليهم، ورحمته لا تتعداهم، ولا يستحقها غيرهم، وهم واهمون سطحيون يحسبون أن ملك الدنيا بأيديهم، وحاسدون العرب على ظهور نبي آخر الزمان فيهم، وعلى ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة. وأولئك الأنبياء المتقدمون كإبراهيم وذريته بالرغم من اختصاصهم بالنّبوة وإيتائهم الملك، لم تؤمن أممهم جميعا برسالتهم، بل منهم من آمن بهم، ومنهم من

فقه الحياة أو الأحكام:

أعرض وظلّ على كفره، فلا تعجب يا محمد من موقف قومك، فهذه حال الأمم مع أنبيائهم. وفي هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ليشتد صبره على أذى قومه، ولا ييأس من إيمانهم. وفي رأي القرطبي: أن الضمير في قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم. وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أعرض فلم يؤمن به. وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم، وقيل: يرجع إلى الكتاب. وإن لم يصبهم عذاب في الدنيا، فكفاهم عذاب جهنم في النار المسعّرة الشديدة اللظى، وبئس المصير، ولكن ذلك بسبب اتّباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- المنع من تزكية الإنسان نفسه: فإن المزكّي نفسه بلسانه يغضّ من قدر نفسه، ولا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وقد نهى الله صراحة عن ذلك بقوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم 53/ 32] . وكذلك نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، جاء في صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمّيت ابنتي برّة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا الاسم، وسمّيت برّة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزكّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرّ منكم» فقالوا: بم نسمّيها؟ فقال: «سمّوها زينب» . وكذلك نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإفراط في مدح الرجل بما ليس فيه، فيدخله بسببه الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة، فيحمله ذلك على تضييع العمل، وترك الازدياد من الفضل. ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة أنّ رجلا ذكر عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأثنى عليه رجل خيرا، فقال

النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك قطعت عنق صاحبك- يقوله مرارا- إن كان أحدكم مادحا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكّي على الله أحدا» . وفي حديث آخر: «قطعتم ظهر الرجل» حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأوّل العلماء قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «احثوا التراب في وجوه المدّاحين» : أن المراد بهم المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يفتنون به الممدوح. أما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود، ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه، فليس بمدّاح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النّيّات، وقال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة 2/ 220] . وقد مدح صلّى الله عليه وسلّم في الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث في وجوه المدّاحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى، عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسّان له في شعرهما، ومدح كعب بن زهير. ومدح هو أيضا أصحابه فقال: «إنكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع» . وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم في صحيح الحديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله» فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات، تلتمسون بذلك مدحي، كما وصف النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلّوا.

وهذا يقتضي أن المبالغ بالمدح آثم. 2- ترفع الله عن الظلم: لقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا والفتيل: الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وهو كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، ومثله قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء 4/ 124] وهي النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة. 3- افتراء اليهود الكذب على الله: في قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] ، وقيل: تزكيتهم لأنفسهم، وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. ومن المتفق عليه أن المراد بالآية: يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ: اليهود. والافتراء: الاختلاق. 4- الخلط في عقيدة اليهود: بالرغم من أن اليهود يؤمنون بالإله وعندهم كتاب سماوي، يؤمنون أيضا بالجبت والطاغوت أي بالأصنام والأوثان. وهذا ما أعلنه بعض عظمائهم: كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، بدليل: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء 4/ 60] ويقولون لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد، كما تقدّم في سبب النزول. 5- زوال الملك والسلطة عن اليهود: أنكر الله تعالى وجود السلطة والملك على اليهود في ذلك الزمان، فقال: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟ أي ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا، لبخلهم وحسدهم. 6- البخل والحسد أسوأ أخلاق اليهود: أخبر الله تعالى عن اليهود بهاتين الصفتين الذميمتين وهما البخل والحسد: الأول في قوله سبحانه: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ

النَّاسَ نَقِيراً أي يمنعون الحقوق، وهو خبر من الله عزّ وجلّ بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة. وأخبر عزّ وجلّ أيضا عنهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والمراد بالناس في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما: النّبي صلّى الله عليه وسلّم، حسدوه على النّبوة، كما حسدوا أصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: الناس: العرب، حسدتهم اليهود على النّبوة. وقال الضّحّاك: حسدت اليهود قريشا لأن النّبوة فيهم. والأقوال كلها متقاربة. والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، كما رواه ابن ماجه عن أنس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم. 7- نعم الله وأفضاله على آل إبراهيم: أخبر الله تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيّدوا بالملائكة. وقيل عن ابن عباس: يعني ملك سليمان، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان أكثر من ذلك. واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء. والمراد تكذيب اليهود والرّدّ عليهم في قولهم: لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النّساء، ولشغلته النّبوة عن ذلك فأخبر تعالى بما كان لداود وسليمان يوبّخهم، فأقرّت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألف امرأة؟!» ، قالوا: نعم، ثلاثمائة مهريّة، وسبعمائة سرّية «1» ، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألف عند رجل، ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟» فسكتوا.

_ (1) السّرّية: الأمة التي بوأتها بيتا، وهي فعليّة منسوبة إلى السّر وهو الإخفاء لسترها عن الحرّة عادة. [.....]

عقاب الكافرين وثواب المؤمنين [سورة النساء (4) الآيات 56 إلى 57] :

عقاب الكافرين وثواب المؤمنين [سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) الإعراب: خالِدِينَ حال منصوب من ضمير سَنُدْخِلُهُمْ. أَبَداً ظرف زمان منصوب. لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مبتدأ وخبر، والجملة حالية، أو استئنافية. البلاغة: يوجد طباق بين آمَنُوا ... وكَفَرُوا. ويوجد جناس اشتقاق في ظِلًّا ظَلِيلًا. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ استعارة، أستعير لفظ الذوق الذي يكون باللسان، إلى الألم الذي يصيب الإنسان، وله صفة الدوام وعدم الانقطاع. المفردات اللغوية: كَفَرُوا أنكروا وغفلوا عن النظر في آيات الله، وشككوا فيها مع العلم بصحّتها. بِآياتِنا أي بالأدلّة التي ترشد أن هذا الدّين حق، ومن أجلّها القرآن. نُصْلِيهِمْ نشويهم أو ندخلهم. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ احترقت وتلاشت. بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن تعاد إلى حالها الأولى غير محترقة. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليقاسوا شدّته. عَزِيزاً غالبا قادرا لا يعجزه شيء. حَكِيماً في خلقه، يضع الشيء في موضعه المناسب، أو

المناسبة:

هو المدبّر للأشياء على وفق الحكمة والصواب. مُطَهَّرَةٌ من العيوب والأدناس الحسية كالحيض والمعنوية. خالِدِينَ دائمين. ظِلًّا ظَلِيلًا ظلّا وارفا دائما لا تنسخه شمس ولا يصحبه حرّ ولا برد، وهو ظلّ الجنّة. وهذه صيغة مبالغة وتأكيد، مثل قولهم: ليل أليل. وقد يعبر بالظل عن العزة والنعمة والرفاهية، فيقال: «السلطان ظل الله في أرضه» . المناسبة: هذا جزاء الفريقين: المؤمنين والكفار، الذين أشارت إليهم الآية السابقة بأن بعض الناس صدّق بالأنبياء، وبعضهم الآخر أعرض عن اتّباع الحق. التفسير والبيان: إن الذين كفروا بآياتنا المنزلة على أنبيائنا، وبخاصة القرآن الذي هو خاتم الكتب الإلهية وأكملها وأبينها، سوف نحرقهم بالنار، ثم أخبر الله تعالى عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي كلما احترقت جلودهم، حتى لم تعد صالحة لنقل الإحساس بالألم إلى الدماغ في مركز الشعور، بدّلناهم جلودا أخرى حيّة تشعر بالألم وتحسّ بالعذاب، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تبدّل جلودهم كلّ يوم سبع مرات» . والسبب هو أن يذوقوا العذاب، أي يدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزّك الله، أي أدامك على عزك وزادك فيه، وهذا مثل قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء 17/ 97] . ثم أكّد الله تعالى علّة العقاب وبيّن مدى القدرة عليه، فذكر أنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، حكيم لا يعذب إلا بعدل، ولا يعاقب إلا على وفق الحكمة. ومن مقتضيات العدل: أن الكفر والمعاصي سبب للعذاب أو العقاب، وأن الإيمان والعمل الصالح سبب للنعيم والجنة، فلكل عمل ما يناسبه، لذا قرن ثواب المؤمن بجزاء الكافر، لإظهار الفرق بينهما.

فقه الحياة أو الأحكام:

والذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا صالح الأعمال، سيدخلهم ربّهم سريعا جنّات تجري من تحتها الأنهار، يتمتعون فيها بالنعيم الدائم، وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا، فلا ملل ولا سأم ولا ضجر، جزاء لعملهم الصالح، إذ لا يكفي الإيمان وحده بغير العمل الصالح. ولهم أزواج بريئات من العيوب الجسدية والخلقية أو الطباع الرّدية، فليس فيهنّ ما يعكر المزاج، أو يكدر الصّفو. ونجعلهم في مكان ممتع ظليل لا حرّ فيه ولا برد، وتلك نعمة كاملة، ورفاهية تامة. ويلاحظ الفرق بين التعبير عن جزاء الكافرين بسوف وعن ثواب المؤمنين بالسين، ليفيد تحقق الثواب بسرعة ويقين، ويبيّن بعد العقاب المنتظر للكافرين لأنهم في أهوال المحشر ربّما كانوا في عذاب أشد من عذاب النّار. فقه الحياة أو الأحكام: هاتان الآيتان تعقدان مقارنة واضحة بين مصير الفريقين: فريق الكافرين وفريق المؤمنين. أما الكافرون: فعذابهم محقق، والعذاب: هو تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. فإن قيل: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه؟ قيل له: ليس الجلد بمعذّب ولا معاقب، وإنما العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت، لا للجلد، والألم واقع على النفوس لأنها هي التي تحس وتعرف، فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب. وتبديل الجلود: أن تأكله النار كل يوم سبع مرات، كما قال مقاتل. أو سبعين مرة كما قال الحسن البصري، أو سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا كما كانوا.

منهاج الحكم الإسلامي أداء الأمانات والحقوق إلى أهلها والحكم بالعدل وإطاعة الله والرسول وولاة الأمور [سورة النساء (4) الآيات 58 إلى 59] :

والله قادر على ذلك العذاب لا يعجزه شيء ولا يفوته، حكيم في تدبيره شؤون خلقه وفي إيعاده عباده. وأما المؤمنون: فثوابهم محقق أيضا ومقطوع به يقينا، له مظاهر عديدة، منها التمتع بجنان الخلد، والتزوج بالحور العين، والاستظلال بظلّ كثيف لا شمس فيه، ولا يدخله ما يدخل ظلّ الدّنيا من الحرّ والسّموم «1» ونحو ذلك. منهاج الحكم الإسلامي أداء الأمانات والحقوق إلى أهلها والحكم بالعدل وإطاعة الله والرسول وولاة الأمور [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) الإعراب: أَنْ تُؤَدُّوا وأَنْ تَحْكُمُوا في موضع نصب لأن التقدير: بأن تؤدوا وبأن تحكموا، فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فاستحق النصب.

_ (1) السّموم: الريح الحارة، تؤنث، وجمعها سمائم.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ إيراد الأمر بصيغة الإخبار وتأكيده ب إِنَّ للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال وتكرار الاسم الجليل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لغرس المهابة في النفس. المفردات اللغوية: الْأَماناتِ جمع أمانة: وهي ما يؤتمن الشخص عليه، وفي عرف الناس: هي كل ما أخذته بإذن صاحبه. وتعمّ جميع الحقوق المتعلّقة بالذّمة، لله أو للناس أو لنفسه، ويسمى حافظها أمينا وحفيظا ووفيّا، ومن لا يحفظها ولا يؤدّيها خائنا. بِالْعَدْلِ إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب طريق. نِعِمَّا فيه إدغام ميم «نعم» في «ما» النكرة الموصوفة أي نعم الشيء يَعِظُكُمْ بِهِ تأدية الأمانة والحكم بالعدل. تَأْوِيلًا مآلا وعاقبة. سبب النزول: نزول الآية (58) : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ: عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: أرني المفتاح، فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس، فقال: بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هات المفتاح يا عثمان، فقال: هاك بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بردّ المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة، فأعطاه المفتاح، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حتى فرغ من الآية. وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج، وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فناوله المفتاح. قال:

نزول الآية (59) :

وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية، فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك ، قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. نزول الآية (59) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا..: روى البخاري عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النّبي صلّى الله عليه وسلّم في سرية. قال الداودي: هذا وهم يعني الافتراء على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب، فأوقد نارا، وقال: اقتحموا، فامتنع بعض، وهمّ بعض أن يفعل، قال: فإن كانت الآية نزلت قبل، فكيف يخصّ عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهم: «إنما الطاعة في المعروف» وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟ وأجاب الحافظ ابن حجر بأن المقصود من قصته: فإن تنازعتم في شيء، فإنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة والتوقف، فرارا من النار، فتناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول. المناسبة: لما ذكر الله تعالى ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر بعض تلك الأعمال وأجلّها وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وإطاعة الله والرسول وأولي الأمر. التفسير والبيان: إن السبب الخاص الذي نزلت آية أداء الأمانات من أجله لا يخصص عموم اللفظ، وإنما العبرة عادة في كل آي القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي

أمر عام بأداء الأمانات إلى أهلها لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده، ويتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان، سواء أكان ذلك في حق نفسه، أم في حق غيره من العباد، أم في حق ربه. فرعاية الأمانة في حقوق الله: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واستعمال مشاعره وأعضائه فيما يقربه من ربه. ذكر أبو نعيم في الحلية حديثا مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها» أو قال: «كل شيء إلا الأمانة» والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. وقال جمع من الصحابة (ابن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وأبي بن كعب) : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا موسر أن يمسك الأمانة. وقال ابن عمر: خلق الله فرج الإنسان، وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها. ورعاية الأمانة في حق النفس: ألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة، وأ لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب المرض، ويعمل بقواعد علم الصحة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» وقوله في الحديث الصحيح: «إن لنفسك عليك حقا» . ورعاية الأمانة في حق الآخرين: رد الودائع والعواري، وعدم الغش في المعاملات، والجهاد والنصيحة، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم. ووردت آيات وأحاديث كثيرة في حفظ الأمانة، منها قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب 33/ 72] . ومنها: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ

راعُونَ [المؤمنون 23/ 8] ومنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال 8/ 27] . وقال صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أحمد وابن حبان عن أنس-: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . وأداء الأمانات واجب، ولا سيما عند طلبها من صاحبها، ومن لم يؤدها في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء» . وإذا هلكت الأمانة أو ضاعت أو سرقت، فإن كان ذلك بتعد أو تقصير أو إهمال ضمنت، وإلا فلا تضمن. وبعد استقرار الأمانات يأتي دور الحكم بالعدل بين الناس، لذا أمر الله تعالى به، فالأمانة هي أساس الحكم الإسلامي، والعدل هو الأساس الثاني، والمخاطب بالأمرين هم جمهور الأمة. والعدل: أساس الملك، وأمر تقتضيه الحضارة والعمران والتقدم، وتشيد به كل العقول، وأصل من أصول الحكم في الإسلام، ولا بد للمجتمع منه حتى يأخذ الضعيف حقه، ولا يبغي القوي على الضعيف، ويستتب الأمن والنظام، وأجمعت الشرائع السماوية على وجوب إقامة العدل، فعلى الحاكم وأتباعه من الولاة والموظفين والقضاة التزام العدل، حتى تصل الحقوق لأهلها، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالعدل، منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] ومنها: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى

[الأنعام 6/ 152] ومنها: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] ومنها: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ [المائدة 5/ 8] وأمر الله به داود: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص 38/ 26] . وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال هذه الأمة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت» . وندد الله تعالى بالظلم والظالمين في آيات عديدة منها: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم 14/ 42] ومنها: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] . ومن أخطر أنواع الظلم: الحكم بغير ما أنزل الله، وظلم الحكام: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل 27/ 52] وظلم القضاة. وتحاشي الظلم من القاضي يكون بفهم الدعوى أولا، ثم عدم التحيز إلى أحد الخصمين، ومعرفة حكم الله، وتولية الأكفاء. وفي قوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ إشارة إلى أنه لا بد من إقامة حاكم يحكم بين الناس بالحق. ثم بيّن الله تعالى فائدة الأمر بالعدل وأداء الأمانة، فقال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يبصر ما يحدث منكم من أداء الأمانة وخيانتها، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس، فيحاسبكم ويجازيكم، فهو أعلم بالمسموعات والمبصرات. ثم أمر الله تعالى بما يدعو إلى أداء الأمانة والتزام العدل وهو الأساس الثالث للحكم الإسلامي، وهو إطاعة الله بتنفيذ أحكامه، وإطاعة الرسول المبيّن حكم ربه، وإطاعة ولاة الأمور.

ومن هم أولو الأمر؟ ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم الحكام أو أمراء السرايا. وذهب آخرون إلى أنهم العلماء الذين يبينون للناس الأحكام الشرعية. وذهب الشيعة الإمامية إلى أنهم الأئمة المعصومون. والظاهر إرادة الجميع، فتجب طاعة الحكام والولاة في السياسة وقيادة الجيوش وإدارة البلاد، وتجب إطاعة العلماء في بيان أحكام الشرع، وتعليم الناس الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن العربي: والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب «1» . ويرى الفخر الرازي أن المراد من أولي الأمر: أهل الحل والعقد، ليستدل بالآية على حجية الإجماع الصادر من العلماء. فإن حدث تنازع واختلاف بينكم وبين أولي الأمر منكم في شيء من أمور الدين، ولم يوجد نص في القرآن ولا في السنة، يرد الأمر المتنازع فيه إلى القواعد العامة المقررة في القرآن والسنة، فيؤخذ بما يوافقهما، ويرد ما يخالفهما، وهذا ما يسمى في علم أصول الفقه بالقياس. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم العمل بالقياس، فحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال له: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة نبي الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله» .

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 452 (2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأشعر قوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أن المتنازع فيه مما لا نص فيه، وإلا كان واجب الطاعة، غير محل للنزاع. وردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله، كما أنه يقصد الآخرة ورضوان الله أكثر من حرصه على الدنيا. وهذا وعيد من الله لكل من حاد عن طاعة الله ورسوله، والرد إليهما عند الاختلاف، وهو في معنى قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء 4/ 65] وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني» . ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا إشارة إلى ما أمروا به من طاعة الله ورسوله والرد إليهما عند التنازع، وذلك أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة. فقه الحياة أو الأحكام: آية الأمانة والعدل من أمهات آيات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع. والأظهر أن الآية خطاب عام لجميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الأقضية. وهي تدل على أساسين من أسس الحكم في الإسلام، ويتبع الأفراد الحكام: الأول- أداء الأمانات إلى أهلها. أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب. وأما اللقطة فتعرّف سنة ثم تستهلك وتضمن إن جاء صاحبها، والأفضل أن يتصدق بها. وأما المأجور والعارية فيلزم ردهما إلى صاحبهما بعد انقضاء عمله، قبل أن يطلبهما، وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إلى الدائن دينه.

الثاني- الحكم بالعدل بين الناس. والخطاب في الحكمين كما أوضحت للولاة والأمراء والحكام، ويدخل معهم جميع الخلق. قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو: «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» وقال أيضا: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» «1» . فجعل النبي في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكّاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم لأنه إذا أفتى، حكم وقضى، وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى، وحكم يقضى. والله تعالى سميع وبصير، يسمع ويرى، كما قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] يسمع الأحكام الصادرة فيجازي بها، ويبصر وقائع أداء الأمانات وخيانتها، فيحاسب عليها. ولما أمر الله الولاة والحكام بأداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل، أمر الرعية بطاعته عز وجل أولا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، لكن تجب طاعة الأمراء أو السلطان فيما فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية. روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته.

_ (1) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.

وكذلك تجب طاعة أهل القرآن والعلم أي الفقهاء والعلماء في الدين. وقال ابن كيسان: هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس. والأصح الرأي الأول لأن أصل الأمر من العلماء والحكم إليهم. والعقل وإن كان مؤيدا للدين وعمادا للدنيا، فلا يتفق مع ظاهر اللفظ. فإن حدث التنازع بين الأمة وبين الأمراء، رد الحكم إلى كتاب الله، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وذلك نظير قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 4/ 83] وقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] ومدعاة ذلك: الإيمان بالله وباليوم الآخر، وعاقبة الرجوع إلى القرآن والسنة ومآله أو مرجعه هو خير من التنازع. واستنبط العلماء من هذه الآية أن مصادر التشريع الأصلية أربعة وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس لأن الأحكام إما منصوصة في كتاب أو سنة، وذلك قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ والسنة: هي ما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، وإما مجمع عليها من أهل الحل والعقد من الأمة بعد استنادهم إلى دليل شرعي اعتمدوا عليه، وذلك قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها، وهذه سبيلها الاجتهاد والقياس: وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة، وذلك قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وأما المصادر التبعية الأخرى كالاستحسان الذي يقول به الحنفية، والمصالح المرسلة التي يقول بها المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية، فهي في الحقيقة راجعة إلى المصادر الأربعة الأصلية.

مزاعم المنافقين ومواقفهم [سورة النساء (4) الآيات 60 إلى 63] :

مزاعم المنافقين ومواقفهم [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) الإعراب: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً صدودا: منصوب انتصاب المصادر، وهو اسم أقيم مقام المصدر، والمصدر في الحقيقة: هو الصدّ. البلاغة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ استفهام يراد به التعجب. ويوجد جناس مغاير في يُضِلَّهُمْ ضَلالًا وفي قُلْ لَهُمْ ... قَوْلًا وفي يَصُدُّونَ.. صُدُوداً. المفردات اللغوية: يَزْعُمُونَ الزعم: القول حقا كان أو باطلا، ثم كثر استعماله في الكذب. الطَّاغُوتِ

سبب النزول نزول الآية (60) :

الكثير الطغيان وهو كعب بن الأشرف. ضَلالًا بَعِيداً إعراضا عن قبول الحق. صُدُوداً إعراضا متعمدا عن قبول حكمك. إِحْساناً أي في المعاملة بين الخصوم. وَتَوْفِيقاً أي تسوية بينهم وبين خصومهم بالصلح. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ اصرف وجهك عنهم. وَعِظْهُمْ ذكرهم بالخير بنحو ترق له قلوبهم. قَوْلًا بَلِيغاً كلاما مؤثرا في نفوسهم. سبب النزول: نزول الآية (60) : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه أناس من أسلم، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إلى قوله: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعوهم إلى الكهان: حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال إلى النبي لأنه علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فنزلت. وقال الكلبي عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن

المناسبة:

يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأى المنافق ذلك، أتى معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهودي، فلما خرجا من عنده، لزمه المنافق، وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب. فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد، فقضى عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك، وتعلق بي، فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما، وضرب به المنافق حتى برد (مات) وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق «1» . والخلاصة: اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي. المناسبة: بعد الأمر الإلهي السابق بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر، كشف الله عن موقف المنافقين الذين لا يطيعون الرسول، ولا يرضون بحكمه، بل يريدون حكم غيره كالكاهن أبي برزة الأسلمي أو الطاغية كعب بن الأشرف. التفسير والبيان: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب النزول. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 93، تفسير القرطبي: 5/ 264

انظر إلى أمر فئة زعموا الإيمان بالنبي محمد وبالأنبياء قبله وبما أنزل إليهم من الكتب، وشأن الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله العمل بما شرعه الله على ألسنة الرسل، فإذا تخطوا ذلك كانوا غير مؤمنين في الواقع. هؤلاء المنافقون إذ لم يقبلوا التحاكم إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتحاكموا إلى الطاغوت والضلال من الكهنة كأبي برزة الأسلمي، أو اليهود مثل كعب بن الأشرف الذي سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والتأليب عليه والبعد عن الحق، مع أنهم أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه، إنهم إذ لم يقبلوا ذلك، دل على عدم إيمانهم، فألسنتهم تدعي الإيمان بالله وبما أنزله على رسوله، وأفعالهم تدل على الكفر بهما، وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم حكمه، وهذا دليل الخروج عن الإسلام. ومن أوامر القرآن بالكفر بالطاغوت قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة 2/ 256] . وهم بفعلهم ذلك كانوا تلامذة الشيطان، ويريد الشيطان أن يضلهم ويبعدهم عن الحق مسافة بعيدة، حتى لا يهتدوا إلى طريق الحق أصلا. والدليل على ذلك أنه إذا قيل لأولئك الزاعمين الإيمان: تعالوا نحتكم إلى ما أنزل الله في القرآن وإلى الرسول، فهو الصراط القويم، رأيت هؤلاء المنافقين يعرضون عنك يا محمد وعن دعوتك، ويرغبون عن حكمك، بكل إصرار وعناد وتعمد للصدود. وهذه الآية مؤكدة لما سبق من تحاكمهم إلى الطاغوت وأصحاب الأهواء والجهلة، فمن أعرض عن حكم الله متعمدا، كان منافقا بلا شك. وكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك، ووقعوا في مصاب أو عقوبة بسبب ذنوبهم وما قدمت

أيديهم من الكفر والمعاصي والمواقف المفضوحة، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لكشف ما حل بهم من المصائب، فلا يقدرون على الإعراض والفرار منها، ثم جاؤوك- وهو معطوف على يَصُدُّونَ- يزعمون كاذبين أنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا في المعاملة، وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح، أو اعتذروا إليك وحلفوا: ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا بصحة ذلك التحاكم، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة 5/ 52] . وهذا وعيد شديد على ما فعلوا، وأنهم يندمون حين لا ينفع الندم. ونظير ذلك: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة 9/ 107] . هذا النوع من الناس وهم المنافقون الله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، وهو عالم بظواهرهم وبواطنهم، فأعرض عنهم أي لا تأبه بهم ولا تعنفهم على ما في قلوبهم، وعظهم أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم. وقوله: أُولئِكَ ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، فمقدار ما في قلوبهم من كفر وحقد ومكر وكيد بلغ حدا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى. وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يدل على كيفية معاملتهم بثلاثة أحوال: الإعراض عنهم، والنصح والتذكير بالخير لترق قلوبهم، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة وبتخويفهم بالقتل إن ظهر منهم النفاق تارة أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- من ردّ شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول فهو كافر خارج عن الإسلام، لذا حكم الصحابة بردّة مانعي الزكاة. وكذا كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر. ودلت القصة في سبب النزول على تحاكم اليهودي مع المسلم عند حاكم الإسلام. 2- الواجب على المسلمين تنفيذ الحكم المنصوص عليه في القرآن أو السنة النبوية الثابتة، ورد كل ما يعارضهما من فتاوى وأقضية وأحكام، وأما ما لا حكم فيه بالوحي، فيعمل برأي المجتهدين المستنبط من قواعد الشريعة العامة، المتفق مع المصلحة العامة. 3- من أعرض عن حكم الله عمدا أو حكم رسوله، كان منافقا لا صلة له بالإسلام، وكان نزول الآيات تأييدا لفعل عمر الذي نزل جبريل في شأنه، فقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمّي الفاروق. 4- سيندم المنافقون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يقبل عذرهم. 5- لا يحسد المنافقون على موقفهم المخزي إذ أنهم مفضوح أمرهم من قبل الله الذي لا تخفى عليه خافية، لذا قال الله تعالى مكذبا لهم: أُولئِكَ ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ قال الزجّاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا: اعلموا أنهم منافقون. 6- وسائل إمكان إصلاح المنافقين ثلاث: أ- الإعراض عنهم وعن عقابهم وعن قبول اعتذارهم وعن تلقيهم بالبشاشة والتكريم.

فرضية طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم [سورة النساء (4) الآيات 64 إلى 65] :

ب- الوعظ والتخويف والنصح والإرشاد إلى الخير على نحو يبعثهم على التأمل فيما يوعظون به، وتلين قلوبهم لسماعه. ج- الزجر بأبلغ الزجر بالقول المؤثر البليغ في السر والعلن عن طريق التوعد بالقتل والاستئصال إن استمروا في نفاقهم، وإخبارهم بأن ما يضمرونه من نفاق غير خاف على من يعلم السر وأخفى، وأنهم كالكفار، بل أشد منهم كفرا، وعقابهم في الدرك الأسفل من النار. فرضية طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) الإعراب: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ تقديره: فلا يؤمنون، وربك لا يؤمنون، فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا، فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول. البلاغة: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ فيه التفات عن الخطاب: «واستغفرت لهم» إلى الغيبة:

المفردات اللغوية:

وَاسْتَغْفَرَ تعظيما لشأن الرسول واستغفاره وتفخيما لهما وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. وهناك جناس مغاير في وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ استعارة لأنه استعار ما تشابك من الشجر وهو أمر محسوس إلى التنازع أو الاختلاف القائم بينهم وهو معنى معقول. المفردات اللغوية: بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره، لا ليعصى، وإذن الله: إعلامه بالوحي. إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتحاكمهم إلى الطاغوت وغير ذلك من ألوان الظلم جاؤُكَ تائبين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أي دعا الله أن يغفر لهم، فيه التفات عن الخطاب تفحيما لشأنه تَوَّاباً عليهم رَحِيماً بهم. يُحَكِّمُوكَ يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك شَجَرَ اختلط الأمر فيه واختلف حَرَجاً ضيقا أو شكا قَضَيْتَ حكمت به وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ينقادوا ويذعنوا من غير معارضة. سبب النزول: نزول الآية (65) : فَلا وَرَبِّكَ: أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرّة «1» ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن «2» كان ابن عمتك! فتلون وجهه، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (ما رفع حول المزرعة كالجدار) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير: ما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.

_ (1) الشراج: مسايل الماء. والحرة: أرض ذات حجارة سود. (2) أي لأن. أو بمد الهمزة على جهة الإنكار «آن» .

المناسبة:

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: فَلا وَرَبِّكَ الآية، قالت: أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. المناسبة: كانت الآيات السابقة تنديدا بموقف المنافقين الذين أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول وآثروا عليه التحاكم إلى الطاغوت، وهنا أراد الله تعالى تقرير مبدأ عام وهو فرضية طاعة الرسول بل وكل رسول مرسل. التفسير والبيان: وما أرسلنا من رسول إلا وقد فرضنا طاعته على من أرسله إليهم، وتلك الطاعة مفروضة بأمر الله وإذنه، وعليهم أن يتبعوه لأنه مؤد عن الله، فطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعص الرسول فقد عصى الله. والمراد بقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي بسبب إذن الله في طاعته، ويجوز أن يراد: بتيسير الله وتوفيقه في طاعته، قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني، والمراد لا يطيعه إلا من وفقته لذلك، كقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران 3/ 152] أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم. ثم يرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إن فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم، ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي لعلموه توابا، أي لتاب عليهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي هذا إيماء إلى أن من يبادر إلى التوبة الصحيحة تقبل توبته بشروطها المقررة شرعا، بأن تكون عقب الذنب مباشرة، والعزم على اجتناب الذنب، وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص لله في ذلك. أما مجرد الاستغفار باللسان دون شعور صادق من القلب بألم المعصية فلا يفيد. وقد سمى الله سبحانه ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس، أي إفسادا لها. ثم أكد الله تعالى وجوب طاعة الرسول بقسم عظيم نفى فيه الإيمان عمن لم يقبل قبولا تاما مع الرضا القلبي حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم. فأقسم تعالى بربوبيته لرسوله بأن الذين رغبوا عن التحاكم إليك من المنافقين لا يؤمنون إيمانا حقا إلا بتوافر ثلاث صفات: 1- أن يحكّموا الرسول في قضايا المنازعات التي يختلفون فيها، فلا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا. 2- ألا يجدوا حرجا أي ضيقا وشكا فيما يحكم به: بأن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه، مع الرضا التام، والقبول المطلق، وعدم الامتعاض. 3- الانقياد التام والتسليم الكلي للحكم في الظاهر والباطن، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. ويدخل هذا في مرحلة التنفيذ، فقد يرى الشخص أن الحكم حق، لكنه يتهرب من تنفيذه. ورد في الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي: 1- وجوب الطاعة التامة لأوامر الرسول ونواهيه وأقضيته وأحكامه.

2- الاستغفار من الذنب والتوبة الصادقة مع شرائطها طريق محو الذنوب وتكفير الخطايا. 3- استغفار الرسول لبعض المذنبين شفاعة مستجابة من الله تعالى. 4- الرضوخ التام لأقضية الرسول واعتقاد عدالتها وأحقيتها مع الانصياع للحكم القضائي في التنفيذ شرط جوهري لصحة إيمان المؤمنين. وأمارة ذلك: تحكيمه في الخلافات، وعدم التبرم بحكمه، والانقياد التام لقضائه. 5- عصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الخطأ في الأحكام القضائية كعصمته في تبليغ الوحي الإلهي، فهو لا يحكم إلا بالحق بحسب الظاهر له، لا بحسب الواقع، والله يتولى السرائر. 6- المراد بهذه الآية كما قال مجاهد وغيره: من تقدم ذكره في الآية السابقة ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت. قال الطبري: قوله: فَلا ردّ على من تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وأما على رأي من قال: نزلت في الزبير مع الأنصاري في خصومة في سقي بستان، فلا يوصف الأنصاري بالوصف المقرر آنفا وهو: كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر، لأن الأنصاري زلّ زلّة، فأعرض عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأقال عثرته، لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة، وليست لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من لم يرض بحكم الحاكم بعده، فهو عاص آثم «1» . ويلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى للزبير بالحق لأن الأعلى يسقي قبل الأسفل، ولكنه قال له أولا: «اسق يا زبير» لقربه من الماء «ثم أرسل الماء إلى

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 456

حب الوطن والتزام أوامر الله والرسول [سورة النساء (4) الآيات 66 إلى 68] :

جارك» ومعناه: تساهل في حقك، ولا تستوفه، وعجّل في إرسال الماء إلى جارك، فحضّه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا، لم يرض بذلك وغضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا، فنطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: «آن كان ابن عمتك؟» بمد همزة «أن» المفتوحة على جهة الإنكار، أي أتحكم له عليّ لأجل أنه قرابتك؟ فعند ذلك تلوّن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له «1» . وصفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل: أن يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في بستانه، ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط (البستان) إلى الكعبين (الجذور) من القائم فيه، أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك، حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. ويؤيده ما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في سيل مهزور ومذينب «2» : «يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» «3» . حب الوطن والتزام أوامر الله والرسول [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 267 (2) مهزور ومذينب: واديان بالمدينة، يسيلان بماء المطر خاصة. (3) قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجه من الوجوه.

الإعراب:

الإعراب: أَنِ اقْتُلُوا أن مفسرة ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قليل: مرفوع على البدل من الواو في فَعَلُوهُ وتقديره: ما فعله إلا قليل منهم. وقرئ بالنصب على الأصل في الاستثناء، والأصل في الاستثناء: النصب. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً منصوب لأنه مفعول ثان لهديناهم، يقال: هديته الطريق هداية، وهديت في الدين هدى. وفعل في المصادر قليل. المفردات اللغوية: كَتَبْنا فرضنا عليهم اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما كتبنا على بني إسرائيل ما فَعَلُوهُ أي المكتوب عليهم ما يُوعَظُونَ بِهِ من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها تَثْبِيتاً تقوية وجعله ثابتا راسخا وَإِذاً لو ثبتوا مِنْ لَدُنَّا من عندنا أَجْراً عَظِيماً هو الجنة. سبب النزول: نزول وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ: تفاخر ثابت بن قيس بن شمّاس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم، ذكر هنا تقصير كثير من الناس في ذلك لضعف إيمانهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بالامتناع عما هم عليه من المناهي، لما فعلوه لأن طباعهم الرديئة ميّالة إلى مخالفة الأمر. وهذا من علمه تعالى بما لم يكن أو كيف يكون ما كان. ولو أن الله تعالى فرض على الناس أن يقتلوا أنفسهم، كما أمر بني إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل، فكان قتل النفس (الانتحار) طريق التوبة، أو لو فرضنا عليهم أن يخرجوا من أوطانهم، ويهاجروا في سبيل الله إلى بلاد أخرى، ما فعل المأمور به من قتل النفس وهجر الوطن إلا نفر قليل منهم. ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الأوامر والنواهي المقترنة بأسبابها وعللها أو حكمها، وبالوعد والوعيد، لكان ذلك خيرا لهم وأحسن، وأشد تثبيتا لهم في الدين وأرسخ. ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به، لمنحناهم من عندنا أجرا عظيما وهو الجنة التي وصفها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله فيما رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري: «في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ، ولهديناهم إلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة وهو العمل المؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية معا. قه الحياة أو الأحكام: تتطلب إطاعة الأوامر الإلهية إيمانا راسخا كالجبال الراسيات، والطاعة: حمل النفس على فعل ما تكره، لا على ما تحب، ولا يفعل ذلك إلا فئة قليلة من الناس، ولو فعلوا المأمور به وتركوا ما ينهون عنه لكان لهم خيرا في الدنيا والآخرة، ودليلا على الثبات على الحق، وسببا لاستحقاق الثواب العظيم في

الآخرة لأن الجنة حفّت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، كما ثبت في الحديث. وحينما نزلت هذه الآية أبدى نفر من المسلمين استعداده لتنفيذ الأمر الإلهي. قال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» قال ابن وهب: قال مالك: القائل ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمّار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي» . وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما نزلت: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ.. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» أي ابن مسعود. وقال شريح بن عبيد: لما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ.. أشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده هذه إلى عبد الله بن رواحة، فقال: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» يعني ابن رواحة. وفي قوله: أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ إيماء إلى حب الوطن وتعلق الناس به، وجعله قرين قتل النفس، وصعوبة الهجرة من الأوطان.

جزاء طاعة الله والرسول [سورة النساء (4) الآيات 69 إلى 70] :

جزاء طاعة الله والرسول [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) الإعراب: رَفِيقاً منصوب بأحد وجهين: أحدهما- أن يكون منصوبا على التمييز، ويراد به هاهنا الجمع، فوحّد كما وحّد في نحو: عشرون رجلا، وقد يقام الواحد المنكور مقام جنسه. والثاني- أنه منصوب على الحال. المفردات اللغوية: وَالصِّدِّيقِينَ جمع صدّيق: وهو الصادق في قوله واعتقاده، كأبي بكر الصديق وغيره من أفاضل الصحابة: أصحاب الأنبياء، لمبالغتهم في الصدق والتصديق، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم 19/ 56] . وَالشُّهَداءِ جمع شهيد: وهو الذي يشهد بصحة الدين بالحجة والبرهان، ويقاتل في سبيله بالسيف والسنان. والشهداء: القتلى في سبيل الله. وَالصَّالِحِينَ جمع صالح: وهو من صلحت نفسه، وغلبت حسناته سيئاته. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً رفقاء في الجنة، بأن يتمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرها. جعلني الله ووالدي وأحبائي معهم. سبب النزول: أخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني

المناسبة:

إذا دخلت الجنة، خشيت أن لا أراك، فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ.. الآية. قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، خوف عدم رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بعد الموت، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو قدّمت لرفعت فوقنا، ولم نرك، فأنزل الله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة قال: أتى فتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا، ويوم القيامة لا نراك، فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنت معي في الجنة إن شاء الله. المناسبة: توّج الله تعالى الآيات السابقة الآمرة بطاعة الله والرسول ببيان جزاء الطاعة، الذي هو الأمل الأسمى الذي تطمح إليه النفوس. التفسير والبيان: من عمل بما أمره الله به ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقا لأصحاب الدرجات العليا وهم صفوة الله من عباده، وهم أربع مراتب: الأنبياء، ثم الصدّيقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين

فقه الحياة أو الأحكام:

صلحت سرائرهم وعلانيتهم، واللفظ يعم كل صالح وشهيد، فالمطيع يكون مع هؤلاء في دار واحدة ونعيم واحد، يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة، فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء، وكل واحد فيها راض بحاله. ثم أثنى الله تعالى عليهم فقال: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي أن الأصناف الأربعة يكونون رفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته. ورفيقا بمعنى المرافق والمراد به الجمع وهو رفقاء، فكأن المعنى: وحسن كل واحد منهم رفيقا، مثل: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج 22/ 5] أي نخرج كل واحد منكم طفلا. ويؤيد الآية: ما رواه الطبراني مرفوعا: «من أحب قوما، حشره الله معهم» وما أخرجه الشيخان عن أنس: «المرء مع من أحب» والمحبة تقتضي الطاعة، كما قال الله تعالى: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.. [آل عمران 3/ 31] . هذا الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الإلهي العظيم، والله أعلم بمن يستحقه، فهو أعلم بمن اتقى، وكفى به سبحانه عليما بالأتقياء المطيعين، وبالعصاة المنحرفين، وبالمنافقين المرائين. والآية إخبار من الله تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه. فليحذر المنافقون المصير المشؤوم إن لم يصلحوا حالهم، وليهنأ المؤمنون الطائعون الصادقون بفضل الله ونعمته، وليفرحوا بما أثابهم به. فقه الحياة أو الأحكام: لمّا ذكر الله تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه، لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله.

قواعد القتال في الإسلام [سورة النساء (4) الآيات 71 إلى 76] :

وهذه الآية تفسير لقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة 1/ 6- 7] وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته: «اللهم الرفيق الأعلى» . وفي البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة» كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحّة «1» شديدة، فسمعته يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين» فعلمت أنه خيّر. قال القرطبي: في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنّى بالصديقين، ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صدّيقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق، وأنه ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يجز أن يتقدم بعده أحد «2» . قواعد القتال في الإسلام [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

_ (1) البحّة: هي غلظ الصوت وخشونته من داء أو كثرة صياح. (2) تفسير القرطبي: 5/ 273

الإعراب:

الإعراب: ثُباتٍ حال من واو فَانْفِرُوا الأولى. جَمِيعاً حال من واو فَانْفِرُوا الثانية، وكل واحد من الفعلين هو العامل في الحال الذي يليه. لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام في لَمَنْ لام الابتداء التي تدخل مع «إن» وهي هنا داخلة على اسم «إن» . واللام في لَيُبَطِّئَنَّ: هي اللام الواقعة في جواب القسم، وهو هنا محذوف وتقديره: لمن والله ليبطئن. ولام القسم في صلة «من» . يا لَيْتَنِي المنادي محذوف وتقديره: يا هذا ليتني، مثل: «ألا يا اسجدوا لله» أي يا هؤلاء اسجدوا. وحذف المنادي كثير في كلامهم. فَأَفُوزَ منصوب بأن مضمرة بعد التمني، وتقديره: فأن أفوز. وقرئ بالرفع على تقدير: فأنا أفوز. كَأَنْ مخففة واسمها محذوف، أي كأنه. مَوَدَّةٌ اسم يكن، وبينكم وبينه: خبرها المقدم على اسمها. ولا يجوز أن تكون التامة لأن الكلام لا يتم معناه بدون «بينكم وبينه» فهو الخبر، وتتم به الفائدة. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ما: مبتدأ، ولكم: خبره، ولا تقاتلون حال من الكاف واللام في «لكم» وتقديره: أي شيء استقر لكم غير مقاتلين، مثل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء 4/ 88] . وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: معطوف على اسم الله تعالى. وقيل: على سبيل. الظَّالِمِ

البلاغة:

أَهْلُها الظالم صفة للقرية، وجاز وصف القرية وإن لم يكن الظلم لها لعود الضمير العائد إليها من «أهلها» . وأهلها: فاعل الظالم. البلاغة: يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ استعارة، استعار لفظ الشراء للمبادلة، أي يبيعون الفانية بالباقية. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين القول ومقوله وهو: يا ليتني. ويوجد مقابلة في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ استفهام توبيخ، أي لا مانع لكم من القتال. المفردات اللغوية: خُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترزوا وتيقّظوا من عدوّكم، والحذر والحذر بمعنى واحد، كالمثل والمثل: وهو التيقّظ والاستعداد. فَانْفِرُوا انهضوا إلى قتاله. ومصدره: النفر: وهو الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء. ثُباتٍ متفرقين واحدها ثبة: وهي الجماعة، أي اخرجوا جماعة تلو جماعة. لَيُبَطِّئَنَّ ليتأخرن عن القتال، كعبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وجعله من المسلمين من حيث الظاهر. والتبطؤ: يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء: وهو التأخر في السير عن الانبعاث للجهاد وغيره. مُصِيبَةٌ ما يصيب الإنسان من قتل أو هزيمة أو غيرهما. شَهِيداً حاضرا معهم. الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ كفتح وغنيمة. مَوَدَّةٌ معرفة وصداقة. فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً آخذ حظّا وافرا من الغنيمة. فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه، وسبيل الله: تأييد الحق ونصرته، بإعلاء كلمة الله ونشر دعوته. الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. فَيُقْتَلْ يستشهد. أَوْ يَغْلِبْ يظفر بعدوه. أَجْراً عَظِيماً ثوابا جزيلا. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا مانع لكم من القتال. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي في تخليص المستضعفين. وَالْوِلْدانِ الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي منهم. الْقَرْيَةِ مكة. الظَّالِمِ أَهْلُها بالكفر. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا من عندك من يتولى أمورنا. نَصِيراً يمنعنا منهم. وقد استجاب دعاءهم، فيسّر لبعضهم الخروج، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة، وولّى صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فأنصف مظلومهم من ظالمهم.

المناسبة:

الطَّاغُوتِ الشيطان أو الطغيان: وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشّر، والطاغوت يذكّر ويؤنّث. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أنصار دينه، تغلبوهم لقوتكم بالله. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن كيد الشيطان بالمؤمنين كان واهيا لا يقاوم كيد الله بالكافرين. وكيد الشيطان: السعي في الفساد بالحيلة. المناسبة: لما حذر الله تعالى من المنافقين وأمر بطاعة الله والرسول، أمر هنا أهل الطاعة بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع شأن دينه، وأمر بالاستعداد حذرا من مباغتة الكفار، ثم بيّن حال المنافقين المثبطين العزائم عن الجهاد، وهذا انتقال من الميدان الداخلي إلى المجال الخارجي، انتقال من السياسة الاجتماعية في التعامل إلى السياسة الحربية. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوّهم، وهذا يستلزم التأهّب لهم بإعداد الأسلحة وإعداد الجيش المقاتل. ويرسم الله تعالى سياسة الحرب ويضع قواعد القتال المؤدية إلى النصر والفوز الساحق. يا أيها المؤمنون التزموا الحذر، واحترسوا من الأعداء، واستعدوا لردّ العدوان، فإنكم معرّضون لشنّ معارك كثيرة طاحنة، وهذا أمر دائم يتكيّف بحسب تطور وسائل الحرب وقواعد القتال على ممر العصور. قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف، والرمح بالرمح. وهكذا بحسب المعروف بين الأمم من وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية. ولا يصح للمؤمن أن يخشى اقتحام المعارك لأن أجل الإنسان لا يتأخر ساعة ولا يتقدم، وعلى المؤمنين اتّخاذ ما يمكنهم من أسباب القوة، غير محتجّين

بقدر، ولا يائسين من حدوث نكسة ما، أما ما روى الحاكم عن عائشة «لا يغني حذر من قدر» فلا يتناقض مع أخذ الحذر لأن الحذر داخل في القدر إذ القدر: هو جريان الأمور على وفق السّببية أي أن المسببات تأتي عادة على قدر الأسباب، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بالقدر. فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي فانهضوا للقتال جماعة إثر جماعة، فصائل وفرقا وسرايا، أو انهضوا جميعا متعاضدين كلكم حسبما ترون من قوة العدو وحاله. وهذا يعني كون الأمة على استعداد دائم للجهاد، وهذا نظير قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال 8/ 60] . لكن بعضا منكم في ساحة الجبهة الداخلية قد يتخلف عن الجهاد، وقد يعرقل مسيرة المجاهدين، وقد يعوق أو يسعى لتثبيط العزائم عن الجهاد، وهؤلاء هم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء. أما المنافقون فلا يرغبون في القتال لأنهم لا يحبون الإسلام وأهله، وأما الجبناء وضعاف الإيمان فيترددون في المشاركة بالجهاد خورا وضعفا وجبنا. وهؤلاء يصطادون في الماء العكر ويستغلون النتائج والوقائع، فإن أصابتكم مصيبة كقتل أو هزيمة، فرحوا فرحا شديدا بنجاة أنفسهم، وحمدوا الله على أن لم يكن أحدهم حاضرا في المعركة، يعدون ذلك من نعم الله عليهم، ولم يدروا ما فاتهم من الأجر في الصبر، أو الشهادة إن قتلوا. وإن أصابكم فضل من الله، أي نصر وظفر وغنيمة قالوا- وكأنهم ليسوا من أهل دينكم-: يا ليتنا اشتركنا في القتال لنحظى بسهم من الغنيمة. وهم في الحالين ضعاف العقول، قاصرو النظر، ضعاف الإيمان جبناء، لذا وبّخهم الله تعالى وقرّعهم بعبارة لطيفة تدلّ على انقطاع صلتهم بالمسلمين وهي:

كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. وهذا فيه استثارة للتأمل والتفكير في نفس السامع إذ يدعو صاحبه إلى النظر في حقيقة حاله وعيوب نفسه. ثم انتقل الله تعالى ببيانه من وصف حال الضعفاء إلى بيان مركز الأقوياء، ومن دائرة الهبوط في دائرة التخلف عن القيام بالواجب إلى الصعود إلى مرتبة يمكن فيها تطهير النفوس من ذلك الذنب العظيم: ذنب التقاعس عن القتال. فحرض عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة أو غيرها من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من القيام بها. فليقاتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته ولنصرة دينه- دين الحق والتوحيد، والعدل والكرامة، والقوة والمدنية: من يبيع دنياه الفانية بالآخرة الباقية، حتى يحقق علو كلمة الله، فيجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. ثم رغّب الله تعالى في القتال بعد الأمر به ببيان الثواب عليه، فمن يقاتل في سبيل الله، فيغلبه عدوه، أو يغلب هو العدو، فإن الله سيؤتيه ثوابا عظيما هو الجنة والأجر الحسن. وهذا يدلّ على شرف الجهاد والمجاهدة، وقد عانى المسلمون أشدّ البلاء من الكفار في مكة قبل الفتح، مثلما حدث لبلال وصهيب وعمار وأسرته. ثم زاد الترغيب في الجهاد بنفي الأعذار، فأي عذر لكم يمنعكم عن القتال في سبيل الله لإحلال التوحيد محل الشرك، والخير محل الشّر، والعدل والرّحمة في موضع الظلم والقسوة، وعن إنقاذ المستضعفين إخوانكم في الدّين رجالا ونساء وصبية الذين منعهم كفار قريش من الهجرة وفتنوهم عن دينهم. والتحدث عن هؤلاء يثير النخوة ويهزّ الأريحية ويوقظ الشعور بالواجب والتفاني من أجل رفع الظلم عن الضعفاء.

إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين، وهم يقولون من شدّة الألم والعذاب: ربّنا أخرجنا من تلك القرية «مكة» التي كفر أهلها وظلموا العباد، واجعل لنا من عندك وليّا يلي أمورنا، ويستنقذنا، ويحمي نفوسنا وأعراضنا، واجعل لنا من عندك نصيرا يمنعنا من الظلم، وينصرنا عليهم، ويساعدنا على الهجرة، فليس أمامنا إلا بابك الكريم يا الله. ثم عقد الحق سبحانه وتعالى مقارنة بين أهداف الجهاد عند المسلمين وأغراض القتال عند المشركين. وهي أن المؤمنين يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله- كلمة الحق والتوحيد والعدل وإنصاف الشعوب، لا من أجل الاستعمار والاستغلال، والتعدي والظلم، وسلب الملكيات ونهب الثروات، كما هو حاصل الآن وأما الكافرون فهم يقاتلون لأغراض وهمية، أو مادية دنيئة، أو شهوانية ذاتية، فهم إنما يرضون وسوسة الشيطان، وإعلاء الوثنية، ومناصرة الكفر، أو يطمعون في الحصول على الغنائم، أو للتفاخر والاعتزاز وإرضاء النفس بمجرد الشعور بالانتصار والغلبة، وتحقيق السمعة والشهرة أمام القبائل العربية. ولكن المصير المحتوم هو تغلّب الحق على الباطل في النهاية لأن الحق قوي ثابت وجنده أعزّ وأمنع، والباطل ضعيف مهزوم، وجنده أضعف وأخوف، والحق يعلو ولا يعلى عليه، لذا أمر الله تعالى بقوله بما معناه: فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء أو نصراء الشيطان الذين أوهمهم ووسوس لهم أن في الظلم والتدمير شرفا وإعلاء مكانة، ولا تغرنكم قوتهم وأعدادهم وأسلحتهم، فإن كيد الشيطان وتدبيره أو وسوسته كان ضعيفا لا تأثير له عند ذوي العقول الناضجة، والأفكار السامية. وأما أنتم فوليكم الرحمن وناصركم ومدبر أموركم ما نصرتموه، وجند الله هم الغالبون، وحزب الله هم المفلحون.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات تبيّن المواقف الثابتة للأمة الإسلامية في علاقاتها الخارجية أثناء الحرب. فهي أولا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالاستعداد للجهاد، وأخذ الحذر الدائم، وأمر لهم بجهاد الأعداء والنضال في سبيل الله، وحماية الشرع، وديار الإسلام، وتخليص المستضعفين، ومطالبتهم ألا يقتحموا عدوهم على جهالة حتى يستطلعوا ما عندهم من قوى وعدد وعدد، ويعلموا كيف يردّون عليهم، فذلك أثبت لهم، لذا قال لهم: خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو تعليم لأسلوب مباشرة الحروب. ولا ينافي أخذ الحذر التوكل على الله، بل هو مقام عين التوكل لأن التوكل ليس معناه ترك الأسباب، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم في السّعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد أسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة. قال سهل: من قال: إن التّوكل يكون بترك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله عزّ وجلّ يقول: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال 8/ 69] ، فالغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال 8/ 12] ، فهذا عمل. وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يحبّ العبد المؤمن المحترف» «1» . وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرضون على السرية «2» .

_ (1) رواه الحكيم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر، لكنه حديث ضعيف. [.....] (2) تفسير القرطبي: 4/ 189، 5/ 273، أحكام القرآن للجصاص: 2/ 215، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، سمّوا بذلك لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.

وليس في الآية دليل على أن الحذر يتعارض مع القدر، أو يمنع من القدر شيئا ولكنّا مطالبون بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، وورد في الحديث: «اعقلها وتوكل» «1» والقدر جار على ما قضى الله، ويفعل الله ما يشاء، ويكون أخذ الحذر من القدر، كما أوضحت في تفسير الآيات. ودلّت الآيات ثانيا على قاعدة من قواعد الحرب أو سياسة من سياسات المعركة وخطتها وهي النهوض لقتال العدو إذا دعا الإمام الناس إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو إما جماعة إثر جماعة، أو الزّج بطاقة الجيش الكثيف كله في قلب المعركة، على وفق ما يرى القائد الحربي من مصلحة، معتمدا على استطلاع أحوال العدو واستعداداته واستحكاماته، واحتمالات تطور المعركة. ويقال للقوم الذين ينفرون: النفير. وبناء على هذا، فليست الآية منسوخة ولا معارضة لقوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة 9/ 41] ، وقوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة 9/ 39] ، وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة 9/ 122] لأن كل آية يعمل بها بحسب الظرف الحربي الملائم لها، فإحداها في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعيين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها. وترشد الآيات ثالثا إلى أن في الأمة في كل زمان فئة المثبطين أو المبطئين وهم المنافقون، والتبطئة والإبطاء: التأخر، وديدنهم القعود عن القتال ويقعدون غيرهم معهم. فهم من جنس الأمة ودخلائها وممن يظهر الإيمان للجماعة، ويتظاهر بالإخلاص في رسالتها. وهم جماعة انتهازيون: إن حققت الجماعة فتحا ونصرا وأحرزت غنيمة، يقول المنافق الواحد منهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، كأنه مقطوع الصلة والمودة بالأمة ولم يعاقد على الجهاد.

_ (1) رواه الترمذي عن أنس، وهو ضعيف.

وإن أصيبت الأمة بمصيبة من قتل وهزيمة، فرح وقال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا أي حاضرا. فهؤلاء المنافقون يجب الحذر منهم أشدّ الحذر، وهم مروجو الإشاعات المغرضة: إشاعة الضعف والهزيمة وعدم تكافؤ القوى في عصرنا الحاضر. وأكدت الآيات رابعا أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، أولئك المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدّنيا بالآخرة، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عزّ وجلّ مقابل الحصول على ثواب الآخرة. وثواب الآخرة لمن قتل أو غلب العدو عظيم جدا لا يخضع لتصور إنسان. وظاهر قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما، أي إن كلّ من قاتل في سبيل الله، سواء قتل (استشهد) أو غلب العدو، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، فللشهيد أجر، وللغانم أجر، بدليل ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة» . ومعنى الجملة الأخيرة: يقتضي أن من لم يستشهد من المجاهدين له أحد الأمرين: إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا كله بالنسبة للمجاهد الذي أخلص النيّة في الجهاد. أما إن نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فإن أصاب الغنيمة تعجل ثلثي أجره من الآخرة، ويبقى له الثلث، وإن لم يصب غنيمة تمّ له أجره. وهذا مستفاد من حديث آخر عن عبد الله بن عمرو «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 277- 278

وخامسا- بيّنت الآية بعض أحوال مشروعية القتال مع الحضّ على الجهاد وهي ما يلي: 1- القتال في سبيل الله: يفسره الحديث النّبوي الذي رواه الجماعة عن أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أي أنه قاتل لإعلاء كلمة الدّين وإظهاره، ورفع راية الإسلام المتضمنة توحيد الله، وإقرار العدل والحقّ، والدعوة إلى فضائل الأخلاق، وعبادة الله الواحد القهّار وتعظيمه لا تعظيم أحد من البشر. 2- استنقاذ الضعفاء المؤمنين من عباد الله من براثن العدو: وهذا واجب وإن كان في ذلك تلف النفوس. ويكون تخليص الأسارى واجبا على جماعة المسلمين إما بالقتل وإما بالأموال، وهو أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجمع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى: «فكّوا العاني» أي الأسير. وكذلك قال العلماء: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة. ومن أمثلة المستضعفين في التاريخ: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه الصّلاة والسّلام: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين» ، وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين. وما أمتع تلك المقارنة في أهداف القتال: المؤمنون يقاتلون في سبيل طاعة الله، ومن أجل نشر دينه وأحكام شرعه فهو ناصرهم ووليهم، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت (الشيطان وما يمثله من ظلم وخرافة وكهانة ودعوة إلى عبادة الأصنام والأوثان) فلا ولي لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى

أحوال الناس حين فرضية القتال [سورة النساء (4) الآيات 77 إلى 79] :

جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه، فالله هو صاحب القدرة الحقيقية المحققة للنصر، والشيطان ليس له إلا قدرة وهمية. قال جابر بن عبد الله، وقد سئل عن أعداد الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها: كانت في جهينة واحدة، وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. وقال أبو إسحاق: الدليل على أنه (أي الطاغوت) : الشيطان قوله عزّ وجلّ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن مكره ومكر من اتبعه واه ضعيف التأثير. أحوال الناس حين فرضية القتال [سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَأَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)

الإعراب:

الإعراب: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ فريق: مبتدأ، وحسن الابتداء به لأنه وصفه بمنهم. فتخصص، فحسن أن يكون مبتدأ، ويخشون: خبر المبتدأ. كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره: يخشون الناس خشية كخشية الله، أي: مثل خشية الله. أو أشدّ: منصوب معطوف على الكاف، أو حال. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أين: ظرف مكان فيه معنى الشرط والاستفهام، ودخلت «ما» ليتمكن الشرط ويحسن. وتكونوا: فعل الشرط مجزوم بأينما، وأينما: متعلق بتكونوا، ويدرككم: مجزوم لأنه جواب الشرط. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ما: في موضع رفع مبتدأ، بمعنى الذي، وأصابك: صلته، وفَمِنَ اللَّهِ خبر المبتدأ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما في «ما» من الإبهام، فأشبهت الشرطية التي تقتضي الفاء. وليست هاهنا شرطية لأنها نزلت في شيء بعينه وهو الخصب والجدب، وهما المراد بالحسنة والسيئة، ولهذا قال: ما أصابك، ولم يقل: ما أصبت، والشرط لا يكون إلا مبهما. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا رسولا: مصدر مؤكد بمعنى إرسالا، أو حال مؤكدة. البلاغة: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل. فَمالِ هؤُلاءِ استفهام يراد به التعجب من فرط جهلهم. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ هم جماعة من الصحابة، قيل لهم: امنعوا أيديكم عن قتال الكفار، لما طلبوه بمكة، لأذى الكفار لهم. كُتِبَ عَلَيْهِمُ فرض القتال عليهم وأمروا به. يَخْشَوْنَ يخافون. النَّاسَ الكفار أي عذابهم بالقتل. كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخوفهم من بأس الله وعذابه. أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا القريبة. مَتاعُ الدُّنْيا ما يتمتع به فيها أو الاستمتاع بها وبلذاتها. قَلِيلٌ سريع الزوال. وَالْآخِرَةُ الجنة. لِمَنِ اتَّقى أي جعل لنفسه وقاية من عقاب الله، بترك معصيته. وَلا تُظْلَمُونَ تنقصون من أعمالكم فَتِيلًا هو الخيط البسيط الذي يكون في شقّ النواة، وهو مثل في القلّة والبساطة.

سبب النزول نزول الآية (77) :

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي في أي مكان كنتم يلحقكم الموت. بُرُوجٍ جمع برج وهو القصر أو الحصن. مُشَيَّدَةٍ عالية مرتفعة، وقيل: مطليّة بالشّيد: وهو الجصّ (الجبس) وقد يراد بالبروج المشيدة: القلاع أو الحصون المتينة التي يحتمي فيها الجند من العدو. حَسَنَةٌ شيء حسن عند صاحبه كالخصب والسعة والظفر بالغنيمة. سَيِّئَةٌ ما تسوء صاحبها كالشدة والبلاء والجدب والهزيمة والجرح والقتل. يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يفهمون كلاما يلقى إليهم، أي لا يقاربون أن يفهموا، ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه. سبب النزول: نزول الآية (77) : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ قال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوّله الله إلى المدينة، أمره بالقتال، فكفّوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. قال الحسن البصري: هي في المؤمنين، وقال مجاهد: هي في اليهود، وقيل: هي في المنافقين، والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله. وأما قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ الآية [78] فروي عن ابن عباس أنه قال: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد، قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. المناسبة: بعد أن أمر الله بالاستعداد للقتال وأخذ الحذر، وذكر حال المبطئين، وأمر بالقتال في سبيله ومن أجل إنقاذ الضعفاء، ذكر هنا حال جماعة كانوا يريدون

التفسير والبيان:

قتال المشركين في مكة، فلما فرض عليهم القتال، كرهه المنافقون والضعفاء، فوبّخهم الله على ذلك الموقف المتناقض. التفسير والبيان: كان المؤمنون في مكة مأمورين بالصلاة والزكاة ومواساة الفقراء، وبالصفح والعفو عن المشركين، وكانوا يودّون الإذن لهم بالقتال ليثأروا من أعدائهم، ولم يكن الحال مناسبا لذاك لأسباب كثيرة منها: قلّة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلهذا لم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار. ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودّونه جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا، فقصّ الله علينا قصّتهم. ألم تنظر إلى أولئك الذين قيل لهم في مكة في ابتداء الإسلام: التزموا السلم وامنعوا أيديكم وأنفسكم عن الحروب الجاهلية، وأدّوا الصلاة بخشوع مقوّمة تامة الأركان، وأدّوا الزكاة التي تؤدي إلى التراحم بين الخلق، وكانوا في الجاهلية يشنون الحروب لأتفه الأسباب، وتطفح قلوبهم بالأحقاد، ولكن حين فرض عليهم القتال في المدينة، كرهه جماعة وهم المنافقون والضعفاء، وخافوا أن يقاتلهم الكفار ويقتلوهم، كخوفهم من إنزال عذاب الله وبأسه بهم، بل أشدّ خوفا من الله تعالى. وحكى الله تعالى قولهم لشدة هلعهم وخوفهم من القتال وقالوا: ربّنا لم فرضت علينا القتال، لولا تركتنا نموت موتا طبيعيّا، ولو بعد أجل قريب، ولولا أخرت فرض القتال إلى مدّة أخرى، فإن في القتال سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء. وهذا كقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [محمد 47/ 20] .

ثم أمر الله نبيّه بردّ شبهتهم قائلا قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ.. أي: إن طلبكم التأخير وقعودكم عن القتال خشية الموت ناشئ من الرغبة في متاع الدّنيا ولذّاتها، مع أن كلّ ما يتمتع به في الدّنيا زائل وقليل بالنسبة إلى متاع الآخرة، وآخرة المتّقي خير من دنياه لأن نعيم الدّنيا محدود فان، ومتاع الآخرة كثير باق لا كدر فيه ولا تعب، ولا يناله إلا من اتّقى الله، فامتثل ما أمره الله به، واجتنب ما نهى الله عنه، وستحاسبون على كلّ شيء. ولا تنقصون شيئا مهما قلّ كالفتيل (ما يكون في شقّ نواة التمر كالخيط) من أعمالكم، بل توفونها أتمّ الجزاء. وهذا تسلية لهم عن الدّنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد. وإن الموت أمر محتم لا مفرّ منه، وأنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد ولو كان في قصر محصن منيع مرتفع مشيد، فملك الموت لا تحجزه حواجز ولا تعوقه عوائق، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 3/ 185] ، وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن 55/ 26] ، وقوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء 21/ 34] . وإذا كان الموت مصير الخلائق جميعهم، وفي أجل محدود لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا خشية من الجهاد، فسواء جاهد الإنسان أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما ومقاما مقسوما، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: «لقد شهدت كذا وكذا موقفا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء» . وكم من محارب نجا، وقاعد على فراشه عن الحرب مات حتف أنفه. ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يتعجب منه بسبب مقالة أولئك المنافقين، فإذا أصابتهم حسنة من غنيمة أو خصب أو رزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك،

قالوا: هذه من عند الله ومن فضله وإحسانه، لا دخل لأحد فيها، وإذا أصابتهم سيئة من هزيمة أو قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت الأولاد أو النتاج أو غير ذلك، قالوا: هذه من قبلك يا محمد، وبسبب اتّباعنا لك واقتدائنا بدينك، كما قال الله تعالى عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف 7/ 131] ، وكما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية [الحج 22/ 11] . وهكذا قال اليهود والمنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا، وهم كارهون له في حقيقة الأمر، حتى إنه إذا أصابهم شرّ أسندوه إلى اتّباعهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتشاءموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: «هذه من عندك» أي أنه بتركنا ديننا واتّباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء. فردّ الله عليهم بأن هذا زعم باطل منهم، وكلّ من عند الله، أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، بحسب سنّة الله في ربط المسببات بالأسباب. فماذا أصاب هؤلاء القوم في عقولهم، وما لهم لا يفهمون حقيقة ما يلقى إليهم من حديث وما يلقونه من كلام؟ وما الذي دهاهم في عقولهم حتى وصلوا إلى هذا الفهم السقيم؟ فقد ربطت الأسباب بمسبباتها، وإن كان الله خالقا لكلّ شيء. ثم خاطب الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالخطاب جنس الإنسان ليحصل على الجواب: ما أصابك من حسنة فمن الله، أي من فضل الله ورحمته ولطفه وتوفيقه حتى تسلك سبيل النجاة والخير وما أصابك من سيئة فمن نفسك، أي من قبلك ومن عملك أنت لأنك لم تسلك سبيل العقل والحكمة والاسترشاد بقواعد الهداية الإلهية وبمعطيات العلم والتجربة، حتى قالوا: إن المرض بسببك،

فقه الحياة أو الأحكام:

والحقيقة أن الأمراض الوراثية بسبب الإنسان وسلوكه الطرق غير الصحيحة!! وذلك كما قال الله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى 42/ 30] . وأما أنت يا محمد فرسول من عندنا أرسلناك للناس، تبلغهم شرائع الله، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وكفى بالله شهيدا على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا، وما عليك إلا البلاغ، والخير والشّر من عند الله خلقا وإيجادا، والشّر من العبد كسبا واختيارا. والخلاصة: هناك شيئان: 1- كل شيء من عند الله: أي أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسّنن للوصول إليها بسعي الإنسان وكسبه. 2- ما يصيب الإنسان من السّوء والشّر: يكون بتقصير منه في معرفة السّنن والأسباب. ولا تعارض بين قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كلّ من الحسنة والسّيئة، وبين قوله: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لأن الآية الأولى تعني كون الأشياء كلها من الله خلقا وإيجادا، والثانية تسبّبا وكسبا بسبب الذنوب، أو التقصير في فهم النظم والقواعد العامة. فقه الحياة أو الأحكام: الراجح لدي أن آية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ.. واردة في جماعة من اليهود والمنافقين وضعفاء الإيمان إذ لم يعرف في تاريخ الصحابة أنهم اعترضوا على نزول الوحي بحكم من الأحكام التشريعية، ويدلّ له سياق الآية:

وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآخرة خيرا من المقام في الدّنيا، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. أما ما رواه النسائي والحاكم في سبب النزول فيحتاج إلى تحقق ونظر، ويستبعد أن يكون عبد الرّحمن بن عوف المبشّر بالجنّة ممن يقول القول المتقدّم. ومما أرشدت إليه الآية ما يأتي: 1- الدّنيا وما فيها من متع ولذات وشهوات قليلة فانية محدودة، والآخرة بما فيها من نعيم مقيم وخلود في الجنان خير لمن اتّقى المعاصي. قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي ومثل الدّنيا كراكب قال قيلولة «1» تحت شجرة ثم راح وتركها» . 2- الموت أمر محتم لا يتأخر عمن انتهى أجله، سواء أكان في الحصون المحصنة في الأراضي المبنية، أم في ساحات المعركة، وموت خالد بن الوليد على فراشه أكبر عبرة. وبعبارة أخرى: الآجال متى انقضت لا بدّ من مفارقة الرّوح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به. 3- اتّخاذ البلاد وبناؤها وتشييد العمارات للمعيشة فيها وحفظ الأموال والنّفوس هي سنّة الله في عباده. وهو من أكبر الأسباب وأعظمها، وقد أمرنا بها، واتّخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدّة وزيادة في التّمنع، وذلك أبلغ ردّ على قول من يقول: التّوكل ترك الأسباب. 4- قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ

_ (1) القيلولة: النوم في الظهيرة، والفعل: قال، فهو قائل.

طاعة الرسول طاعة لله وتدبر القرآن وكونه من عند الله [سورة النساء (4) الآيات 80 إلى 82] :

تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ: نزلت هذه الآية في رأي المفسّرين وعلماء التأويل كابن عباس وغيره في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم لما قدم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. 5- الشدّة والرّخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره، ومن خلقه وإيجاده. 6- ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتّساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم، أي من أجل ذنوبكم، وقع ذلك بكم، كما قال الحسن البصري والسّدّي وغيرهما. والجهّال هم الذين أخطئوا في فهم آية: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ على أن الحسنة والسيئة من الله دون خلقه، ومصدر الخطأ أنهم فسّروا السّيئة بالمعصية، وليست كذلك، فإن المراد بالسّيئة شيء معين وهو القحط والجدب ونحوه. ولأنه لو كان المراد بالحسنة فعل المحسن وبالسيئة فعل المسيء، لكان يقول: ما أصبت من حسنة، وما أصبت من سيئة لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما، لا بفعل غيره. 7- النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذو رسالة سماوية إلهية موحى إليه بها، وكفى بالله شهيدا على صدق رسالة نبيّه وأنه صادق. طاعة الرسول طاعة لله وتدبّر القرآن وكونه من عند الله [سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 82] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)

الإعراب:

الإعراب: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ طاعة: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة. بَيَّتَ طائِفَةٌ ذكّر الفعل لتقدّمه ولأن تأنيث الفاعل غير حقيقي، أي أن تأنيث الطائفة مجازي غير حقيقي، ولأنها في معنى الفريق والفوج. البلاغة: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ استفهام يراد به الإنكار. المفردات اللغوية: تَوَلَّى أعرض عن طاعته. حَفِيظاً حافظا لأعمالهم، بل نذيرا، وإلينا أمرهم. فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال. طاعَةٌ أي يقول المنافقون: أمرنا طاعة لك. بَرَزُوا خرجوا. بَيَّتَ طائِفَةٌ أضمرت طائفة، أو دبرت جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك، أو زوّرت وسوّت خلاف ما قلت وما أمرت به، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أضمروا الرّدّ لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يأمر بكتب ما يبيّتون في صحائفهم، ليجازوا عليه. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بالصفح. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، فإنه كافيك. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مفوضا إليه. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأملون القرآن وينظرون ما فيه من المعاني البديعة، فمعنى تدبّر القرآن: تأمل معانيه والتّبصر بما فيه. اخْتِلافاً كَثِيراً تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه وبلاغته، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب

سبب النزول:

وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالّا على معنى صحيح، وبعضه دالّا على معنى فاسد غير ملتئم. سبب النزول: روى مقاتل أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك، وقد نهى أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية. المناسبة: أكّد الله تعالى هنا ما سبق من الأمر بطاعة الله والرسول، وأوضح أن طاعة الرسول تعود في النهاية لله تعالى، وكشف مراوغة المنافقين. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني» . معنى الآية: من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأنه الآمر والناهي في الحقيقة، والرسول مبلّغ للأمر والنّهي، فليست الطاعة له بالذات، وإنما هي لمن بلّغ عنه، وهو الله عزّ وجلّ. أما ما يأمر به الرّسول من الأمور الدّنيوية، كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكور) وأكل الزيت والادّهان به، وكيل الطعام من قمح وغيره عند طحنه

وعجنه، فهو مجرّد اجتهاد برأيه، لا تجب طاعته فيه. وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا شكّوا في الأمر، أهو وحي من عند الله أم اجتهاد من الرّسول؟ سألوه، فإن كان وحيا أطاعوه بلا تردّد، وإن كان رأيا من عنده، ذكروا رأيا آخر وأشاروا بما هو أولى، كما حدث في غزوتي بدر وأحد، وربما رجع إلى رأيهم. ومن أعرض عن طاعتك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، وليس لك أن تكرهه على ما تريد، إن عليك إلا البلاغ، لست عليهم بمسيطر، والخسران لاحق به، كما جاء في الحديث الصحيح: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فإنه لا يضر إلا نفسه» . ثم أخبر الله تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة، فيقولون: أمرنا طاعة لك، أو أمرك طاعة أي أمرك مطاع، نفاقا وانقيادا ظاهرا، فإذا خرجوا من مكانك وتواروا عنك، دبروا ليلا فيما بينهم رأيا غير ما أظهروه لك. روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أنه قال: هم ناس يقولون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمنا بالله ورسوله، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وإذا برزوا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعاتبهم الله على ذلك. والله يعلم ما يبيتون، ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد. والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك. فأعرض عنهم، أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تهتم بمؤامراتهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضا. وتوكل على الله أي فوض الأمر

إليه، وثق به في جميع أمورك، فإن الله كافيك شرهم، وكفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه. ثم يأمرهم الله تعالى بتدبر القرآن وتفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، فهو الكفيل بتصحيح خطتهم ومنهجهم، ويخبرهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] ثم قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء 4/ 82] أي لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقول جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، أي اضطرابا وتضادا كثيرا، وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله. ومظاهر الاختلاف المفترضة إما في نظمه وإما في معانيه. أما في نظمه وبلاغته: فقد يكون بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه. وأما في معانيه: فقد يكون بعضه صحيح المعنى وبعضه فاسدا سقيما. وقد يخبر عن الغيب وقصص السابقين بما يوافق الواقع وبما يخالفه، وقد يصيب في تصوير حقائق الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم، وقد يجانب الصواب. وقد يأتي بحقائق العقيدة وأسس الأحكام التشريعية، وأحكم القواعد العامة، وقد تكون مفندة. أما ترتيبه فبالرغم من نزوله منجما مفرقا بحسب الوقائع والمناسبات على مدى ثلاث وعشرين سنة فهو في غاية الإبداع والإحكام، إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عند نزول آية أو آيات أو سورة يأمر بما يوحي إليه بأن توضع كل آية في محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظا ثابتا لا ينمحي من ذاكرته: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى 87/ 6] .

فقه الحياة أو الأحكام:

كل هذه الألوان من الاختلافات والاحتمالات لا نجدها في القرآن الكريم، مما يدل قطعا على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو قد أعجز ببلاغته وفصاحته وجزالته البلغاء والفصحاء، وصور الحقائق تصويرا تاما بلا اختلاف ولا تناقض، وأخبر عن الماضي السحيق خبرا صدقا موافقا للواقع، وتحدث عن الحاضر ومكنونات الأنفس والضمائر بما يبهر ويعجب ويخرس الألسنة الناقدة، وأنبأ عن بعض الأمور في المستقبل، فجاء الحدث مطابقا لما أنبأ عنه، ووضع أصول العقيدة، والتشريع في القضايا العامة والخاصة، وسياسة الأمم والحكم بما لم يسبق إليه، وبما تطابق مع أحدث وأصح ما توصلت إليه البشرية بعد مخاضات طويلة في مجال النظريات والفلسفات. وصوّر لنا عالم الغيب ومشاهد القيامة بصور مرئية محسوسة كأننا نشاهدها وننجذب إليها وترتسم صورها في أذهاننا دون أن تفارقها لشدة وقعها، وبراعة تصويرها، وصدق حكايتها وواقعيتها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] . ولو أنصف المسلمون أنفسهم ما اتخذوا هذا القرآن مهجورا، ولو تدبروا ما فيه وفهموا ما رسمه لهم من طريق الحياة السوية، لما انحدروا إلى ما هم عليه الآن، فهو مرشد الهداية، ونور الأمة، وصراط الله المستقيم، ومفتاح السعادة، وطريق تحقق المصلحة، وبناء الأمة وتحضرها، قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء 17/ 9] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي:

1- وجوب طاعة الرسول، وأن طاعته طاعة لله تعالى. 2- المعرض عن طاعة الرسول متبع هواه، منقاد لشهواته، مضيع لصلحته، يقود نفسه إلى الهاوية في الدنيا ونار جهنم في الآخرة. 3- مراوغة المنافقين مكشوفة، فهم يقولون عند النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، أو أمرك طاعة، ثم يظهرون بسرعة نقيض ما يقولون. وهذا موقف يأباه صغار الناس وجهالهم وسفهاؤهم، فقولهم ذلك أمام النبي ليس بنافع لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، والعبرة بالنتائج، فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها فعلا. ولم يحصد هؤلاء المنافقون من موقفهم هذا أي شيء، وإنما هو على العكس كان سبب افتضاح شأنهم في الدنيا أمام الناس، وسبب دمارهم وإهلاكهم في الآخرة لأن الله تعالى يثبته في صحائف أعمالهم، ليجازيهم عليه. لذا لا داعي للاهتمام بشأنهم، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم، وتفويض أمره إلى الله تعالى والتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه، فهو نعم المولى ونعم الوكيل. 4- وجوب تدبر القرآن لمعرفة معانيه، هذا أمر مفروض على كل مسلم، ولا تكفيه التلاوة من غير تأمل ونظر في معانيه وأهدافه. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال، وإبطال التقليد في العقائد وأصول الدين. كما أن فيه دليلا على إثبات القياس. 5- ليس المراد من قوله اخْتِلافاً كَثِيراً اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات، ومقادير السور والآيات، وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت في المستوى البلاغي والنظم المعجز، وفي المعاني والأفكار، وفي الأخبار والمغيبات، وفي أصول تنظيم الحياة.

إذاعة الأخبار من غير اعتماد على مصدر صحيح [سورة النساء (4) آية 83] :

إذاعة الأخبار من غير اعتماد على مصدر صحيح [سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) الإعراب: إِلَّا قَلِيلًا في هذا الاستثناء ستة أوجه ذكرها ابن الأنباري: 1/ 262 وهي: 1- أن يكون استثناء من قوله تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ. 2- أن يكون استثناء من واو يَسْتَنْبِطُونَهُ. 3- أن يكون استثناء من واو أَذاعُوا بِهِ أي أذاعوا بالخبر. 4- أن يكون استثناء من هاء بِهِ. 5- أن يكون استثناء من الهاء والميم في جاءَهُمْ. 6- أن يكون استثناء من الكاف والميم في عَلَيْكُمْ. وقيل: إلا قليلا: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: إلا اتباعا قليلا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وقال الزمخشري: إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا. المفردات اللغوية: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ عن سرايا النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل لهم مِنَ الْأَمْنِ النصر. أَوِ الْخَوْفِ بالهزيمة. أَذاعُوا بِهِ أفشوه وأشاعوه بين الناس. وَلَوْ رَدُّوهُ أي أرجعوا الخبر. أُولِي الْأَمْرِ أي ذوي الرأي من أكابر الصحابة، أي لو سكتوا عنه حتى يخبروا به. لَعَلِمَهُ لعرفوا: هل هو مما ينبغي أن يذاع أو لا؟ يَسْتَنْبِطُونَهُ استنبط الماء: استخرجه من البئر، والمراد هنا: ما يستخرجه الرجل العالم بفضل عقله وعلمه من الأفكار والأحكام وحلول القضايا. وهم المذيعون منهم من الرسول وأولي

سبب النزول:

الأمر. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام. وَرَحْمَتُهُ لكم بالقرآن. لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يأمركم به من الفواحش. سبب النزول: روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه، دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. قال ابن جرير الطبري: إن هذه الآية نزلت في الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له. اه. وذكر السيوطي: نزلت الآية في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك، فتضعف قلوب المؤمنين، ويتأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم. والظاهر لدي ما يقوله السيوطي فإن إشاعة الأخبار وترويج الإشاعات إما أن تكون من المنافقين أعداء الأمة بقصد سيء، وإما أن تكون من ضعاف الإيمان وعوام الناس الجهلة بقصد حسن. وربما كان موقف عمر أحد أسباب النزول. قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال، ولا استبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أمن وسلامة، أو خوف وخلل، أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة «1» .

_ (1) الكشاف: 1/ 412

المناسبة:

المناسبة: مناسبة الآية واضحة بالنسبة لما قبلها، فإنه تعالى أمر بتدبر القرآن ووعيه والتثبت من فهمه، وذلك مدعاة للتعلم بضرورة التثبت في كل شؤون الحياة، كنقل الأخبار وغيرها. التفسير والبيان: هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا تكون صحيحة. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» . وفي الصحيح: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين» وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن قيل وقال» أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس، من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين. وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا» . معنى الآية: قد يبلغ الخبر عن أحوال الأمن (السلم) والخوف (الحرب) من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته ونشره وترويجه بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة. لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة الى قائد المسلمين وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو إلى أولي الأمر وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها، فهم الذين يتمكنون من استنباط الأخبار الصحيحة، واستخراج ما يلزم تدبيره وقوله بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. أما التحدث بكل ما نسمع، ونقل الأخبار من غير تثبت، ففيه ضرر واضح

فقه الحياة أو الأحكام:

بالدولة، لذا فإن كل الدول المعاصرة تفرض رقابة على الأخبار في الصحف والإذاعة وغيرها، حتى لا تشوه المواقف وتستغل عقول الناس، سواء في السلم أو في الحرب. ثم امتنّ الله تعالى على صادقي الإيمان فعصمهم من الانزلاق في تلك التيارات، فذكر: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة الله والرسول، وأرشدكم إلى الرجوع إلى المصدر العلمي الصحيح وهو الرسول وأولو الأمر من الأمة، لاتبعتم وساوس الشيطان، أو لبقيتم على الكفر- كما قال الزمخشري- إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا. وهي نظير قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور 24/ 21] . فقه الحياة أو الأحكام: وجّهت الآية النصائح والإرشادات التالية: 1- وجوب التثبت من الأخبار قبل روايتها وحكايتها، وضرورة الرقابة العامة على الأخبار المعلنة، حفاظا على أسرار الأمة ووحدتها، والعمل على إبقائها قوية متماسكة متعاضدة، لا تتأثر بالدعايات الكاذبة والإشاعات المغرضة. 2- أهل العلم والخبرة والقادة هم أولى الناس بالتحدث عن القضايا أو الشؤون العامة، وهم أيضا أهل الاجتهاد في الدين. 3- الانزلاق في وساوس الشيطان كثير شائع لولا فضل الله ورحمته. 4- قال الجصاص الرازي: في الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته إذا كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلّى الله عليه وسلّم. وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت

التحريض على الجهاد [سورة النساء (4) آية 84] :

بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مودع في النص، قد كلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه. فقد حوت هذه الآية معاني منها: أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه، بل مدلول عليه. ومنها: أن على العلماء استنباطه، والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص. ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر. ثم قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول، وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال «1» . التحريض على الجهاد [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) المفردات اللغوية: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تهتم بتخلفهم عنك، وقاتل ولو وحدك، فإنك موعود بالنصر. وَحَرِّضِ حثهم على القتال ورغبهم فيه. بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي شدتهم وقوتهم. وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا ومعاقبة بما فيه عبرة ونكال لغيرهم. المناسبة: لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة تثبيطهم (شغلهم) عن القتال وإظهارهم

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 215

التفسير والبيان:

الطاعة وإضمارهم خلافها، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يباشر القتال بنفسه، وأما من نكل عنه فليتركه. فقاتل يا محمد في سبيل الله إن أفردوك وتركوك وحدك إن أردت الظفر على الأعداء، لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك، لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف. أما غيرك الذين يقولون: لم كتبت علينا القتال، ويبيتون غير ما يعلنون أمامك من الطاعة، فاتركهم وشأنهم، والله مجازيهم على أعمالهم. وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب، لا التعنيف بهم، عسى الله- هنا بمعنى الخبر والوعد ووعد الله لا يخلف- أن يرد عنك بأس أي شدة وقوة الذين كفروا وهم قريش، والله أشد بأسا- قوة- من قريش، وأشد تنكيلا: تعذيبا ومعاقبة وهو قادر عليهم في الدنيا والآخرة لكفرهم وجرأتهم على الحق. وقد تحقق هذا الوعد الإلهي، فكفّ بأس الكافرين، وذلك أن أبا سفيان بعد موقعة أحد كان قد طلب اللقاء في بدر في العام المقبل، فأجابه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مطلبه، فحينما حل موعد بدر الصغرى في السنة الثالثة لغزوة أحد، صمم النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، وقال: «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون فقط، وتحقق لهم النصر لأن أبا سفيان بدا له وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب، فرجع من الطريق، وصرفه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية في الغاية القصوى من التحريض على القتال وخوض المعارك، فلا يكلف إلا النبي وحده إذا امتنع المسلمون عن مشاركته في الجهاد، والمعنى لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين، ولو وحدك لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصرة. وهي تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتال المشركين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وإن كان وحده، كما أنها تدل على اتصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم بشجاعة لا نظير لها، وقد ثبت وحده في أحد وحنين وكان الأبطال يتقون به، قال علي كرم الله وجهه: «كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه» . واشتملت الآية على حض المؤمنين على الجهاد والقتال، ودلت على وعد من الله بنصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحقق هذا الوعد، كما أوضحت، ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام، فمتى وجد ولو لحظة مثلا، فقد صدق الوعد، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب 33/ 25] . وكذلك انتصر المؤمنون على المشركين في الحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون، فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح 48/ 24] . وألقى الله الرعب في قلوب الأحزاب يوم الخندق، وانصرفوا من غير قتل ولا قتال، كما قال تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب 33/ 25] . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم. وقبل كثير من

الشفاعة الحسنة ورد التحية وإثبات البعث والتوحيد [سورة النساء (4) الآيات 85 إلى 87] :

اليهود والنصارى الانضمام لدار الإسلام ودفع الجزية، وترك بعضهم ديارهم دون قتال، فكفّ الله بأسهم عن المؤمنين. الشفاعة الحسنة ورد التحية وإثبات البعث والتوحيد [سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) الإعراب: لَيَجْمَعَنَّكُمْ: اللام موطئة للقسم، فقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر، وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ قسم، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم. المفردات اللغوية: مَنْ يَشْفَعْ يتوسط في أمر لقضائه، بأن ينضم إلى آخر ناصرا له في طلبه نَصِيبٌ حظ من الأجر كِفْلٌ نصيب مكفول من الوزر مُقِيتاً حافظا ومقتدرا، فيجازي كل أحد بما عمل. بِتَحِيَّةٍ مصدر حيّاه بأن قال له: حيّاك الله أو سلام عليكم، والتحية في الأصل: الدعاء بالحياة، ثم صار اسما لكل دعاء بالخير في الصباح أو المساء، وجعل الشرع تحية المسلمين: «السلام عليكم» إشارة إلى أن شعار الإسلام: السلام والأمان والمحبة حَسِيباً محاسبا على العمل، فيجازي عليه، وقد يراد به المكافئ لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي لا أحد أصدق قولا من الله.

المناسبة:

المناسبة: لما أمر الله نبيه بتحريض المؤمنين على القتال، بين هنا أنهم حين أطاعوك أصابهم خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبا تؤجر عليه، لما بذلت في ترغيبهم بالجهاد من جهود. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. التفسير والبيان: من يسعى في أمر، فيترتب عليه خير، كان له نصيب منه بانتصار الحق على الباطل وما يتبعه من شرف وغنيمة في الدنيا، وبما يحظى به من الثواب في الآخرة. ومن يسعى في سيئة يكون عليه وزر مما ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اشفعوا- أي في الخير- تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» «1» . فالشفاعة نوعان: حسنة وسيئة، أما الشفاعة الحسنة: فهي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حدّ من حدود الله، ولا في حق من الحقوق. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» «2» فذلك النصيب. والدعوة على المسلم بضد ذلك.

_ (1) رواه الشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي موسى. (2) رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء، بلفظ: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله» .

والشفاعة السيئة: ما كانت بخلاف ذلك. والشائع الآن الوساطات والشفاعات السيئة المصحوبة بالمادة والرشاوى، لتضييع الحقوق، والاستيلاء على مال الغير. عن مسروق أنه شفع شفاعة، فأهدى إليه المشفوع له جارية، فغضب وردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها «1» . وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي حفيظا شهيدا، وقيل: مقتدرا، أو محاسبا، فهو تعالى مطلع عالم بأغراض الشفعاء، مجاز كل واحد بحسب مقصده، وقادر على جزائه بما يستحق لأن الجزاء في سنته مرتبط بالعمل. ثم علّم الله الناس التحية وآدابها، وهي كالشفاعة الحسنة من أسباب التواصل والتقارب بين الناس، وعدت من التحية. وأصل التحية: الدعاء بالحياة، والتحيات لله: أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى، والصحيح أن التحية هاهنا: السلام، لقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة 58/ 8] . فإذا سلم عليكم المسلم فالواجب الرد عليه بأفضل مما سلم، أو الرد عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة. فإذا قال الشخص: السلام عليكم، أجاب المسلّم عليه إما بقوله: وعليكم السلام، أو وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد: «وبركاته» كان أفضل، وفي كل كلمة عشر حسنات. والأولى أن يكون الرد ببشاشة وسرور وحسن استقبال. روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعليك

_ (1) الكشاف: 1/ 413

السلام ورحمة الله وبركاته» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له: «وعليك» فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان، فسلما عليك، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال: «إنك لم تدع لنا شيئا» قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك» . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها، وهذا تأكيد لإشاعة السلام ووجوب رد التحية على من سلّم. روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم» . ثم بيّن الله تعالى أنهم مجزيون على التحية والجهاد وأعمال الخير والشفاعة، فقرر أن المرجع والمصير إلى الله الواحد الأحد، وأن البعث والجزاء في الدار الآخرة ثابت. وهذه الآية تقرر ركنين أساسيين للدين وهما: إثبات التوحيد وإخباره تعالى بتفرده بالألوهية لجميع المخلوقات بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وإثبات البعث والجزاء في الآخرة بالقسم الذي أقسمه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ «1» لا رَيْبَ فِيهِ أي أنه سيجمع الأولين والآخرين في الموت وتحت الأرض ثم يبعثهم في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله. وقد نزلت في الذين شكوا في البعث، فأقسم الله تعالى بنفسه. وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً معناه: لا أحد أصدق منه عز

_ (1) سميت القيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز، قال الله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين 83/ 4- 5] . وقيل: لأن الناس يقومون من قبورهم إليها: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج 70/ 43] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وجل في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات، كما قال: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه 20/ 52] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات آدابا وأحكاما مهمة هي: 1- إباحة الشفاعة الحسنة، أي الموصلة إلى الحق، غير المقترنة بالرشوة، وتحريم الشفاعة السيئة، أي التي فيها التعاون على الباطل أو الإثم والعدوان، أو المسقطة لحد من حدود الله، أو المضيعة لحق من الحقوق، أو المصحوبة بالرشوة. والحسنة فيما استحسنه الشرع ورضيه أي في البر والطاعة، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه أي في المعاصي. 2- الترغيب في التحية والسلام على من عرفت ومن لم تعرف، وعن النخعي: «السلام سنة، والرد فريضة» وكلما كان الرد أفضل كان الثواب أكثر، فالسلام وحده من المسلّم والمجيب له من الأجر عشر حسنات، وضم الرحمة إليه: له عشرون حسنة، وضم: «وبركاته» له ثلاثون حسنة كما روى النسائي عن عمران بن حصين. وعن ابن عباس: «الرد واجب، وما من رجل يمر على قوم مسلمين، فيسلم عليهم ولا يردون عليه، إلا نزع عنهم روح القدس، وردت عليه الملائكة» وروى ابن جرير عن ابن عباس أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيا، فإن الله يقول: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء 4/ 86] . ومن قال لخصمه: السلام عليكم، فقد أمنه على نفسه. والسنة أن يسلم القادم، والراكب- لعلو مرتبته- على الماشي، والماشي على

القاعد لوقاره وسكونه، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير مراعاة لشرف الجمع وأكثريتهم. ولا يسلم الرجل على المرأة الأجنبية، ويسلم على زوجته. جاء في الصحيحين أنه «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . وروي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ بصبيان فسلم عليهم» وروى الترمذي: «أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم» وفي الصحيحين: «إن أفضل الإسلام وخيره: إطعام الطعام، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» وروى الحاكم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفشوا السلام تسلموا» وأجاز المالكية التسليم على النساء إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين، ومنعه الحنفية إذا لم يكن منهن ذوات محرم، وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن. والصحيح مذهب المالكية لما ثبت في البخاري من تسليم الصحابة في المدينة على عجوز. وذكر السيوطي: أنه ثبت في السنة أنه لا يجب الرد على الكافر والمبتدع والفاسق وعلى قاضي الحاجة ومن في الحمام والآكل، بل يكره في غير الأخير، ويقال للكافر: وعليك. ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا سلم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» «1» أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. وروي: «لا تبتدئ اليهودي بالسلام، وإن بدأ فقل: وعليك» وهذا مذهب الجمهور. ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن جهرا، ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان والإقامة. ولا يسلّم على المصلي، فإن سلّم عليه فهو بالخيار: إن شاء ردّ بالإشارة بإصبعه، وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد.

_ (1) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس.

وعن أبي يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغنّي، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي: أن المستحب رد السلام على طهارة، وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه تيمم لرد السلام» . وعن أبي حنيفة: لا تجهر بالرد يعني الجهر الكثير. وأجاز الحسن البصري أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم، وروي ذلك عن النخعي. والخلاصة: يجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة. والسنة في السلام والجواب الجهر، ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي. وعند المالكية: تكفي إذا كان على بعد. 3- الله على كل شيء مقيت (شهيد أو مقتدر) وحسيب (أي رقيب وحفيظ ومحاسب على الأعمال) ولا أحد أصدق من الله حديثا في خبره ووعده ووعيده وحديثه. 4- إثبات التوحيد وتفرد الله بالألوهية والربوبية لجميع المخلوقات، وإثبات البعث والجزاء في الدار الآخرة. 5- القرآن كلام الله لأنه وحي منه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أما كلام غير الله وغير النبي فمحتمل للصدق والكذب عمدا أو سهوا أو جهلا.

أوصاف المنافقين ومراوغتهم ومحاولتهم تكفير المسلمين وكيفية معاملتهم [سورة النساء (4) الآيات 88 إلى 91] :

أوصاف المنافقين ومراوغتهم ومحاولتهم تكفير المسلمين وكيفية معاملتهم [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) الإعراب: فِئَتَيْنِ منصوب على الحال من الكاف والميم في لَكُمْ أي ما لكم في المنافقين مختلفين؟

البلاغة:

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من الهاء والميم في وَاقْتُلُوهُمْ وهو استثناء موجب. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ جملة فعلية: إما في موضع جر، صفة لمجرور وهو إِلى قَوْمٍ وإما في موضع نصب لأنها صفة لقوم مقدر تقديره: أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم. والفعل الماضي إذا وقع صفة لمحذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع. لَسَلَّطَهُمْ اللام جواب لَوْ واللام في «لقاتلوكم» : تأكيد لجواب لَوْ في لَسَلَّطَهُمْ لأنها حوذيت بها، وإلا فالمعنى: فسلطهم عليكم فيقاتلوكم، فزيدت للمحاذاة والازدواج: وهي اللام التي تأتي في إثر جواب «لو» ثم تقترن بها لام أخرى، يقصد بها التأكيد. البلاغة: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ وقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا: استفهام بمعنى الإنكار. أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: فيه طباق. تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا: جناس مغاير. المفردات اللغوية: فِئَتَيْنِ فرقتين أو جماعتين أَرْكَسَهُمْ ردهم إلى الكفر والقتال. والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال، بعد أن أظهروا الولاء للمسلمين. أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي تعدوهم من جملة المهتدين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى. وَدُّوا تمنوا وَلِيًّا نصيرا ومعينا يَصِلُونَ يتصلون بهم أو يلجأون إليهم مِيثاقٌ عهد، كما عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هلال بن عويمر الأسلمي حَصِرَتْ ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم السَّلَمَ الصلح أو السلام والاستسلام، أي انقادوا سَبِيلًا طريقا بالأخذ والقتل. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الإيمان عندكم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم أسد وغطفان الْفِتْنَةِ الشرك أُرْكِسُوا فِيها وقعوا أشد وقوع فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بترك قتالكم فَخُذُوهُمْ بالأسر ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم سُلْطاناً مُبِيناً برهانا بينا أو حجة واضحة على قتلهم وسبيهم لغدرهم.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (88) : فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ: روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا، فنزلت الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ بن عبادة قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فقال: من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة، فقال: يا ابن معاذ: طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال: إنك يا بن عبادة منافق وتحب المنافقين فقام محمد بن مسلمة فقال: اسكتوا يا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية ، لكن

سبب نزول الآية (90) :

في إسناده تدليس وانقطاع، أي لا يصح الاعتماد على هذه الرواية. سبب نزول الآية (90) : إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن البصري أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، إنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا، ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد خالد، فقال: اذهب معه، فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أيضا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد، وقصده ناس من قومه، فكره أن يقاتل المسلمين، وكره أن يقاتل قومه. المناسبة: هذه الآيات استمرار في بيان أحوال المنافقين ومواقفهم المخزية، وهي إنكار على المؤمنين في اختلافهم في شأن المنافقين على رأيين، وتقسيمهم فئتين، مع أن كفرهم واضح، فيجب القطع بكفرهم وقتالهم. وقد كانت الآيات السابقة: 60- 63، و64- 68، و72- 73، والآيات اللاحقة 142- 143 كلها في مناقشة أعمال المنافقين والتنديد بها وإنكارها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخاطب الله المؤمنين مستنكرا عليهم انقسامهم في شأن كفر المنافقين، مع قيام الأدلة عليه، فما لكم اختلفتم في شأنهم فئتين: فئة تزكيهم وتشهد لهم بالخير، وفئة تطعن بهم وتشهد لهم بالكفر؟ والحال أنهم كافرون، صرفهم الله عن الحق وأوقعهم في الضلال، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول، واتباعهم الباطل، ومعاداتهم المسلمين وبغضهم والتآمر عليهم، وعدم هجرتهم من مكة إلى المدينة، فكأنهم نكسوا على رءوسهم، وصاروا يمشون على وجوههم، لفساد فطرتهم، كما قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ [الملك 67/ 22] . ومعنى قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بسبب ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.. أي هل تريدون إعادتهم إلى هداية الإسلام مع أنهم ضالون بأنفسهم؟ ومن يكون ضالا عن طريق الحق، فلن تجد له طريقا للعودة إليه، أي لا طريق لهم إلا الهدى ولا مخلص لهم إليه لأن سبيل الحق واضح وهو التزام منهج الفطرة، وهداية العقل الرشيد، والتفكير المجرد غير المتحيز في الخير والشر، والنافع والضار، والحق والباطل. ثم ذكر الله تعالى موقفا غريبا لهم وهو أنهم يتمنون الضلالة لكم، لتستووا أنتم وإياهم فيها، ليقضى على الإسلام كله، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، وتماديهم في الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم وكفرهم وغوايتهم، بل يتأملون إضلال غيرهم. لذا حذر الله المؤمنين من مكائدهم وسعاياتهم هذه، فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين الوثنيين، حتى يدل الدليل الواضح على إيمانهم

الأول:

ويهاجروا إلى المدينة ويتعاونوا بصدق معكم في قضاياكم، فهذا دليل الصدق في الإيمان. فإن أعرضوا عن الإيمان الظاهر بالهجرة في سبيل الله، ولزموا أماكنهم خارج المدينة، فخذوهم واقتلوهم أنى وجدتموهم في أي مكان وزمان، في الحل أو في الحرم، ولا توالوهم أو تولوهم شيئا من مهام أموركم، ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك. ثم استثنى الله من هؤلاء أحد صنفين: الأول: الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين ويلجأون إلى أهل عهدكم بمهادنة أو عقد ذمة، فينضمون إليهم في عهدهم، فاجعلوا حكمهم كحكم المعاهدين. وهذا موافق لما جاء في صلح الحديبية في صحيح البخاري: «من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم، دخل فيه» . قال أبو بكر الرازي: إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار، فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء، بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط، ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين، فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك، كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش «1» . الثاني: المحايدين: الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وأبغضوا أن

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 220

يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم، وهم بتعبير العصر: المحايدون، فهم لا يقاتلون المسلمين بمقتضى العهد، ولا يقاتلون قومهم، حفاظا على أصل الرابطة العرقية أو الجنسية معهم، فهم قومهم، وهم بذلك معذورون. وكلا الفريقين يعاملون بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة 2/ 190] . وكان من رحمة الله ولطفه بكم أن سالموكم وكفّ بأس هذين الفريقين عنكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم بأن يلهمهم القتال فيقاتلوكم. فإن اعتزلكم هؤلاء وأمثالهم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم المسالمة، فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال، وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره. قال الزمخشري: فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم. ثم بيّن الله تعالى حكم جماعة أخرى موافقة في الظاهر للفئة السابقة، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم (النساء والصبيان) ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليكونوا في أمان من المسلمين، وهم في الباطن مع الكفار «1» ، كما قال تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة 2/ 14] وقال هاهنا: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين، أركسوا فيها، أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وانهمكوا فيها، وكانوا شرا فيها من كل عدو، كما قال

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 533

فقه الحياة أو الأحكام:

الزمخشري «1» ، وقال السدي: الفتنة هاهنا الشرك، أي كلما دعوا إلى الشرك تحولوا إليه أقبح تحول، فهم قد مردوا على النفاق. حكى ابن جرير: أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان، وقيل: غيرهم. وحكمهم أنه إن لم يعتزلوكم، ويسالموكم، ويقفوا على الحياد، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين، فخذوهم أسراء، واقتلوهم حيث لقيتموهم، وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، أو برهانا بيّنا واضحا على قتالهم، لظهور عداوتهم. وهذا كله تأكيد لحرص الإسلام على السلم والأمن والعهد والصلح، قال الرازي: قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا، وطلبوا الصلح منا، وكفوا أيديهم عن قتالنا، لم يجز لنا قتالهم وقتلهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أحكام كثيرة هي: 1- وضوح موقف الإسلام من المنافقين: وهو الحكم عليهم بالكفر وجواز قتلهم، فلا يصح الانقسام في الحكم عليهم فرقتين مختلفتين، ما دامت أدلة كفرهم واضحة للعيان. والمنافقون الذين نزلت الآية في شأنهم: هم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في «آل عمران» وقال ابن عباس: هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة. قال الضحاك: وقالوا: إن ظهر محمد فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا. فصار المسلمون فيهم فئتين: قوم يتولّونهم، وقوم يتبرءون منهم فقال الله عز وجل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ؟

_ (1) الكشاف: 1/ 415- 416 [.....]

2- تمنيهم أن يكونوا مع المسلمين في الكفر والنفاق على سواء: فأمر الله تعالى بالبراءة منهم، فقال: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا وقال أيضا: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] . والهجرة أنواع: منها- الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام، حتى قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: «لا هجرة بعد فتح مكة» . ومنها- هجرة المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزوات. وهجرة من أسلم في دار الحرب، فإنها واجبة. وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» أو: «من هجر ما حرم الله عليه» . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن. وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم، فلا يكلّمون ولا يخالطون حتى يتوبوا كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كعب بن مالك وصاحبيه. 3- أسر المنافقين وقتلهم: قال الله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في مختلف الأماكن من حلّ وحرم. 4- تحريم قتال وقتل المنضمين إلى المعاهدين الذين تعاهدوا مع المسلمين، وكذا المحايدين الذين وقفوا على الحياد، فلم يقاتلوا المسلمين ولم يقاتلوا قومهم. 5- دلت الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ على مشروعية الموادعة (الهدنة) بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين.

6- لله أن يفعل ما يشاء، ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء. وتسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين: هو بأن يقدرهم على ذلك ويقوّيهم، إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] وإما تمحيصا للذنوب، كما قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران 3/ 141] . 7- مسالمة الانتهازيين الذين يظهرون الإيمان، ولكنهم مستعدون للعودة إلى الشرك وهم المذكورون في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ... الآية. قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلّى الله عليه وسلّم ليأمنوا عنده وعند قومهم. وقال مجاهد: هي في قوم من أهل مكة. وقال السدّي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين. وقال الحسن البصري: هذا في قوم من المنافقين. وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة، فأسلموا، ثم رجعوا إلى ديارهم، فأظهروا الكفر. وانتهازيتهم واضحة في قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ومعنى أُرْكِسُوا: انتكسوا عن عهدهم الذي عاهدوا، وقيل: إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.

جزاء القتل الخطأ والقتل العمد [سورة النساء (4) الآيات 92 إلى 93] :

جزاء القتل الخطأ والقتل العمد [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) الإعراب: أَنْ يَقْتُلَ أن المصدرية وصلتها اسم كان المرفوع ولِمُؤْمِنٍ خبرها مقدم على الاسم. إِلَّا خَطَأً استثناء منقطع، ومثله قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. وانتصاب خطأ: إما لأنه مفعول لأجله، أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو لأنه صفة لمصدر محذوف أي قتلا خطأ، أو حال. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحرير: مبتدأ، وخبره محذوف وتقديره: فعليه تحرير رقبة ودية مسلّمة، وكذلك فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ توبة: منصوب على المصدر بفعله المقدر، وإن شئت على المفعول لأجله.

البلاغة:

البلاغة: أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً: إطناب. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مجاز مرسل في رَقَبَةٍ من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. المفردات اللغوية: خَطَأً أي مخطئا في قتله بغير قصد للقتل وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة، فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالبا. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق مملوك مُؤْمِنَةٍ أي عليه نفس مؤمنة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مؤداة إلى ورثة المقتول، والدية: مال يدفع لأهل القتيل عوضا عنه أَنْ يَصَّدَّقُوا أن يتصدقوا عليه بها بأن يعفوا عنها. مِيثاقٌ عهد كأهل الذمة أو الأمان أو الصلح فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة بأن فقدها أو فقد ثمنها مُتَتابِعَيْنِ شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. ولم يذكر الله تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الشافعي في أصح قوليه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم عَلِيماً بخلقه حَكِيماً فيما دبره لهم. سبب النزول: نزول الآية (92) : وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ: أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عيّاش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلقيه عيّاش بالحرّة، فعلاه بالسيف، وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره فنزلت: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية. نزول الآية (93) : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً: أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن عكرمة أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم

المناسبة:

الدية، فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا أؤمنه في حل ولا حرم، فقتل يوم الفتح. قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أحكام قتال المنافقين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ثم يغدرون بهم ويعينون أعداءهم، ذكر هنا حكم قتل من لا يحل قتله عمدا أو خطأ، سواء كان من المؤمنين أو المعاهدين والذميين. التفسير والبيان: ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بأي وجه، إلا إذا وقع القتل خطأ، أي ما كان لمؤمن قتل مؤمن إلا خطأ، والقتل الخطأ: هو الذي يحدث من غير قصد الفعل أو الشخص أو إزهاق الروح غالبا لأن القتل جريمة عظمي ومن الكبائر أو السبع الموبقات، قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة 5/ 32] . وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» وهذه الخصال الثلاث ليس لأحد من الرعية أن يفعل شيئا منها، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه. وأخرج بن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة، مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله» . وأخرج البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن» .

وسبب العقوبة على القتل الخطأ: أنه لا يخلو من تفريط وتهاون وتقصير، مما شأنه العقاب عليه. وعقوبة القتل الخطأ شيئان: تحرير رقبة مؤمنة أي عتق نفس مملوكة، ودية مدفوعة إلى أهل القتيل. أما الواجب الأول وهو تحرير الرقبة فهو كفارة لما ارتكب من الذنب العظيم، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة. والذي عليه الجمهور: أنه متى كان العبد مسلما صح عتقه عن الكفارة، سواء كان صغيرا أو كبيرا. قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار: أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله، إن علي عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم. قال: «أتشهدين أني رسول الله؟» قالت: نعم، قال: «أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟» قالت: «نعم» قال: «أعتقها» وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره. وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنّسائي عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الله؟» ، قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» ، قالت: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» . وأما الواجب الثاني وهو الدّية: فتجب عوضا عما فات أهل القتيل من قتيلهم، وهي كما ثبت في السّنّة مائة من الإبل، ودية المرأة نصف دية الرجل لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها. أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه: «إن من اعتبط- قتل بغير سبب شرعي- مؤمنا قتلا عن بيّنة، فإنه قود

- قصاص يجب عليه- إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدّية مائة من الإبل.. ثم قال: وعلى أهل الذهب ألف دينار» أي أن جنس الدّية بحسب رأس المال الشائع عند أهلها، فعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور، وعلى أهل الإبل مائة، وقال الشافعي: لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق (الفضة) إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت. وإنما تجب دية الإبل أخماسا، كما روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن ابن مسعود، قال: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة وعشرين حقّة» . وهذا مذهب أحمد ومالك والشافعي، وكذا عند أبي حنيفة إلا أنه يجعل مكان ابن اللبون: ابن مخاض «1» . وأما دية شبه العمد في رأي الحنفية فهي مثلثة: أربعون خلفة (حامل) وثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة «2» . ومالك لا يقول بشبه العمد إلا في قتل الوالد ولده. وأما ديّة العمد فما اتّفق عليه عند أبي حنيفة ومالك في المشهور من قوله. وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد. ودية الخطأ على العاقلة، وهي عند علماء الحجاز: قرابة القاتل من جهة أبيه، وهم عصبته لأن الناس تعاقلوا في زمن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفي زمن أبي بكر، ولم يكن هناك ديوان. وعند الحنفية: العاقلة: هم أهل ديوان القاتل، على النحو الذي نظمه

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 232- 233 (2) المرجع السابق: ص 234

عمر بن الخطاب. فإن عجزت العاقلة أخذت الدّية من بيت المال العام (وزارة المالية) . فإن قيل: كيف تتحمل العاقلة الدية وتؤخذ بجريرة القاتل، والله يقول: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] ، ويقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البزار عن ابن مسعود: «لا يؤخذ الرّجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه» وقال لأبي رمثة وابنه فيما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي رمثة: «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» . فالجواب: أن هذا ليس من باب تحميل الشخص وزر غيره لأن الدّية على القاتل ابتداء، وتحمل العاقلة إياها من باب المعاونة، كما يتعاون هو في دية قاتل آخر، وكما تتعاون القبيلة في النصرة فترد الغارات، تتعاون بمالها، فيدي بعضها عن بعض. وقد دلّت الأحاديث على أن العاقلة (العصبة من جهة الأب) تحمل الدّية، روى الشيخان عن أبي هريرة: أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى، فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عاقلة الضاربة بالغرّة، فقام حمل بن مالك فقال: كيف ندي من لا شرب ولا ... أكل ولا صاح ولا استهلّ ومثل ذلك يطلّ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا من سجع الجاهلية. وورد أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعلي كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها. ولا خلاف بين العلماء في أن الجنين إذا خرج حيّا فيه الكفارة مع الدّية،

واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا، فقال مالك: فيه الغرّة والكفارة، وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرّة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرّة عن الجنين فقال مالك والشافعي: الغرّة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى لأنها ديّة. وقال الحنفية: الغرّة للأم وحدها لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية. وذهب أبو بكر الأصمّ وجمهور الخوارج إلى أن الدّية على القاتل، لا على العاقلة لأن قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النساء 4/ 92] ، يقتضي أن من يجب عليه هو القاتل، وكذلك في الدّية. ونظرا لاختلاف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وانهيار روابط القبيلة وفقد العصبية القبلية، واعتماد كل امرئ على نفسه دون قبيلته، كما في الوقت الحاضر، يكون الأوفق الأخذ برأي الأصم والخوارج، وهذا ما نصّ عليه متأخرو الحنفية كما أبان ابن عابدين. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا معناه: أن الدّية تجب لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويتنازلوا عنها فلا تجب لأنها إنما وجبت جبرا لخاطرهم وتطييبا لنفوسهم، حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتله، فإذا عفوا فقد طابت نفوسهم، وسمّى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه. فإن كان المقتول من الأعداء أهل الحرب وهو مؤمن كالحارث بن يزيد من قريش أعداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنون في حرب معهم، ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر، وقد قتله عياش حين هاجر وهو لم يعلم بذلك، كما تقدم، ومثله

كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله، فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط. وأما إن كان المقتول من قوم معاهدين للمسلمين على السلم، كأهل الذّمّة أو الهدنة، فلهم دية قتيلهم. والواجب في قتل المعاهد المؤمن أو الكافر دية كاملة وتحرير رقبة مؤمنة أيضا. وهذا رأي أبي حنيفة، لظاهر الآية في أهل الميثاق، وهم المعاهدون وأهل الذّمة، ولأنه يسوّى في القصاص بين المسلم والذّمّي، فيسوّى بينهما في الدّية. وقال مالك: دية المعاهدين نصف دية المسلمين في الخطأ والعمد، لما روى أحمد والترمذي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عقل- دية- الكافر نصف دية المسلم» ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه أنه قال: كانت الدّيات على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين ، قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذّمّة لم يرفع فيها شيئا. وقد روى أهل السّنن الأربعة عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» . وروي عن أحمد: أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا، وإلا فنصف ديته. وقال الشافعي: ديته ثلث دية المسلم في الخطأ والعمد لأنه أقل ما قيل في المسألة، ولأن عمر جعل ديته أربعة آلاف، وهي ثلث دية المسلم. وتأخذ الدّية ورثة المقتول، وهي كميراث، يقضى منها الدّين، وتنفذ منها الوصايا، وتقسم على الورثة، روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج، فقال عمر: لا أعلم لك شيئا، إنما الدّية للعصبة الذين يعقلون عنه،

القتل العمد:

فشهد بعض الصحابة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها، فقضى عمر بذلك. فمن لم يملك الرقبة ولا ثمنها أو لم يجد رقيقا كما في عصرنا (وهذا من أهداف الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين، لا يقطعهما إفطار من غير عذر شرعي، وإلا استأنف الصوم من جديد. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرعها الله لكم قبولا منه ورحمة لتطهير نفوسكم من آثار التقصير وقلّة الاحتراز والتّحري، مما أدى إلى القتل خطأ. وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها، وقد علم أن القاتل خطأ لم يتعمد، فلذلك لم يؤاخذه بالقصاص، حكيما فيما شرعه، فإن فرض الدّية تعويضا لهم في غاية الحكمة والمصلحة. القتل العمد: أما من قتل مؤمنا عمدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنم خالدا فيها أي باقيا فيها، وغضب الله عليه أي انتقم منه لما ارتكبه من هذا الجرم الخطير، وأخزاه ولعنه أي أبعده عن رحمته، وهيأ له عذابا عظيما. وهل تقبل توبة القاتل عمدا؟ يرى ابن عباس وجماعة آخرون من الصحابة والتابعين «1» : أنه لا توبة لقاتل العمد، للأحاديث الكثيرة التي تدلّ على عظم هذه الجريمة، كما تقدّم عن ابن عمر والبراء بن عازب. ويختلف هذا عن التائب من الشرك- وقد كان قاتلا زانيا- فإنه تقبل توبته لأنه لم يكن يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور، فله شبه عذر، وترغيبا له في الإسلام. أما المؤمن العالم بحرمة القتل فلا عذر له.

_ (1) انظر تفسير ابن كثير: 1/ 536، الكشاف: 1/ 417

ويرى الجمهور أنه تقبل توبة القاتل عمدا، لقوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر 39/ 53] ، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق وغير ذلك، فكل من تاب تاب الله عليه. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] وهذه عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك. وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما: هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون قبول التوبة في هذه الأمة بطريق الأولى والأحرى لأن الله وضع عنّا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبيّنا بالحنيفية السمحة. ولأن الكفر أعظم من القتل، والتوبة عنه تقبل، فتقبل عن القتل بالأولى، ثم إن آية الفرقان تدلّ على قبول توبته وهي قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً، إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الآيات 68- 70] . فأما الآية الكريمة: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.. فقال أبو هريرة وجماعة من السّلف: هذا جزاؤه إن جازاه. وعليه يحمل كل وعيد على ذنب، وقد يكون له أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قول أصحاب الموازنة، أي وزن الحسنات والسيئات. وعلى قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به، فليس بمخلد أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل، لا الدوام، وقد تواترت الأحاديث عن

فقه الحياة أو الأحكام:

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه: «يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان» . ويرى بعضهم (عكرمة وابن جريج) أن حكم الآية إنما هو لمن استحلّ القتل، فإنما فسّر متعمدا، أي مستحلّا، فجزاؤه حينئذ جهنم خالدا فيها أبدا. واختار الرازي في الجواب: أن هذه الآية قد خصصت في موضعين: أحدهما- القتل العمد إذا لم يكن عدوانا كقتل القصاص. والثاني- القتل الذي تاب عنه. وإذا دخلها التخصيص في هذين، فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو، بدليل قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- شأن الإيمان الامتناع النهائي عن قتل النفس، لا عمدا ولا خطأ لأنه اعتداء على صنع الخالق، وجريمة عظيمة، ومنكر قبيح. 2- أجمع العلماء على أن قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد، وكذلك أيضا قوله عليه الصّلاة والسّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» «1» أريد به الأحرار خاصة. 3- فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه تحرير رقبة مؤمنة كالرقبة التي

_ (1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو، ورواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي جحيفة.

أوجبها الله في كفارة الظهار. وهناك اختلافات في شأن إعتاق الرّقبة لا داعي لذكرها في عصرنا الآن. 4- الواجب الثاني في القتل الخطأ هو الدّية: وهي ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. والمسلّمة: المدفوعة المؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدّية، وإنما في الآية إيجاب الدّية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السّنّة، وقد بيّنت ذلك. 5- دلّ قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا على جواز العفو عن الدّية، والتّصدّق: الإعطاء والمراد: إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول مما أوجب الله لهم من الدّية على عاقلة القاتل. أما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلّص آخر لعبادة ربّه. وإنما تسقط الدّية التي هي حقّ لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا يتحملها أحد عنه. 6- فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ: موضوعها المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار، ففي المشهور من قول مالك، وقول أبي حنيفة: إن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة، فلا دية له، وإنما كفارته تحرير الرقبة لأن أولياء القتيل كفار، فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها، ولأن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية لقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] . فإن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب، ففيه الدّية لبيت المال والكفارة «1» .

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 240 وما بعدها.

وقال الشافعي والأوزاعي والثوري وأبو ثور: الوجه في سقوط الدّية: أن الأولياء كفار فقط، فلا تدفع ديته سواء قتل في ديار الحرب أو في ديار الإسلام. ولو وجبت الدّية لوجبت لبيت المال على بيت المال، فلا تجب الدّية في هذا الموضع، وإن جرى القتل في بلاد الإسلام. ويؤيد هذا الحكم ما جاء في صحيح مسلم من قتل أسامة رجلا من جهينة قال: لا إله إلا الله، خوفا من السلاح في تقديره، قال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية. 7- وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ: هذا في الذّمّي والمعاهد يقتل، فتجب الدّية والكفارة، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي. 8- أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل لأن لها نصف الميراث، وشهادتها نصف شهادة الرجل. وهذا ثابت بالسّنّة لا بالقرآن. أما القتل العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء، لقوله عزّ وجلّ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْحُرُّ بِالْحُرِّ كما تقدم في سورة البقرة. واختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما: فقال شريح والنخعي وأحمد وإسحاق: يضمن الأعلى الأسفل، ولا يضمن الأسفل الأعلى. وقال مالك في رجلين جرّ أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا: على عاقلة الذي جبذه الدّية. وقال بعض أصحاب الشافعي: يضمن نصف الدّية لأنه مات من فعله، ومن سقوط الساقط عليه. أما في حال التصادم: فقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا: دية المصدوم على عاقلة الصادم، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا

اصطدما فماتا: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. وقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته. وذلك يقال أيضا في تصادم السفينتين، أو السيارتين اليوم. 9- إن دية أهل الكتاب فيها اختلاف: فقال المالكية وأحمد: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم على النّصف من ذلك، لحديث عمرو بن شعيب المتقدّم. وقال الحنفية: الدّيات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذّمي لقوله تعالى: فَدِيَةٌ وذلك يقتضي الدّية كاملة كدية المسلم «1» ، ويؤيده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن عباس- جعل دية يهود بني قريظة والنضير سواء، دية كاملة. لكنه حديث عن ابن عباس ضعيف جدا. وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم لأنه أقل ما قيل في ذلك، كما أوضحت، والذّمة بريئة إلا بيقين أو حجّة. 10- صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرّقبة ولا اتّسع ماله لشرائها، فلو أفطر يوما بلا عذر استأنف. وهذا قول الجمهور. فإن وجد عذر كالحيض، أو مرض، لم يستأنف في رأي مالك. وقال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه: يستأنف في المرض. 11- ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد، فقال مالك: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، وأما شبه العمد فلا نعرفه.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 238 وما بعدها.

وأثبت فقهاء الأمصار وجمهور أئمة المذاهب شبه العمد بما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد: ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» لكنه حديث مضطرب عند المحدثين. ذكر ابن عبد البرّ أنه لا يثبت من جهة الإسناد. واختلف القائلون بشبه العمد في تحديده وبيان ما هو عمد على أقوال ثلاثة: الأوّل- قال أبو حنيفة: العمد: ما كان بالحديد، وكل ما عدا الحديد من القضيب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد «1» . الثاني- قال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله. الثالث- قال الشافعي: ما كان عمدا في الضرب، خطأ في القتل، أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل، فتولد عنه القتل. وأما الخطأ فما كان خطأ فيهما جميعا، وأما العمد: فما كان عمدا فيهما جميعا. ويعتمد الفقهاء في إثبات العمد وشبهه والخطأ على الآلة التي بها القتل لأن نيّة القاتل لا اطلاع لنا عليها، فأقيمت الآلة مقام النيّة. وكان الأولى هو البحث عن ظروف القتل وقرائن الأحوال لتعلم نيّة القاتل أهو عمد أم مخطئ. واختلفوا في الدّية المغلظة على القتل شبه العمد: فقال عطاء والشافعي ومالك في المشهور عنه، فيما يقول فيه بشبه العمد، وهو قتل الوالد ولده: هي ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة «2» .

_ (1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 1/ 228 وما بعدها. (2) الحقّة: إذا دخلت الناقة في السنة الرابعة، والجذعة: إذا دخلت في السنة الخامسة. والخلفة. الحامل. وابنة المخاض: ما كان لسنة، وابنة اللبون: ما كان لسنتين.

الحرص على السلام والتثبت في الأحكام [سورة النساء (4) آية 94] :

وقال أبو حنيفة: هي مربّعة: ربع بنات لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض. ودية شبه العمد عند الحنفية والشافعية والحنابلة على العاقلة (القرابة من جهة الأب) . ولا تحمل العاقلة دية العمد، وإنها في مال الجاني. وهل تجب الكفارة في القتل العمد؟ أجمعوا على وجوب الكفارة على القاتل خطأ، واختلفوا في وجوبها على قاتل العمد، فلم يوجبها الجمهور لأنه لا قياس في الكفارات، واقتصر النّص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبرا للذنب غير المقصود «1» . وأوجبها الشافعي في العمد وفي شبه العمد وفي الخطأ لأن الذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى، والعامد أحوج إليها لتكفير الخطيئة. وإذا اشترك جماعة في القتل الخطأ، وجبت الكفارة على كلّ واحد منهم باتّفاق المذاهب الأربعة. الحرص على السّلام والتّثبّت في الأحكام [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

_ (1) الجصاص، المرجع السابق: 1/ 245

الإعراب:

الإعراب: تَبْتَغُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في تَقُولُوا أي: لا تقولوا ذلك مبتغين. البلاغة: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استعارتان: استعار الضرب للسعي في جهاد الأعداء، واستعار السبيل لدين الله. المفردات اللغوية: ضَرَبْتُمْ في الأرض: سافرتم للتجارة، وفي سبيل الله: سافرتم للجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لجهاد الأعداء. فَتَبَيَّنُوا وفي قراءة: فتثبّتوا، والمراد تحققوا من الأمر ولا تتسرعوا في الحكم. السَّلامَ أي التّحية، أو الاستسلام والانقياد بقوله كلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام. عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي متاعها الفاني من الغنيمة. مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي أرزاق ونعم كثيرة تغنيكم عن قتل شخص لماله. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد النطق بالشهادة. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالإيمان والاستقامة. فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنا، وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به. سبب النزول: 1- روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يسوق غنما له، فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم علينا إلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إليه، فقتلوه، وأتوا بغنمه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ الآية. 2- وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

سريّة فيها المقداد، فلما أتوا القوم، وجدهم قد تفرّقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟» وأنزل الله هذه الآية. 3- وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثّامة، فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلّم علينا، فحمل عليه محلّم، فقتله، فلما قدمنا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية. وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه. 4- وروى الثعلبي عن ابن عباس أن اسم المقتول مرداس بن نهيك الغطفاني من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السّريّة غالب بن فضالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده، وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلما رجعوا نزلت الآية. ولا مانع من تعدد أسباب النزول، سواء بعد إعلان صاحب الغنم التحية الإسلامية (كما في رقم 1، 3) أو اتّقاء للسلاح في الحرب، وكان القاتل المقداد (رقم 2) أو محلّم (رقم 3) أو أسامة (رقم 4) ، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ الآية على أصحاب كل واقعة. قال القرطبي: الذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنّف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البرّ: أن القاتل محلّم بن جثّامة، والمقتول عامر بن الأضبط.

المناسبة:

المناسبة: هذا بيان نوع من أنواع القتل الخطأ الذي كان يحصل في الماضي بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها مع المشركين، وفيه تسرّع بالحكم بعدم الإسلام على الرجل، بعد أن بيّن الله تعالى في الآية السابقة حكم نوعي القتل: الخطأ والعمد. وذكر القرطبي أن هذه الآية متصلة بذكر القتل والجهاد في الآيات السابقة. التفسير والبيان: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله إذا سرتم لجهاد الأعداء، ورأيتم من تشكّون أهو مسلم أم كافر، مسالم أم محارب، فتمهّلوا في الحكم عليه، وتبيّنوا حقيقة أمره، أهو مؤمن لتحيته لكم بالسّلام أو نطقه بالشهادتين، ولا تعجلوا بقتله، ولا تقولوا لمن استسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه مسلم: إنك لست مؤمنا، فأنتم مأمورون بالعمل بالظاهر، والله أعلم بأمره. تبتغون بذلك الحصول على متاع الحياة الدّنيا ومغانمها الفانية الزائلة، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم وأفضال لا تحصى، وعنده خزائن السموات والأرض، فالتمسوها بطاعته، فهي خير لكم، ولا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل، وتتسرّعوا في الحكم على ما في قلوب الناس، وتتهموهم بالمصانعة والتّقية، والخوف من السيف. على أنكم نسيتم حالكم، فكنتم هكذا من قبل، آمنتم سرّا، وكنتم تخفون إيمانكم من المشركين، ثم أظهرتم الإسلام علنا، وهذا حال من قتلتموه، كان يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، وكما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال 8/ 26] ، فمنّ الله عليكم أي فصرتم آمنين مطمئنين وفي عداد المؤمنين، ومنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان، وبإعزاز دينه وتقوية

فقه الحياة أو الأحكام:

شوكة الإسلام، وبقبول توبة المتسرع في القتل، فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل. قال الزمخشري في تفسير كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ: أول ما دخلتم في الإسلام، سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم، من غير انتظار الاطّلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم «1» . ثم أكّد الله تعالى وجوب التّبيّن، فأمر أن يكونوا على بيّنة من الأمر الذي يقدمون عليه بأدلّة ظاهرة وقرائن كافية، وألا يأخذوا بالظن السريع، وإنما عليهم التدبّر، حتى يظهر الأمر، فإن الحكم بالإيمان يكفي فيه مجرد ظاهر الحال، أما القتل فلا بدّ فيه من غلبة الظّنّ الراجح على البقاء على حال الكفر، وعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكفّ عن القتل والقتال. إن الله تعالى خبير بأعمالكم، مطّلع على أحوالكم، ونيّاتكم ومقاصدكم، وسيجازيكم عليها، وهذا تهديد ووعيد وتحذير من تكرار التّورّط في مثل هذا الخطأ، فلا تتهافتوا في القتل، وكونوا محترزين محتاطين في ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآية محصور في ضرورة التّثبّت في الأحكام وعدم التّسرّع في أمر القتل، لخطورته، وأنه يكتفى في الحكم على الشخص بالإسلام بالنّطق بالشهادتين في الظاهر، دون حاجة للكشف عما في القلب واستبطان الحقيقة والواقع، فذلك ليس من شأن البشر، وإنما أمر القلوب متروك لعلّام الغيوب، وهذا مناسب للرّواية التالية:

_ (1) الكشاف: 1/ 418

المشهور في سبب نزول هذه الآية ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، فصبّحنا الحرقات «1» من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟!» . «2» وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية. أما الفقهاء فقالوا: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة لأنه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا وخوفا من السلاح، وإن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه عاصم كيفما قالها، فقال عليه الصّلاة والسّلام في الحديث المتواتر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولذلك قال لأسامة: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!» أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب، وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. والمراد من الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس» هم مشركو العرب دون اليهود والنصارى فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، فلا بدّ فيهم من إعلان الاعتراف بنبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي هذا من الفقه حكم عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظواهر، لا على القطع واطّلاع السرائر «3» .

_ (1) الحرقات: موضع ببلاد جهينة. (2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 248 (3) تفسير القرطبي: 5/ 324، 338- 339

وإذا فسّر قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ: لَسْتَ مُؤْمِناً بالتّحية، فلا مانع أيضا لأن سلامه بتحيّة الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والتّرك. فإن قال: سلام عليكم، فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا لأنه موضع إشكال. ولا يكفي في رأي مالك أن يقول: أنا مسلم أو أنا مؤمن، أو أن يصلّي، حتى يتكلّم بالكلمة العاصمة التي علّق النّبي صلّى الله عليه وسلّم الحكم بها عليه في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» «1» . أي أن الكلمة الفاصلة بعد التحية بالسّلام أو برؤيته يصلي هو أن يقول: لا إله إلا الله. وهذا في شأن إنهاء الحرب ومنع القتل والقتال، فيكتفى بالحكم بالظاهر، وليس في قضية أن الإيمان هو الإقرار فقط، كما حاول بعضهم الاستدلال بالآية، وإنما حقيقة الإيمان: التّصديق بالقلب، بدليل أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول: «لا إله إلا الله» وليسوا بمؤمنين. وفي الآية نصّ صريح على أن هدف المؤمنين من الجهاد كما شرع الله هو إعلاء كلمة الله تعالى، لا من أجل التّوصل إلى المغانم الحربية أو العروض الدّنيوية أو المكاسب المادية، فإن الله وعد بالرّزق والمغانم الكثيرة من طرق أخرى حلال دون ارتكاب محظور، فلا تتهافتوا.

_ (1) المرجع السابق: 5/ 339، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 481 وما بعدها. [.....]

التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد [سورة النساء (4) الآيات 95 إلى 96] :

التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) الإعراب: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ غير: بدل مرفوع من الْقاعِدُونَ أو وصف لهم لأنهم غير معينين، فجاز أن يوصفوا بغير. وقرئ بالجر على أنه بدل من الْمُؤْمِنِينَ أو وصف لهم، وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال من الْقاعِدِينَ. وَكُلًّا وَعَدَ.. كلا: منصوب بوعد، وكذلك الحسنى: منصوب به لأن وَعَدَ يتعدى إلى مفعولين، تقول وعدت زيدا خيرا وشرا، وقال تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج 22/ 72] . أَجْراً إما منصوب بفضّل، أو منصوب على المصدر. دَرَجاتٍ مِنْهُ منصوب على البدل من أَجْراً وتقديره: أجر درجات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مصدران منصوبان بفعلين مقدرين، والتقدير: وغفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة. البلاغة: إطناب في قوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.. وقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ... المفردات اللغوية: الضَّرَرِ المرض والعلة التي تمنع صاحبها من الجهاد كالعمى والعرج والزمانة ونحوها. دَرَجَةً فضيلة، لاستوائهما في النية، وزيادة المجاهدين بمباشرة القتال. الْحُسْنى الجنة.

سبب النزول:

دَرَجاتٍ مِنْهُ منازل بعضها فوق بعض من الكرامة للمجاهدين على القاعدين غَفُوراً لأوليائه رَحِيماً بأهل طاعته. سبب النزول: روى البخاري عن البراء قال: لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ادع فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله: أنا ضرير فنزلت مكانها: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ ... وروى الترمذي نحوه من حديث ابن عباس وفيه: قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان. هذا بيان سبب إضافة غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وقال السيوطي: قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ نزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا، فقتلوا يوم بدر مع الكفار، وكان نزولها في غزوة بدر. المناسبة: هذه الآية تبين فضيلة الجهاد وتمييز المجاهدين عن القاعدين، بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من القتل الخطأ لمن نطق بالشهادة. التفسير والبيان: لا يتساوى القاعدون من المؤمنين عن الجهاد، كقعود جماعة عن بدر، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم التي يبذلونها في سبيل مرضاة الله بمنع عدوان الطغاة، وإقرار الحق والدفاع عنه، كجهاد الخارجين إلى بدر في مبدأ الإسلام بعد الهجرة. لكن استثنى سبحانه وتعالى من التكليف بفريضة الجهاد أصحاب الأعذار

وهم أولو الضرر أي المرض ونحوه من العمى والعرج، فأصبح ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فلا لوم ولا عتاب لهم لتوافر نياتهم الطيبة بالجهاد عند القدرة، روى البخاري وأحمد وأبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة، حبسهم العذر» . ثم أخبر الله تعالى عن فضيلة المجاهدين على غير أولي الضرر القاعدين عن الجهاد: وهي أن الله رفع المجاهدين درجة لا يعرف قدرها: في الدنيا بالظفر والنصر والسمعة الحسنة والغنيمة، وفي الآخرة بمنزلة عالية في الجنة، وأجر عظيم أو جزيل. ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد لعذر أو عجز مع تمني الجهاد: الحسنى وهي الجنة والجزاء الجزيل، لكمال إيمان الفريقين وإخلاص نيته وعمله. قال ابن كثير: وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، بل هو فرض كفاية «1» . ثم أخبر سبحانه عما فضل به المجاهدين بإطلاق على القاعدين من غير أولي الضرر من الدرجات، وهو الأجر العظيم. وذلك الأجر العظيم هو الدرجات العالية أي المنازل الرفيعة في غرف الجنان العاليات، التي يصعب في تقدير الناس في الدنيا حصرها وعدها، كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء 17/ 21] والتفاضل في الدرجات مبني على مدى قوة الإيمان، وإيثار رضا

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 541

فقه الحياة أو الأحكام:

الله على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام» «1» . والأجر أيضا مغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات وهي ما يخصهم به الرحمن زيادة على المغفرة من فضله وإحسانه، إحسانا منه وتكريما، وكان شأن الله وصفته الدائمة الملازمة له المغفرة لمن يستحقها، والرحمة لمن يستوجبها عقلا، ولكنها متروكة للفضل الإلهي. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي: 1- لا تساوي بداهة وطبعا وشرعا بين القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر (أصحاب الأعذار من زمانة وعرج وعمى ونحوها) وبين المجاهدين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم رخيصة في سبيل مرضاة الله. ومعنى الآية: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء مع المجاهدين. قال العلماء: أهل الضرر: هم أهل الأعذار إذ قد أضرّت بهم العاهة حتى منعتهم الجهاد. وقد دل الحديث المتقدم: «إن بالمدينة رجالا» على أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي. فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 541

الفعل. وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف، فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة رجالا» «1» . 2- تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع لأن أهل الديوان لما كانوا متملّكين بالعطاء، ويصرّفون في الشدائد، وتروّعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف (الغزو في الصيف) الكبار ونحوها. 3- احتج بعضهم أيضا بهذه الآية على أن الغنى أفضل من الفقر لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال. وعلى كل للعلماء آراء ثلاثة في هذه المسألة: فذهب قوم إلى تفضيل الغني لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. وهذا أولى لقولهم: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها أي مخالطتها والانخراط في شهواتها. وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين: بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين. 4- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ثم قال: دَرَجاتٍ مِنْهُ.. فقال قوم: التفضيل بالدرجة، ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين أصحاب الأعذار بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 342

هجرة المستضعفين [سورة النساء (4) الآيات 97 إلى 100] :

وقيل: إن معنى درجة: علوّ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ، فهذا معنى درجة أي في الدنيا، ودرجات يعني في الجنة، والدرجات: منازل بعضها أعلى من بعض. هجرة المستضعفين [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) الإعراب: ظالِمِي حال منصوب من الهاء والميم في تَوَفَّاهُمُ وأصله: ظالمين أنفسهم، فحذفت النون للإضافة. فِيمَ كُنْتُمْ فيم: جار ومجرور في موضع نصب خبر كنتم. و «ما» هنا: استفهامية، ولهذا حذفت الألف منها لدخول حرف الجر عليها لأن «ما» إذا دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها تخفيفا لكثرة الاستعمال، وليفرق بينها وبين «ما» التي بمعنى الذي، ليميز بين الخبر

البلاغة:

والاستفهام. ولم يحذفوا الألف من «ما» في الخبر إلا في موضع واحد وهو: ادع بم شئت، أي بالذي شئت. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مستثنى منصوب من قوله تعالى: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وهو استثناء من موجب، فلهذا وجب فيه النصب. البلاغة: قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ وأَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً: استفهام يراد به التوبيخ والتقريع. ويوجد جناس مغاير في يَعْفُوَ ... عَفُوًّا وفي يُهاجِرْ ... مُهاجِراً. تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ فيه إطلاق الجمع على الواحد لأن المراد به ملك الموت، وذلك بقصد تفخيم شأنه. المفردات اللغوية: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي قبضت أرواحهم حين الموت ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالمقام مع الكفار وترك الهجرة قالُوا لهم موبخين: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟ مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين عن إقامة الدين مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مسكنهم حِيلَةً لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا طريقا إلى أرض الهجرة مُراغَماً مهاجرا أي مكانا للهجرة ومأوى يجد فيه الخير، فيرغم بذلك أنوف من أذلوه وَقَعَ ثبت ووجب. سبب النزول: نزول الآية (97) : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ: روى البخاري عن ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ. وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل المدينة

سبب نزول الآية (100) :

قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا، فلحق بهم المشركون، ففتنوهم فرجعوا فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت 29/ 10] فكتب إليهم المسلمون بذلك، فتحزنوا، فنزلت: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [النحل 16/ 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل. سبب نزول الآية (100) : وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ: أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله: احملوني، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل الوحي: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية. ويقال: كان جندب بن ضمرة من بني ليث من المستضعفين بمكة، وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة، قال: أخرجوني، فهيئ له فراش، ثم وضع عليه، وخرج به، فمات في الطريق بالتنعيم «1» ، فأنزل الله فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية «2» . المناسبة: لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة تفضيل المجاهدين في سبيل الله على

_ (1) التنعيم: موضع قرب مكة في الحل، يعرف بمسجد عائشة، منه يحرم المعتمر بالعمرة. (2) تفسير القرطبي: 5/ 349

التفسير والبيان:

القاعدين من غير عذر، ذكر هنا حال قوم لم يهاجروا في سبيل الله، لاستضعاف الكفار لهم، مع أنهم ليسوا ضعفاء في الحق والواقع، فلا عذر لهم في ترك واجب الهجرة من مكة إلى المدينة حينما كان واجبا في صدر الإسلام، بسبب شدة أذى الكفار للمسلمين، وإلجائهم إلى الهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهاجر بعض المسلمين، وقعد بعضهم في مكة حبا لوطنه، وكان بعضهم مستضعفا عجز عن الهجرة لمرض أو كبر أو جهل بالطريق، وبعضهم هاجر ومات في الطريق. التفسير والبيان: إن الذين تتوفاهم الملائكة حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بترك الهجرة، ورضاهم الإقامة في دار الشرك، تقول لهم (أي للمتوفين) الملائكة توبيخا لهم وتقريعا: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه، لقدرتهم على الهجرة ولم يهاجروا. وهؤلاء كانوا ناسا من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فقالوا معتذرين عما وبخوا به بغير العذر الحقيقي: كنا مستضعفين ومستذلين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، وهذه حجة واهية لم تقبلها الملائكة، فردوا عليهم المعذرة قائلين: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ المراد أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة شعائر

دينه، أو علم أنه في غير بلده يكون أقوم بحق الله وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. فإن كان يستطيع إقامة شعائر دينه كالمقيمين في عصرنا في أوربا وأمريكا، فلا تجب الهجرة عليهم، وإنما تسن، ويكره مقامهم في دار الكفر. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام. اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة» «1» . فإن أولئك المقصرين عن القيام بالهجرة مسكنهم جهنم، لتركهم ما كان مفروضا عليهم لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الإسلام. وقبحت جهنم مصيرا لهم لأن كل ما فيها يسوءهم. ثم استثنى الله تعالى من أهل الوعيد: المستضعفين حقيقة الذين لا يجدون لديهم قدرة على الخروج لفقرهم أو عجزهم أو هرمهم مثل عياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام «2» ، ومن النساء أم الفضل والدة ابن عباس، ومن الولدان (وهم المراهقون الذين قاربوا البلوغ) ابن عباس المذكور وغيره. فهؤلاء لا يجدون قدرة على الهجرة إما للعجز كمرض أو زمانة، وإما للفقر، ولا يهتدون طريقا للجهل بمسالك الأرض، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من

_ (1) الكشاف: 1/ 419 (2) ذكر ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة، فقال: «اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، من أيدي الكفار» .

المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا. والحقيقة أن الولدان لا يكونون إلا عاجزين عن الهجرة. فهؤلاء يرجى أن يعفو الله عنهم، ولا يؤاخذهم بترك الهجرة والإقامة في دار الشرك. وفي هذا إيماء إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير. وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب، والمغفرة بستر العيوب في الآخرة. وتساءل الزمخشري: لم قيل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع؟ ثم أجاب قائلا: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البيّن الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ «1» . ثم رغب الله تعالى في الهجرة تنشيطا للمستضعفين فذكر: أن من يهاجر في سبيل الله، أي بقصد مرضاته وإقامة دينه كما يجب، يجد في أرض الله الواسعة مراغما كثيرا أي مهاجرا (مكانا للهجرة) وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب. ويجد مأوى فيه الخير والسعة، عدا النجاة من الذل والاضطهاد. فالمراغم الكثير: يعني المتزحزح عما يكره. والسعة: الرزق. وفي هذا وعد من الله للمهاجرين بتسهيل سبل العيش لهم وإرغام أعدائهم والنصر عليهم، وهو كله للترغيب في الهجرة. ثم وعد الله تعالى من يخرج من منزله بنية الهجرة تاركا الوطن والأهل والمال، ثم يموت في أثناء الطريق قبل الوصول إلى المدينة، وعده بالأجر العظيم والثواب عند الله على الهجرة أي وجب ثوابه عليه ووقع، وعلم الله كيف يثيبه.

_ (1) الكشاف: 1/ 420

فقه الحياة أو الأحكام:

وكان شأن الله الغفران دائما لهؤلاء المهاجرين، وإسباغ الرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه وفضله. ويؤكد هذا المعنى الحديث المشهور في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . وما أعظم الفرق بين هذا الوعد الصريح الأكيد من الله، وبين الوعد بالمغفرة لتاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنه محل رجاء وطمع عند الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: المراد بهذه الآية في الأصح كما ذكر القرطبي: جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلّى الله عليه وسلّم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر، خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية. وبخ الله تعالى هؤلاء المتقاعسين عن الهجرة، وأرشدهم إلى أنهم كانوا متمكنين قادرين على الهجرة والابتعاد عمن كان يستضعفهم، وأنه لم يقبل عذرهم بكونهم مستضعفين حقيقة. وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي. أما المستضعفون حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام الذين دعا لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالنجاة، فهؤلاء يرجى لهم من الله العفو والمغفرة.

ومن مات في أثناء الطريق إلى المدينة، فأجره حق ثابت عند الله، لصدق عزيمته، وإخلاص نيته. وكانت أسباب الهجرة إلى المدينة في صدر الإسلام كثيرة منها: 1- التمكين من إقامة شعائر الدين والبعد عن الاضطهاد الديني، فعلى كل مضطهد البحث عن مكان يأمن فيه، وإلا ارتكب إثما كبيرا. 2- التمكن من تعلم أمور الدين والتفقه في أحكامه، فعلى كل مسلم يقيم في بلد ليس فيه علماء يعلّمون أحكام الدين أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه العلوم الدينية. 3- الإعداد لإقامة دولة الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض، والدفاع عنها وعن الدعاة إلى الله. وظلت هذه الأسباب واضحة قائمة إلى فتح مكة، حتى إذا فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الصحابة في البلاد يعلمون الناس أحكام دينهم، وقويت شوكة الإسلام، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الشرك والوثنية، زال حكم وجوب الهجرة، روى أحمد والشيخان عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . ويلاحظ أنه إذا وجدت الدواعي للهجرة وتوافر أحد الأسباب المتقدمة، وجبت الهجرة في أي عصر وزمان. ويحسن أن أذكر أقسام الهجرة كما أوضحها ابن العربي فقال: الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام: الأول- الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غيرها من أنواعها. وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، التي

انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصى، ويختلف في حاله كما تقدم بيانه. الثاني- الخروج من أرض البدعة: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحلّ لأحد أن يقيم ببلد يسبّ فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر على تغييره فزل عنه، قال الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام 6/ 68] . الثالث- الخروج عن أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. الرابع- الفرار من الإذاية في البدن: وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلّصها عن ذلك المحذور. الخامس- خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النّزهة. وقد أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للرّعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحّوا. وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بيد أني رأيت علماءنا قالوا: هو مكروه. السادس- الفرار خوف الإذاية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد «1» .

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 484- 486، وانظر تفسير القرطبي: 5/ 349 وما بعدها.

قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف [سورة النساء (4) الآيات 101 إلى 103] :

قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) الإعراب: كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً إنما قال: عدوا بلفظ المفرد، وإن كان ما قبله جمعا لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: كانوا لكم ذوي عداوة، وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ. قِياماً وَقُعُوداً منصوبان على الحال من واو فَاذْكُرُوا. وكذلك قوله: وَعَلى جُنُوبِكُمْ في موضع نصب على الحال لأنه في موضع: مضطجعين.

البلاغة:

البلاغة: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فيه إطلاق العام وإرادة الخاص لأن المراد بها صلاة الخوف. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فيه إطناب بتكرار لفظ الصلاة، تنبيها على فضلها. المفردات اللغوية: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سافرتم فيها جُناحٌ تضييق، وهذا يدل للشافعي أن القصر رخصة لا واجب أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تتركوا شيئا منها بأن تصلوا الصلاة الرباعية ركعتين فقط يَفْتِنَكُمُ يؤذوكم بالقتل أو غيره أو ينالوكم بمكروه الَّذِينَ كَفَرُوا بيان للواقع إذ ذاك، فلا مفهوم له. وبينت السنة أن المراد بالسفر: الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان تقدر ب (89 كم) عَدُوًّا مُبِيناً بيّني العداوة. فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ إقامة الصلاة: الذكر الذي يدعى به للدخول في الصلاة. وهذا جري على عادة القرآن في الخطاب، فلا مفهوم له. أَسْلِحَتَهُمْ جمع سلاح: وهو كل ما يقاتل به من الأسلحة القديمة كالسيف والخنجر والسهم، والأسلحة الحديثة كالبندقية والمسدس والمدفع ونحوها. قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أديتموها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط كِتاباً مَوْقُوتاً فرضا ثابتا محددا بوقت معلوم لا بد من أدائها فيه. سبب النزول: نزول الآية (101) : وَإِذا ضَرَبْتُمْ: أخرج ابن جرير الطبري عن علي قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين

نزول الآية (102) :

الصلاتين: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله: عَذاباً مُهِيناً فنزلت صلاة الخوف. نزول الآية (102) : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ: أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي والدارقطني عن أبي عيّاش الزرقيّ «1» قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلّى بنا النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم قال: ثم قالوا: تأتي الآن عليهم صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وذكر الحديث. وهذا كان سبب إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه. وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس. نزول الآية: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ..: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نزلت: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى في عبد الرحمن بن عوف حينما كان جريحا. المناسبة: لا يزال الكلام في الجهاد والهجرة، والجهاد يستلزم السفر، فبيّن الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر، ولا بعذر الجهاد وقتال العدو. وكانت الآيات في إثبات مشروعية القصر بالسفر، وصلاة الخوف في الجهاد.

_ (1) في كتاب أسباب النزول للواحدي: أبو عياش الورقي.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وإذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها، فليس عليكم تضييق ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية، إذا خفتم فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما، أو خفتم من قطاع الطريق، وذلك بأن يتخذ أعداؤكم الاشتغال بالصلاة فرصة لتغلبهم عليكم، فلا تمكنوهم من هذا، بل اقصروا من الصلاة. ويصح أن يكون المراد: إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم، فصلوا راجلين أو راكبين. ثم أكد تعالى تحذيرنا من الأعداء فذكر: إن الكافرين لكم أعداء واضحة عداوتهم، فهم ذوو عداوة بينة، فاحذروهم أن يوقعوا بكم، ويغلبوكم، فلا تتركوا لهم فرصة لتحقيق أغراضهم. وعملا بظاهر الآية: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ قال بعضهم: المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية الأولى، والمبيّن في الآية التي بعدها وفي سورة البقرة بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [239] . قال الشافعي: القصر في غير الخوف بالسّنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسّنة، ومن صلّى أربعا فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السّنة. ورأى آخرون: أن قوله: إِنْ خِفْتُمْ خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر فيما رواه مسلم: ما لنا نقصر وقد أمنّا؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السّفر، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا، فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشّرطين.

ودلّ سبب النزول المتقدم عن علي على مشروعية القصر للمسافر، قال القرطبي: فإن صحّ هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن. وقد روي عن ابن عباس أيضا مثله، قال: إن قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ نزلت في الصلاة في السفر، ثم نزل: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين، فقوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ.. يراد به في السفر وتمّ الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى، فقدّم الشرط، والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة، والواو زائدة، والجواب: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ. وقوله: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً اعتراض «1» . وقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل «2» ، وإلى التخيير ذهب الشافعي، وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتمّ في السفر، وعن عائشة رضي الله عنها فيما رواه الدارقطني: «اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي: قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» . وكان عثمان رضي الله عنه يتمّ ويقصر. وعند أبي حنيفة رحمه الله: القصر في السفر عزيمة غير رخصة، لا يجوز غيره. بدليل قول عمر رضي الله عنه: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم» ، وقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أحمد: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرّت في السفر، وزيدت في الحضر» .

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 361 وما بعدها. (2) الكشاف: 1/ 420

ولأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم التزم القصر في أسفاره كلها، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسافرا، صلّى ركعتين حتى يرجع. وروي عن عمران بن حصين: حججت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان يصلّي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وقال لأهل مكة: صلّوا أربعا فإنّا قوم سفر. وقال ابن عمر فيما رواه الشيخان: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر، فلم يزد على ركعتين ، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر، فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] ، وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف 7/ 158] ، ولو كان مراد الله التّخيير بين القصر والإتمام، لبيّن ذلك كما بيّنه في الصوم. وأما ما ورد عن عثمان فقد اعتذر عنه بأنه قد تأهل (أقام) فقال: إنّما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد، وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تأهّل ببلد فهو من أهله» . وأجاب الزمخشري عن آية فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا بقوله: كأنهم ألفوا الإتمام، فكانوا مظنّة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه «1» . واختلف العلماء في المراد بالقصر هنا، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها «2» ؟ فقال جماعة: إن القصر قصر عدد الركعات، لما روى مسلم عن يعلى بن

_ (1) الكشاف: 1/ 420 وما بعدها. (2) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 251 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 488، تفسير القرطبي: 5/ 360 [.....]

أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب، كيف نقصر وقد أمنّا؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . وهذا يدلّ كما أوضحت على أن المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. لكن قال القاضي ابن العربي في كتابه القبس: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا الحديث مردود بالإجماع. وأيضا فإن القصر: أن تقتصر من الشيء على بعضه، والقصر في الصفة تغيير لا إتيان بالبعض لأنه جعل الإيماء بدل الرّكوع والسّجود مثلا. وأيضا فإن «من» في قوله: «من الصلاة» للتبعيض، وهو يدلّ على الاقتصار على بعض الركعات. وقال آخرون كالجصاص: إن المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة، دون نقصان أعداد الرّكعات، أي بترك الرّكوع والسّجود والإيماء، وبترك القيام إلى الرّكوع لأن الآية في صلاة السفر، لابتدائها بقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ولأن قول عمر المتقدم: «صلاة السفر ركعتان ... » إلخ يدلّ على أن صلاة السفر، سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر، فيكون معنى القصر في الآية قصر الصفة، لا قصر عدد الركعات. أما السفر المبيح للقصر ففيه خلاف على آراء أهمها ما يأتي: 1- قال الحنفية: من الكوفة إلى المدائن وهي مسيرة ثلاثة أيام. ويروى عنهم: يومان وأكثر الثالث. ودليل الحنفية: قوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي، فيما معناه: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام» .

صلاة الخوف:

وورد في السّنّة منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم. فدلّ هذا على أن ما دون الثلاث ليس سفرا، بل هو في حكم الإقامة. 2- وقال مالك والشافعي: أربعة برد، كل بريد أربعة فراسخ لما روى الدارقطني عن ابن عباس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» . والفرسخ (5544 م) . صلاة الخوف: ثم بيّن الله تعالى كيفية صلاة الخوف ومجملها في القرآن ما يأتي: وإذا كنت يا محمد أو من يقوم مقامك من الأئمة في جماعة المؤمنين، وأردت أن تقيم بهم الصلاة وناديتهم بالأذان والإقامة فاقسم الجيش طائفتين: تصلّي طائفة معك الرّكعة الأولى بجماعة، ومعهم أسلحتهم حتى يستعدّوا عقب الصلاة لمجابهة العدوّ الذي قد يباغتهم، فإذا سجدوا حرستكم الطائفة الأخرى من خلفكم لأن المصلّي أشدّ ما يكون حاجة للحراسة حين السجود، لعدم رؤيته العدوّ. ثم تتمّ الطائفة الأولى الرّكعة الثانية وحدها، وأنت واقف في أول الرّكعة الثانية. ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلّي معك أيضا ركعة هي الثانية لك، كما صلّت الطائفة الأولى، وعليها أن تأخذ حذرها وأسلحتها في الصلاة، كما فعل الذين من قبلهم. والحكمة في الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدو قلّما يتنبّه لصلاة الطائفة الأولى، فإذا سجدوا فربّما باغتهم. ثم تنتظر الطائفة الثانية في جلوس التّشهد الأخير، حتى تقوم هي، وتصلّي الرّكعة الثانية، ثم تسلّم بها. وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتّكبير مع الإمام، والثانية بالتّسليم معه. ثم بيّن الله تعالى علّة الأمر بأخذ الحذر والسلاح في الصلاة، وهي أن الكفار

يودّون ويتمنّون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم بسبب انشغالكم بالصلاة، فينقضّون عليكم ويميلون ميلة واحدة أو حملة واحدة بالقتل والنّهب، والله يريد لكم الفوز والنصر، فيحذركم ويأمركم بالاستعداد الدائم. ثم أبان الأعذار التي يشقّ معها حمل السلاح، فذكر: ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر أو مرض أو عذر، ولكن مع أخذ الحذر والاستعداد للعدوّ لأن العدوّ ينتظر أي فرصة من الضعف، ويراقب تحركاتكم، فاحذروه ولا تغفلوا عنه. إن الله أعدّ للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدّنيا والآخرة. أما في الدّنيا فهو تغلّب المسلمين عليهم، وأما في الآخرة فهو العذاب الخالد في نار جهنم، وهذا وعيد للكفار بأنه مهينهم وخاذلهم وغير ناصرهم، لكن الحذر مطلوب من المؤمنين أخذا بسنّة الله في إتباع المسببات الأسباب، حتى لا يتهاونوا ويتركوا الأسباب جانبا. وقد روى الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع: «أن طائفة صفت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وطائفة وجاه العدوّ (أي جهته) فصلّى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدوّ. وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الرّكعة الثانية التي بقيت من صلاته، فأتمّوا فسلّم بهم» . فإذا أدّيتم الصلاة أي صلاة الخوف على هذه الصورة، فاذكروا الله تعالى في أنفسكم، بتذكّر نعمه ووعده بنصر من ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة. وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء، فذكر الله مما يقوي القلب، ويعلي الهمّة، وبالثبات والصبر يتحقق النصر، كما قال تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال 8/ 45] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب والإقامة في بلادكم بعد السفر، فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط لأن الصلاة عماد الدّين. والسبب في فرضية الصلاة حتى في وقت الخوف: أن الصلاة مفروضة فرضا ثابتا في أوقات معلومة، فلا يصحّ تركها أبدا حتى في الحروب وساعة الخوف، كما قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 239] . فقه الحياة أو الأحكام: الآيات في مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر، وكيفية صلاة الخوف. فآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ واضحة الدّلالة- بغضّ النّظر عن الاختلاف الفقهي- على حكم القصر في السفر. أما العلماء فاختلفوا في حكم القصر، كما سبق بيانه، فقال جماعة منهم الحنفية: إنه فرض لحديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين» لكن قال القرطبي: ولا حجّة فيه لمخالفتها له، فإنها كانت تتمّ في السفر، وذلك يوهنه، وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر: صلاة المسافر خلف المقيم، أي أنه إذا اقتدى المسافر بالمقيم أتمّ صلاته بالإجماع. وقال آخرون منهم عمر وابن عباس وجبير بن مطعم: «إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» . ومشهور مذهب المالكية: أن القصر سنة، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه رخصة يخير فيها المسافر بين القصر والإتمام، وهو الظاهر من قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. وأيهما أفضل؟ الصحيح في مذهب مالك التّخيير للمسافر بين الإتمام والقصر، وأما مالك رحمه الله فيستحب له القصر، ويرى عليه الإعادة في الوقت إن أتمّ، والقصر أفضل من الإتمام مطلقا

عند الحنابلة لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم داوم عليه. وهو عند الشافعية أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر ب 96 كم، اتّباعا للسّنة، وخروجا من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة. والسفر المبيح للقصر: هو السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا، وهو عند الحنفية بمقدار ثلاثة أيام تقدر ب 96 كم، عملا بقول عثمان وابن مسعود وحذيفة، وبالأدلّة السابقة. وعند الجمهور: بمقدار ثمانية وأربعين ميلا هاشمية أو مرحلتين وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا لأن ابن عمر وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، تقدر ب 89 كم. وأجمع الناس على جواز القصر في الجهاد والحج والعمرة ونحوها من صلة رحم وإحياء نفس، واختلفوا فيما سوى ذلك. فالجمهور: على جواز القصر في السفر المباح كالتّجارة ونحوها لقول ابن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد، ولا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما. وأباح أبو حنيفة والأوزاعي القصر في جميع ذلك، فيصحّ القصر ولو لعاص بسفره. واختلفوا متى يقصر المسافر؟ فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض. وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا، فصلّى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال

عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى. ويكون معنى الآية على هذا: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض. وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام، فإن افتتح الصلاة بنيّة القصر، ثم عزم على المقام في أثناء صلاته، جعلها نافلة. واختلف العلماء في مدّة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتمّ: فقال مالك والشافعي وأحمد: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتمّ، إلا أن الإمام أحمد قال: إذا نوى الإقامة مدة تتسع لإحدى وعشرين فريضة قصر. وقال الحنفية: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتمّ، وإن كان أقل قصر، عملا بقول ابن عمر وابن عباس. والمسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنا له، وإن بقي سنين. أما صلاة الخوف المذكورة في القرآن فيحتاج إليها، والمسلمون مستدبرون القبلة، ووجه العدو القبلة، وهذا موافق لصلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بذات الرقاع. أما صلاته عليه الصّلاة والسّلام بعسفان والموضع الآخر المروي عن ابن عمر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة. واختلفت الرّوايات في السّنة النبويّة في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها، فذكر ابن القصّار أنه صلّى الله عليه وسلّم صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي: روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة «1» . وقال الإمام أحمد: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 491

صحاح ثابتة، فعلى أي حديث منها صلّى المصلّي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله «1» . وأذكر هنا أقوال الفقهاء بصفتها نموذجا عمليا مطبّقا بين المسلمين، ويمكن تأويل الآية بما يوافق هذه الأقوال: 1- ذهب أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إلى الكيفية التالية لصلاة الخوف وهي: أن يقسم الإمام القوم طائفتين: تقوم طائفة مع الإمام، وطائفة إزاء العدوّ، فيصلّي بهم ركعة وسجدتين، ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدوّ، فيصلّي بهم الإمام ركعة وسجدتين ويسلّم هو، ولم يسلّموا لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلا للمشي، فتتمم صلاتها وحدها بغير قراءة لأنهم في حكم اللاحقين، ثم تشهدوا، وسلموا، وعادوا لحراسة العدوّ. ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتمم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين. وهذه الكيفية مروية عن الزهري عن سالم عن أبيه: وهي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة أخرى ثم سلّم، ثم قام هؤلاء، فقضوا ركعتهم، وهؤلاء فقضوا ركعتهم. وروي مثله أيضا عن نافع، وابن عمر في حديث متفق عليه، وابن عباس. 2- قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى: إذا كان العدوّ بينهم وبين القبلة، جعل

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 365 وما بعدها.

الناس طائفتين، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا، ويسجد الإمام والصف الأول، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو، فإذا قاموا من السجود سجد الصف الآخر، فإذا فرغوا من سجودهم قاموا، وتقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك. وإذا كان العدوّ في دبر القبلة، قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر يستقبل العدو، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو، ثم يجيء الآخرون، فيسجدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية، فيركعون جميعا، ويسجد الصف الذي معه، ثم ينقلبون إلى وجه العدوّ، ويجيء الآخرون، فيسجدون معه، ويفرغون، ثم يسلم الإمام وهم جميعا. وهذه الكيفية رواها ابن عباس في صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعسفان، ورواها أيضا أحمد ومسلم وابن ماجه من حديث جابر. وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في جهة القبلة. 3- قال مالك رضي الله عنه: يتقدم الإمام بطائفة، وطائفة بإزاء العدوّ، فيصلّي بالتي معه ركعة وسجدتين، ويقوم قائما، وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى، ثم يتشهدون ويسلّمون، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصلّ، فيقومون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يتشهدون ويسلّم، ويقومون فيتمّون لأنفسهم الرّكعة التي بقيت. وهذه كيفية صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة ذات الرّقاع، رواها الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة، وهي التي قال عنها أحمد: وأما حديث سهل فأنا أختاره.

صلاة الخوف في المغرب:

وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في غير جهة القبلة. لكن الفرق بين مالك وبين هؤلاء أنهم قالوا: لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلّم معهم. صلاة الخوف في المغرب: اختلف الفقهاء في كيفية صلاة الخوف في المغرب: فقال الحنفية والمالكية والشافعية: يصلّي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة، غير أن المالكية والشافعية يقولون: إن الإمام ينتظر قائما حتى تتم الطائفة الأولى لنفسها، وتجيء الثانية، لكن لا يسلم الإمام في رأي الشافعية، كما تقدم «1» . الصلاة حال اشتباك القتال: اختلف الفقهاء أيضا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدّة القتال، وخيف خروج الوقت: فقال الحنفية: لا صلاة حال اشتباك القتال، فإن قاتلوا فيها، فسدت صلاتهم، ويؤخرون الصلاة. وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي المجاهد كيفما أمكن لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك، فيصلي راكبا أو قائما، يومئ إيماء. قال مالك في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، أي أن الصلاة تكون بالإيماء إذا لم يقدر على الرّكوع والسجود. وقال الشافعي: لا بأس أن يضرب الضربة، ويطعن الطعنة، فإن تابع الضرب والطعن، فسدت صلاته. والأدلّة من غير الآية «2» .

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 263 (2) المرجع والمكان السابق.

صلاة الطالب والمطلوب:

صلاة الطالب والمطلوب: واختلفوا أيضا في صلاة الطالب والمطلوب: فقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء، كلّ واحد منهما يصلّي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء الحديث: لا يصلّي الطالب إلا بالأرض. وقال القرطبي: وهو الصحيح لأن الطلب تطوّع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلّى بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصلّيها راكب إلا خائف شديد خوفه، وليس كذلك الطالب. العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوّا فصلّوا صلاة الخوف، ثم بان لهم أنه غير شيء: اختلفوا أيضا في ذلك: قال بعض المالكية وأبو حنيفة: يعيدون الصلاة لأنه تبيّن لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. وقال بعض آخر من المالكية، وهو أظهر قولي الشافعي: لا إعادة عليهم لأنهم عملوا على اجتهادهم، فجاز لهم، كما لو أخطئوا القبلة، وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به. أخذ الحذر وحمل السلاح: تأمر الآيتان: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ووَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ بالحذر وأخذ السلاح، لئلا ينال العدوّ أمله ويدرك فرصته. والسلاح: ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب. وهل حمل السلاح في الصلاة مندوب أو واجب؟ قال أبو حنيفة: لا يحملون الأسلحة لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. وردّ عليه: بأنه لم يجب حملها لأجل الصلاة، وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا لمصلحتهم. وقال ابن عبد البرّ: أكثر أهل العلم يستحبّون للمصلّي أخذ سلاحه إذا صلّى

في الخوف، ويحملون قوله: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ على النّدب لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه، فكان الأمر به ندبا. وقال ابن العربي المالكي والشافعي والظاهرية: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. وعلى كلّ حال: إن لم يجب فيستحب للاحتياط، كما قال القرطبي. هذا.. وقوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا أي إذا سجدوا ركعة القضاء، وهم الطائفة المصلّية فلينصرفوا، دلّ على أنّ السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة، مثل قوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» «1» أي فليصلّ ركعتين. وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بيّن وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح. وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى لأنها أولى بأخذ الحذر لأن العدوّ لا يؤخّر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة وأيضا يقول العدوّ: قد أثقلهم السلاح وكلّوا. وفي هذه الآية دليل على تعاطي الأسباب، واتّخاذ وسائل النجاة وما يوصل إلى السلامة. ثم أمر الله تعالى بشيئين: ذكر الله، وأداء الصلاة في أوقات معلومة. أما ذكر الله تعالى فأبان سبحانه أنه متى فرغتم أيها المؤمنون من صلاة الخوف، فاذكروا الله في مختلف أحوالكم، حال القيام وحال القعود، وحال الاضطجاع على الجنوب، وذكره تعالى يكون في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من

_ (1) الرواية المشهورة عند أحمد وأصحاب الكتب الستة (الجماعة) عن أبي قتادة: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة.

ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتهليل والدّعاء بالنّصر، فالذكر يكون بالقلب واللسان، أما الذكر بالقلب: فهو التّفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدّلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه. وأما الذكر باللسان فهو بالتعظيم والتّسبيح والتّقديس. وهذا الذكر المأمور به في رأي الجمهور إنما هو إثر صلاة الخوف، والذكر يكون مع التعظيم والخشوع، والحكمة فيه ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى في كل الأحوال حتى يعتمدوا في جهادهم على الله تعالى، ويكون طلب النصر والظفر منه، فإنه الذي بيده النصر، وهو القادر على كل شيء، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال 8/ 45] . والذكر كما طلب الله تعالى يكون دائما وبكثرة لأنه أداة الفلاح إذ هو وسيلة الخشية، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة واجتنبت المعصية، وذلك هو الفوز والسعادة. روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً: أنه كان يقول: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء، ثم عذرهم إن عنّ ما يمنعهم من أدائها من العذر، إلا الذكر، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم بالليل والنهار، في البّر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والصّحة والسّر والعلانية، وعلى كلّ حال. وأما فرضية الصلاة بنحو دائم: فإن الله تعالى أبان أنه إذا أقمتم، وهو مقابل لقوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وزال عنكم الخوف الذي ترتب عليه قصر الصلاة وقصر صفتها وهيئتها، فأدّوا الصلاة على وجهها الأكمل تامّة الأركان والعدد والهيئة، إن الصلاة مفروضة عليكم في وقت معين، أي إنها مفروضة

الحث على القتال بعدم التفكير في الآلام وانتظار إحدى الحسنيين [سورة النساء (4) آية 104] :

مؤقتة، لا يجوز تجاوز أوقاتها المعلومة، بل لا بدّ من أدائها في أوقاتها سفرا وحضرا. وبيّنت السّنّة النّبوية أحوال القصر والجمع تقديما وتأخيرا في السفر تخفيفا ورخصة وتيسيرا على المسافر. والسبب في جعل الصلوات الخمس مفروضة بأوقات معينة: أن تكون مذكرة للمؤمن بربّه في الليل والنهار، وفي أوقات دورية، لئلا تحمله الغفلة على الشّر أو التّقصير في الخير. الحث على القتال بعدم التفكير في الآلام وانتظار إحدى الحسنيين [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) المفردات اللغوية: وَلا تَهِنُوا لا تضعفوا. فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب القوم، وهم الكفار، لتقاتلوهم. يَأْلَمُونَ تجدون ألم الجراح فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي مثلكم ولا يجبنون عن قتالكم. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بكل شيء «حكيما» في صنعه. سبب النزول: قيل: نزلت في حرب أحد، حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وقد أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة ، كما تقدم في «آل عمران» .

المناسبة:

المناسبة: الآيات السابقة في بيان كيفية الصلاة في أثناء المعركة، وقد نبهت إلى شدة عداوة الكفار وانتظار هم الفرصة المواتية لضرب المسلمين، ونبهت أيضا إلى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أخذ الحذر أثناء الصلاة. وهنا ينهى الله تعالى عن الضعف في القتال لأن الألم في الحروب وإن كان مشتركا بين الفريقين، فإن المؤمن يمتاز بما له من الرجاء عند ربه، بأنه ينتظر إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الجنة والثواب، فهذه الآية عود إلى بعث المؤمنين وحثهم على القتال بأسلوب إقناعي مستمد من الواقع. التفسير والبيان: ولا تضعفوا في قتال الأعداء ولا تتواكلوا، واستعدوا لقتالهم دائما بعد الفراغ من الصلاة، ولا تترددوا في خوض المعارك الفاصلة مع الأعداء بحجة ما يصيبكم من آلام القتل والجرح، فذلك أمر مشترك بين كل فريقين متحاربين لأنهم بشر مثلكم يتألمون ويصبرون، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى بالصبر؟! والحقيقة أنه لا يوجد لقتالهم هدف مقبول لأنهم على الباطل، والباطل في النهاية زائل، وأنتم على حق، ولم يعدهم الله بالنصر كما وعدكم، وليس لهم ثواب ولا ثمرة عائدة إليهم من قتالهم والله ضمن لكم الجنة، وليس عندهم ملجأ يستمدون منه النصر إلا الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، وأنتم بعبادتكم الله وحده تلجؤون إليه في طلب النصر والرحمة، وهو الذي بيده مفاتيح السموات والأرض، وبقدرته ومشيئته يتحقق النصر. وإنكم ترجون من الله ما لا يرجون من ظهور الدين الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل ونعيم الجنة.

فقه الحياة أو الأحكام:

والله تعالى وعدكم إحدى الحسنيين: النصر أو الجنة بالشهادة إذا أخلصتم النية، ونصرتم دين الله، ودافعتم عن حرماته. أما فاقد الأمل، اليائس من الآخرة، فإنه يكون عادة جبانا ضعيف العزيمة فاتر الهمة، يقاتل فقط تنفيذا للأوامر أو للعصبية، والعنصرية، والنزعة الجامحة في التفوق والسيادة على الأمم. وكان الله عليما حكيما، عليما بحالكم، حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فلا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته. فقه الحياة أو الأحكام: نظير هذه الآية: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران 3/ 140] ، وكلتا الآيتين تحضّان على القتال، والصبر في ميدان المعركة، والثبات أمام الأعداء، وتجنب الاستضعاف والتراخي وفتور الهمة والعزيمة. وفيهما إقناع بأدلة واقعية، فإن الحرب دمار وخراب وتقتيل وجراح وخسارة مال للفريقين المتحاربين، فإن كان المؤمنون يتألمون مما أصابهم من الجراح، فأعداؤهم يتألمون أيضا مما يصيبهم. ولكن للمؤمنين مزية: وهي أنهم يرجون النصر وثواب الله، وغيرهم لا يرجونه لأن من لا يؤمن بالله لا يرجو من الله شيئا، فينبغي أن تكونوا أرغب منهم في القتال. والله تعالى عليم بكل الأشياء وأحوال عباده المؤمنين، فلا يشرع لهم إلا ما فيه الحكمة البالغة والمصلحة المؤكدة، والنفع الثابت الدائم.

القضاء بالحق والعدل المطلق [سورة النساء (4) الآيات 105 إلى 113] :

القضاء بالحق والعدل المطلق [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

الإعراب:

الإعراب: بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكاف في إِلَيْكَ. بِما أَراكَ اللَّهُ أي أراكه الله، فالكاف المفعول الأول، والهاء المحذوفة: المفعول الثاني لأن «أرى» هنا تتعدى إلى مفعولين لأنها قلبية اعتقادية. ولا يجوز أن تكون «أرى» بمعنى «أعلم» لأن «أعلم يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس في الآية إلا مفعولان: الكاف والهاء. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها: للتنبيه في أنتم وأولاء، وهما مبتدأ وخبر. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً لم يقل: بهما لأن معنى قوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما: ومن يكسب أحد هذين الشيئين، ثم يرم به لأن «أو» لأحد الشيئين. البلاغة: يوجد جناس مغاير في يَخْتانُونَ .. خَوَّاناً وفي خَصِيماً.. اسْتَغْفِرِ وفي يَسْتَغْفِرِ .. غَفُوراً. ويوجد طباق السلب في يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ. المفردات اللغوية: بِما أَراكَ بما عرّفك وأوحى به إليك لِلْخائِنِينَ الذين يخونون الناس وأنفسهم بالسرقة وارتكاب المعاصي واتهام الآخرين بها. خَصِيماً مخاصما ومدافعا عنهم. وَلا تُجادِلْ الجدال: أشد أنواع المخاصمة. يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يخونونها بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم. خَوَّاناً كثير الخيانة. أَثِيماً مبالغا في ارتكاب الإثم. يَسْتَخْفُونَ يستترون من الناس حياء وخوفا. يُبَيِّتُونَ يضمرون ويدبرون. ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ من عزمهم على الحلف على نفي السرقة ورمي اليهودي بها. مُحِيطاً عالما بكل شيء، أي شاملا علمه الأشياء كلها. جادَلْتُمْ خاصمتم. وَكِيلًا مدافعا محاميا يتولى أمرهم ويذب عنهم، أي لا أحد يفعل ذلك. سُوءاً ذنبا يسوء به غيره. أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ يعمل ذنبا قاصرا عليه. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ منه أي يتب، والاستغفار: طلب المغفرة من الله مع الندم على الذنب والتوبة منه. إِثْماً ذنبا فإنما يكسبه على نفسه لأن وباله عليها ولا يضر غيره. خَطِيئَةً ذنبا صغيرا، والفرق بين الخطيئة والإثم: أن الخطيئة هي الذنب المتعمد أو غير المتعمد، أو الذنب الصغير. والإثم: الذنب المتعمد الملحوظ فيه أنه ذنب، أو أنه الذنب الكبير.

سبب النزول:

يَرْمِ بِهِ ينسبه إليه ويقذفه به. احْتَمَلَ تحمل أي كلف نفسه أن تحمل. بُهْتاناً البهتان: افتراء الكذب على غيرك، مما يجعله يتحير عند سماعه ويصطدم بما يبهته. لَهَمَّتْ أضمرت. أَنْ يُضِلُّوكَ أن يصرفوك عن القضاء بالحق بتلبيسه عليك. وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لأن وبال إضلالهم عليهم. ومن: زائدة. سبب النزول: روى الترمذي والحاكم وابن جرير عن قتادة بن النعمان: أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وكان رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعا لعمه كان وديعة عنده، وقد خبأها في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود، فالتمسوا الدرع عند طعمة، فلم يجدوها، وحلف بالله: ما أخذها وما له به من علم، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي، فأخذوها، فقال: دفعها إليّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود بذلك، ولكن طعمة أنكر ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي فهمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل وكان هواه معهم، وأن يعاقب اليهودي فنزلت. وهذا قول جماعة من المفسرين «1» . وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد، وسقط عليه حائط في سرقة، فمات. المناسبة: هذه الآيات استمرار في تحذير المؤمنين من المنافقين، والاستعداد لمجاهدتهم، ومن أخطر حالات الحذر: القضاء بين الناس، فعلى المؤمنين القضاء بالحق والعدل دون محاباة أحد.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 103

التفسير والبيان:

وقال العلماء: إن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول إلصاق تهمة السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، بدليل قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ. التفسير والبيان: أمر الله تعالى رسوله أن يقضي بين الناس بالحق والعدل دون محاباة أحد، ولا إلحاق ظلم بأحد ولو كان غير مسلم، فقال له: إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بالحق في خبره وطلبه وحكمه بتحقيق الحق وبيانه، لأجل أن تحكم بين الناس بما أوحى إليك وأعلمك من الأحكام، فتقضي بالوحي إن وجد، أو تقضي بالاجتهاد إن لم يوجد وحي صريح فاحكم بين الناس بشريعة الله، ولا تكن لمن خان نفسه مخاصما ومدافعا تدافع عنه، وترد من طالبه بالحق، أي لا تتهاون في تحري الحق تأثرا بقوة جدل خصم في الخصومة. وفي هذا دلالة- كما ذكر علماء الأصول- على أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بالاجتهاد، بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها» . وفي رواية الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست «1» ، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق

_ (1) درس الرسم: عفا.

أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها، انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكم صاحبه» . وفي رواية أبي داود من حديث أسامة بن زيد زيادة هي: «إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه» . ومن أجاز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهم الجمهور يقول: يجوز عليه الخطأ، لكنه لا يقر على الخطأ، بدليل هذه الحادثة، وحادثة قبول الفداء من أسارى بدر. واللام في قوله: لِلْخائِنِينَ للتعليل، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه. والخائنون: هم طعمة وقومه. واستغفر الله مما هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبت في شأنها، وعقاب اليهودي. والأمر بالاستغفار في هذا ونحوه لا يقدح في عصمة الأنبياء لأنه لم يكن منه إلا الهم، والهم لا يوصف بأنه ذنب، بل إن ذلك من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء. والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه حق، وإنما أحسن الظن بدفاع قوم طعمة، فبيّن الله تعالى له حقيقة الأمر، خلافا لما ظنه من غلبة الصدق على المسلم وغلبة الكذب على اليهودي. ثم رغب الله تعالى قوم طعمة وغيرهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً

أي إنه تعالى كثير المغفرة لمن استغفره، واسع الرحمة لمن استرحمه. ولا تجادل يا محمد عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم لأن ضررها عائد إليهم، أي لا تدافع عن هؤلاء الخونة، ولا تساعدهم عند التخاصم. إن الله يبغض كثير الخيانة معتاد الإثم أي ارتكاب الذنب واجتراح السيئة، ويحب أي يثيب أهل الأمانة والاستقامة. وجاء الكلام بصيغة المبالغة، لعلم الله بإفراط طعمة في الخيانة وركوب المآثم. وعبر بقوله: لِلْخائِنِينَ ويَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ مع أن السارق طعمة وحده لوجهين: أحدهما- أن بني ظفر قومه شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني- أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه «1» . ثم بيّن الله تعالى أحوال الخائنين وخصالهم المنكرة، فقال: إن شأن هؤلاء الخائنين أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب الجريمة إما حياء وإما خوفا، ولا يستترون ولا يستحيون من الله عالم الغيب والشهادة، الذي هو معهم أي عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عليه خاف من سرهم، إذ يدبرون ويزورون ما لا يرضى الله من القول، وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد اليهودي، ليسرق دونه، ويحلف بالبراءة. وكان الله محيطا بأعمالهم، حافظا لها، فلا أمل في نجاتهم من عقابه. قال الزمخشري: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء، والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة «2» .

_ (1) الكشاف: 1/ 423 (2) المرجع والمكان السابق.

ثم حذر الله المؤمنين من معاونة الخونة أو التعاطف معهم فقال: يا من جادلتم عن الخوانين، وحاولتم تبرئتهم في الدنيا، من يجادل الله عنهم يوم القيامة، حين يكون الحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم، ومن يجرأ أن يكون عنهم وكيلا بالخصومة (محاميا) ؟ فعلى المؤمنين مراقبة الله والاستعداد للجواب في ذلك الموقف الرهيب أمام الله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] . وبعبارة أخرى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة، إذا أخذهم الله بعذابه، ومن هو المستعد أن يكون عنهم وكيلا أي حافظا ومحاميا من بأس الله وانتقامه؟ وفي هذا توبيخ وتقريع لمن أرادوا مساعدة طعمة على اليهودي، وفيه دلالة أيضا على أن حكم الحاكم ينفذ في الظاهر فقط، لا في الباطن، أي لا يحل للمحكوم له الحرام، ولا يجيز له أن يأخذ شيئا علم أنه لا حق له فيه. ثم رغب الله تعالى في التوبة فقال: ومن يعمل ذنبا قبيحا يسوء به غيره، أو يظلم نفسه بمعصية كالحلف الكاذب، ثم يطلب من الله المغفرة على ذنبه، يجد الله غفورا للذنوب، رحيما بأهل العيوب، تفضلا منه وإحسانا. وفي ذلك ترغيب لطعمة وقومه بالتوبة والاستغفار، وبيان للمخرج من الذنب، وتحذير لأعداء الحق الذين يحاولون طمس الحقائق وهدم صرح العدل. ثم حذر الله تعالى من ارتكاب الذنوب والمعاصي بنحو عام فقال: ومن يرتكب ما يوجب الإثم من المعاصي، فإن إجرامه وعمله وبال على نفسه وضرر على شخصه، لا يتعدى إلى غيره لأنه هو الذي يعاقب على فعله. وكان الله تعالى وما يزال واسع العلم بأفعال الناس، فشرع لهم ما يمنعهم عن تجاوز شرائعه، وهو أيضا عظيم الحكمة بتشريعه العقاب لمرتكب الإثم.

ومن عظائم الجرائم أن يفعل الإنسان ذنبا خطأ بلا قصد أو مع علمه بأنه ذنب، ثم يتهم به شخصا بريئا، فهذا هو البهتان أي افتراء الكذب، ويكون مرتكبا جريمتين: كسبه الإثم الذي يجعله آثما، ورميه البريء الذي يصفه بأنه باهت. ثم أبان الله تعالى حمايته لنبيه فقال: ولولا فضل الله عليك ورحمته أي عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرهم، لهمت طائفة من بني ظفر أن يصرفوك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم. أي لولا فضل الله عليك بالنبوة، والتأييد بالعصمة، ورحمته لك، ببيان حقيقة الواقع، لهمت طائفة منهم أن يصرفوك عن الحكم العادل، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، إذ جاءك الوحي ببيان الحق. وهم في الحقيقة بانحرافهم عن طريق الحق والاستقامة لا يضلون إلا أنفسهم لأن الوزر عليهم فقط ووباله ملحق بهم، وهم لا يضرونك شيئا لأنك عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك، والله يعصمك من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم ومن كل مكروه. والله أنزل عليك الكتاب أي القرآن، والحكمة أي فقه مقاصد الشريعة وفهم أسرارها، وعلمك من الكتاب والشريعة، وإفهام الحقائق ما لم تكن تعلم قبل ذلك من خفيات الأمور، وضمائر القلوب، وأمور الدين والشريعة. وكان فضل الله عليك عظيما إذ أرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، وشهيدا عليهم يوم القيامة، وعصمك من الناس، وجعل أمتك أمة وسطا عدولا، فاشكر الله على ذلك، ولتشكر أمتك تلك النعم، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس، وقدوة حسنة للآخرين.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات طائفة من الأحكام: 1- تفويض الحكم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليقضي بين الناس بالحق والعدل حسبما علّمه الله وأوحى إليه، سواء بالنص الصريح أو بالاجتهاد والرأي المعتمد على أصول التشريع. 2- تأنيب طعمة بن أبيرق ومن آزره من قومه، وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشّر، وأسير بن عروة ابن عمّ لهم لأنهم تعاونوا معه على الباطل لتبرئته من تهمة السرقة: سرقة أدراع وطعام من رفاعة بن زيد في الليل، ومحاولة إلصاق التهمة بيهودي اسمه: زيد بن السمين. 3- القانون الذي يحكم به: هو بِما أَراكَ اللَّهُ معناه على قوانين الشرع إما بوحي ونصّ، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس، وهو يدل على جواز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى أنه في رأي القرطبي إذا رأى شيئا أصاب لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة فأما أحدنا إذا رأى شيئا فلا قطع فيما رآه. 4- دل قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً على أن النيابة أو الوكالة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محقّ، وقد نهى الله عز وجل في هذه الآية رسوله عن معاضدة أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة. 5- قال العلماء: لا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم، ليحموهم ويدافعوا عنهم فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم نزل قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وقوله: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ .

والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين، بدليل ما ذكر بعده: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره. 6- قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ دل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم قد يؤمرون بالاستغفار مما ليس ذنبا، كالهمّ بتقديم الدفوع عن بني أبيرق ومعاقبة اليهودي بقطع يده، وهو دفاع وعمل بالظاهر لاعتقاده براءتهم. وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» . وقيل: الأمر بالاستغفار للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله، على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب 33/ 1] ، فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس 10/ 94] . 7- قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ نهي صريح عن الدفاع عن الخونة، أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم. والمجادلة: المخاصمة. والله لا يرضى عن الخائن أو الخوّان- الذي هو من صيغ المبالغة لعظم قدر تلك الخيانة. 8- الإنسان قاصر النظر، محدود التفكير، سطحي المواقف: فتراه إذا حاول ارتكاب ذنب يستتر ويستحي من الناس، ولا يستتر ولا يستحي من الله، والله أحق أن نخشاه وأن نستحي منه لأن المصير إليه، وبيده وحده الجزاء. 9- الحقائق تنكشف بنحو واضح قاطع يوم القيامة في عالم الحساب بين

يدي الله: فإذا جادل الوكيل بالخصومة (المحامي) لتبرئة المتهم في الحياة الدنيا، فمن الذي يستطيع المرافعة والدفاع والجدال عن أهل الباطل يوم القيامة؟ وهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ. ومن يكون وكيلا عليهم، أي قائما بتدبير أمورهم؟ فالله تعالى قائم بتدبير خلقه، ولا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار. 10- باب التوبة للعصاة والمذنبين مفتوح: لقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية. 11- وبال الذنب وعاقبته على المذنب نفسه: لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً - أي ذنبا- فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ أي عاقبته عائدة عليه، وضرره راجع إليه لأنه المتضرر في الحقيقة في الدنيا بالتعرض للمصائب، وفي الآخرة لعذاب جهنم. والكسب: ما يجرّ به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا. ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا. 11- البهتان جريمة عظمي: وهو إلقاء التهمة واختلاق الكذب على البريء، أو هو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء. قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً فيه تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] . قال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم: أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد.

حالات النجوى الخيرة وعقاب معاداة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين (الإجماع) [سورة النساء (4) الآيات 114 إلى 115] :

12- إن محاولة إضلال النبي تبوء بالفشل: لعصمة الله إياه، ولفضله عليه ورحمته به، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ - بأن نبهك على الحق، أو بالنبوة والعصمة- لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ عن الحق لأنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها باليهودي، ولا يفعل هذا إلا منافق كما أوضحت، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبّهه على ذلك وأعلمه إياه. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله راجع عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لأنك معصوم. 13- أنزل الله على نبيه القرآن، والحكمة: القضاء بالوحي وفهم أسرار الشريعة وعلمه ما لم يكن يعلم من الشرائع والأحكام. حالات النجوى الخيّرة وعقاب معاداة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين (الإجماع) [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) الإعراب: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ: إن جعلت النجوى بمعنى المناجاة، كان

المفردات اللغوية:

مَنْ أَمَرَ في وضع نصب على الاستثناء المنقطع، وإن جعلت بمعنى الجماعة الذين يتناجون كان مِنْ في موضع جر على البدل من الهاء والميم في نَجْواهُمْ وهو بدل بعض من كل. المفردات اللغوية: نَجْواهُمْ النجوى: المسارّة بالحديث أو السر بين اثنين، أي لا خير في كثير من نجوى الناس أي ما يتناجون فيه ويتحدثون إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف (عمل بر) أو إصلاح بين الناس. ويصح كونه جمع نجي بمعنى جماعة المتناجين، أي المتسارّين أَوْ مَعْرُوفٍ ما يقره الشرع والعقل الصحيح وتتلقاه النفوس بالقبول ابْتِغاءَ طلب مَرْضاتِ اللَّهِ لا غيره من أمور الدنيا. وَمَنْ يُشاقِقِ يعادي ويخالف، كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق. سبب النزول: نزلت في تناجي أهل طعمة بن أبيرق ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وإلصاق تهمة السرقة باليهودي. وروي أن طعمة لما حكم عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقطع، هرب إلى مكة، وارتد عن الإسلام، ومات مشركا، فنزلت الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ... الآية. المناسبة: موضوع الآيتين متصل بما قبلهما وهو أمر الذين يختانون أنفسهم، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهم طعمة بن أبيرق ومساعدوه الذين تآمروا في السر لإيقاع البريء بالسرقة، فبيّن الله تعالى هنا أن كل حديث سري أو تدبير خفي أو مناجاة لا خير فيه إلا ما كان بقصد التعاون أو الأمر بالمعروف أو الإصلاح، ثم ذكر الله تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم واتباع غير سبيل جماعة المؤمنين جرم عظيم يستوجب دخول نار جهنم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: لا خير في كثير من كلام الناس وتناجيهم كجماعة طعمة إلا إذا كان التناجي في أحد أمور ثلاث: 1- الأمر بالصدقة لإعانة المحتاج ومواساة الفقير والمسكين. 2- الأمر بالمعروف: وهو ما تعارف عليه الشرع من كل ما فيه مصلحة عامة أو خير عام. 3- الإصلاح بين الناس في خصوماتهم ومنازعاتهم. وذلك كما جاء في حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلام ابن آدم كله عليه، لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر» وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا» وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» . وروى أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وروى أبو بكر البزار والبيهقي عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا» . وإنما قال: فِي كَثِيرٍ لأن من النجوى ما يكون في المباحات والمصالح الخاصة من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها، فلا توصف بالشر، ولا هي مقصودة من الخير. وإنما المراد بالنجوى الكثير المنفي عنها صفة الخير هي النجوى في شؤون الناس.

والله تعالى جعل النجوى مظنة الإثم والشر غالبا، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة 58/ 9] . وثبت عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يرويه مالك والشيخان: «إذا كان ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون واحد، فإن ذلك يحزنه» وهو ضرر، والضرر لا يحل بإجماع. والسبب في اتصاف النجوى بالشر كثيرا: أن العادة جرت بحب إظهار الخير، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر، وتتم المؤامرات سرا، قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس» «1» . وخيرية الأمور الثلاثة المذكورة في الآية إنما تكون في السر لا في الجهر لقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 271] . ثم ذكر الله تعالى الثواب المقرر على فعل تلك الأعمال الثلاثة فذكر: ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة، بقصد إرضاء الله وطاعة أمره، مخلصا في ذلك، محتسبا ثواب فعله عند الله عز وجل، فإن الله سيؤتيه ثوابا جزيلا كثيرا واسعا. وبعد هذا الوعد بالخير والجزاء الحسن على أحوال النجوى الخيّرة أوعد الله الذين يتناجون بالشر ويدبرون المكائد للناس ويعلنون اعتزالهم عن الجماعة ومعاداتهم الرسول، فقال: ومن يخالف الرسول ويعاديه، ويسلك غير طريق

_ (1) أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن عن وابصة بن معبد، ومطلعه: «البر: ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ... » .

فقه الحياة أو الأحكام:

الشريعة التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وسلّم بارتداده عن الإسلام، وإظهار عداوته لرسول الهداية وسنته، ويتبع سبيلا غير سبيل جماعة المؤمنين، يوله الله ما تولى، أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها، ومستحسنا لها استدراجا له، وتاركا له يتخبّط في مهاوي الضلالة، كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم 68/ 44] وقال: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 61/ 5] وقال: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 110] . ويجعل الله النار مصيره في الآخرة، وساء المصير مصيره لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] وقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 53] . وفي هذا إشارة واضحة إلى أن من يتجه بنفسه في طريقة أو وجهة يتوجه إليها ويرضاها لنفسه، يتركه الله وشأنه، ويكون عقابه أمرا منتظرا وعادلا لاختياره طريق الشر، وبعده عن منهج الاستقامة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي: 1- لا خير في كثير من نجوى الناس سرا، أو من كلام الجماعة المنفردة أو كلام الاثنين، سواء كان ذلك سرا أو جهرا إلا نجوى ثلاثة: من أمر بصدقة، ففيها عون الفقير والمسكين والمحتاج الذي لا يطلع على حاجته إلا القليل من الناس. ومن أمر بالمعروف، والمعروف: لفظ يعم أعمال البرّ كلّها، قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف: أن تلقى أخاك بوجه طلق» «1» وقال

_ (1) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله.

أيضا: «المعروف كاسمه، وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله» ومن أمر بإصلاح بين الناس، والإصلاح عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع الاختلاف فيه بين الناس، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. فأما من طلب الرياء والترؤس، فلا ينال الثواب. كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «ردّ الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورّث بينهم الضغائن» . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وهذه الآية نظير قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات 49/ 9] الآية، وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء 4/ 128] وقوله عن الحكمين: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [النساء 4/ 35] . 2- إن معاداة الرسول ومخالفته وترك الإسلام أو الردة عنه، ومخالفة طريق المسلمين تحجب عن مرتكبها عناية الله ورعايته، وتجعله يتخبط في دياجير الظلام والضلال، وتجعله مقودا بنفسه وهواه، وتوجب له الدخول في نار جهنم، وساءت مصيرا يصير إليه هذا المنحرف. ونظير هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة 58/ 20] يعني أن يصير في حد غير حد الرسول وهو مباينته في الاعتقاد والديانة. 3- قال العلماء وعلى رأسهم الإمام الشافعي: في قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.. دليل على صحة القول بالإجماع، أي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي لأنه تعالى قرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة، لإلحاقه

الشرك وعاقبته والشيطان وشروره وجزاء الإيمان والعمل الصالح [سورة النساء (4) الآيات 116 إلى 122] :

الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين «1» . 4- قوله: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى إخبار عن براءة الله منه، وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان والأديان الباطلة، واعتضد به، ولا يتولى الله نصره ومعونته «2» . 5- قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى تغليظ في الزجر عنه، وتقبيح لحاله وتبيين للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم «3» . الشرك وعاقبته والشيطان وشروره وجزاء الإيمان والعمل الصالح [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 386، أحكام القرآن للجصاص: 2/ 281 (2) الجصاص: المرجع والمكان السابق. (3) الجصاص: المكان السابق. [.....]

الإعراب:

الإعراب: أُولئِكَ مبتدأ. مَأْواهُمْ مبتدأ ثان. جَهَنَّمُ خبر المبتدأ الثاني، والجملة خير الأول. البلاغة يوجد جناس مغاير في ضَلَّ ... ضَلالًا وفي خَسِرَ ... خُسْراناً. المفردات اللغوية: إِنْ يَدْعُونَ إن نافية بمعنى ما أي ما يعبد المشركون أو يتوجهون ويطلبون المعونة، وهذا نوع من العبادة إِلَّا إِناثاً أصناما مؤنثة كاللات والعزى ومناة. وَإِنْ يَدْعُونَ ما يعبدون بعبادتها إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً متمرنا على الخبث، خارجا عن الطاعة، لطاعتهم له فيها وهو إبليس، والشيطان: هو الخبيث المؤذي من الجن والإنس. والمراد من قوله: مَرِيداً أنه مرن على الإغواء والإضلال، أو تمرد واستكبر عن الطاعة، فالمريد: العاتي المتمرد. لَعَنَهُ اللَّهُ أبعده عن رحمته وطرده مع السخط والإهانة. لَأَتَّخِذَنَّ لأجعلن لي. نَصِيباً حظا. مَفْرُوضاً مقطوعا أو معينا ثابتا أدعوهم إلى طاعتي. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق بالوسوسة ولأدفعنهم إلى الضلال والفساد. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ألقي في قلوبهم طول الحياة أن لا بعث ولا حساب، وأزين لهم الأماني الباطلة. فَلَيُبَتِّكُنَّ يقطعن آذان الأنعام لأجل تمييزها وتخصيصها للآلهة. فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ دينه بالكفر، وإحلال ما حرم وتحريم ما أحل. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا يتولاه ويطيعه. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. خُسْراناً مُبِيناً بينا، لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.

المناسبة:

يَعِدُهُمْ طول العمر وَيُمَنِّيهِمْ نيل الآمال في الدنيا وأن لا بعث ولا جزاء. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ بذلك إِلَّا غُرُوراً باطلا. مَحِيصاً مهربا ومخلصا ومعدلا بذلك. المناسبة: الآية الأولى متصلة بما قبلها في قصة طعمة الذي ارتد، فإنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله، فإن كل ذنب قابل للمغفرة إلا ذنب الشرك. قال العلماء عن آية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء 4/ 115] وعن آية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقطع، وهرب إلى مكة وارتد. قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة، فلحقه المشركون فقتلوه فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة، وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ والمشاقة: المعاداة. والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره، فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين «1» . وأما الآيات التي بعدها فمناسبة لما قبلها، ففي هذه الآيات عقد الله تعالى مقارنة بين جريمة الشرك وخطرها، وأعمال الشيطان ولعنته وعقابه، والإيمان والعمل الصالح وجزائهما لأن الشيطان يدعو إلى الشرك وعبادة الأوثان، وفي مواجهة ذلك صرح الإيمان الراسخ الذي لا يتأثر أهله بنزعات الشياطين في أصل الاعتقاد، وإن تأثروا أحيانا بها في بعض أعمال الشر، وهذا تحذير وترغيب.

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 385

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إن الله لا يغفر الشرك بالله أصلا، ولا لمن يشرك به أحدا سواه، ولكنه قد يغفر ما دون الشرك من الذنوب، فلا يعذبهم عليه، ومن يشرك بالله شيئا، فقد ضل وبعد عن سبيل الرشاد ضلالا بعيدا في مهاوي الغواية، وسلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة وفاتته السعادة فيهما لأن الشرك ضلال يفسد العقل، ويكدّر صفاء الروح، ويكون المشرك عبدا للأوهام والخرافات. فالشرك: هو منتهى فساد الروح وضلال العقول، ووكر الخرافات والأباطيل، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة 2/ 165] . وقد تقدم إيراد هذه الآية، وأعيدت هنا تأكيدا لاقتلاع آثار الشرك من النفوس المريضة، ودحض الشرك وهدم طقوسه من مقاصد الإسلام الأساسية، فهو الواجهة المضادة أصلا لعقيدة الإسلام: عقيدة التوحيد. ولا عيب في هذا التكرار للتأكد من غرس الإيمان بالله، والتحذير من مغبة الشرك وخطره وخروجه عن أساس الفطرة ومقتضيات العقل السليم. روى الترمذي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ثم قال الترمذي: هذا حسن غريب. ومغفرة ما دون الشرك من الذنوب بسبب بقاء نور الإيمان، وهو مشروط بمشيئة الله، فهو يغفر لمن يشاء من عباده، كما يغفر بالتوبة والإنابة إليه، فذلك سبيل محو الذنوب. وأما أولئك المشركون فهم لا يعبدون أو لا يتوجهون بقضاء حوائجهم إلا إلى

الأموات أو الموتى التي لا تضر ولا تنفع، أو إلى الأصنام الإناث «1» كاللات والعزى ومناة، فقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه: أنثى بني فلان، أو إلى الملائكة الذين يقول عنهم المشركون بنات الله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف 43/ 19] . وهم في الواقع ما يعبدون إلا شيطانا عاتيا مرد على الإيذاء وتمرن على الخبائث إذ هو الذي أمرهم بعبادتها، فكانت طاعتهم له عبادة. لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده من رحمته وفضله مع الذل والهوان، فإنه داعية الشر والفساد والباطل بما يوسوس في صدر الإنسان. ومن غلو الشيطان ودعوته إلى الفساد أنه أقسم: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي لأجعلن تلامذة لي جزءا معينا مقدرا معلوما من الناس، مثل قوله تعالى حكاية عنه: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر 15/ 39- 40] . ولأضلّنهم، أي أصرفنهم عن الحق، وعن الاعتقاد الصحيح. ولأمنينّهم، أي أزين لهم اللذات وترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغريهم من أنفسهم. ولآمرنهن بالضلال فليقطّعن آذان الأنعام، أي تشقيقها ووسمها وجعلها متميزة خالصة للأصنام، كالبحيرة التي يتركون الحمل عليها، والسائبة الناقة التي يسيبونها للأصنام إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضعيف، والوصيلة التي ولدت جديا وعناقا، فيقولون: وصلت

_ (1) قال الحسن: الإناث: كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس.

أخاها، فلا يذبحون أخاها من أجلها، ولا تشرب لبنها النساء، وكان للرجال، وجرت مجرى السائبة. ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله بخصي الدواب، والوشم في الوجه ونحوهما مما فيه تشوية الفطرة وتغييرها عما فطرت عليه، ثبت في الصحيح عند أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل» ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 59/ 7] . وقال جماعة من المفسرين: تغيير خلق الله معناه دين الله عز وجل، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] وكما ثبت في الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تولد البهيمة جمعاء، هل تجدون بها من جدعاء» «1» . ومن يتخذ الشيطان وليا يتولى أمره وإماما يقتدي به، فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة، بل إنه خسرهما في الواقع، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها، وأي خسران أعظم من ترك هدي القرآن واتباع أساليب الشيطان؟! الشيطان يعد أولياءه الباطل، ويمنيهم بما هو كاذب، يعدهم بالفقر والمرض والتخلف عن ركب التقدم إذا أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله، ويعدهم الغنى والثروة بالقمار مثلا، ويمنيهم بأنهم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك.

_ (1) الجمعاء: السليمة الأعضاء، والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة.

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا يغترون به، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء كالزنى والقمار وشرب الخمر، وهي مشتملة على كثير من المضار والشرور والآلام، كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم القيامة: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم 14/ 22] . أولئك المستحسنون لما وعدهم الشيطان ومنّاهم مصيرهم ومآلهم جهنم يوم القيامة، ولا يجدون عنها مهربا يفرون إليه، أي ليس لهم مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، يتهافتون فيها تهافت الفراش على النار. ثم ذكر الله تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال: والذين آمنوا: صدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ورضوا بقضائه، وعملوا الصالحات، أي الأعمال الطيبة وما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات، سيدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار بما اشتملت عليه من ألوان النعيم المقيم، ويصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا، وهم ماكثون مقيمون فيها على الدوام، بلا زوال ولا انتقال، وذلك هو الفوز العظيم الأسمى الذي تطمح إليه النفوس. وهو وعد حق لا شك فيه، أي هذا وعد من الله، ووعد الله واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله «حقا» فهو القادر على كل شيء، وهو الواسع الكرم والرحمة والفضل، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور. ثم قال الله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي لا أحد أصدق منه قولا، أي خبرا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته فيما رواه الترمذي وغيره: «إن أصدق

فقه الحياة أو الأحكام:

الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» . فقه الحياة أو الأحكام: في الآيات دلالة على ما يأتي: 1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ رد على الخوارج حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد ذكرت حديثا عن علي أن هذه الآية أحب آي القرآن لديه. وأجمع المالكية وغيرهم من أهل السنة على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب، فإنه إن عذب بالنار، فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول أو بابتداء رحمة من الله تعالى. وقال الضحاك: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. 2- وصف الله الأصنام بالإناث إيماء إلى الضعف، فقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً نزل في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام، وهي إناث كاللات والعزّى ومناة، وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، فخرج الكلام مخرج التعجب لأن الأنثى من كل جنس أخسه، فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا، فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى. وقيل: إِلَّا إِناثاً مواتا لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر. وقيل: إِلَّا إِناثاً ملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله.

3- إطاعة الشيطان عبادة له: فقوله تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً يريد إبليس لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم، فقد عبدوه. ونظيره في المعنى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] أي أطاعوهم فيما أمروهم به، لا أنهم عبدوهم. 4- اللعنة على إبليس: هي في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، ولعنة الله على إبليس على التعيين جائزة، وكذلك على سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل، فيجوز لعن الكفار جملة من غير تعيين، جزاء على الكفر وإظهار قبح كفرهم، ويجوز أيضا لعن الظالمين، لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود 11/ 18] ويجوز إجماعا لعن العاصي مطلقا لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده» وهذا كله دون تعيين. 5- تلامذة الشيطان هم الكفرة والعصاة، فهؤلاء الذين يستخلصهم الشيطان بغوايته، ويضلهم بإضلاله. وفي الخبر: «من كل ألف واحد لله، والباقي للشيطان» وبعث النار الذي أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم: هو نصيب الشيطان. 6- وسائل الشيطان: هي الإضلال (الصرف عن طريق الهدى) وزرع التمنيات الباطلة طوال الحياة بإمهال الخير والتوبة، والمعرفة مع الإصرار على المعصية، وتقطيع آذان الأنعام وجعل علامات عليها للأصنام، وتغيير أصل الخلقة تغييرا حسيا كالخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان ونحو ذلك مما فيه تعذيب الحيوان، أو تغييرا معنويا كتغيير الاعتقاد، والتحريم والتحليل بالطغيان. أخرج مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» .

ولما كان هذا التغيير من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود عن علي في الأضاحي- «أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحّي بعوراء ولا مقابلة، ولا مدابرة ولا خرقاء، ولا شرقاء» «1» فلم يجز مالك والشافعي وجماعة الفقهاء الأضحية بمقطوعة الأذن أو جلّ الأذن، أو السكاء: وهي التي خلقت بلا أذن. وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من العلماء إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره، وأجاز الجمهور أن يضحى بالخصي. وأما الخصاء في الآدمي فحرام، لما فيه من ألم عظيم ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، وهو مثلة نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومؤد إلى قطع النسل المأمور به في قوله عليه السلام فيما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال مرسلا: «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة» . والوسم والإشعار في الحيوان من أجل تمييزها عن غيرها مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان. والوسم: الكي بالنار، ثبت في صحيح مسلم عن أنس قال: «رأيت في يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك، حتى يعرف كل مال، فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره» . والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه لأنه مقر الحسن والجمال، ولأن به يقوّم الحيوان، ولما روى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه» . ومن حالات التغيير الممنوعة حديث ابن مسعود المتقدم في الواشمة

_ (1) أن نستشرف: نتأمل سلامة العين والأذن من آفة تكون بهما، وآفة العين: عورها، وآفة الأذن: قطعها. والمقابلة: المقطوعة طرف الأذن، والمدابرة: المقطوعة مؤخر الأذن، والشرقاء: مشقوقة الأذن، والخرقاء: التي تخرق أذنها السّمة.

والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة. فهو نص في تحريم الوشم: وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور (دخان الشحم) فيخضر. وهو نص أيضا في تحريم وصل الشعر. 7- إطاعة الشيطان خسارة: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يطيعه ويدع أمر الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه، وتركه من أجله. 8- وعود الشيطان وأمنياته كاذبة وخديعة: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً المعنى يعدهم أباطيله وترّهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير، وكل ذلك خديعة وتغرير. قال ابن عرفة: الغرور: ما رأيت له ظاهرا تحبّه، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور لأنه يحمل على محابّ النفس، ووراء ذلك ما يسوء. 9- عقاب الطائعين للشيطان جهنم: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ملجأ. 10- ثواب المؤمنين العاملين الصالحات والخيرات: جنات الخلد التي تجري من تحتها الأنهار، وذلك يرمز لكل ألوان النعيم المقيم، وأصناف المشتهيات، وطمأنينة النفس، وراحة البال، والسعادة الأبدية. ومن أصدق من الله قيلا أي لا أحد أصدق قولا ووعدا من الله تعالى.

استحقاق الجنة ليس بالأماني والعبرة في الجزاء بالعمل شرا أو خيرا [سورة النساء (4) الآيات 123 إلى 126] :

استحقاق الجنة ليس بالأماني والعبرة في الجزاء بالعمل شرا أو خيرا [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) الإعراب: وَهُوَ مُحْسِنٌ مبتدأ وخبر في موضع الحال. البلاغة: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ استعارة، استعار الوجه للقصد والجهة. ويوجد جناس مغاير في أَحْسَنُ.. مُحْسِنٌ. المفردات اللغوية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ليس الأمر منوطا بالأماني، بل بالعمل الصالح. والأماني جمع أمنية: وهي تمني الشيء المحبوب مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ إما في الآخرة أو في الدنيا بالبلاء والمحن، كما

سبب النزول نزول الآية (123) :

ورد في الحديث. مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره وَلِيًّا يتولى أمره ويحفظه ويدفع العقاب عنه وَلا نَصِيراً ينصره، ويمنعه منه وينقذه مما يحل به. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النقير والنقرة: النكتة التي تكون في ظهر النواة، ويضرب بها المثل في القلة أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي انقاد وأخلص عمله وَهُوَ مُحْسِنٌ عامل للحسنات تارك للسيئات وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ديانته الموافقة لملة الإسلام. حَنِيفاً مائلا عن الزيغ والضلال، أي مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق القيم. خَلِيلًا صفيا خالص المحبة له وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا مُحِيطاً أي عالما بالأشياء مع القدرة عليها، ولم يزل متصفا بذلك. سبب النزول: نزول الآية (123) : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: إنا لا نبعث، فأنزل الله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. وأخرج ابن جرير الطبري عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، فأنزل الله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. وأخرج الطبري أيضا عن مسروق قال: لما نزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب: وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ. المناسبة: لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة دور الشيطان في إلقاء الأماني الكاذبة، وكان لهذا تأثير في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين، ناسب بيان أثر الأماني، وفضل العمل وجزائه.

التفسير والبيان:

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى. وذكر مثله عن قتادة. التفسير والبيان: ليس الأمر منوطا بالأماني منكم أيها المسلمون، ولا أنتم أهل الكتاب، ولكن الجزاء منوط بالعمل، فليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله عز وجل واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا: «ليس الإيمان التمني، لكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل» وقال الحسن: «إن قوما غرّتهم المغفرة، فخرجوا من الدنيا وهم مملوؤون بالذنوب، ولو صدقوا لأحسنوا العمل» . فمن يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء أثر للعمل، مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 8] ، روى الإمام أحمد عن أبي بكر بن زهير قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملنا جزينا به فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تنصب- تتعب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء- الشدة؟» قال: بلى، قال: «فهو مما تجزون به» .

وروى سعيد بن منصور وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: لما نزلت: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها» . هذا الحديث وأمثاله يدل على أن الأمراض والبلايا والمصائب في الدنيا، وهمومها ومخاوفها، يكفر الله بها الخطايا. ومن يعمل السوء لا يجد له غير الله وليا يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به، وإنما المدار على الإيمان والأعمال، لا على الأماني والأحلام. وفي مقابل ذلك ومن أجل المقارنة والعدل: من يعمل صالحا يصلح به نفسه، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى، وهو صادق الإيمان، فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر، يدخلون الجنة، ولا يظلمون شيئا من أجور الأعمال، ولو كان العمل تافها قليلا جدا كالنقير. فسبيل الجنة والسعادة هو العمل الصالح مع الإيمان، وطريق النار هو العمل السيء، ولا ينفع الافتخار بالانتساب إلى ملة أو فئة أو نبي، من غير اتباع لشرع الله ودينه. ثم أردف الله تعالى بذكر درجات الكمال فقال: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم قلبه مخلصا لله وحده، ولم يتجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، وجعل نفسه سالمة لله لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه، وقد عبر عن توجه القلب والقصد بإسلام الوجه لأن الوجه مرآة لما في القلب، وهو مع هذا الإخلاص القلبي والإيمان الذاتي الكامل، محسن للعمل أي عامل للحسنات، تارك للسيئات، متصف بفضائل الأخلاق والخصال، ومتبع ملة إبراهيم في حنيفيته بالميل عن الشرك

والتبرؤ من الوثنية وأهلها، ملتزم الدين الحق وهو دين الإسلام، كما قال تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف 43/ 26- 27] وقال: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة 2/ 135] . وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة اعتراضية مجاز، مفادها أن الله اصطفى إبراهيم واختصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، ومن كانت له هذه المنزلة من الزلفى عند الله بأن اتخذه خليلا، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته. أي أن الله امتن على إبراهيم بسلامة الفطرة والاعتقاد، وقوة العقل وصفاء الروح، وكمال المعرفة بالله، وشدة العزيمة وعلو الهمة في محاربة الوثنية والشرك، حتى صار من أولي العزم، فهو خليل الرحمن، عدو الشيطان. ثم ذكر الله تعالى ما هو العلة والدافع على الطاعة فقال: جميع ما في السموات والأرض ملك الله وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك، لا رادّ لما قضى، ولا معقّب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته، وعلمه محيط مع القدرة كل شيء، ونافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومن كان عالما بأعمال عباده فهو مجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها. فهذه الآية متصلة بذكر العمال الصالحين والطالحين، والمعنى: أن له ملك السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم، فهو تعالى مستحق التوجه إليه في كل شيء، حتى من إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، لما يتصف به من القدرة الشاملة على الكون وإنجاز ما وعد وأوعد.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي من التوجيهات والأحكام: 1- لا تعلق لأحد بالآمال والتمنيات، وإنما الجزاء منوط بالعمل. فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد. وأهل الصلاح وليهم وناصرهم هو الله، وأهل الضلال والفساد وليهم الشيطان، والشيطان أعجز من أن يدفع عن نفسه عذاب الله، فكيف يدفعه عمن غررهم في الحياة الدنيا؟! وليس للمشركين ولي يتولى أمورهم ولا ناصر ينصرهم، أي أن الآية إن حملت على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير من دون الله. 2- لا تقبل الأعمال الحسنة من غير إيمان: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. الآية، فالإيمان شرط أساسي إذ هو قاعدة البناء الديني لأن المشركين قاموا بخدمة الكعبة، وإطعام الحجيج وقرى الضيف، وأهل الكتاب لهم سبق، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولكن لم ينفع الجميع عملهم الصالح من غير إيمان، عملا بمقتضى هذه الآية. 3- تفضيل دين الإسلام على سائر الأديان لقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ.. الآية. ومعنى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص دينه لله، وخضع له، وتوجه إليه بالعبادة. ورأى بعضهم أن معنى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي موحد، فلا يدخل فيه أهل الكتاب لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة: الدين. والحنيف: المسلم. 4- إبراهيم خليل الله: قال الزمخشري «1» : مجاز عن اصطفائه واختصاصه

_ (1) الكشاف: 1/ 426

بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل: المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقك، أو يسد خللك كما تسد خلله. قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خللا إلا ملأته. وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل: معناه الاختصاص، أي اختص إبراهيم في وقته للرسالة. وعلى كل حال، ليس في اتخاذ الله إبراهيم خليلا شيء من المقاربة في حقيقة الذات والصفات. وسبب اتخاذه خليلا إما لإطعامه الطعام أو لأنه التزم أن يكون خادما للرب حتى يموت، وعن القاسم بن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا له خليل، ألا وإن خليلي أبو بكر» «1» . 5- الله مالك السموات والأرض وخالقهما. ومعنى الآية وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هنا أنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالّته، ولا للتكثير به والاعتضاد، وكيف وله ما في السموات وما في الأرض، وإنما أكرمه لامتثاله لأمره. 6- سعة علم الله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي أحاط علمه بكل الأشياء.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 104- 105، أخرج الحديث الطبراني عن أبي أمامة، وهو ضعيف.

رعاية اليتامى والصلح بين الزوجين بسبب النشوز والعدل بين النساء [سورة النساء (4) الآيات 127 إلى 130] :

رعاية اليتامى والصلح بين الزوجين بسبب النشوز والعدل بين النساء [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) الإعراب: ما يُتْلى في موضع رفع لأنه معطوف على اسم الله تعالى، أي الله يفتيكم والمتلو. ولا يجوز أن يكون معطوفا على ضمير فِيهِنَّ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور، وأجازه الكوفيون. والأولى أن تكون «ما» اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك، أي يفتيكم فيهن أيضا. فِي الْكِتابِ صلة يتلى، وكذلك: فِي

البلاغة:

يَتامَى النِّساءِ . اللَّاتِي في موضع جر صفة ليتامى ولا تُؤْتُونَهُنَّ إلى قوله: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ: في صلة اللاتي. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ: مجرور لأنه معطوف على يَتامَى النِّساءِ، وكذلك قوله: وَأَنْ تَقُومُوا في موضع جر عطفا على الْمُسْتَضْعَفِينَ. والتقدير: يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، وأن تقوموا لليتامى بالقسط وَإِنِ امْرَأَةٌ مرفوع بفعل يفسره: خافت أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً: صلحا: منصوب على المصدر على تقدير: فيصلح الأمر صلحا. البلاغة: يوجد جناس مغاير في يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.. وَالصُّلْحُ وفي تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ. فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ تشبيه مرسل مجمل. المفردات اللغوية: وَيَسْتَفْتُونَكَ يطلبون منك الفتيا فِي النِّساءِ في شأن النساء وميراثهن يُفْتِيكُمْ يبين لكم ما أشكل عليكم ما كُتِبَ لَهُنَّ أي فرض لهن من ميراث وصداق وَأَنْ تَقُومُوا أي تعنوا عناية خاصة بهن بِالْقِسْطِ بالعدل في الميراث والمهر فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم به خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقعت من زوجها ما تكره نُشُوزاً ترفعا وتكبرا عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها أَوْ إِعْراضاً عنها بوجهه أي ميلا وانحرافا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً في القسم والنفقة، بأن تترك له شيئا، طلبا لبقاء الصحبة، فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة والنشوز والإعراض وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ شدة البخل أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها، أي جبلت مطبوعة عليه، فكأنها حاضرته لا تغيب عنه، المعنى أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها، والرجل لا يكاد يسمح لها بنفسه إذا أحب غيرها. وَإِنْ تُحْسِنُوا عشرة النساء وَتَتَّقُوا الجور عليهن فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به أَنْ تَعْدِلُوا تسووا بَيْنَ النِّساءِ في المحبة ولو حرصتم على ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى التي تحبونها في القسم والنفقة فَتَذَرُوها أي تتركوا الممال عنها كَالْمُعَلَّقَةِ التي ليست مطلقة ولا هي ذات زوج أو بعل. وَإِنْ تُصْلِحُوا بالعدل بالقسم وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لما في قلبكم من الميل رَحِيماً بكم في ذلك. مِنْ سَعَتِهِ أي فضله وغناه بأن يرزقها زوجا غيره ويرزقه غيرها وَكانَ اللَّهُ واسِعاً لخلقه في الفضل حَكِيماً فيما دبره لهم.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (127) : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ: روى البخاري عن عائشة في هذه الآية قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في مالها حتى في العذق (النخلة بحملها) فيرغب عن أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا، فيشركه في مالها، فيعضلها (يمنعها عن الزواج) فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: كان لجابر بنت عم دميمة، ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت. سبب نزول الآية (128) : وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ: روى الترمذي عن ابن عباس أنها نزلت بسبب سودة بنت زمعة، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا تطلّقني وأمسكني، واجعل يومي منك لعائشة، ففعل، فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً فما اصطلحا عليه فهو جائز. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود والحاكم عن عائشة مثل ذلك. وروى ابن عيينة وسعيد بن منصور عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك، ونزلت: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ. وله شاهد موصول أخرجه الحاكم من طريق ابن المسيب عن رافع بن خديج. وروى البخاري والحاكم عن عائشة رضي الله عنها: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ

المناسبة:

بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية. المناسبة: اشتملت السورة على موضوعين عامين: كان أولهما في أحكام النساء واليتامى والقرابة والإرث والمصاهرة، ثم أبانت بدءا من قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا أسس الدين، وأحوال أهل الكتاب والمنافقين، والقتال. ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء واليتامى الضعفاء، وتوطيد دعائم الرابطة الزوجية بالإصلاح، وبالعدل بين الزوجات حال التعدد. التفسير والبيان: ويستفتونك يا محمد في شأن النساء وحقوقهن الشاملة للميراث وحقوق الزواج، أي المالية والزوجية، كالعدل في المعاملة، والعشرة الطيبة وعلاج حالة النشوز. قل: الله يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمورهن، وكذلك يوضح لكم أحكاما أخرى في المتلو عليكم في القرآن من أول السورة، كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث، وإيتاء أموال الأيتام بقوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 2] والتحرج من الزواج باليتيمات: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ.. [النساء 4/ 3] . فقد جرت عادتكم القبيحة ألا تعطوهن ما كتب (فرض) لهن من الإرث إذا كان في أيديكم، لولايتكم عليهن، وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. ويحتمل: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال: تزوجها، فأنت أحق بها. هذا مع العلم أنه كان الرجل منهم يضم اليتيمة

ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيدفنها. والمستضعفين: معطوف على يتامى النساء، أي وما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد الذين لا تعطونهم حقهم في الميراث المنصوص عليه في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وقد كانوا في الجاهلية إنما يورّثون الرجال القوامين بالأمور دون الأطفال والنساء. ويصح في حال العطف على يتامى النساء أن يكون العامل هو يفتيكم بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. والخلاصة: إن الله يذكّر بحق الضعيفين: المرأة والطفل اليتيم، سواء بالآيات السابقة ليتدبروا معناها ويعملوا بما فيها، لتغافلهم عنها، أو بالإفتاء المجدد فيهما عدا المذكور سابقا. وَأَنْ تَقُومُوا أي والله يفتيكم أيضا بأن تعاملوا اليتامى بالعدل، وأن تعنوا بشؤونهم عناية خاصة. ويجوز كما ذكر الزمخشري أن يكون قوله وَأَنْ تَقُومُوا منصوبا بفعل مقدر وهو: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يدعوا أحدا يظلمهم أو يهضم حقوقهم. وما تفعلوا من خير قليل أو كثير لليتامى والضعفاء والنساء، فإن الله به عليم، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. وهذا تهييج على فعل الخيرات وامتثال الأوامر، وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه. ثم أخبر الله تعالى عن طرق علاج الخلاف بين الزوجين، وذكر أحوالا ثلاثة: حال نفور الرجل عن المرأة، وحال اتفاقه معها، وحال فراقه لها.

فالحالة الأولى:

فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غيرها من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها شيئا من مالها له، ولا عليه في قبوله منها. والخوف هنا مستعمل في حقيقته بشرط ظهور أمارات تدل عليه. ومعنى الآية في هذه الحالة: إن توقعت المرأة من زوجها نشوزا وترفعا عليها بأمارات وقرائن، كأن منعها نفسه ونفقته ولم يعاملها بالود والرحمة، أو آذاها بسبّ أو ضرب ونحو ذلك، أو أعرض عنها بأن أحجم عن محادثتها ومؤانستها لسوء في الطبع والخلق، أو لطعن في السن، أو دمامة أو ملال لها أو طموح إلى غيرها، ففي هذه الأحوال لا بأس من اللجوء إلى الإصلاح بينهما، بالتنازل عن بعض حقوقها أو كل حقوقها، لتبقى في عصمته، أو تمنحه شيئا من مالها ليطلقها وهو عوض الخلع: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. ولكن ليذكر الزوجان دائما ما أقامه الله بينهما من عاطفة الود والرحمة كما قال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21] . وقد ذكرت في أسباب النزول أكثر من حالة لبعض النسوة في صدر الإسلام، تنازلت الزوجة عن حقها في القسم لضرتها، أو اكتفت بالمبيت كل شهرين، على أن تبقى لديه ولا يطلقها. والحالة الثانية: وهي حالة الاتفاق بين الزوجين المعبر عنه بالصلح: أي أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية. ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق، قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفراق

والتسريح، أو من النشوز والإعراض، وسوء العشرة، أو هو خير من الخصومة في كل شيء، حفاظا على الرابطة الزوجية، ومنعا من هدم كيان الأسرة وإلحاق الضرر بالأولاد، ولأن الطلاق أبغض الحلال إلى الله «1» ، وكل ذلك يوجب العودة إلى المعاشرة بالمعروف والمعاملة بالعدل. وهذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. أي لقد استطرد القرآن إلى بيان طبيعة في النفوس: وهي الحرص على البخل، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة، وعلى الزوج أيضا، وعلى حقها المالي في المهر ونفقة العدة، وكذا الرجال حريصون على أموالهم أيضا وعلى كراهة تهديم الأسرة، فيكون التسامح والتصالح خيرا للطرفين، ما دام بهذا الطبع، والصلح عند المشاحة خير من الفراق. ومعنى الصلح: أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعرفت مكان عائشة من قلبه، فوهبت لها يومها، كما روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد، فقالت: لا تطلقني، ودعني أقوم على ولدي، وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح، فهو أحب إلي، فأقرها «2» . ومن حالات الصلح أن تهب له بعض المهر أو كله، أو النفقة، فإن لم تفعل، فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها. وإن تحسنوا البقاء مع نسائكم وإن كرهتموهن، وتصبروا على ما تكرهون،

_ (1، 2) روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . الكشاف: 1/ 427

مراعاة لحق الصحبة، وتحسنوا المعاشرة فيما بينكم وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة، فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا عليما لا يخفى عليه شيء، فيجازيكم ويثيبكم عليه. كان عمران بن حطّان الخارجي من أدمّ بني آدم، وامرأته من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوما، ثم تابعت: الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين «1» . ثم بين الله تعالى أن تمام العدل وكماله وغايته في معاملة النساء محال، فخفف الله التكليف بالعدل التام، وطالب الرجال بقدر الاستطاعة، فقال: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ لأن العدل في المعاملة يشمل أمورا مادية وغير مادية، أما المادية فهي كالمبيت والنفقة والكسوة، وأما غير المادية فهي كالحب والميل وغير ذلك مما يرجع إلى الشعور النفسي، وأحاسيس النفس يصعب كبحها. فكلف الله ما يستطيعه الرجال وهو العدل المادي، ورفع عنهم الحرج فيما لا يستطيعونه من الحب والاشتهاء وأحوال الجبلّة البشرية، كما هو الشأن في سائر التكاليف، فإن الحب والبغض ونحوهما لسنا مكلفين به. ولكن الله جعل التكليف بالمستطاع في معاملة النساء مشروطا بأن يبذلوا ما فيه ولوسعهم وطاقتهم لأن تكليف ما لا يستطاع داخل في حد الظلم، وما ربك بظلام للعبيد.

_ (1) الكشاف: 1/ 428

والحالة الثالثة:

وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول فيما رواه أصحاب السنن الأربع عن عائشة: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور، فتمنعوها قسمتها من غير رضا منها، يعني أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة، فلا تفرطوا فيه، وإن وقع منكم التفريط في العدل كله، وفيه نوع من التوبيخ، فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية. فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي فتبقى هذه الأخرى أو المرأة المرغوب عنها كالمعلّقة، لا هي مطلقة ولا هي متزوجة، بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها وحفظ حقوقها. روى الإمام أحمد وأهل السنن وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وأحد شقّيه ساقط» . وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا.. أي وإن أصلحتم أموركم وقسمتم بالعدل، وتبتم عن الميل والجور، واتقيتم الله في المستقبل في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل في الماضي إلى بعض النساء دون بعض، وكان شأن الله دائما المغفرة للمقصرين والرحمة بعباده التائبين الراجعين إليه. والحالة الثالثة: وهي حالة الفراق: أخبر الله تعالى أنه إذا تفرّق الزّوجان لاستعصاء الحلول والعلاج والتوفيق والمصالحة بينهما، فإن الله يغني الرّجل عنها، ويغنيها عنه، بأن يعوّضه الله من هو خير له منها، ويعوّضها عنه بمن هو خير لها منه، وكان الله واسع الفضل، عظيم المنّ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الاستفتاء في الدّين أمر مطلوب شرعا لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] ، والآية (127) نزلت للجواب عن الاستفتاء فيما يجب للنساء وما يجب عليهنّ مطلقا، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنّساء، سواء في الميراث وغير ذلك. والمراد بقوله: ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهنّ من الميراث أو الصّداق أو النّكاح وما يعم ذلك كله وغيره. وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: معناه أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية، ذكر أن الله يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدّمة مثل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى (الآية 3) أحالهم فيه إلى تلك الآيات، وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون. وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب، إذ يصح القول: إن كتاب الله بيّن كذا، وإن كتاب الله أفتى بكذا. واحتجّ بعض الحنفية بقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ على أنه يجوز لغير الأب والجدّ تزويج الصغيرة لأن الله ذكر الرغبة في نكاحها، فاقتضى جوازه. وقال الشافعية: إن الله ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذّم، فلا دلالة فيها على ذلك، على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهنّ فعله في حال الصّغر. والخلاصة: إن الآية ترغّب في الإحسان ليتامى النساء بالميراث والصداق والنكاح وغير ذلك، كما ترغب وتأمر بالإحسان إلى الولدان الضعفاء الصغار،

ردّا على ما كان عليه أهل الجاهلية، إذ كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء، وتأمر أيضا بمعاملة اليتامى بالعدل. وختمت الآية بما يؤكد الأوامر السابقة، فأعلنت: وما تفعلوه من خير يتعلق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم، فإن الله يجازيكم عليه، ولا يضيع عنده منه شيء. ومن الأحكام التي أخبر الله تعالى أنه يفتيهم بها في النساء: علاج حالة النشوز أو الإعراض من الرجل عن زوجته، والإعراض: الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، مثل أن يقلل محادثتها أو مؤانستها لكبر سنّ أو دمامة أو عيب خلقي أو ملال. والإعراض أخفّ من النّشوز. والعلاج بالصّلح بأن تترك له المرأة يومها، كما فعلت سودة رضي الله عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب له من نفقة أو كسوة أو تهب له شيئا من مهرها، أو تعطيه مالا لتستعطفه وتستديم المقام معه. ولا يكون أخذ الرجل شيئا من مال الزوجة بالصلح أكلا بالباطل أو أخذا بالإكراه إذا كان هناك عذر حقيقي مما تقدّم، دون اتّخاذ الأعذار ذريعة أو حيلة لأخذ المال، فإن لم يكن هناك مسوغ مقبول شرعا، ولكنه تظاهر بالنشوز والإعراض، كان أخذ المال حراما. والسبب في أنه تعالى أجاز للرجل أخذ شيء من مال المرأة حال النشوز الحاصل منه، وجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء 4/ 34] : السبب أن الله تعالى جعل للرجال درجة القوامة على النساء، فليس للمرؤوس معاقبة رئيسه، وأن الله فضّل الرجال على النساء في العقل والدين وتحمل التكاليف الشاقة، والتفضيل يقتضي ألا يكون نشوز الرجل إلا لسبب قاهر، أما المرأة لغلبة عواطفها عليها ونقصان عقلها ودينها

فيكثر منها النشوز لأتفه الأسباب، ثم إن للرجل حقّ مفارقة المرأة بالطلاق دون العكس، فلا يكون لها سبيل عليه إذا بدت منه أمارات الفرقة وعلامات الكراهية. ودلّ قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ على أن أنواع الصّلح كلها مباحة في هذه المسألة بإعطاء أحدهما للآخر مالا، أو بتنازل المرأة عن حقّها في المبيت مطلقا أو لمدة معينة أو لفترة طويلة. بل إن الآية تدلّ على جواز الصّلح في غير أحوال النزاع بين الزوجين إلا ما خصّه الدّليل، وهو يدلّ على جواز الصّلح عن إنكار والصّلح من المجهول، كما قال الجصاص «1» لأن وقوع الجملة اعتراضا وجريانها مجرى الأمثال، مما يرجّح كون اللفظ عاما. وقال القرطبي أيضا: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق يقتضي أن الصّلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى الصّلح بين الرّجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك «2» . وأخبر الله تعالى بقوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ بأن الشّحّ في كلّ أحد، وأن الإنسان لا بدّ أن يشحّ بحكم خلقته وجبلّته، حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. والشّح إذا أدّى إلى منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة. ودلّ قوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا وهو خطاب للأزواج على أن للزوج أن يشحّ ولا يحسن، أي إن تحسنوا وتتّقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهنّ مع كراهيتكم لصحبتهنّ واتّقاء ظلمهنّ فهو أفضل لكم. أما العدل المرفوع من دائرة التكاليف فهو الذي لا يخضع لسلطة الإنسان

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 283 (2) تفسير القرطبي: 5/ 406

وإرادته، وإنما يكون من أمور الجبلّة البشرية التي لم يكلّفنا الله عزّ وجلّ بشيء منها كالحبّ والكراهية، فهذا غير مستطاع، وهو داخل في تمام العدل وكماله، وهو الذي أخبر تعالى عنه أنه محال، قال أئمة التفسير من السّلف الصالح كابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم: إن العدل الذي أخبر الله عنه أنه غير مستطاع: هو التّسوية بين الزوجات في الحبّ القلبي وميل الطباع، ومعلوم أن ذلك غير مقدور. فالعدل المقصود في هذه الآية هو العدل في المحبّة القلبية فقط، وإلا لتعارضت الآية مع الآية السابقة: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى.... وأما العدل المأمور به الذي جعل شرطا في جواز تعدد الزوجات أو الجمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه المكلف، ويملكه، مثل التسوية بينهن في القسم والنفقة والكسوة والسكنى وما يتبع ذلك من كل ما يملك ويقدر عليه. ويترتب عليه أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة، فإنها لا تملك، وكانت عائشة رضي الله عنها كما تقدّم أحبّ نسائه إليه صلّى الله عليه وسلّم. وأخذ منه أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه موقوف على المحبة والميل، وهي بيد مقلّب القلوب. ولكن لا يصح اتّخاذ الميل سببا للظلم، لقوله تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة، لأن هذا مما يستطاع. وينبغي صون كرامة المرأة واحترام شخصيتها وعدم إلجائها إلى الانحراف، لقوله تعالى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا هي مطلّقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه بالشيء المعلّق من شيء لأنه لا على الأرض استقرّ، ولا على ما علّق عليه انحمل.

لله حقيقة الملك في الكون وكمال القدرة والمشيئة وثواب الدنيا والآخرة للمجاهد [سورة النساء (4) الآيات 131 إلى 134] :

وبعد أن رغّب الله في الصلح بين الزوجين وحثّ عليه، ذكر في قوله: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ جواز الفرقة إذا لم يكن منها بدّ، وطيّب الله خاطر كلّ من الزوجين، ووعد كلّ واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر، إذا كان القصد من الفرقة هو التّخوّف من ترك حقوق الله التي أوجبها، فليحسنا الظنّ بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقرّ بها عينه، وللمرأة من يوسّع عليها. وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنّكاح، فذهب الرجل وتزوّج، ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطّلاق فسئل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنّكاح لعله من أهل هذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور 24/ 32] ، فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «1» . ثم ختم الله الآية بأنه كان وما يزال غنيّا كافيا للخلق، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه. وهذا نصّ صريح على أن الله هو مصدر الرزق والغنى والسعة، وأنه متكفّل بأرزاق العباد، وأن حكمته سامية عالية في كلّ شيء خلقا وإبداعا، وتشريعا وحكما، وتصرّفا وجزاء. لله حقيقة الملك في الكون وكمال القدرة والمشيئة وثواب الدّنيا والآخرة للمجاهد [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 408

الإعراب:

الإعراب: مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وإياكم: ضمير منفصل منصوب عطفا على الَّذِينَ وهو مفعول وصينا، والتقدير: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب وإياكم بأن اتّقوا الله. وحذف حرف الجر من أَنِ. أو تكون أَنِ المفسّرة لأن التوصية في معنى القول. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أمرنا اليهود والنصارى في كتبهم، والكتاب: اسم جنس يتناول الكتب السماوية. وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن. اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوه. وَإِنْ تَكْفُرُوا وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا بما وصيتم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا فلا يضرّه كفركم. وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن خلقه وعن عبادتهم. حَمِيداً محمودا في صنعه بهم، سواء حمده الناس أو لم يحمدوه. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كرر الجملة تأكيدا لتقرير موجب التقوى وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قيّما حافظا شهيدا بأن ما فيهما له. المناسبة: لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان إلى اليتامى والضعفاء، أوضح أنه ما أمر بهذه الأفعال لحاجته إلى أعمال العباد لأن كلّ ما في السموات والأرض ملكه،

التفسير والبيان:

فهو غنيّ عنهم وقادر على إغنائهم، ولكن ليحمل العباد على أعمال الخير والبرّ. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما، وأن جميع ما فيهما لله ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا وعبيدا، له الحكم المطلق. ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم بما أمرناكم، ووصيناهم بما وصيناكم به من تقوى الله عزّ وجلّ بعبادته وحده لا شريك له، وإقامة سننه وشريعته. وإن تكفروا نعم الله وإحسانه، فإن الله مالك الملك لا يضرّه كفركم وعصيانكم، كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد أوصى بهما لرحمته، لا لحاجته. وقوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتَّقُوا لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله الملك، والمعنى- كما قال الزمخشري «1» -: إن لله الخلق كله، وهو خالقهم ومالكهم، والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقّه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصيّ، يتّقون عقابه، ويرجون ثوابه، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتّقوا الله، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لستم بها مخصوصين لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة، وقلنا لهم ولكم: وإن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحّده ويعبده ويتّقيه. وكان الله بذاته غنيّا عن خلقه وعن كل شيء وعن عبادتهم جميعا، مستحقّا لأن يحمد بذاته وكمال صفاته لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم، قال الله

_ (1) الكشاف: 1/ 428- 429

سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذّاريات 51/ 57- 58] . ثمّ كرر القول للتأكيد: ولله ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا يتصرّف فيهما كيف شاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، وكفى بالله وكيلا، أي قيّما وحافظا وكفيلا لأمور العباد في أرزاقهم وسائر شؤونهم. قال الزمخشري: تكرير قوله: ما في السموات وما في الأرض: تقرير لما هو موجب تقواه، ليتّقوه فيطيعوه ولا يعصوه لأن الخشية والتّقوى أصل الخير كله «1» . ثم هدّد تهديدا عامّا صريحا فقال: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين، أي إن يرد إفناءكم وإيجاد قوم آخرين بدلا عنكم، فهو قادر على ذلك لأن كل شيء في السموات والأرض تحت قبضته وخاضع لسلطانه، وكان الله على ذلك من الإعدام والإيجاد بليغ القدرة، لا يمتنع عليه شيء أراده. وهذا غضب على المشركين الذين كانوا يؤذون النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويقاومون دعوته، وتخويف وبيان لاقتداره على الإذهاب والتّبديل إذا عصيتموه، كما قال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد 47/ 38] ، قال بعض السّلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم 14/ 19- 20] أي وما هو عليه بممتنع. ثم قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا ... أي من كان بسعيه وعمله

_ (1) المرجع السابق: ص 429

فقه الحياة أو الأحكام:

وجهاده يريد ثواب الدّنيا أي نعيمها بالمال والجاه ونحوهما، فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة، كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة، فما له يطلبها فقط وهي خسيسة، بل عليه أن يطلب خيري الدّنيا والآخرة، فيأخذ الغنيمة وينال الجنة إن جاهد لله خالصا، والمعنى: فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة له إن أراده، فعليه أن يرجو ثوابهما معا. وفي هذا إيماء إلى أن الدين يهدي أهله لسعادتي الدّنيا والآخرة، وأن تلك الهداية من فضله تعالى ورحمته، ولو استقام المسلمون على أوامر ربّهم وهدي دستورهم لظلّوا سادة العالم. وهي نظير قوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة 2/ 200- 202] ، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] ، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ- إلى قوله- انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء 17/ 18- 21] . ثم ختم الله الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي كان الله وما يزال سميعا لأقوال عباده، بصيرا بكل قصد وعمل، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال. فقه الحياة أو الأحكام: المستفاد من هذه الآيات هو معرفة ثوابت الأخبار الدائمة في الوحي الإلهي منذ بدء الخليقة، وفي كل ملة ودين، ولكل العاملين والمجاهدين في سبيل الله، وهي ما يأتي: 1- لله ملك السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وسلطانا.

2- الأمر بالتقوى بامتثال الأوامر الإلهية واجتناب النواهي عام لجميع الأمم. قال بعض العارفين عن آية وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ..: هذه الآية هي رحى آي القرآن لأن جميعه يدور عليها. 3- الله تعالى لا تضره معصية العباد وكفرهم، ولا تنفعه طاعتهم وإيمانهم. ولقد كرر قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ في الآية (131) مرتين، ثم في الآية (132) : إما تأكيدا، ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه، وأنه غني عن العالمين، أو كرره لفوائد: فأخبر أولا أن الله تعالى يغني كلا من سعته (رزقه) لأن له ما في السموات وما في الأرض، فلا تنفد خزائنه. ثم قال ثانيا: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى، وإن تكفروا فإنه غني عنكم لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم ثالثا بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لأن له ما في السموات وما في الأرض. وقال: ما فِي السَّماواتِ ولم يقل: من في السموات لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل. والخلاصة: كان التكرار لترسيخ الاعتقاد بأن كل شيء من سعة الله، وللإعلان عن غنى الله المطلق فلا يتضرر بكفر العباد، ولبيان قيام الله بحفظ خلقه وتدبيره إياهم. 4- لله المشيئة المطلقة والقدرة الكاملة في إذهاب المشركين والمنافقين وكل العصاة، والإتيان بآخرين هم أطوع لله من الموجودين. وفي الآية: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة، فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه، ولا ينصح الناس، من أن يذهبه ويأتي بغيره. والقدرة صفة أزلية لله تعالى، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى

العدل في القضاء والشهادة بحق والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية [سورة النساء (4) الآيات 135 إلى 136] :

معلوماته، والماضي في قوله مثلا: وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً والمستقبل في صفاته بمعنى واحد. وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه حديث في ذاته وصفاته. والقدرة: هي التي يكون بها الفعل، ولا يجوز وجود العجز معها. 5- من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة، آتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله تعالى، كما قال سبحانه: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] . وقال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود 11/ 16] وهذا على أن يكون المراد بالآية: المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري «1» . والحق كما ذكر ابن كثير: أن الآية عامة ومعناها ظاهر، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة «2» . العدل في القضاء والشهادة بحق والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية [سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

_ (1) تفسير الطبري: 5/ 205، تفسير القرطبي: 5/ 410 [.....] (2) تفسير ابن كثير: 1/ 565

الإعراب:

الإعراب: شُهَداءَ منصوب إما لأنه صفة قوامين، أو حال من ضمير قوامين. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما: إنما قال: بهما، ولم يقل: به لأن أَوِ لأحد الشيئين لأربعة وجوه: الأول- أنه محمول على المعنى، والمعنى: إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين فالله أولى بهما. الثاني- أنه لما كان المعنى: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير، رد الضمير إليهما. الثالث- إنما رد الضمير إليهما لأنه لم يقصد غنيا بعينه ولا فقيرا بعينه. الرابع- أن أَوِ بمعنى الواو، والواو لإيجاب الجمع بين الشيئين أو الأشياء، فلهذا قال: أولى بهما. وأو بمعنى الواو في مذهب الأخفش والكوفيين. أَنْ تَعْدِلُوا أن: في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لئلا تعدلوا، أو تكون في موضع نصب على تقدير: كراهة أن تعدلوا، كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلوا. وَإِنْ تَلْوُوا بواوين: أصله تلويوا على وزن تفعلوا، من لويت، فنقلت الضمة من الياء إلى ما قبلها، فبقيت الياء ساكنة، وواو الجمع ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فبقي: تلووا ووزنه تفعوا. البلاغة: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مبالغة أي مبالغين في إقامة العدل. غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً طباق. آمَنُوا آمِنُوا جناس ناقص لتغير الشكل. ضَلَّ ضَلالًا جناس مغاير.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ صيغة مبالغة أي قائمين بالعدل على أتم وجه شُهَداءَ لِلَّهِ أي شاهدين بالحق لوجه الله وحده وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولو كانت الشهادة على أنفسكم، فاشهدوا بالحق عليها، بأن تقروا به ولا تكتموه فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم وأعلم بمصالحهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه، أو الفقير رحمة به. أَنْ تَعْدِلُوا أن لا تعدلوا أي تميلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا تحرفوا ألسنتكم بالشهادة. وفي قراءة بحذف الواو الأولى تخفيفا أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها أي لا تؤدوها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به. سبب النزول: نزول الآية (135) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان: غني وفقير، وكان صلّى الله عليه وسلّم مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير. المناسبة: هذا أمر عام بالقسط بين الناس، جاء عقب الأمر بالقسط في اليتامى والنساء في آية الاستفتاء لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام ودوام الملك لا يتم إلا به، فالعدل أساس الملك الدائم. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يقوموا بالعدل، فلا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن يتعاونوا ويتعاضدوا فيه. يا أيها المؤمنون كونوا مبالغين بإقامة العدل، والعدل عام شامل الحكم بين الناس من الحكام، والعمل في أي مجال، وفي الأسرة، فيسوي الحاكم أو الوالي أو الموظف بين الناس في الأحكام والمجالس وقضاء

الحوائج، كما يسوي كل صاحب عمل بين عماله، وكما يسوي الرجل بين زوجاته وأولاده في المعاملة والهبة. وكونوا شاهدين بالحق لله، بأن تتحروا الحق الذي يرضي الله، وتؤدوا الشهادة ابتغاء وجه الله، لتكون الشهادة صحيحة عادلة حقا من غير مراعاة أحد ولا محاباة. اشهدوا بالحق المجرد ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وعاد ضررها عليكم، بأن تقروا بالحق ولا تكتمونه، ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق. واشهدوا بالحق أيضا ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقارب وعاد ضررها عليهم لأن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير الله، بل البر والصلة والطاعة في الحق والمعروف. ولا تراعوا غنيا لغناه، أو ترحموا فقيرا لفقره، بل اتركوا الأمر لله، فالله يتولى أمرهما، وأولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما. ولا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل، إذ في الهوى الزلل، أو فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال، كما قال الله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] . وإن تلووا ألسنتكم أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، والليّ: هو التحريف وتعمد الكذب، قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [آل عمران 3/ 78] أو تعرضوا عن أداء الشهادة، والإعراض: هو كتمان الشهادة وتركها، قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة 2/ 283] وقال النبي

فيما رواه مسلم عن زيد بن خالد الجهني صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير الشهداء: هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها. وإن تلووا أو تعرضوا فالله خبير بأعمالكم، وسيجازيكم بذلك. وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها، والشهادة يكثر فيها الغش والاحتيال واللف والدوران. فليحذر المخالفون. ثم أمر الله بالإيمان به وبرسوله وبالكتب التي أنزلها، فإن كان هذا خطابا للمؤمنين فمعناه اثبتوا على ذلك وداوموا واستمروا عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه، وكما قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد 57/ 28] . وهذا رأي ابن كثير والقرطبي «1» . وقوله: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن، وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة. وإن كان الخطاب لمؤمني أهل الكتاب فيراد به الأمر بالإيمان بالنبي محمد وبالقرآن، كالأنبياء السابقين والكتب المنزلة قبل القرآن. فقد روي أن هذا خطاب لمؤمني اليهود. قال ابن عباس وكذا الكلبي: «إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام، ويامين بن يامين، إذ أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت، قال: فآمنوا كلهم» «2» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 566، تفسير القرطبي: 5/ 415 (2) الكشاف: 1/ 430، أسباب النزول للواحدي: ص 106

فقه الحياة أو الأحكام:

وقال في القرآن: نَزَّلَ لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، ولهذا قال تعالى: وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. ثم توعد الله من كفر بعد الأمر بالإيمان فذكر: ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله، أو اليوم الآخر، فقد ضل أي خرج عن طريق الهدى والحق، وبعد عن المطلوب كل البعد. ومن فرّق بين كتب الله ورسله، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى فلا يعتد بإيمانه ولا يعترف به لأن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل، ولو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه كما كفر بمحمد المبشر به عندهم. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات أصول الحكم أو القضاء بين الناس على أساس من العدل، وأداء الشهادة بالحق، وأصول التدين والإيمان الصحيح بالتصديق بجميع أنبياء الله ورسله الكرام، دون تفرقة بين أحد من رسل الله. أما الآية الأولى فهي آمرة أمرا صريحا قاطعا بشيئين: الأول- المبالغة في إقامة العدل والتعاون فيه دون تهيب ولا انحراف ولا تردد في القضاء به إذ بالعدل قامت السموات والأرض. ولقد كان السلف الصالح مضرب المثل في التزام شريعة العدل في كل الأقضية حتى مع الأعداء، ولو كان المسلمون هم المقضي عليهم، ولهم في ذلك روائع الأمثال والقصص، منها: أن عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه، وبغضي

لكم، على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. الثاني- أداء الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ولأنه أحق أن يتبع، ولأن الاستعلاء على مصالح النفس ومراعاة حظوظها هو أمارة الإيمان الصحيح بالله، ولأن بر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب إنما يكونان ضمن دائرة الحق والمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فالشهادة ينبغي أن تكون خالصة لله أي لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه، فيقر الإنسان بالحق لأهله، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه، وبهذا أدب الله عز وجل المؤمنين، كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم. ولا حاجة لمراعاة غني أو فقير، فالله وحده يتولى أمورهما، وهو أولى بكل واحد منهما. واتباع الهوى مرد أي مهلك، قال الله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص 38/ 26] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، قال الشعبي: أخذ الله عز وجل على الحكّام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا. وإن التحريف في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين، وعدم قول الحق فيها، والإعراض عن أداء الحق فيها، والظلم في القضاء، كل ذلك مدعاة إلى الجزاء والعقاب الشديد، كما وضح من التهديد المذكور في ختام الآية: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي فمجازيكم بذلك. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل. وفي الحديث: «ليّ الواجد

يحلّ عرضه وعقوبته» «1» واللي: المطل، والواجد: الغني المليء، وعرضه: شكايته، وعقوبته: حبسه. وذكر الفقهاء بعض الأمور المتعلقة بالشهادة للوالدين أو على الوالدين فقالوا: لا خلاف في أن شهادة الولد على الوالدين (الأب والأم) ماضية ومقبولة، ولا يمنع ذلك من برّهما، بل من برّهما أن يشهد عليهما، ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] . وأما الشهادة للوالدين أو شهادتهما للأولاد ففيها خلاف: قال الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة وأصحابه. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق والمزني. وأجاز الشافعي شهادة الزوجين بعضهما لبعض لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية، وهو معرّض للزوال، والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص، فبقي ما عدا المخصوص على الأصل. وأجيب بأن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، وتتواصل منافع الأملاك بين الزوجين، فالتهمة قوية ظاهرة. وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت،

_ (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد.

صفات المنافقين وجزاؤهم ومواقفهم من المؤمنين [سورة النساء (4) الآيات 137 إلى 141] :

وأجازها لغيرهم» قال الخطابي: ذو الغمر: هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة. والقانع: هو المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم مثل الأجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد الشهادة: التهمة في جر المنفعة إلى نفسه، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا، فشهادته مردودة. والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجرّ به النفع، لما جبل عليه من حبه والميل إليه. وممن ترد شهادته عند مالك: البدوي على القرويّ، لما روى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» . وأما الآية الثانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا فالظاهر أنها نزلت في جميع المؤمنين، والمعنى: يا أيها الذين صدّقوا أقيموا على تصديقكم واثبتوا عليه، وصدقوا بالقرآن وبكل كتاب أنزل على النبيين. وقيل: إنه خطاب للمنافقين والمعنى على هذا: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل: المراد المشركون والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزّى والطاغوت آمنوا بالله، أي صدّقوا بالله وبكتبه. وقيل: نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء عليهم السلام. صفات المنافقين وجزاؤهم ومواقفهم من المؤمنين [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 141] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

الإعراب:

الإعراب: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ بدل أو نعت المنافقين. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: إنما قال: جميعا بالتذكير، ولم يقل جمعاء بالتأنيث لأن العزة في معنى العز. وجَمِيعاً حال منصوب، والتقدير: فإن العزة لله تعالى كائنة في حال اجتماعهما. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بدل من الذي قبله. أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ أن: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه، وهي مع الفعل في تأويل المصدر مفعول: نزل، على من قرأها بالفتح، وفي موضع نائب فاعل على قراءة من قرأ نزّل بضم النون والتشديد. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي أمثالهم، وقد يأتي مثل أيضا للاثنين والجماعة، كما يأتي للواحد، قال الله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا. البلاغة: آمَنُوا ... كَفَرُوا طباق

المفردات اللغوية:

جامِعُ.. جَمِيعاً جناس اشتقاق. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أسلوب تهكمي، لاستعمال لفظ البشارة مكان الإنذار تهكما. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ استفهام إنكاري، قصد منه التقريع والتوبيخ. المفردات اللغوية: بَشِّرِ يا محمد أي أنذر، واستعمل البشارة مكان الإنذار تهكما عَذاباً أَلِيماً مؤلما هو عذاب النار أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أولياء جمع ولي: وهو الناصر والمعين، واتخذوهم أولياء لما يتوهمون فيهم من القوة. أَيَبْتَغُونَ يطلبون، أي لا يجدونها عندهم. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً في الدنيا والآخرة ولا ينالها إلا أولياؤه وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ القرآن آياتِ اللَّهِ القرآن فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ أي مع الكافرين والمستهزئين. حَتَّى يَخُوضُوا يتحدثوا بحديث آخر. يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون بكم الدوائر، أي ينتظرون وقوع أمر بكم. فَتْحٌ ظفر وغنيمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدين والجهاد، فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نصيب من الظفر عليكم أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نستول عليكم ونقدر على أخذكم وقتلكم، فأبقينا عليكم، والمراد: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم، فأبقينا عليكم. وَنَمْنَعْكُمْ وأ لم نمنعكم من المؤمنين أن يظفروا بكم بتخذيلهم ومراسلتكم بأخبارهم، فلنا عليكم المنّة. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبينهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن يدخلكم الجنة، ويدخلهم النار. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا طريقا بالاستئصال في الدنيا، قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة «1» ، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر 40/ 51] . المناسبة: لما أمر الله في الآية السابقة بالإيمان بالله والرسول والكتب المنزلة، ناسب أن يذكر صنفين خارجين عن الإيمان: الصنف الأول- وهم الذين آمنوا في الظاهر نفاقا ثم عادوا إلى الكفر وماتوا على ضلالهم، فلا توبة لهم بعد الموت ولا يغفر الله

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 567

التفسير والبيان:

لهم. والصنف الثاني- وهم جماعة المنافقين الذين بقوا متظاهرين بالإسلام وتعاطفوا مع الكفار، وهؤلاء لهم عذاب مؤلم في نار جهنم. التفسير والبيان: إن هؤلاء الذين أعلنوا إيمانهم، ثم عادوا إلى الكفر، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم تغالوا وتمادوا في الكفر، ثم ماتوا على كفرهم، فلا مغفرة لهم، ولن يهتدوا إلى الخير. أي إن الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، وفقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان، ولم يحاولوا الثبات على الهداية، لن يظفروا أبدا بمغفرة الله ورحمته وإحسانه ورضوانه، ولن يهتدوا بعد هذا التردد إلى الجنة وما فيها من خير وفلاح وسعادة، إذ لم تحدث منهم توبة في حال الحياة، وظلوا على كفرهم وطغيانهم ومعاداتهم للإسلام حتى الموت. بشر أي أنذر يا محمد المنافقين من هؤلاء وغيرهم الذين كانوا يميلون مع الكفرة ويوالونهم بالعذاب المؤلم الذي لا يعرف قدره في نار جهنم. ومن صفاتهم أنهم كانوا يتخذون الكافرين أولياء وأنصارا وأعوانا، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها، ظنا منهم أن الغلبة ستكون للكافرين، ولم يدروا أن العاقبة للمتقين لأن الله معهم. ثم أنكر الله عليهم ووبخهم فذكر أنهم إن كانوا بذلك يطلبون العزة أي القوة والمنعة عند هؤلاء، فقد أخطئوا لأن العزة لله في الدنيا والآخرة، وهو يؤتيها من يشاء، والمراد أن العزة تكون في النهاية لأولياء الله الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] قال ابن عباس: يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ يريد بني قينقاع، فإن ابن أبيّ كان يواليهم.

ثم نهى الله المؤمنين جميعا سواء كانوا صادقي الإيمان أو متظاهرين به وهم المنافقون عن الجلوس في مجالس الكافرين الذين يستهزئون بآيات الله، فلا تسمعوا لهؤلاء ولا تقعدوا معهم حتى يتكلموا في حديث آخر، فإنكم إن قعدتم معهم، كنتم شركاء لهم في الكفر لرضاكم بكلامهم. وهذا مثل قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام 6/ 68] وسبب النهي أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم، فيستهزءون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم، كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة، وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم: إنكم إذا مثل الأحبار في الكفر. وفي هذا إيماء إلى أن الساكت عن المنكر شريك في الإثم. ثم أوضح الله تعالى عاقبة الجميع، فقرر أن الله تعالى جامع المنافقين والكافرين جميعا في جهنم، يعني القاعدين والمقعود معهم، فإنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا، سيجتمعون في العقاب يوم القيامة لأن من رضي بالشيء حكمه حكم المرتكب له تماما. ثم بيّن الله تعالى بعض أحوال المنافقين: وهي أنهم ينتظرون ما يحدث للمؤمنين من خير أو شر. فإن كان للمؤمنين نصر من الله وفتح أو غنيمة، قالوا زاعمين: إنا كنا معكم مؤيدين ومظاهرين، فأسهموا لنا في الغنيمة، وشاركونا في القسمة المستحقة لنا. وإن كان للكافرين نصيب من الظفر، كما حصل يوم أحد، قالوا لهم: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم، فأبقينا عليكم، وكنا عونا لكم على المؤمنين نمنعهم

فقه الحياة أو الأحكام:

عنكم بأن ثبّطناهم عنكم، وألقينا في قلوبهم الرعب والخوف، فأحجموا عن قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم. والسبب في تسمية ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا: هو تعظيم شأن المسلمين، وتخسيس حظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دني، ولمظة من الدنيا يصيبونها، كما قال الزمخشري «1» . ثم حسم الله الموقف بين المؤمنين والمنافقين فقال: فالله يحكم بينكم أيها المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون، يوم القيامة، فيجازي كلا على عمله، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل المنافقين النار. ثم قطع الله تعالى أي أمل يتعلق به الواهمون المنافقون فقال: ولن يمكّن الله الكافرين من استئصال شأفة المؤمنين بالكلية ما داموا متمسكين بشرع الله ودينه، وإن حصل لهم ظفر أحيانا فهو نصر موقوت لأن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم 30/ 47] إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إذا آمن الكافر غفر له كفره السابق، فإذا رجع فكفر، لم يغفر له الكفر الأول، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أمّا من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية

_ (1) الكشاف: 1/ 431

والإسلام» وفي رواية: «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» والإساءة هنا بمعنى الكفر إذ لا يصح أن يراد هنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله، إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلى حين موته، وذلك باطل بالإجماع «1» . 2- في هذه الآية وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا رد على أهل القدر فإن الله تعالى بيّن أنه لا يهدي الكافرين طريق خير، ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا. 3- تضمنت الآية أيضا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا حكم المرتدين، وأن الردة تحبط الأعمال. 4- العذاب الأليم مستحق للمنافقين لا محالة بإخبار الله تعالى، وخبر الله لا يتغير. 5- قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.. فيه دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق لأنه لا يتولى الكفار. وتضمنت الآية المنع من موالاة الكفار، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقاتل معه، فقال له: «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» . «2» 6- العزة أي الغلبة والقوة الحقيقية التامة لله عز وجل. 7- يحرم الجلوس في مجالس الكفرة الذين يستهزئون بآيات الله (القرآن)

_ (1) دليل الإجماع قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 8/ 38] والحديث الذي رواه مسلم عن عمرو بن العاص بلفظ «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» . (2) رواه أحمد وأبو داود عن عائشة بلفظ: «إنا لا نستعين بمشرك» .

والخطاب في قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ.. عام لجميع من أظهر الإيمان من محقّ ومنافق لأنه إذا أظهر الإيمان، فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله. وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن. ودل قوله تعالى: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ- أي غير الكفر- إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم، حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي، فتجنب أهل البدع والأهواء أولى. 8- موقف المنافقين موقف ضعيف يستدعي العجب والسخرية والطرد من الجانبين: فإنهم كانوا يطمعون في غنائم المسلمين متذرعين بأنهم مظاهرون لهم ومؤيدون جهادهم. وكذلك كانوا يطمعون في غنائم الكفار متذرعين بأنهم دافعوا عنهم وخذلوا عنهم المسلمين، حتى هابهم المسلمون. والآية: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.. تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين، ولهذا قالوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟. وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة، ولذا طالبوها وقالوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ ويحتمل أن يريدوا بقولهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ الامتنان على المسلمين، أي كنا نعلمكم بأخبارهم، وكنا أنصارا لكم «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 5/ 419

9- قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ذكر ابن العربي وتابعه القرطبي «1» في تأويله خمسة أوجه: منها: أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل، ولا تتناهوا عن المنكر، وتتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدوّ من قبلكم. قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا. ومنها: أن المراد بالسبيل الحجة. ومنها: أن هذا يوم القيامة وقد رجحه الطبري، وضعفه ابن العربي لعدم فائدة الخبر فيه. ومنها- الذي رجحته وهو أن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال « ... ودعوت ربي ألّا يسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم» أي ساحتهم. قال الجصاص في قوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا: ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته، وتأديبها، ومنعها من الخروج، وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فاقتضى قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ ... وقوع الفرقة بردة الزوج، وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا، فحقوقه ثابتة، وسبيله باق عليها «2» .

_ (1) المرجع السابق، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 509 وما بعدها. (2) أحكام القرآن: 1/ 290

مواقف أخرى للمنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين [سورة النساء (4) الآيات 142 إلى 147] :

مواقف أخرى للمنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 147] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) الإعراب: كُسالى جمع كسلان، وهو حال منصوب من واو قامُوا وكذلك قوله: يُراؤُنَ .. وَلا يَذْكُرُونَ. مُذَبْذَبِينَ منصوب من وجهين: أحدهما- أن يكون منصوبا على الذم بفعل مقدر، تقديره: أذم مذبذبين. والثاني- أن يكون منصوبا على الحال من واو يَذْكُرُونَ. ما يَفْعَلُ ما: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَفْعَلُ وتقديره: أيّ شيء يفعل بعذابكم؟ والثاني- أن تكون «ما» نفيا، فلا يكون لها موضع من الإعراب. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أوجه الوجهين، وحذف الياء من يُؤْتِ في المصحف تخفيفا.

البلاغة:

البلاغة: في يُخادِعُونَ .. خادِعُهُمْ وفي شَكَرْتُمْ.. شاكِراً جناس اشتقاق. وقوله: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ؟ استفهام بمعنى النفي أي لا يعذبكم ما دمتم شكرتم نعم الله وآمنتم به. المفردات اللغوية: يُخادِعُونَ اللَّهَ بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر، فيدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية. من الخداع: وهو إيهام غيرك خلاف حقيقة الشيء. وَهُوَ خادِعُهُمْ مجازيهم على خداعهم، فيفتضحون في الدنيا باطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة. كُسالى جمع كسلان وهو المتثاقل المتباطئ. يُراؤُنَ النَّاسَ بصلاتهم، أي يقصدون بعملهم الظهور للناس ليحمدوهم عليه، وهم في داخلهم غير مقتنعين بما يعملون. وَلا يَذْكُرُونَ أي ولا يصلون. إِلَّا قَلِيلًا أي رياء. مُذَبْذَبِينَ مترددين. بَيْنَ ذلِكَ بين الكفر والإيمان. لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين إلى الكفار. وَلا إِلى هؤُلاءِ ولا إلى المؤمنين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى. سُلْطاناً مُبِيناً حجة قوية ظاهرة أو برهانا بيّنا على نفاقكم. الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الدرك: المكان، والأسفل من النار: هو قعرها. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً مانعا من العذاب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق. وَأَصْلَحُوا عملهم. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا بالله. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ من الرياء. أَجْراً عَظِيماً في الآخرة وهو الجنة. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً لأعمال المؤمنين بالإثابة عليها. عَلِيماً بخلقه. المناسبة: الآيات مكملة لما سبقها في تبيان صفات المنافقين وأحوالهم ومواقفهم. التفسير والبيان: إن المنافقين لجهلهم، وسذاجتهم، وقلة علمهم وعقلهم ومرضهم النفسي، وسوء تقديرهم يلجأون إلى الخداع، فيفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، كما تقدم في أول سورة البقرة: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية [9] ولا شك بأن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكنهم

يظنون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية [المجادلة 58/ 18] . وَهُوَ خادِعُهُمْ أي مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، مثل وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [الأنفال 8/ 30] . أو وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم تطبق عليهم أحكام الشريعة في الظاهر، معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في الدنيا العاجلة من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. وقد يخذلهم في الآخرة أمام الناس، فيعطون على الصراط نورا، كما يعطى المؤمنون، ثم يطفأ نورهم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- إلى قوله- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد 57/ 13- 15] . وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس: «من سمّع سمّع الله به، ومن رأيا رأيا الله به» قال ابن عباس: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة 2/ 17] . وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى أي متباطئين متثاقلين إذ لا إيمان يدفعهم إليها، ولا نية لهم فيها، ولا يعقلون معناها. هذه صفة ظواهرهم. ثم ذكر الله تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ بها،

أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يريدون أن يراهم الناس تقية لهم ومصانعة، ويقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصلاة الصبح، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..» الحديث. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا أي في صلاتهم لا يخشون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وإنهم في الواقع لا يصلون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا. وهم أيضا مذبذبون مضطربون متحيرون بين الإيمان والكفر، فليسوا مع المؤمنين حقيقة، ولا مع الكافرين حقيقة، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعصف به الشك، فتارة يميل إلى المؤمنين، وتارة يميل إلى الكافرين كاليهود، كما قال تعالى في أول سورة البقرة: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا الآية [20] فإذا ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي ومن صرفه عن طريق الهدى، بسبب أعماله ومواقفه وأخلاقه، فلن تجد له سبيلا (طريقا) إلى الخير والسداد يسلكه. ثم حذّر الله المؤمنين أن يفعلوا فعل المنافقين وأن يوالوا الكافرين، فقال: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي لا تتخذوهم نصراء وأعوانا تصاحبونهم وتصافونهم، وتناصحونهم وتصادقونهم، وتسرون إليهم المودة، وتفشون أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ

مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 3/ 28] أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، وقال أيضا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة 5/ 51] . أما تولي الذميين الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، فليس بمحظور، فإنهم اشتغلوا في عصر الصحابة في الدواوين، وكان أبو إسحاق الصابي وزيرا في الدولة العباسية. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي أتريدون أن تجعلوا لله على أعمالكم حجة بينة في استحقاق العقاب إذا اتخذتموهم أولياء، يعني أن موالاة الكافرين دليل على النفاق، ولا يصدر هذا إلا من منافق. ثم ذكر الله تعالى عقوبة المنافقين الشهيرة: وهي إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي إن مكانهم في الطبقة السفلى من النار، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال المفسرون: النار سبع دركات: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد يسمى بعضها باسم بعض. وأما الجنة فهي درجات، بعضها أعلى من بعض. والسبب في أن عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر: هو أنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله. وهذا العذاب لن يجدوا أحدا ينقذهم منه أو يخففه عنهم: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. ثم ذكر الله تعالى طريق الإصلاح وهو فتح باب التوبة عن النفاق، وشرط الله تعالى لقبول توبة المنافقين توبة صحيحة أربعة شروط في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، وتلك الشروط هي

الندم على الفعل السابق، والإصلاح أي الاجتهاد في فعل الأعمال الصالحة التي تغسل أدران النفاق، والاعتصام بالله أي الثقة به والتمسك بكتابه والاهتداء بهدي نبيه المصطفى، وبقصد مرضاة الله، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء 4/ 175] والإخلاص لله بأن يدعوه العباد وحده، ويتجهوا إليه اتجاها خالصا، لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه، ولا يلجأون إلى أحد سواه لكشف ضر أو جلب نفع، كما قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] . هذه شروط قبول توبة المنافق، أما الكافر فشرط توبته فقط هو الانتهاء عن الكفر كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 8/ 38] . والمنافق: هو من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. والكافر: من أعلن الكفر صراحة. أولئك التائبون هم مع المؤمنين أي أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين، وفي زمرتهم يوم القيامة. وسوف يعطي الله المؤمنين أجرا عظيما لا يعرف قدره، فيشاركونهم فيه كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] . ثم بين الله تعالى سبب تعذيبهم وهو كفرهم بأنعم الله فقال مستفهما استفهاما إنكاريا: ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس؟ إنه يعذبكم لا من أجل الانتقام والثأر، ولا من أجل دفع ضر وجلب خير لأن الله غني عن كل الناس، وهو الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، ولكنه أيضا عادل حكيم، لا يسوي بين الصالح والطالح، فالكافر والمنافق والعاصي لم يشكروا الله تعالى على نعمه، ولم يؤدوا واجبهم في الإيمان الحق بالله تعالى، ولم يصرفوا نعم الله في الخير. ولو

فقه الحياة أو الأحكام:

شكروا الله بأن أصلحوا العمل، وآمنوا بالله حقا، لاستحقوا الثواب الجزيل المعدّ لأمثالهم، فالله شاكر يجازي من شكر ويثيب من أطاع، عليم بخلقه، لا تخفى عليه خافية، فمن آمن بربه وقام بواجبه بشكر نعمه، علم به وجازاه على ذلك أوفر الجزاء كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم 14/ 7] فهو الكريم المعطاء الذي يجزي القليل بالكثير، واليسير بالعظيم، ويضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، فاللهم اجعلنا من المؤمنين الشاكرين الصابرين، المخلصين الأبرار، الذين رضيت عنهم في الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى طائفة مهمة من الأحكام: 1- النفاق والرياء أمران قائمان في كل أمة وزمان: والنفاق إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله. 2- يعتمد المنافق كالثعلب على المكر والخداع، وسرعان ما يتكشف أمره للناس، ولا يخفى على الله من فعله شيء منذ بدء نفاقه، فالمنافقون يخادعون الله لقلة علمهم وعقلهم، والله خادعهم- على سبيل المشاكلة اللفظية- أي أن الخداع من الله هو مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله. 3- تطبق على المنافق في الدنيا أحكام الشريعة في الظاهر، وفي الآخرة قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نورا يوم القيامة، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد 57/ 13] . 4- من أوصاف المنافقين الصلاة رياء: أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون

متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون على تركها عقابا. وفي صحيح الحديث المتقدم: «إن أثقل صلاة على المنافقين: العتمة والصبح» والعتمة: العشاء، لا يصلونها بسبب تعب النهار، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم، ولولا السيف ما قاموا. ثم وصفهم الله بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف، وقال صلّى الله عليه وسلّم ذامّا لمن أخّر الصلاة: «تلك صلاة المنافقين- ثلاثا- يجلس أحدهم يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان- أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» رواه مالك وغيره. وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله. وقيل: لعدم الإخلاص فيه. 5- من صلّى كصلاة المنافقين وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [23/ 1- 2] . اللهم إلا أن يكون له عذر، فيقتصر على الفرض حسبما علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأعرابي حين رآه أخل بالصلاة، فقال له- فيما رواه الأئمة-: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» . وقال فيما رواه الترمذي: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» وبناء عليه قال أكثر العلماء: الطمأنينة فرض لهذا الحديث. ورأى أبو حنيفة أنها ليست بفرض، وإنما هي واجب لثبوتها بخبر آحاد.

6- قال ابن العربي: إن من صلّى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها، فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج وإنما الرياء المعصية: أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة «1» . 7- المنافق مذبذب قلق مضطرب: والمذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة: الاضطراب. والمنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى» . 8- تحرم موالاة الكافرين دون المؤمنين: والمراد كما قال ابن كثير: مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. والآيات الناهية عن ولاية الكافرين كثيرة. 9- عقاب المنافق في الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية لغلظ كفره، وكثرة غوائله، وتمكّنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابه بمنه وكرمه «2» . 10- توبة المنافق مقبولة بشروط هي: أن يصلح قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله، كما نصت عليه هذه الآية، وإلا فليس بتائب.

_ (1) أحكام القرآن: 1/ 511 (2) تفسير القرطبي: 5/ 425

11- تعذيب المنافقين وغيرهم لا مصلحة فيه لله تعالى، كما نصت الآية التي تقول: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه. ولكن العذاب تقتضيه الحكمة والعدل. قال مكحول من التابعين: أربع من كنّ فيه كنّ له، وثلاث من كنّ فيه كنّ عليه، فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء 4/ 147] . وقال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال 8/ 33] . وقال الله سبحانه: قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي، دُعاؤُكُمْ [الفرقان 25/ 77] . وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث قال الله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] . وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس 10/ 23] . وقال تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح 48/ 10] . 12- الله يشكر عباده على طاعتهم. ومعنى يشكرهم: يثيبهم، فيقبل العمل القليل، ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته. انتهى الجزء الخامس ولله الحمد

الجهر بالسوء والعفو عنه وإبداء الخير وإخفاؤه [سورة النساء (4) الآيات 148 إلى 149] :

[الجزء السادس] [تتمة سورة النساء] الجهر بالسوء والعفو عنه وإبداء الخير وإخفاؤه [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) الإعراب: بِالسُّوءِ في موضع نصب: لأنه يتعلق بالجهر، وإعمال المصدر الذي فيه الألف واللام قليل، وليس في التنزيل إعماله إلا في هذا الموضع، ولم يعمل في اللفظ وإنما عمل في الموضع. إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: من: في موضع نصب، لأن الاستثناء منقطع. البلاغة: تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ طباق. المفردات اللغوية: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب من أحد ذلك بمعنى أنه يعاقبه عليه، والجهر: الإعلان إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي فلا يؤاخذه بالجهر به، بأن يخبر عن ظلم ظالمة، ويدعو عليه. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لما يقال عَلِيماً بما يفعل. سبب النزول: أخرج هناد بن السري عن مجاهد قال: أنزلت لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ في رجل أضاف رجلا بالمدينة، فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه، أي نزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. وهذا مروي أيضا عن ابن جريج.

المناسبة:

المناسبة: الآيتان متصلتان بما قبلهما في الكلام عن المنافقين وكفار أهل الكتاب، فبعد أن حذر الله المؤمنين من عيوبهم وأعمالهم وصفاتهم وأوضح أنهم في الدرك الأسفل من النار، أبان حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يفهم المؤمنين مشروعية الجهر بالسوء من القول على الإطلاق، وفي ذلك إشاعة الفواحش والعيوب، وإضرار الأمة، وإنما المشروعية مقيدة في حال الظلم، كما أن الإسرار بالخير والجهر به سواء. التفسير والبيان: يعاقب الله تعالى المجاهر بسوء القول، أي بذكر عيوب الناس وتعداد سيئاتهم، لأنه يؤدي إلى إثارة العداوة، والكراهة والبغضاء، ويزرع الأحقاد في النفوس، ويسيء أيضا إلى السامعين، فيجرئهم على اقتراف المنكر، وتقليد المسيء، ويوقعهم في الإثم، لأن سماع السوء كعمل السوء. وكذلك الإسرار بسوء القول محرّم ومعاقب عليه، إلا أن الآية نصت على حالة الجهر، لأن ضرره أشد، وفساده أعم وأخطر، لذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور 24/ 19] . ثم استثنى الله تعالى حالة يجوز فيها إعلان السوء من القول: وهي حالة الشكوى من ظلم الظالم لحاكم أو قاض أو غيره ممن يرجى منه رفع ظلامته وإغاثته ومساعدته في إزالة الظلم. والشكوى على الظالم أمر مطلوب شرعا، إذ لا يحب الله لعباده أن يسكتوا على الظلم، أو أن يخضعوا للضيم أو أن يقبلوا المهانة ويسكتوا على الذل، روى الإمام أحمد: «إن لصاحب الحق مقالا» . وهذا من قبيل ارتكاب أخف الضررين ودفع أعظم الشرين.

فقه الحياة أو الأحكام:

وكل من حالتي جواز الجهر بالسوء من القول وعدم الجواز في ظل رقابة دقيقة من الله تعالى، فهو سميع لكل ما يقال، مطلع على البواعث والنيات المؤدية للأقوال، عليم بكل ما يصدر عن الخلق من أفعال وتصرفات، فيثيب المحق، ويعاقب المبطل، ويعين على دفع الظلم، ويجازي كل ظالم على ظلمه. وإبداء الخير من قول أو فعل، أو إخفاؤه، أو العفو عمن أساء يجازي الله تعالى عليه خيرا، بل يرغب فيه، فالله تعالى يحبّ فعل الخير، ويعفو عن السّيئات، وهو مع ذلك قادر تمام القدرة على معاقبة المسيء، والتّخلّق بأخلاق الله تعالى أمر حسن مرغّب فيه. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على ما يأتي: 1- الجهر بالسوء من القول بإشاعة عيوب الناس أمر منكر يعاقب الله تعالى عليه. 2- يباح للمظلوم اللجوء إلى القضاء والشكوى لرفع الظلم ووصف فعل الظالم، كما أنه يجوز الدّعاء على الظالم، ودعوة المظلوم مستجابة، روى الحاكم عن ابن عمر: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة» وروى الطبراني والضياء عن خزيمة بن ثابت: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» . وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له. وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعنّي عليه، واستخرج حقّي منه. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمة، ولكن

مع اقتصاد إن كان مؤمنا، كما قال الحسن في رواية أخرى عنه. لكن لا يجوز مقابلة الشتم أو القذف بمثله، وإنما يلجأ إلى القضاء. 3- استدلّ من أوجب الضيافة بهذه الآية، قالوا: لأن الظلم ممنوع منه، فدلّ على وجوبها. وهو قول الليث بن سعد. وذهب الجمهور إلى أن الضيافة من مكارم الأخلاق. 4- الاعتدال في طلب الحقّ أمر مطلوب شرعا، لأن قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحدّ في الانتصار. 5- التعاون في إزالة الظلم من أصول الإسلام، قال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الطبراني عن النعمان بن بشير، وهو ضعيف: «خذوا على أيدي سفهائكم» وقال فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تجزه عن الظلم فإن ذلك نصره» . 6- إبداء الخير حسن لمن عمر قلبه بالإيمان والإخلاص، أو قصد ترغيب الناس وحضّهم على فعل الخير. وإخفاء الخير أفضل إن خيف شيء من الرياء المحبط للأجر والثواب. وهذا بيان وجه الأفضلية، أما الأصل الذي نصّت عليه الآية لإحراز الثواب على فعل الخير غير المصحوب بالرياء: فهو أن إبداء الخير وإخفاءه سواء. 7- العفو عن المسيء مندوب إليه ومرغّب فيه، لأن العفو من صفة الله تعالى، مع القدرة على الانتقام. روى ابن المبارك عن الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة نودي: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدّنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. [الشورى 42/ 40] وروى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن

الكفر والإيمان وجزاء كل [سورة النساء (4) الآيات 150 إلى 152] :

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» . الكفر والإيمان وجزاء كلّ [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) الإعراب: حَقًّا مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ للكافرين يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا. البلاغة: نُؤْمِنُ ... وَنَكْفُرُ طباق. المفردات اللغوية: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرّسل. وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ منهم. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ الكفر والإيمان. سَبِيلًا طريقا يذهبون إليه. وَأَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا. عَذاباً مُهِيناً ذا إهانة وهو عذاب النار. أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للطائعين. رَحِيماً بأهل طاعته.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن حذّر الله تعالى من مصاحبة الكفار ومصادقتهم ومناصحتهم، وندّد بخصال المنافقين، ونبّه المؤمنين إلى ما يباح إعلانه من سوء القول، أوضح سبب كفر أهل الكتاب، من طريق بيان ركني الإيمان وهما: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بجميع الرّسل دون تفرقة بين رسول وآخر، فمن آمن ببعض الرّسل وكفر ببعض آخر، فهو من الكافرين الذين استحقّوا العقاب في نار جهنم. أي أنه تعالى لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب: اليهود والنصارى. التفسير والبيان: يتوعّد الله تعالى في هذه الآيات الكافرين به وبرسله، من اليهود والنصارى، حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء، وكفروا ببعض، تعصّبا وتمسّكا بالموروث، واعتصاما بالأهواء والشهوات، فاليهود آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا عليهما الصّلاة والسّلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلّى الله عليه وسلّم. فمن كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، لأن الإيمان بسائر الأنبياء واجب، فمن ردّ نبوّة نبيّ للحسد أو العصبيّة أو التّشهي، تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيّة. ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي في الإيمان وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر، ودينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية، هؤلاء أخبر تعالى عنهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي كفرهم محقّق لا محالة بمن ادّعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعيّا، إذ لو كانوا مؤمنين به

لكونه رسول الله، لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه، والله تعالى أعدّ وهيّأ لكلّ كافر مطلقا بالدّين، أو لمن كفر بسبب إيمانه ببعض الرّسل وعدم إيمانه برسل آخرين، أعدّ للكافرين عذابا فيه ذلّ وإهانة لهم، جزاء كفرهم. وبه يتبيّن أن الكفر بالرّسل نوعان: كفر بجميع الرّسل، وكفر ببعض الرّسل، وأصحاب الكفر الأول لا يؤمنون بأحد من الأنبياء، لإنكارهم النّبوات، وأهل الكفر الثاني يؤمنون ببعض الأنبياء ولا يؤمنون ببعض آخر، مثل اليهود الذين يؤمنون بموسى عليه السلام ويكفرون بعيسى ومحمد عليهما السّلام، والنصارى الذين يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. والفريقان سواء في استحقاق العذاب، لأن الإيمان بالله ورسله لا يتجزأ، فمن آمن حقيقة بالله، آمن بجميع رسله الذين أرسلهم لهداية الناس، فهو مصدر الإرسال، والرّسل سفراء بين الله وخلقه، فلا يتصور إيمان بالله وكفر ببعض رسله. وحينئذ لا يقبل إيمان بموسى وكفر بعيسى، وإيمان بجميع الرّسل وكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو مذكور في كتبهم، ومبشّر به عندهم، ومصدّق لما معهم، والقرآن مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه القائل: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] . ثم قرن الله تعالى بالفريقين السابقين الكلام عن فريق ثالث: وهم المسلمون، للمقارنة والعظة والعبرة، وهم الذين آمنوا بالله وجميع رسله، فإنهم يؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله تعالى، وبكلّ نبيّ بعثه الله، كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... [البقرة 2/ 285] . هؤلاء أعدّ الله لهم الجزاء الجزيل، والثواب الجليل: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ

فقه الحياة أو الأحكام:

أُجُورَهُمْ على ما آمنوا بالله ورسله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي غفورا لذنوبهم إن كان لبعضهم ذنوب، رحيما بهم يعاملهم بالإحسان ويضاعف حسناتهم، كما أنه تعالى رحيم بجميع عباده حيث أرسل لهم الرّسل لهدايتهم، وبيان المنهج الأسلم، والطريق المستقيم الأفضل. فقه الحياة أو الأحكام: الإيمان والكفر ضدّان لا يجتمعان، والإيمان لا يتجزّأ، وجزاء الكفر واحد، وإن تعددت أشكاله، فمن أنكر الأديان والنّبوّات، ومن ألحد فلم يؤمن بوجود الله ووحدانيته، ومن كفر بجميع الرّسل، أو آمن ببعضهم وكفر ببعضهم الآخر، فهو كافر، ويكون أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكفار، لأنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والآية بيّنت أن الكفر به، كفر بالكلّ، لأنه ما من نبيّ إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبجميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، ونصّ سبحانه على أنّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرّسل، فإذا جحدوا الرّسل، ردّوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، وكأن ردّ الشرائع كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر. ونصّ سبحانه أيضا على أن الإيمان ببعض الرّسل والكفر ببعض كفر بالكلّ. واتّخاذ طريق وسط بين الإيمان والكفر أو دين مبتدع بين الإسلام واليهودية مرفوض في شرعة القرآن. وأكّد تعالى أن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عزّ وجلّ، وكفروا بكلّ رسول مبشّر بذلك الرّسول، فلذلك صاروا الكافرين حقّا.

مواقف اليهود المتعنتة [سورة النساء (4) الآيات 153 إلى 159] :

وجزاء الكفر ما صرحت به الآية: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي أعتدنا وهيأنا لجميع أصناف الكفار عذابا مذلّا. أما المسلمون وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته، الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته، وآمنوا بجميع الرّسل، فلم يفرّقوا بين أحد منهم، فسوف يؤتيهم الله ثواب أعمالهم، والله غفور للعصاة منهم، رحيم بالعباد فلا يعجل لهم العذاب، وإنما يترك لهم فرصة للتوبة والإنابة، ويهديهم بالقرآن والرّسل والعقل والحواس والتّجارب المتكرّرة والأحداث التي توقظ مشاعر الإيمان، يهديهم صراطا مستقيما. مواقف اليهود المتعنتة [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

الإعراب:

الإعراب: جَهْرَةً نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة. لا تَعْدُوا فيه ثلاث قراءات: لا تعدوا: بسكون العين مع تخفيف الدّال، وبسكون العين مع تشديد الدّال، وبفتح العين مع تشديد الدّال. والقراءة الثانية ضعيفة في القياس، لما أدت إليه من الاجتماع بين الساكنين على غير حدّه. فَبِما نَقْضِهِمْ ما: زائدة للتوكيد، وهو رأي الأكثرين، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي لعنّاهم بسبب نقضهم. بُهْتاناً منصوب بالمصدر على حدّ قولهم: قلت شعرا وخطبة، لأن القول يعمل فيما كان من جنسه. عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عيسى: منصوب على البدل. وفي نصب ابن مريم وجهان: إما على الوصف أو على البدل. إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس أي لكن، ويجوز رفعه على البدل من محل إعراب من عِلْمٍ ومحله الرفع، لأن تقديره: ما لهم به علم، مثل: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف 7/ 59 ومواضع أخرى] وتقديره: ما لكم إله غيره. يَقِيناً إما منصوب على الحال من واو قَتَلُوهُ أي متيقنين، أو على الحال من هاء قَتَلُوهُ أي ما قتلوه متيقنا بل مشكوكا فيه، أو لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: وما قتلوه قتلا متيقنا. والهاء في قتلوه يجوز أن تكون لعيسى كما في قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ويجوز أن تكون الهاء للعلم، والمعنى: وما قتلوه علمهم به يقينا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إن هنا للنفي، ومعناه: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به أي بعيسى. وأما هاء قَبْلَ مَوْتِهِ ففيه وجهان: أن يكون المراد به كل واحد من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم لظهور الحقيقة له عند موته، أو تكون الهاء لعيسى لأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض، فيؤمن به من كان مكذبا له من اليهود وغيرهم، وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية، والوجه الأول أصح.

البلاغة:

البلاغة: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وصفوه بالرسالة على سبيل التهكم والاستهزاء لأنهم لا يؤمنون برسالته. فَبِما نَقْضِهِمْ زيادة الحرف للتأكيد، أي فبنقضهم. وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض. وكذلك في قوله: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ مجاز مرسل لأنهم كفروا بالقرآن والإنجيل دون غيرهما قُلُوبُنا غُلْفٌ استعارة، استعار الغلاف لعدم الفهم. وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض. المفردات اللغوية: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود إنزال كتاب جملة واحدة من السماء، كما أنزل على موسى تعنتا. فَقَدْ سَأَلُوا أي آباؤهم. جَهْرَةً أي رؤية جهرة عيانا. الصَّاعِقَةُ النار النازلة من السماء التي أدت بهم إلى الموت عقابا على التعنت في السؤال والظلم. الْبَيِّناتُ المعجزات الدّالة على وحدانية الله، والدلائل الواضحة على نبوّة موسى كفلق البحر واليد البيضاء والعصا. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلّطا بيّنا ظاهرا عليهم، حيث أمرهم بقتل أنفسهم توبة، فأطاعوه. الطُّورَ الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله، رفعه فوقهم ليخافوا فيقبلوا الميثاق. بِمِيثاقِهِمْ بسبب أخذ الميثاق عليهم، فلا ينقضوه. ادْخُلُوا الْبابَ باب القرية. سُجَّداً سجود انحناء، أي خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ولا تنتهكوا حرمة السبت باحتيال اصطياد الحيتان فيه. غُلْفٌ جمع غلاف، أي مغطاة بأغطية تجعلها لا تعي ما تقول. طَبَعَ ختم عليها بالخاتم بسبب كفرهم، فلا تعي وعظا. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. بُهْتاناً كذبا مفترى يبهت صاحبه ويدهشه، حيث رموا السيدة مريم بالزنى. إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أي في زعمهم، فبمجموع ذلك عذبناهم. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من

المناسبة:

اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح حتى نصدقك، فأنزل الله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ إلى قوله: بُهْتاناً عَظِيماً فجثى رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وروي أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيّا صادقا، فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى به موسى، فنزلت. وقال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به. ومن المعلوم عند المفسّرين أن اليهود سألت محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يصعد إلى السماء، وهم يرونه، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة تعنّتا له صلّى الله عليه وسلّم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السّلام بأكبر وأعظم من هذا، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي عيانا. وهذا إنما قالوه على سبيل التّعنّت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة الإسراء: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [17/ 90] . المناسبة: الآيات مرتبطة بما قبلها، فموضوعها أهل الكتاب، وكانت الآيات السابقة تبيانا لكفرهم إذ قالوا: نؤمن ببعض الرّسل ونكفر ببعض، وهذه الآيات تدلّ على تعنّتهم وتصلّبهم ومطالبتهم بأشياء على سبيل العناد والإلحاد. التفسير والبيان: يطلب منك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخطّ

سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم. وهذا دليل على جهلهم بحقيقة الدّين ومعنى النّبوّة والرّسالة، وعدم إدراكهم معنى المشيئة الإلهية والحكمة الرّبّانية: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] ، وسبب الجهل أنهم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المثيرة للدهشة والعجب. وسؤالهم ذلك ليس بنيّة حسنة، فهو لا من أجل الإقناع وطلب الحجّة والبرهان بصدق ويقين، وإنما هو من قبيل التعنّت والتّعجيز والإحراج. قال الحسن البصري: لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا. ولا تعجب يا محمد من سؤالهم، فقد سألوا موسى أعظم من هذا، فقالوا: أرنا الله رؤية جهرة عيانا، بلا حواجز ولا حجب، وذلك دليل على الجهل بالله تعالى إذ هم ظنّوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار. ونسب السؤال إلى اليهود المعاصرين للنّبوّة، مع أن السؤال من آبائهم لأنهم ورثتهم المقلّدون لهم الرّاضون بفعلهم، وهو مظهر من مظاهر تكافل الأمة الواحدة حال الرّضا بفعل بعض أفرادها. وكان عقابهم على هذا الطلب المصحوب بالتعجيز والمراوغة نزول الصاعقة التي أماتتهم، ثم أحياهم الله. والصواعق: شرارات كهربائية تنشأ بسبب اصطكاك الأجرام السماوية. والإحياء مفسّر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة 2/ 55- 56] .

وبعد الإحياء اتّخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة، والأدلّة القاهرة على يد موسى عليه السّلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوّهم فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. وذكر تعالى قصة اتّخاذهم العجل في سورة الأعراف الآية (152) ، وفي سورة طه (88) بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزّ وجلّ، ولما رجع إليهم تابوا مما صنعوا، فقتل بعضهم بعضا، قتل من لم يعبد العجل منهم من عبده، ثم أحياهم الله عزّ وجلّ، فعفا عنهم حين تابوا، وآتى الله موسى سلطانا مبينا، أي سلطة ظاهرة وحجّة قويّة بيّنة واضحة، كالعصا وفلق البحر واليد البيضاء. وسمّيت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجّة، وهي قاهرة القلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها. وكانت توبتهم بقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفّوا، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ، كما قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 54] . وكان من عجائب أحوالهم وأساليب تأديبهم أن الله تعالى رفع فوقهم جبل الطور، كأنه ظلّة، وقد كانوا في واديه، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وأبوا إطاعة ما جاء به موسى عليه السّلام، فكان عقابهم بسبب ميثاقهم الذي أخذه الله عليهم أن يعملوا بما أنزل إليهم بقوّة وإخلاص. ثم ألزموا بالطاعة فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف 7/ 171] .

وأمروا أن يدخلوا باب القرية أي بيت المقدس سجّدا أي خاضعين متذللين، وهم يقولون: حطّة، أي اللهم حطّ عنّا ذنوبنا في تركنا الجهاد، ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة. وأوصاهم الله تعالى بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم، فقال لهم على لسان داود عليه السّلام: لا تعدوا في السبت، أي لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدّنيوي، فخالفوا واحتالوا بحيلتهم المعروفة باصطياد الحيتان فيه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة 2/ 65] . وأخذ الله منهم ميثاقا غليظا، أي عهدا مؤكّدا شديدا على الأخذ بالتوراة بجدّ وقوّة، والعمل بها، وعدم كتمان البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام، فخالفوا وعصوا وتحايلوا على ارتكاب ما حرّم الله عزّ وجلّ، كما ورد في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف 7/ 163] . ثم ذكر تعالى بعد هذا الميثاق أسباب ما حلّ بهم من عقاب وغضب الله، مما يعدّ أقبح المخالفات: وهي نقض الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فأحلّوا حرامه، وحرّموا حلاله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبسبب نقض اليهود الميثاق، وكفرهم بآيات الله الدّالة على صدق أنبيائه، وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السّلام بغير ذنب، وقولهم: قلوبنا مغلفة بغلاف، فلا يصل إليها شيء مما تدعو إليه: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت 41/ 5] فردّ الله عليهم بأن ذلك

ليس هو الواقع، وإنما ختم الله عليها بسبب كفرهم بعيسى ومحمد عليهما السّلام، فلا يصل إليها نور الهداية كالنّقود المسكوكة لا تقبل نقشا آخر، فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا من بعضهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. وكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل واتهام مريم البتول العذراء بالفاحشة، ورميهم لها برجل صالح فيهم هو يوسف النجار، وهذا بهتان عظيم وكذب مفترى يدهش البريء، وزعمهم أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ووصفوه بأنه رسول الله تهكما واستهزاء بدعوته، ووصفه القرآن بأنه: ابن مريم للرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله. ورد الله عليهم: والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه كما ادعوا، ولكن ألقى الله الشبه على رجل آخر فصلبوه، وما قتلوه يقينا أي متيقنين أنه عيسى ذاته بعينه لأن الجند الذين قتلوه وصلبوه ما كانوا يعرفونه، والمعروف في الأناجيل أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي. وإن اختلفوا في صلب المسيح، أهو المصلوب أم غيره؟ لفي شك وتردد من حقيقة أمره، وليس لهم علم يقيني مقطوع به، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن والأمارات غير المؤدية إلى الحق. وإنما أنجاه الله من أيدي اليهود ورفعه إليه، كما قال تعالى في سورة آل عمران: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران 3/ 55] قال ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وقال وهب: أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. وقال ابن جرير: توفيه هو رفعه «1» ، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر 39/ 42] . قال الحسن البصري: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) تفسير الطبري: 3/ 203 وما بعدها. [.....]

لليهود: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» أي أن المشهور بين المفسرين أن الله تعالى رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء، وقال الرازي: المراد رافعك إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم، ومثله قوله تعالى عن إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات 37/ 99] وإنما ذهب إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم من العراق إلى الشام، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، وتدل الآية وَرافِعُكَ إِلَيَّ على أن الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في قوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [آل عمران 3/ 55] ليست بالمكان، بل بالدرجة والرفعة «1» . ثم دلل سبحانه وتعالى على قدرته على حماية عيسى من الصلب وإنقاذه من اليهود والروم الظالمين ورفعه إليه بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي إن الله عزيز لا يغلب، حكيم في صنعه وفي جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها. ويجازي كل عامل بعمله، ومن جزائه لليهود في الدنيا ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض. هذه عقيدتنا في صلب المسيح ورفعه مستقاة من أوثق مصدر في الوجود وهو القرآن الكريم كلام الله، المنقول إلينا بالتواتر، فلا مجال لتصديق روايات أخرى لم تثبت صحتها، بل إن ما فيها من تناقض واختلاف كثير يدل على الشك فيها ثم القطع بأنها ليست محل ثقة. ثم إن القول بعدم الصلب أكرم وأفضل لكرامة عيسى عليه السلام، وأما القول بأنه صلب ليجعل نفسه فداء للبشرية والعالم، وليكفر عن خطيئة آدم عليه السلام وخطايا أبنائه، فهو من أوهام المسيحية، ومن القصص الروائية في الأناجيل التي دونتها أيدي البشر لأن الله تعالى أناط التخلص من الخطيئة

_ (1) تفسير الرازي: 8/ 69

بالتوبة، وقد تاب آدم عليه السلام وأنهى المشكلة وتقبل الله توبته: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 37] ولا يقبل عاقل قضية الفداء وإباحة ارتكاب المعاصي لأتباع المسيح لأن المسيح صلب تكفيرا لخطاياهم. ثم حسم تعالى القول في شأن المسيح، فأبان أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى، فيؤمن به إيمانا صحيحا حقا لا انحراف فيه، فيعلم اليهودي أنه رسول صادق غير كذاب، ويعلم النصراني أنه بشر ليس بإله ولا ابنا للإله. وقوله تعالى: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، ونحوه: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات 37/ 164] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. [مريم 19/ 71] والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله، يعني إذا عاين الموت قبل أن تزهق روحه، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف «1» ، ولأن كل أحد ينجلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك «2» . ويوم القيامة يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه «ابن الله» فتظهر حقيقة حاله، كما قال تعالى عنه: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة 5/ 117] أي يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان وعلى الكافر بالكفر لأن كل نبي شهيد على أمته كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41]

_ (1) الكشاف: 1/ 437 (2) تفسير ابن كثير: 1/ 577

فقه الحياة أو الأحكام:

عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] قال قتادة عن آية وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بعبودية الله عز وجل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أخلاق اليهود وطباعهم وعرة صعبة غريبة، فهم لا يذعنون للحق، وإنما يجادلون فيه، وينحازون عنه إلى المطالبة بأمور على سبيل التعجيز والإلحاد والعناد والمراوغة والتعنت. فقد سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إنزال كتاب مكتوب من السماء دفعة واحدة إلى فلان وفلان يؤيد ما يدعيه ويصدقه فيما يقول، تعنتا، كما أتى به موسى. وطلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى رؤية جهرة عيانا. واتخذوا العجل إلها بالرغم من الأدلة القاطعة التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها، التي تدل على أنه لا معبود إلا الله عز وجل. 2- لا يخضع اليهود إلا للمادة، لذا ألزمهم الله تعالى إطاعة التوراة وإطاعة موسى برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، لتخويفهم. 3- إنهم محتالون مخادعون ماكرون، فقد أمرهم الله باحترام يوم السبت وعدم العمل فيه، فاحتالوا على صيد السمك بوضع حواجز على سواحل البحار يوم الجمعة، يبقى فيها السمك الآتي بالمد البحري، حينما ينحسر عنه بالجزر. 4- إنهم ينقضون العهود ويخالفون المواثيق، فقد أخذ الله عليهم العهد

المؤكد على العمل بالتوراة، ثم نقضوا الميثاق، وخالفوا مقتضى العهد بجرأة نادرة. 5- استحقوا غضب الله عليهم وتسلط الروم الظلمة عليهم بأسباب كثيرة هي نقض الميثاق، والكفر بآيات الله وعدم الاعتراف برسالتي عيسى ومحمد عليهما السلام، وقتل الأنبياء بغير حق ولا ذنب، وتحدي الأمر الإلهي بقولهم: قلوبنا غلف لا ينفذ إليها الخير والهدى الإلهي، وكفرهم بعيسى والإنجيل، وقذف السيدة مريم بالزنى ورميهم لها بيوسف النجار، وهو البهتان العظيم، وادعاؤهم قتل المسيح عيسى ابن مريم. 6- الثابت المؤكد بإخبار الله الصادق القاطع أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه، بل حماه الله منهم، وخلصه من مكرهم وكيدهم، ورفعه الله إليه إما رفعا حقيقيا بالروح والجسد إلى السماء، كما قال الأكثرون لأن الله متعال عن المكان، وإما رفع منزلة وتفخيم وتعظيم كما قال الرازي. 7- ما من أحد من اليهود والنصارى إلا ويدرك قبل موته حقيقة عيسى عليه السلام، ويؤمن به إيمانا حقيقيا في وقت لا ينفعه الإيمان، إذا عاين الملك لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقرّ في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وهذا معلوم بالأحاديث أيضا، روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته» . وروى ابن مردويه عن ابن عباس: «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار» . 8- سيفاجأ النصارى يوم القيامة بشهادة عيسى المتضمنة تكذيب من كذبه،

عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا وثواب المؤمنين منهم [سورة النساء (4) الآيات 160 إلى 162] :

وتصديق من صدقه، وبراءته من ادعاء النصارى أنه ابن الله، وإقراره بأنه عبد الله ورسوله، ودعوته إلى عبادة الله تعالى ربه وربهم، ومراقبته لهم أثناء حياته، واعتذاره عن انحرافهم بعد وفاته. عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا وثواب المؤمنين منهم [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) الإعراب: وَبِصَدِّهِمْ.. كَثِيراً كَثِيراً: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: صدا كثيرا. وَالْمُقِيمِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو على المدح بتقدير أعني وأمدح. وأما الجر فيجوز من ثلاثة أوجه: أن يكون معطوفا على بِما وتقديره: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة من الأنبياء، أو أن يكون معطوفا على الكاف في إِلَيْكَ وتقديره: بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، أو أن يكون معطوفا على كاف قَبْلِكَ وتقديره: من قبلك وقبل المقيمين الصلاة من أمتك. والعطف على الكاف في إِلَيْكَ وقَبْلِكَ على رأي الكوفيين ولا يجوز ذلك عند البصريين. وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ مرفوع من خمسة أوجه: إما مبتدأ وخبره: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ، وإما

البلاغة:

خبر مبتدأ محذوف وتقديره: وهم المؤتون، وإما معطوف على ضمير الْمُقِيمِينَ وإما معطوف على ضمير يُؤْمِنُونَ وإما معطوف على قوله: الرَّاسِخُونَ. البلاغة: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استعارة، استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً فيه التفات من الغيبة إذ الأصل: سيؤتيهم، إلى الخطاب، وتنكير الأجر للتفخيم. المفردات اللغوية: فَبِظُلْمٍ أي فبسبب ظلم هادُوا هم اليهود الذين تابوا بعد عبادة العجل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ هي التي في قوله تعالى: حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.. [الأنعام 6/ 146] الآية وَبِصَدِّهِمْ أي منعهم الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه كَثِيراً صدا كثيرا. وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشاوى في القضاء أَلِيماً مؤلما الرَّاسِخُونَ الثابتون في العلم المتقنون له وَالْمُؤْمِنُونَ المهاجرون والأنصار أَجْراً عَظِيماً هو الجنة. المناسبة: الآيات استمرار في الكلام عن اليهود، فبعد أن عدد الله تعالى قبائحهم وأفعالهم التي أدت إلى غضب الله، ذكر تعالى هنا نوع العقاب الذي عاقبهم الله به في الدنيا وهو تحريم بعض الطيبات، وفي الآخرة وهو العذاب المؤلم. أما المؤمنون الصالحون منهم فلهم الأجر العظيم وهو الجنة. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوا من الذنوب العظيمة، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم لعلهم يرجعون، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ

[آل عمران 3/ 93] ، والمراد أن جميع الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة، ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام 6/ 146] أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون التحريم بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولذا قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبسبب ظلمهم، وصدهم الناس وصد أنفسهم عن اتباع الحق، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، وكتمانهم البشارة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذه سجية لهم اتصفوا بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمدا عليهما السلام. وبسبب أخذهم الربا الذي نهاهم الله عنه على ألسنة أنبيائهم، فإنهم احتالوا عليه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال الناس بالباطل بالرشوة والخيانة ونحوهما من غير مقابل، كما قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة 5/ 42] والسحت: الكسب الحرام. وكان جزاؤهم الأخروي إعداد عذاب مؤلم لهم في نار جهنم ولكل كافر أمثالهم. ويلاحظ أن تحريم الطيبات كان عاما، أما العذاب الأخروي فكان للمصرّين منهم على الكفر، الذين ماتوا عليه كافرين، لذا استدرك سبحانه فقال فيما معناه: أما الراسخون في العلم النافع الثابتون فيه المطلعون على حقائق الدين، الذين يؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل إليك، وما أنزل على من قبلك من الرسل كموسى وعيسى، ولا يفرقون بين أحد منهم، والمؤمنون إيمانا حقيقيا

فقه الحياة أو الأحكام:

بالله واليوم الآخر أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، والمؤدون زكاة أموالهم للمستحقين، والمطيعون أوامر ربهم، وأخص منهم مقيمي الصلاة الذين يؤدونها على أتم وجه، مستوفية أركانها وشروطها. وتخصيص المدح لإقامة الصلاة لأنها تستدعي إيتاء الزكاة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزكي النفس، وتهوّن على النفس إيتاء المال لمستحقه، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج 70/ 19- 22] . هؤلاء الموصوفون بما تقدم، سيؤتيهم ربهم أجرا عظيما هو الجنة، لا يدرك حقيقته إلا الله. روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية لكِنِ الرَّاسِخُونَ.. أنزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد حين فارقوا يهود وأسلموا، أي دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم. فقه الحياة أو الأحكام: ذكر سبحانه وتعالى أسباب استحقاق اليهود العذاب الأليم في نار جهنم وتحريم بعض الطيبات في عالم الدنيا: وهي الظلم، وقدّم على التحريم إذ هو الذي قصد الإخبار عنه بأنه سبب التحريم، وصد أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وعبادة العجل وغير ذلك مما ذكر. وهذا يؤيد مذهب الجمهور غير الحنفية القائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قال ابن العربي «1» : لا خلاف في مذهب مالك في أن الكفار مخاطبون

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 514

(بمعنى أنهم مطالبون بأن يؤمنوا، وأن يؤدوا الفرائض الشرعية بعد الإيمان) وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن، وأنهم دخلوا في الخطاب، فبها ونعمت، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عز وجل على موسى في التوراة، وأنهم بدّلوا وحرّفوا وعصوا وخالفوا، فهل تجوز لنا معاملتهم، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم، أم لا؟. فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم، واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة، قال الله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة 5/ 5] وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة، وقد عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله. ثم استثنى مؤمني أهل الكتاب لأن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلّها، ولم تكن حرّمت بظلمنا، فنزل: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه. هؤلاء المؤمنون من الكتابيين مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما والمؤمنون من المهاجرين والأنصار أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومقيمو الصلاة، ومؤدو الزكاة، سيعطيهم الله ثوابا عظيما لا يقدر وصفه إلا الله وهو الجنة. وأشارت الآيات إلى أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ

وحدة الوحي للرسل وحكمة إرسالهم [سورة النساء (4) الآيات 163 إلى 166] :

الَّذِينَ هادُوا وأما الإعراض عن الدين الحق، فإليه الإشارة بقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. ومظاهر الظلم كثيرة وهي أكل الربا، وأخذ أموال الناس بالباطل بطريق الرشوة والاحتيال والغش ونحوها، وسماع الكذب، وأكل السحت، وهذه الذنوب الأربعة هي الموجبة لتشديد العقاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فهو تحريم الطيبات عليهم، وأما في الآخرة فهو العذاب المؤلم في نار جهنم. وحدة الوحي للرسل وحكمة إرسالهم [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) الإعراب: تَكْلِيماً مصدر كلّم، وفي ذكر هذا المصدر تأكيد للفعل ودليل على أنه كلمه حقيقة لا مجازا لأن الفعل المجازي لا يؤكد بالمصدر. رُسُلًا منصوب من ثلاثة أوجه: إما منصوب على المدح بفعل مقدر وتقديره: وأمدح رسلا مبشرين. أو منصوب على البدل من قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ أو منصوب على

البلاغة:

الحال من أحد المنصوبين قبله وهما: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ ... وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ والوجه الأول هو الأولى، وهو أن يعنى بالرسل جميع من تقدم ذكره، فينتصب على المدح بتقدير فعل. واللام في لِئَلَّا متعلق إما بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وإما بفعل مقدر يشار به إلى جميع ما تقدم، وتقديره: فعلنا ذلك لئلا يكون للناس. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الباء للحال، أي: أنزله معلوما، كما تقول: خرج زيد بسلاحه، أي خرج متسلحا. البلاغة: كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تخصيصه بالذكر للتشريف، وقوله: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ لإظهار فضلهم، والتشبيه مرسل مفصل. يَشْهَدُونَ.. وشَهِيداً جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي أنزلنا إليك كتابا بواسطة جبريل عليه السلام، والوحي: إعلام في خفاء «1» . وقال الزجاج: الإيحاء: الاعلام على سبيل الخفاء. ويأتي في اللغة على معان منها: 1- الإشارة: مثل قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم 19/ 11] أي أشار إليهم. 2- الإلهام: مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي [المائدة 5/ 111] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص 28/ 7] . 3- الإلهام غريزة: مثل قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل 16/ 68] . 4- الاعلام في خفاء: مثل قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «2» [الأنعام 6/ 112] . الْأَسْباطِ جمع سبط: وهو ولد الولد، والمراد بالأسباط هنا: أولاد يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده.

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 15 (2) تفسير الألوسي: 8/ 5

سبب النزول:

زَبُوراً هو الكتاب المنزل على داود عليه السلام. والزبور في اللغة بالضم مصدر: هو المزبور بمعنى المكتوب، وبالفتح: اسم للكتاب المؤتى. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف من إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. مُبَشِّرِينَ بالثواب من آمن وَمُنْذِرِينَ بالعقاب من كفر. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً في ملكه لا يغلب حَكِيماً في صنعه. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ يبين نبوتك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي عالما به أو وفيه علمه. سبب النزول: نزول الآية (163) : إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية. فهي قد نزلت في قوم من اليهود- منهم سكين وعديّ بن زيد- قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى، فكذبهم الله. نزول الآية (166) : لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ: روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ... المناسبة: تستمر الآيات في مناقشة أهل الكتاب وبيان ألوان عنادهم، فهم كما سبق لا يؤمنون بكل الرسل، ويتطلبون أشياء صعبة من الرسل، سواء من موسى أو

التفسير والبيان:

محمد عليهما السلام، وهنا تذكر الآيات في ختام محاجتهم أن الوحي جنس واحد لا يختلف بين الرسل، فلو صدقوا الإيمان بموسى أو غيره، لآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلم يفرقون بين نبي ونبي؟ فالكلام متصل بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ فأعلم تعالى أن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم كأمر من تقدمه من الأنبياء. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فهو ليس بدعا من الرسل، ولو آمنوا بالرسل حقيقة لآمنوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالوحي جنس واحد لم يتغير، وفي كتبهم البشارة به ووصفه. والوحي: إعلام من الله نبيا أو رسولا كلاما أو معنى بطريقة تفيده العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به. أو هو كما قال الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: عرفان يجده الشخص من نفسه، مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة. ونموذج الوحي واحد: إلى نوح وبدأ به لأنه أقدم الأنبياء وأول نبي شرعت على لسانه الشرائع، ثم إلى من بعده من النبيين: وهم إبراهيم أبو الأنبياء وخليل الله، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى عليه الصلاة والسلام ومات بمكة، وإسحاق وهو ابن إبراهيم وأبو يعقوب المسمى إسرائيل، وإليه تنسب اليهود ومات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب، ثم الأسباط أولاد يعقوب العشرة، وحفيداه ابنا يوسف، فيصبح مجموعهم اثني عشر سبطا، والأسباط في بني إسرائيل من نسل إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل. ثم إلى موسى وهارون وأيوب وداود وسليمان بن داود ويونس، وقدم عيسى ابن مريم على هؤلاء لأن اليهود طعنوا به، والواو لا تقتضي الترتيب، وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر لشرفهم وكرامتهم على الله.

وآتى الله داود زبورا، والزبور: هو الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام. وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. وكان داود عليه السلام حسن الصوت فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجنّ والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده، وكان يصنع الدروع «1» . وأرسلناك يا محمد كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء، منهم من قصصنا عليك قبل تنزيل هذه السورة، ذكروا في السور المكية، كما قال تعالى في سورة الأنعام عن إبراهيم: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [6/ 84- 86] . ومجموع الأنبياء الذين نص القرآن على أسمائهم خمسة وعشرون، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأجمع السور لقصص الأنبياء: هود والشعراء. وهناك رسل آخرون لم نقصصهم عليك، لم يذكروا في القرآن لأن أممهم مجهولة، وفي ذكر غيرهم فائدة أجدى، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقال تعالى أيضا: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] .

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 17

والقصد من إيراد قصص الأنبياء العظة والتثبيت والذكرى كما قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى.. [يوسف 12/ 111] وقال سبحانه أيضا: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود 11/ 120] . والمشهور في عدد الأنبياء والمرسلين حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره، حيث قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلثمائة وثلاثة عشر، جمّ غفير» قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم» قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: نعم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلا» ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وأخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من بني إسرائيل: موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين: آدم وآخرهم نبيك» ورواه أيضا أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه (الأنواع والتقاسيم) وقد وسمه بالصحة «1» . ثم ذكر الله تعالى مزية لموسى عليه السلام وهي أنه كليم الله خصه الله بهذه المزية لأن قومه هم المقصودون بالحديث: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً أي تكليما صحيحا حقيقيا بلا واسطة، والتكليم للأنبياء يسمى وحيا، كما قال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى 42/ 51] والحكمة في الحجاب: توجيه الاهتمام والانتباه إلى شيء واحد، والرسول الذي يوحي بإذن الله ما يشاء:

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 585 وما بعدها.

هو جبريل ملك الوحي، المعبر عنه بالروح الأمين. وليس لنا أن نبحث عن كيفية الحديث وهل كان مشافهة أو لا؟ فالله أعلم بذلك. ثم ذكر تعالى الحكمة من إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس، وتبيان طريق الهداية الأسلم إذ لو لم يرسلوا لاحتج البشر بجهلهم ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه 20/ 134] وقال عز وجل: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] فكان إرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يبقى لمعتذر عذر. ومهمة الرسل: أنهم يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب. وكان الله عزيزا لا يغلبه أحد، حكيما في صنعه وجميع أفعاله، فلا يبقى لأحد اعتراض. ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين» وفي لفظ آخر: «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه» . ولما تضمنت الآية المتقدمة: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إثبات نبوته صلّى الله عليه وسلّم، والرد على من أنكر ذلك من المشركين وأهل الكتاب، قال الله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ فهو استدراك لما علم من السياق من إنكار اليهود والمشركين وغيرهم نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعدم شهادتهم برسالته، ومضمونه أن الله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم، الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ

فقه الحياة أو الأحكام:

بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 42] وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك. ثم أكد تعالى شهادته بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به، كما قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة 2/ 255] . والملائكة يشهدون بذلك أيضا، أي بصدق ما جاءك وأوحي إليك، وأنزل عليك، مع شهادة الله تعالى بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما شهد به لك، حيث أقام الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق وأوقع: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن الوحي جنس واحد، فمن آمن بالنبوات أو آمن بنبي، وجب عليه الإيمان بباقي الأنبياء. وأول الأنبياء الذي أتى بتشريع هو نوح، وقيل: إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض، ثم انقطعت الرسل، حتى بعث الله نوحا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم، ثم إسحاق بن إبراهيم، ثم لوط ابن أخي إبراهيم، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق، ثم يوسف بن يعقوب، ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب، ثم الخضر وهو خضرون، ثم

داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذو الكفل، واسمه: عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب، ثم موسى ثم عيسى، ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليهم صلوات الله وسلامه. وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف وسبعمائة سنة، وليسا من سبط واحد. وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلّى الله عليه وسلّم وشرفه، حيث قدمه في الذكر بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ على بقية الأنبياء. والكتب المنزلة على الأنبياء أربعة هي: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وقرآن محمد عليهم السلام. وموسى هو كليم الله. والأنبياء آلاف كثيرة والرسل مئات كما سبق، منهم من ذكر اسمه وقصته في القرآن وهم خمسة وعشرون نبيا، ومنهم من لم يذكر. ومهمة الرسل التبشير والإنذار، والحكمة من إرسالهم هداية الناس إلى الحق والخير والصراط المستقيم. والله تعالى وملائكته شهدوا بصدق رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، والله يعلم أنه أهل لإنزال القرآن عليه، ودلت الآية: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ على أنه تعالى عالم بكل علم، وكفى الله شاهدا.

ضلال الكافرين وجزاؤهم ودعوة الناس إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم [سورة النساء (4) الآيات 167 إلى 170] :

ضلال الكافرين وجزاؤهم ودعوة الناس إلى الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) الإعراب: خالِدِينَ فِيها منصوب على الحال، والعامل فيها: يهديهم، ومعناه: ما يهديهم إلا طريق جهنم في حال خلودهم. بِالْحَقِّ أي مصحوبا بالحق وهو القرآن، وقيل: الباء للتعدية، أي جاءكم ومعه الحق فهو في موضع الحال. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. خيرا: إما منصوب بفعل مقدر دل عليه فَآمِنُوا فهو يدل على إخراجهم من أمر وإدخالهم فيما هو خير لهم، فكأنه قال: ائتوا خيرا لكم. وكذلك قوله تعالى فيما بعد: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أو منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف وتقديره: فآمنوا إيمانا خيرا لكم أو منصوب لأنه خبر (يكن) المقدرة، وتقديره: فآمنوا يكن خيرا لكم. المفردات اللغوية: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوهم من دين الإسلام بكتمهم نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم اليهود قَدْ ضَلُّوا لم يهتدوا إلى الحق كَفَرُوا بالله وَظَلَمُوا نبيه بكتمان نعته إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أي الطريق المؤدي إليها يَسِيراً هينا يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلّم خَيْراً لَكُمْ أي آمنوا به واقصدوا خيرا لكم مما أنتم فيه فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، فلا يضره كفركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في صنعه بهم.

المناسبة:

المناسبة: أثبت الحق تعالى في الآيات السابقة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بشهادته له بما أنزل عليه، ثم أنذر في هذه الآيات من يكفر به، وقد ذكر فيها صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، وهي أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن، وصدوا غيرهم عن سبيل الله. التفسير والبيان: إن الذين كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام واتباع النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به، بإلقاء الشبهات في قلوبهم، نحو قولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء، كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود.. هؤلاء وهم اليهود قد ضلوا ضلالا بعيدا أي خرجوا عن الحق والصواب وبعدوا عنه بعدا عظيما شاسعا. ثم أعلن الله تعالى حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، وهو أنه لا يغفر لهم، ولا يهديهم طريقا إلى الخير، ولا يوفقهم بعدئذ إلى صواب، وليس من شأنه أن يوصلهم إلا إلى الجزاء على أعمالهم وهو طريق جهنم. وقوله: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ استثناء منقطع، فهي طريق الكافرين الظالمين. ومصيرهم في جهنم هو الخلود فيها، أي البقاء فيها على حال واحدة لا تغيير فيها ولا فناء، وهو خلود أبدي، والأبد: الزمن الممتد، والله أعلم باستمراره بما يتناسب مع أعمالهم، وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره لأنه القادر على كل شيء، الواحد القهار، يفعل بما تقتضيه الحكمة والعدل. وفي هذا تحقير لشأنهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وبعد أن أجاب تعالى عن شبهة اليهود، وفنّد حجتهم، وبيّن فساد طريقتهم، خاطب جميع الناس خطابا يأمرهم فيه الانصياع لدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والإيمان برسالته. فهذا الرسول قد جاءكم بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه، يكن الإيمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس والأرجاس، ويرشدكم لما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، والحق الذي أتى به من ربه: هو القرآن المعجز، والدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره. ثم هدد الحق تعالى وأنذر أنه إن تكفروا فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم وقادر على عقابكم، ولا يتضرر بكفرانكم، فإن له جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، أي جميع ما في الكون مملوك لله، وهو الذي خلقهم، وكلهم عبيد له خاضعون لحكمه، كما قال تعالى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] وقال هاهنا: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه ولا يخفى عليه شيء من أعمال عباده حَكِيماً في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ولا يضيع عمل عامل منهم، ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن، لقوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- اليهود وغيرهم ممن كفر بالإسلام بعيدون عن الحق والصواب جدا لأنهم كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن، ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.

المسيح عيسى ابن مريم في القرآن [سورة النساء (4) الآيات 171 إلى 173] :

2- عقاب الكافرين الظالمين: الخلود في نار جهنم، وعدم المغفرة لهم، وإبعادهم عن طريق الهداية الربانية بظلمهم وبكفرهم وعنادهم، فهم ظلموا محمدا بكتمان نعته، وظلموا أنفسهم إذ كفروا، وظلموا الناس إذ كتموهم ومنعوهم عن دين الإسلام. وقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ هو فيمن يموت على كفره ولم يتب. 3- دعوة الإسلام هي دعوة الحق من الله، فهي الدين الحق المشتملة على شهادة أن لا إله إلا الله، المؤيدة بالقرآن المعجز، الداعية إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإعراض عما سواه، والعقل يدل على أن هذا هو الحق، مما يدل على أن محمدا جاء بالحق من ربه. المسيح عيسى ابن مريم في القرآن [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)

الإعراب:

الإعراب: وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ: ثلاثة: خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ أن المصدرية وصلتها: في موضع نصب لحذف حرف الجر وتقديره: سبحانه عن أن يكون له والد، ومن أن يكون له ولد. وكذلك قوله تعالى: نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: من أن يكون عبدا لله. البلاغة: يا أَهْلَ الْكِتابِ أطلق العام وأريد به الخاص وهم النصارى بدليل قوله بعده: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وهو قول النصارى. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ فيه قصر موصوف على صفة. وَرُوحٌ مِنْهُ: نْ : كما تأتي للتبعيض تأتي لابتداء الغاية، كما هنا، مثل قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية 45/ 13] . المفردات اللغوية: يا أَهْلَ الْكِتابِ أي الإنجيل والمراد بهم هنا النصارى لا تَغْلُوا لا تتجاوزوا الحد بالتفريط أو الإفراط إِلَّا الْحَقَّ أي إلا القول الحق من تنزيهه عن الشريك والولد وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ المراد أنه حدث بكلمة لكِنْ التكوينية، لا بمادة أخرى كغيره من الناس، وأوصلها الله إلى مريم. وَرُوحٌ مِنْهُ أي ذو روح من الله تعالى أي وجد بنفخ من روح الله وهو جبريل، وأضيف إليه تعالى تشريفا له، وليس كما زعمتم: ابن الله، أو إلها معه، أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه. وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ أي ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه انْتَهُوا عن ذلك خَيْراً وأتوا خيرا لكم منه وهو التوحيد سُبْحانَهُ تنزيها له عن الولد. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا، والملكية تنافي البنوة. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا شهيدا على ذلك. ْ يَسْتَنْكِفَ يتكبر ويأنف يَسْتَكْبِرْ يجعل نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

المناسبة:

ولا خطر على قلب بشر عَذاباً أَلِيماً مؤلما هو عذاب النار مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره وَلِيًّا يدفعه عنهم وَلا نَصِيراً يمنعهم منه. المناسبة: لما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الطريق الأقوم، أردف ذلك بمحاجة النصارى، وألزمهم الرأي الحق في عيسى ابن مريم. التفسير والبيان: ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، فإن النصارى تجاوزوا الحد في عيسى حتى ألّهوه، فنقلوه من منزلة النبوة إلى اتخاذه إلها من دون الله، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا. وكذلك اليهود غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به. والمطلوب هو التوسط بين الأمرين، فلا إفراط بتعظيم عيسى وتقديسه، ولا تفريط بتحقيره. يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا حدود الله بالزيادة أو النقص في الدين، ولا تعتقدوا إلا بالحق الثابت بنص ديني متواتر أو برهان عقلي قاطع، وإياكم ما زعمتم من دعوى الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، ولا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه، وتحتقروه وتهينوه، كما فعلت اليهود، ولا تتغالوا في تعظيم عيسى وتقديسه، حتى تجعلوه إلها أو ابن الله، كما زعمت النصارى. إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة القديسة، رسول الله إلى بني إسرائيل، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والتثليث، وحثهم على التقوى، وزهّدهم في الدنيا، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين، كما حكى القرآن عنه: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 61/ 6] .

وهو مكون بكلمة لكِنْ التكوينية من غير أب: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 47] . فكما أن الله قادر على أن يخلق بشرا من غير أب ولا أم وهو آدم عليه السلام، أو من غير أم وإنما من أب فقط وهو حواء، أو بسبب ظاهر معتاد من أب وأم، قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب وهو عيسى عليه السلام: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] وأخبر الله تعالى عن بشرية عيسى وعبوديته لله تعالى فقال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف 43/ 59] والمادة أو الطبيعة بنفسها مخلوقة عاجزة عن خلق غيرها، فإن الأصل الأول للأشياء المخلوقة كلها هو الله تعالى. وهو مؤيد أيضا بروح كائنة من الله تعالى، لا جزءا ولا بعضا منه، كما فهم المسيحيون، وإلا لكان كل بشر مخلوق بنفخ الروح من الله من طريق الملك بعضا من الله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي من الله [الجاثية 45/ 13] . وتأييده بالروح الأمين ثابت بقوله تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة 2/ 87، 253] ووصف الله المؤمنين أيضا بتأييدهم بروح من الله فقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة 58/ 22] . قال مجاهد: رُوحٌ مِنْهُ أي ورسول منه، أي أنه مخلوق من روح مخلوقة. وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف 7/ 73] وفي قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج 22/ 26] وكما روي في الحديث الصحيح: «فأدخل على ربي في داره» أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد، ونمط واحد. وإذا كان الخلق الحقيقي لله تعالى لعيسى وغيره، فآمنوا بالله الواحد الأحد، وصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن

عيسى عبد الله ورسوله، وآمنوا إيمانا لائقا بكل الرسل دون تفرقة وهو أنهم عبيد الله لهم مهام فوضهم الله بها، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الأب والابن والروح القدس، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد، ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ففي هذا ترك للتوحيد الخالص الذي جاءت به المسيحية في أصلها الصحيح، وهو المبدأ الذي دعا إليه عيسى ومن قبله إبراهيم وسائر الأنبياء، ولا يعقل الجمع بين التثليث والتوحيد، فهو تناقض ترفضه بداءة العقول، لذا ندد الله تعالى بالقائلين بالتثليث فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [المائدة 5/ 73] وقال في آخر المائدة: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [5/ 116] وقال في أول المائدة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [7/ 17] . انْتَهُوا أيها النصارى عن القول بالتثليث، وقولوا قولا آخر يكن خيرا لكم منه وهو التوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ بالذات، منزه عن التعدد، ليس له أجزاء أو أقانيم، ولا هو مركب من أجزاء، سبحانه، أي أنه منزه عن أن يكون له ولد أو شريك، كما قلتم في المسيح: إنه ابنه أو هو عينه، فإن أردتم الابن الحقيقي فهذا محال على الله تعالى لأنه يقتضي كونه أبا أو زوجا، وإن أردتم الابن المجازي فلا يختص ذلك بعيسى. ليس لله ولد حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض، أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، والمسيح من جملة مخلوقاته، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد لأن الملكية تنافي البنوة، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا

آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] وقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام 6/ 101] . وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيدا على ذلك، وقال الرازي: والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات، وفي حفظ المحدثات، فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر «1» . ْ يَسْتَنْكِفَ ، أي لن يتكبر أو يأنف المسيح عن عبادة الله وحده، أو عن أن يكون عبدا لله، لعلمه بعظمة الله وما يستحقه من العبودية والشكر، وكذلك الملائكة المقربون لن يترفعوا عن أن يكون أحدهم عبدا لله. ومن يستنكف أو يترفع عن عبادته تعالى وحده، ويدعي الإشراك أو التثليث، فسيحشرهم إليه جميعا للجزاء، ويجازيهم ويحاسبهم على أعمالهم، أي فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا حيف. فأما المؤمنون بالله الذين يعملون الأعمال الصالحة، فيعطيهم أجورهم وثواب أعمالهم كاملة غير منقوصة، أي يعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه. وأما الذين استنكفوا وتكبروا أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته فيعذبهم عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة حسبما يستحقون، ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا مناصرا ينصرهم من بأس الله ويرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] أي صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 117

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: في الآيات دلالات على أحكام جوهرية في العقيدة هي: 1- التغالي في الأمور ممنوع شرعا، فقد تغالى اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وتغالى النصارى فيه حتى جعلوه ربا، وأول عبارة في الإنجيل هي: «هذا كتاب إلهنا وربنا يسوع المسيح» فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذا ورد في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني «1» كما أطرت النصارى عيسى، وقولوا: عبد الله ورسوله» . 2- قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فيه إشارة إلى ثلاثة أحكام: الأول- قوله: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ دل على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا. الثاني- لم يذكر الله عزّ وجلّ امرأة وسمّاها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران، فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة: هي ترسيخ صفة العبودية لها، ومجاراة عادة العرب في ذكر الإماء بأسمائهن، أما الحرائر فكانوا يصونون أسماءهنّ عن الذكر والتصريح بها، لئلا تبتذل أسماؤهنّ. الثالث- اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود وقذفهم لها بالزنى. 3- كان لعيسى أربعة أسماء: المسيح، وعيسى، وكلمة، وروح. والمراد بالكلمة: أنه وجد بكلمة لكِنْ التكوينية، فكان بشرا من غير أب. والمراد

_ (1) الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.

بقوله وَرُوحٌ مِنْهُ: أنه وجد بنفخة جبريل عليه السّلام، ويسمى النفخ في كلام العرب روحا فإن الروح والريح متقاربان، والنفخ ريح يخرج من الروح. والمراد من قوله مِنْهُ التشريف والتفضيل، لا أنه جزء أو بعض من الله، فكلّ الخلائق من روح الله، كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة. ويقال: هذا روح من الله أي من خلقه. وقد وقع النصارى في الخطأ والضلال حينما قالوا: عيسى جزء من الله لأنه روح من الله. 4- الإيمان بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسلة، وبأن الرّسل ومنهم عيسى عبيد لله: هو الواجب الذي لا محيد عنه، وهو الحق الذي تقبله العقول الرشيدة، فلا يصح جعل عيسى إلها. 5- يحرم القول بتعدد الآلهة أو بأن الآلهة ثلاثة، قال ابن عباس: يريد بالتثليث: الله تعالى وصاحبته وابنه. والنصارى مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد، وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كلّ أقنوم إلها، ويعنون بالأقانيم: الوجود والحياة والعلم. والسائد أنهم يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن: المسيح. ومحصول كلامهم كما تقدّم يؤول إلى القول بأن عيسى إله، بسبب ما كان يظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات، وذلك خارج عن مقدور البشر، فيكون المقتدر عليها متصفا بالألوهية. وليس أدلّ على إسقاط صفة الألوهية عنه: أنه لو كان إلها لخلص نفسه من أعدائه، ودفع شرّهم، ولم يمكّنهم من صلبه، كما يزعمون. 6- الانتهاء عن القول بالتثليث هو الخير المحض، وهو الصواب لأن الله إله واحد، منزّه عن أن يكون له ولد، بل له ما في السموات وما في الأرض، والملكية

دعوة الناس إلى الإيمان بالنور المبين (القرآن) [سورة النساء (4) الآيات 174 إلى 175] :

تنافي البنوة، فلا شريك له، وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق. 7- لن يترفع المسيح ولن يأنف ولن يحتشم من أن يكون عبدا لله، وكذلك الملائكة المقرّبون من رحمة الله ورضاه لن يترفعوا عن عبوديتهم لله. ومن يأنف عن عبادة الله ويستكبر فلا يلتزم بفعل العبادة أو الطاعة، فإن الله سيجمع الخلائق إلى المحشر، ويجازي كلّا بما يستحق. فالمؤمنون العاملون الصالحات لهم ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص، ويزيدهم الله من فضله ورحمته وإحسانه. والمستنكفون المتكبرون يعذبون عذابا مؤلما، دون أن يجدوا لهم وليّا يلي أمورهم، أو نصيرا ينصرهم. 8- استدلّ بعضهم بقوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ على تفضيل الملائكة على البشر، وأنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا. وردّ عليهم بأن الآية في معرض تفضيل الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة، فهم أقدر على الامتناع من عبادة الله من المسيح، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل. دعوة الناس إلى الإيمان بالنور المبين (القرآن) [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)

الإعراب:

الإعراب: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً: صراطا: إما منصوب بتقدير فعل، وتقديره: يعرفهم صراطا، ودل يَهْدِيهِمْ على المحذوف أو منصوب على أنه مفعول ثان ليهدي، وتقديره: ويهديهم صراطا مستقيما إلى ثوابه. المفردات اللغوية: بُرْهانٌ حجة من ربكم عليكم، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم نُوراً مُبِيناً وهو القرآن صِراطاً طريقا مُسْتَقِيماً سويا وهو دين الإسلام. المناسبة: أقامت الآيات السابقة الحجة على المنافقين والمشركين واليهود والنصارى، وأثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكان ذلك مقدمة لهاتين الآيتين اللتين وجهت فيهما الدعوة إلى الناس كافة لاتباع دعوة الإسلام. التفسير والبيان: يا أيها الناس، قد جاءكم برهان ساطع ودليل قاطع من ربكم، يبين لكم حقيقة الإيمان بالله وأنظمة المجتمع الصالحة لحياة أفضل، وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، النبي العربي الأمي الأمين، الذي نشأ بينكم في الجاهلية، ولكنه لم يتلوث بمفاسدها وأدرانها، وإنما تعهده ربه بالتربية والعناية والإعداد لحمل الرسالة، فكان المثل الأعلى في سلوكه وخلقه وسيرته وقيادته، وكان برهانا عمليا عظيما على صدق رسالته: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] . وأنزلنا إليكم مع هذا البرهان نورا مبينا أي ضياء واضحا على الحق، وهو القرآن الكريم الذي جاء لتصحيح العقيدة والنظام، فقرر التوحيد الخالص، وحارب الوثنية والشرك، وأبان زيف اليهودية والنصرانية المحرفة الحالية،

فقه الحياة أو الأحكام:

وأرسى معالم الهداية وأوضح طريق العبادة الصحيحة لله تعالى، ووضع أسس الأخلاق وأنظمة الحياة الرشيدة في السياسة والحرب والسلم والاقتصاد والاجتماع وعلوم الكون، فكان ذلك أيضا بالإضافة إلى السيرة الذاتية للنبي برهانا على كون هذا الدين هو دين الحق الذي لا معدل عنه ولا مثيل له. وترتب عليه أن الذين آمنوا بالله، وتمسكوا واعتصموا بالقرآن أو الإسلام، واتبعوا نوره، فيدخلهم الله في رحمته، ويعمهم بفضله في الدنيا والآخرة، أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ورفعا بالقرآن، قال ابن عباس: الرحمة: الجنة، والفضل: ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر «1» . ويهديهم طريقا قويما يوصلهم إلى إحراز السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة واتباع طريق السلامة في الاعتقاد والعمل، وفي الآخرة بالجنة والرضوان، أي يوفقهم إلى ذلك، ولا توفيق ولا هداية خاصة بغير الاعتصام بالقرآن المجيد واتباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام. روى الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعا: «القرآن: صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين» . فقه الحياة أو الأحكام: البرهان العظيم من الله لعباده هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسمي برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة أو الحجة، فإن المعجزات حجته صلّى الله عليه وسلّم. والنور المبين: هو القرآن الكريم، وسمي نورا لأن به تتبين الأحكام، ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين أي واضح بيّن. فمن آمن بالله واعتصم بالقرآن عن معاصيه، والعصمة: الامتناع، فاز بالجنة

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 11/ 120

والرضوان، وحظي بالفضل الإلهي العظيم في الدنيا والآخرة. ودل قوله تعالى: وَفَضْلٍ على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه من غير مقابل إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. قال الرازي: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية، وهذا هو السعادة الروحانية. وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية «1» . والهداية في القرآن نوعان: هداية عامة وهداية خاصة. أما الهداية العامة: فهي كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 90/ 10] أي طريقي السعادة والشقاوة، والخير والشر، وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة، وهداية العقل، وهداية الدين. وأما الهداية الخاصة: فهي مثل: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 90] ومثل اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] . هذه الهداية ليست الدلالة العامة كما سبق، وإنما هي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة. ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 120

ميراث الكلالة أو ميراث الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب [سورة النساء (4) آية 176] :

ميراث الكلالة أو ميراث الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) الإعراب: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ محله الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ: إنما قال: اثْنَتَيْنِ ولم يقتصر على قوله: كانَتَا لأنها تفيد التثنية العددية لوجهين: أحدهما- أنه لو اقتصر على قوله: كانتا ولم يقل اثنتين لاحتمل أن يريد بهما الصغيرتين أو الكبيرتين، فلما قال: اثنتين أفاد العدد مجردا عن الصغر والكبر، فكأنه قال: فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين، فقام اثْنَتَيْنِ مقام هذين الوصفين. والثاني- أن يكون محمولا على المعنى، وتقديره: فإن كان ممّن يرث اثنتين، فبنى الضمير على معنى (من) وهذا قول الأخفش، والوجه الأول أوجه. أَنْ تَضِلُّوا تقديره: كراهة أن تضلوا، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو مفعول لأجله. وقيل: تقديره: لئلا تضلوا، فحذف (اللام ولا) من الكلام لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى. والوجه الأول أوجه. المفردات اللغوية: الْكَلالَةِ: من لا والد له ولا ولد، والآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة هَلَكَ: مات أَنْ تَضِلُّوا ألا تضلوا.

سبب النزول:

سبب النزول: روى النسائي عن جابر قال: اشتكيت، فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلت: بالشطر؟ قال: أحسن، ثم خرج، ثم دخل علي، قال: لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله أنزل وبيّن ما لأخواتك وهو الثلثان، فكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيّ: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. قال الحافظ ابن حجر: هذه قصة أخرى لجابر غير التي تقدمت في أول السورة، أي في الآية (11) . وفي رواية: اشتكيت فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي سبع أخوات. وأخرج ابن مردويه عن عمر أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كيف يورث الكلالة؟ فأنزل الله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. وروى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث، يريد هذه الآية» . وروى الشيخان عن البراء: أنها آخر آية نزلت، أي من الفرائض. قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين: إحداهما- في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها. والآية الأولى تسمى آية الشتاء، والآية الثانية تسمى آية الصيف.

المناسبة:

المناسبة: قال الرازي: اعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال، وختم آخرها بذلك، ليكون الآخر مشاكلا للأول، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين «1» . التفسير والبيان: أجمع العلماء على أن هذه الآية في ميراث الإخوة من الأب والأم (الأشقاء) أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة وهي: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [12] . روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال في خطبة له: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض، فأولها- في الولد والوالد، وثانيها- في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام «2» . يطلب منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة، كجابر بن عبد الله، ليس له والد ولا ولد، وله أخوات من العصبة، لم يفرض لهم شيء من التركة قبل، وإنما فرض للإخوة لأم: السدس للواحد، والثلث لاثنين فأكثر. والكلالة: مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه. وهي اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث: فهو من سوى الوالد

_ (1) التفسير الكبير: 11/ 120 (2) المرجع السابق: 11/ 121 [.....]

والولد، قال أبو بكر: الكلالة: ما عدا الوالد والولد. وإن وقع على المورث: فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد. إن هلك امرؤ غير ذي ولد، وله أخت شقيقة أو لأب، فلها نصف التركة. وقد أشكل حكم الكلالة على عمر فقال فيما ثبت في الصحيحين: «ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وباب من أبواب الربا» أي ما أنزل أواخر سورة البقرة من آيات الربا. وأخرج ابن ماجه في سننه بلفظ: «الكلالة والربا والخلافة» . والمراد بالولد هنا: ما يشمل الذكر والأنثى لأن الكلام في الكلالة: وهو من ليس له ولد أصلا، لا ذكر ولا أنثى، وليس له والد أيضا. واقتصر على ذكر الولد لظهور الأمر. والمقصود بالأخت هنا: الأخت الشقيقة أو لأب، أما الأخت لأم فقد بين الله حكمها في أول السورة بالإجماع كما تقدم. وتستحق الأخت النصف إن كان للميت بنت، فإن كان له ابن فلا شيء لها، أما ظاهر الآية وهو أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد (ذكرا أو أنثى) فليس مرادا. ويشترط أيضا لاستحقاقها النصف ألا يكون للميت والد، وظاهر الآية أنها تستحق النصف إذا لم يكن للميت ولد غير مراد أيضا لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع «1» . ثم قال تعالى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يعني أن الأخ يرث تركة أخته جميعها بالتعصيب إذا لم يكن للأخت ولد ولا والد يحجبه عن الإرث. والمقصود بالأخ هنا: الأخ الشقيق أو لأب، أما الأخ لأم فلا يستغرق الميراث، وإنما فرضه السدس.

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 121

فقه الحياة أو الأحكام:

فإن كان الوارث أختين فأكثر، والمراد بالأخت: الشقيقة أو لأب، وليس المراد بها الأخت لأم، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الكلالة. والاثنتان فأكثر سواء لأن أخوات جابر كن سبعا. وإن كان من يرث إخوة ذكورا وإناثا، فللذكر مثل حظ الأنثيين. أما الإخوة لأم فهم شركاء في الثلث. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أمور دينكم وجميع الأحكام من حلال وحرام كراهة أن تضلوا، أو عند الكوفيين لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان في قسمة التركات وغيرها، وعلى التأويل الأول حذف المضاف عند البصريين وهو: كراهة أَنْ تَضِلُّوا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] والتأويل الثاني كحديث ابن عمر الثابت: «لا يدعونّ أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة» «1» والمعنى: لئلا يوافق من الله إجابة. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي أن ما شرعه لكم من الأحكام فيه الخير والمصلحة لكم، وهو صادر عن علم واسع لله، فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة أربع حالات: الأولى- أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة: فلها النصف فرضا، والباقي للعصبة إن كانوا، وإلا فيعود الباقي لها بالرد. وكذلك ترث الأخت من أختها النصف. الثانية- العكس وهو أن تموت امرأة ويرثها أخ واحد، فله جميع التركة. وكذلك يرث الأخ جميع تركة أخيه.

_ (1) ورواه أيضا أبو داود عن جابر بن عبد الله.

الثالثة- أن يكون الوارث للأخ أو الأخت أختان فأكثر، فلهما الثلثان، وقد أجمع العلماء على أن الأكثر من أختين كالأختين لأن الأكثر من بنتين لا يزدن عن الثلثين، فبالأولى لا يزيد الأكثر من أختين عن الثلثين، كما تقدم. الرابعة- أن يكون ورثة الأخ أو الأخت عددا من الإخوة والأخوات، فللذكر مثل حظ الأنثيين. لكن إن اجتمع إخوة أشقاء وإخوة لأب، قدم الأشقاء لأن الإخوة لأب يحجبون بالإخوة الأشقاء. أما إذا كان إخوة الميت الكلالة عددا من الإخوة الذكور فإنهم يرثون جميع التركة. وجمهور الصحابة والتابعين غير ابن عباس وداود الظاهري يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، وإن لم يكن معهن أخ. أما ابن عباس وداود فلا يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، لظاهر قول الله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولم يورثوا الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها.

سورة المائدة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية، وهي السورة الخامسة من القرآن الكريم. تسميتها: تسمى هذه السورة سورة المائدة لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء بعد أن طلبها الحواريون من عيسى عليه السلام، لتدل على صدق نبوته، وتكون لهم عيدا. وتسمى أيضا سورة العقود، وسورة المنقذة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب» . تاريخ نزولها: هي سورة مدنية نزلت بعد الهجرة ولو في مكة بعد الانصراف من الحديبية، وثبت في الصحيحين عن عمر: «أن قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس، إن سورة المائدة آخر ما نزل، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها» وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: «آخر سورة نزلت: المائدة والفتح» وروى أحمد والنسائي والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه» .

مناسبتها لما قبلها:

مناسبتها لما قبلها: هناك أوجه تشابه بينها وبين سورة النساء، لاشتمال كل منهما على عدة عهود وعقود وأحكام ومناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، ففي سورة النساء الكلام على عقود الزواج والأمان والحلف والمعاهدة، والوصايا والودائع والوكالات والإجارات، وابتدأت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود. ومهدت سورة النساء لتحريم الخمر، وحرمتها سورة المائدة بنحو قاطع، وتضمنت السورتان مناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في عقائدهم ومواقفهم من الرسالة المحمدية. ما اشتملت عليه: اشتملت سورة المائدة على أحكام تشريعية وثلاث قصص. أما الأحكام: فهي بيان أحكام العقود ونكاح الكتابيات والوصية عند الموت، والمطعومات من ذبائح وصيود، وصيد الإحرام وجزائه، والطهارة من وضوء وغسل وتيمم، وتحريم الخمر والميسر وجزاء الردة، وحد السرقة وحد الحرابة (قطع الطريق) وكفارة اليمين، وشريعة الجاهلية بتحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وحكم تارك العمل بما أنزل الله، ونحو ذلك في أثناء مناقشة ومجادلة النصارى واليهود والمشركين والمنافقين. قال العلماء: فيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها وهي: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ، وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وتمام الطهور: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ وما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية.

وذكر القرطبي فريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات. وفي الجملة انفردت سورة المائدة ببيان أصول مهمة في الإسلام هي: 1- إكمال الدين، وأن دين الله واحد، وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم. 2- بيان عموم بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره بالتبليغ العام، وانحصار مهمته بالتبليغ فقط. 3- أوجب الله على المؤمنين إصلاح نفوسهم، وأنه لا يضرهم إن استقاموا ضلال غيرهم، وطريق الإصلاح الوفاء بالعقود، وتحريم الاعتداء على الآخرين، والتعاون على البر والتقوى وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة الكفار، ووجوب الشهادة بالعدل، والحكم بالقسط والمساواة بين المسلمين وغيرهم. 4- بيان أحكام المطعومات، وتحريم الخمر والميسر (القمار) والأنصاب والأزلام. 5- تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع في ذلك اليوم الصدق. وأما القصص الثلاث الواردة للعبرة والعظة فهي: الأولى- قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام إذ قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. والثانية- قصة ابني آدم، حيث قتل قابيل هابيل، وهي أول جريمة في الأرض. والثالثة- قصة المائدة التي كانت معجزة خارقة لعيسى عليه السلام أمام صحبه الحواريين.

فضلها:

فضلها: أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) الإعراب: إِلَّا ما يُتْلى.. ما: إما منصوب على الاستثناء من بَهِيمَةُ أو مرفوع على أنه صفة بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ كما تقول: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير ما يتلى، فإذا أقيمت إلا وما بعدها مقام غَيْرَ رفعت ما بعد إلا. والوجه الأول أوجه. غَيْرَ مُحِلِّي غير: منصوب على الحال إما من الكاف واللام في لَكُمْ والعامل فيه: أحلت وإما من ضمير أَوْفُوا والعامل فيه: أَوْفُوا.

البلاغة:

وَأَنْتُمْ حُرُمٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير الفاعل في مُحِلِّي. وَلَا الْقَلائِدَ: أي ذوات القلائد، وهي جمع قلادة: وهي ما قلّد البعير من لحاء الشجر وغيره يَبْتَغُونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير: آمِّينَ أي لا يحلّوا من قصد البيت الحرام مبتغين فضلا من ربهم. ولا يجوز أن يكون صفة لآمّين لأنه قد نصب البيت، واسم الفاعل إذا وصف لم يعمل لأنه يخرج بالوصف عن شبه الفعل، والفعل لا يوصف. أَنْ صَدُّوكُمْ أن مصدرية في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن، فحذف اللام فاتصل الفعل به. وأَنْ تَعْتَدُوا منصوب بيجرمنكم. البلاغة: شَعائِرَ اللَّهِ: استعارة، استعار الشعيرة وهي العلامة للمتعبدات التي تعبد الله بها العباد من الحلال والحرام. وَلَا الْقَلائِدَ أي ذوات القلائد، وهي عطف خاص على عام. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فيه ما يسمى بالمقابلة في علم البديع. المفردات اللغوية: أَوْفُوا أتموا الشيء وافيا كاملا لا نقص فيه بِالْعُقُودِ أي العهود المؤكدة الموثقة التي بينكم وبين الله والناس، أي ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. فهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرّم وفرض، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والزواج وغير ذلك بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة: هي ما لا عقل لها، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر. والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، وما يلحق بها من الجاموس والمعز والظباء. وأحلت لكم بهيمة الأنعام أكلا بعد الذبح إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه في آية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون بالحج أو العمرة. والحرم: جمع حرام. شَعائِرَ جمع شعيرة، أي معالم دينه وخصت بمناسك الحج، وقوله لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي بالصيد في الإحرام الشَّهْرَ الْحَرامَ أي بالقتال فيه وَلَا الْهَدْيَ ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، بذبحه فيه للفقراء، وهو من النسك. الْقَلائِدَ جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق، والقلادة: هي ما كان يقلد به من شجر الحرم ليأمن، أي فلا تتعرضوا لها ولا لأصحابها. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام، بأن تقاتلوهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا رزقا أو

سبب النزول:

ربحا من ربهم بالتجارة وَرِضْواناً منه بقصده، بزعمهم الفاسد أي يقصدون التوصل إلى رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا، وهذا منسوخ بآية براءة، قال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ. وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام فَاصْطادُوا أمر إباحة لا أمر إيجاب وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنكم ولا يكسبنكم شَنَآنُ بغض قوم، لأجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم بالقتل وغيره. الْبِرِّ هو كلمة جامعة للخير، تشمل كل ما أمر به الشرع واطمأن إليه القلب وَالتَّقْوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات الْإِثْمِ المعصية والذنب، وهو كل ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس الْعُدْوانِ التعدي في حدود الله وَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه. سبب النزول: نزول لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة، قال: قدم الحطم بن هند البكري المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه، ثم دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبايعه وأسلم، فلما ولى خارجا، نظر إليه، فقال لمن عنده: لقد دخل علي بوجه فاجر، وولى بقفا غادر، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له يحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار، ليقتعوه «1» في عيره، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الآية، فانتهى القوم، وأخرج عن السدي نحوه. نزول قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: نصد هؤلاء، كما صدوا أصحابنا، فأنزل الله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ الآية.

_ (1) ليقتعوه: أي ليقمعوه ويذلوه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: نادى الله المؤمنين بوصف الإيمان ليحثهم على امتثال ما يكلفهم به، فإن شأن المؤمنين الانقياد لما يكلفون به من ربهم. يا من اتصفتم بالإيمان ونبذتم كل ما يدعو إليه الشيطان أوفوا بالعقود أي العهود التي عقدتموها بينكم وبين الله أو بينكم وبين الناس، وهي التكاليف التي ألزمكم الله بها والتزمتموها، مما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض وأحكام الحلال والحرام. ومن هذه التكاليف: ما يعقده الناس بعضهم مع بعض من عقود المعاملات. وهذه العقود ستة هي: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون عند شروطهم» «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» «1» . فيجب الوفاء بالعقود والعهود بحسب الشروط المتفق عليها إذا لم تصادم الشرع، فلا يجب الوفاء بالتعاقد على المحرمات، مثل حلف الجاهلية على الباطل، كحلفهم على التناصر والميراث، بأن يقول شخص لآخر إذا حالفه: دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك. ثم فصّل الله تعالى عقوده على الناس في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه، ومهد للنهي عن بعض محرمات الإحرام ببيان نعمه التي تحملنا على الوفاء بالعقود، ومن أعظم النعم إحلال بهيمة الأنعام أكلا من طريق الذبح الشرعي، والأنعام: هي الإبل والبقر والضأن والمعز وأمثالها كالظباء وبقر الوحش. والبهيمة في الأصل: كل حي لا يميز، فهي تشمل الأنعام وغيرها، سواء أكانت من ذوات الأربع أم لا. ثم قيدها بالأنعام، والإضافة للبيان، أي بهيمة

_ (1) الحديث الأول رواه الحاكم عن أنس وعائشة، والثاني رواه البزار والطبراني عن ابن عباس. والثالث رواه أحمد ومسلم عن عائشة.

هي الأنعام. فلا تشمل غير الأنعام، سواء أكانت من ذوات الحوافر كالخيل والبغال والحمير، أم من غيرها كالسباع من أسد ونمر وذئب ونحوها من كل ما له ناب، أو له مخلب من الطيور كالنسر والعقاب والغراب والصقر. ولا بد من إضمار فعل يناسب الكلام لأن الإحلال لا يتعلق إلا بالأفعال، وهذا الفعل مأخوذ من الانتفاع، ويكون المراد من قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ: أحل لكم الانتفاع ببهيمة الأنعام، وهو يشمل الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها، وذلك مثل تقدير فعل في قوله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النحل 16/ 5] أي لتنتفعوا بها في الدفء وغيره. ثم استثنى الله تعالى من الأنعام محرمات عشر، فقال: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي يستثني من حل بهيمة الأنعام ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية، حالة كونكم غير محلي الصيد في الإحرام، فيحرم الصيد في أثناء الإحرام بالحج أو العمرة، وفي الحرم المكي والمدني ولو في غير حالة الإحرام. والحرم: جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة. ودلت السنة على تحريم صيد الحرمين. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام ويعلم أنه حكمة ومصلحة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ... أي يا أيها المؤمنون، لا تحلوا شعائر الله، أي مناسك الحج، وإحلال الشعائر: استباحتها والتهاون بحرمتها والإخلال بأحكامها، والحيلولة بينها وبين المتنسكين بها، فلا تتعدوا حدود الله. ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، فلا تقاتلوا المشركين فيها، ولا تبدلوها بغيرها كما كان العرب يفعلون في الجاهلية من عملية النسيء، أي تأخير حرمة شهر حرام إلى غيره، ولا تحدثوا في أشهر الحج ما تصدون به الناس عن الحج. وَلَا الْهَدْيَ أي ولا تعترضوا الهدي

المهدي للحرم بالغصب أو الأخذ أو المنع من بلوغ محله حتى لا يصل إلى الكعبة. وسمي الشهر حراما لتحريم القتال فيه. وقد نسخ هذا الحكم بآية براءة كما تقدم بيانه وهي قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [9/ 5] ، والهدي: ما يتقرب به المرء من النعم ليذبح في الحرم. وَلَا الْقَلائِدَ من الأنعام، لا تنتهكوا أيضا حرمتها، والمراد بها ذوات القلائد وهي جمع قلادة: وهي ما قلد به الهدي مما يعلق في عنق البعير أو غيره من نعل أو عروة مزادة أو جلد أو قشر شجر أو غيره، ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له. وخصت بالبيان مع شمول الهدي لها تشريفا لها واعتناء وزيادة توصية بها لأنها أشرف الهدي. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي ولا تعترضوا ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام، يطلبون من الله الفضل (الرزق والثواب) والرضوان (الرضا، أي أن يرضى عنهم) أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيما لهم، واستنكارا أن يتعرض لمثلهم لأن من دخل البيت الحرام كان آمنا، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه. والمقصود من الحفاظ على حرمة الأمور المتقدمة أن يكون الناس في زمان الحج ومكانه في أمان واطمئنان، فلا يتعرض الحاج للخوف والقلق، حتى يأمن على نفسه وماله. وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، وأنتم في غير أرض الحرم، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد، فاصطادوا كما تشاؤون، ولا إثم عليكم في الصيد وأكله. وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبا رده واجبا، وإن كان مستحبا فمستحب، أو مباحا فمباح.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ.. أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد، وذلك عام الحديبية، على أن تتعدوا حكم الله، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد «1» . وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ: وهو كل خير أمر به الشرع أو نهى عنه من المنكرات، أو اطمأن إليه القلب، ولا تتعاونوا على الإثم وهو الذنب والمعصية: وهي كل ما منعه الشرع، أو حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولا تتعاونوا على التعدي على حقوق الغير. والإثم والعدوان يشمل كل الجرائم التي يأثم فاعلها، ومجاوزة حدود الله بالاعتداء على القوم. واتقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصى وخالف. وإظهار اسم الجلالة هنا في موضع الإضمار لإدخال الروعة والخوف وتربية المهابة في القلوب. وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل خير وشر ومعروف ومنكر مع رقابة الله في السر والعلن. فقه الحياة أو الأحكام: هاتان الآيتان تضمنت أصول الإسلام في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، وفيهما من الفصاحة وكثرة المعاني مع قلة الألفاظ ما لا يخفى على أحد. والآية الأولى تضمنت خمسة أحكام: 1- الأمر بالوفاء بالعقود التي يتعاقد بها الناس، ووجوب الوفاء بالتكاليف

_ (1) وورد تعبير مماثل في آية أخرى هي: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، والعدل: به قامت السموات والأرض، والعدل أقرب للتقوى.

الإسلامية، فيلزم دفع أثمان المبيعات ومهور النساء ونفقاتهن، والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردها إلى أصحابها سالمة، وحفظ مال المستأمن ونفسه، وصون حرمة المعاهد وأسرته وماله. وقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأثبت الشافعي وأحمد هذا الخيار للمتعاقدين ما داما في مجلس العقد، فلهما الإمضاء والفسخ، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ آخر للبخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» وهذا صريح في إثبات خيار المجلس عقب عقد البيع، ما دام المتعاقدان في المجلس، وليس هذا منافيا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود. أما النذر الواجب الوفاء به فهو نذر الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام ونحوها، وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع الأمة. 2- تحليل بهيمة الأنعام بالأكل من طريق الذبح الشرعي. 3- استثناء المحرمات الآتية بعد في الآية (3) ونحوها، وكذا الثابت في السنة مثل نهيه عليه الصلاة والسلام عن «كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس. 4- استثناء حالة الإحرام فيما يصاد. ومثله صيد الحرمين. 5- إباحة الصيد لمن ليس بمحرم في غير الحرمين. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، فالله يحكم على وفق مشيئته وحسبما يرى من الحكمة

والمصلحة: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يشرّع ما يشاء كما يشاء. ودلت الآية الثانية على تحريم التعرض لمناسك الحج، وتجاوز حدود الله فيما شرع، فلا يجوز التعدي على معالم دينه. وتلك المعالم هي شعائر الله أي البدن التي تهدى للحرم، وإشعارها: أن يجزّ شيء من سنامها حتى يسيل منه الدم، فيعلم أنها هدي. وقال عطاء: شعائر الله: جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن البصري: دين الله كله، كقوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج 22/ 32] أي دين الله. وقد أجاز الجمهور الإشعار، ويكون- في رأي الشافعي وأحمد وأبي ثور- في الجانب الأيمن لما ثبت عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن. وقال مالك: يكون في الجانب الأيسر. وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء. ومنعه أبو حنيفة، وقال: إنه تعذيب للحيوان أي أنه مكروه كما صرح الحنفية، والحديث يؤوّل بأن الإشعار يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك. وقال الصاحبان: ليس بمكروه ولا سنة، بل هو مباح. ومن المعالم: حرمة الشهر الحرام وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، وهي «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» فلا تستحل للقتال ولا للغارة ولا تبدّل، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء. ثم نسخ تحريم القتال فيها بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ والمراد بها الأشهر التي حرم الله قتالهم فيها وضربها أجلا لهم يسيحون فيها في الأرض، ويفكرون في أمر الإسلام، وليس المراد بها أشهر الحج أو الأشهر الحرم بالمعنى السابق.

ومن المعالم: الهدي والقلائد، فلا تحلوا النعم التي يتقرب بها إلى الله تعالى لتذبح في الحرم. وإحلالها: هو التعرض لها وسلبها أو الانتفاع بها في غير ما سيقت له من التقرب إليه تعالى. والهدي: ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة. وهو في رأي الجمهور عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. وأخذ العلماء من ذلك عدم جواز الأكل من الهدايا التي تقدم للذبح في الحرم، إلا هدي التطوع والقران والتمتع، فإنه يجوز الأكل منها لصاحبها وللأغنياء لأنه دم نسك يقدم شكرا لله تعالى على ما أنعم به من التوفيق للعبادة، فيجوز الأكل منه، ولأنه قد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل من هدي القران والتمتع، وحسا من المرقة ، فيبقى غيرها على عدم الجواز لأنها دم مخالفات وعقوبات وكفارات، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها. والقلائد: المراد بها الهدايا التي تقلد، وهي التي كانت للتطوع أو النذر أو القران أو التمتع. أما الهدايا التي تجب بسبب الجنايات فلا تقلد. وهي على حذف مضاف، أي لا تحلوا ذوات القلائد: وهي كل ما علّق على أسنمة الهدايا وأعناقها، علامة أنها لله سبحانه. والتقليد أي وضع القلادة سنة إبراهيمية أقرها الإسلام، وهي عند الشافعي وأحمد سنة في البقر والغنم، قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرة إلى البيت غنما فقلّدها «1» . وأنكره مالك والحنفية، وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لتفرد الأسود به عن عائشة. واتفقوا فيمن قلّد بدنة على نية الإحرام، وساقها: أنه يصير محرما، قال الله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلى أن قال: فَاصْطادُوا ولم يذكر الإحرام، لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم.

فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه، لم يكن محرما، وهو مذهب الجمهور لحديث البخاري عن عائشة قالت: «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديّ: ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي» . وقال الحنفية: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وهو- فيما رواه البخاري- رأي ابن عباس. ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلّد أو أشعر لأنه قد وجب. وإن مات موجبه لم يورث عنه ويذبح في الحرم، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول فإن أوجبها بالقول قبل الذبح، فقال: «جعلت هذه الشاة أضحية» تعينت. وعليه إن تلفت ثم وجدها أن يذبحها. وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلّت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب. ولا تحلوا قوما قاصدين إلى البيت الحرام، أي لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة. وهذا كله منسوخ بآية السيف: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] وقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] فلا يمكّن المشرك من الحج، ولا يؤمّن في الأشهر الحرم، وإن أهدى وقلّد وحج. ودل قوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً على جواز ابتغاء الفضل أي الأرباح في التجارة. ودل قوله عز وجل: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا على إباحة صيد غير الحرم بعد الانتهاء من أعمال الحج، فهو أمر إباحة بإجماع الناس، لرفع ما كان محظورا بالإحرام. وقال المالكية: الأمر على أصله من الوجوب، وإنما فهمت الإباحة

المطعومات المحرمات وإكمال الدين والضرورة [سورة المائدة (5) آية 3] :

من النظر إلى المعنى، والإجماع، لا من صيغة الأمر. وخص الصيد بالذكر لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيرا كبيرهم وصغيرهم. وأرشد قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إلى حرمة الاعتداء بالباطل لأن المعنى: لا يحملنكم بغض قوم أن تتعدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . ودل قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ... على وجوب التعاون بين الناس على البر والتقوى، والانتهاء عما نهى الله عنه، وحرمة التعاون على المعاصي والذنوب، ويؤكده حديث «الدال على الخير كفاعله» رواه الطبراني عن سهل بن سعد وعن ابن مسعود، وهو صحيح. المطعومات المحرمات وإكمال الدين والضرورة [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) الإعراب: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا.. أن المصدرية مع صلتها: في موضع رفع بالعطف على قوله تعالى: الْمَيْتَةُ وتقديره: حرم عليكم الميتة والاستقسام بالأزلام: وهو قسمهم الجزور في الجاهلية عشرة أقسام.

المفردات اللغوية:

فَمَنِ اضْطُرَّ في موضع رفع بالابتداء، وهي شرطية، والجواب: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ.. وهو خبر المبتدأ، ومعه ضمير محذوف، وتقديره: فإن الله غفور رحيم. المفردات اللغوية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي أكلها وَالدَّمُ أي المسفوح وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ بأن ذبح على اسم غيره وَالْمُنْخَنِقَةُ الميتة خنقا وَالْمَوْقُوذَةُ المقتولة ضربا وَالْمُتَرَدِّيَةُ الساقطة من علو إلى أسفل فماتت وَالنَّطِيحَةُ المقتولة بنطح أخرى لها إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي على اسم النصب وهي الأصنام وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا تطلبوا القسم والحكم بالأزلام، جمع زلم (بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام) : قدح (بكسر القاف) صغير لا ريش فيه ولا نصل، وكانت سبعة عند سادن الكعبة، عليها أعلام، وكانوا يحكمونها، فإن أمرتهم ائتمروا وإن نهتهم انتهوا ذلِكُمْ فِسْقٌ خروج عن الطاعة. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن ترتدوا عنه بعد طمعهم في ذلك لما رأوا من قوته أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أحكامه وفرائضه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بإكماله، وقيل: بدخول مكة آمنين وَرَضِيتُ اخترت فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة فاضطر إلى أكل شيء مما حرم عليه، فأكله غَيْرَ مُتَجانِفٍ مائل لِإِثْمٍ معصية فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له ما أكل رَحِيمٌ به في إباحته له، بخلاف المائل لإثم، أي الملتبس كقاطع الطريق والباغي مثلا فلا يحل له الأكل. سبب النزول حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أخرج ابن منده في كتاب الصحابة من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده: حبان قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة، فأنزل تحريم الميتة، فأكفأت القدر. التفسير والبيان: يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات، التي أشير إلى شيء منها بقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [الحج 22/ 30] . والمحرم إجمالا أربعة

1 - الميتة:

أنواع ذكرت في سورتي البقرة والنحل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [النحل 16/ 115] ، وهي عشرة أنواع ذكرت تفصيلا هنا: 1- الميتة: وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير فعل فاعل، من ذكاة أو اصطياد، ويراد بها شرعا: ما مات دون تذكية (ذبح شرعي) . وقد حرمت لخبثها ولما فيها من الضرر ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها إما بسبب المرض أو بسبب احتباس الدم فيها، فإن ذكيت ذهب الدم الضار منها، على أن الطباع السليمة تعافها وتنفر منها وتأنف من أكلها، فهي ضارة للدين وللبدن، لذا حرمها الله عز وجل. فيحرم أكلها اتفاقا، وأما شعرها وعظمها فقال الحنفية: طاهران يجوز استعمالهما، وقال الشافعي: نجسان لا يجوز استعمالهما. ويستثني من الميتة نوعان: السمك والجراد، لما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي وابن ماجه من قوله صلّى الله عليه وسلّم عن ابن عمر: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال» ولما رواه مالك في موطئه والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . 2- الدم: أي الدم المسفوح، أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان لا المتجمد كالكبد والطحال وما يبقى في اللحم بعد الذبح عادة، بدليل قوله تعالى في آية

3 - لحم الخنزير:

أخرى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام 6/ 145] . وسئل ابن عباس عن الطحال فقال: كلوه، فقالوا: إنه دم، فقال: «إنما حرم عليكم الدم المسفوح» أي السائل من الحيوان عند التذكية، قليلا كان أو كثيرا. وسبب تحريم الدم المسفوح: أنه مباءة الجراثيم والسموم، وأنه مستقذر طبعا، ويعسر هضمه، ومن فضلات الجسم الضارة كالبراز، وأن فصائل الدم مختلفة، ولا تناسب فصيلة غيرها، فهو قذر يضر الأجسام. ولا عبرة بما كان العرب في الجاهلية يفعلونه من أكل الدم المختلط بالشعر وهو المسمى بالعلهز، وحشو الأمعاء بالدم ثم شيّه وأكله. 3- لحم الخنزير: وهو يشمل جميع أجزائه حتى الشحم والجلد، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود الأهم، وقد نفر الشرع من الانتفاع بجميع أجزاء الخنزير في قوله تعالى: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام 6/ 145] وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم في صحيحة عن بريدة بن الخصيب الأسلمي-: «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه» فإنه تنفير من مجرد اللمس، فيكون التهديد على أكله والتغذي به أشد. وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلي بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام» . وقد أجاز قوم استعمال شعر الخنزير في الخرز للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولا حاجة اليوم إليه لتقدم الصناعة. وسبب تحريم لحم الخنزير: ما فيه من الضرر والقذر لملازمته القاذورات، واحتوائه غالبا على الديدان كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية، ولعسر هضمه

4 - ما أهل به لغير الله:

لكثرة شحم أليافه العضلية ومواده الدهنية، كما أن له طباعا سيئة مثل فقدان الغيرة على أنثاه، والطباع تنتقل مع اللحم والأكل. وإذا كانت الحظائر الحديثة ترعى صحيا تربية الخنازير، ويشرف الأطباء على فحص اللحم، فإن هذا لا يتيسر لكل الناس، كما أن الأضرار المعنوية لا يمكن تجنبها، وعلى كل حال يلتزم المسلم بالتحريم مطلقا، سواء توافرت علة المنع في الوقت الحاضر أو لا لأن المعوّل عليه شرعا رعاية مصالح الناس قاطبة لا أفراد معينين. 4- ما أهلّ به لغير الله: أي ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله، ومعنى أهل: رفع الصوت لغير الله عند ذبحه، سواء اقتصر على ذكر غير الله، كالقول عند الذبح: باسم المسيح أو باسم فلان، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف، كالقول: باسم الله واسم فلان، فإن ذكر كلام بغير العطف مثل باسم الله، المسيح نبي الله، أو باسم الله، محمد رسول الله، فقال الحنفية: تحل الذبيحة، ويعتبر ذكر غير الله كلاما مبتدءا، ولكن يكره الوصل صورة. وسبب التحريم: تعظيم غير الله، ومشاركة الكفار في عبادة غير الله، والتقرب لآلهتهم بالذبائح، وقد كان أهل الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح أمام الأصنام قائلين: باسم اللات والعزى، أو باسم هبل. لذا حرم الإسلام ذلك لأن الله تعالى أوجب أن تذبح الحيوانات على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن المقرر شرعا، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية عمدا أو نسيانا كما سيأتي في سورة الأنعام.

5 - المنخنقة:

5- المنخنقة: وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما صدفة بأن انخنقت بوثاقها أو بشبكة أو بغيرها. فهي ميتة لم تذك ذكاة شرعية، وضررها ضرر الميتة، وخصها القرآن بالذكر بالرغم من دخولها تحت تعبير: الميتة، لئلا يظن أنها ماتت بسبب أو بفعل فاعل يشبه التذكية، ولم تمت حتف أنفها، والمهم هو التذكية الشرعية ولم تحدث. 6- الموقوذة: هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد كالخشب أو الحجر أو الحصاة حتى تموت بلا ذكاة شرعية سواء رميت باليد أو بالمقلاع ونحوهما، فهي ميتة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية. والوقذ حرام في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان وليس معه ذكاة، روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي يعلى: شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . أما المقتول بالمحدد كالنار والرصاص المستعمل الآن في البنادق فيؤكل شرعا، لما رواه أحمد والشيخان أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال: «إذا رميت بالمعراض «1» فخزق «2» فكله، وإن أصاب بعرضه- أي بغير طرفه المحدد- فإنما هو وقيذ فلا تأكله» ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق (الرمح) ونحوه بحده، فأحله، وما أصاب بعرضه (بغير طرفه المحدد) فجعله وقيذا، لم يحله، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء. واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين هما

_ (1) المعراض: سهم يرمى به بلا ريش، وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حدّه. (2) خزق السهم: نفذ في الرمية، والمعنى: نفذ وأسال الدم لأنه ربما قتل بعرضه ولا يجوز.

7 - المتردية:

قولان للشافعي رحمه الله: «أحدهما» - لا يحل كما في السهم لأن كلا منهما ميت بغير جرح، فهو وقيذ «والثاني» - أنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكر. 7- المتردية: هي التي تقع من شاهق أو مكان عال كجبل أو سطح، أو تهوي في بئر، فتموت بذلك، فلا تحل كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية، فإن عقرت في البئر في أي مكان حلت للضرورة. 8- النطيحة: أي المنطوحة، وهي التي نطحتها غيرها فماتت، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم. وحكمها كالميتة حرام لا تؤكل شرعا. 9- ما أكل السبع: وهي التي تقتل بسبب اعتداء حيوان مفترس كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوها، فتموت بسبب أكله بعضها أو جرحه لها، فلا يحل أكلها بالإجماع وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها، وكان بعض عرب الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع، ولكن الطباع السليمة تأنف ذلك. ويلاحظ أن في الكلام إضمارا، أي وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع قد فني. ثم استثنى تعالى المذبوح شرعا من جميع ما تقدم من المحرمات غير الميتة والدم والخنزير أي ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، فقال: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه على النحو الشرعي، وذلك يعود على قوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ وكذا ما أهل لغير الله به، فما أدرك حيا منها فذبح

أكل، والحياة تعرف بأن يطرف بعينه أو يحرك ذنبه. قال علي كرم الله وجهه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكلها. والصحيح من قول مالك وهو المذكور في الموطأ أنه إن كان ذبح البهيمة ونفسها يجري وهي تضطرب فليأكل. أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا، ولو بذكاة. والخلاصة: إن غلب على الظن أن الحيوان يعيش مع ما أصابه، كانت الذكاة محللة له، أما إن غلب على الظن أنه يهلك بما حصل، فاختلفوا: فقال الحنفية، والشافعية في مشهور المذهب: تعمل فيه الذكاة، ما دام فيه أمارة على الحياة، من تحريك عين أو ذنب أو رجل. وقال قوم منهم مالك في وجه عنه: لا تعمل فيه الذكاة. ومنشأ الاختلاف: هل الاستثناء متصل أو منقطع؟ فمن رأى وهم الجمهور أنه متصل أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ، فما قبل الاستثناء حرام، وما بعده خرج منه، فيكون حلالا. ويؤيد كون الاستثناء متصلا إجماع العلماء على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش، ولا يجعل الاستثناء منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له. ومن رأى أن الاستثناء منقطع، رأى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة، وكأنه قال: ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال لأن التحريم إنما يتعلق بهذه الحيوانات بعد الموت، وهي بعد الموت لا تذكى، فيكون الاستثناء منقطعا. وأجيب عن ذلك بأن الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحلال، فإن ظاهر هذه الحيوانات أنها تموت بما أصيبت به، فتكون حراما بحسب الظاهر، إلا ما أدرك حيا وذكي، فإنه يكون حلالا.

10 - ما ذبح على النصب:

10- ما ذبح على النّصب: النصب حجارة كانت حول الكعبة، عددها ثلثمائة وستون حجرا منصوبا، كانت العرب في الجاهلية يذبحون عندها، تقربا للأصنام التي يعظمونها، ويلطخون بها ما أقبل من البيت، كأنهم يثبتون بذلك كون الذبح وقع قربة، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب (الحجارة) . وليست النصب هي الأوثان، فإن النصب حجارة غير منقوشة، والأوثان حجارة منقوشة. فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي ذبحت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح، اجتنابا للشرك الذي حرمه الله ورسوله. وأضاف القرآن محرمات أخرى هي: الاستقسام بالأزلام: أي محاولة معرفة ما قسم له، أو قدر في الأمر من خير أو شر. والأزلام جمع زلم: وهي قطعة من خشب على هيئة السهم الذي لا نصل فيه وهو الذي يجرح الصيد. ولهذه العملية معنيان: معنى روحي عبادي أو اعتقادي، والآخر مادي. أما المعنى الروحي العبادي: فهو يشبه عادة التطير، كان أحدهم إذا أراد أن يقدم على عمل أو سفر، ذهب إلى الكعبة، فاستشار الأزلام الموجودة عند الآلهة، وقد كان عند هبل المنصوب على بئر سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه، مما أشكل عليهم، فما خرج منها رجعوا إليه. قال ابن جرير الطبري: الأزلام عبارة عن قداح ثلاثة كتب على أحدها: «افعل» وعلى الآخر: «لا تفعل» وأغفل الثالث. فإذا أجالها (حركها) فطلع سهم الأمر فعل، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد «1» . ويفعل ذلك إذا

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 49

أراد سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك. وأما المعنى المادي فهو اليانصيب اليوم الذي هو نوع من القمار، وهو قداح الميسر، وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة غفل. وكانت تستعمل الأزلام بمثابة نوع من أنواع اللعب بالميسر في الجاهلية، كانوا يشترون جزورا نسيئة، وينحرونه قبل أن ييسروا، ويقسمونه 28 قسما أو عشرة أقسام، فإذا خرج واحد باسم رجل، فاز صاحب الأقداح ذوات الأنصباء، وغرم من خرج له الغفل. فأنواع الأزلام ثلاثة: الأول- نوع مع الشخص وعدده ثلاثة: مكتوب على واحد: افعل، والثاني لا تفعل، والثالث غفل. والنوع الثاني- سبعة قداح واحدها قدح، وكانت عند هبل في جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل. والنوع الثالث- قداح الميسر وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة غفل. وكلا المعنيين نوع من الخرافة والوهم، والتخلف العقلي الذي يعوق تقدم الأمة ويدعو إلى السير على غير هدى ولا بصيرة. ومثل ذلك معرفة الحظ بواسطة المسبحة أو المصحف، أو أوراق الشدّة أو الودع أو الفنجان، فكل ذلك حرام منكر شرعا، لا يجوز اللجوء إليه. وقد شرع الإسلام بديلا شرعا هو صلاة الاستخارة ركعتين ثم الدعاء المأثور عقب الصلاة، وتسمية الأمر المستخار له، وانتظار النتيجة من انشراح الصدر أو انقباضه، وتكرار الصلاة مرات إذا لم ينكشف الحال. وحديث الاستخارة رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلّمنا الاستخارة، كما يعلمنا سورة من القرآن، فيقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم

ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسمي حاجته) خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه) شر لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به» قال: ويسمي حاجته. ذلِكُمْ فِسْقٌ أي كل المحرمات المذكورة فسق وخروج عن منهج الدّين، ورغبة عن شرع الله إلى معصيته، وتجاوز للمألوف من الحكمة والمعقول. ولما حذّر الله المؤمنين من تعاطي المحرّمات المذكورة، حرّضهم على التمسك بما شرعه لهم، وبشرهم بالغلبة بما يقوي عزيمتهم ويشجعهم، فنزل يوم عرفة عام حجة الوداع: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.. إلخ الآية، اليوم: هو يوم عرفة عام حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة، وكان يوم جمعة، وهو يوم نزول هذه الآية، يئس الكفار من إبطال دينكم والتغلب عليكم، والرجوع إلى دينهم كفارا، ويئس الشيطان أن يعبد في أرضكم. روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في هذه الآية فقال: يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم: وهو عبادة الأوثان أبدا. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم» . فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أي فلا تخافوهم في مخالفتكم إياهم، واخشوني أي اتّقوني، أنصركم عليهم وأؤيدكم، وأجعلكم فوقهم في الدّنيا والآخرة.

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... اليوم أكملت لكم دينكم وهو الإسلام، فأبنت لكم حلاله وحرامه وجميع الأحكام التي تحتاجون إليها، فصار كل شيء واضحا لا لبس فيه ولا غموض، كاملا غير منقوص. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أي منّتي، فلم يحجّ معكم مشرك أبدا، وفتحت مكة، وتحقق الوعد، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتحقق لكم النصر. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً مرضيا هو محل احتكام ومحاكمة الخلائق عليه يوم القيامة: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85] . هذه بشارات ثلاث تحققت بهذه الآية، مكث بعدها النّبي صلّى الله عليه وسلّم واحدا وثمانين ليلة ثم قبض وتوفّاه الله. قرأ ابن عباس هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ... فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتّخذنا يومها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد ويوم جمعة. وروى مسلم والأئمة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال: وأي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرفة في يوم جمعة. وليس المراد بإكمال الدّين أنه كان ناقصا قبل اليوم ثم أكمله، وإنما المراد أن الأحكام صارت غير قابلة للنسخ، وأصبحت مؤبدة صالحة لكل زمان ومكان، والمراد بالإكمال: إتمامه في نفسه وفي ظهوره، أما إتمامه في نفسه فباشتماله على الفرائض والحلال والحرام، والتنصيص على أصول العقائد وأسس التشريع وقوانين الاجتهاد، مثل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1] ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ

فقه الحياة أو الأحكام:

شَيْءٌ [الشورى 42/ 11] ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام 6/ 73 ومواضع أخرى] ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل 16/ 91] ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164 ومواضع أخرى] ، وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [المائدة 5/ 2] . وأما إتمامه في ظهوره: فبإعلاء كلمته وتفوقه على كل الأديان، وتوافقه مع المصالح العامة، وانسجامه مع التطور، ووسطيته وتوازن المصالح الخاصة والعامة فيه. ثم نصّ الله تعالى على حالة الضرورة التي هي استثناء من الأحكام العامة، فذكر أن المحرمات السابقة حرام على جميع المسلمين في كلّ الأحوال، إلا المضطر، الذي حمل قهرا على تناول شيء من الحرام، أو الضار، فمن اضطر في حال مجاعة إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات، غير متجانف لإثم أي غير مائل إلى حرام لذاته، ولا راغب في التمتع بما يوجب الإثم، فله أن يتناول شيئا منها ليدفع الضرورة والضرر وبقدر الضرورة، لا للتلذذ ولا لتجاوز الحدود التي يحتاج إليها لسدّ الرّمق، فإن الله غفور لمثله يغفر لمتناول الحرام، رحيم بخلقه حيث أباح لهم ما يدفع الضرر بما هو محرّم. وقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ بمنزلة قوله في سورة البقرة: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [2/ 173] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى الأحكام الآتية: 1- تحريم الميتة وما في حكمها (المنخنقة، والموقوذة، والمتردية،

والنطيحة، وما أكل السبع منه، والمذبوحة على النصب: حجارة حول الكعبة، وما أهل لغير الله به: ذكر اسم غير الله عليه) . 2- حرمة الدّم ولحم الخنزير. 3- إباحة البهيمة المذكاة، والتي أدركت وفيها حياة مستقرة فذبحت وهي المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منه وما أهل لغير الله به. 4- إباحة المحرمات المذكورة عند الاضطرار إليها لدفع الضرر. 5- الضرورة مقيّدة بقيدين: الأول- أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط. والثاني- ألا يتجاوز ما يسدّ الرّمق لأن الضرورة تقدر بقدرها. فإن قصد التّلذذ، أو تجاوز مقدار الضرورة وقع في الحرام. والتذكية (الذبح الشرعي) تعمل في البهيمة الصحيحة والمريضة، فيجوز تذكية المريضة ولو أشرفت على الموت إذا كان فيها بقية حياة. ويرى الجمهور أن ذكاة الأم تؤثر في الجنين لما أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ، وفي رواية أخرى: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه، أشعر أو لم يشعر» . ويرى أبو حنيفة: أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا، لم يحل أكله لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. وأجمعوا على أن الجنين إذا خرج حيّا أن ذكاة أمّه ليست بذكاة له. وآلة الذكاة عند الجمهور: كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم، فهو من آلات الذكاة ما خلا السّنّ والعظم، وعلى هذا تواترت الآثار. والسّن والظفر المنهي عنهما في التذكية: هما غير المنزوعين لأن ذلك يصير خنقا فأما المنزوعان فإذا

فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما. وحرم قوم (إبراهيم النخعي والحسن البصري والليث بن سعد والشافعي) السّن والظفر والعظم على كل حال منزوعة أو غير منزوعة. أما المقطوع فمختلف فيه: قال مالك: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمري، ولا يحتاج إلى الودجين لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره كأبي حنيفة اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال- وهو اللحم- من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج، وعليه يدلّ حديث رافع بن خديج في قوله المتفق على صحته فيما رواه الجماعة: «ما أنهر الدّم» وهذا الرأي أوجه. واختلفوا فيما إذا كان الذبح فوق الغلصمة (جوزة الحلق) وبقيت مع البدن، فقال الشافعي: تؤكل لأن المقصود قد حصل. وقال مالك: لا تؤكل. واختلفوا أيضا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع على الفور، وأكمل الذكاة فقيل: يجزئه، وقيل: لا يجزئه، والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها. والمستحب أن يكون الذابح ممن ترضي حاله ويطيق الذبح، سواء كان ذكرا أو أنثى، بالغا أو غير بالغ، مسلما أو كتابيّا، لكن ذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي. وما استوحش من الإنسي أو وقع في البئر، لا تكون ذكاته إلا بين الحلق واللّبة، على سنة الذبح، في رأي المالكية. وأجاز أبو حنيفة والشافعي ذبحه أو طعنة في أي مكان من الجسم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن رافع بن خديج:

المطعومات الحلال والزواج بالكتابيات [سورة المائدة (5) الآيات 4 إلى 5] :

«إن لهذه الإبل أوابد «1» كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا- وفي رواية- فكلوه» . ويطلب الإحسان في الذّبح، للحديث المتقدم عن أبي يعلى فيما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه: «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء» قال المالكية: إحسان الذبح في البهائم: الرّفق بها فلا يصرعها بعنف ولا يجرّها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نيّة الإباحة، والقربة، وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز «2» ، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنّة، والشكر له بالنعمة، بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرّمه علينا. والاستقسام بالأزلام بأنواعه المختلفة حرام، وإذا قصد به طلب القسم والنصيب فهو من أكل المال بالباطل. قال مجاهد: الأزلام: هي كعاب «3» فارس والرّوم التي يتقامرون بها. المطعومات الحلال والزّواج بالكتابيّات [سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

_ (1) الأوابد جمع آبدة: وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنسي. (2) أجهزت على الجريح: إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه. (3) الكعاب جمع كعب: وهو فصّ كفصّ النرد.

الإعراب:

الإعراب: وَما عَلَّمْتُمْ مرفوع نائب فاعل عطفا على الطَّيِّباتُ لفعل أُحِلَّ. مُكَلِّبِينَ منصوب على الحال من التاء والميم في عَلَّمْتُمْ. مُحْصِنِينَ حال من ضمير آتَيْتُمُوهُنَّ المرفوع. ومثله غَيْرَ مُسافِحِينَ. ومثله: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وهو معطوف على غَيْرَ مُسافِحِينَ لا على مُحْصِنِينَ لدخول لا معه تأكيدا للنفي المتقدم، ولا نفي مع مُحْصِنِينَ. ويجوز أن يجعل غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وصفا لمحصنين أو حالا من الضمير فيه. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ فِي الْآخِرَةِ: يتعلق بفعل مقدر، دلّ عليه قوله تعالى: مِنَ الْخاسِرِينَ وتقديره: وهو خاسر في الآخرة. وإنما وجب هذا التقدير لأن الألف واللام في الْخاسِرِينَ بمعنى الذين، وما وقع في صلة الذين لا يعمل فيما قبلها، فإن جعلت الألف واللام لا بمعنى الذين جاز أن يكون الْخاسِرِينَ عاملا فيه. البلاغة: وَطَعامُ الَّذِينَ.. أطلق العام وأراد به الخاص وهو الذبائح. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ بينهما طباق لأن الإحصان هنا العفّة، والسفاح: الزنى. المفردات اللغوية: يَسْئَلُونَكَ يا محمد ماذا أُحِلَّ لَهُمْ من الطعام. الطَّيِّباتُ المستلذات التي هي من غير الخبائث، وهي كلّ ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنّة أو قياس مجتهد. الْجَوارِحِ الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين، واحدها جارحة، من الجرح بمعنى الكسب، قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام 6/ 60] أي ما كسبتم. مُكَلِّبِينَ من التكليب، وهو تعليم الكلاب وإرسالها على الصيد، ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا، فالمكلّب: مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها بأنواع الحيل وطرق التأديب والتثقيف. تُعَلِّمُونَهُنَّ تؤدبونهن. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من آداب الصيد. فَكُلُوا

سبب النزول:

مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ بأن قتلن، إن لم يأكلن منه، بخلاف غير المعلمة فلا يحلّ صيدها، وعلامة المعلّمة: أن تسترسل إذا أرسلت، وتنزجر إذا زجرت، وتمسك الصيد ولا تأكل منه، وأقلّ ما يعرف به ذلك ثلاث مرات، فإن أكلت منه، فليس مما أمسكن على صاحبها، فلا يحلّ أكله، كما في حديث الصحيحين، وفي هذا الحديث: أن صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلّم من الجوارح وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ عند إرساله. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ذبائح اليهود والنصارى. أُحِلَّ حلال. وَالْمُحْصَناتُ هنا الحرائر، وقيل: العفيفات عن الزنى. أُجُورَهُنَّ مهورهنّ. مُحْصِنِينَ أعفاء عن الزنى. غَيْرَ مُسافِحِينَ معلنين بالزنى بهنّ أو مجاهرين بالزنى. مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرّين بالزنى، والخدن: الصديق ذكرا أو أنثى. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي يرتدّ. فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الصالح قبل ذلك، فلا يعتدّ به ولا يثاب عليه، والمعنى: بطل ثواب عمله. مِنَ الْخاسِرِينَ إذا مات عليه. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري من طريق الشعبي: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له حتى نزلت هذه الآية: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب في المدينة، جاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله الآية، فقرأها» .

المناسبة:

المناسبة: لما ذكر تعالى ما حرّمه في الآية المتقدّمة من الخبائث الضارّة لمتناولها، إما في بدنه أو في دينه أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة، قال بعدها: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وهي مثل الآية المذكورة في سورة الأعراف في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم: أنه وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [7/ 157] . التفسير والبيان: يسألك المؤمنون يا محمد، ماذا أحلّ الله لهم من الطعام واللحوم؟ قل: أحلّ لكم الطيبات، أي ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة، وهي غير الخبائث، وأحلّ لكم صيد الجوارح (الكواسب) المعلّمة. أما الطيّبات: فهي ما عدا المنصوص على تحريمه في القرآن وهي المحرّمات العشر المتقدّمة، وما أضيف إليها في السّنة النّبوية، روى أحمد ومسلم وأصحاب السّنن عن ابن عباس: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع، وكلّ ذي مخلب من الطّير» . ورووا أيضا عن أبي ثعلبة الخشني: «كلّ ذي ناب من السّباع فأكله حرام» . فأصبح أن ما لم يرد به نص نوعان: حلال طيب، وحرام خبيث. والعبرة في الاستطابة والاستخباث: ذوق العرب في الحجاز. والسبع عند أبي حنيفة: كل ما أكل اللحم. وعند الشافعي: ما يعدو على الناس والحيوان. وبناء عليه: كلّ أنواع حيوان البحر حلال طيب، سواء أكل العشب أو أكل اللحم. وحيوان البرّ يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير. ولا يحلّ أكل ما يعيش في البرّ والبحر كالضفدع والتمساح والثعبان والسلحفاة، للاستخباث وسمّ الثعبان.

ويحلّ لكم ما علمتم من الجوارح، أي يحلّ لكم اقتناء تلك الحيوانات المعلّمة وبيعها وهبتها، ويحلّ لكم صيودها، لقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وقوله: مُكَلِّبِينَ أي حال كونكم معلّمين ومؤدبين، فهو حال من فاعل عَلَّمْتُمْ، وقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال من فاعل علمتم أو من الضمير في مُكَلِّبِينَ أي حال كونكم تعلمونهن مما علمكم الله. ويفهم منه أنه لا بدّ في التعليم من أمور ثلاثة: 1- أن تكون الجوارح معلّمة. 2- وأن يكون من يعلّمها ماهرا في التّعليم مدرّبا فيه. 3- وأن يعلم الجوارح مما علمه الله، بأن تقصد الصيد بإرسال صاحبها، وأن تنزجر بزجره، وأن تمسك الصيد ولا تأكل منه إذا كان المعلّم كلبا، وأن يعود الكلب إلى صاحبه متى دعاه إذا كان طيرا مثل البازي. ويعرف تعليم الكلب بترك الأكل ثلاثا، ويعرف تعليم البازي بالرجوع إلى صاحبه إذا دعاه، والفرق بينهما أن تعليم الكلب يكون بترك ما يألفه ويعتاده، وعادة الكلب السّلب والنّهب، فإذا ترك الأكل ثلاثا عرف أنه تعلّم، وعادة البازي النّفرة، فإذا دعاه صاحبه فعاد إليه، عرف أنه تعلّم. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم دون أن تأكل منه، فإن أكلت منه فلا يحلّ أكل الفاضل عنه في رأي الجمهور لحديث عدي بن حاتم عند أحمد والشيخين أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أرسلت كلابك المعلّمة، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليك، إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» وفي رواية: «إذا أرسلت كلبك المعلّم فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك، فأدركته حيّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاة» .

واذكروا اسم الله على الكلب عند إرساله، ويؤيده حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك» ، والتّسمية: واجبة عند الجمهور، مستحبة عند الشافعي. واتّقوا الله في هذه الحدود، أي احذروا مخالفة أمره فيما أرشدكم إليه، واتّخذوا وقاية من عذابه بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. إن الله سريع الحساب، أي يحاسبكم على أعمالكم من غير توان ولا تهاون، ولا يضيع شيئا من أعمالكم، بل تحاسبون عليها وتجازون في الدّنيا والآخرة، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد، فيكون حسابه سريعا. ومناسبة ذلك لما قبله أنه لما ذكر المحرّمات والمحللات وأبان الحلال والحرام، نبّه إلى أنه تعالى سيحاسب العاملين على أعمالهم من غير إمهال متى جاء يوم الحساب. روي أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم. اليوم أحل لكم تفضلا من الله الطّيبات: وهي ما يستطاب ويشتهي عند أهل النفوس الكريمة. وأحل لكم طعام الكتابيين أي ذبائحهم عند الجمهور، لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات لأن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعلهم، وأما بقية المطعومات فهي مباحة لجميع الناس، فلا وجه لتخصيصها بهم. وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى الذين أنزل الله على أنبيائهم التوراة والإنجيل. فلا تحلّ ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان. روى ابن جرير عن أبي الدّرداء وابن زيد أنهما سئلا عمّا ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله، قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا. وقال أبو الدّرداء- وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها: جرجيس، أهدوه لنا، أنأكل منه؟ - «اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب، طعامهم حلّ لنا، وطعامنا حلّ لهم» وأمره بأكله.

ولا تحلّ ذبائح المجوس ولا التّزوج بنسائهم، لما روي في السّنة. وطعامكم حلّ لهم أي وذبائحكم حلّ لأهل الكتاب، فلكم إطعامهم منه أو بيعهم منه. وإنما قال ذلك للتّنبيه على أن الحكم مختلف في الذّبائح والمناكحة، فإن إباحة الذّبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها من جانب واحد، والفرق واضح وهو أن إباحة الطعام من الجانبين لا تستلزم محظورا، أما لو أبيح لأهل الكتاب التّزوّج بالمسلمات، لكان لهم ولاية شرعية على زوجاتهنّ، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيّا. وأحلّ لكم أيها المؤمنون التّزوّج بالحرائر المؤمنات والكتابيّات من اليهود والنصارى، سواء كنّ ذميّات أو حربيّات، إذا آتيتموهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ. وتقييد الحلّ بإتيان المهور لتأكيد الوجوب، لا لاشتراطه في الحلّ، وتخصيص ذكر الحرائر للحثّ على ما هو الاولى منهنّ، لا لان من عداهنّ لا يحلّ، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتّفاق، وكذا يصح عند أبي حنيفة. أحلّ لكم الزّواج بالحرائر حالة كونكم أعفاء عن الزّنى متعففين بالزّواج بهنّ غير مسافحين أي مرتكبين الفاحشة مجاهرين بها، وغير متخذي أخدان أي مسرّين إتيان الفاحشة، أي أن المباح هو الزّواج بالحرائر العفيفات عن الزّنى، بشرط إتيان مهورهنّ بقصد الإحصان والإعفاف، لا سفح الماء عن طريق الزّنى العلني، ولا عن طريق الزّنى السّرّي وهو اتّخاذ الأخدان. ثم حذّر الله تعالى من المخالفات ورغب فيما تقدّم من أحكام الحلال، فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي ومن ينكر شرائع الإسلام وتكاليفه، ويجحد أصول الإيمان وفروعه، فقد أبطل ثواب عمله وخاب في الدّنيا والآخرة، أما في الدّنيا فباعتبار ضياع أعماله وعدم الإفادة منها، وفي الآخرة بالخسارة والهلاك في نار جهنم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد أطلق الإيمان وأراد المؤمن به مجازا وهو الشرائع والتكاليف، وقيل: المراد: ومن يكفر بربّ الإيمان، فهو مجاز بالحذف. والمقصود من هذه الآية: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ... تعظيم شأن ما أحلّ الله وما حرّمه، والتّشديد على المخالف. فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ على ما يأتي: 1- إباحة الطيبات أي المطعومات التي تستطيبها الأنفس الكريمة دون الخبائث التي حرمتها الشريعة. 2- إباحة الصيد بالجوارح من سباع البهائم والطير، بشرط كونها معلّمة، وكون معلّمها مؤدّبا ماهرا، وكونه يعلمها مما علمه الله بأن ينشلى إذا أشلي (أغري) ، ويجيب إذا دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن لا يأكل من صيده الذي صاده. فإن انخرم شرط من هذه الشروط وقع الخلاف. 3- حل ما جرحته الجوارح وقتلته، وأدركه الصائد ميتا، لإطلاق قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي حبس عليكم، ولم يأكل مما صاد، فإن أكل الكلب ونحوه لم يؤكل عند الجمهور ما بقي، لأنه أمسك على نفسه، ولم يمسك على صاحبه. ولم يشترطوا ذلك في الطيور، بل يؤكل ما أكلت منه. وأباح المالكية أكل ما بقي من الصيد وإن كان بضعة، وإن أكل الجارح منه، سواء كان كلبا أو فهدا أو طيرا. فلو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع (جرح) لم يؤكل، لأنه مات خنقا، فأشبه أن يذبح بسكين كالّة، فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه وجمهور العلماء على أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل. وكره الشعبي والثوري أكل ذلك الصيد. فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر، فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد

آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، فلا يؤكل، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي بن حاتم عند أحمد والشيخين: «وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل» وفي رواية: «فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . فإن اشترك صائدان بإرسال كلبين كان الصيد شركة بينهما. وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم، فتردى من جبل أو غرق في ماء، أو غاب عن الصائد ثلاثة أيام، فمات وهو لا يراه، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الحديث المتفق عليه عند أحمد والشيخين: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري، الماء قتله أو سهمك» وروى أبو داود في حديث أبي ثعلبة الخشني: «فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل» وزاد: «فكله بعد ثلاث ما لم ينتن» . وأجاز مالك وأبو حنيفة والشافعي الصيد بكلاب اليهودي والنصراني إذا كان الصائد مسلما. وجمهور الأمة غير مالك على جواز صيد الصائد من أهل الكتاب. 4- جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد بدليل قوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ، يؤيده ما رواه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان» . 5- ودلت الآية: وَما عَلَّمْتُمْ.. أيضا على أن العالم أفضل من الجاهل، لأن الكلب إذا علّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب. ويزداد فضل العالم إذا عمل بما علم، لقول علي رضي الله عنه «لكل شيء قيمة، وقيمة المرء ما يحسنه» . 6- وجوب تسمية الله عند الإرسال، لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو رأي الجمهور غير الشافعي، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي المتقدم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل» . أما عند إدراكه حيا فتجب

التسمية عند ذكاته. وقال الشافعي: إنها مستحبة. ويستفاد من آية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ما يأتي: 1- إباحة طيبات الرزق: وهي ما تستطيبه الأنفس الكريمة. 2- إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب (اليهود والنصارى) . ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالفاكهة والبرّ، يجوز أكله، إذ لا يضر فيه تملك أحد. أما ما يحتاج إلى عمل أو صنع كخبز الدقيق وعصر الزيت ونحوه، والتذكية التي تحتاج إلى الدين والنية، فرخص الله تعالى فيه، تألفا لأهل الذمة، وترغيبا لهم في الإسلام، حتى وإن قال النصراني عند الذبح: باسم المسيح، واليهودي قال: باسم عزير، لأنهم يذبحون على الملّة. والجمهور على أن الذكاة عاملة في حلّ الذبيحة، ماحل له منها وما حرم عليه، لأنه مذكّى. وقال جماعة من أهل العلم: إنما حلّ لنا من ذبيحتهم ما حلّ لهم، لأن ما لا يحلّ لهم لا تعمل فيه تذكيتهم، فلا تحل الشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب. وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحمله الجمهور على العموم في جميع ما يؤكل. والعلماء مجمعون إلا من شذ منهم على أن ذبائح الكفار لا تؤكل ولا يتزوج منهم، لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء. ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى، لأنهم لا يتوقّون النجاسات ويأكلون الميتات، فإذا طبخوا في تلك القدور تنجّست، فتغسل. جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله،

فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم وذكر نعمة الله [سورة المائدة (5) الآيات 6 إلى 7] :

إنا بأرض قوم من أهل كتاب، نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلّم، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلّم، فأخبرني ما الذي يحلّ لنا من ذلك؟ قال: «أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها» . 3- إباحة إطعام أهل الكتاب من ذبائح المسلمين، فإذا اشتروا منا اللحم، يحل لهم اللحم، ويحل لنا ثمن المأخوذ منهم. 4- مشروعية نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات. والمحصنات: الحرائر في قول مجاهد والجمهور، والعفيفات العاقلات في قول ابن عباس. 5- بطلان ثواب الأعمال إذا كان العامل جاحدا أحكام الله وشرائعه، كافرا بأصول الإيمان وفروعه، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بما أنزل على محمد، أو يجحد الإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي بطل ولغا ثواب عمله، ولم يعد لعمله فائدة أخروية. فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم وذكر نعمة الله [سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

الاعراب:

الاعراب: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب عطف على أَيْدِيَكُمْ والتقدير: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. وقرئ بالجر عطفا على بِرُؤُسِكُمْ وقدّر ما يوجب الغسل كأنه قال: وأرجلكم غسلا. قال أبو زيد الأنصاري من رواة الحديث الثقات ومن أهل اللغة، وكان من أهل العدل والتشيع توفي سنة 215 هـ: المسح خفيف الغسل، فبينت السنة أن المراد بالمسح في الرجل هو الغسل. البلاغة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فعبّر عن إرادة الفعل بالفعل، وأقام المسبّب مقام السبب للملابسة بينهما كما ذكر الزمخشري. وفي الآية إيجاز بالحذف أيضا، أي إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون. المفردات اللغوية: إِذا قُمْتُمْ أي أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون. وُجُوهَكُمْ جمع وجه: وهو ما تقع به المواجهة، وحده طولا: ما بين أعلى منبت شعر الرأس إلى منتهى اللحيين أو أسفل الذقن، وعرضا: ما بين الأذنين. الْمَرافِقِ جمع مرفق وهو مفصل الساعد أو الذراع من الأعلى والعضد من الأسفل. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ الباء للإلصاق، أي ألصقوا المسح بها من غير إسالة ماء، وهو اسم جنس فيكفي فيه عند الشافعي: أقل ما يصدق عليه وهو مسح بعض الشعر. الْكَعْبَيْنِ هما العظمان الناتئان عند اتصال الساق بالقدم من الجانبين. جُنُباً أصابتكم جنابة بجماع أو إنزال مني. فَاطَّهَّرُوا فاغتسلوا. سبب النزول: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون بالمدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقدا، وأقبل أبو بكر، فلكز فيّ لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة،

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء، فلم يوجد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وكان ذلك في غزوة المريسيع. فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر. وروى الطبراني عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، أخرجت مع رسول الله في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: بنيّة في كل سفر تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة. ذكر السيوطي بعد هذا تنبيهين هما بإيجاز: الأول- هل المراد بآية التيمم آية المائدة هذه (6) أو آية النساء ونصهما واحد: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [الآية 43] ؟ الذي مال البخاري إليه: أنها آية المائدة، قال السيوطي: وهو الصواب للتصريح بها في الطريق المذكور في رواية البخاري عن عائشة. علما بأن الواحدي أورد هذا الحديث في أسباب النزول عند ذكر آية النساء أيضا. الثاني- دل حديث البخاري على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول هذه الآية، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، والثابت في السيرة أنه صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء. قال ابن عبد البر: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به، ليكون فرضه متلوا بالتنزيل. وقال غيره: يحتمل أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء، ثم نزلت بقيتها، وهو ذكر التيمم في هذه القصة. قال السيوطي: الأول أصوب فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة، والآية مدنية.

المناسبة:

المناسبة: هناك عهدان بين العبد وربه: عهد الربوبية، وعهد الطاعة، وبعد أن وفي تعالى للعبد بالعهد الأول، فبين له الحلال والحرام في الطعام والزواج، طلب من العباد الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعة بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بالطهارة، فذكر فرائض الوضوء، ثم ذكّرنا بوجوب الوفاء بالعهد والميثاق وهو السمع والطاعة لله ولرسوله. روى أبو داود الطيالسي وأحمد والبيهقي عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور» . وبعبارة أخرى: للإنسان شهوات فطرية تنحصر في المطعومات والمناكحات، له الحق في التمتع بها بنظام، وعليه واجبات يلزمه أداؤها. وبعد أن بيّن تعالى للإنسان ما أحله له وما حرمه عليه من المطاعم والمناكح، شرع في بيان ما يجب عليه أداؤه لله تعالى، شكرا له على ما أنعم به عليه، فمضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة ومنها رخصة التيمم. التفسير والبيان: يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون- وهذا القيد ثبت في السنة النبوية- فعليكم بالوضوء، إذ لا يقبل الله صلاة بغير طهور، فإذا كان مريد الصلاة محدثا وجب عليه الوضوء، وإذا كان متوضئا فهو مندوب، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه رزين: «الوضوء على الوضوء نور على نور» . روى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء

الفرض الأول - غسل الوجه:

واحد ما لم نحدث» وفي مسند أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة غالبا، فلما كان يوم الفتح- فتح مكة- توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، أمام الناس، لبيان جواز ذلك. وفرائض الوضوء في الآية أربعة هي غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والمسح بالرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين. والغسل: إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من الوسخ ونحوه. والمسح: إصابة الشيء الممسوح بالبلل. الفرض الأول- غسل الوجه: وهو من أعلى منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن، وما بين الأذنين عرضا. ومن له لحية خفيفة يجب عليه غسل ظاهر الشعر والبشرة التي تحته، وصاحب اللحية الكثة يخللها، ولا يجب إيصال الماء إلى العين. أما المضمضة والاستنشاق فثبت حكمهما بالسنة. والفرض الثاني- غسل اليدين إلى المرفقين: واليد في الوضوء: من رؤوس الأصابع إلى المرفق: وهو أعلى الذراع وأسفل العضد. وإلى في قوله تعالى إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ تدل على أن ما بعدها غاية لما قبلها فقط. وأما دخول الغاية في الحكم أو خروجها عنه فيعرف بالدليل الخارجي، ففي قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 17/ 1] ما بعد إلى داخل في حكم ما قبلها، لأنه لا يتحقق معنى الإسراء إلا بدخول الأقصى والتعبد فيه، كبدء الإسراء من المسجد الحرام. وفي قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة 2/ 280] وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة 2/ 187] ما بعد إِلَى غير داخل في حكم ما قبلها،

والفرض الثالث - المسح بالرأس:

لأن الإعسار في الآية الأولى علة الإنظار (التأخير) وبالميسرة تزول العلة، فيطالب بالدين، ولا داعي للإنظار معها، ولأنه في الآية الثانية لو دخل الليل في حكم الصيام للزم الوصال، وهو غير مشروع في حقنا. وقوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فقال الجمهور بوجوب غسل المرافق والكعبين، احتياطا في العبادات، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والفرض الثالث- المسح بالرأس: وفي مقدار المسح خلاف، فقال الشافعي: يكفي أقل ما يطلق عليه اسم المسح، ولو شعرة في حد الرأس. وقال مالك وأحمد: يجب مسح كل الرأس أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة: الواجب مسح ربع الرأس، لأن المسح إنما يكون باليد، ومحلها يقدر في الغالب بالربع، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته. لكن ثبت في السنة ما يؤيد أيضا مذاهب الأئمة الآخرين. والأظهر أن الباء للإلصاق، وقيل للتبعيض، والحق أن هذا مجمل يرجع في بيانه إلى السنة. وقد قال المالكية والحنابلة: الباء هنا زائدة، لأن التركيب يدل على وجوب مسح كل الرأس، فيمسح الكل احتياطا. وقال الحنفية والشافعية: الباء هنا للتبعيض، كما في قولنا: مسحت يدي بالحائط أي مسحت اليد ببعض الحائط، فيحمل قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ على بعض الرأس عملا بدلالة حرف الباء، لكن الحنفية قدروا البعض بثلاث أصابع أو بربع الرأس. والشافعية قدروه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. والجمهور على أن المسحة الواحدة تجزئ. وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثا، والأحاديث تدل على تكرار أفعال الوضوء ثلاثا، أما المسح فلم يذكروا فيه

والفرض الرابع - غسل الرجلين إلى الكعبين:

عددا. والمسح عند الجمهور يبدأ بمقدم الرأس ثم يذهب بيديه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى مقدمه. والفرض الرابع- غسل الرجلين إلى الكعبين: والكعبان: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من الجانبين، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين. فالواجب غسل الرجلين بدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته والتابعين، وعليه انعقد إجماع الأمة. ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» . وروي عن علي ومعاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثله. وروى مسلم من حديث أبي هريرة: أنه توضأ فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى، حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ. وروى مسلم عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا لم يغسل عقبه، فقال: «ويل للأعقاب من النار» .

وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلّف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة فأدركنا، وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا. وصح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وجرى العمل على التثليث. هذا كله على قراءة النصب: وَأَرْجُلَكُمْ. وأما قراءة الجر: وَأَرْجُلَكُمْ فمحمولة على الجوار، كما في قوله تعالى في سورة هود: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود 11/ 26] بجر ميم أَلِيمٍ لمجاورة يَوْمٍ المجرور إذ كان حقه أن يقال: «أليما» . وفائدة الجر للجوار هنا في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ: التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة الإسراف لما يعلق بها من الأدران. ويجوز المسح على الخفين بدلا عن غسل الرجلين بعد لبسهما على طهارة بدءا من الحديث الطارئ، للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام، وقد ثبتت مشروعيته بالسنة المتواترة، قال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمسح على الخفين. وقال الحافظ ابن حجر: قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي: أنه- أي جرير- بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. وأضاف الجمهور غير الحنفية لفرائض الوضوء فرض النية، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشيخين عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات» . وأضاف الشافعية والحنابلة وجوب الترتيب لأنه يبدأ بغسل الوجه عند القيام إلى الصلاة لأنه مأمور به

بفاء التعقيب المقتضية للترتيب، ويرتب ما بعده بحسب الآية وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني عن جابر: «ابدؤوا بما بدأ الله به» . وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب. وأضاف المالكية والحنابلة وجوب الموالاة لمواظبته صلّى الله عليه وسلّم على الولاء في أفعال الوضوء، فإنه لم يتوضأ إلا متواليا، وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء. وأوجب المالكية أيضا الدلك بباطن الكف، لا بظاهر اليد لأن الغسل المأمور به في آية الوضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لا يتحقق معناه إلا بالدلك، فإن مجرد إصابة الماء للعضو لا يعتبر غسلا، إلا إذا صاحبه الإمرار بشيء آخر على الجسم، وهو معنى الدلك. وأوجب الحنابلة المضمضة والاستنشاق لما روى أبو داود وغيره: «إذا توضأت فمضمض» وروى الترمذي من حديث سلمة بن قيس: «إذا توضأت فانتثر» وروى الشيخان عن أبي هريرة: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر» . وأوجب الحنابلة كذلك التسمية في بدء الوضوء لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . وللوضوء سنن كثيرة معروفة في كتب الحديث والفقه. وينتقض الوضوء بأسباب منها: خروج شيء من أحد السبيلين، والنوم على هيئة لا تتمكن مقعدته من الأرض، ولمس بشرة الرجل المرأة وبالعكس لدى الشافعية، وفي حال الشهوة فقط لدى المالكية والحنابلة، ولا ينقض التلامس عند الحنفية، ومسّ فرج الآدمي بباطن الكف في رأي الجمهور غير الحنفية لحديث رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) : «من مس ذكره، فلا يصلي حتى يتوضأ» . أما الحنفية فاستدلوا بحديث آخر رواه الخمسة أيضا والدارقطني

مرفوعا: «الرجل يمس ذكره، أعليه وضوء؟» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما هو بضعة منك، أو مضغة منك» . فرضية الغسل: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا: أي فاغسلوا بالماء أبدانكم جميعا لأن الأمر بالتطهير لما لم يتعلق بعضو مخصوص، كان أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن. وإنما حملت الطهارة على التطهر بالماء لأن الماء هو الأصل فيها، كما يدل قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال 8/ 11] . والجنب: لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. والجنابة: معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب. وسبب الجنابة اثنان: الأول- نزول المني: لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إنما الماء من الماء» أي إنما يجب استعمال الماء للغسل من أجل الماء الحادث باحتلام أو جماع أي المني. الثاني- التقاء الختانين: لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن عائشة وابن عمرو: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» . ويجب الاغتسال أيضا بعد انقطاع دم الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 222] وللإجماع على أن النفاس كالحيض. وحكمة الوضوء والغسل: النظافة وبعث النشاط ليقف العبد بين يدي ربه حاضر القلب صافي الروح، والغسل من الجنابة لإزالة ما يعتري الجسم من استرخاء وفتور. وبعد أن بيّن الله تعالى وجوب استعمال الماء في الوضوء والغسل عند إرادة

الصلاة، والوضوء مرة أو أكثر في اليوم، والغسل مرة أو أكثر في الأسبوع، بيّن أن وجوب استعمال الماء مقيد بأمرين: الأول- وجود الماء، والثاني- القدرة على استعماله من غير ضرر. فإن كان مريد الصلاة مريضا أو مسافرا لم يجد الماء، فرخص الشرع له في التيمم من الحدث الأصغر والأكبر. وهذا ما أوضحته الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ.... أي إن كنتم مرضى بمرض يشق معه استعمال الماء أو يضر كالحمّى ونحوها، والمرض الجلدي كالجدريّ والجرب ونحوهما من القروح والجروح، أو كنتم في سفر طويل أو قصير، ولم تجدوا ماء، فتيمموا، والمراد بالسفر: السير خارج العمران، وهو غير سفر القصر. وعبر بالسفر عن عدم الماء لأن السفر يغلب فيه عدم وجود الماء. وكذا إن أحدثتم الحدث الأصغر المعبر عنه بالمجيء إلى الغائط، والغائط في الأصل: المكان المنخفض من الأرض، وهو كناية عن قضاء الحاجة من بول وغائط. وكل ما يخرج من السبيلين ملحق بقضاء الحاجة. وأو هذه بمعنى الواو. وكذلك إن حدثت ملامسة أي مباشرة مشتركة بين الرجال والنساء، وهذا هو الحدث الأكبر، أي الجماع، كما تأول الآية علي وابن عباس وغيرهما، وكانوا لا يوجبون الوضوء على من مسّ امرأة باليد. وتأول عمر وابن مسعود الآية بالمس باليد، وكانا يوجبان الوضوء على من مس امرأة باليد، والراجح هو القول الأول. والخلاصة: إذا كنتم على حال من الأحوال الأربعة المتقدمة (المرض والسفر والحدث الأصغر والأكبر) ولم تجدوا ماء، أي فقدتم الماء، أو كنتم محتاجين له، فاقصدوا (تيمموا) ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة فيه، فاضربوا بأيديكم عليه وامسحوا وجوهكم وأيديكم، ومسح اليد يكون إلى المرفق في رأي

الحنفية والشافعية، كما في الوضوء، والتيمم بدل عن الوضوء، ولما روى الدارقطني عن ابن عمر، وهو موقوف أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» . ولا بد من استيعاب الوجه واليدين بالتيمم لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولأن التيمم يدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل واجب، فيكون البدل كذلك، ما لم يقم دليل على خلافه. وفقد الماء المانع من التيمم يتصور في رأي المالكية: بعدم وجود الماء وجودا حكميا، بمعنى أن الشخص لا يتمكن شرعا من استعماله من غير ضرر. ويتصور في رأي الحنفية بعدم الوجود الحسي، بمعنى أنه لا يتمكن تمكنا حسيا من استعماله من غير ضرر. وينبني على هذا الخلاف: أن من وجد الماء وهو في الصلاة يكملها ولا يقطعها عند المالكية لأنه لا يتمكن شرعا من استعماله من غير إبطال الصلاة، وهو لا يجوز له إبطالها، وأما عند الحنفية فيبطل تيممه فتبطل الصلاة، ويجب استعمال الماء. والمراد: لم تجدوا ماء كافيا للوضوء أو الغسل، فلو وجد الشخص ماء كافيا لبعض الوضوء أو الغسل، يتيمم عند الحنفية والمالكية، ولا يستعمل الماء في شيء من أعضائه، وعند الشافعية والحنابلة: يستعمل الماء في بعض الأعضاء، ثم يتيمم لأنه لا يعد فاقدا للماء مع وجود هذا القدر. والمراد بالصعيد: هو التراب، على القول الظاهر المختار. واختلف الفقهاء في لزوم إيصال التراب إلى الوجه واليدين وعدمه، فقال الحنفية والمالكية: لا يلزم، وقال الشافعية: يلزم. وسبب الاختلاف الاشتراك في معنى الباء، فإنها ترد للتبعيض، وترد للابتداء وتمييز الجنس، فرجح الشافعية

حملها على التبعيض قياسا للتيمم على الوضوء، ويجب في الوضوء استعمال بعض الماء، فيجب استعمال بعض التراب في التيمم. ورجح الحنفية والمالكية حملها على الابتداء وتمييز الجنس لأن المتيمم ينفض يديه ليتناثر التراب، فيمسح وجهه ويديه من غير تلويث، ولما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام تيمم على حائط بضربتين: للوجه واليدين ، والظاهر أنه لا يعلق على يديه شيء من التراب. ثم ذكر تعالى حكمة مشروعية التيمم وهي التيسير على الناس ودفع الحرج عنهم، فأبان أنه تعالى ما يريد ليجعل عليكم فيما شرعه من أحكام الوضوء والغسل والتيمم في هذه الآية وغيرها حرجا أي أدنى ضيق وأقل مشقة لأنه تعالى غني عنكم، رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم، ولكن يريد ليطهركم من الدنس والرجس المادي بإزالة الأقذار، والرجس المعنوي بطرد الكسل والفتور الحاصل عقب الجنابة، وبعث النشاط، لتكون النفس صافية مرتاحة في مناجاة ربها، ويريد أيضا أن يتم نعمته عليكم بالجمع بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، وتبيان طريق العبادة الأفضل، لتؤدوا الشكر الواجب عليكم، ولتداوموا شكر النعم التي أنعمها الله عليكم. ثم ذكّر تعالى بالمناسبة بالنعم الكثيرة التي أنعم بها علينا، فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله بتوفيقكم للإسلام وتشريع هذا الدين العظيم، وإرساله إليكم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليكم من العهد والميثاق الذي عاهدكم به حين بايعتموه عند إسلامكم على السمع والطاعة في المنشط والمكره (المحبة والكره) والعسر واليسر، وعلى متابعته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه، وتلك هي بيعة العقبة وبيعة الرضوان وغيرهما. واذكروا أيضا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذر على الإيمان بالله

فقه الحياة أو الأحكام:

والرسول، إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي سمعنا النداء للإيمان وأطعنا الداعي وقبلنا دعوته والتزمنا بالعمل بها، كما قال تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد 57/ 8] . وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل شيء وفي كل حال، ولا تنقضوا العهد والميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفيات الأمور الكامنة في الصدور المستقرة فيها استقرارا، ويعلم أيضا جليات الأمور، فلا يخفى على الله شيء أظهره الإنسان أو أضمره من الوفاء بالميثاق أو عدم الوفاء، وما تنطوي عليه نفسه من الإخلاص أو الرياء. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من آية الوضوء والتيمم ما يأتي: 1- الطهارة شرط لصحة الصلاة لأنه تعالى أوجب الطهارة بالماء عند إرادة الصلاة، وأوجب التيمم عند فقدان الماء، فدل على أن المأمور به أداء الصلاة مع الطهارة، وأن أداء الصلاة بدون الطهارة لا يحقق المطلوب أو أداء المأمور به. والأذنان من الرأس عند الجمهور غير الشافعي، لكن يمسحان مع الرأس بماء واحد في رأي الثوري وأبي حنيفة، ويجدد لهما الماء في رأي مالك والشافعي وأحمد. ومذهب الجمهور على أن الفرض في الرّجلين الغسل دون المسح، وهو الثابت من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، واللازم من قوله في غير حديث. ودلت الآية وَأَرْجُلَكُمْ على قراءة الجر أو الخفض على مشروعية المسح على الرّجلين إذا كان عليهما خفان. وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من

الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن البصري: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يمسح على الخفين. 2- التيمم بدل عن الوضوء في الحدث الأصغر باتفاق. وأما كونه بدلا عن الغسل في الحدث الأكبر فهو محل خلاف بين السلف، فقال علي وابن عباس وأكثر الفقهاء: إنه بدل عنه أيضا، فيجوز التيمم لرفع الحدث الأكبر. وقال عمر وابن مسعود: إنه ليس بدلا عن الغسل، فلا يجوز له التيمم لرفع الحدث الأكبر. وإذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت، لم يتيمم عند أكثر العلماء، لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم، فلا يتيمم. وأجاز مالك التيمم في مثل ذلك لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء. 3- الطهارة لا تجب إلا عند الحدث لأنها تضمنت أن التيمم بدل عن الوضوء والغسل، وقد أوجبه الله على مريد الصلاة متى جاء من الغائط أو لامس النساء، ولم يجد الماء. ودلت الأحاديث على أن الريح والمذي والودي ينقض الوضوء كالبول والغائط. 4- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة لأنه قال: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ولم يذكر الاستنجاء، وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، ومالك في رواية أشهب عنه. وقال ابن وهب عن مالك: تجب إزالتها في التذكر والنسيان. وهو قول الشافعي، والصحيح رواية ابن وهب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين أخبر في صاحبي القبرين: أن عذاب أحدهما «لأنه لا يستبرئ من

بوله» ولا يعذب إلا على ترك واجب. وقال أبو حنيفة: تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي «1» - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال- قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه. ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلّدين وهو أحد قولي مالك. وأجاز جماعة من الصحابة (علي وأبو مسعود والبراء وأنس وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث) المسح على الجوربين. ويؤخذ من آية وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ما يأتي: 1- وجوب تذكر نعم الله التي يتمتع بها الإنسان. 2- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق التي يؤدي تنفيذها إلى خير الجماعة. 3- وجوب تقوى الله فيما أمر به ونهى عنه. والمراد من الآية: هو العهد والميثاق الذي جرى للصحابة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، إذ قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جرى في ليلة العقبة وتحت الشجرة. 4- الإسلام دين اليسر والسماحة لأنه قائم بنص القرآن على مبدأ رفع الحرج.

_ (1) ذكر الدميري ضربا من النقود يقال لها البغلية.

الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين ووعيد الكافرين والتذكير بنعمة الله [سورة المائدة (5) الآيات 8 إلى 11] :

الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين ووعيد الكافرين والتذكير بنعمة الله [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) الإعراب: اعْدِلُوا هُوَ.. هو: كناية عن العدل وهو المصدر، لدلالة اعْدِلُوا عليه، كقول الشاعر: إذا نهي السفيه جرى عليه، أي إلى السفيه، وقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ [النور 24/ 28] . والتقوى: مؤنثة، والألف فيها للتأنيث كالألف في سكرى وعطشى. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ.. وعد: يتعدى إلى مفعولين، يجوز الاقتصار على أحدهما. وهاهنا لم يذكر إلا مفعولا واحدا وهو الَّذِينَ وحذف المفعول الآخر، ثم فسّره بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.

البلاغة:

البلاغة: أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ: بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك، وكف الأيدي كناية عن المنع والحبس. المفردات اللغوية: قَوَّامِينَ قائمين به حق القيام لِلَّهِ بحقوقه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ بالعدل وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم ويكسبنكم شَنَآنُ بغض وعداوة قَوْمٍ أي الكفار اعْدِلُوا في العدو والولي هُوَ أي العدل خَبِيرٌ عالم بالأشياء علما دقيقا مضبوطا مؤيدا بالاختبار بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم به وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة الْجَحِيمِ النار العظيمة وهي دار العذاب إِذْ هَمَّ قَوْمٌ قريش أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يمدوها إليكم بالبطش والفتك بكم فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ حجبهم وعصمكم مما أرادوا بكم وَاتَّقُوا اللَّهَ تجنبوا عقابه وسخطه بترك معاصيه. سبب النزول: نزول الآية (8) : قيل: نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوحى الله إليه بذلك، ونجا من كيدهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه، وحاصرهم ست ليال، اشتد الأمر فيها عليهم، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكتفي منهم بالجلاء، وأن يكف عن دمائهم، وأن يكون لهم ما حملت الإبل، وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم، ويكثر من الفتك فيهم، فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام من اليهود ما اقترحوه. وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية، كأنه تعالى أعاد النهي هنا ليخفف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك

نزول الآية (11) :

بالمشركين بأي نوع من أنواع الفتك. نزول الآية (11) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة ويزيد بن أبي زياد، واللفظ له: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ومعه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير يستعينهم في عقل (دية) أصابه، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس فقال حيي بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرا أبدا، فجاءوا إلى رحى عظيمة، ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل، فأقامه من ثمة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآية. وأخرج نحوه عن عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمير بن قتادة ومجاهد وعبد الله بن كثير وأبي مالك. وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ببطن نخل، في الغزوة السابعة (غزوة ذات الرقاع) ، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوا إليه الأعرابي- يعني الذي جاءه وهو نائم- في بعض المنازل، فأخذ سلاحه وقال: من يحول بيني وبينك؟ فقال له: الله، فشام السيف (أغمده) ولم يعاقبه. وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد، أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم، فأخذه فاستله، وجعل يهزه ويهم به، فيكبته الله تعالى، فقال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: لا، قال: أما تخافني والسيف في

المناسبة:

يدي؟ قال: لا، يمنعني الله منك، ثم أغمد السيف ورده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله الآية. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادّكار ما سبق. المناسبة: لما ذكّر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بما يوجب عليهم الانقياد لأوامره ونواهيه، طالبهم هنا بالانقياد لتكاليفه المتعلقة به أو بعباده. التفسير والبيان: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، أي بالإخلاص لله في كل ما تعملون من أمر دينكم ودنياكم. شهداء بالحق والعدل بلا محاباة ولا جور، سواء للمشهود له أو عليه، أي أدوا الشهادة بالعدل لأن العدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور في أمة انتشرت المفاسد فيما بينها، كما قال تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء 4/ 135] والشهادة: الإخبار بالواقعة وإظهار الحق أمام الحاكم ليحكم به. ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في معاملتكم مع كل أحد، صديقا كان أو عدوا. وعدلكم أقرب للتقوى من تركه، أي العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء المعاصي على الوجه العام. وقوله: أَقْرَبُ لِلتَّقْوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، أي ليس للمفاضلة بين شيئين، فهو ليس على بابه، كما في قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان 25/ 24] .

واتقوا الله، أي اتخذوا وقاية من عذابه، في جميع أعمالكم، فإن الله خبير بما تعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ثم أوضح جزاء الفريقين: الفريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات التي يصلح بها أمر الناس في أنفسهم ومع غيرهم، ومن أهمها العدل، وجزاؤهم مغفرة لذنوبهم أي ستر لها، وأجر عظيم وهو الجنة ومضاعفة الثواب على الإيمان والعمل الصالح، فضلا من الله ورحمة. والفريق المقابل الآخر وهو الذين كفروا بالله ورسله، سواء كفروا بالجميع أو بالبعض، وكذبوا بآيات الله الكونية التي أقامها الله في الأنفس والأكوان للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته، وآياته المنزلة على رسله فيما يبلغون عنه، وجزاؤهم أنهم أصحاب النار العظيمة الملازمون لها، لفساد أنفسهم وسوء أعمالهم، وهذا من عدل الله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا جور فيه. ثم ذكّر الله تعالى المؤمنين بنعمة الله عليهم، بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، ورد كيد الأعداء عنهم، على كثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، بعد أن هموا وعزموا على البطش بكم، ولكن الله أيد رسوله ونصر دينه وأتم نوره ولو كره الكافرون. وحادثة المحاربي (من قبيلة محارب) المتقدمة مثيرة للانتباه والاهتمام، وقد رويت بروايات كثيرة عدا ما ذكر في سبب النزول. وهناك رواية أخرى يحسن ذكرها، روى الحاكم عن جابر قال: «قام على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك؟ قال: الله، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فجاء إلى

فقه الحياة أو الأحكام:

قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس» . وقد حدثت حادثة الأعرابي هذا في غزوة ذات الرقاع، واسم الرجل: غورث بن الحارث. والتذكير بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى يستتبع التزام التقوى، لذا أمر تعالى بالتقوى وبالتوكل على الله، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي اتخذوا من تقوى الله عدة تنفعكم وتحميكم من عذاب الله، وتوكلوا على الله حق التوكل، فمن توكل على الله- بعد اتخاذ الأسباب- كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- وجوب القيام لله تعالى بإخلاص بكل التكاليف التي كلفنا بها. 2- نفاذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى، ونفاذ شهادته عليه لأنه تعالى أمر بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له، لما كان لأمره بالعدل فيه وجه. 3- إن كفر الكافر لا يمنع من العدل في معاملته، وفي الآية الآمرة بالعدل والتقوى دلالة أيضا على أن يقتصر في المحاربة على المستحق للقتال، وأن المثلة بالأعداء غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وآذونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيقاع الغم والحزن بهم. 4- وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم. فهذه الآية وآية النساء المتقدمة [4/ 135] تعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة وشهادة الزور. 5- وجوب العدل في معاملة الناس قاطبة، سواء كانوا أعداء أو أصدقاء لقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ.. الآية.

نقض اليهود والنصارى الميثاق [سورة المائدة (5) الآيات 12 إلى 14] :

6- عرفان الجميل ووجوب تذكر نعمة الله على المؤمنين في رد كيد الأعداء عنهم وعن نبيهم عليه الصلاة والسلام. 7- وجوب تقوى الله بنحو عام في كل أحوال الإنسان، ووجوب التوكل على الله بعد اتخاذ الأسباب، لإحراز السعادة الدنيوية والأخروية. 8- جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات والأفعال الخيرة لأنفسهم وإخوانهم: هو المغفرة لذنوبهم والظفر بالخلود في الجنان. وجزاء الكافرين بالله ورسله المكذبين بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته: هو ملازمة نار الجحيم، وهي بئس المأوى وبئس المصير. وكل من الجزاءين مؤكد الحصول، لافتتاحه بوعد الله، ووعد الله أقوى لأن الإله قادر على جميع المقدورات، عالم بجميع المعلومات، غني عن كل الحاجات. 9- آية أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار لأن هذا القول يفيد الحصر، والمصاحبة تقتضي الملازمة، كما يقال: أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها. نقض اليهود والنصارى الميثاق [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

الإعراب:

الإعراب: لَئِنْ لام قسم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (أصحاب القلوب) . وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ: خائِنَةٍ: إما صفة لموصوف محذوف، وتقديره: على فرقة خائنة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. أو تكون خائِنَةٍ بمعنى خيانة لأن فاعلة تأتي مصدرا، كالخالصة بمعنى الإخلاص: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ وكالطاغية بمعنى الطغيان: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ والكاذبة بمعنى الكذب: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي كذب، والعافية والعاقبة وغير ذلك. إِلَّا قَلِيلًا استثناء من الهاء والميم في مِنْهُمْ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ: من تتعلق بأخذنا، كما في قوله: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ معناه: أخذنا ميثاقا من بني إسرائيل اليهود. البلاغة: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ فيه التفات عن الغيبة: «وبعث» إلى المتكلم، اعتناء بشأنه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَبَعَثْنا أقمنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من كل سبط نقيب يكون كفيلا على قومه بالوفاء بالعهد توثقة عليهم، والنقيب: كبير القوم الذي يعنى بشؤونهم وهو الضامن إِنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصرة وَعَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بالإنفاق في سبيله ببذل المال فوق الواجب، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس بَعْدَ ذلِكَ بعد الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأ طريق الحق، والسواء في الأصل: الوسط، وسَواءَ السَّبِيلِ: وسطه. لَعَنَّاهُمْ طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا قاسِيَةً شديدة جامدة لا تلين لقبول الحق والخير والإيمان يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ التحريف: إمالة الشيء عن موضعه إلى جانب آخر، فاليهود يحرفون الكلام الذي في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره عن مواضعه التي وضعه الله عليها، أي يبدلونه. وَنَسُوا تركوا حَظًّا نصيبا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أمروا به في التوراة من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتطلع: تظهر عَلى خائِنَةٍ أي خيانة مِنْهُمْ بنقض العهد وغيره إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ممن أسلم. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى: متعلق بقوله: أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أي أخذنا الميثاق من النصارى، كما أخذناه من بني إسرائيل اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في الإنجيل من الإيمان وغيره، ونقضوا الميثاق فَأَغْرَيْنا أوقعنا بينهم العداوة والبغضاء بتفرقهم واختلاف أهوائهم، فكل فرقة تكفّر الأخرى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه. المناسبة: موضوع الآيات كالتي قبلها تذكير بالمواثيق، فبعد أن ذكّرنا الله بميثاقه على السمع والطاعة للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمرنا بالوفاء بالعهد، من إحلال الحلال وتحريم الحرام، وذكّرنا بنعمه الداعية للوفاء، بيّن لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، وعقابهم على ذلك في الدنيا والآخرة، ليتعظ المسلمون بمن تقدمهم من الأمم. التفسير والبيان: لقد أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن

بالتوراة التي فيها شريعتهم التي اختارها لهم، وليقبلنها بجد ونشاط: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة 2/ 63 و93] ولا يزال هذا العهد في التوراة الحالية، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، يتولون أمور الأسباط (كالقبائل في العرب) ويرعونهم، والنقباء: زعماء أو عرفاء أسباطهم الاثني عشر، والنقيب: كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقّب عنها، وعن مصالحهم فيها، وبعثهم: إرسالهم لمقاتلة الجبارين في بيت المقدس. وتاريخ ذلك كما روى ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس، التي كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني جعلتها لكم وطنا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم، ولما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، أمره الله أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، ويأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به ففعل، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يستطلعون الأخبار، فرأوا أجساما قوية، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك، فنقضوا العهد إلا نقيبين، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ «1» [المائدة 5/ 23] . وَقالَ اللَّهُ: إِنِّي مَعَكُمْ أي وقال الله لموسى الذي بلغ الوحي إلى بني إسرائيل: إني معكم، أي ناصركم وحافظكم ومعينكم، ومطلع عليكم، ومجازيكم على أعمالكم. وعاهدهم الله بالعهد الإلهي الشامل ومضمونه: لئن أقمتم الصلاة، وأديتموها على الوجه الأكمل، وأعطيتم زكاة أموالكم التي تزكو بها نفوسكم وتطهر، وآمنتم

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 11/ 184، تفسير ابن كثير: 2/ 32 [.....]

برسلي التي سترسل لكم بعد موسى، أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي، مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وعزرتموهم: أي نصرتموهم وآزرتموهم على الحق ومنعتموهم من الأعداء، وأقرضتم الله قرضا حسنا أي أنفقتم في سبيله وابتغاء مرضاته، زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة، لئن فعلتم كل هذا، لأكفرن عنكم سيئاتكم، أي أستر ذنوبكم وأمحوها ولا أؤاخذكم بها، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي أدفع عنكم المحذور واحصل لكم المقصود. فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به، وخالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لكم، وعدل عن الهدى إلى الضلال. ثم بيّن تعالى أنهم نقضوا هذا العهد، فجازاهم على فعلهم فقال: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله، وأنزلنا عليهم المقت والغضب والسخط، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة، لا تقبل الحق، ولا تتعظ بموعظة: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة 2/ 7] . يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي فسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وبدلوه وغيروه أي أن التحريف نوعان: تحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص. وتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.

وقد أخبر الله عن تحريفهم وتأويلاتهم في مواضع كثيرة منها: وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء 4/ 46] . ومن المعروف تاريخيا وباعتراف اليهود والنصارى أنفسهم: أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكتبها وأمر بحفظها وكانت نسخة واحدة، قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبي البابليين لهم وإغارتهم عليهم، ولم يكن عندهم غيرها، ولم يحفظوها، بسبب إحراق البابليين هيكلهم وتخريب عاصمتهم وسبي أحيائهم. أما الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى التي فيها أخبار عن موته وحياته، وأنه لم يقم بعده أحد مثله، فإنها كتبت بعده بزمن طويل، وبعد بضعة قرون، كتبها عزرا الكاهن بما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل، وبعد أن أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. وكذلك الإنجيل كتب باعتراف النصارى بعد عيسى بحوالي قرن فأكثر. وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي وتركوا العمل به، رغبة عنه، ونسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: نسوا الكتاب أي طائفة من أصل الكتاب، وتركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الحسن البصري: تركوا عرا دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها، وقال غيره: تركوا العمل، فصاروا إلى حال رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة. وهذا كله لتظل معجزة القرآن الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم باقية دائمة، فقد أخبر عن ذلك بعد عدة قرون من موت موسى عليه السلام. وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ يعني مكرهم وغدرهم وخيانتهم لك

ولأصحابك، قال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والخائنة: الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة. وقال بعضهم: معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر، كقولهم: هو راوية للشعر، ورجل علامة «1» . قال الطبري: والصواب من القول أن الله عنى بهذه الآية يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إذ أتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعينهم في دية العامريين، فأطلعه الله على ما قد هموا به» . إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي ما تزال تطلع على خياناتهم المتكررة الصادرة منهم إلا قليلا منهم وهو من آمن وحسن إيمانه، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا، فلا تخف منهم خيانة. فاعف عما بدر منهم، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان، إن الله يحب المحسنين الذين أحسنوا العفو والصفح عن المسيء، ويثيبهم على إحسانهم، وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: «ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه» وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم «3» . وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عامل طوائف اليهود الثلاث حول المدينة (وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة) أحسن معاملة في بدء الأمر وأثنائه ونهايته، ففي البداية بعد الهجرة إلى المدينة عقد معهم صلحا معروفا هو وثيقة المدينة، ووادعهم وعاهدهم على المسالمة وألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوا له، وأنهم آمنون

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 101 (2) المرجع والمكان السابق. (3) تفسير ابن كثير: 2/ 33

على أنفسهم وأموالهم، ويتمتعون بالحرية الكاملة. وفي أثناء الحياة القائمة على التعايش السلمي نقضوا العهد وخانوا النبي وانضموا إلى معسكر قريش واشتركوا مع العرب في حرب المسلمين، فاكتفى النبي صلّى الله عليه وسلّم بطردهم من جواره. وفي نهاية الأمر لم يعاقب النبي اليهود على خيانتهم وغدرهم، ولكنه أوصى بإجلائهم من جزيرة العرب ومنها الحجاز. ثم ذكر الله تعالى ميثاقه مع النصارى، فقال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى.. أي وكذلك أخذنا العهد والميثاق على النصارى على متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى الناس، ففعلوا كما فعل اليهود، بدلوا دينهم، وخالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، لهذا قال تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَأَغْرَيْنا.. أي تركوا العمل بأصول دينهم رغبة عنه، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، فإن طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم، لا يزالون متباغضين متعادين، يكفّر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا. وسينبئهم الله يوم القيامة بما صنعوا في الدنيا، وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى ما نسبوه إلى الرب عز وجل من اتخاذ الصاحبة والولد والشريك، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون حتما في الآخرة. والمعروف تاريخيا حتى عند النصارى أنفسهم كما أوضحت أن المسيح لم يكتب مواعظه وتعاليمه، ثم توفي، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب، وقد اضطهد اليهود أتباعه وشردوهم وقتلوا أكثرهم، وعلى التخصيص الحواريين الذين كانوا صيادين. وعند ما دخل قسطنطين الملك في الديانة المسيحية، وهدأت الحملة ضد النصارى، أخذوا يكتبون الأناجيل، وهي كثيرة ومختلفة ومتباينة، ولم تظهر

فقه الحياة أو الأحكام:

الأناجيل الأربعة المتداولة إلى الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عند ما صار للنصارى دولة بتنصر الملك قسطنطين الروماني، والذي من عهده دخلت النصرانية في عهد جديد من الوثنية والفلسفة الإغريقية. هذه الأناجيل المسماة (العهد الجديد) مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ وكونها متناقضة متعارضة، أقيم فيها الدين المسيحي على أساس كتب اليهود التي تسمى (العهد العتيق أو القديم) التي لا أصل ثابتا لها كما عرف. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- الإخبار عن نقض اليهود المواثيق، وأن جزاء النقض اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى. 2- الاعلام بأن اليهود يحرفون كلام الله المنزل في التوراة، إما تحريف ألفاظ وإما تحريف معان، كما أوضحت. 3- إيثار العفو والصفح على العقاب والمحاربة والقتل والإيذاء. 4- اتخاذ النقباء دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى معرفته من حاجاته الدينية والدنيوية. وتأيد ذلك بالسنة النبوية في الإسلام قال صلّى الله عليه وسلّم لهوازن: «ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» . 5- ودل اتخاذ النقباء أيضا على جواز اتخاذ الجاسوس. 6- إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالله والرسل والإنفاق في سبيل الله سبب لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب ودخول الجنة. فمن انحرف عن ذلك

فقد أخطأ طريق الحق والخير، وعدل عن الهدى إلى الضلال. 7- الإخبار عن النصارى أيضا أنهم نقضوا العهد والميثاق، وأهملوا ما أمرهم به كتابهم ودينهم من أوامر، وما نهاهم عنه من نواه، ولم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بشر به الإنجيل والتوراة من قبله، وقد هددهم الله وأوعدهم بالجزاء السيء على ما صنعوا. والخلاصة: إن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله. ويحسن في النهاية إيراد التساؤلات الثلاثة التي أوردها الرازي في الآية وهي «1» : السؤال الأول- لم أخّر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليه؟ الجواب- أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل، فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل. والسؤال الثاني- ما معنى التعزير؟ الجواب- قال الزجاج: العزر في اللغة: الرد، وتأويل عزرت فلانا، أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه، ولهذا قال الأكثرون: معنى قوله وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم وذلك لأن من نصر إنسانا فقد ردّ عنه أعداءه.

_ (1) التفسير الكبير: 11/ 185 وما بعدها.

مقاصد القرآن [سورة المائدة (5) الآيات 15 إلى 16] :

ولو كان التعزير هو التوقير، لكان قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح 48/ 9] تكرارا. والسؤال الثالث- قوله: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دخل تحت إيتاء الزكاة، فما الفائدة في الإعادة؟ الجواب- المراد: بإيتاء الزكاة الواجبات، وبهذا الإقراض: الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. مقاصد القرآن [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) الإعراب: يُبَيِّنُ لَكُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من رَسُولُنا. وتقديره: قد جاءكم رسولنا مبينا لكم. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لكتاب، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من الْكِتابِ لأنه قد وصف بمبين. البلاغة: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فيه استعارة، استعار الظلمات للكفر والنور للإيمان.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: تُخْفُونَ تكتمون مِنَ الْكِتابِ التوراة والإنجيل، كإخفاء آية الرجم وصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من ذلك، فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة إلا افتضاحكم. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ قرآن بيّن ظاهر يَهْدِي بِهِ أي بالكتاب سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة الظُّلُماتِ الكفر النُّورِ الإيمان بِإِذْنِهِ بإرادته صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: دين الإسلام. سبب النزول: يا أَهْلَ الْكِتابِ..: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور، والمواثيق التي أخذت عليهم، حتى أخذه أفكل: رعدة من الخوف، فقال: لما كثر فينا جلدنا مائة، وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» . المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن اليهود والنصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وهو من معجزات القرآن المتعددة في نواحيه. التفسير والبيان: يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، ووحد الكتاب لأنه خرج مخرج الجنس، قد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ووصف الرسول هنا بصفتين:

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 103- 104

الأولى- أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون، قال ابن عباس: «أخفوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأخفوا أمر الرجم، وعفا عن كثير مما أخفوه، فلم يفضحهم ببيانه» . ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بيّن ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم، كان ذلك إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا. الصفة الثانية- ويعفو عن كثير، أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه أنتم، وإنما لم. يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين. وهذا يدعوهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم. فالصفة الأولى: أنه يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه، والصفة الثانية: أنه يسكت عن كثير مما غيروه، ولا فائدة في بيانه. روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فكان الرجم مما أخفوه. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه أي الشيخان: البخاري ومسلم. ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم بأنه كتاب واضح، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نور، أو الإسلام نور، فالمراد بالنور محمد، وبالكتاب القرآن، وقيل: إن المراد بالنور الإسلام، وبالكتاب القرآن. والقرآن بيّن في نفسه، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم. ثم قال تعالى فيما معناه: يهدي بالكتاب من أراد اتباع الدين الذي يرضي الله تعالى، يهديهم طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، وينجيهم من المهالك بإذنه، أي بتوفيقه، فيخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ويرشدهم إلى أوضح الطرق، وهو الدين الحق لأن الحق واحد لذاته، وطريقه

فقه الحياة أو الأحكام:

مستقيم واحد، أما الباطل فله شعاب كثيرة وكلها معوجة. أي أنه تعالى ذكر للقرآن ثلاث فوائد أو مقاصد: 1- إن المتبع لما يرضي الله يهديه إلى الطريق المؤدي إلى النجاة والسلامة من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة باتباع الإسلام لأنه دين الحق والعدل والإخلاص والمساواة. 2- إنه يخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والشرك والوثنية والوهم والخرافة إلى نور التوحيد الخالص. 3- إنه يهدي إلى الطريق الموصل إلى الهدف الصحيح من الدين، وإلى خيري الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم نور كشف زيف أهل الأديان الأخرى، فهو يبين لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ما يخفونه من كتبهم، من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها. وهو يعفو عن كثير أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. فهو مترفع عما لا فائدة فيه. والقرآن الكريم يبين الأحكام وما رضيه الله من طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمّنة من كل مخافة، وهي الجنة، ويخرج المؤمنين به من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات بتوفيقه وإرادته، ويرشد إلى الدين الحق.

الرد على معتقدات اليهود والنصارى [سورة المائدة (5) الآيات 17 إلى 19] :

الرد على معتقدات اليهود والنصارى [سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 19] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) الإعراب: أَنْ تَقُولُوا: أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع نصب على أنه مفعول لأجله. البلاغة: يَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ فيه طباق. المفردات اللغوية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ حيث جعلوه إلها، وهم اليعقوبية: فرقة من النصارى، وساد مذهبهم بعدئذ بين جميع المسيحيين فَمَنْ يَمْلِكُ أي يدفع ويمنع مِنَ اللَّهِ من عذاب الله شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي

سبب نزول:

لا أحد يملك ذلك، ولو كان المسيح إلها لقدر عليه. ويهلك: يميت ويعدم فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ سكون وهدوء من الرسل، أي انقطاع الوحي وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن. سبب نزول الآية (18) : وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى..: روى ابن إسحاق وابن جرير الطبري وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن أبيّ، ونعمان بن قصي، وبحريّ بن عمرو، وشاس بن عدي من اليهود، فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إلى آخر الآية «1» . سبب نزول الآية (19) : يا أَهْلَ الْكِتابِ: روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود إلى الإسلام، فرغّبهم فيه وحذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فو الله لتعلمن أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهودا: إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله الآية «2» . المناسبة: بعد أن أقام الله الحجة على أهل الكتاب عامة، وأوضح أنهم مقصرون

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 105، تفسير القرطبي: 6/ 120 (2) الطبري، المرجع السابق: 6/ 107

التفسير والبيان:

معرضون عن الحق بعدم إيمانهم برسالة الإسلام، بيّن ما كفر به النصارى بنحو خاص. التفسير والبيان: كانت فرقة اليعقوبية من النصارى هي القائلة بألوهية المسيح عليه السلام، ثم ساد مذهبهم بين طوائف المسيحيين الثلاث المشهورة وهي الكاثوليك والأرثوذكس، والبروتستانت الذين نشأ مذهبهم منذ أربعة قرون على يد الراهب المصلح (مارتن لوثر) الذي خلص المسيحيين من كثير من التقاليد والخرافات، وانتشر مذهبه في أمريكا وإنجلترا وألمانيا، ولكنه ظل قائلا بالتثليث ويعد الموحد غير مسيحي، ولكن يؤول الأمر في النهاية إلى وصف المسيح بأنه الرب والإله، كما هو مكتوب على أول صفحة في الإنجيل: (كتاب العهد الجديد لربنا ومخلصنا يسوع المسيح) . فجميع فرق النصارى اليوم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم وإن المسيح هو الله، وعمدتهم عبارة في إنجيل يوحنا وهي: (في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت عند الله، والله هو الكلمة) والكلمة في تفسيرهم هي المسيح. وهذا ما وصفهم به القرآن بأنهم يؤلهون المسيح، لذا فقد كفر القائلون بأن الله هو المسيح، ورد الله هذا الزعم الباطل، فقال: يا أيها النبي قل لهؤلاء النصارى: من يقدر على رفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعا، إن أراد أن يهلكهم؟ لا أحد يقدر على هذا، فالله قادر على إهلاك الناس قاطبة، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه، ولا سلطان لأحد فوق مشيئته وإرادته. وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك، فكيف يكون هو الله؟! الله في الحقيقة هو صاحب الملك المطلق والتصرف الشامل في السموات

والأرض وما بينهما من عالمي الإنس والجن، وجميع الموجودات ملكه وخلقه. والله هو الذي يخلق الأشياء من العدم حسبما يشاء، وعلى وفق حكمته وإرادته، فقد يخلق من تراب من غير أب ولا أم مثل خلق أبينا آدم عليه السلام وخلق أصول أنواع الحيوان، وقد يخلق من أب فقط دون أم كخلق حواء، وقد يخلق من أم بلا أب مثل خلق عيسى عليه السلام. وهذا رد على شبهة النصارى الذين زعموا أن المسيح بشر وإله، له طبيعة بشرية وطبيعة ناسوتية إلهية وهي الغالبة، لكونه خلق على نحو غير معتاد من أم فقط، ولأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، وصدرت عنه أعمال عجيبة لا تصدر من بشر. وهي في الحقيقة معجزات خارقة للعادة يجريها الله على يد الأنبياء قاطبة، وهي تحدث بإذن الله ومحض إرادته، لتكون دليلا مؤيدا على صدق النبوات، وصدور تلك المزايا من عيسى وغيره لا تجعل المخلوق خالقا لأنها بمشيئة الخالق. فقد أيد الله موسى عليه السلام بالعصا واليد البيضاء لأن السحر كان سائدا في عصره، وأيد الله عيسى عليه السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لأن الطب كان متقدما في زمنه، وأيد الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمعجزات كثيرة كانشقاق القمر، وكانت معجزته الخالدة القرآن في أرقى مستوى من البلاغة والفصاحة لأنه بعث بين العرب الذين امتازوا بفصاحة القول نثرا وخطابة وشعرا، فليس إحياء عيسى للموتى- وكان ذلك في حوادث فردية معدودة- سببا للتأليه، فقد أقر بأنه عبد الله ورسوله، وأنه يحيي الموتى بإذن الله، أي بتوفيقه وإرادته وحكمته. والله هو القادر على كل شيء، وهو خالق كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ثم رد الله تعالى على ادعاء اليهود والنصارى القائلين: نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن منتسبون إلى أنبيائه، وهم بنوه، وله بهم عناية، وهو يحبنا، ونقلوا عن

كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: (أنت ابني بكري) وقال عيسى في الإنجيل للنصارى: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) يعني ربي وربكم، وجاء في إنجيل متّى في وعظ المسيح على الجبل واصفا الملائكة والمؤمنين الصالحين: (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية: (لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله) فابن الله في كتبهم بمعنى حبيب الله، وحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، ورد عليهم عقلاؤهم الذين أسلموا بأن هذا يطلق على التشريف والإكرام. ومن المعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما أدعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لدى الله، وحظوتهم عنده، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. فرد الله عليهم عن طريق نبيه: قل لهم: إذا كان الأمر كما زعمتم، فلم يعذبكم الله بذنوبكم في الدنيا، كتخريب الوثنيين مسجدكم الأكبر وبلدكم بيت المقدس، وإزالة ملككم من الأرض، وفي الآخرة التي أعد لكم فيها نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذن أبناء الله ولا أحباؤه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق، ولا يحابي أحدا من عباده، وإنما يغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة وهم أهل الطاعة، ويعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، وهم العصاة، وهو فعال لما يريد، لا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فهذا لا ينفعكم، وإنما الذي ينفعكم الإيمان الصحيح، ومنه الإيمان برسالة الإسلام، وصالح الأعمال. والله المالك المطلق والمتصرف المطلق في السموات والأرض وما بينهما، وجميع المخلوقات عبيد له، وهم ملكه وتحت قهره وسلطانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ

وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] وإنما قال: وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات والأرض، ولم يقل: بينهن، إشارة إلى الصنفين والنوعين. وإليه المصير أي إلى الله تعالى المرجع والمآب، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور، وهذا إنذار لهم بأنه سيعذبهم في الآخرة على كفرهم ودعاويهم الباطلة. وقد كرر تعالى جملة: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للرد على كل من النصارى الذين ادعوا ألوهية المسيح، والله مالكه وقادر على إهلاكه، وعلى اليهود والنصارى أيضا، لبيان قدرته على المغفرة لمن يشاء وتعذيب من يشاء وإبطال دعاويهم الزلفى والحظوة عند الله، فإن ميزان القربى من الله هو الإيمان والعمل الصالح، لا الوراثة ولا الامتياز العنصري أو الجنسي، فليس صحيحا أن اليهود شعب الله المختار، وليس لشعب مزية على آخر. ثم خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول، بل هو المصدق لما معهم والمعقب لجميعهم، وهو الذي بشّرتم به في كتبكم، وأخبركم به أنبياؤكم، جاءكم يبين لكم على فترة من الرسل، أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحي، وبعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، يبين لكم ما أنتم بحاجة إليه من أحكام دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها الوثنية، وأخلاق أفسدها الإفراط في المادية، وعبادات أفرغتم محتواها وصارت مجرد طقوس لا معنى لها ولا روح فيها، ويبين لكم أيضا ما أشكل عليكم من أمر دينكم. ومن المعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة، وبين ميلاد عيسى والنبي صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة وتسع وستون سنة.

فقه الحياة أو الأحكام:

أَنْ تَقُولُوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أي لئلا تحتجوا وتقولوا، يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه: ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير، يبشر من أطاعه بالجنة وهو من آمن بالله وعمل بما أمر به وانتهى عما نهى عنه. وينذر من عصاه وخالف أمر الله بالنار، يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال الطبري: معناه: إني قادر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني «1» . ومن دلائل قدرة الله نصر نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته في الدنيا، وعلو منزلته في الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: أثبتت الآية الأولى: لَقَدْ كَفَرَ ... كفر النصارى بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم، أي يدينون له. وأعلمهم الله أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه، ولم يتمكن من دفع الموت عنها، فلو أهلكه هو أيضا، فمن يدفعه عن ذلك أو يرده؟! والمسيح وأمه مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للألوهية، وإنما الله هو مالك السموات والأرض وما بينهما من النوعين والصنفين، يخلق ما يشاء كخلق عيسى من أم بلا أب آية لعباده، والله قادر على كل شيء. وأبطلت الآية الثانية: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى دعاوى اليهود والنصارى معزتهم وحظوتهم عند الله، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فإن صح ما يزعمون فلم أنزل العذاب بهم في الدنيا من هزيمة وتخريب وتدمير ديارهم وتشريدهم، وأعد لهم عذاب جهنم لكفرهم ومعاصيهم، فليسوا إذن أبناء الله وأحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرّون بعذاب العصاة منكم،

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 108

تذكير موسى قومه بنعمة الله ومطالبتهم بدخول الأرض المقدسة وموقفهم الرافض [سورة المائدة (5) الآيات 20 إلى 26] :

فذلك دليل على كذبكم. وإنما هم في الحقيقة كسائر البشر يحاسبهم على الطاعة والمعصية. وأوضحت الآية الثالثة: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تبيان أمر النجاة والسعادة الأبدية، وإناطتها بالإيمان والعمل الصالح، فالجنة لمن أطاع الله ورسوله، والنار لمن عصى الله ورسوله، وفي تقرير أحكام الحياة وقوانين المجتمع لئلا أو كراهية أن تقولوا: ما جاءنا من مبشر ولا منذر. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة وتسع وستون سنة. تذكير موسى قومه بنعمة الله ومطالبتهم بدخول الأرض المقدسة وموقفهم الرافض [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

الإعراب:

الإعراب: أَنْبِياءَ ممنوع من الصرف لأن فيه ألف التأنيث. خاسِرِينَ منصوب على الحال من واو فَتَنْقَلِبُوا وهو العامل في الحال. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ.. مِنَ الَّذِينَ: في موضع رفع صفة رَجُلانِ وكذلك قوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جملة فعلية في موضع رفع صفة رَجُلانِ. أَبَداً ما دامُوا فِيها أبدا: منصوب ظرف زمان. وما في ما دامُوا ظرفية زمانية مصدرية، وتقديره: لن ندخلها أبدا مدة دوامهم فيها. وما دامُوا: في موضع نصب على البدل من قوله تعالى: أَبَداً وهو بدل بعض من كل. إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي: أَخِي إما منصوب عطفا على نَفْسِي، أو عطفا على اسم رَجُلانِ ويحذف خبره لدلالة الأول عليه وتقديره: وإن أخي لا يملك إلا نفسه وإما مرفوع بالابتداء عطفا على موضع (إن وما عملت فيه) ويضمر الخبر كالأول أو معطوف على ضمير أَمْلِكُ وحسن العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل بين المتعاطفين. أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف منصوب، ويتعلق بيتيهون فيكون التحريم مؤبدا، أو يتعلق بمحرّمة فلا يكون التحريم مؤبدا، وجملة يَتِيهُونَ حالية من الهاء والميم في عَلَيْهِمْ. البلاغة: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً تشبيه بليغ، أي كالملوك في رغد العيش والطمأنينة، فحذف أداة الشبه ووجه الشبه. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جملة اعتراضية لبيان مدى فضل الله على الصالحين. المفردات اللغوية: جَعَلَ فِيكُمْ منكم. مُلُوكاً أحرارا تملكون أنفسكم وأموالكم وأهلكم بعد أن كنتم في أيدي القبط، وصرتم أصحاب خدم وحشم.

المناسبة:

ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك. الْمُقَدَّسَةَ المطهرة. كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أمركم بدخولها وهي الشام. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ تتراجعوا وتنهزموا خوف العدو. خاسِرِينَ في سعيكم. جَبَّارِينَ جمع جبار: وهو الرجل الطويل القوي المتكبر. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ قال لهم رجلان يخافون مخالفة أمر الله، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام لكشف أحوال الجبابرة. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالعصمة، فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى، بخلاف بقية النقباء، فأفشوا، فجبن القوم. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب القرية، ولا تخشوهم، فإنهم أجساد بلا قلوب. فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قالا ذلك تيقنا بنصر الله وإنجاز وعده. قاعِدُونَ عن القتال. قالَ أي موسى حينئذ. رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وإلا أَخِي ولا أملك غيرهما، فأجبرهم على الطاعة. فَافْرُقْ فافصل. فَإِنَّها أي الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أن يدخلوها. يَتِيهُونَ يتحيرون. فَلا تَأْسَ تحزن. المناسبة: الواو في قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ واو عطف، وهو متصل بقوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى عليه السلام نعم الله تعالى، وأمرهم بمحاربة الجبارين، فخالفوا في القول في الميثاق، وخالفوه في محاربة الجبارين. أي بعد أن أقام الله الدليل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وناقش أهل الكتاب في ذلك، ذكر موقفين من مواقف اليهود يدلان على عنادهم، أولهما: جحود نعم الله الكثيرة عليهم، وثانيهما: عصيانهم أوامر موسى بدخول أرض فلسطين ومحاربة الجبارين، ليكون ذلك مواساة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتعريفا له أن صدودهم عن الحق خلق متأصل فيهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أخبر الله تعالى عن كليمه موسى بن عمران عليه السلام حينما ذكّر قومه بنعم الله عليهم في جمعه لهم بين خيري الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريق الاستقامة. فقال: واذكر يا محمد لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك حين قال موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه: تذكروا نعما ثلاثا: 1- تذكروا نعمة الله عليكم بتتابع الأنبياء فيكم من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، حتى ختموا بعيسى عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم النبيين من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وبنو إسرائيل من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بالتوراة. ومن المعلوم: أن النبوة: هي الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل. والخلاصة: أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. 2- وجعلكم ملوكا، أي أحرارا بعد أن كنتم مملوكين في أيدي القبط، فأنقذكم الله، فسمى إنقاذكم ملكا. وقيل: الملك: هو من له مسكن وخادم، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. والخلاصة: أنهم أحرار عندهم ما يكفيهم من زوجة وخادم ودار، بدليل ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» وروى أبو داود أيضا عن زيد بن أسلم: «من كان له بيت وخادم فهو ملك» وعرف اليوم يؤيد هذا، فيقال للمخدوم المالك مسكنه الهانئ في معيشته: «ملك زمانه» . 3- وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين: عالمي زمانهم، من فلق البحر،

وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الأمور العظام. ثم أمرهم موسى بدخول فلسطين ومجاهدة الأعداء فقال لهم: يا قوم الأرض المقدسة (الطاهرة) : أرض بيت المقدس، أو فلسطين، للسكنى لا للملك لأن بيت المقدس مقر الأنبياء ومسكن المؤمنين الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قسمها لكم وسماها، فقد وعد الله إبراهيم بحق السكنى في تلك البلاد المقدسة، لا أنها ملك لهم لأن هذا مخالف للواقع، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح لأن الله قال بعدئذ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: كانت هبة، ثم حرمها عليهم بشؤمهم وعصيانهم. ولأن قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي لا تتراجعوا وتدبروا من خوف الجبابرة، ولا تنكلوا عن الجهاد، فتصبحوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. وقيل: المراد لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وإلى الوثنية والفساد في الأرض. قال النقباء الذين أرسلهم موسى عليه السلام للتجسس في الأرض المقدسة: إن فيها قوما جبارين أي طوالا عتاة يجبرون الناس على ما أرادوا. وكانوا من الكنعانيين، وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها، فإن خرجوا منها فإنا داخلون فيها. وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف 7/ 40] .

وهذا دليل آخر على امتناعهم عن الدخول، وعدم أحقيتهم بشيء من تراب فلسطين الطاهرة. قال رجلان من النقباء الذين يخافون الله تعالى- وقد أنعم الله عليهما بالهداية والإيمان والطاعة والتوفيق لما يرضيه، والثقة بعون الله تعالى، والاعتماد على نصرة الله، وهما الرجلان الصالحان من قوم موسى: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا- قالا: ادخلوا عليهم باب المدينة، فإذا فعلتم ذلك نصركم الله، وأيدكم بجنده، وكنتم الغالبين. وإن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم، والتوكل على الله صفة المؤمنين. ومع هذا كرر اليهود الرفض وأصروا على العناد والتمرد، ولم تنفعهم عظة الرجلين الصالحين شيئا، وقالوا يا موسى: لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، وأبدا: تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، وقولهم: ما دامُوا فِيها بيان للأبد، فاذهب أنت وربك الذي أمرك بالجهاد والخروج من مصر والإتيان إلى هنا، فقاتلا الجبارين، إنا هاهنا قاعدون عن الجهاد منتظرون. وهذا قول في غاية التنكر لموسى عليه السلام، والبعد عن الأدب معه. فقال موسى غاضبا حزينا باثا شكواه إلى الله وحسرته، معتذرا من عصيان قومه: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي لا يطيعني أحد منهم، فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون. وفي هذا إيماء إلى أنه لم يكن على ثقة من ثبات يوشع وكالب حال وجود العدد القليل، فاقض وافصل بيني وبين هؤلاء الفاسقين الخارجين عن طاعتك، فتحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون.

وهذا في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ على وجه التسبيب. ويصح أن يكون المعنى: فباعد بيننا وبينهم، وخلصنا من صحبتهم كقوله تعالى: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم 66/ 11] . قال الله تعالى لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي إن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها قدر مدة أربعين سنة، فتاهوا في صحراء مقفرة أي ساروا فيها متحيرين لا يهتدون طريقا، والتيه: المفازة أو البيداء أو البرية التي يتاه فيها، لا يدرون أين مصيرهم. روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ (وقال ابن عباس: وهي تسعة فراسخ) يسيرون في كل يوم جادّين، حتى إذا سئموا وأمسوا، إذا هم في الموضع الذي ابتدؤوا منه، يسيرون ليلا، وقد يسيرون نهارا، وكان يطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم، ويظللهم الغمام من حر الشمس نهارا، وينزل عليهم المن والسلوى، حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين. قيل: وكانوا ستمائة ألف، ومات هارون في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة، وكان رحمة لهما وعذابا لأولئك، وسأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فأدناه. ونبئ يوشع بعد سن الأربعين، وأمر بقتال الجبارين، فسار بمن بقي، وقاتلهم، وكان يوم الجمعة، ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم. روى أحمد في مسنده حديثا: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع، ليالي سار إلى بيت المقدس» . وتتمة كلام الله تسلية لموسى عنهم: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي فلا تحزن على القوم المتمردين فيما حكمت عليهم به، فإنهم مستحقون لذلك.

فقه الحياة أو الأحكام:

وتساءل الزمخشري وغيره: كيف يوفق بين قوله فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وبين قوله الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وأجابوا بوجهين: أحدهما- أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد قيل: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ. والثاني- أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون، كان ما كتب «1» . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت هذه القصة تقريع اليهود وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمر به كل منهما من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مقاتلة الأعداء، مع أن معهم موسى كليم الله يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، بالرغم مما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من إغراقه مع جنوده في اليم، وهم ينظرون، لتقر به أعينهم. وإذا كان أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه، فكذلك أحفادهم تمردوا على محمد عليه السلام، وهو تسلية له. وهذا يدل على قبح طبائع اليهود وإمعانهم في مخالفة أوامر الله، بالرغم من تذكير موسى لهم بنعم الله الكثيرة عليهم وأهمها ثلاث: 1- بعث كثير من الأنبياء في بني إسرائيل. 2- وجعلهم ملوكا: أي يملكون أمرهم لا يغلبهم فيه غالب، بعد أن كانوا مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذهم الله وأغرق عدوهم.

_ (1) الكشاف: 1/ 454 وما بعدها، التفسير الكبير للرازي: 11/ 197- 199

3- وإعطاؤهم ما لم يعط أحد من عالمي زمانهم. وقد أمرهم موسى بمجاهدة الأعداء من الكنعانيين الجبارين في فلسطين، وبدخول الأرض المقدسة (المطهرة أو المباركة) فتمردوا وأبوا الدخول، بالرغم من تبشير الرجلين الصالحين من النقباء (يوشع وكالب) لهم بالنصر والغلبة والفتح، وقالا: ولا يهولنكم عظم أجسامهم، فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة. وتمادوا بعناد وإفراط على الله، فرفضوا الدخول إلى الأرض المقدسة وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وهذا منهم كفر لأنهم شكّوا في رسالة موسى. فدعا موسى عليه السلام عليهم، وطلب فصل القضاء بينه وبينهم. فاستجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة، ومات هارون وموسى في التيه. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: «أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» قال: فرد الله إليه عينه وقال: «ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة» قال: «أي رب ثم مه» قال: «ثم الموت» قال: «فالآن» فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلو كنت ثمّ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» . وفعل موسى مع الملك لأنه لم يعرفه، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه، يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقأها. وكان العقاب الإلهي لبني إسرائيل المتمردين عن الطاعة هو تصفيتهم وتجديد بنية الشعب، وظهور جيل جديد من الشباب يتحملون المسؤولية، وكانوا أهلا للجهاد ومقاومة الجبارين، وجعلهم أئمة وارثين.

قصة قابيل وهابيل وأول جريمة قتل في الدنيا [سورة المائدة (5) الآيات 27 إلى 32] :

قصة قابيل وهابيل وأول جريمة قتل في الدنيا [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الإعراب: إِنِّي أُرِيدُ.. أصله: إنني بثلاث نونات، فحذفت الثانية لأنه أقل تغييرا من حذف الأولى والثالثة. أَوْ فَسادٍ.. مجرور بالعطف على: نَفْسٍ. وقرئ: فسادا: بالنصب على المصدر. البلاغة: قَتَلَ.. وأَحْيَا بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

وَمَنْ أَحْياها فيه استعارة، والمراد استبقاها لأن إحياء النفس حقيقة من مقدورات الله وحده. لَئِنْ بَسَطْتَ.. ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ بينهما طباق السلب. المفردات اللغوية: وَاتْلُ أي اقرأ يا محمد عَلَيْهِمْ على قومك نَبَأَ خبر ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل بِالْحَقِّ متعلق باتل إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وهو مصدر في الأصل، يستوي فيه الواحد وغيره، وقربانهما: كبش لهابيل وزرع لقابيل فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل، بأن نزلت نار من السماء فأكلت قربانه وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل، فغضب وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ اللام لام القسم، أي لئن مددت يدك إلي لتقتلني. تَبُوءَ ترجع بعقاب يعادل الإثم، وباء بالنعمة وباء بالذنب: التزم وأقر فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ زينت وشجعت مِنَ الْخاسِرِينَ بقتله، ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويثيره على غراب ميت معه، حتى واراه يُوارِي يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ ما يسوء ظهوره وهو العورة والمراد الجثة. يا وَيْلَتى الويلة: الفضيحة والبلية، أي وا فضيحتاه، والويل: حلول الشر. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك الذي فعله قابيل بِالْبَيِّناتِ الآيات الواضحة أَنَّهُ أي الشأن بِغَيْرِ ... فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي بغير فساد أتاه من كفر أو زنى أو قطع طريق أو نحوه أَحْياها امتنع عن قتلها لَمُسْرِفُونَ مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك، والإسراف البعد عن حد الاعتدال. المناسبة: أورد الله تعالى هذه القصة لبيان تأثير الحسد والحقد وحب الذات، وأن ذلك يؤدي إلى المخاطر والمهالك والقبائح، فقضى على رابطة الأخوة التي تجمع بين الأخوين، وأدى إلى سفك الدماء. وأمثلة ذلك كثيرة، فبعد أن ذكر تعالى حسد اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى هموا أن يقتلوه مع صحابته، ذكر هنا قصة ابني آدم، حسدا من الأخ على أخيه، فوجه اتصال الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى

التفسير والبيان:

على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه. التفسير والبيان: أخبر الله تعالى عن سوء عاقبة الحسد في قصة ابني آدم وهما قابيل وهابيل، كيف قتل الأول أخاه، بغيا عليه، وحسدا له فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بالمغفرة ودخول الجنة، وخاب القاتل وخسر في الدارين، فقال: اقرأ يا محمد، واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة حفدة القردة والخنازير، من اليهود وأمثالهم خبر ابني آدم، وهما قابيل وهابيل، في رأي جماعة من السلف والخلف، اقرأ واتل ذلك عليهم بالحق، أي بالبيان الصحيح الواقعي الواضح الذي لا كذب ولا وهم ولا زيادة ولا نقصان فيه، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران 3/ 62] وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف 18/ 13] وقال: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم 19/ 34] . وسبب القصة: أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، فكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فيزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك، إلا بتقريب قربان، فمن تقبل منه فهي له، فتقبل من هابيل، ولم يتقبل من قابيل. اتل عليهم حين قربا قربانا، فتقبل الله من هابيل قربانه وهو الكبش السمين لتقواه وإخلاصه، ولم يتقبل من قابيل قربانه وهو زرع قليل من سنبل القمح، لقلة التقوى والإخلاص. وكيف كان القبول؟ روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث

وزرع، فقرّب شرّ ما عنده وأردأه، غير طيبة به نفسه، وكان الآخر صاحب غنم، وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبة به نفسه. وذكر بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار من السماء لتأكله، ولا تأكل غير المقبول. فصعد الأخوان مع أبيهم آدم الجبل، فوضعا قربانهما، ثم جلس الثلاثة، وهم ينظرون إلى القربان، فبعث الله نارا، حتى إذا كانت فوقهما، دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل، وترك قربان قابيل. فقال قابيل: يا هابيل، تقبّل قربانك، وردّ علي قرباني، لأقتلنك، فقال هابيل: قربت أطيب مالي، وقربت أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، أي الذين يخافون عقاب الله باجتناب الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء، قال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 3/ 92] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا» . فلما قالها غضب قابيل، فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل، أين أنت من الله، كيف يجزيك بعملك؟ فقتله وطرحه في حفرة من الأرض، وحثا عليه التراب. وقال هابيل الرجل الصالح: إن مددت إلي يدك لتقتلني، لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنت وأنا سواء في الخطيئة، ثم بيّن علة امتناعه عن القتل: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي إني أخشى عقاب الله وعذابه من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب لأن الاعتداء على الأرواح من أكبر الجرائم. وفي هذا التصريح بعدم الإقدام على جريمة القتل، فلا ينطبق عليه الوضع الوارد في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان وغيرهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» .

ثم تابع هابيل المقتول عظته البالغة المؤثرة المذكرة بعذاب الآخرة، لعلها تمنع أخاه من قتله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي إني أريد بالابتعاد عن مقابلة الجريمة بمثلها أن تتحمل إثمي وإثمك، وتلتزم بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، وهذا رأي أكثر العلماء. وحينئذ تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة، والنار جزاء كل ظالم، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبي موسى الأشعري: «كن كخيري ابني آدم» . يتبين من هذا أنه نفّره وحذره من القتل بثلاث مواعظ: الخوف من الله، تحمل الإثمين: إثم القتل وإثم نفسه، كونه من أصحاب النار ومن الظالمين. ثم أخبر تعالى أن هذه المواعظ كلها لم ينزجر بها، فحسّنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه، فقتله، فأصبح من جملة الذين خسروا أنفسهم من الدنيا والآخرة، وأي خسارة أعظم من جريمة القتل هذه؟! ثم حار القاتل وضاقت به الدنيا ولم يدر كيف يفعل بجثة أخيه، فاستفاد من تجربة غيره وهو الغراب، مما دل على جهله وسذاجته وقلة معرفته. فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له حفرة، ثم حثا عليه التراب، فلما رآه قال: وا فضيحتي، وهذا اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! أي هل بلغ عجزي وضعفي وقلة معرفتي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ فدفن أخاه، ووارى جثته، وأصبح نادما على ما فعل، وهذا شأن كل مخطئ، يرتكب المعصية، ثم يندم عليها. إلا أنه لم تقبل توبته، بالرغم من المبدأ المعروف في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» «1» لأنه لم يندم ولم يتب من المعصية، وإنما كان ندمه على قتل أخيه

_ (1) رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.

لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته «1» ، لذا كان من الذين سنوا سنة سيئة، عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل- نصيب- من دمها لأنه أول من سنّ القتل» . ومن نتائج هذا القتل، وبسبب هذا الجرم الفظيع، والفعل القبيح الذي فعله أحد الأخوين بالآخر ظلما وعدوانا تقرر تشريع القصاص، وفرض حكمه على بني إسرائيل لأن التوراة أول كتاب حرّم فيه القتل، وذلك الحكم: أن من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه الله تعالى بقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها- أي في التوراة- أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. الآية [المائدة 5/ 45] ، أو قتل بغير سبب فساد في الأرض بالإخلال بالأمن والطمأنينة، كقطاع الطرق وعصابات اللصوص، فاستحل القتل بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا لأنه لا فرق عند الله بين نفس ونفس، والعدوان على نفس عدوان على المجتمع البشري كله، لذا قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء 4/ 93] . ومن أحياها أي حرم قتلها، وامتنع من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعا، بتوفير الأمن والطمأنينة لهم، وإزالة القلق والهلع من نفوسهم. وهذا دليل على أن نفس الإنسان ليست ملكه، وإنما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه، فمن اعتدى على نفس ولو بالانتحار، استحق العذاب الشديد يوم القيامة، ومن أحيا نفسا بأي سبب كان، فكأنما أحيا الخلق كلهم. ثم وجه الله تعالى تقريعا وتوبيخا لبني إسرائيل على ارتكابهم المحارم بعد

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 210

فقه الحياة أو الأحكام:

علمهم بها، وإسرافهم في القتل، وغلظة نفوسهم في الماضي وفي عهد النبوة، مثل فعل بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع من اليهود حول المدينة، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج في حروب الجاهلية، ويقاتلون مع المشركين في حروبهم ضد المسلمين بعد الهجرة. ومضمون التوبيخ: أن رسل الله الكرام جاءوهم بالبينات، أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة الدالة على الأحكام المقررة عليهم، المستهدفة تهذيب نفوسهم وتطهير أخلاقهم، ومع ذلك كان الكثيرون منهم مسرفين في القتل وفي ارتكاب جرائم البغي والعدوان. وهذا وإن كان صادرا من أسلاف اليهود في الماضي، فهو منسوب أيضا إلى الأمة بكاملها لرضا الخلف عن فعل السلف، فكانت الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها كالجسد الواحد. فقه الحياة أو الأحكام: العبرة في قصة ابني آدم أن الحسد كان سبب أول جريمة قتل في البشر، وأنه هو أسّ المفاسد والمعايب والرذائل في المجتمع، فالأمة المتحاسدة متمزقة متعادية متباغضة، لا تجتمع على خير، ولا تلتقي على فضيلة، ولا تتعاون على برّ وصلاح وتقدم، مما يؤدي إلى الضعف والذل والهوان وعبودية أفرادها لمن سواهم. والمستفاد من الآية أنه إن همّ اليهود بالفتك بمحمد، فليس ذلك جديدا عليهم، فقد قتلوا الأنبياء قبله، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم، والتذكير بهذه القصة مفيد لأنها قصة صدق، وليست حديثا موضوعا من نسج الخيال، وفيها تبكيت لمن خالف الإسلام، وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وجمهور المفسرين على أن ابني آدم هما ابناه لصلبه، وهما قابيل وهابيل وكان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنه كان صاحب زرع، واختارها من أردإ زرعه، بل إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها وكان قربان هابيل كبشا

لأنه كان صاحب غنم، أخذه من أجود غنمه، فتقبّل قربانه، قال القرطبي: فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام، قاله سعيد بن جبير وغيره. وسبب القصة: التنازع على الزواج من أخت قابيل توأمته المولودة معه، فقد كان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت حواء مع قابيل أختا جميلة واسمها «إقليمياء» ومع هابيل أختا ليست كذلك، واسمها «ليوذا» فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على تقديم القربان «1» . وكانت النتيجة قبول قربان هابيل لصلاحه بدليل قوله لأخيه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة فمن اتقاه وهو موحّد فأعماله المصدّقة لنيته مقبولة وأما المتقى الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة. وكان استسلام هابيل لتهديد أخيه قابيل بالقتل معتمدا على أسس ثلاثة: الخوف الحقيقي من الله تعالى، والخشية من تحمل إثمين: إثم قتله وإثم فعل المقتول الذي عمله قبل القتل، والابتعاد عن أن يكون من أصحاب النار ومن الظالمين. وهذه المبادئ من أصول المواعظ التي تنفر من الإقدام على جريمة القتل وغيرها. ودل قوله: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. واستدل بعضهم بهذا القول على أن قابيل كان كافرا لأن لفظ أَصْحابِ النَّارِ إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن.

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 134

قال القرطبي: وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ مدة كونك فيها «1» . وإقدام قابيل على القتل جعله من الخاسرين في الدنيا والآخرة، وتضمنت الآية بيان حال الحاسد، حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسّهم به رحما، وأولاهم بالحنو عليه. ودلت الآية: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً على الاستفادة من تجارب الآخرين. وبالرغم من أن قابيل أصبح من النادمين، فلم يكن ندمه جاعلا له من التائبين لأن ندمه لم يكن على القتل وإنما على حمل أخيه على ظهره سنة، أو لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه أبواه وإخوته، أو لأجل ترك أخيه بالعراء استخفافا به بعد قتله، فلما رأى فعل الغراب بدفن الغراب الآخر ندم على قساوة قلبه «2» . ودلت آية: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ.. على تشريع القصاص في حق القاتل على بني إسرائيل. وقوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما ذكر في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهو القتل العمد العدوان، ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. وتخصيص بني إسرائيل بالذكر، وإن كان القتل حراما والقصاص عاما في جميع الأديان والملل لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، فهم مع علمهم بشناعة القتل أقدموا على قتل الأنبياء

_ (1) المرجع السابق: 6/ 138 (2) تفسير الرازي: 11/ 210 [.....]

حد الحرابة أو حكم قطاع الطرق [سورة المائدة (5) الآيات 33 إلى 34] :

والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. وكان تخصيص بني إسرائيل مناسبا أيضا لما عزموا عليه من الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأكابر أصحابه «1» . والقتل حرام في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس ظلما وتعديا. وقوله: أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ هو الشرك، وقيل: قطع طريق. وقتل نفس بمثابة قتل جميع الناس، وإحياؤها بمثابة إحياء جميع الناس. ودلت الآية أيضا على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة لأنه تعالى قال: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا أي أن تشريع تلك الأحكام معلل بتلك المعاني. حد الحرابة أو حكم قطاع الطرق [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

_ (1) المرجع السابق: 11/ 211، تفسير القرطبي: 6/ 146

الإعراب:

الإعراب: إِنَّما جَزاءُ ... : ما: من إنما كافة. وجَزاءُ الَّذِينَ: مبتدأ مرفوع، وخبره: أَنْ يُقَتَّلُوا. فَساداً منصوب على المصدر في موضع الحال. وأَوْ في قوله: أَوْ يُصَلَّبُوا وما بعده للتخيير في رأي بعضهم أي أن الحكم فيه للإمام على اجتهاده، أو للتنويع في رأي آخر. إِلَّا الَّذِينَ ... الَّذِينَ: مستثنى منصوب: لأنه استثناء من موجب، وهو الَّذِينَ يُحارِبُونَ وهم المعاقبون عقاب قطع الطريق خاصة. البلاغة: يُحارِبُونَ اللَّهَ مجاز على حذف مضاف أي يحاربون عباد الله لأن الله لا يحارب ولا يغالب. المفردات اللغوية: يُحارِبُونَ أي يحاربون المسلمين وغيرهم في دار الإسلام، من المحاربة، وهي مأخوذة من الحرب ضد السلم والأمن على النفس والمال. وأصل معنى كلمة الحرب: التعدي وسلب المال. فَساداً الفساد: ضد الصلاح، والمراد بالفساد هنا قطع الطريق بتخويف المارّة والاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض أَنْ يُقَتَّلُوا التقتيل: المبالغة في القتل لإرهاب المفسدين أَوْ يُصَلَّبُوا التصليب: المبالغة في الصلب، والصلب في رأي الشافعي وأحمد: يكون بعد القتل ثلاثة أيام، بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ومعناه عند المالكية: أن ينقلوا إلى بلد آخر من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بلد إسلامي أو بلد من بلاد أهل الحرب. والنفي عند الحنابلة: أن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد. وعند الحنفية والشافعية معناه: الحبس. وحرف أَوْ للتنويع وترتيب الأحوال عند الجمهور، فالقتل لمن قتل فقط، والصلب لمن قتل وأخذ المال، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل، والنفي لمن أخاف فقط، كما قال ابن عباس. وأَوْ عند المالكية للتخيير، يتخير الإمام فيهم ما يناسب. خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ذل وفضيحة عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب النار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من المحاربين وقطاع الطرق مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أي من قبل التمكن من عقابهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما أتوه رَحِيمٌ بهم. والتعبير بالمغفرة والرحمة للدلالة على أن التوبة لا تسقط

سبب النزول:

إلا حقوق الله وحدوده، دون حقوق الآدميين، كما ذكر السيوطي، فإذا قتل قاطع الطريق أحدا، وأخذ المال وتاب، يقتل ويقطع ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا، وهو أصح قوليه أيضا. سبب النزول: نزلت هذه الآية في قطّاع الطرق، لا في المشركين ولا في المرتدين، كما قيل بكل فإن كلا منهما إذا تاب، قبلت توبته، سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها، أما قطاع الطريق فيسقط عنهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم. روى البخاري ومسلم عن أنس: أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة «1» ، فأمر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بزود من الإبل «2» وراع، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة، كفروا بعد إسلام، وقتلوا الراعي- وفي رواية: مثّلوا به، واستاقوا الزود من الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث في طلبهم، فأتوا فأمر بهم، فسملوا أعينهم «3» ، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتركوا حتى ماتوا، فنزلت الآية. وقيل: نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد على أنه لا يعينه ولا يعين عليه، وأنه إن مرّ به أحد من المسلمين، أو مرّ عليه من يقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتعرض له بسوء، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم من بني هلال، وكان هلال غائبا، فقطعوا عليهم الطريق، وقتلوا منهم، وأخذوا أموالهم.

_ (1) وجدوها رديئة المناخ. (2) الزود: من ثلاثة إلى تسعة. (3) كحلوها بمسامير الحديد المحماة.

المناسبة:

وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا الطريق على المسلمين. ولا مانع من تعدد سبب النزول، وهي تتناول كل من اتصف بصفة المحاربة، سواء أكان كافرا أم مسلما، فإن كانت الآية قد نزلت في الكفار، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى خطورة جريمة القتل وأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وما رتب عليه من تشريع القصاص، ذكر هنا عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويرتكبون القتل غالبا، حتى لا يجرأ أحد على المحاربة. التفسير والبيان: هذه آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة الشاملة لجريمة الكفر وقطع الطريق وإخافة السبيل والإفساد في الأرض، وبما أن هذه الجريمة تمس أمن المجتمع كله وتهز كيانه وتنشر الرعب والقلق والخوف في أوساط الناس الآمنين، شدد الله تعالى في عقوبة المحاربين: وهم الذين لهم قوة ومنعة وشوكة، ويتعرضون للمارة من المسلمين أو أهل الذمة، ويعتدون على الأرواح والأموال والأعراض. وعقابهم أو جزاؤهم على سبيل الترتيب والتوزيع على حسب جناياتهم، وتكون أَوْ للتنويع، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا، نفي من الأرض. وهذا رأي أكثر العلماء وأئمة المذاهب. وقال المالكية: الآية تدل على التخيير بين الجزاءات، عملا بما تقتضيه أَوْ فيخير الإمام بين تطبيق إحدى هذه العقوبات حسبما يرى من المصلحة،

وإن لم يأخذ المحاربون مالا ولم يقتلوا نفسا، أي أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم إما بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي، عملا بظاهر الآية. وقصر الإمام أبو حنيفة التخيير على محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فيخير الإمام بين هذه العقوبات الأربع: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه فقط، وإن شاء قتله فقط، ولا يفرد القطع في هذه الحالة، بل لا بد من انضمام القتل أو الصلب إليه لأن الجناية قتل وأخذ مال، وقال الصاحبان في هذه الحالة: يصلب ويقتل ولا يقطع. واتفق الإمام مع صاحبيه على أن المحاربين إذا قتلوا فقط يقتلون، وإذا أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الطريق فقط ينفون من الأرض. دليل المالكية: أن كلمة أَوْ موضوعة للتخيير، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، فيعمل بحقيقة هذا الحرف، ما لم يقم دليل على خلافه، ولم يوجد، فيبقى التخيير. ودليل الجمهور: 1- أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية، زيادة ونقصا، بدليل إجماع الأمة على أن قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، لا يكون جزاؤهم النفي فقط. 2- أن التخيير يعمل به إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا اختلف السبب، فإنه لا يعمل بظاهر التخيير، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه. وذلك مثل قوله تعالى: قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف 18/ 86] والمعنى: إما أن تعذب من جحد وظلم، وإما

أن تحسن إلى من آمن وعمل صالحا، فليس المراد التخيير لأن اختلاف السبب يؤدي إلى اختلاف الحكم لكل نوع. ودليل أبي حنيفة: أن الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات، وفيه إلغاء حرف التخيير، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الجزاءات الثلاثة، وذلك في محارب خاص لا في مطلق المحارب، والمحارب الخاص: هو الذي قتل وأخذ المال، وهذا هو الأقرب والأولى لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير وبما هو المعقول. وسمي فعل المحاربين محاربة لله ورسوله للتهويل والتشنيع، وبيان خطورة هذه الجريمة على الحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله، كما قال تعالى في أكلة الربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة 2/ 279] فليست محاربة الله على سبيل الحقيقة لأن الله منزه عن الكون في جهة ومكان، والمحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين متواجهين، وإنما هذا مجاز عن المخالفة وإغضاب الله، أو المعنى يحاربون أولياء الله ورسوله، فيكون نظير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب 33/ 57] . ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط: 1- أن يكون لهم قوة وشوكة ومنعة، ليمتازوا عن السرّاق، وأن يعتدوا على المارة بسلاح أو غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، سواء أكانوا جماعة أم واحدا، وسواء أخذوا المال من مسلم أم من ذمي. 2- أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، وأن يكون في رأي أبي حنيفة خارج المصر بين حدود البلاد أو في الصحراء لأنه يمكن للمعتدى عليه في داخل المصر الاستغاثة بالآخرين. ولم يفرق الجمهور بين داخل المصر وخارجه، فيمكن

حدوث جريمة المحاربة فيهما على حد سواء، وقد أثبت الواقع صحة هذا الرأي لأن عصابات المجرمين يتعرضون للناس بعد منتصف الليل في الشوارع العامة، وفي الأحياء السكنية. 3- أن يأخذوا المال مجاهرة، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق، يعاقبون بحد السرقة وهو قطع اليد فقط. وإن اختطفوا شخصا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وإن استلبوا شيئا من قافلة أو اغتصبوه لا يحدون حد السرقة ولا حد الحرابة. والسعي في الأرض بالفساد: هو إخافة الطريق بحمل السلاح وإزعاج الناس، سواء صحبه قتل وأخذ مال أو لا. أما عقوبات المحاربين فهي في الآية دنيوية وأخروية. والعقوبات الدنيوية أربعة: 1- التقتيل حدا من غير صلب إن قتلوا فقط، ولا يسقط القتل بعفو الأولياء، والتعبير بصيغة التفعيل لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط، ولو عفا الأولياء. فيجب على الحاكم إنزال هذه العقوبة بالمحاربين، ولا يملك العفو عنها أو إسقاطها، وعلى المسلمين التعاون معه على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين. 2- القتل مع الصلب: إن قتلوا وأخذوا المال. 3- قطع اليد والرجل من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال، لا غير. 4- النفي من الأرض إن أخافوا الطريق فقط، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.

والصلب: يكون على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميع الشخص بها، بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وتربط يداه على خشبة عريضة من الأعلى. ويحدث في الأصح من مذهب الحنفية والراجح لدى المالكية في حال الحياة لمدة ثلاثة أيام، ثم يطعن بحربة ويقتل لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة، وليس صلبه من قبيل المثلة المنهي عنها لأن المثلة قطع بعض الأعضاء. وقال الشافعية والحنابلة: الصلب يكون بعد القتل لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان (أي ما له روح) فقال فيما رواه الجماعة عن شداد بن أوس: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره. وأما النفي: فمعناه عند الحنفية الحبس لأن فيه نفيا عن وجه الأرض التي يحيا فيها الناس عادة بحرية وطمأنينة. وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتعريض للكفر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب. ورأى المالكية أن النفي هو إخراجه من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر بينهما مسافة القصر (89 كم) ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. فيكون رأي الجمهور بالنفي هو الحبس. وذهب الحنابلة إلى أن النفي: أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد، عملا بما روي عن الحسن والزهري. وأما عقوبة المحاربين الأخروية: فهي المذكورة في قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ذلك العقاب المذكور هو ذل لهم وفضيحة في الدنيا، لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وليكونوا عبرة لغيرهم، ولهم

في الآخرة عذاب عظيم جدا بسبب ما ارتكبوا من جريمة هزت أركان المجتمع، وأدت إلى تعطيل التجارة. ثم استثنى الله تعالى من العقاب التائبين فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أي أن من تاب قبل أن يقع في قبضة السلطة، أو قبل أن يتمكن الحاكم من القبض عليه، فيسقط عنه العقاب، إذا كانت التوبة صادقة خالصة لله عز وجل، لا تحايلا وتهربا من العقوبة لأن الهدف قد تحقق وهو ترك الإفساد ومحاربة أولياء الله ورسوله، بدليل قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أن الله غفور لذنوبهم، رحيم بهم بإسقاط العقوبة عنهم لأنه لا تهمة حينئذ، وتكون التوبة نافعة. وهذه التوبة تسقط ما هو من حقوق الله تعالى فقط وهو الحد، أما حقوق العباد من القصاص وضمان الأموال فتبقى، ويكون للأولياء الحق في المطالبة بالقصاص من القاتل، واسترداد المال المأخوذ، وولي القتيل مخير بين القصاص والدية والعفو، ولا تصح التوبة إلا برد الأموال المسلوبة إلى أصحابها، وإذا أعفاه الحاكم من حق مالي وجب ضمانه من بيت المال (خزانة الدولة) . ومن تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه لأنه متهم بالكذب في توبته والتصنع فيها إذا نالته يد الإمام. أما الشرّاب والزناة والسرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت آية المحاربة حكمين: حكم عقاب المحاربين، وحكم التائبين. أما عقوبتهم في الدنيا: فهي القتل، والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والنفي من الأرض أي الحبس أو الإبعاد من بلده إلى بلد آخر بينهما على الأقل مسافة قصر الصلاة المقدرة بحوالي 89 كم. ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل. ونصت الآية على عقوبة أخروية: وهي استحقاق العذاب في نار جهنم، لعظم الجريمة، واقتصر على وصف عقوبة الدنيا بالخزي أي الذل والفضيحة مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وعلى وصف عقوبة الآخرة بالعذاب العظيم مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها. ويؤخذ من الجمع بين العقوبتين المذكورتين للمحاربين: أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، فالحدود زواجر لا جوابر كما هو صريح الآية، وهذا مذهب الحنفية. وقال الجمهور: الحدود جوابر أيضا، أي أنها تجبر الذنوب وتكفرها، لما رواه مسلم في صحيحة عن عبادة بن الصامت: «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك، فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» . وأما حكم التائبين قبل القدرة عليهم: فهو حكم سائر المجرمين العاديين، فمن قتل يقتل أي يقتص منه، ومن جرح يجرح، أو يغرم الأرش (التعويض المالي المقدر شرعا) ومن سرق تقطع يده، ومن سلب مالا رده، ويجوز العفو حينئذ لأولياء الدم عنهم.

التقوى والجهاد أساس الفلاح في الآخرة والدنيا كلها لا تصلح فداء للكفار [سورة المائدة (5) الآيات 35 إلى 37] :

التقوى والجهاد أساس الفلاح في الآخرة والدنيا كلها لا تصلح فداء للكفار [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) البلاغة: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي ليجعلوه فدية لأنفسهم، قال الزمخشري: 1/ 458: وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» . المفردات اللغوية: اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوا أوامره وتجتنبوا نواهيه وَابْتَغُوا اطلبوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ما يتوسل به إلى رضوان الله أو يقربكم إليه من طاعته، فالوسيلة: القربة التي ينبغي أن يطلب بها، وتطلق أيضا على أعلى منزلة أو درجة في الجنة. وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لإعلاء دينه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون لَوْ أَنَّ لَهُمْ لو ثبت يُرِيدُونَ يتمنون عَذابٌ مُقِيمٌ دائم.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى حسد اليهود ومكرهم وهمّهم الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقتلهم الأنبياء، وفند ادعاءهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، أمر المؤمنين بالتقوى والتقرب إليه بصالح الأعمال، ولا يتكلوا على مثل مزاعم أهل الكتاب، وهو المقصود الأصلي من مهام القرآن. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته، كان المراد بها الكف عن المحارم وترك المنهيات. فيا أيها المؤمنون اتقوا سخط الله وعقابه بامتثال أمره واجتناب نهيه، واطلبوا إليه القربة التي ينبغي أن يطلب بها، وهي التي توصلكم إلى مرضاته والقرب منه والظفر بمثوبته في الجنة. والوسيلة درجة في الجنة، روى أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة» فالوسيلة أعلى منزلة في الجنة: وهي منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. ولما أمر تعالى المؤمنين بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، والتاركين للدين القويم، فقال: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ والجهاد من الجهد: وهو المشقة والتعب، وسبيل الله: هي طريق الحق والخير والفضيلة والحرية للأمة، والجهاد في سبيل الله

يشمل جهاد النفس بكفها عن أهوائها، وحملها على العدل في جميع الأحوال، وجهاد الأعداء الذين يقاومون دعوة الإسلام. ورغبهم الله تعالى بما أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة، فقال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي إن جاهدتم وتقربتم إلى الله بطاعته، حققتم الفوز والفلاح وسعادة الدنيا والآخرة، والمسلم مطالب دائما بالجهاد بمختلف أنواعه لأن فعل الحسنات وترك السيئات شاق على النفس. وبعد أن أمر الله المؤمنين بالتقوى وتزكية النفس، أخبر بما أعده لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وجحدوا آياته الدالة على وجوده ووحدانيته، وكذبوا رسله، وعبدوا غيره من صنم أو وثن أو عجل أو بشر، وماتوا على هذه الحال من غير توبة، لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا، بل ومثله أو ضعفه معه، ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقن وصوله إليه، ما تقبّل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه، ولا محيص له ولا مناص، ولهذا قال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي موجع مؤلم لهم، بسبب ما جنته نفوسهم، كما أن الفلاح والسعادة بسبب الطاعة والاستقامة النابعة من النفس الإنسانية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] . ثم وصف الله تعالى العذاب بأنه دائم وأن أهل النار مقيمون فيها على الدوام: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ.. أي يتمنون الخروج مما هم فيه من شدة العذاب، وما هم بخارجين منها، ولهم عذاب دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج 22/ 22] فمعنى قوله: مُقِيمٌ أنه دائم ثابت لا يزول ولا يحول. روى البخاري ومسلم والنسائي من حديث أنس بن مالك قال: قال

فقه الحياة أو الأحكام:

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال: فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك، فلم تفعل، فيؤمر به إلى النار» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى أن الناس صنفان: صنف المؤمنين الطائعين، وهؤلاء هم المفلحون الناجون في الدنيا والآخرة، وصنف الكافرين الجاحدين ألوهية الله وربوبيته ووحدانيته، والمكذبين رسله، وهؤلاء هم الخاسرون في الحقيقة في الدنيا والآخرة، وإقامتهم دائمة في نار جهنم. وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان، فاليهود يعتمدون على أمنيات كاذبة ومزاعم باطلة أنهم أبناء الله وأحباؤه، وشعب الله المختار، والنصارى يعتقدون أن المسيح فداء لهم بنفسه من الخطيئة والمعصية. أما المسلمون فيعتمدون على أن أساس الفلاح والنجاة في الآخرة: هو تزكية النفس بالفضائل، والعمل الصالح. والخلود ثابت للفريقين، فالمؤمنون مخلدون في الجنة، والكافرون مخلدون في النار. قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، إنكم يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم تقولون: إن قوما يخرجون من النار، والله تعالى يقول: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال جابر: إنكم تجعلون العامّ خاصا، والخاص عامّا، إنما هذا في الكفار خاصة فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها، فإذا هي في الكفار خاصة «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 159

قال الرازي عن آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: هذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر. والمقام الأول: هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته. والمقام الثاني: دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح: اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب «1» . أما قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فقد استدل به بعض الناس على مشروعية الاستغاثة أو التوسل بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد. وتحقيق القول في التوسل ما يأتي معتمدا على تفسير الألوسي «2» : أولا- التوسل بمعنى التقرب إلى الله بطاعته وفعل ما يرضيه، وهو المراد بالآية: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: هو أساس الدين وفرض الإسلام. وعلى هذا يحمل توسل أهل الصخرة الثلاثة، فإنهم توسلوا إلى الله عز وجل بصالح الأعمال، أي طلبوا الفرج بصلاح أعمالهم، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولم يتوسلوا بذوات الأشخاص. ثانيا- التوسل بالمخلوق والاستغاثة به بمعنى طلب الدعاء منه، لا شك في

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 220، طبعة دار إحياء التراث العربي- بيروت. (2) تفسير الألوسي: 6/ 124- 128

جوازه إن كان المطلوب منه حيا، فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله عنه لما استأذنه في العمرة: «لا تنسانا يا أخي من دعائك» وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمه الله أن يستغفر له، وأمر أمته صلّى الله عليه وسلّم بطلب الوسيلة له كما تقدم: «فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة» . وثبت أن عمر رضي الله عنه قال في الاستسقاء: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» أي بدعائه وشفاعته، لا بذاته وشخصه. وأما إذا كان المطلوب منه الدعاء ميتا أو غائبا فغير جائز، قال الألوسي: فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة، فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» . ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم- وهم أحرص الخلق على خير- أنه طلب من ميت شيئا. ثالثا- القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك، أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي. وقد أجاز العز بن عبد السلام ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه سيد ولد آدم، ولم يجز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء، والملائكة، والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، ودليله ما رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله

تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلّى الله عليه وسلّم نبي الرحمة، يا رسول الله، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفّعه فيّ» ونقل عن أحمد مثل ذلك. والحق ألا دلالة في الحديث على التوسل بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم وشخصه، وإنما توسل بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته. ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه، وهو رأي ابن تيمية رحمه الله. والحديث المذكور على حذف مضاف أي بدعاء وشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز، بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث: «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك. وليس في الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة، ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلّى الله عليه وسلّم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف، أو نحوه. قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وكره العلماء الدعاء بحق خلقك لأنه لا حق للخلق على الخالق. والخلاصة: إن الدعاء لله تعالى يكون مباشرة، وبلا واسطة إذ لا يحتاج الله إلى الوسطاء بالنص القرآني القطعي الدلالة وهو قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] وقوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186] . وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] .

حد السرقة [سورة المائدة (5) الآيات 38 إلى 40] :

وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» وهذا الحديث بعد الآيات نص واضح يعيّن أو يوجب الاستعانة بالله تعالى وحده، دون سواه. وأما الآيتان (36- 37) فذكرتا نوعين من الوعيد: الأول- استحالة قبول الفداء من الكفار يوم القيامة، وثبوت استحقاقهم العذاب الأليم. والثاني- تمنيهم الخروج من عذاب النار، وإلزامهم بالعذاب المقيم أي الدائم الثابت الذي لا يزول ولا يحول. فكلما رفعهم لهب النار إلى أعلى جهنم، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد، فيردوهم إلى أسفلها. واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال: «لا إله إلا الله» على سبيل الإخلاص لأنه تعالى جعل الإقامة الدائمة في النار من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد، ولولا أن هذا المعنى مختص بالكفار، وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى «1» . حد السرقة [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 222

الإعراب:

الإعراب: وَالسَّارِقُ مبتدأ، وفي خبره وجهان: أحدهما- أن يكون خبره مقدرا، وتقديره: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، هذا مذهب سيبويه. والثاني- مذهب الأخفش والمبرد والكوفيين: أن الخبر: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ودخلت الفاء في الخبر لأنه لم يرد سارقا بعينه، وإنما أراد: كل من سرق فاقطعوا: وهو يتضمن معنى الشرط والجزاء، فتدخل الفاء في خبر المبتدأ. وإنما قال: أَيْدِيَهُما بالجمع لأنه يريد أيمانهما، وهي قراءة شاذة. وكل ما في البدن منه عضو واحد يثنى بلفظ الجمع، وليس للإنسان إلا يمين واحدة، فنزل منزلة ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد، مثل قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم 66/ 4] . ويجوز تثنيته بلفظ المثنى مثل: رأيت وجهيهما، ويجوز أيضا بلفظ المفرد مثل: رأيت وجههما. جَزاءً بِما كَسَبا: جزاء: إما منصوب نصب المصادر والعامل فيه معنى الكلام المتقدم، فكأنه قال: جازوهما جزاء، وإما منصوب لأنه مفعول لأجله، والتقدير: فاقطعوا أيديهما لأجل الجزاء. نَكالًا بدل من قوله: جزاء. المفردات اللغوية: وَالسَّارِقُ من يأخذ المال خفية من حرز مثله فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما محل القطع من الرسغ، والذي يقطع به هو ربع دينار فصاعدا عند الجمهور غير الحنفية نَكالًا مِنَ اللَّهِ عقوبة لهما تمنع الناس من ارتكاب السرقة وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره حَكِيمٌ في خلقه. فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ رجع عن السرقة وَأَصْلَحَ عمله فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أن التوبة تسقط حق الله، ولا تسقط حق الآدمي العبد بالقطع ورد المال. لكن بينت السنة أنه إن عفا عنه المسروق منه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي يوسف، وكذا يسقط الحد بهبة المسروق إلى السارق بعد الرفع إلى الإمام في رأي أبي حنيفة ومحمد. سبب النزول: نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له يدعى قتادة بن

المناسبة:

النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة، التمسها عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه، حتى وصل إلى بيت زيد فأخذوها منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ الآية المتقدمة، ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة «1» . وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» . المناسبة: هناك تناسب واضح بين حكم السرقة وحكم الحرابة، فالحرابة كما يقول الحنفية: سرقة كبري، والأخرى: سرقة صغرى، فبعد أن بيّن الله تعالى عقوبة المحاربين الذين يفسدون في الأرض، وأمر الناس بتقوى الله حتى يبتعدوا عن الحرام والمعاصي، ذكر عقوبة اللصوص الذين يأخذون المال خفية، ومن أنواع عقاب المحاربين في آية الحرابة: قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وعقاب السرقة: قطع اليد. التفسير والبيان: يأمر تعالى ولاة الأمور ويحكم بقطع يد السارق والسارقة، فمن سرق من

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 111 (2) أسباب النزول للسيوطي.

رجل أو امرأة، تقطع يده من الرسغ، ويبدأ بقطع اليد اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، ثم يعزر ويحبس لما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى» وهذا رأي المالكية والشافعية. وقال الحنفية والحنابلة: لا يقطع أصلا بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى. وصرح القرآن بحكم السارقة لحدوث السرقة كثيرا من النساء كالرجال، مما يقتضي الزجر، وإن كان الغالب في تشريع الأحكام إدراج النساء في حكم الرجال. والسرقة: أخذ المال خفية من حرز المثل، والحرز نوعان: حرز بنفسه: وهو المكان كالدار والصندوق، وحرز بغيره وهو الحافظ: كالأماكن العامة المحروسة بحارس، والمتاع الذي يوجد صاحبه عنده. والحرز: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس. ولا تقطع يد السارق إلا إذا كان بالغا عاقلا، كما هو الشأن في المطالبة بجميع التكاليف الشرعية ومنها عقوبات الحدود، لا فرق فيها بين الجماعة والفرد، وألا تكون هناك شبهة كالسرقة من المحارم والضيف من المضيف، لحديث رواه ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وأن يؤخذ المال من الحرز إما بنفسه أو بالحافظ، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الثمر المعلّق فقال: «.. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» . وأن يكون المسروق بالغا مقدار النصاب الشرعي. وللفقهاء رأيان أو ثلاثة في تقدير نصاب السرقة، فقال الحسن البصري

وداود الظاهري: يجب القطع بسرقة القليل والكثير لظاهر الآية، وللحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده» . وقال الجمهور: تقطع يد السارق في ربع دينار أو ثلاثة دراهم فصاعدا لما رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن (الجماعة) من حديث عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» ولما في الصحيحين عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قطع في مجنّ- ترس- ثمنه ثلاثة دارهم» وهذا قول الخلفاء الراشدين الأربعة. ورأى الحنفية: أن نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، فلا قطع فيما دون عشرة دراهم، لما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» . ولولا أن هذا الحديث ضعيف لأمكن ترجيح مذهب الحنفية من قبيل الاحتياط، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولأن ثمن المجنّ الذي قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم بسرقته مختلف في تقديره، فقدر بثلاثة دراهم أو بأربعة أو بخمسة أو بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر في باب الحدود أولى، درءا للشبهة. وتثبت السرقة إما بالإقرار أو بالبينة (شاهدين) ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام الحاكم، وبملك المسروق بالهبة وغيرها، ولو بعد رفع الأمر إلى الحاكم في مذهب أبي حنيفة ومحمد. وبشرط كون الملك قبل رفع الأمر إلى القضاء في مذهب الجمهور، لما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس: أن لصا سرق رداء صفوان بن أمية من تحت رأسه، حينما كان متوسدا عليه حين نام في المسجد، فاستيقظ صفوان واستاق اللص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلا قبل أن تأتيني به» .

ويجب رد المسروق بعينه إن كان قائما، وبقيمته إن كان مستهلكا عند الشافعية والحنفية لما رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن سمرة: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . ولا يجب ردّ القيمة حال الاستهلاك عند الحنفية إذ لا يجتمع حد وضمان، لما أخرجه النسائي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» لكنه حديث مرسل. وتوسط المالكية فقالوا: إن كان السارق موسرا عند الحد، وجب عليه القطع والغرم، تغليظا عليه، وإن كان معسرا لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم، تخفيفا عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة. ثم علل سبحانه وتعالى حكم حد السرقة، فقال: جَزاءً بِما كَسَبا، نَكالًا مِنَ اللَّهِ أي أن قطع يد السارق والسارقة جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيء، نكالا أي إهانة وتحقيرا ومنعا من العودة للسرقة، وعبرة لغيرهما. وهذه العقوبة وإن نفر منها بعض الناس، لكنها العقوبة المناسبة التي هي الأشد تأثيرا ومنعا للسرقة، وتوفيرا لأمن الناس على أموالهم وأنفسهم، ولا يدرك أحد ما للسرقة من مخاطر نفسية وعصبية، وما لها من أثر في إحداث القلق والرعب في النفوس، لا سيما في الليالي الظلماء، إلا من تعرض للسرقة، فهي فضلا عن كونها خسارة ماحقة، تجعل الشخص معدوما يائسا بائسا يحتاج إلى الاقتراض ليؤمن قوته وقوت أسرته، ويتمنى أن يعثر على السارق ليقضي عليه، هي مثيرة للقلق والهلع، فيصبح الحي الذي تعرض لسرقة فأكثر مهددا كله بالأخطار، فلا يكاد ينام إنسان وهو مطمئن، وإذا اقتحم اللص منزلا في الليل أو في النهار، أوقع السكان في الذعر، وربما حدث القتل وإطلاق النار، وفي ذلك ضرر وأذى لا يمكن حصر حدوده أو التنبؤ بنتائجه، فكم من إنسان شاب شعره، وكم من امرأة وطفل فقدا أعصابهما، وكم من مخاوف أقضت مضاجع الناس في بيوتهم، حتى إن القتل لا يكاد في رأيي يعادل السرقة أحيانا لأنه حادث فردي ينتهي أثره

فورا بالنسبة لغير أسرة القتيل، وهو ينحصر بما يكون من علاقة خاصة بين القاتل والمقتول، أما السرقة فإن تأثيرها جماعي ودائم، تبعد بنحو دائم أصحاب الأموال والمتاجر والمزارع والمصانع من الطمأنينة والثقة، وتهدد ثرواتهم بالضياع والخسارة. ثم أكد الله تعالى ضرورة حد السارق فقال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء، قوي في انتقامه من السّراق، حكيم في صنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه المصلحة والحكمة، ويضع الحدود والعقوبات بما يراه الأنسب والأقطع لدابر الجريمة، واستئصال شأفة المجرمين، وزجر أمثالهم من التفكير في مثل جريمتهم، وكأنه يقول: لا تتساهلوا في شأن السراق واشتدوا في تطبيق حدهم، ففي ذلك الخير كله وعينه، وإن كره الحاقدون وانتقد الجاهلون. ثم بيّن الله تعالى حكم التائبين الذين ندموا على ما فعلوا وأصلحوا أحوالهم فقال: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ.. أي فمن تاب من بعد سرقته، وأناب إلى الله، ورجع عن السرقة، ورد أموال الناس أو بدلها إليهم، وأصلح نفسه وزكاها بأعمال التقوى والبر، وكانت توبته بنية صادقة مع العزم على ترك العود، فإن الله يقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة. وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند جمهور الفقهاء، وتسقطه في رأي الحنابلة، وهو الأولى لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة وهي القطع. وأكد الله تعالى عدالة حد السرقة وأنه جاء على وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ.. أي ألم تعلم أيها الرسول وكل مبلّغ حكم الله أن الله هو المالك لجميع من في السموات والأرض، وهو المدبر له، والحاكم فيه الذي

فقه الحياة أو الأحكام:

لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد، ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والعدل والرحمة، حتى يتوافر الأمن للفرد والجماعة، وتطمئن النفوس على أموالها، لتنصرف إلى أعمالها وهي آمنة على البيت والأهل وأماكن العمل، ومن حكمته: أنه وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض واللصوص المهددين حرمة المال وحرية الإنسان، وأنه يغفر للتائبين من الفريقين، إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا أعمالهم لأن الهدف ليس هو العقاب لذاته، وإنما تحقيق الصلاح ونشر الأمن وإشاعة الطمأنينة، ومن حكمته وعدله أنه يعذب العصاة تربية وزجرا لهم ولأمثالهم وتأمينا لمصالح العباد، ومن رحمته: أنه يرحم التائبين ويسقط عنهم العقاب، وهو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة، والله أرحم بعباده من أنفسهم، وأشد من رحمة الأم بولدها، فهذا العقاب للحرابة والسرقة لمصلحتهم ومصلحة إخوانهم في المجتمع، فليس لأحد أن يتباكى على يد أثيم أو يشفق على يد عضو في المجتمع لأن هذا العضو فاسد ضار يهدم ويخرب وليس فيه أمل بخير إذا لم يصلح حاله. فقه الحياة أو الأحكام: العقاب دواء المنحرف الذي لا علاج له بغير التأديب، وليس من العدل ولا من الرحمة والحكمة والمصلحة أن تسود الجريمة في المجتمع، ويعيش الناس في فوضى واضطراب، وقلق واشمئزاز. وتشريع الإله في كل الخير لمن أراد السعادة لنفسه ولأمته، وليس أدل على فشل التشريعات الجزائية الوضعية من أن الجريمة في بلادها تزداد وتكثر، ويتفنن المجرمون في أنواع الجريمة، لعدم توافر العقاب الزاجر الفعال الذي يستأصل الجريمة أو يقلل من وجودها. والبلاد التي يطبق فيها التشريع الجنائي الإسلامي مثل واضح بارز في العالم

لانتشار الأمن والطمأنينة على الأنفس والأموال، ولا يظنن أحد أن هذه البلاد ملأى بالمشوهين ومقطوعي الأيدي والأرجل، وإنما تطبيق الحدود نادر تقريبا، لأنه لا يطبق حد إلا إذا توافرت شروط كثيرة، تتجاوز العشرة، مما أدى إلى تضييق الحد بسبب الشبهة وانتفاء شرط من الشروط أو الضوابط، ولا تقطع أكثر من يد أو يدين في بلاد سكانها نحو عشرة ملايين. ففي السرقة مثلا لا يجب القطع إلا بجمع أوصاف في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته. أما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف: وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا قطع بين السيد والعبد بأخذ أحدهما مال الآخر. والسرقة من السارق توجب القطع عند المالكية، كالسرقة من الغاصب لأنّ حرمة المالك باقية عليه لم تنقطع عنه. وقال الشافعي: لا يقطع لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز. وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف: وهي النصاب كما تقدم بيانه، وأن يكون مما يتموّل ويتملك ويحل بيعه. أما ما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع أحد بسرقته باتفاق حاشا الحر الصغير عند الإمام مالك وابن القاسم. وقيل: لا قطع بسرقته، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه ليس بمال. ورد المالكية: هو من أعظم المال ولم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، فقال أشهب: يقطع سارق المأذون في اتخاذه، وكذا سارق لحم

الأضحية أو جلدها إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم، وقال ابن القاسم: لا يقطع سارق الكلب، وهو مذهب المالكية، فلا يقطع من سرق كلبا ولو معلّما أو للحراسة لأنه نهى صلّى الله عليه وسلّم عن بيعه. وأما آلات الملاهي فيقطع إن كان يبقى منها بعد إفساد صورتها وإذهاب منفعتها المقصودة ربع دينار فأكثر. وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها، يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة، وكذلك الصليب من الذهب أو الفضة. والوصف الثالث: ألا يكون للسارق فيه ملك، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره، ولا شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال لأن للسارق فيه نصيبا، وتقطع يد السارق من بيت المال في رأي الإمام مالك لعموم لفظ السرقة. والوصف الرابع: أن يكون مما تصح سرقته كالمال والعبد الصغير لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الكبير فلا قطع فيه. وأما ما يعتبر في المسروق منه: فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق، وجملة القول فيه: أن كل شيء له مكان معروف، فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، في رأي المالكية. ومن سرق من المغانم بعد تعين الحقوق بالقسمة فعليه القطع، ومن أخذ منها شيئا قبل القسمة فوق حقه قطع، وإلا لم يقطع. والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الأكثر، وقال أبو حنيفة:

لا قطع عليه لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له لأن الميت لا يملك. وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع، سواء كان معه أهله، أم سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها والسيارات في الشوارع حرز لها، سواء كان معها أهلها أم لا. والسفينة حرز لما فيها، سواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كانت مربوطة فهي محرزة. وإن كان معها أحد فهي محرزة بالحافظ، كالدابة بباب المسجد أو في السوق ليست محرزة إلا أن يكون معها حافظ. ومن ربطها بفناء المسجد أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه، فإنه حرز لها. ولا خلاف في أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ، وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يدخل بها بيته، ولا خرج بها من الدار. ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن جابر: «أنت ومالك لأبيك» ويقطع الولد في رأي جمهور المالكية في سرقة مال الأبوين لأنه لا شبهة له فيه. وقال الحنفية وابن وهب وأشهب من المالكية: لا يقطع لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة. وقال مالك: لا يقطع الجد لأنه أب. وقال أبو حنيفة وأبو ثور: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من هؤلاء.

وأما سارق المصحف فيقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد، وهو رأي الشافعي وأبي يوسف وأبي ثور وابن القاسم. وقال أبو حنيفة: لا يقطع من سرق مصحفا. وأما الطرار (النشال) فقال مالك والأوزاعي والشافعي: يقطع. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمّه فطرّها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكمّ، فأدخل يده فسرقها قطع. وأما إقامة الحدود في السفر وفي دار الحرب: فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب، ولا فرق بين دار الحرب والإسلام لعموم القرآن وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب، وعليهم أمير، فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه، فيقيم الحدود في عسكره، لحديث جنادة بن أبي أمية عند الترمذي قال: «كنا مع بسر بن أرطاة في البحر، فأتي بسارق يقال له: مصدر قد سرق بختية «1» ، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» ولولا ذلك لقطعته. واتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فحصل لكل واحد منهم نصاب، فيقطع الكل. أما إذا كان المسروق كله نصابا، فلا يقطع أحد في رأي أبي حنيفة والشافعي لأن كل واحد منهم لم يسرق نصابا. وقال المالكية: إن كان لكل واحد قدرة على حمله بانفراده، لا يقطع أحد، وإن احتاجوا في إخراجه إلى تعاون بعضهم، فيقطعون جميعا.

_ (1) البختية: الأنثى من الجمال البخت، وهي جمال طوال الأعناق.

وقال الحنابلة: يقطعون جميعا، لضرورة حفظ المال. وإن اشترك اثنان في نقب وتعاونا فيه، قطعا عند المالكية والحنابلة، وإن انفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة، وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع وإلا فلا قطع. وقال الشافعي: لا قطع على من نقب ولم يسرق، وأما من سرق من نقب غيره، فإنه سرق من حرز مهتوك الحرمة. ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز، فأدخل الآخر يده فأخذه، فعليه القطع عند الجمهور، ولا قطع عليه عند أبي حنيفة. وإن أخطأ الحاكم فقطع يد السارق اليسرى بدل اليمنى، لا يزاد عليه، استحسانا، في قول أكثر العلماء. وإذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا، فقال مالك يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ويقتل لأنهما حقان لمستحقين، فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح، كما اختار ابن العربي والقرطبي. والحكمة في البدء بالسارق قبل السارقة في هذه الآية، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني: هو أن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، فبدأ بما تكون الدواعي منه أكثر على ارتكاب الجرم. والمستفاد من قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: هو أنه لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد أي يرتكب الجرم. وقد سبق مثل هذه الجملة في الرد على مزاعم اليهود والنصارى.

مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة [سورة المائدة (5) الآيات 41 إلى 43] :

مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة [سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) الإعراب: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إما مبتدأ وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أو صفة لموصوف محذوف تقديره: فريق سماعون، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم سماعون للكذب. وقد تزاد اللام في المفعول، كقوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] . وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف 12/ 43] .

البلاغة:

لَمْ يَأْتُوكَ: جملة فعلية في موضع جر صفة لقوم. ويُحَرِّفُونَ: جملة فعلية حال من ضمير سَمَّاعُونَ. والتقدير: يسمعون مقدّرين للتحريف. ويجوز أن تكون الجملة في موضع رفع لأنه صفة لموصوف محذوف في موضع رفع بالابتداء وتقديره: وفريق يحرفون، وهو عطف على سَمَّاعُونَ وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا. وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ الواو للحال من التحكيم، والعامل ما في الاستفهام من التعجب فِيها حُكْمُ اللَّهِ فِيها: إما متعلق بخبر مقدم، وإما ألا يكون له محل، وتكون الجملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وإما أنه حال من التوراة. البلاغة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ خوطب بلفظ الرسالة للتشريف والتكريم. يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آثر فِي على كلمة «إلى» للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر. سَمَّاعُونَ.. صيغة مبالغة، أي مبالغون مكثرون في سماع الكذب. خِزْيٌ تنكيره لتفخيم الأمر. وكرر قوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لزيادة التقرير والتأكيد. فِي الدُّنْيا.. والْآخِرَةِ بينهما طباق. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجب من تحكيمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به ولا بكتابه. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ الإشارة بالبعيد لبعد درجتهم في العتو والمكابرة. المفردات اللغوية: لا يَحْزُنْكَ لا يؤلمك فعل هؤلاء الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه بسرعة، أي يظهرونه إذا وجدوا فرصة مِنَ الَّذِينَ للبيان بِأَفْواهِهِمْ قالوا بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وهم المنافقون سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي أقرته أحبارهم، سماع قبول لِقَوْمٍ لأجل قوم آخَرِينَ من اليهود لَمْ يَأْتُوكَ وهم أهل خيبر يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ الذي في التوراة كآية الرجم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ التي وضعه الله عليها أي يبدلونه إِنْ أُوتِيتُمْ هذا الحكم المحرف أي الجلد أي أفتاكم به محمد فاقبلوه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أفتاكم بخلافه فِتْنَتَهُ اختباره وإضلاله. خِزْيٌ ذل بالفضيحة والصغار لِلسُّحْتِ للكسب الحرام كالرشوة وثمن الكلب والخمر والخنزير، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات أي يذهبها فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة 5/ 49]

سبب النزول:

فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا مع مسلم، وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب القضاء بينهم بِالْقِسْطِ بالعدل الْمُقْسِطِينَ العادلين في الحكم، أي يثيبهم. فِيها حُكْمُ اللَّهِ بالرجم، والمراد من قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ استفهام تعجيب أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم. سبب النزول: نزول الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ..: روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس قال: أنزلها الله في طائفتين من اليهود، قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا فاصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقا «1» ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة، فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك، حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان ذلك في حيين قط؟ دينهما واحد، ونسبتهما واحدة، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنا أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وخوفا وفرقا، فأما إذ قدم محمد، فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما، فأرسلوا إليه ناسا من المنافقين ليختبروا رأيه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ الآية. أي أن الآية نزلت في بني قريظة والنضير، فتحاكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري. وقيل: إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فخانه، حين أشار إليهم أنه الذّبح «2» .

_ (1) الوسق: ستون صاعا، والصاع: 2751 غم. (2) كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الأمر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح.

وقيل: إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم قال القرطبي: وهذا أصح الأقوال «1» . والقصة ما يأتي: روى الأئمة: مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن البراء بن عازب قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيهودي محمّما «2» مجلودا، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: اللهم لا، ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، وأمر به فرجم، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ. وأخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عمر قال: «إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نسخّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فجاءوا بالتوراة، وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا، فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك فرفع يده، فإذا هي تلوح (أي آية الرجم) فقالوا: يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجما، فلقد يجأ عليها (ينحني) يقيها الحجارة بنفسه» .

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 176 [.....] (2) التحميم: وضع الحمة أي الفحمة في الوجه، وهو التسخيم الوارد في الرواية الأخرى من السخام: وهو سواد القدر.

نزول الآية (42) :

نزول الآية (42) : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: نزلت هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة، سمع كلامه، وعول عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعون منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. وقيل: سماعون للكذب الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أكالون للربا، كما قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء 4/ 161] . المناسبة: لما بيّن الله تعالى بعض التكاليف والشرائع، وأعرض عنها بعض الناس متسارعين إلى الكفر، صبّر الله رسوله على تحمل ذلك، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ ... وقد خاطب تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضع كثيرة، وما خاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلا في موضعين: أحدهما- هاهنا، والثاني- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة 5/ 67] وهذا خطاب تشريف وتعظيم. التفسير والبيان: نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: وهم المنافقون واليهود.

فقال: يا أيها الرسول: وهو خطاب تشريف وتعظيم وتعليم للمؤمنين أن يخاطبوه بوصفه، كما قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور 24/ 63] فأصبحوا ينادونه بقولهم: «يا رسول الله» بعد أن كانوا ينادونه «يا محمد» . لا يحزنك أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في إظهار الكفر، والانحياز إلى جانب الأعداء، كلما سنحت لهم الفرصة، فإني ناصرك عليهم، وكافيك شرهم. وليس المراد النهي عن الحزن ذاته لأنه أمر طبعي جبلّي لا اختيار للإنسان فيه ولا تكليف به، وإنما المراد النهي عن لوازمه من مقدمات ونتائج من تعظيم شأن الحزن، وتعاطي أسبابه. ثم بين من هؤلاء، وهم الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون، واليهود أعداء الإسلام وأهله الذين يصغون لسماع الكذب من أحبارهم، سواء فيما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أو بأحكام دينهم، والكل سماعون لأقوام آخرين من اليهود الذين لا يأتون مجلسك يا محمد، فهم جواسيس ليبلغوهم ما سمعوا منه، ومعنى قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ.. أي لأجل قوم. وأولئك اليهود يحرفون كلام التوراة من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه، أي يحرفونه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بالزيادة فيه والنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير معناه الحقيقي، وتأويله بمعنى آخر، وتبديله عن إصرار وعلم بالحقائق. وهم يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليسألوه عن حكم الزانيين المحصنين: إن أفتاكم بالتسخيم (أو التحميم) والجلد، فاقبلوا منه وارضوا به، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبوله ولا ترضوا به.

والحال أنه من يرد الله اختباره في دينه، فيظهر الاختبار كفره وضلالته، فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه، ولن تملك له أيها الرسول من الله شيئا يمنع ذلك، ولن تستطيع هدايته وإرشاده إلى الحق. فهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهر الاختبار مقدار فسادهم لأنهم يقبلون الكذب، ويحرفون أحكام دينهم، اتباعا لأهوائهم، فلا تحزن عليهم، ولا تطمع بعد هذا بإيمانهم. أولئك الذين اختبرهم الله هذا الاختبار لم يرد الله بعدئذ تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق لأن من دأب على الباطل، وأمعن في السوء والشر، لم يبق فيه أمل للخير، ولم يعد له سبيل للنور ورؤية الحق. وجزاء الفريقين من اليهود والمنافقين الخزي في الدنيا، والعذاب العظيم الهول الشديد الوقع في الآخرة، أما خزي المنافقين في الدنيا فهو افتضاح أمرهم وظهور كذبهم للنبي وخوفهم من القتل، وأما خزي اليهود فهو أيضا فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص كتابهم في إيجاب الرجم على الزناة المحصنين. ثم كرر تعالى وصفهم للتأكيد وتقرير المعنى، وهو كثرة سماعهم للكذب، وكثرة أكلهم للسحت، أي المال الحرام من أخذ الرشوة، واستباحة أجر البغي (الزانية) وعسب الفحل (أجرة ضرابه) وثمن الخمر والميتة وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعاصي، كما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد. ويرجع أصل ذلك إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة، ويعيّر به الإنسان «1» . ثم خيّر الله تعالى رسوله بالحكم بين اليهود والإعراض عن الحكم، فقال فيما معناه: فإن جاؤوك متحاكمين إليك، فأنت بالخيار بين الحكم أو القضاء بينهم،

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 235

والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم وعلمائهم. وهذا التخيير خاص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم دون أهل الذمة، فأهل الذمة يجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا لأن من عقد معهم عقد الذمة التزموا أحكام الإسلام في الجرائم والمعاملات، إلا في بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرون عليه، ولا يرجم الزناة المحصنون في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الإسلام من شروط الرجم، ويرجمون في رأي الشافعي وأحمد عملا بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان. وبهذا يوفق بين هذه الآية وآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (الآية 49 الآتية) وهو رأي الشافعية. وقيل: نسخت الآية الأولى بالثانية، وهو قول ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وعكرمة. وإن تعرض عن الحكم بينهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم، فالله حافظك وعاصمك من الناس. والغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين اللذين خير فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم اغتاظوا وربما حاولوا أذاه، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له. وإن حكمت بينهم، فاحكم بالعدل الذي أمرت به، إن الله يحب العادلين، والعدل شرعة القرآن والإسلام، سواء بين المسلمين، أو مع الأعداء. وكيف يحكّمونك في قضية مثل الزانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون. هذه الآية تعجب من تحكيمهم، لعدولهم عن حكم كتابهم، ورجوعهم إلى حكم من يعتقدونه مبطلا، وإعراضهم عن حكمه بعد تحكيمه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن اليهود حكّمت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة، واستند في ذلك إلى قول ابن صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان. فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام: فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب ونحوها من مسائل الجنايات، حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي لقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وهو نص في التخيير. غير أن مالكا رأى أن الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة 5/ 49] . ودلت الآية على أن التحكيم جائز، قال مالك: إذا حكّم رجل رجلا فحكمه ماض، وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكون جورا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه صوابا. قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان. والضابط أن كل حق اختصم الخصمان به جاز التحكيم فيه، ونفذ تحكيم المحكم به «1» . وقال الشافعي: التحكيم جائز، وهو غير لازم، وإنما هو فتوى لأنه لا يقدم آحاد الناس على الولاة والحكام، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم. وظاهر الآية دل على أن المحكّم ينفذ حكمه فيما حكم فيه، فإن اليهود حكموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفذ حكمه فيهم.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 619

وعقاب المحرّفين: خزي في الدنيا بفضيحتهم حين أنكروا الرجم، وإذلالهم وعذاب عظيم جدا في الآخرة. ودلت الآية: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ على كثرة سماع اليهود الكذب وكثرة أكلهم المال الحرام، كالرشوة في الحكم وحلوان الكاهن (أي ما يعطى على الكهانة) ومهر البغي وغير ذلك مما ذكر. والرشوة حرام في كل شيء، وهي قد تكون في الحكم أو التقاضي، وهي محرمة على الراشي والمرتشي، قال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش الذي يمشي بينهما» «1» لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه، كان فاسقا لقبوله الرشوة على أن يحكم له بما يريده، وإن حكم بالباطل، كان فاسقا لأخذه الرشوة وحكمه بالباطل. وقد تكون الرشوة في غير الحكم أو القضاء، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما قال الحسن: «لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه» . وحينما كان ابن مسعود بالحبشة رشا دينارين وقال: «إنما الإثم على القابض، دون الدافع» . وأرشدت الآية: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ... إلى التخيير في الحكم بين المعاهدين أهل الموادعة، لا أهل الذمة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة وادع اليهود، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي، واختلفوا في الذميين.

_ (1) رواه أحمد في مسنده عن ثوبان، وهو حديث صحيح.

والنبي صلّى الله عليه وسلّم حكم بينهم بشريعة موسى عليه السلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية. ويلاحظ أن أقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. والجمهور على رد شهادة الذمي لأنه ليس من أهلها، فلا تقبل على مسلم ولا كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم. فإن قيل: فقد حكم عليه الصلاة والسلام بشهادتهم ورجم الزانيين، فالجواب: أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل، إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما. وأوضحت الآية مثلما ذكر في آيات أخرى أن بعض اليهود لا كلهم يحرفون كلام التوراة على غير حقيقته، أي يتأولونه على غير تأويله، بعد أن فهموه وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل، وبيّن أحكامه، مثل جعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين، تغييرا لحكم الله عز وجل. ودلت آية: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة، على أن الضلال بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، وأنه لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم، كما طهرت قلوب المؤمنين ثوابا لهم «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 233، تفسير القرطبي: 6/ 182

فذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أن الآية محكمة وثابتة في سائر الأحكام غير منسوخة، وأن الحاكم مخير، وهي مخصوصة في المعاهدين الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة، فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك. أما أهل الذمة فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم إذا تحاكموا إليه، لكن في رأي مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن لا يحد الذميون حد الزنى. ورأى الشافعي وأبو يوسف: أنهم يحدون إن أتوا راضين بحكمنا. وذهب أبو حنيفة والنخعي وعمر بن عبد العزيز إلى أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وأن على الحاكم أن يحكم بين أهل الذمة. وهو رأي ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة. قال مجاهد: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان: قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [المائدة 5/ 2] نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] . قال الرازي: احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا، ما لم ينسخ، وهو ضعيف، ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه، لكن الشرع نهى عن النظر فيها، بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم» .

_ (1) تفسير الرازي: 11/ 236

التوراة هدى ونور وتشريع القصاص فيها وإلزام النصارى بالحكم بها [سورة المائدة (5) الآيات 44 إلى 47] :

التوراة هدى ونور وتشريع القصاص فيها وإلزام النصارى بالحكم بها [سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) الإعراب: النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا: لِلَّذِينَ صفة للنبيين على سبيل المدح، لا بمعنى الصفة التي تدخل للفرق بين الموصوف وغيره لأنه لا يحتمل أن يكون النَّبِيُّونَ غير مسلمين.

البلاغة:

وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ منصوب بالعطف على اسم أَنَّ وهو النفس. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره بِالْعَيْنِ أو معطوف على الضمير المرفوع في قوله: بِالنَّفْسِ أي النفس مقتولة بالنفس. وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ منصوب عطفا على المنصوب بأن، كأنه قال: وأن الجروح قصاص. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره قِصاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ الضمير راجع إلى القصاص فَهُوَ أي التصدق. مُصَدِّقاً الأول حال من عيسى، وَمُصَدِّقاً الثاني حال من الْإِنْجِيلَ. فِيهِ هُدىً وَنُورٌ رفع بالظرف لأنه وقع حالا، فارتفع ما بعده ارتفاع الفاعل بفعله. وَلْيَحْكُمْ اللام لام الأمر، ويجزم بها الفعل. ومن قرأ بكسر اللام وفتح الميم فاللام فيه لام كي، والفعل بعدها منصوب بتقدير (أن) . البلاغة: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لعلماء اليهود بطريق الالتفات عن الغيبة: (فلا يخشوا) إلى الخطاب. المفردات اللغوية: التَّوْراةِ الكتاب الذي أنزل على موسى فِيها هُدىً من الضلالة ببيان الأحكام والتكاليف وَنُورٌ بيان لأصول توحيد الله وأمور النبوة والمعاد يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من بني إسرائيل. الَّذِينَ أَسْلَمُوا انقادوا لله لِلَّذِينَ هادُوا اليهود الرَّبَّانِيُّونَ هم العلماء الحكماء البصراء بأمور الناس والحياة، المنسوبون إلى الرب وهو الخالق المدبر لأمر الملك، الذي يربي الناس بالعلم. وَالْأَحْبارُ الفقهاء المتقون الصالحون، جمع حبر: وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه بِمَا اسْتُحْفِظُوا بما طلب إليهم حفظه من كتاب الله أن يبدلوه شُهَداءَ رقباء وحفاظ وشاهدون أنه حق. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم والرجم وغيرهما وَاخْشَوْنِ في كتمانه وَلا تَشْتَرُوا تستبدلوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا تأخذونه على كتمانها وَكَتَبْنا فرضنا عَلَيْهِمْ فِيها في التوراة وهو القصاص، وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص، بأن مكن من نفسه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ

سبب النزول:

هُمُ الْكافِرُونَ به، وهو القصاص وغيره الظَّالِمُونَ المبالغون في الظلم والجور لمخالفة شرع الله الْفاسِقُونَ الخارجون من الإيمان وطاعة الله، المتجاوزون أحكام الدين. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم، كما قال: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة 2/ 87] . سبب النزول: نزلت آية: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ في اليهود الذين بدلوا حكم التوراة في الرجم، فجعلوا مكانه كما تقدم الجلد والتسخيم. روى مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم يهوديا ويهودية، ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: نزلت كلها في الكفار «1» . المناسبة: بعد أن ندد تعالى باليهود الذين أعرضوا عن حكم التوراة بالرجم، وطلبهم الحكم الأخف والأسهل من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ذكر ما تضمنته التوراة من هداية بني إسرائيل وبيان أحكام الدين. ففي هذه الآية نبّه الله اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتابهم من رجم الزاني والقصاص من القاتل المعتدي، ووبخهم على مخالفة الأحبار المتقدمين والأنبياء المبعوثين إليهم. التفسير والبيان: إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم، مشتملة على الهدى: بيان الأحكام والتكاليف، والنور: أصول الاعتقاد من توحيد الله وأمور النبوة والآخرة،

_ (1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 112

أنزلناها شرعا وقانونا يحكم بها النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين، الذين بعثهم الله بعد موسى في بني إسرائيل حتى عيسى عليهم السلام. قال ابن الأنباري: الذين أسلموا: صفة للنبيين على معنى المدح، لا على معنى الصفة التي تميز الموصوف عن غيره لأنه لا يحتمل أن يكون النَّبِيُّونَ غير مسلمين. وهذا رد على اليهود والنصارى وتقرير أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية ولا بالنصرانية كما زعموا، بل كانوا مسلمين لله منقادين لأحكامه. للذين هادوا: أي يحكم النبيون بالتوراة لأجل اليهود وفيما بينهم، فهي شريعة خاصة بهم لا عامة، وكان داود وسليمان وعيسى يحكمون بها. ويحكم بها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون، والمقصود بالأولين: العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ومصالحهم، والأحبار: هم العلماء المتقون الصالحون «1» ، يحكمون بالتوراة في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، أو مع وجودهم بإذنهم، بسبب ما استحفظوا من كتاب الله، أي بسبب ما استودعوا من علمه، وقد أخذ الله العهد على العلماء حفظ كتابه من جهتين: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، وألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. قال الطبري: والربانيون: جمع ربّاني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم. والأحبار: هم العلماء جمع حبر: وهو العالم المحكم للشيء «2» . وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي وكان العلماء الصالحون على كتاب الله شهودا

_ (1) أطلق لقب الربّاني على علي رضي الله عنه، لقوله: أنا رباني هذه الأمة ، وأطلق لقب: حبر الأمة على ابن عباس. (2) تفسير الطبري: 6/ 161

ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف، وشاهدون أنه الحق من ربهم، مثل عبد الله بن سلام الذي شهد بحكم الرجم في التوراة، وكتمان صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به. ثم خاطب الله رؤساء اليهود المعاصرين لزمن الوحي القرآني الذين كتموا وبدلوا، بعد أن أقام عليهم شهودا من أنفسهم فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ أي وإذا الحال كما ذكر، فلا تخافوا الناس أيها الأحبار المعاصرون، فتكتموا الحق، من صفة النبي والبشارة به، طمعا في نفع دنيوي عاجل، وخافوا الله فلا تحرفوا كتابي، خوفا من الناس والرؤساء، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم. ولما كان الخوف أشد تأثيرا من الطمع قدم الله ذكره فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ. ثم ذكر أمر الطمع والرغبة في النفع، فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة عاجلة حقيرة تأخذونها من الناس من رشوة أو طمع في مال أو جاه أو رياسة كاذبة أو رضا الآخرين، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها سحت حرام لا بقاء لها، فلا تضيعوا بها الدين والثواب الدائم، إذ كيف تأخذون القليل الزائل بالكثير الدائم؟! وكل من لم يحكم بغير ما أنزل الله، مثل جعل الجلد والتحميم بدلا من الرجم، وكتمان صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتأويلها على غيره، وقضائهم في بعض القتلى بدية كاملة وفي بعضهم بنصف دية، وتركهم القصاص، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق، الظالمون الجائرون، الفاسقون الخارجون عن حدود الله، تلك أوصافهم، وصفهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة، وتمردوا بأن حكموا بغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب. فهذا وعيد شديد المقصود منه تهديد اليهود الذين

حرفوا التوراة في الزاني المحصن والاقتصاص من القاتل المعتدي، فأصبحوا كافرين غير مؤمنين لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن. أخرج ابن جرير الطبري عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء، هي في الكفار «1» . قال الرازي: وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم نقل عن عكرمة: قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية. ثم قال الرازي: وهذا هو الجواب الصحيح، والله أعلم «2» . والخلاصة: أن التكفير هو لمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله، وأنكر بالقلب حكم الله، وجحد باللسان، فهذا هو الكافر. أما من لم يحكم بما أنزل الله، وهو مخطئ ومذنب، فهو مقصر فاسق، مؤاخذ على رضاه الحكم بغير ما أنزل الله. ولما جعل اليهود دية النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به أي يقتص منه، مخالفين حكم التوراة وحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سألوه، نزلت هذه الآية لبيان تشريع القصاص: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها ... أي فرضنا في التوراة التماثل والمساواة في القصاص، فتقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، ويقلع السن بالسن، ويجري القصاص في الجروح، أي يعتبر فيها المساواة بقدر الاستطاعة. فالآية تدل على جريان القصاص في كل ما ذكر، وقد أخذ أبو حنيفة: أن

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 163 (2) تفسير الرازي: 12/ 6

المسلم يقتل بالذمي. وقال الجمهور: لا يقتل المسلم بالذمي، لأن الآية شرع من قبلنا، وهو ليس شرعا لنا في رأي الشافعية، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو: «لا يقتل مسلم بكافر» . والمراد من قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، دون تعد عليه، فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى، وإن رضي المقتص منه. وذلك حال التعمد، أما في حال الخطأ ففي العين الواحدة نصف الدية، وفي العينين دية كاملة. وإذا فقأ الأعور عين الصحيح، فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي أخذا بعموم قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ قال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنه أسلم عند الله تعالى. وقال مالك: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية كاملة (دية عين الأعور) لأن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه. وقال أحمد: لا قود عليه وعليه الدية كاملة لأن في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة. وكذلك يقتص من الأنف والأذن والسن إذا كانت الجناية عمدا، كالقصاص من سائر الأعضاء. أما اللسان: فقال أكثر أهل العلم: فيه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه من ثمانية وعشرين حرفا، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية. ولسان الأخرس فيه حكومة عدل. وأما الجروح فكل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا: وهي التي توضح العظم أي تكشفه، فإن لم يمكن القصاص كرض في لحم أو كسر في عظم كعظم الصدر ففيه حكومة عدل أي تعويض يقدره القاضي. بمعرفة الخبراء.

هذا كله في حال التعدي والعمد، أما في حال الخطأ فتجب الدية أو بعضها أو التعويض المقدر قضاء. ثم أشار الله تعالى إلى العامل الإنساني وهو العفو والصفح والتسامح، فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي تصدق بحقه في القصاص وعفا عن الجاني، فالتصدق كفارة له، يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] . وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق بشيء من جسده أعطي بقدر ما تصدق» وهو حديث حسن. ومن أعرض عما أنزل الله من القصاص القائم على العدل والمساواة بين الأشخاص، فهو من الظالمين الجائرين الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم، ويتعدون حدود الله، ويضعون الشيء في غير موضعه. وهنا تساؤل: أي فائدة في ذكر الظلم بعد الكفر، والكفر أعظم من الظلم، والظلم أخف منه؟ والجواب: أن الكفر تقصير في حق الخالق سبحانه، والظلم تقصير في حق النفس «1» . ثم بين تعالى أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل، فقال: وأتبعنا على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فهو آخر نبي لليهود، مصدقا للتوراة التي تقدمته قولا وعملا أي مقرا بأنه كتاب من عند الله وأنه كان حقا واجب العمل به، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل، قال عيسى عليه السلام: «ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) ولكن لأكمل أو لأتمم» أي لأزيد عليها بعض الأحكام والمواعظ.

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 8

لذا قال تعالى آمرا النصارى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة 5/ 47] وقال هنا: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ أي وأعطيناه الإنجيل فيه الهداية للأحكام العملية والضياء لأصول العقيدة، كالتوحيد ونبذ الشرك والوثنية، والإنجيل كالقرآن مصدق للتوراة، والله جعل الإنجيل هاديا وواعظا المتقين، لأنهم الذين ينتفعون به. ويلاحظ أن تكرار جملة وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لمعنيين مختلفين، الأول: أن المسيح يصدق التوراة، والثاني: أن الإنجيل يصدق التوراة. وأما تكرار كلمة هُدىً فالمراد بها أولا: بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور: بيان التوحيد والنبوة والمعاد، وأما المقصود بها ثانيا: فهو أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو سبب لاهتداء الناس إلى رسالة الإسلام لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم النبي الأخير «البارقليط» الأعظم. وأما كون الإنجيل مختصا بعظة المتقين فلاشتماله على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله تعالى عن القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» [2 لبقرة 2/ 2] . وبعد بيان خصائص الإنجيل أمر تعالى بالعمل به فقال: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أي وقلنا: ليعمل النصارى بالأحكام التي أنزلها الله فيه، كما قال تعالى في أهل التوراة: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها. والمقصود من الأمر بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن: هو زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثلما فعل اليهود بإخفاء أحكام التوراة.

_ (1) المرجع السابق: 12/ 9

فقه الحياة أو الأحكام:

ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون أي المتمردون الخارجون عن حكم الله وشرعه. وأوصاف الكافرون، الظالمون، الفاسقون هل هي واحدة أو متعددة؟ جعل بعضهم هذه الثلاثة صفات لموصوف واحد، وخصصها ابن عباس في أهل الكتاب (اليهود والنصارى) . والأولى أن يقال: من جحد حكم الله وأنكره فهو الكافر، ومن لم يحكم به وهو مقر تارك فهو الظالم الفاسق. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- التوراة الأصلية فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون (أنبياء بني إسرائيل) والربانيون والأحبار، والربانيون: العلماء الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم. والأحبار: العلماء المتقنون الذين يحكمون الشيء فهما ودراية، ويبينونه للناس بيانا حسنا. 2- الإنجيل الأصلي فيه هدى ونور ومصدق للتوراة وهدى وموعظة للمتقين. 3- القصد من الإشارة بالتوراة والإنجيل هو زجر اليهود والنصارى عن التحريف والتبديل، والتحذير من التفريط بالأحكام المقررة فيهما، وبيان التقائهما مع القرآن في الأصول والأحكام الأساسية، مما يوجب الإيمان بالقرآن وبالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبرسالته التي ختمت بها الرسالات السماوية. 4- تشريع القصاص كما هو ثابت في شريعة موسى ثابت مقرر في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو حنيفة والشافعية: إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل، فعل به ذلك لأن الله تعالى قال: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ

وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال المالكية: إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته، قتل بالسيف. 5- احتج الجمهور غير الشافعية بآية: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ على أن شرع من قبلنا شرع لازم لنا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا لأن الله تعالى يقول: فِيها هُدىً وَنُورٌ والمراد بيان أصول الشرع وفروعه، ولو كان كتاب التوراة منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية، لما كان فيه هدى ونور. 6- استدل الخوارج بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ على قولهم: كل من عصى الله فهو كافر، فقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله. ورد جمهور أهل السنة بأن هذه الآية إنما تتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له. 7- في قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ترغيب في العفو والصفح والتسامح لما فيه من كظم الغيظ، والحفاظ على النفس الإنسانية قدر الإمكان، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. 8- من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. واختار ابن جرير الطبري أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب «1» .

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 166 [.....]

الحكم بشريعة القرآن [سورة المائدة (5) الآيات 48 إلى 50] :

الحكم بشريعة القرآن [سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) الإعراب: مُصَدِّقاً ومُهَيْمِناً منصوبان على الحال من الْكِتابَ. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ معطوف على قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وتقديره: أنزلنا إليك بالحق وبأن احكم بينهم. أَنْ يَفْتِنُوكَ في موضع نصب على البدل من الهاء والميم في وَاحْذَرْهُمْ وتقديره: واحذر أن يفتنوك، وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عطف على قوله: فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. وإنما كسر أَنِ لدخول اللام في الخبر، كقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون 63/ 1] فكسر أَنِ في هذه المواضع لدخول اللام في الخبر لأنها في تقدير التقديم، فعلقت الفعل عن العمل.

البلاغة:

البلاغة: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا فعل الخيرات، وفيه استعارة حيث شبههم بالمتسابقين على ظهور الخيل لأن كل واحد ينافس صاحبه في السبق لبلوغ الغاية المقصودة. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ استفهام إنكاري. المفردات اللغوية: وَمُهَيْمِناً رقيبا وحافظا لما تقدمه من سائر الكتب وشاهدا عليها وشاهدا لها بالصحة والثبات مِنَ الْكِتابِ بمعنى الكتب فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك عَمَّا جاءَكَ حائدا عما جاءك مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً شريعة وهي ما شرعه الله لعباده من الدين ونظامه وأحكامه وَمِنْهاجاً طريقا واضحا مستمرا يسير عليه الناس في الدين، قيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ: ولكن أراد ليختبركم فيما ألزمكم به من الشرائع المختلفة بحسب كل عصر، ليرى هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرّطون في العمل؟! فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بادروا وسارعوا إليها إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، ويجزي كلا منكم بعمله. أَنْ يَفْتِنُوكَ لئلا يضلوك عنه أو يميلوا بك من الحق إلى الباطل فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي يعاقبهم في الدنيا بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع بعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها. وهذا الإبهام لتعظيم التولي عن حكم الله وإسرافهم في ارتكابه. لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه، يعني أن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر يَبْغُونَ يطلبون من المداهنة والميل إذا تولوا. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللام للبيان، أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ.. [49] : روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسيد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فجاءوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ فيه كما قال الزمخشري وجهان: أحدهما- أن بني قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى، وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: القتلى سواء، فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك، فنزلت. والثاني- أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا تصدر عن كتاب، ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى. وعن الحسن: هو عام في كل من يبغي غير حكم الله. والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم الله، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، والإنجيل الذي أنزله على عيسى كلمته، وذكر ما فيهما من هدى ونور، وأمر باتباعهما حيث كانا

التفسير والبيان:

سائغي الاتباع، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، وأبان منزلته من الكتب المتقدمة قبله، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر بحسب الأحوال والأزمان. التفسير والبيان: وأنزلنا إليك أيها النبي القرآن الكريم الذي أكملنا به الدين، مشتملا على الحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت 41/ 42] مصدقا ومؤيدا للكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن تلك الكتب من عند الله، وأن موسى وعيسى رسولان من عند الله، لم يفتريا على الله كذبا، وإنما أنتم وآباؤكم حرفتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم. والقرآن جاء أيضا مهيمنا، أي حاكما على ما قبله من الكتب، وشاهدا عليها بما نزل فيها، وشاهدا لها بالصحة والثبات في أصلها، ومبينا حقيقة أمرها، وما طرأ عليها من نسيان وتحريف وتبديل. قال ابن عباس وابن جريج وآخرون: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: القرآن أمين مؤتمن على ما تقدمه من الكتب، فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر: إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا «1» . وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته، فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم، بين أهل الكتاب وبين الناس قاطبة، احكم بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام، دون ما أنزله إليهم إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم. احكم بما في هذا الكتاب العظيم وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 172

الأنبياء ولم ينسخ في شرعك، ولا تتبع أهواءهم أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولا تنصرف ولا تمل ولا تعدل عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء، وما أحدثوا من تحريف وتبديل لحكم الرجم والقصاص في القتلى والبشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيرها. ثم استأنف الله تعالى الكلام، فقال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي لكل أمة من الأمم جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، ومنهاجا وطريقا واضحا فرضنا عليهم سلوكه، حسبما تقتضي أحوال المجتمعات وطبائع البشر واستعداداتهم وتطور الأزمان، وإن كانت تلك الشرائع متفقة في أصول الدين وهي توحيد الله وعبادته وحده، وفي أصول الأخلاق والفضائل. قال الألوسي عن آية: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق، ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذي كلفوا العمل به: من مضى قبل النسخ. والخطاب- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة، الموجودين والماضين بطريق التغليب. فلكل أمة من الأمم الباقية والخالية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة، لا تكاد أمة تتخطى شرعتها والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام، شرعتهم: ما في التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث أحمد عليهما السلام، شرعتهم: ما في الإنجيل وجميع أمم أهل الأرض من مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، شرعتهم الوحيدة المقبولة عند الله: ما في القرآن، ليس إلا، فآمنوا به واعملوا بما فيه «1» لأن محمدا خاتم النبيين، وهو رسول إلى الناس كافة، وشريعته أكمل الشرائع وأوفاها، وقرآنه هو الكتاب

_ (1) تفسير الألوسي: 6/ 153

الوحيد الباقي للبشرية دون تغيير ولا تبديل، وثابت ثبوتا قطعيا يقينيا لا شك ولا ريب فيه. والشرعة أو الشريعة عرفا: هي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق. والدين: هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء. ثم خاطب الله تعالى جميع الأمم، وأخبر عن قدرته الفائقة أنه لو شاء لجعل الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة إذ لا تصلح شريعة واحدة لكل الأزمان والشعوب، بسبب تفاوتهم في الرقي والنضج العقلي، فلما تقاربت البشرية شرع لها شريعة واحدة، وأن الهدف من تشريعه شرائع مختلفة: هو اختبار عباده فيما شرع لهم، لينظر الطائع فيثيبه، والعاصي بما فعله أو عزم عليه فيعاقبه. ثم ندب الله تعالى الناس إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي ابتدروها وتسابقوا نحو الطاعات، وتنافسوا في طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، وصدقوا تصديقا يقينيا بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، وذلك كله لخيركم وصلاحكم، ولإحراز الفضل والرضا الإلهي، فإلى الله معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة، فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان. ثم أكد الله تعالى ما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. أي ألزمناك الحكم بالمنزل عليك، ولا تتبع أهواء المعاندين، واحذر أعداءك اليهود أن يضلوك عن الحق، ويدلسوه عليك فيما يخبرونك من أمور، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة. ومعنى: عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ: عن كل ما أنزل الله إليك، والبعض يستعمل بمعنى الكل. وقال ابن

العربي: والصحيح أن بَعْضِ على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم. فإن أعرضوا عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله، فلا تبال بهم، واعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى، بسبب ما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ويريد الله أن يعذبهم في الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم، وهو التولي والإعراض عن حكم الله وشرعه، وعما تحكم به، وقد تحقق ذلك العذاب بسبب غدر اليهود، فأجلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بني النضير عن المدينة، وقتل بني قريظة. أما بقية ذنوبهم الكثيرة فيعاقبون عليها بعذاب أليم في الدار الآخرة، وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أي متمردون في الكفر، مخالفون للحق وحائدون عنه، وخارجون عن حدود الشرع والدين والعقل. وفي هذا مواساة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم على عدم قبولهم الحق الذي جاء به. ثم ندد الله تعالى باليهود الذين يريدون التمييز بين القتلى بحسب نوع القبيلة، ويريدون تحكيم أهواء الجاهلية، مع أنهم أهل كتاب، فوجه هذا الاستفهام الإنكاري لهم ولأمثالهم بقوله: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله، وهو الحق والعدل والصواب، تم يطلبون حكم الجاهلية القائم على الجور والظلم والهوى، فهذا توبيخ وتعجب من حالهم، وإنكار على كل من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، إلى ما سواه من الآراء والأهواء، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات التي يضعونها بآرائهم المعوجة وأهوائهم الطائشة. هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو موجه لقوم يوقنون بحقيقة الدين، ويذعنون لشرع الله، ويدركون أنه لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفسره القرطبي فقال: لا أحد أحسن من الله حكما (نصب على البيان والتمييز) عند قوم يوقنون. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- هناك جسور التقاء واضحة بين القرآن وما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل لأن هذه الكتب وصفت كلها بأنها هدى ونور، ونواحي الالتقاء هي في أصول الاعتقاد كتوحيد الإله وربوبيته وإثبات النبوة والمعاد، وفي أصول الأحكام التشريعيه كعبادة الله تعالى والصوم والصلاة والزكاة، وأصول الأخلاق والفضائل كالأمانة والصدق وتحريم الزنى والسرقة وجرائم العرض، وذلك كله في التوراة والإنجيل الأصليين المنزلين على موسى وعيسى. إلا أن القرآن وإن جاء مصدقا ومؤيدا لتلك الكتب في أصول الشرع والدين المذكورة، إلا أنه حاكم عليها ومهيمن على ما جاء فيها، فلا يعمل بحكم فيهما عارض القرآن. 2- إذا ترافع أهل الذمة إلينا وجب الحكم بينهم بشريعة الإسلام، لا بشرع سابق، للآية: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قيل: هذا نسخ للتخيير السابق في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة 5/ 42] وهذا رأي الجمهور. وقال الشافعية: لا تعارض بين الآيتين، ولا حاجة للنسخ لأن الآية الأولى في المعاهدين، والثانية في الذميين. 3- النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مسلم منهي ومحرم عليه أن يترك الحكم بما بيّن الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام. 4- الله قادر على توحيد الشعوب والأمم والجماعات وجعلهم على ملة

واحدة، وعقيدة واحدة، وشريعة واحدة، فكانوا على الحق. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت جعل الشرائع مختلفة للاختبار. 5- المبادرة إلى الطاعات والتنافس في فعل الخيرات سمة الأتقياء الصالحين، ودل قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها، إلا في الصلاة في أول الوقت، فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه. وفيه دليل أيضا على أن الصوم في السفر أولى من الفطر. 6- في قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ دليل على جواز النسيان على النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه قال: أَنْ يَفْتِنُوكَ وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد. 7- إن إباء حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم والإعراض عنه سبب للمصائب في الدنيا لأن الله تعالى قال في اليهود: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي يعذبهم بالجلاء والقتل وفرض الجزية. وإنما قال بِبَعْضِ لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم. 8- كان العرب في الجاهلية يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع، وكان اليهود يفعلون مثلهم، فيقيمون الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء، لذا أنكر الله عليهم بقوله: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. ومن أفعال الجاهلية تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة أو العطية، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وهو قول الحنابلة والظاهرية لقوله عليه الصلاة والسلام لبشير في حديث النعمان الآتي تخريجه: «ألك ولد سوى هذا؟» قال: نعم، فقال: «أكلّهم وهبت له مثل هذا؟» فقال: لا، قال: «فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور» وفي رواية: «وإني لا أشهد إلا على حق» قالوا: وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث

موالاة اليهود والنصارى [سورة المائدة (5) الآيات 51 إلى 53] :

آخر: «أشهد على هذا غيري» ليس إذنا في الشهادة، وإنما هو زجر عنها لأنه عليه الصلاة والسلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه. وفعل أبي بكر لا يعارض قول النبي صلّى الله عليه وسلّم. أما القول بأن الأصل حرية الإنسان في التصرف في ماله مطلقا فلا يعارض الحديث، لذا قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن النعمان بن بشير: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . وأجاز ذلك مالك وأصحاب الرأي والشافعي والثوري والليث لفعل أبي بكر الصديق في نحلة عائشة دون سائر ولده، وبقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي عن النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد جاء بابنه النعمان فقال: يا رسول الله، إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكل بنيك نحلت؟» قال: لا، قال: «فأرجعه» وفي رواية: «فأشهد على هذا غيري» . 9- لا أحد أعدل من الله، ولا أحسن حكما من حكم الله تعالى. موالاة اليهود والنصارى [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

الإعراب:

الإعراب: يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي: في إغوائهم وإفسادهم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أَنْ يَأْتِيَ في موضع نصب لأنه خبر عسى. وفَيُصْبِحُوا عطف عليه. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا مرفوع على الاستئناف. ومن نصبه إما عطف على المعنى، كأنه قدّر تقديم أَنْ بعد فَعَسَى وعطف عليه، وتصير الجملة: «عسى أن يأتي الله بالفتح» وهي في معنى المذكور في الآية أو أنه معطوف على بِالْفَتْحِ وهو مصدر في تقدير «أن يفتح» ولما عطف على اسم، افتقر إلى تقدير (أن) أو معطوف على فَيُصْبِحُوا وهو وجه بعيد لكنه جائز. فَعَسَى اللَّهُ: عسى من الله واجب لأن ذلك من الكريم بمنزلة الوعد، لتعلق النفس به. المفردات اللغوية: أَوْلِياءَ نصراء وحلفاء توالونهم وتوادونهم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لاتحادهم في الكفر فَإِنَّهُ مِنْهُمْ من جملتهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بموالاتهم الكفار فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي أن إيمانهم ضعيف معتل غير صحيح، بسبب الشك والنفاق يُسارِعُونَ في موالاتهم يَقُولُونَ معتذرين عنها دائِرَةٌ يدور بها الدهر علينا من مصيبة، كجدب أو هزيمة وغلبة بِالْفَتْحِ بالنصر لنبيه بإظهار دينه وفتح البلاد وغير ذلك أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يفتضح المنافقين فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الشك وموالاة الكفار نادمين. حَبِطَتْ بطلت أعمالهم الصالحة فَأَصْبَحُوا صاروا خاسِرِينَ الدنيا بالفضيحة، والآخرة بالعقاب الأليم. سبب النزول: أخرج ابن إسحاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف من الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فحالفهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتبرأ

من حلف الكفار وولايتهم، قال: ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت القصة في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية. وفي رواية أخرى عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولّى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من موالاة مواليّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبي: «يا أبا الحباب، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه» قال: إذن أقبل، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى.. إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وذكر في السيرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كان الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه وعادوه. وقسم وقفوا محايدين، لم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، وكانوا في الحقيقة والباطن معادين له وهم (المنافقون) . وقد عامل كل فريق بما أمره الله به، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمان، وكانوا طوائف ثلاثة حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربه بنو قينقاع بعد بدر، ونقض بنو النضير العهد بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو قريظة العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد حارب كل فئة ونصره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: مضمون الآيات أن الله تعالى ينهى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يواليهم. أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا توالوا اليهود والنصارى أعداء الإسلام، أي لا تتخذوهم أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، ولا تسروا إليهم بأسراركم، ولا تطمئنوا إلى صداقتهم ومحبتهم أو مودتهم، إذ لن يخلصوا لكم، وبعضهم أولياء بعض، أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، وقد نقض اليهود عهودهم، والكل متفق على معاداتكم وبغضكم. ثم توعد من يواليهم فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي ومن ينصرهم أو يعينهم أو يستنصر بهم، فإنه في الحقيقة منهم أي من جملتهم وكأنه مثلهم، وليس من صف المؤمنين الصادقين. وهذا تغليظ من الله وتشديد على المنافقين الذين يتصادقون مع اليهود والنصارى المخالفين في الدين لأن موالاتهم تستدعي الرضا بدينهم. وهذا يومئ إلى أن العلاقات والمحالفات بين المسلمين وغيرهم لمصالح دنيوية غير منهي عنها في الآية. وسبب هذا الوعيد: أن من يوالي هؤلاء في شؤون الدين وقضاياه ومقتضيات الدعوة ونشاطها، فينصرهم أو يستنصرهم بهم، فهو ظالم لنفسه بوضعه الولاية في غير موضعها، والله لا يهديه إلى خير أو حق بسبب موالاة الكفر. وواقع الأمر أن المنافقين الذين في قلوبهم شك وريب ونفاق يسارعون فيهم، أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، وهم عبد الله بن أبي وجماعته المنافقون.

وسبب موالاة هؤلاء المنافقين لأعداء الإسلام: أنهم يتأولون في مودتهم أنهم يخشون انتصار الكافرين على المسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك. وهذا شأن المنافقين المستضعفين في كل زمان ومكان، يتخذون صداقات ومودات عند زعماء الكفر لتأييدهم ودعمهم أثناء الأزمات، وقد أثبت الواقع تخليهم عنهم وقت المحنة الشديدة وبيع صداقتهم بثمن بخس، وقد رأينا في عصرنا كيف تتخلى أمريكا مثلا عن رئيس دولة ما عاش كل عهده حليفا لها، ومنفذا لمآربها، وسائرا في مخططاتها، فهي التي تستخدمه وتستهلكه، ثم تتخلى عنه وقت المحنة والأزمة، فخاب كل من استعان بغير الله وبغير أهل دينه. لذا رد الله على مزاعم وتأويلات هؤلاء: بأنه لعل الله يأتي بالفتح والنصر والفصل بين المؤمنين والكافرين كما حدث في فتح مكة وغيره، أو يأتي بأمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل في شأن هؤلاء الكافرين، كإلقاء الرعب في قلوب يهود بني النضير، ونحو ذلك من وقائع إدالة المؤمنين أي نصرهم على الكافرين، فيصبح المنافقون الذين والوا اليهود والنصارى نادمين على ما كان منهم، مما لم يفدهم شيئا، وإنما كان ذلك عين السوء والمفسدة، فإنهم فضحوا أمام المؤمنين بعد أن كانوا مستورين. قال المفسرون: فَعَسَى: من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله، فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له «1» . وبه يتبين أن المقصود بالفتح: تحقيق الفتوح في مكة وغيرها من بلاد العرب وإجلاء اليهود من الحجاز وخيبر وغيرها. وأما الأمر من عند الله فهو تدبير شيء خفي للأعداء، كإجلاء اليهود من موطنهم، أو قهرهم مثل قهر بني قريظة، أو إلقاء الرعب في قلوبهم كما حدث لبني النضير، أو إخضاع اليهود والنصارى لأحكام الإسلام وسلطة الدولة الإسلامية بفرض الجزية عليهم.

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 16

فقه الحياة أو الأحكام:

وحينئذ تتبدد تأويلات المنافقين، ويظهر كذبهم وافتراؤهم، لذا قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يقول بعض المؤمنين لبعض أو لليهود تعجبا واستهجانا وشماتة: أهؤلاء الذين أقسموا بالله: إنهم معكم وإنهم مناصروكم على أعدائكم اليهود، ثم انكشفوا على حقيقتهم، وتبينت عداوتهم، كما قال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة 9/ 56] أي أنهم جماعة خائفون يظهرون الإسلام تقيّة أو مناورة أو سياسة، لا حقيقة. وأردف المؤمنون القول: هؤلاء المنافقون بطلت أعمالهم التي يؤدونها نفاقا من صلاة وصيام وحج وجهاد، فخسروا بذلك الدنيا والأجر والثواب في الآخرة. والمفسرون اختلفوا في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي: أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي، فآوي إليه، وأتهود معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث، وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصر معه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيات. وقال عكرمة فيما رواه ابن جرير: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فسألوه ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي إنه الذبح. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، كما قال ابن جرير، وكما ذكر في سبب النزول. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- قطع الموالاة والمودة شرعا بين المؤمنين وبين الكافرين في أمور الدين

وقضاياه الكبرى الأساسية. ولا مانع من وجود علاقات لمصالح دنيوية تقتضيها الضرورة، بدليل ما قال الطبري في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: يعني ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وأسخطه، وصار حكمه حكمه «1» . ودل قوله: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أن حكمه حكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد. وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود 11/ 113] وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 28] وقال سبحانه: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران 3/ 118] . وأعلن تعالى فصل الموالي للكفار عن جماعة المؤمنين، فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم، أي من أصحابهم. 2- إن مخاوف المنافقين التي أدت بهم إلى موالاة الكفار تتبدد أمام تدبير الله وتأييده ونصره، وتدمير الأعداء، وإحباط مخططاتهم، وإذلالهم. 3- ظهور حقيقة المنافقين في مرأى المؤمنين، فيتعجبون من شأنهم، قائلين لبعضهم: أهؤلاء الذين ادعوا نصرتنا بالأيمان المغلظة؟ أو قائلين لليهود على

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 179

المرتدون ومعاداتهم المسلمين [سورة المائدة (5) الآيات 54 إلى 56] :

جهة التوبيخ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد؟ فالآية تحتمل قول المؤمنين لبعضهم، أو لليهود. المرتدون ومعاداتهم المسلمين [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) الإعراب: مَنْ يَرْتَدَّ: من: شرطية، ويرتدّ: مجزوم بها. يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ في موضع جر صفة لقوم، وكذلك قوله تعالى أَذِلَّةٍ.. وأَعِزَّةٍ وكذلك يُجاهِدُونَ وصف لهم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال منهم. وَهُمْ راكِعُونَ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير يُؤْتُونَ. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على الصَّلاةَ والواو ليست للحال، فلا يكون لها موضع من الإعراب. البلاغة: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ بينهما طباق. لَوْمَةَ لائِمٍ التنكير في الكلمتين للمبالغة. المفردات اللغوية: مَنْ يَرْتَدَّ يرجع عن الإسلام، والردة: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر أو إلى غير دين،

سبب النزول:

أو ترك ركن من أركان الإسلام كالزكاة جهارا وعنادا. يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يثيبهم، ويخلصون له العمل ويطيعونه في كل أمر ونهي. أَذِلَّةٍ جمع ذليل أي عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع، من الذل وهو الحنو والعطف. أَعِزَّةٍ أشداء متعالين عليهم. لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أي أنهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين كإنكار منكر، أو أمر بمعروف أو مجاهدة في سبيل الله، لا يأبهون لقول قائل ولا اعتراض معترض ولا لوم لائم يلومهم وينتقدهم، خلافا للمنافقين الذين يخافون لوم الكفار. ذلِكَ المذكور من الأوصاف فضل الله. وَاللَّهُ واسِعٌ كثير الفضل. عَلِيمٌ بمن هو أهله. إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ أي إنما ناصركم ومعينكم على طريق الأصالة والحقيقة هو الله. وأما ولاية من عداه فهي على سبيل التبع والظاهر. وَهُمْ راكِعُونَ خاشعون وخاضعون. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يعينهم وينصرهم. فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ الحزب: الجماعة المجتمعة على أمر واتجاه خاص، وحزب الله: أتباعه، والغالبون: المنتصرون لنصر الله إياهم. سبب النزول: نزلت هذه الآيات فيمن ارتد من القبائل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهم ثلاث: 1- بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي الذي تنبأ باليمن، وكان كاهنا، وقتل على يد فيروز الديلمي. 2- وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب الذي تنبأ في اليمامة، وأرسل كتابا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، يذكر فيه أنه شريك له، وأن الأرض قسمان فكتب له النبي صلّى الله عليه وسلّم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. قاتله أبو بكر رضي الله عنه، وقتله وحشي الذي قتل حمزة، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس، وفي إسلامي شر الناس. 3- وبنو أسد بزعامة طليحة بن خويلد، ارتد أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقاتله أبو بكر في خلافته، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه.

وارتدت سبع قبائل في عهد أبي بكر وهم: 1- غطفان بزعامة قرّة بن سلمة. 2- فزارة قوم عيينة بن حصن. 3- بنو سليم قوم الفجاءة عبد يا ليل. 4- بنو يربوع قوم مالك بن نويرة. 5- بعض قبيلة بني تميم، بزعامة سجاح بنت المنذر، الكاهنة زوجة مسيلمة. 6- كندة قوم الأشعث بن قيس. 7- بنو بكر بن وائل الحطم بن زيد. وارتد في عهد عمر جبلة بن الأيهم الغساني، الذي تنصر ولحق بالشام لأنه كان يطوف حول الكعبة، فوطئ إزاره رجل من فزارة، فلطمه جبلة، فهشم أنفه، فشكاه الفزاري إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فحكم إما بالعفو أو القصاص، فقال جبلة: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة، فقال عمر: الإسلام سوى بينكما، ثم استمهل إلى غد، فهرب. فصار مجموع من ارتد إحدى عشرة فئة أو فرقة «1» . وأما الذين أتى الله بقوم يحبهم ويحبونه: فهم أبو بكر وأصحابه، وقيل: هم قوم من أهل اليمن، وقيل: هم رهط أبي موسى الأشعري، ورجح الطبري أن الآية نزلت في قوم أبي موسى من أهل اليمن، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: هم قوم أبي موسى «2» .

_ (1) الكشاف: ص 466، تفسير الرازي: 12/ 18 وما بعدها، سيرة ابن هشام: 2/ 576، 621، البداية والنهاية لابن كثير: 5/ 48- 52، تاريخ الخلفاء: ص 76، سيرة عمر بن الخطاب للطنطاويين: ص 360 (2) تفسير الطبري: 6/ 183

سبب نزول إنما وليكم الله:

سبب نزول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ: ذكرت روايات يقوي بعضها بعضا أنها نزلت في علي بن أبي طالب الذي سأله سائل وهو راكع في تطوع، فتصدق عليه بخاتمه. وأثبت الرازي أن هذه الآية مختصة بأبي بكر «1» . وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... إعلام من الله عباده جميعا الذين تبرؤوا من اليهود وحلفهم رضا بولاية الله ورسوله والمؤمنين «2» . المناسبة: بعد أن نهى الله تعالى عن موالاة الكافرين، وبيّن أن الذين يبادرون إلى توليهم مرتدون، ذكر استغناءه عن أهل الردة، واعتماده على صادقي الإيمان الذين يحبهم ويؤثرون حبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وولد. التفسير والبيان: موضوع الآيات بيان قدرة الله العظيمة على استبداله بالمرتدين من هو خير لدينه وإقامة شريعته، وهو من كان أصلب دينا وأشد منعة وأقوم سبيلا، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد 47/ 38] وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء 4/ 133] وقال عز وجل: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع ولا صعب [إبراهيم 14/ 19- 20] .

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 186، أسباب النزول للسيوطي، تفسير القرطبي: 6/ 221، تفسير الرازي: 12/ 20- 23 (2) تفسير الطبري: 6/ 187

يا أيها المؤمنون من يرجع عن الحق إلى الباطل، فيترك دينه في المستقبل فسوف يأتي الله بقوم بديل عنهم وصفهم القرآن بست صفات: 1- يحبهم الله تعالى: أي يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم، ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم. 2- ويحبون الله تعالى: باتباع أمره واجتناب نهيه، وإطاعته وابتغاء مرضاته، والبعد عما يوجب سخطه وعقابه. 3، 4- أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين: أي عاطفين على المؤمنين متواضعين لهم، أشداء متعالين على الكافرين المعادين لهم، وهما نحو قوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح 48/ 29] وقوله عز وجل في عزة الإيمان: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] . 5- يجاهدون في سبيل الله: أي يقاتلون من أجل رفعة كلمة الله ودينه، وسبيل الله: هو طريق الحق والخير والفضيلة والتوحيد المؤدي إلى مرضاة الله، والدفاع عن الوطن والأهل والديار. 6- لا يخافون لومة لائم: لا يخشون لوم أحد واعتراضه ونقده لصلابتهم في دينهم، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل، على نقيض المنافقين الذين يخافون لوم حلفائهم اليهود. ثم قال تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك المذكور من الصفات التي وصف بها القوم: وهي المحبة والذلة للمؤمنين والعزة على الكافرين والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة، هو من فضل الله يعطيه من يشاء، ويوفق إليه من يريد، والله واسع، أي ذو سعة فيما يملك ويعطي كثير الأفضال، عليم بمن هو أهلها، فهو تعالى واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك، ممن يحرم منه.

فقه الحياة أو الأحكام:

وبعد أن نهى الله عن موالاة الكافرين، أمر بموالاة الله ورسوله والمؤمنين، فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ليس اليهود بأوليائكم وأنصاركم، وإنما وليكم وناصركم بحق هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة، أي يؤدونها كاملة تامة الأركان والشروط، ويؤتون الزكاة أي يعطونها بإخلاص وطيب نفس لمن يستحقها، وهم خاضعون لأوامر الله، بلا تململ ولا تضجر ولا رياء. ومن يناصر دين الله بالإيمان به والتوكل عليه، ويؤازر رسول الله والمؤمنين دون أعدائهم، فإنه هو الفائز الناجي، وهو الذي يحقق النصر والغلبة، وعندها يتحقق نصر حزب الله وغلبتهم أي جماعة المؤمنين، ويكون المؤمنون هم الغالبون لأنهم حزب الله، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ إلى قوله: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة 58/ 21- 22] فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور فيهما. فقه الحياة أو الأحكام: 1- تضمنت الآيات وعيدا لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخبارا غيبيا أنه سيرتد قوم من الناس. كما تضمنت أيضا وعدا من الله لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد. فلما قبض الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم ارتد قوم من أهل القبائل، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده «1» .

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 182

روى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية، وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس. قالوا: نصلي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلّم أبو بكر في ذلك، فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا، أعطوها وزادوها. فقال: لا والله، لا أفرّق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله، لقاتلناهم عليه، فبعث الله عصابة (جماعة) مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (وهي الزكاة) صغرة (أذلاء مهينين) أقمياء (ذليلين ضعفاء) . فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم، أن يقروا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال، ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال «1» . والخلاصة: إن هذا من إعجاز القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم إذ أخبر عن ارتداد العرب، ولم يكن ذلك في عهده، وكان ذلك غيبا، ووقع ما أخبر به بعد مدة، وأهل الردة- كما بينت- كانوا بعد موته صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثا «2» ، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها قالوا: نصوم ونصلي ولا

_ (1) المرجع السابق: 6/ 183 (2) جؤاثا مهموز: اسم حصن بالبحرين، وفي الحديث: «أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة بجؤاثا» .

نزكي فقاتل الصدّيق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش، فقاتلهم وسباهم، على ما هو مشهور من أخبارهم. 2- أصح ما قيل في نزول قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: أنها نزلت في الأشعريين ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن «1» . وروى الحاكم في المستدرك بإسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى أبي موسى الأشعري، لما نزلت هذه الآية فقال: «هم قوم هذا» . 3- المؤمنون أذلة على بعضهم، رحماء فيما بينهم، يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، أعزة على الكافرين أشداء عليهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته. 4- دل قوله: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ بخلاف المنافقين: على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو وليّ لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة. 5- الله ولي الذين آمنوا، وقال تعالى هنا: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وقال في رواية أخرى وكما ذكر في سبب النزول عن مجاهد والسدي: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 220

النهي عن موالاة الكفار وأسبابه [سورة المائدة (5) الآيات 57 إلى 63] :

والأصح أن الآية عامة في جميع المؤمنين لأن الَّذِينَ لجماعة، ومن عمومياتها ما يأتي: قال جابر بن عبد الله: قال عبد الله بن سلام للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية ، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. وأولياء الله: هم الموصوفون بالآية لا غيرهم: الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويخشعون لله تعالى. والمراد: يأتون بصلاة الفرض في أوقاتها بجميع حقوقها، ويؤدون الزكاة المفروضة بطيب نفس. 6- من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله، وحزب الله: جند الله وأنصاره والمنفذون أوامره، والمجتنبون نواهيه. وإذا توافرت هذه الصفات كانوا هم الغالبين: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 77/ 173] . النهي عن موالاة الكفار وأسبابه [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

الإعراب:

الإعراب: وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ: الْكُفَّارَ معطوف بالنصب على الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ. وقرئ بالجر عطفا على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ في موضع نصب بتنقمون. وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ.. ما في الموضعين بمعنى «الذي» في موضع جر بالعطف على اسم الله تعالى. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على بِاللَّهِ وتقديره: آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون. مَثُوبَةً تمييز منصوب، والعامل فيه بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ: إما مجرور بدلا من بِشَرٍّ بدل الشيء من الشيء وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مع حذف مضاف وتقديره: «هو لعن من لعنه الله» فحذف المبتدأ وإما منصوب على الذم بتقدير فعل وتقديره: أذكر أو أذمّ من لعنه الله. وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ معطوف على لَعَنَهُ وكذلك وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ولم يأت بضمير جمع في عَبَدَ حملا على لفظ مِنْ. مَكاناً منصوب على التمييز. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ في موضع نصب على الحال. وكذلك خَرَجُوا بِهِ أي: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. والباء باء الحال كقولهم: خرج زيد بسلاحه، أي متسلحا.

البلاغة:

البلاغة: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للحث والإثارة. هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ هذا من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس فقد جعلوا التمسك بالإيمان موجبا للإنكار. لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من باب التهكم، حيث استعملت المثوبة في العقوبة. شَرٌّ مَكاناً نسب الشر للمكان وهو لأهله مبالغة في الذم. المفردات اللغوية: هُزُواً مهزوءا به وسخرية. وَلَعِباً مِنَ لبيان الجنس، واللعب: ضد الجد. وَالْكُفَّارَ المشركين. وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك موالاتهم. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صادقين في إيمانكم. وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي والذين إذا دعوتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة. اتَّخَذُوها الصلاة. هُزُواً وَلَعِباً بأن يستهزءوا بها ويتضاحكوا. ذلِكَ الاتخاذ. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. هَلْ تَنْقِمُونَ تنكرون وتعيبون بالقول أو بالفعل. المعنى ما تنكرون إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبوله، المعبر عنه بالفسق اللازم عنه، وليس هذا مما ينكر عقلا وعرفا. مَثُوبَةً ثوابا وجزاء، من ثاب إليه إذا رجع، والجزاء يرجع إلى صاحبه. الطَّاغُوتَ: كل ما عبد من دون الله، كالشيطان والأصنام، وعبادة الطاغوت مجاز عن طاعته. وروعي في قوله مِنْهُمُ معنى «من» وفيما قبله لفظها وهم اليهود. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً لأن مأواهم النار. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ طريق الحق، وأصل السواء: الوسط. وذكر بِشَرٍّ ... وأَضَلُّ في مقابلة قول اليهود الذين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر عيسى: لا نعلم شرا من دينكم. وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على آمَنَّا. وَإِذا جاؤُكُمْ منافقو اليهود. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي دخلوا إليكم متلبسين بالكفر. وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا من عندكم متلبسين به، ولم يؤمنوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي يكتمونه من النفاق. وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي اليهود. يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ يقعون في الكذب. وَالْعُدْوانِ الظلم. وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ المال الحرام الدنيء كالرشوة في القضاء والربا وغير ذلك. عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ الكذب.

سبب النزول نزول الآية (57) :

لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أي يصنعونه من ترك النهي عن ذلك كله. سبب النزول: نزول الآية (57) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري الأصفهاني (274 هـ) عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادهما، فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ إلى قوله: بِما كانُوا يَكْتُمُونَ. وبه قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وغازي بن عمرو، فسألوه: فمن نؤمن به من الرسل؟ قال: أؤمن بالله: وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ الآية. وفي رواية: فلما ذكر عيسى، قالوا: لا نعلم دينا شرا من دينكم. وفي رواية عن ابن عباس: أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا. المناسبة: نهى الله تعالى في الآيات السابقة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء (حلفاء وأنصارا) من دونه لأن بعضهم أولياء بعض، ثم كرر النهي هنا للتأكيد عن اتخاذ الكفار عامة أولياء، لإيذائهم المؤمنين ومقاومتهم دينهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: موضوع هذه الآيات التنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من أهل الكتاب والمشركين الذين يهزؤون بشرائع الإسلام المطهرة، ويتخذونها نوعا من اللعب. يا أيها المؤمنون لا تتخذوا الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الذين يهزؤون بدينكم، ويتخذون شعائره وشرائعه لونا من اللعب، لا تتخذوهم أولياء أي حلفاء وأنصارا، فإن الهازئ بالشيء معاند له وساخر به وغير مؤمن به وعدوّ له ولأهله، وإن تظاهروا بالمودة، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة 2/ 14] . واتقوا الله وخافوا عذابه ووعيده أيها المؤمنون إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده، أو كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا. وكذلك إذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان، اتخذوها أيضا هزوا ولعبا لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر حتى لا يسمع التأذين. ثم ناقشهم الحق تعالى فقال: قل يا محمد لهؤلاء أهل الكتاب الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا: هل تنكرون أو تعيبون علينا إلا إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب قبل على الرسل، وما هذا بعيب ولا مذمة؟ فيكون الاستثناء منقطعا، كما في قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 8] وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة 9/ 74] .

ولأن أكثركم فاسقون، أي متمردون خارجون عن حقيقة الدين، وليس لكم من الدين إلا التعصب والمظاهر والتقاليد الجوفاء. وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ معطوف على آمَنَّا بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين الحكم عليكم بتمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم، حيث دخلنا في دين الإسلام، وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون. ويمكن عطفه على المجرور، أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون. وعبر بالأكثر لأن بعض أهل الكتاب ما يزالون متمسكين بأصول الدين من توحيد الإله وعبادته، والتزام الحق والعدل، وحب الخير. ثم أجابهم تعالى عن استهزائهم بقوله: قل لهم يا محمد، هل أنبئكم أي أخبركم أيها المستهزئون بديننا الذين تقولون: «لا نعلم شرا من دينكم» وأعلمكم بما هو شر من أهل ذلك، أو من دين من لعنه الله، بتقدير مضاف محذوف قبل كلمة ذلِكَ. واستدعى ذلك سؤالا آخر منهم عن الذي هو شر: ما هو؟ فأجاب تعالى: والذي هو شر من ذلك: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي هل أخبركم بشر مما تقولون وتظنونه بنا هو جزاء من لعنه الله. كقوله تعالى: قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ: النَّارُ [الحج 22/ 772] . وفي هذا انتقال من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، وهو التذكير بسوء حال أسلافهم مع أنبيائهم، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم.

ومن لعنه الله، أي أبعده وطرده من رحمته، واللعنة تلزم الغضب الإلهي، وهو يستلزم اللعنة إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه. وغضب عليه، أي غضبا لا يرضى عنه أبدا. وجعل منهم القردة والخنازير غضبا منه عليهم وسخطا، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى المتقدم: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة 2/ 65] وقوله فيما يأتي: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الأعراف 7/ 166] والجمهور على أنهم مسخوا حقيقة، فكانوا قردة وخنازير وانقرضوا، والقردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى، وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير. والدليل على انقراضهم ما رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: «إن الله لم يهلك قوما- أو قال: لم يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك» . ونقل الطبري عن مجاهد وغيره في قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي أذلة صاغرين «1» . وعبد الطاغوت، أي جعل منهم من صير الطاغوت معبودا من دون الله، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، كالأصنام والشيطان والعجل، فكانت عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فصارت عبادتهم له عبادة للشيطان. أولئك المتصفون بما ذكر من المخازي والمعايب شر مكانا مما تظنون بنا إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار، وهم أضل عن قصد الطريق الوسط المعتدل وهو

_ (1) تفسير الطبري: 1/ 264

الحق الذي لا يعلوه شيء. والتعبير بكلمتي بِشَرٍّ ... وأَضَلُّ ليس للمفاضلة لأن هذا الدين خير محض وإنما هذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر، من قبيل المشاكلة للفظهم والمجاراة لهم في اعتقادهم، كقوله عز وجل: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان 25/ 24] . ثم بيّن الله تعالى حال المنافقين، فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ.. أي إذا جاء منافقو اليهود قالوا: آمنا بالرسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم مستصحبون للكفر مقيمون عليه في قلوبهم، فإذا دخلوا عندك يا محمد أو عليكم أو خرجوا من عندكم فحالهم سواء، لم يتحولوا عن كفرهم، وهذه صفة معروفة للمنافقين منهم: أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ودأبهم الخداع والمكر، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ [البقرة 2/ 76] . وهم جميعا أغبياء لأن الله أعلم بما كانوا يكتمون، أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن تظاهروا للناس بخلاف الحقيقة، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، ولم يختلف وضعهم من الكيد والمكر والخبث والكذب والخيانة حين دخولهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين وحين خروجهم: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة 5/ 41] . فهم بهذا شذاذ لأن من كان يجالس الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوعي وأدب، سرعان ما يقذف الله في قلبه نور الإيمان، ولربما كان يقصد قتله إذا رآه وسمع كلامه. ثم أضاف القرآن من أوصافهم شرا مما ذكر، فقال تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ ... أي وترى أيها النبي كثيرا من هؤلاء اليهود المستهزئين بدينك يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل،

فقه الحياة أو الأحكام:

لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم، فما أقبح أعمالهم وأسوأ أفعالهم! ثم حض الله تعالى علماءهم على النهي عن قول الإثم وأكل السحت فقال: يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ.. قال البيضاوي: هذا للحض، فإنإذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض، أي هلا كان ينهاهم الربانيون (وهم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم) والأحبار (هم العلماء فقط) «1» عن تعاطي ذلك؟ لبئس ما كانوا يصنعون من تركهم ذلك ورضاهم بالمنكر، كأنهم جعلوا أكثر إثما من مرتكبي المنكرات لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، كما قال الزمخشري «2» . وقال القرطبي: والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة «3» . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي أشد آية في القرآن، أي ليس في القرآن ما هو أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، أي أنها حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظام الحياة للفرد والمجتمع. فقه الحياة أو الأحكام: الآية تأكيد صريح لما سبق من قطع الموالاة مع الكفار عامة لأنهم يستهزءون بشرائع الإسلام وأحكامه، وبخاصة وقت النداء أي الأذان للصلاة. قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن، وقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود:

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 74، البيضاوي: ص 156 [.....] (2) الكشاف: 1/ 471 (3) تفسير القرطبي: 6/ 237

قد قاموا لا قاموا، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا، وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وعن مشروعية الأذان قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون: «الصلاة جامعة» فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي «الصلاة جامعة» للأمر يعرض كصلاة الجنازة وصلاة العيد وصلاة الكسوفين. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء. ثم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح: «الصلاة خير من النوم» فأقرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والأذان من شعائر الإسلام، وهو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سرية قال لهم: «إذا سمعتم الأذان فأمسكوا وكفّوا، وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا- أو قال: فشنوا الغارة» . لذا قال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. وقال مالك: إنما يجب الأذان في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، ثم اختلف أصحابه على قولين: أحدهما- سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر ونحوه من القرى. والثاني- هو فرض على الكفاية. وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين، أعادوا الصلاة. واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة، أي فهما سنة مؤكدة.

واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول، عملا بحديث أبي محذورة. وكذلك اتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان، وذلك رجوع المؤذن إذا قال: «أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين» رجّع فمدّ من صوته جهده. وقال الحنفية: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة: «الله أكبر» أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان، عملا بما رآه في المنام عبد الله بن زيد وفي حديثه: «فأذن مثنى وأقام مثنى» . ورأى الإمام أحمد أنه يجوز تربيع التكبير أو تثنيته في أول الأذان، ويجوز الترجيع وعدمه، ويجوز تثنية الإقامة وإفرادها، إلا قوله: «قد قامت الصلاة» فإن ذلك مرتان على كل حال، كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع ذلك، وعمل به أصحابه. واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح: وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، فقال المالكية والشافعية: يسن ذلك مرتين في أذان صلاة الفجر، لحديث أبي محذورة فيما رواه الخمسة (أحمد وأهل السنن) ، ولا يسن ذلك عند الحنفية والحنابلة. وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر وعائشة: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» وقال الحنفية: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمالك بن الحويرث وصاحبه فيما

أخرجه الجماعة السبعة عن مالك: «إذا حضرت الصلاة فأذّنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما» وقياسا على سائر الصلوات. وأجاز مالك وأبو حنيفة وأصحابهما أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره لأن بلالا أذن وأقام عبد الله بن زيد. وقال الشافعي: من أذن فهو يقيم، لحديث زياد بن الحارث الصّدائي: «إن أخا صداء أذّن ومن أذّن فهو يقيم» . ويترسّل المؤذن في أذانه، ولا يطرّب به كما يفعله كثير من الجهال. ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين، وإن أتمه جاز، وهذا مذهب المالكية لحديث الجماعة عن أبي سعيد الخدري: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن» . ويستحب عند الجمهور أن يقول السامع مثلما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» لحديث عمر في صحيح مسلم. ودل قوله تعالى: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا على توبيخ أهل الكتاب على تعيير المسلمين بشيء لا محل لإنكاره أو ذمه أو تعييبه. وأرشد قوله تعالى: يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ.. إلى النعي على العلماء توانيهم في القيام بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد وبخ الله علماء اليهود في تركهم النهي عن المنكر. ودلت الآية أيضا على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجاء في صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .

من أقبح أقوال اليهود وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم وجزاء إيمان أهل الكتاب [سورة المائدة (5) الآيات 64 إلى 66] :

من أقبح أقوال اليهود وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم وجزاء إيمان أهل الكتاب [سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) الإعراب: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ.. ما أنزل: في موضع رفع فاعل: وَلَيَزِيدَنَّ وتقديره: وليزيدن الذي أنزل إليك كثيرا منهم. البلاغة: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: غل اليد: كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود. وبين مَغْلُولَةٌ ... ومَبْسُوطَتانِ طباق من حيث اللفظ. أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ استعارة لأن الحرب لا نار لها، وإنما شبهت بالنار لأنها تأكل أهلها، كما تأكل النار حطبها.

المفردات اللغوية:

لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ استعارة أيضا، استعار ذلك لتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: عمّه الرزق من فوقه إلى قدمه. المفردات اللغوية: يَدُ اللَّهِ اليد: هي في الحقيقة العضو المعروف من الأصابع حتى الكتف، أو إلى الرسغ، وتطلق مجازا على النعمة، تقول: لفلان عندي يد أي معروف ونعمة، وعلى العطاء والنفقة، كما يقال: ما أبسط يده بالنوال، أي العطاء الجزيل، وعلى القدرة مثل قوله تعالى: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص 38/ 45] أي ذوي القوة والعقول. والمقصود بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي ممسكة عن العطاء والإنفاق وإدرار الرزق علينا، كنّوا به عن البخل، تعالى الله عن ذلك. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ أمسكت وانقبضت عن فعل الخير، وهو دعاء عليهم بالبخل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي كثير العطاء، مبالغة بالوصف بالجود، وثنّى اليد لإفادة الكثرة إذ غاية ما يبذله السخي من ماله: أن يعطي بيديه ونحن نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم. وإن كان قصدهم أثر اليد وهو الإنعام بقرينة الإنفاق. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ من توسيع وتضييق، لا اعتراض عليه. ما أنزل إليك من بالأمن والسلم، والسلب ولو بغير قتل، وإثارة الفتنة أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما أرادوه ردهم وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي مفسدين بالمعاصي وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يعاقبهم. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقَوْا الكفر وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بالعمل بما فيهما على أتم وجه، سواء الإيمان الصحيح، ومنه الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والعمل الصالح. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي لوسع عليهم الرزق وفاض من كل جهة مِنْهُمْ أُمَّةٌ جماعة مُقْتَصِدَةٌ معتدلة في أمر الدين، وهم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام وأصحابه وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي بئس ما يعمله الكثيرون منهم. سبب النزول: أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له: النباش بن قيس للنبي: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزلت: وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ في فنحاص رأس يهود بني قينقاع وهذا ما قاله عكرمة.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر تعالى بعض قبائح اليهود ومخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ونحو ذلك من جمع المال من حلال أو حرام، ذكر هنا أقبح مخازيهم وصفاتهم وسيئاتهم، بجرأتهم على ربهم، ووصفه بالبخل، مما لا يقول به عاقل، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. التفسير والبيان: وصفوا الله تعالى بأنه فقير وهم أغنياء، ووصفوه بالبخل بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي قال بعض اليهود- لما أصيب بأزمة مالية بسبب تكذيبه النبي صلّى الله عليه وسلّم-، ونسب إلى الأمة لتكافلها فيما بينها-: إن الله بخيل. وغل اليد: مجاز عن البخل، ويد الله مغلولة: بخيلة وبسطها: كناية عن الجود والكرم. فهم لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده من موارد الرزق بخلا، قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الإنفاق في غير محله. ورد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه، ودعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته، فقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا وهو دعاء عليهم بالبخل والنكد والإمساك عن الخير، فكانوا أبخل خلق الله وأنكدهم. ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم. وأثبت الله تعالى في رده عكس ما يقولون فقال: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «1» يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي بل هو الجواد الواسع الفضل، الجزيل العطاء الذي ما من

_ (1) نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم، والظاهر هنا إرادة الإنعام على الجملة (تفسير ابن عطية 4/ 509، 512) .

شيء إلا عنده خزائنه، وما من نعمة بخلقه فمنه وحده، لا شريك له، كما قال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم 14/ 34] . وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار «1» ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه- قال: وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى الفيض- أو القبض- يرفع ويخفض. وقال: يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك» . وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد يعطي بكلتا يديه. والعقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى، وأنه ليس بجسم ولا جارحة، كما قال ابن عطية. أما تقتير الرزق على بعض الناس فلا ينافي سعة الجود، فإن له حكمة وإرادة ومشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق كما قال سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26] . ثم بيّن الله تعالى مدى تأثير القرآن فيهم فقال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً.. أي تالله ليزيدن ما أنزل إليك من الآيات البينات طغيانا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء، وكفرا أي تكذيبا، أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانا وكفرا، كما قال تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ،

_ (1) قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما النصب على الظرف، والرفع على الفاعل، أي فاعل يغيضها. والسح: الصب الكثير، ويغيض: ينقص.

وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] . روى الطبري عن قتادة قال في آية: وَلَيَزِيدَنَّ..: حملهم حسد محمد صلّى الله عليه وسلّم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم «1» . وكان من جزاء الله لهم على نكدهم ما قاله: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ.. أي وألقينا بين فئات اليهود والنصارى العداوة والبغضاء، فكل فرقة منهم تخالف الأخرى كما قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر 59/ 14] والتاريخ القديم والحديث يثبت ذلك بوقائع الحروب العنصرية والدينية والاستعمارية الكثيرة الوقوع. ولا يغترن أحد بتوافق اليهود في فلسطين، فذلك أمر وقتي. وكلما هموا بالكيد للرسول والمؤمنين الصادقين وإثارة الفتن والحروب بين الأمم في الداخل والخارج، خذلهم الله، ورد كيدهم عليهم، فإما أن يخيب مسعاهم، أو ينصر المؤمنين عليهم. وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا، أي من سجيتهم أنهم دائما يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والله لا يحب من كانت هذه صفته، بل يبغضه ويعاقبه ويسخط عليه. ثم فتح الله تعالى باب الأمل والتوبة أمامهم فقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا.. أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم، لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها، ولأدخلناهم جنات النعيم التي ينعمون بها، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود.

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 195

فقه الحياة أو الأحكام:

ولو أنهم عملوا من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير بما في التوراة والإنجيل المنزّلين من عند الله بأصل التوحيد، المبشّرين بالنبي من ولد إسماعيل، وعملوا بما أنزل على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن، لوسّع الله عليهم رزقهم، وأنزل عليهم من خيرات السماء، وأخرج لهم من بركات الأرض، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] قال ابن عباس: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني يخرج من الأرض بركاتها. ثم ذكر تعالى أن أهل الكتاب ليسوا سواء في اعتقادهم وأفعالهم فقال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي جماعة معتدلة في أمر الدين كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأمثاله من النصارى، وكثير غالب منهم فاسقون خارجون عن أصول الدين، وبئس العمل عملهم. وهناك نظائر لهذه الآية التي تشهد لبعض أهل الكتاب بالاعتدال مثل قوله تعالى عن بعض اليهود: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف 7/ 159] وقوله تعالى عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد 57/ 27] . فقه الحياة أو الأحكام: غريب أمر اليهود وطبعهم، فإنهم ما تركوا فعل فاحشة أو منكر إلا اقترفوه، ولم يسلم منهم الأنبياء فقتلوهم، بل امتد أذاهم وخزيهم إلى الله عز وجل، فقال بعضهم: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء. لكن غلت أيديهم في الآخرة، وحجبهم الله عن الخير والبر ولعنهم وطردهم من رحمته في الدنيا بدعائه عليهم بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا.

تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا فهو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، على وفق الإرادة والحكمة كما يشاء، ونعم الله تعالى أكثر من أن تحصى. ووالله ليزيدن اليهود بسبب فظائعهم ومخازيهم طغيانا وكفرا، أي تجاوزا للحد في بغض النبي صلّى الله عليه وسلّم وعداوته، وكفرا بما جاء به، وإذا نزل شيء من القرآن فكفروا، ازداد كفرهم. وألقى الله بين طوائف اليهود العداوة والبغضاء، كما قال: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى فهم متباغضون غير متفقين فهم أبغض خلق الله إلى الناس. وكلما أوقعوا الفتنة وجمّعوا وأعدّوا، شتت الله جمعهم وبدد شملهم. وأما تجمعهم في فلسطين فذلك أمر موقوت، وتنبيه لنا أن نعود إلى ديننا، ونوحد صفوفنا، وليتم تدبير الله في هزيمتهم هزيمة منكرة لا تقوم لهم بعدها قائمة، فهم إن عاجلا أو آجلا إلى زوال. قيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله: التوراة، أرسل الله عليهم بختنصّر، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله، وكلما أوقدوا نارا، أي أهاجوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم أطفأها الله، وقهرهم ووهّن أمرهم، ويسعون في الأرض فسادا، أي في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد. ومع كل هذه المخازي والمعايب فتح الله أمام أهل الكتاب باب التوبة، ليصلحوا ما أفسدوا، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وهذا دليل على عظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، ونفذوا ما فيهما من تعليمات وأحكام ودعوة إلى الإيمان برسالة الإسلام، لوسع الله عليهم الرزق وزادهم من النعم، وأفاض

عليهم من أنواع الخيرات، ونظير هذه الآية. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] . وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن 72/ 16] . وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق، كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم 14/ 7] . وفي هذا دلالة واضحة على أن ما أصابهم من ضنك وضيق إنما هو بسبب جناياتهم، لا من قصور في فيض الله تعالى. وأخبر تعالى أن منهم أمة مقتصدة معتدلة مؤمنة بكل ما أنزل الله إليهم وإلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام، اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. والاقتصاد: الاعتدال في العمل. فالعبرة في الأديان: هو العمل بها والاهتداء بهديها، لا التعصب الجنسي لها أو ضدها، وإحداث صراع حاد بين أهلها، فمن آمن بحق بدين آمن تلقائيا ومباشرة بكل دين أنزله الله ورضيه لعباده، والدين دين الله، وليس حكرا على أحد، ولا دين بشر أحدثه للناس. لذا كان واقع الناس غريبا عن حقيقة الدين، وأصبح الكثير منهم خارجا عن حدود الدين: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي بئس شيء عملوه، كذبوا الرسل، وحرّفوا الكتب، وأكلوا السحت. وهكذا لا تخلو أمة أو زمن من المعتدلين، ولا يخفت صوت الحق مهما حاول الفسقة كبته وخنقه، وإذا كثر أهل السوء، وقل الصالحون هلكت الأمم.

أمر الرسول بتبليغ الوحي وعصمته من الناس ودعوة أهل الكتاب للإيمان برسالته [سورة المائدة (5) الآيات 67 إلى 69] :

أمر الرسول بتبليغ الوحي وعصمته من الناس ودعوة أهل الكتاب للإيمان برسالته [سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 69] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) الإعراب: وَالصَّابِئُونَ: مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك والنية به التأخير عما في حيّز: إن ومعمولها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك (الكشاف: 1/ 474) أو أنه مبتدأ وخبره: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (ابن الأنباري: 1/ 300) . وقيل: إنه معطوف على الضمير المرفوع في هادُوا وهو ضعيف لأن العطف على المضمر المرفوع المتصل لا يجوز من غير فصل ولا تأكيد. البلاغة: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ تعبير فيه غاية التحقير والتصغير. وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أضاف كلمة الرب إليهم تلطفا معهم في الدعوة. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وضع الظاهر الْكافِرِينَ موضع الضمير «عليهم» لإظهار مدى رسوخهم في الكفر. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ أي بلّغ جميع ما أنزل إليك، غير مراقب في تبليغه أحدا، ولا خائف

سبب النزول:

أن ينالك مكروه. والتبليغ: إعلان الدعوة الإسلامية، وإعلام جميع ما تضمنته من أحكام وأخبار للناس. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أن يحفظك ويكلؤك ويضمن لك العصمة والصون من أعدائك أي من قتلك، فلا تأبه لهم ولا عذر لك في مراقبتهم. وهذا عدة من الله بالحفظ والكلاءة، ووعد الله منجز إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي من الدين الحقيقي معتد به، أو على دين يعتدّ به حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ بأن تعملوا بما فيه، ومنه الإيمان بالله تعالى وبرسوله خاتم النبيين وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن طُغْياناً وَكُفْراً لكفرهم بالقرآن فَلا تَأْسَ تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إن لم يؤمنوا بك، أي لا تهتم بهم. وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالصَّابِئُونَ الخارجون عن الأديان كلها كما قال الزمخشري، وقال مجاهد: الصابئون: طائفة من النصارى والمجوس ليس لهم دين، وروي عن مجاهد والحسن البصري: هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح. وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات «1» . سبب النزول: نزول الآية (67) : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ: أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن الحسن البصري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله بعثني برسالة، فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغنّ أو ليعذبني، فنزلت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال: يا ربّ، كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي، فنزلت: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. وأخرج الحاكم والترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس، حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رأسه من القبة، فقال:

_ (1) تفسير الرازي: 3/ 105، تفسير ابن كثير: 2/ 80

«يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. قال السيوطي: في هذا الحديث دليل على أن الآية ليلية، نزلت ليلا، فراشية، والرسول في فراشه. وأخرج ابن حبان في صحيحة عن أبي هريرة قال: كنا إذا أصبحنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه، وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله يمنعني منك، ضع السيف، فوضعه، فنزلت: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس (أي لا يعلم ممن هم) فنزل علي جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، فقمت عند العقبة فقلت: أيها الناس، من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي، ولكم الجنة؟. أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا، ولكم الجنة، قال صلّى الله عليه وسلّم: فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقول: كذاب صابئ، فعرض علي عارض، فقال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه. قال السيوطي: وهذا يقتضي أن الآية مكية، والظاهر خلافه. وقال الرازي: واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت، إلا أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 50

نزول الآية (68) :

نزول الآية (68) : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ: روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رافع بن حارثة، وسلام بن مسكين، ومالك بن الصيف، ورافع بن حرملة، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، وأنا بريء من أحداثكم، قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك، فأنزل الله: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ إلى قوله: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» . وقال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ألست تقرّ أن التوراة حق من عند الله؟ قال: بلى، فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها، فنزلت الآية ، أي لستم على شيء من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما «2» . المناسبة: أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين المعتدلين وكثرة الفاسقين من أهل الكتاب، ولا يخشى مكروههم، فقال: بَلِّغْ أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم، فإن الله يعصمك من كيدهم، ويصونك من مكرهم.

_ (1) تفسير الطبري: 6/ 200، أسباب النزول للسيوطي. (2) تفسير القرطبي: 6/ 245

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يأمر الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم مخاطبا له بصفة الرسالة بإبلاغ جميع ما أنزله الله عليه، فقام بالواجب أتم القيامة، وبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح للأمة، فجزاه الله خير الجزاء، قال البخاري عند تفسير هذه الآية من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي. وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: «لو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب 33/ 37] . ومعنى الآية يا أيها الرسول المرسل من عند ربه برسالة إلى الناس كافة بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك، ولا تخشى في ذلك أحدا، ولا تخف أن ينالك مكروه. وإن لم تبلغ فورا ما أنزل إليك ولم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به، بأن كتمته ولو إلى حين، فما قمت بواجب التبليغ إلى الناس، كما قال تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة 5/ 99] . والحكمة في هذا الأمر بالتبليغ وتأكيده بقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ.. بجعل كتمان بعضه مثل كتمان كله، مع أن الرسل معصومون من كتمان شيء مما أنزله الله إليهم. هو إعلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن التبليغ حتم لا يجوز له الاجتهاد بتأجيل شيء عن وقته. والحكمة بالنسبة للناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يختلفوا فيها. وقد بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم فورا جميع ما أنزل إليه من القرآن، قال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وقد شهدت له

أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول: «اللهم هل بلغت» . روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، قال: «أي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام، قال: «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» ثم أعادها مرارا، ثم رفع أصبعه إلى السماء، فقال: «اللهم هل بلغت» مرارا، قال أحمد: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل، ثم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» . ثم أعلن الله لنبيه كفالته وضمانه بعصمته من الناس، أي أنه يحميه من الفتك والقتل ولا يمكن الأعداء مما يريدون، وقد حاول المشركون قتله وقرروا ذلك في دار الندوة بعد موت أبي طالب، فعصمه الله وهاجر إلى المدينة، وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة، والمراد العصمة من القتل، فلا يعترض عليه بأنه تعرض لأذى المشركين في مكة، وفي الطائف، وبعد الهجرة يوم أحد حيث شج في وجهه، وكسرت رباعيته صلوات الله عليه. روى الترمذي وأبو الشيخ ابن حيان والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية،

وكان العباس ممن يحرسه، فلما نزلت ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحرس» . وروي «أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فذهب ليبعث معه، فقال: يا عم، إن الله حفظني، لا حاجة لي إلى من تبعث» . وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرسه سعد وحذيفة، حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم، وقال: انصرفوا يا أيها الناس، فقد عصمني الله من الناس. وهذه الآية المكية وضعت في سياق تبليغ أهل الكتاب المأمور به في المدينة، لتدل على تعرض النبي صلّى الله عليه وسلّم لإيذائهم، كما تعرض لإيذاء المشركين، والله عصمه من الفريقين. وقيل: نزلت الآية بعد يوم أحد، بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ومعناه: أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وللآية معنى أعم في الواقع وهو: بلّغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء» كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] وقال: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] . ثم كشف القرآن لكل الناس: أهل الكتاب والمسلمين عن حقيقة مهمة جدا هي أن النسبة إلى الدين لا تنفع إلا بالعمل به، فقال: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي قل يا محمد لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لستم على شيء من الدين يعتد به حتى تقيموا التوراة والإنجيل فيما أمرا به من التوحيد الخالص والعمل الصالح، ومما فيهما الإيمان بمحمد والأمر باتباعه والإيمان بمبعثه

فقه الحياة أو الأحكام:

والاقتداء بشريعته، وتعملوا بما أنزل إليكم من ربكم، يعني القرآن العظيم، الذي أكمل الله به الدين وختم برسالة محمد رسالات الأنبياء. ثم كرر تعالى ما ذكر في الآية السابقة (64) : وهو القسم من الله تعالى بأن كثيرا من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن إلا غلوا في تكذيبهم وكفرا على كفرهم، لتعصبهم الموروث وحقدهم وحسدهم حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة 2/ 109] ، وإهمالهم التفكير بإنصاف وتجرد، فلا تأس على القوم الكافرين، أي لا تحزن يا محمد ولا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم، لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم. أما القليل منهم الذين آمنوا بالله وحده لا شريك له وبكتبه ورسله، فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وإسعادا. وبعد الكشف عن تلك الحقيقة المهمة وضع القرآن قانونا عاما لكل الناس، وهو: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله وهم المسلمون، واليهود حملة التوراة أتباع موسى عليه السلام، والصابئون «1» كذلك الخارجون عن الأديان كلها «2» والنصارى أتباع المسيح عليه السلام، من آمن منهم «3» بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا صادقا، وعمل عملا صالحا، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة، ولا هم يحزنون أبدا على لذات الدنيا ونعيمها ولا على شيء يصيبهم في الآخرة، بل هم في جنات النعيم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية التبليغ على رد قول من قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من أمر الدين تقيّة، وعلى بطلان هذا القول من الرافضة. ودلت أيضا على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم

_ (1) مبتدأ وخبره محذوف. (2) ولم يعطف على ما قبله بالنصب لأن الصابئين أشد الفرق المذكورين في الآية ضلالا. (3) بدل منصوب من اسم إن وما عطف عليه.

يسرّ إلى أحد شيئا من أمر الدين لأن المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا. قال ابن عباس: «المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته» وهذا تأديب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه. ودلت آية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة، فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. ودلت آية: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يرشدهم على أن التوفيق إلى الخير والسعادة محجوب من الله عن الذين كفروا، فهم بسبب كفرهم حجبوا رحمة الله عنهم. ودلت آية قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ.. على أن اليهود والنصارى ليسوا في الواقع على شيء من الدين حتى يعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن، فيؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ويعملوا بما يوجبه ذلك عليهم من الكتابين. ومن كفر يزيده الله كفرا على كفره، ويزيده طغيانا أي تجاوزا الحد في الظلم والغلو فيه. والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيم القرآن، فيهتدي بهديه، ويلتزم بحدوده. وأومأت آية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا.. إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، فلا حفظوا نصوص الكتب المنزلة، ولا تركوا ما عندهم على ظواهرها بل أولوها تأويلا فاسدا، ولا آمنوا بالله واليوم الآخر، ولا عملوا الصالحات.

تكذيب اليهود رسلهم وقتلهم إياهم [سورة المائدة (5) الآيات 70 إلى 71] :

تكذيب اليهود رسلهم وقتلهم إياهم [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) الإعراب: أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أن في حالة النصب هذه خفيفة ناصبة للفعل المستقبل. ويجوز الرفع في تَكُونَ على أن تجعل «أن» مخففة من الثقيلة، وتقديره: وحسبوا أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وجعلت أَلَّا عوضا عن تشديدها. وإنما جاز أن تقع «أن» خفيفة مخففة من الثقيلة لأن في «حسب» طرفا من اليقين والشك، والمخففة من الثقيلة إنما تقع بعد فعل اليقين كعلمت وعرفت، وأن الخفيفة تقع بعد فعل الشك كرجوت وطمعت. وتكون هاهنا تامة بمعنى تقع، فلا تفتقر إلى خبر. كَثِيرٌ مِنْهُمْ إما مرفوع على البدل من واو عَمُوا وَصَمُّوا أو مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: العمي والصم كثير منهم أو مرفوع لأنه فاعل عَمُوا وَصَمُّوا وتجعل الواو للجمعية لا للفاعل، على لغة من قال: «أكلوني البراغيث» وهذا ضعيف لأنها لغة غير صحيحة. البلاغة: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ عبر بالمضارع عن حكاية الحال الماضية بما عملوا استحضارا لأوضاعهم القبيحة، ومراعاة لخواتيم الآيات. فَعَمُوا وَصَمُّوا استعار العمى والصمم للإعراض عن الهداية والإيمان.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على الإيمان بالله ورسله بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ من الحق كذبوه فَرِيقاً منهم كذبوه وَفَرِيقاً منهم يَقْتُلُونَ كزكريا ويحيى، والتعبير به دون: قتلوا حكاية للحال الماضية، مراعاة لفواصل الآيات، والمراد: فريقا كذبوه وفريقا قتلوه. وَحَسِبُوا ظنوا أَلَّا تَكُونَ ألا تقع فِتْنَةٌ عذاب بهم على تكذيب الرسل وقتلهم فَعَمُوا عن الحق، فلم يبصروه وَصَمُّوا عن استماعه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم به. المناسبة: الكلام مستمر في شأن أهل الكتاب وتعداد قبائحهم، فبعد أن أبان سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود، أعاد التذكير به مرة أخرى. التفسير والبيان: يذكر الله تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل بالسمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا العهد والميثاق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه. والميثاق: العهد المؤكد، وأخذ الله العهد على اليهود في التوراة بتوحيد الله واتباع أحكام شرع الله، فنقضوا الميثاق وعاملوا الرسل إما بالتكذيب المستلزم للإعراض، وإما بالقتل. وظنوا أن لا يترتب على ما صنعوا شر لهم، وألا تقع بهم فتنة أي اختبار بما فعلوا من الفساد، لزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولكن ترتب على فسادهم سوء، وهو أنهم عموا عن الحق، وصموا آذانهم عن استماعه وعن تدبر آيات الله، فلا يسمعون حقا، ولا يهتدون إليه، فتسلط عليهم البابليون وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم، ثم تاب الله عليهم مما كانوا فيه حين تابوا

فقه الحياة أو الأحكام:

وتركوا الفساد، وأعاد إليهم ملكهم على يد ملك من ملوك الفرس، وعمر لهم بيت المقدس، ورد من كان في أسر بختنصّر إلى وطنهم. ثم عموا وصموا مرة أخرى، حيث طلبوا رؤية الله، وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى بن مريم، وعصوا أوامر الله والرسل، فسلط الله عليهم الفرس، ثم الرومان، فأزالوا ملكهم وسلبوا استقلالهم. وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ يشير إلى أن أكثرهم عصاة، وأقلهم مؤمنون صالحون. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي مطلع عليهم، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم، وعالم بما يدبرونه من الكيد والمكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء والمرسلين. فقه الحياة أو الأحكام: تكررت المعاهدات والمواثيق مع بني إسرائيل ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به، وكل هذا يتناسب مع ما بدئت به سورة المائدة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. ولكن اليهود أعداء الله والإنسانية نقضوا العهود والمواثيق، وقابلوا الرسل إما بالتكذيب والصد والإعراض، وإما بالقتل، فقد كذبوا عيسى وغيره من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] . وإنما اغتروا بطول الإمهال، فعموا عن الهدى، وصموا عن سماع الحق لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. ثم تاب الله عليهم بعد الاختبار، وكشف عنهم الغمة والكربة، وصيرهم أحرارا بعد أن كانوا أسرى مستعبدين.

تأليه المسيح عند المسيحيين مع أنه مجرد بشر رسول [سورة المائدة (5) الآيات 72 إلى 75] :

ثم فسدوا وعصوا، وعمي كثير منهم وصمّ بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولم يتعظوا بشيء أبدا من المواعظ، وأعرضوا عن سماع الحجج والبينات، أي الآيات والبراهين الدالة على الحق والصواب. وهكذا يترنح اليهود بين التوبة والعصيان، وبين الإنقاذ والتعرض للدمار والهلاك، وأكثرهم الفاسقون، والقليل منهم الطائعون. ولن يجد الإنسان في التاريخ شعبا أكثر تعقيدا، وأسوأ طبعا، وأكثر اضطرابا وقلقا من اليهود. لذا تجدهم دائما في مخاوف وحذر، ولن يهدأ لهم بال، ولن ينعموا على مدى الدهر بالاستقرار والاطمئنان، والمثال في فلسطين بالرغم من إقامة دولتهم واضح لكل إنسان. تأليه المسيح عند المسيحيين مع أنه مجرد بشر رسول [سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 75] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

البلاغة:

البلاغة: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وغرس المهابة. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ استفهام توبيخ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ: تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجب. ولفظ ثُمَّ لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات في غاية الوضوح، وإعراضهم عنها أعجب. المفردات اللغوية: لَقَدْ كَفَرَ الكفر: ضد الإيمان، والكفر أيضا: جحود النعمة، والكفر بالفتح: التغطية والستر، يقال كفرت الشيء: سترته، وكفر الفلاح البذر في الأرض: ستره. اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ العبادة: الخضوع والتذلل، ومفاد هذا الكلام: أني أنا المسيح عبد الله مثل سائر العباد، ولست بإله إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادة غير الله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ منعه أن يدخلها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يمنعونهم من عذاب الله. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي أحد آلهة ثلاثة، والآخران: عيسى وأمه، وهم النصارى وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من التثليث ويوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ثبتوا على الكفر مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم وهو النار. غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ به قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فهو يمضي مثلهم وليس بإله، كما زعموا، وإلا لما مضى وزال من الوجود. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ مبالغة في الصدق كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كغيرهما من الناس، ومن كان كذلك لا يكون إلها لتركيبه وضعفه كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ على وحدانيتنا ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى كيف يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق مع قيام البرهان. سبب النزول: قال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن استقصى الله تعالى الكلام مع اليهود وفنّد حججهم، وعدد قبائحهم، شرع هنا في الكلام عن النصارى، وبيّن فساد عقيدتهم في ادعاء ألوهية المسيح عليه السلام، وأنه ولد إلها، أي أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، وهذا في الأصل قول اليعقوبية، ثم ساد بين النصارى. ثم حكى تعالى قول المسيح، ليقيم الحجة القاطعة على فساد قول أتباعه. التفسير والبيان: يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنّسطورية القدامى، والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت الجدد: تالله لقد كفر الذين ادّعوا أن الله هو المسيح ابن مريم، وضلوا ضلالا بعيدا، فقالوا: إن الله مركب من ثلاثة أصول (أو أقانيم) وهي الأب والابن والروح القدس، فالله هو الأب، والمسيح هو الابن، وقد حل الله الأب في المسيح الابن واتحد به، فكوّن روح القدس، وكل واحد من هؤلاء عين الآخر، وخلاصة قولهم: الله هو المسيح. مع أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو صغير في المهد هي: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ثم دعا الناس إلى رسالته فقال: يا بني إسرائيل، اعبدوا الله ربي وربكم، أي توجهوا بالعبادة إلى الله تعالى وحده. وفي قوله هذا دليل قاطع على فساد قول النصارى لأنه لم يفرق بين نفسه وغيره في أن دلائل حدوثه وخلقه مثل غيره من الناس. وأتبع دعوته بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ.. أي إن كل من يتخذ شريكا لله من ملك أو بشر أو كوكب أو صنم أو غيره، فقد حرم الله عليه الجنة في علمه السابق القديم، وفي شرعه لرسله، أي حرمه دخولها، ومنعه منها، ومقره في الآخرة نار جهنم، وليس للظالمين أنفسهم

باتخاذ الشركاء من نصير أو معين ينصرهم، أي لا ينصرهم أحد فيما تقوّلوا على عيسى ولا يساعدهم عليه، لاستحالته وبعده عن المعقول، ولا ينصرهم أيضا ناصر في الآخرة من عذاب الله. وكذلك كفر القائلون: إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما ثالث آلهة ثلاثة، وهو قول النصارى: المسيح ابن الله، أو الله واحد من ثلاثة أقانيم: أب هو الله، وابن هو المسيح، وزوجة هي مريم، أي إن كل فرق النصارى كفار، سواء من قال: إن المسيح ثالث ثلاثة، أو إن المسيح ابن الله، أو إن الله هو المسيح ابن مريم. ومتأخرو النصارى يقولون بالتثليث، أي إن الآلهة ثلاثة، وبالتوحيد أي إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخر. وردّ الله على الجميع بقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي ما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد أحد لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، فهو المتصف بالوحدانية، وليس فيه شيء من صفات البشر، فلا تركيب في ذاته ولا في صفاته، وليس هناك تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أنواع، ولا تعدد أجزاء: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 42/ 11] . وهذه الآية مثل قوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قالَ: سُبْحانَكَ [المائدة 5/ 116] يعني أن الآيتين لنفي تعدد الآلهة. ثم توعدهم الله وأنذر على قولهم فقال: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ... أي إن لم يتجنبوا ويتركوا ما يقولون من هذا الافتراء والكذب وادعاء التثليث، ويعودوا إلى القول بالتوحيد، ليصيبنهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب كفرهم. وفي هذا دلالة على أن إصابة العذاب للذين كفروا خاصة لا الذين تابوا من عقيدة التثليث.

ثم كان من كرم الله تعالى وجوده ولطفه ورحمته مع هذا الكذب والافتراء أنه يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، بأن يتوبوا من شركهم، ويستغفروا الله من عقيدة التثليث، والله غفور للتائبين رحيم بهم. أما المسيح في الحقيقة فهو مجرد رسول، كأمثاله من الرسل المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف 43/ 59] وهو كغيره من الرسل مؤيد بالمعجزات الخارقة للعادة: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 4/ 171] . وأمه صدّيقة، أي مؤمنة به مصدقة له، لها مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين، وليست بنبية «1» ولا لها صفة الألوهية، كما قال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم 66/ 12] . وكل من المسيح وأمه من جنس البشر ونوعهم، بدليل أنهما يأكلان الطعام للحفاظ على معيشتهما وحياتهما، ويقضيان حاجتهما من البول والغائط، ومن صدر منه مثل ذلك، واتصف بالتركيب والضعف والحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وقضاء الحاجة، لا يمكن أن يكون إلها، ولا أن يتصف بأي صفة من صفات الألوهية والربوبية. فانظر أيها العاقل كيف نبين للنصارى الجهلة الدلائل القاطعة الواضحة على بطلان ما يدّعون، ثم انظر بعد هذا البيان والإيضاح كيف يصرفون عن التأمل بهذه الأدلة، وأين يذهبون، وبأي قول يتمسكون.

_ (1) ليست مريم نبية، كما زعم ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استذلالا بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على كفر كل فرق وطوائف ومذاهب النصارى، سواء قالوا: إن المسيح ثالث ثلاثة، أو إن المسيح ابن الله، أو إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم لأنهم في النتيجة يقولون: أب وابن وروح القدس إله واحد، ولا يقولون: ثلاثة آلهة، وهو معنى قولهم جميعا، وإنما يمتنعون من عبارة التثليث ولا يصرحون بها لفظا، وهي لازمة لقولهم لأنهم يقولون: إن الابن إله، والأب إله، وروح القدس إله. فرد الله عليهم بأن الإله لا يتعدد، وإن لم يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فليتوبوا إليه، وليسألوه ستر ذنوبهم. والمراد الكفرة منهم لأنهم القائلون بالتعدد، دون المؤمنين. وما المسيح في حقيقته، وإن ظهرت المعجزات أو الآيات على يديه، كما جاءت بها بقية الرسل، إلا عبد الله ورسول من عنده، فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها. وهذا رد قاطع لقولهم واحتجاج عليهم. ومن تتمة الحجة أن المسيح وأمه الصديقة كانا يأكلان الطعام، أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء، وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين، فمتى يصلح المربوب أن يكون ربا؟! وفي هذا دلالة على أنهما بشران. وقولهم: كان يأكل الطعام بناسوته «البشري» لا بلاهوته، أي أن له طبيعتين: بشرية وإلهية، فهذا منهم اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث، لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره، حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث. وعقب الله تعالى على اعتقاد النصارى: انظر كيف نبين لهم الدلالات على

مناقشة النصارى في تأليه عيسى ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلو في الدين ولعنة بني إسرائيل لعدم النهي عن المنكر [سورة المائدة (5) الآيات 76 إلى 81] :

الألوهية الحقة والوحدانية الصمدانية، ثم انظر كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟!. مناقشة النصارى في تأليه عيسى ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلو في الدين ولعنة بني إسرائيل لعدم النهي عن المنكر [سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) الإعراب: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أن وصلتها يجوز في موضعها النصب والرفع. فالنصب: إما على البدل من ما على أنها نكرة، وإما على حذف اللام، أي لأن سخط. والرفع: على البدل من ما في لَبِئْسَ ما على أنّ ما معرفة.

البلاغة:

البلاغة: قُلْ: أَتَعْبُدُونَ استفهام للإنكار. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء أعمالهم وتعجب منه بالتوكيد والقسم. المفردات اللغوية: مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى لا تَغْلُوا تجاوزوا الحدود، والغلو: نقيض التقصير، وهو الإفراط وتجاوز الحد فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي غلوا باطلا، بأن تضعوا عيسى أو ترفعوه فوق حقه أَهْواءَ قَوْمٍ آراء قوم مبعثها الهوى والشهوة دون الحجة والبرهان قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ بغلوهم وهم أسلافهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً من الناس وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ طريق الحق، والسواء في الأصل: الوسط. لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اللعن: الطرد من الرحمة واللطف الإلهي عَلى لِسانِ داوُدَ بأن دعا عليهم فمسخوا قردة، وهم أصحاب أيلة وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير، وهم أصحاب المائدة ذلِكَ بِما عَصَوْا ذلك اللعن. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم عن بعض يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يوالونهم ويؤيدونهم، وهم أهل مكة بغضا لك. ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لآخرتهم. المناسبة: بعد أن رد الله تعالى على أباطيل اليهود، ثم رد على أباطيل النصارى، وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، أنكر على كل من عبد غير الله من الأصنام والأنداد والأوثان، وأبان أنها لا تستحق شيئا من الألوهية، ثم خاطب مجموع الفريقين من اليهود والنصارى فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ. التفسير والبيان: قل يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين عبدة الأوثان: أتعبدون غير الله الذي لا يقدر على دفع ضر عنكم، ولا جلب نفع

لكم، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء، فلم تعدلون عن عبادته- وهو النافع الحق لكم- إلى عبادة بشر، أو جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم شيئا، ولا يملك البشر والحجر وغيرهما ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه. فإن اليهود الذين عادوا المسيح لم يقدر على إلحاق الضرر بهم، بل حاولوا صلبه وقتله، ولم يتمكن هو بدفع ضررهم عن نفسه، وكذا لم يستطع تحقيق نفع دنيوي لأتباعه وأنصاره وصحبه، وقد تعرضوا للطرد والتعذيب، فكيف يعقل أن يكون إلها؟. ثم أمر الله نبيه أن يقول أيضا لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : يا أهل الكتاب، لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تبالغوا في تعظيم العزير، ولا تعظيم عيسى، حتى تؤلّهوا أحدا منهما فتخرجوا عيسى من مقام النبوة إلى مقام الألوهية، وتجعلوا عزيرا ابن الله، ولا تبالغوا أيضا أيها اليهود في إهانة عيسى وأمه، وتنسبوها إلى الفاحشة. ولا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم النابعة من شهواتهم، وهم شيوخ الضلال الذين ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من الناس، وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال. ثم بيّن الله تعالى سبب ذلك: وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي أنه تعالى لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه، ولعن داود من اعتدى منهم يوم السبت ومن عصى الله، ولعن عيسى العصاة من بني إسرائيل بسبب تمردهم ومخالفتهم أوامر الله. قال ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل، وفي الزبور، وفي الفرقان. كان العالم منهم لا ينهى أحدا عن ارتكاب المآثم

والمحارم، فلبئس الفعل فعلهم، وهذا تقبيح لسوء فعلهم، وتحذير من ارتكاب مثل ما ارتكبوه لأن شيوع المنكر يضر ضررا بليغا بالأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصون المجتمع من الرذيلة، ويذكر بالفضيلة والأخلاق، ويدفع إلى الخير ويحقق السعادة. روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم» . وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله: فاسِقُونَ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ثم لتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه «1» على الحق أطرا، ولتقسرنّه على الحق قسرا، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم» . وأخرج الترمذي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم» . ثم ذكر الله تعالى أحوال المعاصرين من أهل الكتاب لنزول الوحي فقال: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ.. أي ترى يا محمد كثيرا من اليهود يتولون المشركين من أهل مكة، ويحالفونهم، ويحرضونهم على قتالك، ويتركون موالاة المؤمنين.

_ (1) أي تعطفنّه. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة، وحرضوا المشركين على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوتهم، وخابت مساعيهم، ولم يتم لهم ما أرادوا. فكان جزاؤهم تقبيح فعلهم وإنزال الغضب الإلهي عليهم وتخليدهم في العذاب، فقال تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ.. أي بئس شيئا قدمته أنفسهم لآخرتهم من الأعمال التي استوجبت سخط الله عليهم، وإنزال العذاب الأليم بهم، والحكم عليهم بالخلود في نار جهنم. مع أنهم لو آمنوا بالله حق الإيمان وبالرسول والقرآن، لما والوا الكافرين في السر والباطن، وعادوا المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، ولكن الكثيرون منهم فاسقون أي خارجون عن حظيرة الدين، وعن طاعة الله ورسوله، متمردون في النفاق، مخالفون لحكم الله بموالاة المؤمنين ومناصرتهم، أمام أعداء الأديان كلها، وذلك إما لتحريفهم دينهم أو لنفاقهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: إن عبادة غير الله تدل على خرق العقل، وسفاهة الرأي، وضعف التفكير، وطيش الإنسان لأن المعبود هو الذي يرجى منه النفع، ويخاف من عذابه عند التقصير في حقه والمخالفة لأمره، وكل من عدا الله من الكواكب والملائكة والأوثان والأنداد والأنبياء وزعماء البشر والقادة المتفوقين المنتصرين في معركة حربية فاصلة، وإن تأمل الإنسان تحقيق النفع منهم، ودفع الضرر والشر بواسطتهم، فذلك نوع من الوهم والسخف، وانتكاس الفطرة الإنسانية، ومغالطة المعقول والتفكير السليم.

فهذا عيسى الذي ظهرت المعجزات على يديه بإذن الله، لا يستطيع تجاوز ما أجرى الله على يديه من خوارق العادات، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وإذا أقررتم أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، وكان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟ ومن كان يدبر الكون قبل ولادته، ومن الذي يدبره بعد وفاته؟ فالحق يا أهل الكتاب أن تلتزموا الاعتدال، ولا تتبعوا الأهواء والعصبيات والتقليد الأعمى الموروث، ولا تنخدعوا بآراء شيوخ الفتنة والضلال وأصحاب المصالح المادية. وإن تقصير علماء بني إسرائيل في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدى بهم إلى إنزال اللعنة الإلهية بهم في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فهل هناك أشد عقابا من ذلك؟ وليحذر المسلمون من تقليد من استحق اللعنة والطرد من رحمة الله. قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال العلماء: ليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. واقتضى قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي، ودلت الآية على النهي عن مجالسة المجرمين والأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله تعالى في الإنكار على اليهود: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين الذين ليسوا على دينهم، فلبئس ما سولت لهم أنفسهم وزينت.

ودل قوله تعالى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ على أن من اتخذ كافرا وليا (ناصرا) فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. انتهى الجزء السادس ولله الحمد

علاقة اليهود والنصارى بالمؤمنين عداوة اليهود وإيمان القساوسة والرهبان [سورة المائدة (5) الآيات 82 إلى 86] :

[الجزء السابع] [تتمة سورة المائدة] علاقة اليهود والنصارى بالمؤمنين عداوة اليهود وإيمان القساوسة والرهبان [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) الإعراب: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من أَعْيُنَهُمْ لأن تَرى هاهنا من رؤية العين. لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ: في موضع نصب على الحال من ضمير لَنا كقولهم: مالك قائما. فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها: بِما قالُوا: ما مصدرية وهي مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، وتقديره: بقولهم. جَنَّاتٍ مفعول ثان لأثابهم تَجْرِي جملة فعلية في موضع نصب على الوصف لجنات. خالِدِينَ فِيها: حال من الهاء والميم في فَأَثابَهُمُ.

البلاغة:

البلاغة: عَداوَةً ... ومَوَدَّةً بينهما طباق. تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ معناه: تمتلئ من الدمع حتى تفيض، استعار الفيض الذي هو الانصباب لامتلاء العين بالدمع حتى تفيض مبالغة لأن الفيض: أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء (الكشاف: 1/ 479) . المفردات اللغوية: النَّاسِ هم اليهود العرب ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل. عَداوَةً اعتداء وبغضاء، والعداوة ضد المسالمة والمحبة الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم الذين جعلوا مع الله إلها آخر كعبدة الأوثان من أهل مكة، وسبب عداوتهم للمؤمنين: هو زيادة كفرهم وجهلهم وإغراقهم في اتباع الهوى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ أي قرب مودتهم للمؤمنين بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ جمع قسّ وقسّيس، وهو أحد رؤساء النصارى، العالم بالدين والكتب فوق الشماس ودون الأسقف، والقسيسون: علماء النصارى وَرُهْباناً عبادا، جمع راهب: وهو العابد المتفرع للعبادة في دير أو صومعة. وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتباع الحق، كما يستكبر اليهود وأهل مكة. ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ القرآن تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ تمتلئ دمعا حتى يتدفق من جوانبها، لكثرته آمَنَّا صدّقنا بنبيك وكتبك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المقربين الذين يشهدون بربوبيتك وألوهيتك وبتصديق نبيك. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ لم لا نبادر إلى الإيمان مع وجود مقتضيه وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ القرآن أَنْ يُدْخِلَنا الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المؤمنين. فَأَثابَهُمُ جازاهم بِما قالُوا أي بما أعلنوا من اعتقاد. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه

المناسبة:

كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين، ثم أمر جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً إلى قوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي ثلاثين رجلا من خيار أصحابه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم الآية. وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.. وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه «1» . قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به. قال الطبري: والصواب في ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام، فأسلموا لما سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه «2» . المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أحوال أهل الكتاب، فأوضح مخازي اليهود وعيوبهم، ومن أهمها قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [آل

_ (1) أسباب النزول للسيوطي، أسباب النزول للواحدي. (2) تفسير الطبري: 7/ 3.

التفسير والبيان:

عمران 3/ 181] ، وأبان زيف عقيدة النصارى في التثليث وتأليه المسيح، ذكر هنا موقفهم في العداوة والمحبة من المؤمنين، ونبه على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، بل إنهم أشد عداوة من المشركين لتقديم ذكرهم على ذكر المشركين، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن مردويه عن أبي هريرة: «ما خلا يهودي بمسلم قط إلا همّ بقتله» وذكر تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم. التفسير والبيان: أقسم الله تعالى بذاته على أن أشد الناس المعاصرين للتنزيل عداوة للمؤمنين هم اليهود لأن كفرهم كفر عناد وجحود وهضم للحق، بل إن عداوتهم أشد من عداوة المشركين لتقديمهم في الذكر، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة، وسموه وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين، ثم يليهم في العداوة والبغضاء المشركون عبدة الأوثان لجهلهم بحقائق الدين، وبالإله الحق، وبالنبوات، والفريقان متشابهان في الكفر والعتو والبغي وغلبة الحياة المادية وحب الذات. وأشد ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى، كان من يهود الحجاز، ومن مشركي العرب في الجزيرة، وخاصة أهل مكة والطائف. ووالله إن أقرب الناس محبة ومودة للمؤمنين: الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أي قالوا: إنهم أتباع المسيح والإنجيل، فكان فيهم في الجملة مودة للإسلام وأهله، لما في قلوبهم على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد 57/ 37] وفي الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» . وقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم من النصارى خيرا، فتلقى نصارى الحبشة المؤمنين

المهاجرين إليها بالحماية والتكريم، هربا من أذى المشركين، ورد هرقل ملك الروم النصارى كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ردا حسنا، بعد أن حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام، وكان المقوقس عظيم القبط في مصر أحسن منه ردا، فأرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هدية، وبعد فتح مصر والشام أسلم كثير من النصارى في تلك البلاد، لما رأوا في الإسلام من مزايا، وأسلم أصحمة النجاشي ملك الحبشة مع بطانته، ولما مات صلّى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الجنازة على الغائب ونعاه للناس. وكان سبب مودة النصارى للمؤمنين: أنه يوجد فيهم قسيسون (علماء) ورهبان (عبّاد) يدعون للإيمان والفضيلة والتواضع، والزهد والتقشف، ولا يستكبرون عن سماع الحق والإنصاف وينقادون له، فوصفهم الله بالعلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتّباعه، والإنصاف. وإذا سمعوا شيئا من القرآن المنزل على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، بكوا بكاء حارا غزيرا تعاطفا مع كلام الله، وما عرفوا من الحق، مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يبادرون لقبول دعوة الإيمان قائلين: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، والمراد به إنشاء الإيمان والدخول فيه أي آمنا بك وبرسلك وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فاكتبنا مع من يشهد بصحة هذا المنزل على الأنبياء ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويشهد لك بالوحدانية. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة، كما قال تعالى في خصائص أمة المصطفى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] . ثم أكدوا قولهم فقالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ.. إنكار استبعاد أي ولا مانع يمنعنا من الإيمان بالله، واتباع الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين أتباع هذا النبي الكريم الذين ثبت لنا صلاحهم وصحة إيمانهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهؤلاء الذين آمنوا من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران 3/ 200] وفي قوله تعالى أيضا: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 52- 55] . لذا جازاهم الله على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، فقال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... أي جعل جزاءهم دخول الجنة دار النعيم، التي تجري من تحتها الأنهار، أي تسيل مياهها من تحت أشجارها، وهم ماكثون فيها أبدا، وهذا هو جزاء المحسنين: الذين أحسنوا في اتباعهم الحق وانقيادهم له مهما كان مصدره، ونعيم الآخرة يصعب علينا معرفته وتحديده، لقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] . أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، أي جحدوا بها وخالفوها، وأنكروا وحدانية الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فأولئك هم أهل النار والداخلون فيها، والمقيمون إقامة دائمة فيها. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات مثل عال دقيق للإنصاف والحق والعدل، إذا أنها قسمت الناس إلى فريقين: فريق المؤمنين والموالين لهم وجزاؤهم جنات النعيم، وفريق المشركين والكفار الموالين لهم من اليهود وجزاؤهم نيران الجحيم. إنه إنصاف من الناس لأنفسهم وإنصاف من الله تعالى لهم. لقد أنصف جماعة من النصارى أنفسهم بسبب إذعانهم لدين الحق والتوحيد، فآمنوا بالله ورسوله وبالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يعلّمون الناس أصول الدين

الصحيح من توحيد الله تعالى والتصديق بجميع الأنبياء والدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، وكانوا يتعبدون بإخلاص في الأديرة والصوامع ويخشعون لخالق الأرض والسماء، وليس لهم مطمع في مصالح دنيوية، أو رئاسة فارغة، ولم تعمهم العصبية لدين ما عن ولائهم لدين آخر، ولم تحجبهم عن إعلان إيمانهم بالله ورسله وبما أنزل الله. فتراهم بما استقر في جوانحهم من إيمان صحيح بالله وبالأنبياء يصغون إصغاء تدبر وإمعان وإنصاف للحقائق لما أنزل إلى الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتفيض أعينهم بالدموع، بسبب ما وجدوا من تطابق الحق الذي عرفوه وما سمعوه في القرآن الكريم، فسألوا الله أن يتقبل منهم، وجددوا إيمانهم بالله وبرسله، وطلبوا أن يكونوا من جملة الشاهدين بحق على صدق وصحة دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والشاهدين بالحق من قوله عز وجل، والشاهدين على سائر الأمم يوم القيامة بتبليغ أنبيائهم لهم رسالة الله الحقة. وهذه أحوال العلماء العاملين المنصفين يذعنون للحق ويستجيبون للإيمان الصحيح، وتخشع جوارحهم لذكر الله، كما قال سبحانه وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] . والخلاصة: لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وأن أقرب الناس مودة للمؤمنين هم نصارى ذلك الزمان. ومن علائم إنصاف أولئك النصارى الذين آمنوا بدعوة الإسلام إيمانا جريئا عدا اعترافهم بصحة المنزل من القرآن في شأن عيسى عليه السلام وإثبات البعث

إباحة الطيبات [سورة المائدة (5) الآيات 87 إلى 88] :

والحساب، هو إنكارهم عدم الإيمان بالحق حينما قالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ فدلّ ذلك على استبصارهم في الدين ومعرفتهم الحق، وانصياعهم له، دون عتو ولا استكبار ولا إعراض مثلما فعل اليهود والمشركون. وكان الإنصاف من الله تعالى: أنه جازى أولئك المؤمنين بدينهم الحق وبدين الإسلام الحق المصدق له والمكمل له، كما قال سبحانه: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... وهذا دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالتهم، فأجاب الله سؤلهم وحقق طمعهم، وذلك عدل الله وفضله أنه يمنح رضوانه وجنته لمن آمن بإخلاص وعمل صالحا بصدق ويقين. وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة. والعدل يقضي أيضا أن الذين كفروا من اليهود والنصارى والمشركين، وكذبوا بالدلائل الواضحة على وجود الله ووحدانيته وصدق أنبيائه، أولئك أصحاب الجحيم، أي النار الشديدة الاتقاد. إباحة الطيبات [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) الإعراب: حَلالًا حال مما رزقكم الله، كما قال الزمخشري، أو مفعول به ل كُلُوا، ومِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حال منه، وسوغ مجيء الحال من النكرة تقدمها عليها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لا تُحَرِّمُوا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم طَيِّباتِ ما تستطيبه الأنفس، وهي ما لذّ وطاب من الحلال وَلا تَعْتَدُوا تتجاوزوا أمر الله ولا تتخطوا الحدود المقررة شرعا، أو لا تسرفوا في تناول الطيبات، أو لا تعتدوا بتحريم الطيبات وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حَلالًا حال كون ما رزقكم الله من الحلال لا من الحرام طَيِّباً غير مستقذر ولا نجس. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، منهم عثمان بن مظعون، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني» . وفي رواية السدي: أنهم كانوا عشرة، منهم ابن مظعون وعلي بن أبي طالب. وأخرج بن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة، وقدامة تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية. فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا وأفطروا، فليس منا

المناسبة:

من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وعن ابن مسعود: أن رجلا قال: إني حرمت الفراش، فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك، وكفر عن يمينك. والخلاصة: اتفقت الروايات على أن هذه الآية نزلت في قوم من الصحابة هموا أن يلازموا الصوم وقيام الليل، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفراش. المناسبة: بدئت سورة المائدة بالأمر بإيفاء العقود، وذلك يشمل التزام حدود الله وما أحله الله واجتناب ما حرمه، ثم نص تعالى على عدم إحلال ما حرم الله بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وهذه الآية لبيان النوع المقابل وهو تحريم ما أحل الله. وهي أيضا مرتبطة بما قبلها، فبعد أن مدح الله النصارى بأنهم أقرب مودة للمؤمنين بسبب وجود قسيسين ورهبان منهم، فهم بعض المؤمنين بأن في هذا ترغيبا في الرهبانية وتحسينا للتقشف والزهد، وذلك بترك الطيّبات من الطعام واللباس والنساء. فنهاهم تعالى عن منع أنفسهم من الطيبات، كالذي فعله القسيسون والرهبان، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم، وساح في الأرض بعضهم «1» . التفسير والبيان: يا أيها المؤمنون لا تحرموا على أنفسكم ولا تمنعوها من الطيبات: وهي ما تستلذه الأنفس، لما فيها من المنافع، بأن تتركوا التمتع بها تقربا إلى الله، ولا تتعدوا حدود ما أحل الله إلى ما حرم عليكم، أو: ولا تسرفوا في تناول

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 6

الطيبات، أو: ولا تعتدوا بتحريم الطيبات، فكان الاعتداء شاملا أمرين: الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه، كقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف 7/ 31] والاعتداء بتجاوزه إلى غيره من الخبائث. وسبب النهي عما ذكر أن الله يبغض المعتدين ويعاقب المتجاوزين حدود شرعه، وتحريم حلاله ولو بقصد عبادته، سواء كان التحريم بيمين أو نذر أو بغيرهما. وفي هذا انسجام مع مبدأ وسطية الإسلام واعتداله، فلا إسراف ولا تقتير، ولا امتناع عن المادية ولذائذ الحياة المشروعة، ولا رغبة في الرهبانية والزهد المؤدي إلى الكبت وتعذيب النفس وإضعاف الجسد وحرمانه، كما لا إغراق في الشهوات وانتهاب اللذات فوق القدر المعتاد المتوسط. وبعد أن نهى تعالى عن منع النفس من طيبات الحياة، أمر بنحو إيجابي على سبيل الإباحة بالأكل مما أحلّ الله لكم وطاب، مما رزقكم الله من الحلال، لا من المحرّمات بنفسها كالميتة والدّم المسفوح ولحم الخنزير، ولا من الحرام بطريق الكسب كالرّبا والقمار والسرقة والسّحت وغير ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. وهذا يدلّ على أنّ الرّزق يتناول الحلال والحرام، ووجود الحرام للاختبار ومعرفة مدى مجاهدة النفس بحملها على ما أحلّه الله، ومنعها مما حرّمه الله. ثم وضع الله ظابطا ليس في العبادة وحدها، وإنما في الأمور المعاشية المعتادة أيضا، وهو الأمر بتقوى الله، والاعتصام بحدود الله، أي فاتّقوا الله الذي آمنتم به في كل شؤون المعيشة والحياة من أكل وشرب ولباس ونساء وغيرها، ولا تتجاوزوا المشروع في تحليل ولا تحريم.

فقه الحياة أو الأحكام:

والأمر بالتقوى هنا إنما ذكر للحثّ على المحافظة على ما أوصى به الله، والمداومة عليه وإيراده عقب النّهي عن تحريم الطّيبات والأمر بالأكل من الرّزق الطيب الحلال: للدلالة على أنه لا منافاة ولا تغاير بين الاستمتاع بطيبات الرزق وبين التقوى. ونظير هذه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة 2/ 172] ، وقوله عزّ وجلّ: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة-: «إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون 23/ 51] ، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة 2/ 172] » . والمراد بالطّيّبات: الحلال، كما قال النّووي. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية من أصول الإسلام الداعية إلى التّوسّط والاعتدال، والأخذ باليسر والسّماحة، والبعد عن التّنطّع في الدّين، وعن الأخذ بمشاق الأعمال المضنية للنّفس البشرية، ومراعاة متطلّبات الحياة، ودواعي الفطرة السليمة السوية من إيفاء حقّ الرّوح والجسد. وفيها دليل على حرمة الرّهبانية، وقد صرّح القرآن بأنها مبتدعة، وورد في السّنّة النّبويّة عنه عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الدارمي أنه قال: «إني لم أومر بالرّهبانية» ورواية أحمد: «إن الرهبانية لم تكتب علينا» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منّي» . وأخرج مسلم عن أنس أنّ نفرا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن

عمله في السّر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . وخرّجه البخاري عن أنس أيضا بلفظ آخر، قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، فقال أحدهم: أما أنا، فإنّي أصلّي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله، إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . وهذا صريح في نبذ التّزمّت والتّشدّد والمبالغة في التّديّن، وهو صريح أيضا في أنّ الإسلام دين اليسر والسّماحة، أخرج الإمام أحمد عن أنس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا الدّين متين، فأوغلوا فيه برفق» . وأخرج أحمد أيضا عن أبي أمامة الباهلي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّي لم أبعث باليهوديّة ولا النّصرانية، ولكنّي بعثت بالحنيفية السّمحة» . وقال علماء المالكية: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها ردّ على غلاة المتزهّدين، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين إذ كلّ فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه «1» قال الطّبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيّبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقّة، ولذلك ردّ

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 262

النّبي صلّى الله عليه وسلّم التّبتّل على ابن مظعون «1» ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه لأمته، واتّبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان كذلك تبيّن خطأ من آثر لباس الشعر والصّوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حلّه، وآثر أكل الخشن من الطّعام، وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. وتأكّد مفهوم أوّل الآية بآخرها: وَلا تَعْتَدُوا فقد تضمن ذلك النّهي عن أمرين: أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخّصوا فتحلّوا حراما، كما قال الحسن البصري. وقال الإمام مالك: من حرّم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحلّ الله، فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة: إنّ من حرّم شيئا صار محرّما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة. قال القرطبي: وهذا بعيد والآية تردّ عليه. وقال الشافعي وسعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال. وقوله تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً يشتمل التّمتّع بالأكل والشرب واللّباس والرّكوب ونحو ذلك. وخصّ الأكل بالذّكر لأنّه أعظم المقصود وأخصّ الانتفاعات بالإنسان. أمّا التّمتّع بالكماليات والتّرفه بالفاكهة ونحوها، فرأى بعضهم صرف النفس عنها، حتى لا يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها، ورأى آخرون: أن تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها

_ (1) أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل، فنهاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.

اليمين اللغو واليمين المنعقدة وكفارتها [سورة المائدة (5) آية 89] :

ونشاطها بإدراك إرادتها، والحقّ التوسّط والاعتدال في ذلك لأن في إعطاء النفس مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين. وكان طعام النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كاللحوم، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير مع الملح أو الزيت أو الخل، وأحيانا يجوع وأخرى يشبع، فكان في عادته قدوة للموسر والمعسر، أو الغني والفقير، وينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف، لقوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطّلاق 65/ 7] . وكان يهتم بالشراب أكثر من الطّعام، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحلو البارد» . اليمين اللغو واليمين المنعقدة وكفّارتها [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) الإعراب: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يحتمل أن تكون «ما» مصدرية أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنّيّة، ويحتمل أن تكون اسم موصول. مِنْ أَوْسَطِ متعلّق بمحذوف، صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط. أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على إطعام، إما باعتبار أن الكسوة مصدر أو على إضمار مصدر.

البلاغة:

البلاغة: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، والمراد عتق النفس. المفردات اللغوية: بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو الكائن في اليمين: وهو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف، كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله. عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي قصدتم اليمين أو حلفتم عن قصد، وتعقيد اليمين: المبالغة في توكيدها. فَكَفَّارَتُهُ الكفارة من الكفر وهو السّتر والتّغطية، ثم صارت في الاصطلاح الشرعي اسما لما يزيل أثر اليمين من الذّنب والمؤاخذة عليه حال الحنث فيه. إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ لكل مسكين مدّ (675 غم) . مِنْ أَوْسَطِ الوسط في الطعام والغالب في أقوات الناس، لا الأعلى ولا الأدنى. أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي ما يسمى كسوة عرفا وعادة كقميص وعمامة ورداء وإزار، ولا يكفي في مذهب الشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد بل لا بدّ من التّعدّد: ثلاثة فأكثر. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عتق رقبة، ويشترط كونها عند الجمهور غير الحنفية مؤمنة كما في كفارة القتل والظهار، حملا للمطلق على المقيد. وهذه كفارة يمين الموسر. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا من خصال الكفارة المذكورة بأن كان معسرا معدما. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ كفارته، وظاهره أنه لا يشترط التتابع، وهو مذهب المالكية والشافعية، واشترط الحنفية والحنابلة التتابع لقراءة ابن مسعود «متتابعات» . وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس، كما تقدّم في سورة البقرة. كَذلِكَ أي مثل ما بيّن لكم ما ذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكام شريعته. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروه على ذلك. سبب النّزول: روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا النّساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها، فأنزل الله تعالى ذكره: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ الآية. علّق الطّبري على ذلك بقوله: فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم «1» .

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 10

المناسبة:

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن يعلى بن مسلم قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية.. قال: اقرأ ما قبلها فقرأت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.. إلى قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ. المناسبة: هذه متعلّقة بما قبلها لأن الله تعالى بعد أن نهى عن تحريم الطّيّبات بسبب قوم أرادوا الزّهد والتّقشّف والتّرهّب في الحياة تقرّبا إلى الله، سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عمّا يصنعون بأيمانهم التي حلفوها، فأجابهم الله عزّ وجلّ بإنزال حكم كفارة الأيمان. التفسير والبيان: لا مؤاخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد، ولا يتعلّق بها حكم، وهي اليمين اللغو: وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد، قالت عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو كلام الرحل في بيته: لا والله، وبلى والله» . وهذا مذهب الشافعي، وقال باقي الأئمة (الجمهور) : هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النّفي والإثبات. بدليل ما روي عن ابن عباس في لغو اليمين: أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، وهو مروي أيضا عن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء أنه كذلك، وليس كما ظنّ. ولكن يؤاخذكم باليمين المنعقدة: وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وهناك نوع ثالث هي اليمين الغموس: وهي في رأي الحنفية: اليمين الكاذبة قصدا في الماضي أو في الحال. فتصير الأيمان ثلاثة أنواع: يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس. أخرج الطبري عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها، فأما اليمين التي تكفر: فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله، فعليه

الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو «1» . واليمين المنعقدة: هي التي يكون الحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ولا تنعقد اليمين بالحلف بغير الله من المخلوقات كنبيّ أو وليّ، بل إنه حرام. وقد اختلف الفقهاء في اليمين الغموس على رأيين، فقال الحنفية والمالكية: لا كفارة فيها لأن جزاء الغموس الغمس في جهنم. وقال الشافعية وجماعة: تجب الكفارة فيها لأن الله يقول: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ومن تعمد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به لأنه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله: فَكَفَّارَتُهُ. ورأى الحنفية والمالكية أن المؤاخذة بما كسبت القلوب هو عقاب الآخرة، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران 3/ 77] ، فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة. وروى البيهقي والحاكم عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة، تبوّأ مقعده من النار» ، ولم يذكر الكفارة. وروى البخاري ومسلم وغيرهما (الجماعة) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين صبر «2» ، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان» .

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 11. (2) اليمين الصبر: التي ألزم بها وأكره عليها، والصبّر: الإكراه.

ثمّ بيّن الله تعالى نوع المؤاخذة على اليمين المنعقدة فقال: فَكَفَّارَتُهُ الضمير إما عائد على الحنث المفهوم من السياق، أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف، أي فكفارته نكثه. والحانث عليه الكفارة سواء أكان عامدا أم ساهيا وناسيا أم مخطئا، أم نائما ومغمى عليه ومجنونا أم مكرها. والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال: إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين في رأي الجمهور مدّ طعام (قمح) والمدّ (675 غم) من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد، ليس بالأجود الأعلى، ولا بالأردإ الأدنى، وهو أكلة واحدة خبز ولحم، لقول الحسن البصري ومحمد بن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما. وقدّره الحنفية بما يجب في صدقة الفطر وهو نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير أو دقيق، أو قيمة هذه الأشياء (والصاع 2751 غم) . وهو أكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، لقول علي رضي الله عنه: يغديهم ويعشيهم. أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، يعطي لكلّ فقير رداء متوسطا مثل «الجلابية» أو قميصا أو سروالا أو عمامة في رأي الشافعية، ولم يجز الحنفية الكسوة بالسروال والعمامة، لأن أدنى الكسوة عندهم: ما يستر عامة البدن. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق نفس، إذ كان الرقيق موجودا، بشرط أن تكون في رأي الجمهور مؤمنة، مثل كفارة القتل الخطأ والظهار، حملا للمطلق على المقيد. ولم يشترط الحنفية كونها مؤمنة فيجزئ إعتاق الكافرة، عملا بإطلاق النّصّ الوارد هنا، ويجب إبقاء موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكلّ نصّ على حدة لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النّص.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي من لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة، أو من لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة، فعليه صيام ثلاثة أيام، متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة، ولا يشترط التتابع في مذهب المالكية والشافعية. ودليل الرأي الأول: ما أخرج الحاكم وابن جرير الطبري وغيرهم من طريق صحيح أن أبي بن كعب كان يقرأ هكذا «ثلاثة أيام متتابعات» ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وهو ثابت في مصحف الربيع، كما قال سفيان الثوري. ورواه ابن مردويه عن ابن عباس: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . ورأى الفريق الثاني أن هذه قراءة شاذّة لا يحتجّ بها، وإنما يحتجّ بالمتواتر. والاستطاعة: أن يكون مالكا ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة، وهذا ما اختاره ابن جرير: أنه الذي يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين. وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم، لزمه الإطعام وإلا صام. ولا وقت للكفارة، وإنما يستحبّ تعجيلها، فإن مرض صام عند القدرة، فإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته. وللوارث أن يتبرع بالكفارة. ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي هذه كفارة اليمين الشرعية إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه أو صفاته وحنثتم. وترك ذكر الحنث المعروف بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بالحلف نفسه، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند الحنفية، ويجوز بالمال إذا لم يعص الحانث عند الشافعي. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي فبرّوا بها ولا تحنثوا. وقيل: وهو ما اختاره القرطبي: احفظوها بأن تكفّروها إذا حنثتم، قال ابن جرير: معناه لا تتركوها

فقه الحياة أو الأحكام:

بغير تكفير. وأراد الأيمان التي يكون الحنث فيها معصية ومخالفة لما حدث القسم عليه. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي مثل ذلك البيان، يبيّن الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه، أي يوضحها ويفسّرها. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ليعدّكم بذلك إلى شكر نعمته فيها يعلمكم ويسهّل عليكم المخرج منه. ويحرم الحنث في اليمين إذا كانت على فعل واجب أو ترك حرام، ويندب الوفاء ويكره الحنث إذا تمّ الحلف على فعل مندوب أو مباح، ويجب الحنث في اليمين والكفارة إذا حلف على معصية أو حرام، لما رواه أصحاب الكتب الستة إلّا ابن ماجه عن عبد الرّحمن بن سمرة أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» ، ولحديث عائشة الذي رواه ابن ماجه: «من حلف في قطيعة رحم، أو فيما لا يصلح، فبرّه ألا يتمّ على ذلك» أي ألا يوفي به، ولكن تجب عليه الكفارة. وتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء أكانت في طاعة أم في معصية أم في مباح. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على حكم يمين اللغو واليمين المنعقدة. أما يمين اللغو: وهي الجارية على اللسان دون قصد اليمين، فلا كفارة فيها، والحلف بها لا يحرّم شيئا، إذ لا مؤاخذة فيها بنصّ القرآن، وهو دليل الشافعي على أنّ هذه اليمين لا يتعلّق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو، مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر. روي أن عبد الله بن

رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل، فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك فقال: لا، والله لا آكل الليلة فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل وقال أيتامه: ونحن لا نأكل فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال له: «أطعت الرّحمن وعصيت الشيطان» ، فنزلت الآية. والأيمان في الشريعة بحسب المحلوف عليه نفيا وإثباتا على أربعة أقسام: يمينان يكفّران: وهو أن يقول الرّجل: والله لا أفعل فيفعل، أو يقول: والله لأفعلنّ ثم لا يفعل، وهذان لا اختلاف فيهما بين العلماء ويمينان لا يكفّران: وهو أن يقول الرّجل: والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت وما فعل، وهذان مختلف فيهما بين أهل العلم: فقال الجمهور: إن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا وعند نفسه يرى أنه صادق على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه. وقال الشافعي: لا إثم عليه وعليه كفّارة. واتّفق العلماء على أن يمين اللغو لغو فيما إذا قال الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير المنعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. وأما اليمين المنعقدة: وهي التي تحلف عن عمد وقصد وتصميم، فتوجب الكفارة بالحنث فيها. وهل اليمين الغموس يمين منعقدة أو لا؟ يرى الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب، فلا تنعقد ولا كفارة فيها، وإنما فيها الإثم لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه» وهذا يدلّ على أن الكفارة إنما

تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله. وقال الشافعي: هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة. ورجّح القول الأوّل، لأن الأخبار دالّة على أن اليمين التي يحلف بها الرّجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفّرها ما يكفّر اليمين. من هذه الأخبار عدا ما تقدم: حديث البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر، قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: «التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب» . وخرّج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك» . والمحلوف به: هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرّحمن والرّحيم والسّميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزّته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات. وأما الحلف بحقّ الله وعظمة الله، وقدرة الله، وعلم الله، ولعمر الله، وايم الله، ففيه اختلاف، قال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي: في: وحقّ الله وجلال الله وعظمة الله، وقدرة الله: يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين لأنه يحتمل: وحقّ الله: واجب الله

وقدرته النافذة، وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله: إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين. وقال الحنفية: إذا قال: وعظمة الله وعزّة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله، فحنث، فعليه الكفارة. والحلف بالقرآن أو المصحف يمين في المذاهب الأربعة لأن الحالف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه: وهو القرآن، فإنه ما بين دفّتي المصحف بإجماع المسلمين. ولا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتمّ الإيمان إلا به، فتلزمه الكفارة، كما لو حلف بالله. ويرد عليه بما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته. وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف منكم، فقال في حلفه باللات، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق» . وقال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النّبي أو من القرآن، أو أشرك بالله، أو كفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفارة. ولا تلزم فيما إذا قال: واليهودية والنصرانية والنّبي والكعبة، وإن كانت على صيغة الأيمان. وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين واختلفوا إذا قال:

أنواع الأيمان بحسب المحلوف عليه:

«أقسم، أو أشهد ليكونن كذا وكذا» ولم يقل: بالله، فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله، لم تكن أيمانا تكفّر. وقال أبو حنيفة: هي أيمان في الموضعين. وقال الشافعي: لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى. وإذا قال: أقسمت عليك لتفعلنّ كذا، فإن أراد سؤاله، فلا كفّارة فيه، وليست بيمين، وإن أراد اليمين كان يمينا. ومن حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة، كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته، لا شيء عليه لأنها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى. أنواع الأيمان بحسب المحلوف عليه: الأيمان باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أنواع: 1- يمين بالله تعالى، كقوله: والله لأفعلنّ كذا، حكمها أنها يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث. 2- يمين بغير الله تعالى، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والملوك والآباء، حكمها أنها يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هي منهي عنها حرام، كما دلّت الأحاديث المتقدمة. 3- يمين في معنى الحلف بالله، يريد بها الحالف تعظيم الخالق، كالحلف بالنذر والحرام والطّلاق والعتاق، مثل: إن فعلت كذا فعليّ صوم شهر، أو الحجّ إلى بيت الله الحرام، أو الطّلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلته فامرأتي طالق أو عبدي حرّ، أو ما أملكه صدقة أو نحو ذلك، وحكمها الصحيح أنه يجزئه كفارة يمين في جميع ذلك، كما قال تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ،

وقال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح عنه: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه» وهو رأي الشافعي وأحمد. وأوجب مالك وأبو حنيفة تنفيذ المحلوف عليه في حالة اليمين بالمشي إلى مكة، فمن حلف على ذلك فعليه أن يفي به. والأيمان في مذهب الحنفية مبنية على العرف والعادة، لا على المقاصد والنّيّات، فمن حلف لا يأكل لحما، لا يحنث بأكل السّمك إلا إن نواه لأنه لا يسمّى لحما عرفا. وفي مذهب المالكية والحنابلة: المعتبر هو النّيّة، وفي مذهب الشافعي: المعتبر صيغة اللفظ. واتّفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوي تكون بحسب نيّة المستحلف لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «اليمين على نيّة المستحلف» . وقال جمهور العلماء: إذا انعقدت اليمين حلّتها الكفارة أو الاستثناء، بشرط أن يكون متّصلا منطوقا به لفظا لما روى النسائي وأبو داود عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف فاستثنى، فإن شاء مضى، وإن شاء ترك عن غير حنث» فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه. ولا خلاف أن الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله، فقال الشافعي وأبو حنيفة: الاستثناء يقع في كلّ يمين كالطّلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى. وأجاز جمهور الفقهاء تقديم الكفارة على الحنث لما خرّجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنّي والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» ولأن اليمين سبب الكفارة، لقوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا

حَلَفْتُمْ فأضاف الكفارة إلى اليمين، والمعاني تضاف إلى أسبابها، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البرّ فيجوز تقديمها قبل الحنث. إلا أنّ الشافعي قال: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصّوم، لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته. وقال الحنيفة: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث بوجه ما لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حلف على يمين، ثم رأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير» زاد النسائي: «وليكفّر عن يمينه» ، ولأن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع، فلا معنى لفعلها قبل الحنث، ومعنى قوله تعالى: إِذا حَلَفْتُمْ أي إذا حلفتم وحنثتم، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ، اعتبارا بالصّلوات وسائر العبادات. ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير بالنسبة للموسر، والطعام أفضل للبدء به، وكان هو الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم. ولا بدّ في رأي الجمهور من تمليك المساكين ما يخرج لهم من الطعام، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرّفوا فيه لأنه أحد نوعي الكفارة، فلم يجز فيها إلا التمليك، كالكسوة. وقال الحنفية: لو غداهم وعشاهم جاز لأن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك، والإطعام لغة: هو التمكين من الأخذ، لا التمليك، ولأن المسكنة هي الحاجة، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه. ولا يجوز أن يطعم غنيّا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، ويجزئ في رأي مالك الإطعام لقريب لا تلزمه نفقته، ولكنه مكروه.

ولا يجوز في مذهب مالك والشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد. ولا يجوز عند الحنفية صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، أما إن صرفها إلى مسكين واحد عشرين يوما، جاز لأن المقصود قد حصل. وأدنى الكسوة في رأي الحنفية: ما يستر جميع البدن، فيعطى لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء. وتقدر الكسوة في مذهب الحنابلة، بما تجزئ الصلاة فيه. ويجزئ عند المالكية ما يطلق عليه اسم الكسوة من قميص أو إزار أو رداء أو جبّة أو سراويل أو عمامة. وتجزئ القيمة عند الحنفية كما تجزئ في الزكاة لأن الغرض سدّ الخلّة (الحاجة) ورفع الحاجة. ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة في رأي الجمهور، التزاما للنّص. وأجاز الحنفية دفع الكفارة والنذور لا الزكاة إلى فقراء أهل الذّمّة لأنّ الذّمي الفقير يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. ولا يجوز ذلك عند الجمهور، كالزكاة. واشترط الجمهور إعتاق رقبة مؤمنة كاملة، ليس فيها شرك لغيره لأنها قربة، فلا يكون الكافر محلّا لها كالزّكاة، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيّد في عتق الرّقبة في القتل الخطأ. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافرة، لأن مطلق اللفظ يقتضيها. ومن أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف، كانت الكفارة عند المالكية باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزّكاة ليدفعه إلى الفقراء. واختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف، فقال الشافعي وأبو ثور: كفارات

تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام [سورة المائدة (5) الآيات 90 إلى 93] :

الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث، وكذلك قال مالك: إن أوصى بها. والمراعاة في اليسار والإعسار وقت التكفير، لا وقت الحنث، فمن حلف وهو موسر، فلم يكفّر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر، فلم يكفّر حتى أيسر، اعتبر وقت الكفارة. والكفارة بصيام ثلاثة أيام للمعسر، لا الموسر، متتابعات عند الحنفية، ولا يشترط التتابع عند الجمهور، وإنما يستحبّ. ومن أفطر في أيام الصيام ناسيا، فعليه القضاء عند مالك، ولا قضاء عليه عند الجمهور. تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

البلاغة:

البلاغة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أريد بالاستفهام الأمر، أي انتهوا، وهو من أبلغ ما ينهى به، لما فيه من الحض على الانتهاء. قال أبو السعود في تفسيره (2/ 56) : ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد، حيث صدّرت الجملة ب إِنَّما وقرنا بالأصنام والأزلام، وسمّيا رجسا من عمل الشيطان، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعل ذلك سببا للفلاح، ثم ذكر ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ إيذانا بأن الأمر في الزجر والتحذير قد بلغ الغاية القصوى. والتعبير بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ أبلغ من التعبير بلفظ حرم لأنه يفيد التحريم وزيادة وهو التنفير والإبعاد عنه بالكلية، كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج 22/ 30] . المفردات اللغوية: الْخَمْرِ كل شراب مسكر يخامر العقل الْمَيْسِرِ القمار وَالْأَنْصابُ الأصنام وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها وَالْأَزْلامُ أي قداح الاستقسام: وهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية، تفاؤلا أو تشاؤما رِجْسٌ خبيث مستقذر حسا أو معنى، إما من جهة الطبع أو من جهة العقل، أو من جهة الشرع كالخمر والميسر، أو من كل تلك الاعتبارات كالميتة لأن النفس تعافها طبعا وعقلا، ويعافها الشرع مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه فَاجْتَنِبُوهُ أي تجنبوا فعل الرجس. الْعَداوَةَ تجاوز الحق إلى الأذى وَيَصُدَّكُمْ يمنعكم بالاشتغال بهما وَعَنِ الصَّلاةِ خصها بالذكر تعظيما لها فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عن إتيانها، أي انتهوا. وَاحْذَرُوا المعاصي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الطاعة الْبَلاغُ الْمُبِينُ الإبلاغ الواضح طَعِمُوا ذاقوا طعمه وتلذذوا بالأكل أو الشرب، والمراد أكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم. إِذا مَا اتَّقَوْا المحرمات ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثبتوا على التقوى والإيمان وَأَحْسَنُوا العمل وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم. سبب النزول: روى أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية ، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: إثم كبير،

وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام، أمّ رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أشد منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] . ثم نزلت آية أشد في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية. وروى النسائي والبيهقي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع في هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان أخي بي رؤفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية. فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. وروى ابن جرير عن جماعة قالوا: نزلت هذه الآية (آية تحريم الخمر) بسبب سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلحي جمل، ففزر أنفه أو جرحه، فنزلت فيهما.

المناسبة:

وروى ابن جرير أيضا وابن مردويه عن سعد أنه قال: صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعانا، فشربنا الخمر حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل (فك جزور) فضرب به أنف سعد، ففزره، فكان سعد أفزر الأنف، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. الآية «1» وروى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر هذا الصوت! قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرّمت، فقال: اذهب فأهرقها- وكان الخمر من الفضيخ «2» - قال: فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية. المناسبة: لما نهى الله تعالى فيما تقدم: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وكان من جملة الأمور المستطابة: الخمر والميسر، بيّن عز وجل أنهما غير داخلين في المحللات، بل في المحرمات «3» . الحكمة في التدرج بتحريم الخمر: كان العرب في الجاهلية مدمنين الخمر، متعلقين بها أشد التعلق، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة، لم يقلع الكثير عنها، وإنما عرّض تعالى بالتحريم في سورة البقرة، ثم في سورة النساء في أوقات الصلاة، فامتنعوا عن شربها نهارا، وشربوها ليلا. روى ابن جرير عن

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 22 (2) الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده، من غير أن تمسه النار، والمفضوخ: المشدوخ. (3) تفسير الرازي: 12/ 79

التفسير والبيان:

أبي الميسرة قال: قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة 2/ 219] فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] وكان منادي النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربن الصلاة السكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن عمر قال: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا، فتركها الناس. التفسير والبيان: نهى الله تعالى المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر، فقال: يا أيها المؤمنون، إن الخمر وكل شراب مسكر، والقمار بمختلف أنواعه، والأصنام التي تذبح القرابين عندها، والأزلام قداح الاستقسام تفاؤلا وشؤما: قذر سخطه الله وكرهه، وهو من عمل الشيطان أي تحسينه وتزيينه، فاتركوا هذا الرجس، رجاء أن تفوزوا وتفلحوا بتزكية أنفسكم، وسلامة أبدانكم، والتوادّ فيما بينكم. والخمر: النّيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وهي تطلق في رأي الجمهور على كل شراب مسكر خامر العقل وغطاه، ويرى الحنفية: أن الخمر حرمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا لأن اللغة في رأيهم لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم

تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر «1» . وهو رأي ابن عمر. ويرى الجمهور أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه «2» ، فغير ماء العنب حرام بالنص: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وهذا رأي عمر، قال: إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة، والخمر: ما خامر العقل. وهو رأي ابن عباس أيضا، وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشر: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا» وقال أيضا فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة: الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنب. وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عمر: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» . ورتب الجمهور على رأيهم أن كل المسكرات نجسة بقوله تعالى: رِجْسٌ وأن فيها الحد، وكذلك يرى الحنفية أن المسكر غير المطبوخ وهو السّكر والفضيخ النيء، والباذق: أي النصف المطبوخ، ونقيع الزبيب والتمر غير المطبوخ نجس نجاسة مغلظة كالخمر وهو رأي أبي حنيفة في رواية راجحة عنه لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، فلا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم، وأما المطبوخ وهو المثلث العنبي أو الطلاء (وهو المطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه) والجمهوري وهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق فغير نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وحرّم محمد الأشربة المسكرة كلها وبرأيه يفتي عند الحنفية، لقول صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن جابر: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . واتفق

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 462 (2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 150

الحنفية على أنه لا حدّ بشرب الأشربة المسكرة غير الخمر إلا بالإسكار، لحديث علي فيما رواه العقيلي: «حرمت الخمر بعينها، والسّكر من كل شراب» إلا أنه حديث معلول، أو موقوف على ابن عباس. وإذا صار النبيذ (نبيذ التمر والزبيب) مسكرا صار حراما، فإن لم يتخمر ولم يسكر كالخشاف الطبيعي بنقعه في فترة يومين مثلا فهو حلال. والميسر حرام أيضا، وكل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز، وورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: «الشطرنج من الميسر» وكذا النرد إذا كان على مال، فإذا لم يكن الشطرنج أو النرد على مال فإن الجمهور حرموه أيضا لأنه موقع في العداوة والبغضاء، وصادّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وكره الشافعي الشطرنج لما فيه من إضاعة الوقت. والأنصاب التي هي حجارة حول الكعبة رجس لأنهم كانوا يعظمونها ويذبحون عندها القرابين. وكذا الأزلام رجس لأنهم كانوا يستقسمون بها، وقد تقدم شرحها في الآية (3) من سورة المائدة. والرجس: القذر حسا ومعنى، عقلا وشرعا، والخمر وما ذكر بعدها موصوف بهذا الوصف، مما يقتضي التحريم، وتأكد ذلك بالأمر باجتناب الرجس، وبقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي راجين الفلاح بهذا الاجتناب. وتحريم الخمر والميسر من عدة نواح: صدّرت الجملة بإنما المفيدة للحصر، وقرنا بالأصنام والأزلام وهي شنيعة قبيحة شرعا وعقلا، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، وأمر باجتناب أعيانهما وهو أشد تنفيرا من مجرد النهي أو لفظ التحريم، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، ثم بيّن الله مضار

الخمر والميسر المعنوية: الشخصية والاجتماعية، فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ... لذا قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفا: «الخمر أم الخبائث» وقال فيما رواه البزار عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «مدمن الخمر كعابد الوثن» أي إن الشيطان لا يريد لكم من تعاطي الخمر والميسر إلا الإيقاع في العداوة بأن يعادي بعضكم بعضا بسبب الشراب، والبغضاء بأن يزرع الكراهية والحقد والنفرة من بعضكم، فيتحقق هدفه من التفريق والتشتيت بعد التأليف بالإيمان والجمع بأخوة الإسلام. ويريد أيضا صرفكم بالسكر المذهب للعقل والاشتغال بالقمار عن ذكر الله الذي تطمئن به القلوب وتسعد به النفوس في الدنيا والآخرة، وعن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والتي تزكو بها النفوس، وتتطهر القلوب. فالخمر إذا أذهبت العقل، هانت كرامة الإنسان على غيره، وفقد القدرة على إدراك الخير والبعد عن الشر، هذا فضلا عن أضرار الخمر الصحية في كل أعضاء جهاز الهضم والأعصاب، بل قد يمتد الضرر إلى الأولاد، فينشأ الواحد منهم معتوها ضعيف المدارك، وكثيرا ما أدت الخمر إلى الطلاق وتدمير الأسرة. والميسر الذي يؤدي إلى الربح بلا عمل ولا تجارة، وخسارة الطرف الآخر يؤجج في النفس نار العداوة والبغضاء، وكثيرا ما تقاتل المتقامران وحدث بينهما السباب والشتم والضرب الشديد. والخلاصة: للخمر مضار كثيرة: شخصية صحية، واجتماعية بزرع العداوة والبغضاء، ودينية بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومالية بتبديد الأموال في الضار غير النافع. وكذا للقمار أضرار نفسية عصبية بإحداث توتر في الأعصاب وقلق واضطراب، واجتماعية ودينية ومالية كالخمر تماما. وقد نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ كما تقدم في قبيلتين من

الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا، ورأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل الرجل يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل هذا بي، فحدثت بينهم الضغائن، فأنزل الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الآية. ولم يذكر في القرآن تعليل الأحكام الشرعية إلا بإيجاز، أما هنا فإنه فصل في بيان الحكمة أو العلة، فذكر ثلاث حكم، ودل على تحريم الخمر والميسر بأكثر من دلالة ليشير إلى ضررهما وخطرهما. ثم آكد الله تعالى التحريم وشدد في الوعيد، فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَاحْذَرُوا أي أطيعوا كل ما جاء عن الله والرسول من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات، واحذروا ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة ووقوع في المهالك في الدنيا، وعذاب في الآخرة إذ لم يحرم الله شيئا إلا لضرره الواضح، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] . فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فإن أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به، فإن رسول الله بلغكم، فانقطعت حجتكم، ومن أنذر فقد أعذر، ولم يعد لكم مطمع في التعلل والاعتذار. ثم أبان الله تعالى حكم الذين ماتوا قبل تحريم الخمر وهم يشربونها فقال: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... أي ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كمن مات قبل تحريم الخمر والميسر كحمزة، ولا على الأحياء الباقين في الحياة الذين شربوا الخمر وأكلوا الميسر قبل التحريم مثل عبد الله بن مسعود إثم ومؤاخذة إذ ليس للتشريع ولا للقانون أثر رجعي، إذا ما اتقوا الله، وآمنوا بما أنزل من الأحكام، وعملوا الصالحات التي شرعت فيما مضى كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعدئذ، وآمنوا بما أنزل، ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالح من الأفعال، والله يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم وإخلاصهم وإتقانهم عملهم.

وبهذا يظهر أن المراد بالتقوى والإيمان الأولين: تحصيل أصل التقوى وأصل الإيمان، والمراد بالآخرين منهما الثبات والدوام عليهما، والمقصود بالتقوى الثالثة: اتقاء ظلم العباد وإحسان الأعمال والإحسان إلى الناس بمواساتهم بما رزقهم الله من الطيبات. وتقييد رفع الجناح بالإيمان والتقوى لبيان الواقع، وهو الجواب عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم. يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم فيما تناولوه من المطعومات والمشروبات المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، وهذا ثناء عليهم، كما أثنى على من مات قبل الصلاة إلى الكعبة في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة 2/ 143] . وقد عرف مما تقدم أن هذه الآية عذر لمن مات وحجة على بقية الناس لأنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول الله، فكيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت. وقد أراد عمر بعد هذه الآية إقامة الحد على قدامة بن مظعون الجمحي وهو ممن هاجر إلى الحبشة، حين شهد عليه الشهود بأنه شرب الخمر بعد التحريم بهذه الآية، روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، وأراد عمر أن يجلده، فقال قدامة: ليس لك ذلك لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله. وأجاب ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لمن غبر وحجة على الناس لأن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية، ثم قرأ الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر، فقال عمر: صدقت ماذا ترون، فرأى علي والصحابة حده، فجلد ثمانين جلدة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: 1- حدث تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد الهجرة بعد وقعة أحد التي حدثت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستظهر ابن حجر أنها حرمت سنة ثمان من الهجرة. وأما حد الخمر فثبت بالسنة النبوية، إما أربعون جلدة وهو رأي الشافعية، وإما ثمانون جلدة وهو رأي الجمهور، روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين» وروى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: «جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة، وهذا أحب إلي» . 2- تضمنت الآية تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار بأنواعه، والأنصاب وهي الأصنام أو النرد والشطرنج، والأزلام وهي قداح الاستقسام، يقال: كانت في البيت- أي البيت الحرام- عند سدنة البيت وخدّام الأصنام يأتي الرجل إذا أراد حاجة، فيقبض منها شيئا، فإن كان عليه «أمرني ربي» خرج إلى حاجته، على ما أحب أو كره. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل: هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. 3- تم تحريم الخمر على التدرج، كما عرفنا فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل 16/ 67] . ثم نزل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة 2/ 219] والمنافع: هي في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس، وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء 4/ 43] فتركها بعض

الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر. وبه يتبين مع ما ذكر في أسباب النزول المتقدمة والأحاديث الواردة: أن شرب الخمر قبل هذه الآية كان مباحا معمولا به معروفا عندهم، بحيث لا ينكر ولا يغيّر، وأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أقر عليه، وهذا مالا خلاف فيه. 4- فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة، قال: ولو كانت نجسة، لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، كما نهى عن التخلي في الطرق. وأجاب القرطبي: بأن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب «1» ولا آبان يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها. وقوله تعالى: رِجْسٌ يدل على نجاستها فإن الرجس في اللسان العربي: النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت

_ (1) السرب: حفيرة تحت الأرض. [.....]

الشريعة فإن النصوص فيها قليلة فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة «1» . 5- دل قوله: فَاجْتَنِبُوهُ على الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. بدليل الأحاديث الواردة، منها ما رواه مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها» . ومنها ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في التداوي بالخمر: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» ردا على طارق بن سويد الجعفي الذي قال: «إنما أصنعها للدواء» . وهذا رأي الأطباء. لكن أجاز الحنفية التداوي بالخمر والنجاسات والسموم إذا تعينت، وعلم يقينا أن فيها شفاء للضرورة لقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام 6/ 119] . والحقيقة أنه ما أكثر الأدوية وشركات الدواء ومصانعه في عالم اليوم، فإنهم صنعوا لأكثر الأمراض علاجا، فلم يعد الشخص بحاجة أو ضرورة للتداوي بالخمر وغيرها مما حرم الله الانتفاع به وجعله نجسا، روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» . ولا يجوز لمسلم تملك الخمر ولا تمليكها من أحد لأن الشرع نهى عن الانتفاع بها، وأمر باجتنابها. 6- أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 288- 289

العذرات وسائر النجاسات، وما لا يحل أكله، لذا كره مالك والشافعي وغيرهما بيع زبل الدواب. 7- إن تخللت الخمر بنفسها طهرت وجاز أكل الخل باتفاق الفقهاء، أما تخليل الخمر فلم يجزه جمهور الفقهاء لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم استؤذن في تخليل خمر ليتيم، فقال: «لا» ونهى عن ذلك، فأراقها وليه عثمان بن أبي العاص. وأباح الحنفية تخليلها وأكل ما تخلل منها بمعالجة، أي بإلقاء شيء فيها، كملح أو غيره لأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح. 8- قال القرطبي: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشطرنج، قمارا أو غير قمار، لقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فكل لهو دعا قليلة إلى كثيرة، وأوقع بينكم العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستوليد على القلب مكان السكر. سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر «1» . 9- حيثيات التحريم واضحة في الآية: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ... أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها ونهانا عنها. وسبب النزول المتقدم في عبث القبيلتين من الأنصار اللتين شربتا الخمر يؤكد هذا. 10- قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال الأمر، وكفّ عن المنهي عنه. فإن

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 291- 292

خالفتم فما على الرسول إلا البلاغ في تحريم ما أمر بتحريمه، وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع. 11- دلت آية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على أن من فعل ما أبيح له حتى مات على فعله، لم يكن له ولا عليه شيء، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع، فلا حاجة للتخوف ولا للسؤال عن حال من مات، والخمر في بطنه وقت إباحتها. وهذه الآية نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى، فنزلت: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. 12- دل حديث البخاري المتقدم عن أنس في سبب نزول هذه الآية المتضمن أن الخمر كان من الفضيخ (المتخذ من البسر) : على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره. 13- ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه، حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حدّ. فأما المستخرج من العنب، المسكر النيء: فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره، ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف أبو حنيفة وأبو يوسف في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار، وفي المطبوخ المستخرج من العنب، فأباحا القليل غير المسكر. والمعتمد في الفتوى هو رأي محمد رحمه الله بتحريم القليل والكثير من كل مسكر، للحديث المتقدم الذي رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما عن ابن عمرو: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . واتفق الحنفية على أن الحد في غير الخمر لا يجب إلا بالإسكار.

الصيد في حالة الإحرام وجزاء صيد البر [سورة المائدة (5) الآيات 94 إلى 96] :

14- قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات، فضله بأجر الإحسان. الصيد في حالة الإحرام وجزاء صيد البر [سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) الإعراب: لَيَبْلُوَنَّكُمُ: يبلونّ: فعل مضارع مبني، وإنما بني لاتصاله بنون التأكيد لأنها أكّدت فيه الفعلية، فردّته إلى أصله، والأصل في الفعل البناء. مِنَ الصَّيْدِ: من: إما للتبعيض لأن المحرّم صيد البر خاصة، أو لبيان الجنس لأنه لما قال: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ لم يعلم من أيّ جنس هو، فبيّن فقال: مِنَ الصَّيْدِ. بِالْغَيْبِ حال أي غائبا. مُتَعَمِّداً حال من الضمير المرفوع في قَتَلَهُ. فَجَزاءٌ: مبتدأ وخبره محذوف وتقديره: فعليه جزاء. مِنَ النَّعَمِ صفة جزاء، وتتعلق بالخبر المحذوف وهو فعليه ويجوز أن تتعلق ب يَحْكُمُ ويجوز أن تتعلق بالمصدر وهو فَجَزاءٌ وتعدّى بمن إلى النّعم. هَدْياً

المفردات اللغوية:

حال من هاء بِهِ والضمير يعود للجزاء. بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لهدي وهو نكرة لأن الإضافة فيه في نية الانفصال لأن التنوين فيه مقدر وتقديره: بالغا الكعبة. أَوْ كَفَّارَةٌ: عطف على جزاء. طَعامُ مَساكِينَ إما بدل من كَفَّارَةٌ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: أو كفارة هي طعام. صِياماً تمييز منصوب. مَتاعاً لَكُمْ منصوب على المصدر لأن قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ بمعنى: أمتعتكم به إمتاعا، فأقيم متاعا مقامه لأنه في معناه. المفردات اللغوية: لَيَبْلُوَنَّكُمُ ليختبرنكم، والابتلاء: الاختبار. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ أي يكون في متناول اليد، وهو صغار الصيد. وَرِماحُكُمْ أي تصطاده الرماح وهو كبار الصيد، وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم، والمراد به كثرة الصيد وسهولة أخذه. لِيَعْلَمَ اللَّهُ يظهر علمه. حُرُمٌ محرمون بحج أو عمرة. فَجَزاءٌ فعليه جزاء. مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي شبهه في الخلقة، والنعم: الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ رجلان عادلان لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة، وابن عباس وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة، وحكم بالشاة أيضا ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها. بالِغَ الْكَعْبَةِ أي يبلغ به الحرم، فيذبح فيه ويتصدق به على مساكين الحرم، ولا يجوز أن يذبح حيث كان. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أي، أو عليه كفارة غير الجزاء وإن وجده هي طَعامُ مَساكِينَ من غالب قوت البلد: ما يساوي قيمة الجزاء، لكل مسكين مد. أَوْ عَدْلُ مساو له مما يدرك بالعقل، وبكسر العين: مساو له مما يدرك بالحس. وَبالَ أَمْرِهِ ثقل جزاء أمره الذي فعله، أي عاقبة أمره الثقيلة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد قبل تحريمه. عَزِيزٌ غالب على أمره. ذُو انْتِقامٍ أي ينتقم ممن عصاه. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أبيح لكم أيها الناس حلالا كنتم أو محرمين، وصيد البحر: ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة، والمراد بالبحر: الماء الكثير الذي يعيش فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها، أي أحل لكم أن تأكلوا صيد البحر، وهو ما لا يعيش إلا فيه كالسمك، بخلاف ما يعيش فيه

سبب النزول:

وفي البر كالسرطان. وَطَعامُهُ ما قذف به ميتا إلى ساحله أو طفا على وجه الماء. مَتاعاً تمتيعا. لَكُمْ تأكلونه. وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين منكم يتزودونه، جمع سيار: وهو المسافر. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو ما يعيش في البر من الوحش المأكول، وحرم أن تصيدوه. ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين، فلو صاده حلال، فللمحرم أكله في رأي جمهور العلماء، كما بينت السنة، إذا لم يصد له ولا من أجله. وأجاز الحنفية للمحرم أكل الصيد على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. تُحْشَرُونَ تجمعون وتساقون إليه يوم الحشر. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل: أنها نزلت في عمرة الحديبية، حيث ابتلاهم الله بالصيد، وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها، أخذا بأيديهم، وطعنا برماحهم، وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها، فنزلت هذه الآية. المناسبة: وجه النظم والربط بين الآيات أنه تعالى قال: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ثم استثنى الخمر والميسر من ذلك، فصارا من المحرمات، لا من المحللات، ثم استثنى أيضا نوعا آخر وهو هذا النوع من الصيد: وهو صيد الإحرام، وبيّن جزاءه، فصار مستثنى مما أحل الله، داخلا فيما حرمه ومنعه على المؤمنين. التفسير والبيان: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد، أو ببعض الصيد وهو صيد البر، تأخذونه بالأيدي أو تصطادونه بالرماح، وهو بيان لحكم صغار الصيد وكباره. وخص الأيدي والرماح لأن الصيد يكون بهما غالبا. وتنكير قوله: بِشَيْءٍ للتحقير. وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير

تنبيها على أن من لم يثبت أمام هذه الأشياء، علما بأن الصيد طعام لذيذ شهي وخصوصا في الأسفار، فكيف يثبت عند شدائد المحن؟! والامتحان بترك ما ينال بسهولة، وهو طيب، أشق على النفس وأدل على التقوى والخوف من الله، من ترك ما لا ينال إلا بمشقة، وهو قليل الأهمية. وكذلك يكون الصيد بالفخ والحبالة ونحوها من الوسائل، وما وقع فيها يكون لصاحبها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد كان صاحبها شريكه فيه. ثم بيّن الله تعالى سبب الابتلاء أو الاختبار بقوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي يبتليكم الله حال إحرامكم ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته أنه حاصل منهم في حال الحياة، وأن صلابة الإيمان تظهر الخوف من الله تعالى في حال أسر والخفية كما في حال الجهر والعلانية. والخلاصة: إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر، وإن كان هو عالما به منذ الأزل، لتزكية النفوس وتطهيرها وصقلها. فَمَنِ اعْتَدى ... أي فمن تجاوز حدود الله بعد هذا البيان الشافي في الصيد، فله عذاب شديد الألم في الآخرة إذ هو لم يبال باختبار الله له لأن المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة. ثم حرم الله تعالى صيد البر حال الإحرام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وهذا النهي العام لكل مسلم ذكر وأنثى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة: لَيَبْلُوَنَّكُمُ. فيا أيها الذين صدقوا بالله والرسول والقرآن، لا تقتلوا صيد البر- والقتل يشمل كل ما يزهق الروح- وأنتم محرمون بحج أو عمرة، لا بالمباشرة ولا بالتسبب كالإشارة والدلالة، ولا في حرم مكة والمدينة وإن لم تكونوا محرمين كما ثبت في

السنة لقوله صلّى الله عليه وسلّم لبعض أصحابه: هل أشرتم؟ هل دللتم؟ قالوا: لا، قال: إذن فكلوا. فهذه الآية تدل على أن المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه، وعلى أن الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم. ويرى الجمهور أنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله لما رواه النسائي والترمذي والدارقطني عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» . ورأى الحنفية: أن أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم، ولحديث البهزي- واسمه زيد بن كعب- في رواية مالك وغيره عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر، فقسمه في الرّفاق. وحديث أبي قتادة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «إنما هي طعمة أطعمكموها الله» فقد أكل النّبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي. والمراد بالصيد: المصيد، لقوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ واختلف العلماء في المراد بمدلوله، فذهب الحنفية إلى أن المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا، سواء أكان مأكولا أم غير مأكول لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه، وقد كانت العرب تصطاد، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم. وخصه الشافعية بالمأكول لأنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن، وكونه ليس بصيد لأن الصيد: ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ

الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً هذا ما ذكره الفخر الرازي دليلا للشافعي، وهو في الواقع دليل ضعيف لأن هذه الآية إن دلت على شيء، فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول لأن قوله: مَتاعاً لَكُمْ أي نفعا أعم من أن يكون من طريق الأكل أو من طريق الحلية مثلا. وذكر الرازي أيضا دليلا آخر للشافعي وهو الحديث المشهور الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خمس فواسق ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» هذا اللفظ للبخاري، وفي رواية «السبع الضاري» وفي رواية مسلم: «يقتلن في الحل والحرم» . وفيها: «والغراب الأبقع» والسبع الضاري نص في المسألة، ووصفت بكونها فواسق، وحكم بحل قتلها، وذكر هذا الحكم عقب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها، والفسق: الإيذاء، وهي موجودة في السباع، فوجب جواز قتلها «1» . ويناقش هذا الدليل بأنه لا يصلح حجة على الحنفية القائلين: إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول، لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق لأنها فواسق، لا لأنها ليست بصيد ولا لأنها غير مأكولة. وبه يظهر أن ما أورده الرازي دليلا للشافعي من القرآن والخبر لا يصلح دليلا للدعوى، وإنما الذي يصلح دليلا أن يثبت أن الصيد خاص بالمأكول، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة للشافعية، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص. وقوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ لفظ عام يشمل كل صيد بري وبحري،

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 87

لكن جاء قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فأباح صيد البحر مطلقا. ثم بيّن الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ ... أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم، متعمدا قتله، فعليه جزاء من الأنعام، مماثل لما قتله في الهيئة والصورة إن وجد، وإن لم يوجد المثيل فتجب القيمة. والمماثل للنعامة بدنة (ناقة) ولحمار الوحش بقرة، وللظبي شاة، وفي الطير قيمته، إلا حمام مكة، فإن في الحمامة شاة، اتباعا للسلف في ذلك. روى الدارقطني عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة «1» » . ويلاحظ أن ظاهر الآية ترتيب الجزاء على القتل العمد، لكن يرى الجمهور غير أحمد أن الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا، سواء تعمد القاتل قتله أو أخطأ فيه، وسواء كان متذكرا إحرامه أم ناسيا، عملا بالثابت في السنة النبوية. وإنما خص العمد بالبيان القرآني لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك، دون الخطأ. ويرى أحمد في رواية عنه: أنه لا شيء على المخطئ والناسي، لأنه لما خصّ تعالى المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه. والمراد بالمثل في رأي ابن عباس ومالك والشافعي ومحمد بن الحسن والإمامية: هو النظير، لأن الله أوجب مثل المقتول مقيدا بكونه من النّعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات

_ (1) العناق: الأنثى من ولد المعز قبل بلوغ السنة، والجفرة: الأنثى من ولد الضأن البالغة أربعة أشهر.

التي تماثل المقتول، فلا تجب القيمة، لأنها ليست من النعم. وأوجب عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم من الصحابة في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، ونحو ذلك. ورأى أبو حنيفة وأبو يوسف أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا، وتقدر القيمة في مكان الصيد وفي زمانه، لأن القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان، لأن الله أوجب مثل المقتول مطلقا، والنظير متعذر، فينتقل إلى المثل في المعنى، وقد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] والمراد من المثل: النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات. والحيوانات من القيميات، فتجب قيمتها، والأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلفت أنواعه، وقد أهدر الشرع في ضمان المتلفات المماثلة في الصورة. ويؤيد الحنفية قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فإن اللجوء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف فيه الأنظار والخبرات، وذلك في القيمة. ثم قال تعالى عن تقدير الجزاء: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي يحكم بالجزاء من النعم في المثل أو بالقيمة في غير المثل على رأي الجمهور رجلان مؤمنان عدلان، لأن تحديد المماثلة بين الصيد ومثيله يحتاج لتقدير خبيرين، لخفائه على أكثر الناس. ويذبح المثل في الحرام المكي لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أي إن الجزاء يكون هديا (شاة أو كبشا مثلا) وأصلا إلى الكعبة، ويذبح في جوارها، ويوزع لحمه على مساكين الحرم. فالمراد بالاتفاق: وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرّق لحمه على مساكين الحرم.

ثم رخص الشرع فخيّر بين ذبح الهدي أو إطعام المساكين أو الصيام، فقال تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي إن قاتل الصيد مخير بين الالتزام بمماثل من النعم، أو بإخراج كفارة هي طعام مساكين لكل مسكين مد بقدر قيمة الصيد. أو بما يعادل ذلك الطعام من الصيام. والقول بالتخيير هو المقرر في المذاهب الأربعة، لظاهر أَوْ التي هي للتخيير، لكن التخيير في رأي الحنفية محصور بالقيمة، فيخير المحكوم عليه بالقيمة: إن شاء اشترى بها هديا فذبح بمكة، وإن شاء اشترى بها طعاما، فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير، وإن شاء صام يوما عن كل من نصف صاع البر أو صاع التمر والشعير، والحكمان في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: يقدران قيمة الجزاء من هدي أو طعام أو صيام، وقاتل الصيد مخير بفعل أي خصلة. وقال محمد بن الحسن والشافعي: بل الخيار للحكمين، ومتى حكما بشيء التزمه القاتل. والمراد من الكعبة: الحرم، وإنما خصت بالذكر للتعظيم، فلو ذبح الهدي في غير الحرم كان إطعاما، والإطعام يجوز في الحرم وفي غيره. ويرى الشافعي أن الإطعام يكون في الحرم كالهدي. وهذا لم تتعرض له الآية. وعلل تعالى إيجاب الجزاء بقوله: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي شرعنا الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره أي ثقل فعله وسوء عاقبة أمره وهتكه لحرمة الإحرام. والماضي معفو عنه: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي لم يجعل إثما فيما وقع منكم في الجاهلية أو قبل هذا التحريم من قتل الصيد في حال الإحرام، ولم يؤاخذكم عليه. ولكن وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد هذا النهي، فإن الله ينتقم منه في الآخرة لإصراره على المخالفة والذنب.

وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على أمره فلا يغلبه العاصي ذُو انْتِقامٍ يعاقب من اقترف الذنب بعد النهي عنه. وأوجب الجمهور الكفارة على العائد، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل، لأن عذابه في الآخرة لا يمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا. وتدل الآية على أن الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر استحق المذنب جزاء الدنيا (الكفارة) والآخرة (نار جهنم) . وأما صيد البحر فحلال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ أي أبيح لكم صيد البحر، أي اصطياده، وطعامه الذي يلقيه، فيجوز للمحرم تناول ما صيد من البحر، سواء كان حيا أو ميتا، قذفه البحر أو طفا على وجه الماء، أو انحسر عنه الماء، فهو كما أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة: «الطهور ماؤه، الحل ميتته» . مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي أحللنا لكم ذلك لتنتفعوا به، مقيمين ومسافرين، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج، ومن كان مسافرا فليأكل من الطازج إن كان سفره في البحر، أو من المحفوظ أو المثلّج إن كان سفره في البّر، وصيود البحر فيها منفعة ومتعة في السفر والحضر، سواء بالأكل أو بالادخار، أو بالانتفاع بمنافع أخرى غير الأكل كاصطياد اللآلئ أو أخذ الزيت وما قد يفيد من العظم والسن والعنبر. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أما صيد البر من الوحش والطير: وهو ما يكون توالده ومثواه في البر، مما هو متوحش بأصل خلقته، فحرام ذاته واصطياده منكم ما دمتم محرمين، لا ما صاده غيركم، فلا مانع من أكل ما صاده غيركم أو صدتموه وأنتم حلال في غير الإحرام. وقد عرفنا أن الجمهور يجيزون أكل المحرم الصيد البري إذا لم يصد له ولا من أجله، للحديث المتقدم: «صيد البر لكم حلال

فقه الحياة أو الأحكام:

ما لم تصيدوه، أو يصد لكم» . وتوسع الحنفية فأجازوا أكل الصيد للمحرم على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد من أجله، عملا بظاهر الآية، وبما رواه محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله: «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم نائم، فارتفعت أصواتنا، فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: فيم تتنازعون، فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم، فأمرنا بأكله» وروى مسلم من حديث أبي قتادة قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجا، وخرجنا معه، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني، قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قيل: يا رسول الله، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة، فإنه لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فأصاب منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، قال: فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون؟» إلخ القصة، وفيها: «أنهم استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء، قال: لا، قال: فكلوا» . ثم ختم الله تعالى بيان حكم الصيد حال الإحرام بالأمر بالتقوى، كما هو الشأن الغالب في تبيان الأحكام، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي اتقوا فيما نهاكم عنه من الصيد ومن جميع المعاصي كالخمر والميسر، واخشوه واحذروه بطاعته فيما أمركم به من الفرائض، فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر، ومصيركم ومرجعكم إليه، فيحاسبكم حسابا عسيرا، يعاقب العاصي، ويثيب الطائع. وهذا تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، والتذكير بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير. فقه الحياة أو الأحكام: 1- الدنيا كلها دار ابتلاء واختبار، وقد اختبر الله تعالى المؤمنين ليمتحن مدى صلابتهم في التمسك بأحكام دينهم وأصول شرعهم، اختبرهم بالصيد مع

الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، ومصدر رزق ومتعة وتسلية، وذلك كما اختبر بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت، فاحتالوا يوم الجمعة على صيد السمك بإقامة حواجز أمام حركة الجزر البحري بعد المد الحامل للسمك، ثم أخذوا ما حجز يوم الأحد، أما المؤمنون فقد امتثلوا المنع والحظر. 2- الصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلّهم ومحرمهم، لقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة. 3- احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن الصيد للآخذ لا لمن أثاره (المثير) لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا. 4- كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ يعني أهل الإيمان، لأن صدر الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه الجمهور، لقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ والصيد عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب المالكية بأن الآية تضمنت أكل طعامهم، والصيد نوع أخر، فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه. لكن هذا الجواب ضعيف، لأن الصيد كان مشروعا عند أهل الكتاب، فيجوز لنا أكله، لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم كما ذكر القرطبي. 5- هل يجوز للمحرم ذبح الصيد؟ قال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ فصار المحرم ليس أهلا لذبح الصيد. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد جائز، لأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام، فأفاد مقصوده من حلّ الأكل، كذبح الحلال.

6- هل تستثنى السباع من صيد البر؟ للعلماء آراء ثلاثة: قال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها، فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. ولا بأس بقتل كل ما عدا ذلك على الناس في الأغلب، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديا» . والخلاصة: أنه لا بأس بقتل المذكور في هذا الحديث ويقاس عليها السباع. وأما قاتل الزّنبور والبرغوث والذباب والنمل ونحوه فيطعم قاتله شيئا في رأي مالك. وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور. وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما، وإن قتل غيره من السباع فداه، فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه. ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحداة، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم خص دوابّ بأعيانها، وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها. والخلاصة: لا بأس بقتل المذكور في الحديث، ولا يقاس عليها السباع. أما الذئب فهو كالكلب. وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه، فللمحرم أن يقتله، وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السّمع وهو المتولد بين الذئب والضبع. وليس في الرّخمة والخنافس والقردان والحلم (الصغيرة من القردان) وما لا يؤكل لحمه شيء، لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فدل أن الصيد الذي حرّم عليهم: ما كان قبل الإحرام حلالا. أما القملة فتفدى

وإن كانت تؤذي، لأنها مثل الشعر والظفر ولبس المخيط، لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. والخلاصة: كل ما يؤذي مما ذكر في الحديث ونحوه من السباع، وكذا الخنافس والقردان لا شيء في قتله. 6- صيد الحرم المكي والمدني: أي حرم مكة وحرم المدينة، وزاد الشافعي حرم الطائف: لا يجوز قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك أثم ولا جزاء عليه في مذهبي مالك والشافعي، ودليل التحريم قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرّم المدينة مثل ما حرّم به مكة، ومثله معه، لا يختلى خلاها «1» ، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها» ودليل عدم أخذ الجزاء: عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو أوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا «2» » فأرسل صلّى الله عليه وسلّم الوعيد الشديد، ولم يذكر كفارة. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرّم، وكذلك قطع شجرها، لحديث سعد بن أبي وقاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها، فخذوا سلبه» أي ما يكون معه من متاع وسلاح، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس: «ما فعل النّفير؟» فلم ينكر صيده وإمساكه.

_ (1) الخلى: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع. (2) عير: جبل بناحية المدينة. وأما ثور فهو جبل بمكة، وذكره هنا وهم من الراوي وخطأ. والصرف: التوبة، والعدل: الفدية.

قال القرطبي: وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السّلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم. 7- ذكر الله تعالى جزاء صيد الإحرام حال القتل العمد، والمتعمد: هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، ولم يذكر المخطئ والناسي، والمخطئ: هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي: هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. فاختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: منها قول الجمهور: يجب الجزاء على قتل صيد الإحرام مطلقا، ذاكرا أم ناسيا، وقد ثبت وجوب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة أي بما ورد من الآثار عن عمر وابن عمر، ولأن الله تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له، ولأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الضّبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقوله: «متعمدا» خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة. وقال أحمد في رواية عنه والطبري: لا شيء على المخطي والناسي، عملا بالنص القرآني. 8- حالة العود أو التكرار: إن قتل المحرم في إحرامه شيئا من الصيد، ثم عاد إلى القتل مرة أخرى، فعليه في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم) الجزاء كلما قتل، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... الآية.. فالنهي دائم مستمر عليه، ما دام محرما، فمتى قتله، فالجزاء لأجل ذلك لازم له. 9- دل قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ على أن الواجب

عليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النّعم. وهذا مؤيد لرأي الجمهور غير أبي حنيفة وأبي يوسف، كما تقدم في تفسير الآية. والجزاء إنما يجب بقتل الصيد، لا بنفس أخذه، كما قال تعالى، فمن أخذ الصيد ثم حبسه بعد أن نتف ريشه أو قطع شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد، فلا شيء عليه في مذهب مالك. 10- جزاء الصيد شيئان: دواب وطير، فيجزى عند الشافعي ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة: بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش: بقرة، وفي الظبي: شاة، أي أن المثل في رأيه هو الأصل في الوجوب إن وجد، فإن عدم يقوم المثل وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء في المتلفات. وأقل ما يجزئ عند مالك: ما استيسر من الهدي وكان أضحية، وذلك كالجذع من الضأن، والثّنيّ مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك، ففيه إطعام أو صيام، وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة، فإن في الحمامة منه شاة، اتباعا للسلف في ذلك. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوّم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري الصائد بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين، كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير أو تمر. 11- من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام، فماتت، فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره، وفي بيض النعامة عشر ثمن البدنة، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن الشاة. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة، بدليل ما أخرج الدارقطني عن كعب بن عجرة أن النبي

صلّى الله عليه وسلّم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه. وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في كل بيضة نعام: صيام يوم أو إطعام مسكين» . وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة: فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره، ولأن العلماء أجمعوا على اعتبار القيمة فيما لا مثل له. 12- قال الشافعي والحسن البصري: إذا اتفق الحكمان لزم الحكم، وإن اختلفا نظر في غيرهما، ولا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام، لأنه أمر قد لزم. وقال مالك: يخيّر الحكمان قاتل الصيد كما خيّره الله في أن يخرج هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خيّر في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما. 13- هل يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين؟ فيه رأيان: قال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، لأن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين، ولأنه قد يتهم في حكمه لنفسه. وقال الشافعي وأحمد: يكون الجاني أحد الحكمين لعموم الآية، ولأن عمر فيما رواه ابن جرير حكّم معه جانيا محرما قتل ظبيا، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر. 14- إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد، فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل، لأن قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً، فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد اتفاقا.

وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة، لقضاء ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس بذلك، روى الدارقطني أن موالي لابن الزبير قتلوا ضبعا، فحكم عليهم ابن عمر بكبش. 15- قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم المكي، وكلهم محلّون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم، على كل واحد جزاء كامل. ودليله أن الجناية في الإحرام على العبادة قد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلّون صيدا في الحرم، فإنما أتلفوا دابة محرمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة، فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة. وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام. قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا. 16- يرى المالكية أن الحكمين إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويرسل من الحلّ إلى مكة. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل، وإنما يبتاع في الحرم ويهدى فيه. واتفقوا على أنه ينحر في مكة ويتصدق به فيها، لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ولم يرد الكعبة بعينها، فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم. أما الإطعام فيكون في رأي المالكية الراجح في الحرم وغيره، وفي مذهب الشافعي: في مكة لأنه بدل عن الهدي، وفي رأي أبي حنيفة: بموضع الإصابة مطلقا، اعتبارا بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع. 17- الكفارة بإطعام مساكين إنما هي عن الصيد لا عن الهدي، فيقوم الصيد، وينظركم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل

مد يوما، ويخير الجاني في رأي جمهور الفقهاء بين الخصال الثلاث (الهدي أو الإطعام أو الصيام) سواء كان موسرا أو معسرا، لأن أَوْ للتخيير. وقال الحنفية: يتصدق على كل مسكين بنصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو شعير، والتخيير محصور بالقيمة، يشتري بها هديا أو طعاما أو يصوم. ووقت تقدير قيمة المتلف مختلف فيه، فقال قوم وهو الصحيح عند المالكية: يوم الإتلاف، وقال آخرون: يوم القضاء، وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. والأرجح الرأي الأول، لأنه الوقت الذي تعلق به حق المتلف عليه. 18- الصيام في رأي الجمهور: يصوم عن كل مدّ يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين (نصف صاع) يوما، اعتبارا بفدية الأذى. 19- صيد البحر حلال لكل محرم، للآية: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ والمراد بالصيد هنا المصيد، وأضيف إلى البحر، لأنه السبب، وأما طعام البحر فهو ما لفظه البحر أو ألقاه. ويؤكل في رأي الجمهور كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، سواء اصطيد أو وجد ميتا أو كان طافيا، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر فيما رواه مالك والنسائي وغيرهما: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته» وأصح ما في الموضوع من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له «العنبر» خرجه الصحيحان، وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه، فأكله» . وقال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي، ويؤكل ما سواه من السمك،

ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك لعموم قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ولما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا ما حسر «1» عنه البحر وما ألقاه، وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه» قال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبد العزيز ضعيف لا يحتجّ به. 20- الحيوان البرمائي: اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر، هل يحل صيده للمحرم أم لا؟ قال مالك: كل ما يعيش في البر، وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه. ويجوز عنده أكل الضفادع والسلاحف والسرطان، وقال في المدونة: الضفادع من صيد البحر «2» . ولا يجوز أكل الضفادع في بقية المذاهب، ويجوز عند الشافعي أكل خنزير الماء وكلب الماء، ولا يجوز عنده التمساح ولا القرش والدّلفين «3» ، وكل ماله ناب لنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب. 21- أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، لعموم قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ولما رواه الأئمة عن الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان، فرده عليه، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما في وجهه من الكراهة قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» .

_ (1) حسر ونضب وجزر: بمعنى واحد. (2) تفسير القرطبي: 6/ 320 (3) القرش: دابة مفترسة من دواب البحر المالح، والدلفين بالضم: دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل.

22- ما يأكله المحرم من الصيد البري: قال الجمهور: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» قال الترمذي: هذا أحسن حديث في الباب. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه. وقال الحنفية: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال سواء صيد من أجله أو لم يصد، لظاهر قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي وبحديث أبي قتادة المتقدمين. وقال علي وابن عباس وابن عمر: لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، لعموم قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً قال ابن عباس: هي مبهمة، ولحديث الصعب بن جثّامة الليثي المتقدم. ووجه هذا الحديث في رأي الجمهور: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ظن أن هذا إنما صاده من أجله، فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة السابق ذكره «1» . 23- إذا أحرم شخص وبيده صيد أو في بيته عند أهله، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وجه القول بإرساله: قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وهذا عام في الملك والتصرف كله. ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام، فلا يمنع من استدامة ملكه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 103 وما بعدها.

24- إن صاد الشخص الحلال صيدا في الحل، فأدخله الحرم، جاز له في مذهب المالكية التصرف فيه بكل نوع، من ذبحه، وأكل لحمه لأنه معنى يفعل في الصيد، فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء، ولا خلاف فيها. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. 25- إذا دلّ المحرم حلالا على صيد، فقتله الحلال فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد: عليه الجزاء لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض، فيضمن بالدلالة كالوديع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة. وإذا دل المحرم محرما آخر، فقال الحنفية وأشهب من المالكية: على كل واحد منهما جزاء، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي قتادة: «هل أشرتم أو أعنتم؟» وهذا يدل على وجوب الجزاء. وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم قاتل لقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم، كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. قال القرطبي: وهذا أصح. 26- إذا كانت شجرة نابتة في الحل، وفرعها في الحرم، فأصيب ما عليه من الصيد، ففيه الجزاء، لأنه أخذ في الحرم. وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل، ففيه قولان عند المالكية: الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع.

مكانة البيت الحرام والشهر الحرام وشأن الهدي والقلائد [سورة المائدة (5) آية 97] :

مكانة البيت الحرام والشهر الحرام وشأن الهدي والقلائد [سورة المائدة (5) : آية 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) الإعراب: الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك قِياماً مفعول جَعَلَ الثاني. ذلِكَ لِتَعْلَمُوا: ذلِكَ إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك. وإما منصوب على تقدير: فعل ذلك لتعلموا. البلاغة: الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ أي البدن ذوات القلائد، وهو عطف خاص على عام لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج معها أظهر، على حد تعبير الزمخشري (الكشاف: 1/ 485- 486) . المفردات اللغوية: جَعَلَ اللَّهُ إما جعلا تكوينيا خلقيا أو تشريعيا الْكَعْبَةَ هي البيت المربع المرتفع، الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما السلام، وسميت كعبة لعلوها وارتفاع شأنها وتربيعها، وأكثر بيوت العرب مدورة. قِياماً لِلنَّاسِ ما يقوم به أمرهم ويصلح شأنهم من أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بتوفير الأمن فيه لداخله وعدم التعرض له، وجبي ثمرات كل شيء إليه. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، قياما لهم بأمنهم من القتال فيها وَالْهَدْيَ ما يهدي إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه وَالْقَلائِدَ أي ذوات القلائد من الهدي: وهي الأنعام التي كانوا يضعون القلادة على أعناقها إذا ساقوها هديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها. والهدي والقلائد قيام للناس بأمن صاحبهما من التعرض له ذلِكَ لِتَعْلَمُوا.. الجعل المذكور لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.

المناسبة:

المناسبة: قال الرازي: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة «1» . التفسير والبيان: صيّر الله الكعبة التي هي البيت الحرام لتكون سببا لقوام الناس في إصلاح أمورهم دينا ودنيا، حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا، فيه يأمن الخائف وينجو اللاجئ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت 29/ 67] ، وبه يطعم البائس الفقير بجعل مناسك الحج سببا لعمارة واد غير ذي زرع، وإلا لما أقام فيه أحد، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا، والحسنات فيه مضاعفة لتشتد رغبة الناس فيه، كما أن اجتماع الناس من أقطار بعيدة فيه يحقق منافع دنيوية كثيرة لا تحققها المؤتمرات الحالية، وكذلك تحقق أعمال الحج منافع: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ دينية بالتجرد عن مظاهر الدنيا، والتقرب إلى الله، واتقاء محظوراته، والمبادرة إلى امتثال أمره، وتذكر أهوال المحشر بالتجرد والاجتماع، والوقوف بين يدي الله، فتشتد الخشية ويعظم الخوف، ويحظى الناس بالخير والسعادة، والراحة والطمأنينة. قال سعيد بن جبير: «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة، أصابه» . وقال ابن زيد في هذه الآية التي جعل الله فيها هذه الأربعة قياما للناس: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 99، ط بيروت.

بعض، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد، فلو لقي الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه، فلا يعرض له «1» . وَالشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على الكعبة، أي وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس، أي فيه صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم، وتهدأ النفوس، وتخمد نار الحروب، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القربى، وتحصيل الأقوات كفاية العام. وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ جعلهما الله أيضا قياما للناس فيذبح الهدي المسوق إلى الحرم، والإبل المقلدة بلحاء الشجر حتى لا يتعرض لها بسوء، فتكون نسكا لمن قدّمها تقوّم له دينه، وتكفر ذنبه، وتطهر نفسه وماله، وتجعله آمنا على نفسه، وتفرّق لحومها على الفقراء، فتكون سببا لغناهم ودفع غائلة الجوع والفقر عنهم لأن الله أوقع في قلوب الناس تعظيم البيت الحرام، فكل من قصده أصبح آمنا من جميع المخاوف. وذلك الجعل المذكور والتدبير اللطيف بتشريع الحج وما فيه من مناسك ومنافع دليل على أن الله تعالى عالم بكل ما في السموات والأرض من أسرار وأوضاع حالية أو مستقبلية، وتشريع تلك التشريعات لحكم يعلمها الله، والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير، سرّ أو علن، باطن أو ظاهر. والحق أن موسم الحج لو استفيد منه لحقق- فضلا عن تطهير النفوس وتزكيتها وغسل الذنوب والتخلص منها- منافع كثيرة جدا من الناحية العامة، فهو دعامة للإسلام، وسبب لتقوية أواصر الصلات، وتنمية الشعور بنعمة الأخوة الإسلامية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات 49/ 10] وإذكاء روح الدين

_ (1) - تفسير الطبري: 7/ 50

فقه الحياة أو الأحكام:

والتعاون بين جميع المسلمين دولا وشعوبا وأفرادا في المشارق والمغارب، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية. فقه الحياة أو الأحكام: لا بد في حياة الأمم والشعوب والأفراد من فترات راحة واستجمام، وإحساس بالأمن والاطمئنان والاستقرار، فكان من حكمة الله تعالى أن جعل البيت الحرام والحرم كله والشهر الحرام، وذبائح الهدي والقلائد قياما للناس، لصلاح أمر دينهم ودنياهم، وقد أوضحت أحوالها. وذلك لأن الناس مخلوقون بغرائز، منها التحاسد والتنافس، والتقاطع والتدابر، وهي تحملهم على تسخين أجواء حياتهم إما بالتقاتل والتنازع الداخلي، وإما بالمعارك والحروب الخارجية، فكان لا بد من فترات فاصلة تذكرهم بضرورة العودة إلى التآلف والتوادد، والسلام والأمن، وردّ الظالم عن المظلوم، وهذا يحدث عادة وفي كل زمان بالمصالحات والمهادنات، وفي الماضي بفترات الأشهر الحرم، وقد نسخ ذلك، ولكن تعظيم البيت الحرام وجعله حرما آمنا ما يزال قائما. أما في الداخل فلا بد لهم من خليفة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة 2/ 30] ليحقق التناصف والعدل، ويقضي بين الخصوم، ويعاقب الجناة، وينشر السلم والأمن، ويرعى الحرمات ويدفع الخطر عن البلاد والعباد، روى ابن القاسم عن مالك: أن عثمان رضي الله عنه كان يقول: «ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن» . فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، والله لطيف بالعباد.

الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب [سورة المائدة (5) الآيات 98 إلى 100] :

الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب [سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 100] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) البلاغة: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أطلق اسم المصدر وأراد به التبليغ للمبالغة، فهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ بينهما طباق. قال الزمخشري: وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديئهم. المفردات اللغوية: شَدِيدُ الْعِقابِ لأعدائه غَفُورٌ لأوليائه رَحِيمٌ بهم تُبْدُونَ تظهرون من العمل وَما تَكْتُمُونَ تخفون منه، فيجازيكم به الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الحلال والحرام والحسن والقبيح والجيد والرديء وَلَوْ أَعْجَبَكَ سرّك فَاتَّقُوا اللَّهَ في ترك الخبيث وفعل الطيب الْأَلْبابِ العقول تُفْلِحُونَ تفوزون. سبب النزول: نزول الآية (100) : قُلْ لا يَسْتَوِي: أخرج الواحدي والأصبهاني في الترغيب عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر تحريم الخمر، فقام أعرابي فقال: إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاعتقبت منها مالا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله

المناسبة:

تعالى؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يقبل إلا الطيب، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وفي رواية أخرى: «إن الله عز وجل حرّم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب، إلا إن الخمر لعن شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها، فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله، إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاقتنيت من بيع الخمر مالا، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيّب» «1» . المناسبة: حذرنا الله تعالى في الآية السابقة من انتهاك حرمة أربعة أشياء ببيان سعة علم الله المحيط بكل شيء، ثم نبّه في هذه الآيات على عقوبة المخالفة، وأن الرسول لا يملك الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ، وأن الحكمة والعدل يقضيان بالتمييز بين الطيب والخبيث أو البر والفاجر. التفسير والبيان: اعلموا أيها الناس أن الله الذي لا تخفى عليه خافية، شديد العقاب لمن خالف أوامره فأشرك بالله وفسق وعصى ربه، وهو غفار لذنوب من أطاعه رحيم به، فلا يؤاخذه بما سبق إيمانه ولا بما عمل من سوء بجهالة ثم تاب وأصلح عمله. وهذا يقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف، وأنه تعالى لم يخلقنا عبثا، بل لا بد من جزاء العاصي، وإثابة الطائع.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 120، وللسيوطي.

وفي تقديم العقاب على الرحمة دلالة على أن جانب الرحمة أغلب لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث، لذا قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة 5/ 15] وقد ذكر الله في هذه الآية أمام العقاب وصفين من أوصاف الرحمة، وهو كونه غفورا رحيما، قال الرازي: وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة «1» . وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة، ثم يؤول أمر الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية إلى الله خالق الخلق الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يظهره الإنسان وما يكتمه في جوانح نفسه، فإذا بلّغ الرسول بقي الأمر من جانبكم. وهذا وعيد شديد مؤكد لما سبق في الآية [97] : ذلِكَ لِتَعْلَمُوا وتهديد لمن يخالف أوامر الله، وإبطال لمخاوف المشركين من معبوداتهم الباطلة. ولما زجر الله تعالى عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم أتبعه بالتكليف بقوله: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ. فليس من الحكمة والعدل التسوية بين الجيد والرديء، وبين البر والفاجر، كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] وقال عز وجل: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 45/ 21] .

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 102 [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

قل لهم أيها الرسول: لا يستوي أبدا الرديء والجيد، والضار والنافع، والفاسد والصالح، والحرام والحلال، والظالم والعادل، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو المفسدين أو الأموال الحرام كالربا والرشوة والخيانة، وقلة الطيب من الصالحين والأبرار وأهل الاستقامة! فاتقوا الله يا أهل العقول، واحذروا تسلط الشيطان عليكم، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد أو كثرة المال الحرام، فإن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر، وتقوى الله هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة، وإحراز خيري الدنيا والآخرة. والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق من الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية. فقه الحياة أو الأحكام: ذكرت الآية أن مهمة التكليف تنتهي بمجرد تبليغ الأحكام الشرعية، ويبقى أمر التزامها والوقوف عند حدودها على الإنسان المكلف بحمل الأمانة. وفي التزام الطاعة واجتناب المعصية تكمن الخطورة، وتظهر البطولة، ويعرف مدى الجهاد الذي جاهد به الإنسان نفسه ليحملها على الاستقامة، ويحجبها عن الانحراف، وتقديرا لهذه المخاطر والمواقف الصعبة لاختيار الحل الأفضل، رغب الله تعالى في الطاعة ونفر من المعصية في هذه الآيات في أربعة مواضع: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ قُلْ: لا يَسْتَوِي فَاتَّقُوا اللَّهَ. فأين يفر الإنسان من رقابة الله له وعلمه الشامل المحيط بكل شيء، أظهره أو أخفاه في قلبه؟

وقد نقلت أقوال في تفسير الخبيث والطيب، فقيل: الحلال والحرام، وقيل: المؤمن والكافر، وقيل: الرديء والجيد، والصحيح كما قال القرطبي: أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصّور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة. قال الله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف 7/ 58] . وقد استنبط علماء المالكية حكما طريفا من الآية لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وهو أن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن أي ببيع المبيع إلى آخر، ويرد الثمن على المشتري إن كان قبضه البائع، وإن تلف في يده ضمنه لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد، ويؤيد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . وتطبيقات هذا المبدأ كثيرة في الفقه، منها: إذا بنى الغاصب في البقعة المغصوبة أو غرس، فإنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس، لأنه خبيث، ثم ردّها على صاحبها خلافا لقول أبي حنيفة: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود عن عروة بن الزبير: «ليس لعرق ظالم حق» والعرق الظالم: أن يغرس الرجل في أرض غيره، ليستحقها بذلك. والخطاب في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته، فإن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعجبه الخبيث.

النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي [سورة المائدة (5) الآيات 101 إلى 102] :

النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) الإعراب: عَنْ أَشْياءَ هي ممنوعة من الصرف لأن الألف في آخرها للتأنيث، وهي اسم للجمع، وليست بجمع شيء. وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كبيت وأبيات. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه جمع شيء. بالتخفيف مثل طبيب وأطباء، وشريف وشرفاء. فال ابن الأنباري: والمختار هو الأول. المفردات اللغوية: إِنْ تُبْدَ تظهر تَسُؤْكُمْ تزعجكم لما فيها من المشقة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها قد عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن مسألتكم فلا تعودوا قَدْ سَأَلَها أي الأشياء قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي سأل عنها جماعة سابقون أنبياءهم، فأجيبوا ببيان أحكامها ثُمَّ أَصْبَحُوا صاروا. سبب النزول: تعددت أسباب نزول هذه الآية، منها سؤال اختبار وتعجيز، وتعنت واستهزاء وسخف، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن تكرار بعض الفرائض. فمن الأول: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول عن أنس بن مالك قال: خطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ. وروي أيضا عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ حتى فرغ من الآية كلها. وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة. وأخرج البخاري أيضا عن أنس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: «النار» فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: «أبوك حذافة» . ومن الثاني: ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم» . وفي رواية: «فأنزل الله هذه الآية» . ومثل ذلك روى أحمد والترمذي والحاكم عن علي قال: «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ فسكت، قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ قال: لا، ولو قلت: نعم، لوجبت، فأنزل الله: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» . وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس. قال الحافظ ابن حجر: لا مانع أن تكون نزلت في الأمرين، وحديث ابن عباس في ذلك أصح إسنادا. وقال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه: من أبوه؟ ومسألة سائله إذ قال: إن الله فرض عليكم الحج، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل.

المناسبة:

المناسبة: لما ذكر الله تعالى أن مهمة الرسول مجرد البلاغ، ومهمة المبلّغين هي تنفيذ التكاليف والانقياد له، دون أن يكثروا عليه السؤال عما لم يبلغه لهم، ناسب أن ينهاهم صراحة عن السؤال فيما لا تكليف فيه، لئلا يكون ذلك سببا للإلزام بتكاليف ثقيلة، ومطالب جديدة شديدة. التفسير والبيان: يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله: لا تسألوا عن أشياء غيبية أو خفية أو لا فائدة منها، أو عن أمور دقيقة في الدين، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة. وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة والشائكة أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن، يظهرها الله لكم على لسان رسوله. وقال ابن كثير: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرّم من أجل مسألته» ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة، فسألتم عن بيانها، بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. أي أن المسؤول عنها إما التكاليف الصعبة المنهي عن السؤال فيها، أو عن غيرها مما فيه لكم حاجة وقد نزل بها الوحي. وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل

وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» ورواه مسلم أيضا عن أبي هريرة بلفظ آخر. قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال» التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف. يفهم من ذلك أن السؤال لإيضاح المجمل الغامض من القرآن مباح، مثل السؤال عن البيان الشافي في تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة. أما السؤال عما لا يفيد أو عن حكم مسألة لم تحرّم أو لم يكلف بها المسلمون، أو عما لا حاجة إلى السؤال فيه وكان في الإجابة عنه زيادة كلفة ومشقة، فهو حرام. عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي عفا الله عما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا الله عنه وسكت عليه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب، حليم لا يعاجلكم بالعقوبة على ما فرطتم أو قصّرتم فيه. روى الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» . ثم بيّن الله تعالى حالة بعض الأقوام السابقين مثل قوم صالح الذين سألوا عن مسائل ثم أهملوا حكمها، فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم، فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي بسببها، والمعنى: أني بينت لهم، فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» . فقه الحياة أو الأحكام: الآية تنهى وتحرم كل أنواع الأسئلة «1» ما عدا السؤال عما ينفعهم أو يحتاجون إليه أو عن توضيح المجمل في القرآن أثناء تنزل الوحي، وقد نزلت جوابا عن جميع الأسئلة التي سئل عنها النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إما امتحانا له، وإما استهزاء. وقد التزم الصحابة بعدئذ هذا الأدب فامتنعوا عن السؤال، واقتصروا على ما يبلغهم إياه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة 2/ 217] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة 2/ 222] وشبهه، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. أما الأسئلة الشرعية اليوم فجائزة للعلم والبيان، قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم، ونفى الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العيّ السؤال ومن سأل متعنتا غير متفقة ولا متعلم، فهو الذي لا يحلّ قليل سؤاله ولا كثيره «2»

_ (1) وهي السؤال عما لا ينفع في الدين مثل: من أبي؟ والسؤال الزائد عن الحاجة كالسؤال عن الحج: أكل عام؟ والسؤال عن صعاب المسائل كما جاء في النهي عن الأغلوطات، والسؤال عن علة الحكم في التعبدات كالسؤال عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، وسؤال التكلف والتشدد في الدين كسؤال بني إسرائيل عن أحوال البقرة، وسؤال التعنت والإفحام، والسؤال عن المتشابهات مثل السؤال عن استواء الله. (2) تفسير القرطبي: 6/ 323

ومن أمثلة الأسئلة عما كانوا بحاجة إليه: أنه تعالى بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يذكر عدة المرأة التي لا حيض لها ولا حامل، فسألوا عنها فنزل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق 65/ 4] فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، فأما ما مسّت الحاجة إليه فلا. وبهذا يوفق بين أول الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.. وبين الجملة التالية: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فأول الآية نهي عن السؤال، والجملة التالية تبيح السؤال، والمعنى: وإن تسألوا عن غيرها فيما مسّت الحاجة إليه. فحذف المضاف، ولا يصحّ حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في عَنْها ترجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون 23/ 12] يعني آدم، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً [المؤمنون 23/ 13] أي ابن آدم لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم، دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال. والمعنى: وإن تسألوا عن أشياء مما أنزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مسّت حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم «1» . وقد عفا الله عن الأسئلة التي سلفت منهم قبل هذا النهي، فضلا من الله ورحمة، وإن كرهها النّبي صلّى الله عليه وسلّم فلا تعودوا لأمثالها. وتغلب المقارنة والتذكير والعبرة في آي القرآن وسرد أحكامه كما فعل هنا بقوله: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وقوم موسى رؤية الله جهرة، وأصحاب عيسى المائدة. وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم.

_ (1) المرجع والمكان السابق.

ما حرمه الجاهليون من الماشية والإبل [سورة المائدة (5) الآيات 103 إلى 104] :

والتوفيق بين ما ذكر من كراهية السؤال والنهي عنه وبين قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] : أن النهي منصب على ما لم يتعبد الله به عباده ولم يذكره في كتابه، والأمر موجه لما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب العمل به. ما حرّمه الجاهليون من الماشية والإبل [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) المفردات اللغوية: ما جَعَلَ ما شرع شيئا من هذه الأحكام التي كان العرب يفعلها في الجاهلية، ولا أمر بالتبحير والتسبيب وغير ذلك، ولكنهم يفترون ويقلدون في تحريمها كبارهم. البحيرة هي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها، أي يشقونها شقا واسعا، إذا نتجت خمسة أبطن إناثا آخرها أنثى وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها. فإن كان آخرها ذكرا نحروه تأكله الرجال والنساء. وقيل: غير ذلك بأن آخرها ذكر. والسائبة الناقة التي كانت تسيّب بنذرها لآلهتهم الأصنام، فتعطى للسدنة، وترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف. والوصيلة الشاة أو الناقة التي تصل أخاها، فإذا بكرت في أول النتاج بأنثى كانت لهم، وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: غير ذلك. والحامي: الفحل الذي يضرب في مال صاحبه فيولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون: حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

المناسبة:

روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى، ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه، فلا يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يختلقون الكذب في ذلك، وفي نسبته إلى الله. وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أن ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم. إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ أي إلى حكمه من تحليل ما حرمتم. حَسْبُنا كافينا. ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والشريعة. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ استفهام إنكاري. وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحق. المناسبة: كما نهى تعالى ومنع الناس من السؤال والبحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، وبيّن ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه بغير إذن ربهم، وأن ذلك باطل، وأن التقليد باطل أيضا مناف للعلم والدين. التفسير والبيان: ما شرع الله أصلا تحريم هذه الأشياء الأربعة، وما حرّم البحيرة ولا السائبة، ولا الوصيلة، ولا الحامي، ولكن أهل الجاهلية بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب، حيث ما كانوا يفعلون ما يفعلون، وينسبونه إلى شرع الله، وأكثرهم لا يفعلون أن ذلك افتراء على الله، وتعطيل للعقل والفكر، وكفر ووثنية وشرك، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده. وكان أول من حرم هذه المحرمات، وشرع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن لحيّ الخزاعي، فهو الذي غيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة وحمى الحامي.

روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجرّ قصبه- أمعاءه- وهو أول من سيّب السوائب» «1» . وروى الطبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه- أمعاءه- في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكثم: أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا، إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غيّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي» «2» . ثم ناقشهم القرآن بقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا.. أي إذا قيل للمشركين: تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين، وإلى الرسول المبلّغ لها والمبين لمجملها، أجابوا: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون، ونحن لهم تبع. فردّ الله عليهم مستفهما استفهاما إنكاريا: أيكفيهم ذلك، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات، ويشرعون لأنفسهم بحسب أهوائهم، من وأد البنات، وشرب الخمور، وظلم الأيتام والنساء، وارتكاب الفواحش والمنكرات، وشن الحروب لأتفه الأسباب، وإثارة العداوة والبغضاء. وهذا تنديد بالتقليد الأعمى والتعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك،

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 107. (2) تفسير الطبري: 7/ 56، ابن كثير، المكان السابق.

فقه الحياة أو الأحكام:

كما قال تعالى في آيات كثيرة منها: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً، وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة 2/ 170] فقه الحياة أو الأحكام: الله تعالى خالق الخلق هو مصدر الشرائع والأنظمة كلها للناس، وكل شرع لم يشرعه الله فهو مرفوض، وقد نفى الله تعالى في هذه الآيات تشريع أهل الضلال في الجاهلية، وأعلن لهم: ما سمّى الله، ولا سنّ ذلك حكما، ولا تعبّد به شرعا، وإن علم به وأوجده بقدرته وإرادته خلقا، فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضرّ، وطاعة ومعصية. ولو عقل الجاهليون لما فعلوا أصل الكفر والوثنية والشرك، ولما ضللوا أنفسهم بتحريم ما حرموا، فأي هدف يرتجى، وأي نفع يؤمّل، وأي مصلحة تعود عليهم من عبادة حجر لا يضرّ ولا ينفع، ومن تحريم أشياء لا فائدة ولا جدوى من تعطيل منافعها، وحجرها للأصنام؟!! ولو عقلوا أيضا لنظروا وفكروا فيما ورثوه، فاختاروا الصالح، وأعرضوا عن الفاسد، ولكنه التقليد الأعمى للآباء والأسلاف من غير روية ولا إمعان، ولا دراية ولا تفكير، فالتقليد أمر ضار، مناف للعلم والدين، مناقض للعقل والمصلحة. وفضلا عن ذلك إنهم يحرمون بأهوائهم ويقلدون آباءهم، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لإرضاء ربهم وإطاعة خالقهم، من دون دليل ولا برهان على ما يقولون، وإنما هو محض الكذب والافتراء على الله، كما قال تعالى: وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، افْتِراءً عَلَيْهِ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ.

وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام 6/ 138- 139] حقا إنه تعالى حكيم عليم بالتحريم والتحليل، ولكن المشكلة تكمن في إهمال العقل وتعطيل الفكر، إنها آفة العقل المعطل لدى زعماء الجاهلية وأتباعها!! والخلاصة: لقد حرموا على أنفسهم من الأنعام ما لم يحرمه الله، اتباعا منهم خطوات الشيطان، فوبخهم الله تعالى بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال، فالحرام من كل شيء: ما حرمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بنص أو دليل، والحلال منه: ما أحله الله ورسوله كذلك. وقد استدل أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في منعه الأحباس ورده الأوقاف، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة. غير أن هناك فرقا بيّنا بين الأوقاف الإسلامية للأراضي والدور ونحوها، وبين هذه الأحباس التي لا معنى لها، وقد عابهم الله أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، وعطلوا المنافع والمصالح للناس في تلك الإبل من غير فائدة. لذا قرر جمهور العلماء القول بجواز الأحباس والأوقاف لما روي أن ابن عمر في رواية النسائي استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن يتصدق بسهمه بخيبر، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احبس الأصل وسبّل الثمرة» أي اجعلها وقفا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه، وهو حديث صحيح. وقد أجمع الصحابة على مشروعية الوقف، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وعائشة وفاطمة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قبل أن يرجع عن قول أبي حنيفة في ذلك قال

لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز، فقال له مالك: هذه الأحباس أحباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه. وأما قول شريح: «لا حبس عن فرائض الله» فليس الوقف حبسا عن الفرائض، قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته، على ما أذن الله به على لسان نبيه، وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم، ليس من الحبس عن فرائض الله، ولا حجة في قول شريح، ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق. والمجيزون للوقف لا يجيزون أن ينتفع الواقف بوقفه لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو افتقر هو أو ورثته، فيجوز لهم الأكل منه كسائر الفقراء. وهل حق التصرف في منافع الموقوف للواقف أو لغيره؟ قال الشافعي وأبو يوسف: يحرم على الواقف ملكه، إلا أنه يجوز له أن يتولى صدقته، فيفرّقها ويوزعها بين المستحقين لأن عمر رضي الله عنه لم يزل يلي صدقته، حتى قبضه الله عز وجل، وكذلك علي وفاطمة كانا يليان صدقاتهما. وقال مالك: لا يتم الوقف حتى يتولاه غير الواقف، فيقبضه ويتصرف بمنافعه من كراء وقسمة بين المساكين المستحقين، ما عدا الخيل والسلاح.

التفويض إلى الله تعالى بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [سورة المائدة (5) آية 105] :

التفويض إلى الله تعالى بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) الإعراب: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَنْفُسَكُمْ: منصوب على الإغراء، أي: احفظوا أنفسكم، كما تقول: عليك زيدا. لا يَضُرُّكُمْ: في موضع الجزم، لأنه جواب: عَلَيْكُمْ. وكان ينبغي أن يفتح آخره، إلا أنه أتى به مضموما تبعا لضم ما قبله. المفردات اللغوية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي احفظوها وقوموا بصلاحها فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها. سبب النزول: ذكر الواحدي عن ابن عباس: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل هجر وعليهم منذر بن ساوى، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى، والصابئين والمجوس، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام، وكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية، فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية، فقال منافقو العرب: عجبا من محمد يزعم أن الله يبعثه

ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما ردّ على مشركي العرب، فأنزل الله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يعني من ضل من أهل الكتاب «1» . هذه رواية، وقيل: المراد غير أهل الكتاب، لما روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، يوشك الله عزّ وجلّ أن يعمهم بعقابه» قال: وسمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس: إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان. وقد روى هذا الحديث أيضا أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحة وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصّديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره. ولما روى الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قلت: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله، لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما: الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون كعملكم» وزيد في رواية: «قيل: يا رسول الله،

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 121

المناسبة:

أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم» ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. المناسبة: لما بيّن الله تعالى أنواع التكاليف والشرائع والأحكام، ثم قال: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثم نعى على المشركين تقليدهم الآباء: قالُوا: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وندّد بإعراضهم عن الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، وبقوا مصرين على جهلهم مقيمين على ضلالهم، لما بيّن كل ذلك قال الله للمؤمنين: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالهم، بل أصلحوا أنفسكم، ونفذوا تكاليف الله، وأطيعوا أوامره ونواهيه. والخلاصة: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب التحذير منه. التفسير والبيان: يأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ويخبرهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا. يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، احفظوا أنفسكم من المعاصي، وتقربوا إلى ربكم بخالص الأعمال، وخلّصوها من العقاب، ولا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم إلى الحق، وإلى الله رجوعكم، فيخبركم بأعمالكم، ويجازي كل عامل بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا، بل توجب الآية أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب

فقه الحياة أو الأحكام:

العاصي، فهي تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية مثل قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر 74/ 38] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] . فقه الحياة أو الأحكام: ظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين، كما تقدم في سبب النزول. وعلى كل حال يمكن فهم الآية بغير الرجوع إلى السنة، فهي تطالب المؤمن أولا ببناء الذات والتسلح بفضائل الأعمال والاعتماد على النفس في كل أنواع القربات، واجتناب المعاصي والسيئات. وذلك لأن هناك آيات كثيرة تطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعارض بين الموضوعين، فهذه الآية في تكوين الشخصية والذات المسلمة، وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النطاق الاجتماعي فهي توجب التناصح والتعاون على الخير وإقرار الفضيلة، ومقاومة الشر ومحاربة الرذيلة والمنكر. قال سعيد بن المسيب: معنى الآية: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما إن كانت الآية نازلة في حق غير المسلمين فلا إشكال والمعنى: عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعين متى وجد رجاء القبول، أو رد الظالم ولو بعنف، فإن خاف الآمر ضررا في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، أو الوقوع في التهلكة بأن يعلم يقينا أو يظن ظنا قويا بعدم جدوى نصحه إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، سقطت هذه الفريضة.

الشهادة على الوصية حين الموت [سورة المائدة (5) الآيات 106 إلى 108] :

ودلت الآية على توجيه إنذار عام إذ قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن مصير الخلائق جميعا واحد، مصير المؤمنين ومصير المخالفين، وهو تعالى يجازيكم بأعمالكم. الشهادة على الوصية حين الموت [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) الإعراب: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ مبتدأ، وإِذا حَضَرَ ظرف له ومعمول له، ولا يجوز أن يكون العامل فيه الْوَصِيَّةِ لوجهين: أحدهما- أنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف. والثاني- أنه مصدر، والمصدر لا يعمل فيما قبله. حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من إِذا وقيل: العامل فيه حَضَرَ. اثْنانِ خبر المبتدأ، وتقديره: شهادة بينكم شهادة اثنين، ولا بد من هذا التقدير لأن شهادة لا تكون هي الاثنين.

البلاغة:

أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ معطوف على قوله: اثْنانِ. تَحْبِسُونَهُما جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة آخَرانِ. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ: اعتراض بين الصفة والموصوف، واستغنى عن جواب اثْنانِ بما تقدم من الكلام: لان معنى اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ في معنى الأمر، وإن كان لفظه لفظ الخبر. واستغنى عن جواب إِذا أيضا بما تقدم من الكلام وهو قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ لأن معناه: ينبغي أن يشهدوا إذا حضر أحدكم الموت. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ الفاء فيه لعطف جملة على جملة، ويجوز أن يكون جواب شرط لأن تَحْبِسُونَهُما في معنى الأمر، فهي جواب الأمر الذي دل عليه الكلام، كأنه قال: «إن حبستموهما أقسما» . لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً جواب لقوله: فَيُقْسِمانِ لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم. والهاء في مُصِيبَةُ تعود على الشهادة، إلا أنه عاد الضمير بالتذكير، لأنها في المعنى: قول، والحمل على المعنى كثير في كلامهم. فَآخَرانِ: إما خبر مبتدأ مقدر وهو الأوليان، وتقديره: فالأوليان آخران. ويقومان: صفة فَآخَرانِ. وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالشاهدان آخران، والْأَوْلَيانِ بدل من ضمير يَقُومانِ. وإما مبتدأ، ويَقُومانِ: صفة له، والْأَوْلَيانِ: خبره. ومعنى الْأَوْلَيانِ: الأقربان إلى الميت. لَشَهادَتُنا اللام: جواب لقوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم. أَنْ يَأْتُوا: في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: أدنى بأن يأتوا. البلاغة: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ جملة خبرية لفظا، إنشائية معنى، يراد بها الأمر، أي ليشهد بينكم. المفردات اللغوية: شَهادَةُ هي إخبار عن علم بواقعة بواسطة الحس البصري (المشاهدة) أو السمعي إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أسبابه، وقوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ... اثْنانِ خبر بمعنى الأمر اي ليشهد اثنان عدلان، وإضافة شهادة لبين على الاتساع أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي من غير ملتكم ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سافرتم لأن المسافر يضرب الأرض برجليه تَحْبِسُونَهُما توقفونهما، وهي صفة: آخَرانِ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ صلاة العصر واعتبارها للتغليظ فَيُقْسِمانِ يحلفان إِنِ

سبب النزول:

ارْتَبْتُمْ شككتم فيهما أي في صدقهما فيما يقران به لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي ويقولان: لا نشتري بالله عوضا نأخذه بدله من الدنيا، بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله. وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المقسم له أو المشهود له ذا قرابة منا. إِنَّا إِذاً إن كتمناها الْآثِمِينَ العاصين عُثِرَ اطلع بعد حلفهما اسْتَحَقَّا إِثْماً أي ارتكبا فعلا يوقع في الإثم من خيانة أو كذب في الشهادة، بأن وجد عندهما مثلا ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما في توجه اليمين عليهما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الوصية، وهم الورثة الْأَوْلَيانِ بالميت، أي الأقربان إليه لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ على خيانة الشاهدين ويقولان: لَشَهادَتُنا يميننا أَحَقُّ أصدق مِنْ شَهادَتِهِما يمينهما وَمَا اعْتَدَيْنا تجاوزنا الحق في اليمين. ذلِكَ الحكم المذكور من رد اليمين على الورثة أَدْنى أقرب إلى أَنْ يَأْتُوا أي الشهود أو الأوصياء بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة، أو أقرب إلى ان يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ على الورثة المدعين، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا ويغرموا فلا يكذبوا وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الخيانة والكذب وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به سماع قبول الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعته. والله لا يهديهم إلى سبيل الخير. سبب النزول: روى البخاري والدارقطني والطبري وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان تميم الداري وعدي بن بدّاء رجلين نصرانيين، يتّجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النّبي صلّى الله عليه وسلّم حوّلا متجرهما إلى المدينة، فخرج بديل السهمي مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل، فكتب وصية بيده، ثم دسّها في متاعه وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا (إناء من فضة منقوشا بالذهب) ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله، فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا.

المناسبة:

فقالوا لهما: هذا كتابه بيده، قالوا: ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.. إلى قوله: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فأمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه. ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكان يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء «1» . والخلاصة: اتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية هو تميم الداري وأخوه عدي النصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة ومعهما بديل بن أبي مريم من بني سهم مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا. المناسبة: حكم سبحانه في الآية السابقة أن المرجع والمصير إليه بعد الموت، وأنه يحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم يوم القيامة، فناسب أن يذكر ما تتطلبه الوصية قبل الموت من إشهاد، حفاظا عليها وإثباتا لها لتنفيذها. التفسير والبيان: يا من صدقتم بالله ورسوله، ليشهد المحتضر على وصيته اثنين عدلين من

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 75

الرجال المسلمين، فقوله مِنْكُمْ أي من المؤمنين وقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي اقترب منه وظهرت أمارات الموت، أو يشهد للضرورة اثنين آخرين من غير المؤمنين في حال السفر، وذلك يدل على تأكيد الوصية والإشهاد عليها. وهناك في الكلام حذف تقديره: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم، ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما بعد الصلاة. ووقت الشهادة: بعد صلاة العصر لأنها كانت معهودة للتحليف عندها وكان ذلك وقت القضاء وفصل الدعاوي، وكونها عقب الصلاة للتغليظ والتهويل لقوله تعالى: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي تقفونهما وتستوثقون منهما وتقدمونهما للحلف بعد العصر، كما فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم مع تميم وأخيه. وروي عن ابن عباس أن الشاهدين إذا كانا غير مسلمين، فالمراد بالصلاة: صلاة أهل دينهما. ورجح الطبري أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين لأن الله تعالى عرّف هذه الصلاة بالألف واللام، ولا يكون ذلك عند العرب إلا في معروف إما في جنسه أو عينه، وأما اليهود والنصارى فلهم صلوات عديدة غير واحدة، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك في عرف القضاء والناس. وإن شككتم في صدق الشاهدين وإقرارهما فيحلفان بقولهما: لا نشتري بيمين الله عوضا نأخذه من الدنيا بأن نحلف به كذبا، والمراد بالثمن عند الأكثرين: المثمون وضمير مُصِيبَةُ يعود إلى القسم المفهوم من فَيُقْسِمانِ والمعنى: لا نستبدل بصدق القسم بالله وصحته عرضا من الدنيا، ولو كان المقسم له أو المشهود له من أقاربنا، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا منا، على معنى أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون

تحت قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ «1» . أما الأمين فيصدق بلا يمين. والخلاصة: أن يحلف الشاهد بأن يقول الحق، ويشهد بالعدل، ولا يتأثر بعوض مالي يأخذه عوضا عن يمينه، ولا بمراعاة قريب له إن كانت الشهادة له. وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ.. أي ويقولون في يمينهما أيضا: لا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر بحفظها وإظهارها من وقت التحمل إلى الأداء، كما قال: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ فإنا إن فعلنا ذلك، واشترينا بالقسم ثمنا أي عوضا أو راعينا به قريبا، أو كتمنا شهادة الله، كنّا من العاصين المتحملين إثما كبيرا نعاقب عليه. فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع على أمارة كذبهما أو خيانتهما وكتمانهما وأنهما فعلا ما أوجب الإثم، فترد اليمين إلى الورثة، فيحلف رجلان يقومان مقام الشاهدين، الأوليان بالميت أي من أقاربه الذين هم أحق بالإرث إن لم يوجد مانع شرعي، فيحلفان بالله لشهادتنا أي يميننا أحق وأصدق من أيمانهما، وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين، أي المبطلين الكاذبين. فالمراد بقوله: لَشَهادَتُنا اليمين، كما قال تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور 24/ 6] ، والمراد بقوله: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي من الذين استحقت عليهم الوصية أو استحق عليهم الإيصاء، والأوليان بالميت: الأقربان منه. وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.

_ (1) الكشاف: 1/ 488

فقه الحياة أو الأحكام:

وحكمة تشريع هذه الشهادة وهذه الأيمان: هي مطابقة الشهادة واليمين للواقع، لقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى ... أي أقرب أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها الحقيقي بلا تبديل ولا تغيير، خوفا من عذاب الله، وهذه حكمة تغليظ الشهادة بكونها بعد العصر، أو خوفا من ردّ اليمين على الورثة، وفي ذلك الخزي والفضيحة بين الناس، فيظهر كذبهم بين الناس، فيكون الخوف من عذاب الله أو من ردّ اليمين مدعاة الصدق والبعد عن الخيانة. ثم طوّق الله هذا التشديد على صدق الشهادة بباعث ذاتي دائم وهو تقوى الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا.. أي راقبوا الله واحذروا عقابه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تأخذوا مالا عليها وأن تخونوا من ائتمنكم، واسمعوا سماع تدبر وقبول لهذه الأحكام واعملوا بها، وإلا كنتم من الفاسقين: المتمردين الخارجين عن دائرة حكم الله وشرعه، المطرودين من هدايته، المستحقين لعقابه، والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان. فقه الحياة أو الأحكام: أكثر المفسرين- كما قال الطبري- على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن ادعى النسخ فعليه البيان، ثم صوّب الطبري القول بالنسخ، لأن المعمول به بين أهل الإسلام قديما منذ بعثة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وما بعد ذلك: أن إثبات الحق يكون إما ببينة المدعي أو بيمين المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه، وأن من ادعى سلعة في يده أنها له اشتراها من المدعي: القول قول المدعي بيمينه، إذا لم يكن لمن هي في يده بيّنة تثبت مدعاه «1» . وقد استنبط العلماء من هذه الآيات الثلاث ما يأتي من الأحكام:

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 81

1- الحض على الوصية والاهتمام بأمرها في السفر والحضر. 2- الإشهاد عليها لإثباتها وتنفيذها. 3- الأصل كون الشاهدين مسلمين عدلين. 4- جواز شهادة غير المسلم على المسلم للضرورة أو الحاجة. وقد اختلف العلماء في هذا الحكم، فقال الجمهور من الفقهاء: قوله سبحانه: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ لقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة 2/ 282] ، وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من المؤمنين كما هو الظاهر [الطلاق 65/ 2] وآية الدين التي فيها: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ.. من آخر ما نزل، فهي ناسخة لما ذكر هنا، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت في الماضي شهادة أهل الكتاب، أما اليوم فوجد المسلمون في كل مكان، فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفسّاق لا تجوز، والكفار فسّاق فلا تجوز شهادتهم، فلا تجوز شهادة الكفار على المسلمين، ولا على بعضهم بعضا، للأدلة السابقة. وقال أبو حنيفة: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين: لأن آيات الشهادة بحسب السياق في كلها هي في الكلام عن المسلمين، وأما فيما بينهم فتقبل شهادتهم لقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران 3/ 75] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، فيكون أمينا على قرابته وأهل ملته بالأولى. ولقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال 8/ 73] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض، وهي أعلى رتبة من الشهادة. وما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة زنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون» . ثم إن أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة، وتقع بينهم

الجنايات والاعتداءات، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم، ويتخاصمون إلى قضاة المسلمين، فإذا لم يحكم بينهم بشهودهم المرضيين عندهم، ضاعت حقوقهم، ووقع الظلم والفساد، فالحاجة ماسة إلى قبول شهادتهم بعضهم على بعض. هذا هو الأرجح والمقبول عمليا. وكذلك في شهادة الكفار على المسلمين يؤخذ بقول الإمام أحمد: تجوز للضرورة حيث لا يوجد مسلم كالسفر لقوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ قال ابن تيمية: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع: هو ضرورة، يقتضي قبولها في كل ضرورة، حضرا وسفرا. ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون، لكان له وجه إذ قد يقرب أجل المسلم في الغربة، ولا يجد مسلما يشهده على نفسه، وربما وجبت عليه زكوات وكفارات، وربما كان عنده وودائع أو ديون في ذمته، فإذا لم يشهد غير المسلمين ضاعت عليه مهماته ومصالحه. 5- وآية تَحْبِسُونَهُما أصل في حبس من وجب عليه حق لأن التوثق للحقوق المالية إما بالرهن وإما بالكفالة، فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بالحبس حتى يحمله السجن على الوفاء بالحق، أو يتبين أنه معسر. أما التوثق للحق البدني الذي لا يقبل البدل كالحدود والقصاص، فلا يمكن إلا بالسجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشّريد عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» عرضه: يعزر بالتوبيخ، وعقوبته: حبسه. 6- دل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ على مشروعية اختيار الوقت الذي يؤثر في نفوس الشهود حالفي الأيمان رجاء أن يصدقوا في كلامهم. قال أكثر العلماء: يريد بالآية بعد صلاة العصر لأن أهل الأديان يعظمون ذلك

الوقت، ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. جاء في الحديث الصحيح «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر، لقي الله، وهو عليه غضبان» . 7- الآية أصل في التغليظ في الأيمان، بأن يقول الحالف ما يرجى ان يكون رادعا له عن الكذب. والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أ- الزمان كما هو مذكور في الآية. ب- المكان: كالمسجد والمنبر، خلافا للبخاري والحنفية حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها. وقال مالك والشافعي: أيمان القسامة بين الركن والمقام في مكة لمن كان فيها أو في توابعها، وعند المنبر النبوي لمن كان في المدينة وتوابعها. وتغلظ الأيمان في الدماء والطلاق والعتاق في رأي الشافعي. ج- الحال: ذكر مظرّف وابن الماجشون وبعض الشافعية: أنه يحلف قائما مستقبل القبلة لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا. د- التغليظ باللفظ: قالت طائفة: يحلف بالله لا يزيد عليه لقوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ وقوله: قُلْ: إِي وَرَبِّي وقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ. وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي حق، وما ادّعاه علي باطل، لما رواه أبو داود عن ابن عباس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل حلّفه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عندك شيء» يعني للمدعي.

وقال الحنفية: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي، غلظ عليه اليمين، فيحلفه «بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور» . وزاد الشافعية: التغليظ بالمصحف. وقال أحمد: لا يكره ذلك. 8- قدر المال الذي يحلف به: قال مالك: لا تكون اليمين في أقل من ثلاثة دراهم، قياسا على حد القطع في السرقة. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد. 9- الأصل قبول أخبار الشهود وتصديقهم دون يمين لقول الله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وشرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، فإذا لم يكن الشاهدان عدلين وارتاب الحاكم بقولهما حلّفهما، بدليل قوله تعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ ومتى لم يقع ريب فلا يمين. وأصبح تحليف الشهود السمة العامة في المحاكم الحالية. وسبب الريبة في الآية: هو الاحتياط لقبول شهادة الكافر بدلا عن شهادة المسلم للضرورة. وقد حلف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع. 10- تجيز الآية شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم: وهذا مخالف للمقرر في الشريعة: أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وهو محض العدل، وقد أجاب الجمهور بأن حكم الآية هذا منسوخ. وأما جواب القائلين بأن الآية محكمة غير منسوخة: فهو قبول يمين المدعي بسبب العثور على خيانة المدعى عليه واستحقاقه الإثم، وهذا موافق للأصول حيث يتقوى جانب المدعي بالشاهد، أو بنكول خصمه عن اليمين، أو قوة جانبه باللوث (القرينة على القتل) ، أو قوة جانبه بشهادة العرف في تداعى

سؤال الرسل يوم القيامة عن أثر دعوتهم [سورة المائدة (5) آية 109] :

الزوجين، ومنها العثور على الخيانة، فإن اليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة. 11- الآية تدل على مشروعية اليمين المردودة، أي رد اليمين من المدعى عليه إلى المدعي. 12- أولى الورثة المدعين بقبول اليمين منهم فيما يتعلق بالتركة: أقربهم إلى الميت لقوله تعالى: لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي يميننا أحق من يمينهما. وهذا يدل على أن الشهادة يصح أن تكون بمعنى اليمين، مثل قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور 24/ 6] . سؤال الرسل يوم القيامة عن أثر دعوتهم [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) المفردات اللغوية: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ هو يوم القيامة. فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ أي يقول هم توبيخا لقومهم: ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد. عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما غاب عن العباد وذهب عنهم علمه لشدة هول يوم القيامة وفزعهم. المناسبة: الآية استمرار في التهديد والتخويف والزجر، فبعد أن أمر الله بالتقوى. وحذّر من إخفاء شيء من الوصية أو غيرها، أعقب ذلك بالتحذير من الحساب يوم القيامة، أي اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل. وعادة القرآن أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والأحكام والتكاليف، كما ذكر هنا، أتبعها إما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة، ليؤكد

التفسير والبيان:

ما تقدم، وهنا أتبع الشرائع بوصف أحوال القيامة، ثم ذكر في الآية بعدها أحوال عيسى. التفسير والبيان: اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم، ويسألهم عما أجيبوا به من أممهم، يسألهم عن نوع الإجابة، أهي إجابة إيمان وإقرار، أم إجابة إنكار وإعراض؟ وذلك كما قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 6] وقال سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] وهذا سؤال للطرفين: للرسل وللمرسل إليهم. وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير 81/ 8- 9] وهذا سؤال للشاهد دون المتهم للتوبيخ وإنكار الفعل. وذلك يختلف باختلاف مواقف القيامة وأحوالها، فبعضها يسأل الله الرسل للشهادة على أممهم، وبعضها يسأل الأمم، وقد يسأل الخصم وقد يسأل الشهود، وقد يسأل الفريقان. ويسألهم أيضا: ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا بعدكم؟ فأجابوا قائلين للربّ عز وجل: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، بطريق التأدب مع الله جلّ جلاله، أي لا علم لنا بالنسبة لعلمك المحيط بكل شيء، العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كعدم العلم، إنك أنت علام الغيوب، أي ما غاب عن الناس وذهب عنهم لشدة هول يوم القيامة، أو لسعة علم الله بظواهر الأمور وبواطنها. وبهذا يجمع بين الرأيين في تفسير الآية وتوضيح الجواب، وهما ما يأتي:

فقه الحياة أو الأحكام:

الأول- يراد به نقصان علمهم بالنسبة إلى علم الله تعالى، وهذا رأي ابن عباس، وهو الأصح، قالوا: لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا. الثاني- انعدام علمهم بسبب ما يتعرضون له من هول ذلك اليوم وفزعهم ويذهلون عن الجواب. وهذا رأي الحسن البصري ومجاهد والسّدّي، جاء في الخبر: «إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة، فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا جثا لركبتيه» وقال صلّى الله عليه وسلّم: «خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني، فقلت: يا جبريل، ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي: يا محمد: لتشهدنّ من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة» . فقه الحياة أو الأحكام: الثابت في القرآن الكريم أن الله تعالى يسأل الرسل عن القيام بواجبهم في التبليغ، ويسأل أقوامهم عن مدى إجابتهم دعوة الرسل ونوع الإجابة أهي إجابة إقرار أم إجابة إنكار؟ والله في هذه الآية يوجّه السؤال للأنبياء بقوله مثلا: ماذا أجبتم في السرّ والعلانية؟ ليكون هذا توبيخا للكفار، فيقولون أي الرسل على سبيل النفي الحقيقي: لا علم لنا، فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها. وقال ابن جريج: معنى قوله: ماذا أُجِبْتُمْ؟: ماذا عملوا بعدكم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب. قال الماوردي: فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان: أحدهما- أنه سألهم ليعلّمهم- أي الرسل- ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني- أنه أراد أن يفضحهم- أي أقوامهم- بذلك على رؤوس الأشهاد، ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.

التذكير بمعجزات عيسى عليه السلام [سورة المائدة (5) الآيات 110 إلى 111] :

ودلت الآية كما قال الرازي على جواز إطلاق لفظ العلام على الله، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه. أما (العلامة) فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه، ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث. التّذكير بمعجزات عيسى عليه السّلام [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) الإعراب: في ضمير فَتَنْفُخُ فِيها وجهان: أحدهما- أن يعود على الهيئة، وهي مصدر في معنى «المهيّأ» لأن النّفخ إنما يكون في المهيأ لا في الهيئة. والثاني- أن يعود على الطير لأنها تؤنث. ومن قرأ طائرا جاز أن يكون جمعا كالباقر والحامل، فيؤنث الضمير في فِيها لأنه يرجع إلى معنى الجماعة. المفردات اللغوية: أَيَّدْتُكَ قويتك. بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل عليه السّلام الذي يؤيّد به الله رسله

المناسبة:

بالتّعليم الإلهي والتّثبيت في مواطن الضّعف التي قد يتعرّض البشر لها. فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا في حالتي الطّفولة والكهولة أو الضعف والقوة. الْكِتابَ كلّ ما يكتب. وَالْحِكْمَةَ العلم النافع. وَالتَّوْراةَ الكتاب الذي أنزله الله على موسى، وفيه الشرائع والأحكام. وَالْإِنْجِيلَ الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، وفيه المواعظ والأخلاق. وَإِذْ تَخْلُقُ تجعل الشيء بمقدار معين بإذن الله وإرادته، ويستعمل الخلق في إيجاد الله الأشياء بتقدير معين في علمه. كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ كصورته، والكاف: اسم بمعنى مثل، مفعول به. بِإِذْنِي بإرادتي. الْأَكْمَهَ من ولد أعمى، وقد يطلق أيضا على من طرأ له العمى بعد الولادة. الْأَبْرَصَ البرص: بياض بقع في الجسد لعلّة مرضية. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ حين همّوا بقتلك. إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات. سِحْرٌ السّحر: هو تمويه وتخييل، به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أمرتهم على لسانه، والحواريون، خلصاء عيسى وصحبه المخلصون. أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي أي عيسى. المناسبة: كان المقصود من قوله تعالى للرّسل: ماذا أُجِبْتُمْ توبيخ من تمرّد من أممهم، وأشدّ الأمم حاجة إلى التّوبيخ واللّوم: النّصارى الذين ألّهوا عيسى عليه السّلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء، وأما النّصارى فتعدّى طعنهم إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتّخاذ الزّوجة والولد، لذا كانت هذه الآيات مذكّرة بأنواع النّعم على عيسى عليه السّلام، وهي بالتالي معجزات أيّده الله بها لإظهار صدقه، كما أيّد سائر الأنبياء بالمعجزات، والمقصود منه: توبيخ النّصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم، فإنّ كلّ واحدة من تلك النّعم تدلّ على أنّ عيسى بشر عبد الله وليس بإله.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الآيات تذكير بالنّعم والمعجزات الباهرات وخوارق العادات التي أجراها الله على يدي عيسى عليه السّلام بإرادة قاطعة من الله وحده. اذكر يا عيسى نعمتي عليك في خلقي إيّاك من أم بلا أب، وجعلي إيّاك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء. ونعمتي على والدتك حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، إذ أنطقتك في المهد فشهدت ببراءة أمّك. وأيّدتك بروح القدس وهو في الأصحّ جبريل عليه السّلام، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. وتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وتبرّؤ أمك من كلّ عيب وتهمة من الظلمة: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً [مريم 19/ 30- 31] . وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي الخط والفهم، فتقرأ الكتب وتفهم ما فيها من العلم النافع لك في الدّين والدّنيا. والحكمة تشمل العلوم النظرية والعلوم العملية. وعلّمتك التّوراة: (وهي المنزلة على موسى بن عمران كليم الله) والإنجيل (وهو ما أوحيته إليك من المواعظ والحكم) . وذكر هذان الكتابان بعد ذكر الكتب للتشريف والتعظيم. وإذ تصنع الطيور، بأن تصوّر من الطّين وتشكّل على هيئة الطائر، بإذني وإرادتي لك في ذلك، ثم تنفخ فيها أي في تلك الصورة التي شكّلتها، فتكون طيرا بإذني لك في ذلك، وهو طائر ذو روح يطير بإذن الله وخلقه، فأنت تفعل التقدير والنفخ والله هو الذي يكوّن الطّير. ولم يكن ذلك مطلقا، وإنما في حالات فردية معدودة لا تقع إلا بإرادة الله.

فقه الحياة أو الأحكام:

وتبرئ الأكمة الذي ولد أعمى، وتشفي الأبرص من المرض الجلدي، وتحيى الموتى، وكل ذلك بإذني وأمري، فأنت تدعوهم من قبورهم، فيقومون أحياء بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته. وكففت عنك بني إسرائيل حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوّتك ورسالتك من الله، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر، وهمّوا بقتلك وصلبك، فنجّيتك منهم، ورفعتك إليّ، وكفيتك شرّهم. وقد عبّر تعالى عن كل تلك النّعم التي امتنّ الله بها على عيسى بصيغة الماضي للدّلالة على وقوعه. وإذ ألهمت الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي عيسى، فجعلت لك أصحابا وأنصارا، فقالوا: آمنّا بالله وبرسوله، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية. ويلاحظ أن الوحي قد يأتي بمعنى الإلهام كما تقدّم بيانه، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص 28/ 7] وهو وحي إلهام بلا خلاف، وكما قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل 16/ 68] . فقه الحياة أو الأحكام: إن تذكير عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته، وإن كان لهما متذكرا لأمرين: أحدهما- ليتلو على الأمم ما خصّهما به من الكرامة، وميّزهما به من علو المنزلة. والثاني- ليؤكّد به حجّته، ويردّ به جاحده. ثم عدّد تعالى نعمه على عيسى عليه السّلام وهي ثمان، منها معجزات أيّده الله بها: وهي الكلام في المهد، وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء

الموتى، ومنع أذى اليهود عنه، فلم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن شبّه لهم. والنّعم الثلاث الباقية تستلزمها عادة النّبوة والرّسالة: وهي التّأييد والتّقوية بجبريل روح القدس عليه السّلام، والتّعليم الإلهي بالكتابة والفهم والوحي وإنزال الإنجيل، ومعرفة ما أنزل على من تقدّمه مثل موسى الكليم عليه السّلام، وإلهام الحواريين الإيمان بالله وبعيسى عليه السّلام. وكلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات تدلّ على صدق رسالة عيسى، وكلّها بمراد الله ومشيئته وقدرته. ولم ينفرد عيسى بالمعجزات الدّالة على صدقه، فهذا هو الشأن المتّبع مع كلّ الأنبياء والرّسل لأن البشر لا يصدّقون عادة بنبوّة النّبي إلا بأشياء خارقة للعادة، وهي المسمّاة بالمعجزات، ولكلّ عصر ما يناسبه من المعجزة، فقد كان عصر عيسى مزدهرا بالطّب والعلوم والمعارف، فأجرى الله على يديه ما يفوق الطّب البشري والمعرفة والثقافة البشرية. وكان زمان موسى فيه السّحر والشّعوذة فأيّده الله تعالى بما يفوق سحر السّحرة، باليد والعصا وفلق البحر وتفجير الماء من الحجر ينابيع هي اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط (قبائل بني إسرائيل) . وزمان النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم اشتهر بالتّفوق البياني في الكلام شعرا ونثرا وخطابة، فأنزل الله عليه القرآن الكريم مشتملا على أرفع البيان وأسمى الفصاحة، وأبلغ البلاغة، فكان إعجاز القرآن البياني معجزة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبد الدّهر. والغرض من إيراد معجزات عيسى عليه السّلام هو كما بيّنت تنبيه النّصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم بتأليه بشر عادي مولود كسائر البشر، يأكل ويشرب ويقضي حاجته كغيره من الناس.

إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين [سورة المائدة (5) الآيات 112 إلى 115] :

إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) الإعراب هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرئ بالتّاء والنّصب، والتقدير فيه: هل تستطيع سؤال ربّك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [يوسف 12/ 82] أي: أهل القرية وأهل العير. عَلَيْها في موضع الحال. لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لَنا بتكرار العامل. المفردات اللغوية: الْحَوارِيُّونَ أصحاب المسيح الخلّص. يَسْتَطِيعُ يفعل ويرضى ويجيبك إن سألته. مائِدَةً المائدة: هي الخوان إذا كان عليه الطّعام. قال لهم عيسى. تَطْمَئِنَّ تسكن قلوبنا بزيادة اليقين. وَنَعْلَمَ نزداد علما. صَدَقْتَنا في ادّعاء النّبوة. اللَّهُمَّ أي يا الله. عِيداً يوما نفرح به ونعظّمه ونشرّفه. وَآيَةً مِنْكَ دليلا آخر أو علامة على قدرتك ونبوّتي.

المناسبة:

المناسبة: هذه قصة المائدة التي لا يعرفها النصارى إلا من القرآن، وهي نعمة تاسعة ومعجزة بعد النّعم الثماني المتقدّمة، إذ تمّ إنزال المائدة بطلب عيسى عليه السّلام، علامة على قدرة الله وتصديق الناس بنبوّته، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها. التفسير والبيان: اذكر يا محمد وقت قول الحواريين أصحاب عيسى المخلصين إذ قالوا لعيسى: هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء. والمقصود بكلمة الاستطاعة، مع أن الطلب صادر من الحواريين وهم مؤمنون يعلمون أن الله قادر على كلّ شيء: أنه هل يفعل ذلك، وهل يجيبك إلى مطلبك أو لا؟ فأرادوا علم المعاينة والمشاهدة والاطمئنان بعد توافر الاعتقاد والعلم بقدرة الله تعالى، كما قال إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة 2/ 260] ، لأن علم النّظر والخبر قد تدخله الشّبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة المحسوس لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا كما قال إبراهيم: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» [البقرة 2/ 260] قال السّدّي: هل يستطيع ربّك أي هل يطيعك ربّك إن سألته، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع، والسّين زائدة «2» . وقال الطّبري: الأولى في المعنى عندي بالصّواب: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه «3» .

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 365 (2) تفسير الرازي: 12/ 129 (3) تفسير الطّبري: 7/ 84

وقال بعضهم: في الآية محذوف على قراءة: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ وتقديره: هل تستطيع سؤال ربّك؟ فأجابهم عيسى: اتّقوا الله أن تطلبوا مثل هذا الطلب الذي يشبه ما طلبه الإسرائيليون من موسى عليه السّلام، إن كنتم مؤمنين أي إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة. قالوا معتذرين عن سؤالهم: نريد أن نأكل منها فنحن بحاجة إلى الطّعام، وتزداد قلوبنا اطمئنانا ويقينا بقدرة الله وبصدق نبوّتك لأن علم الحسّ والمشاهدة أقوى دلالة على المطلوب من العلم النظري القائم على التسليم بالبراهين، ونكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية وبكمال القدرة، ولك بالنّبوة، فيكون ذلك سببا للإيمان أو ازدياد الإيمان. وإنما سأل عيسى وأجيب، ليلزموا الحجّة بكمالها، ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا. قال عيسى: يا ربّنا المالك أمرنا والمتولّي شؤوننا، أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء، وتكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها عيدا، قيل: هو يوم الأحد، ومن ثم اتّخذه النّصارى عيدا. لأوّلنا وآخرنا، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا. وآية منك، أي علامة من لدنك تدلّ على كمال قدرتك وصدق نبوّتي. وارزقنا منها ومن غيرها رزقا طيّبا نغذي به أجسامنا، وأنت خير الرّازقين، أي خير من أعطى ورزق لأنك الغني الحميد، الذي ترزق من تشاء بغير حساب. ويلاحظ أن عيسى أخّر بدعائه طلب فائدة المائدة عن طلب الفائدة الدّينية والاجتماعية، بعكس ما طلب الحواريون إذ قدّموا الأكل على غيره.

فقه الحياة أو الأحكام:

قالَ اللَّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرّة أو مرارا، ووعده الحقّ وقوله الصدق، وقد نزلت. لكن هذا الوعد مقرون بالجزاء حين المخالفة: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ.. أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة، فإني أعذّبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين: عالمي زمانهم لأنه لم يبق بعد هذا الدّليل الحسي عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته. أما الطّعام فقيل: إنه خبز ولحم، أو خبز وسمك، قال الطّبري: والصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا، وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به «1» . جاء في حديث ذكره السّيوطي: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد، فخانوا وادّخروا، فمسخوا قردة وخنازير، فقه الحياة أو الأحكام: قصة المائدة نعمة تاسعة من النّعم التي عدّدها الله وامتنّ بها على عيسى عليه السّلام وقومه، والذي عليه الجمهور وهو الحق: أنها نزلت فعلا، لقوله تعالى: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قيل: إنها نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية، فجعلوا الأحد عيدا. وهي آية بيّنة على قدرة الله، وعلى إجابته دعاء المخلص من عباده، وعلى صدق نبوة عيسى، وأنه عبد لله ورسوله لأنه لو كان إلها لما كان بحاجة أن يطلب شيئا من أحد، فالدّعاء إلى الله منه، وإجابة الدّعاء من ربّه دليل آخر

_ (1) تفسير الطّبري: 7/ 88

على عبوديّته وبشريّته وفقره وحاجته إلى الله، وليعلم النّصارى بطلان قولهم وادّعائهم التّالية. والذي دفع الحواريين إلى سؤال إنزال المائدة أربعة أسباب: 1- الحاجة الدّاعية إلى الأكل منها، لأن عيسى عليه السّلام كان إذا خرج اتّبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة، ولم يكن معهم نفقة، فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: قل لهم: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأخبر بذلك شمعون القوم، فقالوا له: قل له: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها الآية. وقال الماوردي: نأكل منها، أي ننال بركتها، لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا إلى الطعام لم ينهوا عن السؤال. 2- اطمئنان القلب إلى أن الله تعالى بعث عيسى إليها نبيّا. 3- العلم بأن عيسى رسول الله، أي ازدياد الإيمان بك وعلما برسالتك. 4- الشهادة أنها آية من عند الله، ودلالة وحجّة على نبوّتك، وصدق ما جئت به. وبالرّغم من إنزال المائدة السّماوية، وامتنان الله على النّصارى بها، فإنّهم جحدوا تلك النّعمة وكفروا بعد نزولها، فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر: إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.

تبرئة عيسى من مزاعم النصارى ألوهيته وألوهية أمه [سورة المائدة (5) الآيات 116 إلى 120] :

تبرئة عيسى من مزاعم النصارى ألوهيته وألوهية أمه [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) الإعراب: أَنِ اعْبُدُوا أَنِ: إما مفسرة بمعنى «أي» فلا يكون لها موضع من الإعراب. وإما مصدرية في موضع جرّ على البدل من ما في قوله تعالى: إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ. ما دُمْتُ في موضع نصب على الظرف، والعامل فيه شَهِيداً. وما في «ما دام» : مصدرية ظرفية زمانية، وتقدير الآية: وكنت عليهم شهيدا مدّة دوامي فيهم. هذا يَوْمُ يَنْفَعُ يَوْمُ بالرّفع: خبر المبتدأ الذي هو هذا. وهذا: إشارة إلى يوم القيامة. والجملة من المبتدأ والخبر في موضع نصب بقال، وتحكى بعده الجملة. ويجوز

المفردات اللغوية:

أن يكون في موضع نصب، وهذا ضعيف كما قال الأنباري، لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى مبني كالفعل الماضي، أو أضيف إلى «إذ» كقوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود 11/ 66] . ويَنْفَعُ فعل مضارع معرب، فلا يبنى الظرف لإضافته إليه، فلهذا كان هذا القول ضعيفا. خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ: منصوب على الحال من الضمير المجرور في لَهُمْ. وأَبَداً: منصوب، لأنه ظرف زمان. المفردات اللغوية: وَإِذْ قالَ اللَّهُ اذكر إذ يقول له هذا يوم القيامة توبيخا لقومه. سُبْحانَكَ تنزيها لك عما لا يليق بك من شريك وغيره. ما يَكُونُ لِي ما ينبغي لي أن أتجاوز حقّي وقدري ومنزلتي، ولِي: للتّبيين. تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي أي تعلم سرّي وما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. شَهِيداً رقيبا كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به. تَوَفَّيْتَنِي قبضتني ورفعتني إلى السماء. كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ الحفيظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم، تمنعهم من القول به، بما أقمت لهم من الأدلّة على ألوهيتك. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على الكفر والجحود. فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك، مكذّبين لأنبيائك، وأنت مالكهم تتصرّف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك. وَإِنْ تَغْفِرْ لمن آمن منهم. فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القوي القادر على الثواب والعقاب. الْحَكِيمُ في صنعه الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. هذا أي يوم القيامة. الصَّادِقِينَ في الدّنيا كعيسى عليه السّلام. صِدْقُهُمْ ينفعهم صدقهم في هذا اليوم لأنه يوم الجزاء. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خزائن المطر والنّبات والرّزق وغيرها. وَما فِيهِنَّ أتى به للتغليب أي تغليب العاقل على غير العاقل. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الله قادر على كل شيء، ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب. المناسبة: بعد أن عدّد الله تعالى النّعم على عيسى عليه السّلام، ذكر أنه سيوجه له سؤالا خطيرا يوم القيامة توبيخا لقومه وتقريعا لهم على افترائهم، وتعريفا لهم بأنه سيتبرّأ من ذلك الإفك العظيم وهو القول بالتّثليث ثمّ التّأليه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآيات تصوّر مناقشة وسؤالا يتضمّن تهديد النّصارى وتوبيخهم وتقريعهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. والخطاب في ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلّم. اذكر يا محمد للناس يوم الحشر الذي يوجّه الله فيه السؤال لعيسى قائلا له: أأنت قلت للناس: اتّخذوني مع أمي إلهين من دون الله، أي متجاوزين بذلك توحيد الله إلى القول بالشرك: وهو اتّخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى، سواء اعتقد المشرك أن الشريك يضرّ وينفع مستقلّا بذلك، أو بإقدار الله إيّاه وتفويضه الأمر إليه، أو بالوساطة عند الله بماله من التّأثير والكرامة، كما قال تعالى حاكيا فعلهم: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] ، وقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر 39/ 3] . وهذا السؤال ليس استفهاما وإن خرج مخرج الاستفهام، وإنما هو توبيخ لمن ادّعى ألوهيّة عيسى، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التّكذيب، وأشدّ في التوبيخ والتّقريع، أو لتعريفه أن قومه غيّروا بعده، وادّعوا عليه ما لم يقله. والآية ترشد إلى أنهم اتّخذوا مريم وابنها إلهين، لعبادتهم لها، وتقديسهم إيّاها، ولقولهم: إنها لم تلد بشرا، وإنما ولدت إلها، فلأجل البعضية صارت بمثابة من ولدته، ويجعلها بعضهم أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والرّوح القدس. فأجاب عيسى بتلقي الحجة من الله: سُبْحانَكَ أي أنزهك عما لا يليق بك، وعن أن يكون معك إله آخر، فأثبت له التّنزيه عن المشاركة في الذّات والصّفات وعما أضيف إليه، وأبان أنه خاضع لعزّته، خائف من سطوته. ثم برّأ نفسه عن القول الباطل فقال: ليس من شأني ولا مما يصحّ أن يقع منّي أن أقول قولا لا حقّ لي بقوله، ثم أكّد النّفي القاطع بأن ذلك القول إن كان قد

صدر منّي فقد علمته لأن علمك محيط بكلّ شيء، فأنت تعلم سرّي وما أخفي في نفسي، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذّاتية في نفسك، إنك أنت المحيط بالغيبيات، ما كان منها وما هو كائن وما سيكون. هذا جواب عيسى، لم يقل: بأني قلته أو ما قلته، وإنّما فوّض ذلك إلى علم الله المحيط بكلّ شيء، وإن قلته فأنت عالم به، وهذا مبالغة في الأدب، وفي إظهار الذّلّ والخضوع لله. ثم حكى الله قول عيسى: ما قلت لهم في شأن الاعتقاد والعبادة إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله ربّي وربّكم، وأني عبد من عبادك مثلهم، وكنت المراقب على أحوالهم أشهد على ما يفعلون وأمنعهم من القول الباطل وأطالبهم بقول الحق، فلما توفيتني، أي قبضتني إليك، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم، الحافظ عليهم، وأنت الشهيد على كل شيء، فتشهد لي حين كنت فيهم. وفي هذا تعريف له بأفعال أتباعه وأقوالهم واعتقادهم. وأغلب المفسرين على أن المراد بقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وفاة الرّفع إلى السماء، لقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ قال الحسن البصري: الوفاة في كتاب الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: وفاة الموت، وذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [المائدة 5/ 117] يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] يعني الذي ينيمكم. ووفاة الرّفع قال الله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران 3/ 55] . ثم فوض عيسى الأمر كله إلى الله فقال: إن تعذب المسيء عدلت، وإن تغفر

له مع كفره، فالملك ملكك ولا اعتراض لأحد عليك، وأنت القوي القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا تجازي إلا بحكمة وصواب. وهنا تساؤل: كيف جاز لعيسى عليه السّلام أن يقول: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ والله لا يغفر الشرك؟ والجواب: أن المقصود من قوله تفويض الأمور كلها إلى الله، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وترك التّعرّض والاعتراض بالكليّة. وأما قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فهو تقرير للواقع الذي دل عليه الدليل السمعي شرعا، وإن كان يجوز عقلا في رأي أهل السنة المغفرة للمسيء وتعذيب الطائع، بحسب الإرادة والمشيئة المطلقة. وأما المعتزلة فيقولون: إن العقاب حق الله على المذنب، وليس في إسقاطه مضرة على الله. ودل كلام عيسى على أنه لا يتضمن شيئا من الشفاعة لأتباعه لأن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئا. وختم الله تعالى السورة وهذا النقاش بقوله: قالَ اللَّهُ: هذا يَوْمُ أي إن هذا وهو يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع فيه صدق الصادقين في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأفعالهم في الدنيا. وجزاء الصادقين جنات تجري من تحتها الأنهار أي من تحت غرفها وأشجارها، خالدين وماكثين فيها أبدا، ثوابا من عند الله، وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا، وهم راضون عن الجزاء الذي أثابهم به، ذلك الظفر هو الظفر العظيم الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف. ثم ذكر تعالى ما يناسب دعوى النصارى أن عيسى إله، فأخبر تعالى أن

فقه الحياة أو الأحكام:

ملك السموات والأرض له، دون عيسى ودون سائر المخلوقات، وأن كل ما فيهما ملك لله، وأن الله قادر قدرة مطلقة على كل شيء، والمملوك المقدور عليه من الله هو عبد لله، كائن بخلق الله وتكوينه، سواء عيسى ومريم وغيرهما، ولا معنى للعبودية إلا ذلك، فثبت بهذا أنهما عبدان مخلوقان لله لأن الملك والقدرة لله وحده لا شريك له. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات الصادرة بصورة سؤال وجواب تعليم وإرشاد، وتوبيخ وتقريع للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلها، وادعوا لأمه شيئا من القدسية والألوهية لأنها ولدت عيسى فهو بعض منها. فأول من يتبرأ من هذه الدعوى هو عيسى عليه السّلام نفسه فهو لا يدعي لنفسه ما ليس من حقها، بمعنى أنه مربوب وليس برب، وعابد بشر وليس بمعبود إله. ولو ادعى لنفسه وأمه الألوهية، لكان الله أعلم بذلك: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ المعنى تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، أو تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، أي تعلم سرّي وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. ولم يقل إلا ما أمره الله به من عبادة الله وحده، والله هو صاحب المشيئة المطلقة والإرادة الكاملة في إثابة من شاء، وتعذيب من شاء. وفي يوم القيامة لا ينتفع الناس إلا بصدقهم في الدنيا، بالعمل المخلص لله، وتركهم الكذب عليه وعلى رسله، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم، وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه. وثواب الصادقين هو الخلود في جنات النعيم التي تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار.

وملك السموات والأرض وما فيهن لله دون عيسى ودون سائر المخلوقات، مما يدل على أن عيسى عبد لله ومملوك لله ومخلوق منه، ولا معنى للعبودية إلا أن الإنسان كائن بتكوين الله.

سورة الأنعام:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام مكية وهي مائة وخمس وستون آية، وهي السورة السادسة من القرآن الكريم. تسميتها: تسمى سورة الأنعام، لورود ذكر الأنعام فيها: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.. وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ.. [الآيتان: 138، 139] . نزولها وفضلها: نزلت جملة واحدة لاشتمالها على أصول الاعتقاد، قال ابن عباس: «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح» وروى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد» والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. ولكن لا مانع من أن يكون بعض آياتها مدنيا، ثم أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في موضعه من السورة. مناسبتها لما قبلها: تضمنت كل من سورتي المائدة والأنعام محاجة أهل الكتاب في مواقفهم

ما اشتملت عليه:

وعقائدهم، كما ذكر فيهما أحكام المطعومات المحرّمة والذبائح، والرد على أهل الجاهلية بتحريم بعض الأنعام تقرّبا إلى الأوثان. ما اشتملت عليه: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجّة المشركين، وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنّشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجّة، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلّمون أصول الدّين لأن فيها آيات بيّنات تردّ على القدريّة «1» . هذه السّورة شأنها كشأن السّور المكيّة عنيت بأصول العقيدة والإيمان: وهي إثبات الألوهية، والوحي والرّسالة، والبعث والجزاء. وتعتمد في ترسيخ العقيدة بهذه الأصول على أسلوبي التّقرير والتّلقين. أما أسلوب التّقرير: فهو يعرض أدلة وجود الله وتوحيده في صورة المسلّمات البديهية، بالاعتماد على التصريح بالخلق لله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أو بضمير الغائب: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ... وأما أسلوب التلقين: فهو إيراد الحجج بتعليمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتلقينها إياه لعرضها على الخصوم، وذلك بطريق السؤال والجواب، مثل: قُلْ: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلْ: لِلَّهِ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 383 [.....]

وَقالُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ... ومجمل ما اشتملت عليه هذه السورة هو ما يأتي: 1- إثبات أصول الاعتقاد عن طريق الإقناع والتأثير والمناظرة والجدل، والجواب عن سؤال، كوجود الله وتوحيده وصفاته وآياته في الأنفس والآفاق، وتأثير العقيدة في العمل. 2- إثبات النبوة والرسالة والوحي والرد على شبهات المشركين بالأدلة العقلية والعلمية والحسية. 3- إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. 4- تبيان أصول الدين والأخلاق والآداب الاجتماعية أو الوصايا العشر المقررة في كل رسالة إلهية. 5- الدين من عهد آدم إلى محمد عليهما السلام واحد في أصله ووسائله وغاياته، فتجزئته، والإيمان ببعضه وترك بعضه، وتفرقته بالمذاهب والآراء الشخصية مصادم لأصل الدين. 6- السعادة والشقاوة والجزاء الأخروي على الحسنات والسيئات منوطة بالأعمال البشرية. 7- الناس ضمن السنن الإلهية والأقدار عاملون بالإرادة والاختيار، فلا جبر ولا إكراه، ولا تعارض بين إرادة الله وما يكسبه الإنسان لأن قدر الله معناه ربط المسببات بالأسباب، على وفق علمه وحكمته. 8- العدل الإلهي يقتضي التفاوت بين الأمم والأفراد، فيهلك الله الظالمين، وينعم على الطائعين، ويمكّن للأصلح في إرث الحياة.

أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث [سورة الأنعام (6) الآيات 1 إلى 3] :

9- الله مصدر التشريع والتحليل والتحريم، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق الله في ذلك. 10- على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة الله وعلمه وعظمته. 11- الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار، ليعلم المفسد من المصلح، والجزاء ينتظر الجميع، والله يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه، ورحمة الله وسعت كل شيء. أدلة وجود الله ووحدانيته والبعث [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) الإعراب: الظُّلُماتِ مفعول جَعَلَ وهو يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى خلق. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَجَلٌ: مبتدأ مرفوع، ومُسَمًّى: صفته. وخبره: عِنْدَهُ. وجاز أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة لأنه وصفه بمسمى، والنكرة إذا وصفت قربت من المعرفة، فجاز أن يكون مبتدأ كالمعرفة.

البلاغة:

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ: كناية عن الأمر والشأن. واللَّهُ: مبتدأ، وخبره: إما يَعْلَمُ، وتقديره: الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وإما أن يكون خبره فِي السَّماواتِ ويكون المعنى: هو المعبود في السموات. البلاغة: الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغة تفيد القصر، أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله. جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ بينهما طباق. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد قيام الأدلة على قدرته. وإظهار كلمة بِرَبِّهِمْ بوضعه موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح، كما أن إضافته إليهم لتربية المهابة والتذكير بمصدر النعمة. سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري الحسن، تعليما لأصول الإيمان والثناء. والمدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل ولغير العاقل، والحمد أعم من الشكر لأن الأول تعظيم الفاعل لأجل الإنعام عليك أو على غيرك، وأما الشكر فهو لأجل الإنعام الواصل إليك. والفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب: أن الخلق هو التقدير والعلم النافذ في جميع الكليات والجزئيات. والفاطر: الموجد المبدع، وفيه إشارة إلى صفة القدرة. والرب: مشتمل على الأمرين «1» . خَلَقَ الخلق: التقدير، أي جعل الشيء بمقدار معين بحسب علمه تعالى. وَجَعَلَ اي انشأ، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام يشمل الإنشاء مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ويشمل التشريع والتقنين، كما في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة 5/ 97] أي شرع، ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان «2» . وخص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين.

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 142. (2) مثل قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف 7/ 189] وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء 17/ 6] وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام 6/ 1] لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار.

التفسير والبيان:

الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي أنشأ كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات وأفرد النور لكثرة أسبابها، والنور واحد وإن تعددت مصادره. وقدمت الظلمات على النور، لأنها أسبق في الوجود، فقد وجدت مادة الكون المظلمة أولا. أما السبب في جمع السموات وإفراد الأرض مع أن الأرضين كثيرة وهي سبع كالسماوات لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 12] فهو أن السماء فاعل مؤثر، والأرض قابل متأثر، والمؤثر متعدد يحصل بسببه الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر، واختلت مصالح العالم، أما الأرض فهي قابلة للأثر، والقابل الواحد كاف في القبول «1» . وهذا الخلق والإبداع، والإنشاء من دلائل وحدانية الله. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مع قيام هذا الدليل. يَعْدِلُونَ يعدلون به غيره أي يجعلون له عدلا مساويا له في العبادة والدعاء. خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ بخلق أبيكم آدم منه. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم به، وحدّد لكم أمدا تموتون عند انتهائه، والأجل: المدة المضروبة للشيء. ثُمَّ أَنْتُمْ أيها الكفار. تَمْتَرُونَ تشكّون في البعث، بعد قيام الدلائل والعلم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء، فهو أقدر على الإعادة. وَهُوَ اللَّهُ مستحق للعبادة. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ما تسرون وما تجهرون به بينكم. وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تعملون من خير وشر. التفسير والبيان: كل أنواع الحمد والثناء والشكر والمدح لله تعالى خالق السموات والأرض، فهو المستحق للحمد بما أنعم على العباد في خلقه السموات التي تشتمل على المصابيح الليلية من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وعلى الفضاء سواء أكان فيه هواء أم لا، وعلى الأثير الذي ينقل الصوت، وعلى الأرض قرار المخلوقات ومصدر الخير والرزق والثروة وبيئة الحياة، فكل ذلك لخير البشر وما يتبعهم من الكائنات الحية. وحمد الله تعالى نفسه الكريمة تعليما للإيمان والثناء. وعبر بالحمد لله ولم يقل: أحمد الله، لإفادة الثبوت والدوام، ولبيان أن ماهية الحمد وحقيقته ثابتة

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 148

لله تعالى، سواء استحضر ذلك بقلبه أم لا، أما إن قال: أحمد الله مع غفلة القلب عن استحضار المعنى كان كاذبا. والمراد بالسموات: العوالم العلوية التي نراها فوقنا، والمراد بالأرض: الكوكب الذي نعيش فيه. والأرض هنا: اسم للجنس، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، وكذلك النور، ومثله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر 40/ 67] . وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في الليل والنهار، وجمع الظلمات وأفرد لفظ النور، لكثرة أسبابها كالعتمة والشرك والكفر، أما النور فهو واحد متعدد المصدر، ولكون النور أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ. وجعل هنا: بمعنى خلق، لا يجوز غيره. والمراد بالظلمة كما قال السدي وجمهور المفسرين: ظلمة الليل، وبالنور: نور النهار، وفي ذلك ردّ على المجوس (الثّنوية) القائلين بإلهين اثنين: هما النور وهو الخالق للخير، والظلمة وهو الخالق للشر. وقال الحسن البصري: المراد منهما الكفر والإيمان «1» . وقال قتادة عن سبب التقديم: إنه تعالى خلق السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. أما الظلمات الحسية فجنسها وجد قبل النور، فقد وجدت مادة الكون أولا، وكانت دخانا مظلما أو سديما (نظرية السديم) كما يقول الفلكيون، ثم تكونت الشموس. وكذلك الظلمات المعنوية كالجهل والكفر والشرك أسبق وجودا من النور، فإن نور العلم والإيمان والتوحيد يحدث بعدئذ، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل 16/ 78] . ثم الذين كفروا وجحدوا نعمة الله الصانع بعد هذا كله يعدلون بالله غيره، أي يجعلون له عديلا مساويا له في العبادة وهو الشريك، مع أنه غير خالق

_ (1) تفسير القرطبي: 6/ 386

ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا. ثم خاطب الله المشركين الذين عدلوا به غيره مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. أي خلق أباكم آدم الذي هو أصلكم من طين، ثم تكاثرت ذريته في المشارق والمغارب، كما خلق سائر أحياء الأرض، وهي بعد الحياة بحاجة إلى النبات لأن الدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى نبات الطين. ثم حدّد تعالى أجل وجود الإنسان بدءا من الولادة إلى الممات، وهناك أجل آخر له يبدأ بالإعادة من القبور، فصار قضاء الله أجلين: الأول: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ، وهو رأي الحسن. وفسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت، والأجل المسمى هو أجل القيامة. وكل أجل مسمى عند الله، أي له بداية ونهاية محدودة لا تزيد ولا تنقص، ولا يعلمه غيره، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقرّبا، فالمقصود من الأجلين: أجل الدنيا والإنسان، وأجل القيامة. قال تعالى عن الأول: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] . ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي بالرغم من قيام الدلائل على التوحيد والبعث. تشكّون أيها الكفار في خلقكم مرة ثانية أي في البعث وأمر الساعة، علما بأنه تعالى ابتدأ خلقكم من طين، وتكاثرت الذرية، فجعل أصل الإنسان نطفة من ماء مهين وأودعه في قرار مكين، وهيأ له فيه ظروف الحياة، وجعله يتنفس ويتغذى بدم الحيض، ولو تنفس بالهواء العادي أو أكل غير الدم لمات. ومن قدر على الابتداء، فهو على الإعادة أقدر.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأقام الله تعالى دليلا آخر على وجوده ووحدانيته، فقال: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ.. أي أنه المدعو الله، القائم في السموات والأرض المعبود فيها، المعروف بالألوهية، يعبده ويوحده كل من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس، أي أنه المتصف بهذه الصفات المعروفة، المعترف له بها في السموات والأرض، ونظير هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف 43/ 84] أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ تأكيد وتقرير لما قبله، يعلم السر والجهر، ويستوي في علمه الخفاء والعلانية، فهو خبر بعد خبر وصفة بعد صفة، أو حال. وقيل: المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله: يَعْلَمُ متعلقا بقوله: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ تقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، ويعلم ما تكسبون. واختار الطبري قولا ثالثا: أن قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال: وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ. وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي يعلم جميع أعمالكم خيرها وشرها، ويجازيكم عليها. فقه الحياة أو الأحكام: المقصود من هذه الآيات إيراد الدلائل على وجود الله ووحدانية الصانع لأن تقدير السموات والأرض بمقادير مخصوصة، لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار، وهو الله. ويستنبط من الآيات ما يلي:

1- الله تعالى هو المستحق لجميع أنواع المحامد على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى. 2- إثبات الألوهية لأن الحمد كله لله فلا شريك له. 3- إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته، بإخباره عن خلق السموات والأرض، أي الإيجاد والاختراع والإنشاء والإبداع، والخلق يكون بمعنى الاختراع، ويكون بمعنى التقدير، وكلاهما مراد هنا، وذلك دليل على حدوثهما فإنه تعالى رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستوية من غير عوج، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين، وزينها بالنجوم، وأودعها السحاب والغيوم علامتين، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات، وبثّ فيها من كل دابة، وجعل فيها الجبال أوتادا، وسبلا فجاجا، وأجرى فيها الأنهار وشقّ البحار، وفجّر فيها العيون والآبار من الأحجار، كل ذلك دالّ على وحدانيته وعظيم قدرته. وأتبع خلق الجواهر والذوات بخلق الأعراض والمستلزمات، وهي جعل الظلمات. 4- الكفار جاحدون نعمة الله عليهم، فبالرغم من أن الله وحده خلق هذه الأشياء، يجعلون لله عدلا وشريكا. والتعبير ب «ثم» دليل على قبح فعل الكافرين لأن معنى الآية: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبيّن، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم. 5- ابتداء خلق الإنسان من طين لأن المراد من قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ آدم عليه السّلام، والخلق نسله، والفرع يضاف إلى أصله. وفي إيراد خلق الإنسان بعد خلق السموات والأرض: بيان خلق العالم الكبير

سبب كفر الناس بآيات ربهم وإنذارهم بالعقاب [سورة الأنعام (6) الآيات 4 إلى 6] :

بعد خلق العالم الصغير وهو الإنسان، وجعل فيه ما في العالم الكبير. وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون 23/ 12- 13] . 6- حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة، وأجل الإنسان بالموت والبعث، فلا يعلم الإنسان متى يموت، ومتى يبعث. فالمراد من قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت، وقوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل ابتداء القيامة والآخرة. 7- الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض، وهو المنفرد بالتدبير فيهما، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة: وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة. والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر، والكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لا يقال لفعل الله: كسب. سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب [سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

الإعراب:

الإعراب: كَمْ خبرية اسم للعدد، منصوب بأهلكنا، لا بفعل يَرَوْا لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله. البلاغة: مِنْ قَرْنٍ أي من أهل قرن، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال. ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل، وعلاقته السببية لأن المطر ينزل من السماء. المفردات اللغوية: وَما تَأْتِيهِمْ أي أهل مكّة. مِنْ صلة زائدة لاستغراق الجنس. آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. مُعْرِضِينَ متولّين عنها، والإعراض: التولّي عن الشيء. بِالْحَقِّ القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل: الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. أَنْباءُ أخبار، والمراد هنا عواقب استهزائهم، والأنباء: ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة. أَلَمْ يَرَوْا في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. مِنْ قَرْنٍ أمّة من الأمم الماضية، والقرن من الناس: القوم الذين يعيشون في زمان واحد، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. مَكَّنَّاهُمْ أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة، ومكّنه في الأرض أو في الشيء: جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له: أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [النور 24/ 55] ، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص 28/ 57] ، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر النازل من السماء. مِدْراراً متتابعا غزيرا. مِنْ تَحْتِهِمْ تحت مساكنهم. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء. قَرْناً آخَرِينَ أمّة أو جماعة آخرين. المناسبة: تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد، وثانيا في المعاد

التفسير والبيان:

والبعث، وثالثا فيما يثبت الأمرين بالدّلائل الواضحة، ثمّ ذكر هنا ما يتعلّق بالنّبوة، فأبان سبب إعراض الكفار عن آيات ربّهم بعد إتيان النّبي صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو إشراكهم بالله وتكذيبهم الرّسل، وأنذرهم عاقبة التّكذيب بالحقّ بدليل ما حلّ بالأمم قبلهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام، أعرضوا عنها، ولم ينظروا فيها، ولم يبالوا بها. وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة، وكفل لهم رزقهم، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء، كما قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء 21/ 2] . وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله. وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله: تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء. ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد، وقد تحقّق ذلك، فنزل بهم القحط، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.

قال الرّازي: رتّب تعالى أحوال هؤلاء الكفار على مراتب ثلاث: إعراض عن التّأمّل في الدّلائل والتّفكّر في البيّنات، وكونهم مكذّبين بها، ثم كونهم مستهزئين بها، وكلّ مرتبة أشدّ مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذّبا به، بل يكون غافلا عنه، والمكذّب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء «1» . ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين، فقال: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، الذين كذّبوا رسلهم، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك، ما لم نعطهم مثله. والقرن: الأمّة من الناس، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب. امتازوا بالغنى عن كفار قريش، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم. فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين، وجيلا جديدا يعمرون البلاد، ويكونون أجدر بشكر النّعمة. أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان: تكذيب الرّسل، وكفران النّعم، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [عاصمتها] رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص 28/ 58- 59] .

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 157

فقه الحياة أو الأحكام:

والغرض من هذا وعظ أهل مكّة وتحذيرهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدّنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السّالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها. فقه الحياة أو الأحكام: موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد، ويهمل العقل والفكر، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر. من مظاهر هذا الموقف: تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما، سواء أكانت الآية قرآنية، أم معجزة من معجزات النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي أيّده الله بها، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به، كانشقاق القمر ونحوه، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك. ومن مظاهر موقفهم أيضا: تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب، فأمر نبيّه بالصّبر، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة. وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم، فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا ... أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم، والمعنى: ألم يعرفوا ذلك، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة

عناد الكفار والرد على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك [سورة الأنعام (6) الآيات 7 إلى 9] :

والجنود، ووفرة الأمطار، وينابيع الأرض، وجريان الأنهار من تحت دورهم ومساكنهم، استدراجا وإملاء لهم، ثم أهلكهم الله بخطيئاتهم وسيّئاتهم التي اقترفوها وبكفرهم الذي لازموه. ويفهم من ذلك أنّ الذّنوب سبب الانتقام وزوال النّعم، فليحذر هؤلاء وأمثالهم من الإهلاك والدّمار. والإنذار عامّ لكلّ زمان ومكان، فهذا إنذار لكفار قريش وكلّ الكفار أنه سينزل بهم من العذاب مثلما نزل بأمم سابقة جزاء استهزائهم بأنبيائهم. عناد الكفار والرّدّ على طلبهم بإنزال كتاب أو إرسال ملك [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) المفردات اللغوية: كِتاباً أي صحيفة مكتوبة ذات غرض واحد. قِرْطاسٍ ورق أو رقّ يكتب عليه. فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أبلغ من (عاينوه) لأنه أنفى للشّك. سِحْرٌ أي خداع وتمويه لا حقيقة له، ويقولون ذلك تعنتا وعنادا. أُنْزِلَ هلا. لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لتّم أمر هلاكهم. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون لتوبة أن معذرة، كعادة الله فيمن قبلهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا. وَلَوْ جَعَلْناهُ أي المنزل إليهم. لَجَعَلْناهُ أي الملك. رَجُلًا أي على صورة رجل، ليتمكّنوا من رؤيته، إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك. لَلَبَسْنا لسترنا وغطّينا، والمراد: جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم، بأن يقولوا: ما هذا إلا بشر مثلكم، فيلتبس الأمر عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنس، فلم يوقنوا أنه ملك ولم يصدّقوا به، وقالوا: ليس هذا ملكا، كما التبس على أنفسهم من حقيقة أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (7) : وَلَوْ نَزَّلْنا ... قال الكلبي: إن مشركي مكّة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنّك رسول الله، فنزلت هذه الآية. وقال في رواية أخرى: نزلت في النّضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء 17/ 90] . نزول الآية (8) : وَقالُوا: أُنْزِلَ..: روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنّضر بن الحارث بن كلّدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. وإذا كانت قد أنزلت سور من القرآن تتضمن اقتراح المشركين إنزال ملك أو كتاب أو إنزال القرآن جملة واحدة، قبل هذه الآية، فلا مانع يمنع من تأكيد بيان هذا الاقتراح في مناسبة أخرى، إظهارا لعنادهم وتعنّتهم. المناسبة: ذكرت الآيات السابقة بعض المواقف من عناد المشركين، وتستمر الآيات هنا في بيان شبهات جحودهم وعنادهم ومكابرتهم للحقّ ومنازعتهم فيه، تلك

التفسير والبيان:

الشّبهات الموجّهة إلى الوحي وبعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فصاروا منكرين أصول الدّين الثلاث: التّوحيد والبعث ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. التفسير والبيان: يبيّن الله تعالى في هذه الآيات أسباب إعراض المشركين عن الإيمان، وتذرّعهم بشبهات واهية، ومطالبتهم إنزال صحيفة مكتوبة وإرسال ملك يؤيّد النّبي ويصدّقه، وهم في الحقيقة معرضون لا تؤثّر فيهم الحجج والبراهين، ولا يجديهم تنفيذ مقترحاتهم. إن علّة تكذيبهم بالحقّ هي إعراضهم عن آيات الله وسدّ كلّ منافذ النّظر والفكر، وتعطيل كلّ طاقات الوعي والإدراك، فلو أنزلنا عليك يا محمد كتابا مدوّنا في ورق أو نحوه أو معلّقا بين السّماء والأرض، فعاينوه ورأوا نزوله ولمسوه بأيديهم، لقالوا: ما هذا إلا سحر مبين أي خداع وتمويه وتضليل لا حقيقة فيه. وإنما قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لأن اللمس أقوى الدّلالات الحسيّة وأبعدها عن الخداع لأن البصر يخدع بالتخيّل. والتّعبير بقوله: نَزَّلْنا بالتّشديد، وقوله: كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وهو لا يكون إلا فيه، وقوله: فَلَمَسُوهُ للمبالغة وتأكيد النزول، ثم يعرضون عنه قائلين: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وهذا كما قال تعالى في مكابرتهم للمحسوسات: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [أي حبست ومنعت] بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14- 15] ، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً، يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور 52/ 44] . هذا هو الرّدّ على اقتراحهم الأوّل وهو تنزيل كتاب من السّماء، ثم ردّ الله على اقتراحهم الثاني وهو إنزال ملك من السّماء يرونه ويكون مؤيّدا له، فقال تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل الله مع الرّسول ملكا

فقه الحياة أو الأحكام:

يكون معه نذيرا ومؤيّدا له ونصيرا، كأنّهم فهموا أن الرّسالة السّماوية تتنافى مع البشرية، وهم يعلمون أنّ الرّسول بشر، كما قال تعالى: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون 23/ 33] ، وقال: وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان 25/ 7] ومضمون ردّ الاقتراح الثّاني من جهتين: أوّلا- وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً.. أي ولو أنزل الله ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يمهلون ليؤمنوا، بل لجاءهم من الله العذاب، كما قال تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الحجر 15/ 8] ، وقال: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان 25/ 22] . ثانيا- وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.. أي ولو أنزلنا مع الرّسول البشر ملكا، لكان متمثلا بصورة الرّجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ثم يعود الأمر كما كان ويقعون في اللّبس والاشتباه نفسه، الذي يلبسون على أنفسهم ويختلط الأمر عليهم باستنكار جعل الرّسول بشرا فإن هذا الرّجل سيقول لهم: إنّي رسول الله، كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس في الآية: يقول: لو أتاهم ملك، ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور. وقال قتادة: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: ما لبّس قوم على أنفسهم، إلا لبّس الله عليهم، واللّبس إنما هو من الناس. فقه الحياة أو الأحكام: إنّ إجابة المطالب المادية القائمة على التّعنّت والعناد، مثل إنزال المائدة على

بني إسرائيل، وإنزال كتاب مكتوب في قرطاس أي صحيفة، وإنزال ملك من الملائكة لا تحقق الغرض، وسيظلّ الكافرون المشركون على موقفهم من الكفر والإعراض. وهذا ما ردّ الله به على الاقتراح الأوّل للمشركين بإنزال كتاب، فلو أنزله وعاينوه ومسّوه باليد كما اقترحوا، لإزالة الرّيب والإشكال عنهم، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم. وهذه الآية جواب لقولهم: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء 17/ 93] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذّبوا به. ثمّ ردّ الله على اقتراحهم الثاني بإنزال ملك: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. وقال الحسن البصري وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال لأن الله أجرى سنّته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن، أهلكه الله في الحال. وتكملة الرّدّ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلّا بعد التّجسيم بالأجسام الكثيفة لأن كلّ جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه فلو جعل الله تعالى الرّسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولخافوا منه ومن مكالمته، فلا تتحقق المصلحة ولو تمثّل بصورة بشر لقالوا: لست ملكا، وإنما أنت بشر، فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي. أي إن هدفهم لا يتحقق فلو نزل بصورته الحقيقية لما أطاقوا رؤيته، ولو نزل بصورة رجل، التبس الأمر عليهم وقالوا: هذا ساحر مثلك.

عاقبة المستهزئين والمكذبين [سورة الأنعام (6) الآيات 10 إلى 11] :

عاقبة المستهزئين والمكذّبين [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) الأعراب: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ما كانُوا: في موضع رفع لأنه فاعل فَحاقَ وتقديره: حاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزئون. وما: مصدرية، أي عقاب استهزائهم. ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عاقِبَةُ: اسم كان المرفوع. وكَيْفَ: خبر كان المنصوب. وإنما قال: كان، ولم يقل كانت لوجهين: أحدهما- لأن عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ في معنى: مصيرهم، والحمل على المعنى كثير في كلامهم. والثاني- لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، فجاز تذكير فعلها، كقولهم: حسن دارك، واضطرم نارك. البلاغة: اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ تنكير بِرُسُلٍ للتكثير والتّفخيم. المفردات اللغوية: اسْتُهْزِئَ الاستهزاء: السّخرية، والاستهزاء بشخص: احتقاره والتّهكّم عليه، ويتبعه الضّحك غالبا. فَحاقَ نزل وأحاط بهم فلم يكن لهم منه مفرّ. والمراد أحاط العذاب بالساخرين، فكذا بمن استهزأ بك. عاقِبَةُ مصير أو آخر الأمر، مثل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] والحيق: ما ألم بالإنسان من مكر أو سوء يعمله. المناسبة: كانت اقتراحات بعض كفار مكّة كإنزال ملك من الملائكة مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم

التفسير والبيان:

أو إنزال ملك بالرّسالة، صادرة على سبيل الاستهزاء، وكان يضيق قلب الرّسول بسماع ذلك، فأنزل الله هاتين الآيتين للتّخفيف عما يلاقيه النّبي صلّى الله عليه وسلّم من سوء الأدب والهزء والسّخرية، وإنزال العذاب هو سنّة الله الثابتة في المكذّبين أنبياءهم. فهذه تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذّبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدّنيا والآخرة. التّفسير والبيان: لقد استهزأ الأقوام الغابرون- وهذا تعبير بصيغة القسم من الله- بأنبيائهم الكرام، كما قال تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر 15/ 11] وذلك معاداة للإصلاح ودعوات الحقّ والتّوحيد والاستقامة، فليس كفار قريش منفردين بهذا الموقف، لكن كان جزاؤهم وجزاء أمثالهم من الساخرين إحاطة العذاب بهم. وهذا إرشاد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان سنّة الله في المكذّبين، وتسلية له حتى لا يضيق قلبه ذرعا، وتبشير له بالنّصر وحسن العاقبة، وقد أهلك الله خمسة من رؤساء قريش في يوم واحد، وهذا ما امتنّ الله به على نبيّه بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] . وقل يا محمد للمشركين: فكّروا في أنفسكم، وانظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية الذين كذّبوا رسله وعاندوهم، من العذاب والنّكال والعقوبة في الدّنيا، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وقوم لوط، انظروا واعتبروا، كيف كان عاقبة المكذّبين، مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجّى الله رسله وعباده المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الاستهزاء بالرّسل عادة قديمة معروفة، وكذلك نزول العذاب والهلاك بأولئك الأقوام المستهزئين بأنبيائهم أمر ثابت، وحق مقرر، وجزاء عادل. والتاريخ أصدق شاهد، فلينظر كل ساخر ليعرف ما حلّ بالكفرة قبله من العقاب وأليم العذاب. والمكذّبون هنا: من كذّب الحقّ وأهله، لا من كذّب بالباطل. ويؤخذ من الآية أن السّفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الدّيار. أدلة أخرى لإثبات الوحدانية والبعث [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

الإعراب:

الإعراب: لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام: لام جواب القسم، وهي جواب كَتَبَ لأنه بمعنى: أوجب، ففيه معنى القسم. الَّذِينَ خَسِرُوا إما مبتدأ، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ودخلت الفاء في خبر الَّذِينَ لأن كل اسم موصول بجملة فعلية إذا وقع مبتدأ، فإنه يجوز دخول الفاء في خبره، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. وإما منصوب على البدل من الكاف والميم في لَيَجْمَعَنَّكُمْ وهو بدل الاشتمال، وإليه ذهب الأخفش، والوجه الأول أوجه. وقال الزمخشري: إنه منصوب على الذم، أو مرفوع، أي أريد الذين خسروا أنفسهم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يُصْرَفْ مبني للمجهول، ونائب الفاعل مقدر تقديره: من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرئ مبنيا للمعلوم، وفاعله: الله تعالى، وحذف المفعول وتقديره: من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه. والوجه الأول أوجه: لأنه أقل إضمارا، وكلما كان الإضمار أقل، كان أولى. البلاغة: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة. المفردات اللغوية: كَتَبَ فرض وأوجب إيجاب تفضل وكرم لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليحشرنكم، والمقصود من الكلام: ليجازينكم بأعمالكم لا رَيْبَ فِيهِ لا شك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي تركوا ما يقتضيه العقل والعلم والمصلحة الحقيقية، وعرّضوا أنفسهم للعذاب. ما سَكَنَ ثبت. من السكون: ضد الحركة، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله، أي له ما سكن وما تحرك، مثل قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل 16/ 81] أي والبرد. والمقصود: له تعالى كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه. وَلِيًّا ناصرا. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُطْعِمُ يرزق. وَلا يُطْعَمُ لا يرزق أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بعبادة غيره. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يبعد عنه العذاب. رَحِمَهُ أي نجّاه من العذاب والأهوال، وأراد له الخير. الْفَوْزُ الْمُبِينُ النجاة الظاهرة.

المناسبة:

المناسبة: هذه الآيات تأكيد لما سبق في إثبات أصول الدين الثلاثة: إثبات وجود الصانع وتوحيده، وتقرير البعث والمعاد والجزاء، وتقرير النبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بإقامة الأدلة عليها بطريق السؤال والجواب، وهذا نمط آخر في الإثبات، لترسيخ العقيدة في القلب، واجتذاب الأنظار واستمالة السامع حتى لا يمل. وإذا ثبت كون الله هو الخالق والمبدع والمنشئ للسموات والأرض وما فيهما من كل متحرك وساكن، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وثبت أنه تعالى الملك المطاع، والملك المطاع: من له الأمر والنهي على عبيده، ولا بد حينئذ من مبلّغ، والمبلّغ هو النبي، فكانت بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق أمرا لازما، وبذلك كانت الآية وافية بإثبات هذه الأصول الثلاثة. التفسير والبيان: قل يا محمد للمشركين من قومك: لمن هذه السموات والأرض، ولمن هذا الكون والوجود وما فيه؟ والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق، كما حكى تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] . قُلْ: لِلَّهِ هذا هو الجواب إما بالنيابة عنهم، لأنهم مقرّون بذلك، وإما بطريق الإلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه. ومن صفات هذا الخالق التي ترغب في طاعته: صفة الرحمة، فإنه تعالى أوجب على ذاته الرحمة بخلقه. ومن مقتضيات الرحمة: الحشر يوم القيامة بلا شك للثواب والعقاب لأنه متى عرف الإنسان ما قد ينتظره أقبل على الخير وكفّ عن الشر، فكان إيجاد هذا الوازع النفسي طريقا لتهذيب النفوس والرحمة

بالعباد، ولولا خوف العذاب يوم القيامة، لامتلأت الدنيا فسادا وفوضى وإجراما، ولضجّ العالم، واختل نظام المجتمع، فصار التهديد بهذا اليوم من مظاهر الرحمة. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لما خلق الخلق، كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» أي لما أظهر قضاءه، وأبرزه لمن شاء، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه، مقتضاه خبر حق ووعد صدق أن رحمته تسبق غضبه وتزيد عليه. وأخص الذين خسروا أنفسهم بإفسادها وتعطيلها استخدام العقل والعلم وعدم اهتدائها بالتذكير، كما أخصهم بالذم والتوبيخ من بين المجموعين إلى يوم القيامة وسبب الخسارة: أنهم لا يؤمنون، أي لا يصدقون بالبعث والمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم. هذا هو الواقع، لكن قوله تعالى جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم أنفسهم، والأمر على العكس. والجواب كما ذكر الزمخشري: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون. وليس ملك السموات والأرض مجرد ملك فراغ، وإنما هو ملك شامل لكل شيء فيهما من ساكن ومتحرك، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو. وخص بالذكر ما سكن بالليل والنهار وإن كان داخلا في عموم ما في السموات والأرض، للدلالة على تصرفه تعالى بهذه الخفايا. ثم إن كان ما في السموات والأرض خاضع لرقابة الله وتصرفه، فهو السميع المحيط سمعه بكل دقيق وكبير، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، وهو أيضا العليم المحيط علمه بكل ما دقّ وعظم، والشامل سمعه كل مسموع كأقوال عباده وأصواتهم. والذي وسع علمه كل معلوم كحركات

المخلوقات وأسرارهم، وكا ذلك مؤد إلى الرقابة الإلهية والتصرف التام بكل شيء. ثم أمر الله نبيه المبلّغ شرعه أمرا بما لزم عما سبق وبما هو نتيجة له، فقال له: قل يا محمد: لا أتخذ وليا ناصرا ينفعني أو يدفع ضررا عني إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق، وهذا مثل قوله تعالى: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر 39/ 64] . وأما خلق السموات والأرض فكانتا أولا كتلة دخانية واحدة، ثم فصلتا، وهذا فيه أيضا فطر وشق، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء 21/ 30] . وإن الله أيضا هو الذي يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، لأنه تعالى منزّه عن الحاجة إلى كل ما سواه، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 56- 58] . وفي هذه دلالة واضحة ترشد البشر إلى أنه يجب عليهم التماس الرزق من الله تعالى وحده، مع اتخاذ الأسباب الموصلة إليه من السعي والعمل والتدبير والبحث والتنقيب، لا من أي مخلوق سواه، سواء أكان بشرا أم صنما ووثنا، وسواء أكان البشر حاكما أم غير حاكم، فأرزاق العباد بيد الله تعالى وحده. وإذ قامت لك يا محمد ولغيرك الأدلة على من يستحق الألوهية والعبادة واتخاذه وليا، فقل لهم: إني أمرت من ربي المتصف بهذه الصفات أن أكون أول من أسلم وخضع وذلّ وانقاد لله من هذه الأمة، ونهيت عن الشرك بالله أيا كان نوع الشرك، ومنه شرك الجاهلية القائم على اتخاذ الأصنام واسطة ووسيلة تقرب إلى الله زلفى.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أمر الله نبيه ببيان جزاء من خالف الأمر والنهي السابقين فقال له: قُلْ: إِنِّي أَخافُ.. أي قل لهم: إني أخشى إن عصيت الله ربي أن يصيبني عذاب يوم عظيم الهول والخطر وهو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الخلائق حسابا شديدا على أعمالهم، ويجازيهم على ما يستحقون. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا الإنذار موجها لنبي الله، فما بال الناس الآخرين؟! من يدفع عنه ذلك العذاب يومئذ، فقد رحمه الله ونجا، وذلك هو الفوز الساحق الظاهر الذي لا فوز أعظم منه، كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران 3/ 185] . والفوز: حصول الربح ونفي الخسارة. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات تثبت أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والبعث والجزاء، والنبوة، وهي أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين، وأولها انتزاع الاعتراف بالخالق، وهم يعترفون بذلك وأن خالق السموات والأرض هو الله. وإذا لم يعترفوا فالحجة قائمة عليهم. وإذا ثبت أن لله ما في السموات والأرض، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ويبعثهم بعد الموت. ولكنه تعالى كتب على نفسه الرحمة، أي وعد بها فضلا منه وكرما، فلذلك أمهل الناس حتى يعودوا لرشدهم، وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

ومن رحمته الإمهال إلى يوم القيامة، والاعلام بالجمع يوم القيامة، لإثابة الطائعين وتعذيب العاصين، وهذا الإنذار المسبق رحمة أيضا من الله بعباده لأنهم إذا علموا بأنه لا إفلات من الحساب، فكروا في أنفسهم، وأصلحوا أعمالهم، وصححوا إيمانهم. ثم ذم الله تعالى الخاسرين أنفسهم بإهمالهم ما يقتضيه العقل والعلم من الإيمان الصحيح والاستقامة على دين الله وشرعه، وهؤلاء الخاسرون على الإطلاق لاختيارهم الكفر هم غير المؤمنين. ومن الاحتجاج على المشركين: أن لله ما سكن وما تحرك في الكون. قال ابن عباس: نزلت الآية: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لأن كفار مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وترجع عما أنت عليه، فنزلت الآية «1» أي قال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني. وإذ قامت الأدلة على الإله الحق فكل إنسان مأمور بعبادته واتخاذه وليا ناصرا له في تحقيق النفع ودفع الضرر، وإسلام الوجه له والانقياد لأوامره، فهو الرزاق المطعم، يرزق ولا يرزق، وكذلك كل إنسان منهي عن الشرك واتخاذ الأنداد والوسطاء. وعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب الله يوم القيامة، فإنه عذاب شديد، ومن ينجو منه فقد شملته الرحمة والعناية الإلهية، وذلك أعظم فوز ونجاح للإنسان. اللهم اجعلني وذريتي وأبي وأمي وأهلي ومشايخي من الفائزين.

_ (1) أسباب النزول للواحدي 122

قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة [سورة الأنعام (6) الآيات 17 إلى 19] :

قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الإعراب: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي: استفهام في محل رفع مبتدأ، وأَكْبَرُ خبره، وشَهادَةً تمييز منصوب، وفَوْقَ منصوب على الظرف، لا في الكاف، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ: الْقاهِرُ كما تقول: زيد فوق عمرو في المنزلة، واللَّهُ شَهِيدٌ مبتدأ وخبر. وَمَنْ بَلَغَ: في موضع نصب لأنه معطوف على الكاف والميم في لِأُنْذِرَكُمْ أي ولأنذر من بلغه القرآن، فحذف العائد، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي: بعثه الله. وقال تعالى: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: أخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف 7/ 180] وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه 20/ 51] . المفردات اللغوية: وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصيبك، والمس أعم من اللمس، فيقال مسّه السوء أي أصابه. بِضُرٍّ الضر: كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. بِخَيْرٍ الخير: كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل، كالعقل والعلم، والعدل، والمساواة والحرية، والصحة والغنى. والشر ضده: وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه. الْقاهِرُ القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. الْحَكِيمُ في خلقه.

سبب النزول نزول مطلع الآية (19) :

سبب النزول: نزول مطلع الآية (19) : قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقروم بن كعب، وبحري بن عمر، فقالوا: يا محمد، ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله في قولهم: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الآية. وقال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول، كما تزعم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن البصري وغيره: إن المشركين قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية. المناسبة: بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع، ودفع الشر والضرر، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه.

فيقول بما معناه: وإن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو حزن أو ذل ونحوه، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى لأنه القادر على كل شيء، وكذلك إن يحصل كل خير من صحة أو غنى أو عز ونحوه، فهو أيضا من الله، لكمال قدرته على كل شيء، ولأنّه القاهر الغالب صاحب العزة والسلطان والكبرياء، وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، ودانت له الخلائق، وقهر كل شيء، وهو الحكيم في جميع أفعاله، الخبير بمواضع الأشياء، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر 35/ 2] . وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي الغني. ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها، وأصحها وأصدقها: وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، شهادة تدل على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتكشف حال أعدائه، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام: أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب: الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، أو الله شهيد بيني وبينكم، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له. والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ ثم أوضع الله مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا، فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ.. أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم، وكذا لأنذر

فقه الحياة أو الأحكام:

وأبشر كل من بلغة القرآن من العرب والعجم، فهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] . أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» . وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال: «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم» . وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» . وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلّى الله عليه وسلّم» . وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عز وجل فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.. وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله، وإني لا أشهد شهادتكم، كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام 6/ 150] . وأصرح بأن الإله هو إله واحد، وهو الله عزّ وجلّ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها. فقه الحياة أو الأحكام: كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن

وهو الخالق لكل شيء، فهو وحده القادر على جلب النفع لخلقه ودفع الضرر عن مخلوقاته، وأنت يا محمد وكل إنسان في الوجود إن تنزل بك شدة من فقر أو مرض فلا رافع ولا صارف له إلا هو وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة، فهو الكامل القدرة على كل شيء من الخير والضر. والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده، ولكنه قهر بحكمة في أمره، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده. والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته، كما قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلائِكَةُ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران 3/ 18] . وشهد الله بصدق رسالة الرسول: بإخباره في قرآنه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح 48/ 29] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة 2/ 119] . وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له، وبشرت الرسل المتقدمون به، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى. كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة، وأدى الأمانة، وصدق القول، ونصح للأمة، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد. والنّبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ القرآن والسنة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ

بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة 5/ 67] . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل: «من بلغه القرآن من الجن والإنس، فهو نذير له» . ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به: أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود. وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم، فإنه لا يشهد شهادتهم، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون. وقد دل الكلام: قُلْ: لا أَشْهَدُ.. الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه: أولها- قوله: قُلْ: لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء. وثانيها- قوله: قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء. وثالثها- قوله: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 179.

معرفة أهل الكتاب النبي صلى الله عليه وسلم والافتراء على الله وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة [سورة الأنعام (6) الآيات 20 إلى 24] :

معرفة أهل الكتاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم والافتراء على الله وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) الإعراب: الَّذِينَ خَسِرُوا إما نعت لقوله: الَّذِينَ قبله. وفاء: فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء جواب. وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ مبتدأ مرفوع، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. وأَظْلَمُ: خبر المبتدأ، إلا أنه يفتقر إلى تمام، وتمامه: مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه، وهي بمعنى ابتداء الغاية. إِنَّهُ ضمير الشأن. لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ اسم تَكُنْ المرفوع، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا خبر تَكُنْ المنصوب، كأنه قال: لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب فِتْنَتُهُمْ، جعل اسم يكن أَنْ قالُوا كأنه قال: لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين: أحدهما- لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ، والثاني: لأن القول هو الفتنة في المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم. وَاللَّهِ رَبِّنا رَبِّنا: وصف لقوله: وَاللَّهِ ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف، وتقديره: يا ربّنا. وما كُنَّا مُشْرِكِينَ جواب القسم، ورَبِّنا اعتراض وقع بين القسم وجوابه. البلاغة: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.

المفردات اللغوية:

الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فيه إيجاز بالحذف، أي تزعمونهم شركاء. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا تعجب من كذبهم الغريب. المفردات اللغوية: يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن. نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا توبيخا. كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء لله. فِتْنَتُهُمْ كفرهم، والمعنى المراد: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد: ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب. كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنهم. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفترونه على الله من الشركاء، يفترون ألوهيتها وشفاعتها. المناسبة: كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله تعالى «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 179

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي وأنه خاتم الرسل، كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء فإن صفته في كتبهم واضحة، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته. لهذا كان السبب في إنكار نبوته: ما قاله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.. أي إن إنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناشئ من خسارتهم أنفسهم، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم، وتساووا مع بقية المسلمين. هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة، ولضعف إرادتهم، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا آباؤنا، وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: والملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا، ولم يؤمنوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم. وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم خسارة للنفس، ثم أبان تعالى أن

الافتراء على الله ظلم للنفس: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى.. أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ولا أحد أظلم لنفسه ممن زعم أن لله ولدا أو شريكا. ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعاقبة الظلم: عدم الفلاح، فلا يفلح المفتري ولا المكذب، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة- يوم الحساب والجزاء. وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار، فقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.. أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما: أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، ويشفعون لكم عنده، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص 28/ 62] وقال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام 6/ 94] . ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا، فيبادرون إلى إنكار الشرك. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ... أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو- كما صوب الطبري- لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة: ما كنا مشركين.

وهنا تساؤل ذكره الزمخشري: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا نفع فيه؟ ثم أجاب: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما، حيرة ودهشة. وهناك حالة مماثلة: يقولون وهم يعذبون في النار: ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود ولم يشكّوا فيه. ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر، توهما منهم أن ذلك ينفعهم، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك، كما قال تعالى: قالُوا: رَبَّنا، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [النحل 16/ 86] وقال تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء 4/ 42] . سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقال: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا لنجحد: قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء 4/ 42] . أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك، فتارة يكذبون، وتارة يصدقون، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة. وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس: هي الشرك في الدنيا، لكن على تقدير مضاف: هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب: وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة. وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تأمل

فقه الحياة أو الأحكام:

وتعجب من كذبهم الصريح، بإنكارهم الشرك، وكذبهم باليمين الفاجرة بإنكار ما صدر عنهم. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم. ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا [غافر 40/ 73- 74] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار. المشهد الأول- أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة أمره، وصدقه، ورسالته، ولكنهم قوم معاندون، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية. المشهد الثاني- أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته. ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.

مواقف من عناد المشركين حول القرآن الكريم [سورة الأنعام (6) الآيات 25 إلى 26] :

مواقف من عناد المشركين حول القرآن الكريم [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) الإعراب: مَنْ يَسْتَمِعُ مَنْ: مبتدأ مرفوع، وخبره: مِنْهُمْ ووحد الفعل: يَسْتَمِعُ لأنه حمله على لفظ مَنْ. ولو حمل على المعنى لكان جائزا حسنا كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ. أَنْ يَفْقَهُوهُ تقديره: كراهية أن يفقهوه، فحذف المضاف. وقيل: تقديره: لئلا يفقهوه. أَساطِيرُ قيل: واحدها أسطورة، وقيل: إسطارة، وقيل: هو جمع الجمع واحدة أسطار، وأسطار: جمع سطر بفتح الطاء، كجمل وأجمال، وجيل وأجيال. البلاغة: وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً عبر بالأكنة في القلوب، والوقر في الآذان، وهو تمثيل بطريق الاستعارة، لإعراضهم عن القرآن. يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم. يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ بينهما جناس ناقص. المفردات اللغوية: مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إذا قرأت. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان: وهو الغطاء، كأسنة وسنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ ألا يفهموا القرآن. وَقْراً صمما وثقل سمع، فلا يسمعونه سماع قبول. آيَةٍ علامة دالة على صدق الرسول. يُجادِلُونَكَ يخاصمونك وينازعونك. أَنْ ما. هذا القرآن. أَساطِيرُ أكاذيب وخرافات، جمع أسطورة. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون

سبب النزول:

الناس عن اتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يتباعدون عنه ويعرضون، فلا يؤمنون به. وَإِنْ يُهْلِكُونَ ما يهلكون بالنأي عنه إلا أنفسهم لأن ضرره عليهم. سبب النزول: نزول الآية (25) : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ: قال ابن عباس: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية، وأبيا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ قال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه يتكلم بشيء، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأول، وكان يحدث قريشا، فيستملحون حديثه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. نزول الآية (26) : وَهُمْ يَنْهَوْنَ ... : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتباعد عما جاء به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد أبي هلال قالت: نزلت في عمومة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر. قال مقاتل بعد ذكر رواية الحاكم: وذلك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو طالب:

المناسبة:

والله، لا وصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا فاصدع بأمرك، ما عليك غضاضة ... وأبشر وقرّ بذاك منك عيبونا وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبّة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا فأنزل الله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ الآية «1» . المناسبة: لما بيّن الله تعالى أحوال الكفار في الآخرة وما يكونون عليه من اضطراب، فمرة ينكرون الشرك، وأخرى يقرون به، أتبعه هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم. التفسير والبيان: من هؤلاء الكفار فريق يجيء ليستمع إلى قراءتك القرآن، والحال أنه لا تجزي عنهم شيئا، ولا يستفيدون شيئا لأنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة 2/ 171] . أي إن إقامة الحواجز دون فهم القرآن وقبوله وتدبر معانيه، كان بسبب التقليد الأعمى وإعراضهم الناشئ عن تصميم وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمل وإمعان، ليميزوا بين الحق والباطل. وهذا ما قررته الآية التالية: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها، فلا فهم

_ (1) أسباب النزول للواحدي 123

فقه الحياة أو الأحكام:

عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 8/ 23] . حتى إنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق وفي دعوتك قالوا: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم، وما هو إلا نوع من الترهات والخرافات والقصص الأسطورية التي تدون وتشغل أذهان العامة. وهم بالإضافة إلى تكذيبهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانقياد للقرآن، ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع. أو أن الآية نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤذى أو أن يقتل، ويتباعد عنه. وعاقبة ذلك أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون بذلك، بل يظنون أنهم يضرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين، إما في ساحات القتال كبدر وغيرها، أو ببلاء ونقمة خاصة، وسيتبعها هلاك الآخرة. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات عبرة وعظة بليغة تستوقف النظر والتأمل، إذ ما أصعب حجب الحقائق عن الإنسان وتركه يتيه في ظلمات الأهواء ويتردد في موج الضلالات. فهؤلاء الكفار أذكياء وزعماء يسمعون ويفهمون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون

حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم [سورة الأنعام (6) الآيات 27 إلى 29] :

بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. وقد أخبر الله تعالى عن أوضاع عنادهم وردهم الآيات بغير حجة لأنهم لمّا رأوا القمر منشقا قالوا: هذا سحر، ولمّا وجدوا القرآن معجزة سما ببلاغته عن فنون كلامهم وقولهم، قالوا: هذا أساطير الأولين. وموقف الكفار يجمع كل فصول القبح والاستغراب والاستهجان، وقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ عام في جميع الكفار، ينهون عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وينأون عنه، فلا يكتفون بإعراضهم، وإنما يصدون الناس عن دعوة الإسلام، وهم بهذا ما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدّونهم. أما موقف أبي طالب فالله أعلم به، والرواية المشهورة: ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا تعيّرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] . حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)

الإعراب:

الإعراب: وَلا نُكَذِّبَ ... وَنَكُونَ النصب فيهما بتقدير أن، لتكون مع الفعل مصدرا، فتعطف بالواو مصدرا على مصدر، وتقديره: يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب وكونا من المؤمنين. والنصب على أنه جواب التمني لأن التمني ينزل منزلة الأمر والنهي والاستفهام في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة. ويجوز فيهما الرفع: إما عطفا على نُرَدُّ فجعل كله مما يتمناه الكفار يوم القيامة، فيكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء وهي: أن يردوا، وألا يكونوا قد كذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. وإما الرفع على القطع والاستئناف، فإنه يجوز في جواب التمني الرفع على العطف والاستئناف، فلا يدخلان في التمني، وتقديره: يا ليتنا نرد، ونحن لا نكذب، ونحن نكون من المؤمنين. ويجوز رفع نُكَذِّبَ ونصب نَكُونَ والرفع على ما تقدم من العطف على نُرَدُّ. والنصب يكون على جواب التمني على ما تقدم، فيكون داخلا في التمني. البلاغة: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تأكيد بمؤكدين هما: «إن» و «اللام» للإشارة إلى أن الكذب طبيعتهم. المفردات اللغوية: إِذْ وُقِفُوا عرضوا، يقال: وقف على الشيء: عرفه وتبينه وجواب لَوْ محذوف تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا أو عجبا أو مشقات ونحو ذلك. بَدا لَهُمْ ظهر لهم يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يكتمون، بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، بشهادة جوارحهم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الشرك وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في وعدهم بالإيمان وَقالُوا أي منكرو البعث إِنْ هِيَ ما هي بِمَبْعُوثِينَ بعث الموتى: نشرهم ليوم البعث، أي القيامة. ونشر الميّي: عاش بعد الموت. المناسبة: لما ذكر الله تعالى صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته ويبتعد عنه، بأنهم يهلكون أنفسهم، شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية، وصدور بعض التمنيات منهم بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال، ولكن الله كذبهم فيما يقولون.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يذكر الله تعالى حال الكفار إذا تبينوا يوم القيامة وعرفوا النار، وشاهدوا أهوالها وفظائعها، فلو رأيتهم أيها السامع وما بهم من هول وفزع لرأيت عجبا يصعب وصفه، حين تعرضهم ملائكة العذاب على النار، ثم يدخلونها ويعاينون شدتها، فيندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا قائلين: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ... أي يا ليتنا نرجع إلى الحياة الدنيا، ولا نكذب بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته وصدق رسله، ونؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، ونتوب من ذنوبنا، ونعمل صالحا يرضي الله سبحانه. فرد الله عليهم بقوله بَلْ للإضراب الإبطالي لهذا التمني، وللإضراب عن إرادة الإيمان، فحالهم لم تتغير، وإنما ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، وتظهر حقيقتهم لأنهم كانوا يخفون الكفر ولا يبدونه، أما المؤمن الحقيقي فيعلن إيمانه ولا يكتمه، ويتحملون عاقبة كفرهم من العقاب الشديد، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] فهي لا تخفى على أنفسهم ولا على ربهم، وقال تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر 39/ 47- 48] . ثم كذّبهم الله صراحة في هذا الندم أو التمني، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا ... أي لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم الله عنه من الكفر والعناد والنفاق والمعاصي، فإن العصيان مستقر في أنفسهم، فديدنهم العناد، وطبعهم الكذب، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء، وأقروا بحياة الدنيا ولم يؤمنوا بالآخرة، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط، نعيش ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة، بل لا

فقه الحياة أو الأحكام:

آخرة، وما نحن بمبعوثين، أي ما هذه إلا الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها. وهؤلاء هم الماديون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب. فقه الحياة أو الأحكام: الحقائق الإيمانية لا تتغير ولا تتبدل، ولا بد من حدوثها فإن وعد الله حق، والجنة حق، والنار حق، وسرعان ما تنكشف هذه الحقائق، ويفتضح الكفر والكفار، وينالون عذاب النار، فلو تراهم يعذبون في جهنم لرأيت أسوا حال، أو لرأيت منظرا رهيبا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا. ولا يجدون مناصا أو مفردا من عذاب الله، ويتخبطون، ويتأملون، ويتمنون العودة إلى دار الدنيا لتصحيح العقيدة وإصلاح العمل، وترك التكذيب بآيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله، ليكونوا مع صف المؤمنين في الدنيا، وفي حال أحسن من حالهم في الآخرة، في جنان الله وروضاته. ولكنهم يتمنون هذا الشيء ضجرا وقلقا، مع علمهم باليأس من العودة، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لما كذبوا ولآمنوا، فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا من النار. وهم أمام العذاب وفي وسط النار يظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه من الكفر والمعاصي، ولو ردّوا لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس رأس الكفر ما عاين من آيات الله ثم عاند. ودل قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ على الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، كما دل على كذبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.

حال المشركين أمام ربهم في الآخرة وحقيقة الدنيا [سورة الأنعام (6) الآيات 30 إلى 32] :

وأرشد قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا إلى ما قالوا في الدنيا، وإلى أنهم قوم ماديون، لا يؤمنون بالآخرة، ولو ردّوا لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال، فهم قوم معاندون، أبت نفوسهم الأمارة بالسوء إلا المكث على الضلال والنفاق، والمكر والكيد، والكفر والمعاصي. ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر. حال المشركين أمام ربهم في الآخرة وحقيقة الدنيا [سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) الإعراب: وَلَوْ تَرى ... : جواب لَوْ محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وتقديره: لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. وعَلى رَبِّهِمْ أي على سؤال ربهم، فحذف المضاف. بَغْتَةً منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في فِيها تعود على ما لأنه يريد ب ما الأعمال، كأنه قال: على الأعمال التي فرطنا فيها.

البلاغة:

أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: ما: نكرة في موضع نصب على التمييز بساء. وفي ساءَ: ضمير مرفوع يفسره ما بعده كنعم وبئس. وقيل: «ما» في موضع رفع بساء. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الدار: مبتدأ، والْآخِرَةُ: صفة له، وخَيْرٌ: خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره: ولدار الساعة الآخرة خير، ولا بد من هذا التقدير لأن الشيء لا يضاف إلى صفته، فوجب تقدير موصوف محذوف، وهذه الإضافة في نية الانفصال. البلاغة: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة. أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للتوبيخ. المفردات اللغوية: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرضوا على الله، لرأيت أمرا عظيما قالَ لهم على لسان الملائكة توبيخا أَلَيْسَ هذا البعث والحساب بَلى وَرَبِّنا إنه لحق تَكْفُرُونَ به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث حَتَّى غاية للتكذيب السَّاعَةُ القيامة: وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم، وبدء الحياة الأخرى بَغْتَةً فجأة يا حَسْرَتَنا هي شدة التألم والندم على ما فات، ونداؤها مجاز، أي هذا أو انك فاحضري عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا مع القدرة على الفعل فِيها أي الدنيا. أَوْزارَهُمْ جمع وزر: وهو الحمل الثقيل، ويطلق شرعا على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره، والمراد بقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تحمل مسئولية أفعالهم، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فتركبهم أَلا ساءَ بئس ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم ذلك وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال بها لَعِبٌ عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا وَلَهْوٌ ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني، ولا يعقب منفعة دائمة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك أَفَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنوا.

المناسبة:

المناسبة: لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة. التفسير والبيان: ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم، لوجدت هول أمرهم، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف. وظاهر الآية غير مراد قطعا لأنه استعلاء على ذات الله تعالى، وهو باطل بالاتفاق، وإنما هذا من قبيل المجاز، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة، امتثالا لأمر الله فيهم، كما قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 37/ 24] . وعبر بهذا التعبير: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله، لا يتصرف فيهم غيره. ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ أي أليس هذا المعاد بحق، وليس بباطل كما كنتم تظنون. أجابوا: بلى وربنا، أي أنه الحق الذي لا شك فيه، وأكدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين. فرد الله عليهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به. ثم أخبر تعالى بخبر عام: وهو خسارة من كذب بلقاء الله، وخيبته إذا

جاءته الساعة بغتة، وندامته على ما فرط من العمل للآخرة، وما أسلف من قبيح القول. وسبب الخسارة: إنكار البعث والجزاء الذي يفسد الفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى الشر والإثم لأن هذا الإنكار يحصرهمّ الكافرين في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها، والتنافس في متاعها، والغرور بالمجد والاستعلاء والسلطة على الآخرين. هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف 7/ 177] . قال ابن عباس: الأوزار: الآثام والخطايا. أما قوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ فمعناه: بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه. ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي: تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح، يحمله صاحبها يوم القيامة «1» . ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وزوال، ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 114

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. فقه الحياة أو الأحكام: الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل. وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله، أدركوا ألا فائدة من الإنكار، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد، أقسموا بالله أنه حق ثابت، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم، جزاء وفاقا على كفرهم. والنقاش يحدث من قبل الملائكة، تقول لهم بأمر الله: أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: بَلى وَرَبِّنا إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة، والمراد بقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ: أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع. ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما- حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني- حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم. والمراد من الخسران: فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله: فِيها أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، بدليل قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة 2/ 16] .

وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب الشديد، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران. ودل قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين: أعمال لا خير فيها ولا نفع، وهي أمور الدنيا المحضة، وهي الغالبة في أعمال الناس، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة- وقال: حديث حسن غريب- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله، أو أدّى إلى ذكر الله، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيه» . وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها» . وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء» . ودل قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه. وأشارت هذه الآية: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.. إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها لأنها بإرادة الله وحكمته، وخلقه وإيجاده، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها، ولا يبقى منها

حزن النبي صلى الله عليه وسلم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين [سورة الأنعام (6) الآيات 33 إلى 35] :

عند انقراض الحياة إلا الحسرة والندامة، كاللهو واللعب يلتذ به، ثم بعد انتهائه لا يبقى منه إلا الندامة. وأومأ قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة. ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى. حزن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) الإعراب: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتشديد، أراد به: لا ينسبونك إلى الكذب لأنهم لا يعرفونك بذلك، وإنما يعرفونك بالصدق، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف، ومعناه: لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.

البلاغة:

مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره: ولقد جاءك مجيء من نبأ المرسلين، ويكون الفعل جاءَكَ دالا على المصدر المحذوف، وهذا مذهب سيبويه. والثاني- أن تكون زائدة، وتقديره: ولقد جاءك نبأ المرسلين، وهو مذهب الأخفش. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إن: شرط، وجوابه محذوف، وتقديره: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك. البلاغة: كُذِّبَتْ رُسُلٌ نوّن كلمة رُسُلٌ للتكثير والتفخيم. المفردات اللغوية: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ قد: للتحقيق، وإنه: الضمير للشأن لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في السر، لعلمهم أنك صادق، والتكذيب: الرمي بالكذب. بِآياتِ اللَّهِ القرآن يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب، أو إثبات ما نفي فيه. لِكَلِماتِ اللَّهِ هي وعده ووعيده، وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالخذلان، كما قال تعالى في إنجاز الوعد: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 171- 173] وقال عز وجل في إنزال الوعيد: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر 54/ 44- 45] نَبَإِ النبأ: هو الخبر ذو الشأن العظيم كَبُرَ عظم وشق عليه وقعة إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، والمراد: إعراضهم عن الإسلام، وقد كبر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم إعراضهم لحرصه عليهم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب ما فيه كلفة ومشقة، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله، وفي الشر كابتغاء الفتنة نَفَقاً سربا في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج أَوْ سُلَّماً مصعدا أو مرقاة، مأخوذ من السلامة، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك، وتذكيره أفصح من تأنيثه. بِآيَةٍ معجزة مما اقترحوا. المعنى: أنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى يحكم الله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ولكن لم يشأ ذلك، فلم يؤمنوا فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بذلك، الجهل هنا: ضد

سبب النزول نزول الآية (33) :

العلم، وليس كل جهل عيبا لأن الإنسان محدود العلم، وإنما العيب بجهل ما يجب عليه علمه، أو ما ينبغي عليه معرفته من الكمال في حقه. سبب النزول: نزول الآية (33) : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ: روى الترمذي والحاكم عن علي: أن أبا جهل قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة. وقال السّدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، كان يكذب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . المناسبة: الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام،

_ (1) أسباب النزول للواحدي 123، أسباب النزول للسيوطي.

التفسير والبيان:

ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان ينكر رسالة البشر، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول، متهما إياه بالكذب في الظاهر، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. التفسير والبيان: يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وإيلامه بالإعراض عن دعوته، فيقول: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كما جاء في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] وباخِعٌ نَفْسَكَ أي مهلكها، وقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] . ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر: هو العناد والجحود، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع، فأنت الصادق الأمين في نظرهم، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون الحق، ويجحدون بآيات الله، ويردونها بصدودهم. روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله، إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون. هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه،

كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس. لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين، كما نصر رسله الكرام السابقين. ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل، فقال: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين، وكذا وعيده لا حق بالكافرين، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات. ونظير هذه قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر 35/ 4] وقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج 22/ 42] . والآية تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 35] وقال أيضا: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل 73/ 10] . وقد تحقق فعلا أثر الصبر، ونجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في المشارق والمغارب، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب، ويؤذن بالفرج: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح 94/ 5- 6] .

ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] وقال أيضا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم 30/ 47] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج 22/ 40] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] . وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، فقال له: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ ... أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض، فتسير فيه، أو سلّما في أجواء السماء، فترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بها، ولكنك مجرد رسول من عندنا، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عز وجل. ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما: تفجير ينبوع في الأرض، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 90- 93] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

كل ذلك مرهون بإرادة الله ومشيئته، فلو شاء الله تعالى هدايتهم، لهداهم، بأن يخلق فيهم الإيمان كالملائكة، أو بأن يخلقهم مستعدين للإذعان للحق والإقرار بهدايات الرسل وما جاؤوا به من خير للعالم، ولكن شاء الله اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم، كما قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] وقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ... [هود 11/ 118- 119] . قال ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول. وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية. فقه الحياة أو الأحكام: الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صادق أمين، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي: ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي: 1- إنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة.

2- إنهم لا يقولون: إنه كذاب لأنهم جربوه الدهر الطويل، وما وجدوا منه الكذب البتة، وسموه بالأمين، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة، واعتقدوا أنه تخيل كونه رسولا من عند الله. 3- إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه، كذبوه، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له. 4- إنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، ويقولون في كل معجزة: إنها سحر، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين «1» . أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين. ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين. وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله، على سبيل الافتراض، فإنها فاشلة خائبة لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه، ولولا ذلك لما حدثت. وأمر الهداية مرجعه إلى الله، فلو شاء لهدى الناس جميعا، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 204- 205

رفض المشركين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومطالبتهم بتنزيل آية [سورة الأنعام (6) الآيات 36 إلى 37] :

فلا تكونن أيها الرسول بحرصك على إسلام قومك، ومحاولة تلبية مطالبهم وتنفيذ مقترحاتهم من الجاهلين بسنن الله في خلقه، ولا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين. ولا يشتد حزنك عليهم إذا كانوا لا يؤمنون لأنك لا تستطيع هدايتهم. رفض المشركين دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومطالبتهم بتنزيل آية [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 37] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوانُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) الإعراب: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: الْمَوْتى: في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه يَبْعَثُهُمُ وتقديره: يبعث الله الموتى يبعثهم، كقولهم، مررت بزيد وعمرا كلمته. أي وكلّمت عمرا كلمته، فتكون قد عطفت جملة فعلية على جملة فعلية، فيكون معطوفا على قوله: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ. ويجوز أن يكون الْمَوْتى في موضع رفع، كقولهم: مررت بزيد وعمرو كلمته، والوجه الأول وهو النصب أوجه. البلاغة: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم. المفردات اللغوية: يَسْتَجِيبُ دعاءك إلى الإيمان، يقال: أجاب الداعي واستجاب له، واستجاب دعاءه: لبّاه وقام بما دعاه إليه تدريجيا، والفرق بين يستجيب ويجيب أن الأول فيه قبول لما دعي إليه والثاني قد يكون بالمخالفة. الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واعتبار وَالْمَوْتى أي الكفار، شبههم بهم في عدم السماع يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في الآخرة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يردون، فيجازيهم بأعمالهم.

المناسبة:

وَقالُوا أي كفار مكةهلا وهي تفيد الحث على حصول ما بعدها آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الآية: المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه كناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن نزولها بلاء عليهم لأنهم سيهلكون إن جحدوها. المناسبة: نزلت هذه الآية بعد وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، ولمّا بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن الناس صنفان متفاوتان في الاستعداد لقبول الهداية الإلهية: صنف يختار الهدى على الضلال، وصنف بالعكس، بيّن هنا أن الصنف الأول: هم الذين يسمعون الدلائل والبينات سماع تدبر وفهم، وأن الصنف الثاني: لا يفقهون ولا يسمعون، وإنما هم كالأموات. التفسير والبيان: لا يكبر عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك فإنه لا يستجيب لدعائك إلا الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر ووعي، فيصغون إلى الحق ويتبعون الرشاد. أما الكفار المعرضون الذين تحرص على أن يصدقوك: فهم في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا لأنهم لا يتدبرون حجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون، فالسبب في عدم قبولهم الإيمان وعدم تركهم الكفر أنهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا فيما أنزل الله، فصاروا بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، أي إنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد. والقصد من قوله: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ إيراد مثل لقدرته تعالى على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة، ثم إليه يرجعون للجزاء، فالله وحده القادر على إحيائهم بالإيمان، وأنت لا تقدر على هدايتهم.

ومن مظاهر عنادهم: مطالبتهم بإنزال آية من ربهم خارقة للعادة، كالناقة والعصا والمائدة، وتفجير الينابيع، وإنشاء البساتين المخضرة المحفوفة بأشجار النخيل والعنب، وإسقاط السماء قطعا عليهم، والإتيان بوفد أو جماعة من الملائكة، وإيجاد بيت من زخرف، وإنزال كتاب من السماء. فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ ... أي قل لهم أيها النبي: إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا، ولكن حكمته تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزلها على وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا، لعاجلهم بالعقوبة، كما فعل بالأمم السابقة، كما قال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء 17/ 59] وقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء 26/ 4] . ومعنى قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ: أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، ولكن حكمته اقتضت صرفه عن إنزالها، وأكثر هؤلاء القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب، فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم، ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة، وحينئذ يعطيهم الله المطلوب على أكمل الوجوه، فإنزال آية مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا. يعني أن طلبهم آية مادية مع وجود هذه الآيات البينات القرآنية إنما هو محاولة تعجيز الرسول، فلو فرض حدوثها لما آمنوا ولقالوا: إنها سحر، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] وقالوا: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر 54/ 2] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الاستجابة لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون، فينتفعون به ويعملون. أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس، فهم لا يسمعون سماع تدبر، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم، لا موتى أجساد، وهذا سبيل الكفار. وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الإخبار بالمغيبات، وسلامته من التناقض، وسمو نظمه. ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته. كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن [سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 39] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

الإعراب:

الإعراب: ما مِنْ دَابَّةٍ وما ... مِنْ شَيْءٍ من في المكانين: صلة زائدة تفيد التأكيد. البلاغة: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما، لدفع توهم المجاز، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. صُمٌّ وَبُكْمٌ تشبيه بليغ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه. المفردات اللغوية: دَابَّةٍ الدابة: كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ: المشي الخفيف طائِرٍ الطائر: كل ذي جناح يطير في الهواء، وجمعه طير. أُمَمٌ جمع أمة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها ما فَرَّطْنا ما تركنا، التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت فِي الْكِتابِ هنا: اللوح المحفوظ يُحْشَرُونَ الحشر: الجمع والسّوق، وبعد الحشر يقضي الله بينهم، ويقتص للجماء من القرناء، ثم يقول لأنواع الحيوان: كونوا ترابا. بِآياتِنا القرآن صُمٌّ عن سماعها سماع قبول وَبُكْمٌ عن النطق بالحق فِي الظُّلُماتِ المراد هنا الكفر صِراطٍ طريق، والطريق المستقيم: هو دين الإسلام. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها، ذكر الدليل على ذلك: وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين. التفسير والبيان: لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها

وطبائعها، والله تعالى يدبرها ويرعى شأنها ويحسن إليها. وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [الشورى 42/ 29] . ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب: وهو اللوح المحفوظ: (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] . والأظهر عند الرازي وجماعة: أن المراد بالكتاب: القرآن لأن اللام للعهد السابق، والمعهود السابق: هو القرآن. ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة، ويجازي كلا منها، كما قال: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير 81/ 5] . روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما» . وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» . وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ 78/ 40] .

فقه الحياة أو الأحكام:

أما الكافرون الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على الوحدانية وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم: وهو الذي لا يسمع، أبكم: وهو الذي لا يتكلم، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول: ولا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في ظلمات: ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة عادات الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة 2/ 17- 18] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه. والله هو المتصرف في خلقه بما شاء، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومن شاء هدايته لطف به، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة. فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد، ومن هداه، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل، فلأنه نظر نظرة مستقلة، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة. فقه الحياة أو الأحكام: الله قادر على كلّ شيء، رحيم بالمخلوقات، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية، في أن الله خلقهم، وتكفّل بأرزاقهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به، قال الزجاج في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص. وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان، والاستفادة

منها، فإن جميع ما في الأرض مخلوق لمصلحتنا ومنفعتنا. ودل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة، روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء- التي لا قرن لها- من الشاة القرناء» . ودل قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم، وهم في ظلمات الكفر يتيهون. وأرشد قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ... إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله، ولكن لم يأمره به، وإنما دعاه إلى الإيمان، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه. قال الرازي: وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات «1» ، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل. وأما دلالة قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب، فعلى القول بأن المراد منه: الكتاب المحفوظ في

_ (1) تفسير الرازي: 12/ 221، وانظر أيضا: 2/ 48- 53

اللجوء إلى الله وحده في الشدائد [سورة الأنعام (6) الآيات 40 إلى 45] :

العرش، تكون الآية دالة على إحاطة علم الله بجميع أحوال المخلوقات كلا وتفصيلا تاما، كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وعلى القول الثاني الذي استظهره الرازي بأن المراد منه القرآن، تكون الآية دالة على كمال الشريعة وإحاطة القرآن بجميع أصول الأحكام ومبادئ الإسلام وأخلاق الدين. اللجوء إلى الله وحده في الشدائد [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) الإعراب: قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ التاء هنا: ضمير مرفوع متصل في موضع رفع فاعل، والكاف والميم لمجرد الخطاب، ولا موضع لهما من الإعراب. مِنْ قَبْلِكَ مِنْ: صلة زائدة.

البلاغة:

البلاغة: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فيه قصر صفة على موصوف، أي لا تدعون غيره لكشف الضر. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتَكُمْ أي أخبروني، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده السَّاعَةُ القيامة المشتملة على العذاب بغتة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الأصنام تنفعكم فادعوها. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه إِنْ شاءَ كشفه وَتَنْسَوْنَ تتركون ما تُشْرِكُونَ به من الأصنام فلا تدعونه. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فكذبوهم بِالْبَأْساءِ بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب وَالضَّرَّاءِ من الضر: ضد النفع، وهو المرض يَتَضَرَّعُونَ يتذللون، والتضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف مُبْلِسُونَ متحسرون يائسون من النجاة دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم الذي يكون في أدبارهم. المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه، ولا يتمردون على طاعته، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء. قل أيها الرسول للمشركين: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، مثل الذي نزل

بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف، والريح الصرصر العاتية، والصاعقة، والطوفان، أو أتتكم القيامة بأهوالها وخزيها ونكالها، أتدعون غير الله لكشف ما نزل بكم من البلاء؟ أم تدعون آلهتكم الأصنام التي تفزعون إليها، إن كنتم صادقين في اتخاذكم آلهة معه؟ ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله: بَلْ للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله، كقوله عز وجل: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] وقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت 29/ 65] وقوله: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان 31/ 32] . وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] . ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده، ليرجعوا عن غيهم، ويعودوا إلى رشدهم فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ... أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله، فلم يستجيبوا لهم، فاختبرناهم بالبأساء والضراء، أي بالفقر وضيق العيش،

والمرض والسقم والألم، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون إذ الشدائد تصقل النفوس، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق. وهذه الآية متصلة بما قبلها اتصال الحال بحال قريبة منها لأن المشركين سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم، فكانوا متعرضين لأن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم. ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال: فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم، أي ما رقّت ولا خشعت، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يعتبروا، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم. ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته، فقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا «1» .. أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة، وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير. فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا، فلم يبق منهم أحد، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.

_ (1) ليس المراد به النسيان الغالب على الإنسان، وإنما بمعنى تركوا ما ذكّروا به. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» . ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ... الآية. وفي رواية الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج» . أما المؤمن فلا يغتر بالنعمة ويصبر عند النقمة، روى مسلم عن صهيب مرفوعا: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» . فقه الحياة أو الأحكام: الآية: قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ ... حجة دامغة للمشركين، وهي مثل بارع في محاجّتهم ومجادلتهم، فهم عند الشدائد يرجعون إلى الله، وسيرجعون إليه يوم القيامة أيضا، فلم هذا الإصرار على الشرك في حال الرفاهية؟! مع أنهم في وقت الشدة يتناسون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب، وهذا دليل على اعترافهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة، وأنه يؤدب عباده بالبأساء (المصائب في الأموال) والضّراء (المصائب في الأبدان) وبما شاء: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء 21/ 23] . من أجل أن يرجعوا عما هم عليه من كفر وعصيان، ويثوبوا إلى رشدهم. ولكن العناد يصحب الكفر غالبا، لذا عاتب الله تعالى الكفار على ترك الدعاء، وأخبر عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب، وربما تضرعوا بغير إخلاص، أو حين مباشرة العذاب، وهو غير نافع لهم حينئذ. ويفهم من ذلك أن الدعاء مأمور به في حال الرخاء والشدة، قال الله

تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي- أي دعائي- سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] وهذا وعيد شديد. وأما وجود العناد من الكفار فدل عليه قوله تعالى: وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية. وهم في ذلك متأثرون بالشيطان: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها. والإنعام على عبد ليس دليل الرضا عليه، وإنما إذا وجدت النعمة مع البقاء على المعصية، كان ذلك استدراجا من الله تعالى، كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم 68/ 45] . قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً. وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وقال الحسن البصري: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه، وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه» . وإن تدمير الأقوام وإهلاك الأمم مأساة في عرفنا، ولكن في تقدير الله عبرة وعظة حتى لا يستشري الفساد. وتضمنت آية فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ ... على وجوب ترك الظلم لما يؤدي إليه من العذاب الدائم، وتضمنت أيضا وجوب حمد الله تعالى الذي يعاقب الظلمة، حتى لا يدوم الفساد، وينضب عنصر الخير.

من أدلة القدرة الإلهية والوحدانية ومهام الرسل المرسلين [سورة الأنعام (6) الآيات 46 إلى 49] :

من أدلّة القدرة الإلهية والوحدانيّة ومهام الرّسل المرسلين [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) الإعراب: مَنْ إِلهٌ مَنْ: مبتدأ، وإِلهٌ خبره، وغَيْرُ صفة له. يَأْتِيكُمْ بِهِ الهاء تعود على معنى الفعل أي ما أخذ منكم. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَمَنْ: مبتدأ، وخبره: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لأن فَمَنْ اسم موصول بالفعل بمنزلة الذي، كما تقدّم. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتُمْ أخبروني. خَتَمَ طبع. نُصَرِّفُ نبين ونكرر على وجوه مختلفة. الْآياتِ الدّلالات على وحدانيتنا. يَصْدِفُونَ يعرضون عنها فلا يؤمنون. بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ليلا أو نهارا. الظَّالِمُونَ الكافرون، أي ما يهلك إلا هم. مُبَشِّرِينَ من آمن بالجنة. وَمُنْذِرِينَ من كفر بالنار. يَمَسُّهُمُ المسّ: اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب الإنسان بما يسيء غالبا من ضرّ أو شرّ. يَفْسُقُونَ يخرجون عن الطاعة.

المناسبة:

المناسبة: الآيات متصلة بما قبلها في موضوع واحد، وهو إثبات القدرة الإلهية، وإقامة الدليل على وجود الله وتوحيده، وبيان مهام الرّسل أو وظائفهم، مما يؤدي إلى إبطال الشرك وعبادة الأصنام. التفسير والبيان: قل أيها الرّسول لهؤلاء المشركين المكذبين المعاندين: أخبروني عما أنتم فاعلون إن سلبكم الله نعمة السمع والبصر، والفؤاد، فالسمع مفتاح المعرفة والتّفاهم مع الآخرين، والبصر لرؤية الأشياء والتّحكّم فيها والسّيطرة عليها، والقلب أو الفؤاد محلّ الحياة والعقل والعلم، فلو تعطلت هذه القوى اختلّ أمر الإنسان وضاعت مصالحه في الدّنيا والدّين. وإذا كان الله هو المنعم بهذه النّعم، وجب أن لا يستحق التّعظيم والثّناء والعبوديّة إلا الله تعالى. والختم على القلب: الطّبع عليه، بحيث يصبح غير قابل لنفاذ الهداية إليه، ولا لتعقل الأمور وإدراك النّفع والضّرر، والحقّ والباطل. وقوله: يَأْتِيكُمْ بِهِ معناه يأتيكم بما أخذ منكم، أي لا إله غيره يأتيكم بما سلب منكم. انظر كيف نبيّن الآيات، ونوضّحها، ونفسّرها، ونكررها بألوان مختلفة وأساليب متعدّدة، من إعذار وإنذار، وترغيب وترهيب، ونحو ذلك، دالّة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال، فلو كان ما تعبدونه آلهة تنفع أو تضرّ لردّت عليكم هذا، وإن كنتم تعلمون أنها لا تقدر على شيء، فلماذا تدعونها، والدّعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله الواحد القهّار. وانظر كيف يصدفون أي يعرضون، وقل لهم أيها الرّسول: أخبروني إن

أتاكم عذاب الله بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به، أو جهرة أي ظاهرا عيانا تعاينونه وتنظرون إليه، أخبروني ماذا أنتم فاعلون؟ ولا يهلك إلا الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك بالله، وأصرّوا على الكفر والعناد، أي إنما يحيط العذاب بالظالمين أنفسهم بالشّرك بالله، وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له. ثم بيّن وظائف الرّسل فقال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ.. أي إنّ مهمة الرّسل محصورة ببشارة المؤمنين بالجنة والخيرات، وإنذار من كفر بالله بالنار والعقوبات، ثم بيّن مصير الفريقين: فمن صدّق الرّسل وآمن بقلبه بما جاؤوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم فلا خوف عليهم في المستقبل من عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله، على ما فاتهم في الماضي، وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدّنيا لأن الله يحفظهم من كلّ فزع، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء 21/ 103] ، ولا يحزنون في الدّنيا مثل حزن المشركين في شدّته وطول مدّته، وإنما يصبرون على ما أصابهم، ويلتمسون الأجر عند الله، ويتأملون العوض منه، لأن الله تعالى أرشدهم للشكر عند النعمة والصبر عند النقمة، وتفويض الأمر للخالق، كما قال: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد 57/ 22- 23] . ومن كذب بآيات الله التي أرسلنا بها الرّسل، ينالهم العذاب بما كفروا وجحدوا بما جاءت به الرّسل، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا المنهيّات المحظورات، وكان جزاء كفرهم وفسادهم في الدّنيا بأنواع النّقمة، وفي

فقه الحياة أو الأحكام:

الآخرة بألوان الغضب والسّخط في جهنم. أما خير الدّنيا الذي ينعم به الكافر فمتاع قليل، وشيء تافه حقير إذا قورن بخير الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: الله الذي خلق الخلق، وزوّدهم بمفاتيح المعرفة من السّمع والبصر والعقل، قادر على أن يسلبهم إيّاها، وإذا سلبت من يستطيع تعويضهم عنها؟ لا أمل بغير الله. وإذا عذبوا فجأة أو عيانا ظاهرا بسبب كفرهم ومعاصيهم، فإن عدل الله يقتضي ألا يهلك إلا الظالمين أنفسهم بالشّرك بالله، وينجي المؤمنين الأتقياء من ذلك العذاب. ووظائف الرّسل محصورة بالتبشير والإنذار، أي بالترغيب والترهيب، قال الحسن البصري: مبشرين بسعة الرّزق في الدّنيا والثواب في الآخرة يدلّ على ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف 7/ 96] . والإنسان وحده هو الذي يسجّل لنفسه ما يستحق من نعمة أو نقمة، فإذا آمن بالله ربّا وأصلح عمله، حظي بالأمان والسعادة والسرور، وإذا كذّب بآيات الله المنزلة على رسله، مسّه العذاب بكفره وفسقه. انحصار مصدر علم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي ومهمته في الإنذار وطرد الضعفاء [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

الإعراب:

الإعراب: جملة لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ حال من ضمير يُحْشَرُوا بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. بِالْغَداةِ إنما دخلت الألف واللام على «الغداة» لأنها نكرة عند جميع العرب. وأما غدوة فأكثر العرب يجعلها معرفة ويمنعها من الصّرف. ومنهم من يجعلها نكرة ويصرفها. ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ من الأولى للتبعيض، ومن الثانية زائدة. وشَيْءٍ: في موضع رفع لأنه اسم ما ومثله: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. فَتَطْرُدَهُمْ منصوب لأنه جواب النفي. فَتَكُونَ جواب النّهي، وتقديره: ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فتكون من الظالمين، وما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم. أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَهؤُلاءِ: في موضع نصب بفعل مقدر، يفسّره: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كما تقول: أزيدا مررت به، فإن الاختيار فيه النّصب لأن الاستفهام يقتضي الفعل ويطلبه، وهو أولى به من الاسم. البلاغة: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ في الجملتين ما يسمى ردّ الصدر على العجز. المفردات اللغوية: خَزائِنُ جمع خزانة وخزينة: وهي ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف

سبب النزول نزول الآية (52) :

فيه. وخَزائِنُ اللَّهِ: التي منها يرزق، والمراد: ليست أرزاق العباد بيدي. الْغَيْبَ ما غاب علمه عن جميع الخلق، واستأثر الله بعلمه. الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ المراد بهما هنا الكافر والمؤمن أو الضّال والمهتدي. وَأَنْذِرْ خوّف. بِهِ أي بالقرآن. لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ غيره. وَلِيٌّ ناصر ينصرهم. وَلا شَفِيعٌ وسيط يتشفع لهم. والمراد بقوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ... المؤمنون العاصون. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الله بإقلاعهم عما هم فيه، وعمل الطاعات. تَطْرُدِ الطرد: الإبعاد. بِالْغَداةِ أو الغدوة كالبكرة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وَالْعَشِيِّ آخر النهار، أو من المغرب إلى العشاء. والمراد جميع الأوقات. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون بعبادتهم وجه الله تعالى أي ذاته، لا شيئا من أعراض الدّنيا، وهم الفقراء، وكان المشركون طعنوا فيهم، وطلبوا أن يطردهم ليجالسوه، وأراد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، طمعا في إسلامهم. حِسابِهِمْ أي حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة. فَتَنَّا ابتلينا واختبرنا. بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي الشريف بالوضيع، والغني بالفقير، بأن قدّمناه بالسّبق إلى الإيمان. لِيَقُولُوا أي الشّرفاء والأغنياء منكرين معترضين. مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، أهمها الهداية، أي لو كان ما هم عليه هدى، ما سبقونا إليه. مِنْ بَيْنِنا أي من دوننا. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ له، فيهديهم؟ بلى. سبب النزول: نزول الآية (52) : وَلا تَطْرُدِ..: روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اطردهم، فإنا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله، فأنزل الله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وسأذكر رواية أخرى لمسلم في الموضوع. وروى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده خبّاب بن الأرتّ وصهيب وبلال وعمار،

المناسبة:

فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ لو طردت هؤلاء لاتّبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى قوله: سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» . وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل «1» في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب، فقالوا له: لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إيّاه، فكلّم أبو طالب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ فأنزل الله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ... الآية إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ- وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالما مولى أبي حذيفة، وصالحا «2» مولى أسيد، وابن مسعود، والمقداد بن عمرو «3» ، وواقد بن عبد الله الحنظلي وأشباههم- فأقبل عمر، فاعتذر من مقالته، فنزل: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية. ويلاحظ أن هذه الرّوايات مختلفة، فبعضها ذكر نزول الآية إلى نهاية الآية [53] ، وبعضها أدخل الآيتين [54- 55] . والرّواية الأولى ذكرت ابن مسعود مع أئمة قريش، والرّواية الأخيرة ذكرته مع المطلوب طردهم. المناسبة: هذه الآية تتمة لما قبلها: نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ومبيّنة لحدود وظائف الرّسل بكونهم مجرّد مبشرين ومنذرين، فالله يأمر رسوله بأن يقول

_ (1) في رواية: والحارث بن عامر، وقرظة بن عبد عمر بن نوفل. (2) وفي رواية: «وصبيحا» . (3) وفي رواية: والمقدام بن عبد الله، وعمرو بن عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد.

التفسير والبيان:

لهؤلاء الأقوام: إنما بعثت مبشرا ومنذرا، وليس لي أن أتحكّم على الله، ومأمور أن أنفي عن نفسي أمورا ثلاثة: ليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولست ملكا من الملائكة. والفائدة من نفي هذه الأحوال: إظهار الرّسول تواضعه لله وعبوديته له، ردّا على اعتقاد النصارى في عيسى عليه السّلام، وإظهار عجزه عن الإتيان بالمعجزات المادية القاهرة القوية، فهذا من قدرة الله اللائقة به، ويعني ذلك أنه لا يدعي الألوهية ولا الملكية. التفسير والبيان: كان المشركون يطلبون من النّبي صلّى الله عليه وسلّم معجزات ماديّة قاهرة، جهلا منهم بمهمّة الرّسول ورسالته، فأنزل الله: قل أيها الرّسول لهؤلاء: لست أملك خزائن الله ولا أقدر على قسمتها وتوزيعها والتّصرّف فيها، فهذا لله وحده يعطي منها لعباده ما يشاء على وفق الحكمة وضمن قيد الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج والمسببات. ولا أقول لكم: إني أعلم الغيب، فذاك لله عزّ وجلّ، ولا أطّلع منه إلا ما أطلعني عليه، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] . ولا أدّعي أني ملك من الملائكة، إنما أنا بشر من البشر، يوحى إليّ من الله عزّ وجلّ، فلا أستطيع أن آتي بما لا يقدر عليه البشر. والمعنى في هذه الأمور الثلاثة: أني لست أدّعي الألوهية، ولا علم الغيب، ولا الملكيّة، حتى تطلبوا مني ما ليس في طاقتي وقدرتي، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ القرآن وبيانه، ولست في هذا مبتدعا، إنما سبقني إلى الرّسالة رسل كثيرون قبلي.

ووظيفة الرّسول: اتّباع الوحي، وهذا معنى قوله تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه. ثم وبّخهم الله على ضلالهم مبيّنا لهم أنه لا يستوي الضّال والمهتدي فقال: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي قل للمشركين المكذبين: هل يستوي من اتّبع الحق وهدي إليه، ومن ضلّ عنه وحاد عن الحقّ. أفلا تتفكرون فتميّزوا بين ضلال الشّرك وهداية الإسلام، وتعقلوا ما في القرآن من أدلّة توحيد الله وإيجاب اتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد 13/ 19] . وخلاصة ما سبق: إثبات قدرة الله المطلقة التي تنفي وجود مثلها لأحد، مما يدلّ على وجود الله ووحدانيته، وإثبات كون القرآن والمعجزات المؤيدة لصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هي من الله وحده لأنه لا يستطيع الرّسول التّصرف في شيء خارج الحالات المعتادة، ولا الإتيان بشيء مثل القرآن أو تنزيل الآيات الغريبة، وإجراء المعجزات الخارقة للعادة. هذه حقيقة الرّسالة، ثم أمر الله نبيّه بإنذار المؤمنين سوء الحساب والجزاء فقال: وَأَنْذِرْ بِهِ.. أي وأنذر يا محمد بالوحي أو بالقرآن الذين يؤمنون بالله ويخافون من الحشر وأهواله وشدّة الحساب يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال، عند لقاء الله، ويعتقدون بأنه ليس لهم فيه وليّ ولا شفيع ولا حميم ولا نصير: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] ، لعلهم يتقون أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عزّ وجلّ، قال ابن عبّاس: معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدّنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي.

فهؤلاء المؤمنون بالله وبالغيب وباليوم الآخر هم الذين ينتفعون بالقرآن. أما المادّيون الذين لا يؤمنون بغير المادّة، فقد حجبوا عن أنفسهم نور الهداية الإلهية، فطبع الله على قلوبهم وأصمّهم وأعمى أبصارهم. وهذا مثل قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر 35/ 18] . ثم منع الله نبيّه من تقريب كفار قريش وأشرافهم المترفين، ومن تنحية المؤمنين المستضعفين وطرد الضّعفاء من الناس، فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ... أي لا تبعد عنك هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات، بل اجعلهم جلساءك وخلصاءك، وصفاتهم أنهم مؤمنون حقّ الإيمان، موحّدون ربّهم دون شائبة شرك، يدعون ربّهم بالغداة والعشي أي في الصّباح والمساء وجميع الأوقات، يخلصون في طاعتهم وعبادتهم، فلا يقصدون إلا إرضاء الله تعالى، ولا يريدون من عبادتهم إلا ذات الله وحقيقته لأنه المستحق للعبادة. ونظير الآية قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف 18/ 28] . وموقف هؤلاء المشركين له شبيه بموقف قوم نوح حين قال أشرافهم له: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود 11/ 27] ، وقوله لهم: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ [هود 11/ 29] . ثم حصر الله تعالى حساب هؤلاء بربّهم، كما قال تعالى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء 26/ 113] ، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بعد أن شهد الله لهم بالإخلاص

وبإرادة وجه الله في أعمالهم. وإن كان الأمر كما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرض بأن كانوا غير مخلصين، فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك، لا يتعدّاك إليهم «1» ، كما قال تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] ، وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدّثر 74/ 38] ، وقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164، الإسراء 17/ 15، فاطر 35/ 18، الزمر 39/ 7] . والجملتان وهما ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ بمنزلة جملة واحدة، ومؤدّاهما واحد، ولا بدّ منهما جميعا، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت، ولا هم بحساب صاحبه. فلماذا تطردهم؟ لأن الطّرد جزاء، والجزاء بعد الحساب والمحاكمة، والحساب على الله، وما عليك إلا البلاغ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . فإن طردتهم والحالة هذه، فتكون بطردهم من زمرة الظالمين أنفسهم، لأن الطّرد- كما ذكرت- لا يكون إلا بذنب، والحساب على الذّنب إلى الله، لا إليك. والخلاصة: ذكر الله غير المتقين من المسلمين، وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم، وأمر الله نبيّه بتقريبهم وإكرامهم، وألا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك. ثم أوضح الله تعالى أن مقال المشركين في شأن الضعفاء ابتلاء من الله واختبار فقال: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ابتلينا واختبرنا وامتحنّا بعضهم ببعض، لتكون العاقبة أن يقول الأقوياء من الكفار في حقّ الضعفاء من المؤمنين: أهؤلاء الصّعاليك من العبيد والموالي والفقراء خصّهم الله بهذه النّعمة

_ (1) الكشّاف: 1/ 507

فقه الحياة أو الأحكام:

العظمى من جملتنا؟ كقوله تعالى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر 54/ 25] ، وقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 46/ 11] . والمعنى: أنهم لما اختبروا بهذا، فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] . وبعبارة أخرى: إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين: أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق، ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدّمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء؟! إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحقّ، ممنوعا عليهم من بينهم بالخير. وافتتانهم هو سبب هذا القول لأنه لا يقول مثل هذا القول إلا مخذول مفتون. ثم ردّ الله عليهم قولهم الناشئ عن العتو والاستكبار، فقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر، فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره، فيخذله ويمنعه التوفيق. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام الاعتقادية المهمة جدّا وهي: 1- إن الرّسول ليس عنده خزائن الله، ولا يملك التّصرّف في الكون، فلا يستطيع إنزال ما اقترحوه من الآيات. 2- إنه لا يعلم الغيب مثل بقية البشر. 3- إنه ليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدلّ بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء، كما استدلوا بقوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 26- 27] .

لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6] . وأما القائلون بتفضيل بني آدم على الملائكة فاستدلّوا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البيّنة 98/ 7] بالهمز: من برأ الله الخلق، وبقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما أخرجه أبو داود: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل «1» . 4- إنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم. 5- لا يعمل إلا بالوحي، أي لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. وبهذا تمسّك القائلون بأنه لم يكن للنّبي صلّى الله عليه وسلّم الاجتهاد، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النّجم 53/ 3- 4] ، وقال نفاة القياس: وإذا كان لا يعمل إلا بالوحي، فوجب ألا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النّازل عليه. والصحيح لدى الأصوليين أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلّة الشرع. والأدلّة السابقة مخصوصة بالقرآن، للرّدّ على من زعم أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم يفتري القرآن من عند نفسه، ولإثبات كون القرآن منزلا عليه بالوحي الإلهي. 6- مهمّة الرّسول كغيره من الرّسل الموصوفين بكونهم مبشرين ومنذرين: هي الإنذار لقوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا. 7- الرّسول بحكم كونه بشرا مال فترة بحسب اجتهاده إلى إبعاد الفقراء والعبيد من مجلسه، طمعا في إسلام الزعماء والقادة، وإسلام قومهم، ورأى أن

_ (1) تفسير القرطبي: 1/ 289، 6/ 430

ذلك لا يفوّت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدر، فمال إليه، فأنزل الله الآية: وَلا تَطْرُدِ.. فنهاه عما همّ به من الطّرد، لا أنه أوقع الطّرد. وقد روينا في سبب النزول قصّتهم، ويحسن ذكر رواية أخرى هي ما رواه مسلم في صحيحة عن سعد بن أبي وقاص قال: كنّا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم ستّة نفر، فقال المشركون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترءون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. وهذا دليل آخر على كون القرآن من عند الله تعالى، إذا يستحيل عقلا أن يهمّ النّبيّ بشيء، ثم ينهى نفسه عنه، لو لم يكن النّهي عن الفعل من عند ربّه. 8- في قوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ إشارة إلى تبدل ميزان القوى ومراكز الناس فإن حالات التّفوّق والنّعم لن تدوم للكفار، وأحوال الضعف التي مرّ بها المؤمنون وصبروا عليها لا بدّ أن تتبدّل، وسيصبح الأقوياء أذلّة، والضّعفاء أعزّة بالإسلام، ويعلو الحقّ، وتتأيّد دولة الله في الأرض، ويصبح أتباعها هم الأئمة الوارثين، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم 14/ 7] ، وقال: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] . 9- وفي الآية: وَكَذلِكَ فَتَنَّا أيضا إيماء إلى أنّ ترك المشركين للإيمان لم يكن إلا عنادا وجحودا ناشئا عن الاستعلاء والاستكبار، لا عن حجّة وبرهان. وفيها كذلك أن كلّا من فريقي المؤمنين والكافرين مبتلى بصاحبه، فالكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على سبقهم في الإسلام

بعض أحوال رحمة الله تعالى [سورة الأنعام (6) الآيات 54 إلى 55] :

والظفر بالخير والنّعمة، وفقراء الصحابة كانوا يرون الكفار في سعة ورفاه، فيقولون: كيف حال هؤلاء الكفار، مع أنّا في هذه الشّدة والضيق؟! بعض أحوال رحمة الله تعالى [سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) الإعراب: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالفتح فيهما، تكون الأولى بدلا من الرَّحْمَةَ وهو بدل الشيء من الشيء، وهو هو، والرَّحْمَةَ: في موضع نصب بكتب. وتكون الثانية خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: فأمره أنه غفور رحيم. ويجوز أن يجعل مبتدأ، ويقدّر لها خبر، تقديره: فله أنه غفور رحيم، أي: فله غفران ربّه. ومن قرأ بالكسر فيهما فمن وجهين: أحدهما- أن كَتَبَ تؤول إلى قال، وتقديره: قال: إنه من عمل. والثاني- على الاستئناف. والكسر بعد الفاء أقيس لأن ما بعد الفاء يجوز أن يقع فيه الاسم والفعل. وَلِتَسْتَبِينَ الواو: عطف على فعل مقدر، وتقديره: ليفهموا ولتستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين، إلا أن الثاني حذف لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي والبرد. سَبِيلُ بالرفع فاعل. لِتَسْتَبِينَ ولا ضمير فيه، والتاء في الفعل لتأنيث السبيل لأنها مؤنثة، كما قال تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي. ومن قرأ بالياء جعل السبيل مذكّرا، كما قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ... ومن نصب سبيل كانت التاء للخطاب، وهو مفعول به.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلامة وبراءة من العيوب والآفات. والسّلام: من أسماء الله تعالى الدّالة على تنزيهه عما لا يليق به من النّقص والعجز والفناء. واستعمل السلام في التّحية، أي السلامة من كل ما يسوء وتأمينه من كلّ أذى، وهو شعار الإسلام، ودليل الودّ والصّفاء، وتحية الله تعالى وملائكته لأهل الجنة، وتحيتهم فيما بينهم. كَتَبَ فرض وأوجب وقضى. أَنَّهُ ضمير الشأن. بِجَهالَةٍ سفه وخفة تقابل الحكمة والروية والتعقل. وَلِتَسْتَبِينَ تتضّح وتظهر. سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ طريق المجرمين الذين أجرموا في حقّ أنفسهم وارتكبوا الجرائم التي هي المخالفات الشرعية. سبب النّزول: قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، فكان إذا رآهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بدأهم بالسّلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» . وقال ماهان الحنفي: أتى قوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا عظاما، فما إخاله ردّ عليهم بشيء، فلما ذهبوا وتولوا، نزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا «1» . المناسبة: بعد أن نهى الله تعالى رسوله عن طرد المستضعفين، طمعا في إسلام الكبراء من قومه، أمره بأن يكرم جميع المسلمين بهذا النوع من الإكرام، وهو التّحية والسّلام والقبول بأمان وإعزاز. التفسير والبيان: وإذا جاءك أيها الرّسول الذين يؤمنون بالله ورسله ويصدقون بكتبه،

_ (1) أسباب النّزول للنّيسابوري 125، تفسير القرطبي: 6/ 435

تصديقا في القلب والعمل، سائلين عن ذنوبهم، هل لهم منها توبة، فقل لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أمان من الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة، وأكرمهم بتبليغ سلام الله إليهم، أو ابدأهم بالسّلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم، وبشّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم. ولهذا ذكر الله علّة ما سبق، فقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجبها على نفسه الكريمة، تفضّلا منه وإحسانا وامتنانا. وقد جمعت في تفسير الآية: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بين السّببين اللذين ذكرا في سبب نزولها كما تقدّم، قال بعضهم: نزلت في قوم أقدموا على ذنوب، ثم جاءوه صلّى الله عليه وسلّم مظهرين للندامة والأسف، فنزلت هذه الآية فيهم. وقال بعضهم: نزلت في أهل الصّفّة الذين سأل المشركون الرّسول صلّى الله عليه وسلّم طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام. قال الرّازي: والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها، فكلّ من آمن بالله، دخل تحت هذا التّشريف «1» . ثم أبان الله تعالى طريق قبول التوبة فقال: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً أي إنه من ارتكب منكم ذنبا أو خطيئة بجهالة كغضب شديد أو شهوة جامحة أو سفه وخفة غير مقدر سوء العاقبة أو من غير قصد، ثم تاب مخلصا لله في توبته، ورجع عن ذلك الذّنب وندم، وأصرّ على عدم العودة إليه في المستقبل، وأصلح عمله، وأتبع السّيئة بالحسنة لمحو أثرها، فشأنه تعالى في معاملته أنه يغفر له ذنبه، لأنه واسع المغفرة والرّحمة. ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء 4/ 17] . قال بعض

_ (1) تفسير الرّازي: 13/ 2

فقه الحياة أو الأحكام:

السّلف: كلّ من عصى الله فهو جاهل. وقال الحكم بن أبان بن عكرمة: الدّنيا كلّها جهالة. وخلاصة شروط التوبة الصادقة أربعة: النّدم الحقيقي على الذّنب، والعزم على عدم العود إليه مستقبلا، وردّ المظالم إلى أهلها، وإتباعها بالعمل الصالح. ثم أبدى الله سبحانه وتعالى تفضّلا منه طريقه في البيان وهو تفصيل آيات القرآن لمعرفة مناهج الطاعة والبعد عن مسلك أهل الاجرام فقال: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ. والمعنى: ومثل ذلك التّفصيل البيّن البديع لدلائل التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر، نفصّل آيات القرآن وحقائق الشريعة، وتقرير كلّ حقّ ينكره أهل الباطل، ليتّضح للمؤمنين طريق المجرمين، وإذا اتّضح سبيلهم كان كلّ ما عداه وما خالفه هو سبيل المؤمنين، وذكر أحد القسمين يدلّ على الثاني، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل 16/ 81] ولم يذكر البرد، ولأن بيان خاصية أحد الضّدين يدلّ ضمنا على خاصية القسم الآخر، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة أهل الحقّ والإيمان أيضا لا محالة. فقه الحياة أو الأحكام: تدلّ الآيتان على ما يلي: 1- إكرام الله للمستضعفين الذين نهى الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسّلام. ويستفاد منه احترام الصّالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم، فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه. 2- إمكان قبول التوبة من الله على عباده الذين وقعوا في الذّنوب، ثمّ تابوا

حسم الجدل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين [سورة الأنعام (6) الآيات 56 إلى 58] :

وأصلحوا العمل في المستقبل، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه 20/ 82] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد عن أبي هريرة: «أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال: «أتدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم» . 3- سعة رحمة الله بعباده، فقد أوجب الله تعالى على نفسه الرّحمة تفضّلا منه وإحسانا، وأخبر بذلك بخبره الصدق، ووعده الحقّ، ليعلم العباد مدى رحمة الله، كما قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 156] . 4- القرآن الكريم فصّلت فيه كلّ أحكام الدّين: فكما فصّل الله في هذه السّورة دلائله على وجوده ووحدانيته، فصّل أيضا الآيات لعباده في كلّ ما هم بحاجة إليه من أمر الدّين. حسم الجدل بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الإعراب: أَنْ أَعْبُدَ أن وصلتها في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجرّ، وتقديره: نهيت أن أعبد.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: نُهِيتُ منعت وزجرت وصرفت بما أودع في من أدلّة العقل وبما أوتيت من أدلّة السّمع. والنّهي: المنع من الشيء والزّجر عنه. تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون غيره، هذا هو المراد، وأصل الدّعاء: النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضّرّ. لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أي لا أسير في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى في عبادة الأصنام، دون اتّباع الدّليل، وهو بيان سبب الضّلال الذي وقعوا فيه، وتنبيه لكلّ من أراد إصابة الحقّ ومجانبة الباطل. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضالّ، وما أنا من الهدى في شيء. بَيِّنَةٍ البيّنة: كلّ ما يتبيّن به الحقّ من الحجج العقلية أو الأدلّة الحسية، ومن ذلك سميت الشهادة بيّنة. يَقُصُّ الْحَقَّ يذكره، والقصص: ذكر الخبر أو تتبع الأثر. الْفاصِلِينَ الحاكمين، والفصل: القضاء والحكم. سبب النزول: نزول الآية (57) : قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ قال الكلبي: نزلت في النّضر بن الحارث ورؤساء قريش، كانوا يقولون: يا محمد، ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم، فنزلت هذه الآية. المناسبة: لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة ما يدلّ على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق ولتستبين سبيل المجرمين، ذكر في هذه الآية انه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم. التفسير والبيان: قل يا أيها الرّسول لهؤلاء المشركين: إنّي نهيت وزجرت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضّرّ، من صنم أو وثن أو عبد صالح مهما علا شأنه أو ملك من الملائكة، وقد صرفت عن هذا كله بأدلّة العقل والأدلّة الحسيّة وبالآيات القرآنية المانعة من عبادة ما تعبدون من دون الله. وفي هذا استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة.

قل: لا أتّبع أهواءكم في سلوك طريقتكم القائمة على اتّباع الهوى دون اتّباع الدّليل، وإن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ، وما أنا من الحقّ والهدى على شيء. وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء. فإن عبادة غير الله ضلال وشرك، يترفّع عنها العاقل الواعي، وعبادة الله تعالى يدلّ عليها الحجّة والبرهان، والفكر والمنطق الصحيح. ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبّه على ما يجب اتّباعه بقوله: قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي قل لهم أيها الرّسول: إنّي فيما أخالفكم فيه على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليّ، وعلى حجّة عقلية واضحة،، وشاهد صدق، والحال أنكم كذبتم بالحقّ الذي جاءني من الله، أي كذبتم بالقرآن وجحدتم وجود الله حيث أشركتم به غيره، وكذبتم بالبيّنات، واتّبعتم الهوى والضلال، وسرتم على منهج التّقليد الأعمى الذي لا دليل فيه. ما عندي الذي تستعجلون به وهو العذاب، فليس إنزاله بمقدور لي، وما الحكم إلا لله أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله، إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلّكم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرّعد 13/ 8] . والله يقصّ الحقّ، أي يقصّ على رسوله القصص الحقّ في وعده ووعيده وجميع أخباره، وهو خير الفاصلين أي خير الحاكمين الذين يفصلون في القضايا بين عباده، وينفذ أمره متى شاء إصدار الحكم. وكان عليه الصّلاة والسّلام يخوّف قومه بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... أي قل أيها الرّسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ

عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] : قل لهم: لو كان مرجع ذلك العذاب إليّ، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ولتمّ فصل القضاء بيني وبينكم، ولتخلّصت سريعا، وانقضى الأمر إلى آخره، والله أعلم بالظالمين الذين لا أمل في صلاحهم ورجوعهم إلى الإيمان والحقّ والعدل، لذا فإن إنزال العذاب بيده تعالى لا بيدي، والله أعلم كيف يعاقبهم، ومتى يعاقبهم، وعلى أي نحو يجازيهم: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً، وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف 7/ 34] . وقد أثير اعتراض: وهو كيف يوفق بين هذه الآية: قُلْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا» ؟ والجواب: أن هذه الآية عند سؤالهم العذاب، ففيها دلالة على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له، لأوقعه بهم وأما الحديث: فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين: وهما جبلا مكّة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم، وسأل الرّفق لهم بالرّغم من أنه عرض عليه عذابهم واستئصالهم. وقصة الحديث: هي ما رواه الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السّلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلّم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله

فقه الحياة أو الأحكام:

قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» . فقه الحياة أو الأحكام: الحقّ والباطل لا يجتمعان لأن الحقّ قائم على الدّليل والعقل، والباطل منبعث من الأهواء والشهوات، لذا يستحيل على رسول الله أن يتّبع أهواء قومه في عبادة الأصنام والأوثان، فهم يعبدونها بمحض الهوى والتّقليد، لا على سبيل الحجّة والدّليل، وهم كانوا ينحتون الأصنام، ويقبح عقلا أن يعبد العامل الصانع معموله ومصنوعه. وليس إيقاع العذاب بمقدور النّبي عليه الصّلاة والسّلام كغيره من البشر، وإنما الأمر والحكم في ذلك لله وحده. ودلّ قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به، وكذلك في جميع الأفعال لأن نصّ الآية يفيد الحصر، بمعنى أنه لا حكم إلا لله. وكذلك وقت عقوبة الظالمين ومقدارها لا يعلم به غير الله، فهو تعالى يعلم ذلك، ويؤخّره إلى وقته، ويقدره حسبما يشاء، يفعل كلّ ذلك بموجب الحكمة، وهو العالم بكلّ شيء، يعجّل ما تعجيله أصلح، ويؤخّر ما تأخيره أصلح.

كمال علم الله تعالى وقهره العباد [سورة الأنعام (6) الآيات 59 إلى 62] :

كمال علم الله تعالى وقهره العباد [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) الإعراب: مِنْ وَرَقَةٍ: من زائدة من وجه، وغير زائدة من وجه، لأنها قد أفادت معنى العموم، ووَرَقَةٍ: في موضع رفع فاعل تَسْقُطُ. وَلا حَبَّةٍ أي ولا تسقط من حبّة في ظلمات الأرض. فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ صفة لحبّة، وتقديره: كائنة في ظلمات الأرض. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ استثناء منقطع، وتقديره: إلا هو «كائن» في كتاب مبين. والجار والمجرور في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا التأنيث على تقدير: جماعة رسلنا. ومن قرأ: توفّاه رسلنا بالتّذكير، على تقدير: جمع رسلنا. كقولك: قامت الرجال وقام الرجال. وهكذا في كلّ جماعة يجوز تذكير الفعل وتأنيثه، فالتذكير على معنى الجمع، والتأنيث على معنى الجماعة. مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مَوْلاهُمُ: في موضع جرّ على البدل من اسم الله تعالى، والْحَقِّ: صفة لمولاهم. ويجوز نصب الْحَقِّ إما على المصدر، أو بتقدير: أعني.

البلاغة:

البلاغة: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ استعار المفاتح للأمور الغيبية كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات. قال الزمخشري في الكشاف: 1/ 509: جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصّل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالإغلاق والأقفال، والمراد أن الله تعالى وحده هو العالم بالمغيبات، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ استعار توفي الموت للنوم لما بينهما من التشابه في زوال الإحساس والتمييز. وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ والليل والنهار بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَعِنْدَهُ أي الله تعالى. مَفاتِحُ جمع مفتح أي مخزن، أو مفتاح: وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، والمراد هنا: خزائن الغيب أو الطّرق الموصلة إليه. الْبَرِّ الأرض اليابسة. الْبَحْرِ المكان المتّسع للماء الكثير. يَتَوَفَّاكُمْ التّوفي: الأخذ التّام الكامل، أو استيفاء الشيء أو إحصاء عدده، ثم أطلق التّوفي على الموت لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما، كما أطلق على النوم، وليس ذلك موتا حقيقة، بل هو قبض الأرواح عن التّصرّف بالنّوم كما يقبضها بالموت. جَرَحْتُمْ عملتم وكسبتم بالجوارح، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشّرّ، والاجتراح: فعل الشّرّ خاصة، كما في قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ [الجاثية 45/ 21] . يَبْعَثُكُمْ فِيهِ يوقظكم من النوم في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليقضى: ينفذ، والأجل: هو أجل الحياة. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي بالبعث، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم به. حَفَظَةً ملائكة تحصي أعمالكم وهم الكرام الكتبة من الملائكة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار 82/ 10- 11] . تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا هم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ يقصّرون فيما يؤمرون به. ثُمَّ رُدُّوا أي الخلق. مَوْلاهُمُ مالكهم. الْحَقِّ الثابت العدل ليجازيهم. لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فيهم. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدّنيا، لحديث وارد بذلك. المناسبة: الآيات متّصلة بما قبلها لأنه تعالى قال في الآية الأولى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ

التفسير والبيان:

بِالظَّالِمِينَ ثم ذكر هنا مدى سعة علمه وقدرته، فعنده مفاتح الغيب، وهو المتصرّف في الخلق أجمعين، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحافظ المتوفي، وهو المحاسب خلقه في أسرع وقت. التفسير والبيان: خزائن الغيب ومفاتيحها التي يتوصّل بها إلى علم الغيب عند الله، وهو المتصرّف فيها، وهو عالم الغيب والشهادة، ولا يعلم بالغيب أحد سواه، وينفذ منها ما يراه في الوقت المناسب لحكمته. والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس، روى البخاري عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [لقمان 31/ 34] . وجاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل 27/ 65] . وفي معناها أيضا قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] . ويعلم سبحانه حديث النفس، ويعلم السر وأخفى، فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النمل 27/ 74- 75] وقال: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] .

وجملة لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ توكيد للجملة السابقة. ثم فصّل تعالى ما أجمل، وعدّد بعض نواحي العلم التي يحيط بها فقال: وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. أي يعلم الأشياء المشاهدة لكم، كما يعلم المغيبات، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر، فعلمه محيط بجميع الموجودات بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان، في البر والبحر، ويعلم الحركات حتى من الجمادات، وبالأولى الحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من الجن والإنس، ويعلم الأحوال المتعلقة بالذوات إذ سقوط الورق حال من الأحوال. ويعلم ما تسقط من حبة في ظلمات الأرض، سواء بفعل الإنسان كالزارع، أو الحيوان كالنمل، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض، ويعلم ما يسقط من الثمار، رطبا ويابسا، حيا وميتا، وهكذا علم كل الكائنات مكنون ثابت في كتاب واضح لا يمحى هو اللوح المحفوظ، الذي سجل في كل شيء، وسجل عدده ووقت وجوده وفنائه. وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو موجود فيه، قبل أن يخلق الله الخلق، وهذا قول الزجاج، كما قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد 57/ 22] . واختار الرازي وصوب أن الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير «1» . والخلاصة: أنه تعالى يعلم الغيب والشهادة، والظاهر والباطن، والرطب واليابس، والسر وأخفى وكل شيء في الكائنات، يعلم بالكليات وبالجزئيات.

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 11

ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وتصرفه في الكون والمراحل التي يمر بها الإنسان في أحوال المعيشة والموت والبعث وعند الحساب في الدار الآخرة فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.. أي أن الله يتوفى عباده في منامهم بالليل أي بالنوم، وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر 39/ 42] فذكر في كل من هاتين الآيتين حكم الوفاتين: الصغرى، ثم الكبرى. ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وحال حركتهم، كما قال تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد 13/ 10] . ثم بعد هذا التوفي بالنوم والعلم بأعمالكم في النهار، يبعثكم في النهار أي يثيركم ويرسلكم فيه، على ما هو الأظهر الذي رجحه ابن كثير، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي. هذا التقلب في الليل والنهار لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي في علمه تعالى لكل واحد منكم، فإن الآجال والأعمار محدودة ومقدرة مكتوبة سابقا. ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال، ثم يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، ويجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والله هو القاهر فوق عباده أي هو الذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء، وهو القادر على البعث لأن من قدر على بعث من توفي بالنوم قادر على بعث من توفي بالموت، وهو المتصرف بعباده، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة.

وهو الحافظ الذي يرسل حفظة من الملائكة ليلا ونهارا يحفظون بدن الإنسان، ويحصون أعماله، ولا يفرطون بشيء منها، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار 82/ 10- 12] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] . وفي معنى الآية قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمره [الرعد 13/ 11] . روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» . والحكمة في كتابة الحفظة الملائكة أعمال الإنسان مع أن الله أعلم بكل شيء: هي الإتيان بدليل مادي محسوس لإقامة الحجة على الإنسان، ولان المرء إذا عرف تدوين أعماله انزجر عن الممنوعات، وأقدم على الطاعات، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] . يرسل عليكم الحفظة الملائكة لإحصاء الأعمال، حتى إذا حان الأجل، قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، هؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت، كما قال تعالى: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة 32/ 11] قال ابن عباس وغيره: لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم. والحال أن هؤلاء الملائكة الحفظة لا يفرطون أي لا يقصرون في حفظ روح

فقه الحياة أو الأحكام:

المتوفى، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، عياذا بالله من ذلك. ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرسل إلى الله، أي إلى حكمه وجزائه، إلى الله مولاهم، أي مالكهم الذي يلي أمورهم، الحق أي العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره، ولا يشغله حساب عن حساب، جاء في الحديث: «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة» . ونظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [النمل 27/ 78] وقوله: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد 13/ 41] وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر 39/ 46] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، كلا وجزءا، واختص بعلم خمسة أمور لا يعلمها إلا هو: وهي علم الساعة، ووقت تنزيل الغيث (المطر) ومقداره، وعلم ما يكنّ في الأرحام بأوصاف وطبائع معينة، وعلم المستقبل، وعلم آجال الناس. وعلمه محيط بكل حركة وسكنة، وجماد وحيوان ونبات، وسرّ الإنسان وحديث النفس وخلجات القلب. والله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، ولا يكون ذلك من

إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران 3/ 179] وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] . 2- قال العلماء: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده، فمن قال: إنه ينزّل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النّوء «1» ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه، لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النّوء «2» . والكهانة (ادعاء معرفة الماضي وعلم الغيب) والعرافة (ادعاء معرفة الماضي والمستقبل) كذب يتنافى كل منهما مع أصل معرفة الله الغيب وانحصار ذلك به، جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن النّبي صلى الله عليه وآله قال: «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» والعرّاف: هو الحازر والمنجّم الذي يدعي علم الغيب، ويستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها، وقد يستعين بالنجوم وغيرها، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا فن العيافة، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة. قال ابن عبد البر: من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسّحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله.

_ (1) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. (2) تفسير القرطبي: 7/ 2

3- الإشارة للكتاب المبين أي اللوح المحفوظ: لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك. 4- الله المتصرف في الإنسان بنومه وهو الموتة الصغرى، وبموته الحقيقي وهو الموتة الكبرى، والفرق بينهما أن النوم فيه قبض الروح عن التصرف، وأما الموت ففيه قبض نهائي للروح عن الحركة وسلخها من الجسد، ففي النوم تبقى الحياة، بدليل بقاء الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس. 5- إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم، فإنه أحصى كل شيء عددا، وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دلت الآية على الحشر والنشر بالبعث لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر. 6- في تحديد الأجل المسمى للحياة والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من العذاب، وأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فمن نجا من الأول لم يسلم من الآخر. والله في كل الأحوال هو القاهر فوق عباده فوقية مكانة ورتبة، لا فوقية مكان وجهة. 7- لله ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات، وهناك مهام أخرى للملائكة متعلقة بالبشر، منها قبض الأرواح، ولملك الموت أعوان يسلّون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها، قبضها ملك الموت. والمتوفي على الحقيقة هو الله، لكن قد ينسب التوفي تارة إلى ملك الموت

القدرة الإلهية على الإنجاء من الظلمات [سورة الأنعام (6) الآيات 63 إلى 64] :

الذي يأتمر بأمر الله مثل: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة 32/ 11] ، وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك، كما في هذه الآية: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وتارة إلى الله مثل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر 39/ 42] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الجاثية 45/ 26] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك 67/ 2] . 8- الحكم المطلق لله وحده يوم القيامة، أي القضاء والفصل، والله أسرع الحاسبين، أي لا يحتاج إلى فكرة وروية. القدرة الإلهية على الإنجاء من الظلمات [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) الإعراب: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إما منصوب على المصدر، أو منصوب على الحال لأن معناه: ذوي تضرع. لَئِنْ أَنْجانا اللام لام القسم. المفردات اللغوية: ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الحسية كظلمة الليل والغيوم والمطر وما يصحبها من أخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار، والمعنوية كظلمة الجهل بالطرق، وفقد الدلائل، والمراد أهوالهما ومخاوفهما في أسفاركم. تَضَرُّعاً علانية ومبالغة في الضراعة: وهي الذل والخضوع، والمراد: ما صدر عن الحاجة الشديدة والإخلاص. وَخُفْيَةً خفاء وسرا. مِنْ هذِهِ الظلمات والشدائد. الشَّاكِرِينَ نعمة الله مع الانضمام لصف المؤمنين. وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غم شديد. المناسبة: بيّن سبحانه فيما سبق بعض الأدلة على ألوهيته من إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلائه على خلقه بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم، وأضاف هنا نوعا

التفسير والبيان:

آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، وكمال الرحمة والفضل والإحسان. التفسير والبيان: يمتن الله تعالى على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر، أي الحائرين التائهين المتعرضين لأهوال المخاطر والمخاوف في البر والبحر. قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين غفلوا عن آيات التوحيد: من ينجيكم من أهوال الأسفار ومخاوفها إذا ضللتم في أنحاء الأرض البرية والبحرية؟ فحينئذ لا تجدون ملجأ غير الله تدعونه علانية وسرا، بخشوع وخوف واستغاثة وضراعة وتذلل، حال كونكم تقسمون: لئن أنجانا الله من هذه الشدائد والظلمات أو الضائقة التي وقعت بنا، لنكونن من شاكري النعمة، المقرين بتوحيد الله، المخلصين له العبادة، دون إشراك. ونظير الآية كثير في القرآن مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس 10/ 22] . ومثل: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] . قل: الله هو الذي ينجيكم مرارا من هذه الأهوال، ومن كلّ كرب وغمّ، ثم مع ذلك أنتم بعدئذ تشركون بالله غيره، فتخلفون وعدكم بالإيمان، وتخونون العهد مع الله، وتحنثون بالقسم الذي حلفتموه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: لا يثبت الإنسان غالبا على العهد، ولا يفي بالوعد، ولا يستقرّ على حال الاستقامة، فتراه بطبعه غدارا خائنا، يلجأ إلى الله وقت الشدة والخوف، وينسى الله بعد النجاة، ويعود إلى ضلالة وجهله. والواجب الذي يمليه العقل والوفاء بالجميل والإخلاص أن يستمر الإنسان على أصل العقيدة الصحيحة والإيمان الحق والعبادة لمن أنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها، لا سيما في أحوال الأزمات والمحن. وهذه حال من الأحوال التي ذكرتها الآية: وهي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك ودعوتم الله، وأقسمتم: لئن أنجانا الله من هذه الشدائد، لنكونن من الطائعين المستقيمين. وهذا توبيخ من الله لأولئك المشركين في دعائهم إياه عند الشدائد، ثم يدعون معه غيره في حالة الرخاء، كما قال: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. إنه مثل ضربه الله، بقصد التقريع والتوبيخ لمن تعهد بالإيمان ونبذ الشرك لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة، وحب الإخلاص، والمشركون قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك، فحسن أن يقرّعوا ويوبخوا على هذا المنهج، وإن كانوا مشركين قبل النجاة. وفي الآية إيماء إلى أن من أشرك في عبادة الله تعالى غيره، فهو لم يعبده لأن شرط العبادة الإخلاص، والتوحيد أساس العبادة. والآية صريحة بأنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في وقت المحنة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات إذ لا يقبل عقلا أن يأتي الإنسان بأمور

القدرة الإلهية على تعذيب العصاة [سورة الأنعام (6) الآيات 65 إلى 67] :

أربعة عند حصول الشدائد: وهي الدعاء، والتضرع، والإخلاص بالقلب، والتزام الاشتغال بالشكر، ثم يرتد على عقبيه، ويعمل بنقيض هذه الأمور بعد النجاة وإحراز السلامة من الله تعالى وحده الذي يهيئ الأسباب للإنجاء من المخاوف، أو يغمر عباده بواسع الرحمة والفضل، وبدقائق اللطف والإلهام. القدرة الإلهية على تعذيب العصاة [سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الإعراب: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً إما منصوب على المصدر أو على الحال. البلاغة: فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: مِنْ فَوْقِكُمْ أي من السماء كالحجارة والصيحة. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالخسف. أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم، من اللّبس، والمراد: يخلط عليكم أمركم خلط اضطراب واختلاف. وفيه حذف تقديره: يلبس عليكم أمركم. شِيَعاً جمع شيعة، أي يجعلكم فرقا مختلفة الأهواء. وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتال. نُصَرِّفُ الْآياتِ نبين لهم الدلالات على قدرتنا، ونحو لها من نوع من أنواع الكلام إلى آخر، ترسيخا للمعنى وتأكيدا له. لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعلمون أن ما هم عليه باطل، والفقه: فهم الشيء بدليله وعلته، فهما يؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ والعمل الأفضل.

سبب النزول:

وَكَذَّبَ بِهِ بالقرآن. وَهُوَ الْحَقُّ الصدق. بِوَكِيلٍ هو الذي توكل أو تفوض إليه الأمور، والمراد: لست مفوضا في شأنكم، فأجازيكم، إنما أنا منذر، وأمركم إلى الله. نَبَإٍ خبر. مُسْتَقَرٌّ وقت يقع فيه ويستقر، ومنه عذابكم. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد لهم. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً.. الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف» قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدا: أن يقتل بعضنا بعضا، ونحن مسلمون، فنزلت: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ، وَهُوَ الْحَقُّ، قُلْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. وروى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ إلخ، فقال: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» . المناسبة: بعد أن بيّن سبحانه أنه القادر على إنجاء المشركين وغيرهم من المخاوف والأهوال، بيّن كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من طرق مختلفة، ليعتبروا ويتعظوا، وهو نوع آخر من دلائل التوحيد، ممزوج بنوع من التخويف. التفسير والبيان: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين: الله هو القادر على إنزال العذاب عليكم بألوان مختلفة، تارة من فوقكم كالرجم بالحجارة كما حدث لقوم لوط

وأصحاب الفيل، والصيحة وهي الصوت الشديد المهلك، كما حدث لثمود وهم أصحاب الحجر (واد بين المدينة والشام) ، والطوفان كما حدث لقوم نوح، وتارة من تحتكم كالزلزال والبركان والخسف المعهود فيما سبق كما حدث لقارون، وتارة أن يخلط عليكم أمركم ويجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. وعن ابن عباس: أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم، ومن تحت أرجلكم، أي عبيدكم وسفلتكم. قال الطبري: وأولى التأويلين «1» في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى بالعذاب من فوقهم: الرجم، أو الطوفان، وما أشبه ذلك، مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم: الخسف وما أشبهه، وذلك وأن المعروف في كلام العرب من معنى: فوق وتحت الأرجل هو ذلك دون غيره، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك (التأويل الثاني) وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها «2» . وإني أؤيد الطبري لأن ظاهر اللفظ يقضي بحمله على المعروف المشهور، وإن كان لا مانع من الأخذ بعموم اللفظ، مما يحدث في المستقبل لأن القرآن معجزة الدهر، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه. وقد شهد العصر الحديث ويلات رهيبة من مشاهد القتال، من الجو والبر والبحر، مما يشيب منه الإنسان.

_ (1) التأويل الأول للعذاب من فوقهم: الرجم ومن تحتهم: الخسف، والتأويل الثاني للعذاب من فوقهم: أئمة السوء، ومن تحت أرجلهم: الخدم وسفلة الناس، وهذا مروي عن ابن عباس. (2) تفسير الطبري: 7/ 142

روى البخاري والنسائي عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بوجهك» . أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: «أعوذ بوجهك» . أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذه أهون- أو: أيسر» . وإنما كان التفريق والاقتتال أهون لأن ما قبله أشد وهو عذاب الاستئصال. وروى الإمام أحمد عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها» . ويؤيده- مع بعض الفارق- ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوت ربي عزّ وجلّ أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع الله عنهم اثنتين، وأبي علي أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين: القتل والهرج» فجعل الأمرين الأخيرين اثنين، وفي رواية أحمد: واحدا. وروى مسلم ما يؤيد رواية أحمد، وهي رواية أخرى لأحمد من حديث

ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله زوي «1» لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة «2» ، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم «3» ، وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا» . وقد تحقق خبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في اتساع أرجاء البلاد الإسلامية إلى المشارق والمغارب، وفي وقوع بأسهم بينهم بالتفرق والاقتتال. أما تسلط عدوهم عليهم فمرهون بوحدتهم واجتماع كلمتهم، وما حدث من زوال ملكهم عن بعض البلاد كالأندلس وفلسطين فكان بسبب تفرقهم وتشتت وحدتهم وتمزق صفوفهم وتفرق جمعهم، بدليل ما روى أبو داود والبيهقي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» . ثم أمر الله تعالى بالنظر في الدلائل والبينات، فقال: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي انظر أيها الرسول كيف نبين ونوضح الدلائل بوجوه مختلفة، إما بطريقة الحس، وإما بطريقة العقل، وإما بالإخبار بالغيب، لعلهم يفهمون

_ (1) زوي: جمع. (2) السنة العامة: البلاء العام كالجماعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح العاتية. [.....] (3) البيضة: العزة ومستقر الملك أو كيان البلاد واستقلالها.

ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح أحوالهم. ولكن قوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهم قريش كذبوا بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان أو بالعذاب الذي هدوا به، والحال أنه الحق الصدق أي الذي ليس وراءه حق، فالقرآن حق ثابت لا شك فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والعذاب لا بد أن ينزل بهم، فكل منهما يثبته الحس والعقل والوجدان. ثم لا سبيل إلى إجبارهم على الإيمان، فقل لهم أيها الرسول: إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام 6/ 104] أي أحفظ عليكم أعمالكم، ولست بموكل بكم، كقوله: وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] وقوله: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] أي إنما علي البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني شقي في الدنيا والآخرة. وأخيرا جاء التهديد والوعيد على التكذيب بالقرآن أو بالعذاب، فقال تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ.. أي لكل خبر يخبر به وقت استقرار ووقوع وحصول لا بد منه ولو بعد حين، قال ابن عباس وغيره: «لكل نبأ حقيقة» أي لكل خبر وقوع ولو بعد زمن، كقوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص 38/ 88] وقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] . هذا تهديد ووعيد أكيد، أتبعه بتهديد آخر فقال: وسوف تعلمون صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد، وعد رسوله بالنصر

فقه الحياة أو الأحكام:

عليهم، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: قدرة الله تعالى شاملة لجانبي الرحمة والفضل، والعذاب والعقاب، فهو قادر على إمداد خلقه بمختلف أنواع السعة والرزق والسلامة والنجاة، كما أبان في الآيات السابقة، وهو قادر أيضا على إنزال مختلف أنواع العذاب كما ذكر في هذه الآيات، ومثل العذاب من فوق الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، ومثل العذاب من تحت الزلزال والبركان، والخسف والرجفة كما فعل بقارون وأصحاب مدين، ومثل العذاب الشديد الدائم: أن يخلط عليكم الأمر، فيفرق صفوفكم، ويجعلكم مختلفي الأهواء، ويفرق بين الأمراء على طلب الدنيا، وإيقاع الحرب والقتل في الفتنة. والآية عامة في المسلمين والكفار، وقد تحقق كل ذلك في الوجود، فاستولى العدو على ديارنا وأنفسنا وأموالنا، واستولت الفتنة علينا بقتل بعضنا بعضا، واستباحة بعضنا أموال بعض. وما أسوأ حال العرب والمسلمين منذ تخلّوا عن تعاليم دينهم، وأصبحوا تبعا للأعداء، وجسّدوا فيما بينهم الفرقة والخلاف. وأما مصير الذين كذبوا بالقرآن، وهو القصص الحق، فليس أمرهم منوطا بنبيّ الله، فما هو إلا منذر وقد بلّغ ما أمره به ربه، وإنما أمرهم راجع إلى الله، ولكل إنذار وقت، ولكل خبر حقيقة، ولكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدّم وتأخر. وهذا شامل للعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة. وهذا وعيد من الله تعالى للكفار، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث، ووعيد لهم في الدنيا، كما حدث لهم في بدر وغيرها من المعارك الحربية التي استأصلت الكفر والشرك من الحجاز.

الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن وعذابهم [سورة الأنعام (6) الآيات 68 إلى 70] :

ولا يفرحنّ المسلمون بهذا الوعيد فإنهم يستحقون العقاب أيضا إذا تخلوا عن قرآنهم لأن التخلي عنه قريب من التكذيب به، فيشملهم الوعيد والإنذار: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت 41/ 52- 53] . الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن وعذابهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الإعراب: وَلكِنْ ذِكْرى يجوز فيها النصب والرفع، فالنصب على المصدر وتقديره: ذكّركم ذكرى. والرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: ولكن عليهم ذكرى. أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ مفعول لأجله، وتقديره: لئلا تبسل أي لئلا تسلّم نفس للهلاك وترهن بسوء عملها.

البلاغة:

البلاغة: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وضع الظاهر. مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ موضع الضمير. معهم لتسجيل شناعة ما ارتكبوا عليهم، حيث كذبوا واستهزءوا بدلا من التصديق والتعظيم. لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ فيه ما يعرف بالسجع. المفردات اللغوية: يَخُوضُونَ المراد به هنا الاسترسال في الحديث، وقد استعمله القرآن أيضا في المشاركة في الباطل مع أهله، وأصل الخوض: الدخول في الماء سيرا أو سباحة. يَخُوضُونَ فِي آياتِنا أي يتكلمون في القرآن استهزاء. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ انصرف عنهم ولا تجالسهم. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ أي ينسيك وجوب الإعراض عنهم، فقعدت معهم. بَعْدَ الذِّكْرى المراد هنا التذكر. وَلكِنْ ذِكْرى المراد هنا التذكير والموعظة. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الخوض. وَذَرِ اترك ولا تتعرض لهم. لَعِباً وَلَهْواً باستهزائهم به. وَذَكِّرْ بِهِ عظ بالقرآن الناس. أَنْ تُبْسَلَ لئلا تبسل نفس، أي تسلّم إلى الهلاك، وتحبس في النار، وتمنع من الثواب. والبسل: حبس الشيء ومنعه بالقوة، ومنه شجاع باسل، أي يحمي نفسه ويمنعها. بِما كَسَبَتْ عملت. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. وَلِيٌّ ناصر. وَلا شَفِيعٌ يمنع عنها العذاب. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ تفد كل فداء. لا يُؤْخَذْ مِنْها ما تفدى به. شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ نهاية الحرارة، أي شديد الحرارة. وَعَذابٌ أَلِيمٌ شديد الألم أو مؤلم. بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بكفرهم. سبب النزول: روى الطبري عن السدي في آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النّبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، فسبوه واستهزءوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل. وروى الطبري أيضا عن سعيد بن جبير ومجاهد أنهما قالا في قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ... : الذين يكذبون بآياتنا «1» .

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 148، تفسير الرازي: 13/ 25

المناسبة:

وروى عن ابن عباس وابن سيرين: أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء. ولما قال المسلمون: إن قمنا كلما خاضوا، لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف، فنزل: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ أي يتقون الله من حساب الخائضين من شيء أي إثم إذا جالسوهم. ومِنْ: صلة زائدة. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس عليه أن يكون حفيظا رقيبا على أعمال المكذبين بآيات الله، وإنما هو مبلّغ، وأن الزمان سيخبرهم بعاقبة تكذيبهم، أبان في هذه الآيات وجوب إعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عن مجالس المشركين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في القرآن والرسول. التفسير والبيان: وإذا رأيت يا محمد وكل سامع مسلم الذين يخوضون في آيات القرآن بالتكذيب والاستهزاء، فانصرف عنهم ولا تجالسهم، حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء والتكذيب. ومثلهم من يخوض في القرآن بتأويله تأويلا باطلا نابعا من البدع والأهواء والآراء الفاسدة، لا تجالسهم واتركهم. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وكذلك لا تجالس كل من يحرف القرآن ويؤول آياته لتكفير مسلم وتضليل مهتد. فإذا خاضوا في حديث آخر، فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.

وإن أنساك الشيطان أيها المسلم النهي والمنع، فجلست مع الخائضين ناسيا، فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء. والخطاب للرسول وكل سامع مسلم. ويجوز وقوع النسيان على النبي بغير وسوسة الشيطان لقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف 18/ 24] وقد وقع النسيان من آدم عليه السلام: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 20/ 115] ومن موسى عليه السلام: قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ [الكهف 18/ 73] وثبت في الكتب الستة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم سها في الصلاة وقال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني» . أما في تبليغ الوحي والدين المنزل من الله، فإن الأنبياء معصومون عن نسيان شيء مما أمرهم الله بتبليغه من حلال أو حرام لقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة 75/ 16- 19] . وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل التصرف فيه، والسلطان عليه لقوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل 16/ 99- 100] . فإن تجنبوا مجالسة الخائضين، فلا يحاسبون على خوضهم، وبرئوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم. وقال آخرون (مجاهد والسدي وابن جريج) : بل معناه: وإن جلسوا معهم، فليس عليهم من حسابهم من شيء، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [4/ 140] .

وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا وموعظة، لعلهم يتقون الخوض في آياتنا، ويذكرون الله. وعلى التفسير الثاني لمجاهد ومن وافقه: يكون المراد هذه الآية: أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه، لعلهم يتقون ذلك، ولا يعودون إليه. وقال الزمخشري: ولكن عليهم أثناء مجالستهم أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم، لعلهم يجتنبون الخوض حياء، أو كراهة لمساءتهم. وروي أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، وأن نطوف، فرخص لهم. ثم أكد الله تعالى ترك المستهزئين بقوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ.. أي دع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين وأعرض عن هؤلاء المشركين الذين يتلاعبون بدينهم بعبادة الأصنام، يصنعونها ثم يأكلونها، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد وهذا هو اللعب، وشغلوا أنفسهم عن العمل المفيد وهذا هو اللهو، وغرتهم الدنيا الفانية، وآثروها على الحياة الباقية، واشتغلوا بلذات الدنيا الحقيرة، فخاضوا في آيات الله بدلا عما كان يجب عليهم من فهمها وتدبرها وامتثالها. وهو كقوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر 15/ 3] . وذكّر الناس بالقرآن وعظهم به لئلا تحبس عن الخير، وتمنع في جهنم نفس بما عملت، وتسلم إلى الهلاك، وترتهن بعملها الذي صدر منها في الدنيا، كقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر 74/ 38- 39] . وقوله: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أي والحال لا قريب ولا أحد يشفع فيها، ولا ناصر ينصرها، كقوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر 40/ 18] وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] . وكما لا تنفع الشفاعة والوساطة، لا ينفع بذل الفداء: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أي وإن بذلت كل فداء أو مبذول، ما قبل منها، كقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة 2/ 123] . وهذا إبطال لمبدأ من مبادئ الوثنية: وهو رجاء النجاة في الآخرة كما في الدنيا بتقديم الفدية الى لله تعالى، أو بشفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء عند الله تعالى. وهذا الإبسال والإهلاك والعذاب في النار كان بسوء صنعهم، قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا.. أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذبوا بسبب عملهم في الدنيا، وجزاؤهم شراب من حميم، أي ماء شديد الحرارة يحرق البطون ويقطع الأمعاء، كقوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد 47/ 15] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يلي: 1- وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن أو بالنبيّ أو بأحكام الإسلام، ومجالس المتأولين آيات القرآن بغير حق، وتحريفها عن مواضعها. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله، تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. 2- إذا علم الرجل من الآخر منكرا، وعلم أنه لا يقبل منه وعظا

ولا نصحا، فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه، كما قال القرطبي «1» . 3- قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل «2» . ومنع المالكية الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودّتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم «3» . 4- لا يطرأ النسيان أصلا على الأنبياء فيما يجب عليهم تبليغه من أحكام الشرع، لعصمتهم عن ذلك، وإنما يمكن طروء النسيان عليهم في الأمور العادية كالسهو أثناء الصلاة ونحو ذلك. وليس النسيان من قبيل وجود السلطة والتصرف من الشيطان على الإنسان، فتسلطه محصور في المشركين والكافرين، لا في المؤمنين. 5- الأظهر أن آية وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ ... ليست منسوخة، ومعناها الدائم: ليس عليكم شيء من حساب المشركين، وعليكم بتذكيرهم وزجرهم، فإن أبوا فحسابهم على الله. 6- الاستهزاء في الدين ليس مسوّغا في أي شرع أو ملة، والمستهزئون ما هم إلا لاعبون لاهون غرتهم الحياة الدنيا أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، وإن تأصل الكفر فيهم أفسد عليهم فطرتهم، فحجب عنهم كل خير. 7- القرآن خير مذكر للإنسان من تعريض نفسه للهلاك والعذاب في نار جهنم، والمسلم الحق: من اتخذ القرآن إماما وسنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم منهجا، لا من اغترّ بالأماني والأوهام.

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 12 (2) أحكام القرآن للقرطبي: 2/ 731 (3) تفسير القرطبي: 7/ 13

مزايا الإيمان بالله ومخازي الشرك [سورة الأنعام (6) الآيات 71 إلى 73] :

8- لا يقبل في الآخرة فداء ولا نصرة ناصر ولا شفاعة شفيع إلا بإذن الله وإرادته، لقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه 20/ 109] وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. [سبأ 34/ 23] وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] . مزايا الإيمان بالله ومخازي الشرك [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) الإعراب: حَيْرانَ حال من هاء اسْتَهْوَتْهُ وهو ممنوع من الصرف كعطشان، وهو لا ينصرف معرفة ولا نكرة لأن فعلان فعلى أشبه ما في آخره ألف التأنيث الممدودة، وما في آخره ألف التأنيث الممدودة لا ينصرف معرفة ولا نكرة، فكذلك ما كان على: فعلان فعلى. وجملة التشبيه حال من ضمير نُرَدُّ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: وبأن أقيموا. وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ يَوْمَ: منصوب من أربعة أوجه: إما لأنه معطوف على

البلاغة:

السموات، أو على الهاء في وَاتَّقُوهُ، أو لأنه ظرف وقع خبرا عن المبتدأ وهو: قَوْلُهُ الْحَقُّ وتقديره: قوله الحق يوم يقول. وقَوْلُهُ: مبتدأ وبِالْحَقِّ: صفته، ويَوْمَ يَقُولُ: خبره أي مستقر يوم يقول، أو منصوب بتقدير فعل هو: واذكر يوم يقول. وكن فيكون، أي: فهو يكون، ولهذا كان مرفوعا. يَوْمَ يُنْفَخُ في نصبه وجهان: إما بدل من قوله: يَوْمَ يَقُولُ، أو متعلق بقوله: وَلَهُ الْمُلْكُ أي وثبت له الملك يوم ينفخ. عالِمُ الْغَيْبِ مرفوع لأنه صفة الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أو على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب، أو حملا على المعنى، وتقديره: ينفخ فيه عالم الغيب، كأنه قال: يوم ينفخ. ويجوز الجرّ بدلا من هاء قَوْلُهُ. البلاغة: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهام للإنكار. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عبر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الفعل وتشنيعه. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ بينهما جناس اشتقاق. ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وعالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: أَنَدْعُوا أنعبد. ما لا يَنْفَعُنا بعبادته. وَلا يَضُرُّنا بتركها وهو الأصنام. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا نرجع مشركين، والمقصود بهذا التعبير كل رجوع وتحول مذموم. اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أضلته وذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن، وأن الجن تظهر لهم في القفار وتتلون بألوان مختلفة وتذهب بالعقل، فيهيم على وجهه حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون تسمى الغيلان والأغوال والسعالى. حَيْرانَ متحيرا تائها لا يدري أين يذهب. لَهُ أَصْحابٌ رفقة. يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي ليهدوه الطريق، يقولون له: ائْتِنا فلا يجيبهم فيهلك. هُدَى اللَّهِ هو الإسلام وما عداه ضلال. لِنُسْلِمَ بأن نسلم أو أمرنا كي نسلم، والإسلام: الإخلاص. وَأَنْ أي بأن أقيموا الصلاة. تُحْشَرُونَ تجمعون يوم القيامة للحساب. وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ هو يوم القيامة يقول للخلق: قوموا فيقوموا. قَوْلُهُ الْحَقُّ الصدق الواقع لا محالة. الصُّورِ لغة: القرن وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون. والمراد هنا النفخة الثانية من

سبب النزول:

إسرافيل. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما شوهد. الْحَكِيمُ في خلقه. الْخَبِيرُ ببواطن الأشياء كظواهرها. سبب النزول: قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فأنزل الله عز وجل: قُلْ: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا. المناسبة: المقصود من هذه الآية: قُلْ: أَنَدْعُوا ... الردّ على عبدة الأصنام، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك: قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. التفسير والبيان: قل لهم أيها الرسول: أنعبد من دون الله النافع الضارّ ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا، ونرد على أعقابنا إلى الشرك والكفر، بعد أن أنقذنا الله منه، وهدانا للإسلام؟ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض وذهبت بعقله، وأصبح حيران تائها لا يدري كيف يسير؟ والحال أن له أصحابا على الجادة المستقيمة يدعونه إلى طريق الهدى، قائلين له: ائْتِنا. ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل: إنه رجع إلى الخلف، ونكص على عقبيه، ورجع القهقرى. والسبب: أن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم، قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النحل 16/ 78] فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى، يقال له: ردّ على عقبيه.

والمقصود بالآية ضرب مثل مفاده: أن من يرتد مشركا بعد الإيمان، كمن جعله الجنون هائما على وجهه، ضالا في الطرقات، حيران لا يهتدي، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم، وهم ينادونه: ائتنا، وعد إلينا، فإنا على الطريق الصحيح، فلا يستجيب لهم. فهذا مثل من يتبع آلهة الأصنام ويعبدها من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء، حتى يأتيه الموت، فلا يجد إلا الندامة والهلاك، علما بأن له صاحبا مخلصا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعوا إلى الطريق الحق وهو الإسلام. قال الزمخشري: وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده أن الجن تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه، كقوله: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 2/ 275] فشبه الضال عن طريق الإسلام بالتابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الدين الحق، فلا يلتفت إليهم «1» . وقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ أي أضلته في الأرض، والشياطين: هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها، وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد رمته في هلكة. أدعهم أيها الرسول لدين الحق، وقل لهم: إن هدى الله في قرآنه هو الهدى، وطريق الإسلام هو الحق، وهو الصراط المستقيم، لا ما تدعون إليه من أهوائكم. وقل لهم: وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين، أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له، فأسلمنا. وأمرنا بأن أقيموا الصلاة، أي أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة: وهي الإتيان بها على الوجه الأكمل الذي شرعت من أجله، وهو تزكية النفس بمناجاة الله، والنهي عن الفحشاء والمنكر.

_ (1) الكشاف: 1/ 512

وأمرنا أيضا بالتقوى: وهي اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه، أي نحن مأمورون بأمور ثلاثة: هي الإخلاص لله دون إشراك، وإقامة الصلاة وعبادة الله وحده دون غيره، والتقوى في جميع الأحوال، سرا وعلنا، فهو الذي إليه تحشرون أي تجمعون يوم القيامة، وإليه وحده المرجع والمآب، فيحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليه، فليس من العقل ولا من الحكمة ولا من المصلحة أن يعبد غيره. والله هو خالق السموات والأرض ومالكهما ومدبرهما ومن فيهما، وخلقه قائم على الحق والعدل والحكمة: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدّخان 44/ 38- 39] ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران 3/ 191] . وقوله هو الحق أي قضاؤه هو الحق، حين يقول للشيء يوم القيامة: كُنْ فَيَكُونُ وأمره كلمح البصر أو هو أقرب. ويوم يقول: منصوب إما عطفا على قوله: وَاتَّقُوهُ وتقديره: واتقوا يوم يقول: كُنْ فَيَكُونُ وإما على قوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي وخلق يوم يقول: كُنْ فَيَكُونُ. وأمره التكويني: كُنْ وأمره التكليفي سواء: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف 7/ 54] . ومن كان أمره التكويني مطاعا، كان أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة، فالخلق حق، والأمر حق. ولله الملك المطلق والتصرف التام في ملكه. وقوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ جملتان محلهما الجر، على أنهما صفتان لرب العالمين. ويوم ينفخ في الصور يصعق كل من في السموات والأرض، ويهلك حتى

الملك الذي نفخ فيه، ثم ينفخ فيه مرة أخرى، فإذا الكل قيام ينظرون، أي ينتظرون ما سيفعل بهم، فالنفخة الأولى للإماتة، والثانية للنشر والحشر. وقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إما بدل من قوله: وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ ... يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وإما ظرف لقوله: وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] أي أن الملك يوم الحشر والنشر من القبور يوم النفخ في الصور لله تعالى وحده. أما الصور فالمراد به ما جاء في الأخبار الصحيحة، روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» . وروى مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ» . وقال ابن مسعود: «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه» . والنفخات ثلاث كما جاء في حديث الصور عن أبي هريرة: «ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين.» «1» . ومن صفاته تعالى: أنه عالم الغيب (أي ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس الذي نراه) وعن ابن عباس: الغيب والشهادة: السرّ والعلانية. وهو الحكيم في خلقه، فلا يفعل ولا يشرع لعباده إلا ما فيه الحكمة والمصلحة، وهو الخبير بأحوالهم المطلع على سرائرهم أو نياتهم أو ضمائرهم، وأقوالهم. وإذا كان الله هو المتصف بهذه الصفات: خالق السموات والأرض، وقوله الحق تكوينا وتكليفا، وله الملك وحده في الدنيا والآخرة يوم يحشر الخلائق،

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 146

فقه الحياة أو الأحكام:

وهو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها، إذا كان كذلك فهو الأجدر بالعبادة، ولا ينبغي لعاقل أن يدعو أو يعبد غيره: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن 72/ 18] ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام 6/ 41] . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- الثبات على الحق والهداية بعد معرفتهما، والبعد عن الضلال والشرك بعد تفنيد ما فيهما من زيغ وانحراف. 2- هدى الله في آيات قرآنه هو الهدى الحق، والمسلم مأمور بإخلاص العبادة لله صاحب الهدى ورب العوالم كلها من إنس وجن، وبإقامة الصلاة وإتمامها على وجهها الأكمل، وبالتقوى، أي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات المحظورات. 3- العبادة لا تكون إلا لمن يملك النفع والضر، وهو الله وحده، والله هو الخالق بالحق، والرازق، والآمر أمرا تكوينيا وتكليفيا، فأمره مطاع، وهو المالك ملكا مطلقا لكل تصرف في خلقه في الدنيا والآخرة، وهو عالم الغيب (ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس المشاهد) وهو الحكيم في خلقه، الخبير بأحوالهم الدقيقة والعظيمة. قال أهل السنة في تفسير الحق: الله تعالى مالك لجميع المحدثات، مالك لكل الكائنات، وتصرف المالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق. وقال المعتزلة: معنى كونه حقا: أنه واقع على وفق مصالح المكلفين، مطابق لمنافعهم.

الجدال بين إبراهيم عليه السلام وبين آزر وسبب ترك الشرك [سورة الأنعام (6) الآيات 74 إلى 79] :

4- دلّ قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ على سرعة الخلق والتكوين، وسرعة الحساب والبعث. 5- دلّت الآيات التي ذكرت أوصاف الله تعالى المتقدمة على أنه لا معبود بحق إلا الله وحده. 6- ثبت بالإجماع أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام، فهو النافخ، والله عزّ وجلّ يحيي النفوس. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. وقال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه. الجدال بين إبراهيم عليه السلام وبين آزر وسبب ترك الشرك [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

الإعراب:

الإعراب: لِأَبِيهِ آزَرَ آزر: بدل مجرور من لِأَبِيهِ كأنه اسم له، وهو ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف، وهو أيضا على مثال (أفعل) نحو: أحمد، ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا وتقديره: يا آزر أتتخذ أصناما آلهة استفهام توبيخ. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ: وَلِيَكُونَ: معطوف على مقدر، تقديره: ليستدل وليكون من الموقنين، واللام تتعلق بفعل مقدر تقديره: ليستدل وليكون من الموقنين أريناه الملكوت. بازِغَةً منصوب على الحال لأن رَأَى هنا بصرية من رؤية العين، لا قلبية. البلاغة: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ حكاية حال ماضية، أي أريناه. لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فيه تعريض بضلال قومه. وَجَّهْتُ وَجْهِيَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: إِبْراهِيمُ خليل الرحمن، أبو الأنبياء، العاشر من أولاد سام، جد العرب، وأبو إسماعيل، المولود في بلدة «أور» أي النور من بلاد الكلدان، وهي المعروفة الآن باسم «أورفة» جنوب الحدود التركية المجاورة للحدود السورية. آزَرَ أبو إبراهيم، وهو لقبه واسمه تارح، أو تارخ، ومعناه متكاسل. أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ تعبدها، والاستفهام للتوبيخ. إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ باتخاذها. فِي ضَلالٍ عن الحق، والضلال: العدول عن الطريق الموصل إلى الهدف. مُبِينٍ بيّن واضح. وَكَذلِكَ أي كما أريناه ضلال أبيه وقومه نري إبراهيم. مَلَكُوتَ ملك وسلطان وعظمة، أراه الله عظمة السموات والأرض ليستدل بذلك على وحدانية الله. وجملة وَكَذلِكَ وما بعدها اعتراض وعطف على: قال. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أظلم أو ستره بظلمته. رَأى كَوْكَباً نجما مضيئا، قيل: هو الزهرة أو المشتري. أَفَلَ غاب بعد ظهوره. لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أن أتخذهم أربابا لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال لأنهما من شأن الحوادث، فلم ينجع فيهم ذلك. بازِغاً طالعا، وبزوغ القمر: ابتداء طلوعه. يَهْدِنِي رَبِّي يثبتني على الهدى. مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ تعريض لقومه بأنهم على ضلال، فلم يؤثر فيهم ذلك. هذا أَكْبَرُ من الكوكب والقمر. إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث، فقالوا له: ما تعبد؟

المناسبة:

وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قصدت بعبادتي وطلب حاجتي وجه الله وحده، مع إخلاص العبودية. فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أخرجهما إلى الوجود أو أبدعهما أو خلقهما لا على مثال سابق. حَنِيفاً مائلا عن الضلال والشرك إلى الدين القيم. المناسبة: ذكر الله تعالى هنا قصة إبراهيم مع أبيه آزر في إبطال الوثنية، للاحتجاج على مشركي العرب، لأن جميع الطوائف والملل تعترف بفضله، فالمشركون يقرّون بأنهم من أولاده ويعترفون بفضله، ويدّعون أنهم من ملته، واليهود والنصارى كلهم معظمون له، معترفون بجلالة قدره، وإذا كان إبراهيم يجادل قومه ويناقشهم في عبادة الأوثان، مرة بعد مرة، فعلى العرب أحفاده أن يرجعوا عن غيهم، ويدركوا خطأهم في عبادة الأوثان. التفسير والبيان: واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة، تعبدها من دون الله؟! مع أن الله هو الذي خلقك وخلقها، فهو المستحق للعبادة دونها. قال ابن كثير: والصواب أن اسم أبيه آزر. إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام، أي السالكين مسلكك والسائرين على طريقتك، في ضلال واضح، أي تائهين، لا يهتدون إلى الطريق القويم الذي يسلكونه، بل هم في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بيّن واضح لكل ذي عقل سليم، وأي ضلال أوضح من عبادتكم صنما من حجر أو شجر أو معدن، تنحتونه بأيديكم، ثم تعبدونه وتقدسونه، كقوله تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ [الصافات 37/ 95- 96] وأنتم أسمى من الصنم شأنا، وأعلى مكانة، فأنتم تعقلون، والأصنام صماء لا تعقل ولا تدفع عن نفسها الضر، ثم تتخذونهم آلهة معبودة؟!

والتعبير بالضلال المبين: معناه الانحراف عن طريق الاستقامة، كما قال تعالى لنبيه محمد: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى 93/ 7] . وكما أرينا إبراهيم ضلال أبيه وقومه في عبادتهم الأصنام والأوثان، أريناه مرة بعد أخرى ملكوت السموات والأرض، أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الخلق والصنع، فاطلع على أسرار الكون وخفاياه من أرض وسماء، ليستدل بذلك على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وسعة علمنا: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل 27/ 88] . نعرّف إبراهيم ذلك ونبصره ونوفقه، ونرشده بما شرحنا صدره وسددنا نظره، وهديناه لطريق الاستدلال، وليكون ممن أيقن تمام الإيقان أن شيئا من الأصنام والشمس والقمر والكواكب لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها، فتكون تلك الآيات دالة على الألوهية والربوبية، وحجة على المشركين الضالين. واليقين: علم قطعي يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل. ثم أوضح الله تعالى ما رآه إبراهيم من ملكوت السموات والأرض، فقال: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً أي لما أظلم عليه الليل، رأى كوكبا عظيما متميزا عن سائر الكواكب بإشراقه ولمعانه، وهو كوكب المشتري أو الزهري، قال: هذا ربي، أي قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه، تمهيدا للإنكار عليهم ولإقامة الحجة عليهم، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم، ثم نقضه بالحس والعقل. فلما غرب هذا الكوكب، قال إبراهيم: ما هذا بإله، ولا أحب ما يغيب ويختفي! لأن الإله له السيطرة على الكون، وهو السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل إذ كيف يغيب الإله ويستتر؟ قال تعالى لِمَ تَعْبُدُ

ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم 19/ 42] . وهذا تعريض بجهل قومه في عبادة الكواكب، قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول. ثم انتقل إبراهيم من إبطال ألوهية الكوكب إلى إبطال ألوهية القمر الأكثر إضاءة، فلما رآه بازغا طالعا قد عم ضوءه الكون، قال: هذا ربي، فلما غاب كذلك، كما غاب الكوكب في الليلة الماضية، قال إبراهيم مسمعا قومه: ما هذا أيضا بإله، ولئن لم يهدني ربي ويوفقني للإصابة الحق في توحيده، لأكوننّ من القوم الضالين، الذين اخطؤوا الطريق، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله. وفي هذا تعريض قريب من التصريح بضلال قومه وتنبيه لهم على أن من اتخذ القمر إلها ضال أيضا، وإرشاد إلى توقف معرفة العقيدة على الوحي الإلهي، ثم صرح في المرة الثالثة بالبراءة من شرك قومه. فلما رأى الشمس بازغة طالعة، وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا وإضاءة، قال إبراهيم: هذا «1» هو الآن ربي! هذا أكبر من الكواكب والقمر قدرا، وأعظم ضوءا ونورا، فهو أولى بالربوبية. فلما غابت الشمس كما غاب غيرها، صرح إبراهيم بعقيدته، وتبرأ من شرك قومه، قائلا: أنا بريء من عبادة الكواكب وموالاتهن، إني توجهت في عبادتي لخالق الأرض والسماء «2» ، وخالق هذه الكواكب، مائلا عن الضلال إلى الحق والدين القيم، دين التوحيد، ولست من زمرة المشركين الذي يتخذون مع الله إلها آخر، وإنما أعبد خالق هذه الأشياء ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء،، وخالق كل شيء، وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى:

_ (1) إنما قال: هذا عن الشمس وهي مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه. (2) وقال: وجهت وجهي للذي فطر، ولم يقل: إلى الذي لأنه تعالى متعال عن الحيز والجهة، والمقصود: توجيه القلب لطاعته.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] . والظاهر مما تقدم أن قوم إبراهيم كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، والإله: هو المعبود، والرب: هو السيد المالك المربّي المدبر المتصرف. والعبادة: هي التوجه بالدعاء والتعظيم لخالق الخلق. وليس للخلق إله ولا رب سوى الله. وموقف إبراهيم كان موقف الممثل للمجادل البارع على سبيل الافتراض أنه غير مؤمن، أما في الحقيقة والواقع فلم يكن إبراهيم ناظرا في مقام إثبات الألوهية والربوبية لأن الله قال في حقه: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء 21/ 51- 52] وقال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل 16/ 120- 123] وقال تعالى: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 161] . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: إني خلقت عبادي حنفاء» وقال الله في قرآنه المجيد: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة، قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، ناظرا في هذا المقام، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا: قوله تعالى فيما يأتي: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ... «1» . فقه الحياة أو الأحكام: من أجل إثبات ألوهية الله وربوبيته ناظر إبراهيم وجادل، وأفحم بالحجة والبرهان، وله أربع مناظرات: الأولى- مناظرته مع أبيه، حيث قال له: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم 19/ 42] وحكى القرآن خبر هذه المناظرة هنا، فقال: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ.... الثانية- مناظرته مع قومه، وهو قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ.... الثالثة- مناظرته مع ملك زمانه، فقال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة 2/ 258] . الرابعة- مناظرته مع الكفار بالفعل، وهو قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ [الأنبياء 21/ 58] . وهذا يدل على قوة إبراهيم ومقدرته في الجدل والمناظرة، وحضور البديهة لإفحام الخصم، وإثبات مراده بالبرهان القاطع. وكان إبراهيم عليه السلام بارعا في هذا المقام، حيث أبطل عبادة الكواكب

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 151- 152

والقمر والشمس لأنها تغيب وتختفي، وشأن الإله ألا يغيب ولا يستتر، ولا يتخلى عن إشرافه لملكوته، وقد تنازل مع خصمه بهذا الأسلوب على سبيل الافتراض، ثم نقض وجهة نظر الخصم وكان في كل ذلك- كما أوضحت- مناظرا لا ناظرا، فعقيدته مستقرة في قلبه بالفطرة والإلهام والإرشاد الإلهي والعقل والحس. وأما قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي فمعناه: لئن لم يثبتني على الهداية، وقد كان مهتديا. وفي التنزيل: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] أي ثبتنا على الهداية. وتدرج إبراهيم من اختبار نماذج ثلاثة لألوهية الكواكب إلى إثبات ألوهية الله الحق وربوبيته، بقوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وحده. وذكر الوجه لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. وكان تدرجه من التعريض بجهل قومه وبطلان الوثنية، إلى سلخ محبته عن الآفلين، إلى الإنذار بالضلال والحيرة، إلى التصريح بالبراءة من الشرك ومن المشركين، إلى إعلان عقيدته بعد هدم أساس الشرك. قال الرازي: وليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين: أحدهما- حكيم يفعل الخير، والثاني- سفيه يفعل الشر. وأما الاشتغال بعبادة غير الله فهناك كثرة: منهم عبدة الكواكب، ومنهم قوم غلاة ينكرون الإله الصانع، وهم الدهرية الخالصة والنصارى يعبدون غير الله، إذ يعبدون المسيح، ومنهم عبدة الأصنام «1» . ولا دين أقدم من دين عبادة الأصنام لأن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 35

تاريخهم مفصلا هو نوح عليه السلام، وقد جاء بالرد على عبدة الأصنام «1» ، كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا: لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح 71/ 23] وسبب قولهم أن الإنسان البدائي توهم في صموت الصنم سرا يصلح أن يوصل إلى الله تعالى، أوتوهم في ظهور بعض مخلوقات الله من شجر أو شمس أو قمر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه من توجه إليها. وأدرك قوم إبراهيم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وإنما قلدوا آباءهم، لذا اتخذوا الأصنام آلهة معبودة لا أربابا مدبرين، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لتأثيرها السبي في الأرض. وقلد العرب آباءهم في عبادة الأصنام قائلين: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] . ولا يسع المؤمن إلا التنديد بكل مظاهر الوثنية وأشكالها وطقوسها، وحصر العبادة بفاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل، كما أعلن إبراهيم عليه السلام الذي قال في التماثيل: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء 21/ 56] . وجميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته لأنها محدثة ممكنة، وكل محدث ممكن هو محتاج إلى الصانع. ودل قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ على أحكام ذكرها الرازي: 1- دلت هذه الآية على أن الله تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا أبدا، فكان آفلا أبدا.

_ (1) المرجع والمكان السابق.

المحاجة بين إبراهيم وقومه [سورة الأنعام (6) الآيات 80 إلى 83] :

2- ودلت الآية على أنه تعالى ليس محلّا للصفات المحدثة، وإلا لكان متغيرا، وحينئذ يحصل معنى الأفول، وذلك محال. 3- ودلت أيضا على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل، لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة. 4- ودلت كذلك على أن معارف الأنبياء بربهم قائمة على الاستدلال لا بالبداهة أو الضرورة، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال. 5- ودلت على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن معرفتها بطريق آخر، لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة «1» . المحاجة بين إبراهيم وقومه [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 83] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 55- 56

الإعراب:

الإعراب: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً: إِلَّا: استثناء منقطع شَيْئاً: منصوب على المصدر، كقولك: إلا أن يشاء مشيئة. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً: عِلْماً: منصوب على التمييز. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ: الَّذِينَ: مبتدأ، وأُولئِكَ: بدل من الَّذِينَ أو مبتدأ ثان، والْأَمْنُ: مبتدأ ثالث أوثان. ولَهُمُ: خبر الْأَمْنُ. والأمن وخبره: خبر أُولئِكَ. وأولئك وخبره: خبر الَّذِينَ. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ منصوب بنرفع على الظرف، أو بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: إلى درجات. ومن قرأ بغير تنوين، كان دَرَجاتٍ مفعولا به، والعامل فيه نَرْفَعُ وأضافها إلى مَنْ. المفردات اللغوية: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ جادلوه في دينه، وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها. والمحاجة: المجادلة والمغالبة، وتطلق الحجة على ما يدلي به الخصم لإثبات دعواه أو الرد على دعوى خصمه، والحجة: إما دامغة لا تقبل النقض، أو داحضة واهية لا تثبت شيئا، فتسمى شبهة. أَتُحاجُّونِّي أي أتجادلونني. فِي اللَّهِ في وحدانية الله. وَقَدْ هَدانِ تعالى إليها. وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي تشركونه به من الأصنام أن تصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء. إِلَّا لكن. أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من المكروه، يصيبني فيكون. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل شيء. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ هذا فتؤمنوا. وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ بالله، وهي لا تضر ولا تنفع. وَلا تَخافُونَ أنتم من الله. أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ في العبادة. ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ بعبادته. سُلْطاناً حجة وبرهانا، وهو القادر على كل شيء. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من الأحق بالأمن والسلامة، أنحن أم أنتم، أي وهو نحن فاتبعوه. وَلَمْ يَلْبِسُوا يخلطوا. إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ المراد به هنا الشرك في العقيدة أو العبادة، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، لأنه الظلم الأكبر. الْأَمْنُ من العذاب. وَتِلْكَ حُجَّتُنا التي احتج بها إبراهيم على وحدانية الله من أفول الكوكب ونحوه. آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه لها، حجة. عَلى قَوْمِهِ المشركين. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم والحكمة. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في صنعه. عَلِيمٌ بخلقه.

سبب النزول نزول الآية (82) :

سبب النزول: نزول الآية (82) : الَّذِينَ آمَنُوا أخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلا، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال: أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم، فضرب فرسه فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه، فقتل رجلا، ثم آخر، ثم آخر، ثم قتل، قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الآية. المناسبة: الآيات استمرار في مناظرات إبراهيم عليه السلام، وهي هنا جدال بينه وبين قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، ولما أفحمهم في المناظرة، تمسكوا بالتقليد، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا، وخوفوه بالآفات والبليات، لما طعن في ألوهية هذه الأصنام. التفسير والبيان: جادله قومه في مبدأ التوحيد، فهو حين أثبته لهم بالأدلة القاطعة في حدود مستواهم الفكري، وأثبت لهم وجوب عبادة الله وحده، حاجوه ببيان شبهاتهم في شركهم، فقالوا: إن تعدد الآلهة لا ينافي الإيمان بالله لأنهم شفعاء عنده، وتمسكوا بالتقليد للآباء وبنحو ذلك. فرد الله عليهم بقوله: قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا الله، وقد بصرني وهداني إلى الحق، وأنا على بينة منه، فكيف ألتفت إلى مزاعمكم وضلالكم في شرككم وتقليدكم فيه أسلافكم من غير حجة؟

ومن أدلة بطلان مذهبكم أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا، وأنا لا أخافها ولا أرهبها ولا أبالي بها لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تنصر ولا تشفع، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تمهلون، بل عاجلوني بذلك. لا أخاف ما تشركون به أبدا إلا إذا شاء الله شيئا في إصابة مكروه لي، فإنه يقع حتما لأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل، وهو القادر على كل شيء. ثم علل تعالى ما سبق فقال: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا تخفى عليه خافية، فلربما أنزل بي مكروها بسبب الدعوة إلى نبذها وتحطيمها. أفلا تتذكرون هذا وما بينته لكم فتؤمنوا، أي أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذا شبيه بما احتج به هود عليه السلام على قومه عاد: قالُوا: يا هُودُ، ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود 11/ 53- 56] . وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم، ما لم ينزل به حجة بيّنه بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟ وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الله واحد أحد فرد صمد، فإشراككم وافتئاتكم هو الذي ينبغي أن يخاف. وفي كَيْفَ معنى الإنكار، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام، وهم

لا يخافون الله عز وجل أي كيف أخاف ميتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء؟! قال ابن عباس وغيره عن قوله سُلْطاناً أي حجة، أي لا دليل يثبته، كقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 42/ 21] وقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم 53/ 23] . وإذا كان هذا هو الحقيقة والواقع، فأي الفريقين: فريق الموحدين وفريق المشركين أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة، وأجدر بالأمن وعدم الخوف على نفسه في الدنيا من جراء عقيدته؟ أي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ والتصريح بالفريقين دون الاكتفاء بقول: (فأينا أحق بالأمن) للدلالة على أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، لا خاصة لهم، وللبعد عن تخطئتهم صراحة حتى لا ينفروا من الإصغاء، ويلجأوا إلى العناد. إن كنتم تعلمون، أي إن كنتم على علم وبصيرة بهذا الأمر، فأخبروني بذاك، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق. ثم أجاب الله تعالى عمن هو أحق بالأمن فقال: الَّذِينَ آمَنُوا ... أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانية، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئا، ولم يخطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال أصحابه: وأينا لهم يظلم نفسه، فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ هذه رواية البخاري. وأما رواية الإمام أحمد: «لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك

على الناس، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] إنما هو الشرك» . وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَهُمْ مُهْتَدُونَ أرشدنا إليها إبراهيم ووفقناه لها، ليقنع قومه. وهذا يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات في الدنيا في العلم والحكمة، وهي درجة الإيمان، ودرجة العلم، ودرجة الحكمة والتوفيق، درجة النبوة، ما لم يحظ بها غيرهم، كما قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة 2/ 253] وفي الآخرة بالجنة والثواب. والمراد من الآية: أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب ما آتاه من الحجة. إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه، عليم بشؤون خلقه، وبمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . والله يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشهوة والمجازفة، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل. ويلاحظ أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الأكمل الصحيح إلا عن طريق الوحي، وعلم الأنبياء بالوحي بدهي لا نظري، فقد علّمهم كل ما يحتاجون إليه من الأدلة العقلية والنقلية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: علّم الله تعالى إبراهيم عليه السلام كل أنواع الحجج العقلية التي يفحم بها قومه، ويبطل شبهاتهم ومزاعمهم بدليل قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ. منها أنهم خوفوه بالأصنام، فكان الرد عليهم بقوله: لا خوف منها أصلا لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر، والأصنام جمادات لا تقدر على شيء من نفع أو ضر. وأما ما قد يصاب به الإنسان من المصائب، فإما أن يكون بسبب ذنب، فيعاقب عليه، وإما أن يكون ابتلاء واختبارا بمحن الدنيا، فيعرف الصبر عليها ومدى تماسك الإيمان وقت الشدة، وإما أن يكون تسليطا لبعض الظلمة على غيرهم، حتى يكون ظلمهم سببا لإهلاكهم. أما قيام الأنبياء بواجباتهم في الدعوة لإثبات التوحيد وإبطال الشرك فلا يكون سببا لاستحقاق العقاب وإنزال العذاب، خلافا لما يتوهم المشركون عبدة الأوثان فإن الوثنية كلها نابعة من الوهم والخرفة. والمحاجة والجدال محمود كل منهما إذا كانا بقصد تقرير الدين الحق، وهما مذمومان إذا كانا لتقرير الدين الباطل. وإذا كان الشرك بالله مصدر المخاوف والأوهام، فلا غرابة في أن المشركين يعيشون دائما في قلق واضطراب وخوف من مغيبات القدر والمستقبل. أما المؤمنون الموحدون فلهم الأمن المطلق بشرط وجود الوصفين: وهما الإيمان، وهو كمال القوة النظرية، وعدم الإيمان بالظلم، وهو كمال القوة العملية. والمراد من الظلم هنا: هو الشرك لأنه الظلم الأكبر، ولقوله تعالى حكاية عن لقمان،

إبراهيم أبو الأنبياء وخصائص رسالاتهم والاقتداء بهديهم [سورة الأنعام (6) الآيات 84 إلى 90] :

إذ قال لابنه وهو يعظه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والمراد هنا: الذين آمنوا بالله، ولم يثبتوا لله شريكا في العبادة. أما الفاسق فيحتمل أن يعذبه الله، ويحتمل أن يعفو عنه. ودل قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. ويؤكده قوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ أي أن الله تعالى هو الذي رفع درجات إبراهيم بسبب أنه آتاه الحجة. إبراهيم أبو الأنبياء وخصائص رسالاتهم والاقتداء بهديهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

الإعراب:

الإعراب: كُلًّا منصوب بهدينا، وكذلك نُوحاً: منصوب بهدينا، وهو منصرف وإن كان قد اجتمع فيه العجمة والتعريف لخفة الوزن لأن خفة الوزن قام مقام أحد السببين، فكأنه بقي سبب واحد، والسبب الواحد لا يمنع الصرف، فانصرف. وهاء ذُرِّيَّتِهِ تعود على نوح، ولا يجوز أن تعود على إبراهيم لأن بعده لوطا، ولم يكن من ذرية إبراهيم، وإنما كان من ذرية نوح. وداوُدَ وَسُلَيْمانَ: منصوبان بهدينا، وهما غير منصرفين للعجمة والتعريف. وَالْيَسَعَ ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف. لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ الباء في بِها تتعلق بِكافِرِينَ، والباء في بِكافِرِينَ زائدة لتأكيد النفي، كأنه قال: ليسوا بها كافرين، وهو خبر (ليس) . فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ هاء اقْتَدِهْ: للسكت، ودخلت بيانا للحركة، وصيانة لها عن الحذف. ومن قرأ بكسر الهاء جعلها كناية عن المصدر، أي: اقتد الاقتداء. المفردات اللغوية: وَوَهَبْنا لَهُ لإبراهيم وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق كُلًّا منهما وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي نوح وَسُلَيْمانَ ابن داود وَيُوسُفَ ابن يعقوب وَإِلْياسَ ابن أخي هرون أخي موسى وَإِسْماعِيلَ ابن إبراهيم وَالْيَسَعَ السلام زائدة وَلُوطاً ابن هارون أخي إبراهيم وَكلًّا منهم فَضَّلْنا بالنبوة. وَمِنْ آبائِهِمْ.. عطف على كلًّا أو على نُوحاً ومن: للتبعيض لأن بعضهم لم يكن له ولد، وبعضهم كان في ولده كافر وَاجْتَبَيْناهُمْ اخترناهم واصطفيناهم ذلِكَ الدين الذي هدوا إليه لَحَبِطَ لبطل عنهم عملهم الْكِتابَ أي الكتب وَالْحُكْمَ الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة: الكتب والحكمة والنبوة هؤُلاءِ أي أهل مكة. فَقَدْ وَكَّلْنا بِها هيأنا لها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ هم المهاجرون والأنصار. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها ودافع عنها، عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه وأولها- قوله:

التفسير والبيان:

وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ وثانيها- قوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وثالثها- قوله: وَوَهَبْنا لَهُ.. أي أنه جعله عزيزا في الدنيا لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة. التفسير والبيان: أكرم الله نبيه إبراهيم عليه السلام، فوهب له إسحاق، بعد أن كبر في السن، وأيس هو وامرأته «سارة» من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك وقالت: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود 11/ 72- 73] . بشروهما أيضا بنبوته، وبأن له نسلا وعقبا، كما قال تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات 37/ 112] وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود 11/ 71] . وكان هذا مجازاة ومكافأة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلاده ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه، على دينه، لتقرّبهم عينه، كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مريم 19/ 49] وقال هاهنا: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، كُلًّا هَدَيْنا أي جعلنا له إسحاق ويعقوب ولدين صالحين ومن الأنبياء، وهدينا كلا منهما كلا هدينا إبراهيم بالنبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.

وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته «سارة» جزاء إيمانه وإحسانه، وكمال إسلامه وإخلاصه، بعد ابتلائه بذبح ولده «إسماعيل» الذي لم يكن له ولد سواه، على كبر سنّه، ومثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وهناك سبب آخر لذكر إسحاق دون إسماعيل: وهو أن المقصود بالذكر أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فليس من صلبه نبي إلا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وإبراهيم من سلالة نوح، وكما هداه الله، هدى جده نوحا قبله، فأتاه النبوة والحكمة، وهذه نعمة من أعظم النعم، فهو من سلالة نبي، وأولاده أنبياء، فجعل من ذريته داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، فهي ذرية طيبة: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران 3/ 34] . وإنما ذكر نوحا لأنه جد إبراهيم، كما تقدم، مما يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه، فهو كريم الآباء، شريف الأبناء، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا، كما قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [الحديد 57/ 26] . وهدى الله كذلك من ذرية إبراهيم إلى النبوة والحكمة زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا. وعود الضمير إلى إبراهيم لأنه الذي سبق الكلام من أجله، ويجوز عوده إلى نوح لأنه أقرب المذكورين. وهدى أيضا من ذريته إسماعيل ابنه الصلبي وجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، واليسع، ويونس، ولوطا، وكلا منهم فضلناه على العالمين. لكن يأتي إشكال هنا وهو أن لوط عليه السلام ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو ابن أخيه هاران بن آزر، اللهم إلا أن يقال: إنه دخل في الذرية تغليبا، كما

في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ: إِبْراهِيمَ، وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِلهاً واحِداً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة 2/ 133] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا، وكما قال: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [الحجر 15/ 30، ص 38/ 73] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة لأنه كان متشبها بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وإلا فهو كان من الجن، وطبيعته من النار، والملائكة من النور. وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم، أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام من طريق أمه «مريم» فإنه لا أب له. ومثل ذلك دخول الحسن والحسين رضي الله عنهما في ذرية النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهما أولاد فاطمة رضي الله عنها لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء. ويلاحظ أن الله تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء وهم: نوح، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، والمجموع ثمانية عشر. والترتيب بينهم غير معتبر لأن حرف الواو لا يوجب الترتيب. وحكمة جعل الأنبياء في الآية ثلاثة أقسام هي ما يأتي: 1- داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون: وهؤلاء جمعوا بين النبوة والرسالة وبين الملك والإمارة والحكم، فداود وسليمان كانا ملكين، وأيوب

كان أميرا، ويوسف كان وزيرا وحاكما متصرفا، وموسى وهارون كانا حاكمين، ولم يكونا ملكين. وقد ذكرهم القرآن على طريقة الترقي في هدى الدين فأفضلهم موسى وهارون، ثم أيوب ويوسف، ثم داود وسليمان. وقوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة، وبين هداية الدين وإرشاد الناس. 2- زكريا ويحيى وعيسى وإلياس: وهؤلاء امتازوا بالزهد في الدنيا، فوصفهم الله بالصالحين. 3- إسماعيل واليسع ويونس ولوط: وهؤلاء لم يكونوا ملوكا كالقسم الأول، ولا زهادا كالقسم الثاني، وإنما لهم أفضلية على العالمين في زمانهم، فالمنفرد منهم أفضل من قومه، والموجود منهم اثنان فأكثر أفضل من أقوامهم، وقد يكون أحدهم أفضل من الآخر، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وموسى أفضل من أخيه ووزيره هارون، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى عليهم السلام. ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء، فقال: وَمِنْ آبائِهِمْ ... أي وهدينا بعض آبائهم، وذرياتهم، وإخوانهم، لا كلهم إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير، كأبي إبراهيم، وابن نوح، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد 57/ 26] . ثم وصفهم الله بما خصهم به فقال: ولقد اجْتَبَيْناهُمْ ... أي ولقد اصطفيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة، وهديناهم إلى الصراط المستقيم: وهو الدين الحق القويم.

ذلك الهدى الذي هدى به هؤلاء الأنبياء والمرسلين لإصابة الدين الحق، هو هدى الله الخالص وتوفيقه، دون هداية من عداه. والهداية نوعان: إما هداية محضة من الله لا تنال بالسعي والكسب وهي النبوة، وهي المشار إليها في قوله تعالى لنبيه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى 93/ 7] . وإما هداية تنال بالسعي والكسب مع التوفيق الإلهي لنيل المراد. ولو أشرك هؤلاء المهتدون بربهم، مع فضلهم ورفعتهم درجات، لبطل أجر عملهم كغيرهم في حبوط أعمالهم، وهو تشديد في أمر الشرك وتغليظ لشأنه، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.. [الزمر 39/ 65] وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف 43/ 81] وقوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء: 21/ 17] وقوله: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر 39/ 4] . أولئك المذكورون، رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد لله تعالى، وهم الذين آتيناهم الكتاب (أراد جنس الكتاب) : وهو ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وآتيناهم الحكم: أي الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين، ويتفرع عنه الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات، والنبوة، أي جعلناهم أنبياء يوحى إليهم من الله حكمه وأمره ودينه، وبعضهم أوتي النبوة صبيا كيحيى وعيسى عليهما السلام، وبعضهم جمع العطايا الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشعراء 26/ 83] وقال حكاية عن موسى: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء 26/ 21] وقال عن داود: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ

[ص 38/ 26] وقال في داود وسليمان: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء 21/ 79] . ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين حكموا بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط. فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة هؤلاء المشركون من أهل مكة، فقد وكلنا برعايتها وعنايتها، ووفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين، آمنوا بها وعملوا بأحكامها ودعوا الناس إليها، آمن بعضهم فورا، وسيؤمن بعضهم بعدئذ. أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يعني أهل مكة، يقول: إن يكفروا بالقرآن، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، يعني أهل المدينة والأنصار «1» . والأصح أن المراد بالموكلين بها هم أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم مطلقا. ثم ربط الله تعالى بين هؤلاء الأنبياء وخاتم النبيين، فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... أي أولئك الأنبياء المذكورون الثمانية عشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، وما أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان هم أهل الهدى الكامل من الله، لا غيرهم، فبهداهم اقتده، أي اقتد واتبع هداهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والأخلاق الحميدة. وإذا كان هذا أمرا للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به. قال البخاري عند هذه الآية بسنده عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي ص سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ إلى قوله: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ثم قال: هو منهم.

_ (1) تفسير الطبري: 7/ 175 [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

وقل أيها الرسول لمن أرسلناك إليهم: لا أطلب على تبليغ القرآن أجرا من مال ولا غيره من المنافع الخاصة، كما أن جميع الرسل قبلي لم يطلبوا أجرا على التبليغ والهدى، كما قال تعالى: قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى 42/ 23] . وما هذا القرآن إلا تذكير وموعظة للعالمين، وإرشاد وهدى للمتقين. وهذا تصريح بعموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم للناس قاطبة. فقه الحياة أو الأحكام: أنعم الله على نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام بنعم كثيرة، ذكر في الآية السابقة منها اثنتين وهما قوة الجدل وإفحام الخصوم بالحجة البالغة، ورفع درجاته في الدنيا والآخرة، وذكر في هذه الآية أنه ابن نبي وأبو الأنبياء، فهو كريم الأصل شريف الفرع، وهو في أشرف الأنساب. ودلت الآية كما ذكر سابقا على أن أولاد البنات داخلون في ذرية الإنسان، لذا قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة: كل ذي رحم محرم، ويسقط عنده ابن العمّ والعمة وابن الخال والخالة لأنهم ليسوا بمحرمين. وقال الشافعي: القرابة: كل ذي رحم محرم وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وذكر الله في هذه الآية ثمانية عشر نبيا، وهناك سبعة آخرون في القرآن وهم آدم أبو البشر، وإدريس، وهود، وذو الكفل، وصالح، وشعيب، ومحمد خاتم النبيين، فيصبح المجموع خمسة وعشرين نبيا تجب معرفتهم والإيمان بهم لأن الله

تعالى نص على أسمائهم في القرآن الكريم، وهم كما ذكرت في تفسير الآية (163) من سورة النساء: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم «1» . والآية تدل على أن أول رسول شرع الله له الأحكام من حلال وحرام هو نوح عليه السلام. ودلت الآية على أن مهام الأنبياء متفاوتة، فمنهم من جمع الله له النبوة والملك والقضاء بين الناس، ومنهم من جمع الله له النبوة والحكم، ومنهم من قصره على النبوة فقط، كما تقدم. ومن هؤلاء الأنبياء من بقي له أتباع كأتباع الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلام، ومنهم من انقرض أتباعه وهم إسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. والأنبياء أفضل من الملائكة لقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ والعالم: اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملائكة، فهذا القول يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين. ودل قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة، فالآباء: هم الأصول، والذريات: هم الفروع، والإخوان: فروع الأصول. والمراد بالهداية: الهداية إلى الثواب والجنة، والهداية إلى الإيمان والمعرفة.

_ (1) تفسير ابن كثير: 1/ 585

إثبات النبوة وإنزال الكتب على الأنبياء ومهمة القرآن [سورة الأنعام (6) الآيات 91 إلى 92] :

وإذا تنكر قوم لرسالة نبي، فإن الله تعالى يهيء لها أقواما آخرين، كما هيأ أهل المدينة عوضا عن أهل مكة. ودل قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ على إبطال الشرك وإثبات التوحيد، كما دل قوله: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ على وجوب اتباع هدي الأنبياء المشترك وهو أصل التوحيد وعبادة الله والفضائل والأخلاق الشريفة وجميع الصفات الحميدة. واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلّى الله عليه وسلّم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام لأن الله أمره بأن يقتدي بهم بأسرهم. إثبات النبوة وإنزال الكتب على الأنبياء ومهمة القرآن [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) الإعراب: إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.. الآية (91) : مِنْ زائدة للتأكيد والعموم، وشَيْءٍ: في موضع نصب بأنزل. ونُوراً منصوب على الحال من الكتاب أو

البلاغة:

من الضمير المجرور في بِهِ. وهُدىً عطف عليه. وكذلك تَجْعَلُونَهُ في موضع نصب على الحال. وقَراطِيسَ منصوب بتجعلونه، وتقديره: تجعلونه في قراطيس، إلا أنه لما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه. فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يلعبون: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول في ذَرْهُمْ. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى اللام: لام كي، تتعلق بفعل مقدر تقديره: ولتنذر أم القرى أنزلناه. البلاغة: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل. مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ استفهام للتوبيخ والتقريع. أُمَّ الْقُرى مكة المكرمة، وفيه استعارة حيث شبهت بالأم لأنها أصل المدن والقرى. المفردات اللغوية: وَما قَدَرُوا اللَّهَ أي ما عرفوا الله حق المعرفة، وما عظموه حق عظمته، والضمير عائد إلى اليهود أو إلى مشركي قريش إِذْ قالُوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وقد خاصموه في القرآن قَراطِيسَ واحدها قرطاس: وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره، والمراد: يكتبون الكتاب في دفاتر مقطعة تُبْدُونَها أي ما يحبون إبداءه منها وَتُخْفُونَ كَثِيراً مما فيها كنعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود في القرآن ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه. قُلِ اللَّهُ أنزله إن لم يقولوه، لا جواب غيره فِي خَوْضِهِمْ أباطيلهم. مُبارَكٌ فيه بركة، أي زيادة وسعة، بارك الله فيه بما امتاز به عما قبله من الكتب في النظم والمعنى مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قبله من الكتب وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى مكة، سميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى كلها، ولأنها مكان أول بيت وضع للناس، والفعل معطوف على معنى ما قبله، أي أنزلناه للبركة والتصديق، ولتنذر به أم القرى: مكة، ومن حولها، أي سائر الناس وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يصدّقون بالعاقبة ويخافونها يُؤْمِنُونَ بِهِ بهذا الكتاب، وذلك أن أصل الدين: خوف العاقبة، فمن خافها، لم يزل به الخوف حتى يؤمن وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ خوفا من عقاب الآخرة. وخص الصلاة لأنها عماد الدين، ومن حافظ عليها حافظ على أخواتها.

سبب النزول نزول الآية (91) :

سبب النزول: نزول الآية (91) : وَما قَدَرُوا اللَّهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصّيف، فخاصم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا، فغضب، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك، ولا على موسى، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية. وهو خبر مرسل، وأخرج ابن جرير الطبري نحوه عن عكرمة. وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قالوا: والله، ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله تعالى: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ويؤيده قول الحسن وسعيد بن جبير: الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ هو أحد اليهود، قال: لم ينزل الله كتابا من السماء، وقال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف. وقال محمد بن كعب القرظي: أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل أهل الكتاب عن امره، وكيف يجدونه في كتبهم، فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وذكر عن ابن عباس في رواية أخرى: أن آية: إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني مشركي قريش. وهذا هو الراجح، كما سأبين.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 125 وما بعدها.

المناسبة:

المناسبة: إن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، ولما حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد، وإبطال الشرك، وأبان الله تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة، شرع بعده في تقرير أمر النبوة، فقال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حيث أنكروا النبوة والرسالة، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات «1» . التفسير والبيان: إن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله: وهم إما قريش أو طائفة من اليهود، كما ذكر في سبب النزول، ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم، وقالوا: ما أنزل الله كتابا من السماء. قال ابن كثير: والأول (أي نزولها في قريش) أصح لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه من البشر «2» ، كما قال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس 10/ 2] وقال عز وجل: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء 17/ 94- 95] وقال هاهنا: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. والواقع أن من عرف الله حقيقة، وأدرك أنه القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، أيقن أن الإنسان بأشد الحاجة إلى الكتاب

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 72 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 156

الإلهي، والاهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين، لإحراز السعادة الأبدية، وتحقيق الرقي الإنساني مادة ومعنى، فقد كان البشر البدائيون فوضى، والعالم يئن من الاضطراب والقلق، فكانت رسالة الرسل أداة تنظيم المجتمع، وواسطة الرقي، وسبيل الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، والحد من غطرسة الحاكم وظلم الفرد والجماعة، فمن أنكر رسالة الرسل ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدرة حق قدره. ثم ذكر الله الدليل الحسي على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش، وأمر الله نبيه محمدا أن يقول لهم: من أنزل كتاب التوراة على موسى بن عمران، الذي كان نورا بدد الظلام، وهدى للناس الذين أخرجهم من الضلال إلى نور الحق، وصاروا خلقا آخر بسبب الاهتداء بهدي الله، وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام 6/ 157] . وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً هذا لليهود الذين أخفوا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرها من الأحكام، والمعنى: تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون منها ما تبدلون، وتقولون: هذا من عند الله، أي في كتابه المنزل، وما هو من عند الله. وإذا جرينا على أن الأصح في سبب نزول هذه الآية وهو كونها في مشركي قريش، فيظهر إشكال، إذ كيف يكون الخطاب في أول الآية: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ لقريش، ونهايتها تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ لليهود؟ والجواب: إذا كان سبب النزول هو اليهود، فأول الآية وآخرها فيهم، وإذا كان سبب النزول هو مشركي قريش، فتأويل الآية: من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس، وقد كانت كذلك حتى غيروها وحرّفوها، ونسوا حظا كثيرا منها، وجعلوها قراطيس مقطعة، يبدونها عند الحاجة، فإذا استفتي أحد

أحبارهم (علمائهم) في مسألة، أظهر منها ما يتفق مع هواه، وأخفى كثيرا من أحكام الكتاب، والسبب أن الكتاب محجور عليه بأيديهم، ولم يكن في أيدي العامة نسخ منه، وهذا الإخفاء محصور فيما تذكروه، لا ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس، وإجلاء اليهود إلى العراق، وهو ما أشار إليه تعالى بقوله: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة 5/ 13] ثم كرر ذلك في الآية التالية بعدها فقال: فَنَسُوا حَظًّا وقد كتموا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والبشارة به، وحكم الزنى وهو الرجم. فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود أشد أعداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذا المعنى منسجم مع قراءة يجعلونه بالياء، أما على قراءة تَجْعَلُونَهُ بالتاء، فيكون الله قد أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقرأ هذه الآية على اليهود وغيرهم بالخطاب لهم. قال مجاهد: قوله تعالى: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى خطاب للمشركين، وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ لليهود، وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ... للمسلمين. قال القرطبي: وهذا يصح على قراءة من قرأ يجعلونه قراطيس بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا على وجه المنّ عليهم بإنزال التوراة. والخلاصة: أن الآية قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ.. إن كانت واردة في حق قريش، فيمكن جعل أولها فيهم، وآخرها في اليهود، على قراءة الياء يجعلونه. وأما على قراءة التاء فلا تفهم إلا بجعلها كلها لليهود. وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الخطاب: إما في حق العرب، كما قال مجاهد: هذا خطاب للعرب، وفي رواية عنه: للمسلمين، ومآلهم

واحد، لأن ما علمه العرب نقلوه إلى سائر المسلمين. وكما قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب، والمعنى: وعلمكم الله بالقرآن من أخبار السابقين، وأنباء اللاحقين، ما لم تكونوا تعلمون ذلك، لا أنتم ولا آباؤكم. وفي ذلك امتنان من الله على الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بإنزال هذا القرآن عليهم لبيان أصول الاعتقاد مع الدليل، وإتمام مكارم الأخلاق، وتشريع العبادات لتزكية النفوس وتطهيرها، والمعاملات لنفع الأفراد والجماعات، وتقرير أصول الحياة كالحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى أو بالعمل الصالح. وقال الزمخشري وغيره: الخطاب في هذه الآية: وَعُلِّمْتُمْ.. لليهود، أي علمتم على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم مما أوحى الله إليه ما لم تعلموا أنتم مع أنكم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم، كقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل 27/ 76] . وأضاف الزمخشري بصيغة التضعيف قائلا: وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس 36/ 6] «1» . وعلى رأي الزمخشري يكون المقصود المنّ على اليهود بإنزال التوراة فيهم. ثم قال الله لنبيه: قُلِ: اللَّهُ أي قل يا محمد: الله أنزل الكتاب على موسى، وهذا الكتاب عليّ، أو قل: الله علمكم الكتاب، قال ابن عباس: أي قل: الله أنزله. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم

_ (1) الكشاف: 1/ 516

يلعبون، حتى يأتيهم من الله اليقين (الموت) فسوف يعلمون، ألهم العاقبة، أم لعباد الله المتقين؟! ثم حدد تعالى مهمة القرآن فقال: وَهذا كِتابٌ.. أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه، يهدي إلى الحق وإلى سواء السبيل، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى، وقد جعلناه كثير البركة والخير، ومؤيدا لما تقدمه من الكتب، ومهيمنا عليها، يبشر بالجنة والثواب والمغفرة من أطاع الله، وينذر بالنار والعقاب من عصى الله، ولينذر أهل أم القرى: مكة، ومن حولها من سائر الناس، أي من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، كما قال تعالى في آية أخرى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقال: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] وقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [آل عمران 3/ 20] وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . ولهذا قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي كل من آمن بالبعث والمعاد وقيام الساعة أو اليوم الآخر يؤمن ويصدق بصحة هذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن. هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تعظيم الله واجب، ومن مقتضى تعظيمه الاعتراف بإنزاله الكتب السماوية على أنبيائه، رحمة بعبادة، وإصلاحا لشأنهم. 2- الواجب على العالم إظهار جميع ما علمه من أحكام الله، ويحرم عليه إظهار بعضها، وإخفاء بعضها الآخر. 3- إن إيراد نبوة موسى عليه السلام لإلزام كفار قريش في قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. 4- اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف أي بالواقعة التي ذكر فيها أن الله يبغض الحبر السمين، ثم يكون المراد: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولما كان كفار قريش واليهود والنصارى مشتركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة، وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى «1» . 5- القرآن الكريم كتاب مبارك كثير الخير والعطاء، مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية في صورتها الأصلية الصحيحة، ومهيمن عليها، وناسخ لما خالفه منها، ومبشر المحسنين بالجنة والمغفرة، ومنذر الكافرين والفاسقين بالنار والعذاب فيها. 6- أفادت الآية كغيرها مما ذكر عموم بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم للجن والإنس، جميع

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 76

افتراء الكذب على الله وعقابه [سورة الأنعام (6) الآيات 93 إلى 94] :

أجناس البشر والطوائف والأقوام، دون تفرقة ولا تمييز بين جنس وآخر، أو عنصر وآخر، أو زمن أو مكان دون غيره. 7- الإيمان بالآخرة أصل الدين، ومن آمن بها آمن بالقرآن. والصلاة عماد الدين، ومن أقامها أقام الدين كله، ومن هدمها هدم الدين كله. افتراء الكذب على الله وعقابه [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) الإعراب: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الظالمين. والهاء والميم في أَيْدِيهِمْ: تعود على الْمَلائِكَةُ. وأَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ: جملة فعلية في موضع نصب بفعل مقدر، تقديره: يقولون: أخرجوا أنفسكم، فحذف يقولون وحذف القول في كلامهم كثير. والْيَوْمَ منصوب بأخرجوا، وقيل: بتجزون. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى: فرادى: في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في جِئْتُمُونا ولا ينصرف لأن في آخره ألف التأنيث.

البلاغة:

والكاف في كَما في موضع نصب لأنها وصف لمصدر محذوف، تقديره: ولقد جئتمونا منفردين مثل حالكم أول مرة. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ منصوب على الظرف، تقديره: لقد تقطع ما بينكم، على أن تكون «ما» نكرة موصوفة، ويكون بَيْنَكُمْ صفته، فحذف الموصوف، ولا تكون موصولة على مذهب البصريين، لأن الاسم الموصول لا يجوز حذفه، وأجازه الكوفيون. البلاغة: فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ: استعارة حيث شبه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الموت ولججه. المفردات اللغوية: وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً اختلق الكذب وحكى عنه ما لم يقله، بادعاء النبوة مثلا ولم ينبأ، أو اتخاذ الأنداد والشركاء. وَمَنْ قالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وهم المستهزئون قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا وَلَوْ تَرى يا محمد فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ سكرات الموت، جمع غمرة وهي الشدة. وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ إليهم بالضرب والتعذيب، يقولون لهم تعنيفا: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ إلينا لنقبضها الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ المراد به هنا: يوم القيامة الذي يبعث فيه الناس للحساب والجزاء. وأصل اليوم: الزمن المحدود المعروف (24 ساعة) عَذابَ الْهُونِ الهوان وهو الذل، ومنه قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ [النحل 16/ 59] والهون بالفتح: اللين والرفق، ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان 25/ 63] . تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ بادعاء النبوة والإيحاء كذبا تَسْتَكْبِرُونَ تتكبرون عن الإيمان بها. وجواب وَلَوْ تَرى: لرأيت أمرا فظيعا. فُرادى جمع فرد، أي منفردين عن الأهل والمال والولد كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي حفاة عراة غرلا خَوَّلْناكُمْ أعطيناكم ومنحناكم من الأموال، والخول: الخدم والحشم. وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم: يراد به عدم الانتفاع بالشيء، وتركه في الدنيا بغير اختياركم ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي الأصنام، يقال لهم ذلك توبيخا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي استحقاق عبادتكم لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بالضم أي وصلكم، أي تشتت جمعكم، وفي قراءة النصب: ظرف، أي وصلكم بينكم. والبين: الصلة، والمسافة بين شيئين أو أشياء، ويضاف إلى المثنى مثل: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات 49/ 10] وإلى الجمع مثل: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء 4/ 114] ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف 18/ 78] .

سبب النزول:

وَضَلَّ عَنْكُمْ أي غاب عنكم ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ في الدنيا من شفاعتها. سبب النزول: نزول الآية (93) : وَمَنْ أَظْلَمُ: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال: نزلت في مسيلمة. ومن قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فيملي عليه: عزيز حكيم فيكتب: غفور رحيم ثم يقرأ عليه، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش. وأخرج الطبري عن السدي نحوه، وزاد «قال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إلى، وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله، قال محمد: سميعا عليما، فقلت أنا: عليما حكيما. نزول الآية (94) : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى: أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع إليّ اللات والعزى، فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى إلى قوله: شُرَكاءُ. المناسبة: الآيات استمرار في إثبات النبوة، فلما بيّن الله تعالى أن القرآن كتاب نازل من عند الله على محمد، وأنه مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى، وكل من النبيين بشر، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة، على سبيل الكذب والافتراء، فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأن نفي النبوة عن مدعيها

التفسير والبيان:

إثبات لمن أعطيها حقا لأن محمدا عليه السلام مؤمن بالله واليوم الآخر، والمؤمن بذلك لا يعرّض نفسه للظلم الذي يوجب أشد العذاب، ففي ذلك شهادة ضمنية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث بيّن عاقبة الكذب على الله. التفسير والبيان: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شريكا أو ولدا، أو ادعى النبوة والرسالة، ولم يرسله الله إلى الناس. أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، والفرق بين هذا القول وبين ما قبله: أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه، وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه، ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام، ففيه جمع بين كذبين: وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود. أو قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله، كمن قال من المشركين: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] . هذا وعيد من صدر عنه أحد الأشياء الثلاثة، أما القولان الأولان (افتراء الكذب على الله، وادعاء الوحي) فالمراد بهما: من ادعى النبوة، مثل مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، والأسود العنسي في صنعاء باليمن، وطليحة الأسدي في بني أسد ونحوهم، وكان مسيلمة يقول: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة. والقول الثالث أريد به ما قاله النضر بن الحارث الذي قال: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وكان يقول في القرآن: إنه من أساطير الأولين، وإنه شعر، لو نشاء لقلنا مثله. ثم ذكر تعالى نوع وعيد الظالمين أمثال هؤلاء فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ

الظَّالِمُونَ.. أي ولو تبصر أيها الرسول وكل سامع وقارئ حين يكون الظالمون في سكرات الموت وغمراته وكرباته أو شدائده وآلامه، لرأيت أمرا عجبا عظيما فظيعا لا سبيل إلى وصفه، والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها إليهم لقبض أرواحهم بالضرب ومنتهى الشدة والعنف، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [محمد 47/ 27] . وتقول لهم الملائكة توبيخا وتأنيبا وتهكما حين قبض أرواحهم: أخرجوا أنفسكم وأرواحكم إلينا من أجسادكم، وهذا دليل العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير إمهال. وسبب ذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والجحيم وغضب الله، فتتفرق روحه في جسده وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ... أي اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله، فلا تؤمنون بالآيات والرسل، وتفترون على الله غير الحق. والمراد باليوم: وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، ويجوز أن يراد به: الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون: الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه. قال الزمخشري في قوله: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: هذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم (الدائن) المسلّط، يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخرج مالي عليك الساعة، ولا أريم (أبرح) مكاني حتى أنزعه من أحداقك «1» .

_ (1) الكشاف: 1/ 517

ثم يقول الله تعالى لهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ... أي ولقد أتيتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء والأولياء والشفعاء، وعن الخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أولا من بطون أمهاتكم حفاة عراة غرلا (غير مختونين) ، وتركتم ما أعطيناكم من مال وولد وخدم وأثاث وقصور وغيرها من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدنيا وراء ظهوركم، ولم تنتفعوا بها هنا، إذ أنها لم تغن عنكم شيئا. ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة 2/ 174] لأن المراد: لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا. وتتمة الكلام تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم، فقال: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ ... أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الأصنام الذين زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله. لقد تقطع بينكم، أي لقد تقطع يوم القيامة ما كان بينكم من صلة الولاء والتعاطف والأسباب والوسائل، والصلات والصدقات، أي وقع التقطع بينكم، وانزاح الضلال، وغاب وذهب عنكم ما كنتم تفترونه من شفاعة الشفعاء، ونداء الأوثان والشركاء، ورجاء الأصنام، ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ [القصص 28/ 62] ويقال لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ [الشعراء 26/ 92- 93] . والمراد بقوله: أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي في استعبادكم، واستحقاق عبادتكم، والعبادة لهم فيكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم. والمقصود من الكلام في الجملة: إن آمالكم خابت في كل ما تزعمون

فقه الحياة أو الأحكام:

وتتوهمون، فلا فداء ولا شفاعة، ولا سبيل لدفع عذاب الله عنكم: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] . فقه الحياة أو الأحكام: إن أعظم الفرى أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، أو تفتري على الله كذبا فتدعي النبوة والوحي، أو تنفي النبوة عن النبي، كمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أو تزعم القدرة على إنزال مثل ما أنزل الله. قال القرطبي: ومن هذا النمط: من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن، فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار، وخلوّها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامّة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ويستدلون على هذا بالخضر، وأنه استغنى بما تجلّى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب فإنه يلزم منه هدّ الأحكام، وإثبات أنبياء بعد نبينا صلّى الله عليه وسلّم «1» . ومما نحمد الله عليه أن أسطورة المتنبئين قد انتهت في بطون التاريخ، ولم يكتب لها البقاء إذ ليس لها مقومات الحياة. ودلت الآية على أن قبض روح الكافر في منتهى الشدة والعنف، وأما قبض

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 39

روح المؤمن فيكون في يسر وسهولة، كما دلت الأحاديث المتواترة عن أبي هريرة وغيره لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء الله، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهوانه، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والبيهقي عن أبي موسى الأشعري: «من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . ولا تنفع الأملاك والأموال ونعم الدنيا يوم الآخرة، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركة للناس» . فالأموال التي اكتسبها، وأفنى عمره في تحصيلها تبقى وراء ظهره، وما يبقى وراء الظهر لا ينتفع به: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ. كذلك لا نفع في الشركاء والأصنام المعبودين من دون الله، فكلها لا أثر لها في القيامة بين يدي الله والحساب: وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي ذهب ما تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروى مسلم أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله، ووا سوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 37] لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض» .

قدرة الله الباهرة في الكون [سورة الأنعام (6) الآيات 95 إلى 99] :

قدرة الله الباهرة في الكون [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) الإعراب: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً اللَّيْلَ: مفعول أول، وسَكَناً: مفعول ثان. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: عطف على اللَّيْلَ، وحُسْباناً، أي: ذا حساب هو مفعول ثان. وقال السيوطي: هو حال من مقدار أي يجريان بحسبان، كما في آية الرحمن. ومن قرأ: وجاعل الليل أضاف اسم الفاعل إلى الليل، ويكون سَكَناً منصوبا بتقدير فعل مقدر، تقديره: وجعل الليل سكنا. وكذلك يكون: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبين بتقدير جَعَلَ. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ: مرفوعان بالابتداء، وخبرهما محذوف، وتقديره: فمنكم مستقر، ومنكم مستودع، مستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب.

البلاغة:

وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ: أي فاستقر من النخل، ومِنْ طَلْعِها: بدل منه، أعني من النخل. وقِنْوانٌ: مرفوع بقوله: مِنْ طَلْعِها على قول من أعمل الثاني في نحو: قاما وقعد الزيدان، وهو مذهب البصريين. ومرفوع بقوله: وَمِنَ النَّخْلِ على قول من أعمل الأول في نحو: قام وقعدا الزيدان، وهو مذهب الكوفيين. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب معطوف على قوله: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره: ولهم جنات. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ اسم جنس، جمع ثمرة، كشجرة وشجر. ومن قرأه بالضم «ثمره» جعله جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فجعله جمع الجمع. البلاغة: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ بينهما طباق وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فيه رد العجز على الصدر. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان فَأَخْرَجْنا بِهِ فيه التفات عن الغيبة للاعتناء بشأن المخرج والإشارة إلى عظم النعم وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عطف خاص على عام لمزيد الشرف. المفردات اللغوية: فالِقُ شاق، والفلق والفرق والفتق بمعنى واحد: وهو الشق في الشيء مع الإبانة الْحَبِّ الحنطة ونحوها مما يكون في السنبل والأكمام النَّوى جمع نواة، وهي بزر التمر والزبيب ونحوهما، والمعنى: إن الله شاق الحب عن النبات والبزر عن النخل والكرمة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ النطفة والبيضة مِنَ الْحَيِّ. ذلِكُمُ الفالق المخرج هو اللَّهَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان. فالِقُ الْإِصْباحِ أي شاق عمود ضوء الصبح (وهو أول ما يبدو من نور النهار) عن ظلمة الليل. والإصباح: مصدر بمعنى الصبح سَكَناً تسكن فيه الخلائق من التعب. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بالنصب عطفان على محل اللَّيْلَ. حُسْباناً حسابا للأوقات والحسبان والحساب: استعمال العدد في الأشياء والأوقات ذلِكَ المذكور تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في ملكه الْعَلِيمِ بخلقه.

المناسبة:

فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في الأسفار قَدْ فَصَّلْنَا بينا الْآياتِ الدلالات على قدرتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون. أَنْشَأَكُمْ خلقكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم فَمُسْتَقَرٌّ موضع قرار منكم في الرحم أو إقامة في الأرض، كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [البقرة 2/ 36، والأعراف 7/ 24] وَمُسْتَوْدَعٌ موضع الوديعة لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الفقه: فهم الشيء مع التعمق في التفكير فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء خَضِراً أي نباتا أخضر نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها مِنْ طَلْعِها الطلع: أول ما يبدوا ويظهر من زهر النخلة قبل أن ينشق عنه غلافه قِنْوانٌ عراجين، جمع قنو، وهو عذق الثمر، وهو من النخيل كالعنقود من العنب، والسنبلة من القمح دانِيَةٌ قريب بعضه من بعض، وقريب التناول جَنَّاتٍ بساتين مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي متشابها في بعض الصفات كالورق، وغير متشابه في بعض آخر كالثمر، أي متشابه الورق والثمر وغير متشابه. وَيَنْعِهِ نضجه، أي حين يينع ويبدو نضجه واكتماله، والمراد: انظروا أيها المخاطبون نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر (أول ما يبدو) كيف هو، وإلى نضجه إذا أدرك كيف يصبح إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها في الإيمان، بخلاف الكافرين. المناسبة: بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد، وقرر أمر النبوة، وبعض أحوال البعث، عاد هنا إلى بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الصانع، وهي تتلخص في الخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والتقدير والتدبير لحركة الكواكب والنجوم وتقلب الليل والنهار. التفسير والبيان: عدّد الله تعالى في هذه الآيات بعض مظاهر قدرته الباهرة وحكمته البالغة، فبدأ بالنبات وأخبر أنه فالق الحب والنوى، أي يشقه بقدرته في التراب، فينبت منه الزرع على اختلاف أصنافه من الحبوب، والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، من النوى، لذا فسر قوله: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج النبات الحي

المتحرك من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت، عن طريق ربط الأسباب بمسبباتها، ببذر الحب والنوى في التراب، وإرواء التراب بالماء. وذلك يدل على كمال قدرته، وبديع حكمته. فقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ معناه يخرج الزرع الأخضر والشجر النامي، من الميت الجامد، والمراد بالحياة هنا النمو والتغذية، والميت: هو ما لا نماء فيه ولا يتغذى، مثل التراب والحب والنوى وغيرهما من البذور، والبيضة والنطفة. وإذا قيل في العلم الحديث: إن في النطفة والبيضة حياة فيراد بها الحياة النباتية أو الخلوية (حياة الخلية) . وأما المقصود هنا فهي الحياة الظاهرية الحركية. وقيل في التفسير العلمي الحديث: المراد بخروج الحيوان من الميت أي تكونه من الغذاء، فالحي ينمو بأكل أشياء ميتة، والغذاء ميت لا ينمو. وقوله تعالى: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معناه مخرج الحب والنوى من النبات، والبيضة والنطفة من الحيوان. وقيل في التفسير العلمي الحديث: المراد بذلك الإفرازات مثل اللبن: وهو سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهي تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فاعل هذا هو المتصف بكمال القدرة وبالغ الحكمة، المحيي والمميت، وهو الله الخالق وحده لا شريك له، فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره، وتشركون به شريكا آخر لا يقدر على شيء من ذلك؟! والله فالق الإصباح وجعل الليل سكنا أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب

الليل بسواده وظلامه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف 7/ 54] فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أي ساجيا هادئا مظلما لتسكن فيه الأشياء، ويستريح فيه المتعب من عمل النهار، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً «1» ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ 78/ 9- 11] . ثم قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي ونظام الشمس والقمر للحساب وعدد الشهور والسنين، وكلاهما يجري بحساب دقيق، كما قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن 55/ 5] أي يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] وقد جمع الله في هذه الآية ثلاث آيات سماوية، كما جمع في آية فالِقُ الْإِصْباحِ ... ثلاث آيات أرضية وهي: فلق الصبح والتذكير به للتأمل في صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، وجعل الليل ساكنا، نعمة من الله ليستريح الجسد، وتسكن النفس، وتهدأ من التعب العمل بالنهار، وجعل الشمس والقمر حسبانا، تحقيقا لحاجة الإنسان إلى معرفة حساب الأوقات من أجل العبادات، والمعاملات، والتواريخ. ومن المعروف فلكيا أن للأرض دورتين: دورة تتم في أربع وعشرين ساعة لحساب الأيام، ودورة تتم في سنة ضمن فصول أربعة، لحساب السنة الشمسية.

_ (1) أي قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم.

ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي الجميع حاصل بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، الغالب على أمره، العليم بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والمقدّر له بموجب الحكمة: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] . ويلاحظ أن الله تعالى يذكر كثيرا خلق الليل والنهار والشمس والقمر، ثم يختم الكلام بالعزة والعلم. ثم أوضح تعالى فائدة النجوم، فقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ.. أي أوجد النجوم وهي ما عدا الشمس والقمر من النّيرات للاهتداء بها في الأسفار، فيستدل بها الإنسان على الطرق، ويأمن من الضياع، وينجو من الخطأ والحيرة. والنجوم كما يذكر الفلكيون تعد بالملايين، وما اكتشف منها أقل بكثير مما لم يكتشف. ونظرا لما في عالم السماء من العظمة والدقة في النظام وإبداع الصنع، ختم الله تعالى الآية بقوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي بينا لكم الآيات القرآنية والآيات التكوينية لأهل العلم والنظر الذين يدركون سر عظمة هذه الآيات، ويستدلون بها على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه، فإن كان المراد بالآيات آيات التنزيل فالمعنى أن هذه الآيات وأمثالها نوضحها لأهل الفكر والعلم والنظر، فيزدادون بها بحثا وعلما وإيمانا. وإن كان المراد بها آيات التكوين، فالمعنى أن هذه الآيات يبينها الله ليستدل بها العلماء على عظمة الله تعالى، ولا يدرك سر هذه الآيات غير العلماء كما قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر 59/ 2] . وبعد بيان آيات الله في الأرض والسماء، ذكر تعالى آياته في الأنفس، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ... أي أن الله تعالى خلقكم في الأصل من نفس واحدة هي آدم عليه السلام وهو الإنسان الأول الذي تناسل منه سائر البشر

بالتوالد والتزاوج، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء 4/ 1] . وإنشاء جميع البشر من نفس واحدة يدل على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ووحدانيته، كما يوجب شكر النعمة، ويرشد إلى وحدة الأصل والنوع الإنساني، مما يقتضي وجوب التعارف والتعاون بين الناس لأنهم من أصل واحد وأب واحد، فهم إخوة، وما على الإخوة إلا التآلف، لا التناحر والتقاتل. ثم بيّن الله تعالى كيفية تسلسل البشر والولادة في وقت معين لا يعلمه إلا الله فقال: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي لكم موضع استقرار في الأرحام، وموضع استيداع في الأصلاب، أو مستقر في الأرض، ومستودع تحتها، أو مستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع. قد بينا آيات سنن الخلق الدالة على قدرتنا وإرادتنا، وعلمنا وحكمتنا، وفضلنا ورحمتنا، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم، ويعون كلام الله، ويدركون معناه ودقائقه. وعبر بالعلم مع ذكر النجوم، وبالفقه مع ذكر إنشاء بني آدم، لأن استخلاص الحكمة من خلق البشر من نفس واحدة، وتصريفهم في أحوال مختلفة يحتاج إلى دقة نظر، وعمق فهم وفطنة، وهذا هو معنى الفقه، فكان ذلك مطابقا للحال. أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، فلا يتوقف على دقة النظر، وعمق الفكر، وإنما يكفي فيها وفي كل الأمور الفلكية شيء من المعرفة والخبرة والمشاهدة الظاهرية المعتمدة على الملاحظة والبصر. ثم ذكر تعالى آية من آيات التكوين في النبات وهي إنزال الماء من السماء

وجعله سببا للإنبات، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي أن الله هو الذي أنزل بقدرته وتصريفه وحكمته من السحاب ماء بقدر، مباركا، ورزقا للعباد، وإحياء وإغاثة للخلائق، رحمة من الله بخلقه، فأخرجنا بسبب هذا المطر أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره، كما قال تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد 13/ 4] وقال: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] . وأخرجنا بالمطر زرعا وشجرا أخضر، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر، لهذا قال تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها. وهذا بيان لنوع من النبات لا ساق له، ثم عطف عليه ماله ساق من الشجر فقال: وَمِنَ النَّخْلِ.. أي ونخرج من طلع النخل عراجين أو عناقيد قريبة التناول، ونخرج أيضا من ذلك الخضر جنات من أعناب. وأخص من نبات كل شيء بعد التمر والعنب غيرهما من الفواكه والثمار، وهو الزيتون والرمان، متشابها في الورق والشكل، قريبا بعضه من بعض، ومتخالفا في الثمار شكلا وطعما وطبعا، فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها المز، وكل ذلك دليل على قدرة الصانع. انظروا نظرة اعتبار وإمعان إلى ثمر الشجر والنبات إذا أثمر كيف يكون، وإلى نضجه واكتماله كيف يصير، ويتحول من جفاف إلى ممتلئ ماء وخيرا وبركة، لكل ثمر طعم، وحجم، ولون، وقارنوا بين الثمار، وفكروا في قدرة الخالق من العدم إلى الوجود، بعد أن كان حطبا يابسا، صار غضا طريا رطبا، وغير ذلك من الألوان والأشكال والطعوم والروائح، كقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ

فقه الحياة أو الأحكام:

صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد 13/ 4] . إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته، يستفيد منها المؤمنون المصدقون بالله والمتبعون رسله. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات خمسة أنواع من الأدلة على وجود الله الصانع وعلمه وقدرته وحكمته وهي ما يلي: النوع الأول- مأخوذ من دلالة أحوال النبات والحيوان: فالله خالق الحب والنوى، وشاق الحب والنوى لإنبات الزرع والشجر، ومخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي، كما قال: لزجاج، ويخرج البشر الحي من النطفة، والنطفة من البشر الحي كما قال المفسرون كالقرطبي، ويخرج المؤمن من الكافر، كما في حق إبراهيم عليه السلام، والكافر من المؤمن، كما في حق ولد نوح، والعاصي من المطيع، وبالعكس، كما قال ابن عباس. ودل هذا على أن الحي أشرف من الميت، لذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل، وعن القسم الثاني بصيغة الاسم تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. والنوع الثاني- مأخوذ من الأحوال الفلكية، وهذا أدل على القدرة الإلهية لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. وتضمن هذا النوع ثلاث آيات فلكية لها صلة بالأرض وهي فلق نور الصبح، أي شاقّ الضياء عن الظلام وكاشفه، وخالق النور والظلمة، وجاعل الليل سكنا أي محلا للسكون، وجاعل الشمس والقمر آيتين للحساب

الذي يتعلق به مصالح العباد، لأنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين، وكل ذلك دليل على كمال قدرة الله تعالى وكونه فضلا من الله ورحمة وإحسانا على الخلق. والنوع الثالث- ظاهرة سماوية وهو أنه تعالى خلق النجوم لمنافع العباد، بالاهتداء بنورها إلى الطرق والمسالك، في ظلمات البر والبحر، حيث لا يرون شمسا ولا قمرا، وذلك من أدلة كمال القدرة والرحمة والحكمة. ويستدل بالنجوم والكواكب والشمس والقمر أيضا على معرفة القبلة، كما أن هذه الكواكب زينة للسماء: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات 37/ 6] وهي أيضا رجوم للشياطين: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 67/ 5] وهي كذلك مثار التفكير في عظمة السموات: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران 3/ 191] قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر «1» . والنوع الرابع- الاستدلال بأحوال الإنسان، وخلق البشر من نفس واحدة هي آدم عليه السلام، وإيداع أصول البشرية في الأصلاب والأرحام، والتفكير في تكوين النفس: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 21] وهذا من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه. والنوع الخامس- مأخوذ من طريقة الإنبات وتنوع النبات واختلاف أصناف الفواكه والثمار: وهو إنزال المطر من السماء (السحاب) وإخراج مختلف أنواع النباتات والزروع بالماء، وإيجاد الكثرة الهائلة من الثمار والفواكه

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 159

المزاعم المنسوبة إلى الله (الجن والولد والصاحبة) وكونه لا تدركه الأبصار [سورة الأنعام (6) الآيات 100 إلى 103] :

والأزهار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح، وذلك من أجلّ أنواع النعم والإحسان، ومن أعظم الدلائل على كمال القدرة الإلهية، وحقا ما ختمت به الآيات: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ آمنا بالله ربا، وعلمنا أنه الحق المبين، وفقهنا وأدركنا بإمعان عظمة هذا الإله وسعة علمه، وفضله وإحسانه ورحمته بالمخلوقات جميعا. ويلاحظ أنه تعالى ذكر في هذا النوع أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان، وقدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه، لأن التمر غذاء العرب المهم، وذكر العنب عقب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه، للاستفادة منه بمجرد ظهوره حامضا ثم حصرما، ثم عنبا، ثم يدخر زبيبا سنة فأكثر ثم دبسا وخلا. المزاعم المنسوبة إلى الله (الجن والولد والصاحبة) وكونه لا تدركه الأبصار [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

الإعراب:

الإعراب: شُرَكاءَ الْجِنَّ شُرَكاءَ: منصوب لأنه مفعول أول. والْجِنَّ: مفعول ثان. واللام في لِلَّهِ تتعلق بشركاء. ويجوز أن نجعل الْجِنَّ بدلا من شُرَكاءَ، واللام في لِلَّهِ تتعلق ب (جعل) . أو قرئ الْجِنَّ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الجن. المفردات اللغوية: وَخَرَقُوا مثل اختلفوا، والخرق والاختلاق للكلام: ابتداع الكذب. وأما الخلق: فهو فعل الشيء بتدبير ورفق. وأما الإبداع فهو إنشاء الشيء بلا اقتداء بأحد، والبديع من أسمائه تعالى: أي مبدع الأشياء ومحدثها على غير مثال سابق، ومنه البدعة في الدين لأنه لا نظير لها فيما سلف. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي لا تراه، والإدراك: اللحاق والوصول إلى الشيء، والبصر: حاسة الرؤية، اللَّطِيفُ الرفيق بعباده وأوليائه الْخَبِيرُ بشؤون خلقه. المناسبة: بعد أن ذكر تعالى البراهين الخمسة على ثبوت الألوهية، وكمال القدرة والرحمة، ذكر عقب ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء من عالم الجن، أو من اختراع نسل له من البنين والبنات. التفسير والبيان: هذه الآيات رد على مشركي العرب الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن، فجعلوهم شركاء له في العبادة، وأما عبادتهم الأصنام فلم تكن إلا بطاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللَّهُ، وَقالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ

خُسْراناً مُبِيناً، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء 4/ 117- 120] . ومعنى الآية: وجعل مشركو العرب شركاء من عالم الجن أطاعوهم فيما يأمرونهم به، والجن: هم الملائكة فقد عبدوهم، كما قال قتادة، أو الشياطين فقد أطاعوهم في الشرك والمعصية، كما قال الحسن البصري. وقال المجوس: إن للخير إلها وللشر إلها وهو إبليس، أي أنهم سموه ربا. جعلوا لله الجن شركاء له حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان، والحال أنه خلقهم أي خلق المشركين وغيرهم، فهو الخالق وحده لا شريك له، فكيف يكون المخلوقون شركاءه، وكيف يعبدون معه غيره؟ كقول إبراهيم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 95- 96] . وخلاصة المعنى: أنه تعالى هو المستقل بالخلق وحده، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له. واختلقوا لله بجهلهم وحمقهم بنين وبنات، والمراد بقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ: أنهم لا يعلمون حقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته، فإن مشركي العرب سموا الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزيز ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ أي تقدس وتنزه وتعاظم الله عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والشركاء لأنه الخالق المدبر لها، وليس كمثله شيء. والله مبدع السموات والأرض وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، وكيف يكون له ولد، والحال أنه لم تكن له صاحبة؟ والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه

لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد، وهو مبدع الكائنات في السماء والأرض، ومتسبب في إيجاد الذرية من طريق التوالد والتناسل. وقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أوجده ولم يلده ولادة، كما تزعمون، فما اخترعتم له من الولد، فهو مخلوق له لا مولود منه، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه؟ وهو الذي لا نظير له. وهذه الجملة مؤكدة لما سبق من نفي الولد. والله محيط علمه بكل الأشياء، وعلمه ذاتي له، ولا يعلم أحد مثل علمه، فلو كان له ولد لكان هو أعلم به، ولأرشد إليه، لكنه كذب وافتراء بلا دليل عقلي ولا وحي نقلي. والخلاصة: نفى الله تعالى عن نفسه الولد لأنه مبدع السموات والأرض، وهي غير مولودة، ولأن الولد يأتي من ذكر وأنثى متجانسين، والله لا يجانسه ولا يماثله شيء، ولأن كل ما عدا الله لا يكافئه، فكيف يكون له ولد كفؤ له؟ وإذ ثبت أنه لا ولد له، فذلكم المتصف بما ذكر أيها المشركون هو الله ربّكم، الذي لا إله إلا هو، والذي خلق كل شيء، ولا ولد له ولا صاحبة، فما عليكم إلا أن تعبدوه وحده لا شريك له، وتقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له ولا والد، ولا صاحبة له ولا نظير، وكل من عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه. وهو مع كل هاتيك الصفات حفيظ ورقيب على كل شيء، يدبر كل ما سواه، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار. أي لا حافظ إلا الله، ولا يقضي الحاجات إلا الله. والله سبحانه لا تراه الأبصار رؤية إحاطة وشمول تعرف كنهه، كقوله:

فقه الحياة أو الأحكام:

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة 2/ 255] . وقال ابن عباس: لا تدركه الأبصار في الدنيا ويراه المؤمنون في الآخرة لإخبار الله بها في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] . وهو تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة وشمول، فلا تخفى عليه طرفة عين، ولا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه، وإنما خص الْأَبْصارُ لتجنيس الكلام. وهذه الآية إما مخصوصة بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] وبالحديث الآتي الدال على رؤية الله عز وجل. أو يقال: إنه لا تنافي بين الآيتين لأن نفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء والإحاطة به لا يستلزم نفي رؤيته مطلقا. وقد ثبت في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب» فالمؤمنون يرون ربهم، وأما الكافرون فلا يرونه لقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين 83/ 15] . والله تعالى اللطيف أي الرفيق بعباده، الخبير بهم المطلع على جميع أحوالهم. فقه الحياة أو الأحكام: نزلت الآية: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ في مشركي العرب، ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل. والآية توبيخ وتقريع ورد قاطع على المشركين الذين جعلوا الجن شركاء لله، ونسبوا لله البنين والبنات جهلا منهم بحقيقة الله. والمشركون أصناف:

1- عبدة الأصنام القائلون: الأصنام شركاء لله في العبودية، ولكن لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين. 2- عبدة الكواكب وكانوا في عهد إبراهيم عليه السلام، وهم يقولون: إن الله فوض لها تدبير العالم الأسفل. 3- الثنوية أو المجوس القائلون بأن للعالم إلهين اثنين: أحدهما فاعل الخير، والثاني فاعل الشر. والحق أن جميع المخلوقات محدثة مخلوقة، وكل محدث فله خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى. والله تعالى مبدع السموات والأرض وخالقهما، فكيف يكون له ولد، والحال أنه لا صاحبة ولا زوجة له، فكيف يأتي الولد؟ وهو خالق كل شيء، وهو العليم بكل شيء، فكيف يتخذ الولد والصاحبة؟ والخالق المدبر وهو الله هو المستحق للعبادة، ولا يستحقها عاجز مخلوق. ورؤية الله تعالى ثابتة للمؤمنين في عالم الآخرة، ولكن دون إحاطة ولا شمول ولا حصر ولا كيفية إذ لو لم يكن جائز الرؤية لما حصل المدح لعظمة الله بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لأن المعدوم لا تصح رؤيته. والخلاصة: أن الآيات لنفي الشرك والشركاء وإبطال مزاعم المشركين على مختلف طوائفهم، إذ لا حاجة لله للشريك والولد بأدلة كثيرة هي: كونه مبدع السموات والأرض، والإبداع تكوين الشيء من غير مثال سبق، ولا صاحبة له، وخالق كل شيء، ومحيط علمه بكل شيء، ولا تتمكن الأبصار من الإحاطة برؤيته لأنه سبحانه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى: الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات.

مبصرات الوحي وقدرة الله على منع الشرك [سورة الأنعام (6) الآيات 104 إلى 107] :

ومن اتصف بهذه الصفات فهو المستحق للعبادة، لذا أمر الله بعبادته وحده لا شريك له. وأما رؤية النّبي صلّى الله عليه وسلّم لربه في ليلة الإسراء في الدنيا فالصحيح أنها لم تحصل بالعين المجردة، وإنما رآه بقلبه ورأى جبريل على حقيقته. وعن ابن عباس أنه رآه بعينيه، وحجته قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم 53/ 11] . مبصّرات الوحي وقدرة الله على منع الشرك [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) الإعراب: وَلِيَقُولُوا: دَرَسْتَ معطوف على فعل مقدر، والتقدير: نصرف الآيات ليجحدوا وليقولوا، أي ليصير عاقبة أمرهم إلى الجحود وإلى أن يقولوا هذا القول. وهذه اللام تسمى لام العاقبة عند البصريين، ولا الصيرورة عند الكوفيين، مثل اللام في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] وما التقطوه ليكون لهم عدوا، وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة التقاطهم إياه إلى العداوة والحزن. البلاغة: بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ مجاز مرسل وعلاقته المسببية أي من باب تسمية المسبب باسم السبب، والمراد بالبصائر: الحجج والبراهين التي تبصرون بها الحقائق.

المفردات اللغوية:

أَبْصَرَ.. وعَمِيَ بينهما طباق. بَصائِرُ وأَبْصَرَ بينهما جناس الاشتقاق. المفردات اللغوية: بَصائِرُ أي حجج بيّنات وآيات واضحات، وتطلق البصيرة على عدة معان: عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة يقينا، والعبرة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أي فمن أدركها فآمن فثواب إبصاره له بِحَفِيظٍ رقيب لأعمالكم، إنما أنا نذير. وَكَذلِكَ كما بينا ما ذكر نُصَرِّفُ الْآياتِ نبينها ونأتي بها على وجوه مختلفة بما يناسب المقام، ليعتبروا وَلِيَقُولُوا أي الكفار في عاقبة الأمر، فإن اللام لام العاقبة أو الصيرورة دَرَسْتَ قرأت كثيرا حتى حفظته، أو درست كتب الماضين وجئت بهذا منها، وفي الحديث: «كان يدارسه القرآن» يذاكره له حتى يحفظه، وفي المدارسة معنى التذليل بكثرة القراءة. حَفِيظاً رقيبا فتجازيهم بأعمالهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ موكّل مفوض في أمرهم، فتجبرهم على الإيمان. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى الأدلة على توحيده وكمال قدرته وعلمه، عاد إلى تقرير أمر الدعوة الإسلامية والرسالة وتبليغ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وحي ربه. التفسير والبيان: قد جاءكم أيها الناس البصائر: وهي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول من البراهين العقلية والنقلية التي تثبت لكم العقيدة الحقة، وتبين منهاج الحياة الأقوم، ودستور النظام العام للجماعة، وأصول الأخلاق والآداب. فمن أبصر الحق فآمن فلنفسه، ومن عمي عن الحق وضل وأعرض عن سبيله، فعلى نفسه جنى، كقوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ

فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها [يونس 10/ 108] وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] . ومعنى قوله: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أي إنما يعود وبالله عليه، كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] . وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب، بل إنما أنا مبلّغ ومنذر، والله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان لتوحيد وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن، لجهالة الجاهلين، وليؤول الأمر بأن يقول المشركون والكافرون المكذبون: درست هذا وقرأته على غيرك، أو دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب، وتعلمت منهم، وليس وحيا من عند الله. أي إن تصريف الآيات وتقليبها على وجوه مختلفة بحسب المقامات يستهدف: 1- أن يهتدي بها المستعدون للإيمان. 2- وأن يقول الجاحدون المعاندون: إنما درست هذا وقرأته على غيرك، وليس هذا بوحي كما تزعم، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي حداد أعجمي وليس بعربي، كان يصنع السيوف بمكة، اسمه «قيس» كما حكى تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل 16/ 103] . 3- وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق، فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه، فالبيان إنما يفيد أهل العلم المدركين الذين يستخدمون بصائرهم في مدلولات القرآن، فهم الذين يتبين لهم بالتأمل حقيقة القرآن ودلائله. أما الجاهلون الذين لم يفهموا آيات القرآن، فلا ينتفعون به.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومن اتبع طريقته باتباع الوحي وتجنب المشركين بقوله: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي اقتد به واقتف أثره واعمل به، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه لا إله إلا هو، واعف عن المشركين واصفح عنهم، واحتمل أذاهم واصبر عليهم حتى يفتح الله لك، وينصرك عليهم. ولو شاء الله ما أشرك المشركون، بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، له الحكمة في بقائهم في الضلال، ولو شاء لهدى الناس جميعا، بأن يخلقهم مستعدين للإيمان، لكنه خلقهم مستعدين للكفر، وترك لهم حرية الاختيار في أعمالهم. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي وما جعلناك حافظا تحفظ أقوالهم وأعمالهم، وما أنت بموكل على أرزاقهم وأمورهم والتصرف في قضاياهم. أي لست عليهم بمسيطر، وليس لك صفة الملوك القاهرين، بل أنت بشير ونذير، والله يجازيهم ويحاسبهم. فقه الحياة أو الأحكام: آي القرآن المتقدمة حجج بيّنة ظاهرة تدل على صدق الرسالة ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومهمته التبليغ والإنذار، لا القسر والقهر والإكراه، ولا الرقابة على أعمال الناس، فمن أبصر الحق وآمن بدعوة الإسلام والقرآن فلنفسه أبصر، وإياها نفع، ومن عمي عنه فعلى نفسه الوبال وإياها ضر. ومن فضله تعالى أنه كما صرف الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة، يصرف في غيرها على وجوه مختلفة للإقناع والعبرة والعظة، ولإلزام المشركين بالحجة وليقولوا: درست، أي وليصير قولهم: «درست»

النهي عن سب الأصنام والأوثان [سورة الأنعام (6) الآيات 108 إلى 110] :

صرّفناها، فهي لام الصيرورة، ولتبيان الحق لقوم يعلمون ويدركون معناها ويقدرون فحواها ومضمونها. والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ الدعوة والرسالة الإلهية، والمقصود من هذا الأمر بعد اتهام الكفار له بالافتراء أو مدارسة أقوام هو تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حدث عنده بسبب هذا الاتهام، لئلا يصير قول الكفار سببا لفتوره في تبليغ الدعوة. والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور أيضا بالإعراض عن المشركين بعد قيامه بواجب التبليغ، والله قادر على جعلهم مؤمنين موحدين غير مشركين، ولم يجعل من مهام النّبي صلّى الله عليه وسلّم الرقابة على أعمالهم، ولا التوكل بأمورهم ومصالحهم في دينهم ودنياهم، وإنما مهمته التبليغ، ليترك لهم حرية الاختيار والطواعية بقبول الإيمان، وكأنه تعالى يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: لا تلتفت إلى سفاهات الكفار، ولا يثقلن عليك كفرهم، فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت، ولكني تركتهم مع كفرهم، فلا تشغل قلبك بكلامهم. ويحمل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا أي عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر والإلجاء، ويحمل مشيئة الله لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء «1» . النهي عن سب الأصنام والأوثان [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 138

الإعراب:

الإعراب: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ من قرأ أنها بالفتح، ففيه وجهان: الأول- أن تكون «أن» بمعنى لعل، وتقديره: وما يشعركم إيمانهم، لعل الآيات إذا جاءت لا يؤمنون. وقد جاءت «أن» بمعنى لعل، قالوا: اذهب إلى السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك. والثاني- أنها في موضع نصب بيشعركم، ولا: زائدة، وتقديره: وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت يؤمنون، وهي المفعول الثاني. ومن قرأ «إنها» بالكسر، جعلها مبتدأ، ووقف على قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ وجعل «ما» استفهامية، وفي يُشْعِرُكُمْ ضمير يعود إلى «ما» ويقدر مفعولا ثانيا محذوفا، وتقديره: وما يشعركم إيمانهم. ولا يجوز أن تكون «ما» نافية هاهنا على تقدير: وما يشعركم الله إيمانهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام 6/ 111] . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَنَذَرُهُمْ عطف على لا يؤمنون، داخل في حكم: وَما يُشْعِرُكُمْ. كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ: منصوب لأنه ظرف زمان، والمراد بأول مرة: الدنيا. المفردات اللغوية: يَدْعُونَ يدعونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام، وعبّر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين مجاراة لمعتقد الكفرة فيها. عَدْواً اعتداء وظلما بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جهلا منهم بالله كَذلِكَ كما زينا لهؤلاء ما هم

سبب النزول:

عليه زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير والشر، فأتوه مَرْجِعُهُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فيجازيهم به. وَأَقْسَمُوا أي كفار مكة بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي غاية اجتهادهم فيها آيَةٌ مما اقترحوا وَما يُشْعِرُكُمْ يدريكم بإيمانهم إذا جاءت أي أنتم لا تدرون ذلك لا يُؤْمِنُونَ لما سبق في علمي. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ نحول قلوبهم عن الحق، فلا يفهمونه وَأَبْصارَهُمْ عنه، فلا يبصرونه ولا يؤمنون كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما أنزل من الآيات وَنَذَرُهُمْ نتركهم فِي طُغْيانِهِمْ ضلالهم يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين. سبب النزول: نزول الآية (108) : وَلا تَسُبُّوا: قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسبوا- أي الكفار- الله، فأنزل الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وعبارة الواحدي عن قتادة: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة، لا علم لهم بالله. وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك، فنهى الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوا بغير علم. نزول الآية (109) : وَأَقْسَمُوا: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: «كلّم رسول الله قريشا، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم الناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا، قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، فقام رسول الله

المناسبة:

يدعو، فجاءه جبريل، فقال له: إن شئت أصبح ذهبا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب الاستئصال) ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله: يَجْهَلُونَ» . المناسبة: الآية متعلقة بما قبلها من قول المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلّم: إنما جمعت هذا من مدارسة الناس ومذاكرتهم، وحينئذ لا يبعد أن يغضب بعض المسلمين لسماع ذلك، فيسبوا آلهة الكفار على سبيل المعارضة، فنهى الله تعالى عن هذا الصنع، لأنه متى شتمت آلهتهم، فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول. التفسير والبيان: ينهى الله تعالى رسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كما قال ابن عباس. لا تسبوا أيها المسلمون آلهة المشركين التي يدعونها من دون الله إذ ربما نشأ عن ذلك سبّهم لله عز وجل عدوانا، أي ظلما وتجاوزا منهم للحدّ في السباب والمشاتمة، لإغاظة المؤمنين، جهلا منهم بقدر الله تعالى وعظمته. وهذا يدل على أن الطاعة أو المصلحة إن أدت إلى معصية أو مفسدة تترك، وقد أمر الله موسى وهارون باللطف في مخاطبة فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] . وكما زينا لهؤلاء القوم حب الأصنام والانتصار لها، زينا لكل أمة من الأمم سوء عملهم من الكفر والضلال، أي أن هذه سنة الله في خلقه، يستحسنون

عاداتهم وتقاليدهم التي ساروا عليهم عن تقليد وجهل، أو عن معرفة وعناد، والله يتركهم وشأنهم. وهذا التزيين أثر لاختيارهم دون جبر أو إكراه، لا أن الله خلق في قلوبهم تزيينا للكفر والشر، كما زين في قلوب آخرين الإيمان والخير، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر غريزة، تعد الدعوة إلى الإصلاح بعدها نوعا من العبث، والله منزه عنه، وكان الثواب والعقاب وإرسال الرسل وإنزال الكتب لا معنى له ولا عدل فيه. وبعد تركهم وشأنهم في الدنيا يكون معادهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث إلى ربهم ومالك أمرهم، لا إلى غيره، فيجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا إنذار وتهديد. وهؤلاء المشركون حلفوا أيمانا مؤكدة بالله: لئن جاءتهم معجزة مادية وخارقة للعادة من الآيات الكونية التي يقترحونها، ليصدقن بها أنها من عند الله، وأنك رسول الله. وفي هذا إشارة إلى أنهم قوم معاندون لأنهم لم يروا أن هذا القرآن من جنس المعجزات أصلا، وليس من هدفهم إلا التحكم في طلب المعجزات. قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتا وعنادا وكفرا، لا على سبيل الهدى والاسترشاد: إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، وهو القادر عليها، إن شاء جاءكم بها، وإن شاء ترككم فلا ينزلها إلا على موجب الحكمة، كما قال: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [غافر 40/ 78] . ثم خاطب الله نبيه والمؤمنين الذين تمنوا مجيء آية مما اقترحوا ليؤمنوا: وما يدريكم إيمانهم؟ أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات، فهم لا يؤمنون إذا جاءتهم

فقه الحياة أو الأحكام:

الآية، لسبق علم الله بعدم إيمانهم، فأنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ.. أي وما يشعركم أنا نحوّل قلوبهم عن إدراك الحق والإيمان وأبصارهم عن إبصاره، ونحول بينهم وبينه، فلا يدركونه، ولو جاءتهم كل آية. فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة حين أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره لتمام إعراضهم عن إدراك الحقائق، كما قال تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14- 15] . والحقيقة أن من لم يقنعه ما ورد في القرآن من الأدلة العقلية والبراهين العلمية، لا تقنعه الآيات الحسية التي يشاهدها. وما يشعركم أيضا أنا نذرهم في طغيانهم، أي نخليهم وشأنهم، لا نكفهم عن الطغيان أي تجاوز الحد، ونتركهم يترددون في طغيانهم متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، أهو الحق المبين أم السحر الخادع؟ فقه الحياة أو الأحكام: المؤمنون منهيون عن مجاراة الكفار ومبادلتهم السباب والشتم والقبائح، سدا لذرائع الفساد، ومنعا من الوقوع في المفسدة، وإن كانت هناك مصلحة مرتجاة، وقصد ثواب، فذلك مرجوح وقليل أمام الجرم الأعظم وهو سب الله، والمفسدة الأغلب. وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه. وحكم الآية- كما ذكر العلماء- باق في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين، وخيف أن يسبّ الإسلام أو النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم

ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية. وهذا نوع من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسدّ الذرائع، وفي الآية دليل أيضا على أن المحقّ قد يكف عن حق له إذا أدّى إلى ضرر يكون في الدّين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال، وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول «1» . ويؤكد مدلول الآية: قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو: «لعن الله الرجل يسبّ أبويه، قيل: يا رسول الله وكيف يسبّ أبويه؟ قال: يسبّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» قال ابن العربي: فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور. وبهذا تمسك المالكية في سد الذرائع: وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور. وأما المعاندون مشركون أو غيرهم فلن يؤمنوا مهما جاءتهم الآيات، وقد طلب مشركو قريش من الرسول معجزات مادية، وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا، فبيّن الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك، فالله تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 735

من مظاهر تعنت المشركين والإياس من إيمانهم [سورة الأنعام (6) الآيات 111 إلى 113] :

[الجزء الثامن] [تتمة سورة الانعام] من مظاهر تعنّت المشركين والإياس من إيمانهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الإعراب: كُلَّ مفعول حَشَرْنا. قُبُلًا حال من كُلَّ شَيْءٍ. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن وصلتها في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. شَياطِينَ منصوب إما لأنه بدل من عَدُوًّا أو لأنه مفعول ثان لجعلنا. غُرُوراً منصوب إما لأنه مصدر في موضع الحال، أو بدل من قوله زُخْرُفَ الذي هو مفعول يوحي، أو لأنه مفعول لأجله، أي لغرور. وَلِتَصْغى معطوف على فعل مقدر دلّ عليه قوله تعالى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وتقديره: ليغروه ولتصغى إليه، فحمل على المعنى. وقيل: اللام لام قسم، وتقديره: ولتصغين إليه أفئدة الذين، فلما كسرت اللام حذفت النون. البلاغة: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ربط المشيئة بالرّبوبية، والإضافة إلى الضمير العائد إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لتشريف مقامه، والعناية به، وتطييب خاطره وتسليته عليه الصّلاة والسّلام.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَحَشَرْنا جمعنا. قُبُلًا أي مواجهة ومقابلة ومعاينة. عَدُوًّا العدو: ضد الصّديق، ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والمؤنث. شَياطِينَ جمع شيطان، والشياطين: المردة، قال ابن عباس: كلّ عات متمرّد من الجنّ والإنس فهو شيطان. يُوحِي يوسوس به الشّيطان، والإيحاء: الاعلام مع الخفاء والسّرعة كالإيماء. زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي الكلام المزين الذي يبدّل الحقائق أوهاما، ويطلق لفظ الزخرف على كلّ زينة، كالذهب للنّساء، والورود والأزهار للرّياض وغيرها. غُرُوراً خداعا باطلا. فَذَرْهُمْ دع الكفار. وَما يَفْتَرُونَ من الكفر وغيره مما زين لهم. وَلِتَصْغى تميل، يقال: صغي إليه: مال. ومضارعه: يصغي، مثل رضي يرضى، وصغي فلان وصغوه: أي ميله وهواه. إِلَيْهِ الزخرف. أَفْئِدَةُ قلوب. وَلِيَقْتَرِفُوا يكتسبوا، يقال: اقترف المال: اكتسبه، واقترف الذّنب: اجترحه. سبب النّزول: روي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها فقالوا له: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم، أحقّ ما تقول أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت الآية. المناسبة: هذا تفصيل لما ذكر على سبيل الإجمال بقوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ فبيّن تعالى أنه لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة، وإحياء الموتى حتى يكلّموهم، بل لو زاد في ذلك بأن يحشر عليهم كلّ شيء قبلا يشهد بصدق الرّسول، ما كانوا ليؤمنوا لتأصّلهم في الضّلال إلا أن يشاء الله. التفسير والبيان: قال ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ..: وهم أهل الشقاوة، ثم قال: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه تعالى أن يدخلوا في الإيمان «1» .

_ (1) تفسير الطبري: 8/ 2- 3

والمعنى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، فنزلنا عليهم الملائكة، تخبرهم بالرّسالة من الله، بتصديق الرّسل كما سألوا، فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 92] وقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام 6/ 124] ما آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن. وبعبارة أخرى: لو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة، فرأوهم بأعينهم مرة بعد أخرى، وسمعوا شهادتهم لك بالرّسالة ولو كلّمهم الموتى بأن نحييهم، فيخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرّسل كما طلبوا: فَأْتُوا بِآبائِنا [الدّخان 44/ 36] ، وحشرنا، أي وجمعنا كلّ شيء من الآيات والدّلائل معاينة ومواجهة، فيخبرونهم بصدق الرّسل فيما جاؤوا به، وقيل: قُبُلًا كفلاء بصحّة ما بشّرنا به وأنذرنا، أو جماعات تعرض عليهم كلّ جماعة بعد أخرى، ما كان شأنهم به يؤمنوا، وليس عندهم الاستعداد أن يصدّقوا لأنهم لا ينظرون في الآيات نظر تأمّل وهداية وعظة، وإنما ينظرون إليها نظر معاداة واستهزاء، لا يؤمنون إلا بمشيئة الله، أي لا يؤمنون ما داموا على صفاتهم، إلّا أن يزيلها الله تعالى إن شاء، فالهداية مقدور عليها من الله، ولكنه تعالى يتركهم وشأنهم بعد أن بصّرهم بطرق الخير والانتفاع بهدي القرآن. فالمراد بقوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار، والمراد من قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هو الإيمان الاختياري، وليس الإيمان الاضطراري، كما قال الرّازي لأن المستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه، والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري «1» .

_ (1) تفسير الرّازي: 13/ 150- 152 [.....]

ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا كفروا، وليس ذلك كما يظنون، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرّشد فأضللته. هذا ما يراه الطبري «1» وهو الظاهر الرّاجح. ويرى الزّمخشري: ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم الله، فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة «2» . يعني أن المعتزلة يرون أن المستثنى هو الإيمان الاضطراري، وأن الضمير في قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ عائد في رأي الزمخشري إلى المسلمين لا إلى الكفار، والمعتزلة يقولون: المراد: أنهم أي المشركون جهلوا أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآيات التي طلبوها، والمعجزات التي اقترحوها، وكان أكثرهم يظنون ذلك. وأهل السّنّة يقولون: المراد: يجهلون بأنّ الكلّ من الله وبقضائه وقدره «3» . قال ابن عباس: المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاصي بن وائل السّهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة، أتوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في رهط من أهل مكة، وقالوا له: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث موتانا حتى نسألهم، أحقّ ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، أي كفيلا على ما تدّعيه، فنزلت الآية «4» . ثمّ أراد الله تعالى التّخفيف على نبيّه ومواساته وتسليته، فأبان أنّ سنّته في الخلق أن يكون للأنبياء عدوّ من الجنّ والإنس، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا ...

_ (1) تفسير الطّبري: 8/ 2 (2) الكشّاف: 1/ 524 (3) تفسير الرّازي: 13/ 152 (4) المرجع السابق: 13/ 149- 150

أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جعلنا لكلّ نبيّ من قبلك أيضا أعداء، فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام 6/ 34] ، وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان 25/ 31] ، وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم: «إنه لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي» أي أنّ سنّة الله جرت على أن يكون بعض الناس أعداء للأنبياء وورثتهم، وكلّ أصحاب دعوات الإصلاح في الأمور الدّينيّة والاجتماعيّة، وهذا ما يعبّر عنه بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، كما قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرّعد 13/ 17] . والعداوة سواء من شياطين الإنس والجنّ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن البصري: من الجنّ شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض. وقال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يوما يصلّي، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «تعوّذ يا أبا ذرّ من شياطين الإنس والجنّ» فقال: أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» «1» . وجاء في سورة البقرة: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ [14] . ثم ذكر تعالى أثر عداوة الشّياطين للأنبياء، وهو مقاومتهم دعوة الله وهدايته، فقال: يُوحِي بَعْضُهُمْ.. أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيّن المزخرف، وهو المزوّق الذي يغتّر سامعه من الجهلة بأمره، وينخدع ويميل إلى رأي القائل، ويتأثّر بإغراء الشياطين بالمعاصي. والوحي: الإيماء والقول السريع، والزّخرف: الذي يكون باطنه باطلا، وظاهره مزيّنا خادعا.

_ (1) ذكره الطبري وابن كثير، ثم قال الأخير: وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذرّ، وقد روي من وجه آخر عن أبي ذرّ رضي الله عنه (تفسير الطّبري: 8/ 5، تفسير ابن كثير: 2/ 166) .

فقه الحياة أو الأحكام:

ولو شاء ربّك ألا يفعلوا هذا التغرير، ما فعلوه، ولكنه لم يشأ أن يجبرهم على الهداية، بل شاء أن يكون الناس مختارين سلوك أي الطريقين: طريق الخير وطريق الشّرّ، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] هذا ما يراه المعتزلة. وقال أهل السّنّة في قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ: وذلك كلّه بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكلّ نبيّ عدوّ من الشياطين. فدعهم وما يفترون أي يكذبون، أي دع مجابتهم واتركهم يخوضون في إفكهم وكذبهم، ولا تأبه لهم، وامض في تبليغ دعوتك وتأدية رسالتك، وتوكّل على الله، فإن الله كافيك وناصرك عليهم، وعليك البلاغ، وعلينا الحساب والجزاء. وقوله: وَلِتَصْغى.. معطوف على فعل مقدر مفهوم مما سبقه، وتقديره: يوحي هؤلاء الشياطين إلى بعضهم زخرف القول والمموه أو المزيّن منه، ليغروا المؤمنين أتباع الأنبياء، ولتميل إليه قلوب الكفار والفسّاق الذين لا يؤمنون بالآخرة لأنه الموافق لأهوائهم. أمّا المؤمنون الواعون الذين ينظرون في عواقب الأمور، فلا ينخدعون بأباطيل الأقوال، ولا تغرّنّهم الزّخارف. وضمير إِلَيْهِ وضمير فَعَلُوهُ راجع إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين. وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي وليرضوه لأنفسهم، وليترتب على ذلك أن يكتسبوا ما هم مكتسبون من المعاصي والآثام بغرورهم به ورضاهم عنه. فقه الحياة أو الأحكام: لن يؤمن الكفار كما سبق في علم الله تعالى، ولو جاءتهم المعجزات العجيبة والآيات البليغة القاطعة الدّالّة على صدق الرّسل. فلو فرض أن الله تعالى أجابهم إلى ما اقترحوه، فأنزل الملائكة إليهم، وعاد الموتى إلى الحياة فكلّموهم، وجمعت لهم

كلّ الآيات معاينة ومواجهة، فإنهم لن يؤمنوا، لتأصّلهم في الكفر، وفقد استعدادهم للإذعان بالحقّ، فأكثر المشركين يجهلون الحقّ ولا يعرفونه. ومن سنّته تعالى في الخلق ظهور أعداء من الإنس والجنّ للأنبياء وأتباعهم، لأنّ الحقّ يعرف بضدّه من الباطل. وأهل الباطل يصغون أسماعهم لما يوسوس به شياطين الجنّ وشياطين الإنس، ويقتنعون بالقول المزيّن المغشوش الذي لا مصداقيّة له ولا صحّة، ولا بقاء ولا استقرار. قال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ، وذلك أنّي إذا تعوّذت بالله، ذهب عنّي شيطان الجنّ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانا. والله قادر على تحويل المشركين إلى مؤمنين، ولكن حكمته ومشيئته وإرادته اقتضت ترك الاختيار إليهم، ليكون الجزاء عدلا مطابقا للواقع. ودلّ قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان، فهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم. ومآل القول المزخرف المزيّن وهو الباطل وعاقبته أنه يستمع إليه ويميل إليه غير المؤمنين بالآخرة، ويرضون به، ويؤدي بهم إلى اكتساب المعاصي واقتراف السّيئات واجتراح الذّنوب. وهكذا فإن عقاب العصاة بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، وليس لله حاجة في تعذيبهم والتّنكيل بهم، وإنّما العقاب أمر يقتضيه العدل المطلق للتّمييز بين المحسنين الأبرار وبين المسيئين الأشرار، فلا يعقل التّسوية بين من لازم الطاعة، فعمل والتزم أوامر الله، وبين من قارف المعصية، فأعرض واستكبر، وعتا

القرآن الكريم دليل صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الأنعام (6) الآيات 114 إلى 115] :

وعاند، وتنكّر لأوامر الله ولم يأبه بما حظره الله ومنعه، وأهمل نداء الحقّ والخير. القرآن الكريم دليل صدق رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) الإعراب: أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأبتغي. حَكَماً إما منصوب على الحال، أو على التّمييز. مُنَزَّلٌ نائب الفاعل له ضمير مستتر يعود على الكتاب. مِنْ رَبِّكَ في موضع نصب لأنه يتعلّق بمنزّل. بِالْحَقِّ حال من ضمير مُنَزَّلٌ. صِدْقاً وَعَدْلًا منصوبان على المصدر، وقيل: يجوز كونهما مصدرين في موضع الحال، بمعنى صادقة وعادلة. البلاغة: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الخطاب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم على طريق إثارة الحماسة وإلهاب المشاعر، أو التّهييج والإلهاب، كقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 14] . وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، أي تمّ كلامه ووحيه. المفردات اللغوية: أَبْتَغِي أطلب. حَكَماً قاضيا بيني وبينكم، والحكم: من يحكم بالحقّ فقط، فهو أبلغ من الحاكم إذ لا يستحق التّسمية بحكم إلا من يحكم بالحقّ لأنها صفة تعظيم في مدح، أما الحاكم

المناسبة:

فهو صفة جارية على الفعل، فقد يسمّى بها من يحكم بغير الحقّ. مُفَصَّلًا مبيّنا فيه الحقّ والباطل، والحلال والحرام. الْمُمْتَرِينَ المترددين الشّاكين. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ المراد بالتّمام هنا: أن كلمة الله وافية في الإعجاز، والدّلالة على صدق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالكلمة هنا: القرآن. وأصل معنى تمام الشيء: انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه. صِدْقاً الصدق يكون في الأخبار ومنها المواعيد. وَعَدْلًا العدل يكون في الأحكام. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ التّبديل: التّغيير بالبدل، والمعنى: لا مبدّل لكلمات الله بنقض أو خلف. المناسبة: بعد أن ندّد الله تعالى بالكفار الذين أقسموا بالله ليؤمنن بالآيات إذا جاءتهم، وأبان أنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرّين على كفرهم، أبان هنا أنّ الدّليل الدّال على نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم قد حصل من وجهين: الأول- أنه أنزل إليه الكتاب المفصّل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة، وقد عجز الخلق عن معارضته، مما يدلّ على صدق نبوّته. والثاني- اشتمال التّوراة والإنجيل على الآيات الدّالة على أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول حقّ، وعلى أنّ القرآن كتاب حقّ من عند الله، وهو المراد بقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ. والوجهان مذكوران في قوله تعالى: قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد 13/ 43] . وبعد أن بيّن تعالى أنّ القرآن معجز، ذكر أنّه تمّت كلمة ربّك، أي القرآن، والمراد: تمّ القرآن في كونه معجزا دالّا على صدق محمد عليه الصّلاة والسّلام. التّفسير والبيان: يأمر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره:

ليس لي أن أطلب قاضيا بيني وبينكم لأنه لا حكم أعدل من حكم الله، ولا قائل أصدق من قوله، وهو الذي أنزل إليكم القرآن مبيّنا فيه حكم كلّ شيء، من العقائد والشّرائع والآداب، وقد جاوزت سنّ الأربعين، ولم يصدر عنّي مثله في العلوم والمعارف، والأخبار الماضية والمستقبلة، ولا في الفصاحة والبلاغة، كما قال تعالى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يونس 10/ 16] ، أي: أفغير الله أطلب لكم حاكما، وهو الذي كفاكم مؤنة المسألة، في الآيات، بما أنزله إليكم من الكتاب المفصّل، أي المبين. وبعبارة أخرى: لا فائدة من طلبكم دليلا على صدق نبوّتي، فهناك دليلان واضحان يؤيّدان رسالتي، وهما الآية الكبرى وهي القرآن المعجز الدّال بإعجازه على أنّه كلام الله، واشتمال التّوراة والإنجيل على ما يدلّ على أنّي رسول الله حقّا وأنّ القرآن كتاب حقّ من عند الله تعالى. وإن أنكر هؤلاء المشركون أحقيّة القرآن وكذّبوا به، فإن اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربّك بالحقّ، بما ورد عندهم من البشارات بك، على لسان الأنبياء المتقدّمين، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] . فلا تكونن يا محمد من المترددين الشّاكين، وهذا على أسلوب التّهييج والإلهاب، أو على طريق التّعريض، كقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يونس 10/ 105] ، وقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس 10/ 94] . وليس هذا النّهي مؤذنا بوقوع الشّك من النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه شرط، والشّرط

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يقتضي وقوعه، لذا قال عليه الصّلاة والسّلام: «لا أشكّ ولا أسأل» . وتمّ كلام الله وهو القرآن، فلا يحتاج إلى إضافة شيء فيه، وأصبح كافيا وافيا بإعجازه وشموله، ودلالته على الصدق، فهو صادق فيما يقول، عدل فيما يحكم، صدقا في الإخبار عن الغيب، وعدلا في الطلب، فكلّ ما أخبر به فهو حقّ لا مرية فيه ولا شكّ، وكلّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكلّ ما نهى عنه فباطل، فإنه لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن مفسدة وشرّ، كما قال تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف 7/ 157] . وكلّ ما ورد في القرآن من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وقصص وخبر لا تغيير فيه ولا تبديل لكلمات الله، وليس أحد يعقب حكمه تعالى، لا في الدّنيا ولا في الآخرة. وهو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كلّ عامل بعمله. فقه الحياة أو الأحكام: الآية الأولى بتّ قاطع في مسألة التّحكيم الذي طالب به المشركون بينهم وبين النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي ردّ مفحم عليهم بأنّه قد قام الدّليل القاطع على إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم من ناحيتين: الأولى- تأييده بالقرآن الكريم وهو المعجزة الدائمة الخالدة الدّالة على النّبوة. الثانية- معرفة أهل الكتاب وبشارات أنبيائهم به وبصدقه وبصدق القرآن. ودلّت الآية الثانية: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ على وجوب اتّباع دلالات

ضلالات المشركين والمنع من أكل ذبائحهم [سورة الأنعام (6) الآيات 116 إلى 121] :

القرآن لأنّه حقّ لا يمكن تبديله بما يناقضه لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها. والكلمات كما قال قتادة: هي القرآن لا مبدّل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. ضلالات المشركين والمنع من أكل ذبائحهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 121] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الإعراب: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر دلّ عليه أَعْلَمُ وتقديره: يعلم من يضل عن سبيله. ولا يجوز أن يكون في موضع جر لأنه يستحيل المعنى، ويصير التقدير: إن ربك هو أعلم بالضالين لأن أفعل إنما تضاف إلى ما هو بعض له، وذلك كفر محال. مثل قوله

البلاغة:

تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] حيث: في موضع نصب بفعل مقدر، دلّ عليه: أعلم لأن حيث هاهنا اسم محض، وتقديره: يعلم حيث يجعل رسالته، ولا يجوز أن تكون حيث في موضع جر لأنها بمعنى مكان، فيكون التقدير: الله أعلم أمكنة رسالاته، وهذا أيضا كفر. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا: أن في موضع نصب بحذف حرف الجر. وما استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها، وتقديره: وأي شيء لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه. البلاغة: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يوجد طباق بين لفظ ظاهِرَ و «باطن» . المفردات اللغوية: أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي الكفار. سَبِيلِ اللَّهِ دينه. إِنْ ما. يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في مجادلتهم لك في أمر الميتة، إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم. يَخْرُصُونَ يحدسون ويقدرون ويكذبون في ذلك. والخرص: الحدس والتخمين. أَعْلَمُ أي عالم. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي ذبح على اسم الله. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح. وَقَدْ فَصَّلَ بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرّمات. هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحلال إلى الحرام. وَذَرُوا اتركوا. ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ علانيته وسره، والإثم: القبيح، وشرعا: ما حرمه الله من كل معصية كالزنى والسرقة ونحوهما. سَيُجْزَوْنَ في الآخرة. يَقْتَرِفُونَ يكتسبون. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن مات أو ذبح على اسم غيره، وإلا فما ذبحه المسلم ولم يسم فيه عمدا أو نسيانا فهو حلال، كما قال ابن عباس، وأخذ به الشافعي. وَإِنَّهُ أي الأكل منه لَفِسْقٌ معصية وخروج عن دائرة الدين إلى ما لا يحل. لَيُوحُونَ يوسوسون. إِلى أَوْلِيائِهِمْ أعوانهم الكفار. لِيُجادِلُوكُمْ في تحليل الميتة. سبب النزول: نزول الآية (118) : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ: روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس

نزول الآية (121) :

قال: أتى ناس النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... إلى قوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. وأخرج أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عباس في قوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ.. قال: قالوا: ما ذبح الله لا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم تأكلون؟ فأنزل الله الآية. نزول الآية (121) : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ..: قال المشركون: يا محمد، أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: الله قتلها، قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا، فقولوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكّين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب، يعني الميتة، فهو حرام، فنزلت هذه الآية: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم قريش. وعبارة عكرمة في ذلك هي: إن المجوس من أهل فارس، لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش، وكانوا أولياءهم في الجاهلية، وكانت بينهم مكاتبة: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبح الله فهو حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: 128

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أجاب الله تعالى عن شبهات الكفار، وأثبت صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الجهال لأنهم يسلكون سبيل الضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة، وهذا المنهج بالتعبير الحديث تحييد لأهل الإسلام، وتوفير لاستقلال شخصيتهم، وإبراز ذاتيتهم، بالرغم من أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا بسبب غلبة الشرك على عقائدهم. التفسير والبيان: لا يلتفت في شرعة الحق والقرآن إلى مسالك أهل الضلال والشرك لاتباعهم الظنون الفاسدة، وإن تطع يا محمد وكل من تبعك أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين في أمور الدين، وتخالف ما أنزل الله عليك، يضلون عن دين الله ومنهجه وسبيله، سبيل الحق والعدل والاستقامة إذ هم لا يتبعون إلا الأهواء والظنون الباطلة أو الكاذبة، ولا يقيمون وزنا للبراهين الإلهية، والأدلة العقلية، وإن هم إلا يحزرون ويحدسون أو يخمنون تخمينا عاريا عن الصحة والحقيقة كخارص ثمر النخل والعنب وغيرهما، فاعتقادهم قائم على الحدس والتخمين، لا على البرهان والدليل. وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا في الاعتقاد فلازموا الشرك، وفي النبوات فأنكروها، وفي الأحكام التشريعية كإحلال الميتة والدم والخمر وتحريم المواشي البحائر والسوائب والوصائل. وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات 37/ 71] وقوله: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] . وإن ربك يعلم بالضالين عن سبيله القويم، ويعلم أيضا بالمهتدين السالكين سبيل الاستقامة، وليس كما يزعم المشركون. وهذا تحذير مؤكد لما سبق من

ضرورة رفض منهج أهل الضلال، ومسلك أهل الشرك والأهواء. ولما كان المشركون يعتبرون الذبائح لغير الله من أصول الشرك، وكان حال أكثر الناس الضلالة والكفر، أمر الله المؤمنين بما هو من أصول الاعتقاد بالله، وهو الأكل مما ذكر اسم الله عليه وذبح باسم الله، فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. أي احذروا بما ذبح للأصنام والأوثان ولغير الله، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره، إن كنتم بآيات الله الدالة على الهدى والنور والعقيدة الصحيحة مؤمنين مصدقين بها، مكذبين بما يناقضها من الشرك والوثنية والضلال. فهذه إباحة واضحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا ما ذكر عليه اسمه، ترسيخا لأصل الاعتقاد بالله، وردا على مشركي العرب وغيرهم الذين كانوا يجعلون الذبائح من أمور العبادات وأصول الدين والاعتقاد، فيتقربون بالذبائح لآلهتهم. ومفهوم الآية أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها. وجمهور المفسرين على أن في هذه الآية حصرا مستفادا من جهتين: الأولى- مما ذكر في الآية السالفة من عدم اتباع المضلين، والثانية- من الشرط في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فيكون المعنى: اجعلوا أكلهم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، ولا تتعدوه إلى الميتة. ثم ندب تعالى إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأنكر أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه، من البحائر والسوائب وغيرها، فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وفي ذلك إشارة إلى ضرورة رفض عوائد الجاهلية واعتراضاتهم وشبهاتهم الواهية.

وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ.. أي ليس هناك ما يمنعكم، أو أي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، والحال أنه قد بين لكم المحرم عليكم في قوله: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام 6/ 145] ومعنى الأخير: ما ذكر عليه اسم غير الله كالأصنام والأنبياء والصالحين، فبقي ما عدا ذلك على الحل. ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرم عليكم، فإنه يباح لكم ما وجدتم حال الضرورة. ومن هذه الآية وأمثالها أخذت القاعدة الشرعية: «الضرورات تبيح المحظورات» وقاعدة: «الضرورة تقدر بقدرها» . ثم بيّن الله تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلاهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى، فقال: وَإِنَّ كَثِيراً ... أي إن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، بأهوائهم وشهواتهم الباطلة، وبغير علم أصلا، إنما هو محض الهوى، والله أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم، وسيجازيهم على هذا الاعتداء والتجاوز، ولا محالة، مثل عمرو بن لحيّ وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وأحلوا أكل الميتة، وما أهل به لغير الله بذكر اسم نبي أو وثن أو صنم. ثم أمر تعالى بترك جميع الآثام والمعاصي، فقال: وَذَرُوا ظاهِرَ ... أي اتركوا جميع المعاصي والمحرمات ما أعلنتم وما أسررتم، قليله وكثيره، سواء ما تعلق بأفعال الجوارح والأعضاء كالزنى مع البغايا وأفعال القلوب كالحقد والحسد والكبر والمكيدة، والزنى مع الخليلة والصديقة والأخدان، ومن المعاصي تجاوز المضطر حدّ الضرورة المبين في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ، فَإِنَّ رَبَّكَ

غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام 6/ 145] وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة 5/ 3] . والإثم لغة: ما قبح، وشرعا: ما حرمه الله، ولم يحرم الله شيئا إلا لضرره. والصحيح- كما قال ابن كثير- أن الآية عامة في ذلك كله، وهو ما ذكر، وهي كقوله تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف 7/ 33] ولهذا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي سواء كان ظاهرا أو خفيا، فإن الله سيجزيهم عليه، أي أنه لا بد من أنه سيجازي مرتكب المعاصي على عصيانهم إذا ماتوا ولم يتوبوا. وجاء تعريف الإثم في حديث النواس بمن سمعان فيما أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن: «الإثم: ما حاك في النفس وتردد في الصدر» وفي رواية مسلم: «الإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس» . أما من تاب توبة صحيحة صادقة، وندم على ما فرط، فإن الله يغفر له ما بدر منه من الذنوب لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 116] وكذلك فعل الحسنة عقب السيئة يمحوها، لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] . وورد في حديث أبي ذر جندب بن جنادة ومعاذ بن جبل فيما أخرجه الترمذي: «واتبع السيئة الحسنة تمحها» . ثم صرح الله تعالى بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق، وهو قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فقال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات ولم يذبح ولم يذكر اسم الله عليه، ولا ما ذبح لغير الله وهو ما كان يذبحه المشركون لأوثانهم، والذبح لغير الله والأكل من المذبوح فسق ومعصية، قال عطاء في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ

فقه الحياة أو الأحكام:

اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس. والمتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله. ثم ردّ الله تعالى على مجادلات المشركين في إباحة الميتات فقال: وَإِنَّ الشَّياطِينَ ... أي إن شياطين الإنس والجن ليوسوسون إلى أوليائهم وأعوانهم من المشركين ليجادلوا محمدا وصحبه في أكل الميتة، كما تقدم، وإن أطعتموهم فيما يزعمون من استحلال الميتة، إنكم لمشركون مثلهم لأنكم عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، وهذا هو الشرك كقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله، ما عبدوهم؟ فقال: «بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» . قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحلّ شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى، فهو مشرك لأنه أثبت مشرّعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه. وقوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ... على تقدير القسم، وحذف اللام الموطئة للقسم، أي ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون، فيكون جواب القسم أغنى عن جواب الشرط. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يلي:

1- إباحة ما ذبحه المسلم وذكر اسم الله عليه. 2- الأمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. 3- إن الإيمان بأحكام الله والأخذ بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها. 4- عدم إباحة ما لم يذكر اسم الله عليه كالميتات وما ذبح على النصب (الحجارة حول الكعبة) وغيرها. 5- إباحة المحرّمات حال الضرورة الشرعية بقدر ما تقتضيه الضرورة. 6- عدم الالتفات لآراء المشركين الزائفة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى. 7- تحريم ارتكاب جميع المعاصي، سواء في السرّ أو في العلن، وسواء أفعال الجوارح كاليد والرجل، وأفعال القلوب كالحسد والحقد. 8- الجزاء أمر محتم واقع يوم القيامة على كل معصية، والعصاة معذبون يجازيهم الله تعالى لا محالة. 9- كل من استحل حراما أو حرم حلالا، واتبع غير أحكام الله في شرعه ودينه، فهو كافر ومشرك لأنه أشرك بالله غيره، وأثبت مشرّعا سوى الله، بل آثر حكمه على حكم الله. أما ما يذبح عند استقبال الحاكم أو الحاج فهو في رأي الحنفية حرام أكله، لأنه مما أهلّ به لغير الله. ورأى بعض الشافعية أن المقصود من الذبح الاستبشار بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، وهذا لا يوجب التحريم، وهذا هو المعقول.

لكن لو كان الذبح بين رجلي القادم أو مرّ عليه من فوقه، فلا يؤكل لأنه ذبح أهل لغير الله به، أي ذكر اسم غير الله عليه. 10- استدل بعض العلماء بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما. وهذه مسألة متروك التسمية عمدا أو سهوا، وقد اختلف فيها العلماء: أ- فقال داود الظاهري: لا تؤكل ذبيحة المسلم إن تعمد ترك التسمية أو نسي التسمية، لظاهر هذه الآية الكريمة. ب- وقال الشافعية: متروك التسمية حلال مطلقا لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة 5/ 3] فأباح المذكى ولم يذكر التسمية، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة، فإن الذكاة لغة: الشق والفتح، وقد وجدا، واستدلوا أيضا بحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية، يأتون بلحمان، لا ندري اذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، فنأكل منها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سموا وكلوا» : وروى أبو داود حديثا مرسلا عن الصلت السدوسي: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر» . وروى الدارقطني عن البراء بن عازب: «اسم الله على قلب كل مؤمن، سمّى أو لم يسمّ» . لكن التسمية سنة مستحبة عند أكل كل طعام وشراب. والمراد من الآية: ما ذبح للأصنام لأن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، وقد قال الله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ولأن الله تعالى وصف من أكل ذبيحة الأصنام ورضي بها بالشرك، ولأن قوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوص بما أهل به لغير الله، بدليل آية أخرى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام 6/ 145] .

مثل المؤمن المهتدي والكافر الضال [سورة الأنعام (6) الآيات 122 إلى 123] :

ج- وذهب الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) إلى أن متروك التسمية عمدا حرام لا يؤكل وهو ميتة، ويحل أكل متروك التسمية سهوا، أو كان الذابح المسلم أخرس أو مستكرها. وأضاف الحنابلة: من ترك التسمية على الصيد ولو سهوا، لم يؤكل، أي أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو، وعلى الصيد لا تسقط. ودليل الجمهور: قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل» وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تسمية الله في قلب كل مسلم» والناسي ليس بتارك للتسمية، بل هي في قلبه، فيكون متروك التسمية عمدا حراما، ومتروك التسمية سهوا ليس مما لم يذكر اسم الله عليه، ولم يلحق العامد بالناسي لأنه بترك التسمية عمدا كأنه نفى ما في قلبه. مثل المؤمن المهتدي والكافر الضال [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) الإعراب: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فيه مضاف محذوف تقديره: أو مثل من كان ميتا، بدليل: كَمَنْ

البلاغة:

مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ . ومَنْ اسم موصول مبتدأ، والكاف في كَمَنْ خبره، واسم كان ضمير يعود إلى مَنْ ومَيْتاً خبرها، والجملة من الفعل واسمه وخبره صلة مَنْ. لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في قوله: فِي الظُّلُماتِ. مُجْرِمِيها مفعول أول لجعلنا، وأَكابِرَ مفعول ثان مقدم. لِيَمْكُرُوا اللام: لام كي. البلاغة: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ نُوراً ... فِي الظُّلُماتِ الموت والحياة، والنور والظلمات: استعارة، فقد استعار الموت للكفر، والحياة للإيمان، والنور للهدى، والظلمات للضلال. المفردات اللغوية: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً بالكفر. فَأَحْيَيْناهُ بالهدى. وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان. كَمَنْ مَثَلُهُ مثل: زائدة أي كمن هو، والمثل: الصفة والنعت. فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وهو الكافر. كَذلِكَ زين للمؤمنين الإيمان كما زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي. وَكَذلِكَ كما جعلنا فساق مكة أكابرها. جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها الأكابر: الرؤساء، جمع كبير أو أكبر، والمجرمون: مرتكبو الاجرام، والاجرام: هو الإفساد والإضرار من الأفعال والأقوال، والقرية: البلد الذي يجمع فيه الناس، وقد تطلق على الشعب أو الأمة. لِيَمْكُرُوا فِيها بالصدّ عن الإيمان. وَما يَمْكُرُونَ المكر: التدبير الخفي لصرف الغير عما يريده بحيلة أو خديعة أو تدليس قولي. إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله عليهم. سبب النزول: نزول الآية (122) : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً: أخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس في قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قال: نزلت في عمر وأبي جهل. وأخرج ابن جرير الطبري عن الضحاك مثله، وذكر أبو بكر

المناسبة:

لحارثي عن زيد بن أسلم مثله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً قال: عمر بن الخطاب كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ قال: أبو جهل بن هشام. وذكر الواحدي النيسابوري عن ابن عباس قال: قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفرث، وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به، سفّه عقولنا، وسبّ آلهتنا، وخالف آباءنا؟ قال حمزة: ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . اتفقت الروايات على أن الكافر الضال هو أبو جهل، وأما المؤمن المهتدي فقيل: حمزة، وقيل: عمر رضي الله عنهما، والصحيح كما قال ابن كثير والقرطبي: أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر «2» . المناسبة: ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظنون الزائفة والتخمينات، وأن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله، ثم ذكر هنا مثلا يوضح حال المؤمن المهتدي وحال الكافر الضال، فأبان أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا، فجعل حيا بعد ذلك، وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها، لا خلاص له منها، فيكون متحيرا على الدوام.

_ (1) أسباب النزول: 128 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 172، تفسير القرطبي: 7/ 78

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا، أي في الضلالة، هالكا حائرا، فأحياه الله، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له، ومثل ضربه الله للكافر المنغمس في الظلمات أي الجهالات والأهواء والضلالات. هذه مقارنة أو موازنة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، أفمن كان ميتا بالكفر والجهل، فأحييناه بالإيمان، وجعلنا له نورا يضيء له طريقه بين الناس، وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان؟ وهو أيضا نور الهدى والإيمان؟ كمن مثله مثل السائر في الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وهو ليس بخارج منها، أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه. وفي المقارنة بين المؤمن والكافر وردت آيات كثيرة، منها: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك 67/ 22] . ومنها: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود 11/ 24] ومنها: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر 35/ 19- 23] . وإذا كان الاهتداء إلى الإيمان والانغماس في ظلمات الكفر والضلال بسبب من الإنسان واختيار منه، فإن الله تعالى يزيد المؤمنين توفيقا إلى الخير، ويترك الكافرين سائرين في متاهات الكفر، لذا ختم الله الآية بقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي كما زين الإيمان للمؤمنين، زين للكافرين الكفر والمعاصي، أي حسّن لكل فريق عمله، فحسّن الإيمان في أنظار المؤمنين، وحسّن الكفر والجهالة والضلالة في أعين الكافرين، كعداوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وذبح القرابين

لغير الله، وتحريم ما لم يحرمه الله، وتحليل ما حرمه. وقال ابن كثير: حسّن لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة، قدرا من الله وحكمة بالغة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأورد حديثا في المقارنة المتقدمة بين المؤمن والكافر، رواه الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه ضلّ» «1» . ثم أورد الله تعالى ما يدلّ على سنته الثابتة في البشر، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ.. أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم، وجعلهم الله أكابرها مع أنهم فسّاقها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها رؤساءها ودعاتها إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله، ليمكروا فيها بالصدّ عن سبيل الله لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس بحكم نفوذهم وسيادتهم وسيطرتهم. وهكذا سنة الله في المجتمعات البشرية، يثور النزاع بين الحق والباطل، ويشتد الصراع بين الإيمان والكفر، ولكل اتجاه أعوانه وأنصاره، وسادته وكبراؤه، والأنبياء وأتباعهم من المصلحين يوجدون في هذا الوسط المتصارع، فيتبعهم الضعفاء، ويكفر بهم الأشراف، وينصرهم الأوساط، ويقاوم دعوتهم الأكابر المجرمون الذي يعادون حركة الإصلاح والتقدم، والبناء والتحضر، في كل بيئة ومجتمع. ولكن العاقبة والنصر للمتقين المصلحين، والهزيمة أو الانقراض والخذلان للكافرين المفسدين، وما يمكر هؤلاء الأكابر المجرمون المعادون للرسل إلا بأنفسهم لأن وبال مكرهم عليهم، وعاقبة إفسادهم تلحق بهم، لكنهم عديمو النظر للمستقبل والواقع، والاعتبار بالماضي، وعديمو الشعور والإحساس،

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 172

فقه الحياة أو الأحكام:

وما يشعرون شعورا صادقا صحيحا بمدى أعمالهم. وهذا مؤيد للقاعدة الاجتماعية الشهيرة وهي تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، كما قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد 13/ 17] . وقد ساد هذا وصار سنة متبعة أيضا في الماضين الأولين، فقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل 27/ 50- 51] أي أن الذين مكروا حفاظا على نفوذهم ومراكزهم، لم يشعروا بأن عاقبة مكرهم تحقيق بهم، لجهلهم بسنن الله في خلقه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي: 1- المؤمن المهتدي كمن كان ميتا فأحياه الله، فهو الذي ينعم بحق بالحياة الصحيحة السوية المتكاملة المطمئنة لأنه على بصيرة تامة بواقعة وعمله وسيرته، وعلى معرفة دقيقة بدينه وما ينتظره من مستقبل حافل بالآمال العذبة، والخيرات المغدقة، والنعيم الخالد. والكافر الضال يعيش في الواقع في ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمة الكفر، وظلمة المنهج والطريق، وظلمة المستقبل الغامض، المحفّل بشتى ألوان العذاب والضيق والحيرة والقلق والاضطراب. 2- سنة الله في الاجتماع البشري أن يكون النفوذ والسيطرة لأكابر المجرمين، وقادة الفسق والعصيان، وأهل الانحراف الذين يعادون الرسل، ويقاومون حركة الإصلاح في كل زمان.

تعنت المشركين ومطالبتهم بالنبوة [سورة الأنعام (6) آية 124] :

ولكن العاقبة والفوز والفلاح في النهاية لأهل الحق والإيمان والاستقامة، والخسارة والدمار ووبال المكر لأهل الكفر والضلال. وهذا من الله عز وجل وهو الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم، والحال أنهم لا يشعرون الآن، لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم. وقد أثار المفسرون بمناسبة قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مسألة الجبر والقدر، فقال أهل السنة: ذلك المزين هو الله تعالى لأن كل فعل يتوقف على باعث له كائن بخلق الله تعالى، والباعث أو الداعي له: عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن بأن الفعل مشتمل على نفع وصلاح، وهذا الباعث هو التزيين، فإذا كان موجد هذا الباعث أو الداعي هو الله تعالى، كان المزين لا محالة هو الله تعالى كما قال: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل 27/ 4] . وقالت المعتزلة: ذلك المزين هو الشيطان، الذي أقسم: لأغوينهم أجمعين. وهذا الرأي غريب وضعيف لأن الله تعالى صرح بأنه هو المزين، ولا مزين آخر سواه «1» . تعنت المشركين ومطالبتهم بالنبوة [سورة الأنعام (6) : آية 124] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 171

الإعراب:

الإعراب: اللَّهُ أَعْلَمُ جملة من مبتدأ وخبر، وهو كلام مستأنف للإنكار عليهم، والإخبار بألا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم. صَغارٌ فاعل مرفوع لفعل: يصيب. المفردات اللغوية: وَإِذا جاءَتْهُمْ أي أهل مكة. آيَةٌ أمارة وحجة ودليل قاطع على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم. حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من الرسالة والوحي إلينا، لأننا أكثر مالا وأكبر سنا. حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ مفعول به لفعل دلّ عليه أعلم، أي يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه، فيضعها، وهؤلاء ليسوا أهلا لها. أَجْرَمُوا ارتكبوا جرما بقولهم ذلك. صَغارٌ ذل وهوان، بسبب الكفر والطغيان. وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من الأسر والقتل، وعذاب النار. سبب النزول: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها من محمد لأني أكبر منه سنا، وأكثر منه مالا وولدا «1» . المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى سنته في البشر بأن يكون في كل بلد أو جماعة زعماء مجرمون يقاومون دعوة الرسل والإصلاح، أوضح أن هذه السنة موجودة في زعماء مكة الذين دفعهم المكر والحسد إلى أنه متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله. التفسير والبيان: إذا جاءتهم، أي المشركين، آية وبرهان وحجة قاطعة من القرآن تتضمن

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 80

صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تبليغه وحي ربه، قالوا حسدا منهم وتعنتا وغرورا وظنا منهم أن النبوة منصب دنيوي: لن نؤمن حتى يكون لنا مثل محمد منصب عند الله، وتظهر على أيدينا آية كونية أو معجزة مثلما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى لأنهم أكثر مالا وأولادا وأعز جانبا ورفعة بين الناس. وقال ابن كثير: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة، كما تأتي إلى الرسل، كقوله جلّ وعلا: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان 25/ 21] . وهكذا يظهر أن مشركي مكة أكابر قريش طمحوا أن تكون النبوة في بعضهم، كما حكى تعالى عنهم: وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف 43/ 32] والقريتان: مكة والطائف. وفي آية أخرى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر 74/ 52] . فردّ الله عليهم بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه. فالرسالة منصب ديني له مقومات خاصة، وفضل من الله يمنحه من يشاء من عباده، لا ينالها أحد بكسب أو جهد، أو بسبب أو نسب، أو بخصائص دنيوية عادية كالمال والولد والزعامة والنفوذ، وإنما تؤتى من هو أهل لها لسلامة فطرته، وطهارة قلبه وقوة روحه، وحسن سيرته، وحبه الخير والحق. ثم أوعد الله المتخلفين عن الإيمان بدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ... أي سيلحق المجرمين يوم القيامة ذل وهوان دائمان، ويدركهم العذاب المؤلم الشديد، جزاء بما كانوا يمكرون، وعقوبة لتكبرهم عن

فقه الحياة أو الأحكام:

اتباع الرسل، والانقياد لهم فيما جاؤوا به، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] أي صاغرين ذليلين حقيرين. ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] . ومعنى كون العذاب من عند الله: أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، كما قال تعالى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر 39/ 25- 26] . فقه الحياة أو الأحكام: النبوة أو الرسالة تمنح لمن هو مأمون عليها وموضع لها، وأقدر على تحمل أعبائها، وليست هي مثل مناصب الدنيا التي تعتمد على النفوذ والسلطة أو المال والجاه، أو النسب، أو كثرة الأعوان والأولاد. وما على الناس إلا الإيمان بما جاء به الأنبياء لأن نبوتهم تثبت بدليل قاطع، وبمعجزة خارقة للعادة. فإن لم يؤمنوا أصابهم أمران: صغار وذل وهوان، وعذاب الله الشديد في الآخرة، بسبب إجرامهم ومكرهم، وحسدهم وحقدهم، وهذا حق وعدل، تمييزا بين الطائعين وبين العصاة، وإنما قدم الصغار على ذكر الضرر، لأن القوم إنما تمردوا على طاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم طلبا للعز والكرامة، فقابلهم الله بضد مطلوبهم. والمشهور في تفسير الآية أن زعماء مكة أرادوا أن تحصل لهم النبوة والرسالة،

سنة الله في المستعدين للإيمان وغير المستعدين وجزاء الفريقين بعد بيان الحق ومنهجه [سورة الأنعام (6) الآيات 125 إلى 128] :

كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين. ولكن الله تعالى أبان لهم أنهم غير أهل للنبوة، وأنهم أيضا سيتعرضون للهوان والذل، والإلقاء في جهنم، وهذا عقاب المعرضين عن اتباع الأنبياء، استكبارا وعتوا وعلوا في الأرض. سنّة الله في المستعدّين للإيمان وغير المستعدّين وجزاء الفريقين بعد بيان الحق ومنهجه [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 128] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) الإعراب: ضَيِّقاً مفعول ثان ل يَجْعَلْ. حَرَجاً من قرأ بفتح الرّاء جعله مصدرا، ومن قرأ بكسرها جعله اسم فاعل، وهو صفة منصوب لقوله ضَيِّقاً. كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ في موضع الحال من الضمير في حرج وضيق.

البلاغة:

مُسْتَقِيماً منصوب على الحال المؤكّدة من: صِراطُ، وإنّما كانت مؤكّدة لأن صراط الله تعالى لا يكون مستقيما. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَوْمَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر يوم نحشرهم. وجَمِيعاً: منصوب على الحال من الهاء والميم في نحشرهم. النَّارُ مَثْواكُمْ يجوز أن يكون المثوى مصدرا بمعنى الثواء وهو الإقامة، ويجوز أن يكون مكانا أي مكانا للإقامة، فإذا كان مصدرا كان هو العامل في الحال: خالِدِينَ فِيها، وإذا كان مكانا كان العامل في الحال معنى الإضافة لأن معناه المضامّة والمماسّة، مثل قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر 15/ 47] ، وقوله تعالى: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر 15/ 66] وليس في التّنزيل حال عمل فيها الإضافة إلا هذه المواضع الثلاثة. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ما: في موضع النصب على الاستثناء المنقطع، فإن جعلت ما لمن يعقل لم يكن منقطعا. البلاغة: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ فيه إيجاز بالحذف أي أفرطتم في إضلال وإغواء الإنس. ومثله اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي استمتع بعض الإنس ببعض الجنّ، وبعض الجنّ ببعض الإنس. النَّارُ مَثْواكُمْ تعريف الكلمتين لإفادة الحصر. المفردات اللغوية: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يوسّعه لقبول الإيمان والخير، أو يقذف في قلبه نورا، فينفسخ له ويقبله، كما ورد في حديث، والمراد جعل النفس مهيأة لقبول الحقّ فيها. ضَيِّقاً ضدّ الواسع. حَرَجاً بفتح الرّاء وكسرها: شديد الضيق، من الحرجة: وهي الشّجر الكثير الملتف بحيث يصعب الدّخول فيه. يَصَّعَّدُ أو يصّاعد أي يتصاعد في السماء، ويسبح في الفضاء، وكأنّما يزاول أمرا غير ممكن إذا كلف الإيمان، لشدّته عليه. كَذلِكَ الجعل. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي يسلط الله العذاب أو الشيطان، وأصل الرّجس: كل ما يستقذر حسّا أو شرعا أو عقلا. وَهذا منهج محمد ودينه. صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه لخلقه. مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ. قَدْ فَصَّلْنَا بيّنا. لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي يتّعظون، وخصّوا بالذّكر لأنهم المنتفعون. لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي دار السّلامة، وهي الجنّة. وَلِيُّهُمْ متولّي أمورهم وكافيهم ما يهمّهم. يا مَعْشَرَ المعشر: القوم والرّهط وهو الجمع من الرجال فحسب. قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ

المناسبة:

الْإِنْسِ اسْتَكْثَرْتُمْ أخذتم الكثير بإغوائكم. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ الذين أطاعوهم في وسوستهم. اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشّهوات، والجنّ بطاعة الإنس لهم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا وصلنا يوم البعث والجزاء أو الموت. خالِدِينَ فِيها الخلود: المكث الطويل غير المحدد بوقت. النَّارُ مَثْواكُمْ مأواكم. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من الأوقات التي يخرجون فيها لشرب الحميم، فإنه خارجها، كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات 37/ 68] أو ينقلون من عذاب النار إلى عذاب الزّمهرير. حَكِيمٌ في صنعه. عَلِيمٌ بخلقه. المناسبة: هذه الآيات استمرار في مناقشة مواقف تعنّت المشركين والرّدّ عليهم وتفنيد حججهم وشبهاتهم، وهي الآن تحسم الأمر، فتوضح أنهم ليسوا أهلا للإيمان، وغير مستعدّين لقبوله، كما أوضح في الآية السابقة أنهم غير أهل للنّبوة. وعلى كلّ حال: طريق الحقّ قد بان لكلّ ذي بصيرة، ومنهج الاستقامة الذي يرضي الله قد تجلّى لكلّ البشريّة، فمن قبله فله دار السّلامة، ومن أعرض عنه فله عذاب النار. وقبل هذا الجزاء يوجد الحشر والحساب، وإقامة الحجّة على الكفار. التفسير والبيان: عرف من الآية السابقة أن المشركين سيلقون جزاء عنادهم وغرورهم، وهنا كلمة الفصل: وهي أن الأمر كله لله، فلا يهتمن أحد، ولا يحزن على إعراض المشركين عن دعوة الإسلام، فمن يرد الله أن يوفقه للحقّ والخير والإسلام، ومن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة القرآن، فإنه يشرح صدره له، وييسره وينشطه ويسهله لذلك، كقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزّمر 39/ 22] ، وقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/ 7] . قال ابن عباس في آية يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ: يقول تعالى: يوسّع

قلبه للتوحيد والإيمان به. وهو تفسير ظاهر مقبول. وجاء في حديث رواه عبد الرزاق عن أبي جعفر: وسئل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه، فينشرح له وينفسح» قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» . وروى ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن أبي جعفر أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت» «1» . وإلقاء هذا النور يكون في موضعه: في النفس التي حسنت فطرتها، وطهرت، وكان فيها استعداد للخير، وميل إلى اتباع الحق. ومن فسدت فطرته بالشرك، وتدنست بالآثام يجد في صدره ضيقا شديدا عازلا له عن الإيمان، كاتما له عن نفاذ الخير إليه، مثله كمثل من يصعد إلى السماء في طبقات الجو العليا حيث يشعر بضيق شديد في التنفس، وكأنما يزاول أمرا غير ممكن، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وكما يجعل الله صدر من أراد إضلاله لفقد استعداده للإيمان ضيقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصده عن سبيل الله سبيل الحقّ «2» . والرجس: كما قال مجاهد: كل

_ (1) تفسير الطبري: 8/ 20 (2) المرجع السابق: 8/ 24

مالا خير فيه، أو كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: العذاب باعتبار أنه الفعل المؤدي إلى الرجس، من الارتجاس وهو الاضطراب. وقال الزمخشري: الرجس يعني الخذلان ومنع التوفيق. وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً أي وهذا الإسلام الذي يشرح له صدر من يريد هدايته، هو طريق ربك الذي ارتضاه للناس واقتضته الحكمة، وأكد ذلك بقوله: مُسْتَقِيماً أي طريقا سويا لا اعوجاج فيه لأن صراط الله تعالى لا يكون إلا مستقيما، وغيره من السبل معوج منحرف، كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أحمد والترمذي عن علي في وصف القرآن: «هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين» . قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي قد وضحناها وبيناها وفسرناها لقوم لهم فهم ووعي يعقلون عن الله ورسوله. ولهؤلاء القوم الملتزمين طريق الاستقامة دار السلامة والطمأنينة وهي الجنة لأنهم التزموا منهج الأنبياء عِنْدَ رَبِّهِمْ أي يوم القيامة. والله وليهم أي متولي أمورهم وكافيهم، جزاء على صالح أعمالهم. واذكر يا محمد فيما نقصه عليك وتنذرهم به يوم نحشر الإنس والجن جميعا، ونقول: يا جماعة الجن قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس 36/ 62] . ويقول الذين أطاعوا الجن واستمعوا إلى وسوستهم وتولوهم، من الإنس، في جواب الله تعالى: انتفع كل منا بالآخر، انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم. وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي الموت، أو أنهم يعنون يوم البعث. وهذا

فقه الحياة أو الأحكام:

الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين، واتباع الهوى، والتكذيب بالبعث، أي أن المقصود من الكلام: أننا في هذا اليوم الرهيب وهو يوم البعث والجزاء، اعترفنا بذنوبنا، فاحكم فينا بما تشاء، وأنت أحكم الحاكمين، ولقد أظهرنا الحسرة والندامة على ما كان منا من تفريط في الدنيا. فأجابهم الحق تعالى: النار مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم، وأنتم ماكثون فيها مكثا مخلدا الأبد كله، إلا ما شاء الله من الخروج خارج النار لشرب الحميم أو الانتقال من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، وكل من الحالين انتقال من عذاب إلى عذاب، روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون، ويطلبون الرد إلى الجحيم. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يجازي به الناس عَلِيمٌ بما يستحقه كل فريق. وهي نظير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود 11/ 107] . ويحسن الأخذ في تفسير هذه الآية وما هنا بما رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس قال: «إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا» «1» . فقه الحياة أو الأحكام: آية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ... تدل على إثبات الإرادة لله عز وجل في هداية الإنسان وتوفيقه للإيمان والحق والخير. وتمسك أهل السنة بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى، أي بخلقه وإيجاده، بمعنى أن العبد قادر على الإيمان، وقادر على الكفر، فقدرته

_ (1) تفسير الطبري: 8/ 26 [.....]

بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية، لكن هذه القدرة منوطة بحصول باعث في النفس، وداعية في القلب تدعو إما إلى الإيمان، وإما إلى الكفر، وذلك الباعث أو الداعية هو علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة أو ضرر، فإن تكوّن في قلبه الميل إلى المصلحة أو المنفعة، فعل الشيء، وإن تكوّن في قلبه الميل إلى الضرر أو المفسدة، ترك الشيء، وحصول هذه الميول أو الدواعي لا يكون إلا من الله تعالى، ومجموع القدرة البشرية مع الداعي الإلهي يوجب الفعل. وعلى هذا لا يصدر الإيمان عن العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة أي تكوين القناعة الذاتية، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد، مال القلب، ورغب في تحصيله، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان «1» . وهذا متفق مع ما ذكرت في تفسير الآية من حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر إذ قال: «هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح» . وقد ضرب الله تعالى مثلا في هذه الآية: وهو تشبيه المتلكئ عن الإيمان، المتثاقل عن الإسلام بمنزلة من يصّعد في السماء، فقد شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يطاق، أو أن الكافر إذا طولب بالإيمان تضايق وكان حاله كحال الصاعد في السماء، كلما ارتفع وخف الضغط الجوي عليه، ضاق نفسه، وهذه نظرية علمية حديثة معروفة الآن فقط، وقد أشار إليها القرآن. ومثل جعل صدر الكافر شديد الضيق، كذلك يلقي الله العذاب

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 177- 178

والخذلان، أو اللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة على الذين لا يؤمنون بآيات الله تعالى. والثابت المقرر المقطوع به: أن ما أنت عليه يا محمد والمؤمنون بك هو صراط الله المستقيم أي دين ربك لا اعوجاج فيه. وللمتذكرين آيات الله، والمتدبرين براهينه بعقولهم، والمؤمنين المعتبرين المنتفعين بالآيات: دار السلام أي الجنة، التي يسلم فيها المؤمن من الآفات، كما سلم من الاعوجاج في الدنيا، ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنها مضمونة لهم عنده، يوصلهم إليها بفضله، والله هو وليهم أي ناصرهم ومعينهم. وفي يوم الحساب تتبدد وتتقطع صلات الوصل والمنافع بين الإنس والجن الذين ينتفع كل منهم بالآخر، فاستمتاع الجن من الإنس: أنهم تلذذوا بطاعة الإنس وإياهم، واستمتاع الإنس من الجن: قبولهم وساوس الشياطين وإطاعتهم لهم حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. ومعنى الآية هنا: تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. وأما خلود الكفار في النار فمرجعه إلى مشيئة الله، هذا ما أرجحه، أي أن خلودهم بمشيئة الله. وقد قيل في استثناء إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أقوال كثيرة، رجح الزجاج والطبري منها: استثناء أوقات المحاسبة لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار، لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم، ومقدار مدتهم في الحساب، فالاستثناء منقطع. والقول الثاني- المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد، فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر جهنم.

تولية الظلمة على بعضهم وتقريع الكافرين على عدم إيمانهم [سورة الأنعام (6) الآيات 129 إلى 132] :

والقول الثالث لابن عباس: الاستثناء لأهل الإيمان، استثنى الله تعالى قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا القول يجب أن تكون ما بمعنى «من» ولا يكون الاستثناء منقطعا. تولية الظلمة على بعضهم وتقريع الكافرين على عدم إيمانهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) الإعراب: ُصُّونَ ونْذِرُونَكُمْ : كل منهما جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لرسل. ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر ذلك. وأَنْ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأن لم يكن ربك، فلما حذف حرف الجر انتصب، فاللام مقدرة، وأن مخففة من الثقيلة أي لأنه. البلاغة: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ استفهام توبيخ وتقريع. وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ أي لكل من العاملين، فالتنوين عوض عن محذوف لهم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَكَذلِكَ أي كما متعنا عصاة الإنس والجن بعضهم ببعض نُوَلِّي من الولاية والإمارة، أو نجعل بعضهم أنصار بعض بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي على بعض بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من مجموعكم، ويصدق ذلك على بعض الإنس: لأن الرسل من الإنس، ولم يكن من الجن رسول، فهذا من باب التغليب، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 22] وإنما يخرجان من البحر المالح لا العذب. قُصُّونَ عَلَيْكُمْ يخبرونكم بها مع التوضيح والتبيان. ِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أن قد بلّغنا غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم الدنيا بزخارفها فلم يؤمنوا. ذلِكَ أي إرسال الرسل وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يرسل إليهم رسول يبين لهم. وَلِكُلٍّ من العاملين دَرَجاتٌ مراتب جزاء على وفق أعمالهم مِمَّا عَمِلُوا من خير أو شر. المناسبة: لما حكى الله تعالى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا، بيّن أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه، فقال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي مثل ما ذكر من استمتاع الجن والإنس ببعضهم في الدنيا، لتماثلهم في الاتجاه والوسائل والغايات والأعمال، نولي بعض الظالمين ولاية بعض، فنجعلهم أمراء عليهم، أو أنصارا لهم. التفسير والبيان: مثل تولي الجن والإنس بعضهم لبعض نولي الظالمين بعضهم ببعض، بأن نجعل بعضهم أنصار بعض بمقتضى التقدير والسنة الكونية، كما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة 9/ 71] وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال 8/ 73] .

قال قتادة في تفسير الآية: إنما يولي الله الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان، وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره الطبري، ويكون معنى الآية: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض، يستمتع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور، بما كانوا يكسبون من معاصي الله ويعملون «1» . وقال السيوطي في الإكليل: الآية في معنى حديث «كما تكونوا يولّى عليكم» «2» وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم، فقف وانظر متعجبا. وروى أبو الشيخ ابن حيان عن منصور بن أبي الأسود، قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم، أي أن الولاية والإمارة تكون لأشرارهم، كما قال تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء 17/ 16] . أي أن التولية بين الظالمين إما بالتعاطف والتناصر فيما بينهم، وإما بتسلط بعضهم على بعض وتأمّرهم عليهم، فما من ظالم إلا سيبلى بأظلم منه. والظلم عام يشمل الظالمين لأنفسهم، والظالمين للناس من الحكام وغيرهم، فكل فريق يتولى شبهه في الخلق والعمل، وينصره على غيره. قال ابن عباس: «إذا رضي الله على قوم ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم» . وهذا تهديد عام لكل ظالم في الحكم والسلطة أو غير ذلك.

_ (1) تفسير الطبري: 8/ 26، تفسير ابن كثير: 2/ 176 (2) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة، ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا، وهو حديث ضعيف.

وتابع الله تقريع الظالمين وتهديد كافري الجن والإنس، وبيان حالهم يوم القيامة، حيث يسألهم، وهو أعلم، هل بلّغتهم الرسل رسالاته، وهذا استفهام تقرير وتقريع وتوبيخ، فقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ ... أي يا جماعة الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم؟ أي من جملتكم، والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما قرر جمهور السلف والخلف، وقد عبر بذلك من باب التغليب، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 22] واللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان في عرف المتقدمين من المالح، لا من الحلو، ثم ثبت أن بعض الأنهار الحلوة الماء قد استخرج منها اللؤلؤ. ويمكن أن يكون المراد رسل الإنس المعروفين، ورسل الجن: وهم الذين كانوا يستمعون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يذهبون لإنذار قومهم بما سمعوا: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف 46/ 29] قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ... [الجن 72/ 1] . ومهمة هؤلاء الرسل: أنهم يتلون على أقوامهم آيات الإيمان والأحكام والآداب، وينذرونهم لقاء يوم الحشر وما فيه من الحساب والجزاء لمن يكفر بها ويجحدها. فأجابوا عن السؤال، وقالوا يوم القيامة: أقررنا بأن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة، ونظير الآية قوله تعالى: قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك 67/ 9] . وخدعتهم الحياة الدنيا بزينتها ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطة ورفعة الجاه، ففرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، وإنكار المعجزات، كبرا وعنادا.

وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين في الدنيا، بما جاءتهم به الرسل عليهم السلام. ذلك أي إرسال الرسل وإنذارهم الناس، وإنزال الكتب، بسبب أن من سنة الله ألا يؤاخذ أحد بظلمه إذا لم تبلغه الدعوة، وألا تهلك الأمم بعذاب الاستئصال، إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] وقال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] وقال عزّ وجلّ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] . وقوله تعالى: بِظُلْمٍ يحتمل- كما ذكر الطبري- وجهين: الأول- بشرك ونحوه، أي أن الظلم فعل للكفار. والثاني- لا يكون الهلاك ظلما بغير حق دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبرة، أي أن ذلك عائد إلى فعل الله تعالى والوجه الأول أقوى، كما قال الطبري «1» والرازي وغيرهما، والخلاصة: إن الله لا يظلم أحدا من خلقه، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فكل ما نزل وينزل بالمسلمين إنما هو لسوء أعمالهم، وتركهم دينهم، والعيب فيهم لا في نظام شرعهم. ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله، يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والله مطلع على كل الأعمال، فما من عمل لهم إلا يعلمه، وهو محصيه ومثبته لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه، ومعادهم إليه. وهذا دليل على أن مناط السعادة والشقاء: هو عمل الإنسان ومشيئته، أو كسبه وإرادته واختياره.

_ (1) تفسير الطبري: 8/ 28

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تدل آية: وَكَذلِكَ نُوَلِّي.. على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا التخلص من ذلك الأمير الظالم، فليتركوا الظلم. وتدل الآية أيضا على أنه لا بد للناس من أمير وحاكم لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم، فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح، كان أولى. قال علي رضي الله عنه: «لا يصلح للناس إلا أمير عادل، أو جائر» فلما أنكروا قوله: «أو جائر» قال: نعم يؤمن السبيل، ويمكن من إقامة الصلوات، وحج البيت» . وتذكر الآية سنة من سنن الله في الناس، وهي أنه لما كان تعالى ولي المؤمنين أي حافظهم وحارسهم ومعينهم وناصرهم وأن لهم دار السلام، أبان أن أهل النار بعضهم أولياء بعض، أي أن نصراءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال. ومهمة الرسل عليهم السلام: تلاوة الآيات الإلهية وتأويلها وتوضيحها، وإنذار الناس وتخويفهم عذاب يوم القيامة. ولم يجد الكفار بدا من الاعتراف بذلك، ولكن الحياة الدنيا خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا، واعترفوا بكفرهم. والله عادل أتم العدل وأكمله، لذا فإن عذاب الكفار عدل وحق وواجب، فلا يعذبهم إلا بعد بيان وإنذار، ولا يعاقبهم إلا بعد بعثة الأنبياء والرسل إليهم. وإرسال الرسل أمر حتمي ضروري، لأن من خصائص الله وصفاته أنه لا يهلك أهل القرى بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم، فيقولوا: ما جاءنا من بشير ونذير.

التهديد بعذاب الاستئصال والإنذار بعذاب القيامة [سورة الأنعام (6) الآيات 133 إلى 135] :

ولكل العاملين لمن الجن والإنس مراتب بحسب أعمالهم، فلمن عمل بطاعة الله درجات في الثواب، ولمن عمل بمعصيته دركات في العقاب، والله ليس بغافل ولا لاه ولا ساه عن كل عمل، قليل أو كثير. ودلت آية: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ على أنه لا تكليف ولا إيجاب قبل ورود الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على التكليف والإيجاب أصلا. التهديد بعذاب الاستئصال والإنذار بعذاب القيامة [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) الإعراب: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ما اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب اسم إِنَّ. وتُوعَدُونَ صلة، والعائد إليه محذوف، تقديره: إن الذي توعدونه لآت، مثل قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ مَنْ إما استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبره، والجملة في موضع نصب بتعلمون، وإما أن تكون بمعنى «الذي» خبرا، فتكون في موضع نصب تعلمون. البلاغة: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ عبر بالفعل المضارع المفيد للاستقبال، للدلالة على الاستمرار المتجدد. والجملة مؤكدة بمؤكدين: إن، واللام، للرد على منكري البعث.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يُذْهِبْكُمْ يهلككم يا أهل مكة وَيَسْتَخْلِفْ أي ينشئ الخلف وهو الذرية والنسل كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أذهبهم ولكنه أبقاكم رحمة لكم، وقوله مِنْ ذُرِّيَّةِ أي من نسل قوم وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين عذابنا، فالله قادر غير عاجز على إدراككم. مَكانَتِكُمْ حالتكم عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة أو عاقبة الخير في الدار الآخرة، إذ لا اعتداد بعاقبة الشر لأن الله جعل الدنيا مزرعة الآخرة. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ يسعد الظَّالِمُونَ الكافرون. المناسبة: لما بيّن الله تعالى ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعصية، وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة، بيّن أنّه غير محتاج إلى طاعة المطيعين، ولا ينتقص بمعصية المذنبين، فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ولكنه أيضا ذو رحمة عامة كاملة، ثم بيّن أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق، أو في خلق جديد بديل عنهم، ثم فوض الأمر إلى خلقه على سبيل التهديد. التفسير والبيان: وربك يا محمد هو الغني عن جميع خلقه وعن عبادتهم من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو مع ذلك ذو الرحمة الشاملة بهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحج 22/ 65] وقال في بيان غناه: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر 35/ 15] . وجملة وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ تفيد الحصر، بمعنى أنه لا غني إلا هو، ولا رحمة إلا منه، لأنه واجب الوجود لذاته، وغيره ممكن لذاته، والممكن محتاج، فثبت أنه لا غني إلا هو، وكل ما سوى الله منه، فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق، فكل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه، ومحتاج إلى الأسباب التي هي قوام وجوده وحياته.

إن يشأ يذهبكم أيها الكافرون المعاندون كأهل مكة، كما أهلك من عاند الرسل كعاد وثمود، ويأت بخلق جديد غيركم أفضل منكم وأطوع، فهو قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين، أي أنه قادر على الإهلاك والإنشاء معا، وقد حق ذلك، فأهلك زعماء الشرك المعاندين، واستخلف من بعدهم قوما آخرين وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم الذين كانوا مظهر رحمة الله للبشر في سلمهم وحربهم، حتى قال غوستاب لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب» . وبعد أن وجه لهم هذا الإنذار بالإهلاك في الدنيا، أتبعه إنذارا آخر في الآخرة، فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ.. أي أخبرهم يا محمد أن الذي توعدون به من الجزاء الأخروي كائن لا محالة، وما أنتم بمعجزين، أي لا تعجزون بهرب ولا امتناع مما يريد، فهو القادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما، وهو القاهر فوق عباده. روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون، فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، إنما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين» . ثم أردف الله تعالى ذلك بتهديد آخر شديد ووعيد أكيد فقال: قُلْ: يا قَوْمِ، اعْمَلُوا ... أي أخبرهم يا محمد بقولك: استمروا على طريقتكم وحالتكم التي أنتم عليها إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كقوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود 11/ 121- 122] . قال الزمخشري في قوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ: يحتمل وجهين: اعملوا على تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم، وإمكانكم أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، إني عامل على مكانتي التي أنا عليها، والمعنى: اثبتوا على كفركم

وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم «1» . فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة، أنحن أم أنتم؟ وعاقبة الدار: العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. وهذا- كما قال الزمخشري- طريق من الإنذار، لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال، وأدب حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأن المنذر محق، والمنذر مبطل. وهو على طريقة قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ 34/ 24] . وهو دليل على أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. إنه لا يفلح الظالمون أي لا يسعد ولا ينجح الظالمون أنفسهم بالكفر بنعم الله، واتخاذ الشركاء له في ألوهيته، وذلك مثل قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم 14/ 14] . ومما نحمد الله عليه أن أنجز الله موعده لرسوله، فمكّنه في البلاد، ونصره على مشركي العرب، ودانت له الجزيرة العربية واليمن والبحرين في حياته، ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب، وتعاقبت دول الإسلام قوية عزيزة منيعة عدة قرون من الزمان، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر 40/ 51- 52] .

_ (1) الكشاف: 1/ 529

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على صفات عظيمة لله عز وجل وهي الغنى المطلق عن خلقه وعن أعمالهم، والرحمة الشاملة لعباده، ولا سيما أولياؤه وأهل طاعته، والقدرة الكاملة على الإماتة والاستئصال بالعذاب، والإحياء والإنشاء واستخلاف خلق آخر أمثل وأطوع. وقال المعتزلة: هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده. ودلت الآيات أيضا على أن وعد الله محقق منجز، وأن الإيعاد بعذاب الآخر كائن حتما لا محالة، والجزاء أمر لازم لأهل الخير والشر. وتضمنت الآيات إنذارين: إنذارا في الدنيا لتصحيح الأعمال بالتهديد بعذاب الاستئصال، وإنذارا في الآخرة للرهبة من الحساب وعذاب النار. ولا شك بأن المصير مختلف بين أهل الطاعة وأهل المعصية، فالعاقبة الحسنة المحمودة لمن آمن بالإسلام وأطاع الله، والمصير المشؤوم لمن كفر بالله وعصاه ورفض أوامره وتحدى رسله. شريعة الجاهلية في الزروع والثمار والأنعام وقتل الأولاد [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

الإعراب:

الإعراب: ساءَ ما يَحْكُمُونَ مِمَّا في موضع رفع لأنه فاعل ساءَ. زَيَّنَ فعل مبني لمعلوم، وفاعله: شُرَكاؤُهُمْ وقَتْلَ مفعول به وهو مصدر أضيف إلى المفعول. وقرئ زين بالبناء للمجهول، وقتل بالضم نائب الفاعل، وشُرَكاؤُهُمْ فاعل مرفوع بفعل مقدر دل عليه زَيَّنَ كأنه قيل: لما قيل: زين لهم قتل أولادهم: من زينه؟ فقيل: زينه لهم شركاؤهم. وقرأ ابن عامر بنصب: أولادهم، وجر: شركائهم بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ولا يضر كما قال السيوطي، وهو وجه سائغ لغة، بدليل أنها قراءة متواترة. مَنْ نَشاءُ مَنْ فاعل مرفوع لفعل: يطعم.

البلاغة:

ما فِي بُطُونِ ما اسم موصول، بمعنى الذي مبتدأ مرفوع، وفِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ صلته. وخالِصَةٌ خبر المبتدأ، وأنث خالصة، حملا على معنى ما لأن المراد بما في بطون هذه الأنعام: الأجنة، وذكّر: مُحَرَّمٌ حملا على لفظ ما ويجوز أن يكون خالِصَةٌ بدلا مرفوعا من ما بدل بعض من كل، ولِذُكُورِنا الخبر. ومن قرأ خالصة بالنصب كان منصوبا على الحال من الضمير المرفوع في قوله فِي بُطُونِ. وخبر المبتدأ الذي هو ما: لِذُكُورِنا. وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً اسم يَكُنْ ضمير مضمر فيها، ومَيْتَةً خبرها. ويَكُنْ محمول على لفظ ما وتقديره: وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. ومن رفع ميتة فلأن تأنيث الميتة ليس بحقيقي. ومن قرأ: تكن بالتاء، وجعل كان تامة بمعنى: حدث ووقع، ورفع ميتة لأنه فاعل، كقوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً [النساء 4/ 40] في قراءة الرفع. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ منصوب بنزع الخافض أي بوصفهم. سَفَهاً إما منصوب على المصدر، وإما على أنه مفعول لأجله. البلاغة: ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ إظهار لفظ الجلالة الثاني، لبيان كمال عتوهم وضلالهم. المفردات اللغوية: وَجَعَلُوا أي كفار مكة ذَرَأَ خلق وأبدع الْحَرْثِ الزرع، جعلوا لله نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، كما قال تعالى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي لجهته وهي سدنة الآلهة وخدمها. ساءَ بئس ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا. قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد شُرَكاؤُهُمْ من الجن لِيُرْدُوهُمْ يهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا يخلطوا حِجْرٌ أي حرام ممنوع، والحجر: أصله المنع، ومنه سمي العقل حجرا لمنعه صاحبه إِلَّا مَنْ نَشاءُ من خدمة الأوثان وغيرهم بِزَعْمِهِمْ أي لا حجة لهم فيه وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها فلا تركب، كالسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عند ذبحها بل يذكرون اسم أصنامهم، ونسبوا ذلك إلى الله ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ المحرمة وهي السوائب والبحائر خالِصَةٌ حلال أَزْواجِنا النساء وَصْفَهُمْ أي سيجزيهم جزاء وصفهم ذلك بالتحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ في صنعه عَلِيمٌ بخلقه سَفَهاً جهلا.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ندد الله تعالى بفساد عقائد المشركين، ومنها إنكار القيامة والبعث والجزاء، ذكر هنا أنواعا وصورا من جهالاتهم وأحكامهم المفتراة في تحليل وتحريم بعض الزروع والثمار والأنعام، ووأد البنات. التفسير والبيان: هذه ألوان من شرائع الجاهلية العربية قبل الإسلام التي ابتدعها المشركون، واخترعوها بأهوائهم وآرائهم الفاسدة، وتأثرا بوساوس الشيطان. النوع الأول: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ... أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من الزرع والثمار والأنعام، وخصصوا له جزءا وقسما من الغلة والثمرة والنتاج، وجعلوا نصيبا آخر لشركاء لله المزعومين من الأوثان والأصنام. وقالوا في النصيب الأول: هذا لِلَّهِ، نتقرب به إليه، وفي النصيب الثاني: هذا لِشُرَكائِنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها. وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها، وأطاعوها طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم مما هو من خصائص الله تعالى. وقوله: بِزَعْمِهِمْ أي بتقولهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله، فيزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، والقربة يجب أن تكون خالصة له وحده، وبإذنه لأنه دين، والدين لله ومن الله وحده. ونصيب الله كانوا يجعلونه للضيوف وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وخدمها ومصالحها.

وما عينوه لشركائهم لا يصرف منه شيء إلى الوجوه التي جعلوها لله، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان وذبح القرابين. وما جعلوه لله فقد يصرف للتقرب به إلى الأوثان. ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الحكم الذي يحكمون أو يقسمون ويصنعون، بإيثارهم المخلوق العاجز على الخالق القادر على كل شيء، فهي قسمة جائرة لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وحينما قسموا جاروا فلم يصرفوا له حقوقه، أو جعلوا له الصنف الأضعف، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، سُبْحانَهُ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ [النحل 16/ 57] وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف 43/ 15] وقال عز وجل: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 21- 22] . إنهم بهذا الصنع القبيح اعتدوا على حق الله في التشريع، وأشركوا به غيره وعبدوا معه إلها آخر، وفضلوه ورجحوه عليه بجعل ما لله لشركائهم، ولم يستندوا في حكمهم على سند صحيح من عقل أو هداية من شرع إلهي. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان، حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصّمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا، جعلوه لله، جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله، فسقى ما سمي للوثن، تركوه للوثن. وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فيجعلونه

النوع الثاني:

للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى» . النوع الثاني: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... أي ومثل ذلك التزيين بقسمة الحرث والأنعام بين الله والأوثان، زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم (سدنة الآلهة وخدمها) أن يقتلوا أولادهم، وقال مجاهد: شركاؤهم: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العلية (الفقر) وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات، إما ليردوهم فيهلكوهم، وإما ليلبسوا عليهم دينهم، أي فيخلطوا عليهم دينهم. وسبب هذا التزيين: أن الشياطين خوفوهم الفقر في الحال أو في المستقبل، كما وصف تعالى ونهى عن فعله فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء 17/ 31] . وخوفوهم العار، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير كفء، وقد سنح الله تعالى عليهم بقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير 81/ 8] . وأوهموهم أن قتل الأولاد يقربهم إلى الله، كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله، وأشار إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أنا ابن الذبيحين» . وذكر تعالى علة تزيين المنكرات فقال: لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي زيّن هؤلاء الشياطين لهم هذه المنكرات، ومنها قتل أولادهم، ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء، ويفسدوا عليهم فطرتهم، وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدّعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم. ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا، وكل هذا واقع بمشيئة الله تعالى وإرادته

النوع الثالث:

واختياره لذلك بمقتضى الحكمة التامة، قال أهل السنة: إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون، فهو بمشيئة الله تعالى. وقالت المعتزلة: إنه محمول على مشيئة الإلجاء، أي إن مشيئة الله تعالى أن يتركهم واختيارهم، فيأخذوا بما يرونه دون جبر ولا قهر، علما بأن الله قادر على أن يجعلهم مؤمنين، بأن يخلقهم مطبوعين على الاستعداد للإيمان كالملائكة، أو يخلق فيهم بواعث الإيمان ودواعيه، فينقادوا لدعوة الإيمان عند ظهورها، وبمجرد مجيء الرسول الذي يقنعهم بضرورة الإيمان، والإقرار بوجود الله ووحدانيته. فاتركهم أيها الرسول وما يدينون، وما عليك إلا التبليغ. النوع الثالث: وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ... أي إنهم لشركهم وجاهليتهم المشوهة قسموا أنعامهم وزروعهم ثلاثة أقسام: 1- أنعام وأقوات ممنوعة الانتفاع على أحد، ومخصصة لمعبوداتهم وأوثانهم، ويقولون: هي حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم، ويقولون: لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا خدم الأوثان، والرجال دون النساء. وذلك قول صادر عن زعمهم الخالي من الحجة والبرهان. 2- أنعام حرّمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحائر والسوائب والحوامي، التي تقدم ذكرها وتفسيرها في سورة المائدة: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ.. [103] . 3- أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، ولا ينتفعون بها حتى في الحج.

وقد قسموا تلك القسمة مفترين على الله، كاذبين عليه، فهو لم يشرعه لهم، وما كان لهم أن يحللوا أو يحرموا شيئا لم يأذن الله به، كما قال تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس 10/ 59] . والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون. وهذا وعيد وتهديد لهم. ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من التحليل والتحريم بزعمهم وسخفهم فقال: وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ.. أي إن أجنة وألبان هذه البحائر (أي المشقوقة الآذان) والسوائب المسيّبة للآلهة فلا يتعرض لها أحد: هو حلال خاص برجالنا، ومحرم على إناثنا، فلبنها للذكور ومحرم على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا ولدت أنثى تركت للنتاج فلم تذبح، وإذا كان المولود ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. سيجزيهم جزاء وصفهم أي قولهم الكذب في ذلك، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل 16/ 116] . ثم ندد الله بوأد البنات وتحريم ما أحل الله فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ ... أي خسر الذين قتلوا أولادهم، فوأدوا البنات خسرانا مبينا، وحرموا ما رزقهم الله من الطيبات. إنهم قتلوا أولادهم سفها أي خفة مذمومة، وحماقة مفضوحة، خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر، وجهلا بما ينفع ويضر ويحسن ويقبح، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح، وحرموا الطيبات افتراء وكذبا على الله، ولقد ضلوا ضلالا مبينا لعدم توصلهم إلى مصالح الدنيا والدين، ولم يكونوا مهتدين إلى شيء

فقه الحياة أو الأحكام:

من الحق والصواب، وفائدة قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لبيان أنه لم يحصل منهم اهتداء قط. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً إلى قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة، ويغذو كلبه. فقه الحياة أو الأحكام: تلك شرائع العرب في جاهليتهم الجهلاء، مصدرها وهم وسخف، وقصور عقل، وهوى فاسد، روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم، ووفور أحلامكم، عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. هذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلهم أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبئس الحكم حكمهم. قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما الله، ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله. إنهم لم يعدلوا في قسمتهم الزروع والثمار والأنعام، فما جعلوه لله بزعمهم صرفوه لأوثانهم، وما جعلوه لأوثانهم قدموه لها. وقد ارتكبوا ظلما عظيما بوأد البنات: وهو دفن البنت حية مخافة السّباء والحاجة، ولعدم ما حرمن من النصرة، أي أنهم لا يستطيعون الغزو والقتال. وشركاؤهم وهم الذين كانوا يخدمون الأوثان، أو الغواة من الناس أو

الشياطين هم الذين زينوا لهم قتل أولادهم ليهلكوهم، وليخلطوا عليهم دينهم الذي ارتضى لهم، أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل. وقد صنفوا أموالهم وأقواتهم ثلاثة أصناف، صنف لمعبوداتهم وأوثانهم، وصنف حرّمت ظهورها، وصنف لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، افتراء وكذبا على الله بما لم يشرعه، وسيلقون جزاء افترائهم. وخصصوا ألبان الأنعام وذكورها لذكورهم الرجال، وحرموها على الإناث، وجعلوا الميتة شركة بين الذكور والإناث، وتركوا الأنثى للنتاج، سيجزيهم الله وصفهم، أي كذبهم وافتراءهم، أي يعذبهم على ذلك. وكان أشد أنواع عاداتهم وأحكامهم ظلما وجرما قتلهم الأولاد أي البنات وتحريم ما أحل الله، بدليل أنه كرر الله توبيخهم عليه في هذه الآيات، وحكم عليهم بسبعة أمور «1» : 1- الخسران: لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد. 2- السفاهة: وهي الخفة المذمومة لأن قتل الولد لخوف الفقر، والفقر وإن كان ضررا، إلا أن القتل أعظم منه ضررا، والفقر موهوم والقتل ضرر حتمي. 3- الجهل وعدم العلم: لأن هذه السفاهة تولدت من عدم العلم، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح. 4- تحريم ما أحل الله لهم، وهو من أعظم أنواع الحماقة، لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات.

_ (1) تفسير الرازي: 13/ 209

5- الافتراء على الله: ومن المعلوم أن الجرأة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب والكبائر. 6- الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا. 7- إنهم ما كانوا مهتدين، وهو وصف لازم دائم لهم. روي أن رجلا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «مالك تكون محزونا؟» فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله لي، وإن أسلمت! فقال له: «أخبرني عن ذنبك» فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت، فتشفّعت إليّ امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها فدخلتني الحميّة ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلّي، وأخذت على المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر، فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: أيش تريد أن تفعل بي! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحميّة، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمّي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقال: لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 97

الأدلة الواضحة على قدرة الله تعالى [سورة الأنعام (6) الآيات 141 إلى 144] :

الأدلة الواضحة على قدرة الله تعالى [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) الإعراب: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ معطوف بالنصب على جَنَّاتٍ، وجَنَّاتٍ: منصوب بأنشأ مُخْتَلِفاً حال مقدرة، أي سيكون كذلك، لأنها في أول ما تخرج لا أكل فيها، وإنما توصف باختلاف الأكل وقت إطعامها. حَمُولَةً وَفَرْشاً منصوب بالعطف على جَنَّاتٍ، وتقديره: وأنشأ من من الأنعام حمولة وفرشا.

البلاغة:

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ منصوب من خمسة أوجه: إما بفعل مقدر، أي وأنشأ ثمانية أزواج، وإما بفعل تقديره: كلوا لحم ثمانية، أو بدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً أو بدل من مِمَّا في قوله: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، أو بدل من ما في قوله: وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي حرموا ثمانية أزواج. ومِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ بدل من ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي اثنتين من الضأن، واثنتين من المعز، واثنتين من الإبل، واثنتين من البقر. آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ منصوب بحرم، والْأُنْثَيَيْنِ معطوف على آلذَّكَرَيْنِ. وأَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ: معطوف على الْأُنْثَيَيْنِ. البلاغة: حَمُولَةً وَفَرْشاً بينهما طباق، لأن الأولى كبار، والثانية صغار خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة للتحذير من طاعة الشيطان. المفردات اللغوية: أَنْشَأَ خلق وأوجد بالتدريج جَنَّاتٍ بساتين مزدانة بالأشجار وسميت جنات لأنها تجن الأرض، أي تسترها مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على العرائش والدعائم لتمتد عليها الأغصان كالكروم، يقال: سقف البيت: عرشه وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ متروكات على وجه الأرض لم تعرش أو مستغنية بسوقها وأغصانها عن التعريش مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي يختلف ثمره وحبه في الهيئة والطعم مُتَشابِهاً في النظر وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطعم وَآتُوا حَقَّهُ زكاته يوم حصاده أي قطافه من العشر أو نصفه وَلا تُسْرِفُوا بإعطاء كله، فلا يبقى لعيالكم شيء الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين ما حد لهم. حَمُولَةً هي الكبار التي تطيق الحمل والعمل، وتصلح لهما، كالإبل والبقر الكبار وغيرها وَفَرْشاً هي الصغار التي لا تصلح للحمل والعمل، كصغار الإبل وغيرها وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرائقه من التحريم والتحليل، ومعنى الخطوة: المسافة بين القدمين عَدُوٌّ مُبِينٌ أي بيّن العداوة. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أصناف مِنَ الضَّأْنِ الضَّأْنِ الغنم ذوات الصوف، والْمَعْزِ ذوات الأشعار اثْنَيْنِ زوجين اثنين: ذكر وأنثى آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ قل يا محمد لمن حرم ذكور

سبب النزول نزول الآية (141) :

الأنعام تارة وإناثها أخرى، ونسب ذلك إلى الله: آلذكرين حرم الله عليكم أم حرم الأنثيين منهما والاستفهام للإنكار. أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ هي الأجنة. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أخبروني عن كيفية تحريم ذلك، إن كنتم صادقين فيه، فمن أين جاء التحريم؟ فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام، وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام، وإن كان مما اشتملت عليه الأرحام فهي تشتمل على الصنفين: الذكر والأنثى، فمن أين جاء التخصيص؟ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حضورا إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم، فاعتمدتم ذلك، لا، بل أنتم كاذبون فيه فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. سبب النزول: نزول الآية (141) : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ: أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، فنزلت هذه الآية: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وروي عنه أنه قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا سوى الزكاة، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فقال الله: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وأخرج الطبري أيضا عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس: جذ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى، وليست له ثمرة، فقال الله: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «1» . المناسبة: عرف مما سبق أن مدار القرآن الكريم على إثبات أصول الدين وهي التوحيد والنبوة، والبعث (المعاد) والقضاء والقدر. وقد أثبتها تعالى، وندد بمن أنكر شيئا منها، ولما أتم المطلوب منها، عاد إلى المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير توحيد الله، بإثبات الألوهية والربوبية له، وإفراده بالعبادة وحق

_ (1) تفسير الطبري: 8/ 45

التفسير والبيان:

التشريع، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا خالق عداه، ولا مشرّع في عبادة وتحليل وتحريم غيره، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ. وفي ثنايا إبراز مظاهر القدرة الإلهية امتن الله على المشركين وغيرهم بما يسره لهم من الرزق، وندد بما افتروه على الله من الكذب من الشرك وعدم الإيمان بالقضاء والقدر. التفسير والبيان: يبين الله تعالى أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار، والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسموها، فجعلوا منها حراما وحلالا، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ.... أي إن الله هو الذي أوجد البساتين والكروم المشجرة، سواء منها المعروش أي الذي يحمل على العرش: وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها، وغير المعروش: وهو الملقى على وجه الأرض، أو المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش كبقية أشجار الفاكهة، حتى بعض كروم العنب نفسها، منها المعروش وغير المعروش. وخلق أيضا النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل. وأفرد النخل بالذكر لكثرته عند العرب، ولجماله، ولما له من منافع كثيرة بكل أجزائه، ولبقاء ورقه دون سقوط في مختلف الفصول، حتى شبّه المؤمن في الحديث النبوي به. وأنشأ سبحانه الزرع المختلف الأنواع والأكل: وهو الثمر المأكول، والذي به حياة بني آدم، وهو يشمل كل ما يزرع صيفا وشتاء، وأفرده الله بالذكر كالنخل، كما فيهما من الفضيلة. وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هي الغذاء الأساسي.

وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم والأكل. وكل هذه الأنواع يسقي بماء واحد وفي تربة واحدة، ولكن كل نوع يختلف عن الآخر طعما ولونا ورائحة ووقت نضج يتناسب مع حاجة الإنسان في زمن البرد والحر والاعتدال، مما يدل على قدرة الخالق عليها، وإبداع المنشئ المكون لأصنافها، وذلك هو الله الواحد الأحد المتفرد بإمداد الرزق وبالتشريع المناسب. وقد أباحها الله الإنسان وامتن بإنعامه بها عليه، فقال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أي كلوا من ثمرات ما أنبت الله إذا أثمر ولو لم ينضج، وفائدة التقييد بقوله: إِذا أَثْمَرَ الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو الزكاة. ثم جاء التكليف الواجب فيها وهو الزكاة المفروضة، فقال تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أي وأخرجوا الزكاة المفروضة فيه يوم الحصاد: وهو وقت قطعه بعد تمام نضجه، ويتبعه زمن الدوس، لفصل الحب عن التبن، ويدخل في الحصاد: جني العنب وصرم النخل وقطف الفاكهة. والحق المفروض: هو العشر فيما سقي بالمطر، ونصف العشر فيما سقي بالنهر والبئر ونحوهما من الينابيع. ويعطى الحق المقرر شرعا للمستحقين وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين. وللعلماء رأيان في الحق الواجب في الثمر، فقال ابن عباس: إنه الزكاة المفروضة، وهي العشر أو نصفه. وروي عن ابن عباس أيضا وهو قول سعيد بن جبير: إنه ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد. وكان ذلك واجبا من غير تعيين المقدار لأن هذه

الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فنسخ هذا الواجب بافتراض العشر ونصف العشر، وهو الزكاة. وقيل: إن الآية مدنية، والحق أن المراد بها هو الزكاة المفروضة، والمعنى: واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. ثم نبّه القرآن إلى منهجه المعروف وهو الوسطية والتوسط في الأمور والاعتدال في كل شيء، فقال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ... أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف في الأكل، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف 7/ 31] ولا تسرفوا أيضا في الصدقة، كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة، ففرق ثمرها كله، ولم يدخل شيئا إلى منزله، كما قال تعالى: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] . وقال الزّهري: المعنى: لا تنفقوا في معصية الله، وروي نحوه عن مجاهد فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال: لو كان أبو قبيس- جبل بمكة- ذهبا، فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى، لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. ومن هذا الاتجاه قول بعض الحكماء: لا سرف في الخير، ولا خير في السّرف. والحق: أن الإسراف في كل شيء خيرا كان أو غيره خطأ، سواء في الأكل أو التّصدق لأن على الإنسان واجب الإنفاق على نفسه وعلى أهله وذويه وأولاده، حتى إنه إن لم يكن له أولاد، فادّخار شيء من دخله أمر محمود، لإنفاقه في حوائج المستقبل، وحتى لا يصبح عالة على الآخرين، ولذا يحجر على السّفيه المبذر شرعا، ولو كان الإنفاق في سبل الخير. جاء في صحيح البخاري تعليقا: «كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» .

ومن تمام فضل الله ونعمته ورحمته أنه أنشأ لكم أيها الناس من الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) كبارا صالحة للحمل، وصغارا كالفصلان، والغنم والمعز، هي كالفرش المفروش عليها، تفرش على الأرض للذّبح، ويتّخذ من شعرها ووبرها الفرش واللباس. وهذا مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس 36/ 71- 72] ، وقوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ [النحل 16/ 66] . ثم كرر الله تعالى إباحة الأكل من الأنعام كإباحته من الزّرع، فقال: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا من هذه الأنعام، كما تأكلون من الثمار والزّروع، فكلها خلقها الله، وجعلها رزقا لكم، وانتفعوا بها بسائر أنواع الانتفاع المباحة شرعا. ولا تتبعوا خطوات الشّيطان، أي طريقه وأوامره، كما اتّبعها المشركون الذين حرّموا ما رزقهم الله من الثّمار والزّروع والأنعام، افتراء على الله، وإيّاكم أن تحرّموا ما لم يحرّمه الله عليكم، فذلك إغواء من الشّيطان، والله قد أباحها لكم، والله مصدر التّشريع والتّحريم والتّحليل لأنه هو الخالق المبدع لجميع الكائنات، وهو المتصرّف فيها، فليس لغيره أن يحرّم أو يحلّل برأيه. إن الشّيطان لكم أيها الناس عدوّ مبين، أي بيّن ظاهر العداوة، لا يأمر إلا بالسّوء والفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر 35/ 6] ، وقال: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 169] . والأنعام التي هي حمولة وفرش ثمانية أصناف، فإنّ الحمولة: إما إبل وإما بقر، والفرش: إما ضأن وإما معز، وكلّ قسم من هذه الأربعة: إما ذكر وإما

أنثى، وقد أنشأ الله من الضّأن زوجين اثنين: الكبش والنّعجة، ومن المعز زوجين اثنين: التّيس والعنزة، ومن الإبل اثنين: الجمل والنّاقة، ومن البقر اثنين: الثّور والبقرة. قال لمشركي العرب أيّها الرّسول إنكارا لصنعهم بتقسيم الأنعام إلى بحيرة وسائبة ووصيلة وحام وغير ذلك مما ابتدعوا فيها: أحرم الله الذّكرين من الكبش والتّيس؟ أم حرّم الأنثيين من النّعجة والعنز؟ أم حرّم ما حملت إناث النّوعين؟ يعني هل يشتمل الرّحم إلا على ذكر أو أنثى، فلم تحرمون بعضا وتحلّون بعضا؟ أخبروني عن يقين، كيف حرّم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك؟ أخبروني ببيّنة تدلّ على هذا التّحريم من كتاب الله، أو خبر نبي من الأنبياء إن كنتم صادقين في ادّعاء التّحريم. والحقيقة أنه لا منطق في تقسيم العرب في الجاهلية قبل الإسلام لأنواع الأنعام، فمنها الحرام ومنها الحلال، فإن كان المحرّم منها الذّكر، وجب أن يكون كلّ ذكورها حراما، وإن كان المحرّم منها الأنثى، وجب أن يكون كلّ إناثها حراما، وإن كان المحرّم منها ما حملته الأجنّة في بطون الإناث، وهي تشتمل على الذّكر والأنثى، وجب تحريم الأولاد كلّها. والله تعالى ما حرّم عليهم شيئا من هذه الأنواع، وإنهم لكاذبون في دعوى التّحريم، ولا أحد في الدّنيا أظلم ممن يفتري الكذب على الله، فيدّعي أنه حرّم شيئا ولم يحرّمه، ونسب إليه تحريم ما لم يحرم، من أجل إضلال النّاس، وهو عمرو بن لحيّ بن قمعة الذي بحر البحائر، وسيّب السّوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وغيّر دين الأنبياء، إن الله لا يهدي إلى الحقّ والخير القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، فشرعوا ما لم يشرع الله تعالى. ثمّ شدّد الله تعالى الإنكار عليهم والتّهكم بهم فقال: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ..

فقه الحياة أو الأحكام:

أي هل كنتم حضورا شاهدتم ربّكم، فوصّاكم بهذا التّحريم؟ وأمركم فيما ابتدعتموه وافتريتموه من تحريم ما لم يحرّمه الله، وإنما هو محض الافتراء والكذب على الله، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، بقصد الإضلال عن جهل تام، والله تعالى، جزاء لهذا الظلم، لا يوفق للرّشاد من افترى عليه الكذب، ولا يهديه إلى الحقّ والعدل، بل يحجبه عن إدراك الصواب وما فيه المصلحة. فقه الحياة أو الأحكام: الله تعالى خالق الكائنات هو مصدر شيئين أساسيين في هذه الحياة: فهو مصدر بقاء الناس بإمدادهم بالنّعم الكثيرة الوفيرة، ومصدر التّشريع الصالح لكل زمان ومكان، إبقاء على النظام الأصلح، وحفاظا على مصالح البشر، أفرادا وجماعات. والمقصود من ذلك تقرير التّوحيد، وإثبات الألوهيّة والرّبوبيّة لله عزّ وجلّ، فإن في آية: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ.. ثلاثة أدلّة: أحدها- أن المتغيّرات لا بدّ لها من مغيّر. الثاني- المنّة من الله سبحانه علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيّب الطّعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك في ابتداء الخلق لأنه لا يجب عليه شيء. الثالث- إظهار القدرة الإلهيّة في أشياء كثيرة، منها صعود الماء (النسغ) في الشّجر من الأدنى إلى الأعلى، مع أن من شأن الماء الانحدار والهبوط، ومنها تعدّد أنواع الثّمار والأشجار والزّروع، وتنوّع أصنافها وألوانها وطعومها وأشكالها. ودلّت آية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ على وجوب الزّكاة المفروضة في الزّروع والثّمار: العشر ونصف العشر. وقال جماعة: هو حقّ في المال سوى الزّكاة، أمر الله به ندبا.

وقد تمسّك أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم الحديث النّبوي الذي رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر: «فيما سقت السّماء العشر، وفيما سقي بنضح «1» أو دالية «2» نصف العشر» في إيجاب الزّكاة في كلّ ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره، إلا الحطب والحشيش والقضب (البرسيم) والتين، والسّعف «3» وقصب الذريرة «4» ، وقصب السّكر. ورأى الجمهور أن الحديث لا يدلّ على ذلك، وإنّما المقصود منه بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر. قال ابن عبد البر: لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أنّ الزّكاة واجبة في الحنطة والشعير والتّمر والزّبيب. فيكون للعلماء رأيان في زكاة ما تخرجه الأرض: الرّأي الأول لأبي حنيفة: تجب الزّكاة في قليل ما أخرجته الأرض إلا ما استثني سابقا، ودليله ظاهر الآية والحديث المتقدّم. الرّأي الثاني للجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة: لا تجب زكاة الزّروع والثّمار إلا فيما يقبل الاقتيات والادّخار، وعند الحنابلة: فيما ييبس ويبقى ويكال، ولم يوجب الشّافعي الزّكاة في الثّمار غير العنب والتّمر لأن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أخذ الزّكاة منهما ، ولا زكاة في الخضروات والفواكه لأنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عفا عنها وقال فيما رواه التّرمذي عن معاذ في الخضروات: «ليس فيها شيء» ، ولا بدّ من بلوغ

_ (1) النّضح: سقي الزّرع وغيره بالسّانية: وهي النّاقة التي يستقى عليها. (2) الدّالية: النّاعورة يديرها الماء، والأرض التي تسقى بدلو أو بناعورة. (3) السّعف: جريد النّخل، واحدها سعفة. (4) الذريرة: قصب يجاء به من الهند.

النّاتج خمسة أوسق (653 كغ) لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم عن جابر: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» . وإنما لا يشترط مضي الحول (العام الزّكوي) في زكاة النّاتج من الأرض لأنه يكمل نماؤه باستحصاده، لا ببقائه، واشترط الحول في غيره من الزّكوات لأنه مظنّة لكمال النّماء في سائر الأموال. والصّحيح وهو رأي أبي حنيفة وجوب الزّكاة وقت الجذاذ، لقوله تعالى: يَوْمَ حَصادِهِ والمشهور من مذهب المالكية يوم الطّيب لأن ما قبل الطّيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به، وجب الحق الذي أمر الله به. والمعتمد عند الشافعية والحنابلة: وجوب الزّكاة في الثّمار: ببدو صلاح الثّمر لأنه حينئذ ثمرة كاملة، وهو قبل ذلك حصرم وبلح، وفي الحبوب: ببدو اشتداد الحبّ لأنه كما قال المالكية حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل. لكن خرص الثّمار أي تخمينها وتقديرها يكون بعد الطيب لحديث عائشة فيما أخرجه الدّارقطني قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث ابن رواحة إلى اليهود، فيخرص عليهم النّخل حين تطيب أوّل الثمرة، قبل أن يؤكل منها، ثم يخيّر يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه. وإنما كان أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخرص لكي تحصى الزّكاة، قبل أن تؤكل الثّمار وتفرّق. ودلّت آية وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً على مقدار نعمة الله بتسخير الأنعام للإنسان للرّكوب والحمل والعمل، وللاستفادة من لحومها وأوبارها وأصوافها وأشعارها. والأنعام كما قال أحمد بن يحيى وهو الأصحّ: كلّ ما أحلّه الله عزّ وجلّ

من الحيوان لقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة 5/ 1] . ومن أجل بقاء نوع الحيوان جعل فيه كالإنسان صنفي الذّكر والأنثى، للتّوالد والتّكاثر والتّكامل، لذا كان تحريم الذّكور دون الإناث أو بالعكس معارضا لحكمة الشّرع. وآية ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.. احتجاج على المشركين فيما حرّموه اعتباطا من البحائر والسّوائب والوصائل والحام وغيرها، كما قالوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام 6/ 139] . وذلك دليل على إثبات المناظرة في العلم لأن الله تعالى أمر نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأن يناظرهم، ويبيّن لهم فساد قولهم. وفي هذه الآية أيضا إثبات القول بالنظر والقياس. وفيها دليل على أنّ القياس إذا ورد به النّص بطل القول به، ويروى: «إذا ورد عليه النّقض» لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصّحيحة، وأمرهم بأن تكون علّة القياس مطّردة في جميع الأشباه والنّظائر. وهذا مستفاد من معنى الآية: قل لهم: إن كان الله حرّم الذّكور فكلّ ذكر حرام، وإن كان حرّم الإناث فكلّ أنثى حرام، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضّأن والمعز، فكلّ مولود حرام، ذكرا كان أو أنثى، لأن كلها مولود، فكلّها إذن حرام، لوجود العلّة فيها، فبيّن تعالى بهذه المناظرة أو المناقشة ورود الانتقاض عليهم وفساد قولهم، لأن ما فعلوه من ذلك افتراء على الله، فمن أين هذا التحريم المزعوم؟ ولا علم عندهم لأنهم لا يقرءون الكتب، وهل شاهدتم الله قد حرّم هذا. ولما لزمتهم الحجّة أخذوا في الافتراء، فقالوا: كذا أمر الله، فردّ الله

المطعوم المحرم على المسلمين والمحرم على اليهود [سورة الأنعام (6) الآيات 145 إلى 147] :

عليهم: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وهو دليل على أنهم كذبوا، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل. المطعوم المحرّم على المسلمين والمحرّم على اليهود [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) الإعراب: طاعِمٍ اسم فاعل من طعم يطعم، وأكثر ما يجيء اسم الفاعل من فعل يفعل إذا كان لازما على فعل، ويجيء على فاعل إذا كان متعدّيا كعلم يعلم فهو عالم. ويَطْعَمُهُ مضارع طعم. مَيْتَةً خبر يَكُونَ، واسمها ضمير مستتر، وتقديره: إلا أن يكون المأكول ميتة، ومن قرأ بالرّفع جعل يَكُونَ تامّة، ومَيْتَةً فاعل مرفوع بها، ولا تفتقر إلى خبر. أَوِ الْحَوايا إما مرفوع عطفا على قوله: ظُهُورُهُما، وإما منصوب عطفا على شُحُومَهُما في قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ. وشُحُومَهُما في موضع نصب على الاستثناء من الشحوم، وهو استثناء من موجب، أو منصوب عطفا على قوله: شُحُومَهُما وتقديره: حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ذلِكَ: في موضع نصب، لأنه مفعول ثان لجزيناهم، وتقديره: جزيناهم ذلك ببغيهم.

البلاغة:

البلاغة: غَفُورٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة، أي كثير المغفرة والرّحمة. رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فرّق بين الجملتين، فجعل الأولى جملة اسميّة لأنها أبلغ من الفعليّة، ليناسب وصف الرّحمة، وجعل الثانية فعليّة: وَلا يُرَدُّ لتكون أقل في الإخبار عن وصف العقاب. المفردات اللغوية: مُحَرَّماً شيئا محظورا أو ممنوعا. طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أكل يأكله. مَيْتَةً بهيمة ماتت حتف أنفها. أَوْ دَماً مَسْفُوحاً سائلا يجري ويتدفّق من المذبوح، بخلاف غيره كالكبد والطّحال. رِجْسٌ قذر قبيح حرام نجس. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ذبح على غير اسم الله، للأصنام، والإهلال: رفع الصّوت. فَمَنِ اضْطُرَّ أي دعته ضرورة إلى تناول شيء منه كجوع شديد أو عطش شديد أو غصص. غَيْرَ باغٍ أي غير قاصد له. وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة. الَّذِينَ هادُوا اليهود، لقولهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف 7/ 156] أي رجعنا وتبنا. كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنّعام، والظفر للإنسان وغيره مما لا يصيد، والمخلب: لما يصيد. شُحُومَهُما الشّحم: ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من الدّهن. إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي علقت بها. أَوِ الْحَوايا أي حملته الأمعاء، جمع حاوية وحاوياء. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ منه أي من الشّحم، وهو شحم الألية، فإنه أحل لهم. ذلِكَ التحريم. جَزَيْناهُمْ به. بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ في أخبارنا ومواعيدنا. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما جئت به فَقُلْ لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، وفيه تلطّف بدعوتهم إلى الإيمان. وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عذابه إذا جاء. سبب النزول: نزول الآية (145) : قُلْ: لا أَجِدُ..: أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء، ويستحلّون أشياء، فنزلت: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية.

المناسبة:

المناسبة: ردّ الله تعالى في الآيات السابقة على المشركين الذين كانوا يحرّمون ويحلّلون من الأنعام بحسب أهوائهم، وأبان أن التّحريم والتّحليل لا يثبت إلا بالوحي، ثم أوضح هنا أنّ المطعومات المحرّمات على الآكلين هي أربعة فقط: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير فإنه رجس، والفسق: وهو الذي أهل به لغير الله. التفسير والبيان: بيّن الله تعالى في هذه السّورة المكيّة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة، وأتى بها بصيغة الحصر، مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة، وأكّد ذلك في سورة النّحل فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النّحل 16/ 115] . وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، فدلّت آيتان مكيّتان على حصر المحرّمات في هذه الأربعة، وكذلك دلّت آية مدنيّة في سورة البقرة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة 2/ 173] ، وكلمة إِنَّما التي تفيد الحصر مطابقة لقوله: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً. ثم ذكر الله تعالى في سورة المائدة قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة 5/ 1] ، وأجمع المفسّرون على أن المراد بقوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل، وهو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ، إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وكل هذه الأشياء من أنواع الميتة، وأنه تعالى إنما أعادها بالذّكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتّحليل، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.

الميتة:

والقصد هو الرّد على مشركي العرب لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات والمحللات إلا بالوحي، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصّلاة والسّلام، ولم ينزل في الموضوع غير هذه الآية ونظائرها، كان هذا مبالغة في بيان انحصار التّحريم في هذه الأربعة فقط. المعنى: يقول الله تعالى آمرا رسوله: قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما رزقهم الله، افتراء على الله: لا أجد محرّما على آكل يأكله سوى هذه الأمور الأربعة وهي ما يلي: الميتة: وهي التي ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي، وذلك يشمل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ونحوها. وتحريمها لمضرّتها، وانحباس الدم فيها، مما يؤدي إلى تسممها، وتفسّخ لحمها، وإيذاء من تناول شيئا منها. والدّم المسفوح: أي الدّم المهراق السائل الذي يجري ويتدفق من عروق المذبوح. وهذا يدلّ على أنّ المحرّم من الدّم ما كان سائلا، قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذّبح، فلا يدخل فيه الدّم الجامد كالكبد والطّحال لجمودهما، ولا الدّم المختلط باللحم في المذبح، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدّم، فإن ذلك كله ليس بسائل. وقال عكرمة في قوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً: لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود. وجاء في الحديث الذي يرويه البيهقي في سننه والحاكم عن ابن عمر: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد- أو السمك والجراد- وأما الدّمان: فالكبد والطحال» . وسبب تحريم الدّم المسفوح: اشتماله على أنواع الجراثيم والميكروبات لأن الدّم بيئة صالحة لتفريخ الميكروبات ومباءة للجراثيم. ولحم الخنزير: ومثله شحمه وسائر أجزاء جسده، ومثله أيضا الكلب،

والفسق:

فكلّ ذلك كالميتة والدّم رجس وقذر، تعافه النفوس الطيبة والطباع السليمة، وهو ضار بالبدن. واستدلّ الشافعية بقوله تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير، بناء على عود الضمير إليه لأنه أقرب مذكور. والفسق: وهو ما أهل لغير الله أي ما ذبح لغير الله ولم يذكر عليه اسم الله، أي ما يتقرب به إلى غير الله تعبّدا، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه، وهو المذبوح على النّصب وعند الأوثان، أو بعد المقاسمة عليه بالأزلام أي القمار. ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة، فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ.. أي فمن كان في حال ضرورة الجوع الملجئة بسبب فقدان الحلال، مما دعاه إلى أكل شيء من هذه المحرّمات، حال كونه غير قاصد له، ولا متجاوز حدّ الضرورة، فإن الله يغفر له ويرحمه حفاظا على حقّ الحياة، فلا يؤاخذه بأكل ما يسدّ به الرّمق، ويدفع عنه ضرر الهلاك. والخلاصة: إنّ الغرض من هذه الآية الكريمة الرّد على المشركين الذين ابتدعوا تحريم المحرّمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرّم، وإنّما حرّم أربعة أشياء هي: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به، لما فيها من الضّرر المادي أو المعنوي الذي يمسّ العقيدة وعبادة الله، ولأن لحومها خبيثة، ومن مهام هذا النّبي إباحة الطّيبات وتحريم الخبائث: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف 7/ 157] . لكن الحصر المستفاد من هذه الآية وأمثالها أمر نسبي لا مطلق، وهذه الآية مخصوصة بالآيات والأخبار الدّالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة، مثل قوله

تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فهو يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة كالنّجاسات وهو أم الأرض، ومثل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية» ، وما روياه عن أبي ثعلبة الخشني: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السّباع» ، وفي رواية ابن عباس: «وأكل كل ذي مخلب من الطّير» ، وما روياه عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس فواسق من الدّواب كلّهن فاسق، يقتلن في الحلّ والحرام: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأر، والكلب العقور» ، ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ، لأن القتل إنما يكون بغير ذبح شرعي، فثبت أنها غير مأكولة، ولأن ما يؤكل لا ينهى عن قتله. وخصّص الشافعية الآية أيضا بما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «واستخبثته العرب، فهو حرام» ، ومضمون رأيهم أن الحيوان الذي لم يرد فيه نص بخصوصه بالتّحليل أو التّحريم، ولم يؤمر بقتله، ولم ينه عن قتله، فإن استطابته العرب، فهو حلال، وإن استخبثته العرب فهو حرام. ودليلهم قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف 7/ 157] ، وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة 5/ 4] ، قالوا: وليس المراد بالطّيب هنا: الحلال إذ لا معنى له، لأن تقديره: أحلّ لكم الحلال، وإنما المراد بالطّيّبات: ما يستطيبه العرب. والمراد بالخبائث: ما يستخبثونه، ويراعى في ذلك عاداتهم العامة في الاستيطاب والاستخباث، ولا ينظر إلى الأعراف الخاصة لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام. واحتجّ كثير من السّلف بظاهر الآية، فأباحوا ما عدا المذكور فيها، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ، فقرأ الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن أكل كل ذي ناب من السّباع ومخلب من الطّير، قالت: قُلْ: لا أَجِدُ ... إلخ. وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدّواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه: قُلْ: لا أَجِدُ الآية. واستدلّ بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرّم من الميتة ما يأتي فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه، وقد فهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم من النّظم الكريم ذلك، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة، وفي رواية: لميمونة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها- جلدها-» ، فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما قال الله تعالى: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً وإنّكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به» . ثم أخبر الله سبحانه عما حرّمه على بني إسرائيل خاصة، عقوبة لهم، على سبيل المقارنة بما شرعه القرآن للمسلمين، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا.. أي وحرّمنا على اليهود دون غيرهم كل ذي ظفر: وهو كلّ ما ليس منفرج الأصابع، أو مشقوق الأصابع من البهائم والطير، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. وحرّمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة، لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، وهي ما على الكرش والكلى فقط، أما شحوم الظّهر والذّيل فحلال لقوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وإلا الْحَوايا: ما حملته الأنعام، وإلا مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فكل هذه الشحوم أحللناه لهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ذلك التّحريم الذي حرّمناه عليهم بسبب بغيهم، وعقوبة لهم، لقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وصدّهم عن سبيل الله، وأخذهم الرّبا، واستحلالهم أموال النّاس بالباطل. وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم: إن الله لم يحرّم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرّمه إسرائيل على نفسه. ولما كان هذا إخبارا عمّا حكم الله به على اليهود في الماضي، ولم يكن لأحد به علم، وردّا على قولهم: لم يحرّم علينا شيء، قال تعالى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ قال الطبّري: أي لصادقون في إخبارنا بهذه الأخبار من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا، من أن إسرائيل هو الذي حرّمه على نفسه، ومن أصدق من الله حديثا، وقال ابن كثير: أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به. فإن كذّبوك يا محمد بعد هذا أي اليهود، كما قال مجاهد والسّدي، أو مشركو مكة، والصواب: فإن كذّبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود وأشباههم في ادّعاء النّبوة والرّسالة، وفي تبليغ الأحكام فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتّباع رسوله، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي لا يردّ عذابه عن كلّ مجرم، وهذا ترهيب لهم من مخالفتهم الرّسول خاتم النّبيين صلّى الله عليه وسلّم. وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين التّرغيب والتّرهيب في القرآن، كما قال تعالى في آخر هذه السّورة إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت آية: قُلْ: لا أَجِدُ.. على تحريم أربعة أشياء، هي: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير، والمذبوح للأصنام تعبّدا، وبما أن الآية مكية فمعناها وما يستفاد منها مقصور على هذه الأربعة، أي قُلْ يا محمد،

لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ إلا هذه الأشياء، لا ما تحرّمونه بشهوتكم، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرّم غير هذه الأشياء، كما قال القرطبي، ثم نزلت سورة [المائدة] بالمدينة. وزيد في المحرّمات من أصناف الميتة المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة ونحوها، كما زيد تحريم الخمر. وحرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السّباع وكلّ ذي مخلب من الطّير. وأكثر أهل العلم أن كل محرّم حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو جاء في القرآن مضموما إلى هذه المحرّمات، فهو زيادة حكم من الله عزّ وجلّ على لسان نبيّه عليه الصّلاة والسّلام. مثل زواج المرأة على عمّتها وعلى خالتها، مع قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] ، وحكمه عليه الصّلاة والسّلام باليمين مع الشاهد مع قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [البقرة 2/ 282] . وآية: قُلْ: لا أَجِدُ ... هي جواب لمن سأل عن شيء بعينه، فوقع الجواب مخصوصا. وقال مالك: لا حرام بيّن إلا ما ذكر في هذه الآية، ولهذا قال بعض المالكية: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح. ودلّت الآية أيضا على حكم استثنائي وهو حال الضرورة، فعند الاضطرار يزول تحريم المحرمات، لدفع خطر الهلاك، وحفاظا على حقّ الحياة. وأما آية: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا فتدلّ على أنّ الله تعالى حرّم على اليهود عقوبة لهم أشياء أخرى سوى هذه الأربعة المذكورة في الآية السابقة، وهي نوعان، ولم يحرمهما على المسلمين. النّوع الأوّل- كل ذي ظفر غير مشقوق الأصابع، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط.

نسبة المشركين الشرك والتحريم إلى الله تعالى وإقامة الحجة عليهم [سورة الأنعام (6) الآيات 148 إلى 150] :

والنّوع الثاني- شحوم البقر والغنم: وهي الشحوم الرقيقة التي تكون على الكرش والكلى. واستثنى الله تعالى من الشحوم ثلاثة أنواع لم يحرمها عليهم وهي: ما علق بالظهر ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما، والْحَوايا: قال الواحدي: وهي المباعر والمصارين، والمختلط بالعظم مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ: وهو شحم الألية في قول جميع المفسّرين. قال ابن جريج: حرّم عليهم كلّ شحم غير مختلط بعظم أو على عظم، وأحلّ لهم شحم الجنب والألية لأنه على العصعص. وقد احتجّ الشافعي بهذه الآية في أن من حلف ألّا يأكل الشحم، حنث بأكل شحم الظّهور لاستثناء الله عزّ وجلّ ما على ظهورهما من جملة الشّحم. والصحيح مذهب عامة العلماء: أن اليهود لو ذبحوا أنعامهم، فأكلوا ما أحلّ الله لهم في التّوراة، وتركوا ما حرّم عليهم، لم يكن عليهم بأس فإنها محلّلة لنا لأن الله عزّ وجلّ رفع ذلك التّحريم بالإسلام، واعتقادهم فيه لا يؤثر لأنه اعتقاد فاسد، ويؤيده أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أقرّ عبد الله بن مغفّل على الأكل من جراب شحم أصابه يوم خيبر. وقيل في رواية عن مالك: هي محرّمة لأنهم يدينون بتحريمها، ولا يقصدونها عند الذّكاة (الذّبح الشّرعي) فكانت محرّمة كالدّم. وهو مذهب كبراء أصحاب مالك. نسبة المشركين الشرك والتحريم إلى الله تعالى وإقامة الحجة عليهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

الإعراب:

الإعراب: هَلُمَّ اسم فعل أمر بمعنى هاتوا، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وبنو تميم تؤنث وتجمع. البلاغة: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وضع الظاهر موضع المضمر بأن يقال: ولا تتبع أهواءهم، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره، فهو متبع للهوى لا غير لأنه لو اتبع الدليل، لم يكن إلا مصدّقا بالآيات، موحدا لله تعالى. المفردات اللغوية: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ أي أن إشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله، فهو راض به. كَذلِكَ كما كذب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم. بَأْسَنا عذابنا. هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ بأن الله راض بذلك. فَتُخْرِجُوهُ لَنا أي لا علم عندكم. إِنْ ما. تَتَّبِعُونَ في ذلك. تَخْرُصُونَ تكذبون، وأصل معنى الخرص: الحزر والتخمين. الْحُجَّةُ الدليل المبين الحق. الْبالِغَةُ التامة. هَلُمَّ أحضروا. يَعْدِلُونَ يتخذون له عدلا مساويا، والمراد: يشركون. المناسبة: لما حكى الله تعالى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل، حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من أنواع الكفر أو الشرك،

التفسير والبيان:

فيقولون: لو شاء الله منا ألا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر، وحيث لم يمنعنا عنه، ثبت أنه مريد لذلك، فإذا أراد الله ذلك منا، امتنع منا تركه، فكنا معذورين فيه. وهذا حكاية عن لسان حالهم أو عما سيقولونه لأن الله محيط علمه بكل شيء سيقولونه، فهو من إخباره بالمغيبات قبل وقوعها. التفسير والبيان: هذه شبهة تشبّث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك، والتحريم لما حرموه، فأخبر بما سوف يقولونه. إنهم يقولون: إن شركهم، وشرك آبائهم، وتحريمهم ما أحل الله من الحرث والأنعام، هو بمشيئة الله وإرادته، ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب الجبرية بعينه. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل 16/ 35] وقوله عز وجل: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف 43/ 20] . فردّ الله عليهم شبهتهم بقوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ ... أي مثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركي العرب وأهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى، وقصر التشريع والتحليل والتحريم عليه، وإبطال الشرك، كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم والعقل. وذلك لأنهم كذبوا ما جاءت به الرسل، ولم ينظروا فيها، وإنما أعرضوا

عنها، ولأن قولهم لو كان صحيحا لما عاقبهم الله تعالى على كفرهم لأن الله عادل، فلو كانت أعمالهم المكفّرة صادرة عنهم بإجبار أو إكراه وقهر، لما استحقوا العقاب عليها، ولما كرر تعالى قوله في القرآن مثلا: أخذناهم بذنوبهم، وأهلكناهم بظلمهم وكفرهم. وهو معنى قوله: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم، مما يدل على أن كفرهم وتحليلهم وتحريمهم كان باختيارهم وإرادتهم، وإن كان الله تعالى قادرا على تغيير موقفهم، بأن يلهمهم الإيمان، ويحول بينهم وبين الكفر، وأن ذلك الموقف هو أيضا بإرادة الله لأنه لا يقع شيء في الكون بدون مشيئة الله وإرادته. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يطالبهم بالبرهان على ما زعموا فقال: قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ... أي هل لديكم أمر معلوم وبرهان واضح يصح الاحتجاج به فيما قلتم، فتخرجوه لنا أي تظهرونه وتبينونه لنا لنفهمه؟ وهذا الاستفهام تهكم وإظهار بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة، وتوبيخ لهم على ما يزعمون. وحقيقة حالهم هي ما قال تعالى: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ... أي لا حجة ولا برهان على ما تقولون، وما تتبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد، وما أنتم إلا تكذبون على الله فيما ادعيتموه. ثم أثبت الله تعالى لذاته الإتيان بالدليل الساطع المبين للدين الحق فقال: قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ.. أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الجاهلين بعد إفلاسهم وعجزهم عن الإتيان بدليل مقنع: لله تعالى الحجة التامة الكاملة على ما أراد من إثبات الحقائق وإبطال الباطل، وتقرير أصول الاعتقاد، وتشريع الأحكام الصائبة، وإلغاء ما تذهبون إليه بالآيات الكثيرة والمعجزات التي أيد بها الرسل.

فقه الحياة أو الأحكام:

ولو شاء تعالى أن يهديكم وغيركم وجميع الناس بغير التعليم والإرشاد والنظر والاستدلال، لفعل، فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة، فلا يكون لكم دور في الاختيار، والإرادة، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، ويكون موقف مخالفيكم أيضا بمشيئة الله، فلا يصح أن تعادوهم، وعليكم أن توافقوهم ولا تخالفوهم لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام 6/ 35] وقوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 99] . ثم أمر الله رسوله بمطالبة المشركين بأن يأتوا بشهود يشهدون على صحة ما يدعونه من تحريم الله هذه المحرمات، فقال: قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ ... أي أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم عن عيان أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه وكذبتم وافتريتم على الله فيه. فإن شهدوا على سبيل الفرض، فلا تصدقهم، ولا تسلم لهم، ولا تقبل لهم شهادة إذ لو سلم لهم، فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم، وكان واحدا منهم، لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا، فهم شهود زور كاذبون. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله الدالة على وحدانيته وربوبيته ومنها حقه في التشريع والتحليل والتحريم، ولا تتبع هؤلاء الجاهلين المتبعين لأهوائهم الذين لا يوقنون بمجيء الآخرة، حتى يحملهم الإيمان على سماع الدليل إذا ذكر لهم، وهم يشركون بربهم، ويجعلون له عديلا يشاركه في جلب الخير ودفع الضر، والحساب والجزاء. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي:

1- إن اعتذار الكافرين عن كفرهم بما يشبه قول الجبرية: لو شاء الله منا ألا نشرك لم نشرك اعتذار مرفوض لم يقبله الله تعالى لأنه سبحانه أعطاهم عقولا كاملة، وأفهاما وافية، وأقدرهم على الخير والشر، وأزال الموانع بالكلية عنهم، فإن شاؤوا عملوا الخيرات، وإن شاؤوا عملوا المعاصي والمنكرات. وقد أعانهم الله على حسن الاختيار بإنزاله الكتب، وإرساله الرسل والأنبياء، وإرشاده إلى التوحيد لله بالنظر في المخلوقات، وتأييده الرسل بالمعجزات، وتلك هي الحجة البالغة على أن الله واحد لا شريك له. فأما علم الله تعالى وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه الإنسان إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه، ولا مانع يمنعه، فهو مستطيع الإيمان، قادر على نبذ الكفر. ولو كان الإنسان مجبرا على الكفر والمعصية كالريشة في مهب الرياح كما يزعم الجبرية، لما اقتضى العدل الإلهي تكليفه بشيء، وإثابته وعقابه في الآخرة. وقد تبين بهذا بطلان شبهات الكافرين، ودحض حججهم أمام الحجج الإلهية القاطعة. فإن شهد بعضهم لبعض على صحة ما يقولون، فلا تصدق شهادتهم إلا من كتاب إلهي أو على لسان نبي، وليس معهم شيء من ذلك، وما هم إلا شهود كاذبون مبطلون فيما يخبرون. والمطلوب الإتيان بشهود الحق لا شهود الزور والباطل، فإن قيل: كيف أمر الله نبيه باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ أجيب: أمره باستحضارهم، وهم شهداء بالباطل، ليلزمهم الحجة، ويظهر زيف شهادتهم، فيحق الحق، ويبطل الباطل.

المحرمات العشر أو الوصايا العشر [سورة الأنعام (6) الآيات 151 إلى 153] :

المحرّمات العشر أو الوصايا العشر [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الإعراب: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ما اسم موصول بمعنى الذي، مفعول أَتْلُ، وحَرَّمَ رَبُّكُمْ: صلته، والعائد محذوف، وتقديره: حرّمه ربكم، فحذف الهاء العائدة للتخفيف. ويكون أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بدلا منصوبا من الهاء أو من ما. وأَلَّا زائدة، وتقديره: حرّم أن تشركوا. ويجوز أن تكون أَلَّا تُشْرِكُوا خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو ألا تشركوا. ويجوز أن تكون «أن» بمعنى أي، و «لا» نهي، وتقديره: أي لا تشركوا. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بحرّم، وتقديره: أي شيء حرم ربكم؟ ويجوز الوقوف على قوله: رَبُّكُمْ. ثم تبتدئ وتقرأ: عليكم ألا تشركوا، أي عليكم ترك الإشراك، فيكون أَلَّا تُشْرِكُوا في موضع نصب على الإغراء بعليكم. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً أَنَّ في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ول. ن هذا صراطي. ويجوز قراءة أن مخفة من الثقلية. ويحوز قراءة إن بالكسر، على الابتداء، ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة من صِراطِي لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيما.

البلاغة:

البلاغة: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فيه استعارة السبل للبدع والضلالات. لا نُكَلِّفُ نَفْساً التنكير لإفادة العموم. وَبِعَهْدِ اللَّهِ الإضافة للتشريف والتعظيم. ظَهَرَ وبَطَنَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: تَعالَوْا أقبلوا. أَتْلُ أقرأ وأقص. «أن» مفسرة. إِمْلاقٍ أي فقر. الْفَواحِشَ الكبائر، أي ما عظم جرمه وذنبه كالزنى. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي علانيتها وسرها. إِلَّا بِالْحَقِّ كالقود (القصاص) وحدّ الردة، ورجم المحصن. تَعْقِلُونَ تتدبرون. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ما فيه صلاحه. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ بأن يحتلم أو يكبر، وأَشُدَّهُ : كمال رجولته ومعرفته. بِالْقِسْطِ بالعدل وترك البخس. إِلَّا وُسْعَها طاقتها في ذلك، فإن أخطأ في الكيل والوزن، والله يعلم نيته، فلا مؤاخذة عليه، كما ورد في الحديث. وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي إذا قلتم في حكم أو غيره فاعدلوا في القول. وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة. تَذَكَّرُونَ تتعظون. السُّبُلَ الطرق المخالفة له. فَتَفَرَّقَ تميل. عَنْ سَبِيلِهِ دينه. المناسبة: بعد أنّ بيّن الله تعالى المحرّمات من المطعومات، ردّا على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، أردفه ببيان أصول المحرمات المعنوية (الأدبية) والمادية قولا وفعلا. قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي عليها خاتمة، فليقرأ هؤلاء الآيات: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ إلى قوله: تَتَّقُونَ. وقال ابن عباس: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآيات. وروى الحاكم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم يبايعني على ثلاث؟» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حتى فرغ من

التفسير والبيان:

الآيات، ثم قال: «فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا، كانت عقوبته، ومن أخّر إلى الآخرة، فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه» ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. التفسير والبيان: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وحرموا وحللوا لأنفسهم بأهوائهم ووسوسة الشياطين لهم: هلموا وأقبلوا أقرأ وأقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم حقا وفعلا، ووحيا وأمرا من عنده، لا تخرصا وظنا، فلله وحده حق التشريع والتحريم، وأنا رسوله المبلغ عنه ما أنزل، وهي الوصايا العشر: خمسة بصيغة النهي، وخمسة بصيغة الأمر. وخص التحريم بالذكر، مع أن الوصايا أعم لأن بيان المحرمات يستلزم حلّ ما عداها. وقد بدأها بالشرك بالله لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إثما. وتلك الوصايا هي ما يأتي: 1- نبذ الشرك بالله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً: في الكلام محذوف وتقديره: وأوصاكم «1» ألا تشركوا به شيئا من الأشياء، وإن عظم خلقا كالشمس والقمر والكواكب، أو قدرا ومكانة كالملائكة والنبيين والصالحين، فكل ذلك مخلوق لله وعبيد له: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] . فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم، وتتركوا ما شرعتم من العبادة بالأهواء.

_ (1) دلّ على هذا التقدير قوله تعالى في آخر الآية: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

2 - الإحسان إلى الوالدين:

2- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا صادرا من القلب. وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين حظر الشرك وطاعته وبرّ الوالدين، لأن الله تعالى مصدر الخلق والرزق، والأبوان واسطة، يقومان بعبء التربية ودفع الأذى والضرر عن الولد، قال تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] وقال عز وجل: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان 31/ 14- 15] لذا كان عقوق الوالدين من الكبائر، وبرّهما والإحسان إليهما من أفضل الأعمال، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أيّ العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: برّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» . وروى الحافظ ابن مردويه عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت، كل منهما يقول: أوصاني خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل» «1» . والإحسان إلى الوالدين: معاملتهما معاملة كريمة نابعة من العطف والمحبة، لا من الخوف والرهبة. وكما يفعل الولد مع والديه يفعل أولاده معه ولو بعد حين، روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم» . 3- تحريم وأد البنات: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ: لما أوصى تعالى ببرّ الوالدين والأجداد،

_ (1) قال ابن كثير: ولكن في إسناديهما ضعف. [.....]

4 - تحريم اقتراف الفواحش:

عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فذكر: ومما أوصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم خشية فقر يحل بكم، فإن الله يرزقكم وإياهم، أي يرزقهم تبعا لكم، فلا تخافوا الفقر الحاضر، ولا تخشوا الفقر المتوقع، فإن الله تعالى تكفل برزق العباد، ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً [الإسراء 17/ 31] . والفرق بين التعبيرين: أن تعبير سورة الأنعام يراد به: لا تقتلوهم من فقركم الحاصل، فبدأ برزق الآباء لأنه الأهم بسبب وجود الفقر الحاصل، وأما تعبير سورة الإسراء فيراد: لا تقتلوهم خوفا من الفقر في الآجل المستقبل، فبدأ برزق الأولاد للاهتمام بهم، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم، فهو على الله. وفي هذا إيماء إلى ضرورة الحفاظ على النوع الإنساني، بتحريم إيذاء الأصول (الآباء) والفروع (الأنباء) ورعاية كل منهما، ثم تحريم قتل النفس الإنسانية مطلقا المنصوص عليه في الوصية الخامسة. 4- تحريم اقتراف الفواحش: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ: أي إياكم من الاقتراب من الفواحش وهي كل ما عظم جرمه وإثمه وقبحه من الأقوال والأفعال، كالزنى وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، سواء في الظاهر المعلن أو الباطن السري، وكان العرب في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنى سرا، ويعدون الزنى علانية قبيحا، فحرم الله النوعين، وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 33] . وورد في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» وقال سعد بن عبادة فيما رواه الشيخان: لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح «1» ، فبلغ ذلك

_ (1) المصفح: الممال، جاء في الحديث: «قلب المؤمن مصفح على الحق» أي ممال عليه.

5 - منع قتل النفس بغير الحق:

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ فو الله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» . وقيل: الظاهر: ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن: ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد. روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة: قال: ما ظهر منها: ظلم الناس، وما بطن منها: الزنى والسرقة، أي لأن الناس يأتونهما في الخفاء. 5- منع قتل النفس بغير الحق: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ خصص النهي عن القتل تأكيدا واهتماما به، بالرغم من أنه داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أي حرم الله عليكم قتل النفس التي حرم الاعتداء عليها بالإسلام، أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام بعهد وأمان. روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» . وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا» . وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» . وأما القتل بحق فله ثلاث حالات ورد بيانها في حديث الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا

6 - المحافظة علي مال اليتيم:

بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» وفي لفظ: «كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» . وما ذلك التحريم للقتل إلا لأنه جريمة كبري في حق الإنسانية، واعتداء على صنع الخالق، الذي أوجد وأتقن كل شيء خلقه. ذلكم المحرم مما ذكر وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أوامره ونواهيه، أي ليعدكم لأن تعقلوا الخير والمصلحة في فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. والوصية: أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر. وتذييل الآية بهذه الخاتمة يدلّ على أن ما هم عليه من الشرك وتحريم بعض الأنعام مما لا تعقل له فائدة. 6- المحافظة علي مال اليتيم: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي لا تأخذوا شيئا من مال الأيتام الذين تتولون الإشراف عليهم، إلا بما فيه مصلحة ونفع لهم، في حفظ المال وتنميته، وحمايته من المخاطر، والإنفاق منه بحسب الحاجة، وذلك كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء 4/ 10] . والنهي عن القرب عن الشيء أبلغ من النهي عن الشيء نفسه: لأن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هي مظنّة التأويل، كأن يأكل شيئا من ماله أثناء أداء عمل له فيه ربح. وقد نهى الله تعالى عن الأكل من مال اليتيم إلا لضرورة أو حاجة، فقال: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء 4/ 6] .

7 و 8 - إيفاء الكيل والميزان بالقسط:

وتسلّم الأموال إلى اليتامى حين بلوغهم سن الرشد، لذا قال تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي لا تقربوا مال اليتيم حتى يبلغ مبلغ الرجال في الحنكة والقوة واكتمال الملكات والمدارك العقلية، وذلك كما قال الشعبي ومالك وجماعة من السلف: حتى يحتلم، والاحتلام يكون عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 6] . والمراد من الآية: حفظ مال اليتيم وعدم تبذيره أو إضاعته حتى البلوغ. 7 و8- إيفاء الكيل والميزان بالقسط: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أي أتموا الكيل إذا كلتم للناس، ولا تزيدوا فيه إذا اكتلتم لأنفسكم، وأتموا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تشترون أو لغيركم فيما تبيعون، فلا يكون فيه زيادة ولا نقص، وإنما تمام بالعدل، من غير تطفيف، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «1» الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين 83/ 1- 3] أي أن إيفاء الحق يكون في الحالتين: البيع والشراء. وقوله: بِالْقِسْطِ يوجب تحري العدل حال البيع والشراء بقدر المستطاع، لذا قال: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فعله، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج أي بقدر الطاقة والجهد، فإذا أخطأ الشخص بدون قصد فلا مؤاخذة، روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها : «من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ، وذلك تأويل: وسعها» وهو حديث مرسل غريب.

_ (1) التطفيف: البخس في الكيل والميزان، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم، كما هو مفسر في تتمة الآية.

9 - العدل في القول أو الحكم:

وعاقبة تطفيف الكيل والميزان وخيمة جدا ومنذرة بعقاب أليم، كما حكى الله تعالى عن قوم شعيب عليه السلام: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ الآيات [هود 11/ 85] . 9- العدل في القول أو الحكم: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي فاعدلوا في القول في الشهادة أو الحكم، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم إذ بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد، وهو أساس الملك، وركن العمران، وقاعدة الحكم، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء 4/ 135] وهذا عدل بالقول، كالعدل المطلوب سابقا في الفعل كالكيل والوزن. 10- الوفاء بالعهد: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا أي وأوفوا بعهد الله، وذلك بإنجازه وتنفيذه، وإطاعة الله فيما أمر ونهى، والعمل بكتاب الله وسنة رسوله. وهو يشمل: ما عهده الله إلى الناس على ألسنة الرسل، وما آتاهم الله من العقل والفطرة السليمة كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس 36/ 60] ، وما عاهده الناس عليه، كما قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل 16/ 91] ، وما تعاهد عليه الناس مع بعضهم بعضا، كما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة 2/ 177] . ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي وصاكم الله بهذا رجاء أن تتعظوا وتنتهوا عما كنتم فيه قبل هذا، وليذكر بعضكم بعضا في التعليم والتواصي الذي أمر الله به: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر 103/ 3] .

ثم ختم الله تعالى هذه الوصايا ببيان أن هذا هو منهج الحق وطريق الاستقامة، فقال: وَأَنَّ هذا صِراطِي ... أي ولأن هذا هو الطريق المستقيم، فاتبعوه ولا تتبعوا الطرق المختلفة ذات المذاهب والأهواء والبدع والضلالات، فيؤدي بكم إلى التفرق والاختلاف، والانحراف عن دين الله الحق، ومنهجه الأمثل. قال ابن عباس في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله. وأوضح النّبي صلّى الله عليه وسلّم الصراط المستقيم، روى الإمام أحمد، والنسائي وأبو الشيخ ابن حيان والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطأ بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. وروى أحمد والترمذي والنسائي عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضرب الله مثلا: صراطا مستقيما، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، هلّم ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد إنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه. فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات أمر من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله، ويجب على من بعده من العلماء أن يبلّغوا الناس ويبينوا لهم ما حرّم الله عليهم مما أحلّ، قال الله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران 3/ 187] . وقد تضمنت الوصايا العشر: خمسة منها بصيغة النهي، وخمسة بصيغة الأمر، ولما وردت الأوامر مع النواهي، وتقدّمهن جميعا فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها: وهي الإقرار بوجود الله وتوحيده، والإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث عهد الله ... إلخ. قال كعب الأحبار: هذه الآية مفتتح التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم. قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة (الأنعام) أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملّة. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى. أما الشرك بالله: فهو وكر الخرافات والأباطيل، ومبعث الأهواء والشهوات، وهو مصادم لمقتضيات العقل السليم والفكر الصحيح. وأما الإحسان إلى الوالدين: فواجب تقتضيه الفطرة لأنهما كانا سبب وجود الإنسان، وقد ربياه وأحسنا إليه صغيرا وكبيرا، ومحبتهما جزاء ومكافأة لهما، وعقوقهما مفسد تكوين الأولاد، ومساعد على الغلظة والشذوذ في كل مسالك الحياة.

وقد جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى، ويتلوها نعمة الوالدين لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه، وفي الظاهر هو الأبوان، ونعم الوالدين على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر. وقتل الأولاد: مسبّة وعار، وقسوة وغلظة، وانحدار في مستوى الإنسانية، ولون من ألوان الهمجية، ومصادمة لإرادة الله تعالى. وقد استدل الظاهرية بآية: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ على منع العزل لأن وأد الأولاد يرفع الموجود والنّسل والعزل بإلقاء الماء خارج المحل منع أصل النسل، فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا. لكن جمهور العلماء أباحوه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر» «1» أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا. واشترط مالك والشافعي كون العزل عن الحرة بإذنها، فلا يجوز بغير إذنها، لأن الإنزال من تمام لذتها، ومن حقها في الولد. وتحريم الفواحش ذاتها وتحريم وسائلها وأسبابها: ضرورة صحية وإنسانية واجتماعية، فما من فاحشة أو حرام أو منكر إلا وهو ضار ضررا محضا بصحة الإنسان، ومهدد لوجوده، ومفسد للمجتمع في جميع أحواله ونظامه وتطلعاته. والنهي عن اقتراف الفواحش في الآية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي. وقتل النفس مؤمنة كانت أو معاهدة بغير مسوغ شرعي أو إلا بالحق الذي يوجب قتلها: جريمة كبري، واعتداء شنيع على صنع الخالق. والعاصم من القتل: الإسلام، والسلام أو الأمان، والعهد. والمسوغ الشرعي أو القتل بالحق

_ (1) الحديث صحيح (راجع سبل السلام 3/ 1036) ط دار الجيل- بيروت.

مثل منع الزكاة وترك الصلاة، والدفاع عن النفس، والمحاربة (قطع الطريق) ، والقصاص، والردة، وزنى المحصن. وأجاز بعضهم القتل بسبب اللواط عملا بما روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . وأكل مال اليتامى: ظلم واعتداء على حقوق الضعفاء، واستغلال لحاجتهم وصغرهم. لكن يجوز الأخذ من مال اليتيم بالتي هي أحسن، أي بما فيه صلاحه وتنميته، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، بالاتجار فيه ونحوه من وسائل التنمية. ويدفع المال إلى اليتيم ببلوغ سن الرشد وهو توافر الخبرة المالية، وذهب أبو حنيفة إلى أن أقصى مدة لمنع المال عن اليتيم هي خمس وعشرون سنة. وقد فسّر بلوغ الأشد أي القوة وهي قوة البدن والمعرفة باية أخرى في سورة النساء وهي: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [6] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد. وإيفاء الكيل والميزان بالقسط أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء: فيه حفاظ على الحقوق المالية. والقول بالعدل في الأحكام والشهادات ولو على النفس والأقارب: فيه إنصاف للحق، وإظهار له، ومن المعلوم أن الإسلام هو دين الحق والعدل. والوفاء بعهد الله، أي بجميع ما عهده الله إلى عباده، ويشمل جميع ما انعقد بين إنسانين: أمر يوجبه شكر المنعم الخالق، وتقتضيه المدنية، وتقره الأعراف السليمة لأنه فيما يمس الوعود والعقود بين الناس يوفر الخير والعطاء للجماعة

كلها، ويحقق معنى النظام واحترام الوقت. وأضيف العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به. والسبب في جعل خاتمة الآية الأولى بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وخاتمة الآية الثانية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ : هو كما أوضح الرازي أن المحرّمات الخمسة المذكورة في الآية الأولى (وهي الشرك، وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أمور ظاهرة جلية القبح، فنهاهم الله عنها، لعلهم يعقلون قبحها، فيتركوها. وأما التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الثانية (وهي حفظ مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان، والعدل في القول في الأحكام والشهادات، والوفاء بالعهد) فهي أمور خفية غامضة، وكانوا يفعلونها ويفتخرون بالاتصاف بها، فأمر الله تعالى بها لعلهم يذكرون إن نسوها، وليجتهدوا ويفكروا فيها ليقفوا على موضع الاعتدال. وقال أبو حيان: كرر الوصية على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد أمر الله سبحانه باتباعه، ونهى عن اتباع غيره من الطرق، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، وحصل على السعادة السرمدية «1» . قال ابن عطية: ومن حيث كانت المحرّمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله، جاءت العبارة: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والمحرّمات الأخر شهوات، وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر، فجاءت العبارة: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وركوب الجادة تتضمن فعل الفضائل، وتلك درجة التقوى، فجاءت العبارة: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وأما آية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فأرشدت إلى أن كل ما بيّنه

_ (1) البحر المحيط: 4/ 254

السبب في إنزال التوراة والقرآن [سورة الأنعام (6) الآيات 154 إلى 157] :

الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دين الإسلام هو المنهج القويم، والصراط المستقيم. وأرشدت أيضا إلى وجوب الاتحاد بين المؤمنين والتلاقي بينهم على ما أمر الله به، والتحذير من الاختلاف والفرقة، واتباع غير سبيل الله، وأن الله أهلك الأمم السابقة بالمراء والخصومات، ودلت الآية أيضا على أن كل ما كان حقا فهو واحد. السبب في إنزال التوراة والقرآن [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) الإعراب: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تَماماً منصوب على المصدر أو على أنه مفعول لأجله. وأَحْسَنَ فعل ماض صلة الَّذِي، وفيه ضمير مقدر يعود على الَّذِي وتقديره: تماما على المحسن هو. ومن قرأ أحسن بالرفع كان خبر مبتدأ محذوف وتقديره: على الذي هو أحسن. والجملة من المبتدأ والخبر صلة الَّذِي. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ جملة فعلية في موضع رفع صفة كِتابٌ، ومُبارَكٌ وصف ثان. أَنْ تَقُولُوا متعلق بأنزلناه، وتقديره: كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا. وَإِنْ

البلاغة:

كُنَّا : إن مخففة من الثقيلة عند البصريين واسمها محذوف، وتقديره: وإنا كنا، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى «ما» واللام بمعنى: إلا، وتقديره: وما كنا عن دراستهم إلا غافلين. البلاغة: يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وضع الظاهر موضع الضمير: عنها لتبيان قباحة طغيانهم. المفردات اللغوية: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة، وثُمَّ لترتيب الأخبار. تَماماً للنعمة. عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ بالقيام به. وَتَفْصِيلًا بيانا. لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين. لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل. بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث. وَهذا القرآن. فَاتَّبِعُوهُ يا أهل مكة بالعمل بما فيه. وَاتَّقُوا الكفر. أَنْ تَقُولُوا لئلا تقولوا. طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا هم اليهود والنصارى. وَإِنْ كُنَّا إن: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنا كنا، والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن. عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم وعلمهم أي لم نعرف مثل دراستهم. لَغافِلِينَ لعدم معرفتنا لها إذ ليست بلغتنا. لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب، ووقائعها. وخطبها، وأشعارها، وأسجاعها، على أنا أميون. بَيِّنَةٌ البيان والبيّنة: ما به يظهر الحق. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لمن اتبعه. فَمَنْ أي لا أحد. وَصَدَفَ عَنْها أعرض ومنع الناس عنها. سُوءَ الْعَذابِ أي أشده. المناسبة: بعد أن ذكر الله الوصايا العشر، أخبر عن الغاية من إنزال التوراة على موسى عليه السلام لاشتهارها عند مشركي العرب وسماعهم أخبارها، ثم ذكر مكانة القرآن وكونه كتاب هداية، وأعمل بوجوب اتباعه، ورد على عذر المشركين بعدم الانقياد له، مما لا يصلح عذرا بعد جعل القرآن مباركا كثير الخير والفضل. التفسير والبيان: في الكلام شيء محذوف تقديره: لفظ «قل» أي قل يا محمد الرسول لهؤلاء

الناس: إنا آتينا موسى الكتاب، وهو معطوف على بداية الكلام عن الوصايا العشر، بكلمة ثُمَّ أي ثم قل: إن آتينا موسى الكتاب، ويصبح مجموع الكلام المقول للمشركين: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا، ثم قل لهم وأعلمهم: أننا آتينا موسى الكتاب.. إلخ أي أخبرهم بما أوحي إليك، وبما آتينا موسى. وقد تكرر ذكر التوراة في القرآن لأنها أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور، لاشتمالها على جميع الأحكام التشريعية، فكل منهما شريعة كاملة، بعكس الإنجيل والزبور، فإن الإنجيل كتاب عظات وأمثال وتاريخ، والزبور كتاب ثناء ومناجاة وتراتيل. وكان كثير من عقلاء العرب يتمنى أن يكون لهم كتاب كالتوراة، وأنه لو جاءهم لكانوا أهدى من اليهود وأعظم انتفاعا به، لامتيازهم بحدة الذكاء وحصافة العقل والفهم. ولما أخبر الله عن القرآن بقوله: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ عطف عليه الكلام بمدح التوراة ورسولها، فقال: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ. وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر التوراة والقرآن كما بينت، كقوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا [الأحقاف 46/ 12] وقوله أول هذه السورة: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً. والوصايا العشر التي ذكرت في الآيات الثلاث، والتي لها نظير في سورة الإسراء، كانت أول ما نزل بمكة قبل تشريع أحكام العبادات والمعاملات، وكانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، وهي أيضا أصول الأديان على ألسنة الرسل لقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ

[الشورى 42/ 13] والقدر المشترك من الدين الذي أوصى به جميع الرسل: هو التوحيد، ومكارم الأخلاق، والبعد عن الفواحش والمنكرات. تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن في اتباعه والاهتداء به، كما قال تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء 21/ 73] . ويجوز أن يكون المعنى: وآتينا موسى الكتاب تماما أي تاما كاملا جامعا لكل ما يحتاجه الناس من التشريع، وعلى أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن. لكن يضعف هذا المعنى ما يأتى بعده وهو: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي وآتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه في شريعته، كقوله تعالى عن موسى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف 7/ 145] . وَهُدىً وَرَحْمَةً أي وهو كتاب هداية إلى الحق، وسبب رحمة لمن اهتدى به واتبعه، وقال الرازي: معنى رَحْمَةً: أنه نعمة في الدين. لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي آتيناه الكتاب بمشتملاته المذكورة، لكي يؤمن قومه بلقاء ربهم، أي لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب، وإذا آمنوا بذلك آمنوا بالله وحده لا شريك له. ثم انتقل إلى وصف القرآن الكريم فقال: وَهذا كِتابٌ ... أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، كثير الخير والنفع في الدين والدنيا، ثابت لا ينسخ، جامع لأسباب الهداية الدائمة والنجاة والفلاح، فاتبعوا ما هداكم إليه، واتقوا النار والكفر بما نهاكم عنه ومنعكموه، لتظفروا برحمة الله الواسعة في الدنيا والآخرة. وفي هذا دعوة صريحة إلى اتباع القرآن، من طريق التدبر بآياته. والعمل

هذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا وهو خطاب لأهل مكة: إنما اقتصر إنزال الكتاب على من قبلنا من اليهود والنصارى، أي لينقطع عذركم، ولئلا تقولوا: إنا كنا عن معرفة الكتب السابقة غافلين، لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا، ولأننا قوم أميون لا نعرف ما يعرفه ويدرسه غيرنا. ولئلا تقولوا أيضا لو أنزل علينا ما أنزل عليهم، لكنا أهدى منهم فيما أوتوه لأننا أكثر ذكاء وفهما، وأعمق بصيرة، وأمضى عزيمة، كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [فاطر 35/ 42] أي أهدى من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب. فرد الله عليهم بما يقطع كل تعلل واعتذار بقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ.. أي فقد جاءكم على لسان رسولنا النبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب، ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه، ويقتفون ما فيه، وهو يشتمل على الحق المؤيد بالحجج والبراهين في العقيدة والآداب والأحكام. ثم أبان الله سوء عاقبة من كذب بالقرآن، فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ.. أي لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله، بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك، وأعرض عنها، ومنع الناس عن التفكير فيها، كما كان يفعل زعماء مكة، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الأنعام 6/ 26] . ثم أتبع الله ذلك بالتهديد والوعيد والعقاب لكل معرض عن القرآن، كما هو الشأن الغالب بعد بيان أسباب الهداية، فقال: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ.. أي سنجازي المعرضين عن آياتنا أشد العذاب بسبب حجب عقولهم ونفوسهم وغيرهم عن هداية الله، والإعراض عنها لأنهم يتحملون وزرهم ووزر من

فقه الحياة أو الأحكام:

منعوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين هداية الله، كقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] أي زدناهم عذابا غير عذابهم بسبب إفسادهم وصدهم عن سبيل الحق. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن القرآن مثل التوراة في أصولها الصحيحة الأولى التي فقدت وضاعت، ثم كتب عنها بديل محرّف مشوّه، مما لم يبق منهجا للبشرية وكتابا للإنسانية غير القرآن الكريم، ففيه الهداية الكاملة، والبيان الواضح المؤيد بالبراهين والأدلة العقلية، والنقلية (السمعية) ، ولم يبق لأحد عذر بعد مجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتأييده بالمعجزة الخالدة الباقية من غير تبديل ولا تحريف، فإن كذب به أحد، فلا أظلم منه، وسيلقى جزاء إعراضه وتكذيبه. ودل قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها على تعظيم كفر من كذب بآيات الله، ومنع عنها نفسه وغيره من الإيمان بها لأن الأول ضلال، والثاني منع عن الحق وإضلال. إنذار أخير للكفار بسوء العذاب [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) الإعراب: لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ جملة: لَمْ تَكُنْ صفة النفس.

البلاغة:

البلاغة: هَلْ يَنْظُرُونَ معنى الاستفهام: النفي. قُلِ: انْتَظِرُوا أمر تهديد ووعيد. لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها.. قال أحمد الإسكندري في حاشية الكشاف: 1/ 537: اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف، وأصل الكلام: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل: إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل: ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لفّ الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا بلاغة واختصارا وإعجازا. ومبدأ أهل السنة: لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإن نفع الإيمان المتقدم في السلامة من الخلود في النار. المفردات اللغوية: هَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون أي ما ينتظر المكذبون. إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم. أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي أمره، بمعنى عذابه. أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي علاماته الدالة على الساعة. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهي طلوع الشمس من مغربها، كما في حديث الصحيحين. أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها أي: أو نفسا لم تكن كسبت في إيمانها طاعة، أي لا تنفعها توبتها، كما في الحديث. المناسبة: هذه الآية إنذار للكفار بعد إنذار بسوء العذاب، فلما بيّن الله تعالى أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، بيّن أنهم لا يؤمنون البتة، أي لا أمل في إيمانهم. التفسير والبيان: يتوعد الله تعالى الكافرين والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله، فهم ما ينتظرون ولا يؤمنون إلا إذا جاءهم أحد أمور ثلاثة: وهي مجيء الملائكة، أو مجيء الرب، أو مجيء الآيات القاهرة من الله تعالى.

ومعنى مجيء الملائكة هو مجيئهم لقبض أرواحهم. ومعنى إتيان الله: إتيان ما وعد به من نصر أنصاره وأوعد به من تعذيب أعدائه في الدنيا، والمراد من مجيء بعض آيات الله: حدوث بعض الحوادث القاهرة الموجبة للإيمان الاضطراري. وكان مشركو مكة قد طلبوا نزول الملائكة وإتيان الله أو رؤيته، كما حكى القرآن: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان 25/ 21] . أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 92] وطلبوا أيضا إنزال بعض آيات الله مثل أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء 17/ 92] . وقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله؟ أجيب بأن هذا حكاية عن الكفار، واعتقاد الكافر ليس بحجة، أو أن هذا مجاز، مثل قوله تعالى. فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل 16/ 26] وذلك لقيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال. وفي هذه الآية إيماء إلى تماديهم في تكذيب آيات الله، وعدم الاعتداد بها. ثم وجّه الحق تعالى إنذارا أخيرا لهم بقوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ... أي يوم تأتي الآيات الملجئة للإيمان الاضطراري لا ينفع حينئذ الإيمان مثل إيمان فرعون حينما أحدق به الغرق، كما لا ينفعها توبة لم تكن حدثت في وقت السعة قبل الغرغرة. وبعض هذه الآيات قد يحدث قبل خروج الروح، أو قبيل يوم القيامة حين ظهور أمارات الساعة وأشراطها، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية، فيما أخرجه هو والجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال

فقه الحياة أو الأحكام:

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» . وفي لفظ: «فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثم قرأ هذه الآية. وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» . قُلِ: انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أي قل لهم يا محمد: انتظروا ما تتوقعون حدوثه من دحر الإسلام، وقتل النبي، وزوال الدين، إنا منتظرون وعد ربنا الصادق لنا بالنصر ووعيده المتحقق لأعدائنا، مثل قوله تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس 10/ 102] . وهذا تهديد شديد للكافرين ووعيد اكيد لمن أرجأ إيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 84- 85] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أمور ثلاثة: الأول- إنه لا أمل في إيمان الكفار المعاندين، لتماديهم في تكذيب آيات الله. الثاني- لا ينفع الإيمان الاضطراري عند رؤية العذاب في الدنيا، أو عند مجيء بعض علامات القيامة.

عاقبة الاختلاف في الدين [سورة الأنعام (6) آية 159] :

الثالث- وعيد الكفار وتهديدهم وإنذارهم بإنزال العذاب عليهم إذا لم يؤمنوا. عاقبة الاختلاف في الدين [سورة الأنعام (6) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) المفردات اللغوية: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ باختلافهم فيه، فأخذوا بعضه وتركوا بعضه. وفي قراءة: فارقوا: أي تركوا دينهم الذي أمروا به، وهم اليهود والنصارى. وَكانُوا شِيَعاً فرقا في ذلك. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي فلا تتعرض لهم. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولاه. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يخبرهم في الآخرة عن أفعالهم، فيجازيهم عليها. المناسبة: بعد أن أوعد الله الكفار وأنذرهم بسوء العذاب، وبما ينتظر من الحوادث الرهيبة في آخر الزمان، حذّر الله المؤمنين من التفرق في الدين، كما يفعل أهل البدع والشبهات، وحث على توحيد كلمة المسلمين. التفسير والبيان: روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة. وهذا ما قاله مجاهد. وقال أبو أمامة في قوله: وَكانُوا شِيَعاً هم الخوارج. وقيل عن جماعة (قتادة والضحاك والسدي) : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى، فجعلوه أديانا مختلفة ومذاهب شتى.

وقيل: الآية عامّة في جميع الكفار، قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفا له «1» . وهذا ما صوبه بعض المحدثين، مثل صاحب تفسير المنار «2» ، فقال: والصواب هو الجمع بين الرأيين، فإن الله تعالى، بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة، وأبطل شبهات الشرك، ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق، كما تفرق من قبلهم، كما جاء في سورة آل عمران: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [105] . والمعنى: إن الذين فرقوا دينهم، فآمنوا ببعض وأخذوا به، وتركوا بعضه الآخر، وتأولوا نصوصه على وفق أهوائهم، وصاروا فرقا، كل فرقة تأخذ برأي وتتعصب لمذهب، لا تتعرض لهم يا محمد ودعهم وشأنهم ولا تقاتلهم، وإنما عليك تبليغ الرسالة، ومناصرة شعائر الدين الحق، أنت بريء منهم ومن أفعالهم، وبعيد من أقوالهم ومذاهبهم، والله يتولى أمرهم وحسابهم، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم على تجزئة الدين. قال الرازي: المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وألا يتفرقوا في الدين، ولا يبتدعوا البدع «3» . وقد استنكر الله تعالى في موضع آخر هذه التجزئة، فقال عن أهل الكتاب: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة 2/ 85] . وحذر النّبي صلّى الله عليه وسلّم من تفرق المسلمين، روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة (أي فرقة) وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 196 (2) راجع 8/ 214 (3) تفسير الرازي: 14/ 8

فقه الحياة أو الأحكام:

الجماعة» «1» وروى أبو داود، والترمذي- واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين، والنصارى مثل ذلك. وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» «2» فيكون المراد من قوله: فَرَّقُوا دِينَهُمْ اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وقيل: فرقوا دينهم، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وأسباب الاختلاف والتفرق كثيرة، من أهمها: حب السيطرة والسلطة، والتعصب للجنس والقوم، أو للرأي والهوى، والإصغاء لدسائس أعداء الدين ومكائدهم، والجهل والتخلف، واتباع الآخرين في العادات والتقاليد، وتخلي بعض الدول أو أكثرها عن الدين في الفكر والاعتقاد، والسياسة والمنهج، والنظام والقانون. فقه الحياة أو الأحكام: إن شرع الله واحد وكل لا يتجزأ، فلا يصح أخذ بعضه، وترك بعضه، وتعطيل حكم أو ادعاء عدم صلاحيته للعصر، فمن اعتقد ذلك فهو كافر. والتفرق في الدين، والابتداع واتباع الشبهات والشهوات خطر عظيم وجرم كبير وضلال مبين. وما على الأمة إلا جمع كلمتها، وتوحيد رأيها، والحذر من الانزلاق في مهاوي الابتداع مما لم يأذن به الله ورسوله في العبادة والأخلاق والتشريع. وإن هجر تشريع الله بدأ بالتخلي عن بعض أحكامه تدريجيا، حتى أصبح منعزلا عن الحياة.

_ (1) جامع الأصول لابن الأثير: 10/ 407 (2) المرجع السابق: 10/ 408

جزاء الحسنة والسيئة [سورة الأنعام (6) آية 160] :

بل إنه مع الأسف امتد التجزؤ والتجميد إلى بعض نصوص القرآن، فلا يقرأ بعضها في الإذاعات. والآية عامة في كل من فارق الدين وكان مخالفا له، سواء أكان من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من المسلمين (أهل البدع والشبهات) . روى بقيّة بن الوليد بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة: «إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا: إنما هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة، إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة، وأنا بريء منهم، وهم منا برآء» . جزاء الحسنة والسيئة [سورة الأنعام (6) : آية 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) الإعراب: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها: من قرأ بالتنوين عَشْرُ كان عَشْرُ مبتدأ، وأَمْثالِها صفة له، وفَلَهُ خبر مبتدأ مقدم عليه. ومن قرأ بالإضافة كان في حذف الهاء من عَشْرُ وهو مذكر ثلاثة أوجه ذكرها ابن الأنباري 1/ 350: الأول- أن يكون التقدير فيه: عشر حسنات أمثالها، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وهذا مذهب سيبويه. وهذا أوجه الوجوه. والثاني- أنه حمل أَمْثالِها على المعنى لأن الأمثال في معنى حسنات، فكأنه قال: عشر حسنات. والثالث- أن يكون اكتسى المضاف التأنيث من المضاف إليه، كقوله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف 12/ 10] في قراءة التاء، وكقولهم: ذهبت بعض أصابعه.

البلاغة:

البلاغة: بِالْحَسَنَةِ وبِالسَّيِّئَةِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي جزاء عشر حسنات. إِلَّا مِثْلَها أي جزاء واحد مماثلا لها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقصون من جزائهم شيئا. قال بعضهم: الحسنة: قول: لا إله إلا الله، والسيئة: هي الشرك. قال الرازي: وهذا بعيد، بل يجب أن يكون محمولا على العموم «1» . المناسبة: بعد أن بين الله تعالى في السورة أصول الإيمان، وألزم باتباع الوصايا العشر في الفضائل والآداب. وندد بالكفار وأهل البدع، أوضح هنا الجزاء على العمل، سواء أكان من الحسنات: وهي الإيمان والأعمال الصالحة، أم من السيئات: وهي الكفر والمعاصي أو الفواحش. التفسير والبيان: من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة والفعلة الطيبة من الطاعات، فله جزاؤها عشر حسنات أمثالها، وهذا من قبيل العدل والفضل المحدود، ولكن قد تضاعف الحسنة بعد ذلك إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 261] . وقال عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة 2/ 245] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن 64/ 17] .

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 8

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا التفاوت مرده إلى الله تعالى، وإلى اقتران العمل بما يرفعه عند الله، كالإخلاص في النية، واحتساب الأجر عند الله، وإخفاء الفعل الطيب، وإبداؤه أحيانا للاقتداء به، وتحري منفعة الأمة. ومن ارتكب سيئة أو اقترف ذنبا، فله عقوبة سيئة مماثلة لها. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي كل من المحسن والمسيء لا ينقص من عمله شيء، فلا ينقص من ثواب المحسنين، ولا يزاد على عقاب المسيئين. وجاء الحديث النبوي موضحا معيار التفاضل في الحسنات، وطريق الجزاء على السيئات، روى أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إن ربكم عز وجل رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له واحدة، أو يمحوها الله عز وجل، ولا يهلك على الله إلا هالك» والكتابة تكون بواسطة الملائكة، بأمر الله لهم. فقه الحياة أو الأحكام: هذا التفاوت بين جزاء الحسنة وجزاء السيئة بفضل من الله ورحمة منه لأن الثواب- في رأي أهل السنة- تفضل من الله تعالى في الحقيقة، فمن فعل حسنة طيبة، كان له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. وتجوز المضاعفة إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة، حسبما تقتضي الإرادة والمشيئة والحكمة الإلهية، وبقدر ما يقترن به العمل الصالح من قصد حسن وإخلاص لله تعالى. ومن اقترف فعلة سيئة، لم يكن له من الجزاء إلا ما يساويها ويوازيها. روى أبو ذر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى قال: الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو عفو، فالويل لمن غلب آحاده أعشاره» وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم: «يقول الله:

اتباع ملة إبراهيم في التوحيد والعبادة والتبعة الشخصية [سورة الأنعام (6) الآيات 161 إلى 164] :

إذا همّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، وإن لم يعملها، فإن عملها فعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلا تكتبوها، وإن عملها فسيئة واحدة» . وفصل العلماء في شأن تارك السيئة فقالوا: تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام: 1- تارة يتركها لله: فهذا تكتب له حسنة، لكفّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء: أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: «فإنما تركها من جرائي» أي من أجلي. 2- وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها: فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيرا ولا فعل شرا. 3- وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها، كما جاء في الحديث الصحيح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» «1» . اتباع ملة إبراهيم في التوحيد والعبادة والتبعة الشخصية [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 164] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 196 وما بعدها.

الإعراب:

الإعراب: دِيناً منصوب بفعل مقدر دل عليه: هَدانِي، وتقديره: هداني دينا. وقال الزمخشري: نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ لأن معناه: هداني صراطا، بدليل قوله: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح 48/ 20] ، وقِيَماً صفة دِيناً أي دينا ذا استقامة، وقرئ: قيما بالتشديد من قام كسيّد من ساد، وهو أبلغ من القائم. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان وحَنِيفاً حال من إبراهيم. مَحْيايَ بفتح الياء، عملا بالأصل وهو أن من حق الياء أن تكون متحركة مفتوحة، أو حركت لاجتماع ساكنين. ومن قرأ بسكون الياء فلأن حرف العلة يستثقل عليه حركات البناء. أَغَيْرَ اللَّهِ غير: منصوب لأنه مفعول أَبْغِي ورَبًّا تمييز منصوب، والتقدير: أأبغي غير الله من ربّ، فحذف من، فانتصب على التمييز. البلاغة: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: استعار أثقال الحمل على الظهور لأثقال الذنوب والآثام. المفردات اللغوية: دِيناً قِيَماً مصدر بمعنى القيام، أي ذا استقامة، أي أنه قائم مستقيم لا عوج فيه، وقرئ قِيَماً بالتشديد، أي مستقيما، ودين القيّمة بالتأنيث: أي دين الملة الحنيفية، وكل ذلك يعني انه دين يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة، وهو منهاج مستقيم. حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق وهو دين الإسلام. وَنُسُكِي عبادتي من حج وغيره مَحْيايَ وَمَماتِي أي ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، كله لله رب العالمين. أَبْغِي رَبًّا لا أطلب غيره وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ مالكه وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ذنبا

المناسبة:

وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تتحمل نفس بريئة حمل نفس مذنبة آثمة أخرى، فقوله: تَزِرُ تحمل، والوزر: الحمل الثقيل. المناسبة: لما بيّن الله تعالى في هذه السورة دلائل التوحيد، والرد على المشركين ونفاة القضاء والقدر، ختم الكلام بأن الدين القيّم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم القائمة على التوحيد وعبادة الله، ومسئولية كل شخص عن نفسه لا عن غيره، وأن الهداية لا تحصل إلا بالله، وأن الجزاء عند الله على الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فهي دليل سعادته أو شقاوته. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم الله عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهو ملّة أبيه إبراهيم الخليل عليه السلام. قل أيها الرسول للناس قاطبة ومنهم قومك: إن ربي أرشدني ووفقني إلى طريق مستقيم لا عوج فيه، وهو الدين القيّم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، القائم بالحق، الثابت الأصول، وهو المراد في مناجاة الله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. وهو ملة إبراهيم الخليل، فالتزموه، لكونه كان مائلا عن جميع أنواع الشرك والضلالة إلى الدين الحق: دين التوحيد. كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة 2/ 130] وقال: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً، قانِتاً لِلَّهِ، حَنِيفاً، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل 16/ 120- 123] .

وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي وما كان إبراهيم من المشركين أبدا، وإنما كان مؤمنا بالله، موحدا إياه، مخلصا له عبادته. فأما من يعتقد أن الملائكة بنات الله، أو عزيز ابن الله، أو عيسى المسيح ابن الله، فهؤلاء هم المشركون البعيدون عن ملة إبراهيم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء 4/ 125] . هذا هو الدين الحق دين الإخلاص والعبادة لله وحده، وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل، وهذا مخالف لما كان عليه مشركو العرب وزعماء قريش الذين يلقبون أنفسهم «الحنفاء» مدّعين أنهم على ملة إبراهيم، وهو أيضا مخالف لما عليه أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين يدعون أنهم أتباع ملة إبراهيم وأتباع موسى وعيسى، وذلك بدليل رد الله تعالى عليهم بقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 3/ 67] . لذا فإن دعوة الإسلام هي ملتقى جميع الأنبياء، وهو الدين المقبول عند الله كما قال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85] . ثم يأمر الله نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه: بأنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسم الله وحده لا شريك له، مثل قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر 108/ 2] أي أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله بمخالفتهم، وإخلاص القصد والنية والعزم والعمل لله تعالى.

قُلْ: إِنَّ صَلاتِي ... أي إن كل أنواع صلاتي وعبادتي ودعائي ونسكي أي عبادتي- وقد كثر استعمال النسك في الذبح وأداء شعائر الحج والعمرة وغيرهما- وكل ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح هو لله عز وجل، أي أن كل أعمالي ومقاصدي محصورة في طاعة الله ورضوانه، فهي آية جامعة لكل الأعمال الصالحة، وعلى المسلم أن يكون قصده وعمله وكل ما يقدمه من عمل هو وجه الله تعالى، سواء في أثناء حياته، أو ما يعقبه من عمل صالح بعد مماته، هو لله، وإلى الله، وفي سبيل الله، ولطاعة الله تعالى. وخصص الصلاة بالذكر، مع كونها داخلة في النسك، لكونها روح العبادة التي قد تتلوث بمفاسد الشرك. والله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ولا في ربوبيته، فله العبادة وحده، والتشريع منه وحده، بذلك أمرني ربي، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه. وهذا إثبات لتوحيد الألوهية، أعقبه بتوحيد الربوبية، فقال: قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ... أي أغير الله أطلب ربا سواه، مع أنه هو مالك كل شيء، خلقه ودبره، وهو مصدر النفع ومنع الضر، فكيف أجعل مخلوقا آخر ربّا لي؟! وما من عمل يكسبه الإنسان إلا عليه جزاؤه دون غيره، ولا تتحمل نفس بريئة أبدا ذنب نفس أخرى، فكل إنسان مجزي بعمله: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة 2/ 286] . وبما أن كل إنسان مسئول عن عمله، صالحا كان أو سيئا، فإنه سيجزي عنه، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. والرجوع في نهاية المصير من الذين يلقبون أنفسهم «الحنفاء» لله وحده دون غيره، فهو الذي يخبركم باختلافكم في

فقه الحياة أو الأحكام:

الأديان، ويجازيكم عليه بحسب علمه وإرادته، كما قال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران 3/ 55] . فقه الحياة أو الأحكام: تتقابل في أغلب نواحي الحياة واجهتان متعاكستان: التفرق والاتحاد، ولم يسلم دين الله من تأثره بهاتين الواجهتين، فلمّا بيّن تعالى أن الكفار تفرقوا، بين أن الله هدى الأنبياء وخاتمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الدين المستقيم، وهو دين إبراهيم عليهم السلام. والدين الحق القيم يتطلب تسخير كل الطاقات الدينية الإنسانية لله عز وجل، فله وحده يتوجه العبد بصلاته وعبادته ومناسكه وذبائحه وجميع قرباته وأعماله في حياته وما أوصى به بعد وفاته، لأنه سبحانه خالق الكون ومدبره ورب جميع العوالم والكائنات. وكل إنسان عاقل يفرده تعالى بالتقرب بأعماله وطاعاته إليه، دون غيره لأنه إله يستحق العبادة لذاته، وهو مصدر خير الإنسان ونفعه ومنع الضرر عنه. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى قوله: قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأنزله في كتابه. وفي حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان إذا افتتح الصلاة قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- إلى قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. وروى مسلم أيضا هذا الحديث عن علي. وجاء فيه بعد قوله: وأنا من المسلمين: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني

لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» . وأخرجه الدارقطني أيضا وقال في آخره: بلغنا عن النّضر بن شميل، وكان من العلماء باللغة وغيرها قال: معنى قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والشر ليس إليك» : الشر ليس مما يتقرب به إليك. ولم ير الإمام مالك إيجاب التوجه في الصلاة على الناس، ولا قول: «سبحانك اللهم وبحمدك» والواجب عليهم التكبير ثم القراءة، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي الذي علّمه الصلاة: «إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ» ولم يقل له: سبّح، كما يقول أبو حنيفة، ولا قل: وجهت وجهي، كما يقول الشافعي. وقال لأبيّ: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟» قال: قلت: الله أكبر، الحمد لله رب العالمين. فلم يذكر توجها ولا تسبيحا. ويلاحظ أنه ليس أحد بأول المسلمين إلا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. فإن قيل: أوليس إبراهيم والنبيون قبله؟ أجاب القرطبي بثلاثة أجوبة: الأول- أنه أول الخلق أجمع معنى، كما في حديث أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» وفي حديث حذيفة: «نحن الآخرون من أهل الدنيا، الأوّلون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق» . الثاني- أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قال قتادة: إن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه ابن سعد: «كنت أول الناس في الخلق، وآخرهم في البعث» فلذلك وقع ذكره هنا مقدّما قبل نوح وغيره.

الثالث- أول المسلمين من أهل ملّته، كما قال قتادة وابن العربي وغيرهما «1» . وأما قوله تعالى: قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فسبب نزوله أن الكفار قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفّل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ. ودل قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها على أنه لا يؤاخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها. واستدل الشافعي بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح. ورد المالكية على ذلك فقالوا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا، بدليل قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وبيع الفضولي موقوف عند المالكية والحنفية على إجازة المالك، فإن أجازه جاز، بدليل أن عروة البارقي قد باع للنّبي صلّى الله عليه وسلّم واشترى وتصرف بغير أمره، فأجازه النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي هذا الحديث دلالة على جواز الوكالة المتفق عليها بين العلماء، وعلى أن الوكيل لو اشترى بالثمن المدفوع له كدينار أو درهم أكثر من المقدار المسمى، كرطل لحم، فاشترى به أربعة أرطال من تلك الصفة، فإن الجميع يلزم الموكل إذا وافق الصفة ومن جنسها لأنه محسن، وهو قول المالكية والصاحبين من الحنفية. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وحديث عروة حجة عليه. ودل قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى على تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية، وهي مفخرة من مفاخر الإسلام الكبرى، وللآية نظائر

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 155

الاستخلاف في الأرض [سورة الأنعام (6) آية 165] :

كثيرة مثل: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر 74/ 38] قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] . وهذا المبدأ المقرر في هذه الآيات رد على ما كان عليه العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بجريرة أبيه وابنه وحليفه. ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ابنك هذا؟» قال: إي وربّ الكعبة، قال: «حقا» قال: أشهد به، قال: فتبسّم النّبي صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا من ثبت (استقرار) شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي، ثم قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه» وقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. أما قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] فهو مبيّن في الآية الأخرى في قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] أي أن المضل يتحمّل أيضا إثم أتباعه في الضلالة، فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها وتبعه الناس عليها، فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضلّ شيء. الاستخلاف في الأرض [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

الإعراب:

الإعراب: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ دَرَجاتٍ مفعول رَفَعَ، بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ورفع بعضكم فوق بعض إلى درجات، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به، فنصبه. المفردات اللغوية: خَلائِفَ الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا فيها وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ بالمال والجاه وغير ذلك. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم فِي ما آتاكُمْ أعطاكم، ليظهر المطيع منكم والعاصي. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ للمؤمنين رَحِيمٌ بهم. المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى أن مصير جميع الناس إلى الله للحساب والجزاء، ختم السورة بخاتمة رائعة هي أنهم يخلف بعضهم بعضا، لتستمر الحياة، ويتنافس الناس في الأعمال النافعة. التفسير والبيان: جعل الله الناس خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضا فيها، بأن أهلك من قبلهم من القرون والأمم الخالية، واستخلفهم لعمارة الأرض بعدهم، وجعلهم أيضا خلفاء أرضه يملكونها ويتصرفون فيها: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد 57/ 7] . ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الغنى والفقر، والشرف والجاه، والعلم والجهل، والخلق والشكل، والعقل والرزق. وهذا التفاوت ليس ما عجزا وجهلا وإنما لأجل الابتلاء والاختبار فيما أعطاكم، بأن يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك، فيختبر الغني مثلا في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره، ويسأله عن صبره.

ثم يكون الجزاء على العمل، فقد يكون الإنسان مقصرا فيما كلف به، أو قائما به، فيأتي الجزاء تابعا للأعمال. ونظير الآية كثير في القرآن مثل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] . وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» . وأمام الناس بعد هذا الابتلاء إما العقاب وإما الثواب: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وفيه ترهيب وترغيب، فإن حساب الله وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله، وهو أيضا شديد العذاب، لا يهمل وإن أمهل. ووصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب، والعقاب إما في الدنيا بإلحاق الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال، وإما في الآخرة بعذاب جهنم، وقد يكون الأمران معا. وهو تعالى غفور للتائبين رحيم بالمحسنين المؤمنين الذين اتبعوا الرسل فيما جاؤوا به من تكاليف إذ رحمته سبقت غضبه، ووسعت كل شيء، فجعل الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعفها أضعافا كثيرة لمن يشاء، والسيئة بسيئة مثلها، وقد يغفرها لمن تاب منها، ويسترها في الدنيا فضلا وكرما وحلما. قال ابن كثير: وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين: المغفرة والعذاب، كقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد 13/ 6] وقوله: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] إلى غير ذلك من

فقه الحياة أو الأحكام:

الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة، والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ثلاثة أحكام: الأول- الناس خلفاء الأرض، يخلف بعضهم بعضا، فكل جيل يخلف من قبله من الأمم الماضية والقرون السالفة. الثاني- الناس في الدنيا درجات في الخلق والرزق، والقوة، والضعف، والبسطة والفضل، والعلم، من أجل الابتلاء أي الاختبار، فيظهر من الناس ما يكون غايته الثواب والعقاب، ويختبر الموسر بالغنى ويطلب منه الشكر، ويختبر المعسر بالفقر ويطلب منه الصبر. الثالث- الله تعالى سريع العقاب، شديد العذاب للكفار والعصاة، غفور رحيم بالطائعين التائبين. وهذا ترهيب وتحذير من ارتكاب الخطيئة، وترغيب في الطاعة والإنابة والتوبة. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط أحد من الجنة، خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها، وعند الله تسعة وتسعون» وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 200

سورة الأعراف:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعراف مكية وهي مائتان وست آيات. تسميتها: سميت بسورة الأعراف لورود اسم الأعراف فيها، وهو سور بين الجنة والنار، قال ابن جرير الطبري: الأعراف جمع عرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه. روى ابن جرير الطبري عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف، فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلفت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم. صفة نزولها: هي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ. موضوعها: نزلت هذه السورة لتفصيل قصص الأنبياء وبيان أصول العقيدة، وهي كسورة الأنعام بل كالبيان لها، لإثبات توحيد الله عزّ وجلّ، وتقرير البعث والجزاء، وإثبات الوحي والرسالة، ولا سيما عموم بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: تضمنت سورة الأعراف التي هي من أطول السور المكية ما يلي من مبادئ العقيدة الإسلامية: 1- القرآن كلام الله: افتتحت السورة بالتنويه بالقرآن العظيم معجزة الرسول الخالدة، وأنه نعمة من الله، وأنه يجب اتباع تعاليمه. 2- أبوّة آدم عليه السلام: الناس جميعا من أب واحد، أمر الله الملائكة بالسجود له سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة وتقديس، والشيطان عدو الإنسان. وقد أعيد التذكير بقصة آدم مع إبليس، وخروجه من الجنة، وهبوطه إلى الأرض، بسبب وسوسة الشيطان رمز الشر والباطل وصراعه مع الإنسان الذي يدعو إلى عبادة الله وإلى الخير والحق، تأكيدا لما ذكر في سورة البقرة. 3- إثبات التوحيد: وهو الإقرار بوحدانية الله، وعبادته وحده، وإخلاص الدين له، والاعتراف بحقه وحده في التشريع والتحليل والتحريم: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. 4- الوحي والرسالة: الوحي ثابت يتضمن هنا إنزال القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجوهره التكليف بالرسالة الإلهية، وبعثة الرسل إلى الناس: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي. 5- تقرير البعث والجزاء في عالم الآخرة: تضمنت السورة الكلام عن البعث والإعادة يوم القيامة: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ والجزاء والحساب وانقسام الناس بسببه إلى فرق ثلاث: فرقة المؤمنين الناجين أهل الجنة، وفرقة الكافرين الهالكين أهل النار، وأصحاب الأعراف وهو سور بين الجنة والنار.

6- أدلة وجود الله: أقام الله تعالى الأدلة الكثيرة على وجوده مثل خلق السموات والأرض في ستة أيام، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمر الله، وإخراج الثمرات من الأرض 7- التهديد بالإهلاك: أهلك الله الأمم الظالمة عبرة لغيرها، وأنذر الناس بإنزال العذاب المماثل، ورغب بالإيمان والعمل الصالح لإفاضته الخيرات والبركات من السماء والأرض على الأمة: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] وكذا لإرث الأرض والاستخلاف على الآخرين: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] . 8- قصص الأنبياء: أورد الله تعالى مجموعة من قصص الأنبياء: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، للتذكير بأحوال المكذبين أنبياءهم، وللعظة والعبرة، ومن أدلّها قصة موسى مع الطاغية فرعون، وعقاب بني إسرائيل بالمسخ قردة وخنازير لما خالفوا أمر الله. وتشبيه عالم السوء بالكلب: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف 7/ 176] . 9- التنديد بعبادة الأصنام، والتهكم بمن عبد ما لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، من أحجار وهياكل، وذلك كله لتقرير مبدأ التوحيد الذي ختمت به لسورة كما بدئت به.

اتباع القرآن الكريم [سورة الأعراف (7) الآيات 1 إلى 3] :

اتباع القرآن الكريم [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) الإعراب: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ كِتابٌ إما خبر المص على قول من جعله مبتدأ، أي أنا الله أفصل، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا كتاب، والثاني أولى. لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اللام متعلقة بأنزل، وتقديره: كتاب أنزل إليك لتنذر به، وفصل بينهما بقوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. وَذِكْرى إما مرفوع عطفا على كِتابٌ، أو خبر مبتدأ تقديره: هذه ذكرى وإما منصوب عطفا على موضع لِتُنْذِرَ بِهِ أي إنذارا وذكرى، أو عطفا على موضع هاء بِهِ وإما مجرور عطفا على لِتُنْذِرَ بمعنى: للإنذار والذكرى. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قَلِيلًا منصوب بفعل تَذَكَّرُونَ، وما زائدة، وتقدير النصب من وجهين: إما لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره: تذكرون تذكرا قليلا، أو لأنه صفة لظرف زمان محذوف، تقديره: زمانا قليلا. البلاغة: حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه، ففيه حذف مضاف. مِنْ رَبِّكُمْ وصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين فيه إشعار بمزيد اللطف بهم، وترغيب في امتثال الأوامر. المفردات اللغوية: المص تقرأ كما تقرأ الحروف الأبجدية، أي ألف، لام، ميم، صاد، وقد ذكرت في أول سورة البقرة ومثلها آل عمران: أن هذه الحروف المقطعة يراد من افتتاح السور بها الإشارة إلى أن القرآن الكريم مركب من هذه الحروف العربية وأمثالها، فهل يستطيع العرب المعروفون بالفصاحة

التفسير والبيان:

والبلاغة الإتيان بمثله، وبما أنهم قد عجزوا، فيدل ذلك على أنه كلام الله، فحكمتها بيان إعجاز القرآن، وتنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه من أحكام. والغالب أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب مثل: «مريم والعنكبوت والروم وص ون» هي سور مكية لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحي. وأما السور المدنية التي بدئت بها كالبقرة وآل عمران (الزهراوين) فالدعوة فيها موجهة إلى أهل الكتاب. حَرَجٌ ضيق مِنْهُ من تبليغه، مخافة أن يكذبك الناس لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل أي للإنذار به وَذِكْرى تذكرة نافعة وموعظة حسنة مؤثرة. قَلِيلًا ما ما حرف يؤكد معنى القلة تَذَكَّرُونَ أصله: تتذكرون. التفسير والبيان: بدأ الله تعالى هذه السورة المكية بالحروف الأبجدية المقطعة كغيرها من السور التي نزلت بمكة لإثبات النبوة والوحي. هذا القرآن كتاب عظيم الشأن، أنزل إليك يا محمد من عند ربك، بقصد الهداية والخير، ووصفه بالإنزال للدلالة على عظيم قدره وقدر من أنزل عليه. فلا يكن في صدرك ضيق من الإنذار به وتبليغه للناس، وتذكير أهل الإيمان به ذكرى تنفعهم وتؤثر فيهم. ومن المعلوم أن كل نبي ومصلح يلقى عادة إيذاء ومقاومة لدعوته، وصدودا وإعراضا عن رسالته، وما على الداعية إلا الصبر والمثابرة ومتابعة الطريق: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 35] . لذا كان المراد من هذا النهي شد العزيمة والاجتهاد في مقاومة الصعاب، وتحمل الشدائد، انتظارا لما عند الله على ذلك من وعد بالخير والفضل. وبما أن هذا الكتاب ذو مهام خطيرة، فقد خاطب الله تعالى العالم بقوله: اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره وراعيه، فهو وحده صاحب الحق في التشريع وفرض العبادات والتحليل

فقه الحياة أو الأحكام:

والتحريم لأنه العليم بما هو مصلحة، الخبير بما هو مضرة لكم، فلا يشرع إلا الخير والسداد. ولا تتبعوا من دون الله أولياء، كأنفسكم أو الشياطين التي توسوس لكم بما فيه الضرر والخطر، والضلال والفساد، والشر والسوء، والإيهام بأن الأصنام شركاء ذات تأثير عند الله، مع أنها أحجار لا تضر ولا تنفع، أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن الحق إلى الضلال، وعن حكم الله إلى حكم الشيطان والأهواء. ولكنكم تتذكرون قليلا، وتنسون الواجب عليكم نحو ربكم، وهذا مثل قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والعقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولأنه كلام معجز لا يصدر عن بشر ولأن الأحداث ومرور الأزمنة تثبت تفوقه وصلاحه لكل الأوقات، وهذا لا يمكن أن يتصف به تشريع وضعي. 2- واجب النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر الأنبياء تبليغ الوحي المنزل، وأما النتائج والآثار وانتصار الدعوات الإلهية فمردها إلى الله تعالى. وقد سرّى الله عن نبيه فنهاه عن أن يضيق صدره لعدم الإيمان به، فإنما عليه البلاغ، وليس عليه سوى الإنذار به، من شيء من إيمانهم أو كفرهم، كقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف 18/ 6] وقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 3] .

عاقبة تكذيب الرسل في الدنيا [سورة الأعراف (7) الآيات 4 إلى 5] :

3- المقصود بالقرآن إنذار الكافرين والعصاة بسبب إعراضهم عنه، وتذكير المؤمنين به لأنهم المنتفعون به. 4- الأمر العام لجميع الناس باتباع ملة الإسلام والقرآن، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه. واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم داخل في ذلك لأن الله تعالى أمرنا باتباعه وطاعته بقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 16/ 44] فدلت الآية على وجوب اتباع الكتاب والسنة. 5- تحريم اتباع أحد من الخلق في الدين، كما فعل أهل الكتاب في طاعة رهبانهم: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] . 6- ترك اتباع الآراء الشخصية أو الاجتهادية مع وجود النص الشرعي. 7- المنع من عبادة أحد مع الله، واتخاذ من عدل عن دين الله وليا، علما بأن كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه. عاقبة تكذيب الرسل في الدنيا [سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) الإعراب: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ... كَمْ مبتدأ، وجملة: أَهْلَكْناها صفة لقرية. وفَجاءَها بَأْسُنا خبر المبتدأ، ومعنى: أَهْلَكْناها: قارب إهلاكنا إياها. حتى لا يكون تكرار مع قوله: فَجاءَها بَأْسُنا. ويجوز أن تكون كَمْ في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه: فَجاءَها بَأْسُنا، لا أهلكنا لأن أهلكنا صفة، والصفة لا تعمل في الموصوف.

البلاغة:

وبَياتاً منصوب على المصدر في موضع الحال. أَوْ هُمْ قائِلُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من أهل القرية. البلاغة: فَجاءَها على حذف مضاف تقديره: فجاء أهلها، لقوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ ولا حاجة لتقدير المضاف الذي هو الأهل قبل قَرْيَةٍ أو قبل الضمير في أَهْلَكْناها لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها. بَياتاً ... وقائِلُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَكَمْ اسم يفيد التكثير، وهي خبرية قَرْيَةٍ مكان اجتماع الناس، أو الناس أنفسهم أَهْلَكْناها أردنا إهلاكها أو قاربنا إهلاكها. بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا، البينات: الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرّة قائِلُونَ نائمون بالظهيرة، من القيلولة: وهي استراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم، أي مرة جاءها ليلا، ومرة جاءها نهارا. دَعْواهُمْ قولهم ودعاؤهم. المناسبة: لما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ، وأمر القوم بالقبول والاتباع، ذكر في هذه الآية ما يترتب على المخالفة من عقاب ووعيد، من طريق التذكير بإهلاك الأمم السابقة، لمخالفتهم الرسل وتكذيبهم. التفسير والبيان: كثير من القرى وأهلها أهلكناهم بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فجاءهم العذاب أو الهلاك مرة ليلا كقوم لوط، ومرة نهارا كقوم شعيب، أتاهم العذاب على غرّة أو حين القيلولة: وهي الاستراحة وسط النهار، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ

فقه الحياة أو الأحكام:

أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى، وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف 7/ 97- 98] وقال: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل 16/ 45- 47] . فما كان قولهم عند مجيء العذاب، إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا، أي لم يصدقوا بشيء عند الإهلاك إلا بالإقرار بأنهم كانوا ظالمين. قال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قوله: «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى الآتي: 1- إن عصيان أوامر الرسل وتكذيبهم موجب للخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. وعذاب الدنيا يأتي في وقت الغفلة واللهو، إما ليلا أو حين القيلولة نهارا. 2- كل مذنب حين توقيع العقاب الدنيوي عليه يعترف بجرمه، ويندم على ما فرط منه. 3- المقصود بالآية الإنذار والتخويف والعبرة بما حل بالأمم السابقة، فيحملهم الخوف على إصلاح أمورهم، والإقلاع عن معاصيهم: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد 13/ 11] . 4- الجزاء أو العقاب الإلهي في الدنيا حق وعدل ومطابق للواقع، ولا يجيء العذاب إلا بعد العصيان وإعذار الناس من أنفسهم.

عاقبة الكفر في الآخرة والحساب الدقيق على الأعمال [سورة الأعراف (7) الآيات 6 إلى 9] :

عاقبة الكفر في الآخرة والحساب الدقيق على الأعمال [سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 9] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) الإعراب: اللام في فَلَنَسْئَلَنَّ وفَلَنَقُصَّنَّ لام القسم، المراد بها التوكيد. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ: الْوَزْنُ مبتدأ، ويَوْمَئِذٍ خبره. والحق: مرفوع من ثلاثة أوجه: إما لأنه صفة للوزن، أو لأنه بدل من الضمير المرفوع في الظرف الذي هو خبر للمبتدأ، أو لأنه خبر عن المبتدأ، ويَوْمَئِذٍ: ظرف ملغى منصوب بالوزن. البلاغة: ثَقُلَتْ وخَفَّتْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي الأمم عن إجابتهم الرسل، وعملهم فيما بلغهم وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عن الإبلاغ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ لنخبرنهم عن علم بما فعلوه وَما كُنَّا غائِبِينَ عن إبلاغ الرسل، والأمم الخالية فيما عملوا. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ للأعمال يوم القيامة الْحَقُّ العدل، صفة الوزن فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بالحسنات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بالسيئات فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتصييرها إلى النار يَظْلِمُونَ يجحدون آيات الله. المناسبة: بعد أن أنذر الله تعالى المخالفين رسلهم بعذاب الاستئصال في الدنيا، أتبعه

التفسير والبيان:

بالتهديد بعذاب آخر يوم القيامة، وأبان أنه يسأل جميع الناس عن أعمالهم، سواء أهل العقاب وأهل الثواب. ولما بيّن في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة: السؤال والحساب، بيّن أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال. التفسير والبيان: يسأل الله تعالى الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ الرسالات. فيسأل الله كل فرد من أفراد الأمم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل الرسل عن تبليغهم وعن مدى إجابة أقوامهم لهم، وعما صدر منهم من إيمان أو كفر، فهي مسئولية تضامنية عامة كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ، فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص 28/ 65] وقال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 5/ 109] وقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ [الأنعام 6/ 130] ويوضح هذه المسؤولية بين الراعي والرعية ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلّغوا.

والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم، فلما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير. والتوفيق أو الجمع بين قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] وقوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص 28/ 78] : هو أن ليوم القيامة مواقف وأحوالا متعددة، فقد يكون السؤال والجواب في بعضها دون بعض، وقد يكون السؤال لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة. وقال الرازي: إن القوم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها، ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها «1» ، أي الموانع التي حالت بينهم وبين التزام الأحكام الشرعية. فلنخبرن عن علم ومعرفة وإحاطة تامة الرسل وأقوامهم بكل ما حدث منهم، فلا يغيب عنا شيء قليل أو كثير، وإن كان مثقال ذرة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض. قال ابن عباس في آية: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ: يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كان يعملون. وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم في وقت أو حال، بل كنا معهم نسمع قولهم، ونبصر فعلهم، ونعلم ما يسرون وما يعلنون، ونخبر العباد يوم القيامة بمنا قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، كما قال: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 23 [.....]

الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] فقوله: وَما كُنَّا غائِبِينَ يعني كنا شاهدين لأعمالهم. وهذا دليل على أن السؤال ليس للاستعلام والاستفهام عن شيء مجهول عن الله تعالى، بل للإخبار بما حدث منهم توبيخا وتقريعا على تقصيرهم وإهمالهم. والمخبر به هو المحاسب عنه، وهو الذي يعقبه الجزاء. ثم بيّن تعالى قانون الحساب والجزاء فقال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ.... أي وزن الأعمال للرسل وأقوامهم والتمييز بين راجحها وخفيفها يوم القيامة يكون على أساس من الحق والعدل التام، فلا يظلم تعالى أحدا، كقوله: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40] . فمن ثقلت موازينه، أي رجحت موازين أعماله بالإيمان والحسنات على السيئات، فأولئك هم الفائزون بالجنة، الناجون من العذاب. والموازين جمع ميزان أو موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم. ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة سيئاته، فأولئك الذين خسروا أنفسهم، إذ حرموها السعادة والفوز بالنعيم الأبدي، وصيروها إلى عذاب النار. والفريق الأول وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، وإن عذاب بعضهم بقدر ذنوبه، والفريق الثاني وهم الكافرون على تفاوت دركاتهم هم الخاسرون حقا.

وهذا المعنى مكرر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ: نارٌ حامِيَةٌ [القارعة 101/ 6- 11] . والذي يوضع في الميزان يوم القيامة: هو الأعمال، وهي وإن كانت أعراضا معنوية إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما، كما يروى عن ابن عباس. جاء في حديث البراء في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح» وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة عن ابن مسعود: يتمثل المال الذي لم تؤدّ زكاته لصاحبه بصورة ثعبان شجاع أقرع له زبيبتان، ثم يأخذ بلهزمتيه ويقول: أنا مالك، أنا كنزك، ونصه: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوّق به عنقه، ثم قرأ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران 3/ 180] الآية. والدليل على أن الأعمال هي التي توزن: ما أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة، دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة، دخل النار، قيل: ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف» . ونقل القرطبي عن ابن عمر أن التي توزن: صحائف أعمال العباد. وعقب عليه بقوله: وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر وهو: «أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات، فيوضع فيه رقّ مكتوب فيه: لا إله إلا الله، فيثقل» فدل على وزن ما كتب فيه الأعمال، لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفّف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفّتيه من الصحف التي فيها الأعمال.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهل هناك ميزان حقيقة؟ اختلف العلماء، فقال مجاهد والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل كما تقول: هذا الكتاب في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه، وإن لم يكن هناك وزن، أي أن المراد ظهور العدل التام في تقدير الجزاء على الأعمال. وقال الجمهور: هناك وزن حقيقي وميزان، لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وجزائهم عليها. قال الزجّاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفّتان، ويميل بالأعمال. والأولى في الغيبيات أن نؤمن بها كما وردت في القرآن والسنة، ونترك البحث عن صورتها وكيفيتها إلى الله عز وجل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى: فَلَنَسْئَلَنَّ ... على أن الكفار يحاسبون، جاء في التنزيل: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية 88/ 26] بل إن المسؤولية أو الحساب شيء عام لجميع العباد حتى الرسل: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح أي عن جواب القوم لهم، وهو معنى قوله: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب 33/ 8] وسؤال القوم سؤال تقرير وتوبيخ وإفضاح، فهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم. وأما قوله تعالى في سورة القصص: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [78] فهو إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب، وموطن لا يسألون فيه. وقوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول: إنه لا علم لله قول باطل.

كثرة نعم الله على عباده [سورة الأعراف (7) آية 10] :

وقوله تعالى: وَما كُنَّا غائِبِينَ يدل على وجود المراقبة والمشاهدة الإلهية لأعمال الخلائق. والخلاصة: هذه الآية تثبت وجود السؤال والحساب لكل العباد يوم القيامة. وأرشدت الآية الثانية إلى وزن أعمال العباد بالميزان، وهو الحق لخبر جابر المتقدم، وقيل: وزن صحائف أعمال العباد، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح. والمراد من الميزان في قول مجاهد والضحاك والأعمش: العدل والقضاء، والمراد به في رأي الجمهور: الميزان الحقيقي لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله في حسابهم وجزائهم عليها، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من الناجين، ومن رجحت سيئاته على حسناته، فهو من الهالكين المعذبين. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفّتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فيخف وزنه حتى يقع في النار. كثرة نعم الله على عباده [سورة الأعراف (7) : آية 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) الإعراب: مَعايِشَ مفعول جَعَلْنا وهي جمع معيشة، وأصلها معيشة على وزن مفعلة، إلا أنه نقلت كسرة الياء إلى العين، ولا يجوز همزها لأن الياء فيها أصلية، وأصلها في الواحد أن تكون متحركة. فإن كانت زائدة أصلها في الواحد السكون، نحو كتيبة على فعلية، همزت في الجمع، فيقال: كتائب، ونحو مدائن وصحائف وبصائر. وقد قرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج «معائش» بالهمز على تشبيه الأصلية بالزائدة، وهي قراءة ضعيفة قياسا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ يا بني آدم، أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها مَعايِشَ جمع معيشة، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب وغيرها قَلِيلًا ما ما لتأكيد القلة تَشْكُرُونَ تلك النعم. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم، ثم خوفهم بعذاب الدنيا: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وبعذاب الآخرة من وجهين: السؤال والحساب: فَلَنَسْئَلَنَّ.. ووزن الأعمال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ رغبهم في هذه الآية بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام عن طريق التذكير بكثرة نعم الله عليهم، وكثرة النعم توجب الطاعة. التفسير والبيان: أقسم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ ليظهر امتنانه على عبيده بكثرة إنعامه عليهم، بأن جعل الأرض لهم مكانا وقرارا، وسلطهم أو أقدرهم على التصرف فيها، وأباح لهم منافعها، وسخر لهم السحاب والمطر لإخراج أرزاقهم منها، وجعل فيها رواسي وأنهارا. وجعل لهم فيها معايش من وجهين: إما بخلق الله تعالى ابتداء كخلق الثمار وغيرها، أو بطريق العمل والاكتساب واتخاذ الأسباب والاتجار فيها، وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى، وكثرة النعم لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد. ولكن أكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم 14/ 34] وقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] . وشكر النعمة: يكون بمعرفة الله المنعم معرفة تامة، وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت من أجله، بأداء حقوق الله تعالى، واستعمال أعضاء الإنسان في مناحي الخير ورضوان الله وصرفها عن وجوه الشر والمعاصي، وبالشكر بهذا المعنى تدوم النعم ويسعد الإنسان. فقه الحياة أو الأحكام: التذكير بنعم الله تعالى موجب للطاعة والانقياد عند أهل الإيمان، لذا قلّ الشاكرون، وكثر الجاحدون. ومن أجلّ النعم تمكين الإنسان من الاستقرار في الأرض والتصرف بما فيها من خيرات، والانتفاع بمنافعها الكثيرة، وقد أثبتت رحلات الطيران والفضاء، وصعود الإنسان إلى القمر وبعض الكواكب الأخرى في العصر العلمي الحديث مدى تعلق الإنسان بالأرض وحبّه لها وحنينه إليها عند بعده عنها. ومن هذه النعم: تهيئة أسباب المعيشة في الأرض وتوفير ما يعاش به من ألوان المطاعم والمشارب وغيرها كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 2/ 29] . وهذا يدل على أنه لم تخلق هذه النعم إلا لخير الإنسان، والحفاظ على الحياة البشرية، فردا أو جماعة، فأحرى بنا أن تكون هذه الحياة الجسدية أو المادية سببا أو عونا على تزكية الحياة الروحية وتطهير النفس، وإعدادها للحياة الأخروية الأبدية. فما أسعد أهل الإيمان والطاعة بالتزام الأوامر الإلهية، واجتناب المعاصي والموبقات لأنه بالإيمان تطمئن النفس وبالطاعة تحفظ الأعضاء والطاقة الجسدية، والكرامة الإنسانية.

تكريم البشرية بالسجود لآدم وإغواء الشيطان وطرده من الجنة [سورة الأعراف (7) الآيات 11 إلى 18] :

وما أشقى أهل الكفر والفسوق والعصيان لأن الكفر يلازمه القلق والحيرة والاضطراب، ولأن الفسق والمعصية يدمران الإنسان ماديا ومعنويا، فيصبح حائر النفس، ذليلا مهينا على الناس. تكريم البشرية بالسجود لآدم وإغواء الشيطان وطرده من الجنة [سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) الإعراب: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ما استفهامية مبتدأ، مَنَعَكَ جملة فعلية خبر المبتدأ، وأَلَّا تَسْجُدَ في موضع نصب بمنعك، وأَلَّا صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد، كما في آية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 38/ 75] وتزاد كثيرا في كلام العرب. وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه. صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ منصوب بفعل لَأَقْعُدَنَّ على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأقعدن لهم على صراطك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه. اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذءوما: حال من الضمير المرفوع في اخْرُجْ.

البلاغة:

البلاغة: خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ على حذف مضاف، أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم. ما مَنَعَكَ السؤال مع علمه تعالى بما منعه من السجود للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم. لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ استعار الصراط لطريق الهداية الموصل إلى الجنة. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أوجدنا أباكم آدم بتقدير حكيم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي صورناه وأنتم ذرأت في ظهره اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية واحترام إِلَّا إِبْلِيسَ أبا الجن الذي كان بين الملائكة أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة لتأكيد السجود إِذْ أَمَرْتُكَ حين الأمر فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة، وقيل: من السموات، والهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها أَنْ تَتَكَبَّرَ أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين من الصغار: وهو الذل والهوان. أَنْظِرْنِي أخرني وأمهلني مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخرين، وفي آية أخرى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي يوم النفخة الأولى فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإيقاع في الغواية: وهي ضد الرشاد، والباء للقسم، وجوابه: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لبني آدم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي على الطريق الموصل إليك. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من كل جهة، فأمنعهم من سلوكه، قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. مَذْؤُماً معيبا أو ممقوتا، من ذأم: عاب. مَدْحُوراً مبعدا مطرودا عن الرحمة لَمَنْ تَبِعَكَ من الناس، واللام: للابتداء أو موطئة للقسم وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي منك بذريتك ومن الناس، وفيه تغليب الحاضر على الغائب. وفي الجملة معنى جزاء لَمَنْ الشرطية أي من تبعك أعذبه. المناسبة: رغّب الله تعالى في الآيات السابقة بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام، بالتخويف أولا، ثم بالترغيب ثانيا بالتنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق،

التفسير والبيان:

ثم أتبعه ببيان أنه خلق أبانا آدم وكرّمه بأمر الملائكة بالسجود له، والإنعام على الأب إنعام على الابن، لكن قد يتعرض الناس لوسوسة الشيطان وإغوائه، ولا يليق بهم مع هذه النعم العظيمة التمرد والجحود. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في سبعة مواضع في القرآن: في البقرة، والأعراف (هذه السورة) والحجر، وبني إسرائيل (الإسراء) والكهف، وسورة طه، وسورة ص. ومضمون القصة هنا: التنبيه على تكريم آدم، وبيان عداوة إبليس لذريته، وحسده لهم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، وليشكروا الله على نعمه العظيمة. والمعنى: لقد خلقنا أيها الناس أباكم آدم من الماء والطين اللازب، ثم صورناه بشرا سويا، ونفخنا فيه من روحنا، ثم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية. وظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلق ذريته وتصويرهم، وليس الأمر كذلك، لذا تأول المفسرون الآية تأويلات أربعة، اختار منها الرازي القول الأول وهو: خلقنا أباكم آدم وصورناه، وبعد خلقه وتصويره أمرنا الملائكة بالسجود له، ولم يتأخر هذا الأمر عن خلقنا وتصويرنا، وذلك لأن آدم أصل البشر، فالخطاب لنا من باب الكناية، مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة 2/ 93] أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة 2/ 49] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة 2/ 72] ، والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 30

فالمراد بذلك كله آدم عليه السلام، وهو اختيار ابن جرير الطبري أيضا «1» . قال ابن كثير: وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر. وروى الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أنه قال: «خلقوا في أصلاب الرجال، وصوروا في أرحام النساء» وقال أي الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. فيكون معنى الآية: ولقد خلقناكم في ظهر آدم عليه السلام أمثال الذّر، ثم صورناكم أي في الأرحام. قال القرطبي: الصحيح من الأقوال ما يعضده التنزيل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون 23/ 12] يعني آدم. وقال: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء 4/ 1] ثم قال: جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله وذريته نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون 23/ 13] فآدم خلق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود، وذريته صوّروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء «2» . وهذا موافق لرأي الرازي والطبري، ومبيّن تصوير بني آدم، وهو جمع حسن بين الخلقين. وأما السجود لآدم فمتفق عليه لقوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ أي وبعد إتمام خلق آدم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم له ولذريته لا سجود عبادة إذ لا معبود إلا الله وحده، وذلك حتى يعرفوا نعم الله عليهم، فيشكروها، وليحذروا إبليس ووساوسه بعد ما فعله قديما. فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس الذي كان من الجن لا من الملائكة أبى واستكبر، ولم يكن مع الساجدين. فسأله الله: ما منعك ألا تسجد؟ أي ما منعك وحال بينك وبين السجود؟

_ (1) تفسير الطبري: 5/ 94 (2) تفسير القرطبي: 7/ 169

ولا هنا زائدة للتأكيد بدليل اية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص 38/ 75] . فأجاب معتذرا متعللا: إني أنا خير منه، خلقتني من النار، وخلقته من الطين، والنار بما فيها من خاصية الارتفاع والعلو والنور أشرف من الطين الذي يتسم بالركود والخمود والذبول، والشريف لا يعظّم من دونه، وإن خالف أمر ربه. هذا قياس إبليس، وهو أول قياس، لكنه باطل، إذ لا يستدل على الخيرية بالطبيعة المادية، وإنما تكون الخيرية بالمعاني والخصائص المفيدة فائدة أكثر، وقد حبا الله آدم من العلوم والمعارف والتكريم ما لا يجهله إبليس نفسه. وهذا كله مبني على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار أو سؤال وجواب بين الله وإبليس، وما علينا إلا الإيمان بما دل عليه ظاهر الكتاب، وندع أمر الغيب والحقيقة لله عزّ وجلّ. وكان جزاء المخالفة وعصيان الأمر الإلهي أنه تعالى أمر إبليس بالهبوط من الجنة التي خلقه الله فيها، وكانت على مرتفع من الأرض لأن الجنة مكان المخلصين المتواضعين، لا مكان المتمردين المتجبرين، لذا قال تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي فما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الجنة المعدة للكرامة والإسعاد، لا للتكبر والشقاء والعصيان. فاخرج من هذا المكان، إنك من الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض مقصوده، ومكافأة لمراده بضده. فاستدرك اللعين وسأل الإمهال إلى يوم الدين، قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته، فأكون معهم حال الحياة للأخذ بالثأر من طريق الإغواء، وأشهد انقراضهم وبعثهم. فأجابه الله إلى مطلبه، فقال له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤجلين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق، وهي نفخة الفزع لقوله تعالى:

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل 27/ 87] وتسمى أيضا نفخة الصعق لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزّمر 39/ 68] . أي إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى، كما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 13- 14] . ولما أنظر إبليس إلى يوم البعث واستوثق بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: فَبِما أَغْوَيْتَنِي.. أي كما أغويتني أو أضللتني. لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية آدم على طريق الحق وسبيل النجاة والسعادة، ولأضلنهم عنها، لئلا يعبدوك ولا يوحدوك، بسبب إضلالك إياي، وذلك بأن أزيّن لهم طرقا أخرى كلها ضلال وانحراف. ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع (اليمين والشمال والأمام والخلف) إلا أتيتهم منها، مترصدا لهم كما يترصد قاطع الطريق للمارّة. ولا تجد أكثرهم شاكرين لك نعمتك، ولا مطيعين أوامرك، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، وأصاب ما هو حاصل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ 34/ 20- 21] . ثم أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي اخرج من الجنة معيبا ممقوتا، مبعدا مطرودا من رحمة الله.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأقسم الله على أن من تبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفسوق والمعصية، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك أجمعين. وذلك كما في آية أخرى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص 38/ 85] وآية: قالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء 17/ 63- 65] . واستثنى الله تعالى من إغوائه عباده المخلصين، فقال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر 15/ 42] وقال أيضا: قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 38/ 82- 83] . والمراد من كل هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان، واختيارهما في أعمالهما. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تكريم النوع الإنساني بسجود الملائكة لأصل الإنسان وهو آدم أبو البشر. 2- الخلق والتصوير لله وحده، ولا يستطيع أحد من البشر فعل شيء منهما. والخلق لغة: التقدير، وتقدير الله: عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين. والتصوير: عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ. 3- رفض إبليس أمر الله بالسجود لآدم، تكبرا منه واستعلاء لأنه رأى أن النار المخلوق منها أشرف من الطين الذي خلق منه آدم، لعلوها وصعودها

وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن البصري وابن سيرين: أول من قاس إبليس، فأخطأ القياس، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس. وقال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس أي المقاييس الفاسدة التي منها تفضيل النار على الطين، وهو خطأ، لما يأتي: أما جوهر الطين ففيه الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر، وهذا ما دعا آدم عليه السلام إلى التوبة والتواضع والتضرع. والنار سبب للعذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببا للعذاب. وذلك يدل على أن التراب أفضل من النار. إن قياس إبليس هو القياس الفاسد المصادم للنص، أما القياس الصحيح الموافق للنص فيجب العمل به شرعا لانسجامه مع النصوص. قال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وإجماع الأمة، هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. 4- إن جزاء الرفض لأمر الله من إبليس استوجب طرده من الجنة، ذليلا معيبا ممقوتا مطرودا مبعدا من رحمته، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم عن أبي هريرة: «من تواضع لله رفعه الله» وقال أيضا فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من تكبر وضعه الله» وقال بعضهم: لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. 5- سأل إبليس النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب، وطلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فأنظره الله إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية، حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه. لكن إنظار الله تعالى إبليس إلى يوم القيامة

لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق، سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك، فلم يكن ذلك الاعلام موجبا إغراءه بالقبيح. 6- للشيطان دور في إغواء بعض الناس من طريق الوسوسة لهم، والإغواء: إيقاع الغي في القلب، والغي: هو الاعتقاد الباطل. ودل قوله تعالى: فَبِما أَغْوَيْتَنِي على أن الله تعالى أضلّ إبليس وخلق فيه الكفر، لذا نسب الإغواء إلى الله تعالى، وهو الحقيقة ومذهب أهل السنة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. 7- المراد من قوله تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ: أن الشيطان يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها. وتدل هذه الآية على أن إبليس كان عالما بالدين الحق، والمنهج الصحيح لأن صراطك الله المستقيم هو دينه الحق. 8- محاولات إغواء الشياطين لا تقتصر على وجه واحد، وإنما تأتي من كل أوجه الحياة، فينبغي الحذر من الشيطان، لذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، كما روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي» أي من الخسف. 9- دلت آية: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ.. على أن التابع والمتبوع تملأ جهنم منهما، وهذا يشمل الكافر والفاسق، مما يدل قطعا على دخول الفاسق النار، والمذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه، وليس في الآية أن كل من تبعه يدخل جهنم. وتدل الآية أيضا على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأنهم كلهم تابعون لإبليس.

قصة آدم في الجنة وخروجه منها [سورة الأعراف (7) الآيات 19 إلى 25] :

قصة آدم في الجنة وخروجه منها [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) الإعراب: ما نَهاكُما لَهُمَا نافية عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ الشَّجَرَةِ صفة لهذه، وهي اسم جنس، وأسماء الإشارة توصف بالأجناس. إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ لَكُما متعلق بمحذوف، وتقديره: ناصح لكما لمن الناصحين. ولا يجوز أن يكون متعلقا بالناصحين لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول، واسم الفاعل صلة له، والصلة لا تعمل في الموصول، ولا فيما قبله. فإن جعلت الألف واللام للتعريف، لا بمعنى الذين، جاز أن يتعلق بالناصحين، وهو قول أبي عثمان المازني. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَمْ: تردّ الفعل المستقبل إلى معنى الماضي، ودخلت إن الشرطية على لَمْ لتردّ الفعل إلى أصله وهو الاستقبال لأن إِنْ الشرطية ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صار لفظ الفعل المستقبل بعد لَمْ بمعنى الماضي، ردّتها إلى الاستقبال لأنها ترد الماضي إلى الاستقبال.

البلاغة:

البلاغة: وَيا آدَمُ فيه إيجاز بالحذف، أي وقلنا: يا آدم. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ عبر عن الأكل بالقرب مبالغة في النهي عن الأكل منها. وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما أكد الخبر بالقسم وبأنّ واللام لدفع شبهة الكذب. فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: اسْكُنْ أَنْتَ تأكيد للضمير في اسْكُنْ ليعطف عليه وَزَوْجُكَ هي حواء وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل منها، وهي الحنطة. فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، والمراد منها هنا: ما يجده البشر في أنفسهم من الخواطر التي تزين ما يضر وُورِيَ من المواراة أي ما غطّي وستر مِنْ سَوْآتِهِما السوءة: ما يسوء الإنسان ويؤلمه، وسوأة الإنسان: عورته لأنه يسوؤه ظهورها، قال العلماء: في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور. وأنه مستهجن طبعا وعرفا أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي الذين لا يموتون أبدا لأن الخلود لازم عن الأكل منها، كما في آية أخرى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ، وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه 20/ 120] . وَقاسَمَهُما أقسم لهما بالله بكل تأكيد على ذلك حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله. قال الألوسي: وإنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجدّ فيه. فَدَلَّاهُما حطهما عن منزلتهما في الجنة بِغُرُورٍ بخداع منه بالباطل ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهر لكل منهما قبله ودبره، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه، كما ذكر وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما يلزقان ويرقعان من ورق الجنة ورقة فوق ورقة ليستترا به عَدُوٌّ مُبِينٌ بين العداوة. والاستفهام بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُما للتقرير. المناسبة: الآيات استمرار في الكلام عن النشأة الأولى للبشر ودور شياطين الجن في إغواء الناس. والقصد من القصة إرشاد الناس إلى طرق الهداية، وتحذيرهم من وساوس الشياطين، فإن الشيطان بسبب حسده لآدم وحواء سعى في المكر

التفسير والبيان:

والوسوسة والخديعة، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن. وقد ذكرت هذه القصة في القرآن في سبعة مواضع، كما بينت في الآيات السابقة. وكيف وسوس الشيطان لآدم، الذي كان في الجنة، وإبليس أخرج منها؟ قال الحسن البصري: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى فيه. التفسير والبيان: أباح الله تعالى لآدم عليه السلام وزوجه حواء المخلوقة منه سكنى الجنة، وأن يأكلا من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة، فالأمر هنا أمر إباحة لا أمر تكليف. وتلك الجنة في رأي الجمهور هي جنة الخلد، وقيل: جنة من جنان السماء، أو جنة من جنان الأرض. وخاطب الله آدم أولا بطريق الوحي، ثم خاطبه مع زوجته، لتساويهما في الأكل من ثمار الجنة. وما روي في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج» من باب التمثيل المراد به المنع من تقويم المرأة بالشدة والغلظة في المعاملة. وأباح الله بقوله: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لهما الأكل من مختلف ثمار الجنة، ونهاهما عن الأكل من شجرة خاصة لم يعينها لنا في كتابه، وقد علل النهي بأنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لأنفسهما، بفعلهما ما يعاقبان عليه. وهذا امتحان من الله في إباحة الكثير وتحريم القليل. فحسدهما الشيطان، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، فزيّن لهما ما يضرهما ويسوؤهما، بأن تمثّل لهما

وكلّمهما، لتنكشف عورتهما التي يؤثران سترها، أي لتكون عاقبة ذلك ظهور العورة. قال الحسن البصري: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له. وهذا هو الرد على أن إبليس أخرج من الجنة وكان آدم فيها. وقال كذبا وافتراء: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين: أن تكونا ملكين أو خالدين هاهنا لا تموتان وتبقيان في الجنة ساكنين، أي لئلا تكونا ملكين «1» أو خالدين في الجنة، ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلك كقوله: قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه 20/ 120] . وقال الزمخشري: إلا كراهة أن تكونا ملكين. والسبب في اختيار هاتين الخاصتين: أن للملائكة مزايا وخصائص كالقوة والبطش، وطول البقاء، وعدم التأثر بأحوال الكون، وأن الخلود في الجنة بدون موت البتة هو أمل الإنسان. أي أن إبليس أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة: إما ليتصف الآكل بصفات الملائكة، أو لتحقيق الخلود في الحياة. وفي هذه إشارة إلى تفضيل الملائكة على آدم. ثم حلف لهما بالله وأقسم قسما مؤكدا: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فإني من قبلكما هاهنا وأعلم بهذا المكان. وقوله: قاسَمَهُما من باب المفاعلة المراد بها أحد الطرفين، بقصد المبالغة وتغليظ القسم، فإنه حلف لهما بالله على ذلك، حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله.

_ (1) وهذا مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلوا، وقوله: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل 16/ 15 ولقمان 31/ 10] أي لئلا تميد بكم.

فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي ما زال يخدعهما ويغريهما بالترغيب في الأكل من الشجرة، وبالوعد، وبالقسم بالأيمان المغلّظة، حتى نسيا أن الله أخبرهما أنه عدو لهما، وتمكن من زحزحتهما وإسقاطهما من منزلتهما عند الله بسبب طاعتهما، بما غرهما به من اليمين وزيّن لهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه 20/ 115] . ومعنى فَدَلَّاهُما فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله. فلما ذاقا ثمرة الشجرة، ظهرت عوراتهما، وزال النور عنهما، وشرعا يجعلان ورقة على ورقة من ورق أشجار الجنة العريض لستر العورة. وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبخا بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي ألم أنهكما من الاقتراب من هذه الشجرة والأكل منها، وأقل لكما: إن الشيطان ظاهر العداوة لكما، فإن أطعتماه أخرجكما من دار النعيم وهي الجنة إلى دار الدنيا وهي دار الشقاء والتعب في الحياة، فاحذروا الشيطان كما قال: فَقُلْنا: يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى [طه 20/ 117] . قالا: رَبَّنا ظَلَمْنا.. أي قالا: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بمخالفة أمرك وطاعة الشيطان عدوك وعدونا، وإن لم تستر ذنبنا وترض عنا وتقبل توبتنا، لنكونن من الذين خسروا الدنيا والآخرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 37] . ثم خاطب الله آدم وحواء وإبليس بقوله: قالَ: اهْبِطُوا.. أي أنزلوا من هذه الجنة، بعضكم عدو لبعض، يعني أن العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول البتة، فإبليس يعاديهما أي آدم وحواء وهما يعاديانه. فعلى الإنسان أن يحذر من وساوس الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر 35/ 6] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والإخراج من الجنة كان هو العقاب على تلك المعصية، أما العقاب الأخروي فقد عفا الله عنه بالتوبة التي أذهبت أثره وقبلها الله تعالى، كما قال: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه 20/ 121- 122] . ثم أبان تعالى أجل الإنسان في الدنيا فقال: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ.. أي لكم قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول، فيها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم، وفيها تموتون حين انتهاء الأجل، ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء بعد الموت حينما يريد الله: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه 20/ 55] . فقه الحياة أو الأحكام: بعد إخراج إبليس من موضعه في السماء، قال الله لآدم: اسكن أنت وحواء الجنة، وهو أمر تعبد، أو أمر إباحة وإطلاق، من حيث إنه لا مشقة فيه، فليس هو أمرا تكليفيا، ولا يتعلق به تكليف. وهذا دليل على أن سكنى آدم في الجنة كانت في مبدأ حياتهما، ثم أمرا بالنزول إلى الأرض، بسبب كيد الشيطان وحسده ووسوسته، وكان أخطر سلاح استخدمه هو تغريرهما بالحلف المؤكد بالله، فانخدعا، وقد يخدع المؤمن بالله. وقد فهم من آية: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ تفضيل الملائكة على البشر، كما في آيات كثيرة منها: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام 6/ 50] ومنها: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء 4/ 172] وقال الكلبي: فضلوا- أي المؤمنون- على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت لأنهم من جملة رسل الله.

واختار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة. وأما هذه الآية أو الواقعة: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فكانت قبل النبوة. ودلت آية: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما على أن كشف العورة من المنكرات، وأنه لم يزل مستهجنا في الطباع، مستقبحا في العقول، وأن الله أوجب ستر العورة، ولذلك ابتدر آدم وحواء إلى سترها، فمن دعا إلى كشف العورات سواء عند الرجال أو النساء فقد هتك ستر الحياء، وأعاد الإنسان إلى البدائية الهمجية، وجعل المرأة سلعة للمتعة والتسلية ولم يرع صون العرض الذي أمر به الدين واقتضته الفطرة السليمة، وكان صنيعه مثل الشيطان: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما. وكان ترغيب إبليس لآدم في مجموع الأمرين: الاتصاف بصفات الملائكة، والخلود من غير موت البتة. وكانت عقوبة آدم وحواء على المخالفة هي الهبوط إلى الأرض، أما عقاب الآخرة فقد أسقطه الله تعالى بالعفو عنهما وبقبول توبتهما. وقد اختار الرازي أن هذا الذنب إنما صدر عن آدم قبل النبوة. وأما آية: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. فدلت على أمرين: 1- وجود العداوة الدائمة بين الإنسان والشيطان، ولما كانت العمدة في العداوة آدم وإبليس، قال تعالى في سورة طه: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [123] . 2- توقيت بقاء الإنسان في الدنيا، بحسب الأجل من الميلاد إلى الوفاة، وفي الأرض يعيش الإنسان وذلك نعمة عظمي، لأنها موضع قرار واستقرار، واستمتاع بزخارف الحياة، وتنعم بمختلف نعم الحياة، ثم يأتي الموت، ثم يأتي البعث والإخراج من القبور، ثم يكون الحساب والجزاء في عالم الآخرة.

توفير حوائج الدنيا لبني آدم وتحذيرهم من فتنة الشيطان [سورة الأعراف (7) الآيات 26 إلى 27] :

ومغزى هذه القصة كما أشرت في المناسبة: هو إرشادنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكر الله وطاعته، وتنفيذ أوامره، واجتناب معاصيه، والحذر من وساوس الشيطان. فإذا عرفنا غرائزنا وميولنا، وعرفنا خطر عدونا وهو الشيطان، وربّينا أنفسنا على تذكر عهد الله وميثاقه بأن نعبده وحده دون سواه، ونزكي النفس بالأخلاق والآداب الحسنة ونعمل على تهذيبها، كنا سعداء الدنيا والآخرة، وأدينا رسالتنا في هذه الحياة. توفير حوائج الدنيا لبني آدم وتحذيرهم من فتنة الشيطان [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) الإعراب: وَلِباسُ التَّقْوى قرئ بالنصب عطفا على قوله: وَرِيشاً أي أنزلنا ريشا ولباس التقوى، وقرئ بالرفع لخمسة أوجه: الرفع على أنه مبتدأ ثان، وخَيْرٌ خبره، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول وهو ذلِكَ. أو يكون ذلِكَ فصلا، وخَيْرٌ خبر المبتدأ، أو يكون ذلِكَ وصفا للباس التقوى، أو يكون بدلا، أو عطف بيان، كأنه قال: ولباس التقوى المشار إليه خير. ورأى الزمخشري أنه مبتدأ، وخبره إما جملة ذلِكَ خَيْرٌ وإما المفرد وهو خَيْرٌ، وذلِكَ صفة للمبتدأ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. يَنْزِعُ عَنْهُما.. جملة فعلية في موضع نصب حال من الضمير في أَخْرَجَ.

البلاغة:

مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ حَيْثُ مبنية على الضم، لوجهين: إما لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد لأنها لا تضاف إلا إلى الجمل، فنزلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني. وإما لأنها أشبهت الحرف، والحرف مبني، فكذلك ما أشبهه. البلاغة: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً مجاز مرسل، أي أنزلنا مطرا ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم ذات الأصواف والأوبار والأشعار. وَلِباسُ التَّقْوى تشبيه بليغ، من إضافة المشبه به إلى المشبه، كما أضيف إلى الجوع في قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة. المفردات اللغوية: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقناه لكم، واللباس: كل ما يلبس في السلم والحرب يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر عوراتكم وَرِيشاً الريش هنا والرياش: ما يتجمل به من الثياب فهو لباس الحاجة والزينة، وأكثر أهل اللغة: أن الريش: ما ستر من لباس أو معيشة. وَلِباسُ التَّقْوى أي لباس الورع والخشية من الله تعالى، بالعمل الصالح والسمت الحسن. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون فيؤمنوا. لا يَفْتِنَنَّكُمُ لا يضلنكم، وأصل الفتنة: الابتلاء والاختبار، والمعنى: لا تتبعوا الشيطان فتفتنوا وَقَبِيلُهُ جنوده وجماعته، والقبيل كالقبيلة. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ للطافة أجسادهم أو عدم ألوانهم إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أعوانا وقرناء. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض مستقرا لهما، أبان أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في شؤون الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا. وذلك يقتضي شكر الله على نعمه العظيمة وعبادته بحق.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يمتن الله تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس ستر العورات، والريش: ما يتجمل به، والأول من الضرورات، والثاني من التكملات والتحسينات. يا بني آدم، اذكروا نعمة الله عليكم وعلى أبيكم آدم من قبل، بما وفرته لكم من حوائج الدين والدنيا كاللباس والرياش، لستر العورات، والاستمتاع بالزينة والجمال، واتقاء الحر والبر. ومعنى إنزاله من السماء: خلقه وإنتاج مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما اقتضته الحاجة، ثم تعلم صنعته وخياطته بإلهام من الله. وهذا الامتنان بنعمة اللباس والزينة دليل على الإباحة، وهو مطابق لفطرة الإنسان بحب الزينة والتظاهر أمام الناس. ويسن الحمد والشكر عند ارتداء الثوب الجديد، لما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استجد ثوبا، فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله، حيا وميتا» . وروى الإمام أحمد أيضا عن علي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عند الكسوة: «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي» . ثم فضل الله تعالى على اللباس المادي أو الحسي لباس التقوى المعنوي فقال: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ وهو كما قال ابن عباس: الإيمان والعمل الصالح، وقيل: هو السمت الحسن، فهذا لا شك خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ معناه: ذلك المذكور وهو إنزال اللباس عليهم من

آيات الله الدالة على قدرته وفضله ورحمته على عباده. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي أن هذه النعم تؤهلهم لتذكر فضل الله عليهم وشكره، ومعرفة عظيم النعمة فيه، والبعد عن فتنة الشيطان، وإبداء العورات. ثم حذر الله تعالى بني آدم من إبليس وجنوده، مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته، بعد ما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف 18/ 50] . كرر الله النداء لبني آدم على وفق الأسلوب العربي في مقام التذكير والوعظ، فقال: لا يَفْتِنَنَّكُمُ أي لا تغفلوا عن أنفسكم، ولا يصرفنكم الشيطان عن الدّين، كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة، فلا تصغوا لوسوسة الشيطان، ولا تهملوا تحصين أنفسكم بالتقوى، وصلوها دائما بذكر الله، فيترتب على فتنة الشيطان ألا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم ووسوس لهما، وزين لهما معصية ربهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها، فأخرجهما من الجنة دار النعيم، وتسبب في هبوطهما إلى الأرض. أخرجهما من الجنة، وتسبب أيضا في نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة، لأجل أن يريهما سوءاتهما، واللام في لِيُرِيَهُما هي لام العاقبة أو الصيرورة، مثل اللام في لِيُبْدِيَ لَهُما. احذروا إبليس فإنه هو وجنوده من الجن يرونكم وأنتم لا ترونهم، والضرر الناجم من العدو الذي لا يرى أخطر من العدو الظاهر المرئي. والوقاية منه تكون بالاستعاذة بالله منه، وبتقوية الروح بالإيمان بالله والصلة به، وبمجاهدة النفس وعدم إصغائها للوساوس، ثم محاولة طردها من

فقه الحياة أو الأحكام:

النفس وتصفية آثارها منها، من طريق التزام قواعد الشرع وآدابه وأخلاقه. ثم أكد التحذير من الشيطان، فأبان أنه تعالى جعل الشياطين أنصارا وأعوانا للكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى إيمانا حقا تزكوا به نفوسهم وتصلح أعمالهم، وذلك بسبب استعدادهم لقبول وسوسة الشيطان، كاستعداد ضعفاء الأجسام لتقبل الأمراض بسرعة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ على وجوب ستر العورة لأنه قال: يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي أنه تعالى جعل لذرية آدم لباسا يسترون به عوراتهم، وفيه دلالة على الأمر بالتستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال الظاهرية والطبري: هي من الرجل الفرج نفسه: القبل والدّبر، دون غيرهما لقوله تعالى: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما. لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما وفي البخاري عن أنس: «فأجرى- ركض- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زقاق خيبر- وفيه- ثم حسر الإزار عن فخذه، حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم» . وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وحجة مالك قوله صلّى الله عليه وسلّم لجرهد: «غطّ فخذك، فإن الفخذ عورة» خرّجه البخاري تعليقا، وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد «1» أحوط، حتى يخرج من اختلافهم، يعني أن الفخذ على الصحيح عند المالكية ليس بعورة، لأنها ظهرت من النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر، ولكن يكره كشفها، لحديث جرهد.

_ (1) هو جرهد بن خويلد، وهو صحابي.

وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح، لكن يجب سترهما عند الشافعية من قبيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأما المرأة الحرة: فعورة كلها إلا الوجه والكفين، عند أكثر أهل العلم، بدليل قول جمهور الفقهاء: من أراد أن يتزوّج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفّيها ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. ودلت آية أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً.. وَرِيشاً على مزيد نعمة الله تعالى بتوفير ما يحتاجه الإنسان في الدنيا، وليعينه على أمر الدين والآخرة. لكن لباس التقوى: وهو الإيمان والعمل الصالح والسّمت الحسن في الوجه هو خير وأبقى، وأخلد وأنقى، وبه النجاة عند الله، وهو طريق القربى إلى الله عز وجل، لأن المعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لبس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلنا إليكم فالبسوه. وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ يدل على تحذير الناس من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم، وبيّن فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان بدليل تأثيره على آدم وحواء وإيقاعهما في الزلة الموجبة لإخراجهما من الجنة، فإذا أثر على آدم فكيف يكون حال آحاد الناس؟ واللباس الذي نزعه الشيطان عن آدم وحواء: هو ثياب الجنة. وقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الإنس لا يرون الجن، ويؤكده الخبر الذي أخرجه أحمد: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى

تشريع المشركين تقليد الآباء وتشريع الله الوحي إلى رسوله [سورة الأعراف (7) الآيات 28 إلى 30] :

الدم» وقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس 114/ 5] وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود: «إن للملك لمّة وللشيطان لمّة- أي بالقلب- فأما لمّة الملك: فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، وأما لمّة الشيطان: فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق» . وفيما عدا هذا جاء في رؤية الجن أخبار صحيحة في البخاري ومسلم. وعقيدتنا أنه لا قدرة للشيطان على البشر بوجه من الوجوه، بدليل قوله تعالى: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم 14/ 22] . واحتج أهل السنة بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على أن الله هو الذي سلّط الشيطان الرجيم على الكافرين حتى أضلهم وأغواهم، زيادة في عقوبتهم، وتسوية بينهم في الذهاب عن الحق، فأصبح الشيطان وليا لمن لا يؤمن. تشريع المشركين تقليد الآباء وتشريع الله الوحي إلى رسوله [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

الإعراب:

الإعراب: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ: الكاف في كَما في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: تعودون عودا مثل ما بدأكم. فَرِيقاً هَدى، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ: فَرِيقاً الأول منصوب بهدى. وفَرِيقاً الثاني منصوب بتقدير فعل دلّ عليه ما بعده، وتقديره: وأضل فريقا حق عليهم الضلالة. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير تَعُودُونَ وتقديره: كما بدأكم تعودون في هذه الحالة. المفردات اللغوية: فاحِشَةً الفاحشة: هي الفعلة المتناهية في القبح، وهي كل معصية كبيرة، كالشرك وطوافهم بالبيت عراة، قائلين: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنهوا عنها أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنه قاله، وهو استفهام إنكاري. بِالْقِسْطِ العدل والاعتدال والتوسط في جميع الأمور. وَأَقِيمُوا معطوف على معنى: بالقسط، أي قال: أقسطوا وأقيموا. وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه، كإقامة الصلاة، وإقامة الوزن بالقسط. وُجُوهَكُمْ الوجه معروف وهو أشرف أعضاء الإنسان، والمراد هنا: إما العضو المعروف من الإنسان مثل قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة 2/ 144] وإما كناية عن توجه القلب وصحة القصد، مثل قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم 30/ 30] . عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي أخلصوا له سجودكم. وَادْعُوهُ اعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. كَما بَدَأَكُمْ خلقكم ولم تكونوا شيئا. تَعُودُونَ أي يعيدكم أحياء يوم القيامة. المناسبة: لما ذكر الله تعالى أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم، ذكر هنا أثرا من آثار تسلط الشياطين على الذين لا يؤمنون، وهو طاعتهم لهم. التفسير والبيان: وإذا فعل المشركون فعلة فاحشة قبيحة ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم

كالشرك والطواف بالبيت عراة رجالا ونساء، والأولى الحكم بتعميم معنى الفاحشة: وهي كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، قالوا: نحن في هذا مقلدون للآباء، متبعون للأسلاف، ويعتقدون أنها طاعات، وأن الله أمرهم بها، وهي في أنفسها فواحش، فكانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش وهم لا يدركون فحشها بأمرين: أحدهما: أنا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا والثاني: أن اللَّهُ أَمَرَنا بِها. أما الحجة الأولى- فلم يجب الله عنها لأنها إشارة إلى محض التقليد، وهو عقلا طريقة فاسدة، وفسادها ظاهر جلي لكل أحد، فلم يحتج إلى الجواب عنه. وأما الحجة الثانية وهي قولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فقد أجاب عنه تعالى بقوله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي إن هذه الأفعال منكرة قبيحة على لسان الأنبياء والمرسلين، والله بكماله منزه عن أن يأمر بها، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمر بها؟! والواقع إنما يأمر بها الشيطان، كما قال تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة 2/ 268] . ثم أنكر الله تعالى عليهم قولهم باستفهام إنكاري فقال: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ... أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته؟! فتشريع الله لا يثبت إلا بوحي منه إلى رسوله، وأنتم تعملون بوحي الشيطان، وتفترون على الله الكذب، فهذا إنكار لإضافتهم القبيح إلى الله، وشهادة على أن مبني قولهم الجهل المفرط. وبعد أن أنكر تعالى صدور الأمر عنه بالفحشاء، أعلن أنه إنما يأمر بالقسط والعدل: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي قل يا محمد لهم: إنما يأمر ربي بالعدل والاستقامة والتوسط في الأمور دون إفراط ولا تفريط.

وأمر ربي بإيفاء عبادته حقها، وأن تقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها، في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود، وهو الصلاة، واعبدوه (ادعوه) مخلصين له الدين، أي الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصا. أي إن هذه الآية تأمر بشيئين: 1- الاستقامة في العبادة في أوقاتها ومحالّها، كما جاء بها الأنبياء والمرسلون المؤيدون بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاؤوا به من الشرائع. 2- الإخلاص لله في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك «1» . ثم احتج تعالى عليهم في إنكارهم الإعادة والبعث: بابتداء الخلق، فقال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. وأنتم حال البعث والحساب بين فريقين: فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإيمان والإخلاص، وهم الذين أسلموا، وفريق حقت عليه كلمة العذاب والصرف عن طريق الثواب، وحق عليه الضلالة لاتباعه إغواء الشيطان وإعراضه. عن طاعة الله، وعلم الله أن أفراد هذا الفريق يضلون ولا يهتدون. فسبب ثبوت الضلالة على هذا الفريق: هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل. إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به. وهذا دليل على أن علم الله بضلالهم لا أثر له في ضلالهم، وأنهم- كما قال الزمخشري المعتزلي- هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين، دون الله سبحانه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 208

وأما على رأي أهل السنة القائلين بأن الهدى والضلال من الله تعالى، فالمعنى أن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء، ولكن الداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. والفريق الثاني يتصف بصفة أخرى هي أنهم يظنون أنهم مهتدون أي على بصيرة وهداية، وهم في الحقيقة ضالون مخطئون: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف 18/ 103- 104] . ويؤكد معنى الآية في الفريق الثاني ما رواه مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم، عن دينهم» . وفسّر بعضهم: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ بأنه كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم. قال ابن عباس: إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن 64/ 2] ثم يعيدهم كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. وهذا موافق لحديث ابن مسعود في صحيح البخاري: «فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» . وبناء على هذا التأويل يكون هناك تعارض بينه وبين قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم 30/ 30] ومثله ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل

فقه الحياة أو الأحكام:

مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» وما جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المتقدم. والتوفيق بين آية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... وآية: فِطْرَتَ اللَّهِ ... وما يؤيد كليهما من الأحاديث: هو أن الله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك، وجعله في غرائزهم وفطرهم. وبعد هذا الخلق على هذا النحو الفطري السليم، قدّر تعالى، وعلم في علمه الأزلي القديم السابق أنه سيكون من الخلق المؤمن والكافر، والشقي والسعيد، وسيطرأ تغير على الحالة الأصلية التي فطروا عليهم، وهو معنى قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي سيؤول أمره في ثاني الحال إلى الكفر بعد الإيمان، وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] والَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- تقليد الآباء والأسلاف مرفوض عقلا وطبعا لأن الله ميّز الإنسان بالعقل الذي يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، فإن كان الآباء على حق وخير، جاز اتباعهم وتقليدهم، وإن كانوا على ضلالة وشر، وجب البعد عن منهجهم وطريقهم، وإلا كانوا على جهل وخطأ. 2- لا يأمر الله إلا بالعدل والاستقامة، وهو منزّه عن الأمر بالفحشاء والمنكر والمعاصي.

_ (1) انظر تفسير ابن كثير: 2/ 209

3- الواجب على المؤمن في عبادة ربه أمران: أن يكون فعله موافقا للصواب الذي قررته الشريعة، وأن يكون خاليا من الشرك، أي بأن يخلص العبادة لله والطاعة، وينأى عن وجوه الخطأ والانحراف. 4- إعادة الخلق بالبعث مثل ابتداء الخلق الأول، بل هو أهون: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] . 5- قال الرازي: إنه تعالى أمر في هذه الآية: قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... بثلاثة أشياء: أولها: أنه أمر بالقسط: وهو قول: لا إله إلا الله، وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له. وثانيها: أنه أمر بالصلاة، وهو قوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. وثالثها: أنه أمر بعبادته مخلصين له الدين «1» . 6- الناس جميعا عند خلقهم مخلوقون مفطورون على فطرة التوحيد ومعرفة الله تعالى، ثم يتغير حال بعضهم بمؤثرات البيئة والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمجتمع. 7- يزيد الله تعالى المؤمنين هداية وتوفيقا إلى الخير، بعد هداية أصل التوحيد ومعرفة الله، وثبوت الضلالة على الكافر بسبب إصغائه لوساوس الشيطان: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن جرير الطبري: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها،

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 57

إباحة الزينة والطيبات من المآكل والمشارب [سورة الأعراف (7) الآيات 31 إلى 32] :

فيركبها عنادا منه لربه فيها لأنه لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ، وهو يحسب أنه مهتد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية «1» ، أي أن العذاب لا يكون فقط على حالة العناد والعلم بالصواب، بل قد يكون على حالة الجهل والانحراف والخطأ في تبين الصواب. إباحة الزينة والطيبات من المآكل والمشارب [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الإعراب: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: يجوز أن يكون ظرفا للخبر الذي هو لِلَّذِينَ آمَنُوا ويجوز أن يكون خبرا. خالِصَةً حال من الضمير الذي في لِلَّذِينَ الذي هو الخبر، وهو العامل في الحال، والعامل في الحال على الحقيقة هو الفعل المحذوف، والتقدير: قل هي استقرت للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة. ومن قرأ بالرفع خالِصَةً فهي خبر ثاني للمبتدأ وهو هِيَ والخبر الأول: لِلَّذِينَ آمَنُوا. البلاغة: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ المراد بالمسجد هنا الطواف والصلاة، فهو مجاز مرسل علاقته المحلية لأنه لما كان المسجد مكان الصلاة أطلق الطواف والصلاة عليه، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال.

_ (1) تفسير الطبري 8/ 159، ط البابي الحلبي.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: خُذُوا زِينَتَكُمْ ما يزينكم ويستر عورتكم، والمراد هنا الثياب الحسنة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عند الصلاة والطواف، أطلق مكان السجود وأريد به الصلاة والطواف. قُلْ إنكارا عليهم. زِينَةَ اللَّهِ اللباس. الطَّيِّباتِ المستلذات. هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي مستحقة لهم، وإن شاركهم فيها غيرهم. خالِصَةً خاصة. نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها مثل ذلك التفصيل. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون، فإنهم المنتفعون بها. سبب النزول: روى مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة، وعلى فرجها خرقة، وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحلّه فنزلت: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ونزلت: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الآيتين. وفي صحيح مسلم عن عروة قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس «1» ،- والحمس: قريش وما ولدت- كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. وفي غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا، ولا يسار يستأجره به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسّه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللّقى.

_ (1) الحمس: سموا بهذا الاسم لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة: الشجاعة.

المناسبة:

فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ الآية. وأذّن مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا لا يطوف بالبيت عريان. قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى: وَكُلُوا أي اللحم والدسم وَاشْرَبُوا. المناسبة: بعد أمر الله تعالى عباده بالقسط: العدل والاستقامة في كل الأمور، طلب إلينا أخذ الزينة في كل مجتمع للعبادة، صلاة أو طوافا، وأباح لنا الأكل والشرب من غير إسراف. قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب. التفسير والبيان: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل عبادة من صلاة أو طواف، والبسوا ثيابكم حينئذ، والمراد بالزينة: الثياب الحسنة، وأقلها ما به تستر العورة. فستر العورة واجب في الصلاة والطواف، وما بعد العورة يسن ستره ولا يجب. وعورة الرجل كما عرفنا في الآيات السابقة: ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين.

واللباس مظهر حضاري رفيع، والأمر بارتداء الثياب وستر العورة من محاسن الإسلام، والإسلام هو الذي نقل القبائل العربية وغيرها من الأفارقة من البدائية والتخلف والتوحش إلى المدينة والحضارة. ويؤيد مدلول الآية في إيجاب الستر ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان، فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود» . وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء» . ثم أباح الله الأكل والشرب من غير إسراف فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا.. أي كلوا واشربوا من الطيبات المستلذات، ولا تسرفوا فيها، بل عليكم بالاعتدال من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا زيادة إنفاق، ولا تجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب، إن الله لا يحب المسرفين، في الطعام والشراب، أي يعاقبهم على الإسراف الذي يؤدي إلى الضرر. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا، واشربوا، والبسوا، وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» . وروى النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أيضا بلفظ: «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» . وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي عن المقدام بن معديكرب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب

ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» . قال بعض السلف: جمع الله الطبّ كله في نصف آية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلا تُسْرِفُوا. يذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال: قوله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» الحديث، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا «1» . وقال البخاري: قال ابن عباس: «كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة» أي كبر وإعجاب بالنفس. والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء. والله تعالى يحب إحلال ما أحل، وتحريم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به، فلا يصح تجاوز الحد الطبيعي كالجوع والعطش والشّبع والرّي، ولا المادي بأن تكون النفقة بنسبة معينة من الدّخل لا تستأصله كله، ولا الشرعي فلا يجوز تناول ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، والخمر، إلا للضرورة، ولا يحل الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا لبس الحرير الطبيعي أو تشبه الرجال بالنساء أو بالعكس. وبناء عليه يكون فعل كل من البخلاء والمترفين المسرفين حراما لا يسوغ

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 192، محاسن التأويل للقاسمي: 7/ 2664

شرعا، أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» . وأكد تعالى سنته وشريعته القائمة على الاعتدال، فرد على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، فقال: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ... ؟ أنكر الله تعالى على أولئك الذين حرموا المباحات، وأمر نبيه أن يقول مستفهما استفهام إنكار من هؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: من حرم الزينة والطيبات من الرزق التي خلق الله موادها لعباده، وعلّمهم بما ألهمهم وأودع في فطرهم كيفية صنعها والانتفاع بها، فهي مستحقّة مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وغيرهم تبع لهم، فإن أشركهم فيها الكفار فعلا في الدنيا، فهي للمؤمنين خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار فإن الجنة محرمة على الكافرين. ومثل هذا التفصيل التام لحكم الزينة والطيبات، نفصل الآيات الدالة على كمال الشرع والدين وصدق النبي وإتمام الشريعة لقوم يعلمون علوم الاجتماع والنفس والطب ومصالح البشر، فيتدبرون ويتعظون، لا لقوم يجهلون هذه العلوم والمعارف اللازمة لتقدم الإنسان والحضارة والمدينة والعمران، فمعنى قوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصّل لكم ما تحتاجون إليه. وكل هذا دليل على أن الإسلام دين الكمال الروحي والعقيدة السليمة، والسمو الخلقي، وقوة الجسد والنفس للتغلب على مصاعب الحياة، وتأدية رسالة الإنسان الذي جعله الله خليفة عنه في الأرض، وسخر له كل ما في السموات والأرض فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 2/ 29] وقال: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لقمان 31/ 20] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: لم يترك الإسلام أو القرآن شيئا من شؤون الحياة المادية والمعنوية إلا أبانها وأوضح أحكامها ومقاصدها، فلم يقتصر على وضع أنظمة التشريع للعلاقات الاجتماعية فحسب، وإنما وضع أنظمة الحياة كلها، مما يدل على أن القرآن شريعة الحياة. ومن هذه الأنظمة وجوب ارتداء الملابس والثياب الحسنة وستر العورة لأنه مظهر حضاري رفيع، ومنها إباحة المآكل والمشارب وطيبات الرزق من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا ترف. وهذا دليل على منهج الإسلام في التوسط بالأمور لأنه دين الوسطية. ومن ألزم حالات الستر: أثناء الصلاة وعند تجمع الناس للطواف بالبيت الحرام وغيره. وقد دلت آية خُذُوا زِينَتَكُمْ على وجوب ستر العورة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض من فروض الصلاة. بل هو- كما قال الأبهري- فرض في الجملة، وعلى الإنسان ستر عورته عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، وهو الرأي الصحيح: لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه مسلم- للمسور بن مخرمة: «ارجع إلى ثوبك، فخذه، ولا تمشوا عراة» . ودلّ قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا على إباحة الأكل والشرب، ما لم يكن سرفا أو مخيلة، أي كبر. قال الجصاص: ظاهر الآية يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال، والإيجاب في بعضها، أما الإباحة ففي الحال التي لا يخاف الضرر بتركهما، وأما الإيجاب ففي الحال التي يخاف لحوق الضرر بترك الأكل والشرب أو الضعف عن أداء الواجبات. وظاهر الآية يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر

الأشربة مما لا يحظره دليل، بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك، لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة ألا يكون مسرفا فيهما «1» . فأما ما تدعو الحاجة إليه: وهو ما سد الجوعة، وسكّن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا لما فيه من حفظ النفس والجسد ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال لأنه يضعف الجسد، ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وهو أمر يمنع منه الشرع، ويدفعه العقل. وأما تناول الزائد عن الحاجة فقيل: حرام، وقيل: مكروه. قال ابن العربي: وهو الأصح فإنّ قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطّعمان «2» . وقد رغب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في تقليل الطعام، فقال فيما رواه الترمذي عن المقدام بن معديكرب: «ما ملأ آدمي ووعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» . وروى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد» المعى: المعدة. والمعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء، والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثاله لأن فقد الإيمان يجعله مقبلا على انتهاب اللذات والمتع المادية. والإسراف بكثرة الأكل والشرب ممنوع شرعا لأن التخمة بالأكل تربك أعضاء الهضم، وتذهب الفطنة، وكثرة الشرب تثقل المعدة، وتثبط الإنسان عن

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 33 (2) أحكام القرآن: 2/ 771

القيام بواجبه الديني والدنيوي، فإن أدى الإسراف إلى المنع من القيام بالواجب حرم، وكان في عداد المسرفين الذين يعاقبهم الله تعالى. ومن الإسراف: تحريم ما لم يحرمه الله على الناس. وقد أنكر الله على من حرّم من تلقاء نفسه من الزينة وهي الملبس الحسن، ما لم يحرّمه الله على أحد. ودلت آية: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ على مشروعية لباس الرفيع من الثياب، والتجمّل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلّة سيراء «1» تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة» فما أنكر عليه ذكر التجمّل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» . وليس لبس الخشن من الثياب سببا في زيادة التقوى، بالتذرع بقوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ فإن كبار الصالحين كانوا يتجملون بالثياب الجياد للجمعة والعيد ولقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود قبيحا عندهم، وقد اشترى تميم الداري حلّة بألف درهم، كان يصلي فيها، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وروى مسلم عن ابن مسعود في النظافة وتحسين الهيئة: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» .

_ (1) سيراء: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه حرير. [.....]

وطيبات الرزق حلال، وهي اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما. وهي مستحقة في الأصل للمؤمنين المصدقين بوجود الله، الموحّدين له، وغيرهم تبع لهم يستمعون بها في الدنيا مع المؤمنين. أما في الآخرة فهي خاصة بالذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء، كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. والخلاصة: الإسلام دين الواقع والحياة، فهو يجمع بين المادة والروح، ويستهدف الكمال المعنوي بالإيمان والأخلاق، والكمال المادي بقوة الأجساد التي تكون عونا على أداء العبادات والجهاد في سبيل الله، فالاستغناء عن الطعام والشراب فيه إضعاف البدن، ويؤدي إلى التقصير في الواجبات. وليست المظاهر من لبس الثياب الجميلة مخلّة بالتقوى والتدين، كما أن التقشف والزهد المبالغ فيه لحرمان النفس من متع الحياة المباحة ليس مرغوبا فيه شرعا. وإنما المهم إصلاح النفس بالأخلاق، وعمارة القلب بالإيمان، وتزكية النفس بالعمل الصالح والجهاد. ولا يعقل أن يكون دين الله سببا لإضعاف أحد، أو لتأخر الأمة، وإنما الضعف أو التخلف ناجم من كسل الناس وتراخيهم وجهلهم، وتفكك جماعتهم، وتنافرهم وتباغضهم. فالإنسان مستخلف عن الله في الأرض، وهو أمين على ما فيها من خيرات وكنوز ومنافع، ومسئول عن القيام بواجبه في تقدم الحياة وإصلاح العمران، والسبق في الحياة بمختلف أنماطها الزراعية والصناعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.

أصول المحرمات على الناس [سورة الأعراف (7) آية 33] :

أصول المحرّمات على النّاس [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) الإعراب: ما ظَهَرَ مِنْها: إِنَّما: في موضع نصب على البدل من الْفَواحِشَ. وَأَنْ تُشْرِكُوا في موضع نصب بالعطف على الْفَواحِشَ، وكذلك قوله: وَأَنْ تَقُولُوا. البلاغة: ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يوجد طباق بين ظَهَرَ وبَطَنَ. ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فيه تهكم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره. المفردات اللغوية: الْفَواحِشَ الأفعال الزائدة في القبح، التي تنفر منها الفطر السليمة والعقول الراجحة، وهي الكبائر مثل الزنى والقذف والسّب القبيح والبخل ونحوها. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي الجهرية والسرية. وَالْإِثْمَ المعصية مطلقا، وهي تشمل الكبائر كما ذكر والصغائر مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وَالْبَغْيَ الظلم وتجاوز الحدود في الفساد والحقوق. سُلْطاناً حجّة. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم ما لم يحرم وغيره. المناسبة: وجه الرّبط بين هذه الآية وما قبلها واضح، فلما أنكر تعالى على المشركين وغيرهم تحريم ما ليس بحرام كالزينة وطيبات الرّزق، ذكر هنا أنواع المحرّمات وأصولها وهي خمسة، جميعها مما يكسبه الإنسان لا من الخلقة والموهبة الفطرية.

التفسير والبيان:

قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون، فنزلت هذه الآية. التفسير والبيان: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرّموا ما أحلّ الله من الطّيبات، واللّباس: إنما حرّم الله خمسة أشياء هي أصول المحرّمات، وهي ما يأتي: 1- الفواحش الظاهرة والباطنة- الجهرية والسرية: وهي الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن، أو هي عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها، أي تزايد، مثل الزنى والسرقة والخروج على الجماعة. 2- والإثم أي ما يوجب الإثم والذّنب: وهو المعاصي الصغائر، فكان معنى الآية: أنه حرّم الكبائر والصغائر، مثل النظر بشهوة لغير الزوجة. وقيل: الإثم: المعصية أو الذّنب مطلقا، وهو عطف عام على خاص. 3- والبغي: أي الظّلم وتجاوز الحدّ في الفساد والحقوق، بالاعتداء على حقوق الناس الآخرين أفرادا وجماعات. وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأن التّجاوز إذا كان لمصلحة عامة أو مع التراضي، فلا شيء فيه. 4- والشّرك بالله: وهو أقبح الفواحش، وهو أن يجعل مع الله إله آخر من صنم أو وثن أو شخص، لم تقم عليه حجّة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجّة سلطانا، لأنها ترجح قول الخصم على غيره، ويكون لها تأثير على عقل السامع وفكره، وهي مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون 23/ 117] . وفي هذا دلالة على أن البرهان أساس الاستدلال على صحة العقيدة، وأن الإيمان لا يقبل بغير وحي من الله، يدعمه الدّليل والبرهان.

5- التّقول على الله بغير علم ولا حجّة: كالافتراء والكذب على الله، بادّعاء أنّ له ولدا، أو شريكا من الأوثان: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] ، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا سند ولا حجّة، وهو القول بالرّأي المحض دون دليل من الشرع، وهو سبب تحريف الأديان، والابتداع في الدين الحق، واتباع الهوى والشيطان، كما فعل أهل الكتاب: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النحل 16/ 116] ، وهو منهج أدعياء التجديد، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد، كما روى الشيخان: «لتتبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» . وطريق الاجتهاد معروف في الشريعة: وهو النظر في القرآن والسّنة والإجماع نظرا صحيحا على أصول شرعية، ثم القياس عليها، أو الأخذ بالرأي الشامل للاستحسان والاستصلاح ونحوهما، وهو الرأي المتفق مع روح الشريعة وأصولها ومبادئها العامة. وقد أثير تساؤل حول هذه الآية، مضمونه أن كلمة إِنَّما تفيد الحصر، فقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرّمات غير محصورة في هذه الأشياء. وأجيب: بأن الجنايات محصورة في خمسة أنواع: أحدها- الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنى، وهي المراد بقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ. وثانيها- الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله: الْإِثْمَ. وثالثها- الجنايات على الأعراض. ورابعها- الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وخامسها- الجنايات على الأديان، وهي من وجهين: أحدها- الطّعن

فقه الحياة أو الأحكام:

في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ. وثانيها- القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، جعل ذكر هذه المحرمات جاريا مجرى ذكر الكلّ، فأدخل فيها كلمة: إِنَّما المفيدة للحصر «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت هذه الآية كما اتّضح من تفسيرها على تحريم أصول الأعمال المحرّمة، وهي تشمل الانحراف عن العقيدة (الشرك بالله) ومصادمة الشريعة: (القول في دين الله بغير علم ولا معرفة، والجنايات على العقول (تحريم الإثم وهو يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة) بدليل قول الشاعر: شربت الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول والإثم كما قال الحسن البصري: الخمر، وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما. والجنايات على الأنساب (الزنى) والجنايات على النفوس والأموال (القتل والسرقة) والأعراض (القذف) وهو الظلم الاجتماعي والفردي المشار إليه بقوله تعالى: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ويظهر من ذلك أن أصول المحرّمات تتناول العقيدة والشريعة والأخلاق أو السلوك والآداب، سواء ما تعلّق بالخطايا المقتصرة على النفس، وهو الإثم، والمتعدية ضررها إلى الناس وهو البغي.

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 67

أجل كل أمة وفرد [سورة الأعراف (7) آية 34] :

أجل كلّ أمّة وفرد [سورة الأعراف (7) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) المفردات اللغوية: أَجَلٌ وقت محدد، أو مدّة معلومة في علم الله. ساعَةً أقل وقت يقضى فيه عمل ما. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى الحلال والحرام وأحوال التّكليف، فأوضح مباحات الزّينة وطيّبات الرّزق من غير إسراف، وأعقبه بذكر أصول المحرّمات لما فيها من الضّرر والفساد، ذكر هنا أنّ لكل فرد أو جماعة أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر، فإذا جاء الأجل مات كل واحد حتما، وفي أثناء الحياة يعرف مدى اتّباع منهج الله في الحلال والحرام، والغرض منه التّخويف، ليتشدد المرء في القيام بالتّكاليف كما يلزم. التفسير والبيان: لكلّ أمّة، أي قرن وجيل، ولكلّ فرد وشيء في الوجود أيضا أجل معلوم وهو الوقت المحدد لانقضاء المهلة، وهو يشمل الوقت المحدد للحياة الدّنيا، ومدّة العزّة والسّعادة، أو الذّل والشقاوة بين الأمم. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي ميقاتهم المقدّر لهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً أي أقلّ مدة من الزمن وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عنها، أي لا يتأخّرون عن ذلك الأجل المعيّن ولا يتقدّمون، لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة، إلا أنه تعالى ذكر الساعة، لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي تعيين المراد بالأجل قولان: الأول- لابن عباس والحسن البصري ومقاتل: وهو أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين، فإذا جاء وقت عذاب الاستئصال، نزل ذلك العذاب لا محالة. والثاني- أن المراد بهذا الأجل: العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه. قال الرازي: والقول الأول أولى، لأنه تعالى قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ولم يقل ولكلّ أحد أجل. وعلى القول الثاني: إنما قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ولم يقل: لكلّ أحد، لأن الأمّة هي الجماعة في كلّ زمان، وهي مكوّنة من الأفراد، وهي متقاربة في الأجل، لأن ذكر الأمّة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأبلغ. وعلى القول الثاني: يلزم أن يكون لكل أحد أجل، لا يقع فيه التّقديم والتّأخير، فيكون المقتول ميتا بأجله. فقه الحياة أو الأحكام: إن آجال الأمم والجماعات والأفراد مؤقتة محددة بوقت معين، فإذا جاء أجل الموت، لم يتأخّر ولم يتقدّم لحظة. وأجل الموت: هو وقت الموت، وأجل الإنسان: هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة، وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره، فليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص، ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت، لأن هذا يقتضي خروجه تعالى عن كونه قادرا مختارا. وفي هذا دليل على أن المقتول إنما يقتل بأجله.

ما خوطبت به كل أمة على لسان رسولها وإنذار المكذبين بآيات الله [سورة الأعراف (7) الآيات 35 إلى 36] :

أما الأجل المعنوي فللأمم دورات في التاريخ، فقد تكون عزيزة سعيدة، وقد تصبح ذليلة شقية. وفي المقياس الشرعي: عزّة الأمّة وسعادتها بامتثال الشّرع، والالتزام بالدّين، والتّمسك بالأخلاق والفضائل، وذلك لأجل معين. وشقاء الأمة بإعراضها عن الدّين، وابتعادها عن الفضائل والأخلاق، وانتشار الرّذائل والمنكرات والمفاسد والمظالم في أوساطها، وذلك يعجل دمارها، ولها فيه أجل معيّن. وقد تفضّل الله على الأمم بعد بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فرفع عنها عذاب الاستئصال والإبادة الجماعية، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] . وهذا ينطبق على الأمة الإسلامية وغيرها، والآية تهديد ووعيد بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله، لكلّ من يخالف أمر الله، ويسير في الضلالة على غير هدى، كأهل مكة ونحوهم من الأمم الباغية. ما خوطبت به كلّ أمّة على لسان رسولها وإنذار المكذّبين بآيات الله [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: إِمَّا أدغمت نون: إن الشرطية في ما الزائدة، أي إن يأتكم. وضمّت «ما» إلى «إن» الشرطية تأكيدا لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة. يَقُصُّونَ القصص: اتّباع الحديث بعضه بعضا. آياتِي أي فرائضي وأحكامي. فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ شرط وما بعده جوابه، وهو جواب الشرط الأول: إِمَّا. وقوله: وَأَصْلَحَ أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. وقيل: جواب: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ: ما دلّ عليه الكلام، أي فأطيعوهم، فمن اتّقى وأصلح. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن لكلّ أحد أجلا معيّنا لا يتقدّم ولا يتأخّر، بيّن أحوال بني آدم بعد الموت، إن كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدّ العذاب. التفسير والبيان: أنذر الله تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته ويخبرونهم بأحكامه وفرائضه، فقال: يا بني آدم إن أتاكم رسول منكم ومن جنسكم يخبركم بما أوجبته عليكم، وما وضعته لكم من أنظمة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وما أمرتكم به من صالح الأعمال، وما نهيتكم عنه من الشّرك وقبائح الأفعال، فأنتم في أحد حالين، أحدهما يبشّر والآخر يحذّر: فمن اتّقى الله وأصلح ما بيني وبينه، فترك المحرّمات وفعل الطّاعات، فلا خوف عليه من عذاب الآخرة، ولا يطرأ عليه حزن حين الجزاء على ما فاته، أو فلا خوف عليه من أحوال المستقبل، ولا حزن عليه من أحوال الماضي. وإنما قال: مِنْكُمْ لأن كون الرّسول من جنس المرسل إليهم أقطع لعذرهم، وأبين للحجّة عليهم، إذ معرفتهم بأحواله ترشدهم إلى أن المعجزات التي يؤيده الله بها بقدرة الله لا بقدرته، وأن الجنس يألف جنسه.

فقه الحياة أو الأحكام:

والمقصود بقوله بِآياتِنا أي القرآن، ودلائل التوحيد والألوهية، والأحكام والشرائع، فهي لفظ عام يدخل فيه كل ما ذكر، لأن جميع هذه الأشياء آيات الله تعالى، والرّسل إذا جاؤوا فلا بدّ وأن يذكروا جميع هذه الأقسام. ومن كذّبت قلوبهم بآيات الله واستكبروا عن قبولها والعمل بها، ورفضوها كبرا وعنادا للرّسل، كما حدث من زعماء قريش حين تكبّروا على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك أصحاب النّار، ماكثون فيها مكثا دائما مخلّدا. فقه الحياة أو الأحكام: ينقسم الناس بعد دعوة الرّسل فريقين: فريق المؤمنين الطائعين المصدّقين دعوة الرّسل، وفريق الجاحدين المتمّردين المكذّبين الدّعوة. أمّا الفريق الأوّل فيهنأ ويسعد بما يلقى من الجزاء الحسن يوم القيامة. ودلّ قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على أنّ المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع من أهوال يوم القيامة، ولكنهم آمنون مطمئنون. وأما الفريق الثاني فيجازى جزاء السّوء بالخلود في نار جهنّم. وقد استدلّ أهل السّنة بقوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ على أن الفاسق من المسلمين أهل الصلاة لا يبقى في النار مخلّدا، لأنه تعالى بيّن أنّ المكذّبين بآيات الله، والمستكبرين عن قبولها، هم الذين يبقون مخلّدين في النّار. وكلمة هُمْ تفيد الحصر، فاقتضى ذلك أن من لا يكون موصوفا بذلك التّكذيب والاستكبار لا يبقى مخلّدا في النّار.

عاقبة الكذب ومشهد دخول الكفار إلى النار [سورة الأعراف (7) الآيات 37 إلى 39] :

عاقبة الكذب ومشهد دخول الكفار إلى النّار [سورة الأعراف (7) : الآيات 37 الى 39] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) الإعراب: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا: حَتَّى ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام، وهو هاهنا الجملة الشرطية. يَتَوَفَّوْنَهُمْ حال من الرّسل، ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في موضع الحال، أي كائنين في جملة أمم. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً: ادَّارَكُوا: أصله تداركوا على وزن تفاعلوا، ثم أبدلت التاء دالا، وأدغمت الدّال في الدّال، فسكّنت الدّال الأولى، والابتداء بالسّاكن محال، فأدخلت ألف الوصل، لئلا يبتدأ بالساكن. جَمِيعاً: منصوب على الحال من الضمير في ادَّارَكُوا. المفردات اللغوية: فَمَنْ أَظْلَمُ ... فمن أشنع ظلما ممن تقوّل على الله ما لم يقله أو كذّب ما قاله، أي لا أحد

المناسبة:

أظلم ممن افترى على الله الكذب، بنسبة الشريك والولد إليه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن. يَنالُهُمْ يصيبهم. نَصِيبُهُمْ حظّهم. مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرّزق والأجل وغير ذلك. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملائكة الموت، وحَتَّى ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم، ابتدئ بها الكلام. قالُوا لهم تبكيتا. تَدْعُونَ تعبدون. ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنّا، فلم نرهم. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عند الموت. ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ في جملة أمم سابقة. فِي النَّارِ متعلّق بادخلوا. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ النّار. لَعَنَتْ أُخْتَها التي قبلها لضلالها بها. ادَّارَكُوا تلاحقوا واجتمعوا في النّار. أُخْراهُمْ منزلة وهم الأتباع. لِأُولاهُمْ منزلة أي لزعمائهم وقادتهم وهم المتبوعون، ومعنى لِأُولاهُمْ: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله، لا معهم. عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا على مثله مرّة أو مرّات. لِكُلٍّ ضِعْفٌ لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين. وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكلّ فريق. فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّفلة: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، لأنكم تكفرون بسببنا، فنحن وأنتم متساوون في استحقاق الضّعف. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المكذّبين بآيات الله، المستكبرين عن قبولها، ذكر هنا أن من أشنعهم ظلما وأعظمهم بغيا من يتقوّل على الله ما لم يقله، أو يكذّب ما قاله، والأوّل: مثل من يثبت الشّريك لله من أصنام أو كواكب أو بنات وبنين، أو ينسب الأحكام الباطلة إلى الله تعالى، والثاني كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله تعالى على رسوله، أو أنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. التفسير والبيان: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، بأن أوجب ما لم يوجبه، أو حرّم ما لم يحرّمه، أو نسب إلى دينه حكما لم ينزله، أو نسب إلى الله ولدا أو شريكا. أو كذّب بآيات الله المنزلة بأن أنكر القرآن مثل كفار العرب، أو لم يؤمن بالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو استهزأ بالآيات أو تركها مفضلا عليها غيرها.

أولئك جميعا ينالهم ما كتب عليهم في كتاب المقادير الذي سجل فيه نظام العالم كلّه، وقدّر لهم من الأرزاق والأعمار، وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسود، أي لهم ما وعدوا به من خير أو شرّ، بالرّغم من ظلمهم وافترائهم على الله. حتى إذا جاءتهم الرّسل وهم ملائكة الموت يتوفّونهم ويقبضون أرواحهم، قالوا لهم أي سألهم الرّسل تأنيبا وتوبيخا: أين الشّركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم في الدّنيا من دون الله؟! ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه! أجابوهم: غابوا عنّا وذهبوا، فلا ندري مكانهم، ولا نرجو منهم النّفع والخير، ولا دفع الضّرّ. وأقرّوا واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم وعبادتهم إيّاهم كافرين. ومفاد هذا زجر الكفار عمّا هم عليه من الكفر، ودفعهم إلى النّظر والتّأمل في عواقب أمورهم القائمة على الكفر والضّلال. ونظير المعنى في هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس 10/ 69- 70] ، وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 23- 24] . ثمّ أخبر الله تعالى عمّا تقوله الملائكة لهؤلاء المشركين به، المفترين عليه، المكذّبين بآياته: ادخلوا النّار مع أمم أمثالكم وعلى صفاتكم، قد سبقتكم في الكفر، سواء من الجنّ والإنس، فالقائل: إما مالك خازن النّار، أو هو الله عزّ وجلّ، أي قال الله: ادخلوا. كلّما دخلت جماعة منهم النّار، ورأت العذاب والخزي والنّكال، لعنت أختها في الملّة والدّين التي ضلّت بالاقتداء بها، إذ هي قد ضلّت باتّباعها وتقليدها في الكفر، كما قال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ

بَعْضاً [العنكبوت 29/ 25] ، وهكذا يلعن أصناف الكفار بعضهم بعضا، ويتبرّأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا، كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة 2/ 166- 167] . حتى إذا تداركوا وتلاحقوا في النّار، واجتمعوا فيها كلّهم، قالت أخراهم دخولا أو منزلة، وهم الأتباع والسّفلة، لأولاهم منزلة أو دخولا، وهم المتبوعون والقادة والرؤساء، لأنهم أشدّ جرما من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، قالت قولا يتضمن شكوى الأتباع إلى الله يوم القيامة، لأنهم هم الذين أضلّوهم عن سواء السّبيل. قال الزّمخشري: معنى لِأُولاهُمْ: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله، لا معهم. أي قالوا في شأنهم وحقّهم ولأجل إضلالهم. وتلك الشكوى أنهم يقولون مخاطبين الله: ربّنا هؤلاء السّادة أضلّونا عن الحقّ، فأعطهم عذابا مضاعفا من النّار، أي ضاعف عليهم العقوبة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 66- 68] . فأجابهم الله: لكلّ منكم ومنهم عذاب مضاعف، وقد فعلنا ذلك، وجازينا كلّا بحسبه إما بالإضلال أو بالتقليد والضلال، لأن كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين، ولكنّكم لا تعلمون عذابهم. والضّعف: المثل الزّائد على مثله مرّة أو مرّات. وهو مثل قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] ، وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] ، وقوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ... أي قال المتبوعون للأتباع: إذا كنا قد أضللناكم، فليس لكم فضل علينا، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وأنتم سواء في استحقاق الضعف، أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب. فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون، أي تلقوا عذاب الله بما تسببتم به من الكفر والضلال. وهذا من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعا. وهو مثل قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا: إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصّافات 37/ 27- 33] . والمقصود من قوله: فَذُوقُوا الْعَذابَ التّخويف والزّجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، كان ذلك سببا لوقوع الخوف الشديد في القلب. فقه الحياة أو الأحكام: أيّ ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى بالتّحليل والتّحريم من غير حكم الله، والتّكذيب بآيات الله قولا أو استهزاء أو استكبارا عن اتّباعها؟! وبالرغم من هذا فإنّ هؤلاء المكذّبين ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل، وما وعدوا به من خير وشرّ. ومعنى: ما كتب لهم في اختيار الطّبري، وهو المروي عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير: ما قدر لهم من خير وشرّ ورزق وعمل وأجل. والمقرر أن السّادة والأتباع في الكفر سواء، يدخلون النّار، ويضاعف لهم العذاب، إما بالإضلال وهو فعل السّادة، أو بالتّقليد وإهمال العقل، وهو فعل

جزاء الكافرين [سورة الأعراف (7) الآيات 40 إلى 41] :

الأتباع. والتّعذيب ليس تشفّيا وانتقاما، وإنما هو بسبب اقتراف السّيئات واعتقاد الكفر. جزاء الكافرين [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) الإعراب: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ: غَواشٍ: مبتدأ مرفوع، وخبره: وَمِنْ فَوْقِهِمْ. وأصل غَواشٍ: ألا ينصرف، لأنه جمع بعد ألفه حرفان على وزن فواعل، وهو جمع غاشية، إلا أن التّنوين دخلها عوضا عن حذف الياء. البلاغة: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ كناية عن عدم قبول العمل يوم القيامة. حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فيه تشبيه ضمني، أي لا يدخلون الجنة إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة، وهو تمثيل للاستحالة. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ استعارة لما يحيط بهم من كلّ جانب مثل قوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] . المفردات اللغوية: بِآياتِنا أدلّتنا على أصول الدّين وأحكام الشّرع، كأدلّة إثبات وجود الله ووحدانيته، وإثبات النّبوة، والبعث والحساب والجزاء في الآخرة. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها تكبّروا عنها فلم يؤمنوا بها. لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء، أو لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا عرج بأرواحهم إليها بعد الموت، فيهبط بها إلى سجّين (جهنم) بخلاف المؤمن، فتفتح له، ويصعد بروحه إلى السماء السابعة، كما ورد في الحديث. يَلِجَ يدخل. الْجَمَلُ البعير الذي نبت نابه. سَمِّ الْخِياطِ ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم الجنة مستحيل. وَكَذلِكَ الجزاء. نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ بالكفر،

المناسبة:

والمراد بالإجرام: كلّ إفساد، كإفساد الفطرة بالكفر. مِهادٌ فراش. غَواشٍ أغطية من النّار، جمع أغشية، وتنوينه عوض من الياء المحذوفة. المناسبة: المقصود من هذه الآيات إتمام وعيد الكفار لأنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة عن خلود المكذّبين بالقرآن في النّار، المستكبرين عن الإيمان بالله والنّبي والمعاد، ثم أخبر عن استحالة دخولهم الجنة، وعدم قبول أعمالهم الصالحة. التفسير والبيان: إن الذين كذبوا بآياتنا الدّالة على وحدانيتنا وصدق نبيّنا وصحّة النّبوات وإثبات المعاد، لا يصعد لهم عمل صالح لخبث أعمالهم، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين، ويقبل العمل الصالح، ويرفع إليه الكلم الطيّب: لقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 35/ 10] ، وقوله: كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين 83/ 18] ، فلا تفتح لأعمالهم وأرواحهم أبواب السّماء، وهذا فيه جمع بين القولين في تفسير هذه الآية. ولا يدخلون الجنّة أبدا بحال، فهم مطرودون من رحمة الله، فدخولهم الجنة مستحيل، لقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وهذا أسلوب شائع بين العرب للدّلالة على الاستحالة، فهم يقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، وحتى يبيضّ القار (الزّفت) وحتى يدخل الجمل في سمّ الخياط. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنّ المراد: حتى يدخل الجمّل أي الحبل الغليظ في خرق الإبرة، قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة، والبعير لا يناسبه. قال الزّمخشري: إلا أن قراءة العامة الْجَمَلُ أوقع، لأنّ سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة، والجمل مثل في عظم الجرم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كلّ من أجرم في حقّ الله، وفي حقّ نفسه، وفي حقّ إخوانه المسلمين، ليدلّ على أنّ الاجرام هو السّبب المؤدّي إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب. ثم كرر ذلك في آخر الآية التالية فقال: وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لأن كلّ مجرم ظالم لنفسه. ولهؤلاء المجرمين من نار جهنّم فراش يفترشونه من تحتهم، وأغطية من فوقهم، والمراد أن النّار محيطة بهم، مطبقة عليهم من كلّ جانب، كما قال تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهمزة 104/ 8] ، وقال: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة 9/ 49] ، وقال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ [الزمر 39/ 16] . وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين لأنفسهم ولغيرهم من الناس. وهذا دليل على أن المجرمين والظالمين هم الكافرون: لقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] ، وبدليل أن الذين تقدّم ذكرهم هم المكذبون بآيات الله. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على ما يلي: 1- أعمال الكافرين المكذبين بآيات الله، المستكبرين عنها غير مقبولة، فلا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم أبواب السماء. 2- إنّ الجنّة في السّماء لأنّ المعنى: لا يؤذن لهم في الصّعود إلى السّماء، ولا تطرق لهم ليدخلوا الجنّة. 3- يستحيل على الكفار دخول الجنة، فلا يدخلونها البتة، ويحرمون منها أبدا وفي كلّ الأحوال.

جزاء المؤمنين المتقين [سورة الأعراف (7) الآيات 42 إلى 43] :

4- عذاب النّار يحيط بالكافرين من كلّ جانب، فلا يجدون فيها منفذا للخروج منها، أو التّخفيف من العذاب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف. 5- المجرمون: هم الكافرون لأن الذين تقدّمت صفتهم هم المكذبون بآيات الله، المستكبرون عنها. والظالمون أيضا: هم الكافرون لأنهم الذين أشركوا بالله واتّخذوا من دونه إلها. جزاء المؤمنين المتقين [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَأَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الإعراب: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، وخبره: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ. ولا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اعتراض وقع بين المبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون التقدير فيه: لا نكلف نفسا منهم، فحذف «منهم» كقوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى 42/ 43] أي إن ذلك الصبر منه، أي من الصابر. وقال الرازي: إنما حسن وقوع هذا الكلام المعترض بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس الكلام لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ تَجْرِي جملة فعلية حال من الضمير صُدُورِهِمْ في صُدُورِهِمْ. أَنْ هَدانَا اللَّهُ: أن وصلتها: في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي: لولا

المفردات اللغوية:

هداية الله موجودة، لهلكنا أو شقينا. ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ بعد: لطول الكلام بها، كما لا يجوز إظهاره بعد القسم في قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر 15/ 72] أي لعمرك قسمي، فلا يجوز إظهار الخبر لطول الكلام بجواب القسم. أَنْ تِلْكُمُ أن مخففة من الثقيلة تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة، والضمير ضمير الشأن، أو مفسرة، أي معنى تفسير النداء، والمعنى: ونودوا، أي تلكم الجنة، وهو الأجود عند الرازي. المفردات اللغوية: وُسْعَها طاقتها من العمل في الأحوال العادية، لا في وقت الشدة والضيق. وَنَزَعْنا قلعنا. غِلٍّ حقد أو حسد وعداوة كان بينهم في الدنيا. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ تحت قصورهم. وَقالُوا عند الاستقرار في منازلهم. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم، وهو الإيمان والعمل الصالح. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام لتوكيد النفي، يعنون: وما كان يستقيم أن نكون مهتدين، لولا هداية الله وتوفيقه. لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء، فاهتدينا، يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به، لا تقربا وتعبدا. أُورِثْتُمُوها صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله. المناسبة: جرت سنة القرآن الجمع بين الوعيد والوعد، فبعد أن ذكر سبحانه وعيد الكافرين والعصاة، أتبعه بوعد المؤمنين الطائعين. التفسير والبيان: لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء وجزاءهم، عطف عليه بيان حال السعداء وجزاءهم، ليتميز المؤمن عن الكافر، والمحق عن المبطل، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا.. أي والذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، هم أهل الجنة دون سواهم، وهم المخلدون فيها أبدا. وجاء قوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة اعتراضية، للتنبيه

على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب، وأن العمل الصالح الموصل إلى الجنة سهل غير صعب، فهو ليس شاقا ولا خارجا عن طاقة البشر، بل يسهل على كل إنسان فعله، متى توافر الإيمان، وتأيد بهدي القرآن. ومعنى الوسع: ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة، لا في حال الضيق والشدة. ومن نعم الله تعالى على أهل الجنة صفاء نفوسهم وسلامة صدورهم، لا يكدرهم كدر، ولا يؤلمهم ألم، ولا يحزنهم فزع، ولا يحدث بينهم شر لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وحقد وعداوة وغل ونحوها من أمراض النفوس في الدنيا. جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى اذهبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزلة في الجنة أدل منه بمسكنة الذي كان في الدنيا» . وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: بلغني أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط، حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم في الدنيا، فيدخلون الجنة، وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ» . وروى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر 15/ 47] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وروى عبد الرزاق عن الحسن قال: قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. وقال المؤمنون شاكرين نعمة الله وفضله: الحمد الله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح، الذي كان جزاؤه هذا النعيم، وما كان من شأننا ومستوى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا، لولا هداية الله وتوفيقه إيانا لاتباع رسله. وقالوا أيضا حين رأوا مطابقة كل شيء لما أخبر به الرسل: لقد جاءت رسل الله بالحق، وهذا مصداق وعد الله على لسان رسله. ونادتهم الملائكة: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، هذه الجنة التي أورثكم الله إياها جزاء أعمالكم الصالحة. أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي: 1- الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. 2- التكليف على قدر الطاقة والوسع، سواء في التكاليف الشرعية من عبادات وفرائض، أو في التكاليف المالية كنفقات الزوجات ونحوها. 3- من نعم الله عز وجل على أهل الجنة: نزع الغلّ الذي كان في الدنيا من صدورهم. والنزع: الاستخراج، والغلّ: الحقد الكامن في الصدر.

4- استحقاق إرث الجنة من جهة العدل بالعمل الصالح، ففي قوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله. لكن دخولها يكون برحمة الله وفضله، كما قال تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ [النساء 4/ 70] وقال: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء 4/ 175] . وجاء في صحيح مسلم: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» . يتبين من هذا أن إرث منازل الجنة بالعمل، ودخولها بالرحمة والفضل الإلهي وهذا رأي القرطبي الذي قال: وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته، فإذا دخلوها بأعمالهم، فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته، إذا أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل عليهم «1» . وهذا قريب من رأي ابن كثير، فإنه قال: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم «2» . ويمكن التوفيق بنحو آخر أولى وهو أن عمل الإنسان مهما كثر لا يستحق به الجنة لذاته، لولا رحمة الله وفضله، فإنه جعل الجزاء العظيم على العمل القليل، فصار دخول الجنة برحمة الله وفضله. والخلاصة: العمل الصالح في رأي أهل السنة لا بد منه لدخول الجنة في ميزان العدل وإيجاد تكافؤ الفرص بين جميع الناس، لكن لا بد أن ينضم إليه رحمة الله وفضله، فإنه جعل الجنة جزاء العمل فضلا منه ورحمة، وكافأ على القليل بالكثير فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب للعبادة وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، كما فهم المعتزلة لأنه يستحيل عقلا إيجاب شيء على الله تعالى.

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 208- 209 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 215

محاورة بين أهل الجنة وبين أهل النار والأعراف [سورة الأعراف (7) الآيات 44 إلى 47] :

محاورة بين أهل الجنة وبين أهل النار والأعراف [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) الإعراب: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ أَنْ بالتخفيف، مخففة من الثقيلة، وتقديره: أنّه لعنة الله، فخفف وحذف اسمها وإحدى النونين وهي الأخيرة لأنها الطرف. ويجوز أن تكون أَنْ المخففة بمعنى «أي» مفسرة، ولا موضع لها من الإعراب. وتقرأ أنّ بالتشديد أيضا مع الفتح، وتنصب اللعنة بها. ومن قرأ: إنّ بكسر الهمزة مع التشديد، فإنه قدر القول كأنه قال: إن لعنة الله. وبَيْنَهُمْ منصوب على الظرف، والعامل مُؤَذِّنٌ عند البصريين لأنه أقرب إليه من أذن، وهو أذن عند الكوفيين، لأنه الأول والعناية به أكثر. يَعْرِفُونَ كُلًّا جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة لرجال. وَهُمْ يَطْمَعُونَ بِسِيماهُمْ مبتدأ، ويَطْمَعُونَ جملة فعلية في موضع خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في يَدْخُلُوها. ومعناه: أنهم يئسوا من الدخول، فلم يكن لهم طمع فيه، ولكنهم دخلوا وهم على يأس من ذلك. المفردات اللغوية: وَنادى للتقرير والتبكيت. ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب، والوعد يشمل الخير

المناسبة:

والشر. ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب وتسميته هنا وعدا تهكم أو من قبيل المشاكلة. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، والأذان: رفع الصوت بالإعلام بالشيء. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله مع الإهانة والخزي. وَيَبْغُونَها يطلبون السبيل. عِوَجاً معوجا أو ذا عوج أي غير مستقيم، والعوج: للمرئيات، والعوج: لغير المرئي كالقول والرأي. حِجابٌ حاجز أو سور بين الجنة والنار. وَعَلَى الْأَعْرافِ جمع عرف وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها، والمراد هنا: سور الجنة. رِجالٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم. بِسِيماهُمْ بعلامتهم، وهي بياض وجوه المؤمنين، وسواد وجوه الكافرين، لرؤيتهم لهم، إذ موضعهم عال. لَمْ يَدْخُلُوها أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها الجنة. وَهُمْ يَطْمَعُونَ في دخولها. صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ حوّلت أبصار أهل الأعراف. تِلْقاءَ جهة. المناسبة: لما بيّن الله تعالى وعيد الكفار وثواب أهل الطاعة والإيمان، أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين، بعد استقرار كل فريق في موضعه من النار أو الجنة. وهذه المناظرة تشعر بأن أهل الجنة يشرفون من علو على أهل النار، وأن بعضهم يخاطب بعضا ليزداد أهل الجنة معرفة بمقدار النعمة، ويزداد أهل النار حسرة على ما فرطوا في الدنيا. ومع أن الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين، فيمكن حصول هذا النداء مع هذا البعد الشديد، لأن لعالم الآخرة أحوالا تختلف عن عالم الدنيا، فيستطيع الإنسان أن يسمع ويرى من بعيد، ولأن البعد والقرب ليس من موانع الإدراك، كما قال الرازي. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى بما يخاطب به أهل النار تقريعا وتوبيخا، وأن هذا النداء: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ إنما يحصل بعد استقرار الفريقين في

الجنة والنار، بدليل ما ذكر في الآية المتقدمة من قوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها. وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ يفيد العموم، فهل النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار، أو من البعض للبعض؟ الجواب أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا. والمعنى: إن أصحاب الجنة بعد استقرارهم فيها ينادون أهل النار بعد استقرارهم فيها أيضا، قائلين: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة الرسل من النعيم والتكريم حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والنكال حقّا؟ والسؤال يتضمن تقرير أهل الجنة بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم، وتقريع وتوبيخ أهل النار على ما حدث منهم من جناية على أنفسهم بتكذيب الرسل. قالُوا: نَعَمْ قال سيبويه: «نعم: عدة أو تصديق» والمعنى أنهم أجابوا بالإيجاب، فإنا وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر، وها نحن نتلظى في عذاب النار. وهذا يدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة، بأن وعد الله ووعيده حق وصدق. وهذا التقريع من الله يعقبه تقريع من الملائكة يقولون لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور 52/ 14- 16] . وقد قرّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا قتلى القليب (البئر) من الكفار يوم بدر فنادى: «يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة- وسمى رؤوسهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» وقال عمر: يا رسول الله، تخاطب قوما قد جيفوا، فقال: «والذي نفسي

بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا» . وكانت نتيجة الحوار أو المناظرة أن أذن مؤذن، أي أعلم معلم ونادى مناد: أن لعنة الله على الظالمين، أي لعنة الله (الطرد من رحمته) مستقرة عليهم لأنهم ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان. والمؤذن: إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره. ثم وصف الظالمين بقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ ... أي الذين يمنعون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويطلبون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي جاحدون مكذبون بذلك، لا يصدقونه ولا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس أقوالا وأعمالا. وبين الفريقين: أهل الجنة وأهل النار حجاب أي حاجز مانع من وصول أهل النار، وهو السور الذي قال الله تعالى فيه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ، لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد 57/ 13] . وأعالي السور هي الأعراف التي قال الله تعالى فيها: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ.. أي على أعالي ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار، ويعرفون كلا منهم بعلامتهم من بياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين، كما وصفهم الله بها في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 80/ 38- 42] . وأهل الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم موحدون قصرت

بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم النار، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم. روى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال: «أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون» . وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة قال: «هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم ربك فقال لهم: اذهبوا فادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم» . وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ... أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة قائلين لهم: سلام عليكم، وهو تحية خالصة بعد دخول الجنة لقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] . نادوهم مسلّمين عليهم، حال كونهم لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون في دخولها، لما بدا لهم من يسر الحساب، ولعلهم بسعة رحمة الله وفضله. تلا الحسن البصري هذه الآية: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فقال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. والناس في ذلك الموقف يكونون بين الرجاء والخوف، روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو نادى مناد: يا أهل الموقف، ادخلوا النار إلا رجلا واحدا، لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى: ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا، لخشيت أن أكون ذلك الرجل. وإذا حولت أبصار أهل الأعراف نحو أهل النار من غير قصد، فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، قالوا متضرعين إلى الله تعالى: ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين أنفسهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

والآية تدل على أنهم ينظرون إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويسلّمون عليهم، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا صرفت أي حولت أعينهم من غير قصد ولا رغبة إلى جهة أهل النار، استغاثوا وتضرعوا ألا يكونوا معهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- تستهدف المناظرة أو الحوار أو المناداة بين أهل الجنة وأهل النار تقريع الكفار وتعييرهم، ثم تحسم المناظرة بصوت مناد ينادي من الملائكة بأعلى صوته: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. 2- الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق، ولا يمكن ذلك إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته. 3- أوقع المؤذن لعنة الله على من كان متصفا بصفات أربع: أ- هي كونهم ظالمين أي مشركين أو كفارا بدليل وقوع المناظرة بين أهل الجنة وبين الكفار. ب- وكونهم يصدون عن سبيل الله، أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق، إما بالزجر وإما بالحيل. ج- كونهم يبغونها عوجا أي يلقون الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق. د- وهم بالآخرة كافرون، وهذا تصريح بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين. 4- إن أصحاب الأعراف أي السور القائم بين الجنة والنار، يترددون بين

المناظرة بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار [سورة الأعراف (7) الآيات 48 إلى 49] :

حالين: ينادون أصحاب الجنة ويسلّمون عليهم ويتأملون دخول الجنة فضلا من الله ورحمة، وهم لم يدخلوها بعد، ولكنهم يعلمون أنهم يدخلون. ويرون أهل النار فجأة من غير قصد ولا رغبة، فيسألون الله تذللا وتضرعا ألا يجعلهم معهم، وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم. وأصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، في رأي جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن عطية: وفي مسند خيثمة بن سليمان حديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة «1» ، دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار. قيل: يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» . المناظرة بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) الإعراب: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الهمزة في أَهؤُلاءِ: همزة الاستفهام، وهؤُلاءِ: مبتدأ، والَّذِينَ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أهؤلاء هم الذين أقسمتم عليهم،

_ (1) الصؤابة: بيض القملة.

المفردات اللغوية:

فحذف عليهم. ولا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ: جواب أَقْسَمْتُمْ، والقسم وجوابه في صلة الَّذِينَ. لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ.. جملة النفي حال، أي مقولا لهم ذلك. المفردات اللغوية: رِجالًا من أصحاب النار. ما أَغْنى عَنْكُمْ من النار. جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم عن الإيمان. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ... أي ويقول أصحاب الأعراف لأهل النار مشيرين لهم إلى ضعفاء المسلمين. المناسبة: لما بيّن الله تعالى أثر التفاتة أصحاب الأعراف على أصحاب النار بقوله: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ... أتبعه أيضا بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أهل النار. واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام لا يليق إلا بهم، وهو قولهم: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ، ولا يليق أيضا إلا بأكابرهم. التفسير والبيان: هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين يعتمدون على قوتهم وغناهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعفهم، مضمونه الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم وعلامتهم المميزة لهم. ينادي بعض أهل الأعراف رجالا من المشركين يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة وزرقة العيون، وتشوية الخلقة، فيقولون لهم: ما أغنى عنكم جمع المال، أو اجتماعكم وكثرتكم، ولا استكباركم عن الإيمان برسالة محمد، أي لم تنفعكم كثرتكم، ولا جموعكم ولا تكبركم عن الإيمان من عذاب

فقه الحياة أو الأحكام:

الله، بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال، وكذلك لم ينفعكم تكبركم على الفقراء والمستضعفين المؤمنين. وتبددت أفكاركم التي تزعم أن من أغناه الله في الدنيا، وجعله قويا هو الذي له نعيم الآخرة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ 34/ 34- 35] . ثم سألوهم سؤال توبيخ وتأنيب عن حال المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم في الدنيا بسبب إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كصهيب الرومي وخبيب بن عدي وبلال الحبشي وآل ياسر، وأشاروا إليهم: أهؤلاء هم الذين حلفتم في الدنيا ألا ينالهم الله برحمة لفقرهم وضعفهم وقلة أتباعهم، وهم يرتعون في نعيم الجنة ويتمتعون بخيراتها، والكفار يتحرقون في سعير جهنم؟! ثم قال الله تعالى أو قالت الملائكة لأصحاب الأعراف الموقوفين على السور: ادخلوا الجنة، لا خوف عليكم في المستقبل، ولا يطرأ عليكم حزن في حاضركم. وفائدة المحاورة والقول: تبيان أن الجزاء على قدر العمل، والترغيب في التسابق في أعمال الخير، وأن المعول عليه ليس هو المال والغنى والقوة، وإنما المنظور إليه هو العمل الصالح، وأن الطائعين يتميزون بالنضرة، وأن العصاة يعرفون بالغبرة والزّرقة وتشوه الخلقة. فقه الحياة أو الأحكام: إن معايير التفاضل وموازين التقدم والتفوق في الآخرة تختلف عما هي عليه في الدنيا، فليس المال والقوة والتجمع أساس العزة والسعادة والنجاة في الآخرة،

ما يقوله أهل النار لأهل الجنة أو استغاثة أهل النار بأهل الجنة لإمدادهم بالطعام والشراب [سورة الأعراف (7) الآيات 50 إلى 51] :

وإنما الأساس هو الإيمان والعمل الصالح، ففريق الزعماء المشركين الأشداء المتكبرين والأغنياء هم في النار، وفريق المؤمنين الأتقياء الضعاف المتواضعين لله هم في أعالي الجنان. وفضل الله ورحمته يشملان المقصرين أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهو رد على أهل النار الذين يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار، فتقول الملائكة لأهل الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. ما يقوله أهل النار لأهل الجنة أو استغاثة أهل النار بأهل الجنة لإمدادهم بالطعام والشراب [سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) الإعراب: حَرَّمَهُما فعل ماض، لم يقل: حرّمه، وإن كان التقدير: أفيضوا علينا أحد هذين، لأن أو هاهنا للإباحة، وهي لتجويز الجمع كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. فيجوز أن يجمع بينهما، فأشبهت الواو التي للجمع، فحملت عليها. أي أنه ثنّى الفعل لأنه أقام أَوْ مقام الواو، وإن كانت أَوْ لتجويز الجمع، والواو لإيجاب الجمع. كَما نَسُوا.. وَما كانُوا كَما في الحالين في تأويل المصدر، والأولى هي في موضع جر بالكاف، وتقديره: فاليوم ننساهم كنسيانهم لقاء يومهم هذا. والثانية في موضع جر بالعطف على كَما الأولى.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَفِيضُوا عَلَيْنا أفاض الماء: صبه، ثم استعمله في الشيء الكثير. أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الطعام. حَرَّمَهُما منعهما. نَنْساهُمْ نتركهم في النار. كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا بتركهم العمل له. وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي وكما جحدوا أي أنكروا. المناسبة: الآيتان استمرار في محاورة الناس يوم القيامة، فبعد أن بيّن الله تعالى الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، والحوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار، وما قاله الفريق الأول للثاني، أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة. التفسير والبيان: هذا مشهد من مشاهد سوء أهل النار يوم القيامة، فالله يخبر عن ذلة أهل النار وسؤالهم الطعام والشراب من أهل الجنة، وأنهم لا يجابون إلى ذلك. ومعنى الآية: إن أهل النار يطلبون من أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وقوله: أَفِيضُوا معناه صبوا علينا من الماء أو النعم الشيء الكثير، ومعنى قوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من غيره، فيشمل الطعام والأشربة غير الماء. وقد استغاثوا بهم مع علمهم بأنهم لا يجابون أبدا، بسبب الحيرة في أمرهم، ولشدة حاجتهم إلى الماء، كما يفعل كل مضطر، كالغريق وغيره. وقوله: أَفِيضُوا فيه دليل على أن الجنة فوق النار. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار بفرج بعد اليأس، فقالوا: يا ربنا، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزحزحت، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، وقد اسودّت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى

أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ. وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب، بسبب شدة حر جهنم. وهذا القول يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول. وقال آخرون: بل مع اليأس لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم. وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: ينادي الرجل أباه أو أخاه، فيقول له: قد احترقت، فأفض علي من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. ومعنى قوله تعالى: قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ: قال أهل الجنة: إن الله منع الكفار شراب الجنة وطعامها. ثم وصف الله تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا، باتخاذهم الدين لعبا ولهوا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفتها، عما أمروا به من العمل للآخرة، فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ.... أي إن هؤلاء الكفار تلاعبوا بدينهم وما كانوا به مجدين، أو اتخذوا اللهو واللعب دينا لأنفسهم، وجعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكي الأنفس ولا تفيد، بل هي لهو يشغل الإنسان عن الجد، أو لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة، فهي كأعمال الأطفال. واغتروا في الحياة الدنيا بشهواتها وزخارفها وزينتها ولذاتها من الحرام والحلال. قال الرازي: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة، بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان يطمع في طول العمر، وحسن العيش، وكثرة المال، وقوة الجاه، فلشدة رغبته

فقه الحياة أو الأحكام:

في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين، غرقا في طلب الدنيا «1» . وكان جزاء التلاعب واللهو والغرور ما قاله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ ... أي يعاملهم معاملة من نسيهم من الخير لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى: فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه 20/ 52] وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] وقوله: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه 20/ 126] . فمعنى قوله فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ: نعاملهم معاملة الشيء المنسي، فلا يذكرون بخير، وإنما يتركون في النار. ومعنى كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا: كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطر لهم ببال ولم يهتموا به، وكما أنكروا آيات الله، ورفضوا ما جاءت به الرسل. والحاصل: أن الله تعالى يتركهم في عذاب النار، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما جحدوا بآيات الله. وقد سمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان من قبيل المشاكلة، كما في قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] والمراد من هذا النسيان: أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى على أن شراب أهل الجنة وطعامهم ممنوع حرام على الكافرين. وهو تحريم قهر وعقاب. ودلت الآية الثانية على إهمال الكافرين في عذاب جهنم ومعاملتهم معاملة المنسيين، لنسيانهم واجباتهم نحو ربهم في الحياة الدنيا، وعلل تعالى ذلك

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 93

بتعليلات مجملها أنهم كانوا كافرين، وتفصيلها ووصف أحوالهم: أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا، ثم لعبا ثانيا، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنهم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن الحسن مرسلا، وهو ضعيف: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» . وأما من الناحية الفقهية بالمعنى الخاص فقد دلت الآية الأولى على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. وروى أبو داود أن سعدا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء» فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى. وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب فيما رواه البخاري عن أبي هريرة، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه؟! وفي حديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه في السنن- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق رقبة، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها» . واستدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده لأن معنى قول أهل الجنة: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ لا حق لكم فيها. وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لأذودنّ رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض» قال المهلّب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه لقوله عليه الصلاة والسلام: «لأذودنّ رجالا عن حوضي» .

فضل القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة بإظهار الندم وطلب الشفاعة [سورة الأعراف (7) الآيات 52 إلى 53] :

فضل القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة بإظهار الندم وطلب الشفاعة [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) الإعراب: هُدىً وَرَحْمَةً منصوبان على الحال من هاء فَصَّلْناهُ وتقديره: فصلناه هاديا ذا رحمة. يَوْمَ يَأْتِي يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه يَقُولُ. فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَيَشْفَعُوا: منصوب بتقدير أن بعد فاء الجواب لأنه جواب الاستفهام. أَوْ نُرَدُّ: مرفوع معطوف على الاستفهام قبله، على تقدير: أو هل نردّ لأن معنى: هل لنا من شفعاء: هل يشفع لنا أحد أو هل نردّ؟ فعطفه على المعنى. فَنَعْمَلَ منصوب على جواب التمني بالفاء، بتقدير (أن) حملا على مصدر ما قبله، فالفاء في المعنى تعطف مصدرا على مصدر. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي أهل مكة، وغيرهم مثلهم. بِكِتابٍ هو القرآن الكريم. فَصَّلْناهُ بيّناه أتم بيان بالأخبار والوعد والوعيد. عَلى عِلْمٍ أي عالمين بما فصل فيه. هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظرون. إِلَّا تَأْوِيلَهُ ما يؤول إليه أمره، أي عاقبة ما فيه وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ هو يوم القيامة. يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوا الإيمان به. بِالْحَقِّ أي بالأمر

المناسبة:

الثابت. أَوْ نُرَدُّ أو هل نرد إلى الدنيا. فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نوحد الله ونترك الشرك، فيقال لهم: لا. قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها إذ صاروا إلى الهلاك. وَضَلَّ عَنْهُمْ أي غاب عنهم وذهب. ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ادعاء الشرك. المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى أحوال أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف، وما يدور بين هذه الفرق الثلاث من حوار يحمل المكلف على الحذر والاحتراس والتأمل في العواقب، أردف ذلك ببيان شرف هذا الكتاب الكريم وعظيم فضله ونفعه وحجيته على البشر كلهم، وأنه أبطل معاذيرهم، ثم ذكر حال المكذبين وما يحدث منهم يوم القيامة من ندم وحسرة، وتمني العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم، أو إنقاذهم بشفاعة الشفعاء. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى بهذه الآية عن إبطال معاذير المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي هو مفصّل مبيّن، كقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود 11/ 1] . لقد جئنا هؤلاء المشركين من أهل مكة وأمثالهم بكتاب كامل البيان وهو القرآن، فصلنا آياته بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد، على علم تام منا بما فصلناه به، كقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 4/ 166] تصحيحا لعقيدتهم، وتزكية لنفوسهم، وسببا لسعادتهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به، ويعمل بأحكامه. أوضح أصول الدين، وندد بالشرك والوثنية، ووضع الأنظمة الصالحة للبشر، وحض على البناء والتقدم والحضارة من طريق تمجيد النظر والتأمل

والتفكير، والحث عليها، وذم التقليد دون بحث ولا تمحيص في آيات كثيرة، منها ما يحث على النظر والتأمل مثل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] ومثل: قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة 2/ 111] ومنها ما يذم التقليد مثل: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف 43/ 23] . هل ينتظر أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويله، أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار، قال الربيع: لا يزال يجيء من تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حين يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ. ويوم يأتي تأويله يوم القيامة، كما قال ابن عباس، وتظهر حقائق ما أخبر به وصدق ما جاء به، فيقول الذين تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا، أي جعلوه كالشيء المنسي وأعرضوا عنه: قد جاءت رسل ربنا بالحق، أي صدقوا في كل ما قالوا، وصح أنهم جاؤوا بالحق، وظهر أنه متحقق ثابت، ولكنا نحن الذين أعرضنا عنه، فجوزينا هذا الجزاء. وأصبحوا يتمنون الخلاص بكل ما يمكن من أحد أمرين: إما شفاعة الشافعين، وإما الرجوع إلى الدنيا لإصلاح العمل وتجديد السلوك والمنهج الذي يرضي الله تعالى. والسبب في تمني الشفعاء: تذكرهم أساس الشرك وهو أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء فعند ما أفلسوا وعرفوا أن النجاة بالإيمان والعمل الصالح، تمنوا الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا بما أمر به الرسل غير علمهم السابق، كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ

فقه الحياة أو الأحكام:

رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 27- 28] . وهذا كقوله هاهنا: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي غبنوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، وذهب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء التي كانوا يعبدونهم من دون الله، قائلين: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فلا يشفعون فيهم، ولا ينصرونهم، ولا ينقذونهم مما هم فيه. فقه الحياة أو الأحكام: القرآن الكريم أعظم نعمة على الإنسان لأنه بيان للإيمان الصحيح والحق الثابت، والعبادة المرضية لله تعالى، ولأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كقوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام 6/ 155] . وتظهر في كل حين في الدنيا عاقبة ما أنذر به وحذّر، وما أعلم به وأخبر لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 41/ 53] وكذا في الآخرة لقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبة ما فيه. وعاقبة القرآن: ما وعد الله فيه من البعث والحساب وجزاء التكذيب به. وتبدو عواقبه يوم القيامة، فيعترف منكروه بأنه الحق الثابت والصدق الأبلج، ويتمنون الخلاص بأي وسيلة ممكنة: إما بشفاعة الشفعاء، أو الرد إلى الدنيا لتصحيح الأعمال بما يتفق مع مرضاة الله، ولكن لا يجابون إلى مطلبهم، فيندمون ولات حين مندم. ولكن هؤلاء الكفار المنكرين قد خسروا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب في النار، وبطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر، ولم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا، ولم ينتفعوا أيضا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها.

إثبات الربوبية والألوهية لله بالخلق والأمر [سورة الأعراف (7) آية 54] :

إثبات الربوبية والألوهية لله بالخلق والأمر [سورة الأعراف (7) : آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) الإعراب: حَثِيثاً منصوب إما لأنه حال أي حاثا، وإما لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: يطلبه طلبا حثيثا. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يقرأ بالنصب والرفع، فالنصب بالعطف على السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي وخلق الشمس والقمر.. والرفع على الابتداء، وخبره: مُسَخَّراتٍ. البلاغة: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فيه ما يسمى «إيجاز قصر» وهو جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. المفردات اللغوية: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الرب: هو السيد المالك المدبر والمربي، واللَّهُ: اسم الذات الأقدس خالق الخلق أجمعين، والإله: هو المعبود المرتجى لجلب النفع وكشف الضر، ويتقرب إليه بما يرضيه من العبادة والدعاء. وليس للمؤمنين الموحدين سوى إله واحد ورب واحد هو الله عز وجل. وأكثر المشركين يقولون: إنه أعظم الآلهة، وكان مشركو العرب لا يعترفون برب سواه، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه السَّماواتِ وَالْأَرْضَ المراد بهما العالم العلوي والعالم السفلي، ولم يرد خبر ببيان حقيقتهما. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ جمع يوم، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها، والمراد بالأيام الستة: أنها من أيام الدنيا، أي في قدرها، لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهن في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت.

المناسبة:

اسْتَوى في اللغة: استقر، أو قصد أو استولى وملك، والمراد أنه يتصرف فيه بما يريد وقد استوى استواء يليق به الْعَرْشِ لغة: سرير الملك، أو كل شيء له سقف، أو هودج المرأة، أو الملك والسلطان، يقال: ثلّ عرشه، أي ذهب ملكه وزوال أو هلك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي كلا منهما بالآخر، ويجعل الليل كالغشاء، أي يذهب نور النهار يَطْلُبُهُ يطلب كل منهما الآخر حَثِيثاً أي طلبا سريعا من غير فتور مُسَخَّراتٍ مذلّلات خاضعات لتصرفه بِأَمْرِهِ بقدرته وتدبيره وتصرفه الْخَلْقُ إيجاد الأشياء من العدم بقدر، فله الخلق جميعا وَالْأَمْرُ كله، أي التدبير والتصرف كما يشاء تَبارَكَ اللَّهُ تعاظم وتنزّه، أو كثر خيره وإحسانه رَبُّ الْعالَمِينَ مالك العوالم من الجن والإنس. المناسبة: إن مدار القرآن على إثبات أسس أربعة: وهي التوحيد، والنبوة، والمعاد، والقضاء والقدر. وإثبات المعاد متوقف على إثبات التوحيد والقدرة والعلم. فلما قرر الله تعالى أمر المعاد، وذكر ما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وأصحاب الأعراف، عاد إلى ذكر أدلة التوحيد، وكمال القدرة، والعلم، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وإثبات المعاد. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه خالق الكون أو العالم كله سماواته وأراضيه السبع، وما بين ذلك في ستة أيام، وهي ما عدا السبت، وقد اجتمع الخلق كله في الجمعة، الذي فيه خلق آدم عليه السلام. وأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع، وهذا من الأخبار الإسرائيلية. والمتبادر إلى الأذهان أن هذه الأيام مقدرة بأيام الدنيا لأنه لم يكن ثمّ شمس، ووجدت هذه الأشياء المخلوقة بعد خلق هذه الأرض. ورأى مجاهد وأحمد بن حنبل: أن كل يوم كألف سنة، كما قال تعالى:

وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج 22/ 47] وأما يوم القيامة فقال الله في وصفه: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 69/ 4] . ومعنى الآية: إن ربكم ومالك أمركم أيها الناس هو الله وحده لا شريك له، وهو الذي أوجد السموات والأرض، وقدرهما، ودبر أمورهما وأحكم نظامهما في ستة أيام، إما مقدرة بأيام الدنيا، وإما أن الله أعلم بمقدارها وحدودها، ولو شاء خلّقها في لحظة لخلقها، وإنما أراد تعليم خلقه التثبت في الأمور: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] وذلك الخلق والتكوين ليس بالهين وهو دليل على القدرة التامة: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] . وكان خلق الأرض في يومين، وخلق الجبال الرواسي وأنواع النبات والحيوان في يومين آخرين، كما قال تعالى: قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت 41/ 9- 10] . وخلق السموات وما فيها من أجرام وكواكب في يومين، كما قال تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت 41/ 12] . ثم إنه تعالى بعد هذا الخلق استوى على عرشه، يدبر أمره، ويصرف نظامه، على نحو يليق به، غير مشابه لشيء من المخلوقات والحوادث. فاستواؤه على العرش: هو انفراده بتدبير السموات والأرض، واستيلاؤه على زمام الأمور والسلطة فيهما. ونحن نؤمن كإيمان الصحابة باستواء الله على العرش بكيفية تليق به، من غير تشبيه ولا تكيف، أي من غير تحديد بجهة، ولا تقدير بكيف أو

وصف، وتترك معرفة الحقيقة إلى الله، وهذا ما قرره الإمام مالك ومن قبله شيخة ربيعة، فقال: الاستواء معلوم (أي في اللغة) والكيف (أي كيفية الاستواء) مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وهذا القدر كاف في الموضوع. وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 42/ 11] . بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حمّاد شيخ البخاري قال: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى «1» . وأما الخلف فيتأولون ويقولون: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه، بمعنى أنه يدبر أمره، ويصرّف نظامه، على حسب تقديره وحكمته، كما قال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس 10/ 3] . ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر تدبيره الكون فقال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ... أي أنه تعالى يلحق الليل بالنهار، أو النهار بالليل، يحتملهما جميعا على التعاقب، ويذهب ظلام الليل بضياء النهار، وضياء النهار بظلام الليل، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، أي سريعا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 220

جاء هذا وعكسه. والمراد أنه يعقبه سريعا دون وجود فاصل أو تأخر، مثل قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 37- 40] . وفي تعاقب الليل والنهار منافع كثيرة، إذ بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتتحقق مصالح الناس. وقد تأيد هذا الطلب السريع بما أثبته العلم الحديث من كروية الأرض ودورانها على محورها حول الشمس، فيكون نصف كرتها مضيئا بالشمس، والنصف الآخر مظلما، فإذا كان الوقت نهارا في الشرق الأوسط مثلا، كان الوقت ليلا في أمريكا الجنوبية وطوكيو- اليابان. وقد سبق إلى ما قرره العلماء المعاصرون كثير من علماء الإسلام كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن قيّم الجوزية. ومن مظاهر التدبير الإلهي للكون: خلقه الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب، وكونها جميعا تحت قهره وتسخيره ومشيئته، أي أنها خاضعة لأمره وتصرفه. لذا قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي أنه هو الخالق المبدع المالك، المتصرف المدبر، فمعنى لَهُ الْخَلْقُ أي له ملك المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها، ومعنى له الْأَمْرُ أي التصرف والتدبير، ليس لأحد شيء. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي تعاظم وتنزّه، وانفرد بالربوبية، وكل ما في العالم من الخيرات الكثيرة منه، فعلى عباده شكره عليها، وعبادته دون غيره. كقوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك 67/ 1] وقوله: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان 25/ 61] .

فقه الحياة أو الأحكام:

روى ابن جرير الطبري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء، وروي مرفوعا: «اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يلي: 1- الله عز وجل هو المنفرد بقدرة الإيجاد، وخالق السموات والأرض، فهو الذي يجب أن يعبد. 2- استوى الله تعالى على العرش، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، ورأي السلف الصالح: أنه استوى على عرشه حقيقة، لكن كيفية الاستواء مجهولة، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم (يعني في اللغة) والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها. وأكثر المتقدمين والمتأخرين من علماء المتكلمين على تنزيه الله تعالى عن الجهة والتحيّز في مكان، لأنه يلزم من ذلك أنه متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيّز، ويلزم على المكان والحيّز: الحركة والسكون للمتحيّز، والتغيّر والحدوث. وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى الملك والسلطان، أي ما استوى الملك

المطلق إلا له جل وعز. قال القرطبي: وهو قول حسن، وفيه نظر «1» . 3- الليل والنهار متعاقبان، وتعاقبهما دليل على كروية الأرض وحركتها ودورانها. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل، واكتفى بأحدهما عن الآخر، مثل: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل 16/ 81] أي والبرد. ومثل: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 3/ 26] أي والشر. 4- الشمس والقمر والنجوم وسائر الكواكب مخلوقة لله، بدليل أنها معطوفة على السموات، أي وخلق السموات، وهي مذللات خاضعات لتصرف الله. 5- لله الخلق والأمر، وقد دلت الآية على صدق الله في خبره، فله الخلق وله الأمر، خلقهم وأمرهم بما أحب، وهذا الأمر يقتضي النهي. قال سفيان بن عيينة: فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر. فالخلق: المخلوق، والأمر: كلامه الذي هو غير مخلوق، وهو قوله: كُنْ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بيّن على فساد قول من قال بخلق القرآن إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا، لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق. وذلك عيّ من الكلام ومستهجن، والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ولو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له، وذلك محال، فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق ليصح قيام المخلوقات بأمره، بدليل قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] وقوله هنا: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره.

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 221

مشروعية الدعاء وآدابه وتحريم الإفساد في الأرض [سورة الأعراف (7) الآيات 55 إلى 56] :

والأمر ليس من الإرادة في شيء. والمعتزلة تقول: الأمر نفس الإرادة. قال القرطبي: وليس بصحيح، بل يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده، ولم يرده منه، وأمر نبيه أن يصلّي مع أمّته خمسين صلاة، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ [آل عمران 3/ 140] ونهى الكفار عن قتله، ولم يأمرهم به «1» . 6- الله تعالى متعاظم منزه عن الدنايا، باق دائم ثابت، كثير الخيرات والآثار الفاضلة والنتائج الشريفة، واسع الفضل والإحسان تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. مشروعية الدعاء وآدابه وتحريم الإفساد في الأرض [سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) الإعراب: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إما منصوبان على المصدر، أو على الحال على معنى: ذوي تضرع وخفية. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ إنما قال: قريب بالتذكير لثلاثة أوجه: أنه ذكره حملا على المعنى، لأن الرحمة بمعنى الرّحم أو الترحم، وهو مذكر، أو لأن المراد بالرحمة: المطر، وهو مذكر، أو ذكّره على النّسب، أي: ذات قرب، كقولهم: امرأة طالق وطامث وحائض، أي ذات طلاق وطمث وحيض (ابن الأنباري: 1/ 365) . وأضاف الزمخشري: أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي شيء قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي (الكشاف: 1/ 551) وذكر الرازي في تفسيره (14/ 136- 137) أربعة وجوه من هذه. وذكر القرطبي في تفسيره: 7/ 227 سبعة أوجه لقوله: قَرِيبٌ ولم يقل: قريبة، هي

_ (1) المرجع السابق: 7/ 223

المفردات اللغوية:

أن الرّحمة والرّحم واحد، وهي بمعنى العفو والمغفرة، وقيل: أراد بالرحمة الإحسان، وقيل: مالا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره، وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر، وقيل: على تذكير المكان أي مكانا قريبا، وقيل: ذكّر على النسب، كأنه قال: إن رحمة الله ذات قرب. وقيل: في غير النسب يجوز التذكير والتأنيث، يقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب. المفردات اللغوية: تَضَرُّعاً تذللا، وهو إظهار ذل النفس وخضوعها خُفْيَةً سرا، وهو ضد العلانية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت، والمراد: عدم الثواب وعدم الرضا عن الداعي. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالشرك والمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الرسل خَوْفاً من عقابه، والخوف: توقع الشر والمكروه وَطَمَعاً في رحمته، وهو توقع الخير. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على توحيد الربوبية من كمال القدرة والتدبير، والحكمة والتصرف، أتبعه بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة والاشتغال بالدعاء والتضرع، فإن الدعاء مخ العبادة. التفسير والبيان: أرشد الله تعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي ادعوا ربكم ومتولي أموركم والمنعم عليكم، متضرعين متذللين مستكينين، مع إسرار الدعاء وإخفائه، فالدعاء مخ العبادة. وفيه إيماء إلى ندب الدعاء خفية لأنه أبعد عن الرياء، ولقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف 7/ 205] وقوله بالثناء على زكريا: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم 19/ 3] . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس

أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس، اربعوا «1» على أنفسكم، فإنكم لا تدعون وأصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» . وروى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في الثواب عن أنس رضي الله عنه: «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» . وروى أبو الشيخ ابن حبان في الثواب عن أنس رضي الله عنه: «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» . وقال الحسن البصري رحمه الله: «ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. وذكر بعض العلماء: أن الأولى الإسرار بالدعاء في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيدين. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء ولا في غيره، بتجاوز الحدود المأمور بها، والتجاوز هنا في ترك هذين الأمرين المذكورين: وهما التضرع والإخفاء. وعدم المحبة: أي أن الله لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، فظهر أن قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء. روى أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك

_ (1) أي ارفقوا بأنفسكم.

الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل» . وكما أمر الله بدعائه والتضرع إليه، نهى عن الإفساد في الأرض، فقال: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... أي لا تفسدوا شيئا في الأرض بعد الإصلاح بما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون، وشيّده العقلاء المخلصون، من النواحي المادية والمعنوية، كتقوية وسائل الحياة من زراعة وصناعة وتجارة، وتهذيب الأخلاق، والحث على العدل والشورى والتعاون والتراحم. والإفساد شامل إفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة والاحتيال، وإفساد العقول بشرب المسكرات ونحوها، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى واللواطة والقذف. وبعد أن أبان الله تعالى شرط الدعاء وهو التضرع والخفية، نبّه إلى بواعث الدعاء وموجباته، وأشعر أن من لا يدعو ربه على هذا النحو يكون أقرب إلى الإفساد، فقال: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً. أي ادعوا الله خوفا من عقابه، وطمعا في جزيل ثوابه، فإن الدعاء مخ العبادة ولبّها، لذا صرح بفائدة الدعاء، وأنه مرجو الإجابة متى استكمل شرائطه وآدابه، فقال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ.. أي إن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم، وهي مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 156] . فمن أحسن الدعاء أعطي خيرا مما طلبه، أو مثله، أو دفع عنه من الشر مثله.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي من الأحكام: 1- الأمر بالدعاء والتعبد به، وهو نوع من أنواع العبادة، ويفيد معرفة ذل العبودية، ومعرفة عزة الربوبية، ويكون سببا لجلب الخير ودفع الضر لأن هناك أمورا معلقة بالأسباب، والدعاء سبب. 2- للدعاء آداب وصفات تحسن معه: وهي الخشوع والاستكانة والتضرع، وكونه سرا في النفس ليبعد عن الرياء، وأن يكون الإنسان في حالة بين الرجاء والخوف، فيدعو خوفا من عقاب الله، وطمعا في ثوابه، قال الله تعالى: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء 21/ 90] . قال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طوال الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء. أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» . وينبغي عدم الاعتداء في الدعاء: بالجهر الكثير والصياح، أو يدعو الإنسان أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال ونحو هذا من الشطط، أو يدعو طالبا معصية وغير ذلك، أو يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مفقّرة، وكلمات مسجّعة، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء، والأولى ترك كل ذلك. ومجمل آداب الدعاء: أن يكون على طهارة، وأن يستقبل القبلة، وتخلية القلب من الشواغل، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ورفع اليدين نحو السماء، وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإجابة كثلث الليل الأخير، ووقت إفطار الصائم، ويوم الجمعة، وحال السفر والظلم وغير ذلك «1» .

_ (1) روح المعاني للالوسي: 8/ 140

3- ودل قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ على أن كل من خالف أمر الله ونهيه، فإنه يكون معاقبا إذا ارتكب محرما، فإن لم يكن من المحرمات فالأولى تركه. 4- استدل الحنفية بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً على أن إخفاء التأمين «آمين» أولى من الجهر بها لأنه دعاء. وقال الشافعي رحمه الله: إعلانه أفضل. وأما رفع اليدين في الدعاء، فكرهه طائفة من العلماء مثل عطاء وطاوس ومجاهد وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير عملا بحديث أنس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء، فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. وأجاز جماعة آخرون من الصحابة والتابعين رفع الأيدي، ذكر البخاري عن أبي موسى الأشعري: دعا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه. ومثله عن أنس. وقال ابن عمر: رفع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» . وفي صحيح مسلم عن عمر قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة مادّا يديه، فجعل يهتف بربه. وروى الترمذي عن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه، لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه ، وقال: هذا حديث صحيح غريب. وهذه الأحاديث- كما ذكر القرطبي- أصح طرقا، وأثبت من حديث أنس المتقدم. ثم قال: والدعاء حسن كيفما تيسر، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلّم حسبما ورد في الأحاديث. 5- نهى سبحانه عن كل فساد قل أو أكثر بعد صلاح قل أو كثر. ودل قوله

إنزال المطر وإخراج النبات ودلالتهما على القدرة الإلهية وإثبات البعث [سورة الأعراف (7) الآيات 57 إلى 58] :

تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق. وبان في الآية المتقدمة: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ أن الأصل في المنافع واللذات الطيبة الإباحة والحل. 6- دل قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ.. على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين، ويفهم منه: ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة لأنه يلزم من الآية أن كل ما لا يكون قريبا من المحسنين ألا يكون رحمة. إنزال المطر وإخراج النبات ودلالتهما على القدرة الإلهية وإثبات البعث [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) الإعراب: بُشْراً منصوب على الحال. إِلَّا نَكِداً حال من الضمير في يَخْرُجُ. البلاغة: سُقْناهُ فيه التفات عن الغيبة. لِبَلَدٍ مَيِّتٍ استعارة، إذ شبه جدب البلد وعدم نباته بالجسد الذي لا روح فيه، من حيث عدم الانتفاع به.

المفردات اللغوية:

كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه الأداة ولم يذكر وجه الشبه، شبّه إخراج الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض. المفردات اللغوية: الرِّياحَ جمع ريح، وهو الهواء العاصف الشديد الحركة، وإذا جمعت كانت في معنى الخير، كما هنا، وإذا أفردت كانت في معنى الشر، كما في قوله تعالى: أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر 54/ 19] وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» . بُشْراً مبشرات متفرقة قبل نزول المطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قبل نزول المطر أَقَلَّتْ حملت ورفعت أي الرياح سَحاباً جمع سحابة وهي الغيوم ثِقالًا مشبعة ببخار الماء سُقْناهُ سيرناه أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أرض لا نبات فيها ولا مرعى، أي لإحيائها فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بالماء الثَّمَراتِ جمع ثمرة، وهي ما تحمله الشجرة، سواء أكان مأكولا أم لا كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كذلك الإخراج للنبات بالمطر نخرج الموتى من قبورهم بالإحياء. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتؤمنوا. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ العذب التراب يَخْرُجُ نَباتُهُ حسنا بِإِذْنِ رَبِّهِ هذا مثل للمؤمن، يسمع الموعظة، فينتفع بها وَالَّذِي خَبُثَ ترابه لا يَخْرُجُ نباته إِلَّا نَكِداً عسرا بمشقة، لا خير فيه، وهذا مثل للكافر كَذلِكَ نُصَرِّفُ كما بينا ما ذكر نبيّن الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ الله فيؤمنوا. المناسبة: لما ذكر الله تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر للعالم العلوي والسفلي، والمسخّر للإنسان ما في الكون، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر، ونهى عن الإفساد في الأرض، وأبان أن رحمته قريبة من المحسنين، نبّه تعالى إلى أنه الرزاق، وأن أهم مصادر الرزق هو المطر الذي يترجم إلى خيرات كثيرة ويكون سببا للنبات الحسن، وأنه يعيد الموتى أحياء يوم القيامة كإحياء الأرض بعد موتها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الله الذي يرسل الرياح قبل نزول المطر، مبشرات بها، فقوله: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي مقدم إنزال المطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى 42/ 28] وقال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم 30/ 50] . فإذا حملت الرياح سحابا ثقالا، أي من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض، سقناه لإحياء أرض مجدبة لا نبات فيها، كقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها.. [يس 36/ 33] . فأنزلنا بالسحاب الماء، إذ من المعروف علميا أن الهواء القريب من سطح البحر يسخن بتأثير الحرارة، فيصعد في الجو ويبرد بتأثير منطقة باردة، أو بالهواء البارد، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء، وتكوّن السحاب، ثم يتحرك السحاب بقوة الريح، ثم ينزل مطرا بمشيئة الله وإرادته. وهذا المعنى كثير متردد في الآيات مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر 35/ 9] ومثل الآية 43 من سورة النور، والآية 48 من سورة الروم. فأخرجنا بالمطر أنواع النبات والثمار من الأرض، على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها وروائحها، مما يدل على قدرة الله وتمام رحمته، كما قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] .

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، والأمثال تقرن ببعضها لمعرفة تماثلها في الحكم، فإنه تعالى أشار إلى إنكار البعث، فقال: كَذلِكَ نُخْرِجُ.. أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة الجدبة بالماء، نخرج الموتى ونبعثهم، فالله على كلّ شيء قدير، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وقد بينا هذا الشبه لتتذكروا وتتعظوا، فتؤمنوا بالبعث أو اليوم الآخر. كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] وقال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء 21/ 104] وقال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف 7/ 29] . ولكن استعداد الناس للإيمان بالبعث مختلف باختلاف الطبائع والنفوس، فمنها الطيب الذي يتجاوب لنداء الإيمان، ومنها الخبيث الذي يعرض عن الإيمان، لذا قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ ... أي إن الأرض الطيبة التربة يخرج نباتها سريعا حسنا، والأرض الخبيثة التربة كالسّبخة ونحوها، لا يخرج نباتها القليل إلا بعسر وصعوبة. قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. أي إنه تعالى شبه المؤمن بالأرض الخيّرة، والكافر بالأرض السبخة، ومثله الحديث الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكانت منها نقيّة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبث كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .

فقه الحياة أو الأحكام:

هذه الأمثال والمقارنات وعقد أوجه الشبه بين الأشياء لإقناع الناس وحملهم على الإيمان والتفكير بالحقائق، لذا قال تعالى: كَذلِكَ نُصَرِّفُ ... أي مثل ذلك البيان والتصريف نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها ونبينها لقوم يشكرون نعمة الله، وهم المؤمنون ليكفروا فيها ويعتبروا بها. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الله تعالى مصدر الرزق، فهو الذي ينزل المطر، فينبت الزرع والعشب والشجر والنبات والثمار، فيستفيد منها الإنسان والحيوان ثم يعود نفع الحيوان في النهاية إلى الإنسان. والإنزال والإنبات دليل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته. 2- إخراج الموتى أحياء من القبور مثل إخراج النبات الحي من الأرض الجدبة الميتة التي لا حراك فيها، وفي ذلك ذكرى، تذكر الناس فيؤمنوا بالبعث والنشور يوم القيامة. 3- ضرب الله تعالى للمؤمن والكافر مثلا، فإنه شبّه المؤمن بالأرض الخيّرة التي نزل عليها المطر، فيحصل منها أنواع الأزهار والثمار، والكافر بالأرض السّبخة التي لا تنبت إلا النزر القليل، وإن نزل عليها المطر، وشبّه نزول القرآن بنزول المطر، فالروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل بها نور القرآن، ظهرت فيها أنواع الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة وإن اتصل بها نور القرآن، لم يظهر فيها من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل. 4- يضرب الله الأمثال للناس ليتذكروا ويتعظوا فيؤمنوا، ويصرّف الآيات ويرددها، ويأتي بالحجج والدلالات لإبطال الشرك، كما يصرف الآيات

قصة نوح عليه السلام [سورة الأعراف (7) الآيات 59 إلى 64] :

في كل ما يحتاج إليه الناس، لعل الشاكرين يتذكرون فيشكروا الله على ما أنعم عليهم. وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك، مثل قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] . قصة نوح عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) الإعراب: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: وصف لإله على الموضع لأن موضعه رفع. وقرئ بالجر صفة لإله على اللفظ. يا قَوْمِ نداء مضاف، ويجوز: يا قومي على الأصل أُبَلِّغُكُمْ إما كلام مستأنف بيان لكونه: رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أو يكون صفة لرسول. وَأَنْصَحُ لَكُمْ زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة. أَوَعَجِبْتُمْ فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. والهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لَقَدْ جواب قسم محذوف عَذابَ يَوْمٍ المراد هنا يوم القيامة الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم رِسالاتِ رَبِّي ما أوحي إليّ من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر ضَلالٍ عدول عن طريق الحق مُبِينٍ بيّن وَأَنْصَحُ لَكُمْ أريد الخير، وأرشد إلى المصلحة مع إخلاص النية ذِكْرٌ موعظة عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ، أي على لسان رجل من جنسكم لِيُنْذِرَكُمْ العذاب إن لم تؤمنوا الْفُلْكِ السفينة عَمِينَ جمع عم، أي ذو عمى عن الحق، والأعمى: أعمى البصر. المناسبة: لما ذكر الله تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتصل به، شرع في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الأول فالأول، مبتدئا بنوح عليه السلام الذي هو أبو البشر الثاني، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام. والهدف من إيراد قصص الأنبياء: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول دعوة الأنبياء ليس مقتصرا على قريش قوم محمد عليه الصلاة والسلام، بل هذا موقف متبع في جميع الأمم السابقة، والمصيبة إذا عمت خفت، وفي ذلك تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتخفيف على قلبه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [هود 11/ 120] . وفي القصص بيان العاقبة: عاقبة المنكرين وهي اللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة، وعاقبة المؤمنين وهي العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة. وفي إيراد القصص أيضا التنبيه إلى أن الله وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، فلا يهملهم، بل ينتقم منهم. وفي هذا من العظة والعبرة للأجيال ما يكفي: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] . وسرد القصة من غير تحريف ولا خطأ دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان

أضواء على قصة نوح من التاريخ:

أميا لا يقرأ ولا يكتب، إذ يدل ذلك على أنه إنما عرف القصة بالوحي من الله، مما يدل على صحة نبوته. أضواء على قصة نوح من التاريخ: نوح عليه السلام: هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ: وهو إدريس «1» بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر. وهو أول الرسل إلى المشركين، كما في حديث الشفاعة في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض» وهو أول الرسل بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل. وقد أرسله الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وكان نجارا. وقال ابن عباس: وكان ابن أربعين سنة. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه. وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام. وذكر الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام. ذكر الزهري أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح. والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل السود من ولد حام بن نوح. والترك والبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح.

_ (1) من قال من المؤرخين: إن إدريس النبي عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام، فقد وهم، كما ذكر القرطبي بدليل الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النّبي صلّى الله عليه وسلّم إدريس قال له: «مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح» ولم يقل له: «بالابن الصالح» كآدم ونوح وإبراهيم.

وكان أول ما عبدت الأصنام: أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صورهم، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. فلما تفاقم الأمر بعث الله تعالى رسوله نوحا، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.... وذكر نوح في (43) ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم، وذكرت قصته مفصلة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح. ومضمون قصته: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يتركوا عبادة الأصنام، ولكنهم عاندوه وعارضوه وآذوه، واتبعوا بعض زعمائهم، ومكروا مكرا عظيما، وصمموا ألا يذروا عبادة: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وقالوا في حماقة وكبرياء: إنك جادلتنا فأكثرت جدالنا، وإنا لن نترك ما نحن عليه، فأتنا بالعذاب الذي تهددنا به، فرد عليهم بأن تعذيبهم بيد الله تعالى. ولما يئس نوح من إيمان قومه بعد دعوتهم إليه ألف سنة إلا خمسين، أمره الله تعالى بصناعة سفينة أداة النجاة، وكانوا كلما مروا عليه سخروا منه ومن عمله. فلما أتمها، وأمره الله تعالى أن يأخذ معه أهله إلا زوجته، وأن يأخذ من آمن معه من قومه، وكانوا ستة فقط، وقيل: أربعين رجلا وامرأة، وأن يصحب معه من أجناس الحيوان والطير والوحش زوجين اثنين. ثم فار تنور أهله بالماء، وبدأ تفجر الماء الكثير من كل مكان حتى عمّ الطوفان قومه وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان، فهلكوا حتى ابنه الذي أبى الركوب في السفينة قائلا: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ

[هود 11/ 43] . واستوت السفينة على جبل الجودي في نواحي ديار بكر من جبال أرمينية جنوب تركيا: وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود 11/ 44] . وللعلماء رأيان في عموم طوفان الأرض، فقال جماعة: لقد عمّ جميع أنحاء الأرض، بدليل وجود بقايا حيوانية مائية في أعالي الجبال. وقال آخرون: لم يكن الطوفان عاما، وإنما كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي بلاد الشرق الأوسط وما جاورها. ومن المعلوم أن البلاء يعم والرحمة تخص، والنقمة لا تقتصر على الظالمين، فتشمل الأطفال الأبرياء والوحوش والطيور: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] . وكان نوح قد دعا بدعوتين: الأولى للمؤمنين والثانية على الكافرين، أما الأولى فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. [نوح 71/ 28] . والثانية هي: وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 26- 27] . وكان ابن نوح في عداد الهالكين لأنه كان ظالما كافرا، بدليل تمام الآية الأولى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً والظلم هو الكفر. وهذا ابن نوح حقيقة في رأي جماعة، وقال آخرون: إنه كان ابن امرأته من غيره، ولم يكن ابنا حقيقيا له. وكانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، كما كانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ،

التفسير والبيان:

كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم 66/ 10] . ولم ينص القرآن الكريم على حجم السفينة، وإنما أشير إليها بأنها الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس 36/ 41] وبأنها ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر 54/ 13] أي مسامير، وبأن صناعتها بوحي من الله وإلهام: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [هود 11/ 37] . التفسير والبيان: أقسم الله تعالى لأهل مكة وغيرهم بأنه أرسل نوحا إلى قومه لإنذارهم، ودعوتهم إلى توحيد الله، وعبادته دون سواه، فقال لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي توجهوا بعبادتكم إلى الله وحده لا شريك له، إذ ليس لكم إله غير الله، تتوجهون إليه بالعبادة والدعاء وطلب الخير، فالله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت السموات والأرض، وهو الإله الحق القائم على هذا الكون، وهو المستحق للعبادة والتقديس والتعظيم. إِنِّي أَخافُ ... إني أخاف عليكم بسبب الشرك عذاب يوم عظيم من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله، وأنتم تشركون به. فاليوم العظيم: هو يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان. وموقع الجملتين بعد قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ: أن الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته. قال الملأ من قومه أي أشراف القوم والسادة والقادة: إنا لنراك في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام لفي غمرة من الضلال أحاطت بك، وهكذا حال الفجار يرون الأبرار في ضلالة، وهم أعداء دائما للهداة، كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين 83/ 32] وقوله: وَقالَ الَّذِينَ

كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف 46/ 11] . قال نوح مجيبا لهم: يا قوم، ما أنا فيما أمرتكم به من توحيد الله وعبادته دون الأنداد بضال عن جادة الحق، ولكن أنا رسول من رب العالمين إليكم، ربّ كل شيء ومليكه، أهديكم إلى سبيل الرشاد، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. والضلالة كما ذكر الزمخشري أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال. أبلغكم ما أرسلني به ربي من الدعوة إلى التوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما اشتمل عليه من جنة ونار، وثواب وعقاب، وأبيّن لكم أصول العبادات والمعاملات وأحكامها العامة وفضائل الأخلاق والآداب، وفي الجملة: كل الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر. وأنصح لكم نصحا خالصا من شوائب المصلحة والمكر، بتحذيركم من عقاب الله على كفركم وتكذيبكم لي. روي مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» . وأنا في هذا التبليغ والنصح أعلم من الله وشؤونه مالا تعلمون من مصير هذا العالم، وإن إنذاري عاقبة الشرك بعذاب الدنيا، ونصحي لكم ناشئ عن علم يقيني لا تعلمونه. وهذا شأن الرسول: أن يكون مبلّغا فصيحا ناصحا عالما بالله. ويكون المقصود من قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب العلوم المتعلقة بتوحيد الله وصفات جلاله، وعقابه الشديد في الدنيا والآخرة على عصيان أوامره.

جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد» . ثم أخبر الله تعالى عن نوح أنه قال لقومه: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر يذكّركم، ووعظ من ربكن، على لسان رجل منكم، ليحذّرنكم عاقبة كفركم، وينذركم عاقبة الشرك في العبادة، وليعدّكم بالتقوى (أي التزام الأوامر واجتناب النواهي) لرحمته تعالى التي ينزلها على المؤمنين، أو ليوجد فيكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار، ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم. ليس هذا بعجب أن يوحي الله إلى رجل من جنسكم، رحمة بكم، ولطفا وإحسانا إليكم، لينذركم، ولتتقوا نقمه ولا تشركوا به، وليرحمكم ربكم بطاعته والإيمان برسله. لكنهم لم يصغوا لنداء الحق والإخلاص هذا، وتمادوا في تكذيبه ومخالفته من قبل الأكثرية، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما قال تعالى في موضع آخر: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود 11/ 40] قيل: كانت عدتهم ثلاثة عشر: نوح وبنوه: سام وحام ويافث وزوجاتهم، وستة آخرون آمنوا به. وقيل: كانوا أربعين أو ثمانين: أربعين رجلا وأربعين امرأة. فكان العقاب إغراقهم بالطوفان: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا ... أي وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أو جحدوا بها بالطوفان، بسبب كفرهم وتماديهم في ضلالهم وشركهم، إنهم كانوا قوما عميا عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له. فقوله: عَمِينَ يراد به عمى القلوب غير مستبصرين، والفرق بين العمى والأعمى أن الأول بسبب عمى البصيرة، والثاني بسبب عمى البصر.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونجّى الله رسوله نوحا والمؤمنين القائل معه. وهكذا بيّن الله تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] . فاحذروا أيها المخاطبون بدعوة الإسلام أن تكونوا مثلهم، أو تسيروا على منوالهم. وسيأتي في سورة هود تفصيل أشمل لهذه القصة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت قصة نوح عليه السلام على أنه اهتم في دعوة قومه بثلاثة عناصر: أحدها: أنه أمرهم بعبادة الله تعالى. والثاني: أنه حكم أن لا إله غير الله. والمقصود من الكلام الأول: إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد، والثاني كالعلة للأول. والثالث: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: وهو إما عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان. والمراد من الخوف: اليقين لأنه كان جازما بنزول العذاب بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون: بل المراد منه الظن والشك. وظاهر هذه الآية يدل على أن الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي، يجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام، فكان المعنى: اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره، حتى يتطابق النفي والإثبات. ودلت الآية أيضا على أن الفجار والكفار يرون الأبرار والمؤمنين عادة في

ضلال، ويكونون دائما أعداء للهداة، فقد نسبوا نوحا عليه السلام في ادعاء النبوة إلى الضلال، وكذبوه وتمردوا على دعوته، وأمعنوا في إيذائه، وأصروا على عبادة الأصنام. ومهمة الأنبياء عادة هي تبليغ الرسالة. وهناك فرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة وهو أن التبليغ معناه: التعريف بأنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه. وأما النصيحة: فهو الترغيب في الطاعة، والتحذير من المعصية، بالاعتماد على وسائل الترغيب والترهيب. وذكرت الآيات الغاية التي من أجلها يبعث الله الرسول، فقال تعالى: لِيُنْذِرَكُمْ وما لأجله ينذر، وقال: وَلِتَتَّقُوا وما لأجله يتقون، وقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إذ طاعة الرسول سبيل لاستدرار الرحمة الإلهية. فالمقصود من البعثة: الإنذار، والمقصود من الإنذار: التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى: الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي عبد الجبار المعتزلي: هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم: التقوى، والفوز بالرحمة. والنبي أو الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم، فهو بشر من جنس البشر الذين يدعوهم إلى الله. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطباع. لذا تكرر في قصة كل نبي: رَجُلٍ مِنْكُمْ رَسُولًا مِنْهُمْ إلخ. وكانت عاقبة قوم نوح المكذبين الجاحدين المشركين إغراقهم بالطوفان العظيم.

قصة هود عليه السلام [سورة الأعراف (7) الآيات 65 إلى 72] :

قصة هود عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) الإعراب: أَخاهُمْ عطف على: نُوحاً، وهُوداً عطف بيان له. آلاءَ اللَّهِ نعماؤه، واحدها: إليّ، وألىّ، وإليّ. وهي بمنزلة آناء الليل وهي ساعاته. وآلاءَ: مفعول به منصوب.

البلاغة:

وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على: كَذَّبُوا. وعادٍ: من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي. البلاغة: قَطَعْنا دابِرَ كناية عن استئصالهم وإهلاكهم جميعا. المفردات اللغوية: وَإِلى عادٍ وأرسلنا إلى عاد الأولى أَخاهُمْ أي واحدا من جنسهم أو منهم، كقولك: يا أخا العرب للواحد من إخوة الجنس، وإنما جعل واحدا منهم لأنهم أفهم عن رجل منهم، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهي أخوة في النسب لا في الدين. قالَ لم يقل: فقال كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال: يا قوم اعبدوا الله. وكذلك: قالَ الْمَلَأُ أي أشراف القوم. ووصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به سرا مثل مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، فأريدت التفرقة بالوصف. سَفاهَةٍ خفة حلم وسخافة عقل ناصِحٌ أَمِينٌ أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أتهم، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم، لا أكذب فيه. خُلَفاءَ أي خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض، قد استخلفكم فيها بعدهم فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي زاد أجسامكم في الطول والقوة والبدانة قيل: كان طويلهم مائة ذراع وقصيرهم ستين. آلاءَ اللَّهِ نعمه في استخلافكم وبسطة أجسادكم، وما سواهما من عطاياه، وواحد الآلاء: أليّ تُفْلِحُونَ تفوزون. وَنَذَرَ نترك بِما تَعِدُنا به من العذاب قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ حق عليكم ووجب أو قد نزل عليكم. رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ سخط وانتقام أَتُجادِلُونَنِي المجادلة: المماراة والمخاصمة فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أصناما تعبدونها. أي في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الألوهية فيها معدوم محال وجوده. سُلْطانٍ حجة وبرهان فَانْتَظِرُوا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ذلكم بتكذيبكم لي، فأرسلت عليهم الريح العقيم. فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين وَقَطَعْنا دابِرَ الدابر: الآخر، أي

المناسبة وتاريخ القصة:

أهلكناهم جميعا بعذاب الاستئصال، أو استأصلناهم. فمعنى قطع دابر القوم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم. المناسبة وتاريخ القصة: قبيلة عاد قوم هود من أقدم الأمم وجودا وآثارا في الأرض، وهم على ما يظهر أقدم من إبراهيم، لذا ناسب ذكرها بعد قصة نوح مع قومه، بدليل قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فأصبح الناس على علم بواقعة قوم نوح العظيمة وهي الطوفان العظيم، لذا كان قول هود لقومه عاد: أَفَلا تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا. أخرج ابن إسحاق عن الكلبي قال: إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها، اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فاتخذوا صنما يقال له «صمود» وآخر يقال له: «الهتار» ، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها «الخلود» ، وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا ذلك وكذبوه وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] ؟ كما جاء في تفسير المنار. وكانت منازلهم أي مساكنهم باليمن بالأحقاف: وهي جبال الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله تعالى. فعاد: قبيلة عربية، كانت باليمين بالأحقاف شمال حضرموت، وكانوا قد تبسطوا في الدنيا ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها: صداء وصمود والهتار. وهم عاد الأولى، وأما عاد الثانية فهم سكان اليمن من قحطان وسبأ. ولم تذكر عاد فيما سوى القرآن الكريم من الكتب المقدسة. فبعث الله إليهم هودا نبيا، وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن

نوح. وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا، فكذبوه، وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء، طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرم، مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر. فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم: قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان (قينتان كانتا لمعاوية) فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له، أهمّه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحيي أن يكلمهم، خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، فقال معاوية: ألا يا قيل، ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد امسوا ما يبينون الكلاما فلما غنّتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون «1» من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم، واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا، لا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم.

_ (1) غوّث الرجل تغويثا: قال: وا غوثاه.

فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء، فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم، فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا «1» . وذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات، في سورة الأعراف في الآية 65، وفي سورة هود في الآيات: 50، 53، 58، 60، 89، وفي سورة الشعراء في الآية 124. وظل هود عليه السلام ينذر قومه ويحذرهم بأس الله، ويذكرهم بقوم نوح وبنعم الله تعالى عليهم: طول القامة وقوة البدن، والإقامة في أرض كثيرة الخير من الزروع والماشية، ويدعوهم إلى نبذ عبادة الأصنام، ثم توحيد الله تعالى، والتوبة والاستغفار من الشرك في العبادة. ولكن أغلب القوم كذبوه، ووصفوه بالسفاهة، لتركه ما ورثوه عن الآباء من عبادة الأصنام، وإفراد الله تعالى بالعبادة. ثم اشتطوا فاتهموه بالجنون والخبال والعته، وأن آلهتهم مستة بسوء، فتبرأ من تلك الآلهة، وتحداهم وسخر من تأثيرها المزعوم، وأعلن أن الله وحده هو المؤثر الآخذ بنواصي كل ما على الأرض من دابة، وأنذرهم أنه إن لم يستمعوا لنصيحته، فإن الله تعالى سيبيدهم ويستخلف قوما غيرهم، وسيحل بهم عذاب قريب: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ. وعتا قوم هود وتجبروا وعصوا هودا وكذبوه وجحدوا بآيات الله التي أيده الله بها لتصديقه في أنه رسول من ربه. ومع ذلك ظل هود عليه السلام يحذرهم

_ (1) الكشاف: 1/ 554 وما بعدها.

التفسير والبيان:

ويذكرهم بأن نجاتهم بالإيمان بدعوته والعمل بنصائحه، فزادهم ذلك عتوا إلى أن دمرهم الله بالريح العقيم، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما. ونجىّ الله هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، وظل هود بعد هلاك عاد ساكنا بلاد حضرموت، إلى أن مات، ودفن في شرقي بلادهم، على نحو مرحلتين من مدينة «تريم» قرب وادي برهوت. روى ابن جرير عن علي كرم الله وجهه أنه مدفون في كثيب أحمر وعند رأسه سمرة (سدر) في حضرموت. التفسير والبيان: وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا، ليس أخا في الدين، وإنما كان واحدا من تلك القبيلة أو من جنسهم جنس بني آدم، لا من جنس الملائكة، وذلك ليفهموا كلامه ويأنسوا بمنطقه وأفعاله، ولتكون أخلاقه دليلا معروفا على سلوكه، فيكونوا أقرب إلى تصديقه. قال هود: يا قوم، اعبدوا الله وحده، ولا تجعلوا معه إلها آخر. أفلا تتقون ربكم، وتبتعدون عما أنتم عليه من الشرك والمعصية؟ فقال الملأ أي الجمهور والسادة والقادة منهم: إنا لنراك في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، للإشارة إلى تمكنه فيها. ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح لأن منهم من كان قد آمن وكتم إسلامه مثل مرثد بن سعد. وإنا لنظنك في كلامك وادعائك أنك رسول من رب العالمين أنك أحد الكاذبين الذين يكذبون على الله في ادعائهم الرسالة من الله. قال لهم غاضا عن اتهامهم بأدب حسن وخلق عظيم: ليس بي سفاهة أي ضلالة وحماقة، ولكني بحق رسول من رب العالمين، أرسلني إليكم لتبليغكم

ما أرسلت به من التكاليف الإلهية، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين فيما أبلغكم إياه، فلا أكذب على الله. وهذه هي صفات الرسل: التبليغ والنصح والأمانة. ولا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم. فقوله: أَوَعَجِبْتُمْ معطوف على محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم من إنزال وحيه بتذكيركم وعظتكم على لسان رجل منكم، لينذركم عقابه ويحذركم من بأسه؟! واذكروا فضل الله عليكم ونعمته، إذ جعلكم ورثة نوح، ومنحكم طولا في القامة وقوة في الجسد تفوق أمثالكم من أبناء جنسكم. واذكروا آلاء الله، أي نعمه ومننه عليكم، واشكروه عليها بإخلاص العبادة وترك الشرك به لتفوزوا بجنان الخلد والنعيم الأبدي. فردوا عليه متمردين بقولهم: أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده، ونفرده بالتعظيم، ونترك ما كان عليه آباؤنا من اتخاذ الأصنام شركاء معه؟ أي أنهم أنكروا عليه دعوته، واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حبا لما نشؤوا عليه، وإلفا لما يتدين به آباؤهم. وازدادوا طغيانا وعنادا وإنكارا على هود عليه السلام، بل اشتطوا في الحماقة والتحدي فطلبوا إنزال العذاب عليهم على ترك الإيمان به، قائلين: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي استعجل إنزال العذاب علينا إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك. فأجابهم هود عليه السّلام: إنه قد وجب عليكم وحقّ بمقالتكم هذه من ربّكم عذاب وسخط وطرد من رحمته، أو قد نزل عليكم، جاعلا المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تلقي

الناس على الأرض كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر 54/ 20] أي أصول نخل قلع من جذره. أتحاجونني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، وما أنزل الله من حجّة ولا برهان أو دليل على عبادتها؟! ثم هددهم وأوعدهم بقوله: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي انتظروا نزول العذاب الشديد من الله الذي طلبتموه بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إني معكم أحد المنتظرين لنزوله بكم. وقد نزل بهم العذاب ونجّى الله هودا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة من الله، واستأصل الكافرين، وقطع دابر الذين جحدوا بآيات الله لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالله تعالى، وكذبوا بآيات الله، فهاتان صفتان استوجبتا التّعذيب، وهما: التّكذيب بآيات الله، والكفر أو عدم الإيمان. وكان العذاب كما في آيات أخرى بالأعاصير الهوجاء والرّيح العاتية: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذّاريات 51/ 41- 42] ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 6- 8] ، فلما تمرّدوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرّجل منهم، فترفعه في الهواء، ثمّ ترميه على رأسه، فتخلع رأسه ممن بين جثّته تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف 46/ 25] . ومظاهر عتوّهم: عبادة الأوثان، وظلم الناس، والاغترار بالقوّة: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت 41/ 15] ، وبناء الأبنية الضخمة في كلّ مكان عبثا بغير نفع، فعاتبهم هود

فقه الحياة أو الأحكام:

وكلمهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ... [الشعراء 26/ 128- 131] ، قالُوا: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ: إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود 11/ 53- 54] أي بجنون. فقه الحياة أو الأحكام: في قصة هو مع قومه عبر وعظات أهمها ما يأتي: 1- ضرورة التّحلّي بالصبر بسبب معاناة الأنبياء الشديدة في دعوة أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ورفض الإشراك به معه إلها آخر. فقد دعا هود قومه إلى عبادة الله وحده، وذكّرهم بنعم الله وأفضاله عليهم من التّمكين في الأرض وزيادة القوة البدنية وطول القامة، قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا. 2- خيبة الآمال بالتّفوق حين استمر عناد القوم (قوم عاد) وتمرّدهم وإنكارهم دعوة نبيّهم، فقد حملهم غرورهم بقوتهم الجسدية والمادية في البناء والمصانع على الاستهانة بتهديد النّبي ووعيده، فاستعجلوا إنزال العذاب عليهم. 3- النّبي يكون عادة من جنس قومه، فهو بشر مثلهم، وهو أيضا واحد من القبيلة، لكنه يكون من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا، وأكرمهم معشرا، وأرفعهم خلقا وأدبا. وهذا كلّه كان منطبقا على هود عليه السّلام، بدليل إجابته لقومه الذين اتّهموه بالسّفاهة إجابة صادرة عن الحكمة، والتّرفّع عمّا قالوا ووصفوه بالسّفاهة والضّلالة. وهذا منهج أصحاب السّمو والرّفعة، يقابلون السّفهاء بالحلم، ويغضون عن قول السّوء بالصّفح والعفو والمغفرة.

قصة صالح عليه السلام [سورة الأعراف (7) الآيات 73 إلى 79] :

4- إنّ نتيجة التّمرّد والعتو والطّغيان هي الانهيار والدّمار، وقد دمّر الله عادا بسبب تكذيبهم بآيات الله، وكفرهم وعدم إيمانهم، فعصف بهم بالرّيح العاتية. 5- نجّى الله هودا وجماعة الإيمان لاستحقاقهم الرّحمة بسبب إيمانهم، وأنزل على عاد عذاب الاستئصال الذي هو الرّيح، معجزة لهود عليه السّلام. قصة صالح عليه السّلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

الإعراب:

الإعراب: آيَةً حال، عاملها معنى الإشارة، وكانوا سألوه أن يخرجها من صخرة عينوها بُيُوتاً حال مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النّحت. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بإعادة العامل الجارّ، كقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ [الزّخرف 43/ 33] : فقوله: لِبُيُوتِهِمْ بدل من قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ وهذا يدلّ على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه. أما الضمير مِنْهُمْ فإن رجع إلى قَوْمِهِ فهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وإن رجع إلى لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فهو بدل بعض من كلّ. وعلى الأوّل يكون المعنى: أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، وعلى الثاني لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، ويدلّ على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين. البلاغة: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ إضافة تشريف وتكريم. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ التّنكير للتّقليل والتّحقير، أي لا تمسّوها بأدنى سوء. مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: ثَمُودَ قبيلة عربية كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى قرب تبوك، سمّوا باسم جدّهم: ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. فإذا كانت ممنوعة من الصّرف فيراد بها القبيلة، وإذا صرفت يراد بها الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر. أَخاهُمْ صالِحاً هو نبيّهم، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا، وأخوته لثمود كأخوة

المناسبة:

هود لقومه: أخوة في القبيلة أو الجنس، أي من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النّسب لا في الدّين. بَيِّنَةٌ معجزة ظاهرة الدّلالة من الله على صدقه. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر أو ضرب. وَاذْكُرُوا تذكّروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي في الأرض. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أسكنكم فيها أو أنزلكم فيها، والأرض: أرض الحجر بين الحجاز والشام. مِنْ سُهُولِها قُصُوراً تسكنونها في الصيف. وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء. والنّحت: نحر الشيء الصّلب. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تذكّروا نعم الله الكثيرة. وَلا تَعْثَوْا من العثيّ والعثو: الفساد. اسْتَكْبَرُوا تكبّروا عن الإيمان به. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها بالذّبح، وأصل العقر: الجرح، وعقر الإبل: قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل. والذي عقرها هو: «قدار بن سالف» حيث قتلها بأمرهم بالسّيف، وإنّما نسب الفعل إليهم جميعا لأن العقر كان برضاهم وأمرهم، والآمر والرّاضي بالفعل: شريك في الجريمة. وَعَتَوْا تمرّدوا مستكبرين. الرَّجْفَةُ الزّلزلة الشديدة من الأرض أو الحركة والاضطراب، والصّيحة من السّماء. جاثِمِينَ باركين على الرّكب، أو قاعدين لا حراك بهم، والمراد: أنهم أصبحوا جثثا هامدة ميتة لا تتحرّك. المناسبة: بعد أن ذكر الله في أوّل السّورة قصة آدم الدّالة على قدرته وتوحيده وربوبيته، وأقام الأدلّة الدّامغة على صحّة البعث بعد الموت، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وموقف أقوامهم المعاندين لهم، فذكر قصة نوح ثمّ قصة هود، ثم قصة ثمود، وكان قوم ثمود يتلون قوم عاد في الوجود والظّهور بين الأمم، كما قال تعالى على لسان صالح عليه السّلام: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ. أضواء من التاريخ: ثمود بن عاثر بن إرم بن نوح، وهو أخو جديس بن عائز، وكذلك قبيلة طسم، كلّ هؤلاء من العرب العاربة البائدة قبل إبراهيم الخليل عليه السّلام.

وكانت ثمود- قوم صالح- بعد عاد، ورثوا أرضهم وديارهم، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشّام، إلى وادي القرى وما حوله. ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، تعرف ب «فجّ النّاقة» . وحجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة. وقد كان يقال لعاد: عاد إرم، إلى أن هلكوا، فقالوا: ثمود إرم. وقد مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ديارهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها القدور، فأمرهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم، حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها النّاقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم» . وروى أحمد أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه. وكانت قبيلة ثمود مثل قوم نوح وعاد تدين بعبادة الأصنام يشركونها مع الله في العبادة، وآتاهم الله نعما كثيرة، فأرسل الله إليهم صالحا نبيّا عليه السّلام، واعظا لهم ومذكّرا لهم بنعم الله وآياته الدّالة على توحيده وأنه لا شريك له، وأنه يجب إفراده بالعبادة دون سواه. فآمن به المستضعفون من قومه، وكفر الملأ (السّادة والأشراف والقادة) ولم يؤمنوا به، وعصوا وتكبروا وكفروا، وأنكروا نبوته: أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر 54/ 25] ، وقالوا للمستضعفين: أَتَعْلَمُونَ

أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 75] ، فأجاب المستكبرون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف 7/ 76] . وطلب المستكبرون منه آية على صدقه، فأيّده الله بالنّاقة وقال لهم: لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء 26/ 155] ، إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 54/ 27- 28] ، فكانت تشرب ماء البئر أو النّهر الصغير في يوم، ويشربون منه في اليوم التالي، ويحلبون منها ما شاؤوا فلا ينضب حليبها. وأمرهم ألا يمسّوها بسوء، وأن يذروها تأكل في أرض الله، وبذل صالح عليه السّلام قصارى جهده في تذكير قومه بنعم الله تعالى عليهم، ونهاهم عن أن يعثوا في الأرض مفسدين. فتكبّروا عن الإيمان به، واستخفّوا به، وعاندوه، وعتوا عن أمر ربّهم، وعقروا النّاقة، عقرها قدار بن سالف بأمرهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقالُوا: يا صالِحُ: ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 77] ، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29] . فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود 11/ 65] ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 7/ 79] ، ثم نزل عليهم العذاب عذاب الرّجفة (الواقعة الشديدة من صوت الرّعد، المصحوبة بقطعة من نار تحرق ما أتت عليه) أو عذاب الصيحة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف 7/ 78] ، وقال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر 54/ 30- 31] ، وعبّر تعالى عنها أيضا بالصاعقة، وتارة بالطاغية. وكلّ ذلك صحيح لأن الصاعقة تكون

التفسير والبيان:

مصحوبة بصوت شديد، وقد تصحب برجفة أشبه بالزّلزال، وقد تكون في مكان ويطغى تأثيرها إلى مكان آخر. ونجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من العذاب، فذهبوا إلى الرّملة بنواحي فلسطين لأنها بلاد خصبة. وكان عددهم كما ذكر الألوسي مائة وعشرين، وأما الهالكون فكانوا أهل خمسة آلاف بيت: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود 11/ 68] . وذكر اسم صالح في القرآن تسع مرّات، في سورة الأعراف في الآيات: (73، 75، 77) ، وفي سورة هود في الآيات: (61، 62، 66، 89) ، وفي سورة الشعراء في الآية (42) . وصالح كما ذكر البغوي: هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود. التفسير والبيان: ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ليس أخا في الدين، وإنما من القبيلة أو من جنسهم البشري لا من الملائكة. فقال صالح ثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم من إله تعبدونه غيره، وهكذا جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاتبة. فأخذ عليهم العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنّه، فلما أعطوه على

ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، والله على كل شيء قدير. فآمن عندئذ رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعر بن جلهس. وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبون، فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم «1» ، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 54/ 28] وقال أيضا: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء 26/ 155] قال ابن عباس: كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها. قال لهم: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي أنها دليل قاطع على صدق نبوتي، وأضاف الناقة إلى الله للتشريف والتكريم وتعظيم شأنها لأنها جاءت من عنده مكونة من غير أم ولا أب، بل من صخرة عظيمة. ثم أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ما شاءت، وألا يتعرضوا لها بسوء في نفسها ولا في أكلها، فإنكم إن فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم. ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها وعبادته تعالى فقال: وَاذْكُرُوا ... أي تذكروا نعم الله وأفضاله وإحسانه عليكم، إذ جعلكم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران وقوة البأس، وأورثكم أرضهم وديارهم، وأسكنكم منازلهم، تتخذون من سهولها قصورا عالية، بما ألهمكم من حذق الصناعة

_ (1) تفسير الكشاف: 1/ 555- 556، تفسير ابن كثير: 2/ 228 [.....]

والاستفادة من التراب بصنع اللبن والآجر ومن سهولة الأرض، وتنحتون من الجبال أحجارا تبنون بها بيوتا محصنة، يسكنونها في الشتاء لقوتها، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون في السهول بقية الفصول للزراعة. فتذكروا هذه النعم الكثيرة العظيمة، واشكروا الله عليها بتوحيده وإفراده بالعبادة، وإياكم أن تفسدوا في الأرض، بأي نوع من أنواع الفساد. فقال الملأ أي الأشراف والسادة والزعماء للفقراء المستضعفين الذين هم أسرع الناس عادة إلى إجابة دعوة الرسل، وهم المؤمنون منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ وهو سؤال يراد به التهكم والسخرية والاستهزاء بهم. فأجابهم هؤلاء: نحن نعلم يقينا أنه رسول من عند ربه بلا ريب ولا شك، وإنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مؤمنون مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله. سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمرا معلوما لا شك فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون. وقوله: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا، كما بينا لأن المستضعفين هم المؤمنون، وهو بدل البعض من الكل، وهو الراجح. فأجاب الكفرة الذين استكبروا عن الإيمان برسالة صالح: إنا بالذي صدقتم وآمنتم به من نبوة صالح جاحدون منكرون. وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به صالح كافرون لأن ذلك يتضمن شهادتهم على أنفسهم بإثبات رسالته، ثم بإنكارها وجحودها عنادا. وقال الزمخشري: وضعوا: آمَنْتُمْ بِهِ موضع: أرسل به ردّا لما جعله المؤمنون معلوما وجعلوه مسلّما. ولما اشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتل الناقة، ليستأثروا بالماء كل يوم، فاتفقوا على قتلها، وعقروا الناقة أي نحروها، ونسب

الفعل إليهم جميعا مع أن قاتلها واحد، كما جاء في سورة القمر فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [29] لرضاهم جميعا بفعله، وكما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس 91/ 14- 15] وجاء في صحيح البخاري مرفوعا: «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة» . وعتوا عن أمر ربهم أي تمردوا عن اتباع رسالة صالح وأعرضوا عن امتثال أمر ربهم، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام، من قوله: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ... أو شأن ربهم وهو دينه. وقالوا: يا صالح، ائتنا بما وعدتنا به من العذاب والانتقام، إن كنت رسولا، وتدعي الصدق فيما تبلغ به عن الله، وهذه سمة الحمقى والسفهاء والأغرار. روى الإمام أحمد والحاكم عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها. وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أخمدهم الله بها من تحت أديم السماء، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» . فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وفي سورة هود: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وفي سورة فصلت: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وفي سورة الذاريات: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ والمراد بالجميع واحد: وهو الصيحة الشديدة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها. وسببها اصطكاك الأجرام السماوية. فأصبحوا في دارهم أي في بلادهم أو في مساكنهم جثثا هامدة موتى لا يتحركون.

فتولى عنهم صالح عليه السلام، والظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولّي مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، حزنا عليهم. وقال: يا قوم، لقد بذلت فيكم منتهى وسعي وجهدي في إبلاغكم النصيحة لكم، ولكنكم لا تحبون الناصحين، فوجبت عليكم كلمة العذاب. وهذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق. روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار، وروي غير ذلك. ونداء صالح عليه السلام لقومه بعد الموت كنداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعض قتلى قريش ببدر، بعد دفنهم في القليب (البئر غير المطوية أو غير المبنية) : «يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!» . قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري- فيما أخرجه البخاري وغيره- قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أقوام قد جيّفوا؟ - أي أجساد لا أرواح لها أو فيها وقد أنتنوا- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: ثمود «1» مثل عاد من القبائل العربية العاربة، بعث الله إليهم صالحا نبيا، فهم قوم صالح عليه السلام، وكان صالح من أوسطهم نسبا، وأفضلهم حسبا، فدعاهم إلى الله تعالى حتى شاب، فلم يتبعه إلا قليل مستضعفون. وقال المستكبرون: نحن كافرون بما جاء به صالح. قال الرازي: وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى «2» . واستدل بقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تنبون القصور بكل موضع، وقوله: وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها. وبقوله: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن زيد بن جدعان مرسلا: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه» . ومن آثار النعمة: البناء الحسن، والثياب الحسنة. وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والخطيب عن جابر وهو ضعيف: «إذا أراد الله بعبد شرا، خضر

_ (1) ثمود: لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة كما ذكر سابقا، وقال أبو حاتم: لم ينصرف لأنه اسم أعجمي، قال النحاس: وهذا غلط لأنه مشتق من الثّمد: وهو الماء القليل. (2) تفسير الرازي: 14/ 165

له في الطين واللّبن حتى يبنى» وفي خبر آخر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود: «من بنى فوق ما يكفيه، كلّف يوم القيامة أن يحمله على عنقه» وأخرج الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما أنفق المؤمن من نفقة، فإن خلفها على الله عز وجل، إلا ما كان في بنيان أو معصية» . ودل قوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ على أن الكفار منعم عليهم. وفي قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا.. دلالة على أن السادة والزعماء هم الذين تكبروا عن الإيمان، شأنهم في ذلك أمثالهم مع كل نبي ومصلح يتمردون ويستعلون عليه. وفيه دلالة أيضا على أن المستضعفين هم الذين آمنوا برسالة صالح عليه السلام، وهو الشأن الغالب أيضا مع كل نبي، يبادر الضعفاء والفقراء إلى الإصغاء لكلمة الحق والهدى والإيمان، فيكونون أهل الجنة، وأولئك المتكبرون هم أهل النار والعذاب في الدنيا. وأما قول صالح: وَقالَ: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ... فيحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم، ويحتمل أنه قاله بعد موتهم، كقوله صلّى الله عليه وسلّم لقتلى بدر: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يقدرون على الجواب» . قال القرطبي: والأول أظهر، يدل عليه: وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي لم تقبلوا نصحي. وذكر ابن كثير وغيره: أن صالحا قال لهم ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا. وقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والفاء للتعقيب: يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام، لكن ليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى: فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] . ولا تناقض بين تعبير الرجفة هنا، والطاغية والصيحة والصاعقة، كما ذكرنا

قصة لوط عليه السلام [سورة الأعراف (7) الآيات 80 إلى 84] :

في آيات أخرى، لأن الرجفة هي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها. والطاغية: اسم لكل ما تجاوز حده، والهاء للمبالغة. وأما الصيحة: فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة: فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] . وفي هذه القصة معجزات هي: أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة من الصخرة، وشاهدوا أن الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شربا لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني، ثم إن القوم لما نحروها، وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب، اقتضاهم العدول عن إصرارهم على الكفر والتوبة منه. روي أنهم احمروا في اليوم الأول، ثم اصفروا في اليوم الثاني، ثم اسودوا في اليوم الثالث. وأما الناقة فكانت تسرح في الأودية، ترد من فج (طريق) وتصدر (تعود) من غيره، ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت على ما ذكر خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. قصة لوط عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

الإعراب:

الإعراب: وَلُوطاً منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكروا لوطا، أو أرسلنا لوطا. إِذْ قالَ بدل مما سبق. قال النحويون: إنما صرف لوط ونوح لخفته، فإنه مركب من ثلاثة أحرف، وهو ساكن الوسط. أإِنَّكُمْ الهمزة الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة: «إن» . شَهْوَةً منصوب على المصدر، أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. البلاغة: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام إنكار وتوبيخ. إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ هذا تعريض بما يوهم الذم، قال ابن عباس: عابوهم بما يمدح به. المفردات اللغوية: وَلُوطاً لوط: هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، ولد في «أور الكلدانيين» في الطرف الشرقي من جنوب العراق، وكانت تسمى أرض بابل. هاجر بعد موت والده مع عمه إبراهيم إلى ما بين النهرين إلى جزيرة قورا، حيث توجد مملكة آشور، ثم ذهب معه إلى الأرض الشام، حيث أسكنه إبراهيم شرقي الأردن، وعاش في المكان المسمى بعمق السديم قرب البحر الميت (أو بحر لوط) وهي قرى خمس، سكن لوط في إحداها المسماة بسدوم، ثم بعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله عز وجل، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر وما يرتكبونه من الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، حتى صنع ذلك أهل سدوم. لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يقال: أتى المرأة: غشيها. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحلال إلى الحرام. أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وأتباعه. يَتَطَهَّرُونَ من أدبار الرجال. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.

المناسبة:

المناسبة: هذه هي القصة الرابعة: قصة لوط مع قومه: أهل سدوم، ذكرت بعد قصة نوح، وهود، وصالح عليهم السلام، لبيان ما حلّ بهم من العذاب والنكال حينما أعرضوا عن نصح الأنبياء، وعتوا عن أوامر الله. أضواء من التاريخ: لوط: هو لوط بن هاران- أخي إبراهيم بن تارح، آمن بإبراهيم واهتدى بهديه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت 29/ 26] وتبع إبراهيم في رحلاته، فكان معه فيما بين النهرين، ثم بمصر، ثم ببلاد الشام، حيث سكن في سدوم في شرقي الأردن. وذكرت قصة لوط في عدة سور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا. وكان أهل سدوم يعملون الخبائث دون حياء ولا عفة، وأمام الناس، ويقطعون الطريق على التجار، ويأخذون بضائعهم، كما قال تعالى على لسان لوط: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت 29/ 29] . وقد وعظهم لوط عليه السلام ونصحهم ونهاهم وخوفهم بأس الله تعالى، فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالموعظة هددوه تارة بالرجم وتارة بالإخراج، إلى أن جاء لوط الملائكة، بعد أن مرّوا بإبراهيم وأخبروه أنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط، وهم أهل سدوم وعامورة، فخاف أن يمس لوط بأذى، فأخبروه بأنه ناج هو ومن آمن معه، وأخبروه بأن العذاب بالقوم أمر حتم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود 11/ 76] .

التفسير والبيان:

جاء هؤلاء الملائكة إلى لوط بهيئة غلمان مرد حسان الوجوه، فجاء جماعة من سدوم إلى لوط، طالبين ضيوفه، ليفعلوا فيهم الفاحشة، فحاول لوط جاهدا في ردهم، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته بطريق العرض غير المؤكد وبالزواج المشروع، اعتمادا على استحيائهم منه، ليحمي ضيوفه. فلم يرضوا. ثم قال لوط للملائكة الذين لم يعلم أنهم ملائكة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود 11/ 80] أي لجاهدتهم بكم وعاقبتهم بما يستحقون، وحينئذ أعلموه بحقيقة أمرهم، وأنهم جاؤوا للتنكيل بأولئك القوم. ولما حاول أهل القرية أخذ هؤلاء المردان بالقوة، وهجموا على بيت لوط، طمس الله أعينهم، فلم يبصروا، ولم يهتدوا إلى مكان الاقتحام. ثم أخرج الملائكة لوطا وابنتيه وزوجه من القرية، وأمروهم ألا يلتفت منهم أحد، وأن يحضروا حيث يؤمرون، فصدعوا بالأمر إلا امرأته فإنها التفتت إلى القرية لترى ما يحل بها، وكانت متعلقة بهم، وكانت كافرة، فحل بها من العذاب ما حل بهم، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وقلبت ديار القوم، وكانوا ألفا أو أكثر «1» . قال تعالى: قالُوا: يا لُوطُ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ... [هود 11/ 81- 82] . التفسير والبيان: واذكر لوطا حين قال لقومه موبخا لهم: أتفعلون الفعلة الفاحشة التي ما فعلها أحد قبلكم في أي زمان، بل هي مبتدعة منكم، وعليكم وزر كل من

_ (1) قصص الأنبياء للأستاد عبد الوهاب النجار: 113، ط الرابعة.

يفعلها. وهذا يدل على أنها أمر مناقض للفطرة. وقوله: ما سَبَقَكُمْ بِها الباء للتعدية. وقوله مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. إنكم تأتون الرجال في أدبارهم وتدعون الزواج بالنساء في أقبالهن، أي إنكم عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن، إلى إتيان الرجال، وهذا شذوذ وإسراف منكم وجهل لأنه وضع الشيء في غير محله، ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [الحجر 15/ 71] . فأرشدهم إلى جنس النساء، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن. وقوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان لقوله: تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ. وفي هذا تقريع لهم وتوبيخ شديد، وقوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ إشارة إلى أنهم تجاوزوا النساء، وهن محل قضاء الشهوة عند ذوي الفطر السليمة. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي إنكم لا تأتون الفاحشة ثم تندمون على فعلها، بل إنكم قوم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في حال قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد، ونحوه قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء 26/ 166] أي في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة. ووصفهم بصفة أخرى في سورة النمل: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [55] . وفي هذا دليل على إسرافهم في اللذات، وتجاوزهم حدود العقل والفطرة، وجهالتهم عواقب الأمور إذ أنهم لا يقدرون ضرر ذلك على الصحة، وما يحدثه من مرض ثبت في العصر الحديث أنه مميت. وما كان جوابهم عن هذا الإنكار والنصح شيئا مقنعا، أو رجوعا عن الخطأ والضلال وإنكار الفاحشة وتعظيم أمرها، وإنما هموا بإخراج لوط ونفيه ومن معه

من المؤمنين من قريتهم تضجرا منهم وبما يسمعون من وعظهم ونصحهم وقولهم، فهم لم يجيبوه بما يناسب كلامه، ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته بالأمر بإخراجه. وقوله: أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وأتباعه. وقالوا لبعضهم: إن هؤلاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتكم في فعلكم وعن الفواحش وعن أدبار الرجال والنساء. وهذا صادر منهم على سبيل السخرية بهم والتهكم، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد. فقوله: يَتَطَهَّرُونَ أي الإتيان في هذا المأتى. وكانت نتيجة الأمر أن الله تعالى أنجى لوطا وأهل بيته الذين آمنوا معه، إلا امرأته، فإنها لم تؤمن، فكانت من جماعة الهالكين الباقين مع قومها في العذاب لأنها كانت على دين قومها تمالئهم عليه، وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم، وهذا كقوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات 51/ 35- 36] أي لم يكن آمن به أحد من قومه سوى أهل بيته فقط. وأمطر عليهم مطرا كثيرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رموا بها، وقد فسرتها آية أخرى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود 11/ 82- 83] وآية: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر 15/ 74] ومعنى قوله: مسومة أي معلمة ببياض في حمرة، والسّجيل: طين طبخ بالنار كالفخّار. وربما تكون تلك الحجارة محمولة بإعصار من الريح العاتية، أو من النيازك وهي الحجارة المنفصلة من بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها. فانظر يا محمد وكل معتبر بهذا القصص للانزجار، كيف كان عاقبة المجترئ

فقه الحياة أو الأحكام:

على معاصي الله عزّ وجلّ، ويكذب رسله، لتعلم عقاب الأمة على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: إن تحريم اللواط لأسباب كثيرة: 1- الضرر بالمفعول به، فإنه يحدث مرضا ثبت أنه مميت وهو المسمى «الإيدز» أي فقد المناعة لأنه تعالى أودع في الرحم جاذبية شديدة لامتصاص المني، وليس في عضو المفعول به قوة جاذبية للمني، فيتسمم الدم ويحدث الضرر. 2- إفساد خلق اللائط وإسرافه في الشهوة، إذ لا يقدر آنيا المخاطر. 3- إلحاق العار والعيب بكل من الفاعل والمفعول به، واستحكام العداوة بينهما. 4- إفساد النساء بالإعراض عنهن إلى الرجال. 5- إقلال النسل، لما في الفاحشة من رغبة عن الزواج، والرغبة عن الزوجات في غير محل الإنجاب. أما الإتيان في محل الحرث فيحقق الإنجاب، شاء الرجل أم أبى. لهذا كان عذاب القوم هو الاستئصال في الدنيا، ثم إن عذاب الآخرة أعظم وأدوم من ذلك. أما مذاهب العلماء المسلمين في عقاب اللواط فهي ما يأتي: 1- قال أبو حنيفة: يعزر اللوطي فقط، سواء كان محصنا أو غيره إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنى.

2- وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : إن اللواط يوجب الحد لأن الله سبحانه غلّظ عقوبة فاعله في كتابه المجيد، فيجب فيه حد الزنى، لوجود معنى الزنى فيه. وحد اللائط عند المالكية، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: هو الرجم بكل حال، سواء أحصن (تزوج) أو لم يحصن، أي سواء أكان ثيبا أم بكرا لقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم-: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» . وحد اللائط عند الشافعية هو حد الزنى، فإن كان اللائط محصنا (متزوجا) وجب عليه الرجم، وإن كان غير محصن، وجب عليه الجلد والتغريب، لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر (غير المتزوج) والثيّب (المتزوج) قياسا على حد الزنى، بجامع أن كلا منهما إيلاج محرم في فرج محرم «1» . أما إتيان البهيمة: فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء، فلم يحتج إلى زاجر بحد، بل يعزر. وفي سنن النسائي وأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس على الذي يأتي بهيمة حد» «2» . وأما حديث أبي داود والدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه» فلم يثبت،

_ (1) كتابي موسوعة الفقه الإسلامي «الفقه الإسلامي وأدلته» : 6/ 66 (2) المرجع والمكان السابق.

قصة شعيب عليه السلام [سورة الأعراف (7) الآيات 85 إلى 87] :

بدليل قول ابن عباس: ما أراه قال ذلك، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها بعد ذلك العمل «1» . قصة شعيب عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) الإعراب: بَعْدَ إِصْلاحِها على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها. تُوعِدُونَ محل الجملة وما عطف عليها النصب على الحال، أي ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله وباغيها عوجا. وضمير مَنْ آمَنَ بِهِ يرجع إلى كل صراط، وتقديره: توعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سَبِيلِ اللَّهِ موضع الضمير: زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.

_ (1) قال ابن العربي في أحكام القرآن: 2/ 777: هذا الحديث متروك بالإجماع، فلا يلتفت إليه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان في شرقي الأردن، من طريق الحجاز، وهم من سلالة مدين بن إبراهيم، وكانوا يكفرون بالله، وعبدوا الملائكة من دونه، وكانوا يبخسون الناس في الكيل والوزن. وكما تطلق مدين على القبيلة، تطلق- كما ذكر ابن كثير- على المدينة المعروفة قرب معان، بدليل قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص 28/ 23] وهم أصحاب الأيكة، كما ذكر ابن كثير. أَخاهُمْ شُعَيْباً أي ليس أخا في الدين، وإنما هو من قبيلتهم أو من جنسهم البشري، لا من جنس الملائكة، فهي أخوة في النسب لا في الدين، وشعيب: هو ابن ميكيل بن يشجر، واسمه بالسريانية «يثرون» بعثه الله إلى أهل مدين. بَيِّنَةٌ حجة ظاهرة أو معجزة. مِنْ رَبِّكُمْ على صدقي. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم حقهم. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ شامل لإفساد نظام المجتمع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق، بارتكاب الفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. بَعْدَ إِصْلاحِها إصلاح الأرض: هو إصلاح أهلها وما فيها بغرس العقيدة الصحيحة، والأعمال الصالحة، وإعمارها بما يرقي الحالة المعيشية. بِكُلِّ صِراطٍ طريق. تُوعِدُونَ تخوفون الناس بأخذ ثيابهم وأموالهم أو أخذ المكس منهم. وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تصرفون عن دين الله من آمن به بتوعدكم إياه بالقتل. وَتَبْغُونَها عِوَجاً تطلبون الطريق معوجة. فَكَثَّرَكُمْ أي بارك في نسلكم. عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي من كان قبلكم بتكذيب رسلهم، كان آخر أمرهم الهلاك. أضواء من التاريخ: هذه هي القصة الخامسة من قصص الأنبياء بعد نوح وهود وثمود ولوط عليهم السلام، وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه شعب مدين. أما شعيب فهو ابن ميكيل بن يشجر، وهو من أنبياء العرب، وذكر في القرآن عشر مرات: في سورة الأعراف في الآيات 85، 88، 90، 92 وفي سورة هود في الآيات 84، 87، 90، 95، وفي سورة الشعراء في الآية 177، وفي سورة العنكبوت في الآية 36. وكانت بعثته قبل زمن موسى عليه السلام لأن

الله تعالى قال بعد ذكر قصص هؤلاء الأنبياء الخمسة: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الأعراف 7/ 103] . وأما مدين أو مديان فهم من سلالة مدين بن إبراهيم عليه السلام، كانوا يسكنون مدينة مدين قرب معان جنوب شرقي الأردن على طريق الحجاز. وكانوا يعبدون غير الله تعالى، ويبخسون المكيال والميزان، فنهاهم شعيب عن كل ذلك، وحذرهم بأس الله، بما أوتي من قوة البيان والبراعة في إيراد الحجة عليهم، حتى إنه يسمى «خطيب الأنبياء» وهم أصحاب الأيكة في رأي ابن كثير. وكانوا يقعدون على الطرق يصدون الناس عن دين الله، قال ابن عباس: كانوا يجلسون في الطريق، فيقولون لمن أتى إليهم: إن شعيبا كذاب، فلا يفتننّكم عن دينكم. ويقولون أيضا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الأعراف 7/ 90] . وقد حاولوا إبطال دعوته، وإلحاق الأذى به، واحتقار شأنه، وتهديده: قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود 11/ 91] . بل عابوا عليه صلاته التي تأمره بنهيهم عن عبادة غير الله، والعدل في الكيل والميزان: قالُوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود 11/ 87] . ولما أفحمهم بدعائهم إلى الإيمان بالله وحسن المعاملة، هدده الملأ (السادة) من قومه بإخراجه ومن معه من المؤمنين من القرية إذا لم يعتنقوا دين قومهم، فعاتبهم بقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟! [الأعراف 7/ 88] . ولما أصروا على كفرهم، واشتطوا في مجادلة شعيب وإيذائه بالقول والفعل، أهلكهم الله بالرجفة وهي الزلزال مثل قبيلة ثمود، فبادوا جميعا: فَكَذَّبُوهُ

التفسير والبيان:

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [العنكبوت 29/ 37] . وبعد أن نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه، أرسله إلى أصحاب الأيكة: وهي غيضة من الأشجار قرب مدين، وكانوا على منهج أهل مدين، فلما نهاهم عما هم عليه اتهموه بالكذب والسحر، ولم يصدقوا بنبوته لأنه بشر مثلهم: قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشعراء 26/ 185- 186] . ثم طلبوا من شعيب أن يسقط عليهم كسفا من السماء، أي قطعة منها، إن كان من الصادقين، وأمعنوا في الإعراض عن الحق، فأخذهم عذاب يوم الظّلّة: بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت مياههم، ثم ساق إليهم غمامة، فاجتمعوا للاستظلال بها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء 26/ 189] . التفسير والبيان: وأرسل الله إلى مدين أخاهم شعيبا، وهي أخوة نسب لا أخوة دين، وأمرهم بتكاليف خمسة ترجع إلى أصلين: تعظيم أمر الله، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله، ويدخل فيه ترك البخس، وترك الإفساد، ويجمعهما ترك الإيذاء. وتلك التكاليف هي: 1- الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غير الله: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء، ودعوة الرسل كلهم. 2- ادعاؤه النبوة فقال: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي قد أقام الله

الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به، والبينة تشمل المعجزة الكونية، والبرهان العقلي، وخوارق العادات. وهذا مثل قول صالح عليه السلام، إلا أنه تعالى ذكر الآية له وهي الناقة، ولم يذكر آية شعيب، ولا بد من آية تصدقه روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . قال الزمخشري: ومن معجزات شعيب: أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنّين (ضرب من الحيات) وأيضا قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه. وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة «1» . وهذا على رأي المعتزلة: وهو عدم ظهور المعجزة قبل النبوة، وأما على رأي أهل السنة، فيجوز أن يظهر الله على يد من يصير نبيا ورسولا بعد ذلك أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصا للنبوة، فتكون هذه الأحوال التي ذكرها الزمخشري إرهاصات لموسى عليه السلام «2» . 3- إيفاء الكيل والميزان، فقال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وهذا مرتب على ما سبق: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ على تحريم الخيانة بالشيء القليل، والمعنى: أتموا الكيل والميزان إذا بعتم. وهذا وعظ لإحسان معاملتهم الناس، نابع من العدل الذي يجب أن تكون عليه المعاملة بين المبيع والثمن. وقد عني شعيب بعلاج هذه المفسدة أو الانحراف، لشغف أهل مدين بنقص المكيال والميزان،

_ (1) الكشاف: 1/ 559 (2) تفسير الرازي: 14/ 173

وأراد بالكيل هنا: آلة الكيل وهو المكيال، كما قال في سورة هود: أَوْفُوا الْمِكْيالَ. 4- منع الخيانة للناس في أموالهم وأخذها دون حق، قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له: «خطيب الأنبياء» لفصاحة عبارته وجزالة موعظته: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، أي لا تنقصوهم شيئا في البيع خفية تدليسا، كما قال تعالى في تهديده ووعيده: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- إلى قوله- لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين 83/ 1- 6] والبخس: النقص بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقص منه. والمراد أنه لما منع قومه من بخس (أي نقص) في الكيل والوزن في البيع، منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق، وسلب الأموال بطرق الاحتيال، ونحو ذلك من المساومات، والغش ولو في غير البيع، ويشمل أيضا هضم الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، فلا يجوز لإنسان نقص آخر حقه في علم أو خلق أو فضيلة أو أدب، وادعاء التفوق عليه حسدا وبغيا وكراهية. روي عن قوم شعيب أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم، أخذوا دراهمه الجياد، وقالوا: هي زيوف، فيقطعونها قطعا، ثم يأخذونها منه بنقصان ظاهر، أو أعطوه بدلها زيوفا. 5- منع الإفساد، قال: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أي لا تفسدوا في الأرض بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائهم، وهو على حذف مضاف أي بعد إصلاح أهلها. والإصلاح عام يشمل العقيدة والسلوك والأخلاق ونظام المجتمع والحضارة والعمران وسائر وجوه التقدم الزراعي والصناعي والتجاري.

ويلاحظ أن قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ منع عن مفاسد الدنيا، وقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ منع من مفاسد الدين، حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين. ذلِكُمْ إشارة إلى هذه التكاليف الخمسة من عبادة الله، والتصديق بنبوتي، والوفاء بالكيل والميزان، وترك البخس والإفساد في الأرض. والمعنى: كل ما ذكر خير لكم في الإنسانية وحسن السمعة وما تطلبونه من الربح المادي، لأن الناس أرغب في معاملتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والعدل. وخير لكم في الآخرة بالثواب والرضا الإلهي، إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبشرعه وهداه وبالآخرة، فالإيمان يقتضي الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله. ويجوز أن يكون ذلِكُمْ إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، فإن الله لا يأمر إلا بالنافع، ولا ينهى إلا عن الضارّ. وفي هذا دلالة واضحة على أن العلم وحده لا يكفي للإصلاح، وإنما لا بد في إصلاح الأمم والشعوب من تربية دينية، تقنع الأجيال بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وبمضار الانحراف والرذائل لأن الوازع النفسي أقوى من أي ردع أو وازع خارجي. ثم نهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله: وَلا تَقْعُدُوا ... أي ولا تقعدوا في مفارق الطرقات تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم، أو تخوفون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه، قال ابن كثير: والأول أظهر، لأنه قال: بِكُلِّ صِراطٍ وهو الطريق. أما المعنى الثاني فهو مستفاد من قوله: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. أي تصرفون من يريد الإيمان عن دين الله، وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة، ففي هذه الآية نهاهم

عن ثلاثة أمور: قطع الطريق على المارّة لأخذ الأموال، والصد عن دين الله، وطلب جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة مائلة بالأكاذيب والضلالات وتشوية الحقائق والشبهات والشكوك الملقاة منكم. والمراد من الآية أن شعيبا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاث. ويلاحظ أن شعيبا ركّز في دعوته أولا على الإصلاح الداخلي بإيفاء المكيال والميزان وعدم الإفساد في البلد، ثم انتقل إلى الإصلاح الخارجي بإزالة الموانع والعقبات أمام نشر دعوته للذين يزورون أرضهم. وبعد قمع الفساد وتطهير البلد من المنكرات انتقل إلى النواحي الإيجابية الملازمة لهم وهي تذكر النعم، فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ.. أي وتذكروا كثرة إنعام الله عليكم، ليحملهم على الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ومن تلك النعم أنكم كنتم مستضعفين قليلي العدد، فصرتم أعزة كثيري العدد بما بارك الله في نسلكم، واشكروا له نعمه بعبادته وحده. روي أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت أولادا كثيرين، حتى كثر عددهم، لأن الله بارك في نسلها. ويجوز أن يكون المعنى أنكم كنتم فقراء ضعفاء، فجعلكم موسرين أقوياء. وتأملوا واعتبروا بمصير السابقين من الأمم الخالية والقرون الماضية والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، كيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض، واجترائهم على معاصي الله، وتكذيب رسله، فتذكروا عاقبة فسادهم وما لحقهم من الخزي والنكال. والمقصود من تذكر نعم الله، والتأمل في عقاب المفسدين، حملهم على

فقه الحياة أو الأحكام:

الطاعة وترك المعصية بطريق الترغيب أولا، والترهيب ثانيا. وإن كان طائفة «1» منكم آمنوا بما أرسلت به، ولم تؤمن طائفة أخرى، أي قد اختلفتم علي فاصبروا أي فتربصوا وانتظروا حكم الله الذي يفصل بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد وتهديد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة 9/ 52] أو هو عظة للمؤمنين وتسلية لقلوبهم وحث على الصبر واحتمال ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم، وينتقم لهم منهم. والظاهر أنه خطاب للفريقين يراد منه حمل المؤمنين على الصبر على أذى الكفار، وزجر من لم يؤمن، حتى يحكم الله، فيميز الخبيث من الطيب. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين لأن حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف أو الظلم. فقه الحياة أو الأحكام: ماذا يفعل الأنبياء؟ إنهم لا يملكون غير الدعوة إلى الله بالكلمة الحسنة، والإقناع والإتيان بالبراهين الكونية والعقلية، ثم النهي عن الفساد والإفساد، ثم التذكير بنعم الله تعالى على البشر، ثم حملهم على الطاعة والانقياد لأوامر الله بدعوتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بتدمير الأمم والشعوب المفسدة، وانتظار الحكم الفاصل النهائي لله رب العالمين، وحكمه حق وعدل لا جور فيه. هذا ما فعله شعيب عليه السلام وغيره من الأنبياء مع أقوامهم، دعاهم إلى أصلين: تعظيم أمر الله ويشمل الإقرار بالتوحيد وتصديق النبوة، والشفقة على خلق الله ويشمل ترك البخس وترك الإفساد وكل أنواع الإيذاء، وتلك هي التكاليف الخمسة.

_ (1) ذكّر لفظ الفعل وهو «كان» مراعاة للمعنى، ولو راعى اللفظ قال: «كانت» .

وكان يقال لشعيب خطيب الأنبياء، لحسن مراجعة قومه. وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان. والكفر جرم عظيم لا يتفق مع إنعام الله، والبخس وهو النقص في آلة الكيل والوزن جرم اجتماعي، يشمل تعييب السلعة، والمخادعة في القيمة، والاحتيال في زيادة الكيل والنقصان منه، وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وهو منهي عنه في الأمم جميعها على لسان الرسل عليهم السلام. والإفساد في الأرض بعد الإصلاح جرم اجتماعي آخر في حق الإنسانية، لأن صلاح الأرض بالعقيدة والأخلاق فيه خير للجميع، وإفساد الأرض عدوان على الناس. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي، وتستحلّ فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء، فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم. وحرم شعيب عليهم القعود على الطرقات لأخذ أموال الناس بالباطل، فقد كانوا عشّارين، ومثلهم اليوم المكّاسون (موظفوا الجمرك) الذين يأخذون من الناس مالا يلزمهم شرعا من الرسوم الجمركية بالقهر والجبر، وذلك غصب وظلم وعسف على الناس وعمل للمنكر. وهذا يشبه عمل قطاع الطرق والمحاربين. ومنعهم شعيب من محاولة ثني الناس عن قبول دعوته بالتهديد والوعيد والإنذار بقتل من يؤمن به، وبإلقاء الشكوك والشبهات في دعوته، وافتراء الكذب عليه. وذكّرهم بنعم الله عليهم إذ كانوا قلة فكثروا، وفقراء فاغتنوا، وضعفاء فتقووا. ولفت نظرهم إلى ضرورة الاتعاظ بأحوال من سبقهم أو جاورهم من

الأمم والشعوب الخالية، فإنهم حين كذبوا الرسل وكفروا بالله، دمّرهم الله واستأصلهم وأبادهم. ثم حسم شعيب عليه السلام الموقف بانتظار حكم الله والتهديد والوعيد بهذا الحكم لأن انقسام الناس بسبب دعوته إلى فريقين: فريق المؤمنين وفريق الكافرين، يتطلب قضاء الله الفاصل النهائي بين الطرفين، والله خير من يفصل، وأعدل من يقضي. وحكم الله بين عباده نوعان: حكم يوحي به إلى رسله، كما في قوله تعالى في أول سورة المائدة:: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ، وحكم يفصل فيه بين الخلائق إما في الدنيا وإما في الآخرة، كما في قوله تعالى في آخر سورة يونس: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» . والمقصود من كل هذه الأوامر والنواهي بالترغيب أولا، والترهيب ثانيا هو حمل القوم على الإيمان والطاعة والعمل الصالح. والناس جميعا الذين يسمعون هذه القصة مطالبون بما طولب به هؤلاء، فإن العاقل يتعظ بالأمثال والنظائر والأشباه، وهو مدرك تماما أن ما جرى على النظير يجري على نظيره، فالمؤمن يخصه الله بالدرجات العالية، والكافر الشقي بأنواع العقوبات: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ [ص 38/ 28] .

بقية قصة شعيب مع قومه محاورته الملأ وعقابهم بالزلزلة [سورة الأعراف (7) الآيات 88 إلى 93] :

[الجزء التاسع] [تتمة سورة الأعراف] بقية قصة شعيب مع قومه محاورته الملأ وعقابهم بالزلزلة [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) الإعراب: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا للإنكار، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا؟. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، تقديره: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا بمشيئة الله. وقوله: نعود فيها: أي نصير، ولا يريد به أن يرجع لأنه لم يكن في ملة الكفر، فخرج منها حتى يعود عِلْماً تمييز منصوب لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ اللام لام القسم.

البلاغة:

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً الذين: في موضع رفع لأنه صفة أو بدل من الذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.... ويجوز أن يكون في موضع مبتدأ مرفوع، وخبره جملة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا واسمها محذوف أي كأنهم ويجوز أن يكون خبره جملة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا في موضع نصب على الحال. البلاغة: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا: تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة في التضرع. المفردات اللغوية: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ترجعن إلى ديننا، وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط. وعلى نحوه أجاب بقوله: أنعود فيها ولو كنا كارهين؟ والاستفهام للإنكار. وما يكون لنا ينبغي وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل شيء، ومنه حالي وحالكم رَبَّنَا افْتَحْ احكم، والفاتح: الحاكم الْفاتِحِينَ الحاكمين. والفتاح: الحاكم، بطريق المبالغة. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال بعضهم لبعض. الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، وأصل معنى الرجفة: الحركة والاضطراب جاثِمِينَ باركين على الركب، ميتين لم يغنوا فيها يقيموا في ديارهم. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ التأكيد بإعادة الموصول وغيره للرد عليهم في قولهم السابق: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ. فَتَوَلَّى أعرض وَنَصَحْتُ لَكُمْ فلم تؤمنوا فَكَيْفَ آسى أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ استفهام بمعنى النفي. التفسير والبيان: هذه تتمة قصة شعيب مع قومه تضمنت موضوعين: الأول- محاورة شعيب لأشراف قومه، وبيان عاقبة الكافرين بإنزال العذاب العام عليهم. أما المحاورة: فقال زعماء القوم الذين تكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم

به وما نهاهم عنه من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، وإنذارهم بالعذاب بقوله: فاصبروا، قالوا في توعدهم شعيبا ومن معه من المؤمنين: قسما لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ ومن آمن معك من بلادنا كلها، أو لترجعن إلى ملتنا وديننا الموروث عن الآباء. وهذا تهديد منهم بأحد أمرين: إما النفي والطرد من القرية، وإما الإكراه والقهر على الرجوع في ملتهم. وهذا الخطاب مع الرسول شعيب، والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة. قال شعيب مستفهما استفهاما إنكاريا ومتعجبا: أتفعلون ذلك وتأمروننا بالعود في ملتكم، ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه من أحد الأمرين؟. إنكم تجهلون ما نحن عليه من ثبات العقيدة في القلب، فلا ينزعها أحد، وتجهلون أن حب الوطن لا يزعزع العقيدة، ولا يجعلنا نؤثر الإقامة في بلادنا على مرضاة الله بتوحيده وعبادته واتباع أوامره. ثم أعلن رفضه التام العودة إلى ملة الكفر قائلا: إنا إذا رجعنا إلى ملتكم واتبعنا دينكم القائم على الشرك، فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا، بعد أن نجانا الله من تلك الملة الباطلة، وهدانا إلى ملة التوحيد واتباع الصراط المستقيم. إن هذا لأمر عجيب. وهذا تنفير من شعيب عن اتباعهم. وقوله: إِذْ نَجَّانَا أي نجّى أصحابنا منها، من طريق التغليب بإدخال نفسه في زمرتهم، مع أن الأنبياء معصومون من الكفر. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ... أي ما ينبغي لنا وليس من شأننا أن نعود في ملتكم أبدا، ولن يحوّلنا أحد عما نحن فيه من الاستقامة، لاعتقادنا الجازم أننا على الحق الأبلج، وأنتم على الملة الباطلة- ملة الكفر والشرك. لكن إيمانا منا بمشيئة الله يجعلنا نفوض الأمر لله، فإن شاء الله الذي يعلم كل شيء، وله

الحكمة البالغة في كل شيء، أن يفعل شيئا، فذلك مرجعه إلى الله لأنه المتصرف في أمورنا كلها. وهذا تأكيد لرفض العود إلى ملتهم بأبلغ التأكيد. ولا طمع لكم في مشيئة الله الذي يثبّت عباده المخلصين على الإيمان والقول الثابت في الحياة الدنيا أن يعيدنا إلى الضلال لأن الله متعال عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر، فذلك خارج عن الحكمة. إن الله تعالى أحاط علمه بكل شيء، فهو واسع العلم، كثير الفضل، يتصرف بحكمة، ومشيئته تكون بحسب الحكمة، ولا يشاء إلا الخير للناس. ومعنى الآية: أنه عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان. وعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا، مع القيام بما يجب علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، وتوكلنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويوفقنا لازدياد اليقين: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] ومن شروط التوكل الصحيح تنفيذ الأحكام الشرعية ومراعاة السنن المطلوبة في الحياة من اتخاذ الأسباب ثم تفويض الأمر إلى الله تعالى. سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيعقل ناقته أم يتركها سائبة ويتوكل على الله؟ فأجابه فيما روى الترمذي: «اعقلها وتوكل» . وهذا رفض آخر للمساومة ومحاولة إعادتهم إلى ملتهم بالدليل. ثم دعا شعيب على قومه لما يئس منهم فقال: ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق، وانصرنا عليهم، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ مثل قوله: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الأعراف 7/ 87] أي إنك العادل الذي لا يجور أبدا، تحكم بالحق في النزاع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين. ثم بعد أن يئس الكفار من عودة المؤمنين برسالة شعيب إلى ملتهم، لجؤوا إلى

استخدام التهديد والوعيد، فقال أشرافهم لمن دونهم من المستضعفين المؤمنين، لتثبيطهم عن الإيمان: تالله لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول وآمنتم به إنكم لخاسرون خسارة معنوية في فعلكم بترككم ملة الآباء والأجداد العريقين إلى دين جديد يدعوكم إليه، لم تألفوه، ولم تعرفوا مصداقيته، وخاسرون خسارة مادية إذ لم تزيدوا ثروتكم بتطفيف الكيل والميزان وأخذ أموال الآخرين وتخسرون باتباع شعيب فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما، ويحملكم على الإيفاء والتسوية. ويلاحظ أن القرآن وصف الأشراف والسادة أولا بالاستكبار عن الإيمان بالله وبرسالة شعيب عليه السلام، ثم وصفهم بالإغواء والإضلال ومحاولة تكفير المؤمنين بشعيب، ثم وصفهم بالكفر والإرهاب ثم أعقب ذلك ببيان عاقبة أمرهم وتعذيبهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... أي إنهم أبيدوا وأهلكوا بالزلزلة الشديدة، والصيحة المرعبة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالطرد والإجلاء، فأصبحوا منكبين على وجوههم ميتين. وقد عبر عن عذابهم هنا بالرجفة، وفي سورة هود بالصيحة كعذاب ثمود لأن الرجفة أي الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود 11/ 95] . وفي سورة الشعراء بيّن سبحانه أنه أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين في النسب، والأيكة: الغيضة بين ساحل البحر ومدين، وكان عذاب مدين بالصيحة والرجفة المصاحبة لها. وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد بعد أن تجمعوا تحت ظلّة من السحاب يتفيئون بظلها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. فالظلة: هي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. والخلاصة: لقد اجتمع على قوم شعيب ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من

أسفل منهم، فزهقت أرواحهم وجمدت أجسامهم «1» . فمن الخاسر إذن؟ الحقيقة أن الذين كذبوا شعيبا هم الخاسرون على سبيل الحصر، وهم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم، وهو رد على قولهم السابق: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ والمراد من هذا الرد: المبالغة في الذم والتوبيخ، وأما الإعادة فهي لتعظيم الأمر وتفخيمه وتهويل ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، لذا كرر قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً. الحق أن الكافرين هم الذين خسروا خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة، دون المؤمنين لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله، فهم الرابحون. كما قال تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود 11/ 94] . وفي هذا دلالة واضحة على أن العاقبة للمتقين، والربح الحقيقي لمن يأكل الحلال، ويترفع عن الحرام، وأن الدمار والهلاك والإفلاس للكافرين الذين ينغمسون في الحرام، ويأكلون أموال الناس بالباطل. وأما شعيب فقد أدبر عنهم وتولى عنهم بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال موبخا لهم ومقرعا: يا قَوْمِ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي قد أديت إليكم ما أرسلت به، فلا آسف عليكم، وقد كفرتم بما جئتكم به، كما قال: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟! أي فكيف أحزن على قوم أنكروا وحدانية الله، وكذبوا رسوله، ولقد أعذر من أنذر. قال الكلبي: خرج من بين أظهرهم، ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 232.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: كان من أثر دعوة شعيب خطيب الأنبياء قومه إلى عبادة الله وترك أكل أموال الناس بالباطل، أنهم واجهوه بالتخيير بين أمرين خطيرين: إما الطرد والجلاء، وإما الصيرورة إلى ملتهم، وهذا هو المقصود بقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ أي لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العود بمعنى الابتداء، تقول العرب: قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه، ولا يعني ذلك أن شعيبا كان قبل النبوة على ملتهم، فهو معصوم من الكفر، وكذلك كان خطاب شعيب من قبيل التغليب، فإنهم خاطبوه بخطاب أتباعه، وأجروا عليه أحكامهم. والحزم يقابله الحزم والإصرار، فكان رد شعيب حاسما وقاطعا بأنه لن يفعل ما يريدون، ولن يعود أي يصير إلى ملتهم، فإنه إن فعل ذلك بعد أن تبين له الحق، فقد افترى على الله، وكذلك كان أتباعه صريحين صارمين، وجوابه جوابهم. وهذا نابع من أصل النبوة والرسالة، فإنها تتميز بصدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتهم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة. وقد نظم شعيب نفسه مع قومه بقوله: إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي من الملة، وإن كان بريئا منها، إجراء للكلام على حكم التغليب، كما ذكروا في كلامهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. وتمسك الأشاعرة بقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على أنه تعالى قد يشاء الكفر لأن المعنى: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم، وكانت تلك الملة كفرا. وقال المعتزلة: لا يشاء تعالى إلا الخير والصلاح لأن هذا الاستثناء وهو: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم قضية شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء، وهذا أيضا مذكور على سبيل التبعيد، كما يقال: لا أفعل ذلك إلا إذا ابيضّ القار (الزفت) وشاب الغراب.

ووجه تعلق قوله تعالى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً بما قبله: أنه ربما كان في علمه تعالى حصول أمر ثالث غير الإخراج والعود إلى الملة، وهو البقاء في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم، ويجعلكم مقهورين تحت أمرنا، خاضعين تحت حكمنا. ودل قوله تعالى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً على أنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء لأن قوله: وسع فعل ماض، فيتناول كل ماض، بل إنه يتناول علم الحاضر والمستقبل وعلم المعدوم لأن التعبير بالماضي يفيد الجزم بحصول العلم بكل الأشياء. ودل قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا، رَبَّنَا افْتَحْ ... على أن النبي وكل مؤمن ينبغي أن يظل على صلة بالله وتفويض كامل في أموره له، فقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ ... يراد به تفويض الحكم إلى الله والدعاء له واللجوء إليه، وقوله: وأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يراد به الثناء على الله تعالى. واستدل الأشاعرة بقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على أنه تعالى هو الذي يخلق الإيمان في العبد. ودلت آية لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً على أن قوم شعيب استحقوا عذاب الإهلاك أو الاستئصال بأمرين: الكفر أو الضلال، والإضلال لغيرهم أو الإغواء. وتعذيبهم كان بالرجفة (وهي الزلزلة الشديدة المهلكة) وبالصيحة (وهي الصوت الشديد المهلك) معا التي تلازم الرجفة ولا تنفك عنها. وذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين، ونجّى الله المؤمنين، وذلك يدل على ثلاثة أمور: أن ذلك العذاب إنما حدث بخلق فاعل مختار، وليس أثر الكواكب والطبيعة، وإلا لعم أتباع شعيب، وذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات، حتى يمكنه

سنة الله في التضييق والتوسعة قبل إهلاك الأمم [سورة الأعراف (7) الآيات 94 إلى 95] :

التمييز بين المطيع والعاصي، واختصاص العذاب بقوم دون قوم من أعظم المعجزات لشعيب عليه السلام. سنة الله في التضييق والتوسعة قبل إهلاك الأمم [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) البلاغة: مِنْ نَبِيٍّ فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذّب أو كذبه أهلها. مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وبِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: قَرْيَةٍ مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة، وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين يبعث الرسل إليهم، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام من نبي أي فكذبوه أَخَذْنا عاقبنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ البأساء: الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء: ما يضر الإنسان في نفسه أو معيشته كالمرض، وقيل: في كل بالعكس. لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ يتذللون فيؤمنوا. وقوله لعلهم لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى، فيحمل على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا. والتضرع: إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع. ثُمَّ بَدَّلْنا أعطيناهم مَكانَ السَّيِّئَةِ العذاب الْحَسَنَةَ الغنى والصحة حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا، من قولهم: عفا النبات والشعر: إذا كثر وَقالُوا كفرا للنعمة قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما مسنا، وهذه عادة الدهر، وليست بعقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أخذناهم بالعذاب فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه قبله.

المناسبة:

المناسبة: لما ذكر الله تعالى أحوال الأنبياء مع أقوامهم، وما حلّ بهم من العذاب، بيّن في هذه الآية أن جنس هذا الهلاك أو الاستئصال لم يقتصر على زمن هؤلاء الأنبياء فقط، وإنما قد فعله بغيرهم، وبيّن أيضا سنته الإلهية في الانتقام ممن كذّب الأنبياء، وهي التدرج بهم من التضييق عليهم بالبأساء (شدة الفقر) والضراء (المرض ونحوه) ثم إلى السعة والرخاء والرفاه، ثم يأتي إنزال العذاب فجأة من غير شعور بمجيئه. وفي ذلك تحذير لقريش وأمثالهم وتخويفهم، وحمل لهم على الإيمان برسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن سنته المتبعة في تعذيب الأمم والشعوب الضالة، سواء في زمن الأنبياء أو في غير زمنهم، وتلك السنة فيها إنذار وإعذار، ومقدمات توحي بضرورة تغيير الأوضاع، والانتقال من الكفر والضلال إلى الإيمان والهدى. والمعنى: إننا إذا أرسلنا نبيا إلى قوم، فكذبوه، فلا نعاجلهم بالعذاب، وإنما نتدرج في إمهالهم وتذكيرهم بتقليب الأحوال، فنبدؤهم بالعقاب بإنزال شيء من الشدة والمكروه، بتعريضهم لسوء الحال المادية وإفقارهم، ثم بتسليط الأمراض والبلايا والأسقام عليهم، أو بالعكس، المرض أولا، ثم الفقر، لكي يتضرعوا أي يدعوا الله ويخشعوا ويبتهلوا إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم. ثُمَّ بَدَّلْنا ... : ثم حولنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة وعافية، ليشكروا على ذلك فما فعلوا. فالسيئة: كل ما يسوء صاحبه، والحسنة: ما يستحسنه الطبع والعقل.

حَتَّى عَفَوْا أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء: إذا كثر، وذلك لأن الرخاء يكون عادة سببا في كثرة النسل. وَقالُوا: قَدْ مَسَّ ... أي ابتليناهم بالشدة والرخاء ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما أفاد هذا ولا هذا، وقالوا غير معتبرين بالأحداث: قد مسّنا من البأساء والضراء، وما بعده من الرخاء، مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان، ولم يتفهموا سنن الله في تهيئة الأسباب للسعادة والشقاء في البشر. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين: «عجبا لأمر المؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له» فالمؤمن يتنبه لما ابتلاه لله به من الضراء والسراء، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه» . وتغيير الحال من سوء إلى حسن أمر ضروري للتخلص من البلاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد 13/ 11] . أما مصير غير المعتبرين بأحداث الزمان وتقلباته فكما ذكر تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً.. أي فكان عاقبة أمرهم أنا أخذناهم أي عاقبناهم بالعقوبة على بغتة، أي فجأة، من غير شعور منهم بما سينزل بهم من العقاب، ليكون أكثر حسرة، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام 6/ 44] وكما جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن عائشة: «موت الفجأة رحمة للمؤمن، وأخذة أسف للكافر» . فما على الناس مؤمنين وكفارا إلا الاتعاظ بما حل بغيرهم، فالمؤمن بالله

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يغتر بالزمان، وتكون الشدائد والمصائب صقلا له، وتمحيصا لنفسه، وتربية لها، والكافر إذا مسه الشر يئس، وإذا مسه الخير بطر واستكبر وبغى في الأرض، فكانت عاقبته الدمار. فقه الحياة أو الأحكام: الحلم والإمهال من خصائص صنع الله وسنته الدائمة في خلقه، لكي يتعظوا بالأحداث ويصححوا مسيرتهم في الحياة، ويقلعوا عما هم عليه من معاص وموبقات. والابتلاء يكون بالشر وبالخير: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء 21/ 35] والعاقل المفكر المتدبر أحوال الماضي وتقلبات المستقبل هو الذي يستفيد من دروس الحياة: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] . ودل قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ في رأي المعتزلة: على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة. وقال أهل السنة: إن الله يدبر أهل القرى بما يكون إلى الإيمان أقرب، لقوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء، يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر. ولكن الناس لا يعتبرون، فبالرغم من أنه تعالى أخذهم بالشدة والرخاء، فلم يزدجروا ولم يشكروا، وهذا يدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة، وأمن بعد خوف، بل رأوا أن هذه عادة الزمان في أهله، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة. أما الحق تعالى فقد أزال عذرهم وأمهلهم، لكنهم لم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال.

الترغيب بالإيمان لزيادة الخير والترهيب من الكفر بالعذاب المبكر [سورة الأعراف (7) الآيات 96 إلى 100] :

الترغيب بالإيمان لزيادة الخير والترهيب من الكفر بالعذاب المبكّر [سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 100] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) الإعراب: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ... بفتح الواو، تكون الهمزة للاستفهام، والواو حرف عطف. وبإسكان الواو: تكون أو التي يراد بها أحد الشيئين، والمعنى: أو كان الأمر من أحد هذين الشيئين من إتيان العذاب ليلا أو ضحى. أَنْ لَوْ نَشاءُ أن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه، والجملة فاعل يَهْدِ. والهمزة في المواضع الأربعة في الآيات للتوبيخ، والفاء والواو الداخلة عليها للعطف. البلاغة: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى تكرار الجملة للإنذار، ويسمى هذا في البلاغة إطنابا. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ هذا تكرير لقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وتكرار الإنكار للتأكيد وزيادة التقرير، ومكر الله: استعارة لاستدراج العبد والتمهيد لعقابه. قال الزمخشري في الكشاف: 2/ 563، مكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَهْلَ الْقُرى الذين أرسل إليهم الرسل فكذبوا آمَنُوا بالله ورسلهم وَاتَّقَوْا الكفر والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ لسهلنا عليهم بركات من السماء بالمطر ونحوه من حرارة الشمس لتوفير الخصب في الأرض وَالْأَرْضِ بالنبات والمعادن ونحوها وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ عاقبناهم. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى المكذبون بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا وَهُمْ نائِمُونَ غافلون عنه ضُحًى نهارا، وأصل معنى الضحى: وقت ارتفاع الشمس وإضاءة الدنيا أول النهار يَلْعَبُونَ يلهون أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ استدراجه إياهم بالنعمة وأخذهم بغتة. والمكر: التدبير الخفي الذي يؤدي إلى ما لا يحتسبه الإنسان. أَوَلَمْ يَهْدِ يتبين، يقال: هداه السبيل، وهداه له وإليه، أي دلّه عليه وبيّنه له يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالسكنى مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي بعد هلاك أهلها أَصَبْناهُمْ بالعذاب وَنَطْبَعُ نختم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الموعظة سماع تدبر. المناسبة: لما أبان الله تعالى في الآية السابقة أن الذين عصوا وتمردوا من أهل القرى أخذهم الله بغتة، أبان في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخير، ثم أنذرهم بالعذاب المبكّر ليلا أو نهارا، إذا كذبوا الرسل، تأكيدا لما سبق. التفسير والبيان: هذا إخبار عن سنة أخرى من سنن الله في عباده، وتلك السنة أنه لو آمن أهل القرى كأهل مكة وغيرهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتقوا ما نهى الله عنه وحرمه من الشرك والفساد في الأرض بارتكاب الفواحش والآثام، لأنزل عليهم الخيرات الكثيرة من السماء كالمطر، وأخرج لهم خير الأرض من نبات ومعادن وكنوز، وآتاهم من العلوم والمعارف والإلهامات الربّانية لفهم سنن الكون.

أي فلو آمنوا ليسّر الله لهم كل خير من كل جانب من فوقهم ومن تحتهم ومن ذواتهم وأفكارهم. وفي هذا دلالة على أن الإيمان الصحيح سبب للسعادة والرخاء. ولكنهم كذبوا رسلهم ولم يؤمنوا ولم يتقوا، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم والشرك المفسد نظام الحياة. وفيه دلالة على أن العقاب نتيجة لازمة لكسب المعاصي. ثم إنه تعالى أعاد التهديد والتخويف بعذاب الاستئصال، والتحذير من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره فقال: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم، والمقصود التعجب من حالهم وغفلتهم، والمراد: أبعد ذلك أمن أهل القرى الكافرة كأهل مكة وأمثالهم نزول العذاب والنكال بهم في حال الغفلة وهو النوم ليلا. أو هل أمنوا أن ينزل بهم العذاب في حال شغلهم وغفلتهم وهو أثناء اللعب واللهو في النهار. ويلاحظ أن انشغالهم في أعمالهم التي لا فائدة منها كأنها ألعاب أطفال. وذلك في الحالين تخويف من نزول العذاب بهم في أوقات الغفلة: وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار لأنه يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه. والمعنى المراد: فإن أمنتم حالا لم تأمنوا الحال الآخر. قال الرازي: قوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بأمور الدنيا، فهي لعب ولهو، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع «1» .

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 14/ 185.

ثم كرر الله تعالى الاستفهام الإنكاري لزيادة التوبيخ، بعد قوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وعطف عليه بالفاء، فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم. ومكر الله: جزاؤه وأخذه العبد من حيث لا يشعر، مع استدراجه. إن كانوا أمنوا مكر الله وعقابه، فلا يأمن مكر الله إلا الذين خسروا أنفسهم، قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. ومجموع معنى الآيتين: أكان سبب أمنهم أن يأتيهم العذاب في وقت غفلتهم ليلا أو نهارا، أو كان سبب أمنهم غفلتهم عن مكر الله بهم، أي جزاؤه الذي ينزله بهم؟ إن ظنوا ذلك فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أنفسهم. وبعد بيان حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال، أبان تعالى أن الهدف من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم، فقال: أَوَلَمْ يَهْدِ.... أي أو لم يتبين للناس، وخصوصا قريشا الذين يخلفون غيرهم في سكنى الأرض ووراثتها مع الديار، بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها: أن شأننا معهم كشأننا مع من سبقهم، فلو نشاء أصبناهم وعذبناهم بذنوبهم وأعمالهم السيئة، كما عذبنا أمثالهم من قبل، وفعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين. فإن لم نهلكهم بالعذاب نختم على قلوبهم، فهم لا يسمعون الموعظة والتذكير سماع تدبر، ولا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون، كما قال تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] وأما المؤمنون فشأنهم الاتعاظ والاعتبار بما حدث لمن قبلهم، كما قال تعالى في آيات كثيرة موضوعها واحد،

فقه الحياة أو الأحكام:

منها: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه 20/ 128] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات ترغيبا للمؤمنين وترهيبا للكافرين. أما ترغيب المؤمنين فهو إفاضته الخيرات والبركات الإلهية من السماء بالمطر والرياح المباركة، ومن الأرض بالنبات والثمار، والمعادن والكنوز، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة، وإلهام الإنسان رشده وفكره إلى اكتشاف وسائل الراحة والرخاء. وأما ترهيب الكافرين فهو إنذارهم بتعذيبهم عذاب استئصال ودمار، كعذاب الأمم الأخرى وأهل القرى والمدن الذين أرسل إليهم الرسل، فكذبوهم وآذوهم. وحذرهم تعالى بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله وتأجيله العقاب، فربما يأتي العقاب في حال الغفلة ليلا أو نهارا، ومن اغتر بحلم الله وأمن مكره، أي جزاءه، فلا يأمن الجزاء إلا الخاسرون. أولم يتبين لهم أن سنة الله واحدة في تعذيب الكافرين؟ وسنة الله لا تتغير، إنه يعذب العصاة والمتمردين بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، كما عذب الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وإن لم نهلكهم بالعقاب نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الموعظة سماع فهم وتدبر. واستدل أهل السنة بقوله تعالى: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان، أي بعد أن علم عدم إيمان ذلك العبد. وقال الجبائي المعتزلي: المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان.

العبرة من قصص أهل القرى [سورة الأعراف (7) الآيات 101 إلى 102] :

العبرة من قصص أهل القرى [سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 102] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) الإعراب: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ تلك: مبتدأ، القرى: صفة، ونَقُصُّ عَلَيْكَ خبر المبتدأ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا معنى اللام تأكيد النفي، وأن الإيمان كان منافيا لحالهم في التصميم على الكفر. بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ الباء سببية وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ الضمير للناس على الإطلاق، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد. وَإِنْ وَجَدْنا إن مخففة من الثقيلة. قال الزمخشري: وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة مارقين. والآية اعتراض. المفردات اللغوية: تِلْكَ الْقُرى هي قرى الأقوام الخمسة التي وصفت سابقا، وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها نذكر لك شيئا من أخبارها كيف أهلكت. والخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام. وقوله: مِنْ أَنْبائِها أي بعض أخبار أهلها بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بِما كَذَّبُوا كفروا به مِنْ قَبْلُ قبل مجيئهم، بل استمروا على الكفر كَذلِكَ يَطْبَعُ أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم ألا يؤمنوا. لِأَكْثَرِهِمْ أكثر الناس مِنْ عَهْدٍ أي وفاء بعهدهم يوم أخذ الميثاق، أي أن أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى.

المناسبة:

والعهد: قد يكون بين طرفين كالمعاهدة، أو من طرف واحد بأن يعهد لآخر بشيء، أو يلزم به. والميثاق: العهد المؤكد. لَفاسِقِينَ لخارجين عن الطاعة وعن كل عهد، إما فطري أو شرعي، بنقضه ونكثه والغدر بأحكامه. وَما وَجَدْنا أي ألفينا وَإِنْ وَجَدْنا علمنا. المناسبة: بعد أن قص الله تعالى على نبيه أخبار قرى الأقوام الخمسة (قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب) وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وإعذاره إليهم ببيان الحق بالأدلة على ألسنة رسلهم، أراد الله تسلية نبيه، وتثبيته على الصبر على دعوته، وتذكيره بالعبرة من قصص الماضين، وأن ما يلاقيه من قومه ليس جديدا، وإنما هو طريق قديم سلكه كثير من أقوام الأنبياء. التفسير والبيان: تلك القرى: قرى الأقوام الخمسة الذين وصفوا بما سبق نقص عليك يا محمد بعض أخبارها كيف أهلكت، مما فيه العبرة والعظة لقومك، والتسلية لك والتثبيت على دعوتك. وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق، وذكرها الله تنبيها لقريش وأمثالهم عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال. ثم إن هذه القرى كانت في بلاد العرب، وكان أهل مكة يتناقلون بعض أخبارها، وهي جميعا متشابهة في تكذيب الرسل، وعذاب الاستئصال، فكانت العبرة منها واحدة، لذا فصلت عن قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به، وإنما كذب به فرعون وجماعته فعذّبوا. وسبب عقاب تلك الأقوام هو تكذيب الرسل، فبالرغم من أنهم أقاموا لهم الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب

تكذيبهم بالحق من قبل مجيء الرسل وأول ما ورد عليهم، أي في بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله، ومن قبل مجيء المعجزات، فظلوا على حالهم، ولم تؤثر فيهم الآيات الدالة على صدق الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل، أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم، إلى أن ماتوا مصرّين على كفرهم وعنادهم، مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ومثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم ألا يؤمنوا أبدا. وبإيجاز: مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت له على دعوته، وإخباره بأن هذا العناد والتمرد من أهل مكة قد سبقهم إليه أمثالهم من الأمم الغابرة، فلا تأس ولا تحزن على كفرهم. وما وجدنا لأكثر الأمم الماضية عهدا وفوا به، سواء عهد فطرة الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم، أو عهد شرع بالإيمان وأداء التكاليف، أو عهد عرف متعارف عليه بأداء الالتزامات واحترام العقود التي يبرمونها فيما بينهم. ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. وفي التعبير بالأكثر إشارة إلى أن بعضهم قد آمن، ونفذ كل عهد مع الله أو مع الناس. وهذا من دقة القرآن ومصداقيته. ومخالفة عهد الفطرة السليمة القائم على الإقرار بتوحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وعبادة غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع، كان كلاهما بتأثير البيئة، جاء في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفي

فقه الحياة أو الأحكام:

الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» الحديث. وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن مخالفة الفطرة السليمة وعن الشرك، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . فقه الحياة أو الأحكام: الكفر عناد وتصميم بالرغم من معرفة الحق والاقتناع بالبرهان. ولقد كان إيراد قصص القرى التي أهلكها الله، وهي قرى نوح وعاد ولوط وهود وشعيب للعبرة والاتعاظ، وما كان أهل تلك القرى ليؤمنوا الآن حقيقة بسبب تكذيبهم السابق قبل مجيء الرسل، وظلوا إلى آخر أعمارهم مستمرين على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم، إلى أن ماتوا مصرّين على كفرهم وعنادهم. والختم والطبع على قلوب الكفار القدامى والمعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن يأتي بعدهم إنما هو بسبب كفرهم وإصرارهم على موقفهم. وهناك حقيقة أخبرت عنها الآية وهي أن أكثر الناس لا أمانة لهم ولا وفاء لديهم لعهد الله وميثاقه، وعهود الناس ووعودهم، وأن أكثرهم في الواقع فاسقون مارقون خارجون عن حدود الطاعة المطلوبة منهم نحو ربهم.

قصة موسى عليه السلام مع فرعون والملأ من قومه [سورة الأعراف (7) الآيات 103 إلى 116] :

قصة موسى عليه السلام مع فرعون والملأ من قومه [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الإعراب: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ أن في موضع جر بعلى بمعنى الباء، وتقديره: حقيق بأن لا أقول. وقرئ بتشديد الياء في: على، فيكون: ألا أقول: في موضع رفع بالابتداء، وما قبله

البلاغة:

خبره وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف على محذوف، سد مسده حرف الإيجاب: نعم، كأنه قال: نعم إن لكم لأجرا، وإنكم لمن المقربين. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ: إذا للمفاجاة: مبتدأ، وثعبان: خبره. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ: أن فيهما: في موضع نصب بفعل مقدر، على تقدير: إما أن تفعل الإلقاء، وإما أن نفعل الإلقاء. البلاغة: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فيه تأكيد الجملة بمؤكدين: إن واللام، لإزالة الشك من نفوس السحرة، ويسمى هذا الخبر إنكاريا. المفردات اللغوية: مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل المذكورين مُوسى هو كليم الله موسى بن عمران أعظم أنبياء بني إسرائيل فِرْعَوْنَ لقب كل ملك لمصر في العهد القديم، وقيل: كان اسمه منپتاح بن رمسيس، سنة 1225 ق. م من الأسرة 19، مثل لقب كسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم بِآياتِنا الآيات هنا: المعجزات الدالة على صدق النبي مثل العصا واليد. وَمَلَائِهِ أشراف قومه، والمراد هنا قومه فَظَلَمُوا بِها كفروا وجحدوا بها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ بالكفر وتلك العاقبة هي إهلاكهم حَقِيقٌ جدير أو خليق به عَلى أَنْ لا أَقُولَ أي بأن لا أقول ثُعْبانٌ مُبِينٌ حية عظيمة. وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه بَيْضاءُ ذات شعاع لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من الجلد الهامد لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. وفي سورة الشعراء: كان هذا من قول فرعون نفسه، فكأنهم قالوه معه على سبيل التشاور. تَأْمُرُونَ تشيرون علي أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما ولا تفصل في شأنهما الآن الْمَدائِنِ أي مدن المملكة حاشِرِينَ جامعين السحرة منها. ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر بفنون السحر، يفضل موسى في علم السحر، فجمعوا. تُلْقِيَ عصاك نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما معنا. قالَ: أَلْقُوا أمر بالإذن بتقديم إلقائهم توصلا به إلى إظهار الحق فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ صرفوها عن حقيقة إدراكها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ خوفوهم حيث تخيلوها حيات تسعى.

المناسبة:

المناسبة هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وفيها من الإيضاح والبيان ما لم يذكر في غيرها من القصص لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات الأنبياء السابقين، وجهل قوم فرعون الذين أرسل إليهم كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام، كما أن موسى أرسل أيضا لغير قومه، أما الأنبياء السابقون فإنهم أرسلوا لأقوامهم. أضواء من التاريخ: ذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة، وله قصص كثيرة مثيرة وعجيبة منذ بداية ولادته حينما كان جماعة فرعون يقتلون أولاد بني إسرائيل ويبقون نساءهم أحياء، فألقته أمه في النيل في صندوق، ثم رده الله إليها لإرضاعه، فهذه قصته مع أمه وأخته في سورتي القصص وطه، ثم قصة خروجه من مصر إلى أرض مدين وهو شاب، بسبب قتله مصريا إغاثة لعبراني، وقصته مذكورة في سورة القصص (15- 21) وفي سورة طه (الآية 40) ثم سقايته الماشية لابنتي شعيب (القصص 22- 25) ثم مصاهرته لشعيب عليه السلام (القصص 26- 38، وطه 41) ثم رعيه ماشية شعيب مهرا لابنته عشر سنين بالوادي المقدس: طوى. ثم بعثته عليه السلام بينما ذهب لإتيان أهله بنار للاستدفاء وذلك في سورة الإسراء (2- 3) وسورة طه (9- 6 و17- 36، و42- 47) وسورة القصص (45- 46 و29- 35) وسورة الفرقان (35- 36) وسورة الشعراء (12- 16) وسورة النمل (7- 12) وسورة السجدة (23- 25) وسورة النازعات (15- 19) . ثم عودته إلى مصر مع أخيه هارون ودعوته فرعون إلى الإيمان برسالته،

وذلك في سورة الأعراف (104- 105) وسورة الشعراء (17، 22) . ثم محاورته فرعون في ربوبية الله وإظهاره الآيات البينات الدالة على صدق نبوته في سورة طه (55) وسورة الشعراء (24- 28) وموقف فرعون الطاغية بتجاهل ألوهية الله وادعائه الألوهية، وأمره ببناء صرح يصعد به إلى السماء في سورة القصص (38) وسورة غافر (36- 37) التي قال الله فيها: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً.... وإظهاره معجزتي العصا واليد أمام فرعون في سورة الأعراف (106- 126) وسورة يونس (75- 89) وسورة طه (57- 76) وسورة الشعراء (29- 52) . ووصف الله رد فعل فرعون وقومه وتماديهم في الضلال وإصرارهم على الكفر في سورة الأعراف (107- 129) وغافر (23- 27) وائتمار آل فرعون بموسى لقتله ودفاع مؤمن عنه في سورة غافر (28- 35، و38- 46) واستخفاف فرعون بموسى في سورة الزخرف (51- 54) والنازعات (22- 26) . وكانت آيات العذاب التسع لفرعون وقومه لما كذبوا موسى هي العقاب الفاصل، وتلك الآيات: الجدب (السنون) ، ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. أما العصا واليد وفلق البحر وانبجاس الماء لبني إسرائيل فكانت معجزات لموسى عليه السلام. أما الآيات التسع فهي مذكورة في سورة الأعراف (130- 135) وسورة الإسراء (101- 102) وسورة طه (59) وسورة النمل (13- 14) وسورة القصص (36- 37) وسورة الزخرف (46- 50) وسورة القمر (41- 42) وسورة النازعات (20- 21) .

وإغراق فرعون وملئه في البحر الأحمر مذكور في سورة الأعراف (136- 137) وسورة يونس (90- 92) وسورة الإسراء (103- 104) وسورة طه (77- 79) وسورة الشعراء (52- 68) وسورة القصص (39- 40) وسورة الزخرف (55- 56) وسورة الدخان (17- 31) وسورة الذاريات (38- 40) . وأما عقاب فرعون وقومه في الآخرة ففيه عبرة لكل من ادعى الألوهية وتغطرس واستكبر عن قبول دعوة الأنبياء، وهو مذكور في سورة هود (96- 99) وسورة القصص (41- 42) وسورة غافر (45- 52) وسورة الدخان (43- 50) . وقد قلّد بنو إسرائيل في عهد موسى وثنية المصريين، ولم يؤمن بموسى إلا ذرية من قومه على حال رهبة من فرعون أن يفتنهم عن دينهم ويردهم إلى الوثنية، كما قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وطلبوا من موسى حينما رأوا عباد الأصنام أن يتخذ لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة، وكذلك طلبوا الاستبدال بالمن والسلوى الحبوب والبصل والثوم والبقول، وذلك مذكور في سورة البقرة: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ (61) وفي سورة الأعراف: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (138- 140) وضرب الحجر وانفجار العيون الاثنتي عشرة في سورة الأعراف (159- 160) وإنزال المن والسلوى في سورة طه (80- 82) . ثم ذهب موسى تاركا بني إسرائيل لميقات ربه، وكتب له الألواح المتضمنة الوصايا التي طلب إلى بني إسرائيل العمل بها، وذلك مذكور في سورة الأعراف: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ... (142- 147) . وفي أثناء غيبة موسى في جبل الطور اتخذ السامري عجلا إلها لبني إسرائيل

يعبدونه، صنعه من ذهب بعد أن جمعه من حلي النساء، وجعله بفعل تأثير الرياح والرمال أو أثر قدم فرس جبريل ذا خوار أي كصوت الثور، وقال لهم: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى. ولم يفلح هارون في ردهم عن عبادة العجل: قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه 20/ 91] . وبعد عودة موسى غضب على أخيه هارون وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه، وكان فيه حدة، فاعتذر إليه هارون بأنه بذل أقصى جهده. ثم عاتب موسى النبي، موسى السامري فقال السامري: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه 20/ 96] فعاقبه موسى بالطرد والتشرد وأن يقول في حياته: لا مِساسَ. وقصة عبادة العجل مذكورة في سورة البقرة (54، و92- 93) وسورة الأعراف (148- 154) وسورة طه (84- 98) . ثم أمر الله على لسان موسى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة وهي فلسطين أرض الموعد، فتمردوا، فحرمت عليهم، وتاهوا في الأرض أربعين سنة يعيشون في البرية، من عهد خروجهم من مصر، إلى أن مات موسى، وعبروا نهر الأردن، وملكوا أريحاء وما حولها غرب الأردن أربعين سنة. وتلك القصة مذكورة في سورة المائدة (20- 26) . وفي صحراء التيه ذكر الله تعالى في سورتي البقرة والأعراف أنه رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل حتى صار كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع عليهم أو أيقنوا ذلك، وأمرهم أن يأخذوا ما آتاهم من الأحكام بقوة بأن يفعلوها دون تذمر أو توقف. وقصة نتق الجبل مذكورة في سورة البقرة (63- 64) وسورة الأعراف (171) . وبالرغم من أعجوبة قصة البقرة (البقرة 67- 74) التي ذكرناها في الجزء الأول، فإن بني إسرائيل لم يتعظوا بها، وبقيت قلوبهم على قساوتها كأنها الحجارة أو أشد قسوة، ولم تفلح مواعظ موسى فيهم.

ولموسى عليه السلام موقف متشدد مع قارون الثري الطاغية، وقد ذكرت قصته في سورة القصص (76- 83) كما ذكر ما آل إليه أمر طغيانه بخسف الأرض به وبداره، وإبادة أعداء موسى المقدر عددهم مائتين وخمسين. ويلاحظ أن موسى أوذي من بني إسرائيل وأظهر الله براءته من عيب اتهموه به وهو الأدرة (ورم في الخصية) أو البرص، وذلك في سورة الأحزاب (69) وسورة الصف (5) . ولما رأى بنو إسرائيل اقترافهم الإثم الكبير بعبادة العجل، اختار موسى من القوم سبعين رجلا يذهبون معه إلى الجبل الذي اعتاد مناجاة الله فيه وهو جبل الطور، ليقدموا الطاعة لله ويندموا على ما اقترفوا من إثم، ويتوبوا من عبادة العجل، فلما كلم الله تعالى موسى وهم شهود يسمعون كلام الله، عاد جماعة منهم إلى التمرد والعصيان، ولم يؤمنوا أن الله تعالى هو الذي يكلم موسى وأنه أعطاه التوراة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظر بعضهم إلى بعض، ثم بعثهم الله من بعد موتهم، بعد تضرع موسى وتذلله، وطلبه العفو عما صدر من سفهائهم، والقصة مذكورة في سورتي البقرة (55- 56) والأعراف (155- 157) . ولموسى قصة طريفة مع العبد الصالح الخضر، مذكورة في سورة الكهف (60- 82) . وتكرر في القرآن تذكير الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم مثل آيات سورة البقرة (47- 57، و60- 61) وفي سورة الأعراف (141) وسورة إبراهيم (6- 8) . وقد مات هارون أولا في جبل «هور» ودفنه موسى، ثم مات موسى في جبل «نبو» ودفن على الكثيب الأحمر.

ما يستفاد من قصة موسى عليه السلام:

وبعد وفاة موسى قام بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون من سبط يوسف، بعد خروجهم من التيه، أمرهم الله أن يدخلوا مدينة بفلسطين هي بيت المقدس أورشليم» أو أريحا، وذلك بأن يدخلوا باب المدينة سجّدا، أي خاشعين متذللين، وأن يقولوا: حطة فخالفوا ودخلوا على هيئة غير التي أمروا بها، فغضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب، والقصة مذكورة في سورة البقرة (58- 59) وسورة الأعراف (161- 162) . وأثنى الله على موسى وهارون في سورة مريم (51- 53) وسورة الصافات (114- 122) وسورة غافر (53- 54) . ما يستفاد من قصة موسى عليه السلام: شريعة موسى في أصلها الموحى به كشريعة الإسلام في الجملة، وأمته ذات تاريخ مليء بالاضطرابات والقلاقل والأحداث العنيفة، وكانت ذات سلطة أحيانا، وساهمت بشيء من المدنيّة. وكان لقصة موسى مع بني إسرائيل عبر وعظات هي: 1- أنقذ الله موسى من القتل وهو طفل رضيع، وألقته أمه في النيل، ثم ردّه الله إليها لإرضاعه، وتلك عصمة الله ورعايته له ورحمته بأمه. 2- تربّى موسى في قصور فرعون وكان مؤمنا ونبيا من أولي العزم، وموسى السامري الذي ربّاه جبريل كافر شقي ابتدع عبادة العجل. 3- هجرة موسى أو خروجه من أرض مصر بنصيحة رجل من أقصى المدينة بالابتعاد عن مصر، كانت خيرا كلها، فإنه صاهر شعيبا عليه السلام، وأوحى الله إليه بالنبوة، وكانت نصيحة الرجل له من تيسير الله له وفضله عليه لأنها كانت سببا في نجاته وبعثته. وهكذا فإن من توكل على الله صانه وحماه.

4- لا أثر لقوة البشر وتآمرهم على الإنسان إذا لازمته العناية الإلهية، فإن بأس فرعون وملأه لم يلحق ضررا بموسى. وانظر إلى هذه المحاورة الحادة، إذ قال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [الإسراء 17/ 101] فأجابه موسى بعد تلطف كثير وصبر على الجدال بالباطل: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء 17/ 102] . 5- الفرج الإلهي يأتي بعد الشدة، ونصرة الحق تأتي عند اشتداد الأزمة، فقد دافع رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه عن موسى، وحذر فرعون وآله بطش الله، غير خائف ولا مبال به وبسلطته، ضاربا الأمثال بالأمم الخالية، كما جاء في قوله تعالى في سورة غافر: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ... [28- 35] . 6- إذا فاضت مشاعر الإيمان في النفس، هانت أمامها كل الصعاب، فإن السحرة آمنوا برب موسى، غير مبالين بفرعون وسطوته. 7- الصبر مفتاح الفرج وحميد العاقبة، فإن بني إسرائيل صبروا على أذى فرعون بتقتيل الأبناء واستحياء النساء ثم أعقبهم الله الحسنى بما صبروا: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف 7/ 137] . وتعرضوا لهجوم الرومان بقيادة «طيطس» الروماني، فخربوا بيتهم المقدس وهيكلهم الضخم، بعد سنة 71 م فتركوا فلسطين ثم عادوا إليها بعد وفاة موسى وأسسوا مملكة أريحا، واحتلوا جهات من الحجاز، كتيماء ووادي القرى وفدك وخيبر ويثرب، وبنوا فيها المصانع والحصون، انتظارا لظهور النبي الذي

التفسير والبيان:

وعدوا به من العرب الإسماعيليين في يثرب، وأملا في مؤازرتهم ومناصرتهم، فأقاموا على الطريق بين يثرب وفلسطين. 8- حلم موسى على قومه بني إسرائيل، فبالرغم من غضب الله عليهم بسبب عبادة العجل، وطلب شيوخهم الذين جاؤوا للتوبة رؤية الله تعالى جهلا وتعنتا، فإن موسى تضرع إلى ربه طالبا العفو عن زلات سفهائهم، وقال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ [الأعراف 7/ 155] . التفسير والبيان: يذكر الله تعالى أنه بعث بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، موسى، بالآيات أي الحجج والدلائل البينة والمعجزات الدالة على صدقه ورسالته، إلى فرعون: وهو ملك مصر في زمن موسى، وملئه أي قومه، فجحدوا وكفروا بها، ظلما منهم وعنادا، فانظر أيها الرسول (أي محمد) كيف كان مصير المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر، وهم فرعون وملؤه الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي انظر يا محمد كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله: موسى وقومه المؤمنين به. ونظير الآية قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها، وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ، ظُلْماً وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل 27/ 14] . وقال: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ولم يقل: وقومه لأن الذين استعبدهم فرعون وعاضدوه هم أتباع الحكم والسلطان، وليس سائر الشعب المصري، وإنما كان الشعب تبعا للحكام، فلو آمن فرعون لتبعه الشعب كله.

وقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه تشويق واجتذاب الأنظار إلى ما سيذكره تعالى من المصير المشؤوم لفرعون وملئه، ونجاة موسى وبني إسرائيل. ثم بدأ الله تعالى بعد هذا التشويق ببيان فصول القصة، وأول فصل منها: إخباره تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وتغلبه عليه بالحجة والمنطق، وإظهاره الآيات البيّنات في مجلس فرعون وقومه قبط مصر. وقال موسى: يا فرعون أي يا ملك مصر، إني رسول من رب العالمين، أي مالك كل شيء وخالقه ومدبره، وجدير بي «1» ألا أقول على الله إلا الحق، فإن الرسول لا يكذب على الله الذي بيده ملكوت كل شيء، لذا فإني لا أخبر عن الله إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه. وهاتان الجملتان تتضمنان عقيدة التوحيد: وهي أن للعوالم كلها إنسها وجنّها ربا واحد، وعقيدة النوبة والرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ. ومن المؤيدات قوله: قد جئتكم ببرهان وحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا وشاهدا على صدقي فيما أخبرتكم عنه. وقوله: مِنْ رَبِّكُمْ إشارة إلى أن جميع الناس مربوبون لله ومخلوقون به، وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أن البينة ليست من صنع موسى. ثم رتب على إثباته نبوته بالبينة الواضحة طلب موسى من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من أسره واستعباده وقهره، وتركهم حتى يذهبوا معه راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، ليتفرغوا إلى عبادة ربهم وربه فإنهم من سلالة

_ (1) الباء وعلى يتعاقبان، فعلى في قوله تعالى: «حَقِيقٌ عَلى» بمعنى الباء، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس، وجاء على حال حسنة وبحال حسنة.

نبي كريم: إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط، تغلب فرعون على نسل بني إسرائيل واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر، واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام. قال فرعون مجيبا موسى: إن كنت مؤيدا بآية من عند ربك، فأظهرها لنراها، إن كنت صادقا فيما ادعيت. فأجابه موسى على الفور إلى ما طلبه بالفعل لا بالقول: فألقى عصاه من يمينه على الأرض أمام فرعون فإذا هي ثعبان (ذكر الحيات) مبين، أي ظاهر واضح حقيقي يتحرك ويسير من مكان إلى مكان. وأخرج يده من جيب قميصه بعد ما أدخلها فيه، فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض، كالشمس المضيئة، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل 27/ 12] . وهذا هو الفصل الثاني من القصة. ولا داعي للاسترسال في أوصاف الثعبان والعصا واليد، بأكثر مما دلت عليه الآيات القرآنية إذ ليس لها سند يوثق به، وإنما هي من الروايات الإسرائيلية التي دسها بعض الدخلاء غير المتورعين ولا المدققين، مثل كعب الأحبار الإسرائيلي، ووهب بن منبّه الفارسي الأصل. ومن المعلوم أن إثارة الفتن السياسية في صدر الإسلام يعود أمرها إلى جماعة السابئيين (أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي) وجماعات الفرس الذين دخلوا في الإسلام لهدمه من الداخل، وقد قتل عمر على يد أبي لؤلؤة الفارسي المرسل من جماعة سرية في فارس، وقتل عثمان بدسائس عبد الله بن سبأ.

ثم جاء الفصل الثالث من القصة ومضمونه مقالة ملأ فرعون: قال السادة من قوم فرعون الموافقون له وأهل مشورته: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي خبير بفنون السحر وأنواعه، وله خطره إذ قد يستميل الناس بسحره، فيكون ذلك سببا لغلبته علينا، ونزع ملكنا، وإخراجنا من أرضنا بسحره، وذلك كله مصرح به في آية أخرى خاطبوا بها موسى وأخاه هارون: قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 78] وهو في الواقع صدى لما قاله فرعون وحكاه الله عنه بقوله: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ [الشعراء 26/ 34- 35] . ثم وقع ما خافوا منه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص 28/ 6] . وتابع الملأ كلامهم وإبداء رأيهم: قال الملأ لفرعون بعد أن استشارهم بقوله السابق: فَماذا تَأْمُرُونَ؟: أخّر الفصل في أمره وأمر أخيه، وأرسل في الأقاليم ومدائن ملكك فئة من جندك حاشرين، أي جامعين لك السحرة من سائر البلاد. وإنما قال: في المدائن لأن السحر ينشط في المدن الجامعة المأهولة بكثرة الناس. وكان السحر في زمانهم غالبا كثيرا، فتوهموا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل شعوذة الساحرين، فجمعوا له السحرة، ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى فرعون حيث قال: قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ، مَكاناً سُوىً. قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه 20/ 57- 60] .

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي إن ترسلهم يأتوك بكل ساحر ماهر بفنون السحر. وواضح أن الهدف الإتيان بالمهرة لتحقيق الغلبة والتفوق. قال الزمخشري: وكانت هذه مؤامرة مع القبط. ثم جاء الفصل الرابع وهو دور السحرة. وجاء السحرة من كل مكان، وقالوا لفرعون: هل لنا أجر لقاء الغلبة على موسى؟ فقال فرعون: نعم لكم أجر عظيم، وتصبحون من المقرّبين إلى في المركز والمجلس، وهذا إغراء في الجمع بين المركز المالي والأدبي. قال السحرة لموسى في اليوم المخصص: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ بسحرك أولا، وإما أن نلقي ما عندنا؟ وفي هذا التخيير اعتزاز شديد بأنفسهم، وثقة بخبرتهم، وعدم مبالاة بعمله. فأجاب موسى جواب الذكي الخبير لأن المتأخر في العمل يكون أدرى بما تقتضيه الحال، وهو واثق أيضا بشأنه وغلبته عليهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، وهذا إذن بتقديم الفعل، لا أمر يقرهم به على فعل السحر، وهو بقوله المذكور يريد أن يري الناس صنيعهم ويتأملوه، ويستفرغ ما عندهم من طاقات، فإذا فرغوا من زيفهم وشعوذتهم، جاءهم الحق الواضح، فيكون أوقع في النفوس. لذا قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا، سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف 7/ 116] أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه، له حقيقة واقعية، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: قالَ: بَلْ أَلْقُوا، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه 20/ 66- 69] . وتتجلى ثقة موسى بنفسه وبأن ما لديه معجزة إلهية ليست من جنس

فقه الحياة أو الأحكام:

السحر، في قوله تعالى: قالَ مُوسى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس 10/ 81- 82] . ومعنى قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ... أي لما ألقوا حبالهم وأخشابهم، سحروا أعين المتفرجين، ومنهم موسى الذي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وجاؤوا بسحر عظيم المظهر، كبير التأثير في أعين الناس. روي أنهم لوّنوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة، قيل: جعلوا فيها الزئبق. فقه الحياة أو الأحكام: دلت آيات قصة موسى على ما يأتي: 1- آية ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا دلت على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة يمتاز بها عن غيره إذ لو لم يكن مختصا بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره. ودلت أيضا على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ومعجزات كثيرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول آياته: العصا ثم اليد. ودلت كذلك على أن فرعون وجماعته ظلموا بالآيات التي جاءتهم، فاستحقوا العقاب الشامل وهو الإغراق في البحر لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وإنهم وضعوا الإنكار في موضع الإقرار. والكفر في موضع الإيمان، فكان ذلك ظلما منهم لتلك الآيات. 2- دل قوله: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ على وجود الإله لأن العالم

محتاج إلى إله يوجده ويخلقه، ومتصف بصفات كالضعف والتغير ونحوها تجعله مفتقرا إلى ربّ يربّيه. 3- وقوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يشير إلى أن الرسول لا يقول إلا الحق. 4- إن طلب موسى عليه السلام إرسال شعب بني إسرائيل معه الذي رتبه على كونه رسولا طلب ليس من السهل على حاكم تلبيته، لاحتمال تكوين خصوم ضده، من طريق تبليغهم الحكم الإلهي، وإعدادهم لمجابهة فرعون. 5- قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هو المعجزة الظاهرة القاهرة، وقد طلب فرعون من موسى إظهار تلك المعجزة: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها.. دليلا على صدقه فيما يدعيه من الرسالة المرسل بها من الله. وكانت المعجزة قلب العصا ثعبانا، وإظهار اليد البيضاء. 6- اختار الطاغية الكافر: فرعون وجماعته تكذيب هذه المعجزة الخارقة، وادعى كون موسى ساحرا، فتشاور مع كبار رجال دولته، فأشاروا بالمبارزة بين سحرة صعيد مصر المهرة وبين موسى. وتم جمع السحرة من أنحاء المملكة، قيل: كانوا سبعين رجلا أو ثلاثة وسبعين. ودل قوله: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان. 7- دل قوله: فَأَلْقى عَصاهُ ... وقوله: وَنَزَعَ يَدَهُ على أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان، فلما كان السحر غالبا على أهل زمان موسى عليه السلام، كانت معجزته شبيهة بالسحر، وإن كان مخالفا للسحر في الحقيقة. ولما كان الطب غالبا على أهل زمان عيسى

عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانت معجزته القرآن أبلغ الكلام من جنس الفصاحة. 8- دل قوله: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا ... على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا مهينا عاجزا، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام. ودل أيضا على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان أو الأشياء، فلم يتمكنوا من قلب الحبال والعصي حيات فعلية، كما لم يتمكنوا من قلب التراب ذهبا، وأن يجعلوا أنفسهم ملوك العالم، ولو كانوا قادرين على ذلك لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون. والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق، وألا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب. 9- قوله: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله، من قولهم: نَكُونَ وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل وهو نَحْنُ وتعريف الخبر وهو الْمُلْقِينَ بقصد كسب الشهرة واجتذاب أنظار الناس. وقد جاراهم موسى في رغبتهم ازدراء لشأنهم وقلة المبالاة بهم، وثقته بالتأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها شيء. 10- دل قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ على أن السحر محض التمويه. ولو كان السحر حقا، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم. وكل ما في الأمر أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة، مع أن الأمر في الحقيقة خلاف ذلك. ودل قوله: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ على أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي.

وأما خوف موسى فليس كخوف العوام، وإنما لعله خاف من وقوع التأخير في ظهور حجته على سحرهم. 11- السحر كما دلت الآية مجرد خيال وتمويه لا حقيقة فيه، لذا يسمى بالشّعوذة والدجل، وهو إما أن يعتمد على بعض خواص المادة كتمدد الزئبق الذي وضعه سحرة فرعون في حبالهم وعصيهم، وإما أن يستعان فيه بخفة اليد في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعضها، وإما أن يلجأ فيه إلى تأثير النفس القوية في إرادة النفس الضعيفة، وقد يستعان حينئذ بأرواح الشياطين، ومنه ما يسمى في عصرنا بالتنويم المغناطيسي. 12- الفرق بين السحر والمعجزة: أن المعجزة حقيقة تظهر على يد مدعي النبوة، والسحر خيال يحدث على يد رجل فاسق. لذا أخطأ من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحر، وأن السحر أثّر فيه، حتى قال: «إنه يخيّل إلي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله» وإن امرأة يهودية سحرته في وعاء طلع النخل ووضعته تحت الحجر الذي يقف عليه المستقي من البئر، حتى أتاه جبريل فأخبره بذلك، فاستخرج وزال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وهذا كله من وضع الملحدين الذين يحاولون العبث بالنبوة وإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام. وهذا ينافي قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. وجائز أن تفعل المرأة اليهودية ذلك بجهلها، ثم أطلع الله نبيه على فعلها، لا أن ذلك ضره وخلط عليه أمره.

إيمان السحرة برب العالمين [سورة الأعراف (7) الآيات 117 إلى 122] :

إيمان السّحرة بربّ العالمين [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) الإعراب: أَنْ أَلْقِ عَصاكَ أَنْ: إما مصدرية في موضع نصب، وتقديره: بأن ألق عصاك، فحذف حرف الجر فاتّصل الفعل بها، وإما أن تكون مفسّرة بمعنى أي، فلا يكون لها موضع من الإعراب، كقوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص 38/ 6] أي: امشوا. ما يَأْفِكُونَ ما: موصولة، أي: زال وذهب الذي عملوا به السّحر، أو مصدرية بتقدير: فإذا هي تلقف إفكهم، تسمية للمأفوك بالإفك. صاغِرِينَ حال منصوب. البلاغة: فَوَقَعَ الْحَقُّ استعارة أستعير لوقع للثبوت والظهور والحدوث. المفردات اللغوية: تَلْقَفُ تتناول وتبتلع بسرعة. ما يَأْفِكُونَ يقلبون بتمويههم، أو يكذبون ويموهون، مأخوذ من الإفك: وهو قلب الشيء عن وجهه الأصلي، وهو إما أن يكون بالقول الكاذب، وإما أن يكون بالفعل كالسحر. والمأفوك: المصروف عن وجهته الأصلية، قال تعالى: أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة 5/ 75 وموضع أخرى] أي يصرفون عن الحقّ في الاعتقاد إلى الباطل، ومنه سمّيت الرياح المعدولة عن مهبها مؤتفكة، كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ [الحاقة 69/ 9] أي أهل تلك القرى. وهي قرى قوم لوط. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى مع فرعون، وهو موقفه من

السّحرة. وهو إخبار من الله تعالى إلى رسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرّق فيه بين الحق والباطل، ومضمون الإخبار: إلقاء ما في يمينه وهي عصاه. أوحى الله إلى موسى وأمر بإلقاء عصاه، التي تحولت إلى ثعبان عظيم، فإذا هي تبتلع ما ألقوه، وموّهوا به أنه حق وهو باطل، أو ما يقلبونه من الحقّ إلى الباطل ويزوّرونه. قال ابن عباس: فجعلت لا تمرّ بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته، فعرفت السّحرة أن هذا شيء من السّماء، ليس بسحر، فخرّوا سجّدا، وقالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وكانوا قد جعلوا الحبال مجوّفة محشوّة بالزئبق، وقد تحرّكت بتأثير الحرارة: إما بحرارة الشّمس حين أصابتها، وإما بنار أعدت لها. فَوَقَعَ الْحَقُّ.. أي فثبت الحقّ وظهر كالشّمس، وفسد ما كان السّحرة يعملون من الحيل والتّخييل، وذهب تأثيره، وأدركوا أن فعل موسى فوق السّحر. وغلب السّحرة في ذلك الجمع العظيم بأمر الله وقدرته، وانقلب فرعون وقومه معه صاغرين أذلّة، بما لحقهم من عار الهزيمة والخيبة والخذلان، لكن السّحرة آمنوا. وألقي السّحرة عند ذلك وعند معاينة المعجزة سجّدا لربّهم لأنّ الحق بهرهم وحملهم على السجود، وقالوا: صدّقنا وآمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، أي ربّ جميع الأشياء والخلائق من الإنس والجنّ. وكان هؤلاء منسجمين مع أنفسهم، منطقيين في تصرّفهم، فلم يكابروا، وإنما كانوا صادقين مع نفوسهم، بدليل أن فرعون قبل المبارزة دعا رؤساء السّحرة

فقه الحياة أو الأحكام:

ومعلميهم، فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا: قد عملنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمرا من السّماء، فإنه لا طاقة لنا به. فقه الحياة أو الأحكام: الآيات إظهار واضح لقدرة الله تعالى بإعدام الحبال والعصي وإذهابها من الوجود، مما يدلّ على وجود الإله القادر المختار، وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السّلام، والحسم القاطع بين الحقّ والباطل. ولكن المشكلة تكمن في مواقف البشر، فالمعاندون وهم فرعون وقومه، بالرغم من عار الهزيمة والخذلان، ظلّوا على وضعهم من الكفر والعناد والتكذيب، وهو طيش وخفّة عقل ومكابرة للحقّ. وأما السّحرة البسطاء في الظاهر، والعقلاء في الحقيقة والواقع، فإنهم عرفوا أن فعل موسى ليس من قبيل السّحر، وإنما هو معجزة سماوية إلهية، فلم يتمالكوا أنفسهم، وخرّوا ساجدين لربّهم، خاضعين لإله الكون. فما أحرى الناس بتقليد هؤلاء ونبذ أولئك!! ذلك لأنّ السّحرة كانوا مهرة في علم السّحر، متقنين لفنونه وأنواعه، ولأجل مهارتهم وإتقانهم وكمال علمهم بالسّحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان. واحتجّ أهل السّنّة بقوله تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ على أن غيرهم ألقاهم ساجدين، وما ذاك إلا الله رب العالمين. وهذا يدلّ على أن فعل العبد من خلق الله تعالى، فهو سبحانه هو خالق الميل إلى الإيمان في قلوبهم. ولما ظفروا بمعرفة الله تعالى في الحال، جعلوا سجودهم شكرا لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان، وعلامة أيضا على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهار الخضوع والتّذلل لله تعالى.

تهديد فرعون للسحرة وإصرارهم على الإيمان بالله [سورة الأعراف (7) الآيات 123 إلى 126] :

ولما قالوا: وَهارُونَ زالت الشّبهة في أن المقصود ليس فرعون مربّي موسى، وإنما المقصود هو إله السّماء، وإعلان الكفر بفرعون إذ أنهم لما قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ قال لهم فرعون: إياي تعنون؟ فلما قالوا: رَبِّ مُوسى قال: إياي تعنون لأني أنا الذي ربّيت موسى، فلما قالوا: وَهارُونَ زالت الشّبهة وعرف الكلّ أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السّماء. تهديد فرعون للسّحرة وإصرارهم على الإيمان بالله [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) المفردات اللغوية: آمَنْتُمْ استفهام معناه الإنكار والاستبعاد لمكر، المكر: صرف الإنسان غيره عما يريده بحيلة، والمعنى: إن هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر، قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط، وتسكنوها بني إسرائيل. وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما ينالكم منّي. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي يد كلّ واحد اليمني ورجله اليسرى وبالعكس، والصّلب: الشدّ على خشبة ونحوها. مُنْقَلِبُونَ راجعون في الآخرة. تَنْقِمُ تنكر. أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا صبرا يغمرنا كغمرة الماء، أي هب لنا صبرا واسعا، عند فعل ما توعدنا به فرعون، لئلا نرجع كفارا. وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا هو الفصل السادس من قصّة موسى مع فرعون، فيه يخبر الله تعالى عمّا توعّد به فرعون السّحرة لما آمنوا بموسى عليه السّلام، وبما ردّوا به عليه من تسليم أمرهم لله لأن مصيرهم إليه في الآخرة. ومعنى آمَنْتُمْ على أنه إخبار بخبر: صدقتم، ويراد به التّوبيخ، وعلى أنه استفهام يراد به الإنكار والاستبعاد، أي آمنتم بموسى واتبعتموه في رسالته قبل أن آذن لكم بذلك. إن صنعكم هذا وغلبته لكم في هذا اليوم، إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه 20/ 71] . إنكم دبّرتم هذه المؤامرة في هذه المدينة لتخرجوا المصريين منها بسحركم، وتسكنوا فيها مع بني إسرائيل، فسوف تعلمون ما أصنع بكم من العذاب والنّكال على هذا المكر. وهذا القول من فرعون مجرّد تمويه وتدليس وتغطية للهزيمة، لئلا يتّبعوا السّحرة في الإيمان، كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ [الزّخرف 43/ 54] إذ إنه يعلم أن هذا قول باطل، فهو الذي أرسل جنوده في مدائن مملكته، لجمع السّحرة المتفرّقين من سائر الأقاليم بمصر، ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى عليه السّلام لا يعرف أحدا منهم، ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم بذلك. وقد استفاد فرعون هذه الفكرة أي الاتّهام بالمكر والمؤامرة من مناقشة دارت بين موسى وكبير السّحرة قبل المبارزة، روي أن موسى عليه السّلام قال لأمير السّحرة أو للسّاحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال: لآتين بسحر لا يغلبه سحر، وإن غلبتني لأومننّ بك. وفرعون يسمع ذلك، فلذلك قال ما قال.

وبعد أن أجمل الوعيد السابق بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فصله بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ يعني قسما لأقطعنّ الأيدي والأرجل من خلاف، ثم لأصلبنّ كل واحد على جذوع الشّجر، كما قال: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 20/ 71] أي على الجذوع، لتكونوا عبرة لمن يكيد لنا ويخرج عن سلطاننا، قال ابن عباس: وكان أوّل من صلب، وأوّل من قطّع الأيدي والأرجل من خلاف: فرعون. فأجابه السّحرة على تهديده ووعيده: إنّنا لا نأبه بالقتل ولا نبالي بالموت لأننا قد تحقّقنا أنا إلى الله راجعون، ففي الآخرة يوم الجزاء، فيثيبنا على شدائد القطع والصّلب، ونريد أن نفدي أنفسنا من عذاب الله، فعذابه أشدّ من عذابك، ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم، وما أكرهتنا من السّحر، أعظم من نكالك، فلنصبرنّ اليوم على عذابك، لنخلص من عذاب الله، كما قال تعالى: قالُوا: لا ضَيْرَ، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 50- 51] . ويحتمل- كما ذكر الزّمخشري- أن يكون المعنى: إنّا جميعا نحن وأنت يا فرعون، سننقلب إلى الله، فيحكم بيننا. وفي هذا إيماء إلى تكذيبه في ادّعاء الرّبوبيّة، وإيثار ما عند الله على ما عنده من شهوات الدّنيا الفانية. وما تعيب منّا إلا الإيمان بآيات الله، الذي هو خير الأعمال، وأصل المناقب والمفاخر كلها. وفي هذا إعلان لقرار لا رجعة فيه، وكأنّهم يقولون: لا أمل لك في رجوعنا عن إيماننا. ربنا هب لنا صبرا واسعا، وعمّنا بالصبر على دينك والثّبات عليه، واغمرنا به حتى يفيض علينا كما يغمر الماء الأشياء. والظاهر أنّ فرعون نفّذ تهديده ووعيده فعلا، بدليل قوله تعالى في بداية

فقه الحياة أو الأحكام:

القصّة: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي فرعون وجماعته. قيل: إنّ فرعون أخذ السّحرة، وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان السّحرة ستمائة ألف. وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على الإسلام، متابعين لنبيّك موسى عليه السّلام، وقالوا لفرعون: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [طه 20/ 72- 75] . قال ابن كثير نقلا عن ابن عباس وغيره: فكانوا في أوّل النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة. فقه الحياة أو الأحكام: حاول فرعون إنقاذ نفسه من عار الهزيمة، فلما علم أن أمهر الناس بالسحر أقر بنبوّة موسى عليه السّلام أمام الخلق الكثير، والحشد العظيم، خاف أن يصير ذلك حجّة قويّة عند قومه على صحّة نبوّة موسى عليه السّلام، فألقى في الحال نوعين من الشّبهة إلى إسماع العوام «1» : الشّبهة الأولى: قوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ أي إن إيمان هؤلاء بموسى عليه السّلام ليس لقوّة الدّليل، بل لأجل التّواطؤ مع موسى على الإيمان به والإقرار بنبوّته.

_ (1) تفسير الرّازي: 14/ 207- 208.

والشبهة الثانية:

والشّبهة الثانية: أنّ الهدف من التّواطؤ إخراج قوم فرعون من المدينة وإبطال ملكهم والاستيلاء على مصر. ولا شكّ أن مفارقة الوطن والنّعمة المألوفة من أصعب الأمور، فجمع فرعون بين الشّبهتين، لتغطية آثار الهزيمة، وإبقاء التّماسك حوله. ثم أتبع فرعون التّدليس والتّمويه بالتّهديد والوعيد للسّحرة، وبالتّنكيل الشّديد بهم، وتقطيع أطرافهم، وصلبهم، قال ابن العربي: هذا يدلّ على أنّ الصّلب وقطع اليد والرّجل من خلاف كان عقوبة متأصّلة عند الخلق، تلقّفوها من شرع متقدّم، فحرّفوها حتى أوضحها الله في ملّة الإسلام، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الاجرام أي عقوبة المحاربين «1» . ولكن غباء فرعون وجماعته وكلّ الكفار جعلهم لا يدركون ما الذي يفعله الإيمان الحقّ من الأعاجيب، فلم يبالوا بالموت، وطلبوا الثّبات على الإسلام، والعون على إفراغ الصّبر عليهم عند القطع والصّلب. وإذا كان الإيمان بالدّين الحقّ والصّبر على الشّدائد من خلق الله تعالى، كما يقول أهل السّنة، فإنّ اتّجاه إرادة الإنسان للأخذ بهما، والاستعانة بالله للثّبات على الإسلام، دليل على استحقاق العبد الثّواب على ما اتّجهت إليه إرادته، إذ لو كان الإيمان مجرّد منحة من الله، لما كان هناك داع لإثابة المؤمن، وتعذيب الكافر. وموقف السّحرة وإعلان إيمانهم بجرأة وصراحة يدلّ على أنّ الإنسان إذا تجرّد عن هواه، وأذعن للعقل والفكر السّليم، بادر إلى الإيمان عند ظهور الأدلّة عليه.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 779. [.....]

تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه ونصيحة موسى لقومه وحوارهم معه [سورة الأعراف (7) الآيات 127 إلى 129] :

وصلابة السّحرة ومن تابعهم في إيمانهم أحد المظاهر التي تدلّ على أنّ الإيمان الرّاسخ في النّفس يكون أعزّ وأمنع من الجبال الرّاسيات. وقد دلّت التّجارب وأثبت التاريخ قديما وحديثا أنّ أهل الإيمان بالله واليوم الآخر هم أشدّ الناس حزما، وأكثرهم شجاعة وصبرا في أوقات الأزمات والمحن والحروب، والأمثلة كثيرة في تاريخ الإسلام قديما في الفتوحات، وحديثا في لقاء اليهود وأمثالهم في فلسطين والجزائر والهند وأفغانستان وغيرها. تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه ونصيحة موسى لقومه وحوارهم معه [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الإعراب: وَيَذَرَكَ معطوف على: يفسدوا، والواو عاطفة، ويصحّ أن تكون حالية. المفردات اللغوية: الْمَلَأُ كما تقدّم: السّادة والأشراف. أَتَذَرُ أتترك. لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالدّعوة إلى مخالفتك. وَيَذَرَكَ يتركك. وَآلِهَتَكَ كان صنع لهم أصناما صغارا يعبدونها، وقال:

التفسير والبيان:

أنا ربّكم وربّها، ولذا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. والواو في قوله وَيَذَرَكَ: قيل: إنّها حالية، أي أتذروه وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك؟ وقيل: هي عاطفة، أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك. سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ المولودين. وَنَسْتَحْيِي نستبقي. نِساءَهُمْ أحياء كما فعلنا بهم من قبل. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ قادرون، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل. يُورِثُها يعطيها. وَالْعاقِبَةُ المصير المحمود. لِلْمُتَّقِينَ الله. التفسير والبيان: هذا هو الفصل السّابع من قصّة موسى مع فرعون، يخبر فيه الله تعالى عن تمالؤ فرعون وملئه على موسى وقومه، وما أضمروه لهم من الأذى والبغضاء، بعد إيمان السّحرة بموسى وانضمامهم له على مشهد من الجموع الغفيرة. والمعنى: وقال أشراف قوم فرعون لفرعون: أتترك موسى وقومه أحرارا، فيتمكّنوا من إفساد رعيّتك، بإدخالهم في دينهم، أو جعلهم تحت سلطانهم وقيادتهم، ويدعوهم إلى عبادة ربّهم دونك، ويتركك مع آلهتك فلا يعبدونك ولا يعبدونها كما قررت؟! ومن المعروف في التّاريخ المصري القديم أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها (الشمس) ويسمّونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشّمس وابنها. قال الحسن البصري: كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يعبد ويعبد. قال التّيمي: كان يعبد شيئا كان قد جعله في عنقه. فأجابهم فرعون: سنقتّل أبناء بني إسرائيل تقتيلا، ونستبقي نساءهم أحياء، كما كنّا نفعل من قبل، فلا يتكاثرون حتى ينقرضوا، وإنّا مستعلون عليهم، قاهرون لهم، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد في أرضنا، ولا الخروج من سلطاننا. وفي موقف آخر همّ فرعون بقتل موسى كما جاء في قوله تعالى: وَقالَ

فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر 40/ 26] . وحين قال فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وسمع الإسرائيليّون ذلك، فزعوا وجزعوا وتضجّروا، فطمأنهم موسى ونصحهم وقال لهم: استعينوا بالله وحده، واطلبوا العون والتّأييد منه على رفع ذلك الوعيد عنكم، واصبروا ولا تحزنوا، فالله هو المعين على الشّدائد، والصّبر سلاح المؤمن ومفتاح الفرج، واعلموا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وهذا وعد لهم بالنّصر، وأنّ الدّار ستصير لهم. واللام في إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يجوز أن تكون للعهد، ويراد أرض مصر خاصة، كقوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزّمر 39/ 74] ، ويجوز أن تكون للجنس، فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض. ثمّ بشّرهم بحسن الخاتمة والعاقبة، فقال: واعلموا أن العاقبة الحسنى والخاتمة المحمودة لمن اتّقى الله، والنّصر للمؤمنين، لا كما يتوهّم فرعون وقومه. ثم دار حوار بين بني إسرائيل وموسى، وكأنّ الوصية لم تؤثّر فيهم، ولشدّة فزعهم من فرعون وقومه، فقالوا: أوذينا من قبل مجيئك وقبل ولادتك، ومن بعد إرسالك، وفعلوا بنا مثلما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى، ومن بعد ذلك، فقتلوا أولادنا، وعذّبونا وأساؤوا لنا، واليوم يتكرر ما كان في الماضي، وتعود المأساة، كما تسمع من الوعيد والتّهديد. فأجابهم موسى مؤكّدا نصر الله لهم، وما يصيرون إليه في المستقبل القريب، وثقته بالله تعالى، ومبشّرا بهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر: أملي بالله ورجائي بفضله، والله محققه بمشيئته: أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وقومه،

فقه الحياة أو الأحكام:

ويجعلكم خلفاء في الأرض من بعدهم، فينظر عملكم الكائن منكم، حسنه وقبيحه، وشكر النّعمة وكفرانها، وسيجازيكم على حسب ما يوجد منكم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. وهذا حضّ لهم على العزم على الشكر عند حلول النّعمة، وزوال النّقمة. وعبّر بالرّجاء دون الجزم بذلك، لتفويض المشيئة لله تعالى، ولئلا يتركوا العمل ويتّكلوا على ذلك. قال سيبويه: عسى: طمع وإشقاق. وقال الزّجاج: وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب. فقه الحياة أو الأحكام: لم يختلف واقع التّاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل بالنّسبة للأقوياء والضّعفاء، فإن صاحب القوّة والسّلطة يعتمد على سلطانه وبأسه، فيشيع بين الناس الرّهبة والذّعر والخوف، ويعلن الإنذار والتّهديد والوعيد. المنتفعون من السّلطة لسان حالهم ومقالهم وفعلهم فعل تلك السّلطة، لذلك حرّض السّادة والأشراف من قوم فرعون على موسى وبني إسرائيل. وكانت استجابة فرعون الطاغية للتحريض فورية، فجدّد تنكيله ببني إسرائيل وهو قتل أولادهم بعد الولادة، وتشديد قبضة السّلطة عليهم، ليظلّوا مقهورين أذلّاء خائفين خاضعين له. أمّا موسى فكان فرعون كلما رآه خافه أشدّ الخوف، لذا لم يتعرّض له، مع أنّ قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه، ولكنه لم يحبسه لعدم الاهتمام به، ولعدم خوفه في الظاهر منه. وأمّا المستضعفون بقيادة موسى فلا أمل لهم إلا بالله، ولا ملجأ إلا إليه، لذا طلب موسى من قومه أن يطلبوا العون والتّأييد من الله تعالى، وأن يتذرّعوا

بالصّبر، فإن صدقوا في إيمانهم، وصبروا على بلائهم، حقّق الله لهم الغلبة والنّصر، وجعل العاقبة الحسنة لهم لتقواهم. أمرهم موسى بشيئين، وبشّرهم بشيئين: أمّا اللّذان أمر موسى عليه السّلام بهما: فهما الاستعانة بالله تعالى، والصّبر على بلاء الله. وإنّما أمرهم أوّلا بالاستعانة بالله، فلأن من عرف أنه لا مدبّر في العالم إلا الله تعالى، انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى، وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء، ولأنه يرى عند نزول البلاء أنّه إنما حصل بقضاء الله تعالى وتقديره. وأمّا اللّذان بشّر بهما، فالأوّل: وراثة الأرض، وهذا إطماع من موسى قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه، وذلك معنى الإرث: وهو جعل الشيء للخلف بعد السّلف. والثّاني: قوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي العاقبة الحسنى والمصير الأفضل لكلّ من اتّقى الله تعالى وخافه، سواء في الدنيا والآخرة، أما في الدّنيا فهو الفتح والنّصر على الأعداء، وأمّا في الآخرة فهو نعيم الجنة «1» . ولكن النّفس البشرية تخاف عادة من تهديد صاحب السّلطة، فخاف بنو إسرائيل لأنهم كانوا قبل مجيء موسى عليه السّلام مستضعفين في يد فرعون، فكان يأخذ منهم الجزية، ويستعملهم في الأعمال الشّاقة، ويمنعهم من التّرفّه والتّنعّم، ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم. فلما بعث موسى عليه السّلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب، فلما سمعوا إعادة تهديد فرعون، عظم خوفهم وحزنهم، فقالوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ....

_ (1) تفسير الرّازي: 14/ 212.

أنواع عذاب الدنيا بآل فرعون [سورة الأعراف (7) الآيات 130 إلى 133] :

أمّا نبيّ الله موسى فأعلن بشارته بإهلاك فرعون، وقوّى قلوبهم بما وعدهم من خلافة الأرض، ليتمسّكوا بالصبر، ويتركوا الضّجر والجزع المذموم، ثم بيّن بقوله: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ما يريده من حثّهم على التّمسّك بطاعة الله، والاستعداد لشكر النّعمة، وزوال النّقمة. وقد تحقّق الوعد بالإغراق وبأنواع العذاب الآتية في الآيات التّالية. أنواع عذاب الدّنيا بآل فرعون [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) الآيات التّسع الإعراب: مَهْما تَأْتِنا مَهْما: اسم شرط، والدّليل على أنه اسم عود الضمير إليه من قوله تعالى: تَأْتِنا بِهِ وهو منصوب بفعل: تَأْتِنا على قول من قال: زيدا ضربته، ويجوز أن يكون في موضع رفع، على قول من قال: زيد ضربته، وتَأْتِنا: مجزوم بمهما لأنه شرط، وجواب الشّرط قوله تعالى: فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ حال منصوب مما قبله من الأشياء المذكورة في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ... والعامل: أرسلنا.

البلاغة:

البلاغة: بين الْحَسَنَةُ وسَيِّئَةٌ طباق. وبين طائِرُهُمْ ويَطَّيَّرُوا جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ أَخَذْنا كثر استعمال الأخذ في العذاب، كقوله: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] . آلَ فِرْعَوْنَ قومه وخاصته، وهم الملأ من قومه، ولا يستعمل الآل إلا فيمن يختص بقرابة مثل: وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ [آل عمران 3/ 33] أو يختصّ بموالاة ومتابعة في الرّأي مثل: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر 40/ 46] . بِالسِّنِينَ جمع سنة وهي الحول، لكن كثر استعمالها في حول الجدب والقحط، كما هنا، فيكون المراد منها القحط، بدليل نقص الثّمرات يَذَّكَّرُونَ يتّعظون فيؤمنوا. الْحَسَنَةُ الخصب والنّماء والرّخاء. قالُوا: لَنا هذِهِ أي نستحقها ولم يشكروا عليها. سَيِّئَةٌ جدب أو بلاء في الأنفس والأرزاق. يَطَّيَّرُوا يتشاءموا ويتطايروا، وأطلق التّطير على التّشاؤم أخذا بعادة العرب في زجر الطّير، فكانوا يتأمّلون الخير إذا طار الطائر يمينا ويسمّونه (السّائح) ويتوقّعون الشّرّ إذا طار شمالا، ويسمّونه (البارح) . طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ما قضي لهم وقدّر، والمراد به أن شؤمهم: هو عقابهم الموعود به في الآخرة. وعند الله: أي يأتيهم به وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم به من عنده. الطُّوفانَ هو ماء دخل بيوتهم، ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيّام. الْجَرادَ طائر معروف يأكل النبات، وقد أكل زرعهم وثمارهم أيضا. وَالْقُمَّلَ هو السّوس الذي ينخر الحنطة، وقيل: هو الدّود أو القراد الذي يأكل الزرع، ويتبع ما أكله الجراد. وَالضَّفادِعَ المعروفة، فملأت بيوتهم وطعامهم. وَالدَّمَ هو الرّعاف، وقيل: هو دمّ كان يحدث في مياه المصريين. مُفَصَّلاتٍ بيّنات. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الثّامن من قصّة موسى مع فرعون، وهو فصل الجزاء والعقاب أو الآيات التي أنزلها الله على فرعون وقومه، فبعد أن بشّر موسى عليه السّلام قومه بإنزال العذاب على فرعون وقومه بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ

يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ذكر هنا ألوان العذاب قبل حلول عذاب الاستئصال، للتّحذير والزّجر وتنبيه السّامعين من خطر الكفر والتّكذيب. وأما عذاب الاستئصال فهو إغراق فرعون في اليمّ ونجاة بني إسرائيل. وقد ذكر الله تعالى في سورة الإسراء أن الآيات أي آيات العقاب تسع، بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ... [101] . وذكر هنا سبع آيات، ويضاف إليها المذكور في سورة يونس، وهو: وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [88] ، والطّمس على الأموال: هو محقها وهلاكها. وفسّر البيضاوي الآيات التّسع بأنها آيات أرسل بها موسى إلى بني إسرائيل، وهي أحكام أمروا بالأخذ بها آيات عقاب، عوقب بها فرعون وجنوده، وهي: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وانفجار الماء من الحجر، وفلق البحر، ونتق الطّور على بني إسرائيل. وقيل: الطّوفان، والسّنون، ونقص الثّمرات مكان الثّلاث الأخيرة. والواقع أنّ فلق البحر إنّما كان بعد تمام الآيات، وانبجاس الحجر بالماء إنما كان بعد هلاك فرعون، فلا يصحّ أن يكون آية لفرعون وقومه. وأمّا العصا واليد فهما معجزتان لموسى عليه السّلام، وليستا آيتي عذاب. فيكون في تقديري مجموع الآيات هكذا: السّنون، نقص الأموال، نقص الأنفس، نقص الثّمرات، الطّوفان، الجراد، القمّل، الضّفادع، الدّم «1» . سبع منها مذكور هنا في سورة الأعراف، وواحدة مذكورة في سورة يونس، كما أبنت، أمّا نقص الأنفس فهو

_ (1) قصص الأنبياء للنّجار: ص 198.

ناجم عادة عن الجدب، ونقص الثّمار، والطّوفان، قال مجاهد وعطاء: الطّوفان: الموت. ومعنى الآيات هنا: ولقد اختبرنا آل فرعون وامتحنّاهم وابتليناهم بسنين الجوع بسبب قلّة الزّروع، أي في البادية، وبنقص الثّمرات، أي في الأمطار، قال رجاء بن حيوة: «كانت النّخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة» ، ثم قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ليتذكّروا ويتّعظوا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم لآيات الله وعن ظلمهم لبني إسرائيل، ويؤمنوا بالله ربّا، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه السّلام لأنّ من سنّته تعالى أن يرسل الزّواجر تنبيهات، ودلّت التّجارب على أنّ الشّدائد تليّن النّفوس، فتكون المصائب والآفات ونقص الثّمرات سببا في رجوع الناس إلى الله تعالى، فإن عادوا إلى ربّهم واهتدوا كان الخير والرّخاء، وإن أعرضوا كان القحط والجدب والهلاك المحتوم، وقد أعرض آل فرعون عن الاستجابة لدعوة موسى بعد أن أنذرهم، فكانوا من الهالكين. ثم بيّن الله تعالى أنّ المصائب زادت آل فرعون عتوّا وبغيا، فقال: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ... أي إذا جاءهم الخصب والرّزق وزيادة الثّمار والمواشي قالوا: لنا هذه، يعني هذا لنا بما نستحقّه من العمل والمعرفة والتّفوّق، وإن أصابتهم سيئة، أي جدب وقحط، تشاءموا بموسى ومن معه، وقالوا: هذا بسببهم وما جاؤوا به، وغفلوا عن واجب شكر نعمة الله، وعن سيئاتهم وفساد أعمالهم وشرور أنفسهم، كما قال تعالى في حقّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء 4/ 78] . ثمّ ردّ الله عليهم بقوله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي إن كلّ ما يصيبهم من خير أو شرّ، فهو بقضاء الله وقدره، فالله جعل الخير ابتلاء ليعرف الشاكر

من الجاحد، وجعل الشّر ابتلاء أيضا ليعرف الصابر من الساخط، وليرجع أهل الغي والفساد عن غيّهم وفسادهم، ويقلعوا عن طغيانهم وضلالهم. والله تعالى أيضا جعل أعمال العباد سببا لما ينزل بهم من خير وشرّ غالبا. قال الزّمخشري في تفسير طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ: أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسّيئة، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله تعالى: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله، وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها [غافر 40/ 46] . «1» ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة الله في تصريف الكون، ولا يعلمون كيفية ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا أن الأمور تجري بالمقادير، وأنّ كل شيء عنده بمقدار، فليس الشؤم بسبب موسى وقومه، وإنما بسبب سوء العمل، وبمقتضى النظام الإلهي في قانون السّببية المذكور. وفضلا عن أن كلّا من الحسنات والسيئات لم تذكّرهم بما يجب عليهم نحو ربّهم، فإنهم تمرّدوا وعتوا، وعاندوا الحق، وأصرّوا على الباطل بقولهم لموسى: إن أي آية جئتنا بها، وأي حجّة ودلالة أظهرتها لنا، وأثبتها لإقناعنا وصرفنا عما نحن عليه من ديننا، رددناها ولم نقبلها منك، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، ولا نصدّق برسالتك وقولك أبدا. لذا عاقبهم الله على كفرهم وتكذيبهم وجرائمهم، فأرسل عليهم الطّوفان: وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار، كما قال ابن عباس، فالطّوفان: ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.

_ (1) الكشاف: 1/ 568- 569.

وأرسل عليهم الجراد، فأكلت كلّ زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء، حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب. ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى، فكشف عنهم بعد سبعة أيام. خرج موسى عليه السّلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النّواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا. فأقاموا شهرا، فسلّط عليهم القمّل: وهو كبار القراد، أو السّوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، أو صغار الذّباب أو البراغيث أو القمل المعروف الذي يلدغ ويمصّ الدّم، أي أنّه سلّط عليهم بعد الجراد من الآفات الزراعية من صغار الذّر كالدودة، فأكلت الزّروع واستأصلت كلّ شيء أخضر. ثم فزعوا إلى موسى فكشف عنهم، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه. فأرسل الله الضّفادع، فدخلت بيوتهم، وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلّم وثبت الضفدع إلى فمه، وامتلأت منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرّقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى، وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح، ولا نعود، فأخذ عليهم العهود، ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد. فأرسل الله عليهم الدّم، أي تحوّلت مياههم إلى دم، فكانوا إذا ما استقوا من الأنهار والآبار، وجدوه دما عبيطا، فشكوا إلى فرعون، فقال: إنه قد سحركم، فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دما. كلّ ذلك آيات مفصّلات أي واضحات بيّنات ظاهرات، لا يشكل على عاقل أنها من عند الله، ولا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة ونقمة على كفرهم، وهي دالّة

فقه الحياة أو الأحكام:

على صدق موسى، إذ قد توعّدهم بوقوع كلّ واحدة منها تفصيلا. أما فرعون وقومه فظلّوا على عنادهم وكبريائهم فاستكبروا عن عبادة الله، ولم يتّعظوا، وكانوا قوما مجرمين في حقّ أنفسهم وغيرهم، مصرّين على الجرم والذّنب. فقه الحياة أو الأحكام: ترشد الآيات في الجملة إلى قانون السّببيّة: وهو ربط الأسباب بالمسبّبات والنتائج على حسب مشيئته تعالى، وإلى أن ما يتعرّض له الناس من آفات زراعية ومصائب فهو بسبب أعمالهم. وأما تفصيلا فدلّت الآيات على أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار، لأجل أن يتركوا العناد والتّمرد، ويرجعوا إلى الانقياد والعبودية لله، لأن أحوال الشدّة ترقّق القلب، وترغّب فيما عند الله، كما قال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] ، وقال: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت 41/ 51] . وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ليتّعظوا وترقّ قلوبهم، يدلّ على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكّروا، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر. وأول آية على فرعون وقومه من آيات العقاب: السّنين أي الجدوب، يقال: أصابتهم سنة أي جدب، وفي الحديث الثابت: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنّي يوسف» . يروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام، وقيل: شهر، وقيل: أربعون يوما. والثانية: نقص محصول الثّمار وغلاته نقصا شديدا مريعا، لا يكفي أحدا.

وهذان عقابان، كلّ منهما أخفّ من أنواع العقاب الأخرى، بدءا بالتّدرج في العذاب لعلّهم ينزجروا، ولكن القوم عند نزول تلك المحن عليهم لم يتّعظوا ولم يرعووا، وإنما أقدموا على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم، فقال تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ الآية. فهم ينسبون الخير من الخصب والثّمار وسعة الرّزق والعافية والسّلامة والمواشي إلى أنفسهم، مدّعين أنهم جديرون بذلك، مستحقّون للإكرام والإنعام، لتفوّقهم وذكائهم، وعملهم ومعرفتهم. أمّا الشّر من الجدب والقحط والمرض والضّر والبلاء فهو بسبب موسى وقومه وشؤمهم. والحقّ أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عزّ وجلّ بذنوبهم، لا من عند موسى وقومه، ولكنّهم قوم يجهلون هذا المعنى، فطائرهم عند الله، أي ما قدّر لهم وعليهم. أمّا التّطيّر والتّشاؤم فجاء الإسلام بالنّهي عنه عند سماع صوت طائر ما كان، وعلى أي حال كان، لأن الواحد من أهل الجاهلية كان كثيرا إذا أراد الحاجة أتى الطّير في وكرها فنفّرها، فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السّائح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم، فنهي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن هذا بقوله فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز: «أقرّوا الطّير على مكناتها» أي بيضها أو على تمكنها فلا تنفّروها. وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس، فمرّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شرّ. وقال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر: «لا طيرة ولا هام» . قال العلماء: وأما أقوال الطّير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم

بكائن، فضلا عن مستقبل فتخبر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطّير، إلا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلّى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فالتحق الطّير بجملة الباطل «1» . وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطّيرة شرك- ثلاثا- وما منّا إلا «2» ، ولكن الله يذهبه بالتّوكل» . واشتدّ تمادى قوم فرعون في عنادهم، فقالوا لموسى: مهما تأتنا من آية لتصرفنا عما نحن عليه، فلن نصدق بك. ففي الآية الأولى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أسندوا حوادث هذا العالم، لا إلى قضاء الله تعالى وقدره، ثم وقعوا بجهالة وضلالة أخرى في الآية الثانية: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ وهي أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السّحر، وجعلوا جملة الآيات الدّالة على صدق موسى مثل انقلاب العصا حيّة من باب السّحر منهم، وقالوا لموسى: إنّا لا نقبل شيئا منها البتة. قال ابن عباس: إن القوم لما قالوا لموسى: مهما أتيتنا بآية من ربك، فهي عندنا من باب السّحر، ونحن لا نؤمن بها البتة، وكان موسى عليه السّلام رجلا حديدا، فعند ذلك دعا عليهم، فاستجاب الله له، فأرسل عليهم الطّوفان الدّائم ليلا ونهارا، سبتا إلى سبت، ثم ذكر بقية الآيات الخمسة، وهي: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم. أمّا الطّوفان: فهو المطر الشّديد حتى عاموا فيه، وأمّا الجراد فأكل النّبات، وأما القمّل فلم يبق في أرضهم عودا أخضر. إلا أكلته، وأما الضّفادع فخرج من

_ (1) تفسير القرطبي: 7/ 226. (2) قال ابن الأثير: هكذا جاء في الحديث مقطوعا، ولم يذكر المستثنى، أي إلا وقد يعتريه التّطيّر، وتسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السّامع. وقوله: «ولكن الله يذهبه بالتّوكل» : معناه أنه إذا خطر له عارض التّطيّر، فتوكل على الله وسلّم إليه، ولم يعمل بذلك الخاطر، غفره الله له ولم يؤاخذه به.

البحر مثل الليل الدّامس ووقع في الثّياب والأطعمة، فكان الرّجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضّفادع، وأما الدّم فجرت أنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب. وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطّيّب. فاشتكوا إلى موسى وفرعون، فقال فرعون لموسى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ.. إلى آخر الآية الآتي بيانها. وتلك الآيات البيّنات لا يخفي على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره. ومع ذلك استكبروا عن عباده الله وعن الإيمان به وكانوا قوما مجرمين أي مصرّين على الجرم والذّنب. واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حلّ بأرض فأفسد، فقيل: لا يقتل، وقال أكثر الفقهاء: يقتل. احتجّ الأوّلون: بأنه خلق عظيم من خلق الله، يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم، أي لا تبعة عليه، وبما روى الطبراني والبيهقي عن أبي زهير، وهو ضعيف: «لا تقتلوا الجراد فإنه من جند الله الأعظم» . واحتجّ الجمهور: بأن في ترك الجراد فساد الأموال، وقد رخّص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ ماله، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال، كانت أولى أن يجوز قتلها. وروى ابن ماجه عن جابر وأنس بن مالك أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذ دعا على الجراد قال: «اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء» ، قال رجل: يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ قال: «إن الجراد نثرة «1» الحوت في البحر» .

_ (1) النّثرة: شبه العطسة.

اللجوء إلى موسى لرفع العذاب ونقض العهد وإغراق فرعون وقومه [سورة الأعراف (7) الآيات 134 إلى 136] :

وأما أكله فجائز في السّنّة، ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات، كنّا نأكل الجراد معه. وأكله جائز باتّفاق الأمة، وأنه إذا أخذ حيّا وقطعت رأسه أنه حلال بالاتّفاق، وذلك بمنزلة الذّكاة (الذّبح) . واختلفوا هل يحتاج إلى اصطياد؟ فقال الجمهور: لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات، كالحيتان، لما روى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أحلّ لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطّحال» . وذهب مالك إلى أنه لا بدّ للجراد من سبب يموت به، كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يطرح في النّار، لأنه عنده من حيوان البرّ، فميتته محرّمة. وأما الضّفادع فلا تؤكل إلا في مذهب مالك. اللجوء إلى موسى لرفع العذاب ونقض العهد وإغراق فرعون وقومه [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

الإعراب:

الإعراب: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ما: مصدرية، والمعنى: بعهده عندك، وهو النبوة، والباء إما أن تتعلق بقوله: ادْعُ لَنا أي أسعفنا بالدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة، وإما أن يكون قسما جوابه: لَنُؤْمِنَنَّ أي أقسمنا بعهد الله عندك لنؤمنن لَئِنْ اللام لام القسم. إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ: هم بالغوه: جملة اسمية في موضع جر صفة أَجَلٍ. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب فَلَمَّا كَشَفْنا. المفردات اللغوية: الرِّجْزُ العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس في شؤونهم. بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي من كشف العذاب عنا إن آمنا، والعهد: النبوة والرسالة، وكشف العذاب من إكرام الله لنبيه. فَلَمَّا كَشَفْنا بدعاء موسى العذاب عنهم لأجل مؤقت. يَنْكُثُونَ ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم. الْيَمِّ البحر المالح. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. غافِلِينَ متجاهلين لها لا يتدبرونها. التفسير والبيان: هذا هو الفصل التاسع من فصول قصة موسى مع فرعون، وهو أنه لما نزلت آيات العذاب المتقدمة على فرعون وجماعته الكافرين، اضطربوا وتضايقوا، وطلبوا من موسى عليه السّلام أن يرفع الله عنهم العذاب، وعاهدوه على الإيمان برسالته إن فعل، فلما دعا موسى ربه، فكشف عنهم، نقضوا العهد، كل مرة طلبوا فيها ذلك، حتى استأصلهم الله بالإغراق في البحر. والمعنى: ولما نزل العذاب الشديد بجماعة فرعون واضطربوا واشتد فزعهم، طلبوا من موسى أن يدعو ربه بسبب ما عهد عنده من النبوة والرسالة والكرامة والمحبة أن يكشف عنهم ما نزل بهم، وأقسموا له: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا ذلك العذاب لنصدقن برسالتك، ونؤمننّ بما جئت به من عند ربك، ولنرسلن معك بني إسرائيل إلى أرض الميعاد: فلسطين، كما طلبت منا، ليعبدوا ربهم كما شاؤوا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فلما رفع الله عنهم العقاب وكشف العذاب، مرة بعد أخرى، إلى أجل محدود منتهون إليه حتما، فمعذبون فيه، وهو الغرق، إذا هم ينقضون العهد ويخنثون في كل مرة. أي أنا لم نزل عنهم العذاب مطلقا، بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين، وعند حلول ذلك الأجل لا نرفع عنهم العذاب، بل نهلكهم به. والدليل أنهم بادروا بعدئذ إلى النكث بالعهد. وقد روي أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد والقمل والضفادع، وصيرورة مياههم دما فاسدا أسبوعا، ثم يطلبون من موسى الدعاء برفعه، ويعدونه بالإيمان بالله تعالى، ثم ينقضون العهد. ولما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات، ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم، ثم حان الأجل المؤقت، انتقم الله منهم، بأن أهلكهم بالغرق، بسبب تكذيبهم بآيات الله التي نزلت عليهم كلها، وكانوا غافلين عما يتبعها من العذاب في الدنيا والآخرة. والمراد بالغفلة هنا: الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها، فهم أعرضوا عنها، حتى صاروا كالغافلين عنها. أغرق الله الكافرين منهم ونجّى المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم، أغرقهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى، فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما أصبحوا في وسط البحر، أطبقه الله عليهم، فغرقوا عن آخرهم بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أمور أربعة: 1- اللجوء إلى موسى عند الشدة والضيق بدافع نداء الإيمان الفطري، وهذا شأن الناس غالبا لا يجدون في وقت المحنة غير الله ملجأ وملاذا.

وراثة بني إسرائيل أرض مصر والشام بعد الفراعنة والعمالقة [سورة الأعراف (7) آية 137] :

2- سمة جماعة فرعون: تكرار نقض العهود وخلف الوعود، وتمرير المصالح إلى وقت محدود. 3- كان الجزاء المحتم لقوم فرعون هو عذاب الاستئصال بالإغراق في البحر. 4- الواجب في الآيات النظر فيها وتدبرها والتأمل بأسبابها ونتائجها، ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها، وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم. وراثة بني إسرائيل أرض مصر والشام بعد الفراعنة والعمالقة [سورة الأعراف (7) : آية 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) الإعراب: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا: منصوب إما على أنه مفعول به لأورثنا، أي جعلنا ملوك الشام ومصر، وإما على الظرف، والعامل: يُسْتَضْعَفُونَ. الَّتِي بارَكْنا فِيها: الَّتِي إما في موضع نصب على الوصف لمشارق الأرض ومغاربها، وإما في موضع جر على الوصف للأرض. والضمير في فِيها: إما أن يعود إلى مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، وإما أن يعود إلى الْأَرْضِ وتقديره: مشارق الأرض التي باركنا فيها ومغاربها. ففصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على المضاف إلى الموصوف، وهذا جائز لغة، كقولك: أكرمت صاحب زيد وجاريته العاقل. ما كانَ يَصْنَعُ اسم كانَ مضمر فيها، وهو يعود على بِما: ويَصْنَعُ: خبرها، والهاء منه محذوفة، وتقديره: يصنعه، وهو عائد على اسم كانَ الضمير العائد على:

البلاغة:

بِما. وقيل: إن كانَ زائدة، وتقديره: ودمّرنا ما يصنع فرعون، وقد جاء زيادة: كان في كلامهم، فقالوا: زيد كان قائم، أي زيد قائم. البلاغة: ما كانَ يَصْنَعُ ووَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ: عدل فيهما عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الصورة في ذهن المخاطب، والأصل: ما صنعوا وما عرشوا. المفردات اللغوية: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا المراد جميع نواحيها أو جهاتها، والمراد بالأرض: أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية. بارَكْنا فِيها بالماء والشجر والخصب وسعة الأرزاق، وهي صفة للأرض. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي وصلت إلى آخر الحد، والمعنى: مضت عليهم واستمرت، من قولك: تم على الأمر: إذا مضى عليه، وكلمة الله: هي وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، في قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف 7/ 129] وقوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص 28/ 5] . بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أذى عدوهم. وَدَمَّرْنا أهلكنا وخربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ: ما كانوا يعملون ويبنون من العمارات والقصور. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره، أو ما يرفعون من السقائف والمباني للنبات والشجر المتسلق، كعرائش العنب، ومنه: عرش الملك. التفسير والبيان: هذا هو الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون، فبعد أن بيّن الله تعالى جزاء فرعون وملئه من أهل مصر على تكذيبهم بموسى، بالرغم من توالي الآيات الدالة على صدقه، وهو جزاء الظالمين، أبان تعالى جزاء المؤمنين الصابرين من بني إسرائيل، إذ أصبحوا ملوك مصر والشام بعد الفراعنة والعمالقة.

والمعنى: وأورثنا القوم المستضعفين من بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم وتعذيبهم واستخدامهم وأخذ الجزية منهم، أورثناهم أرض مصر والشام التي باركنا فيها بالخصب والنماء، وسعة الأرزاق والخيرات، ووفرة الأنهار، تحقيقا لوعدنا السابق وهو: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص 28/ 5- 6] . ومشارق الأرض ومغاربها: جهات الشرق والغرب بها، والمراد بالأرض: أرض مخصوصة، وهي أرض الشام ومصر لأنها هي التي كانت تحت سلطة فرعون، ولوصفها بالبركة، وذلك لا يليق إلا بأرض الشام، وقيل: المراد جنس الأرض لأن داود وسليمان من بني إسرائيل قد ملكا الأرض. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى.. أي مضت واستمرت ونفذت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل، بسبب صبرهم على أذى فرعون وملئه، وما كابدوه من الشدائد منهم، كما أمرهم موسى: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف 7/ 128] وهكذا فإن الصبر مفتاح الفرج. والحسنى: صفة للكلمة، تأنيث الأحسن. وقيل: معنى تمام الكلمة الحسنى: إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض لأنه إذا حصل الموعود به، فقد تم لك الوعد وكمل. تم وعد الله لهم حينما استقاموا، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس، ولم يصدر وعد آخر من الله بالعودة إلى الأراضي المقدسة مرة أخرى. وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع، وما كانوا يقيمونه من العرائش والسقف في البساتين، أو يبنونه من القصور الشاهقة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات واردة على سبيل المقارنة والموازنة بين المؤمنين والكافرين، وجزاء كل منهم، فلما بيّن الله تعالى إهلاك قوم فرعون معه بالغرق على وجه العقوبة، بيّن ما فعله بالمؤمنين من الخيرات، وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم. لقد أنقذ الله موسى وهارون وبني إسرائيل من ظلم فرعون وقومه، وكان عبورهم في البحر معجزة خارقة لموسى، إذ أوحى الله إليه بأن يضرب بعصاه البحر: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء 26/ 63] . وذلك لصموده مع أخيه في وجه الطاغية فرعون، أكبر ملك في أكبر دولة في الأرض، استعبدت شعب مصر عدة قرون، فما زالا يجادلانه بالحجج والبينات، حتى نصرهما الله، وهكذا فلا تستعظم قوة أي دولة كبري أمام قوة الحق، ويفعل الإيمان القوي في القلب المليء باليقين ما لا تفعله قوى الشر المتكاثرة، وهكذا يتصدى موسى وأخوه هارون لعدو الله، وقومهما أذلة مستضعفون، وفرعون مصر صاحب السلطة والمال والجند والأتباع، ثم ينتصر الضعفاء، ويتلاشى الأقوياء: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران 3/ 13] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] .

جحود بني إسرائيل نعم الله عليهم [سورة الأعراف (7) الآيات 138 إلى 141] :

جحود بني إسرائيل نعم الله عليهم [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الإعراب: كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما: اسم موصول بمعنى الذي، ولَهُمْ: صلته، والعائد الضمير في لَهُمْ. وآلِهَةٌ: مرفوع إما على أنه بدل من الضمير المرفوع في لَهُمْ، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هي الهة، وإما على أنه مرفوع ب لَهُمْ على تقدير: كما استقر لهم آلهة. ما كانُوا يَعْمَلُونَ: كانُوا: صلة زائدة. أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً تقديره: أبغي لكم إلها غير الله، وغَيْرَ اللَّهِ: منصوب على الحال: لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصب على الحال. البلاغة: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أتى بالمضارع بدل الماضي إشعارا بأن ذلك منهم بمثابة الطبع الملازم لهم، لا يتخلون عنه ولو في المستقبل. المفردات اللغوية: وَجاوَزْنا عبرنا، يقال: جاز الشيء وجاوره وتجاوزه: انتقل عنه فَأَتَوْا فمروا. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ يقيمون على عبادتها. والأصنام: جمع صنم، وهو ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالي، بقصد تعظيمه تعظيم العبادة، وهو شرك. أما

المناسبة:

التمثال: فلا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، فإن عبد فهو صنم. وقد يتخذ التمثال للزينة كالمتخذ على جدران الأبنية أو في مداخل الجسور، وقد يكون التمثال لتذكر سيرة بعض القادة بقصد التعظيم غير الديني، كتماثيل بعض الزعماء والعلماء في الساحات العامة. اجْعَلْ لَنا إِلهاً صنما نعبده. إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه. مُتَبَّرٌ هالك، والتتبير: الإهلاك والتدمير. وَباطِلٌ زائل لا بقاء له. أَبْغِيكُمْ إِلهاً مثل أبتغيكم: أي أطلب لكم. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، أتبع ذلك بالنعمة العظمى: وهي أن الله جاوز بهم البحر مع السلامة. وهذا تكملة الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون. ثم ارتدوا وجهلوا وطلبوا من موسى عبادة الأصنام. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عما رآه من يهود المدينة، فقد فعلوا ما هو أعظم مع نبيهم موسى عليه السلام. وفي بيان ذلك تذكير للمؤمنين أن يشكروا نعمة الله، وألا يكونوا مثل بني إسرائيل. التفسير والبيان: أنقذ الله بني إسرائيل من كيد فرعون وملئه، فعبروا البحر آمنين بالسير في أرضه دون سفن، بعد أن أوحى الله لنبيه موسى بضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ثم أغرق الله فرعون وقومه حينما لحقوا بهم، وفي وسط البحر أطبق عليهم الماء، كما وصف تعالى هذا الحادث العجيب بقوله: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 63- 67] .

وبعد أن جاوز بنو إسرائيل البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، وشاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخصهم بالنجاة والسلامة، كانوا في غاية الجهالة والضلالة وجحود النعمة، إذ طلبوا من موسى اتخاذ إله من الأصنام، تأثرا بما رأوه من بعض العرب أو من غيرهم يعبدون الأصنام ويعظمونها ويلازمونها ويقبلون عليها، وتشبها بالمصريين الذين كانوا يعبدون التماثيل. وكأنهم لم يدركوا معنى التوحيد الذي دعاهم إليه موسى عليه السّلام. أما القوم الذين رأوهم فهم من الكنعانيين (وهم الذين أمر موسى عليه السّلام بقتالهم) وقيل: كانوا من لخم. قال الطبري: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعدئذ. فقالوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، أي اجعل لنا صنما نعكف عليه ونلازمه، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أصنام يعكفون عليها، والمراد أنهم طلبوا منه أن يعين لهم أصناما. وهذا يدل على تأثرهم بالبيئة المصرية وحنينهم لها، وعلى نزعتهم المادية بتجسيد الإله في صورة معدن أو حجر. فأجابهم موسى تعجبا من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع، فإنهم جهلوا مقام التوحيد، وما يجب من إفراد الله بالعبادة بلا واسطة من إنسان أو مادة، جهلوا عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل. واتخاذ الواسطة إلى الله بهذه الأصنام كفر فقد أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم،

ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام «1» . وهذه طريقة السذّج والجهلة، وقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك، روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط «2» ، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها، فقال: الله أكبر، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، إنكم تركبون سنن من قبلكم» . وتتمة ردّ موسى: إن هؤلاء يعني عبدة تلك التماثيل مدمّر مكسّر ما هم فيه، وزائل ما كانوا يعملون من عبادتها فيما سلف، فكل ما عملوه مضمحل الأثر، لا ينتفعون به، بل يعاقبون عليه، وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . وفي عبارة القرآن: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وهذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض. ثم قال لهم موسى: أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أطلب لكم معبودا؟ وهو الذي فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، أي عالمي زمانهم بالتوحيد وهداية الدين وتجديد ملة إبراهيم عليه السلام. ثمّ ذكّرهم موسى عليه السّلام نعم الله العظمى عليهم، من إنقاذهم من أسر

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 223. (2) كان للكفار سدرة أي شجرة السدر، يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط.

فقه الحياة أو الأحكام:

فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزّة والسيادة وخلافة الملك والسلطان، والاشتفاء أو الانتقام من عدوهم والنظر إليه وقت هلاكه وغرقه ودماره، بعد أن كان يسومكم سوء العذاب، بتقتيل أبنائكم، وترك نسائكم أحياء، وتسخيركم للخدمة. وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء عظيم، أي أن النعمة أو المحنة اختبار مهم جدا، فأنتم أجدر الناس بعبادة ربكم الذي منحكم نعمة الحياة والإنقاذ والعزة، وأولى من غيركم بشكر تلك النعم الجليلة، وهل هناك عجب أشد من هذا العجب أن تطلبوا جعل آلهة مزيفة عاجزة خسيسة ضعيفة واسطة بينكم وبين الله الذي فضلكم عليها وعلى من يعبدونها. والمراد بقوله: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ أي اذكروا ذلك الوقت، والقصد ذكر ما حصل فيه، حتى يشكروا الله عليه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى: وَجاوَزْنا على جهالة بني إسرائيل بحقيقة التوحيد الذي جاء موسى عليه السّلام من أجل إرشادهم إليه، فقد طلبوا منه أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا تماما مشابه لفعل عبدة الأوثان حيث قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] . قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرّقة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر ولهذا أخرج لهم السامري عجلا. ونظيره قول جهال الأعراب في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى «ذات أنواط» «1» يعظمونها في كل سنة يوما: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام- كما

_ (1) ينوطون بها سلاحهم، أي يعلقونه.

تقدم-: «الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لتركبنّ سنن من قبلكم حذو القذّة «1» بالقذّة، حتى إنهم لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه» وكان هذا في مخرجه إلى حنين. وإن طلب إله آخر هو في غاية الجهل لأن المعبود المستحق للعبادة والتعظيم هو القادر على خلق الأجساد والحياة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى، فلا تليق العبادة إلا به. ودلت آية: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ على أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وأن عهد الوثنية من الأرض سينتهي، لمناقضته العقل والفطرة. وقد ندد موسى عليه السّلام بطلب بني إسرائيل من نواح أربع: أولها- أنه حكم عليهم بالجهل، فقال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. وثانيها- أنه قال: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي سبب للخسران والهلاك. وثالثها- أنه قال: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعا في الدنيا والدين. ورابعها- التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة

_ (1) القذّة: ريش السهم، قال ابن الأثير: يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

مناجاة موسى لربه أو مكالمة موسى ربه وطلبه رؤية الله وإنزال التوراة عليه [سورة الأعراف (7) الآيات 142 إلى 145] :

وجميع النعم، وهو المراد من قوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم. ومن المعروف أن بني إسرائيل يجحدون نعم الإله عليهم، فالله أنعم عليهم بتفضيلهم على عالمي زمانهم، وهي نعمة عظيمة، فكيف يليق بهم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؟! وأنعم عليهم بالعزة بعد الذلة، وبالسلطان والحكم والخلافة في الأرض بعد العبودية والاستعمار والتبعة، وبالنجاة من ظلم فرعون الذي كان يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم أحياء. والخطاب وإن كان ليهود عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو تذكير لهم بإنجاء أسلافهم. مناجاة موسى لربه أو مكالمة موسى ربه وطلبه رؤية الله وإنزال التوراة عليه [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

الإعراب:

الإعراب: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً أي تمام ثلاثين ليلة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو في موضع المفعول الثاني لواعدنا. ولا يجوز أن يكون ثَلاثِينَ منصوبا على الظرف لأن الوعد لم يكن في الثلاثين. وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً: حال، كأنه قال: فتم ميقات ربه معدودا أربعين ليلة، وليلة: تمييز. وهارُونَ مجرور على البدل من لِأَخِيهِ أو على عطف البيان. جَعَلَهُ دَكًّا إما منصوب على المصدر من: دككت الأرض دكّا، إذا جعلتها مستوية. وإما أن يكون منصوبا على المفعول، وفيه حذف مضاف لأن الفعل الذي قبله ليس من لفظه وهو «جعل» وتقديره: فجعله ذا دكّ، أي ذا استواء. لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور قبله وهو مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. البلاغة: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فيه التفات من الغيبة أي (سأريهم) إلى الخطاب، للمبالغة في الحض على انتهاج طريق الصالحين. المفردات اللغوية: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً أي وعدناه بأن نكلمه عند انتهائها، وبعد أن يصومها، وهي ذو القعدة، فصامها، فلما تمت أنكر خلوف- رائحة- فمه، فاستاك، فأمره الله بعشرة أخرى، ليكلمه، بسبب إزالة خلوف فمه وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ وقت وعده بكلامه إياه، والميقات: ما قدر فيه عمل من الأعمال، كمواقيت الصلاة والصوم والحج. أما

المناسبة:

الوقت: فهو وقت للشيء قدر فيه عمل أو لم يقدر. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ عند ذهابه للجبل للمناجاة اخْلُفْنِي كن خليفتي وَأَصْلِحْ أمرهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ بموافقتهم على المعاصي. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي للوقت الذي وعدناه للكلام فيه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة لَنْ تَرانِي لن تقدر على رؤيتي، والتعبير به دون (لن أرى) يفيد إمكان رؤيته تعالى. فَإِنِ اسْتَقَرَّ ثبت فَسَوْفَ تَرانِي أي تثبت لرؤيتي، وإلا فلا طاقة لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ انكشف وظهر نوره، قدر نصف أنملة الخنصر، كما في حديث صححه الحاكم دَكًّا مدكوكا مستويا بالأرض صَعِقاً مصعوقا مغشيا عليه لهول ما رأى أَفاقَ عاد إليه رشده وعقله وفهمه سُبْحانَكَ تنزيها لك تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال ما لم أؤمر به أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ في زماني. اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ أهل زمانك وَبِكَلامِي أي تكليمي إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ من الفضل وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لأنعمي الْأَلْواحِ أي ألواح التوراة، وكانت سبعة أو عشرة، وهي من سدر الجنة، أو زبرجد أو زمرّد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين وَتَفْصِيلًا تبيينا بِقُوَّةٍ أي يجد وعزيمة واجتهاد سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فرعون وأتباعه، وهي مصر، لتعتبروا بها. المناسبة: بعد أن عدد الله تعالى طائفة من النعم على بني إسرائيل، كإنجائهم من عبودية فرعون، وجعلهم أمة مستقلة، ذكر هنا كيفية نزول التوراة على موسى، التي هي دستور حياتهم، وتبيان شريعتهم والأحكام التي أمر ربهم بها. وسبب الآيات: هو ما روي أن موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر: إن أهلك الله عدوهم، أتاهم بكتاب من عند الله، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فهذه الآيات في بيان كيفية نزول التوراة «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 226.

التفسير والبيان:

وموضوع الآيات: تحديد موعد لموسى لمكالمة ربه، واستخلاف هارون على بني إسرائيل في غياب موسى، وطلب موسى رؤية الله عز وجل، وإنزال التوراة المتضمنة أصول الشريعة. التفسير والبيان: امتن الله على بني إسرائيل بما ظفروا به من الهداية، بتكليمه موسى عليه السلام، وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم. والمعنى: وعد الله تعالى موسى مكالمته، في تمام ثلاثين ليلة، وأمره بصومها، فصامها، وهي شهر ذي القعدة، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه، فاستاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل صيام عشرة أيام أخرى من ذي الحجة، وأن يلقى الله صائما، فأصبح موعد اللقاء في تمام أربعين ليلة، ذكرت في سورة البقرة مجملة، وفصلت هنا. وإنما قال: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين: لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين، ثم أتمه بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام «1» . روي عن أبي العالية أنه قال في بيان زمان الموعد: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة، فمكث على الطور ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح، فقرّبه الرب نجيا، وكلمه وسمع صريف القلم. قال ابن كثير: فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى:

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 226، أحكام القرآن للجصاص: 3/ 34.

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة 5/ 3] «1» . وقال موسى حين أراد الذهاب إلى الطور لميقات ربه لأخيه هارون الأكبر منه سنا: كن خليفتي في القوم مدة غيابي، وأصلح أمر دينهم، ولا تتبع سبيل أهل الفساد والضلال، وهو يشمل مشاركتهم في أعمالهم الفاسدة. وهذا تنبيه وتذكير وتأكيد، وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله. وكان هارون وزيرا لموسى بسؤاله ربه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 29- 32] . وكانت الرياسة في بني إسرائيل لموسى عليه السلام. ولما جاء موسى لميقات الله تعالى المحدد له للكلام مع ربه وإعطائه الشريعة، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة وسمعه السبعون المختارون للميقات، رغب في الجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية، فقال: أرني ذاتك المقدسة، وقوّني على النظر إليك، فقال الله له: لن تراني الآن ولا في المستقبل في الدنيا إذ ليس لبشر القدرة على النظر إلى في الدنيا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه- أنواره- ما انتهى إليه بصره من خلقه» . ثم أبان له أنه لا يطيق الرؤية فقال مستدركا: ولكن انظر إلى الجبل، فإن ثبت مكانه عند التجلي الأعظم عليه، فسوف تراني. وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يستطع أن يثبت، فكيف أنت يا موسى؟ فلما تجلى ربه للجبل، وما تجلى منه إلا قدر الخنصر، جعله ترابا مدكوكا، وخرّ- سقط- موسى مغشيا عليه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 243.

فلما أفاق من إغماءته وغشيانه أو صعقته، قال: سبحانك، أي تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراك أحد في الدنيا إلا مات. إني تبت إليك من طلب الرؤية أي أن أسألك الرؤية، وأنا أول المؤمنين في زماني من بني إسرائيل بعظمتك وجلالك، وفي رواية عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. ثم طيب الله خاطره وأبان له مكانته، فقال له: يا موسى إني اخترتك على ناس زمانك وآثرتك عليهم بتكليمي إياك وبإعطائك رسالاتي المتنوعة، فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهي التوراة، وكن من جماعة الشاكرين نعمي، المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك. مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الموعظة: تشمل كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة من المعصية، والتفصيل: بيان أقسام الأحكام، أي وأعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ المؤثرة، والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام وأصول العقيدة والآداب، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة، وهي أول ما أوتيه من التشريع. فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي فقلنا له: خذها عطفا على كَتَبْنا أي فخذها بقوة وجد وعزيمة، أي وعزم على الطاعة ونية صادقة، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها، أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ. ومعنى بِأَحْسَنِها أي بحسنها وكلها حسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فليأخذوا بما فيه الحسن والصواب، كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر 39/ 55] . سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، وكيف يصير إلى الهلاك والدمار.

فقه الحياة أو الأحكام:

قيل: أراد بها مصر، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية منهم. وقال قتادة: سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها يعني الشام وأهل الشام، أي منازل عاد وثمود والشعوب التي أهلكها الله بسبب الفسق، وتمرون عليها في أسفاركم. قال ابن كثير: وهذا هو الأولى لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه. وإذا كان المراد مصر فإن الله تعالى لما أغرق فرعون، أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك الفاسقين. وهذا رأي أكثر المفسرين. قال ابن جرير الطبري: وإنما قال: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه: سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. أي أن في آية سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وجهين: إما التهديد الوعيد على مخالفة أمر الله تعالى، وإما الاعتبار بمن أهلكهم الله، وهم إما فرعون وجنوده، وإما منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- تعظيما لشأن الميقات أو الموعد بتكليم الله أمر الله موسى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي في رأي، أو أنه أزال خلوف فمه بنهاية صوم الثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة في رأي الكثيرين، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة. فهذا هو فائدة تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.

2- إنه تعالى كلّم موسى عليه السلام، وكلام الله تعالى في قول أكثر أهل السنة والجماعة صفة أزلية قديمة، مغايرة للحروف والأصوات، فليس كلام الله حرفا ولا صوتا، وقد سمع موسى عليه السلام تلك الصفة الحقيقية الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت، وإلا كان كلامه محدثا. 3- قد سمع السبعون المختارون للميقات أيضا كلام الله تعالى لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام، ثم إن حادثة التكليم معجزة لموسى، فلا بد من اطلاع غيره عليها. 4- أنزل الله تعالى على موسى في هذه المكالمة الألواح وفيها التوراة المشتملة على أصول العقيدة والأخلاق والآداب والشريعة والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام، عن مقاتل: كتب في الألواح: «إني أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين، فإن من حلف باسمي كاذبا، فلا أزكيه، ولا تقتلوا، ولا تزنوا، ولا تعقّوا الوالدين» . 5- يجب تلقي الشريعة بحزم وجد وعزم على الطاعة وتنفيذ ما ورد فيها من الصلاح والإصلاح ومنع الفساد والإفساد، وتكوين الأمة تكوينا جديدا. والأخذ بأحسن ما في التوراة وكل ما فيها حسن وهو الأخذ بالفرائض والنوافل، دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب «1» . 6- اعتز شعب إسرائيل حين أقام شريعته، فلما غلب عليه الغرور، وظن أنه شعب الله المختار، وظلم وفسق، سلط الله عليه البابليين، فأزالوا ملكه، ثم تاب فعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد، فسلط عليه النصارى، فهزموه وشتتوه.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 35. [.....]

وكذلك المسلمون لما عصوا كتاب ربهم وأهملوه، سلط الله عليهم الأعداء من كل جانب، فأفسدوا أفكارهم وعقيدتهم وأخلاقهم، وأوقعوا الشقاق والنزاع بينهم. والخلاصة: أن الأمة تكون عزيزة الجانب مرهوبة ما دامت متمسكة بدينها، فإذا أهملته انهارت وضاعت ولا يغترن أحد بدول أوربا وأمريكا وروسيا واليهود، فإن ذلك لأجل محدود، ولحكمة يعلمها الله تعالى. 7- الآراء في رؤية الله عز وجل: استدل المعتزلة بهذه الآية: لَنْ تَرانِي وبقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام 6/ 103] على نفي رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، وما كان طلب موسى عليه السلام الرؤية إلا تبكيت السفهاء الذين طلبوا الرؤية، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله بامتناع ذلك. وأثبت أهل السنة إمكان رؤية الله في الآخرة، بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] وبالأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: ما أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته ... » ومنها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهي المعبر عنها بقولهم: إنها رؤية بلا كيف. أما الآية هنا: لَنْ تَرانِي فتدل على أنه تعالى جائز الرؤية لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى ولأنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز وهو استقرار الجبل، وما علق على جائز الوجود فهو جائز ولأن موسى عليه

عقوبة التكبر والكفر بصرف المتكبرين عن فهم أدلة العظمة الإلهية [سورة الأعراف (7) الآيات 146 إلى 147] :

السلام سأل الرؤية، ولا يسأل إلا الجائز، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها، وحيث سألها، علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى. ثم إن التجلي في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا هو إما ظهور بالرؤية أو الدلالة، وبما أن الرؤية غير مقدورة للإنسان، فكان المراد ظهور آياته التي أحدثها لحاضري الجبل، أي أن المقصود تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى، بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه. وفي نهاية الحادثة تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وكأنه قال له: إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية. وهذا أيضا يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى «1» . عقوبة التكبر والكفر بصرف المتكبرين عن فهم أدلة العظمة الإلهية [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

_ (1) تفسير الرازي: 14/ 229- 235، أحكام القرآن للجصاص: 3/ 34- 35.

الإعراب:

الإعراب: بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه وجهان: أن يكون حالا، بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده، وأن يكون صلة لفعل التكبر، أي يتكبرون بما ليس بحق. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ ذلِكَ: في محل الرفع مبتدأ، على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو في محل النصب، على معنى: صرفهم الله ذلك الصرف بسببه. وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، أو من إضافة المصدر إلى الظرف، بمعنى ولقاء ما وعد الله في الآخرة. المفردات اللغوية: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، ومنعهم فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي، فلا يفكرون فيها، ويتكبرون عن طاعتي. وآياتي: دلائل قدرتي من المصنوعات وغيرها يَتَكَبَّرُونَ أي يتكبرون عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق. والتكبر: غمط الحق بعدم الخضوع له، مع احتقار الناس غالبا. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ طريق الرُّشْدِ الهدى الذي جاء من عند الله، والصلاح والاستقامة، وضده الغي والسفه، والرّشد والرّشد في اللغة: أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضد الخيبة. الغَيِّ الضلال ذلِكَ الصرف كَذَّبُوا بِآياتِنا أي الآيات المنزلة من عندنا المشتملة على الهدى وتزكية النفوس. فالآيات هنا غير الآيات الأولى التي هي الدلائل والبينات. وَلِقاءِ الْآخِرَةِ البعث وغيره حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة، فلا ثواب لهم لانعدام شرط القبول وهو الإيمان. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما يجزون إلا جزاء عملهم من التكذيب والمعاصي. المناسبة: هذه الآيات تتحدث عن طبائع المتكبرين القدامى والمعاصرين، فبعد أن بيّن الله تعالى ما لحق بفرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه، ذكر أن امتناع قريش عن الإيمان إنما هو بسبب التكبر أيضا، وهذا يدل على أن منشأ

التفسير والبيان:

الإعراض عن الإيمان والإصرار عن الكفر هو التكبر، والكبر يصرف الإنسان عادة عن النظر في الحق ويؤدي إلى التكذيب به، ويجعل المتكبر غافلا عن آيات الله الدالة عليه. التفسير والبيان: سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي والمتكبرين على الناس بغير حق من فهم الدلائل الدالة على عظمتي وشريعتي، كما قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 61/ 5] . والمراد بآياتي هنا: الأدلة والبينات. وهذا خطاب شامل كل أمة وفرد، مثل فرعون وقومه الذين منعهم الله من فهم آيات موسى، وقد يفهمون بعض الآيات ويجحدونها غرورا وتعاليا وتكبرا مثل قوم فرعون الذين قال الله فيهم: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] ومثل كفار قريش الذين حجبهم الكبر عن النظر في الآيات مع يقينهم بصدق محمد. هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أولا- أنهم لا يؤمنون بأي آية تدل على الحق وتثبته إذ لا تفيد الآيات إلا من كان مستعدا للفهم وقبول الحق، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . وثانيا- أنهم يبتعدون عن طريق الهدى والرشاد، وهي الطريق الممهدة المؤدية إلى النجاة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يسلكها ويسلك غيرها، وهذا عن تعمد وعناد، وقد يكون بعضهم عن جهل، وحكم الفريقين واحد. وثالثا- أنهم إذا ظهر لهم سبيل الغي والضلال والفساد، بادروا إليه مسرعين، بما تزينه لهم أهواؤهم ونفوسهم الأمارة بالسوء، وهذا سلوك شر مما سبقه.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بعلة ثابتة وهي تكذيبهم بآيات الله المنزلة على رسله، وغفلتهم عن النظر بما فيها، وإعراضهم عن العمل بها. ومجمل حال هؤلاء المتكبرين أن الله لم يخلقهم مطبوعين على الكفر والضلال، ولم يجبرهم عليه، بل حدث ذلك باختيارهم إذ أنهم كذبوا بالآيات، وانغمسوا بأهوائهم وشهواتهم في بؤر الضلال والانحراف، وحجبوا أفهامهم عن إدراك الحق والهدى وسلوك سبيل السعادة والنجاة، فهم كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] . ثم أوضح الله تعالى مآل ما قد يعملونه من أعمال خيّرة في الدنيا: وهو إحباطها وإبطالها وتلاشي آثارها، وعدم ترتيب الثواب عليها، فقال: والذين كذبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا، ولم يؤمنوا بها، ولم يصدقوا بالآخرة والبعث وما فيه من جزاء على الأعمال ثوابا على الخير وعقابا على الشر، واستمروا على وضعهم هذا إلى الممات، بطلت أعمالهم، وذهبت سدى، لفقد شرط القبول وهو الإيمان، ولأن من سنته تعالى جعل الجزاء في الآخرة بحسب أعمالهم التي أسلفوها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكما تدين تدان. فقه الحياة أو الأحكام: هذه أحوال المتكبرين عن طاعة الله وعلى الناس، الظانين أنهم أفضل الخلق، وهو ظن باطل، لقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فلا يتبعون نبيا، ولا يصغون إليه لتكبرهم. يصرفهم الله تعالى عن التفكير في آيات الله الدالة على عظمته وشريعته

وأحكامه، بالطبع على قلوبهم، وإلقاء الغفلة على نفوسهم، وشغلهم بأهوائهم وشهواتهم، وهم في تركهم تدبر الحق كالغافلين عنه. إنهم يمنعون في معاداة الأنبياء، ويكذبون بالآيات المنزلة على الرسل، وينكرون وجود الآخرة، ولا يصدقون بكل آية، ويتركون طريق الرشاد، ويتبعون سبيل الغي والضلال، أي يتخذون الكفر دينا. واحتج أهل السنة بآية سَأَصْرِفُ على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه. وقالت المعتزلة: لا يمكن حمل الآية على ذلك، فليس المراد منها صرفهم عن الإيمان بآيات الله ولا خلق الكفر فيهم لأن قوله: سَأَصْرِفُ يتناول المستقبل، والكفر حدث منهم في الماضي، مما يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله، وإنما المراد العقوبة على التكبر والكفر. ولأنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه، فكيف يمكن أن يقول مع ذلك: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا؟ [الانشقاق 84/ 20، المدثر 74/ 49، الإسراء 17/ 94] «1» . ودل قوله تعالى: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ على أن الجزاء من جنس العمل، فمن آمن وعمل الصالحات فله الجنة، ومن كفر وعمل السيئات فله النار.

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 2- 3.

قصة اتخاذ السامري العجل [سورة الأعراف (7) الآيات 148 إلى 149] :

قصة اتخاذ السامري العجل [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) الإعراب: مِنْ حُلِيِّهِمْ جار ومجرور متعلق بفعل وَاتَّخَذَ والحلي: جمع حلي، وأصله حلوي على فعول، نحو فلس وفلوس، فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن، فقلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة. ومفعول (اتخذ) الثاني محذوف أي إلها. البلاغة: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن شدة الندم لأن النادم يعض على يده عادة ألما وحزنا. قال في (تاج العروس) : هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب. وذكرت اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر فيها بالعضّ أو بالضرب بها على اليد الأخرى، كما قال سبحانه في النادم: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف 18/ 42] . المفردات اللغوية: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي بعد ذهابه إلى جبل الطور للمناجاة مِنْ حُلِيِّهِمْ حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم لعرس فبقي عندهم، والحلي: ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة عِجْلًا صنع لهم السامري عجلا من الحلي بعد إذابته، والعجل: ولد البقرة كالمهر لولد الفرس، والحوار لولد الناقة جَسَداً جسما لَهُ خُوارٌ صوت يسمع، بوضع التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل في فمه. والخوار: صوت البقر كالرّغاء لصوت الإبل اتَّخَذُوهُ إلها وَكانُوا ظالِمِينَ باتخاذه.

المناسبة:

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ندموا على عبادته وَرَأَوْا علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بها بعد رجوع موسى. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة مناجاة موسى لربه وإنزال التوراة عليه، ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه على يد السامري عجلا مصوغا من الحلي (الذهب والفضة) تقليدا للمصريين في عهد الفراعنة الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها، ثم عبدوه من دون الله. وهذا هو الفصل الأول من قصة عبادة العجل. التفسير والبيان: اتخذ بنو إسرائيل بعد خروج موسى إلى جبل الطور، لمناجاة ربه، على حسب الموعد الذي وعده الله به، اتخذوا من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ، أي تمثالا بصورة العجل وصوته، ثم عبدوه. وكان بقاء حلي القبط في أيدي بني إسرائيل بعد أن أغرق الله القبط، وأهلك قوم فرعون. وقد جمع موسى السامري تلك الحلي، وكان رجلا مطاعا فيهم، وصاغ لهم عجلا، واتخذوه إلها لهم، ثم عبدوه. وإنما نسب إليهم جميعا لأنه عمل برأي جمهورهم، ولم ينكر عليه أحد، فصاروا مجمعين عليه، مريدين لاتخاذه، راضين به. وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها يعبدونه، كما لغيرهم من المصريين والشعوب التي مروا بها في فلسطين آلهة. واختلف المفسرون على قولين في هذا العجل، هل صار لحما ودما له خوار،

أو استمر على كونه من ذهب، إلا أنه يدخل فيه الهواء، فيصوت كالبقر «1» ؟. قال جماعة مثل قتادة والحسن البصري بالرأي الأول: وهو أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا، ما وطئ بها أرضا إلا حلّت فيها الحياة، واخضرّ نباتها، فأخذ كفا من أثرها، فألقاها في جوف ذلك العجل، فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى!. وقال أكثر مفسري المعتزلة بالرأي الثاني: إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا، ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص، وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح، فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب، ويظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل. ورأى آخرون أن ذلك الخوار كان تمويها يشبه عمل السحرة (الحواة) وذاك أنه جعل التمثال أجوف، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس، فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، والناس يفعلون مثل هذا في النافورات التي تقذف المياه «2» . ثم رد الله على اتخاذهم العجل إلها بقوله: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم ينظروا أنه فاقد لمقومات الإله، فلا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير، ولا يهديهم سبيل السعادة، فهو تعالى ينكر عليهم ضلالهم وذهولهم عن خالق السموات والأرض أن عبدوا معه عجلا فاقدا صفة الإله الحق، وهي الكلام الذي يصدر عنه الهداية والإرشاد، وهذا كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [طه 20/ 89] ولكن الجهل والعمى حجبهم عن إدراك الحقيقة، روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حبّك

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 247. (2) تفسير الرازي: 15/ 5 وما بعدها.

فقه الحياة أو الأحكام:

الشيء يعمي ويصمّ» . لذا قال تعالى مؤكدا ضلالهم: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ أي إنهم اتخذوه إلها بلا دليل ولا برهان، بل عن جهل وتقليد لغيرهم، كالمصريين الذين يعبدون العجل: «أبيس» والأقوام العاكفين على عبادة الأصنام في فلسطين، فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم، وإنما يضرهم. ولما عاد موسى من مناجاة ربه أو من الميقات، وكان قد أخبره الله تعالى، وهو على الطور، باتخاذ قومه عبادة العجل كما قال تعالى: قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه 20/ 85] لما عاد، ندم بنو إسرائيل على ما فعلوا، وهذا هو معنى قوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل، فتابوا واستغفروا ربهم، وقالوا: إن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا، ومغفرة ذنبنا، لنكونن من الهالكين، ومن الذين خسروا سعادة الدنيا وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد، وخسروا سعادة الآخرة وهي الإقامة في جنات النعيم. وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل. فقه الحياة أو الأحكام: يتبين من الآية أن بني إسرائيل يصعب عليهم الاستقرار على حال واحدة، وإن كانت هذه الحال من أسعد الأحوال، فهم قوم متناقضون، مترددون، متحيرون لا يدرون ماذا يفعلون، كثيرو الشكوى والضجر، قليلو الحمد والشكر على النعمة، نظرتهم أحيانا سطحية ساذجة، وتفكيرهم بدائي متأثر بالتقليد، والتقليد داء يسري في الأمة كما يسري في الفرد من حيث لا يشعر، أرادوا تقليد المصريين الذين عاشوا معهم في عبادة الأصنام والأوثان، وأكد حنينهم للوثنية ما وجدوه من عكوف على الأصنام عند الأقوام الذين سبقوهم في فلسطين. ووجد موسى السامري رغبتهم باتخاذ العجل إلها، فصاغه لهم بذكائه من الحلي، ولكنهم لم يفكروا في جدارة العجل للألوهية، وظلموا أنفسهم إذ إن هذا

العجل لا يمكنه أن يكلمهم، ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد، فهو إما جماد وإما حيوان عاجز، وفي الحالين فإنه لا يصلح للألوهية. ثم تابوا وندموا على سوء فعلهم، واستغفروا ربهم، وطلبوا منه قبول التوبة والمغفرة على ذنبهم العظيم، وتأكدوا كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم. وهذا إقرار واضح بالعبودية، واعتراف بألوهية الإله الحق، وفي قراءة حمزة والكسائي: لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا معنى الاستغاثة والتضرع والابتهال في السؤال والدعاء. وفي ذلك أيضا دلالة على اعترافهم بعظيم الجرم الذي أقدموا عليه، وأنه لا ملجأ من الله في إقالة عثرتهم إلا إليه. واحتج أهل السنة بآية: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ... على أن من لا يكون متكلما ولا هاديا إلى السبيل، لم يكن إلها لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلما، فمن لا يكون متكلما لم يصح منه الأمر والنهي. وبما أن العجل عاجز عن الأمر والنهي لم يكن إلها. وبمناسبة اتخاذ السامري العجل إلها لبني إسرائيل يذكر علماء التوحيد مقارنة لطيفة تدل على أن السعادة والشقاوة في علم الله من الأزل، فموسى بن عمران عليه السلام ربّاه فرعون، فكان مؤمنا بإلهام من الله تعالى، وموسى السامري ربّاه جبريل وكان في النهاية كافرا، وقال بعضهم: إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل ... فقد خاب من ربّى وخاب المؤمّل فموسى الذي ربّاه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل وهذا لا يعني أن التربية والتوجيه لا أثر لهما، وإنما للبيئة كما هو معروف في حديث «كلّ مولود يولد على الفطرة» «1» تأثير كبير، وللتربية دور مهم جدا،

_ (1) رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع.

غضب موسى وتعنيفه هارون لاتخاذ العجل إلها [سورة الأعراف (7) الآيات 150 إلى 151] :

فلولا المربي ما عرفت ربي، ولكن الإرادة الإلهية فوق كل شيء، والله غالب على أمره، ولله في خلقه شؤون، وله الحكمة العليا، وقد تجنح نفس الإنسان إلى السوء والفساد والانحراف، بالرغم من حسن التربية ورقابة المربي، كما نشاهد في بعض أولاد العلماء والصلحاء والأشراف. غضب موسى وتعنيفه هارون لاتخاذ العجل إلها [سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) الإعراب: ابْنَ أُمَّ أمّ: تقرأ بكسر الميم وفتحها، فمن كسر الميم فعلى الأصل لأن الأصل فيه: أمّي، وتكون فتحة ابْنَ فتحة إعراب لأنه منادى مضاف. ومن فتح الميم بنى ابن مع أم، وجعلهما بمنزلة اسم واحد، كخمسة عشر، وتكون فتحة ابْنَ فتحة بناء، وليست بإعراب. المفردات اللغوية: غَضْبانَ بسبب فعل قومه أَسِفاً شديد الحزن، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قول يعقوب: وَقالَ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف 12/ 84] وقد يستعمل الأسف بمعنى الغضب مثل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف 43/ 55] قال أبو الدرداء: الأسف: أشد الغضب.

المناسبة:

بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خروجي إلى ميقات ربي لمناجاته. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ استعجلتم، والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته أما السرعة فهي عمل الشيء في أول أوقاته وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرح ألواح التوراة غضبا لربه، فتكسرت وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعره بيمينه، ولحيته بشماله يَجُرُّهُ إِلَيْهِ غضبا على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة ابْنَ أُمَّ ذكر الأم أعطف لقلبه وَكادُوا قاربوا فَلا تُشْمِتْ تفرح، والشماتة: الفرح بالمصيبة، ولا تشمت بي الأعداء: بإهانتك إياي. وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بعبادة العجل في المؤاخذة. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة السامري باتخاذ العجل إلها لبني إسرائيل، ذكر أثر ذلك ووقعة على موسى إذ أنه في حال رجعته، كان غضبان أسفا، واشتد أساه وحزنه حين رأى الواقع المؤلم من ضلال قومه وغيهم، فبادر إلى تعنيف أخيه هارون بسبب عبادة قومه العجل، ولامه على سكوته على قومه. وهذا هو الفصل الثاني من قصة عبادة العجل. التفسير والبيان: أخبر الله موسى بفعل بني إسرائيل، وهو على الطور، بقوله: قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، قالَ: يا قَوْمِ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه 20/ 85- 86] . فكان موسى أثناء رجوعه من الميقات غضبان أسفا، أي ساخطا شديد الحزن والأسى، وقال لقومه: بئسما فعلتم من بعد غيبتي، وبئست الخلافة التي خلفتموها من بعد ذهابي إلى جبل الطور لمناجاة ربي، حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري، وتركتم عبادة الله وتوحيده، وقد كنت أوضحت لكم عقيدة التوحيد، وغرست في قلوبكم تلك العقيدة، وطهرت نفوسكم من الشرك والوثنية، وحذرتكم من ضلال القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من

تماثيل البقر. وكان موسى في ذلك كله شديد الشكيمة، قوي العزيمة، لقنهم التوحيد الخالص، وأنكر عليهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم. وقال موسى: أعجلتم أمر ربكم؟ أي استعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له، وهو ما وعدكم من الأربعين، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين، فقد مات «1» ، أي تعجلتم في الحكم علي. قال الزمخشري: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده، وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه 20/ 88] إن موسى لن يرجع وأنه قد مات «2» . وطرح موسى الألواح من يده، لما اعتراه من فرط الدهشة، وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله، وحمية لدينه، وكان في نفسه حديدا (ذا حدة) شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى. وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح» . وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته، لشدة ما استفزه من الأمر،

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 11. (2) تفسير الكشاف: 1/ 578.

وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه قصر في خلافته، وفرط في كفّ القوم عن عبادة العجل، ومن حق الخليفة اتباع سيرة سلفه: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه 20/ 92] أي أن تتبعني إلى جبل الطور. ولقد كان موسى عليه السّلام معذورا فيما فعل فهو غضب للحق، فقد كان نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمات الله، كان أشد ما يكون غضبا لله. فأجابه هارون قائلا: يا ابن أمي، لا تتعجل بلومي وتعنيفي واتهامي بالتقصير في واجبي نحو الله تعالى، فإني أنكرت عليهم، ونصحتهم، ولكن القوم استضعفوني فوجدوني فردا واحدا، ولم يلتفتوا إلى كلامي، بل قاربوا أن يقتلوني. يا ابن أمي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ، أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلى، ولا تجعلني في حنقك علي، وعقوبتك لي قرينا لهم وصاحبا، أو ولا تعتقد أني واحد من زمرة الظالمين لأنفسهم، يعني الذين عبدوا العجل، مع براءتي منهم ومن ظلمهم. ولما اعتذر إليه أخوه واستعطف قلبه قال موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما قد فرط مني من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة لأخي، واغفر لأخي ما قد فرط أثناء خلافته عني، من مؤاخذة القوم على ما ارتكبوه من جرم وإثم، وأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ الواسعة، فأنت أرحم الراحمين، أي اجعل رحمتك ملازمة لنا لا تفارقنا في الدنيا والآخرة. دعا موسى بهذا الدعاء ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا يشمتون به.

فقه الحياة أو الأحكام:

ودل ذلك على أن هارون كان دون موسى في شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم. وأرشد اعتذار هارون أنه بريء من جريمة اتخاذ العجل إلها، وأنه لم يقصر في نصحهم والإنكار عليهم، وقد غفر الله له. وهذا مخالف لما في التوراة أن هارون هو الذي صنع العجل لهم. فقه الحياة أو الأحكام: تختلف أحوال الناس وطبائعهم في سياسة الآخرين والاحتكاك بهم، فمنهم الحاد الطبع، السريع الانفعال كموسى عليه السّلام، الذي غضب للحق، وهو محق فيما فعل، ومتوقع منه كل ما فعل، ومنهم الهادي الطبع، اللين العريكة، الحليم مثل هارون عليه السّلام الذي لم يأل جهده في الإنكار على قومه، ولكنهم لم يرعووا لنصحه وهمّوا بقتله. ولم يغضب موسى لخبر ربه غضبا مماثلا لما شاهده من الواقع المر لأنه ليس الخبر كالعيان، والشاهد يتألم ويتأثر عادة أكثر مما يتأثر به الغائب لأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب. وكل هذه أحوال نفسية فطرية، لا سلطان للإنسان عليها، ومن المعروف أن الأمور الجبليّة من غضب وسرور ونحوهما لسنا مكلفين بها. أما إلقاء موسى الألواح فكان بسبب دهشته واستفزازه ومن غير شعور منه تأثرا بما رأى، ففعل ما فعل، ولم يدر ما صنع. ولم يتعمد كسر الألواح، بل كان في غيبة وانفعال شديد، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه. وأما أخذه برأس أخيه يجره إليه من شعره ولحيته فلا يتنافى مع عصمة الأنبياء لأنه لم يفعل ذلك على سبيل الإهانة والإذلال والاستخفاف، وإنما على

سبيل الإكرام والتعظيم، كما تفعل العرب عادة من قبض الرجل على لحية أخيه إكراما وتعظيما. ولكن هارون كره ذلك لئلا يظن بنو إسرائيل أنه إهانة. وكان هارون أكبر من موسى عليهما السّلام بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ليّن الغضب. ثم إن موسى فعل ذلك بأخيه لظنه أو توهمه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل، ومثل هذا الميل لا يجوز على الأنبياء. وزال الإشكال باعتذار هارون أن عبدة العجل استضعفوه، وقاربوا يقتلونه، فقبل موسى عذره ودعا له ولأخيه بالمغفرة وطلب الرحمة، المغفرة له على ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، والمغفرة لأخيه لما ظنه أنه مقصّر في الإنكار عليهم، وإن لم يقع منه تقصير، أي اغفر لي طرح الألواح، ولأخي إن قصر. قال الحسن البصري: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثمّ مؤمن غير موسى وهارون، لما اقتصر على قوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا. وإنما أقام هارون ولم يتبع أخاه موسى إلى الطور، خوفا على نفسه من القتل، فدلت الآية على أن من خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر له أن يسكت. قال ابن العربي: هذا دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام، كما زعم بعض الناس، فإن موسى عليه السّلام لم يغيّر غضبه شيئا من أفعاله، بل اطّردت على مجراها من إلقاء لوح، وعتاب أخ، وصكّ ملك «1» . قال المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 783.

جزاء الظالمين باتخاذ العجل وقبول توبة التائبين [سورة الأعراف (7) الآيات 152 إلى 153] :

وكان موسى لشدة حدته فيما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة، أنه لما أرسل ملك الموت إليه، صكّه صكّة، ففقأ بها عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن ... الحديث. جزاء الظالمين باتخاذ العجل وقبول توبة التائبين [سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 153] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) الإعراب: اتَّخَذُوا الْعِجْلَ المفعول الثاني محذوف، والتقدير: اتخذوا العجل إلها ومعبودا. وَالَّذِينَ عَمِلُوا ... وَالَّذِينَ: مبتدأ مرفوع، والجملة من إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ باسمها وخبرها في موضع رفع، خبر المبتدأ. المفردات اللغوية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ عذاب وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم، أي قتل بعضهم بعضا، كما تقدم في سورة البقرة. وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا شعور بهوانهم على الناس، واحتقارهم لهم، وخروجهم من ديارهم وَكَذلِكَ أي كما جزيناهم نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على الله بالإشراك وغيره ثُمَّ تابُوا رجعوا عن السيئات وَآمَنُوا بالله مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم.

المناسبة:

المناسبة: الربط بين هذه الآيات وما قبلها واضح، فبعد أن ذكر تعالى عتاب موسى لأخيه هارون عليهما السّلام، ثم استغفاره لنفسه ولأخيه، ذكر جزاء الظالمين باتخاذ العجل إلها ومعبودا، وقبول توبة التائبين. وهذا هو الفصل الثالث من قصة عبادة العجل. التفسير والبيان: إن الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل إلها ومعبودا بعد غيبة رسولهم موسى عليه السّلام، وبقوا على تأليهه واستمروا على عبادته كالسامري وأتباعه، سيصيبهم عذاب شديد من ربهم، وهو المذكور في سورة البقرة، وهو أن الله تعالى لن يقبل توبتهم حتى يقتتلوا، ويقتل بعضهم بعضا: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 54] . وسينالهم أيضا ذلة وصغار في الحياة الدنيا، بخروجهم من ديارهم وتشردهم، وهوانهم على الناس واحتقارهم لهم، وتهالكهم على حب الدنيا، فهم الماديون المنبوذون المكروهون في كل أمة، وتلك هي ذلة عظيمة المعنى، ونظيره قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة 2/ 61] والذلة بمعناها القريب والبعيد. وأما قيام دولتهم في فلسطين فهي محنة للمسلمين، فربما أناس سلّط عليهم من هو شر لهم، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن بقاء دولة الصهاينة في فلسطين شيء مستحيل، ولا تؤيده الظروف والقرائن المشاهدة، وقد بشرت الأحاديث النبوية بقتلهم وطردهم منها، ولكل أجل كتاب. ومثل ذلك الجزاء الذي نزل بالظالمين من بني إسرائيل في الدنيا نجزي القوم

المفترين على الله في كل زمان، والمعنى: أن كل مفتر في دين الله جزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا. ويشمل ذلك كل من افترى بدعة وخالف الرشاد، وقال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين «1» . وروى عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فقال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل «2» . ومن عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها، فبعد أن ذكر جزاء الظالمين، فتح باب الأمل أمام التائبين، فنبه الله تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبتهم من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق، فقال: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ... أي والذين ارتكبوا الأعمال السيئة والمعاصي المنكرة شرعا وعلى رأسها الكفر والشرك، ثم تابوا أي رجعوا من بعدها إلى الله، بأن آمن الكافر، وأقلع العاصي عن عصيانه، واستقام المؤمن على منهج ربه، وآمنوا إيمانا خالصا من الشوائب، وقرنوا الإيمان بالعمل الصالح، إن ربك يا محمد من بعد تلك الفعلة لغفور لهم، ستار لذنوبهم، رحيم بهم يجزي بالحسنة عشر أمثالها، ويكافئ على القليل بالجليل الكثير. سئل ابن مسعود عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها، فتلا هذه الآية: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها، وَآمَنُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فتلاها عبد الله عشر مرات، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 248. (2) المرجع والمكان السابق.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولا، وذلك بأن يتركها ويرجع عنها، ثم يؤمن بعد ذلك، يؤمن بالله تعالى، ويصدق بأنه لا إله غيره. وهذه الآية تدل على أن جميع السيئات قابلة للغفران بالتوبة، وهذه بشارة عظمي للمذنبين. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيتان مبدأين مهمين: مبدأ العدل في العقاب، ومبدأ الرحمة بالعصاة التائبين. أما المبدأ الأول- وهو عدالة العقاب فهو ما قامت عليه شريعة الله، فمن أشرك بالله إلها آخر، كما فعل بنو إسرائيل في غيبة موسى عليه السّلام، فهو ظالم لنفسه، يستحق غضب الإله عليه، ومصاحبة الذلة والهوان له في الحياة الدنيا. ومن ابتدع شيئا ليس في دين الله فهو مفتر يناله من الجزاء مثل جزاء الظالمين الكافرين لقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي المبتدعين، قال الإمام مالك رحمه الله: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلّة. وينطبق ذلك على الناس كلهم في الماضي والحاضر والمستقبل، فهو يشمل فعلة بني إسرائيل في عهد موسى عليه السّلام، وكل من رضي بفعلهم كاليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي كل زمن على ممر الأجيال. وأما المبدأ الثاني- مبدأ الرحمة بالعصاة التائبين فهو فضل عظيم من الله تعالى على هذه الأمة المسلمة وعلى الأمم كلها، ففي الآية خبر قاطع وقرار حاسم وحكم دائم وهو أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره من المعاصي لأن قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يشمل الكفر وسائر المعاصي. ورحمة الله سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شيء، فمن آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن دستورا، وتاب من كفره أو معصيته، وعمل صالحا فإن الله من بعد توبته غفور له رحيم به.

نهاية قصة اتخاذ العجل إلها [سورة الأعراف (7) آية 154] :

نهاية قصة اتخاذ العجل إلها [سورة الأعراف (7) : آية 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الإعراب: وَلَمَّا سَكَتَ لَمَّا: ظرف زمان، ويفتقر إلى جواب، وجوابها أَخَذَ الْأَلْواحَ وهو العامل فيها. وَفِي نُسْخَتِها هُدىً مبتدأ وخبر في موضع نصب على الحال من الْأَلْواحَ والعامل فيه أَخَذَ. لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أدخل اللام على المفعول لتقدمه. البلاغة: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ استعارة مكنية، شبه الغضب بإنسان ثائر يرعد بصوته، طالبا الانتقام، ثم حذف المشبه به، وصرح بشيء من لوازمه وهو: سَكَتَ أي اختفى الصوت. وهو تشبيه لطيف رائع بليغ. المفردات اللغوية: سَكَتَ سكن، والسكون لغة: ترك الكلام، نسب إلى الغضب على طريقة تصويره بصورة شخص ثائر يأمر وينهى. قال الزمخشري: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء.

المناسبة:

أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها أي ما نسخ أو كتب فيها هُدىً بيان للحق من الضلالة وَرَحْمَةٌ بالإرشاد إلى الخير والصلاح. لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يخافون، والرهبة: أشد الخوف. المناسبة: لما بيّن الله تعالى لنا ما كان من موسى حال الغضب، وانقسام قومه قسمين: مصر على عبادة العجل، وتائب إلى الله من ذلك، بيّن في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب، وسكون النفس وهدأة البال. وإذا كان موسى سريع الغضب حاد الطبع، فهو أيضا سريع العودة إلى الحلم حينما يعود الحق إلى نصابه، ويعدل الظالم عن ظلمه. وهذا هو الفصل الرابع والأخير من قصة عبادة العجل. التفسير والبيان: ولما سكن غضب موسى على قومه، وهدأت نفسه بتوبة أكثرهم، أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة، والتي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل، غيرة لله وغضبا له، فوجد فيها هدى للحيارى، ورحمة بالعصاة التائبين الذين يخافون من ربهم أشد الخوف على ما يصدر منهم من ذنوب، ويخشون عذابه وحسابه. وقد ضمن الرهبة معنى الخضوع، فعداها باللام. ذكر ابن عباس: أنه لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما، فردّت عليه، وأعيدت له تلك الألواح في لوحين، ولم يفقد منها شيئا. قال القشيري: فعلى هذا: وَفِي نُسْخَتِها هُدىً أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة، ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة. وقال عطاء: وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الحلم سيد الأخلاق، فحينما هدأت نفس موسى عليه السلام، وعاد إلى أناته وحلمه، أخذ يتدارس الألواح التي كتبت فيها التوراة، فوجد فيها بيان الحق من الضلال، والهدى من الانحراف، والرحمة من العذاب، ببيان وجه الرشاد وسلوك طريق الخير والصلاح، لمن كان يخاف ربه ويخشى عقابه. وفي ضوء ما وجد فيها من حدود وأحكام، أخذ يرشد قومه إلى ما فيها، ويحملهم على العمل بها لأنها شريعة الله لبني إسرائيل. وتلك هي فترة الاستقرار في حياة موسى على ما يظهر لنا، بعد أن مرّ بتقلبات وأحوال شديدة التأثير، كاد بها يخسر إيمان قومه برسالته إلى الأبد، لولا عودته إلى النصح والإرشاد بما نزل في التوراة. اختيار موسى سبعين رجلا لميقات الكلام والرؤية ومناجاته ربه [سورة الأعراف (7) : آية 155] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) الإعراب: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا: قَوْمَهُ، وسَبْعِينَ: منصوبان باختار، إلا أنه تعدى إلى سَبْعِينَ من غير تقدير حذف حرف جر، وتعدى إلى قَوْمَهُ بتقدير حذف حرف جر، والتقدير فيه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا، فحذف حرف الجر، فتعدي الفعل إليه.

البلاغة:

البلاغة: تُضِلُّ وتَهْدِي بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي اصطفى من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا أي ممن لم يعبدوا العجل في رأي أكثر المفسرين، اختارهم بأمره تعالى لِمِيقاتِنا للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه، ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي فخرج بهم، فلما أصابتهم الصاعقة أو الزلزلة الشديدة التي هزت القلوب والأبدان لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أي قبل خروجي بهم، ليعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهموني. أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا استفهام استعطاف، أي لا تعذبنا بذنب غيرنا. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي ما هي أي الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك مَنْ تَشاءُ إضلاله مَنْ تَشاءُ هدايته أَنْتَ وَلِيُّنا متولي أمورنا. المناسبة: هذه الآية استمرار في بيان ما حدث لموسى عليه السلام أثناء مناجاة ربه، فقد بدأ الله تعالى قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الآية: 143] ثم استطرد لبيان قصة عبادة العجل، ثم عاد لإتمام ما حدث في ذلك الميقات، فهو ميقات الكلام والرؤية نفسه، وليس ميقاتا آخر، كما رجح الرازي لأنه تعالى قال: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ثم قال: وَاخْتارَ مُوسى.. لِمِيقاتِنا فدل على أن المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات «1» . التفسير والبيان: أوحى الله إلى موسى أن يختار معه لميقات الكلام والرؤية سبعين رجلا من

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 17- 18

قومه بني إسرائيل، ففعل، وأتى بهم للميقات الذي وقّته الله تعالى وهو مكان في جبل الطور: طور سيناء حيث ناجى ربه، وقد أمرهم أن يصوموا، ويتطهروا، ويطهروا ثيابهم. والظاهر من ترتيب سرد الآيات أن اختيار هذا العدد كان عند طلب موسى رؤية الله عز وجل قبل اتخاذ عبادة العجل، وذلك ليكون سماعهم مناجاة موسى ربه دليلا على صدقه، فلما أتوا ذلك المكان قالوا: يا موسى، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه، فأخذتهم رجفة الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية. ولم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة، أخذتهم الرعدة ورجفوا، وخاف موسى عليه السلام الموت، فعند ذلك بكى ودعا، فكشف الله عنهم تلك الرجفة. قال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت. ولما أخذتهم الرجفة قال موسى: رب أتمنى لو كانت مشيئتك قد سبقت بإهلاكهم قبل هذا الوقت وقبل خروجهم معي إلى هذا المكان، أي حين طلب الرؤية، وأهلكتني معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت من رعدتهم، كيلا أحرج مع قومي، فيقولوا: قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم. ثم أردف موسى قائلا: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي حيث طلبوا الرؤية لك جهارا لسماعهم كلامك، وهو قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب. وما هي إلا فتنتك أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك حين كلمتني، فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية، فليس الأمر إلا أمرك، وما الحكم إلا لك، فما شئت كان، تضل بالمحنة من تشاء من عبادك وهم الجاهلون غير المتثبتين في معرفتك،

ولست بالظالم لهم أبدا في تقديرك، بل هذا موافق لطبعهم وكسبهم واختيارهم، وتهدي بالمحنة أيضا من تشاء من عبادك، وهم المؤمنون المتثبتون في معرفتك، ولست بالمحابي لهم في توفيقك للهداية، بل هذا متفق مع طبعهم وكسبهم واختيارهم، ولو ترك الفريقان وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه وما قدر له. وإنما استفاد ذلك موسى عليه السلام من قوله تعالى له: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه 20/ 85] وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه لأن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا، فكأنه أضلهم بها وهداهم، على الاتساع في الكلام. أنت ولينا، أي المتولي أمورنا والمهيمن علينا، فاغفر لنا أي استر ذنوبنا ولا تؤاخذنا بها، وارحمنا وإن قصرنا وفرطنا، وأنت خير الغافرين، أي الساتر ذنوب العباد، العافي عن السيئات، ورحمتك وسعت كل شيء، ومغفرتك ورحمتك بلا سبب ولا علة ولا لمصلحة ولا لعوض، أما غيرك فإنما يغفر لأغراض عديدة كحب الثناء وطلب النفع أو لدفع الضرر، وأنت تغفر لمحض الفضل والجود والكرم، فهو حقا وقطعا خير الغافرين. قال ابن كثير: والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقع العبد في مثل الذنب في المستقبل «1» . وقوله: أَنْتَ وَلِيُّنا يفيد الحصر، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت. وقيل: في تفسير الآية وطلب موسى إهلاكهم وقوله إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ: أن الفتنة يراد بها عبادة العجل، وأن طلب الإهلاك حينما عبدوا العجل، وأن الذين عبدوه هم السفهاء وهم الأكثرون، وأما عقلاء بني إسرائيل فلم يعبدوه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 250

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: على المؤمن أن يلتزم الأدب مع الله وألا يسلك مسلك العناد، فطلب القوم رؤية الله عز وجل قياسا منهم على سماع كلامه، أدى بهم إلى إنزال الصاعقة أي الزلزلة الشديدة في الجبل الذي كانوا عليه. وإذا كان هذا سبب الرجفة، فإن عبادة العجل تستحق عذابا أشد وأنكى. والمراد بالإضلال في قوله: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ليس الإجبار أو الإكراه على الوقوع في الضلال كما تقول الجبرية لأنه لم يقل: تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين، ولأنه تعالى قال: تُضِلُّ بِها أي بالرجفة، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها، فوجب التأويل، وتأويل ذلك أنك تعاقب من تشاء بشرط ألا يؤمن، أو تهلك من تشاء بهذه الرجفة. وكذلك الهداية في قوله: وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ يراد بها التوفيق والإرشاد إلى وجوه الهداية ومسالكها. ولا شك أن خالق الداعية إلى الإيمان والكفر إنما هو الله تعالى، والعبد بقدرته الصالحة للإيمان والكفر يرجح أحد الجانبين على الآخر لما خلق الله فيه، وحينئذ تكون الهداية من الله تعالى، والإضلال من الله تعالى «1» ، أي بالخلق والإيجاد، لا بالكسب والتحصيل، فالأول فعل الله والثاني فعل الإنسان. فبنو إسرائيل هم الذين أظهروا العناد، فطلبوا رؤية الله جهرة، وهم الذين اخترعوا عبادة العجل.

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 19.

بقية دعاء موسى عند مشاهدة الرجفة وربط الإيمان برسالته برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم [سورة الأعراف (7) الآيات 156 إلى 157] :

بقية دعاء موسى عند مشاهدة الرجفة وربط الإيمان برسالته برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم [سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 157] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) البلاغة: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وكذا وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فيهما ما يسمى بالمقابلة: وهي الإتيان بمعنيين فأكثر، ثم الإتيان بما يقابلها بالترتيب. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ استعار الإصر والأغلال لتكاليفهم الثقيلة أو الشاقة، فالإصر والأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة. المفردات اللغوية: وَاكْتُبْ أوجب حَسَنَةً الحسنة في الدنيا: الصحة والغنى عن الناس، والاستقلال، والحسنة في الآخرة: الجنة ونيل الرضوان هُدْنا رجعنا وتبنا، فهو هائد، وقوم هود مَنْ

أَشاءُ تعذيبه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ عمت كل شيء في الدنيا فَسَأَكْتُبُها أحكم بها في الآخرة، أي سأوجب حصول رحمتي، منّة مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] . لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين يتقون الشرك والعظائم من الذنوب وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يخرجون زكاة الأموال التي تتزكى بها نفوسهم. النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ النبي لغة مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع، ومن النبأ: وهو الخبر المهم العظيم الشأن، وفي الشرع: هو من أوحى الله إليه بشرع ولم يأمره بتبليغه. والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. ولا يشترط الاستقلال بالشرع أو بالكتاب، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة. والأمي: الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولقب العرب بالأميين كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة 62/ 2] وحكى تعالى عن أهل الكتاب: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران 3/ 75] والنبي الأمي: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ باسمه ووصفه بِالْمَعْرُوفِ ما تعارفت العقول السليمة والفطر النقية على حسنه، وذلك موافق لما ورد الأمر به في الشرع. الْمُنْكَرِ ما تنكره النفوس والشرائع لمصادمته للفطرة والمصلحة. الطَّيِّباتِ ما تستطيبه الأنفس والطباع السليمة من الأطعمة، ومعنى قوله: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أي مما حرم في شرعهم الْخَبائِثَ ما تستخبثه الطباع السليمة وتنفر منه كالميتة والدم المسفوح، أو يكون سببا في الضرر البدني كالخنزير الذي يسبب أكله الدودة الوحيدة وغيرها من المضار، أو الضرر الديني كالمذبوح الذي يتقرب به لغير الله. والخبيث من الأموال: ما يؤخذ بغير حق كالربا والرشوة والسرقة والغضب ونحو ذلك من المكاسب الخبيثة. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحركة لثقله، مثل اشتراط قتل الأنفس بالتقاتل في صحة توبتهم وَالْأَغْلالَ الشدائد أو التكاليف الشاقة، والأغلال جمع غل: وهو القيد الذي تربط به يد الجاني إلى عنقه. والمراد هنا: ما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، مثل إيجاب القصاص في القتل مطلقا، عمدا كان أو خطأ، من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت أي تحريم العمل فيه. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ منهم وَعَزَّرُوهُ أي أعانوه ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو، أي

التفسير والبيان:

حاموا عنه النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي القرآن، وإنما أنزل مع جبريل، فالمراد: أنزل مع نبوته، وصارت نبوته مصحوبة بالقرآن. التفسير والبيان: هذا من تتمة دعاء موسى عليه السلام عند مشاهدة الرجفة، فأعلن أولا أنه لا ولي إلا الله بقوله: أَنْتَ وَلِيُّنا والمتوقع من الولي والناصر أمران: دفع الضرر، وتحصيل النفع، ولما كان دفع الضرر مقدما على تحصيل النفع، بدأ بطلب دفع الضرر، فقال: فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع بقوله: وَاكْتُبْ. أي أوجب لنا وأثبت لنا بفضلك ورحمتك حسنة، أي حياة طيبة في الدنيا بتوفير نعمة الصحة والعافية، وسعة الرزق، والتوفيق في العمل، والاستقلال في الأمور العامة، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك والظفر برضوانك وفيض إحسانك، وذلك كقوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة 2/ 201] . إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك، أي ندمنا على ما طلبه قومنا من اتخاذ الآلهة وعبادة العجل ورؤية الله جهرة ونحو ذلك من فعل السفهاء، ورجعنا إلى الإيمان المقرون بالعمل. قال الله: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من الكفار والعصاة، أما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين، والعذاب مما يترتب على صفة العدل، ولكن الرحمة أشمل، ولولا عموم الرحمة لهلك الكفار والعصاة عقب كفرهم وعصيانهم، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] وقال عز وجل: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .

والمراد من آية العذاب هنا: أني أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك. ثم قرن ذلك بما يطمئن العباد وهو أن الرحمة تسبق الغضب، وهي أعم وأشمل منه، فهذه آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله تعالى عن حملة العرش ومن حولهم أنهم يقولون: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر 40/ 7] . ثم وصف الله تعالى مستحقي الرحمة وذكر من تثبت لهم: وهم الذين يتصفون بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي: 1- الذين يتقون الشرك والمعاصي أو الذنوب. 2- والذين يؤتون الزكاة التي تتزكى بها نفوسهم، وتشمل زكاة الأنفس وزكاة الأموال. وخصت الزكاة بالذكر لعلاج مرض الماديين النفعيين وهم اليهود وأمثالهم، ولأن النفوس شحيحة بها غالبا. 3- والذين يؤمنون، أي يصدّقون بآياتنا الدالة على توحيدنا، وكفاية شريعتنا وسموها وصلاحيتها للعمل والتطبيق، وصدق رسلنا. وهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الثلاث هم متبعو ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وها هي صفاته في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، وأوصافه عندهم سبعة وهي: 1- الرسول النبي الأمي: أي الذي لم يقرأ ولم يكتب، فالأمية آية من آيات نبوته، وأن القرآن المعجز منزل عليه من عند الله، فهو مع أميته أتى بأكمل العلوم وأجداها في العقيدة والعبادة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والأعمال. واتباعه: باعتقاد نبوته والعمل برسالته. وهذه الصفة يمكن أن تتنوع إلى صفات ثلاث: هي الرسول: أي المرسل من الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف. والنبي وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى، والأمي.

2- وهو الذي يجدون اسمه وصفته كتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لذا آمن به بعض علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام، وبعض علماء النصارى مثل تميم الداري. فأما المستكبرون فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم، ويؤولونها. روى الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت، كأجمل الفتيان وأحسنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟» فقال برأسه هكذا، أي لا، فقال ابنه: إي، والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله فقال: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه «1» . وجاء في الباب الثالث والثلاثين في التوراة من سفر تثنية الاشتراع: «جاء الرب من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار، في يمينه قبس من نار» ومجيئه من سينا: إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير: إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه، واستعلاؤه من جبال فاران: إنزاله القرآن لأن فاران من جبال مكة. وجاء في الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا: «فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق، فهو يشهد لي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء» والفارقليط بالعبرية: معناه أحمد، كما

_ (1) قال ابن كثير في تفسيره (2/ 251) : هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس. [.....]

قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 61/ 6] . 3، 4- إنه يأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه العقول الرشيدة وتألفه الطباع السليمة، وقد ورد به الشرع، وهو ينهاهم عن المنكر: وهو ما تنكره النفوس الصافية. فهو عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقولها: يا أيها الذين آمنوا، فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. ومن أهم ما أمر الله به: عبادة الله وحده لا شريك له ومن أهم ما نهى عنه: عبادة ما سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . 5، 6- وإنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث: أي يحل لهم ما تستطيبه الأنفس من الأطعمة: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة 2/ 57، 172، والأعراف 7/ 160، وطه 20/ 81] ويحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم ما تأباه النفوس، كالميتة والخنزير والدم المسفوح، وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة. قال ابن عباس: الخبائث كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى. قال بعض العلماء: فكل ما أحل الله تعالى من المآكل، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين. 7- وإنه يضع عنهم الإصر والأغلال: أي يرفع عنهم التكاليف الشاقة، كالقصاص في القتل، العمد أو الخطأ، من غير شرع الدية، وقتل النفس عند التوبة، أي التقاتل وإهدار الدماء، وقطع الأعضاء المذنبة، وقرض موضع

النجاسة من الجلد والثوب، وتحريم السبت. أي إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد في الحديث الذي رواه الخطيب عن جابر: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «بشّرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا» . ومن مظاهر التيسير: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به ، وقوله فيما رواه الطبراني عن ثوبان: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . ولهذا أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة 2/ 286] . وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت. أما اليهود فقد شدد الله عليهم في الأحكام الشرعية في العبادة والمعاملة والعقوبة، ثم خفف المسيح عليه السلام في بعض الأمور المادية، وشدد في الأحكام الروحية. فالذين آمنوا بالنبي الأمي وبرسالته، وعزروه أي منعوه من الأعداء، ونصروه أي عظموه ووقروه، وأيدوه باللسان والسّنان، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلّغا إلى الناس، أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة، الناجون الفائزون بالرحمة والرضوان، دون من سواهم من حزب الشيطان الذين يخذلهم الله في الدنيا والآخرة. ويدخل في ذلك قوم موسى الذين يتحقق فيهم هذا الوصف العام.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: بعد أن أقر موسى بأن لا إله إلا الله تعالى، أعلن أن الله ولينا أي القائم بأمورنا والمتولي شؤوننا، والولي يدفع الضر ويجلب النفع، لذا طلب منه المغفرة والرحمة لدفع الضر، المقدم على تحصيل النفع، ثم طلب منه تحقيق النفع وهو سؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة. ويناسب هذه الأشياء اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع، لذا قال موسى عليه السلام: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا ورجعنا إليك. فتحقق بهذا مجموع أمرين لا بد منهما: وهما تقرير عزة الربوبية، أي كون الله تعالى إلها وربا ووليا، والاعتراف بذل العبودية أي كون العباد له تائبين خاضعين خاشعين. ثم أجاب الله موسى مبينا أن عذابي أعذب به من أشاء، وليس لأحد على اعتراض لأن الكل ملكي، ومن تصرف في خالص ملكه، فليس لأحد أن يعترض عليه. وأما رحمتي فهي عامة لا نهاية لها، ولا حد لسعتها، وسعت كل شيء، حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. روى الإمام أحمد وأبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: جاء أعرابي، فأناخ راحلته، ثم عقلها (ربطها بالحبل) ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى راحلته، فأطلق عقالها (حبلها) ، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا تشرك في رحمتنا أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتقولون: هذا أضل أم بعيره، ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا: بلى، قال: «لقد حظّرت رحمة واسعة، إن الله عز وجل خلق مائة

رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها، وأخّر عنده تسعا وتسعين رحمة، أتقولون: هو أضل أم بعيره» . وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة» . ثم ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة لمن يستحق رحمته، وهم المتقون، المؤتون الزكاة، المؤمنون بآيات الله تعالى. قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية- أي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء فقال الله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون فقال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية. فخرجت الآية عن العموم. وهذه الأوصاف الثلاثة التي خصصت بها الآية شملت كل ما يصدر عن الإنسان وهو التروك والأفعال، أما التروك فهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها، والاحتراز عنها والاتقاء منها، وأما الأفعال فهي إما متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه، الأول- الزكاة، والثاني- الإيمان، وهو يدخل فيه ما يجب على الإنسان علما وعملا، أما العلم فالمعرفة بالله، وأما العمل فبالإقرار باللسان والعمل بالأركان، ويدخل فيها الصلاة. وأما صفات محمد صلى الله عليه وآله وسلم المقررة في التوراة والإنجيل فهي: 1- كونه رسولا نبيا أميا: والرسول أخص من النبي، وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة.

وأميته لإبطال دعاوى اختلاق القرآن من عند نفسه، فكانت من المعجزات، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت 29/ 48] ومع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يكتب وما كان يقرأ، كان يتلو كتاب الله بتعليم الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير، فكان ذلك أيضا معجزة، كما قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى 87/ 6] . وكانت أمة العرب أميّة، روي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنا أمة أميّة، لا نكتب ولا نحسب» . 2- صفاته موجودة في التوراة والإنجيل: وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا، لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفّرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، ويترفع عنه العاقل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته. 3، 4- مهمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال عطاء: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بخلع الأنداد (الشركاء) ، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ عبادة الأصنام، وقطع الأرحام. ويجمع الأمر بالمعروف قوله عليه الصلاة والسلام: «التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله» والنهي عن المنكر يشمل النهي عن عبادة الأوثان، والقول في صفات الله بغير علم، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين. 5- وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ: قيل: المراد بالطيبات: الأشياء التي حكم الله بحلها. ومذهب مالك: أن الطيبات هي المحلّلات، فكأنه وصفها بالطيب

إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. ورد الرازي على ذلك باستبعاد هذا القول لأنه يترتب عليه التكرار، فتصير الآية: ويحل لهم المحللات، وبه تخرج الآية عن الفائدة لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي؟ بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات: الأشياء المستطابة بحسب الطبع، وذلك لأن تناولها يفيد اللذة، والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع السليم الحل، إلا لدليل. وهذا مذهب الشافعي أن الطيبات هي من جهة الطعم. واحتج بهذه الآية بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها. وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته. 6- وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ: أي يمنعهم من اقتراب المستخبثات وهي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس، ويكون تناوله سببا للألم، والأصل في المضار الحرمة. ومقتضاه: أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا لدليل. والخبائث في مذهب مالك هي المحرمات، ويقتضي ذلك أنه أحل المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. وقد عرفنا وجه الضعف في ذلك، وأن مذهب الشافعي هو تحريم المحرمات والمتقذرات، فتحرم العقارب والخنافس والوزغ ونحوها. 7- وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يرفع عن بني إسرائيل التكاليف والأحكام الشاقة التي كانت مقررة عليهم، مثل تحريم الغنائم، وتحريم مجالسة الحائض وقرض موضع النجاسة، والقصاص من القاتل بلا دية، وقتل النفس علامة للتوبة، فكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء

عموم الرسالة الإسلامية [سورة الأعراف (7) آية 158] :

فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، وإذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضة، وروي: وجلد أحدهم، فأحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم، وأباح مجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها، ورخص بغسل البول، وشرع الدية، وقيّد القصاص في القتل العمد، وجعل التوبة باللسان والقلب مع الله. ودلت الآية على أن من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيده وحماه وعظمه واتبع القرآن فهو من المفلحين أي الفائزين بالمطلوب في الدنيا والآخرة. عموم الرسالة الإسلامية [سورة الأعراف (7) : آية 158] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) المفردات اللغوية: قُلْ خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وَكَلِماتِهِ القرآن. تَهْتَدُونَ ترشدون. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى وجود صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل، وذكر أن من يتبعه، فله سعادة الدنيا والآخرة، أوضح مزية الرسالة الإسلامية وهي أنها عامة شاملة، وأن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم للناس كافة، يدعوهم فيها إلى الإيمان به وبرسالته، وأن كل من يتبعه تشمله تلك السعادة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: قل يا محمد لجميع البشر من عرب وغيرهم، بيض أو سود: إني رسول الله إليكم جميعا، لا إلى قومي العرب خاصة، وإلى كل وقت وزمن إلى يوم القيامة، وهذا يقتضي أن يكون مبعوثا إلى جميع الناس، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ 34/ 28] وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] أي وأنذر كل من بلغه. ومطلع سورة الفرقان يؤكد عالمية الرسالة. وجاءت الأحاديث الثابتة مؤكدة عموم الرسالة النبوية، مثل حديث الصحيحين والنسائي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي الغناء ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ الذي له الملك التام والتصرف الكامل في السموات وفي الأرضين جميعها، وله القدرة التامة على الإحياء والإماتة. وقد تضمنت هذه الآية عناصر العقيدة الثلاثة: وهي توحيد الربوبية بالإيمان، وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل، أي بعبادة الله وحده، ثم الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الإيمان بالبعث بعد الموت، وذلك معنى الإحياء والإماتة. ورتب على ما سبق الدعوة إلى الإيمان فقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ ... أي فصدقوا أيها الناس قاطبة بالله الواحد الأحد الفرد الصمد في ربوبيته وألوهيته، وآمنوا برسوله النبي الأمي الذي بعثه إلى الخلق أجمعين.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهو النبي الذي يؤمن بوحدانية الله وكلماته التشريعية التي أنزلها الله لهداية البشر، وكلماته التكوينية الدالة على قدرته وإرادته وحكمته، ويصدق قوله عمله، ويؤمن بما أنزل إليه من ربه. فالمراد من كلماته: ما تضمنته كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن من أحكام وإرشادات وأدلة على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته. وهذا أمر بالإيمان أتبعه بالأمر بالإسلام، أي اتبعوا منهج هذا النبي، واسلكوا طريقه في كل ما جاء به، لتهتدوا إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، أو رجاء أن تهتدوا بالإيمان واتباع الشرع إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. والحق أنه لأهدي صحيحا ثابتا إلا في القرآن، ولا خير إلا في الدين، ولا سعادة إلا باتباع شريعة خاتم النبيين، وبمقدار الالتزام بالشريعة يكون النجاح في الدنيا والآخرة. روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى جميع الخلق، وأن رسالته عامة للناس أجمعين، بل لكل العالمين من الإنس والجن. والمراد بالناس: هم المكلفون أي البالغون العقلاء لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .

والمقصود بالناس أيضا كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه، وقلّ أن تجد قوما لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام. ودلت الآية أيضا على ما يثبت كونه عليه الصلاة والسلام رسولا إلى الناس جميعا، وهو أنه مرسل من خالق العالم المتصف بالحياة والعلم والقدرة والوحدانية، المنزه عن الشريك والوالد والولد، القادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة، مالك السموات والأرضين، المتصرف في الكون كيفما يشاء، وأن الخلق كلهم عبيده، وهو المنعم عليهم بأعظم النعم، وأنه المجازي لهم بعد موتهم، مما يقتضي تكليف الخلق بما يريد. وما على الخلق إلا الإيمان بوحدانية الله وبربوبيته، واتباع كلماته أي تشريعاته، وليس من التشريع أمور الدنيا العادية من تدبير شؤون الزراعة والصناعة والتجارة المباحة والعلوم النافعة، فتلك متروكة لعقول الناس ومعارفهم وخبراتهم، لما ورد في الحديث الصحيح عند الشيخين: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» . ومن كلمات الله: المعجزات الدالة على كونه نبيا حقا لأن كل شيء غريب يسمى كلمة، والمعجزات نوعان: معجزات ظهرت في ذاته عليه الصلاة والسلام، وأشرفها وأهمها كونه رجلا أميا، لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يجالس أحدا من العلماء. ومعجزات صدرت عنه مثل انشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه. وبه يكون المراد بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه، وبما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه.

اتباع الحق لدى بعض قوم موسى ونعم الله على بني إسرائيل في صحراء التيه [سورة الأعراف (7) الآيات 159 إلى 160] :

اتباع الحق لدى بعض قوم موسى ونعم الله على بني إسرائيل في صحراء التيه [سورة الأعراف (7) : الآيات 159 الى 160] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) الإعراب: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً: إنما أنث اثنتي عشرة على تقدير أمة، وتقديره: اثنتا عشرة أمة. واثْنَتَيْ عَشْرَةَ: حال. وأَسْباطاً: بدل منصوب من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ولا يجوز أن يكون أَسْباطاً منصوبا على التمييز لأنه جمع، والتمييز لما عدا العشرة إنما يكون مفردا. وأُمَماً: صفة لقوله: أَسْباطاً كما ذكر ابن الأنباري. وقال الزمخشري عن كلمة «أمما» : بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بمعنى: وقطعناهم أمما لأن كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد. وقال: أَسْباطاً تمييز، ووجه كونه مجموعا أنه وضع أَسْباطاً موضع قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط. المفردات اللغوية: أُمَّةٌ جماعة. يَهْدُونَ يرشدون الناس ويدلونهم. وَبِهِ يَعْدِلُونَ في الحكم، أي يحكمون بين الناس بالعدل. قَطَّعْناهُمُ فرقنا بني إسرائيل وصيرناهم فرقا وقطعا. أَسْباطاً قبائل، والأسباط: أولاد الأولاد، جمع سبط وهو عندهم كالقبيلة في ولد إسماعيل. وأسباط بني إسرائيل: سلائل أولاده العشرة ما عدا لاوى، وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنس لأن سلائل لاوى قامت بخدمة الدين في جميع الأسباط.

المناسبة:

إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ طلبوا منه الماء للسقيا في التيه. فَانْبَجَسَتْ انفجرت. اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط. كُلُّ أُناسٍ سبط منهم. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ جعلنا الغمام يظلهم في التيه، والغمام: سحاب رقيق أو أبيض أو السحاب مطلقا. الْمَنَّ مادة بيضاء تنزل على ورق الشجر وغيره كالندى، حلوة المذاق كالعسل. وَالسَّلْوى طير يشبه السّماني، لكنه أكبر منه. المناسبة: بعد أن رغب الله سبحانه بني إسرائيل باتباع ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق إنزال الرحمة عليهم ووصفهم بأنهم المفلحون، ذكر ثلاثة أحوال لهم، الحال الأولى: أن بعضهم اتبعوا موسى بحق واتبعوا أيضا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، والتزموا الحق وقضوا به، والحال الثانية: قسمتهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر، والحال الثالثة: انفجار الحجر اثنتي عشرة عينا بقدر عدد الأسباط لما طلبوا السقيا من موسى عليه السلام، وتظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى بأن طائفة من بني إسرائيل يتبعون الحق ويعدلون به، وهم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، آمنوا بموسى عليه السلام، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهم جماعة قوموا أنفسهم بالإيمان، وأرشدوا الناس إليه ودلوهم عليه، وهدوهم بالحق الذي جاءهم من عند الله، ويعدلون بالحق بينهم في الحكم، لا يجورون، كما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ، يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ، وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران 3/ 113] وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ ... الآية [آل عمران 3/ 199] وقال عز وجل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران 3/ 75] .

والخلاصة: الخبر في هذه الآية متعلق بجماعة مؤمنة من بني إسرائيل في عصر موسى، وبعد عصره، وهم أصناف ثلاثة: صنف أدركوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وآمنوا به، وهم المشار إليهم في آية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة 2/ 121] . وصنف آمنوا بموسى واتبعوا من بعده من الأنبياء، وهم المذكورون في الآية هنا، وصنف محتمل للقسمين، كما في الآية المتقدمة: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ.... وهذه شهادة عظيمة من الله تعالى تثبت وجود أهل الحق والعدل في كل أمة، وهذه هي الحال الأولى لبني إسرائيل. والحال الثانية: أنه تعالى صيّر قوم موسى اثنتي عشرة فرقة أو قبيلة تسمى أسباطا، أي أمما وجماعات، تمتاز كل جماعة منهم بنظام خاص بها في المعيشة وممارسة شؤون الحياة. والحال الثالثة: حال الأسباط إزاء نعم الله تعالى عليهم، والنعمة الأولى: إغاثة الله لهم، حينما طلبوا من موسى السقيا، وقد عطشوا في التيه، فأوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم، كل سبط له عين خاصة به قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط مشربهم منه. والفرق بين الانبجاس والانفجار أن الأول: خروج الماء بقلة، والثاني: خروجه بكثرة. والنعمة الثانية: تظليل الغمام، فكانوا إذا اشتد عليهم الحر في الصحراء، يسخر الله تعالى لهم الغمام أي السحاب، يظلهم بظله الظليل، رحمة من الله. والنعمة الثالثة: إنزال المن والسلوى: فكان الطعام الشهي ينزل عليهم بسهولة، دون عناء ولا مشقة، وهو المن الذي كان يقوم مقام الخبز عندهم وهو

فقه الحياة أو الأحكام:

مادة حلوة الطعم يجتمع كالندى على ورق الشجر وغيره صباحا، والسلوى: يقوم مقام سائر اللحوم، وهو طير أكبر من السّمانى. ثم قيل لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، فهي نعم خصصناها بكم، فما عليكم إلا شكر النعمة. وَما ظَلَمُونا بكفرهم بهذه النعم، ولكنهم ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار لأن المكلف إذا أقدم على المعصية، فهو ما أضر إلا نفسه، حيث عرّض نفسه للعقاب الشديد، ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ.. على أن الإسلام لا عصبية فيه. وأن الله تعالى يعلمنا طريق الحكم على الناس والأشياء، وهو طريق الحق والعدل، فهو الحكم الموضوعي المجرد، وهو الحكم الأبقى والأخلد. إنها شهادة عظيمة من الله تعالى لجماعة من بني إسرائيل أنهم التزموا الحق والعدل في أنفسهم ومع غيرهم، فآمنوا بالنبي موسى عليه السلام وبمن بعده من الأنبياء، وقضوا بين الناس بالعدل، ودعوا الناس إلى الهداية بالحق. وهذه المزية أيضا قائمة في أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقد أنزل الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء بعد رجوعه إلى الدنيا: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف 7/ 181] يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فالله يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك. ودلت آية وَقَطَّعْناهُمُ على قسمة بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميزهم وفعل بهم ذلك، لئلا يتحاسدوا، فيقع بينهم الهرج والمرج. ولا شك أن القسمة تريح من عناء

أمر بني إسرائيل بسكنى القرية (بيت المقدس) [سورة الأعراف (7) الآيات 161 إلى 162] :

الاختلاف والنزاع في استيفاء المنافع، وليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم، فيخف الأمر على موسى. وأرشد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى ... إلى النعم العظمى التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وهي: أولا- الشرب في التيه من ينابيع تفجرت اثنتي عشرة عينا بعدد الأسباط، بضرب موسى الحجر، وهذه معجزة خارقة له، كمعجزة العصا واليد وفلق البحر لإنجائهم من فرعون وقومه. وثانيا- تظليل الغمام. وثالثا- إنزال المن والسلوى، وقد أباح الله لهم تلك الطيبات، وسهل لهم الطعام والشراب. ولكن بني إسرائيل لم يشكروا تلك النعم العظيمة، وجحدوا بها، وظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي، وكانوا فاسقين لخروجهم عن طاعة الله تعالى. أمر بني إسرائيل بسكنى القرية (بيت المقدس) [سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) الإعراب: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ هذا مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. ومن قرأ يغفر وتغفر، رفع خطيئاتكم على أنه نائب فاعل. ومن قرأ يغفر بالياء بالتذكير فلوجود الفصل ب لَكُمْ. ومن قرأ بالتاء بالتأنيث فعلى الأصل، ولم يعتبر الفصل.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذْ قِيلَ واذكر إذ قيل الْقَرْيَةَ بيت المقدس حِطَّةٌ أي أمرنا حطة أي حط عنا أوزارنا وخطايانا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً سجود انحناء سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بالطاعة ثوابا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... فقالوا: حبة في شعرة، ودخلوا يزحفون على أستاههم رِجْزاً عذابا. المناسبة: بعد أن عدد الله تعالى أحوال بني إسرائيل وأصناف النعم التي أنعم بها عليهم، وجحودهم لها وظلمهم أنفسهم، ناسب أن يذكر نوعا آخر من أنواع العصيان أو الظلم ومخالفة أمر الله، وهو دخول القرية بقول معين (حطة) وهيئة معينة (ساجدين) فالمناسبة بين الآيات واضحة وهي تبيان أحوال الظلم من هؤلاء القوم، لذا ختمت الآيتان بإثبات صفة الظلم فيهم. التفسير والبيان: سبق بيان هذه القصة في سورة البقرة في الآيتين (58، 59) مع اختلاف في الألفاظ فقط، ليتناسب ذلك مع بلاغة القرآن وكمال الإعجاز لأن تكرار اللفظ نفسه غير بليغ، والبلاغة تقتضي إبراز المعنى الواحد بأساليب مختلفة وألفاظ متنوعة. وقد ذكر الرازي ثمانية وجوه للمخالفة في الألفاظ بين السورتين «1» ، وهي ما يأتي، علما بأنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض فيهما: 1- هنا قال: اسْكُنُوا وهناك قال ادْخُلُوا والفائدة هنا أتم

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 34 وما بعدها.

لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس، فمن يسكن يدخل قطعا، وليس العكس. 2- قال هنا: وَكُلُوا وهناك قال: فَكُلُوا لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول، فيحسن ذكر فاء التعقيب بعده. وأما الواو فيدل على أن الأكل حاصل مع السكنى لا بعده. 3- وصف الأكل هناك بقوله: رَغَداً أي واسعا هنيئا، ولم يذكر الوصف هنا لأن الأكل للقادم في أول الدخول يكون ألذ وأمتع، وتهفو النفس إليه عادة، أما بعد طول المقام والانتظار فلا يحدث إلا عند الحاجة الشديدة وتكامل اللذة، فترك قوله: رَغَداً فيه. 4- قدم هنا قول حِطَّةٌ على الدخول، وعكس الأمر هناك، ولا فرق بين التعبيرين لأن الواو لا تقتضي الترتيب، فسواء دعوا أولا ثم أظهروا الخضوع بالسجود أي تنكيس الرؤوس، أو أعلنوا التواضع والخضوع أولا ثم دعوا بقولهم: حِطَّةٌ لأن المقصود تعظيم الله تعالى، وإظهار الخضوع والخشوع. 5- قال هنا: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ وقال هناك: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وكلا الجمعين سواء، وفيهما إشارة إلى أن مغفرة الذنوب تشمل القليل والكثير. 6- قال هنا: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بدون واو، وهناك ذكر الواو: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بالعطف، والمعنى واحد، لكن ترك الواو الذي يفيد الاستئناف أدل على أن زيادة الإحسان مستقلة عن المغفرة بعد الدعاء، تفضلا من الله تعالى، وأن الموعود به شيئان: المغفرة وزيادة الحسنة. 7- قال هنا: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً وقال هناك في سورة البقرة

فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا والإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بها، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل، ثم جعله كثيرا. 8- قال هنا: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وقال هناك: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ إشارة إلى حصول الوصفين منهم، فهم ظالمو أنفسهم، وهم فاسقون خارجون عن طاعة الله تعالى، ثم إن الظلم فيه معنى الاعتداء على الغير، والفسق فيه معنى الخروج عن الدين. وزيد هنا كلمة مِنْهُمْ في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ولم تذكر هناك، وزيادتها تأكيد في البيان. ومعنى التبديل أنهم تجرؤوا على المخالفة التامة بالقول والفعل، دون اجتهاد ولا تأويل. والمعنى العام للآية: أن الله تعالى يذكّر بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بما حصل من أسلافهم، وهم ملومون مثلهم لرضاهم بأفعال الأسلاف، فقد أمرهم الله بأن يدخلوا القرية وهي بيت المقدس أو قرية غيرها، والعرب تسمي المدينة قرية، داعين الله أن يغفر ذنوبهم، ومظهرين الخضوع والخشوع لله تعالى، وقد وعدهم الله بشيئين: الغفران وزيادة الإحسان. ولكن طبيعة اليهود التي يغلب عليها العصيان والتمرد أبت عليهم إلا تحدي الأمر الإلهي، والتنكر له، والتجرؤ على المخالفة بالقول والفعل، فقالوا: حبّة في شعرة، بدل حطة وزحفوا على أستاههم، بدل تنكيس رؤوسهم وخشوعهم وتواضعهم لله، شكرا له على نعمه عند دخول القرية، والتنعم بخيراتها من طعام وفاكهة وشراب. وماذا كانت النتيجة المنتظرة؟ النتيجة أن الله تعالى صب عليهم عذابا من السماء صبا، بسبب ظلمهم أنفسهم وغيرهم، وفسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى إلى طاعة أهوائهم وشياطينهم، ولسخريتهم من أوامر الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن العبرة واضحة من هذه الواقعة أو القضية، وهي أن الله تعالى يعاقب الناس على ذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، فما عليهم إلا الابتعاد عن الظلم والفسق فقد عاقب الله بني إسرائيل على ظلمهم وفسقهم، بالرغم من فضائلهم، ككثرة الأنبياء فيهم، وتفضيلهم على العالمين، أي عالمي زمانهم. حيلة اليهود على صيد الأسماك يوم السبت وعقاب المخالفين [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) الإعراب: إِذْ يَعْدُونَ يتعلق بسأل، وتقديره: سلهم عن وقت عدولهم في السبت، وهو مجرور بدل من القرية، وإِذْ تَأْتِيهِمْ: بدل من إِذْ الأولى، ويجوز نصبه بيعدون، وشُرَّعاً: منصوب على الحال من حِيتانُهُمْ، والعامل فيه: تَأْتِيهِمْ. مَعْذِرَةً مفعول لأجله، فكأنهم لما قالوا: لم تعظون؟ قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي لمعذرة إلى ربكم. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: موعظتنا معذرة. بِعَذابٍ بَئِيسٍ على وزن فعيل، مصدر «بيس» وتقديره: بعذاب ذي بيس، أي: ذي بوس، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَسْئَلْهُمْ يا محمد توبيخا عما وقع لأهل القرية عَنِ الْقَرْيَةِ هي أيلة، وخليج أيلات معروف اليوم وقيل: مدين، وقيل: طبرية، والمراد بالقرية: أهلها، والعرب تسمى المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني رجلين من أهل المدن حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة مجاورة للبحر الأحمر (بحر القلزم) على شاطئه، وهي أيلة إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعتدون ويتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. والسَّبْتِ: مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد وغيره من الأعمال، والاشتغال بالعبادة، والمعنى: يعدون في تعظيم السبت. وكذلك قوله: يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت. حِيتانُهُمْ سمكهم، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة شُرَّعاً ظاهرة على الماء وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا يعظمون السبت أي سائر الأيام لا تَأْتِيهِمْ ابتلاء من الله كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، ومعنى نَبْلُوهُمْ نختبرهم. ولما صادوا السمك يوم السبت بحيلة حجزه وراء حواجز يوم الجمعة، افترقت القرية أثلاثا: ثلث صادوا معهم، وثلث نهوهم، وثلث أمسكوا عن الصيد والنهي. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ معطوف على إِذْ قبله، والأمة منهم: الجماعة منهم وهي التي لم تصد ولم تنه كمن نهى قالُوا: مَعْذِرَةً أي موعظتنا معذرة نعتذر بها إلى الله، لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي، أي قياما منا بعذر أنفسنا عند ربنا بقصد التنصل من الذنب وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الصيد. فَلَمَّا نَسُوا تركوا ما ذُكِّرُوا بِهِ وعظوا به، أي تركوه ترك الناس، وأعرضوا عنه إعراضا تاما، فلم يرجعوا عن المخالفة السُّوءِ العمل الذي تسوء عاقبته بَئِيسٍ شديد، مأخوذ من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو المكروه يَفْسُقُونَ يخرجون عن الطاعة. عَتَوْا تكبروا عن ترك ما نهوا عنه خاسِئِينَ صاغرين. أما الفرقة الساكتة فقال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة. وقال عكرمة: لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه، وقالت: لِمَ تَعِظُونَ؟ وروى الحاكم عن ابن عباس: أنه رجع إلى قول عكرمة وأعجبه. المناسبة: تذكر الآيات نوعا آخر من مخالفات اليهود وعصيانهم، فبعد أن ذكرت قصتهم في دخول القرية، ذكرت قصة احتيالهم على صيد الأسماك. وقد ذكرت

أضواء من التاريخ على القصة:

هذه القصة في سورة البقرة إجمالا في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [65] وأشير إليها في سورة النساء أيضا في الآيتين [47، 154] . وذكرت قبل ذلك هنا في سورة الأعراف التي نزلت بمكة قبل ملاقاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أحدا من اليهود، للدلالة على الإعجاز لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان رجلا أميا، لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا، فإخباره بالقصة معجز، ودليل على أن ذلك من إخبار الله وكلامه. وهناك فائدة أخرى من إيراد القصة: وهو التنبيه على أن الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وبمعجزاته ليس شيئا جديدا حادثا في هذا الزمان، وإنما كان الكفر والإصرار حاصلا في أسلافهم من الزمان القديم. أضواء من التاريخ على القصة: روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به، وهو يوم الجمعة، فتركوه، واختاروا يوم السبت، فابتلوا به، وحرّم عليهم فيه الصيد وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا، كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس، فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد. وأخذ رجل منهم حوتا، وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك، فتطلع في تنوره، فقال له: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب، أخذ في السبت القادم حوتين، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا، وملّحوا، وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. فصار أهل القرية أثلاثا: ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا، وثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة.

التفسير والبيان:

فلما لما ينتهوا، قال المسلمون: إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، للمسلمين باب، وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فنظروا، فإذا هم قردة، ففتحوا الباب، ودخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسباءهم من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه، فيشم ثيابه ويبكي، فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى. وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير. وعن الحسن البصري: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزيا في الدنيا، وأطولها عذابا في الآخرة، هاه، وايم الله، ما حوت أخذه قوم فأكلوه، أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله جعل موعدا، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «1» . التفسير والبيان: واسأل يا محمد يهود عصرك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، والسؤال للتوبيخ والتقريع، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليس جديدا، بل هو موروث، فإن أسلافهم ارتكبوا الذنب العظيم، وخالفوا أوامر الله تعالى. وحذرهم من مخالفتك لئلا يحل بهم ما حل بسلفهم. اسألهم عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر على شاطئه، وهي أيلة على شاطئ البحر الأحمر، بين مدين والطور، حين اعتدوا حدود الله، وتجاوزوها يوم السبت الذي يعظمونه، بترك العمل فيه، وتخصيصه للعبادة،

_ (1) انظر القصة في الكشاف: 2/ 584- 585.

فخالفوا أمر الله فيه بالوصية لهم به إذ ذاك، واصطادوا السمك فيه، وقد نهوا عنه. فكان السمك يأتيهم كثيرا على سطح الماء يوم تعظيم السبت، ولا يحتاج صيده إلى عناء. ويوم لا يسبتون، في سائر الأيام غير السبت، تختفي الأسماك ولا تظهر، ولا تأتيهم كما كانت تأتيهم يوم السبت. فاحتالوا على صيدها بإقامة الأحواض حيث يأتي المد بالسمك ثم إذا انحسر الماء بالجزر، تبقى الأسماك في الأحواض، فيأخذونها يوم الأحد. مثل ذلك البلاء بظهور السمك يوم السبت المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في الأيام التي يحل لهم صيده، نبلو أي نختبر السابقين والمعاصرين، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم، ليجازى كل واحد على عمله، بسبب فسقهم المستمر وخروجهم عن طاعة الله لأن من سنة الله أن من أطاعه، سهل له أمور الدنيا، وأثابه في الآخرة، ومن عصاه، ابتلاه بأنواع المحن والمصائب. وحين ظهور المعصية فيهم، انقسم أهل تلك القرية فرقا ثلاثا، هي فرقة المؤيدين، وفرقة المعارضين الواعظين، وفرقة المحايدين الذين لم يجدوا فائدة من الوعظ ولاموا الواعظين قائلين لهم: لم تعظون قوما قد قضى الله بإهلاكهم وإفنائهم، وقد علمتم أن الله سيهلكهم ويعاقبهم في الدنيا والآخرة. فأجابهم الواعظون: نعظهم لنبرئ أنفسنا من السكوت عن المنكر، ونعتذر إلى ربكم بأننا أدينا واجبنا في الإنكار عليهم، ونحن لا نيأس من صلاحهم وعودتهم إلى الحق، ولعلهم بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، أنجينا الناهين عن السوء وهم فريق الواعظين وفريق اللائمين، إلا أن الفريق الأول كانوا أحزم وأقوى لأنهم أنكروا بالقول والفعل، لذا صرح القرآن بنجاة الناهين، والفريق الثاني أنكر بالقلب فقط، لذا سكت القرآن عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا ذنبا، فيذموا. وعذبنا الظالمين الذين ارتكبوا المعصية بعذاب شديد. وذلك العذاب أنهم لما عتوا أي تمردوا وتكبروا عن ترك ما نهوا عنه، وأبوا سماع نصيحة الواعظين، جعلهم الله قردة صاغرين أذلاء منبوذين مبعدين عن الناس. هذا عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. والظاهر وهو رأي الجمهور أنهم مسخوا قردة على الحقيقة لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان، لا لمجرد اصطياد الحيتان. وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية عليه. وقال مجاهد: أصبحوا كالقردة في سوء الطباع والطيش والشر والإفساد، بسبب جناياتهم. والراجح رأي العلماء الذين قالوا: إن الساكتين كانوا من الناجين لرجوع ابن عباس إلى رأي عكرمة في نجاة الساكتين، وقد رجح ابن كثير هذا الاتجاه، قائلا: وهذا أولى من القول بأنهم من الهالكين لأنه تبين حالهم بعد ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات في هذه القصة على ما يأتي: 1- الإخبار بالقصة علامة لصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] لأنا

من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، ومن سبط موسى كليم الله، ومن سبط ولده عزيز، فنحن من أولادهم، فقال الله عز وجل لنبيه: سلهم يا محمد عن هذه القرية: أما عذبتهم بذنوبهم؟ 2- إبطال الحيل الممنوعة المؤدية لتعطيل شرع الله، وهدم مبادئه، وتجاوز أحكامه، ومخالفة أوامره. 3- القول بسدّ الذرائع، أي تحريم كل وسيلة تؤدي إلى الممنوع أو المحظور شرعا، فما أدى إلى الحرام فهو حرام. 4- إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم، كان مثلهم. 5- دل قوله: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ على أن من أطاع الله تعالى، خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن. وهذا يعني أن المعاصي سبب النقمة. 6- واحتج أهل السنة بالآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لا في الدين ولا في الدنيا لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت، ربما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم، صونا لهم عن ذلك الكفر والمعصية. 7- الفرقة التي عصت أوامر الله، وتمادت في معصية الله، كانت هالكة، والفرقة التي أنكرت العصيان ووعظت العصاة، كانت ناجية. وأما الفرقة الساكتة فكانت على الراجح من الناجين، لإنكارها بالقلب، ويأسها من الإصلاح.

رفع الجبل فوق اليهود وإذلالهم إلى يوم القيامة وتفريقهم في الأرض واستثناء الصالحين [سورة الأعراف (7) الآيات 167 إلى 171] :

8- قد لا يأتي العذاب الشديد فجأة، وإنما بالتدريج، فقد عاقب الله بني إسرائيل أولا بتنكيل البابليين، ثم النصارى بهم، وسلبوا ملكهم. ومن ألوان عذاب الدنيا: المسخ قردة وخنازير بسبب التمادي في العصيان، ثم يأتي عذاب الآخرة. رفع الجبل فوق اليهود وإذلالهم إلى يوم القيامة وتفريقهم في الأرض واستثناء الصالحين [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 171] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

الإعراب:

الإعراب: وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ دون: صفة لموصوف محذوف، وتقديره: ومنهم جماعة دون ذلك، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وهو منصوب على الظرف. أُمَماً مفعول ثان أو حال مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه. وَرِثُوا الْكِتابَ: جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة فَخَلَفَ. يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو وَرِثُوا. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الجملة حال من وَيَقُولُونَ ... وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا معطوف على يَأْخُذُونَ. وَدَرَسُوا معطوف على وَرِثُوا الْكِتابَ. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ اعتراض وقع بين: ورثوا ودرسوا. أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان لميثاق الكتاب. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وتقديره: إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ليعود من الخبر إلى المبتدأ عائد. ويجوز أن يكون ذكر الْمُصْلِحِينَ من قبيل وضع المظهر موضع المضمر أي أجرهم، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع. وَإِذْ نَتَقْنَا وإذ: في موضع نصب بتقدير فعل، وتقديره: واذكر إذ نتقنا. كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ في موضع نصب على الحال من الْجَبَلَ. وقيل: في موضع رفع بتقدير مبتدأ محذوف. البلاغة: أَفَلا تَعْقِلُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب، لزيادة لتوبيخ. المفردات اللغوية: تَأَذَّنَ مثل أذّن: أي أعلم ونادى للإعلام لَيَبْعَثَنَّ ليسلطن عَلَيْهِمْ أي على اليهود يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ يذيقهم سوء العذاب بالذل وأخذ الجزية، فبعث عليهم سليمان، وبعده البابليين المجوس بقيادة بختنصر، فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، ثم النصارى، ثم

المناسبة:

المسلمين، ثم الألمان في العصر الحديث لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ لأهل طاعته رَحِيمٌ بهم. وَقَطَّعْناهُمْ فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي جماعات وفرقا وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ناس منحطون عنهم وهم الكفار والفساق وَبَلَوْناهُمْ اختبرناهم بِالْحَسَناتِ بالنّعم وَالسَّيِّئاتِ النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن فسقهم. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ بسكون اللام: من يخلف غيره في الشر، ومنه قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ ... [مريم 19/ 59] وبفتح اللام: من يخلف غيره بالخير، والخلف: مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: جمع وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة عن آبائهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى العرض: متاع الدنيا وحطامها، والأدنى: الشيء الدني وهو الدنيا، والمراد يأخذون المال أو هذا الشيء الدنيء من حلال وحرام. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الجملة حال، أي يرجون المغفرة، وهم عائدون إلى ما فعلوه، مصرون عليه، وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار، وإنما غفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصرّ لا غفران له. أَلَمْ يُؤْخَذْ استفهام تقرير مِيثاقُ الْكِتابِ الإضافة بمعنى في، وهو قوله في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما، فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة. وَدَرَسُوا ما فِيهِ عطف على: يُؤْخَذْ أي قرءوه وفهموه، فهم عارفون الحكم ذاكرون له. فلم كذبوا عليه بنسبة المغفرة مع الإصرار لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الحرام. أَفَلا تَعْقِلُونَ أو بالياء: أنها خير، فتؤثروها على الدنيا. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بالتشديد والتخفيف أي يتمسكون به ويعملون وَأَقامُوا الصَّلاةَ كعبد الله بن سلام وأصحابه. وَإِذْ نَتَقْنَا واذكر إذ رفعنا الجبل من أصله ظُلَّةٌ أي مظلة وهي كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر وَظَنُّوا أيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم، بإنذار الله لهم بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة، وكانوا أبوها لثقلها، فقبلوا. خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بجد واجتهاد. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح اليهود وعقابهم عليها بالمسخ قردة، ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة، عقابا على

التفسير والبيان:

أفعالهم، ثم ذكر أنه فرقهم جماعات مشردين في الأرض، وأن خلفهم جماعة ماديون تهمهم الدنيا فقط، وأن أسلافهم قبلوا الأخذ بالتوراة بعد إنذارهم بإسقاط الجبل عليهم. وهذا كله للعبرة، فكل أمة تفسق عن أمر الله وتخالف أحكام الدين مهددة بمثل هذا العقاب. التفسير والبيان: واذكر يا محمد حين أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه قضى عليهم في علمه وأوجب على نفسه، ليسلطنّ عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم العقاب الشديد، ويلحق بهم الذل والصغار، ويفرض عليهم الجزية، ويبدد ملكهم، ويفرق شملهم، حتى يصبحوا أذلة مشردين. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وخالف شرعه، وإنه لغفور لمن تاب إليه وأناب، ورحيم بأهل الطاعة والإنابة. وقد تحقق مدلول الآية، فكان موسى عليه السلام أول من فرض الخراج عليهم، وألزمهم به، ثم قهرهم اليونانيون والكشدانيون والكلدانيون والبابليون، ثم الروم النصارى، أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم المسلمون الذين أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم الألمان بقيادة هتلر في العصر الحديث، الذي قتلهم وشردهم في البلاد. والآية بمعنى قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً إلى أن قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء 17/ 4- 8] أي وإن عدتم إلى الإفساد بعد المرة الآخرة، عدنا إلى التعذيب والإذلال. وأما وجود اليهود في فلسطين الآن فهو أمر عارض مؤقت زائل بإذن الله، لثقتنا بوعد الله وكلامه.

هذا هو العقاب الأول على معاصي اليهود المتكررة وتمردهم على أحكام الله، وهو تسليط الأمم عليهم لإذلالهم وتعذيبهم. والعقاب الثاني: هو تفريقهم وتمزيقهم جماعات وطوائف وفرقا في أنحاء الأرض، فلا يخلو منهم قطر من الأقطار، فيهم الصالح وغير ذلك. فمنهم الصالحون المحسنون الذين يؤمنون بالأنبياء بعد موسى، ويؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ويؤثرون الآخرة على الدنيا، مثل أولئك الذين نهوا عن الاعتداء في السبت، ومثل عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا. ومنهم من هو دون غيره في الصلاح، ومنهم الفسقة الفجرة الكفرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسّحت كالرشا والربا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله. وفي الجملة: معنى وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم. والله يعامل الفريقين كما يعامل غيرهم، فيختبرهم بالحسنات أي بالنعم وبالسيئات أي بالنقم، لعلهم يرجعون عن ذنبهم، ويشكروا النعمة، ويصبروا على النقمة. ثم ظهر من الصالحين ومن دونهم خلف ورثوا التوراة عن أسلافهم، أي تلقفوا ما فيها من الأحكام وقرءوها واطلعوا على ما فيها. وهم الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم هجروها وآثروا الدنيا ومتاعها وزينتها وتفانوا في جمع حطامها، لا يبالون، حلالا كان أو حراما أي من غير طريق شرعي، كالسحت والرشوة والمحاباة في الحكم والاتجار في الدين وتحريف الكلم عن مواضعه، وزعموا أن الله سيغفر لهم ولا يؤاخذهم على أفعالهم وسيئاتهم، قائلين: إننا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أنبيائه، وهم مقيمون على المعاصي، مصرون على الذنوب، لا يتورعون عن ضم الحرام إلى غيره، فإن يأتهم عرض آخر من عروض الدنيا مثل

الذي أخذوه أولا بالباطل، يأخذوه بلهف دون تعفف، وهم يعلمون أن وعد الله بالمغفرة مخصوص بالتائبين الذين يقلعون عن ذنوبهم. فرد الله تعالى عليهم بقوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ ... أي أن الله تعالى ينكر عليهم صنيعهم هذا لأنه قد أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يقولوا على الله غير الحق، فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي يصرون عليها ولا يتوبون منها، وهذا هو المذكور في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، ومن جملة الميثاق أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه، وألا يحرفوا الكلم ولا يغيروا الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وهم قد درسوا الكتاب (التوراة) وفهموا ما فيه، من تحريم أكل مال الغير بالباطل والكذب على الله. ثم رغبهم الله في جزيل ثوابه، وحذرهم من وبيل عقابه، فقال: ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها من نعيم خالد خير للذين يتقون المعاصي ومحارم الله، ويتركون هوى نفوسهم، ويقبلون على طاعة ربهم، إنها خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بطريق الحرام كالرّشا والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون؟ أي أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي من ثواب عقل يردعهم عماهم فيه من السفه والتبذير؟! والخلاصة: أن الدار الآخرة خير من ذلك العرض الخسيس. وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد بني إسرائيل، وفي هذا عبرة للمسلمين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. ثم أثنى الله تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ ... أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الإلهي، ويعتصمون به، ويقتدون بمنهجه، ويتركون زواجره، وأقاموا الصلاة، وخصها بالذكر مع أن الكتاب يشتمل على كل عبادة،

فقه الحياة أو الأحكام:

ومنها إقامة الصلاة إظهارا لعلو مرتبتها، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان، وأنها عماد الدين، والفارقة بين الكفر والإيمان. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ أي لا نضيع أجرهم لأن المصلحين في معنى الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف 18/ 30] . وبعد أن بيّن الله تعالى مخالفة بني إسرائيل لأحكام دينهم ذكّر ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم، فقال: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ... أي واذكر أيها النبي إذ رفعنا فوقهم جبل الطور لقوله: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة 2/ 63- 93] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء 4/ 154] ، وأصبح كأنه سقيفة، لما أبوا أن يقبلوا التوراة لثقلها، وعلموا وأيقنوا أنه ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو، ولأنهم كانوا يوعدون به، وقلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بجد واجتهاد، وحزم وعزم على احتمال المشاق والتكاليف. واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه، أو: واذكروا ما فيه من الإعداد للثواب والعقاب، فترغبوا في الثواب العظيم، وترهبوا من العقاب الشديد، رجاء أن تتحقق التقوى في قلوبكم، فتصبح أعمالكم متفقة مع الدين، وفي ذلك الفلاح لكم، أو لتتقوا ما أنتم عليه، فإن قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذيب الأخلاق، كما أن التهاون في احترام الدين يغري النفوس على اتباع الشهوات، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] . فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات واردة في حق اليهود الذين بقوا على الكفر واليهودية، فأما الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم فخارجون عن هذا الحكم.

وقد دلت الآيات على ما يلي: 1- إعلام اليهود الأسلاف ومن باب أولى الخلف أنهم إن غيروا نصوص التوراة، ولم يؤمنوا بالنبي الأمي، بعث الله عليهم من يعذبهم إلى يوم القيامة. وهذا تنصيص على أن ذلك العذاب مستمر إلى يوم القيامة، وهو يقتضي أن العذاب إنما يحصل في الدنيا. وللعذاب ألوان ومظاهر، فهو إما أخذ الجزية، وإما الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا [آل عمران 3/ 112] وإما الإخراج والإبعاد من الوطن. وقد أذاقهم العذاب أمم كثيرة في الماضي من عهد بختنصّر، إلى العهد الإسلامي، وإلى العصر الحديث. وأما دولة إسرائيل فلا يحسد موقفها فهي تبع لإمريكا والغرب، وتعيش في قلق واضطراب ومخاوف، فلا تنعم بالأمن والاستقرار، ولا تهدأ ساحتها، لا في الداخل ولا في الخارج، وزوالها محقق مع الزمن، كما يثبت أهل العلم، فإن مرور الزمان ليس في صالحهم إطلاقا. 2- اليهود أمة مشتتة ممزقة مفرقة في أنحاء الأرض، لا يخلو منهم قطر، منهم الصلحاء ومنهم الكفرة الفسقة الفجرة، وقد اختبرهم الله بأنواع عديدة من الاختبارات، أو عاملهم معاملة المختبر، فأمدهم بالحسنات أي بالخصب والعافية، والسيئات، أي الجدب والشدائد، ليرجعوا عن كفرهم ويتوبوا من فسقهم. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلأجل الترغيب، وأما النقم فلأجل الترهيب. 3- أولاد الذين فرّقهم الله في الأرض، ورثوا التوراة كتاب الله، فقرءوه وعلموه، وكانوا خلف سوء، خالفوا أحكامه وارتكبوا محارمه، مع دراستهم له، فاستحقوا التوبيخ والتقريع من الله تعالى. ومن قبائحهم: ماديتهم الطاغية، وربما هم الذين علّموا أوربا وأمريكا

النزعة المادية الشديدة، فهم كانوا يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من حلال أو حرام، لشدة حرصهم ونهمهم: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ويزعمون أنه سيغفر لهم مع بقائهم على المعاصي، بل إنهم لا يتوبون، وقد ذمهم الله على اغترارهم بقولهم: سَيُغْفَرُ لَنا مع أنهم مصرون على الذنوب. وإن جاءتهم عروض أخرى دنيوية وهي الرّشا والمكاسب الخبيثة، أخذوها أيضا. وفي هذا دلالة على أن الطمع في الدنيا هو سبب فساد اليهود. قال الحسن البصري: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وأنهم لا يستمتعون منها «1» . وقال القرطبي: وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، أسند الدارمي أبو محمد عن معاذ بن جبل قال: «سيبلى القرآن في صدور أقوام كما سيبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا: سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا» «2» . 4- أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل في التوراة وفي جميع الشرائع على اتباع قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرّشا إلى الباطل. وهذا عهد أيضا على المسلمين في كتاب ربنا وسنة نبينا. ثم خالف اليهود الميثاق، مع أنهم قرءوا التوراة، وهم قريبو عهد بها. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة، فيخرجون له كتاب الله، فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة، وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم، وحكموا له.

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 14 (2) تفسير القرطبي: 7/ 311- 312

الميثاق العام المأخوذ على بني آدم [سورة الأعراف (7) الآيات 172 إلى 174] :

5- المتمسكون بكتاب الله، والمقيمو الصلاة، لهم أجرهم الجزيل عند ربهم، لا يضيع من حسناتهم شيء. 6- من قبائح اليهود أنهم رفضوا الأخذ بالتوراة لغلظها وثقلها، ولم يعودوا للعمل بما فيها إلا بتهديدهم بإسقاط جبل الطور عليهم. وقد سبق بيان قصة الجبل في سورة البقرة (63، 93) وفي سورة النساء (154) . الميثاق العام المأخوذ على بني آدم [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) الإعراب: وَإِذْ أَخَذَ إذ: في موضع نصب لأنه يتعلق بقولهم: قالُوا: بَلى وقيل: بتقدير: اذكر. ومِنْ ظُهُورِهِمْ: بدل من بَنِي آدَمَ بإعادة الجار، وهو بدل بعض من كل، وتقديره: وإذ أخذ ربك من ظهورهم من بني آدم ذرياتهم. أَنْ تَقُولُوا في موضع نصب على المفعول له أي لأجله، وتقديره: لئلا يقولوا، أو كراهة أن تقولوا. البلاغة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ فيه التفات من المتكلم إلى المخاطب، والأصل: وإذ أخذنا، والمقصود تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب له. والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام: رَبُّكَ فيها تكريم وتشريف.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذْ أَخَذَ: واذكر حين أخذ أي أخرج، وإنما عبّر به، لما فيه من الاصطفاء والانتقاء مِنْ ظُهُورِهِمْ جمع ظهر: وهو ما فيه العمود الفقري للإنسان ذُرِّيَّتَهُمْ سلالتهم ذكورا وإناثا، بأن أخرج بعضهم من صلب بعض، من صلب آدم، نسلا بعد نسل، كنحو ما يتوالدون كالذر وَأَشْهَدَهُمْ أخذ منهم شهادة على أنفسهم، والشهادة: إما قولية، كما قال: ِدْنا عَلى أَنْفُسِنا [الأنعام 6/ 130] أو حالية، كما قال: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة 9/ 17] أي حالهم شاهدة عليهم بذلك، لا قائلين. بَلى شَهِدْنا أي بلى أنت ربنا، شهدنا بذلك أَنْ تَقُولُوا أي أن الإشهاد لئلا تقولوا أيها الكفار عَنْ هذا التوحيد غافِلِينَ لا نعرفه. وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أي فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا أَفَتُهْلِكُنا تعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ من آبائنا بتأسيس الشرك. المعنى: لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد. والتذكير به على لسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قائم مقام ذكره في النفوس. وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ مثل ذلك البيان للميثاق نبينها، ليتدبروها وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم أو عن التقليد واتباع الباطل. المناسبة: لما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع توابعها، ذكر في هذه الآية ما هو حجة على جميع المكلفين. وبعد أن ذكر الميثاق الخاص على اليهود بقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة 2/ 63] وقوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ذكر هنا الميثاق العام الذي أخذه على بني آدم جميعا وهم في صلب آدم. والمقصود من هذا الكلام هاهنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج النقلية والعقلية، ومنعهم عن التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: واذكر يا محمد للناس جميعا ما أخذه الله على البشر كافة من ميثاق يتضمن الاعتراف على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا الله، وذلك حين أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم كما تثبت الآية، ومن آدم نفسه كما ثبت في الخبر «1» ، أي استخرج من بني آدم ذريتهم أو سلالتهم، وخلقهم على فطرة التوحيد والإسلام. وأشهد كل واحد على نفسه من هؤلاء الذرية قائلا لهم قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتبليغ: ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة. وسبب هذا الإشهاد هو ألا يعتذروا يوم القيامة إذا أشركوا: إنا كنا عن التوحيد غافلين، أي لم ينبهنا إليه أحد، فلا عذر لكم بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله، ووجود العقل، وتكوين الفطرة. وخلق الناس على فطرة التوحيد مقرر في آية أخرى هي قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم 30/ 30] وفي الصحيحين ما يؤيد ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي رواية: «على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» . والجمعاء: السليمة الخلقة، والجدعاء: المقطوعة بعض الأعضاء.

_ (1) وهو ما رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لما خلق الله آدم مسح ظهره. فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ... » .

وقد اختلف العلماء في هذه الآية آية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ... على رأيين: رأي السلف، ورأي الخلف. أما السلف من المفسرين فقالوا: إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر، وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا، وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك، وقد روي هذا المعنى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من طرق كثيرة لا يخلو بعضها من ضعف وانقطاع، وقال به جماعة من الصحابة «1» . وأما الخلف فقالوا: هذا من قبيل التمثيل والتصوير، والمجاز والاستعارة فلا سؤال ولا جواب، وإنما أقام الله الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه قال للخلق: أقروا بأني ربكم، ولا إله غيري، وكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى «2» . وهذا ما اختاره الزمخشري وأبو حيان وأبو السعود والبيضاوي. وقال عنه الرازي: لا طعن فيه البتة. وحدد ابن كثير دلالة الأحاديث، فقال: هذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه، وميّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وهما موقوفان لا مرفوعان، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد، إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، وقد فسر الحسن الآية بذلك. قالوا: ولهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل: من آدم،

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 46، تفسير ابن كثير: 2/ 261- 264. (2) روي عن ابن عباس أنه قال: «لو قالوا: نعم، لكفروا» لأن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم، بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب، وتختص بالنفي وتفيد إبطاله، والمعنى: بلى أنت ربنا، ولو قالوا: نعم، لصار المعنى: نعم لست ربنا.

مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل: من ظهره ذرياتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. ثم قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا، والشهادة تكون بالقول، كقوله: الُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا الآية، وتارة تكون حالا، كقوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة 9/ 17] أي حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات 100/ 7] . فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم، ولهذا قال: أَنْ تَقُولُوا أي لئلا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي التوحيد غافِلِينَ أي لم ننبه إليه أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا الآية. وإني لميّال لهذا الرأي، وهو أولى الآراء بالصواب. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا ... أي إن سبب الإشهاد لمنع اعتذارهم يوم القيامة بغفلتهم عن التوحيد، أو بادعائهم التقليد، وقولهم: إن آباءنا أشركوا من قبلنا، ونحن خلف لهم، نجهل بطلان شركهم، وقد قلدناهم في أعمالهم واعتقادهم، مع حسن الظن بهم، ولم نهتد إلى التوحيد. أفتهلكنا بالعذاب وتؤاخذنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم أبدا لأن التقليد في الاعتقاد وأصول الدين لا يجوز. ومثل ذلك التفصيل البليغ الواضح للميثاق، نفصل للناس الآيات البينات، ليتدبروها بعقل وبصيرة، ولعلهم يرجعون بها عن شركهم، وجهلهم، وتقليدهم الآباء والأجداد.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- خلق الله البشر على فطرة التوحيد أي الإقرار بأن الله ربهم وأنه واحد لا شريك له. 2- لا يعذر الإنسان بالجهل بخالقه، لما يرى من الدلائل، فمن لم تبلغه دعوة رسول لا يعذر يوم القيامة في الشرك بالله، ولا بفعل الفواحش التي تنفر منها الطباع السليمة وتدرك ضررها العقول الرشيدة. 3- إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في الميثاق الأول، ومن بلغ عاقلا لم يغنه الميثاق الأول، وبناء عليه: أطفال المشركين في الجنة. 4- إبطال حجة المشركين يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ينبههم إلى التوحيد، وإبطال التقليد للآباء والأجداد في أصول العقيدة والدين، فكما لا يقبل الاعتذار بالجهل لقيام الأدلة على التوحيد، لا يقبل الاعتذار بالتقليد، بعد قيام الأدلة الفطرية والعقلية على معرفة الله ووحدانيته. 5- في كتاب الله تعالى وهو القرآن تفصيل كل شيء، فكما فصل الله في الآية بناء الإنسان على فطرة التوحيد، بيّن سائر الآيات ليتدبرها الناس، فيرجعوا إلى الحق، ويعرضوا عن الباطل.

قصة بلعم بن باعوراء وأمثاله الضالين المكذبين [سورة الأعراف (7) الآيات 175 إلى 177] :

قصة بلعم بن باعوراء وأمثاله الضالين المكذبين [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) الإعراب: يَلْهَثْ في الموضعين، حال، أي لاهثا ذليلا بكل حال. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ: فاعل ساءَ مقدر فيها، وتقديره: ساء المثل مثلا. والْقَوْمُ: أي مثل القوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وارتفع بما كان يرتفع به «مثل» . وهو يرتفع إما لأنه مبتدأ وما قبله خبره، وإما لأنه خبر مبتدأ محذوف، كقولهم: بئس رجلا زيد، أي هو زيد، ومَثَلًا: منصوب على التمييز. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إما معطوف على قوله كَذَّبُوا فيصير المعنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما كلام منقطع بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب. البلاغة: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ تشبيه تمثيلي، شبه حاله التي هي مثل في السوء كحال أخس الحيوانات، وهي حالة الكلب في دوام لهثه، سواء في حالة التعب أو الراحة، والتشبيه التمثيلي: هو حالة انتزاع الصورة من متعدد. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ تشبيه مرسل مجمل.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَاتْلُ اقرأ نَبَأَ خبر مهم فَانْسَلَخَ مِنْها خرج من الآيات بكفره، كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، الذي دعا على موسى مقابل هدية من اليهود. وعبر بالانسلاخ للدلالة على كمال مباينته للآيات، بعد أن كان بينهما كمال الاتصال، كما قال أبو السعود. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أدركه ولحقه فصار قرينه الْغاوِينَ الراسخين في الغواية والضلالة، بعد أن كان من المهتدين وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها لو شئنا لرفعناه إلى منازل العلماء، بأن نوفقه للعمل أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ركن إلى الدنيا ومال إليها وَاتَّبَعَ هَواهُ في دعائه إليها، فأصبح من الحقيرين فَمَثَلُهُ صفته إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ تشد عليه بالطرد والزجر يَلْهَثْ للهث: التنفس الشديد مع إخراج اللسان. والقصد: التشبيه في الخسة والحقارة. ذلِكَ المثل مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بعد أخذ الميثاق عليهم وعلى الناس فَاقْصُصِ الْقَصَصَ على اليهود ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أي بئس وقبح، والمثل: الصفة يَظْلِمُونَ بالتكذيب. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أخذ الميثاق على الناس قاطبة، وإقرارهم بأن الله ربهم، ضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله، ومضمون هذا المثل أن العالم بآيات الله غير العامل بها كالحية تنسلخ من جلدها وتتركه على الأرض. قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء. التفسير والبيان: واقرأ أيها الرسول على اليهود خبر الذي علمناه آياتنا، ولكنه لم يعمل بها، وتركها وراءه، وتجرد منها إلى الأبد، فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له، وتمكن من الوسوسة له، فأصغى إليه، فصار من الظالمين الكافرين، لميله إلى الدنيا واتباع الهوى والشيطان.

وهو عالم من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين، وروي عن ابن عباس أنه رجل من اليمن، اسمه بلعم بن باعوراء، أوتي علم بعض كتب الله، فانسلخ منها، وكفر بآيات الله، ونبذها وراء ظهره. وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه، وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه، وكان مجاب الدعوة، وعنده اسم الله الأعظم، فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه منه، حتى دعا عليه، فاستجيب له، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه «1» . وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين، يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه، وترك دين موسى عليه السلام «2» . وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بالآيات، وجعلنا له منزلة عظيمة من منازل العلماء الأبرار، بأن نوفقه للهداية والعمل بالآيات. ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها ورغب فيها واهتم بلذائذها، واتبع هواه، فلم يوجه همّه إلى نعيم الآخرة، ولم يهتد بآياتنا، ولم ترق نفسه إلى سلّم الكمال الروحي، ولم يحترم نعمة الله عليه باستعمالها في مرضاته. وأصبح مثله أو صفته في الذلة والحقارة، والخسة والدناءة كمثل الكلب أو صفته في أخس أحوالها وأذلها، وهي حال دوام اللهث به، سواء حمل عليه أي شد عليه وطرد، أو ترك دون طرد. وهذه الصفة هي أقبح حالات الكلب وأخسها، وقد شبّه بها حال عجيبة غريبة، هي حال ذلك الذي تجرد من معرفة آيات الله تعالى.

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 54. (2) تفسير ابن كثير: 2/ 264.

فقه الحياة أو الأحكام:

ذلك المثل الغريب هو مثل هؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله، واستكبروا عنها، ولم تنفعهم الموعظة، وهم اليهود بعد ما قرءوا نعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في التوراة، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستنصرون أو يستفتحون به، وجاء القرآن المعجز كاشفا هذه الحقيقة التي أنكرها اليهود بعد بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. فاقصص أيها الرسول قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال المكذبين بآياتنا، لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعم وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب استعماله نعمة الله في تعليمه الاسم الأعظم- الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب- في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، لعلهم يتفكرون فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله أعلمهم بصفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته. ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، أي قبحت أشد القبح صفة المعرضين عن النظر في آيات الله أن شبهوا بالكلاب التي لا هم لها إلا تحصيل أكلة أو شهوة، وهم بهذا الإعراض كانوا ظالمين لأنفسهم بالتكذيب، فما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى. وقد ذكر سوء هذا المثل في السنة، فقد ثبت في الصحيح وفي الكتب الستة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» . فقه الحياة أو الأحكام: الهدف من هذه القصة ضرب مثل لجميع الكفار، المعرضين عن الإيمان بالله والرسول بعد ما عرفوا الحق، فمن آتاه الله العلم والدين، فمال إلى الدنيا، وأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، كان مشبّها بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح، لا لحاجة أو ضرورة.

وشبّه حال كل كافر بحال رجل عرف آيات الله، ثم تركها وراء ظهره، وهذا ينطبق على بلعم بن باعوراء أو غيره ممن اتصف بهذه الصفة، فلم تعين الآية اسم من ضرب به المثل، وحينئذ لا يهم سواء أكان ذلك مطابقا لبعض الروايات بأنه رجل من بني إسرائيل أم الكنعانيين أم أهل اليمن، أم من غيرهم. وتكون الآية تحذيرا للناس عن اتباع أهوائهم، وركونهم إلى الدنيا وشهواتها، واتباع الأغراض الدنيئة، وترك ما أرشدتهم إليه آيات الله من الإيمان بالله وبرسوله وبالآخرة. والآية واضحة الدلالة على أن المعرض عن آيات الله، واقع في الضلالة والغواية، بسبب سوء فعله، واختياره العمل بما هو قبيح شرعا ومروءة. وعلى الإنسان الاعتبار بهذه القصة، والتأمل والتفكر في آيات الله بعين البصيرة والعقل، لا بالهوى والحقد والعداوة. وفي إيراد هذا المثل والتشبيه بالصورة الواقعية إشارة إلى أن للأمثال تأثيرا قويا في إقناع السامعين، وأنها أقوى أثرا من إيراد الحجج والبراهين. وفيها إشارة أيضا إلى أهمية التفكر، وأنه مبدأ الوصول إلى الحقيقة والعلم والمعرفة الصحيحة، كما قال تعالى في مناسبات كثيرة في كتابه، مثل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر 39/ 42] ومثل: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس 10/ 24] . وهذه الآية- كما قال الرازي- من أشد الآيات على أصحاب العلم، فإن العالم إذا لم يعمل بعمله، حرم بركة العلم، وكان بعده عن الله أعظم، كما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما رواه الديلمي في الفردوس عن علي رضي الله عنه: «من ازداد علما، ولم يزدد زهدا، لم يزدد من الله إلا بعدا» أو كما قال.

أسباب الهداية والضلالة [سورة الأعراف (7) الآيات 178 إلى 179] :

أسباب الهداية والضلالة [سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) الإعراب: فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمل على اللفظ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حمل على المعنى، والقصد من الإفراد في الأول والجمع في الثاني: هو التنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين. البلاغة: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ التشبيه هنا مرسل مجمل. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا وأوجدنا الْجِنِّ مخلوقات خفية لا تدرك بالحواس لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي لا يفهمون بها الحق، والقلب هنا هو الذي يسمونه أحيانا (الضمير) ويراد به هنا العقل أو الوجدان أي محل الحكم على الأشياء المدركة، وسبب هذا الاستعمال أن آثار الأحداث من خوف أو سرور تنعكس عليه، فيحدث الانقباض أو الانشراح. وكثيرا ما يستعمل في القرآن بمعنى دقة الفهم والتعمق في العلم. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها دلائل قدرة الله، بصر عظة واعتبار وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفهم والبصر والاعتبار بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تحرص على ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ضرب الله المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه، ليتعظ أولئك الضالون، ويتركوا ضلالهم، ويعودوا إلى الحق، بيّن أسباب الهدى والضلال، من استعمال العقل والحواس، واستخدام هداية الفطرة في سلوك أحد السبيلين: الخير والشر، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] . التفسير والبيان: من يوفقه الله للإيمان والخير واتباع الشرع والقرآن باستعمال عقله وحواسه، فهو المهتدي حقا لا سواه، ومن يخذله ولا يوفقه، ولا يهديه إلى الخير واتباع القرآن، بسبب تعطيل عقله وحواسه في فهم آياته الكونية والشرعية، فهو الخاسر البعيد عن الهدى، الذي خسر الدنيا والآخرة. وبما أن الهداية الإلهية نوع واحد والضلالة أنواع متعددة، أفرد الله المهتدي، وجمع الخاسرين، فقال: فَهُوَ الْمُهْتَدِي ثم قال: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ثم أوضح تعالى ما أجمله بالنسبة لأهل الضلالة فقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي أن الله تعالى يقسم بأنه خلق أو أوجد خلقا كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مستعدين لعمل يستحق دخول جهنم، وخلق أيضا خلقا آخرين مستعدين لعمل يدخلهم الجنة، كما قال في بيان مآل الفريقين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى 42/ 7] وقال في بيان مصيرهم يوم القيامة: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود 11/ 105] . وأسباب استحقاق أهل النار دخول جهنم: هي أنهم لا يستعملون عقولهم استعمالا صحيحا للوصول إلى حقيقة الإيمان، وإدراك لذة السعادة الدنيوية

والأخروية، وأن الخير فيما أمر الله به، وأن الشر فيما نهى عنه الله، وإنما نظرتهم ظاهرية، كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم 30/ 7] فهم بمنزلة من لا يفقه لأنهم لا ينتفعون بقلوبهم الواعية، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا. وهم أيضا لا ينظرون بأعينهم نظر تبصر واعتبار وإمعان في آيات الله الكونية وآياته القرآنية التي ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم. ولا يسمعون بآذانهم سماع تدبر وإصغاء آيات الله المنزلة على أنبيائه، ولا يسمعون أخبار التاريخ والأمم الغابرة، وكيف كان مصيرهم بسبب إعراضهم عن هداية الله وإرشاد الرسل. وليس الغرض من نفي السمع والبصر نفي الإدراكات عن حواسهم، وإنما المقصود بيان حجبها عن إبصار الهدى وسماع المواعظ. ونظير ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ، أَفَلا يَسْمَعُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة 32/ 26- 27] . أولئك الموصوفون بما ذكر من تعطيل عقولهم وحواسهم هم كالأنعام (البقر والإبل والغنم) لا همّ لهم إلا الأكل والشرب والتمتع بلذات الحياة والدنيا، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا منها لأن الأنعام تحرص على ما ينفعها، وتنفر مما يضرها، ولا تسرف في أكلها وشربها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وهم مسرفون في جميع اللذات، ولا يهتدون إلى ثواب، ولا قدرة للحيوانات على تحصيل الفضائل، وأما الإنسان فأعطي القدرة على تحصيلها. أولئك هم كاملو الغفلة عن آيات الله وعن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما

فقه الحياة أو الأحكام:

خلقت من أجله، وهو الاستفادة من المسموعات، والانتفاع من المبصرات، وهم الأغبياء الجاهلون الذين لا ينظرون إلى المستقبل، وإنما انصرفوا إلى الحياة الدنيا، وتركوا الاشتغال بما يؤهلهم للخلود في نعيم الحياة الآخرة. وعلى هذا تكون غفلتهم بمعنى ترك التدبر، والإعراض عن الجنة والنار. أما العقلاء الفطنون فهم الذين عملوا للآخرة، ولم يهملوا ما تتطلبه الدنيا، كما قال تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص 28/ 77] . فقه الحياة أو الأحكام: يرى المعتزلة أن الهداية والضلالة باختيار الإنسان، وأما هذه الآية: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ فهي في المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم، ونظرا لإيغالهم في الكفر وإصرارهم عليه، وأنه لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار، جعلهم الله مخلوقين للنار، فالآية تدل على توغلهم في موجبات النار، وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها «1» . ويرى أهل السنة أن الآية تدل على أن الهداية من الله، وأن الضلال من الله تعالى، فمن هداه الله، فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده

_ (1) الكشاف: 1/ 588.

لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» «1» . قال البيضاوي عن قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض «2» . وأما قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا فيدل في رأي أهل السنة على أن الله تعالى خلق الأفعال أو الأعمال، فإن أولئك الكفار استعملوا عقولهم وحواسهم في مصالح الدنيا، ولم يستخدموها في مصالح الدين، فما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يحقق مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين. والمعنى أن الله خلق في المؤمن القدرة على الإيمان، وخلق في الكافر القدرة على الكفر «3» ، والعبد وجّه تلك القدرة إما إلى الإيمان وإما إلى الكفر، ولم يجبره تعالى على اختيار أحد الأمرين، وإلا لما كان عدلا حسابه وعقابه. قال ابن كثير في تفسير آية: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا وهيأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . والخلاصة: يرى المعتزلة أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، وأن الإنسان مخيّر مطلقا، ويرى أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العبد، وأن

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 267. (2) تفسير البيضاوي: ص 229. (3) تفسير الرازي: 15/ 60- 63.

أسماء الله الحسنى [سورة الأعراف (7) آية 180] :

للإنسان تخييرا وكسبا في أمور ما عدا الحياة والموت والعز والذل والرزق ونحوها من الأصول وذلك لأن الله هو خالق الخلق ومتصف بالعدل، فيخلق أفعال الإنسان، ومن الظلم أن يحاسبه على فعل أكره عليه أو قهر عليه، والهداية من الله لها مفهومان: الدلالة، والتمكين من الوصول إلى الغاية، أي أن تعالى أرشد الإنسان ودلّه على طرق الخير: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] ثم وفقه لهدفه ومكنه من الوصول إليه بهداية أخرى، فمن سأل شرطيا عن طريق فدله عليه، فتلك الهداية الأولى، وإذا ركب معه في سيارته، وأوصله إلى المكان المطلوب فذلك هو التمكين من الهداية الثانية، والإنسان هو الذي يوجّه ما خلق الله فيه من قدرات في الخير والشر إلى كل منهما، وبهذا التوجيه يحاسب وعليه يعاقب. واستدل العلماء بقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف 7/ 179] على أن محل العلم هو القلب لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، مما يدل على أن محل الفهم والفقه هو القلب. أسماء الله الحسنى [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) المفردات اللغوية: الْأَسْماءُ جمع اسم: وهو ما يدل على الذات أو هو كل لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقا، فإن كان مشتقا فهو صفة الْحُسْنى مؤنث الأحسن فَادْعُوهُ بِها سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو لطلب الحاجات منه وَذَرُوا اتركوا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يميلون عن الحق، حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم، كاللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة: من المنان.

المناسبة:

صل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف. ومنه اللحد في القبر انحرافه إلى جهة القبلة سَيُجْزَوْنَ سيلقون في الآخرة جزاء أعمالهم. المناسبة: لما وصف الله تعالى المخلوقين لجهنم بأنهم هم الغافلون، لتعطيل عقولهم ومشاعرهم في فهم آيات الله وتزكية نفوسهم بالإيمان والعلم النافع، أمر بعده بذكر لله تعالى، فهو الدواء لتلك الغفلة، فقال: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وهو كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى، والمخلّص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى. وقد ذكرت أسماء الله تعالى الحسنى في سور أربعة: أولها: هذه السورة، وثانيها: في آخر سورة الإسراء (بني إسرائيل) في قوله: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء 17/ 110] ، وثالثها: في أول طه، وهو قوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه 20/ 8] ، ورابعها: في آخر الحشر، وهو قوله: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الحشر 59/ 24] . سبب النزول: روي أن بعض المسلمين دعا الله أو الرحيم في صلاته، ودعا الرحمن مرة أخرى فقال المشركون: محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، أي أن هذه الأسماء إله واحد، وليست بآلهة متعددة. التفسير والبيان: لله دون غيره جميع الأسماء المشتملة على أحسن المعاني، فنادوه بها إما للثناء عليه، مثل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 2/ 255] ومثل: هُوَ

اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الحشر 59/ 22] وإما للسؤال وطلب الحاجات. وأسماء الله الحسنى تسع وتسعون، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن لله تسعا وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» ومعنى «أحصاها» عدها وحفظها وتفكر في مدلولها. وقد ذكر الترمذي والحاكم هذه الأسماء من طريق الوليد بن مسلم عن شعيب، فقال بعد قوله: «يحب الوتر» : «هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المانع «1» ، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» «2» .

_ (1) وفي رواية: المغني. [.....] (2) قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. والراجح لدى المحدثين أن سرد هذه الأسماء مدرج من الراوي، كما حقق الحافظ ابن حجر.

والمراد من الأسماء في الآية والحديث: التسميات بلا خلاف، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى، منها ما يستحقه لنفسه، ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به، ومنها صفات لذاته، ومنها صفات أفعال. وهذه الأسماء عند العلماء توقيفية، فلا يسمى باسم لم يرد في القرآن والسنة كالرفيق والسخي والعاقل. وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي اتركوا أولئك الذين يلحدون في أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن الحق، إلى سبل أخرى من تحريف أو تأويل، أو شرك، أو تكذيب، أو زيادة أو نقصان، أو ما ينافي وصفها بالحسنى. والإلحاد يكون بثلاثة أوجه: أحدها- بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه، فسمّوا بها أوثانهم، فاشتقوا اللّات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. الثاني- بالزيادة فيها، أي التشبيه، فالمشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه. الثالث- بالنقصان منها أي التعطيل، فالمعطلة سلبوه ما اتصف به، كما يفعل الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرونه بغير ما يذكر من أفعاله، إلى غير ذلك مما لا يليق به. والسبب في تركهم أنهم سيلقون جزاء عملهم، ويعاقبون في الدنيا قبل الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى لأن قوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يفيد الحصر. 2- أسماء الله ليست إلا لله، والصفات الحسنى ليست إلا لله، فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال، وهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال، فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه. والأسماء: ألفاظ دالة على المعاني، فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها، ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال، وهي محصورة في نوعين: عدم افتقاره إلى غيره، وثبوت افتقار غيره إليه. وأسماء الله تعالى يجوز إطلاقها كلها على غير الله تعالى، ما عدا اسمي: الله والرحمن. وهذه الأسماء منها ما يمكن ذكره وحده، مثل: يا الله، يا رحمن، يا حكيم. ومنها ما لا يجوز إفراده بالذكر، بل يجب أن يقال: يا محيي يا مميت، يا ضار يا نافع. ولا يجوز إطلاق اسم على الله غير وارد في القرآن والسنة، فهي أسماء توقيفية، ولا تنحصر في تسع وتسعين، بدليل ما رواه الإمام أحمد، وأبو حاتم بن حبان البستي في صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته

أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدل مكانه فرجا» فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: «بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها» . وقد أورد ابن العربي مائة وستة وأربعين اسما من أسماء الله للتضرع والابتهال، وذكر في موضع آخر زيادة ثلاثين اسما «1» . فصار المجموع مائة وستة وسبعين، مثل الطيّب والمعلّم والجميل: وهو الذي لا يشبهه شيء. 3- لله أسماء حسنة، يجب على الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية، كما تبين، فيجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، يا عاقل، يا طبيب، يا فقيه. 4- الاسم غير المسمى لأن أسماء الله كثيرة، ولا شك أن الله واحد منها، فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى. لذا قال جماعة من العلماء: المراد بهذه الأسماء التسميات لأنه سبحانه واحد، والأسماء جمع. ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره. فمعنى قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي التسميات الحسنى التي يدعى بها لا بغيرها. وقيل: ولله الصفات. والاسم هو المسمى، أو صفة له تتعلق به، وهو غير التسمية. 5- سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب فإنها تدل على توحيده وجوده ورحمته وإفضاله.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 798- 805

6- ليس للإنسان أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى، وهذه الدعوة تتطلب فهم معاني تلك الأسماء. وقد ذكر ابن العربي في أحكام القرآن «1» وغيره تلك المعاني، فيطلب بكل اسم ما يليق به، يقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزاق ارزقني، يا هادي اهدني. وإن دعا باسم عام قال: يا مالك ارحمني، يا عزيز احكم لي، يا لطيف ارزقني، وإن دعا بالاسم الأعظم قال: يا الله، فهو متضمن لكل اسم، قال ابن العربي: وهكذا، رتّب دعاءك تكن من المخلصين. 7- يجب تنزيه الله تعالى عن الإلحاد في أسمائه، وذلك على ثلاثة أوجه: الأول- إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله، كتسمية الكفار الأوثان آلهة، وتسمية أصنام لهم باللات والعزى ومناة، من الإله، والعزيز، والمنان. وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن. والثاني- أن يسمى الله بما لا يجوز تسميته به، مثل تسميته أبا للمسيح، وقول النصارى: الأب، والابن، وروح القدس. والثالث- أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه، ولا يتصور مسماه، فإنه ربما كان مسماه أمرا غير لائق بجلال الله تعالى. وقد ختمت الآية بقوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله تعالى. قالت المعتزلة: الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله.

_ (1) المرجع والمكان السابق.

والدعاء مشروع وعبادة، قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186] . ولا يكون الدعاء لغير الله تعالى من أي مخلوق حي أو ميت، فالله وحده هو الذي يقصد في الدعاء، فهو الصمد أي الذي لا يقصد في المطالب غيره، وقال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل 27/ 62] أي لا يجيب المضطر إلا هو، فهو المستحق وحده للعبادة، المقصود بالدعاء. وفوائد الأمر بذكر الله في الآية: فَادْعُوهُ بِها كثيرة: منها ترسيخ معالم الإيمان وتنميته، وتحقيق مراقبة الله والخشوع له، والرغبة فيما عنده، وتهوين شأن الدنيا ولذاتها، روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي: «من نزل به غم أو كرب أو أمر مهمّ، فليقل: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش الكريم» . وروى الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حيّ، يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين» .

المهتدون والمكذبون من أمة الدعوة الإسلامية [سورة الأعراف (7) الآيات 181 إلى 186] :

المهتدون والمكذبون من أمة الدعوة الإسلامية [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) الإعراب: وَيَذَرُهُمْ بالرفع على تقدير مبتدأ، وتقديره: هو يذرهم. ويقرأ بالجزم بالعطف على موضع الفاء في فَلا هادِيَ لَهُ وموضعه الجزم على جواب الشرط، أي أن الرفع على سبيل الاستئناف، والجزم عطف على محل ما بعد الفاء. وَأَنْ عَسى أي في أنه عسى، وأن: مخففة من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث، عسى أن يكون أجلهم قرب، ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق قبل مفاجأة الموت والعقاب. وقوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ متعلق بقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ. المفردات اللغوية: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث المتواتر «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... » . ويهدون: يرشدون الناس إلى الحق والخير وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي وبالحق يحكمون وكما عند الشيخين عن المغيرة بالعدل دون ميل لأحد الجانبين المتخاصمين. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا القرآن، من أهل مكة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنأخذهم قليلا قليلا،

سبب النزول نزول الآية (184) :

وننزلهم درجة بعد درجة إلى دركات العذاب، وندنيهم من الهلاك شيئا فشيئا وَأُمْلِي لَهُمْ نمهلهم ونؤخرهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي إن تدبيري الخفي شديد قوي لا يطاق. ما بِصاحِبِهِمْ محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مِنْ جِنَّةٍ جنون نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، والإنذار: التعليم والإرشاد مع التخويف مَلَكُوتِ ملك مِنْ شَيْءٍ بيان لما، فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قرب أجلهم، فيموتوا كفارا، فيصيروا إلى النار، فيبادروا إلى الإيمان مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مجموع العالم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ الحديث: كلام الله، وهو القرآن، وبعده: بعد القرآن وَيَذَرُهُمْ يتركهم فِي طُغْيانِهِمْ الطغيان: تجاوز الحد في الكفر والشر والظلم يَعْمَهُونَ يترددون تحيرا. سبب النزول: نزول الآية (184) : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا: أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة بن دعامة قال: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قام على «صفا» فدعا قريشا، فجعل يدعوهم فخذا فخذا، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت «1» إلى الصباح، أو حتى أصبح، فأنزل الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. المناسبة: أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لأنهم أهملوا طاقات المعرفة لديهم من العقل والحواس، ثم أرشد إلى ما يصلح الناس ويقوي إيمانهم من الدعاء بأسمائه الحسنى، ثم ذكر هنا انقسام أمة الدعوة المحمدية فريقين: فريق المهتدين الذين يقضون بالحق والعدل، وفريق المكذبين الضالين. ولفت النظر إلى وجوب التفكر والنظر في عالم السموات والأرض، للتوصل إلى فهم الأمور الدالة على وحدانية الله وصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

_ (1) وفي رواية: «يهوّت» .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: من بعض الأمم أمة قائمة بالحق قولا وعملا، يرشدون الناس ويدعونهم إليه، ويعملون بالحق، ويقضون بالعدل، دون ميل ولا جور، وهم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما جاء في الأحاديث الكثيرة التي منها: ما رواه الشيخان في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» وفي رواية «حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك» . ومنها: ما قاله الربيع بن أنس في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ ... قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل» . ومنها: ما أخرجه ابن جرير الطّبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن جريج في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قال: ذكر لنا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «هذه أمّتي بالحقّ يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون» . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية: بلغنا أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: وهذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلا فرقة، يقول الله: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمّة. والخلاصة: لما ذكر تعالى في قصّة موسى قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ثم أعاد الله تعالى هذا الكلام، حمله أكثر المفسّرين

على أنّ المراد منه أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم. هذا هو الفريق الأوّل من أمّة الدّعوة المحمّدية، ثمّ ذكر تعالى الفريق الثّاني بقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ... أي والذين كذبوا بالقرآن وهم أهل مكة نتركهم في ضلالهم، ونستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ونقرّبهم إلى ما يهلكهم، بإمدادهم بالنّعم، وفتح أبواب الرّزق والخير، وتيسير سبل المعاش، كلّما ارتكبوا ذنبا أو فعلوا جرما، فيزدادون بطرا وانغماسا في الفساد، وتماديا في الغي، وتدرّجا في المعاصي، بسبب متابعة تلك النّعم والخيرات، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 55- 56] ، وقال تعالى أيضا: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام 6/ 44- 45] ، وروى الشيخان عن أبي موسى: «إنّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» . وقد تحقّق ذلك بكفار قريش الذين هزموا في بدر والخندق وفتح مكة وغيرها من المعارك، وأظهر الله رسوله عليهم. قال عمر لما حملت إليه كنوز كسرى: «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» . وَأُمْلِي لَهُمْ، أي سأملي وأطوّل لهم ما هم فيه وأمهل هؤلاء المكذّبين المستدرجين، إنّ مكري أو تدبيري الخفي شديد قوي. والخلاصة: إنّ الإمداد بالنّعم والخيرات والأرزاق ليس دليلا على صلاح الإنسان، وإنما قد يكون استدراجا كما يستدرج العدو إلى مكان للقضاء عليه،

فالظالم إذا لم يعاقب فورا، عليه ألا ينخدع بذلك، فقد يكون تركه طعما للتّعرّف على المزيد من بغيه وجوره، كما تفعل أجهزة الأمن اليوم في كثير من حالات مراقبة تحرّكات المشبوهين، ثم يقع ذلك الظالم في قبضة الحكام لعقابه الدّنيا، أو تنزل به المصائب والدّواهي، ثم يعاقبه الله بالعذاب الشديد الآخرة. والاستدراج: هو الإدناء قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم. وبعد أن هدّد الله المعرضين عن آياته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم، فقال: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ... أي أولم يتفكّر هؤلاء المكذّبون بآياتنا ما بصاحبهم يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم من جنون، فقد كانوا يقولون: شاعر مجنون، مع أنهم يعرفون حاله من بدء نشأته، ويعلمون حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، فهو رسول الله حقّا، دعا إلى حقّ. والتّعبير: بِصاحِبِهِمْ للتّذكير بأنهم يعرفون سيرته معرفة كاملة في سنّ الصّبا وعهد الشّباب والكهولة وبعد النّبوة. إنهم إن تفكّروا في شأنه، وتجرّدوا عن عصبيّتهم وأهوائهم، عرفوا الحقّ، وأدركوا صدقه، وأنه ليس مجنونا ولا شاعرا، كما حكى القرآن افتراءهم: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير 81/ 22] ، قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ 34/ 46] ، أَمْ يَقُولُونَ: بِهِ جِنَّةٌ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [المؤمنون 23/ 70] ، وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر 15/ 6] ، وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصّافات 37/ 36] . إنه ليس بمجنون، بل هو منذر ناصح، ومبلّغ أمين، فهو ينذركم ما يحلّ بكم من عذاب الدّنيا والآخرة إذا لم تؤمنوا بدعوته. وبعد أن حكى الله عن هؤلاء المكذّبين موقفهم، فذكر: أكذّبوا الرّسول، ولم

يتفكّروا في شأنه وشأن دعوته؟ لفت نظرهم إلى ما يدعوهم إلى الإيمان بوحدانية الله، فقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا أي أكذّبوا الرّسول، ولم ينظروا في عالم السموات والأرض، ففي ملكوت السماء والأرض دلائل على وجود الصانع الحكيم القديم، والملكوت: من صيغ المبالغة ومعناه: الملك العظيم، فإذا نظر هؤلاء المكذّبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه ونظامه البديع في السموات والأرض، وفي كل ما خلق الله من كبير وصغير، لأداهم النّظر الصحيح إلى وجود الله تعالى ووحدانيته، وألم ينظروا في احتمال مجيء الموت فربّما يموتون عمّا قريب، فليسارعوا إلى النّظر وطلب الحقّ قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب، وليؤمنوا برسول الله، وينيبوا إلى طاعته. وقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ تنبيه على أن دلائل التوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض، بل كلّ ذرة من ذرأت الأجسام والأرواح التي خلقها الله برهان قاهر على التّوحيد. وقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ معناه: أو لم ينظروا في أن الشّأن والحديث عسى أن يموتوا عما قريب أي لينظروا في آجالهم التي ربّما اقتربت، وهذا ترغيب شديد في الإتيان بهذا النّظر والتّفكر، وتحذير لهم أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. والخلاصة: لعلّ أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل فوات الأوان. قال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر، ويوم أحد. فبأي كلام أو حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به؟ وبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في كتابه، يصدّقون إن لم يصدّقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من عند الله عزّ وجلّ؟ وبأي حديث أحقّ من القرآن أن يؤمنوا به؟

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ... مقرّرا لما سبق، ومعلّلا له، وهو أنّ من يضلّه الله فلا هادي له، أي أنّ من فقد الاستعداد للإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والعمل بالقرآن، فإن الله يتركه متردّدا في ضلاله، حائرا في سبيله، بسبب تجاوزه الحدّ في الظّلم والطّغيان والفجور، ولن يجد لنفسه هاديا أو مرشدا آخر غير الله. وليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضّلال، بل المقصود أنهم لما تأصّل الكفر في قلوبهم، وأسرفوا في طغيانهم، فقدوا باختيارهم ما يدعوهم إلى الهدى والإيمان، وأصبحت نفوسهم غير متهيّئة لدعوة الحقّ، وخلقهم الله على هذا النحو الذي علمه منهم قبل إيجادهم فكانوا هم الضّالين. فقه الحياة أو الأحكام: أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمة الدّعوة المحمّديّة، وجعلهم كغيرهم من أقوام الأنبياء فريقين: فريق المؤمنين المهتدين، وفريق الضّالين المكذّبين. أما المهتدون فوصفهم الله بأنهم يرشدون الناس إلى الحق، ويقضون بالحق والعدل، وهذا كما وصف بعض قوم موسى بالوصفين ذاتهما، وفي ذلك غاية التّجرّد والموضوعيّة والحياد وإنصاف الحقائق. ودلّت الآية- كما ذكر القرطبي- على أنّ الله عزّ وجلّ لا يخلّي الدّنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحقّ. وأما المكذّبون بآيات الله وقرآنه وهم أهل مكة: فقد أخبر تعالى أنه سيستدرجهم بإدنائهم وتقريبهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، عن طريق إمدادهم بالنّعم والخيرات والأرزاق، كلما أتوا بجرم، أو أقدموا على ذنب. وأنه سيطيل لهم المدّة، ويمهلهم مع إصرارهم على الكفر، ولا يعاجلهم

بالعقوبة، وإنما يؤخّر عقوبتهم، لإعطائهم فرصة للعودة إلى الحقّ، والاستجابة لدعوة الإيمان، وتصديق النّبي المصطفى عليه الصّلاة والسّلام. وفي فترة إمهالهم أنذرهم أنهم إن داموا على المعصية والكفر، فإن كيد الله، أي تدبيره شديد قوي محكم. قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة، بعد أن أمهلهم مدة، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً [الأنعام 6/ 44] . وتضمّنت آية أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا دعوة المكذّبين إلى إصدار الأحكام بالاعتماد على العقل والتّفكير والموازنة والنّظر إلى واقع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وسيرته، فهو ليس كما تقوّلت ألسنتهم بمجنون، وإنما هو داعية حقّ، ونذير خير، وناصح أمة، ومرشد قوم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم. ثم دعاهم الله تعالى إلى إعمال فكرهم وتسديد نظرهم في ملكوت السموات والأرض، وفي المخلوقات والأشياء العديدة، وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، للتّوصّل إلى معرفة الإله الحقّ، والإيمان بوجود الصانع الحكيم القدير القديم، الذي لا ندّ له ولا شريك ولا نظير، ومعرفة كمال قدرته. وإذا لم يؤمنوا بالقرآن، فبأي قرآن غير ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يصدّقون؟! وفي هذا دلالة على أن القرآن هو مصدر الهداية. وقد استدلّ العلماء بآية أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وأمثالها الكثيرة في القرآن الكريم «1» ، على وجوب النظر في آيات الله، والاعتبار بمخلوقاته. وقد ذمّ الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم، فقال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ... الآية [الأعراف 7/ 179] ، قال الجصاص: في

_ (1) نحو قوله تعالى: قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها، وقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وقوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.

قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا حثّ على النّظر والاستدلال والتّفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره، فإنه يدلّ عليه وعلى حكمته وجوده وعدله «1» . وذلك يدلّ على أنّ التّقليد في العقائد غير جائز، ولا بدّ من النّظر والاستدلال. واتّجه أكثر العلماء إلى أن النّظر والاستدلال أوّل الواجبات على الإنسان. وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، والإيمان: هو التّصديق الحاصل في القلب، الذي ليس من شرط صحته المعرفة، ثم النظر والاستدلال المؤدّيان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدّم وجوب الإيمان بالله تعالى على المعرفة بالله. وقالوا- ومنهم القرطبي «2» -: هذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق لأن أكثرهم ومنهم العامة والمقلّدون لا يعرفون حقيقة المعرفة والنّظر والاستدلال. ولأن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستّة عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله» . ومن الطّريف أن العلماء قالوا: لا يكون النّظر والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنّسوان، فذلك متابعة الهوى، ومخادعة العقل، ومخالفة العلم، ولم يحلّ الله النّظر إلا على صورة لا ميل للنّفس إليها، ولا حظّ للهوى فيها. وإنما النظر يكون في المخلوقات والجمادات، أما المخلوقات فكثيرة، ينظر في السموات كيف بنيت وزيّنت من غير شقوق، ورفعت بغير عمد، وفي الأرض كيف وضعت فراشا، ووطئت مهادا، وفي أصناف المخلوقات والحيوانات في البر والبحر، وفي البحار التي هي أعظم المخلوقات عبرة. وأما الجمادات فينظر في أصنافها واختلاف أنواعها وأجناسها.

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 36. (2) تفسير القرطبي: 7/ 331- 333.

وهل التفكر أفضل أو الصلاة؟ :

وهل التّفكّر أفضل أو الصّلاة؟ يرى الصّوفيّة: أنّ الفكرة أفضل، فإنها تثمر المعرفة، وهي أفضل المقامات الشّرعيّة. ويرى الفقهاء: أن الصّلاة والذّكر أفضل، لما روي في ذلك من الحثّ والدّعاء إليها، والتّرغيب فيها. وتوسّط ابن العربي، فرأى أن التّفكر أفضل للعالم المفكّر القوي النّظر، القادر على الاستدلال، وأما غيره فالأعمال أقوى لنفسه، وأثبت لشأنه «1» . ودلّ قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ ... على أن الهدى والضّلال من الله، بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال العباد، سواء في حال الخير أو في حال الشّر، وأنه جعل القرآن أعظم أسباب الهداية للمتّقين، لا للجاحدين المعاندين. وفي ذلك ردّ على القدريّة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله. وهي ردّ أيضا على المعتزلة أيضا الذين يقولون: إنّ العبد خالق لأفعاله، ولكنهم نزّهوا الله عن العجز، فقالوا: إن هذا بقدرة أودعه الله إياها وخلقها. ولا إجبار من الله على الضّلال، وإنما نسب الضّلال إلى الله في الآية من قبيل النّسبة إلى النّظام الذي وضعه والسّنّة التي قضى بها في خلق الإنسان، وربط أعماله بأسباب تترتّب عليها مسبباتها، فإذا اختار العبد الضّلالة، فلن يجد غير الله هاديا له، ولا يهديه أحد سوى الله. ومن سنّته تعالى أنه يترك هؤلاء الضّالّين يتردّدون حيرة في متاهات ضلالهم، ولا يجدون سبيلا للخروج مما هم فيه. فكما أن من اختار أصل الهداية يزيده الله هدى ويوفّقه لمتابعة طريق الهدى، ويمكّنه

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 807.

علم الساعة عند الله [سورة الأعراف (7) آية 187] :

من الوصول إلى هدفه، كذلك من اختار طريق الضّلالة، يتركه الله في ضلاله، ويزيده ضلالا، ويحجب عنه النّور الذي يؤدّي به إلى الخير، ويلقي على قلبه حجابا كثيفا يمنع نفاذ الخير إليه، فلا يهتدي إلى الحقّ والخير أبدا، كما قال: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] . علم السّاعة عند الله [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) الإعراب: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها: الكاف في الفعل في موضع نصب لأنه المفعول الأوّل. وعَنِ السَّاعَةِ: في موضع المفعول الثاني. وأَيَّانَ مُرْساها مبتدأ وخبر، مُرْساها مبتدأ، وأَيَّانَ خبره، وهو ظرف مبني بمعنى متى لأنه تضمّن معنى حرف الاستفهام، وبني على حركة لالتقاء الساكنين، وكان الفتح أولى لأنه أخفّ الحركات، وموضع الجملة من المبتدأ والخبر: نصب لأنه يتعلق بمدلول السؤال، والتّقدير: قائلين أيّان مرساها. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً بَغْتَةً: منصوب على المصدر في موضع الحال. البلاغة: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها تشبيه مرسل مجمل، لذكر أداة التّشبيه وهي الكاف، وحذف وجه الشّبه. المفردات اللغوية: يَسْئَلُونَكَ أي أهل مكّة. عَنِ السَّاعَةِ القيامة، وهو الوقت الذي ينتهي فيه العالم

سبب النزول:

ويموت أهل الأرض جميعا عند النفخة الأولى للصوّر. وهذا اصطلاح شرعي، ويستعمل عادة بأل، فإذا ذكر بدون «أل» في القرآن فمعناه الساعة الزّمانية، وهو لغة: جزء قليل غير معيّن من الزّمن. وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية من اليوم. أَيَّانَ مُرْساها متى زمن إرسائها واستقرارها وحصولها، ومنه: إرساء السّفينة أي إيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر، فتمنعها من الجريان. لا يُجَلِّيها لا يظهرها ولا يكشفها. لِوَقْتِها اللام بمعني في، أي في وقتها، كما يقال: كتبت هذا لغرّة المحرّم أي في غرّته. ثَقُلَتْ عظمت. بَغْتَةً فجأة على غفلة، من غير توقّع ولا انتظار، كما قال عليه الصّلاة والسّلام فيما ذكر قتادة: «إنّ الساعة تهيج بالناس، والرّجل يصلح حوضه، والرّجل يسقي ماشيته، والرّجل يقيم سلعته في السّوق، ويخفض ميزانه ويرفعه» «1» . حَفِيٌّ عَنْها عالم بها أو مبالغ في السؤال عنها، من حفي عن الشيء: إذا سأل عنه، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه، استحكم علمه به، ولذلك عدي بعن. والحفيّ: المستقصي في السؤال عن الشيء المعتني بأمره، قال الأعشى: فإن تسألي عنّي، فيا ربّ سائل ... حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا والإحفاء: الاستقصاء، ومنه: إحفاء الشّارب. وحفي عن الشيء: إذا بحث للتعرّف عن حاله. سبب النزول: كانت اليهود تقول للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن كنت نبيّا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم؟» . وأخرج ابن جرير الطّبري عن قتادة أن المشركين قالوا ذلك، لفرط الإنكار «2» . وأخرج الطّبري أيضا وغيره عن ابن عباس قال: قال خمل بن قشير وسموءل بن زيد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أخبرنا متى الساعة، إن كنت نبيّا كما تقول، فإنّا نعلم ما هي، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. ورجّح ابن كثير أنها نزلت في قريش لأن الآية مكّية، وكانوا يسألون عن

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 271. (2) تفسير القرطبي: 7/ 335.

المناسبة:

وقت السّاعة، استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها «1» ، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ 34/ 29] ، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى 42/ 18] . المناسبة: لما تكلّم الله تعالى في التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر، أتبعه بالكلام عن المعاد. وكذلك لما قال تعالى في الآية المتقدّمة عن أجل الإنسان: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ بقصد الحثّ على التوبة والإصلاح، وهو الساعة الخاصة، قال بعده: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ للإرشاد إلى النظر والتّفكر في أمر الساعة العامة التي تنتهي بها الدّنيا كلّها، ويموت بها جميع النّاس، ولبيان أن وقت السّاعة مكتوم عن الخلق. التفسير والبيان: يسألونك يا محمد عن وقت الساعة، متى يكون؟ ومتى يحصل ويستقرّ؟ كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [الأحزاب 33/ 63] . وفي التعبير بالإرساء الدّال على الاستقرار إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لحركة العالم، وانقضاء عمر الأرض. قل لهم: إن علم الساعة مقصور على الله وحده، فلا يطّلع عليه أحد من الخلق، فإنه هو الذي يعلم جلية أمرها، ومتى يكون على التّحديد، ولا يظهرها في وقتها المحدود إلا الله، ولا يعلم بها أحد حتى ولو كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 271.

[فصلت 41/ 47] ، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... [لقمان 31/ 34] . فكلّ من الساعة العامة (القيامة) ، والساعة الخاصّة (أجل الإنسان) من الغيبيات التي اختص الله بعلمها، لتكون فترة الاختبار صحيحة وعامة غير متأثرة بدافع العلم بها أو بقصد النّفعية، ولا مختصّة بزمن معيّن يطلع عليه الخلق، ولتبقى رهبتها مهيمنة على النّفوس. وفي التّعبير بقوله: عِنْدَ رَبِّي إشارة إلى أن ما هو شأن الرّب لا يكون للمخلوق، وأنّ مهمة النّبي الإنذار بوقوعها، لا بتحديد زمنها، حتى لا يضطرب شأن العالم، فلو علمت لاضطرب الناس واختلّ العمران. لذا قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خفي علمها على أهل السّموات والأرض، ولم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها، وكلّ ما خفي علمه فهو ثقيل على الفؤاد. وقيل عن الحسن وغيره: كبر مجيئها على أهل السّموات والأرض، وعظم أمرها، فهم لا يدرون متى تفاجئهم، ويتوقعون دائما وقوعها، ويخافون منها لشدّة وقعها وعظم أهوالها. وقضى الله أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة على غفلة، والناس مشغولون في شأن الدّنيا ومصالحها. وهذا تأكيد لما تقدّم وتقرير لعنصر المفاجأة في إتيانها. روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشّمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا. ولتقومنّ الساعة، وقد نشر الرّجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرّجل بلبن لقحته «1» فلا يطعمه، ولتقومنّ

_ (1) اللقحة: الشاة الحلوب أو الحامل.

الساعة والرّجل يليط «1» حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، والرّجل قد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها» . يَسْئَلُونَكَ عن الساعة كَأَنَّكَ حَفِيٌّ مبالغ في السؤال عنها، ومهتم بشأن زمنها، وعالم بها. قل لهم: لست أعلمها، إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ الذي يعلم الغيب في السّموات والأرض. وأَيَّانَ معناه الاستفهام عن زمان المجيء، بمعنى متى. وتكرار هذا الجواب: عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ بعد تكرار السؤال مبالغة في التأكيد، بل ليس هذا تكريرا، ولكن أحد العلمين لوقوعها، وهو الجواب الأول عن سؤالهم عن وقت قيام الساعة، والآخر لكنهها، وهو الجواب الثاني عن سؤالهم عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها. فالسؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة، والثاني عن مقدار شدّتها ومهابتها. وعبّر هنا بلفظ الجلالة الله إشارة إلى استئثار الله بعلمها لذاته، كما عبّر هناك بلفظ ربي للتّنبيه على أنّ الساعة من شؤون ربوبيّته. ونقل عن ابن عباس تفسير حَفِيٌّ عَنْها بأنه حفيّ ببرّهم وفرح بسؤالهم، وكأن بينك وبينهم مودّة، وكأنك صديق لهم لأنهم قالوا: بيننا وبينك قرابة، فأسرّ إلينا بوقت الساعة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه العالم بها، وأنه المختصّ بالعلم بها، وسرّ إخفائها، أو سبب عدم معرفة الخلق وقتها المعيّن، وحكمة ذلك، وإنما يعلم ذلك القليلون، وهم المؤمنون بالقرآن وبما أخبر به النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه حينما سأله جبريل عن الساعة، فقال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي أنا وأنت سواء في جهل هذا الأمر. ولكن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبر عن قرب

_ (1) يليط: يطلي حوضه أو حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوع الساعة، فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين أصبعيه: السبابة والتي تليها. قال الرّازي: السبب في إخفاء الساعة عن العباد: هو أن يكونوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية «1» . وقال الألوسي: وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التّشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك «2» . وهذا هو السّر أيضا في إخفاء ليلة القدر وساعة الإجابة، لينشط الناس في طلبها والعمل لها في وقت أطول، وليظلّ الإنسان ملازما حال الاستقامة والدّعاء والعبادة. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على أحكام عديدة مستنبطة من كلّ جملة فيها، وهي ما يأتي: 1- لا يعلم وقت قيام الساعة، ولا مقدار شدّتها ومهابتها، ولا يعرف كنهها وحقيقتها إلا الله عزّ وجلّ، لقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان 31/ 34] ، وهي محققة المجيء والحدوث لقوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [غافر 40/ 59] ، وقريبة الوقوع لقوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه 20/ 15] ، وتقع كلمح البصر أو أقرب لقوله سبحانه: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] . 2- إنّ يوم السّاعة عظيم الثّقل على القلوب، بسبب أنّ الخلق يصيرون

_ (1) تفسير الرّازي: 15/ 80. [.....] (2) تفسير الألوسي: 9/ 134.

بعدها إلى البعث والحساب والسؤال، ولكون الخوف من الله في ذلك اليوم شديدا على الخلائق. 3- لا تجيء الساعة إلا بغتة فجأة، على حين غفلة من الخلق، روى الحسن البصري عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لتقومنّ الساعة، وإنّ الرّجل ليرفع اللقمة إلى فيه، حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك» . وسمّيت القيامة بالسّاعة لوقوعها بغتة، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة، أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق. 4- لم يكن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم عالما بالسّاعة ولا كثير السؤال عنها. 5- الحكمة التّشريعية في كون وقت السّاعة مكتوما عن الخلق: هو حمل المكلّفين على المسارعة إلى التوبة، وأداء الواجبات، وسداد الحقوق إلى أصحابها. وللسّاعة أشراط أو علامات ثلاث: 1) - ما وقع بالفعل منذ زمان مثل قتال اليهود وفتح بيت المقدس والقسطنطينية. 2) - ما حدث بعضه ويتوالى ظهوره مثل كثرة الفتن، وكثرة الدّجالين، وكثرة الزّنا، وكثرة النّساء وتشبههن بالرّجال، والمجاهرة بالكفر والإلحاد والشرك. 3) - ما سيقع قبيل قيام الساعة من علامات صغرى وكبري، مثل أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان، ومثل طلوع الشّمس من مغربها.

الأمور كلها بيد الله وحده وعلم الغيب مختص بالله تعالى وحقيقة الرسالة [سورة الأعراف (7) آية 188] :

الأمور كلّها بيد الله وحده وعلم الغيب مختصّ بالله تعالى وحقيقة الرّسالة [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) المفردات اللغوية: الْغَيْبَ هو ما غاب عنّا، وهو إما حقيقي: لا يعلمه أحد إلا الله، وإما إضافي نسبي يعلمه بعض الخلق بتعليم الله كالأنبياء والرّسل. الْخَيْرِ ما يرغب الناس فيه عادة من المنافع المادية كالمال، والمعنوية كالعلم. السُّوءُ ما يرغب عنه الناس لضرره كالفقر وغيره. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنا إلا منذر بالنّار للكافرين، والإنذار: التّبليغ المقترن بالتّخويف من العقاب على الكفر والمعاصي. والتّبشير: التّبليغ المقترن بالتّرغيب في الثّواب مع الإيمان والعمل الصالح. والبشير: المبشر بالجنّة للمؤمنين. سبب النزول: روي أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربّك بالرّخص والغلاء حتى نشتري فنربح، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى عن أنّ وقت الساعة (القيامة) لا يعلمه إلا الله وحده، أمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يبيّن للناس أنّ كلّ الأمور بيده تعالى وحده، وأنّ علم الغيب كله عنده، وأنه لا يدّعي علم الغيب، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ وبشير، كما قال تعالى في سورة يونس: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ:

التفسير والبيان:

لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [10/ 48- 49] . التفسير والبيان: أمر الله تعالى رسوله أن يفوّض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ... [الجنّ 72/ 26- 27] . قل أيها الرّسول للناس: إنّي لا أملك لنفسي ولا لغيري جلب أي نفع، ولا أستطيع دفع ضرر عنّي ولا عن غيري، إلا بمشيئة الله وقدرته، فيلهمني إيّاه ويوفّقني له. وهذا يدلّ على إظهار العبودية، والتّبرّي من ادّعاء العلم بالغيوب، ومنصب الرّسالة لا يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب، فالغيب لله وحده. وإنما وظيفة الرّسالة تبليغ الوحي المنزل، والتّعليم والإرشاد، وفيما عدا ذلك فإنّ الرّسول بشر كسائر الناس: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ... [الكهف 18/ 110] . وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ كالمال ونحوه من المنافع، ولما أصابني السّوء، أي لاجتنبت ما يكون من الشّرّ قبل أن يكون، وتوقيت المضارّ قبل أن تقع. وليس لي مزية عن البشر إلا بتبليغ الوحي عن الله بالإنذار والتّبشير، فما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة، نذير من العذاب، وبشير للمؤمنين بالجنّات، كما قال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم 19/ 97] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وكوني المنذر والمبشر للمؤمنين: لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والتّبشير. فقه الحياة أو الأحكام: هذه آية من أصول العقيدة والدّين، بيّنت حقيقة الرّسالة، وميّزتها عن الرّبوبية، وهدمت قواعد الشّرك والوثنية. فما الرّسول إلا بشر مبلّغ عن الله ما يوحيه إليه، وهو قدوة صالحة للنّاس في العمل بما جاء به من عند الله، وليس له شيء من صفات الله وأفعاله، ولا سلطان له بالتأثير في الأشياء، لا نفعا ولا ضرّا، ولا خيرا ولا شرّا، ولا إيمانا ولا كفرا. وبما أنّ الإيمان نفع والكفر ضرّ، فإنهما لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه، فهو الخالق للإيمان والكفر، والمريد لهما، والعبد هو الموجد ما خلق الله عنده من قدرة إما إلى الإيمان والخير، وإما إلى الكفر والشّرّ. وليس أدلّ على الإقناع بعدم علم الرّسول بالغيب من أنه لو كان عالما بالغيب، لحقّق لنفسه منافع الدّنيا وخيراتها، من مال ومجد، وعظمة دولة، ونصر حربي، وتفوّق دائم، وأرباح ومكاسب كثيرة، ولدفع عن نفسه آفات الدّنيا ومضارّها، كالفقر والمرض والجرح والهزيمة ونحوها من ألوان السّوء والشّرّ، ولحذر من مكر الأعداء ومكائدهم، ولاستطاع التّمييز بين من تؤثر فيه الدّعوة إلى الدّين الحقّ ومن لا تؤثّر فيه.

التذكير بالنشأة الأولى والأمر بالتوحيد واتباع القرآن والنهي عن الشرك [سورة الأعراف (7) الآيات 189 إلى 193] :

التذكير بالنشأة الأولى والأمر بالتوحيد واتباع القرآن والنهي عن الشرك [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) الإعراب: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً صالحا صفة المفعول الثاني المحذوف، وتقديره: ابنا صالحا، والمفعول الأول: (نا) في الفعل. شُرَكاءَ جمع شريك، وفيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي جعل أولادهما له شركاء. وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم. البلاغة: فَلَمَّا تَغَشَّاها التغشي: كناية عن الجماع.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي من آدم، أو من جنس واحد وَجَعَلَ خلق زوجها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليأنس بها ويطمئن إليها ويألفها تَغَشَّاها جامعها، مثل غشيها حَمَلَتْ علقت منه حَمْلًا خَفِيفاً هو النطفة، والحمل بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على شجرة، وبالكسر: ما كان على ظهر فَمَرَّتْ بِهِ استمرت حاملة له إلى وقت ميلاده فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صار الحمل ثقيلا وقرب وضعها صالِحاً أي ولدا أو نسلا صالحا أي سويا سليما في الجسم والفطرة فَتَعالَى اللَّهُ تعاظم وتنزه عن الشريك والولد عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أهل مكة به من الأصنام. وأجريت الأصنام مجرى العقلاء أولي العلم في قوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله وهم يخلقون. وجملة فَتَعالَى ... عطف على خَلَقَكُمْ وما بينهما اعتراض. المناسبة: موضوع الآيات عود على بدء، فقد بدئت السورة بالكلام عن التوحيد واتباع القرآن، ثم ختمت بالكلام عن التوحيد وعن القرآن، والتذكير بالنشأة الأولى، كما ذكّر بها سابقا، لترسيخ العقيدة بوجود الله ووحدانيته، والامتناع عن الشرك، والعهد عن وسوسة الشيطان. التفسير والبيان: الله هو الذي خلقكم في الأصل من نفس واحدة، قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة: آدم عليه السّلام، ثم خلق منه زوجته حواء، ثم انتشر الناس منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات 49/ 13] وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء 4/ 1] . ورأى بعض المفسرين أن المعنى: خلقكم من جنس واحد وطبيعة واحدة،

وجعل زوجه من جنسه، ليسكن إليها، ويطمئن بها، كما خلق من كل الأنواع زوجين اثنين، كما قال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات 51/ 49] . وقوله: لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليأنس بها ويطمئن ويألفها، كقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم 30/ 21] وهذا التآلف قائم في أعماق كل من الرجل والمرأة، ففي عهد الشباب لا تسكن النفس إلا بالاقتران بزوج آخر، ولا نجد ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين، والجنس ميال بطبيعته إلى جنسه، والتعاون على شؤون الحياة يحتاج إلى التزاوج، وبقاء النوع الإنسان مرهون بهذا الترابط بين الجنسين: الذكر والأنثى. ثم ذكر الله تعالى ثمرة هذا التزاوج بين الرجل والمرأة فقال: فَلَمَّا تَغَشَّاها وهو كناية عن الوقاع، أي فلما حدث الوطء أو الوقاع أو الجماع بين الجنسين، بدأ تكون الجنين، وحدث الحمل الخفيف، وهو أول الحمل الذي لا تجد فيه المرأة ثقلا ولا ألما، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ويرتفع الحيض عادة ببدء الحمل، وتستمر المرأة في متابعة أعمالها المعتادة دون مشقة، وهذا هو المراد من قوله: فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف. فلما أثقلت المرأة الحامل أي صارت ذات ثقل بحملها بسبب كبر الولد في بطنها، وحان وقت الوضع، دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما، أي دعا الزوجان وهما آدم وحواء مقسمين: لئن آتيتنا ولدا صالحا، أي بشرا سويا، تام الخلق، سليم الفطرة، لنكونن لك من الشاكرين نعمتك، المشتغلين بشكر تلك النعمة. فلما آتاهما الله ما طلبا، ورزقهما ولدا صالحا سويا كامل الخلقة، جعل الزوجان لله شركاء أي شريكا فيما آتاهما وأعطاهما، فتعالى أي تعاظم وتنزه اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وينسبون له من الولد والشريك.

ومن المراد بقوله جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؟ ذكر بعض المفسرين كالسيوطي أن المراد آدم وحواء، بالاعتماد على حديث ضعيف في الترمذي وغيره، وهو ما رواه سمرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لما ولدت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث- وكان اسم إبليس حارثا بين الملائكة- فإنه يعيش، فسمته، فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره. وتؤيده روايات إسرائيلية كثيرة لاثبات لها، فلا يعول عليها، وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء. والواقع- على افتراض أن المراد بالنفس الواحدة: آدم- أن نسبة هذا الجعل إلى آدم وحواء يراد به بعض أولادهما، قال الحسن البصري: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهوّدوا ونصّروا «1» . وأيّد ابن كثير هذا التأويل عن الحسن رضي الله عنه، فقال: وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية ... وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بصيغة الجمع. فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، كقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 67/ 5] ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن «2» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 275. (2) المرجع السابق: 2/ 275- 276.

والخلاصة: إن الشرك نسب إلى آدم وحواء، والمراد به أولادهما، كاليهود والنصارى والمشركين لأن آدم وزوجته لم يكونا مشركين. قال الزمخشري في قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم «1» . وقد ذكر الرازي هذا التأويل. وذكر أيضا أي الرازي تأويلا آخر للآية وهو أن قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، وتقريره: فلما آتاهما صالحا، اجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك، وينسبونه إلى آدم عليه السّلام «2» . وهذا كله على تسليم أن القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء. وهناك من جعل الخطاب في الآية لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم آل قصي، إذ سمّى قصي وزوجته القرشيان أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات. وقال القفال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، على أساس أن المراد بالزوجين الجنس أي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة أو جنس

_ (1) الكشاف: 2/ 592. (2) تفسير الرازي: 15/ 67 وما بعدها.

واحد، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية. ثم فنّد الله تعالى آراء المشركين، ونقض الشرك من جذوره، فقال: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ... أي أيشركون بالله شيئا لا يستطيع إطلاقا خلق أي شيء؟ أو أيشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا، ولا يستطيع ذلك؟ وإنما الله هو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق، كما قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج 22/ 73] . وهذه الأصنام مخلوقة مصنوعة، كما قال تعالى: لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل 16/ 20] . وهم لا يستطيعون لعابديهم تحقيق أي معونة أو نصر، بل إنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم على من يعتدي عليهم بإهانة أو سب أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلي، فلا نصر لأنفسهم ممن أرادهم بسوء. وقال: يخلقون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس. فهذا كله إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله، مربوبة، مصنوعة لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم. ثم ذكر الله تعالى أن هذه الأصنام لا تصلح تبعا فضلا عن أن تكون متبوعة، فقال: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى ... أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد، أو إلى أن يهدوكم إلى ما تريدون تحقيقه، لا يستجيبون لكم ولا ينفعونكم، فهم في الحالين عديمو النفع، فإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله

فقه الحياة أو الأحكام:

الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويدل عليه قوله تعالى: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف 7/ 194] . سواء لديكم دعاؤكم إياهم، أو سكوتكم عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم، ولا خير يرتجى منهم، إذ هم لا يفهمون الدعاء، ولا يسمعون الأصوات، ولا يعقلون الكلام. ومثل من كانت هذه صفته، لا يصلح ربا معبودا، وإنما الرب الموجود المعبود هو السميع البصير، العليم الخبير، الناصر القادر، النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الهادي إلى الرشاد، المنقذ من الردى، المجيب المضطر إذا دعاه. وعبر بالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ بدلا عن الجملة الفعلية المشعرة بالتجدد المتكرر: «أم صمتم» لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر، دعوا الله دون أصنامهم، كقوله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل لهم: إن دعوتموهم، لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من الاستمرار على سكوتكم ومن عادة صمتكم عن دعائهم «1» . أي فلا فرق بين تجديد دعاء الأصنام بفعل متجدد وبين الاستمرار والثبات على حال الصمت وعدم دعائها، وبذلك صلح عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية الذي لا يجوز إلا لفائدة وحكمة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الناس في الأصل مخلوقون من نفس واحدة، المشهور أنها نفس آدم.

_ (1) الكشاف: 2/ 592.

وحواء مخلوقة من نفس آدم: وخلق منها زوجها على معنى أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم، وحكمة ذلك أن الجنس أميل إلى الجنس، والجنسية علة الضم واللقاء والألفة بين الرجل والمرأة. واستشكل الرازي هذا الكلام فإن الله قادر على أن يخلق حواء خلقا مستقلا كما خلق آدم ابتداء، فلماذا يقال: إنه تعالى خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ثم رجح أن المراد من كلمة «من» في قوله: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها خلق حواء من نوع آدم ومن جنسه في الإنسانية، وجعل زوج آدم إنسانا مثله «1» . 2- من رحمة الله تعالى بالأم أن جعل خلق الجنين واكتمال الحمل على مراحل متدرجة من الأخف إلى الأثقل، كيلا تشعر بالثقل المفاجئ، ولتظل قائمة بأعمالها المعتادة دون إرهاق. 3- يفهم من ظاهر قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أن الحمل مرض من الأمراض، ولأجل عظم الأمر جعل موتها شهادة، كما ورد في حديث تعداد الشهداء الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم: «الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة» أي تموت وفي بطنها ولد. فيكون حال الحامل في رأي الإمام مالك حال المريض في أفعاله بعد مضي ستة أشهر من الحمل، أي المريض مرض الموت، وهو الذي لا تنفذ تبرعاته من هبة ومحاباة في بيع إلا في ثلث ماله. وقال الأئمة الثلاثة: إنما يكون ذلك في الحامل بحال الطّلق، فأما قبل ذلك فلا لأن الحمل عادة، والغالب فيه السلامة. ورد المالكية بقولهم: كذلك أكثر الأمراض غالبة السلامة، وقد يموت من لم يمرض.

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 89.

ويعد الزاحف في الصف للقتال والمحبوس للقتل في قصاص بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه، ما كان بتلك الحال، في رأي الإمام مالك، فلا يتبرع إلا في الثلث. 4- الأوثان لا تصلح للألوهية لأنها مخلوقة، وغير قادرة على خلق شيء أو إيجاد نفع أو ضر فكيف يعبد ما لا يقدر على أن يخلق شيئا؟! والمقصود من الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للألوهية. 5- ليس المراد من قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ما ذكر من قصة إبليس مع آدم عليه السّلام السابق ذكرها إذ لو كان المراد ذلك، لكانت هذه الآية غريبة عن تلك القصة غرابة كلية، وأدى الأمر إلى إفساد النظم والترتيب، وإنما المراد بها الرد على عبدة الأوثان، كما ذكر القفال، فهي بيان لخلق الرجل والمرأة من جنس واحد ومن أصل واحد في الإنسانية، ثم التنديد بفعل بعض الأزواج، فلما تغشى الزوج زوجته (واقعها) وظهر الحمل، دعا الزوجان ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ نعمائك، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعلا لله شُرَكاءَ فِيما آتاهُما لأن الأزواج تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبيعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول الفلكيين، وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام. 6- احتج أهل السنة بقوله: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ على أن العبد لا يخلق ولا يوجد أفعاله، وإنما الذي يخلق هو الإله، فلو كان العبد خالقا لأفعال نفسه، كان إلها. 7- دل قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ... على أن الأصنام لا تنصر من أطاعها، ولا تنتصر ممن عصاها. والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع، ودفع الضرر، وهذه الأصنام عاجزة عن ذلك، فكيف يليق بالعاقل عبادتها؟!

واقع الأصنام والأوثان المعبودة [سورة الأعراف (7) الآيات 194 إلى 198] :

8- ودل قوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ على أنه أيضا لا علم للأصنام بشيء من الأشياء، فلا يتصور منها الاتباع إذا دعيت إلى الخير، فكيف تصلح أن تكون معبودة؟! والخلاصة: إن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن أهملها، كما قال إبراهيم: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم 19/ 42] . واقع الأصنام والأوثان المعبودة [سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) الإعراب: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ عباد خبر إِنَّ مرفوع، وأَمْثالُكُمْ: صفة، وجاز أن يكون وصفا للنكرة، وإن كان مضافا إلى المعرفة لأن الإضافة في نية الانفصال، وأنه لا يتعرف بالإضافة، للشيوع الذي فيه. وقرأ سعيد بن جبير: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ بتخفيف إِنَّ

البلاغة:

ونصب: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، والمعنى: ما الذين تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عبادا أمثالكم، على إعمال: إن عمل ما الحجازية، وهو مذهب المبرد. وأما مذهب سيبويه فهو إهمالها. البلاغة: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها هذا إطناب يراد به زيادة التقريع والتوبيخ. والاستفهام في المواضع المختلفة استفهام إنكار، أي ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالا منهم؟! المفردات اللغوية: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ. وأصل الدعاء: النداء، ويقصد به غالبا دفع ضرر أو جلب خير. عِبادٌ مملوكة لله فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ دعاءكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها آلهة يَبْطِشُونَ يضربون ويصولون بها. ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ إلى هلاكي فَلا تُنْظِرُونِ تمهلون، فإني لا أبالي بكم. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي متولي أموري نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده بحفظه فضلا عن أنبيائه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أي الأصنام وَتَراهُمْ أي الأصنام يا محمد يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي يقابلونك كالناظر، فهم يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه. المناسبة: هذه الآيات تأكيد لما سبق بيانه أن الأصنام لا تصلح للألوهية، بقصد غرس التوحيد في القلوب، واستئصال جذور الشرك من النفوس. التفسير والبيان: إن تلك الأصنام التي تعبدونها وتسمونها آلهة من دون الله، وتدعونها لدفع الضر أو جلب النفع هم عباد أو عبيد مثل عابديها، في كونهم مخلوقات لله مثلهم، خاضعون لإرادته وقدرته، بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك. وإذا كانت على هذا النحو فكيف يصح عقلا

تقديسها وعبادتها من مخلوق مثلها، بل أسمى وأكمل منها؟ وإنما الذي يستحق العبادة هو الرب الخالق الذي خضعت له جميع الكائنات، ودانت له الأسباب. وكيف تترك رسالة بشر خصه بالعلم والمعرفة، وازدانت عقيدته بالحق والنور والفائدة العظمى، وتعبد حجارة من دون الله، لا تضر ولا تنفع؟ وإن كنتم صادقين في تأليههم، واستحقاقهم العبادة، والتماس النفع أو الضر منهم، فادعوهم واطلبوا منهم طلبا ما، فليستجيبوا لكم دعاءكم، إما بأنفسهم، وإما بتوسطهم عند الله. ومعنى هذا الدعاء: طلب المنافع، وكشف المضار من جهتهم. واللام في قوله فَلْيَسْتَجِيبُوا لام الأمر، على معنى التعجيز، والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة، ظهر أنها لا تصلح للعبادة. وقوله: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ استهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك، فهم عباد أمثالكم، لا تفاضل بينكم. وصفت الأصنام بأنها عباد، وأشير إليها بضمير العقلاء في قوله: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ وقوله: إِنَّ الَّذِينَ ولم يقل: التي، مع أنها جمادات غير عاقلة، إنزالا لها منزلة العقلاء بحسب اعتقاد المشركين أنها تضر وتنفع، فتكون عاقلة فاهمة، فوردت الألفاظ على وفق معتقداتهم. ثم ترقى القرآن في الجواب عليهم، وأبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم، وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم، بل أدنى منهم رتبة، فذكر أعضاء أربعة هي الأرجل والأيدي والأعين والآذان، وكلها معطلة القوة والحركة والإدراك، مع أن هذه الأعضاء إن كان فيها هذه القوى فهي وسائل الكسب في الحياة. فليس للأصنام أرجل يمشون بها إلى جلب نفع أو دفع ضر، وليس لهم أيد يبطشون بها ويصولون بها لتحقيق ما ترجون منهم من خير، أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها أحوالكم، ولا آذان يسمعون بها نداءكم وكلامكم وفهم

مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم في التكوين والصفات والقوى، ومن يخلو من منافع هذه الأعضاء، لا يستحق العبادة، فإن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام، بل لا تصح المقارنة بين مزايا الإنسان وهذه الأصنام، إذ هم حجارة صماء، أو طين وماء، أو عجوة أو حلاوة كصنم بني حنيفة. أكلت حنيفة ربها ... عام التقحم والمجاعة ومع كل هذا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأن يتحداهم، ويدعوهم للاختبار العملي، فقيل له: قل يا محمد الرسول لهؤلاء الوثنيين: نادوا شركاءكم وآلهتكم من دون الله، واستنصروا بها علي، وتعاونوا على كيدي، فلا تؤخروني طرفة عين، وابذلوا جهدكم، وأوقعوا الضرر بي كيف شئتم، ولا تمهلون ساعة من نهار، أنتم وشركاؤكم، فلا أبالي بكم. ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوفوه آلهتهم. وهذا رد على تهديدهم وقولهم: إنا نخاف عليك من آلهتنا!! ثم أعلن الرسول ثقته الكبرى بالله وتحقيره هذه المعبودات، مع قلة الأعوان والنصراء في مكة فقال بتعليم الله: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ ... أي الله حسبي وكافيني، وهو نصيري وناصري عليكم، ومتولي أمري في الدنيا والآخرة، وعليه اتكالي، وإليه ألجأ، وهو الذي نزل علي القرآن الذي يدعو إلى التوحيد، وينبذ الشرك، وأعزني برسالته، وهو الذي يتولى كل صالح بعدي، وهو كل من صلحت عقيدته، وسلمت من الخرافات والأوهام، وصلحت أعماله، ومن عادته تعالى أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه، ولا يخذلهم. أما المشرك فوليه الشيطان: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة 2/ 257] . ومناسبة هذه الآية: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ لما قبلها أنه تعالى لما بيّن في الآيات المتقدمة أن هذه

الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر، بيّن بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا، أما الأولى فبسبب إنزال الكتاب وأما الثانية فبسبب تولي الصالحين. ثم أكد تعالى ما تقدم من خيبة الأصنام في تحقيق النصر فقال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ... بصيغة الخطاب، وذاك بصيغة الغيبة، أي إن الذين تعبدونهم وتدعونهم من دون الله لنصركم ودفع الضر عنكم عاجزون، لا يستطيعون نصركم، ولا نصر أنفسهم ضد من يحقرهم أو يسلبهم شيئا مما يوضع عليهم من طيب أو حلي، أو يريدهم بسوء. فقد كسّر إبراهيم عليه السّلام الأصنام وأهانها غاية الإهانة فما دفعت عن نفسها الأذى ولا انتقمت منه، كما أخبر تعالى عنه في قوله: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات 37/ 93] وقال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء 21/ 58] . وروي عن معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما- وكانا شابين من الأنصار قد أسلما، لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة- أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر. وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيد قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح، فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه مرة، فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدّين باطل، وقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

تالله لو كنت إلها مستدن ... لم تك والكلب جميعا في قرن ثم أسلم وحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه «1» . وكما هم عاجزون عن النصرة عاجزون عن الإرشاد والهداية، فقال تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل وتحقيق النصر، لا يسمعوا دعاءكم، فضلا عن المساعدة والمعونة والإمداد، وتراهم أيها المخاطب المتأمل يقابلونك بعيون مصوّرة صناعية، وهي جماد لا تبصر شيئا، ولا تدرك المرئي لأن لهم صورة الأعين، وهم لا يرون بها شيئا، فهم فاقدو السمع والبصر، كما قال تعالى في آية أخرى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر 35/ 14] . وإذ فقدوا السّمع والبصر، فكيف يرجى منهم نصر أو عون، وكيف يخاف منهم إحداث ضرر أو أذى لمن يحتقرهم، وكيف يليق بكم أن تتخذوهم آلهة؟! فقه الحياة أو الأحكام: الآيات محاجّة في عبادة الأصنام، وتأكيد لما سبق من بيان عدم أي جدوى من تلك العبادة، وقد دلّت على ما يأتي: 1- يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام المعطلة القوى المحركة والمدركة، لفقدها الأرجل والأيدي والأعين والآذان لأن المعبود يتّصف بهذه القوى وغيرها، والإنسان الذي يعبدها أفضل منها بكثير، بل لا مجال للمقارنة بينه وبينها أصلا، فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون، الذي لا يحس منه فائدة البتة، لا في جلب المنفعة، ولا في دفع المضرة؟! فهي ليست عبادا أمثال الإنسان، وإنما هي حجارة وخشب، فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 276.

2- الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم لأن له رجلا ماشية، ويدا باطشة، وعينا باصرة، وأذنا سامعة، وليس للصنم شيء من ذلك. 3- كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر؟! فليس للأصنام قدرة على النفع والضرر، لا لنفسها ولا لغيرها، ولا تستطيع نصرة أحد. 4- إن تخويف المشركين الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بآلهتهم عبث وهدر، فقد دعاهم إلى مكايدته وإضراره دون إمهال، فخابوا وخسروا هم وشركاؤهم. 5- إن متولي أمور النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة بنصره وحفظه هو الله تعالى الذي يتولّى الصّالحين من عباده ويحفظهم. جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جهارا غير سرّ يقول: «ألا إنّ آل أبي- يعني فلانا- ليسوا لي بأولياء، إنما وليّي الله وصالح المؤمنين» . 6- الواجب على العاقل عبادة الله تعالى لأنه هو الذي يحقق له منافع الدين بإنزال الكتاب المشتمل على العلوم العظيمة في الدّين، ومنافع الدّنيا بتولّي الصالحين من عباده وحفظه لهم ونصرته إياهم، فلا تضرّهم عداوة من عاداهم. وما أروع ذلك الموقف العملي للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بالاستدلال بهذه الآية، فإنه ما كان يدّخر لأولاده شيئا، فقيل له فيه، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين، أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليّه الله، ومن كان الله له وليّا، فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين، فقد قال تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ومن ردّه الله لم أشتغل بإصلاح مهماته. 7- كرر الله تعالى وصف الأصنام بأنها عاجزة عن نصر عابديها، ونصر أنفسها، وفائدة التكرار أن المعنى الأول مذكور على جهة التقريع، وهذا مذكور على جهة

أصول الأخلاق الاجتماعية ومقاومة الشيطان [سورة الأعراف (7) الآيات 199 إلى 202] :

الفرق بين من تجوز له العبادة، وبين من لا تجوز، فالإله المعبود هو الذي يتولّى الصالحين، أي يحفظهم، وهذه الأصنام لا تتولى أحدا، فلا تصلح للألوهية. 8- الأصنام جمادات مصنوعة، ركبت لها حدق عيون من معادن أو جواهر برّاقة، كأنها ناظرة، وهي جماد لا تبصر، فلذلك قال: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ وقد عاملها معاملة من يعقل وعبّر عنها بضمير العاقل لأنها على صورة مصورة كالإنسان. وقال السّدي ومجاهد: المراد بهذا المشركون. قال ابن كثير: والأول أولى، وهو قول قتادة، واختاره ابن جرير. أصول الأخلاق الاجتماعية ومقاومة الشيطان [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 202] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) الإعراب: وَإِمَّا فيه إدغام نون: إن الشرطية في «ما» المزيدة. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فعل أمر، وهو جواب الشرط، وجواب الأمر محذوف، أي يدفعه عنك. إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ فعل وفاعل، وطائِفٌ: اسم فاعل من طاف. وقرئ: طيف مخففا من طيّف، وهو فعل من طاف، كما خفف سيّد وميّت. يَمُدُّونَهُمْ فعل مضارع من «مدّ» وهو ثلاثي، وقرئ بالضم على جعله مضارعا. أمد وهو رباعي. وقيل: مدّ في الخير والشّر، وأمدّ في الشّرّ خاصة.

البلاغة:

وَإِخْوانُهُمْ جمع الضمير في هذه الكلمة والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس، كقوله: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ. البلاغة: يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ: إدخال الإبرة ونحوها في الجلد، وفيه استعارة لأنه شبّه وسوسة الشيطان وإغراءه الناس على المعاصي بالنزغ. المفردات اللغوية: الْعَفْوَ اليسر من أخلاق الناس، ولا تبحث عنها، والمعنى: خذ ما عفا وتيسر من أخلاق الناس. بِالْعُرْفِ المعروف. يَنْزَغَنَّكَ يصيبنّك، أو يصرفنّك، والنزغ كالنّخس: إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة ونحوها، والمراد منه هنا: وسوسة الشيطان. فَاسْتَعِذْ أي الجأ إليه وتذكره. مَسَّهُمْ طائِفٌ أصابهم شيء ألم بهم، أي وسوسة ما. تَذَكَّرُوا عقاب الله وثوابه. فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ الحق من غيره، فيرجعون. وَإِخْوانُهُمْ أي الشياطين من الكفار. يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ يعاونهم الشياطين في الضلال. ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ لا يكفّون عن إغوائهم، بالتّبصر كما تبصّر المتقون. والإقصار: التقصير. المناسبة: لما بيّن الله تعالى فيما سبق أن الله هو الذي يتولّى نبيّه والمؤمنين الصالحين بالحفظ والتّأييد، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار، بيّن في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس، وهي آية تشمل أصول الفضائل، فهي من أسس التشريع التي تلي أصول عقيدة التّوحيد المبيّنة بأتمّ بيان. ثم أعقب ذلك بوصية وقائية، وهي اتّقاء وساوس الشياطين من الجنّ، بعد الأمر بالإعراض عن الجاهلين السفهاء، اتّقاء لشرّ الفريقين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: جمعت الآية الأولى أصول الفضائل الثلاث وهي: 1- الأخذ بالعفو: وهو السّهل من أخلاق الناس وأعمالهم، دون تكليفهم بما يشق عليهم ومن غير تجسّس، وإنما يؤخذ بالسّمح السّهل، واليسر دون العسر، كما ورد في الحديث الذي أخرجه أحمد والشّيخان والنّسائي عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» . ويدخل في العفو: صلة القاطعين أرحامهم، والعفو عن المذنبين، والرّفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. وهذا هو الصّنف الأول من الحقوق التي تستوفي من الناس وتؤخذ منهم بطريق المساهلة والمسامحة، ويشمل ترك التّشدد في كل ما يتعلّق بالحقوق المالية، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب، وترك الغلظة والفظاظة، كما قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران 3/ 159] ومن هذا القسم: الدّعوة إلى الدّين الحق بالرّفق واللطف، كما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النّحل 16/ 125] . والخلاصة: إن المراد بالعفو: الأخذ باليسر والسّماحة ودفع الحرج والمشقة عن الناس في الأقوال والأفعال، وما خيّر صلّى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، كما أخرج الترمذي ومالك. 2- الأمر بالعرف وهو المعروف والجميل من الأفعال: وهو كل ما أمر به الشرع، وتعارفه الناس من الخير، واستحسنه العقلاء، فالمعروف: اسم جامع لكل خير من طاعة وبرّ وإحسان إلى الناس. وهذا هو النوع الثاني من الحقوق التي لا يجوز التّساهل والتّسامح فيه، ويراد به ما هو معهود بين الناس في المعاملات والعادات. ولا يذكر المعروف في القرآن إلا في الأحكام المهمة، مثل

قوله تعالى في وصف الأمّة الإسلامية: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران 3/ 104] . وفي تبيان الحقوق الزّوجية: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة 2/ 228] ، وفي الحفاظ على رباط الزّوجية: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة 2/ 231] . 3- الإعراض عن الجاهلين: ويتمثل بعدم مقابلة السّفهاء والجهّال بمثل فعلهم، وترك معاشرتهم وصيانة النّفس عنهم، وعدم مماراتهم والحلم عنهم، والصّبر على سوء أخلاقهم والغضّ على ما يسوءك منهم. فإذا تكلّم الجاهل الأحمق بما يسوء الإنسان، فليعرض عنه، ويقابله بالعفو والصّفح، لقوله تعالى في وصف المؤمنين: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران 3/ 134] ، وقوله تعالى في فضيلة العفو: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة 2/ 237] . هذه المبادئ الثلاثة هي أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلّق بمعاملة الإنسان مع الغير. قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية، قال عليه الصّلاة والسّلام: «يا جبريل، ما هذا؟ قال: إنّ ربّك يقول: هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك» . وروى الطّبري وغيره عن جابر مثل ذلك. وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: «أمر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها» . وقال عبد الله بن الزّبير: والله ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق النّاس. وقد روي عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي: «أثقل شيء في الميزان: خلق حسن تام» .

وناسب الأمر بالإعراض عن الجاهلين وهم السّفهاء اتّقاء لشرّهم، الأمر بالاستعاذة من الشّياطين، تجنّبا للوقوع في مفاسدهم وشرورهم، فقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ... أي وإما يعرض لك الشّيطان بوسوسته، وينخس في قلبك بحملك على خلاف ما أمرت به، ويحاول إيقاعك في المعاصي، أو يغضبنك من الشيطان غضب يصدّك عن الإعراض عن الجاهل، ويحملك على مجازاته، بجعلك ثائرا هائجا، فالجأ إلى الله واطلب النّجاة من ذلك بالله، واستجر بالله من نزغه، واذكر الله في القلب واللسان، يصرف عنك وسوسة الشيطان، والله سميع للقول من جهل الجاهلين والاستعاذة بالله من نزغ الشيطان (وسوسته) ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بالفعل، وبما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه. والاستعاذة مطلوبة عند تلاوة القرآن في قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النّحل 16/ 98- 99] . والخطاب في آية وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ونحوها موجّه إلى كلّ المكلّفين، وأوّلهم الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم. ويدأب الشّيطان على إلقاء وساوسه في قلب كلّ إنسان، روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجنّ، قالوا: وإيّاك يا رسول الله؟ قال: وإيّاي إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم منه» . ثم أوضح الله تعالى طريق التخلّص من وساوس الشّيطان، فقال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ... أي إن عباد الله المتقين، الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا عنه ما زجر، إذا أصابهم طائف من الشيطان، أي ألّمت بهم لمّة منه، تذكّروا ما أمر الله به ونهى عنه، وذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فأبصروا السّداد، وعرفوا طريق الحقّ والخير، ودفعوا ما وسوس به الشّيطان إليهم، ولم

فقه الحياة أو الأحكام:

يتبعوه أنفسهم، فإذا هم أولو بصيرة ووعي وعقل، وقد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه. وهذا الاعتصام بالله من الشيطان عمل وقائي، ولا شكّ أن الوقاية خير من العلاج. فإذا وقع الإنسان في معصية بادر إلى التّوبة والإنابة والرّجوع إلى الله من قريب، حتى يمحو الله عنه أثر الذّنب. ومن المعروف أن للإنسان نزعة إلى الخير ونزعة إلى الشّرّ، وبمقدار ما يجاهد به نفسه، ويتغلّب على هوى نفسه، ووسوسة شيطانه، كان مثابا مقرّبا إلى الله تعالى، قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود: «إنّ للشّيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى، فليتعوّذ من الشّيطان، ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ. ثم ذكر الله مدى تأثير الشيطان على الجاهلين الفاسدين فقال: وَإِخْوانُهُمْ أي وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتّقين، فإن الشياطين يتمكّنون من إغوائهم، ويمدّونهم في الغيّ أي الضّلال، ويكونون مددا لهم فيه ويعضدونهم، ولا يقصرون أبدا في حملهم على المعصية أي لا يمسكون عن إغوائهم، ولا يكفّون عن إفسادهم، حتى يصرّوا على الشّرّ والفساد لأنهم لا يذكرون الله إذا نزغ بهم الشيطان، ولا يستعيذون من وسواسه، إما لعدم إيمانهم، أو لخلو قلوبهم من التّقوى. فقه الحياة أو الأحكام: تضمّنت آية: خُذِ الْعَفْوَ أصول الفضائل والأخلاق الاجتماعية، وهي تلي في المرتبة أصول العقيدة، ففي المعاملات والعادات ولدي التعامل مع الآخرين تظهر أخلاق الناس، وما أحوج الإنسان إلى هذه الأصول الخلقية في تعامله مع الغير.

وقد تبيّن لدينا في تفسير الآية أن هذه الأصول ثلاث: أخذ بالعفو: أي المعاملة باللين، والبيان باللطف، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتّكليف، ويشمل ترك التّشدّد في كلّ ما يتعلّق بالحقوق المالية، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب، وترك الغلظة والفظاظة، والدّعوة إلى الدّين الحقّ بالرّفق واللّطف. وهذا النّوع من الحقوق مما يقبل التّساهل والتّسامح فيه. وأمر بالمعروف: وهو كلّ ما عرف شرعا وعقلا وعادة من جميل الأفعال وألوان الخير. وهذا النّوع من الحقوق لا يقبل التّسامح والتّساهل. ويشمل كل ما أمر به الشرع، وكل ما نهى عنه من الأقوال والأفعال. والمأمورات والمنهيّات معروف حكمها، مستقرّ في الشّريعة موضعها، والقلوب متّفقة على العلم بها. والفرد والجماعة مطالبان بمقتضى هذا الأمر، والإعلان الدّائم عن المعروف والأمر به، والنّهي عن المنكر وإخفائه. وإعراض عن الجاهلين: وهم السّفهاء، ففي أثناء الأمر بالمعروف والتّرغيب فيه، والنّهي عن المنكر والتّنفير منه، ربّما أقدم بعض الجاهلين على السّفاهة والإيذاء، فيكون الإعراض عنهم هو المتعيّن، اتّقاء لشرّهم، وصيانة للدّاعية عن أذاهم، ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وذلك يتناول جانب الصّفح بالصّبر. وهذه الأوامر الخلقية الثلاث، وإن كان الخطاب فيها من الله لنبيّه عليه الصّلاة والسّلام، فهو تأديب لجميع خلقه. والصحيح- كما ذكر المفسرون مثل القرطبي والرازي وابن كثير وغيرهم- أن هذا الآية محكمة غير منسوخة، كما قال مجاهد وقتادة، بدليل ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبّانا، فقال عيينة لابن أخيه:

يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! قال: فغضب عمر، حتى همّ بأن يقع به. فقال الحرّ: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسّلام: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وإن هذا من الجاهلين. فوالله، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافا» عند كتاب الله عز وجل. وكذلك شتم عصام بن المصطلق الحسن بن علي وشتم أباه، فنظر إليه نظرة عاطف رؤف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» . فالتزام عمر بالآية، وكذا التزام الحسن بن علي بها دليل على أنها محكمة. ففي حالة التعمد بالجفاء على السلطان والاستخفاف بحقه يستحق التعزير، وفي غير ذلك يكون الإعراض والصفح والعفو، كما فعل عمر. وأما بقية الآيات فجعلت الناس قسمين: المؤمنين المتقين، وإخوان الشياطين. أما المؤمنون المتقون فإنه إذا مسهم طائف من الشيطان وألمت بهم لمّة تحملهم على المعاصي، تذكروا أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، فأبصروا الحق وحذروا وسلموا، وإن تورطوا في المعصية ندموا وتابوا ورجعوا إلى الله تعالى. والاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان وإغرائه بالمعصية: أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه، وشديد عقابه، فيدعوه كل واحد من الأمرين إلى الإعراض عن هوى النفس، والإقدام على طاعة أمر الشرع.

_ (1) أي لا يتجاوز حكمه، تفسير القرطبي: 7/ 347، تفسير ابن كثير: 2/ 277 وما بعدها (2) انظر القصة في تفسير القرطبي: 7/ 350- 351.

والخطاب وإن كان للرسول، إلا أنه تعليم وتأديب عام لجميع الخلق. والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قد ينزغه الشيطان- والنزغ: كالابتداء في الوسوسة- والعلاج: الاستعاذة بالله كما دلت الآية الأولى، وأما المتقون: فيتعرضون لما هو أزيد من النزغ، وهو أن يمسهم طائف من الشيطان، كما دلت آية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا. وقوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك، فإني سميع، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك، فإني عليم بما في ضميرك. ونظير هذه الآية: ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول له: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله، ولينته» . وأما إخوان الشّياطين: وهم شياطين الإنس أو الفجّار من ضلّال الإنس أو الكفّار والمشركون، فتمدّهم الشّياطين في الغيّ والضّلال، ويغوون النّاس، فيكون ذلك إمدادا منهم لشياطين الجنّ على الإغواء والإضلال. فبين الفريقين تعاون على الضّلال والإثم. وسمّوا بإخوان الشّياطين لأنهم يقبلون منهم. وهذا التّفسير جمع بين القولين في بيان المراد من إخوان الشياطين، القول الأوّل وهو الأظهر عند الرّازي: أن شياطين الإنس يغوون الناس، والقول الثاني وهو الأوجه عند الزّمخشري لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتّقوا: وهو أن الشّياطين من الجنّ يكونون مددا لشياطين الإنس. والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخا من الشّياطين «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 100.

اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي الإلهي وخصائص القرآن [سورة الأعراف (7) آية 203] :

وعلى كل حال فإن العصاة تتمكّن الشّياطين من إغوائهم، فيمدّونهم في غيّهم ويعضدونهم، ولا يكفون عن ذلك، فتراهم يستمرون في شرورهم وكفرهم وآثامهم. وقد فسّرت الآية سابقا بالقول الثاني. والمراد من الإمداد: تقوية الوسوسة والإقامة عليها. اتّباع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم الوحي الإلهي وخصائص القرآن [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوااجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) البلاغة: هذا بَصائِرُ أي هذا القرآن بصائر، تشبيه بليغ أي هذا كالبصائر، حذفت أداة التّشبيه ووجه الشّبه، وأصله: هذا بمنزلة بصائر القلوب. المفردات اللغوية: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ أي وإذا لم تأت أهل مكة بآية مما اقترحوا أو بآية من القرآن. قالُوا: اجْتَبَيْتَها أي قالوا: هلا اخترعتها أو اختلقتها وأنشأتها من عندك، أو هلا طلبتها من الله. إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي إنما أنا متبع الوحي، ولست بمختلق للآيات من عند نفسي، أو لست بمقترح لها. هذا بَصائِرُ هذا القرآن بصائر للقلوب، أي مبصّر لها، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب، وهو حجج مبيّنات. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى فيما سبق إغواء الشّياطين وإضلالهم، بيّن في هذه الآية نوعا خاصّا من أنواع الإغواء والإضلال، وهو أنّهم كانوا يطلبون آيات كونية

التفسير والبيان:

معينة، ومعجزات مخصوصة، على سبيل التّعنّت، كقوله تعالى حكاية عنهم: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً الآيات [الإسراء 17/ 90- 91] . فإذا لم تأتهم بما طلبوا، قالوا: هلا اختلقتها من عند نفسك، جريا على اعتقادهم بأن القرآن من عند محمد: وَقالُوا: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سبأ 34/ 43] . التفسير والبيان: وإذا لم تأت أيها الرّسول أهل مكة بآية مما اقترحوا حدوثه، أو بآية من القرآن، قالوا: هلا اختلقتها وتقولتها من تلقاء نفسك، لزعمهم أن القرآن من عند محمد، وأنه متمكن من الإتيان بالآيات الكونية والمعجزات المخصوصة، أو هلا طلبتها من الله الذي يلبي لك حاجتك. فقل لهم يا محمد: إنما أنا متّبع وحي ربّي فقط، ولست بمفتعل أو مختلق للآيات، أو لست بمقترح لها، ولست قادرا على إيجاد الآيات. ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس 10/ 15] . ثم نبههم الحق تعالى إلى ما يحقق الهدف، وأرشدهم إلى أن هذا القرآن أعظم المعجزات، وكأنه قال لهم: ما لكم تطلبون شيئا لا يفيدكم؟ وإنما لديكم هذا القرآن الذي يشتمل على مبصرات للقلوب، وحجج بيّنات، وبراهين نيّرات، ودلائل واضحات من الله على صدقي، وأنه من عند الله، بها يبصر الحق، ويدرك الصّواب، ويعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب، كما قال تعالى في موضع آخر: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها [الأنعام 6/ 104] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا القرآن هدى للحيارى إلى طريق الاستقامة، وهو أيضا رحمة في الدنيا والآخرة لمن يؤمن به، كما قال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام 6/ 155] ، فمن آمن به وعمل بأحكامه، فهو من المفلحين دون سواهم. وهذه الخصائص الثلاث متفاوتة البيان بحسب أحوال طالبي المعارف، فأعلاها الحق اليقين، وثانيها منهج الاستقامة للمعتدلين، وثالثها طريق الرّحمة العامة بالمؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يأتي: 1- كان لأهل مكة مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم مواقف تعنّت وتشدّد، ومطالب شبه مستحيلة، تهرّبا من الإيمان، وإصرارا على الكفر، وإمعانا في إيذاء النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واتّهامه بأخطر أنواع الاتّهام، وهو افتراء القرآن وتمكّنه من الإتيان بما شاؤوا من المعجزات وخوارق العادات. 2- تقتصر مهمّة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم على اتّباع الوحي وامتثال ما أمر الله به، فإن أظهر الله معجزة أو آية على يديه قبلها، وإن منعها عنه لم يسأله إيّاها، إلا أن يأذن له في ذلك، فإنه حكيم عليم. 3- هذا القرآن أعظم المعجزات وأبين الدّلالات وأصدق الحجج والبيّنات، فهو متّصف بخصائص ثلاث: مبصّر بالحقّ في دلالته على التّوحيد والنّبوة والمعاد وتنظيم الحياة بأحسن التّشريعات، وهاد مرشد إلى طريق الاستقامة، ورحمة في الدنيا والآخرة للمؤمنين به.

الاستماع للقرآن وطريقة الذكر [سورة الأعراف (7) الآيات 204 إلى 206] :

الاستماع للقرآن وطريقة الذّكر [سورة الأعراف (7) : الآيات 204 الى 206] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) الإعراب: تَضَرُّعاً منصوب على المصدر، وقيل: هو في موضع الحال. وَالْآصالِ جمع أصل، وأصل: جمع أصيل، وهو العشي. المفردات اللغوية: فَاسْتَمِعُوا الفرق بين السّمع والاستماع: أنّ الأول يحصل ولو بغير قصد، والثاني لا يكون إلا بقصد ونيّة. وَأَنْصِتُوا الإنصات: هو السّكوت للاستماع، من غير شاغل يشغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ. تَضَرُّعاً تذلّلا وإظهارا للضّراعة، أي الخضوع والضّعف. وَخِيفَةً خوفا وخشية من الله وعقابه. وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي التّوسّط في الذّكر دون الجهر برفع الصّوت، وفوق السّر والتّخافت. بِالْغُدُوِّ جمع غدوة: وهي ما بين صلاة الغداة (الفجر) إلى طلوع الشّمس. وَالْآصالِ جمع أصيل: وهو العشي ما بعد العصر إلى غروب الشمس، والمقصود: الذّكر أوائل النهار وأواخره، أي في كل وقت. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة. لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبّرون عن عبادة الله. وَيُسَبِّحُونَهُ ينزّهونه عما لا يليق به. وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يصلّون لله ويخصّونه بالخضوع والعبادة. سبب النّزول: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ: أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة قال: نزلت: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا في رفع الأصوات في الصّلاة خلف النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

وأخرج أيضا عنه قال: كانوا يتكلّمون في الصّلاة، فنزلت: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ الآية. وأخرج عن عبد الله بن مغفّل نحوه. وأخرج ابن جرير الطّبري عن ابن مسعود مثله. وأخرج عن الزّهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كلما قرأ شيئا قرأه. وقال سعيد بن منصور في سننه عن محمد بن كعب قال: كانوا يتلقّفون من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ شيئا قرءوا معه، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. وعقب السيوطي على هذه الرّوايات فقال: ظاهر ذلك أن الآية مدنيّة. يظهر من هذه الرّوايات أن الآية نزلت في الصّلاة، وهو مروي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر، والزّهري وعبيد الله بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيّب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا صلّى، فيقول بعضهم لبعض بمكّة: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت 41/ 26] . فأنزل الله جل وعز جوابا لهم: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. وقيل: إنها نزلت في الخطبة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة، ومسلم بن يسار، وشهر بن حوشب، وعبد الله بن المبارك. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها.

المناسبة:

المناسبة: لما ذكر الله تعالى أن القرآن بصائر للناس وآيات بيّنات للمؤمنين، وهدى ورحمة لهم، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاما له واحتراما، وتوصّلا لنيل الرّحمة به، والفوز بالمنافع الكثيرة التي يشتمل عليها، لا كما كان يفعل كفار قريش في قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ. التفسير والبيان: إذا قرئ القرآن الكريم فأصغوا إليه أسماعكم، لتفهموا آياته وتتعظوا بمواعظه، وأنصتوا له عن الكلام مع السّكون والخشوع، لتعقلوه وتتدبروه، ولتتوصلوا بذلك إلى رحمة الله بسبب تفهّمه والاتّعاظ بمواعظه، فإنه لا يفعل ذلك إلا المخلصون الذين استنارت قلوبهم بنور الإيمان. والآية تدلّ على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن، سواء أكانت التّلاوة في الصلاة أم في خارجها، وهي عامّة في جميع الأوضاع وكل الأحوال، ويتأكّد ذلك في الصّلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة، كما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا» رواه أيضا أصحاب السّنن عن أبي هريرة. وهذا هو المروي عن الحسن البصري، لكن الجمهور خصّوا وجوب الاستماع والإنصات بقراءة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم في عهده، وبقراءة الصّلاة والخطبة من بعده يوم الجمعة لأن إيجاب الاستماع والإنصات في غير الصّلاة والخطبة فيه حرج عظيم إذ يقتضي ترك الأعمال. وأما ترك الاستماع والإنصات للقرآن المتلو في المحافل، فمكروه كراهة

شديدة، وعلى المؤمن أن يحرص على استماع القرآن عند قراءته، كما يحرص على تلاوته والتّأدّب في مجلس التّلاوة. وتستحب القراءة بالتّرتيل والنّغم الدّالة على التّأثّر والخشوع من غير تكلّف ولا تصنّع ولا تمطيط ولا تطويل في المدود، فقد روى الشّيخان عن أبي هريرة مرفوعا: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت، يتغنى بالقرآن» . وثواب الاستماع كثواب التّلاوة، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة» . ثم أمر الله تعالى بذكره أول النّهار وآخره كثيرا، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق 50/ 39] . ومعنى الآية: اذكر ربك في نفسك سرّا، بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره، اذكره بقلبك: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرّعد 13/ 28] ، واذكره ضارعا متذلّلا خائفا راجيا ثوابه وفضله، واذكره بلسانك ذكرا متوسّطا بين الإسرار والجهر: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء 17/ 110] ، والخطاب قيل: للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: لمستمع القرآن، والأولى أن يكون عامّا. وينبغي أن يكون ذكر اللسان مقرونا باستحضار القلب وملاحظة المعاني، فذكر اللسان وحده لا نفع فيه ولا ثواب عليه، فالواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان، وأن يكون الذّكر رغبة ورهبة. وأنسب الأوقات للذّكر: وقت الصّباح والمساء وهو وقت الغدو والآصال

فقه الحياة أو الأحكام:

لأنّ بقية النهار للعمل وكسب الرّزق، ولأنّ هذين الوقتين وقتا هجوع وسكون. جاء في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدّعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنّ الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» . وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ تأكيد للأمر بالذّكر، فهو نهي عن الغفلة عن ذكر الله، والواجب جعل القلب على صلة دائمة مع الله، وأن يشعر القلب الخضوع لله والخوف من قدرته وعظمته إذا غفل الإنسان عنه. ثمّ أكّد الله تعالى الأمر والنّهي السّابقين بما يرغّب في الذّكر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ... أي إنّ الملائكة المقرّبين من الله، لا يتكبّرون عن عبادة الله، وينزّهونه عن كلّ ما يليق بعظمته وكبريائه، وله وحده يصلّون ويسجدون، فلا يشركون معه أحدا. وهذا تذكير بفعل الملائكة، ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، لهذا شرع لنا السّجود هاهنا وفي بقية سجدات التّلاوة، وهذه أول سجدة في القرآن فيشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع، روى ابن ماجه عن أبي الدّرداء عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه عدّها في سجدات القرآن. والآية ترشد إلى أن الأفضل إخفاء الذّكر، روى أحمد وابن حبّان عن سعد عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «خير الذّكر الخفي» . فقه الحياة أو الأحكام: الأدب مع القرآن الكريم أمر مطلوب شرعا، وتعظيم الله واجب عقلا

وشرعا، وذكر الله تعالى همزة وصل القلب والنفس مع الله، وشأن الملائكة دوام العبادة والتّسبيح (تنزيه الله عما لا يليق) . والصّحيح وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل الأحوال وعلى جميع الأوضاع في الصّلاة وغيرها. لكن اختلف العلماء على آراء ثلاثة في قراءة المأموم خلف الإمام، هل يسقط عنهم فرض القراءة في الصلاة الجهريّة والسّريّة، أو يجب، وهل الوجوب خاص في السّريّة دون الجهريّة؟ 1- الحنفيّة: رأوا أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقا، جهرا كان يقرأ أو سرّا لظاهر هذه الآية، فإن الله طلب الاستماع والإنصات، وفي الجهريّة يتحقّق الأمران معا، وفي السّريّة يتحقق الإنصات لأنه الممكن لأن الإمام يقرأ، فعليه التزام الصّمت. ويؤيّده ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا» ورواه مسلم عن أبي موسى كما تقدّم، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن جابر أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «من كان له إمام، فقراءته له قراءة» وهذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه يحتج به عند الحنفيّة، وقد رواه أبو حنيفة مرفوعا بسند صحيح. وهو مذهب كثير من الصحابة: علي، وابن مسعود، وسعد، وجابر، وابن عباس، وأبي الدّرداء، وأبي سعيد الخدري، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأنس رضي الله عنهم. 2- المالكية والحنابلة: رأوا أن المأموم يقرأ خلف الإمام إذا أسرّ، ولا يقرأ إذا جهر، وهو قول عروة بن الزّبير، والقاسم بن محمد، والزّهري.

ودليلهم حديثان: الأول- ما رواه مالك وأبو داود والنّسائي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال: «إني أقول ما لي أنازع القرآن؟!» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه من الصّلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. والثاني- ما روى مسلم عن عمران بن حصين قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بنا صلاة الظهر أو العصر، فقال: «وأيّكم قرأ خلفي بسبّح اسم ربك الأعلى؟» فقال رجل: أنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «قد علمت أن بعضكم خالجنيها» . وروي عن عبادة بن الصّامت قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: «إنّي لأراكم تقرؤون وراء إمامكم؟» ، قال: قلنا: يا رسول الله، أي والله، قال: «فلا تفعلوا إلا بأمّ القرآن» . لكن يلاحظ أن هذين الحديثين يدلان على مذهب الشّافعية، لا على مذهبي المالكية والحنابلة. 3- الشّافعية: يقرأ المصلّي بفاتحة الكتاب مطلقا، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا، في صلاة جهريّة أو سريّة. واستدلّوا بالحديثين السّابقين كما لاحظنا، وبقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل 73/ 20] ، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستّة عن عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . وهذا ما اختاره البخاري والبيهقي. ودلّت آية: وَاذْكُرْ رَبَّكَ ... على أن رفع الصّوت بالذّكر ممنوع. وأرشدت آية: وَلَهُ يَسْجُدُونَ على طلب السّجود ممن قرأ هذه الآية أو سمعها، وقد شرع سجود التّلاوة إرغاما لمن أبى السّجود من المشركين، واقتداء

بالملائكة المقرّبين. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السّجدة، فسجد، اعتزل الشّيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسّجود فسجد، فله الجنّة، وأمرت بالسّجود، فأبيت فلي النّار» . وإذا سجد يقول في سجوده كما كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول فيما رواه ابن ماجه عن ابن عباس: «اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا» ، وفي رواية: «اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني، وعملا يرفعني» . واختلف العلماء في وجوب سجود التّلاوة، فقال مالك والشّافعي وأحمد: ليس بواجب لحديث عمر الثابت في صحيح البخاري: أنه قرأ آية سجدة المنبر، فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى، فتهيأ الناس للسّجود، فقال: «أيها الناس على رسلكم! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء» وذلك بمحضر الصحابة من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم. ومواظبة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم تدلّ على الاستحباب. وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «أمر ابن آدم بالسّجود» فإخبار عن السّجود الواجب. وقال أبو حنيفة: سجود التلاوة واجب لأن مطلق الأمر بالسّجود يدل على الوجوب، ولقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا قرأ ابن آدم سجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله» وفي رواية أبي كريب: «يا ويلي» ، وقوله عليه الصّلاة والسّلام أيضا إخبارا عن إبليس فيما رواه مسلم: «أمر ابن آدم بالسّجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار» . ولا خلاف في أنّ سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصّلاة من طهارة حدث ونجس ونيّة واستقبال قبلة ووقت.

وهل يحتاج الساجد إلى تحريم ورفع يدين وتكبير وتسليم؟ :

أما الوقت فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا لأنها صلاة لسبب، وهو مذهب الشافعي والجماعة. وقيل: يسجد في غير الأوقات المكروه فيها صلاة النافلة مثل ما بعد الصّبح وما بعد العصر، وهو مذهب الحنفية، وفي رأي عند المالكية. وسبب الخلاف: معارضة سبب قراءة السّجدة من السّجود المرتب عليها لعموم النّهي عن الصّلاة بعد العصر وبعد الصبح، واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصّلاة في هذين الوقتين. وهل يحتاج السّاجد إلى تحريم ورفع يدين وتكبير وتسليم؟ اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الشّافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبّر ويرفع للتّكبير لها أي لسجدة التّلاوة، وروي في الأثر عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد كبّر، وكذلك إذا رفع كبّر. ومشهور مذهب مالك أنه يكبّر لها في الخفض والرّفع في الصّلاة، واختلف المنقول عنه في التّكبير لها في غير الصّلاة. وقال الجمهور: ولا سلام لها، وقال الشّافعية: لها سلام، وهذا كما قال ابن العربي أولى، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي: «مفتاح الصّلاة الطّهور، وتحريمها التّكبير، وتحليلها التّسليم» ، وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى لأنها فعل، وصلاة الجنازة قول. فإن قرأ شخص السّجدة في صلاة، فإن كان في نافلة سجد، وإن كان في الفريضة لم يسجد في المشهور عن مالك لكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة، وخوفا من التّخليط على الجماعة.

سورة الأنفال:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية. سورة الأنفال: سورة مدنيّة تتحدّث عن أحكام تشريع الجهاد في سبيل الله، وقواعد القتال، والإعداد له، وإيثار السّلم على الحرب إذا جنح لها العدوّ في دياره، وآثار الحرب في الأشخاص (الأسرى) والأموال (الغنائم) . وسبب تسميتها بالأنفال واضح، لسؤال الناس عن أحكامها، والمراد بها الغنائم الحربية، فقد ابتدئت السورة بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. وقد نزلت عقب غزوة بدر الكبرى، أول الغزوات المجيدة التي حقّقت النصر للمسلمين مع قلّتهم على المشركين مع كثرتهم، لذا سمّيت (يوم الفرقان) لأنها فرقت بين الحقّ والباطل. ومناسبتها لسورة الأعراف: أنها في بيان حال الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم مع قومه، وسورة الأعراف مبيّنة لأحوال أشهر الرّسل مع أقوامهم. ما اشتملت عليه هذه السّورة: تضمّنت سورة الأنفال أحكاما عديدة في الجهاد والغزوات، أهمّها ما يأتي:

1- أمر قسمة الغنائم متروك للرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم، والأحكام مرجعها إلى الله تعالى ورسوله لا إلى غيرهما. 2- إرادة تحقيق النّصر الإلهي للمؤمنين في معركة بدر، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وبيان علّة ذلك الحكم في قوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. 3- الإمداد الفعلي بالملائكة للمؤمنين يقاتلون معهم: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ.... ويفهم من هذين الحكمين أن أحكام الله معللة بمراعاة مصالح الناس. 4- النّصر الحقيقي من عند الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. 5- تعليم المؤمنين قواعد القتال الحربية، وخطابهم لترسيخ المعلومات ستّ مرات بوصف الإيمان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في بداية الأمر بكل قاعدة أثناء سرد أحداث بدر، وهي تحريم الفرار من المعركة، وطاعة الله والرّسول، والاستجابة لله وللرسول إذا دعا إلى ما فيه عزّة الحياة والسعادة، وتحريم الخيانة بنقل أسرار الأمة للأعداء، والأمر بالتقوى التي هي أساس الخير كله، والثبات أمام الأعداء، والصبر عند اللقاء، وذكر الله كثيرا. ومن تلك القواعد كراهة مجادلة الرّسول في الحقّ بعد ما تبيّن، أما قبل تبيّن الحق في المصلحة الحربية فالمجادلة محمودة، إذ بها تتمّ المشاورة المطلوبة في القرآن بين المؤمنين ومع الرّسول. ومن القواعد الحربية الامتناع من التنازع والاختلاف حال القتال: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.

6- عصمة الرّسول بالهجرة من أذى قريش وتآمرهم على حبسه أو نفيه أو قتله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.... 7- رفع البلاء العام عن الناس قاطبة ما دام الرّسول فيهم: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ. 8- التّوكّل على الله بعد اتّخاذ الأسباب المطلوبة في كلّ شيء، وبخاصة الإعداد للقتال. 9- الظّلم مؤذن بالخراب، ومعجّل بالفناء، ويعمّ أثره الأمّة كلها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. 10- إن تغيّر أحوال الأمم من الذّل إلى العزّة، ومن الضّعف إلى القوّة، منوط بتغيير ما في النّفوس من عقائد فاسدة وأخلاق مرذولة. 11- الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة للفساد: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ. 12- إعداد مختلف القوى الماديّة والمعنويّة لقتال الأعداء: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. 13- إيثار السّلم على الحرب إذا مال لها العدوّ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها. 14- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق، حتى ولو مسّ ذلك مصلحة بعض المسلمين: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. 15- وجوب تأديب ناقضي العهد ومعاملتهم بالشّدّة: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.

السور المكية والمدنية:

16- غاية القتال في الإسلام صون حريّة الدّين ومنع الفتنة في الدّين: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. 17- المسلمون أمّة واحدة والولاية والتّناصر بينهم واجب، والكافرون أمّة واحدة، ولا ولاية بين المؤمنين والكافرين: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. السّور المكيّة والمدنيّة: سبق في مقدّمة الجزء الأول بيان خواص السّور المكيّة والمدنيّة، وللتّذكير بتلك الخواص بمناسبة تفسير نماذج من النّوعين أشير إلى بعض هذه الخواص، علما بأن سورا ثلاثا مما ذكر مكيّة وهي: (الفاتحة والأنعام والأعراف) وأربعا هي مدنيّة وهي: (البقرة وآل عمران والنساء والمائدة) وكذا سورة الأنفال مدنيّة إلا الآيات (30- 36) فمكيّة. أما السّور المكيّة: فموضوعاتها العقيدة والأخلاق، ببيان أصول الإيمان من إثبات التّوحيد والنّبوة والبعث، وقصص الرّسل مع أقوامهم في هذا المضمار، وتقرير أصول الآداب والأخلاق، ومحاجّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول. وأما السّور المدنيّة: فتعنى ببيان أحكام التّشريع المفصّلة، ومحاجّة أهل الكتاب بسبب الانحراف عن هداية كتبهم، ففي سورة البقرة محاجة اليهود، وفي سورة آل عمران محاجّة النّصارى، وفي سورة المائدة محاجّة الفريقين، وفي سورتي النّساء والتوبة مجادلة المنافقين وأحكامهم، بعد إعلان البراءة من المشركين في سورة التوبة. وأمّا سورة الأنفال: فهي تنظيم لقواعد السّلم والحرب بالنّسبة للمسلمين،

السؤال عن حكم قسمة الغنائم وبيان أوصاف المؤمنين [سورة الأنفال (8) الآيات 1 إلى 4] :

وسرد أحداث معركة بدر الكبرى، ثمّ بيان إحباط مكائد المشركين ومؤامراتهم على قتل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو حبسه أو إخراجه من مكّة. السؤال عن حكم قسمة الغنائم وبيان أوصاف المؤمنين [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) الإعراب: ذاتَ بَيْنِكُمْ ذات: مفعول به، وهو مضاف، وبينكم: مضاف إليه، وأصل ذات: ذوية، فحذفوا اللام التي هي الياء، كما حذفت من المذكر في «ذو» فإن أصله: ذو، فلما حذفت الياء من ذوية، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار ذات. والوقف عليها بالتاء عند أكثر العلماء والقراء. البلاغة: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ذكر الاسم الجليل في هذا وفي قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ لتربية المهابة وتعليل الحكم. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الإشارة بالبعيد لعلو رتبتهم وشرف منزلتهم. حَقًّا صفة لمصدر محذوف تقديره: أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا، أو هو مصدر مؤكد لجملة التي هي: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الدرجات مستعارة لمراتب الجنة ومنازلها العالية.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يَسْئَلُونَكَ يا محمد، والسؤال بمعنى طلب العلم يتعدى إلى مفعولين ثانيهما ب عن، وقد يتعدى بنفسه، وإذا كان بمعنى طلب المال فيتعدى إلى مفعولين بنفسه، نحو سألت زيدا مالا، وقد يتعدى بمن مثل: سألت محمدا من ماله. والسؤال هنا سؤال استفتاء لا استعطاء، وموجه ممن حضر معركة بدر. عَنِ الْأَنْفالِ غنائم بدر، والمراد بها هنا الغنائم الحربية، وهي ما حصل مستغنما من العدو، بتعب كان أو بغير تعب، قبل الظفر أو بعده. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك وقتادة وعكرمة. قال الزمخشري: النفل: الغنيمة لأنها من فضل الله تعالى. وقد يراد بالأنفال جمع نفل: ما يشترطه الإمام للمجاهد، زيادة على سهمه. لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي أن حكمها لله يجعلها حيث شاء، والرسول يقسمها بأمر الله، فقسمها صلّى الله عليه وآله وسلم بينهم على السواء، كما رواه الحاكم في المستدرك. ذاتَ بَيْنِكُمْ حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع، وذات البين: الصلة التي تربط بين شيئين. أي الحال والصلة التي بينكم، وتربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة والإيثار، وترك الأثرة أو حب الذات. وقيل: إن ذات بمعنى صفة لمفعول محذوف، أي أحوالا ذات بينكم يحصل بها اجتماعكم. وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح. والبين في أصل اللغة: يطلق على الاتصال والافتراق وكل ما بين طرفين، كما قال تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام 6/ 94] برفع بين بمعنى الوصل، وبنصبه على الظرفية بمعنى وقع التقطع بينكم. ومن استعمال البين بمعنى الافتراق والوصل قول الشاعر: فوالله لولا البين لم يكن الهوى ... ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف البين أولا: هو البعد، والثاني: هو الوصل. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم. وذكر الاسم الجليل في هذا وما قبله لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول مع الله تعالى لتعظيم شأنه والاعلام بأن طاعته طاعة لله تعالى. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه، أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة. والمراد بالإيمان: التصديق، وقد يراد به كمال الإيمان. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الإيمان. ذُكِرَ اللَّهُ أي وعيده. وَجِلَتْ خافت وفزعت. زادَتْهُمْ إِيماناً تصديقا. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ به يثقون لا بغيره وعليه يعتمدون وإليه

سبب النزول نزول الآية (1) :

يفوضون. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بها كاملة بحقوقها. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم. يُنْفِقُونَ في طاعة الله. أُولئِكَ الموصوف بما ذكر. حَقًّا صدقا بلا شك. لَهُمْ دَرَجاتٌ منازل عالية رفيعة في الجنة. عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة. سبب النزول: نزول الآية (1) : أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، كيف تقسم، ولمن الحكم فيها، أهي للمهاجرين، أم للأنصار، أم لهم جميعا؟ فنزلت. وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النّفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين عن بواء، أي عن سواء. وروى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا، فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم، جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا، فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ- إلى قوله- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص أنه قتل سعيد بن العاص، وأخذ سيفه، واستوهبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فمنعه إياه، وأن الآية نزلت في ذلك، فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلّى الله عليه وآله وسلم. ولا تعارض بين هذه الروايات، فالآية نزلت في شأن قسمة غنائم بدر، لما اختلف المسلمون في قسمتها، إلا أن بعض الروايات تذكر سببا عاما للخلاف،

وبعضها تذكر سببا خاصا، ولا مانع من وقوع الأمرين معا. قال الجصاص: والصحيح أنه لم يتقدم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قول في الغنائم قبل القتال، فلما فرغوا من القتال، تنازعوا في الغنائم، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فجعل أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أن يجعلها لمن شاء، فقسمها بينهم على السواء «1» . وإحلال الغنائم مما اختص الله به الأمة الإسلامية، فهي من خصائص الإسلام بدليل ما ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي- فذكر الحديث إلى أن قال- وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي» . قال أبو عبيد: ولهذا سمي ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا: وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء (النفع) عن الإسلام، والنكاية في العدو. وفي التنفيل (إعطاء النفل لبعض المقاتلين تشجيعا على القتال) سنن أربع لكل منها موضع: 1- لا خمس في النفل الذي هو السّلب، أي ما يكون مع القتيل من سلاح ومال ومتاع. 2- النفل يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس المنصوص عليه في آية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال 8/ 41] . وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب، فتأتي بالغنائم، فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث، بعد الخمس الحديث رواه أحمد وأبو داود عن معن بن يزيد: «لا نفل إلا بعد الخمس» . 3- النفل الذي يكون من الخمس نفسه: هو ما يخرجه الإمام من حصته،

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 45.

التفسير والبيان:

وهو أن تحاز الغنيمة كلها، ثم تخمس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام، نفل منه على قدر ما يرى. 4- النفل الخارج من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء: هو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها «1» . واختلف الفقهاء في هذه الأحوال الأربع، فقال الشافعي: الأنفال ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السّلب. قال أبو عبيد: والوجه الثاني من النفل من خمس النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن له خمس الخمس من كل غنيمة. والوجه الثالث يعطى للسرية أو الجيش الذي بعثه الإمام على وفق ما شرطه لهم. ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمهما الله كالشافعي أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس، على ما يرى من الاجتهاد، وليس في الأربعة الأخماس نفل، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» وقال المالكية: النفل قسمان: جائز ومكروه، فالجائز بعد القتال، والمكروه أن يقال قبل القتل: من فعل كذا وكذا فله كذا. وإنما كره هذا لأن القتال فيه يكون للغنيمة. التفسير والبيان: يسألونك أيها الرسول عن حكم الأنفال أي الغنائم لمن هي، وكيف تقسم؟ فقل لهم: إن حكمها لله أولا يحكم فيها بما يريد، ثم للرسول يقسمها بينكم كما أمر الله، فأمرها مفوض إلى الله ورسوله. وهذه الآية محكمة مجملة، بيّن إجمالها وفصل مصارفها آية أخرى في السورة نفسها هي قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... [الأنفال 8/ 41] فلا تكون هذه ناسخة لتلك، وإنما توزع الغنائم، الخمس لهؤلاء المذكورين في هذه الآية، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين. أما

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 284.

اليوم بعد تنظيم الجيوش ومنح رواتب دائمة للجند فتؤول للدولة. وللإمام بموجب هذا التفويض أن ينفل من شاء من المقاتلة تحريضا على القتال، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة: «من قتل قتيلا فله سلبه» . وإذا كان أمر الغنائم لله ورسوله فاتقوا الله سبحانه في أقوالكم وأفعالكم، واجتنبوا ما كنتم فيه من التنازع والاختلاف فيها، الموجب لسخط الله وغضبه، والموقع في الفرقة والعداوة الضارة بكم حال الحرب وغيرها. وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ من الأحوال، حتى تتأكد الرابطة الإسلامية بين بعضكم، وتشيع المحبة والمودة والوفاق والوئام بين صفوفكم، وبعبارة أخرى: اجعلوا ما كان موصولا على أصله، فهو سبب الوصل. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم وفي كل ما أمر به ونهى عنه، وقضى به وحكم. هذه الأمور الثلاثة (تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وإطاعة أوامر الله والرسول) يتوقف عليها صلاح الجماعة الإسلامية لأنها توفر معنى الانضباط والالتزام في السر والعلن لأحكام الشرع، وتوحد الكلمة والصف، وتكفل طاعة القيادة المخلصة الحكيمة. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين كلام الله وكاملي الإيمان، فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، فإن التصديق الحق يقتضي الامتثال، وكمال الإيمان يوجب هذه الخصال الثلاثة: الاتقاء، والإصلاح، وإطاعة الله تعالى ورسوله، فالمؤمن بالله حقا يستحي من عصيانه، ويدفعه إيمانه إلى طاعة ربه، وإلى إصلاح ما بينه وبين الآخرين من خلاف. وإذا كان الإيمان مستلزما للطاعة، فإن الله تعالى ذكر خمس صفات

للمؤمنين تدفعهم إلى تحقيق الخصال الثلاثة المتقدمة، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... وهذه الصفات هي ما يأتي: 1- الخوف التام من الله: الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم، وأحسوا بعظمته وجلاله، وتذكروا وعده ووعيده، خافوا منه أتم الخوف. كما قال تعالى في آية أخرى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... [الحج 22/ 34- 35] . 2- زيادة الإيمان بتلاوة القرآن: الذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية، زادتهم إيمانا ويقينا وتصديقا، وإقبالا على العمل الصالح لأن كثرة الأدلة والتذكير بها، يوجب زيادة اليقين، وقوة الاعتقاد، فالرؤية البصرية أو الحسية مثلا تقوي القناعة الذاتية، كما حدث لإبراهيم عليه السّلام الذي كان مؤمنا، وطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى: قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة 2/ 260] وهذا يدل على أن منزلة الطمأنينة في الإيمان أقوى وأعلى من مجرد الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح 48/ 4] وقوله: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة 9/ 124] . 3- التوكل على الله أي الاعتماد عليه والثقة به والتفويض إليه: الذين يتوكلون على ربهم وحده، وإليه يلجأون، ولا يرجون غيره، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، وذلك بعد اتخاذ الأسباب، فمن تعاطى الأسباب المطلوبة منه عقلا وعادة، ثم فوض الأمر لله، وأيقن أن الأمر كله بيد الله، فهو من أهل الإيمان. أما ترك الأسباب فهو جهل بمفهوم التوكل. 4- إقامة الصلاة: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يؤدونها كاملة الأركان

والشروط من قيام وركوع وسجود وتلاوة وأذكار في مواقيتها المعينة شرعا، مع خشوع القلب، ومناجاة الرحمن، وتدبر قراءة القرآن. 5- الإنفاق في سبيل الله: الذين ينفقون بعض أموالهم في وجوه الخير بإخراج الزكاة المفروضة، وأداء الصدقات التطوعية، والنفقات الواجبة للأصول والأهل، والمندوبة للأقارب والمحتاجين وفي مصالح الأمة وجهاد العدو، فإن الأموال عواري وودائع عند الإنسان لا بد أن يفارقها. وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، لذا قال تعالى بعد بيانها: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي أولئك الموصوفون: بما ذكرهم دون غيرهم المؤمنون حق الإيمان. وقد أشير إليهم بأولئك المفيد للبعد لبيان كمالهم وعلو منزلتهم. روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مرّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: انظر ماذا تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون «1» فيها، فقال: يا حارثة، عرفت فالزم- ثلاثا» . هذه صفات المؤمنين، أما المنافقون فقال ابن عباس عنهم: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف الله المؤمنين، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ....

_ (1) يصيحون ويبكون. [.....]

ثم ذكر الله جزاء المؤمنين الموصوفين بما ذكر، عند ربهم، فقال: لَهُمْ دَرَجاتٌ ... أي لهم منازل ومقامات ودرجات في الجنات على حسب أعمالهم ونواياهم، كما قال تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ [آل عمران 3/ 163] . ولهم مغفرة أي يغفر الله لهم السيئات، يشكر لهم الحسنات، ولهم رزق كريم: وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والكريم: وصف لكل شيء حسن. قال الضحاك في قوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ: أهل الجنة بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد، ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء» قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم، فقال: «بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين» . وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى، كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما» . فالمؤمنون متفاوتو الدرجة في الآخرة، وكذلك الرسل درجات، بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة 2/ 253] وفضل الله المهاجرين المجاهدين على غيرهم، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة 9/ 20] . وهناك تفاوت أيضا في درجات الدنيا، لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام 6/ 165] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية: 1- ليس كل نزاع أو خلاف شرا، فقد يؤدي الخلاف إلى خير، وقد كان خلاف الصحابة سببا في بيان حكم الأنفال. 2- كان الصحابة حريصين على السؤال عما يهم من أمور الدين. 3- الله تعالى مصدر الأحكام الشرعية حقيقة، ومرجع إصدار الأحكام إلى الله أولا ثم إلى الرسول، لا إلى غيرهما، وقسمة الغنائم فعلا مفوض أمرها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. وقوله: لِلَّهِ استفتاح كلام، وابتداء بالحق الذي ليس وراءه مرمى، الكل لله. وقوله: وَالرَّسُولِ قيل وهو الأصح عند ابن العربي: أراد به ملكا، وقيل: أراد به ولاية قسم وبيان حكم. ودليل الأول قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» فهو مالك له حقيقة، ثم يرده إلى المسلمين تفضلا. 4- صلاح الجماعة وقوة الأمة وعزتها مرهون بأمور ثلاثة: تقوى الله في السر والعلن، وإصلاح ذات البين، أي الحال التي يقع بها الاجتماع، وطاعة الله والرسول. 5- امتثال أمر الله تعالى من ثمرات الإيمان، وإن سبيل المؤمن أن يمتثل أوامر الله. 6- آية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ... تحريض على إلزام طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم. 7- أوصاف المؤمنين الصحيحة:

أولا- الخوف من الله، لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، فسبب الخوف: كمال المعرفة وثقة القلب. ثانيا- زيادة الإيمان عند تلاوة آي القرآن وقد وصف الله أهل المعرفة عند تلاوة كتابه فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة 5/ 83] . ثالثا- التوكل على ربهم أي لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب. رابعا- إقامة الصلاة: قال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. خامسا- الإنفاق مما رزق الله في سبيل الله، أي طرق الخير والبر والإحسان. 8- دل قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا على أن لكل شيء حقيقة، وأكد ذلك قصة حارثة. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. 9- زيادة الإيمان ونقصانه: استدل أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد والبخاري وغيرهم الذين يقولون: إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد

كراهية بعض المؤمنين قتال قريش في بدر [سورة الأنفال (8) الآيات 5 إلى 8] :

والإقرار والعمل، استدلوا بهذه الآية: زادَتْهُمْ إِيماناً وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب بزيادة الأعمال الصالحة، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار، لما قبل الزيادة. واستدلوا على أن الإيمان هو مجموع الأركان الثلاثة بقوله تعالى في تعداد أوصاف المؤمنين: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وهو يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان. ويؤيده الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» . كراهية بعض المؤمنين قتال قريش في بدر [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) الإعراب: كَما أَخْرَجَكَ الكاف للتشبيه، وفيها ثلاثة أوجه: الأول- أنها في موضع نصب على أنه صفة لمصدر محذوف دلّ عليه الكلام، وتقديره: قل: الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتا كما أخرجك ربك. فمحل الكاف صفة مصدر الفعل المقدر في قوله: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي الأنفال تثبت لله والرسول عليه الصلاة والسّلام مع كراهتهم، ثباتا مثل ثبات إخراجك رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ، يعني المدينة، مع كراهتهم. الثاني- أن تكون صفة لمصدر محذوف، وتقديره: يجادلونك جدالا كما أخرجك.

البلاغة:

الثالث- أن يكون وصفا لقوله: حَقًّا، وتقديره: أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك. وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الحال كحال إخراجك، يعنى أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهتهم خروجك للحرب. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ الجملة حال من كاف: أَخْرَجَكَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ إذ: متعلق ومنصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم. وإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: مفعول ثان ليعد، والمفعول الأول كاف يَعِدُكُمُ. وأَنَّها لَكُمْ: بدل من قوله: إِحْدَى، وهو بدل اشتمال، تقديره: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ أن ملك إحدى الطائفتين لكم، ولا بد من تقدير حذف المضاف لأن الوعد إنما يقع على الأحداث لا على الأعيان. لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف تقديره: يفعل ما فعل. البلاغة: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تشبيه تمثيلي. أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بينهما جناس اشتقاق. ذاتِ الشَّوْكَةِ استعارة، استعار الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدة والوخز بينهما. وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ كناية عن استئصالهم بالهلاك. المفردات اللغوية: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ القتال. بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ظهر لهم. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليه عيانا في كراهتهم له. إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ العير الآتية من الشام أو النفير التي جاءت من مكة للنجدة. وَتَوَدُّونَ تريدون. الشَّوْكَةِ البأس والسلاح الذي فيه الحدة والقوة، وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ هي العير. تَكُونُ لَكُمْ لقلة عددها وعددها بخلاف النفير. يُحِقَّ الْحَقَّ يظهره. بِكَلِماتِهِ السابقة، بظهور الإسلام. وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ يستأصل آخرهم الذي يأتي من ورائهم، لذا أمرهم بقتال النفير. ولِيُحِقَّ الْحَقَّ يعز الإسلام لأنه الحق. وَيُبْطِلَ الْباطِلَ يمحق الكفر والشرك ويزيله. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المشركون ذلك.

سبب النزول نزول الآية (5) :

سبب النزول: نزول الآية (5) : كَما أَخْرَجَكَ: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت: ما ترون فيها، لعلّ الله يغنمناها ويسلمنا؟ فخرجنا، فسرنا يوما أو يومين، فقال: ما ترون فيهم؟ فقلنا: يا رسول الله، ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال قوم موسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، فأنزل الله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. المناسبة: تتضح المناسبة بين هذه الآيات وبين ما قبلها من الكاف في كَما أَخْرَجَكَ الذي يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج، وأحسن وجوه الربط تشبيه كراهية الصحابة لحكم الأنفال وإن رضوا به، بكراهيتهم لخروجك من بيتك بالحق إلى القتال في بدر، فهم رضوا بحكم الأنفال، ولكنهم كانوا كارهين له، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال، وإن كانوا كارهين له. وفي وجه آخر: الأنفال ثابتة لك، مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق، والمعنى: امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت، وإن كرهوا. وقيل: كَما أَخْرَجَكَ متعلق بقوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ والمعنى: هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له، فأنجزك وعده، وأظفرك بعدوك، وأوفى لك، فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا، كذا ينجزكم ما وعدكم به في الآخرة.

أضواء من السيرة على موقعة بدر:

أضواء من السيرة على موقعة بدر: هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصحبه الذين آمنوا به من مكة إلى المدينة، بسبب اشتداد أذى قريش لهم، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين في مكة. فلما سمع رسول الله بأن قافلة لقريش محملة بالمؤن والأموال الكثيرة بزعامة أبي سفيان، قادمة من الشام، مع أربعين نفرا من قريش، انتدب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله أن ينفّلكموها. فخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، واتجهوا نحو ساحل البحر على طريق بدر. وكان أبو سفيان قد بعث حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار، فعلم بخروج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في طلبه، فبعث ضمضم بن عمرو الغفاري نذيرا إلى أهل مكة، يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها مع أصحابه، فنهضوا قريبا من ألف، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر (طريق الشاطئ) محاذيا له، فنجا بالعير والتجارة، وجاء النفير، فوردوا ماء بدر، وذلك بعد أن جمعوا جموعهم، واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا: النجاء، النجاء، على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا. وخرج أبو جهل على رأس النفير، وهم أهل مكة، ثم قيل له: إن العير أخذت طريق الساحل، ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا، والله، لا يكون ذلك أبدا، حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف القيان ببدر، فيتسامع جميع العرب بنا، وبخروجنا، وأن محمدا لم يصب العير. فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس بما حدث واستشارهم ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت

بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة 5/ 24] ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه، حتى نبلغه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خيرا، ودعا له بخير. وقال الأنصار: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم. ثم قال الرسول: «أشيروا علي أيها الناس» وكأنه يريد الأنصار، إذ كانت بيعة العقبة معهم أن ينصروه ويدافعوا عنه في دارهم بالمدينة، وتخوّف ألا ينصرونه خارج المدينة، كما شرطوا ذلك في عهدهم، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق، لئن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقول سعد، ونشّطه ذلك ثم قال: «سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين: العير القادمة من الشام، وعلى رأسها أبو سفيان، أو النفير الآتي من مكة، لنجدتهم، وعلى رأسهم أبو جهل، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» «1» .

_ (1) هذا ما رواه محمد بن إسحاق في سيرته عن عبد الله بن عباس (انظر تفسير ابن كثير: 2/ 288 وما بعدها) .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إن حال الصحابة في كراهة تنفيل المقاتلة وقسمة الغنائم بالسوية مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب من بيتك بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها موضع هجرته ومسكنه، أو لأن بيته فيها، وكان إخراجا بالحق، أي متلبسا بالحكمة والصواب، وكان فريق من المؤمنين يكرهون الخروج، لعدم استعدادهم للقتال، لذا فإنه أخرجك في حال كراهيتهم الخروج، فالتشبيه بين الحالتين في مطلق الكراهة لأن بعض المسلمين في بدر كرهوا أمرين: أولهما- كرهوا قسمة الغنيمة بينهم بالتساوي، وكانت تلك الكراهة من الشبان فقط لأنهم هم الذين قاتلوا وغنموا. وثانيهما- كرهوا قتال قريش لأنهم خرجوا من المدينة بقصد الغنيمة ولم يستعدوا للقتال. ولكن الله تعالى قال لهم في الأمرين: كما أنكم اختلفتم في المغانم وتنازعتم فيها، فانتزعها الله منكم، وجعل قسمتها على يد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وقتال ذات الشوكة وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، رشدا وهدى، ونصرا وفتحا. والنتيجة من الأمرين: أن امتثال أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في كل منهما هو الخير والمصلحة والرشاد. يجادلك المؤمنون في الحق والرأي السديد وهو تلقي النفير، لإيثارهم عليه أخذ العير، بسبب قلة الرجال وكثرة المال، والخوف من قتال المشركين الأكثر عددا وعددا، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب، بإخبارك أنهم

سينتصرون على كل حال، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين: العير أو النفير، وبما أن العير قد نجت، فلم يبق إلا النفير، ولا داعي للقول بأننا لم نستعد للقتال، ولا وجه للجدل بعد ما تبين الحق وهو إعلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بأنهم ينصرون، وحينئذ لا عذر لهم إلا خوفهم من القتال وجبنهم عن مقابلة الأعداء. ثم شبّه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم، وهم سائرون إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق صاغرا إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد أسبابه، ناظر إليها، لا يشك فيها. لكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالنصر، ووعده لا يتخلف، أما الحساب الظاهري لميزان القوى، فكثيرا ما يظهر عكسه، إذ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. واذكروا حين وعدكم الله ملك إحدى الطائفتين: العير أو النفير، لكي تكون السلطة والغلبة لكم. وتتمنون أن تكون غير ذات الشوكة أي السلاح والقوة والمنعة وهي العير (القافلة) لكم لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا. وقد عبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم القتال وطمعهم في المال. والشوكة كانت في النفير لكثرة عددهم وتفوق عدتهم وأسلحتهم. ويريد الله لكم غير هذا وهو مقابلة النفير الذي له الشوكة والقوة، لينهزم المشركون، وينتصر المؤمنون، ويثبت الله الحق ويعليه بكلماته، أي بآياته المنزلة على رسوله في محاربة المشركين ذوي الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين، وبما قضى من أسرهم وقتلهم، وطرحهم في قليب (بئر) بدر. ويريد الله أن يهلك المعاندين، ويستأصل شأفة المشركين، ويمحق قوتهم، ويبدد آثارهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد فعل الله ما فعل، ووعد بما وعد، وأنجز النصر للمؤمنين، ليحق الحق، أي يثبت الإسلام ويظهره، ويبطل الباطل أي يمحق الكفر والشرك ويزيله، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ، أي المعتدون الطغاة. ولا يكون ذلك بمجرد الاستيلاء على العير، بل بقتل أئمة الكفر وزعماء الشرك. وبما أن الحق حق لذاته، والباطل باطل لذاته، وما ثبت للشيء لذاته، فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل، فيكون المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحق حقا، وإظهار كون ذلك الباطل باطلا، إما بإظهار الدلائل والبينات، وإما بتقوية رؤساء الحق، وقهر رؤساء الباطل. وليس هذا تكريرا لما سبق من إحقاق الحق لأن المعنيين متباينان لأن الأول لبيان مراد الله وأن هناك تفاوتا بينه وبين مرادهم، أي الصحابة، والثاني بيان الداعي والغرض فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض، وهو التغلب على صاحبة القوة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- الخير والمصلحة فيما أمر الله به، وليس فيما يرى الإنسان، فقد يرى ما هو ضار نافعا، وما هو نافع ضارا. 2- فعل العبد بخلق الله تعالى في رأي أهل السنة، بدليل قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فإنه روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم إنما خرج من بيته باختيار نفسه، ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه، ليدل على أنه خالق أفعال العباد.

والمعنى عند المعتزلة: أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه، فأضيف إليه. لكن هذا مجاز، والأصل حمل الكلام على الحقيقة. وتمسك أهل السنة أيضا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي أنه يوجد الحق ويكونه، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد، فدلّ هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى وخلقه. وتمسك المعتزلة بعين هذه الآية على صحة مذهبهم، فقالوا: هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما يريد أبدا تحقيق الحق وإبطال الباطل، وأنه لا صحة لقول من يقول: إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له. وردّ أهل السنة على ذلك بأن المقرر في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، أي أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة. 3- الحق حق أبدا، ولكن إظهاره تحقيق له لأنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. والإسلام هو الحق، وهو الذي يريد الله إظهاره وإعزازه، كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف 61/ 9] وقال: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] . 4- لا قرار للباطل، ولكن لا بد من إبطاله وإعدامه، كما أن إحقاق الحق إظهاره، والكفر والشرك هو الباطل، فيريد الله استئصال أهله الكافرين بالهلاك. 5- أراد الله في بدر أن يجمع بين المؤمنين القلّة وبين الكافرين الكثر أهل الشوكة والقتال، لينصرهم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالبا على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي يحسن التدبير لعباده

الإمداد بالملائكة في معركة بدر وإلقاء النعاس وإنزال المطر [سورة الأنفال (8) الآيات 9 إلى 14] :

المؤمنين، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً، وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 216] . 6- دلّ خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلقى العير قبل معركة بدر على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال، والله وعد المؤمنين إحدى الطائفتين: العير أو النفير. الإمداد بالملائكة في معركة بدر وإلقاء النعاس وإنزال المطر [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 14] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

الإعراب:

الإعراب: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من إِذْ في قوله: إِذْ يَعِدُكُمُ. بِأَلْفٍ منصوب بممدكم. وقرئ «بآلاف» جمع ألف لأن فعلا يجمع على أفعل، نحو فلس وأفلس، وكلب وأكلب، ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران 3/ 125] وآلف: جمع ألف لما دون العشرة، ويقع على خمسة آلاف من الملائكة صفة للألف. مُرْدِفِينَ بالكسر: وصف لألف، على أنهم أردفوا غيرهم، أي أردف كل ملك ملكا. مُرْدِفِينَ بالفتح مع التخفيف: إما منصوب على الحال من الكاف والميم في مُمِدُّكُمْ وإما في موضع جر لأنه صفة لألف، أي متبعين بألف. وقرئ مردفين. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بكلمة النَّصْرُ أو بإضمار: اذكر. والفاعل هو الله عز وجل، والنُّعاسَ: مفعول به وأَمَنَةً مفعول لأجله، والمعنى إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم. وأَمَنَةً صفة لكلمة أَمَنَةً أي أمنة حاصلة لكم من الله عز وجل. إِذْ يُوحِي بدل ثالث من: إِذْ يَعِدُكُمُ، ويجوز أن ينتصب بيثبت. وأَنِّي مَعَكُمْ: مفعول يوحي. ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ لِكَ : مبتدأ، أو خبر مبتدأ. وتقديره: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك. ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ خبر مبتدأ مقدر، تقديره: والأمر ذلكم. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلِكُمْ وتقديره: والأمر أن للكافرين عذاب النار. البلاغة: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أتى بصيغة المضارع عن الماضي لاستحضار الصورة في الذهن. وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تقديم الجار والمجرور على المفعول به، للاهتمام بالمقدم، والتشويق إلى المؤخر. المفردات اللغوية: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم. أَنِّي بأني. مُمِدُّكُمْ معينكم. مُرْدِفِينَ متتابعين، يردف بعضهم بعضا، مأخوذ من الإرداف: وهو الركوب وراءه، وعدهم أولا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، ثم صارت ثلاثة، ثم خمسة، كما ذكر في آل عمران [124، 125] .

سبب النزول:

وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد. وَلِتَطْمَئِنَّ تسكن بعد ذلك الاضطراب والخوف الذي عرض لكم إجمالا. عَزِيزٌ غالب على أمره. حَكِيمٌ يضع الشيء في موضعه. يُغَشِّيكُمُ يجعله عليكم كالغطاء، من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ فتور في الحواس والأعصاب يعقبه النوم، فهو مقدمة له، وهو يضعف الإدارك، والنوم يزيله. أَمَنَةً أمنا مما حصل لكم من الخوف. أَمَنَةً من الله تعالى. لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث والجنابات. رِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته لكم بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم ظمأى محدثين، والمشركون على الماء. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ يحبس، أي ليثبت القلوب ويحملها على الصبر واليقين. وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أن تسوخ في الرمل. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالإعانة والتبشير. الرُّعْبَ الخوف الشديد. فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس. كُلَّ بَنانٍ أي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. لِكَ العذاب الواقع بهم. أَنَّهُمْ شَاقُّوا خالفوا وعادوا، وسميت العداوة مشاقة لأنها تجعل كل طرف في شق أو جانب غير الآخر. ذلِكُمْ العذاب. فَذُوقُوهُ أيها الكافرون في الدنيا. وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة. سبب النزول: روى أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف أو (وبضعة عشر رجلا) ، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا» قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه (أو فألقاه على منكبيه) ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. فلما كان يومئذ، التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا،

المناسبة:

وأسر منهم سبعون رجلا «1» . وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر 54/ 45] . فعلى هذا كانت الاستغاثة من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو المشهور. ولما اصطف القوم، قال أبو جهل: «اللهم، أولانا بالحق فانصره» ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور. وهناك قول ثان أن الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن خوفهم كان أشد من خوف الرسول. والأقرب أنه دعا عليه الصلاة والسّلام وتضرع، على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه، تابعين له في الدعاء في أنفسهم، فنقل دعاء الرسول ولم ينقل دعاء القوم. المناسبة: لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يحق الحق ويبطل الباطل، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة. التفسير والبيان: اذكروا أيها المؤمنون وقت استغاثتكم ربكم، لما علمتم أنه لا بد من القتال، داعين: «إي ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا» . والمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم الذي أجاب دعاءهم، ليشكروا، وليعلموا مدى فضل الله عليهم، ورحمته بهم.

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 139، تفسير ابن كثير: 2/ 289.

فاستجاب لكم، أي فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من أعيان الملائكة، مردفين أي يردف بعضهم بعضا ويتبعه، فيتقدم بعضهم ويعقبه الآخر، وهكذا تتابع الملائكة، وهذه هي الطليعة، ثم تبعها آخرون، فصاروا ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، كما قال تعالى في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [124] ثم قال: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [125] . وما جعل الله إرسال الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى لكم بأنكم منصورون، ولتسكن به قلوبكم من الاضطراب الذي عرض لكم، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم. وليس النصر الحقيقي في الحروب إلا من عند الله، دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب الظاهرية، إن الله عزيز لا يغلب، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، كما قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد 47/ 4] . وهل قاتلت الملائكة بالفعل يوم بدر؟ يرى بعضهم أن الملائكة لم يقاتلوا، وإنما كان لهم تقوية معنوية؟ فكانوا يكثرون السواد، ويثبّتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقد أخذ بهذا الرأي الشيخ محمد عبده ومدرسته. وقال جمهور العلماء: نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت.

وهذا هو المشهور، المروي عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة، وميكائيل في خمسمائة مجنّبة. وهذا هو الراجح المؤيد في السنة النبوية بالروايات الصحيحة، روى ابن جرير ومسلم عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم. ورويت أحاديث أخرى. ولولا الأحاديث لكان للرأي الأول اعتبار واضح. وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان الصوت الذي كنا نسمع، ولا نرى شخصا؟ قال: هو من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. ومن المتفق عليه أن الملائكة لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله وعدهم بالنصر وعدا معلقا على الصبر والتقوى، فلم يحققوا هذا الشرط. وقتال الملائكة مع المؤمنين لا يقلل من أهمية قيام المؤمنين بواجبهم في القتال على أتم وجه وأكمله، فإنهم قاتلوا قتالا مستميتا استحقوا به كل تقدير، جاء في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعمر- لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» . وكان وقع المعركة على قريش شديدا جدا بسبب ما لا قوة من قتل زعمائهم بأسياف المسلمين ورماحهم وعلى يد شبانهم، مع أنهم الفرسان المشاهير، فكان هذا هو عقاب كفرهم وعنادهم، والله تعالى يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا الأولى بالدبور (الريح الصرصر العاتية) ، وثمود بالصيحة (الصوت الشديد المهلك) وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (من جهنم) وقوم شعيب بيوم الظلة، وفرعون وقومه بالغرق في اليم.

فالنعمة الأولى التي يذكّر الله بها المسلمين يوم بدر: إمدادهم بالملائكة، ثم ذكّرهم بنعمتين أخريين هما إلقاء النعاس وإنزال المطر، فقال: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ.. أي اذكروا ما أنعم الله عليكم من إلقاء النعاس عليكم حتى غشيكم كالغطاء، أمانا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من رؤية كثرة عدوهم وقلة عددهم، وأراحهم من عناء السير، فمن غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، ويرتاح ويجدد نشاطه وقوته، روى البيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة، حتى أصبح» . وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم للجمع العظيم في الخوف الشديد دفعة واحدة عجيبا وفي حكم المعجز الخارق للعادة، مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهمّ، ولكن الله ربط جأشهم. قال الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما- أن قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني- أن أمّنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر. وكذلك فعل الله تعالى بهم فألقى النعاس عليهم يوم أحد، كما قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً، يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران 3/ 154] . وأنزل الله عليكم أيضا مطرا من السماء ليطهركم به من الحدث والجنابة، ويذهب عنكم وسوسة الشيطان إليكم وتخويفكم من العطش، وقيل: يذهب عنكم الجنابة التي أصابت بعضكم لأنها من تخييله، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، ويُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ، وهو

شجاعة الظاهر، أي أن إنزال المطر حقق أربع فوائد: التطهير الحسي بالنظافة والشرعي بالغسل من الجنابة والوضوء، وإذهاب وسوسة الشيطان، والربط على القلوب أي توطين النفس على الصبر، وتثبيت الأقدام به على الرمال. وظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وهي ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. والسبب في إنزال المطر: ما روى ابن المنذر من طريق ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون، وصلوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا، وأنكم أولياء، وتصلّون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء، فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون، وتطهروا، وثبتت أقدامهم (على الرمل المتلبد) وذهبت وسوسته. والضمير في بِهِ للماء أو المطر. وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء المتجمع من ماء المطر، فنزلوا عليه، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، وبني لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة. هذا ما دل عليه الخبر وهو أن المشركين سبقوا إلى التجمع على الماء يوم بدر، والمعروف كما ذكر ابن إسحاق في سيرته وتبعه ابن هشام في سيرته: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك، أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من القلب

(الآبار غير المبنية) ثم نبني عليها حوضا، فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لقد أشرت بالرأي، وفعلوا ذلك. قال ابن كثير: وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء، وكان الوادي دهسا «1» ، فأصاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه. وأرى أن النص القرآني يوافق هذه الرواية التي استحسنها ابن كثير وسار عليها جمهور المفسرين كالطبري والزمخشري والرازي وغيرهم. وذكر البيضاوي رواية تؤيد ذلك فقال: روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ في الأقدام على غير ماء، وناموا، فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تنصرون، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمطروا ليلا، حتى جرى الوادي، واتخذوا الحياض على عدوته (جانبه) وسقوا الرّكاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت الوسوسة. ثم ذكر البيضاوي معنى قوله: لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي بالوثوق بلطف الله بهم، ويُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة. والأصح الذي ذكره القرطبي عن ابن إسحاق في سيرته وغيره، وهو الذي يوفق به بين الروايات: أن الأحوال التي صاحبت نزول المطر كانت قبل وصولهم إلى بدر «2» .

_ (1) الدهس: الرمل الذي تسوخ فيه الأرجل. (2) تفسير القرطبي: 7/ 373.

ومن النعم المذكورة أيضا على المؤمنين في بدر نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهي إلهام الله الملائكة أنه معهم معية إعانة ونصر وتأييد، فقال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ ... أي اذكروا إذ يوحي الله تعالى إلى الملائكة بأنه معهم حينما أرسلهم ردءا للمسلمين، أو يوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، قال الرازي: وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف، والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون «1» . والمراد بالمعية: معية الإعانة والنصر والتأييد في مواقف القتال الشديدة. فثبتوا قلوب المؤمنين، وقووا عزائمهم، وذكّروهم وعد الله أنه ناصر رسوله والمؤمنين، والله لا يخلف الميعاد. وقيل: إن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارف المؤمنين، وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر. أخرج البيهقي في الدلائل: أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه، فيقول: أبشروا، فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كرّوا عليهم. وقيل بوجه ثالث في معنى التثبيت وهو منقول عن الزجاج: للملك قوة إلقاء الخير، وهو الإلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر، وهو الوسوسة. ثم ذكر الله تعالى المراد بقوله: أَنِّي مَعَكُمْ: وهو أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار، فمن أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين زرع الخوف والرعب في نفوس الكفار. فاضربوا رؤوسهم التي هي فوق الأعناق واقطعوها، واحتزوا الرقاب وقطّعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم ذات البنان. والبنان:

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 135

فقه الحياة أو الأحكام:

الأصابع، والمراد الأطراف. والمعنى أن الله أمرهم أن يضربوا المقاتل وغير المقاتل، ويجمعوا عليهم النوعين معا. ثم بيّن الله تعالى سبب تأييده ونصره المؤمنين، فقال: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا ... أي أن ذلك المذكور من النصر والتأييد للنبي والمؤمنين بسبب أن المشركين شاقوا الله ورسوله، أي عادوهما وخالفوهما، فساروا في شق أو جانب وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق آخر. مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، أي ومن يخالف أمر الله ورسوله ويعاديهما فإن له عدا الهزيمة والخزي في الدنيا العذاب الشديد في الآخرة. ذلكم العقاب الذي عجلته لكم أيها الكافرون المشاقون الله ورسوله في الدنيا من خزي وذل وهزيمة ونكال وما تبع ذلك من قتل وأسر، فذوقوه عاجلا، ولكم في الآخرة عذاب جهنم إن أصررتم على الكفر. وعبر بالذوق الذي هو تعرف طعم اليسير لمعرفة حال الكثير عن تعجيل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا، فكان المعجل كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعدّ لهم في الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أمور ثلاثة: تعداد النعم، تعليم كيفية القتل، عقاب مشاقة الله والرسول أي معاداتهما. أما النعم المذكورة التي أراد الله التذكير بها في معركة بدر فهي سبع: الأولى- النصر عند الاستغاثة، وذلك بإمدادهم بأعيان الملائكة للمساعدة في القتال. ولا تعارض في تعداد الملائكة بين هذه السورة التي ذكر فيها ألف من الملائكة، وسورة آل عمران التي ذكر فيها ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف لأنه تعالى

جعل الإمداد متتابعا بقوله مُرْدِفِينَ فأمدهم أولا بألف ثم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة حينما تذرعوا بالصبر والتقوى. الثانية- إلقاء النعاس أي النوم عليهم ليلة اليوم الذي حدث فيه القتال. الثالثة- إنزال المطر من السماء لتحقيق الطهارة الحسية بالنظافة والوضوء والغسل من الجنابة، والطهارة المعنوية بإذهاب وساوس الشيطان. الرابعة- الربط على القلوب أي تقويتها وإزالة الخوف والفزع عنهم، وإفراغ الصبر عليهم وشد أزرهم لمجالدة الأعداء وقتالهم. الخامسة- تثبيت الأقدام على الرمال التي تلبدت بالمطر. ودل هذا بدلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك. السادسة- الإيحاء إلى الملائكة أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فانصروهم وثبتوهم. السابعة- إلقاء الرعب والخوف في قلوب الكافرين. وهذا من النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين. وأما تعليم كيفية القتل: فهو أنه تعالى أمر المؤمنين بقتل الكفار في المقاتل بضرب الهامات والرؤوس التي هي محمولة فوق الأعناق، وبضربهم في غير المقاتل بتقطيع الأيدي والأرجل ذات البنان لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة. وأما عقاب مشاقة الله والرسول فهو الخزي والنكال والهزيمة في الدنيا، والعذاب الشديد في نار جهنم في القيامة. والمقصود من إيراد هذا العقاب الزجر عن الكفر والتهديد عليه وتوبيخ الكافرين، فالعقاب على ذلك نوعان: عاجل في الدنيا، ومؤجل في الآخرة. وأما فضل أهل بدر فليس لذواتهم وإنما لأفعالهم، قال مالك: بلغني أن

جبريل عليه السّلام قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: خيارنا، فقال: إنهم كذلك فينا. وذلك لجهادهم، وأفضل الجهاد يوم بدر لأن بناء الإسلام كان عليه. وأوجب الإسلام دفن جثث القتلى ولو كانوا من الأعداء، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بدفن قتلى المشركين السبعين في بدر في القليب وهي البئر العادية القديمة الكائنة في البراري. روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم قام عليهم فناداهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فسمع عمر قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون وأني يجيبون وقد جيّفوا «1» ؟ قال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» . ثم أمر بهم، فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر. قال القرطبي: وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه: إنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث، أخرجه الصحيح «2» .

_ (1) جيفوا: أنتنوا، فصاروا جيفا. وقول عمر: «يسمعون» استبعاد على ما جرت به العادة، فأجابه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء. (2) تفسير القرطبي: 7/ 377.

الفرار من الزحف والنصر من عند الله [سورة الأنفال (8) الآيات 15 إلى 19] :

الفرار من الزحف والنصر من عند الله [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) الإعراب: زَحْفاً منصوب على الحال أي متزاحفين، ويجوز أن يكون حالا للكفار. إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ حال من فاعل: يُوَلِّهِمْ والاستثناء مفرغ، أو منصوب على الاستثناء أي ومن يولهم إلا رجلا متحرفا. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ذلِكُمْ: خبر مبتدأ مقدر، تقديره: والأمر ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ عطف على ذلِكُمْ، وتقديره: والأمر أن الله موهن. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على ذلكم، وتقديره: والأمر أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. ومن قرأ «وإن» بالكسر فعلى الابتداء والاستئناف. البلاغة: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الخطاب للمشركين على التهكم مثل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] .

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: زَحْفاً أي مجتمعين، كأنهم لكثرتهم يزحفون لأن الكل كجسم واحد متصل، فيظن أنه بطيء وهو في الواقع سريع، والمراد: جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم. الْأَدْبارَ جمع دبر وهو الخلف، ويقابله القبل، ويكنى بهما عن السوأتين، والمراد من قوله: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الهرب منهزمين. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم لقائهم مُتَحَرِّفاً منحرفا أو منعطفا إلى جانب آخر مظهرا الانهزام خدعة ثم يكر، بأن يريهم الفرار مكيدة، وهو يريد الكرة مُتَحَيِّزاً منحازا أو منضما إلى جماعة أخرى ليقاتل العدو معها، والفئة: الجماعة من المسلمين التي يستنجد بها. وأصل الفئة: الطائفة من الناس باءَ رجع متلبسا به وَمَأْواهُ المأوى: الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان أو الحيوان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ببدر بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصره إياكم وَما رَمَيْتَ يا محمد أعين القوم إِذْ رَمَيْتَ بالحصى لأن كفا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى بإيصال ذلك إليهم، ليقهر الكافرين. لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا بالغنيمة، والاختبار يكون بالنقم لمعرفة الصبر، وبالنعم لمعرفة الشكر، والمراد هنا الاختبار بالنعم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأحوالهم. ذلِكُمْ الإبلاء حق وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ تدبيرهم الذي يقصد به غير ظاهره إِنْ تَسْتَفْتِحُوا تطلبوا أيها الكفار الفتح والنصر في الحرب أي الفصل والقضاء في الأمر، حيث قال أبو جهل: «اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة» أي أهلكه فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ القضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل ومن قتل معه. وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر والحرب وَإِنْ تَعُودُوا لقتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نَعُدْ لنصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ تدفع فِئَتُكُمْ جماعتكم. سبب النزول: نزول الآية (17) : وَما رَمَيْتَ: المشهور عند أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في رمي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر القبضة من حصباء الوادي، حين قال للمشركين: شاهت الوجوه، ورماهم بتلك القبضة، فلم يبق عين مشرك إلا دخلها منه شيء.

نزول الآية (19) :

روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر، سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض، كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بتلك الحصباء، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. نزول الآية (19) : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا: روى الحاكم عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال: كان المستفتح أبو جهل، فإنه قال حين التقى القوم: أيّنا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه (أهلكه) الغداة، وكان ذلك استفتاحا، فأنزل الله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إلى قوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال: قال أبو جهل: اللهم انصر أعز الفئتين، وأكرم الفرقتين، فنزلت. وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق، فأنزل الله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية. المناسبة: الآيات مرتبطة بما قبلها في تعليم المؤمنين قواعد القتال، بمناسبة قصة بدر، ففي الآية السابقة أمرهم بضرب الهامات والرؤوس، وتقطيع الأيدي والأرجل، وهنا ذكر الله حكما عاما أيضا في الحروب، وهو تحريم الفرار من الزحف في مواجهة الأعداء إلا لمصلحة حربية، مثل التحرف لقتال (إظهار الانهزام والفرار خدعة ثم الكرّ) والتحيز إلى فئة (الانضمام إليها لمقاتلة العدو معها) .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إذا اقتربتم من عدوكم ودنوتم منهم حال كونهم جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم، فلا تفرّوا منهم، مهما كثر عددهم، وأنتم قلة، ولكن اثبتوا لهم وقاتلوهم، فالله معكم عليهم. وهذا الانهزام أمامهم محرم إلا في حالتين: إحداهما- أن يكون المقاتل متحرفا لقتال، أي مظهرا أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، ويكر عليه ليقتله. وهو أحد مكايد الحرب وخدعها. والثانية- أن يكون متحيزا إلى فئة أي منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين لمقاتلة العدو معها، يعاونهم ويعاونونه. فيجوز له ذلك في هاتين الحالتين. أما فيما عداهما، فمن فرّ أو انهزم وجبن عن القتال، فقد رجع متلبسا بغضب من الله، ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم، وبئس المصير هي، وبئس المصير مصيره. قال البيضاوي: هذا إذا لم يزد العدو على الضعف، لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال 8/ 66] وقال ابن عباس: من فرّ من ثلاثة لم يفر، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ. والآية تدل على تحريم الفرار من الزحف، وأنه من كبائر المعاصي، بدليل ما روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: «اجتنبوا السبع الموبقات- المهلكات- قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . ثم علل الله تعالى ضرورة الثبات والصبر أمام العدو بنصره على الأعداء، فقال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم بقوتكم وعدتكم،

وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بأيديكم لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع، كما قال تعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة 9/ 14] . وذلك أن المسلمين لما كسروا أهل مكة، وقتلوا، وأسروا، أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت، وأسرت. ولما طلعت قريش، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها، يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها، فقال لما التقى الجمعان لعلي رضي الله عنه: أعطني قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. فقيل لهم: إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، بتثبيته قلوبكم، وإلقائه الرعب في قلوبهم. وما رميت أيها الرسول إذ رميت المشركين في الظاهر بالقبضة من الحصباء التي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه سائر البشر في العادة، ولكن الله رماها، حيث أوصل ذلك التراب إلى عيونهم، فصورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأثره إنما صدر من الله، والعبرة بإحداث الأثر فعلا، فالله هو الذي بلّغ أثر ذلك الرمي إليهم، وكبتهم بها، لا أنت. وقد تكرر فعل الرمي من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين. ويكون الفرق بين فعله تعالى في القتل وبين فعل النبي والمؤمنين: أن الله هو المؤثر الحقيقي الفعال في تحقيق النتائج، وأما فعل البشر فهو القيام بالأسباب الظاهرة المقدورة لهم التي كلفهم بها ربهم، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية، من كونها لا تستقل في تحقيق غاياتها إلا بفعل الله وتأثيره.

فعل الله ذلك كله ليكبت المشركين، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا حقه، ويشكروا بذلك نعمته، فهو منه تعالى اختبار للمؤمنين بالنصر والغنيمة وذيوع الصيت وحسن السمعة بين العرب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل قول ومنه دعاؤهم واستغاثة الرسول والمؤمنين ربهم قبل القتال، عليم بأحوالهم ونياتهم وبمن يستحق النصر والغنيمة. ثم أتى ببشارة أخرى مع ما حصل لهم من النصر، وهي أنه تعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين في المستقبل، محبط مكرهم، مصغّر أمرهم، جاعل كل ما لهم في تبار ودمار. ثم خاطب الله أهل مكة على سبيل التهكم قائلا لهم: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما، وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم ما سألتم، وتم النصر للأعلى والأهدى، وحدث الهلاك والذلة للأدنى والأضل. ثم أنذرهم الله، وحذرهم بقوله: إن تنتهوا عن الكفر والتكذيب بالله ولرسوله، وعداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة وأجدى من الحرب التي جربتموها وما أحدثت من قتل وأسر وإن تعودوا لمحاربته وقتاله، وإلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة، نعد إلى نصره وهزيمتكم، كما قال تعالى لبني إسرائيل: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء 17/ 8] والخطاب هنا للكفار، وهو الظاهر من السياق، وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن قوله: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لا يليق إلا بالمؤمنين، أما لو حملنا الفتح على البيان والحكم والقضاء، لم يمتنع أن يراد به الكفار. ولن تفيدكم جماعتكم شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، إذ ليست الكثرة دائما من وسائل

فقه الحياة أو الأحكام:

النصر أمام القلة، فقد يحدث العكس إذا اقترن فعل القلة بالصبر والثبات والإيمان والثقة بالله تعالى. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والتأييد والتوفيق إلى النجاح، فلو جمعتم ما قدرتم من الجموع، فإن من كان الله معه، فلا غالب له، كما قال تعالى: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 173] وقال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة 5/ 56] وقال: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة 58/ 19] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- تحريم الفرار من القتال أمام العدو إلا في حالتين: التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة. ولكن هذا الحكم مقيد عند الجمهور بألا يزيد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم، فمن فر من اثنين فهو فارّ من الزحف، ومن فرّ من ثلاثة فليس بفارّ من الزحف، ولا وعيد عليه، لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال 8/ 66] فالمسلم مطالب بالثبات أمام اثنين من الأعداء، وهذا ما استقر عليه التشريع. والفرار معصية كبيرة موبقة، بظاهر القرآن وإجماع أكثر الأئمة للحديث المتقدم عن السبع الموبقات، التي منها «التولي يوم الزحف» . أما الهرب من الزحف إذا زاد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين فهو مباح لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحاص الناس حيصة،

فكنت فيمن حاص- أي هرب-، فقلنا: كيف نصنع، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة، ثم بتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: «من القوم؟» فقلنا: نحن الفرارون، فقال: «لا، بل أنتم العكّارون- الكرارون العطافون- أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين» . وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فيما رواه محمد بن سيرين- في أبي عبيدة، لما قتل على الجسر، بأرض فارس، لكثرة الجيش، من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيّز إليّ لكنت له فئة» وقال مجاهد: قال عمر: «أنا فئة كل مسلم» . لكن وإن جاز الانهزام، فالصبر أحسن، بدليل أن جيش مؤتة، وهم ثلاثة آلاف، وقف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام. ووقع في تاريخ الأندلس: أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى وملك الأندلس: لذريق، وكان في سبعين ألف عنان- فرس- فزحف إليه طارق، وصبر له، فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح. قال ابن وهب: سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو، أو يكونون في محرس يحرسون، فيأتيهم العدو وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون، فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم. وحكم الفرار من الزحف ليس مختصا بمن كان انهزم يوم بدر، كما يرى بعض الصحابة والتابعين (أبي سعيد الخدري، والحسن البصري وقتادة والضحاك) وإنما

هذا الحكم عام في جميع الحروب، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو عام، فيتناول جميع الحالات، كل ما في الأمر أنه نزل في واقعة بدر، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. والآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب، وهذا رأي مالك والشافعي وأكثر العلماء. قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فرّ من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار، وإن فرّ إمامهم لقوله عز وجل: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية: وفيها أنه استحق غضب الله ونار جهنم. وقال أيضا: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، فإن بلغ اثني عشر ألفا، لم يحل لهم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على الضعف لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي: «ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة» إلا أن فيه راويا متروكا. فإن فرّ فليستغفر الله عز وجل، لما رواه الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدّي، سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه، غفر الله له، وإن كان قد فرّ من الزحف» . 2- استدل أهل السنة بقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنه تعالى قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومن المعلوم أنهم جرحوا الأعداء، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وقوله تعالى عن النبي عليه الصلاة والسّلام: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت خلقا ولكن رميت كسبا. وعلى كل حال فمذهب أهل

السنة ثابت بصريح قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر 39/ 62] . 3- المؤمن مطالب بتعاطي الأسباب الظاهرية، والقيام بالتكليف الذي كلفه الله، ثم يتوكل على الله ويفوض الأمر إليه، أما تحقيق النتائج والأهداف فهو متروك قطعا لله عز وجل، لا بقوة الإنسان وقدرته، لهذا صح النفي والإثبات في قوله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي أن صورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأثرها إنما صدر من الله. وحادثة رمي الأعداء بحفنة من الحصباء حدثت يوم بدر في الأصح كما قال ابن إسحاق لأن الآية نزلت عقيب بدر والسورة بدرية، وتكررت يوم أحد ويوم حنين. 4- كان الإخلاص في الجهاد، وصدق اللقاء، والثقة بالله سبب رضوان الله على أهل بدر، وإعطائهم البلاء الحسن، أي الإنعام عليهم، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب. 5- إن كل قوى الكفار تتبدد أمام قدرة الله وإرادته ونصره عباده المؤمنين، فأوهن الله كيدهم وألقى الرعب في قلوبهم، وفرّق كلمتهم، وأطلع المؤمنين على عوراتهم، وخزاهم وأذلهم، وهددهم بالعودة إلى خذلانهم إن عادوا لمحاربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وأنبأهم بدحر قواتهم مهما كثرت، وأن الله مؤيد بنصره المؤمنين، ولكن مع كل هذا فتح الله باب الأمل أمامهم بالعودة عن الكفر والشرك والمعاداة إلى الإيمان والطاعة والإسلام واتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومؤازرته وتأييده، رحمة منه بعباده، والله رؤف بالعباد. 6- لقد تحقق مطلب أبي جهل حينما قال: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر، وقول المشركين حينما أرادوا الخروج إلى بدر، وأخذوا بأستار الكعبة:

الأمر بطاعة الله والرسول والتحذير من المخالفة [سورة الأنفال (8) الآيات 20 إلى 23] :

اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين. وهو معنى قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي إن تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، فقد جاءكم النصر، على سبيل التهكم عليهم، ففي بدر فرق الله بين الحق والباطل لذا سميت الغزوة أو المعركة بيوم الفرقان، وأعز الإسلام وأهله، وهزم الكفر وأعوانه. الأمر بطاعة الله والرسول والتحذير من المخالفة [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الإعراب: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أصلها: تتولوا، أدغمت إحدى التاءين بالأخرى. والضمير في عَنْهُ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لأن المعنى: وأطيعوا رسول الله، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة 9/ 62] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد. البلاغة: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ... شبه الكفار بالبهائم، وجعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرا منها، لتعطيلهم حواسهم عن سماع الحق والنطق به، فهو وجه الشبه، وأما أنهم شر من البهائم فلأنهم يضرون غيرهم والبهائم لا تضر.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ تعرضوا عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، بمخالفة أمره وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن والمواعظ وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون الدَّوَابِّ جمع دابة: وهي ما تدب على الأرض الصُّمُّ عن سماع الحق، جمع أصم: وهو الأطرش الْبُكْمُ عن النطق بالحق، جمع أبكم: وهو الأخرس. خَيْراً أي صلاحا بسماع الحق لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ على سبيل الافتراض، وقد علم ألا خير فيهم لَتَوَلَّوْا أعرضوا عنه وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن قبوله عنادا وجحودا. المناسبة: لما خاطب الله المشركين والكفار بقوله: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أتبعه بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الله والرسول إذا دعاهم للجهاد وغيره لأن الكلام من أول السورة إلى هنا في الجهاد. ومن عادة القرآن مقابلة الأشياء ببعضها، فلما حذر الكافرين، اقتضى تنبيه المؤمنين لئلا يتقاعسوا عن الدفاع عن الدين وإجابة دعوة النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين المعاندين له، فقال: يا أيها المتصفون بالإيمان والتصديق أطيعوا الله ورسوله في الدعوة إلى الجهاد وترك المال، ولا تتركوا طاعته أي الرسول وامتثال أوامره وترك زواجره، فإذا أمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما، امتثلتم، والحال أنكم تسمعون كلامه ومواعظه، وتعلمون ما دعاكم إليه. والمراد بالسماع: سماع تدبر وفهم وتأمل في المسموع، كما هو الشأن في المؤمنين أن يقولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، غُفْرانَكَ رَبَّنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة 2/ 285] .

فقه الحياة أو الأحكام:

واحذروا أن تكونوا مثل الذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، وهم المنافقون والمشركون، فإنهم يتظاهرون بالسماع والاستجابة، وليسوا كذلك، والحال أنهم لا يسمعون أبدا. ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء أنهم شر الخلق والخليقة، فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ... أي إن شر المخلوقات التي تدب على الأرض عند الله الصم الذين لا يسمعون الحق فيتبعونه، ولا ينطقون بالحق ولا يفهمونه، ولا يعقلون الفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والإسلام والكفر، أي فكأنهم لتعطيلهم هذه الحواس فيما فيه المنفعة والفائدة والخير، فقدوا هذه القوى والمشاعر المدركة، وهم لو استخدموا عقولهم متجردين عن التقليد والعصبية الجاهلية، لاهتدوا إلى الحق والصواب، وأدركوا الصالح المفيد لهم وهو الإسلام، إلا أنهم في الواقع كالبهائم لا يعقلون الأمور، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] . ثم أخبر الله تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، فلو علم الله في نفوسهم ميلا إلى الخير والاستعداد للإيمان والاهتداء بنور الإسلام والنبوة، لأفهمهم، وأسمعهم بتوفيقه كلام الله ورسوله سماع تدبر وتفهم واتعاظ ولكن لا خير فيهم لأنه يعلم أنه لو أسمعهم أي أفهمهم، لتولوا عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك، وهم معرضون عنه من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به، فهم لا خير فيهم أصلا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى شيئين: الأمر بطاعة الله والرسول، والتحذير من مخالفة أمرهما ونهيهما. وشأن المؤمنين سماع الحق، والاهتداء بنوره، وإطاعة الأوامر، واجتناب

النواهي والزواجر. وهؤلاء هم فئة المؤمنين المصدقين، وأكمل الناس وأرشدهم. وطاعة الله والرسول شيء واحد، وطاعة الرسول طاعة لله، ونظير الآية قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة 9/ 62] وقول المؤمن: سمعت وأطعت لا فائدة منه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال الفعل المأمور به، واجتناب المنهي عنه. أما من قصر في الأوامر واقتحم المعاصي فهو غير مطيع. أما من ليسوا بمؤمنين ولا مصدقين كاليهود أو المنافقين أو المشركين، فهم لا يسمعون الحق سماع تدبر وتفهم وتأمل، لذا أخبر تعالى أن هؤلاء الكفار شر خلق الله، وشر ما دبّ على الأرض. أما المنافق فيظهر الإيمان ويسرّ الكفر، فهو يتظاهر بالسماع، وهو في الحقيقة لا يتدبر ولا يفهم شيئا. وأما اليهودي والنصراني فيجادل في الحق بعد ما تبين له، تمسكا بالموروث المتداول، فهو يصم الأذن، ويعطل العقل عن التفكير والتأمل في الدين الحق، إصرارا على ما توارثه. وأما المشركون فهم معاندون لا يسمعون أبدا، ويصدون الناس أيضا عن سماع القرآن وكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويتمسكون بتقليد الآباء والأجداد دون تأمل. وكل هؤلاء لا يعقلون الفروق بين الحق والباطل، والخير والشر، والإسلام والكفر، لذا كانوا بحق شر خلق الله، وشرا من الدواب لأنهم يضرون، والبهائم لا تضر.

الاستجابة لما فيه الحياة الأبدية [سورة الأنفال (8) الآيات 24 إلى 26] :

الاستجابة لما فيه الحياة الأبدية [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) الإعراب: لا تُصِيبَنَّ فيه واو محذوفة، تقديره: ولا تصيبن، مثل أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون أي وهم فيها خالدون، فحذف الواو. وذكر الزمخشري في ذلك ثلاثة أوجه: إما أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة، فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، وجاز أن تدخل النون الثقيلة المؤكدة في جواب الأمر أو الشرط، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم لأن فيه معنى النهي، كما لو قلت: «انزل عن الدابة لا تطرحك» يجوز: لا تطرحنّك. فكذلك هنا النهي للفتنة والمراد به الذين ظلموا. وإذا كانت نهيا بعد أمر، فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم، فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل: واتقوا فتنة، مقولا فيها: لا تصيبن. البلاغة: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ استعارة تمثيلية، شبه الله تعالى تمكنه من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء بمن يحول بين الشيء والشيء. المفردات اللغوية: اسْتَجِيبُوا أجيبوا الله والرسول بالطاعة. لِما يُحْيِيكُمْ من أمر الدين ويصلحكم به

سبب النزول نزول الآية (25) :

لأنه سبب الحياة الأبدية. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإرادته، قال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إليه مصيركم ومرجعكم، فيجازيكم بأعمالكم. وَاتَّقُوا فِتْنَةً احذروا بلاء ومحنة إن أصابتكم بإنكار موجبها من المنكر لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تعمهم وغيرهم. شَدِيدُ الْعِقابِ شديد العذاب لمن خالفه وعصاه. سبب النزول: نزول الآية (25) : وَاتَّقُوا فِتْنَةً: تأولها الزبير بن العوام والحسن البصري والسدي وغيرهما بأنها يوم وقعة الجمل سنة ست وثلاثين. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وقال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير، وهو يوم الجمل خاصة. وقال السدي: نزلت في أهل بدر، فاقتتلوا يوم الجمل. وروي أن «الزبير كان يساير النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوما إذ أقبل علي رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: كيف حبّك لعليّ؟ فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أحبه كحبي لولدي، أو أشد حبا، قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟» «1» . وقال ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال: أمر الله المؤمنين ألا يقرّوا المنكر فيما بينهم، فيعمهم الله بالعذاب. وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يكون بين ناس من أصحابي فتنة، يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي، يستنّ بهم فيها ناس بعدهم، يدخلهم الله بها النار» «2» .

_ (1) الكشاف: 2/ 11 (2) تفسير القرطبي: 7/ 391.

المناسبة:

وهذه التأويلات تعضدها الأحاديث الصحيحة، ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» . وفي صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» . وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا «1» على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» . ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول في الجهاد وبذل المال وغيرهما، أردفه بالأمر بإجابة الله والرسول إذا دعاهم لما يحييهم حياة أبدية، ويصلحهم بهداية الدين وأحكامه، فكأن هذه الآيات بمثابة بيان العلة لطاعة الله والرسول، وهو تحقيق الصلاح والخير والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة بالتزام الدين. التفسير والبيان: كرر الله النداء بلفظ الذين آمنوا هذه الآيات وما قبلها، إشارة إلى أن وصف الإيمان موجب الامتثال والإجابة والإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي.

_ (1) استهموا: اقترعوا.

والمعنى: أيها المؤمنون، أجيبوا دعوة الله، ودعوة الرسول إذا دعاكم لما يحييكم حياة طيبة أبدية مشتملة على سعادة الدنيا والآخرة، وفيها صلاحكم وخيركم، وفيها كل حق وصواب، وذلك شامل القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد من قوله: لِما يُحْيِيكُمْ الحياة الطيبة الدائمة، قال تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل 16/ 97] . وقال البخاري: اسْتَجِيبُوا: أجيبوا، لِما يُحْيِيكُمْ: لما يصلحكم. وأكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب، فالأمر هنا للوجوب حتى يكون له معنى وفائدة، صونا للنص عن التعطيل، ولأن قوله بعدئذ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جار مجرى التهديد والوعيد، وهو لا يليق إلا بالإيجاب. فيجب بناء عليه امتثال ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بجد وعزم ونشاط من أمور الدين عبادة وعقيدة ومعاملة. أما أمور العادات كاللباس والطعام والشرب والنوم، فليست من الدين الواجب الاقتداء به. ومن أعرض عما أمر النبي به من الإيمان والقرآن والهدى والجهاد، فهو ميت لا حياة طيبة أو روحية فيه، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام 6/ 122] . ومعنى قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ: بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. والقلب: موضع الفكر. قال مجاهد في الآية: يَحُولُ ... أي حتى يتركه لا يعقل، والمعنى: يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق 50/ 37] أي عقل.

وقيل: يحول بينه وبين قلبه الموت، فلا يمكنه استدراك ما فات، قال في الكشاف: يعني أنه يميته فتفوته الفرصة. وقيل: المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال، قال القرطبي: وهذا جامع. روى الإمام أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها» . واختيار الطبري: أن يكون ذلك إخبارا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل. وأرى أن اختيار الطبري والقرطبي في تفسير الآية أسلم الآراء، ومعناها أن الله مهيمن على قلب الإنسان وفكره وإرادته، يقلب الأمور بيده كيف شاء من حال إلى حال، وهو المتصرف في جميع الأشياء، يصرف القلوب بما لا يقدر عليه صاحبها، ويغير اتجاهاته ومقاصده ونياته وعزائمه حسبما يشاء. والمقصود من الآية الحث على الطاعة قبل وجود الموانع من مرض وموت مثلا. وفسر بعضهم الآية بحسب الاختلاف في الجبر والقدر، فالقائلون بالجبر: يرون أن الله يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، فالسعيد من أسعده الله، والشقي من أضلّه الله. وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه، فتزول صفة العدل حينئذ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم. وقال الجبائي من المعتزلة: إن من حال الله بينه وبين الإيمان، فهو عاجز، وأمر العاجز سفه، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء، وقد أجمعوا

على أن المريض الزّمن لا يؤمر بالصلاة قائما، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟ وقد قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] «1» . ومما يدل على أن المقصود من الآية الحث على الطاعة قبل فوات الأوان والفرصة ما ختمت به، وهو قوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي أسرعوا في العمل وأعدوا العدة ليوم الحشر، فإنكم إلى الله مرجعكم ومصيركم، فيجازيكم بأعمالكم. وبعد أن حذر الله تعالى الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه، حذره من الفتن، فقال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً ... أي احذروا الوقوع في الفتنة وهي الاختبار والمحنة التي يعمّ فيها البلاء المسيء وغيره، ولا يخص بها أهل المعاصي، ولا من ارتكب الذنب، بل يعمهما، حيث لم تدفع وترفع. وبعبارة أخرى: واحذروا فتنة، إن نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعا، وتصل إلى الصالح والطالح. وكانت فتنة عثمان أول الفتن التي ما زال أثرها قائما في التاريخ، وكانت سببا في اقتتال المسلمين في وقعة الجمل وصفين ومقتل الحسين وغيرها، وفي ظهور البدع والمنكرات، واستمرت الفتن بين المسلمين، وأخذت أشكالا متعددة، من قومية، وتفرق في الدين، وانقسام إلى أحزاب دينية، وأحزاب سياسية. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، أي أنه تعالى شديد العذاب في الدنيا والآخرة لمن عصاه من الأمم والأفراد، وخالف هدي دينه وشرعه. وهذا التحذير عام يعمّ الصحابة وغيرهم، وإن كان الخطاب لهم أولا. ومقتضى التحذير منع ما يؤدي إلى العذاب العام، والعمل على إزالته ورفعه إذا وقع، كإهمال الجهاد، وشيوع المنكر، وافتراق الكلمة، والالتواء في الأمر

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 147- 148.

بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وردت أحاديث كثيرة تحذر من الفتن، منها: ما رواه أحمد وأبو داود عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما من قوم يعملون بالمعاصي، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمّهم الله بعقاب، أو أصابهم العقاب» . ثم نبّه الله تعالى عباده المؤمنين على نعمه وإحسانه عليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وهذا كان حال المؤمنين قبل الهجرة من مكة إلى المدينة، فبعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، ثم أمرهم باتقاء المعصية، أكد ذلك التكليف بهذه الآية، فقال: واذكروا أيها المهاجرون، وقيل: الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل، اذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة، والمشركون أعزة كثرة يذيقونكم سوء العذاب، وكنتم خائفين غير مطمئنين، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، أي يأخذكم مشركو العرب بسرعة خاطفة للقتل والسلب، كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم المكي، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت 29/ 67] وقال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص 28/ 57] . فَآواكُمْ، أي جعل لكم مأوى تتحصنون به في المدينة، وأيّدكم، أي أعانكم وقواكم يوم بدر وغيره من الغزوات بنصره المؤزر وعونه، وسيؤيدكم بنصره على من سواكم من الروم والفرس وغيرهم، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ رزقا حسنا مباركا فيه وأحل لكم الغنائم، كي تشكروا هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة لتكون حاملا لهم على إطاعة الله وشكر الفضل الإلهي. أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ قال: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلّا، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا،

فقه الحياة أو الأحكام:

معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردّي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرّ منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكّن به في البلاد، ووسّع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عز وجل. فقه الحياة أو الأحكام: بان من الآيات العبر والعظات الكثيرة، بالإضافة إلى الأحكام الأساسية في الإسلام وهي ما يلي: 1- وجوب إجابة دعوة الله والرسول وإطاعتهما تأكيدا لما سبق، لما فيه الخير والصلاح والحياة الطيبة الدائمة السعيدة في الدنيا والآخرة. وسبيل ذلك الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد والهدى الإلهي. ذكر الحافظ ابن كثير والبخاري عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد، فمرّ بي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فدعاني فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله عز وجل: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ثم قال: لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليخرج فذكرت له ذلك، فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» . قال الشافعي: هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا تبطل لأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة. 2- إن الله تعالى أملك لقلوب العباد منهم، وهو المتصرف في جميع الأشياء، سواء أكانت من أفعال القلوب والعقول أم من أفعال الأعضاء.

خيانة الله والرسول وخيانة الأمانة [سورة الأنفال (8) الآيات 27 إلى 28] :

3- وجوب تجنب أسباب الفتنة والبلاء والعذاب، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوحيد الكلمة، ومحاربة البدع، ومقاومة الانقسام، والمدعوة إلى الوحدة بين الأمة حكاما ومحكومين لأن وباء الفتنة لا يقتصر على الظالمين خاصة، وإنما يعمّ الجميع. لكن يجب الكف عن الخوض في خلافات الصحابة. 4- الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله تعالى. 5- تذكر النعم الجليلة التي أنعم الله بها على المؤمنين، والمبادرة إلى شكرها، والاعتبار والاتعاظ بها، فالله يحقق لمن امتثل أوامره سعادة الدنيا، وعزة السلطان، والتمكين في الأرض، والأمن من المخاوف، والنصر على الأعداء، ويمنحهم أيضا الفوز والنجاة والرضوان في الآخرة. فإن تنكروا للأوامر الإلهية ولم يشكروا النعم، كحال المسلمين اليوم، صاروا أذلة ضعافا. وسنة الله في ذلك هي: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] . خيانة الله والرسول وخيانة الأمانة [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) الإعراب: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيه وجهان: أحدهما- أن يكون مجزوما بالعطف على قوله تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. والثاني- أن يكون منصوبا بأن مضمرة بعد حتى، على جواب النهي بالواو، كقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لا تَخُونُوا الخيانة في الأصل: النقص وإخلاف المرتجى، ثم استعملت في الإخلال والنقص والغدر وإخفاء الشيء الذي هو ضدّ الأمانة والوفاء، وفيه معنى النقصان. أَماناتِكُمْ ما ائتمنتم عليه من الدّين وغيره من التكاليف الشرعية، والأمانة: كل حق يجب أداؤه إلى الغير. فتنة اختبار وابتلاء بما يشق على النفس فعله أو تركه، وهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء، فيمتحن الله المؤمن والكافر على السواء. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فلا تضيعوه بمراعاة مصالح الأموال والأولاد. سبب النزول: روى سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ في أبي لبابة بن عبد المنذر، سأله بنو قريظة يوم قريظة: ما هذا الأمر، فأشار إلى حلقه، يقول: الذبح، فنزلت، قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. فالآية نزلت في أبي لبابة مروان بن عبد المنذر- وكان حليفا لبني قريظة من اليهود- وقد بعثه صلّى الله عليه وآله وسلم إلى بني قريظة، لينزلوا على حكمه، فاستشاروه ، فأشار إليهم أنه الذبح لأن عياله وماله وولده كانت عندهم. وذلك بعد أن حاصرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين ليلة. قال الزهري: فلما نزلت الآية شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث تسعة أيام- وفي رواية: سبعة أيام- لا يذوق فيها طعاما حتى خرّ مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل: يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: لا والله، لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحلّني، فجاءه فحلّه بيده. ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن انخلع من مالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدق به.

المناسبة:

وروى ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه، واكتموا، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: إن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل الله: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لكنه حديث غريب جدا، مما يدل على أن الأصح نزول الآية في أبي لبابة. المناسبة: لما ذكر الله تعالى أنه رزق العباد من الطيبات وأنعم عليهم بالنعم الجليلة، منعهم هنا من الخيانة في الغنائم وغيرها من التكاليف الشرعية. التفسير والبيان: يوجب الله تعالى في هذه الآية أداء التكاليف الشرعية بأسرها على سبيل التمام والكمال، من غير نقص ولا إخلال. يا أيها المؤمنون المصدقون بالله ورسله وقرآنه، لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده ومحارمه، ولا تخونوا الرسول بأن لا تستنوا به ولا تأتمروا بما أمركم به أو لا تنتهوا عما نهاكم عنه، وتتبعوا أهواءكم وتقاليد آبائكم الموروثة، ولا تخونوا أماناتكم التي تأتمنونها فيما بينكم، بأن لا تحفظوها، وذلك يشمل الودائع المادية، والأسرار العامة للأمة والخاصة بالأفراد، فتطلعوا على الأولى الأعداء، وتفشوا الثانية بين الناس. والأمانة: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من الفرائض والحدود، وخيانتها: تعطيل فرائض الدين، والتحلل من أحكامه والاستنان بسنته، وتضييع حقوق الآخرين. وأنتم تعلمون أنكم تخونون، وتعلمون تبعة ذلك ووباله، وتميزون بين الحسن

والقبيح وتعرفون مفاسد الخيانة، يعني أن الخيانة: هي التي توجد منكم عن تعمد، لا عن سهو. والخيانة: تعمّ الذنوب الصغار والكبار الملازمة للإنسان والمتعدية الضرر إلى الآخرين. والأمانة من صفات المؤمنين، والخيانة من صفات المنافقين، روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قلما خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له» . وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» . ثم إنه لما كان سبب الإقدام على الخيانة هو حبّ الأموال والأولاد، نبّه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن مضار ذلك الحب، فقال: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي إن الأموال والأولاد محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده، وسبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتحجب عن عمل الآخرة. والسبب هو أن الإنسان مفطور على حب المال، طماع في كسبه وادخاره، فيبخل به، ولا يؤدي منه حقوق الله، ولا يحسن به إلى الفقراء ولا ينفقه في أعمال البر والخير والإحسان. وحب الأولاد مما فطر عليه الإنسان أيضا، وقد يحمل هذا الحب إلى كسب المال الحرام من أجلهم، لذا وجب على المؤمن الحذر من المال والولد، فيكسب المال الحلال، وينفقه في مستحقاته وفي سبيل البر والإحسان، ويطعم أولاده حلالا، حتى لا ينبت جسدهم من السحت والحرام، ولا يكون الولد سببا للجبن والبخل، ولا يقصر الوالد في تربية أولاده على الخلق الفاضل والالتزام بأحكام الدين، والبعد عن المعاصي والمحرمات.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ختم الله تعالى الآية بخاتمة مؤثرة توقظ المقصر والمتورط فقال: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي أن ثوابه وعطاءه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، فعليكم أن تؤثروا ثواب ربكم، بمراعاة أحكام شرعه ودينه في الأموال والأولاد، وأن تزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف 18/ 46] . فقه الحياة أو الأحكام: تؤكد هذه الآيات مضمون المجموعتين السابقتين من الآيات التي تطالب بطاعة الله وطاعة الرسول، والاستجابة لدعوة الله والرسول، ثم يستمر التأكيد في الآية التي بعدها التي تطالب بتقوى الله أي العمل بالمأمورات واجتناب المنهيات. وقد دلت هذه الآيات هنا على ما يلي: 1- تحريم الخيانة المتعمدة مطلقا، وإيجاب الأمانة: وهي أداء التكاليف الشرعية، والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، أي الفرائض والحدود. وأما الخيانة: فهي الإخلال بالواجبات، والتقصير في أداء الفرائض، وإفشاء الأسرار، وعدم ردّ الودائع والأمانات إلى أصحابها، وتضييع حقوق الآخرين. 2- الأموال والأولاد فتنة واختبار يمتحن به المؤمن الصادق الإيمان، فإن كان كسب المال حلالا وإنفاقه في وجوه الخير، نجا صاحبه من إثمه وطغيانه، وإن ربي الوالد ولده تربية دينية خلقية، وأطعمه الحلال الطيب، خلص من الحساب يوم الآخرة. وإن كان العكس في كل ذلك عرّض نفسه للعقاب والإثم.

تقوى الله وفضلها [سورة الأنفال (8) آية 29] :

وقد عرف من سبب النزول أن وجود الأموال والأولاد لأبي لبابة في بني قريظة هو الذي حمله على ملاينتهم. 3- قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تنبيه على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم شرفا، وأتم فوزا، وأخلد مدة وأثرا لأنها تبقى بقاء لا نهاية له، لذا وصف الله تعالى الأجر بالعظم. 4- قال الرازي: يمكن الاستدلال بهذه الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالزواج (النكاح) لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد، ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة. ولكن ذلك في تقديري حيث كان الإنسان في حال اعتدال، ثم لا شك بأن الزواج يساعد على التقوى والعفة. تقوى الله وفضلها [سورة الأنفال (8) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) المفردات اللغوية: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ التقوى: هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات وسميت بذلك لأنها تقي العبد من النار. فُرْقاناً نصرا ونجاة، تنجون مما تخافون، وسمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، ومنه سمي يوم بدر في قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال 8/ 41] لأنه فصل بين الحق والباطل أو يجعل لكم بيانا وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض. ورأى بعض العلماء الجدد: أنه العلم الصحيح والحكم

المناسبة:

الراجح أو نور البصيرة والهداية الذي يفرق به بين الحق والباطل، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن، وغلب على الكتاب الأخير، قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . والخلاصة: إن الفرقان: هو الفارق الفاصل بين الحق والباطل، وهذا تفسير أعم مما ذكر، ويستلزم ما ذكر، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته في الدنيا وسعادته في الآخرة، وإثابته الثواب الجزيل. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ تكفير الذنوب: محوها. وَيَغْفِرْ لَكُمْ غفرها: سترها عن الناس. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واسع الفضل عظيم العطاء، يعطي الثواب الجزيل. المناسبة: لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. التفسير والبيان: يا أيها المؤمنون المصدقون إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ باتباع أوامره واجتناب نواهيه، يجعل لكم فارقا بين الحق والباطل وهداية ونورا ينور قلوبكم، وهذا النور في العلم القائم على التقوى هو الحكمة في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة 2/ 269] وهو المشار إليه أيضا في قوله عز وجل: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد 57/ 28] . فالمتقي الله يؤتيه فرقانا يميز به بين الرشد والغي وبين الحق والباطل وبين الإسلام الحق والكفر والضلال، ويكون بذلك ربانيا كما أمر الله بقوله: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران 3/ 79] . إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ أيضا يمح عنكم ذنوبكم وسيئاتكم السابقة، ويسترها عن الناس، ويؤتكم الثواب الجزيل، والله صاحب الفضل الواسع والعطاء العظيم،

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد 57/ 28] . فقه الحياة أو الأحكام: تعددت الأوامر بالتقوى في القرآن الكريم، ولكن جاء الأمر هنا بلفظ الشرط لأنه تعالى خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا، فإذا اتقى العبد ربه- وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه- وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرّمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفّظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر، بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل له بين الحق والباطل فرقانا، قال ابن إسحاق: فُرْقاناً: فضلا بين الحق والباطل، وقال السدي: نجاة، وقال الفرّاء: فتحا ونصرا، وقيل: في الآخرة فيدخلكم الجنة، ويدخل الكفار النار. والآية ذكرت ثلاثة أنواع من الجزاء على التقوى: النوع الأول: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً: وهو يشمل جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار، ففي الدنيا: يخص تعالى المؤمنين بالهداية والمعرفة، ويخص صدورهم بالانشراح كما قال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر 39/ 22] ، ويزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم، والمكر والخداع عن صدورهم، ويخصهم بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] وقال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف 61/ 9] . وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك. وفي الآخرة: يكون الثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة.

النوع الثاني:

النوع الثاني: وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي أنه تعالى يزيل آثار جميع الذنوب والآثام الكبائر والصغائر ويمحوها ويسترها في الدنيا. ولا شك بأن التوبة أحد مظاهر التقوى. النوع الثالث: وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ويزيلها يوم القيامة لأنه صاحب الفضل العظيم، ومن كان كذلك، فإنه إذا وعد بشيء وفّى به. وفي الجملة: تكون التقوى نورا في الدنيا والآخرة، وسببا للسعادة فيهما، وتحقيق الآمال جميعها، والنجاة من كل سوء وشر، لذا قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة 2/ 197] . ألوان الكيد والمؤامرة من المشركين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) البلاغة: وَيَمْكُرُ اللَّهُ برد مكرهم أو بمجازاتهم عليه، وإسناد أمثال هذا إلى الله إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم. فإضافة المكر إليه تعالى على طريق (المشاكلة) بمعنى إحباط ما دبروا من كيد ومكر، والمشاكلة: أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى. المفردات اللغوية: وَإِذْ يَمْكُرُ أي واذكر يا محمد إذ اجتمع أهل مكة للمشاورة في شأنك بدار الندوة.

سبب النزول:

والتذكير بمكر قريش ليشكر نعمة الله عليه في خلاصه من مكرهم وتدبيرهم واستيلائه عليهم. والمكر: التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى آخر من حيث لا يشعر. لِيُثْبِتُوكَ يوثقوك بالوثاق، ويحبسوك بالقيد، حتى لا تقدر على الحركة. أَوْ يَقْتُلُوكَ كلهم قتلة رجل واحد. أَوْ يُخْرِجُوكَ يطردوك من مكة. وَيَمْكُرُونَ بك. ويمكر الله بهم بتدبير أمرك بأن أوحى إليك ما دبروه وأمرك بالخروج. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم به، وأفضل المدبرين. آياتُنا القرآن. قالُوا: قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا قاله النضر بن الحارث لأنه كان يأتي الحيرة يتّجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة. إِنْ ما. هذا القرآن. إِلَّا أَساطِيرُ أكاذيب، جمع أسطورة: وهي القصص والأحاديث التي سطرت في الكتب القديمة الأولى بدون تمحيص ولا نظام. سبب النزول: نزول الآية (30) : وَإِذْ يَمْكُرُ: أخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس: أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت بما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي أو نصح، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، فقال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم. فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رائد من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي.

نزول الآية (31) :

فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم، واستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعنّ عليه، ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله، فانظروا غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره، قالوا: وما هذا؟ قال: تأخذون من كل قبيلة وسيطا شابا جلدا- قويا- ثم نعطي كل غلام منهم سيفا صارما يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرّق دمه في القبائل كلها، فلا أظن أن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل- الدية- واسترحنا وقطعنا أذاه عنا. فقال الشيخ النجدي: هذا والله، هو الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره. فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك في الخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة، يذكّره نعمته عليه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. هذه أسباب الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. نزول الآية (31) : وَإِذا تُتْلى: أخرج ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر صبرا «1» عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنّضر بن

_ (1) القتل صبرا: أن يحبس ويرمى حتى يموت.

المناسبة:

الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول» . قال: وفيه نزلت هذه الآية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا: قَدْ سَمِعْنا الآية. المناسبة: لما ذكّر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ كذلك ذكّر رسوله نعمه عليه، وهو دفع كيد المشركين، ومكر الماكرين عنه. التفسير والبيان: واذكر أيها النبي حينما اجتمع المشركون لتدبير مؤامرة خطيرة عليك وعلى دعوتك، فذلك أمر يستحق الشكر على النعمة، ويدعو للعبرة والعظة، ويدل على صدق دعوتك وتأييد ربك لك في وقت المحنة العصيبة. لقد دبروا لك إحدى مكائد ثلاث: إما الحبس الذي يحول بينك وبين دعوة الناس، وإما القتل بطريق جميع القبائل، وإما الطرد والإخراج من البلاد. إنهم يمكرون ويدبرون في السرّ أمرا مكروها لإيقاعه بك من حيث لا تحتسب، ولكن الله عزت قدرته يحبط مكرهم ويبطل تآمرهم ويذهب كيدهم هباء، فقد أخرجك مهاجرا سليما من بينهم دون أي أذى، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والله خير المدبرين وأعلمهم ولا خير في مكرهم. فمعنى قوله: وَيَمْكُرُونَ: يخفون المكايد له، ومعنى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ: ويخفي الله ما أعدّ لهم حتى يأتيهم بغتة، ومكر الله: هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي مكره أنفذ من مكر غيره، وأبلغ تأثيرا، وأحق بالفعل المدبّر لأن تدبيره نصر للحق وعدل، ولا يفعل إلا ما هو مستوجب.

وفي هذا دلالة على أن موقف الكفار من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ودعوته موقف متميز دائما بالإساءة والأذى. وبعد أن حكى الله مكرهم لذات محمد، حكى مكرهم لدينه وكتابه، فقال: وَإِذا تُتْلى ... أي إذا تليت آيات القرآن الواضحة، قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، وهو اعتراف ضمني بعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن، وقد تحداهم للإتيان بأقصر سورة منه، ولكنه التمويه والخداع والإيهام، كما يفعل الضعيف الجبان أمام البطل الشجاع المغوار، يدعي أنه قادر على قتله، وهو مجرد كلام هراء. وكان قائل هذا القول: هو النضر بن الحارث، روي أن النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم، فيقرأ عليهم أساطير الأولين، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين. إنه كان يذهب إلى أرض فارس، فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم، ويمرّ باليهود والنصارى، فيسمع منهم التوراة والإنجيل، ثم يأتي ليحدث أهل مكة بما سمع. ثم عللوا قولهم الكاذب بما هو أكذب، فقال: ما هذا القرآن إلا أخبار وأكاذيب وأحاديث الأولين، مثل قصص الأمم السابقين. ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] ومعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي كتب المتقدمين اقتبسها، فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله عنهم في الآية التالية: قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 6] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والقائل: هو النضر بن الحارث الذي أنزل فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً [لقمان 31/ 6] فقد اشترى قينة جميلة تغني الناس بأخبار الأمم، لصرفهم عن سماع القرآن. ويلاحظ أنهم نسبوا آيات القرآن إلى قصص السابقين، ولكنهم لم يقولوا: إن محمدا افتراها أو اختلقها إذ كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس كذابا، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام 6/ 33] . وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يصدون الناس عن سماع القرآن، ثم يحاولون التنصت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلا، حتى إن الوليد بن المغيرة أعلن كلمته بعد تأثره بآيات القرآن: «إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته» ثم حاول إبطال هذه الكلمة كيلا تسمعها العرب بتأثير زعماء الشرك فقال: «إن هذا إلا سحر يؤثر» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى على أن حادث الهجرة كان معجزة ربانية لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة، واتفقوا على قتله، وانتدبوا من كل قبيلة شابا وسيطا جلدا قويا ليقتلوه بضربة رجل واحد، ليتفرق دمه على القبائل، فلا يستطيع قومه بنو هاشم محاربة القبائل كلها. فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أثره ، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي، فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فد فات ونجا. والقصة معروفة في السيرة.

والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد، والله تعالى نصره وقواه، فتبدد فعلهم، وظهر صنع الله تعالى. والمراد من قوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ مع أنه لا خير في مكرهم أنه أقوى وأشد وأعلم، لينبه بذلك على أن كل مكر، فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. وفي الآية إيماء إلى أن شأن الكفار إيذاء دائم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن تبعه. وكما بدد الله مكرهم لشخص محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدد مكرهم لدينه وشرعه، فزعموا أنه أساطير الأولين، فردّ الله عليهم: أن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو منزّل القرآن. ودلّ قولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا على أن معارضتهم للقرآن مجرد قول وادعاء، ولم يتمكنوا بالفعل من معارضته، ومجرد القول لا فائدة فيه. وكان هذا وقاحة وكذبا، وقيل: إنهم توهموا أنهم يأتون بمثل القرآن، كما توهّمت سحرة موسى، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه، وقالوا عنادا: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام 6/ 25 ومواضع أخرى] . وإلقاء مثل هذا الكلام والاتهام الباطل ينم عن الضعف والعجز، وسطحية الجاهل العامي، كما أنه موقف يدعو للسخرية والهزء من القائلين إذ لو كان لديهم دليل عقلي مقبول مفنّد لأعلنوه.

طلب المشركين الإتيان بالعذاب ومنع تعذيبهم إكراما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوضاع صلاتهم عند البيت الحرام [سورة الأنفال (8) الآيات 32 إلى 35] :

طلب المشركين الإتيان بالعذاب ومنع تعذيبهم إكراما للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأوضاع صلاتهم عند البيت الحرام [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) الإعراب: هُوَ الْحَقَّ خبر كانَ، وهو: ضمير فصل بين الوصف والخبر عند البصريين، وعماد عند الكوفيين. وعلى قراءة الرّفع يكون هُوَ مبتدأ، والْحَقَّ خبره، والجملة فيهما خبر كانَ. وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال. أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجرّ، وتقديره: من ألا يعذبهم الله. وقيل: تكون زائدة. والأول أوجه. وَهُمْ يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال من ضمير يُعَذِّبَهُمُ. مُكاءً خبر كانَ وهو الصّفير، وأصله (مكاو) فلما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة. وَتَصْدِيَةً معناها التّصفيق، وأصله (تصدده) من صدّى: إذا امتنع، فأبدلوا الدّال الثّانية ياء. وقد تكون من الصّدى: وهو الصّوت الذي يعارض الصّوت، فتكون الياء أصليّة.

البلاغة:

البلاغة: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً أي تصفيرا وتصفيقا، جعلوا صلاتهم عند البيت على هذا النحو، مما يدلّ على جهلهم بمعنى العبادة وعدم معرفة حرمة بيت الله، وكانوا أيضا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في صلاته يخلطون عليه. المفردات اللغوية: ان كان هذا الذي يقرؤه محمد. هو الحق المنزل. أليم مؤلم على إنكاره. قاله النّضر بن الحارث وغيره استهزاء وإيهاما أنه على بصيرة وجزم ببطلانه. لِيُعَذِّبَهُمْ بما سألوه. وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم تعذّب أمّة إلا بعد خروج نبيّها والمؤمنين منها. وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حيث يقولون في طوافهم: غفرانك. وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ بالسّيف بعد خروجك والمستضعفين، وقد عذّبهم الله ببدر وغيره. وَهُمْ يَصُدُّونَ يمنعون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. عن المسجد الحرام أن يطوفوا به. لا يَعْلَمُونَ ألا ولاية لهم عليه. مُكاءً صفيرا. وَتَصْدِيَةً تصفيقا، أي جعلوا ذلك موضع صلاتهم التي أمروا بها. سبب النّزول: نزول الآية (32) : وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ: أخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير في قوله: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ قال: نزلت في النّضر بن الحارث، لما قال: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ويلك إنه كلام ربّ العالمين، فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق» . نزول الآية (33) : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ: روى البخاري ومسلم عن أنس، قال: قال أبو جهل بن هشام: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

نزول الآية (35) :

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فنزلت: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ الآية. والاستغفار وإن وقع من الفجّار يدفع به ضرب من الشّرور والإضرار. والخلاصة: اختلف فيمن القائل: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ فقال مجاهد وسعيد بن جبير: قائل هذا هو النّضر بن الحارث. وقال أنس بن مالك فيما رواه البخاري ومسلم: قائله أبو جهل. وروي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية. نزول الآية (35) : وَما كانَ صَلاتُهُمْ: أخرج الواحدي عن ابن عمر قال: كانوا يطوفون بالبيت ويصفّرون ويصفّقون، فنزلت هذه الآية «1» . وأخرج ابن جرير الطّبري عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الطّواف يستهزئون به، ويصفّرون ويصفّقون، فنزلت. المناسبة: الآيات متّصلة بما قبلها وهي قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا فلما حكى تعالى مكر المشركين بمحمد ذاته، حتى اضطرّ إلى الهجرة، حكى مكرهم في دين

_ (1) أسباب النّزول: ص 135.

التفسير والبيان:

محمد، سواء بادّعاء القدرة على الإتيان بمثل القرآن، أو بوصفه بأنه أساطير الأولين أي قصص السابقين المسطورة في الكتب دون تمحيص ولا تثبّت من صحّتها. التفسير والبيان: واذكر يا محمد حين قالت قريش: اللهم إن كان هذا القرآن هو الحقّ المنزّل من عندك، فعاقبنا بإنزال حجارة ترجمنا بها من السّماء، كما عاقبت أصحاب الفيل، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ مؤلم سوى ذلك. وهذا إخبار من الله تعالى عن كفر قريش وعتوّهم وتمرّدهم وعنادهم وادّعائهم الباطل حين سماع آيات الله تتلى عليهم أنهم قالوا كما بيّنا سابقا: لو شئنا لقلنا مثل قولهم: إن القرآن أساطير الأولين، وإن هذا مقطوع بكذبه واختلاقه، فلو كان حقّا لأنزل علينا الحجارة أو العذاب الأليم. ومرادهم إنكار كونه حقّا منزلا من عند الله، وأنهم لا يتبعونه، وإن كان هو الحقّ المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك، وأنهم يتهكّمون بقول من يقول: القرآن حقّ، وهو غاية الجحود والإنكار، وهو من كثرة جهلهم وشدّة تكذيبهم وعنادهم وعتوّهم، ومثل من أمثال حماقتهم حين طلبوا تعجيل العذاب، وتقديم العقوبة، كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت 29/ 53] ، وقوله: وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] . ثم ذكر الله تعالى سبب إمهالهم بالعذاب، فقال: وَما كانَ اللَّهُ ... أي وما كان من مقتضى سنّة الله ورحمته وحكمته أن يعذّبهم، والرّسول موجود بينهم لأنه إنما أرسله رحمة للعالمين لا عذابا ونقمة، وما عذّب الله أمّة ونبيّها فيها، قال ابن عباس: لم يعذّب أهل قرية، حتى يخرج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم منها والمؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا.

وما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال في الدّنيا الذي عذّب بمثله بعض الأمم السّالفة، وهم يستغفرون. ومن هم المستغفرون؟ قال ابن عباس: هم الكفار، كانوا يقولون في الطّواف: غفرانك. والاستغفار، وإن وقع من الفجّار يدفع به ضروب من الشّرور والإضرار. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين المستضعفين الذين هم بين أظهرهم، أي وما كان الله معذبهم، وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا عذّبهم الله يوم بدر وغيره. وقيل: إن الاستغفار هنا يزاد به الإسلام، أي وهم يسلمون، أي يسلم بعضهم إثر بعض، أو يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه. وبعد أن نفى الله عنهم عذاب الاستئصال في الدّنيا، أثبت احتمالا آخر، وهو إمكان تعذيبهم بعذاب دون عذاب الاستئصال عند وجود المقتضي وزوال المانع، فقال: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ... أي ولم لا يعذّبهم الله بعذاب آخر، وأي شيء يمنع من إنزال عذاب أخف من ذلك العذاب؟ بسبب أنهم يمنعون الناس عن المسجد الحرام ولو لأداء النّسك؟ فقد كانوا يمنعون المسلم من دخول المسجد الحرام، وأخرجوا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصحبه من المسجد الحرام. فهم أهل لأن يعذّبهم الله، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم. فمن كانت هذه حالته لم يكن وليّا للمسجد الحرام، فهم أهل للقتل بالسّيف والمحاربة، فقتلهم الله وعذّبهم يوم بدر، حيث قتل رؤوس الكفر كأبي جهل وأسر سراتهم، وأعزّ الإسلام بذلك. وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي ولاة أمره وأربابه، فإنهم كانوا يقولون: نحن أولياء البيت الحرام، نصدّ من نشاء، وندخل من نشاء، فردّ الله عليهم بقوله: وما كانوا مستحقّين للولاية والإشراف عليه، مع شركهم وعداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وما أولياؤه وحماته إلا المتّقون من المسلمين، فليس كلّ مسلم أيضا ممن يصلح

فقه الحياة أو الأحكام:

لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام؟! وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن المتّقين أولياؤه، فهم الآمنون من عذابه. ثم بيّن الله تعالى سبب عدم أهليتهم لأن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقرّبهم وعبادتهم إنما كان تصفيرا وتصفيقا، لا يحترمون حرمة البيت ولا يعظّمونه حقّ التّعظيم. قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفّر وتصفّق. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: كانوا يعارضون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الطّواف، ويستهزئون به، ويصفّرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته. وروي مثل ذلك عن مقاتل. فعلى قول ابن عباس: كان المكاء والتّصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل وابن جبير: كان إيذاء للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. قال الرّازي: والأوّل أقرب لقوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. فذوقوا القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة. وهذا هو العذاب الذي طلبتموه. فقه الحياة أو الأحكام: تضمّنت الآية بيان مدى الحماقة من المشركين، حين استعجلوا إنزال العذاب، وبيان كرامة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه حيث رفع عن الأمّة عذاب الاستئصال بسبب وجوده بينهم، أو بسبب الاستغفار الحاصل من بعض الناس، الكفار أو المؤمنين، قال المدائني عن بعض العلماء: كان رجل من العرب في زمن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم مسرفا على نفسه، لم يكن يتحرّج فلما أن توفّي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبس الصّوف، ورجع عمّا كان عليه، وأظهر الدّين والنّسك. فقيل له: لو فعلت هذا والنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم حيّ لفرح بك. قال: كان لي أمانان، فمضى واحد وبقي الآخر

إهدار ثواب الإنفاق للصد عن سبيل الله [سورة الأنفال (8) الآيات 36 إلى 37] :

قال الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فهذا أمان، والثاني: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله والاستغفار، أما النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقد مضى، وأمّا الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة. ودلّت الآية على أنّ الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. وأمّا وجود النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين القوم فهو حائل من العذاب، لا يختص ذلك بنبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلم، إلا بعد أن يخرج رسولهم منهم، كما كان في حقّ هود وصالح ولوط. وتضمّنت الآية أيضا استحقاق كفار قريش عذابا دون عذاب الاستئصال لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب، فعذّبهم الله بالقتل والأسر يوم بدر وغيره. ثم أبان الله تعالى سلب الولاية والأهلية عن الكفار على المسجد الحرام، لكفرهم وعداوتهم للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وانتهاكهم حرمة البيت بالتّصفير والتّصفيق، والطّواف به عراة، رجالا ونساء. إهدار ثواب الإنفاق للصّدّ عن سبيل الله [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

البلاغة:

البلاغة: الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ كناية عن المؤمن والكافر، وبين اللفظين طباق. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إشارة بالبعيد إلى الفريق الخبيث، لبيان مدى خسارتهم الفادحة، وبعدهم عن الرّحمة الإلهيّة. المفردات اللغوية: يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في حرب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ثُمَّ تَكُونُ في عاقبة الأمر. عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندامة وألما، لفواتها وتضييعها، وفوات ما قصدوه. ثُمَّ يُغْلَبُونَ في الدّنيا. يُحْشَرُونَ يساقون. لِيَمِيزَ متعلّق ب تَكُونُ، ومعناه يفصل الْخَبِيثَ الكافر. مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن. فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً يجمعه متراكبا بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ. سبب النّزول: قال محمد بن إسحاق- فيما يرويه عن الزّهري وجماعة-: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجعوا إلى مكّة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أميّة، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلّموا أبا سفيان، ومن كان له في ذلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إنّ محمدا قد وتركم- نقصكم- وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال- أي مال العير الذي نجا- على حربه، فلعلنا أن ندرك منه ثأرا، ففعلوا. ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ إلى قوله يُحْشَرُونَ أي أنها نزلت في نفقاتهم لمعركة أحد. روى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن الآية نزلت في أبي سفيان، وما كان من إنفاقه على المشركين في بدر، ومن إعانته على ذلك في أحد، لقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة قال: نزلت في أبي سفيان، أنفق

المناسبة:

على المشركين أربعين أوقية من ذهب. والأوقية: أربعون مثقالا من الذّهب، والمثقال (25، 4 غم) . وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى وسعيد بن جبير قالا: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، ليقاتل بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، سوى من استجاب له من العرب. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش «1» . المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى حالة المشركين في الطاعات البدنية وهي الصّلاة بقوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ... بيّن حالهم في الطاعات المالية، سواء في الإنفاق يوم بدر أو أحد. التّفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله يقصدون من الإنفاق صدّ الناس عن اتّباع محمد، وهو سبيل الله تعالى. وحين ينفقون تكون عاقبة هذا الإنفاق لحرب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والصّدّ عنه في النهاية ندما وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما، وتنقلب حسرة، أي أنها لا تحقّق المقصود، وإنما تؤدي إلى عكسه وهو الوقوع في الحسرة والنّدامة: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف 18/ 42] ، لأنها مال ضائع في سبيل

_ (1) وهم أبو جهل بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، ونبيه ومنبه ابنا حجاج، وأبو البحتري بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبيّ بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفل، والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشرة من الجزور. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

الشّيطان، ولا تؤدّي إلى النّصر، وإنما على العكس مصيرها إلى الهزيمة. فهم يغلبون وينكسرون، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] . هذا عذابهم في الدّنيا: ضياع المال والهزيمة، وعذابهم في الآخرة أنهم يساقون إلى جهنّم، إذا أصرّوا على كفرهم وماتوا وهم كفار لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه. أما المسلمون إذا أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فتحقّق إما النّصر في الدّنيا، وإمّا الثّواب في الآخرة، أو الأمران معا وسعادة الدّارين. وقد كتب الله النّصر للمؤمنين، والهزيمة للكافرين وضياع أموالهم، وإيقاع الحسرة والألم في قلوبهم، ليميز الفريق الخبيث من الفريق الطّيب، أي الكافر من المؤمن، فيميز أهل السعادة عن أهل الشّقاء، ويجعل الخبيث بعضه متراكما فوق بعض في جهنم، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- لا يستفيد الكفار من بذلهم أموالهم في الإنفاق الذي يقصد به الصّدّ عن سبيل الله، أي منع الناس من دعوة الإسلام، إلا الحسرة والخيبة في الدّنيا، والعذاب الشّديد في الآخرة، وهو يوجب الزّجر العظيم عن ذلك الإنفاق. 2- إن الغلبة والنّصر يكونان للمؤمنين، والهزيمة والخذلان للكافرين، وسيكون هؤلاء يوم القيامة مسوقين في حال من الذّل والصّغار إلى جهنم، وبئس المصير. 3- إن تحقيق الغلبة للمؤمنين، وإيقاع الهزيمة بالكافرين إنما بقصد تمييز

المغفرة للكفار إذا أسلموا وقتالهم إذا لم يسلموا لمنع الفتنة في الدين [سورة الأنفال (8) الآيات 38 إلى 40] :

الفريق الخبيث من الكفّار، عن الفريق الطّيّب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض في جهنّم، فيركمه جميعا. ويكون قوله: لِيَمِيزَ متعلّقا بقوله يُحْشَرُونَ والمعنى: أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطّيّب. وقيل: المراد تمييز نفقة الكافر على عداوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، عن نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، فيضمّ تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيها في جهنّم ويعذّبهم بها، ويكون قوله لِيَمِيزَ متعلّقا بقوله: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً. ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وهو إشارة إلى الذين كفروا. المغفرة للكفّار إذا أسلموا وقتالهم إذا لم يسلموا لمنع الفتنة في الدّين [سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) المفردات اللغوية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني أبا سفيان وأصحابه، أي قل لأجلهم هذا القول وهو: إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر وقتال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومعاداته بالدّخول في الإسلام، وليس المراد أنك تخاطبهم به، وإلا لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم. يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من أعمالهم، ويُغْفَرْ: فعل

المناسبة:

مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل هو الله تعالى. وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله. فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي تقررت سنّتنا في الذين تحزّبوا على الأنبياء بالتّدمير والهلاك، فكذا نفعل بهم. حَتَّى لا تَكُونَ توجد. فِتْنَةٌ لا يوجد فيهم شرك. وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وحده ولا يعبد غيره وتضمحلّ عنهم الأديان. فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم به على انتهائهم عن الكفر وإسلامهم. المناسبة: لما بيّن الله تعالى صلاة المشركين وعباداتهم البدنيّة، ثم عباداتهم المالية، وصدّهم عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين، أرشدهم إلى طريق الصّواب، ورغّبهم في دخول الإسلام وفتح لهم باب الرّحمة الواسعة والفضل الكبير، فقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا الآية. التفسير والبيان: قل أيّها الرّسول لأجل الذين كفروا كأبي سفيان وأصحابه: إن ينتهوا عما هم فيه من الكفر والعناد ومعاداة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويدخلوا في الإسلام والطّاعة والإنابة، يغفر لهم ما قد سلف، أي من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، كما جاء في الصّحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأوّل والآخر» . وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة ما كان قبلها» . وروى مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: فلما جعل الله الإيمان في قلبي أتيت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقلت: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فقبضت

يدي، قال: مالك؟ قلت: أردت أن أشترط. قال: ماذا تشترط؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله؟» . وإن يعودوا إلى حظيرة الكفار والصّدّ والعناد والقتال، أي يستمروا على ما هم عليه، أجريت عليهم سنّتي المطردة في تدمير وإهلاك المكذّبين السّابقين الذين كذّبوا أنبيائي وتحزّبوا ضدّهم، كما حدث لقريش يوم بدر وغيره، وظهر وعد الله القائل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] . وهذا وعيد شديد لهم بالدّمار إن لم يتركوا الكفر والعناد. ثم بيّن الله تعالى حكم هؤلاء الكفار إن عادوا للكفر واستمروا عليه، فهم متوعّدون بسنّة الأولين، وحكمهم: أن الله أمر بقتالهم إذا أصرّوا فقال: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي وقاتلوا أيها المسلمون قتالا عنيفا أعداءكم المشركين، حتى لا يبقى شرك أبدا، ولا يبعد إلا الله وحده، ولا يفتن مؤمن عن دينه، ويخلص التّوحيد لله، فيقال: لا إله إلا الله، وتضمحل الأديان الباطلة، ولا يبقى إلّا دين الإسلام، وذلك في أرض مكّة وما حواليها من جزيرة العرب، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه البيهقي من حديث مالك عن الزهري: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» ، قال الرّازي: ولا يمكن حمله على جميع البلاد إذ لو كان ذلك مرادا لما بقي الكفر فيها، مع حصول القتال الذي أمر الله به «1» . فيكون الغرض من القتال هو التّمكين من حرية التّدين، فلا يكره أحد على ترك عقيدته، كما قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة 2/ 256] .

_ (1) تفسير الرّازي: 15/ 164

فقه الحياة أو الأحكام:

فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم، فكفّوا عنهم وإن لم تعلموا بواطنهم، فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أي فإن الله عليم بأعمالهم، يجازيهم عليها بحسب علمه. وإن تولوا وأعرضوا عن سماع دعوتكم، ولم ينتهوا عن كفرهم، فلا تهتموا بأمرهم، واعلموا أن الله متولّي أموركم وناصركم، فلا تبالوا بهم، ومن كان الله مولاه وناصره، فلا يخشى شيئا، إنه نعم المولى، ونعم النصير، فلا يضيع من تولاه، ولا يغلب من نصره الله. ولكن نصر الله مرهون بأمرين: الإعداد المادي والمعنوي للجهاد كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال 8/ 60] ونصرة دين الله وتطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] . أما الاتّكال على مجرد الاتّصاف بالإسلام قولا لا عملا، وطلب النّصر بخوارق العادات، والأدعية فقط، دون إعداد ولا تحقيق الصفة الإسلامية الحقّة التي اتّصف بها السّلف الصالح، فلا يحقق شيئا من النّصر المرتجى على العدو في فلسطين وغيرها من بلاد الإسلام المعتدى عليها، أو المحتلّة. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية الأولى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا على مزيد فضل الله وفتح باب رحمته أمام الكفار، فإنهم إن يسلموا يغفر الله لهم ما سلف من كفر، وما ارتكبوا من ذنوب، وما قصروا من أداء واجبات نحو ربّهم، فلا يطالبون بقضاء العبادات البدنيّة والماليّة، ويبدءون صفحة جديدة مشرقة بالإسلام النّقي الطّاهر، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم: «الإسلام يجبّ ما قبله» .

قال مالك: من طلّق في الشّرك ثم أسلم، فلا طلاق له، ومن حلف فأسلم، فلا حنث عليه، فهو مغفور له. ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة، ثم أسلم، سقط عنه الحدّ. ولا خلاف في إسقاط ما فعله الكافر الحربي في حال كفره في دار الحرب. أما لو دخل إلينا بأمان فقذف مسلما، فإنه يحدّ، وإن سرق قطع، وكذلك الذّمي إذا قذف، حدّ ثمانين جلدة، وإذا سرق قطع، وإن قتل قتل، ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره. أمّا المرتد إذا أسلم، وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات، وأتلف أموالا، فقال أبو حنيفة ومالك: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط لأن الله تعالى مستغن عن حقّه، والآدمي مفتقر إليه، ولأن إيجاب قضاء العبادات ينافي ظاهر هذه الآية. وفي قول الشافعي: يلزمه كلّ حقّ لله عزّ وجلّ وللآدمي بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه، فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. فإن عاد الكفار إلى قتال المسلمين، قوتلوا. والصّحيح- كما ذكر الرّازي- أن توبة الزّنديق مقبولة، لأن هذه الآية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.. تتناول جميع أنواع الكفر، ولقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى 42/ 25] . ولأن أحكام الشّرع مبنيّة على الظواهر لأن القاعدة تقول: «نحن نحكم بالظاهر، والله يتولّى السّرائر» . واحتجّ الحنفيّة بهذه الآية على أنّ الكفار حال كفرهم ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع، بدليل أنهم لا يؤاخذون بشيء مما ارتكبوه في زمان الكفر. ودلّت آية: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ على وجوب القتال، حتى تزول فتنة المسلم عن دينه، وتتأكد حرية الاعتقاد والتّديّن. وأما قوله تعالى: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فهو إما أن يقيّد في جزيرة العرب، فلا يجتمع فيها

دينان كما بيّنا، وإما أن يكون الغرض النّظري لا الفعلي هو إنهاء الكفر من جميع العالم، وهذا كما ذكر الرّازي مجرّد أمل وغرض أو هدف لأنه ليس كلّ ما كان غرضا للإنسان، فإنه يحصل، فسواء حصل أو لم يحصل، يكون الأمر بالقتال لتحصيل هذا الغرض، وإن لم يتحقق في الأمر نفسه. نهاية الجزء التاسع ولله الحمد

[الجزء العاشر] [تتمة سورة الأنفال] التّفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج في آخر الكتاب فهرسة الفبائية شاملة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلى رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق الجزء العاشر

كيفية قسمة الغنائم [سورة الأنفال (8) آية 41] :

كيفية قسمة الغنائم [سورة الأنفال (8) : آية 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) الإعراب: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ما: اسم موصول بمعنى الذي، وغَنِمْتُمْ: صلته، والعائد إليه محذوف، تقديره: غنمتموه. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: فحكمه أن لله خمسه. البلاغة: مِنْ شَيْءٍ التنكير للتقليل. عَلى عَبْدِنا هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ذكر بلفظ العبودية وأضيف إلى الله للتشريف والتكريم. المفردات اللغوية: غَنِمْتُمْ أخذتم من الكفار قهرا، والغنيمة: ما أخذ من الكفار في الحرب قهرا وفيه الخمس. أما الفيء: فهو ما أخذ من الأعداء بلا حرب أو صلحا كالجزية وعشر التجارة، وليس فيه الخمس. وهذه التفرقة مبنية على العرف. وقال بعضهم: الغنيمة: ما أخذ من مال منقول، والفيء: الأرضون. والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها. وقال قتادة: الغنيمة والفيء بمعنى واحد، وزعموا أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر التي جعلت الفيء كله لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وهذه الآية جعلت لهم الخمس فقط. والظاهر أن الغنيمة والفيء مختلفان ولا نسخ، إذ لا ضرورة له، والنسخ يلجأ إليه عند الضرورة. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ يأمر فيه بما يشاء. وَلِذِي الْقُرْبى قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من بني هاشم

المناسبة:

وبني المطلب. وَالْيَتامى أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم، وهم فقراء. وَالْمَساكِينِ ذوي الحاجة من المسلمين. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره عن بلده من المسلمين، أي أن الخمس يستحقه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والأصناف الأربعة المذكورة، على ما كان يقسمه من أن لكل خمس الخمس. يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر، الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل. يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون والكفار. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ صاحب القدرة المطلقة على كل الأشياء، ومنها نصركم مع قلتكم وكثرتهم. المناسبة: لما أمر الله بمقاتلة الكفار في قوله: وَقاتِلُوهُمْ وكان القتال عادة مستتبعا إحراز الغنائم منهم، ذكر تعالى حكم الغنيمة وقد نزلت هذه الآية في غزوة بدر، وكان ابتداء فرض قسمة الغنائم فيها. التفسير والبيان: هذه الآية تفصيل لما أجمل حكمه في بدء سورة الأنفال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فأبان تعالى أن حكمها لله، ويقسمها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم على ما أمره الله به، وفي هذه الآية تفصيل لحكم الغنائم التي اختص الله هذه الأمة بإحلالها، وأنها تقسم أخماسا، فيجعل الخمس لمن ذكرتهم الآية، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين كما أوضحت السنة، وهي أنها تقسم للجيش المقاتل: للراجل سهم، وللفارس سهمان أو ثلاثة أسهم، بدليل بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي في قوله تعالى: غَنِمْتُمْ قال القرطبي: أضاف الله الغنيمة للغانمين، ثم عين الخمس لمن سمّى في كتابه، وسكت عن الأربعة الأخماس، فدل على أنها ملك للغانمين، كما سكت عن الثلثين في قوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فكان للأب الثلثان اتفاقا، وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 3، 13

والغنيمة كما أوضحت: ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر. والأصناف المذكورة في الآية ستة، قيل عن أبي العالية: إن سهم الله يصرف في الكعبة، وأجيب بأن تعمير بيوت الله حق على المسلمين، والراجح المشهور أو المجمع عليه أن خمس الغنائم يقسم على خمسة أصناف، وقوله: لِلَّهِ خُمُسَهُ: افتتاح كلام للتبرك بذكر اسم الله وتعظيمه، وافتتاح الأمور باسمه وبيان تفويض كل شيء إليه، فهو يحكم بما يشاء، ولله الدنيا والآخرة. والأصناف الخمسة هي: 1- سهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يضعه حيث شاء. قال عمر بن عبد العزيز: قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ يعني في سبيل الله، قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح كله. 2- سهم ذوي القربى: أي قرابة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم على الراجح بنو هاشم وبنو المطلب، وهو رأى الشافعي وأحمد وآخرين لما أخرجه البخاري والنسائي: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال: «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه. قال البخاري: قال الليث: حدثني يونس، وزاد: ولم يقسم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم، وأمّهم: عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وقال النسائي: وأسهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، بينهم الغني والفقير. وتفصيل القصة فيما أخرج ابن جرير الطبري عن جبير بن مطعم (من بني نوفل) قال: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم

وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه (من بني عبد شمس) ، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا «1» ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثم شبّك رسول الله يديه، إحداهما بالأخرى. وذلك أن بني هاشم وبني المطلب دخلوا في مقاطعة في شعب مكة بموجب الصحيفة التي كتبتها قريش، لحمايتهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل. وكان بنو أمية بن عبد شمس في عداوة لبني هاشم في الجاهلية والإسلام. وأما بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فعند الشافعي رحمه الله، ورأيه مطابق لظاهر الآية: أنه يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين، كالإعداد للجهاد من شراء السلاح والخيول ونحوها، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للأصناف الثلاثة: وهم اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن سهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ساقط بسبب موته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، ولا يعطى أغنياؤهم، فيقسم الخمس على ثلاثة أسهم، على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال مالك رحمه الله: الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام، ويجعل في بيت المال، إن رأى قسمته على هؤلاء المذكورين في الآية فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض، فله ذلك.

_ (1) أي أنهما من بني عبد شمس وبني نوفل.

وكأن مالكا والمالكية رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أريد به العام. وأصحاب الأقوال المتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أريد به الخاص. واستدل المالكية بأخبار وردت في السيرة هي: أ- روي في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث سرية قبل نجد، فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفّلوا بعيرا بعيرا. ب- قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عديّ حيا، وكلّمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له. ج- رد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سبي هوازن، وفيه الخمس. د- قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» . هـ- روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: آثر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين أناسا في الغنيمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله، إن هذه القسمة ما عدل فيها، أو: ما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته، فقال: «يرحم الله أخي موسى لقد أوذى بأكثر من هذا، فصبر» «1» . وذكر النسائي عن عطاء قال: خمس الله وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 846

كل هذه الأدلة تدل على أن توزيع الخمس مفوض للإمام، وأن بيان المصارف في الآية بيان المصرف والمحل، لا بيان الاستحقاق والملك، كما ذكر القرطبي إذ لو كان استحقاقا وملكا، لما جعله رسول الله أحيانا في غيرهم. 3- اليتامى: وهم أطفال المسلمين الذي هلك آباؤهم. 4- المساكين: وهم أهل الحاجة من المسلمين. 5- ابن السبيل: وهو المجتاز سفرا قد انقطع به. ثم قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ... أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله، أو اعلموا أن ما غنمتم من شيء، فخمس الغنيمة مصروف إلى هذه الأصناف الخمسة، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقنعوا بالأخماس الأربعة إن كنتم صدقتم بالله وبما أنزله على رسوله، يوم بدر: يوم الفرقان الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، فنصرنا المؤمنين على الكافرين، وذلك يوم التقى الجمعان، أي الفريقان من المسلمين والكافرين، لسبع عشرة خلت من رمضان، وهو أول قتال شهده الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، والله على ذلك وغيره قدير، يقدر على نصركم وأنتم قلّة، ولا يمتنع عليه شيء أراده، وينجز وعده لرسوله. والمراد من الآية التحذير من تجاوز حدود الله في أي وقت، وليس المراد أخذ العلم فقط، بل العلم المقترن بالعمل والاعتقاد، والإيمان بالله والرسول والمنزل عليه واليوم الآخر من دواعي العلم بأن لله حق التصرف في الأشياء، وله تفويض القسمة إلى رسوله، يقسم الخمس بين هذه الأصناف لأن النصر من عند الله، وهو الذي أمدكم بالملائكة. وجواب الشرط دل عليه المذكور وهو: فاعملوا وانقادوا وسلّموا لأمر الله فيما أعلمكم به من القسمة، وقد عدل عن (اعلموا) لأن

فقه الحياة أو الأحكام:

المراد هو العمل، وليس العلم والاعتقاد، فقوله: وَاعْلَمُوا يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم. فقه الحياة أو الأحكام: الآية خطاب للمسلمين من غير خلاف، لا مدخل فيه للكفار ولا للنساء، خوطب به المقاتلون من المسلمين. وقد أرشدت الآية إلى أن خمس الغنيمة يصرف لخمسة أصناف، ودلت دلالة ضمنية على أن الأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين، فذلك مفهوم من السكوت عن الأربعة الأخماس، فتقسم بين الغانمين «1» . وأرشدت الآية أيضا إلى أنه: إن كنتم آمنتم بالله، فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة، لم يحصل الإيمان بالله. وفي الآية تسمية يوم بدر بيوم الفرقان. وهذه الآية مبيّنة لإجمال أول سورة الأنفال، وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين. وجمهور العلماء على أن هذه الآية مخصوصة بأمور ثلاثة هي: أن سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام، أي أعلن عنه قبل المعركة، وكذلك الأسارى، الاختيار فيهم إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك الأرض غير داخلة في عموم هذه الآية في رأي الجمهور لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لولا آخر الناس، ما فتحت قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خيبر» . وأما الذي يقسم فهو المنقول الذي ينقل من موضع إلى آخر.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 51

وقال الشافعي: كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء، قلّ أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك، قسم إلا الرجال البالغين، فإن الإمام مخير فيهم بين أن يمنّ أو يقتل أو يسبي، واستدل بعموم هذه الآية، وقال: والأرض مغنومة لا محالة، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم، وقد قسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما افتتح عنوة من خيبر. ولو جاز أن يدّعى الخصوص في الأرض، جاز أن يدّعى في غير الأرض، فيبطل حكم الآية. وأما آية (الحشر) فلا حجة فيها لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان، لا لغير ذلك. وفعل عمر في وقف الأرض المفتوحة إما أن يكون ما وقفه فيئا، فلم يحتج إلى مراضاة أحد، وإما أن يكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك فوقفها، روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها، وكذلك صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سبي هوازن، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم. وقال الحنفية: يخير الإمام في قسمة الأرض، أو إقرارها بيد أهلها، وتوظيف الخراج عليها، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح. وأما السّلب: فهو في رأي مالك وأبي حنيفة والثوري، ليس للقاتل، وحكمه حكم الغنيمة، إلا أن يقول الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه، فيكون حينئذ له، أي أن هذا القول تصرف من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بطريق الإمامة والسياسة، فيحتاج إلى إذن متجدد من الحاكم. وذهب الليث والأوزاعي والشافعي وآخرون إلى أن السلب للقاتل على كل حال، سواء قاله الإمام أو لم يقله، لكن يستحقه القاتل في رأي الشافعي إذا قتل قتيلا مقبلا عليه، غير مدبر عنه، أي أن هذا القول صادر من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بطريق التبليغ للوحي أو النبوة، فلا يحتاج إلى إذن أصلا من الحاكم.

ولا يخمس السلب في رأي الشافعي لما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قضي في السلب للقاتل، ولم يخمّس السلب. وذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل، إلا أن يقيم البيّنة على قتله. وقال أكثرهم: يجزئ شاهد واحد عملا بحديث أبي قتادة، وقيل وهو رأي الشافعي: شاهدان أو شاهد ويمين، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطى السلب لأبي قتادة بشهادة الأسود بن خزاعيّ وعبد الله بن أنيس. وقال الأوزاعي والليث: يعطاه بمجرد دعواه، وليست البيّنة شرطا في الاستحقاق لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة ولا يمين. ولا يحتاج في مذهب المالكية إلى بيّنة لأنه من الإمام ابتداء عطية. والسلب بالاتفاق يشمل السلاح وكل ما يحتاج للقتال. أما الفرس فقال أحمد: ليس من السلب. وأما ما معه من نقود أو جواهر فلا خلاف في أنه ليس من السلب. وأما ما يتزين به للحرب فهو من السلب في رأي الأوزاعي، وقال جماعة: ليس من السلب. وليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل، واختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه يسهم للفارس سهمان، وللراجل سهم وهو الصحيح وذلك لكثرة العناء وعظم المنفعة، بدليل ما روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما. ولا يعطى في رأي مالك والشافعي لأكثر من فرس واحد، لأن القتال يكون على فرس واحد، والزائد رفاهية، وقال أبو حنيفة: يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه أكثر غناء وأعظم منفعة.

تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين [سورة الأنفال (8) الآيات 42 إلى 44] :

وسبب استحقاق الجندي السهم هو شهود الوقعة، لنصر المسلمين، لقول عمر: «إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة» فلو شهد آخر الوقعة استحق، ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا. ومن غاب أو حضر مريضا فلا سهم له لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يسهم لغائب قط إلا يوم خيبر، فإنه أسهم لأهل الحديبية، من حضر منهم ومن غاب، لقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها. وأما المدد الذي يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة، فقال الحنفية: إذا غنموا في دار الحرب، ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجها إلى دار الإسلام، فهم شركاء فيها. وقال الأئمة الآخرون: لا يشاركونهم «1» . تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين [سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 56

الإعراب:

الإعراب: إِذْ أَنْتُمْ إِذْ: بدل من قوله: يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وبِالْعُدْوَةِ: بضم العين وكسرها، والْقُصْوى: حقها أن يقال: القصيا مثل الدنيا، إلا أنه جاء شاذا. والركب: (اسم جمع، وليس بجمع تكسير لراكب) بدليل تصغيره على ركيب، إذ لو كان جمع تكسير لقيل: رويكبون، كما يقال في تكسير شاعر: شويعرون، يرد إلى الواحد ثم يصغر، ثم يؤتى بعلامة الجمع. والرَّكْبُ: مبتدأ، وأَسْفَلَ: خبره، وهو وصف لظرف محذوف، تقديره: والركب مكانا أسفل منكم. لِيَقْضِيَ متعلق بمحذوف، أي ليقضي أمرا كان واجبا أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه. ولِيَهْلِكَ بدل منه. حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ حي: فيه إدغام، أصله حيي وأدغم للزوم الحركة في آخره، وقرئ بالإظهار أي بفك الإدغام للحمل على المستقبل، أي لإجراء الماضي على المستقبل، والمستقبل لا يجوز فيه الإدغام، فلا يقال: يحيّا. إِذْ يُرِيكَهُمُ إِذْ: في موضع نصب بفعل مقدر، تقديره: واذكر إذ يريكهم الله. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذ: معطوف على إِذْ الأولى، وردّت الواو ميم الجمع مع الضمير. والضميران مفعولان. البلاغة: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا بين الدنيا والقصوى طباق. لِيَهْلِكَ ويَحْيى استعار الهلاك والحياة للكفر والإيمان أو الإسلام. المفردات اللغوية: إِذْ بدل من يوم في قوله يَوْمَ الْفُرْقانِ. أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أي أنتم كائنون بشط الوادي أو جانبه، والدُّنْيا: القربى أي القريبة من المدينة. وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعدى من المدينة وهي مؤنث الأقصى. وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي العير كائنون بمكان أسفل منكم أي مما يلي البحر. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم والنفير للقتال. وَلكِنْ لِيَقْضِيَ جمعكم بغير ميعاد، ليحقق أمرا كان مفعولا في علمه، وهو نصر الإسلام ومحق الكفر. لِيَهْلِكَ فعل ذلك ليكفر من كفر بعد حجة ظاهرة قامت عليه، وهي نصر المؤمنين مع قلتهم على الجيش الكثير، أو ليموت من يموت عن بينة عاينها، وَيَحْيى أي ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا

المناسبة:

يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أي إما أن يستعار الهلاك للكفر، والحياة للإسلام، بمعنى ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإما أن يكون اللفظان على الحقيقة. والمراد بمن هلك ومن حيّ: المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه. فِي مَنامِكَ نومك. قَلِيلًا أي عددا قليلا، فأخبرت به أصحابك فسرّوا. لَفَشِلْتُمْ جبنتم. وَلَتَنازَعْتُمْ اختلفتم. فِي الْأَمْرِ أمر القتال. وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من الفشل والتنازع بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أيها المؤمنون. قَلِيلًا نحو سبعين أو مائة، لتقدموا عليهم. وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ليقدموا ولا يرجعوا عن القتال. وهذا قبل بدء المعركة، أما بعد بدئها فأراهم إياكم مثليهم، كما في آل عمران. تُرْجَعُ تصير. المناسبة: الحديث ما يزال عن وقعة بدر، فالله تعالى بعد أن أبان حكم قسمة الغنائم، وصف مشاهد من يوم الفرقان ومواقع الصفين، ومعسكر الجيشين، لتذكير المؤمنين بالنعم العظمى التي أنعم بها عليهم، وامتنانه عليهم حيث نصرهم على من هو أقوى منهم. التفسير والبيان: اذكروا أيها المؤمنون ذلك اللقاء الحاسم بينكم وبين المشركين، واشكروه على نصره إياكم فيه، حينما كنتم في مواجهة رهيبة مع الأعداء، إذ كنتم في جانب الوادي القريبة من المدينة وهي أرض رملية تسيخ فيها الأقدام، والمشركون نازلون في جانب الوادي الأخرى البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة، وهي قريبة من الماء، والركب أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أسفل منكم أي مما يلي جانب البحر أو ساحله، حينما كان أبو سفيان قادما بقافلته من الشام، في أربعين من قريش، وهم مع أهل مكة يدافعون عنه دفاع المستميت، مما يقوي روحهم المعنوية.

ولو تواعدتم أنتم والمشركون في مكان للقتال، لاختلفتم في الميعاد، خوفا من القتال لقلتكم وقوة عدد أعدائكم، ولأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. ولكن تلاقيكم عن غير موعد ولا رغبة في القتال، ليقضي الله ما أراد بقدرته وحكمته وعلمه من إعزاز الإسلام ونصر أهله، وإذلال الشرك وخذلان أهله، ولينفذ أو يحقق أمرا كان مبرما وواجبا أن يفعل، وهو نصر أوليائه المؤمنين، وقهر أعدائه الكافرين بعد ذلك اللقاء، فيزداد المؤمنون إيمانا، وامتثالا لأمر الله ويظهروا الشكر له. وكان لهذا اللقاء أثر آخر على المدى البعيد، وهو أن يموت من يموت من الكفار عن حجة بيّنة عاينها بالبصر تثبت حقيقة الإسلام، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها بإعزاز الله دينه، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي ترسخ الإيمان، وتدفع إلى صالح الأعمال، وتحقق قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر 54/ 45] . ويصح تفسير لِيَهْلِكَ ويَحْيى بالاستعارة، وهي استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام، والمعنى: ليكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه وظهور الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، أي بعد الحجة لما رأي من الآية والعبرة، وبه حقا كانت موقعة بدر فرقانا بين الحق والباطل، قامت بها الحجة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم نبيهم، والحجة على الكافرين بهزيمتهم لأنهم جند الباطل. وتوضيح المعنى: أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره:

بأنه مبطل، لقيام الحجة عليه. وهذا برهان عملي محسوس، والمحسوسات أو التجارب أوقع أثرا في الاستدلال من البراهين النظرية أو العقلية المجردة. وإن الله لسميع عليم، أي لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو سميع لما قاله الكافرون، وعليم بأحوالهم، وسميع لدعاء المؤمنين وتضرعهم واستغاثتهم، وعليم بهم وبأنهم يستحقون النصر على أعدائهم، ويجازي كلا بما يسمع ويعلم. واذكر أيها النبي إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا أي ضعفاء، فتخبر أصحابك بذلك، فتثبت قلوبهم، وتطمئن نفوسهم. ولو أراكهم كثيرا أي أقوياء في الواقع لجبنتم عنهم، واختلفتم فيما بينكم، وتنازعتم في شأن القتال إذ منهم قوي الإيمان والعزيمة، ومنهم الضعيف الذي يحسب للأمر ألف حساب. ولكن الله سلّم من ذلك الفشل (الجبن) والتنازع، بأن أراكهم قليلا، إنه تعالى عليم بذات الصدور أي بما تخفيه الصدور، وتنطوي عليه النفوس من شعور الضعف والجزع الذي يؤدي إلى الانثناء عن القتال. واذكروا أيها الرسول والمؤمنون الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا، في رأي العين المجردة، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار، فيغتروا، ولا يعدوا العدة لكم، حتى قال أبو جهل: «إنما أصحاب محمد أكلة جزور، خذوهم أخذا، واربطوهم بالحبال» أي أنهم عدد قليل يكفيهم جزور واحد في اليوم، ويشبعهم لحم ناقة. ليقضي الله أمرا كان مفعولا، أي فعل كل ذلك ليمهد للحرب، فتكون سبيلا في علمه تعالى لنصرة المؤمنين وإعزاز الإسلام، وهزيمة الكافرين وإذلال الكفر والشرك.

فقه الحياة أو الأحكام:

روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي، تراهم سبعين؟ قال: لا، بل هم مائة، حتى أخذنا رجلا منهم، فسألناه، فقال: كنا ألفا. وهذا كله قبل القتال، أما في أثنائه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم، ليعمهم الفزع وتضعف معنوياتهم، كما قال تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران 3/ 13] . ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إن إلى الله مصير الأمور ومردها. فقه الحياة أو الأحكام: لقد كانت وقعة بدر أمرا عجبا وقصة مثيرة، فمما لا شك فيه أن عسكر المسلمين في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف، بسبب القلة وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضا رملية تغوص فيها أرجلهم. وأما الكفار فكانوا في غاية القوة بسبب كثرة العدد والعدد، وكانوا قريبين من الماء، والأرض كانت صالحة للمشي، وكانت العير خلف ظهورهم، ويتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة. ثم تغيرت موازين القوى وانعكست القضية، وجعل الله الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين، فصار ذلك من أعظم المعجزات، وأقوى البينات على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما

هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة. والمراد من البينة: هذه المعجزة «1» . وقد أراد الله أيضا من الفريقين كما دل ظاهر قوله: لِيَهْلِكَ ... العلم والمعرفة والخير والصلاح. فإظهار المعجزة وإعلام فريقي المؤمنين والكافرين بالحجة على أحقية الإسلام وبطلان الشرك هو النوع الأول من النعم التي أنعم الله بها على أهل بدر. والنوع الثاني من النعم يعرف من قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ وهو: تقليل الكافرين في أعين المؤمنين، ليقدموا على القتال بروح معنوية عالية، وبحماسة تحقق النصر والغلبة. والنوع الثالث من النعم يوم بدر يتبين من قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ ... وهو أن التقليل الذي حصل في النوم تأكد بحصوله في اليقظة، فهذا في اليقظة، فقلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المؤمنين، وقلل أيضا عدد المؤمنين في أعين المشركين، والحكمة في التقليل الأول: تصديق رؤيا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وتقوية قلوب المؤمنين، وازدياد جرأتهم عليهم. والحكمة في التقليل الثاني: أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين، لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر، فصار ذلك سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم. والمقصود من ذكر قوله تعالى: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا في موضعين: في الآية 42، وفي الآية 44: هو أن ذكره في الموضع الأول لبيان أن الله تعالى فعل تلك الأفعال من أجل نصر المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وللترغيب في اللقاء. وذكره في الموضع

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 168.

ذكر الله والثبات أمام العدو والطاعة وعدم التنازع [سورة الأنفال (8) الآيات 45 إلى 47] :

الثاني وهو تقليل عدد المؤمنين في أعين المشركين لتوضيح مراد الله تعالى الذي فعل ذلك ليكون سببا في قلة مبالاة المشركين بالمؤمنين، وعدم مبالغتهم في الاستعداد والحذر، ولإتمام المراد وهو قتل المشركين وإعزاز الدين. ونبّه تعالى بقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد. ومن فضل الله ونعمته وهو نوع رابع من النعم أن قوله: وَيُقَلِّلُكُمْ كان في ابتداء القتال، فلما شرعوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا كما قال تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران 3/ 13] . ذكر الله والثبات أمام العدو والطاعة وعدم التنازع [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الإعراب: فَتَفْشَلُوا منصوب بإضمار (أن) ، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي. بَطَراً منصوب على المصدر في موضع الحال، أي بطرين مرائين صادّين. البلاغة: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي قوتكم، وقال الزمخشري: الريح: الدولة، وفيه استعارة، شبهت

المفردات اللغوية:

القوة أو الدولة في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. المفردات اللغوية: فِئَةً جماعة، والمراد هنا جماعة كافرة فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً ادعوه بالنصر تُفْلِحُونَ تفوزون وَلا تَنازَعُوا تختلفوا فيما بينكم فَتَفْشَلُوا تجبنوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قوتكم ودولتكم مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والعون. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها بَطَراً البطر: الأشر، والمراد بهما التفاخر بالنعمة، والتكبر والخيلاء. وَرِئاءَ النَّاسِ أي رياء، وهؤلاء هم أهل مكة، حين خرجوا لحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان، وهم بالجحفة: أن ارجعوا، فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى تقدم بدرا، نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب. فلذلك كان بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله. سبب النزول: نزول الآية (47) : وَلا تَكُونُوا: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: وَلا تَكُونُوا ... الآية. وقال البغوي في تفسيره المطبوع على هامش (الخازن) : نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر، ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك، وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني» . قالوا: ولما رأي أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما

المناسبة:

خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية، والحسبة في نصر دينه، ومؤازرة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أنواع نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر، علّمهم إذا التقوا بفئة (أي جماعة) من المحاربين نوعين من الأدب هما: الثبات أمام العدو في اللقاء، وذكر الله كثيرا، ثم أمرهم بالتحلي بالطاعة والانقياد، أي طاعة الله والرسول، ونهاهم عن التنازع والاختلاف حتى لا يفشلوا (يجبنوا) وتذهب قوتهم ودولتهم. التفسير والبيان: هذه الآيات تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء، وهي قواعد ضرورية في الحروب، وأسس للجندية الحقة الحازمة. وأول هذه الآداب والقواعد: الثبات أمام العدو حين اللقاء معه، بتوطين النفوس على الصمود والصبر على المبارزة وعدم التحدث بالتولي والفرار، ونظرا لأن هذا العنصر أهم عناصر المواجهة الحربية، فقد بدأ الله به، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً

والأدب الثاني:

فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة من أعدائكم الكفار، فاثبتوا أمامهم في القتال، وإياكم من الفرار من الزحف وتولي الأدبار، فالثبات ركيزة الحروب وسبب للانتصار، والفرار جريمة كبري يعاقب عليها الله تعالى لأنها خطأ فادح في حق الأمة قاطبة. ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، حتى إذا مالت الشمس، قام فيهم فقال: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» . ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» . وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واذكروا الله، فإن صخبوا وصاحوا، فعليكم بالصمت» . وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن زيد بن أرقم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مرفوعا قال: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة» . والأدب الثاني: هو ذكر الله كثيرا: بذكره في القلب واللسان، والتضرع والدعاء بالنصر والظفر لأن النصر لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، وذكر الله في أثناء القتال يحقق معنى العبودية لله، ويشعر بمعنى الإيمان والتفويض لله والتوكل عليه، ويقوي الروح المعنوية، فبذكره تطمئن القلوب، ويؤمّل النصر والفرج، وبدعائه تتبدد الكروب والمخاوف، ويحلو الموت في سبيل الله عز وجل.

والأدب الثالث:

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي هذا الثبات وذكر الله من وسائل الفوز بالأجر والثواب، والنصر على الأعداء. جاء في الحديث المرفوع: يقول الله تعالى: «إن عبدي كل عبدي: الذي يذكرني، وهو مناجز قرنه» أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي، فذكر الله تعالى، وعدم نسيانه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله النصر على الأعداء، بعد الثبات والصمود والصبر أساس لتحقيق الفوز والغلبة. وهذا يدل على أن ذكر الله أمر مطلوب في كل أحوال العبد، سلما وحربا، صحة ومرضا، إقامة أو حضرا وسفرا. والأدب الثالث: هو الطاعة: طاعة الله والرسول في كل ما أمر العبد به ونهي عنه، فما أمرنا الله تعالى به ائتمرنا، وما نهانا عنه انزجرنا لأن طاعة الله ورسوله من أسباب تحقيق الفوز والنصر في القتال وغيره، ولأن الطاعة تحقق الانضباط، وتوفر النظام، وتقمع الفوضى والتشتت، وظرف الحرب يقتضي الانضباط واحترام النظام وحبّه في أعلى مستوى وأكمله. والأدب الرابع: هو وحدة الصف والكلمة والهدف، وعدم التنازع والاختلاف، فإن توحيد الصف والكلمة أمر أساسي عند لقاء العدو، والتنازع والاختلاف مدعاة للفشل والجبن والخيبة وتغلب العدو. فإياكم والتنازع لأنه مهدر للطاقات، ومقوّض لبنية الجماعات، وسبيل لإذهاب الحماسة، وتبديد القوة، والعصف بوجود الدولة، وإزالة روح الإقبال والإقدام، فلقد هلكت الأمم باختلافها وكثرة آرائها واعتراضاتها.

والأدب الخامس:

والأدب الخامس: الصبر على الشدائد والمحن، وتحمل بأس العدو، فإن الصبر سلاح القوي المقدام، لذا قيل: الشجاعة: صبر ساعة، والله مع الصابرين يمدهم بالعون والتأييد والنصر. والخلاصة: تتضمن الآداب السابقة قواعد حربية ثابتة أساسها الإخلاص في القتال في سبيل الله وكثرة ذكر الله لربط الجيش بربه. قال ابن كثير: وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة، والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس، والترك، والصقالبة والبربر، والحبوش، وأصناف السودان، والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب «1» . وكما جرت عادة القرآن في الجمع بين الأمر والنهي والتحذير، أعقب الله تعالى الأمر بالآداب أو القواعد الحربية السابقة ومنها النهي عن التنازع، بتحذير المؤمنين من التشبه بصنيع المشركين أهل مكة، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا.... أي لا تتشبهوا بالمشركين أهل مكة حين خرجوا من ديارهم لحماية العير بطرا

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 316

فقه الحياة أو الأحكام:

أي دفعا للحق، وإظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الزعامة، ومن أجل مراءاة الناس، أي المفاخرة والتكبر عليهم، وعمل ما يحبون أن يراهم الناس عليه ليعجبوا منه، كما قال أبو جهل لما قيل له: إن العير قد نجت فارجعوا، فقال: لا والله، لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا. فامتثلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، واحذروا التشبه بأعدائكم المشركين بطرين مترفعين بالنعمة، مرائين الناس، فتبدل الحال كله عليهم، فتجرعوا كأس المنون، وانقلبوا أذلة صاغرين، في عذاب سرمدي أبدي. وأرادوا بخروجهم المنع عن سبيل الله، أي حجب الناس عن الإسلام والحيلولة بينهم وبين تبليغ الدعوة الإلهية. وهذه الأفعال التي لا تصدر عادة إلا من أناس امتلأت قلوبهم بالكفر، والجهل، والحقد، هي كلها عوامل دمار وهدم وفناء. لذا تضمنت الآية الزجر والتهديد بخصال الكفار وهي الرياء والبطر والكبر ودفع الحق ومعاداته. والله بما يعملون محيط، أي عالم بما جاؤوا به ولأجله، فيجازيهم عليه شر الجزاء في الدنيا والآخرة، بمقتضى سنته في ترتيب الجزاء على الأعمال. وفي هذا حض على إخلاص النية والعمل، والترغيب في نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومؤازرة الدين الذي جاء به من عند الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: تأمر الآيات بقواعد حربية هي عمد ثوابت في نظام الحروب بنحو دائم، ولا يمكن لجيش قديم أو حديث أن يتخلى عن هذه النصائح التي تكون سببا في إحراز النصر والتقدم والغلبة.

وهذه القواعد والنصائح هي الثبات عند اللقاء، وذكر الله والتضرع إليه واللجوء إلى جنابه، وطاعة الله والرسول، أي طاعة التوجيه الإلهي والقائد الحربي الذي لا يأمر عادة إلا بالصواب والحق والمصلحة العامة، وعدم التنازع والاختلاف، والصبر عند الشدائد، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء. أما الثبات عند قتال الكفار: فهو كما في الآية المتقدمة التي تنهى عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على هدف واحد، وهو الصمود في المعركة. وأما ذكر الله في القلب واللسان والدعاء فهو مما يعين على الهدف السابق وهو الثبات على الشدائد، فيقول المجاهد ما قاله أصحاب طالوت: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة 2/ 250] . وهذه الحالة لا تكون- كما ذكر القرطبي- إلا عن قوة المعرفة، واتّقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة بين الناس. ثم قال القرطبي: والأظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان. وأما طاعة الله ورسوله فهي الواجبة في كل أحوال المسلم، وبخاصة وقت الحرب والقتال لأن طاعة القائد الحربي أساس لتماسك الجيش، وضمان لتقدمه وتوجيهه الوجهة التي يخطط لها القائد تخطيطا سليما. والطاعة العمياء للقائد من أصول الجندية الحديثة المعروفة. وأما التنازع والاختلاف بين الآراء ووجهات النظر فهو أداة انقسام الجيش، وإنذار بالهزيمة والتراجع، وذهاب القوة والنصر والدولة. وأما الصبر فهو محمود في كل المواطن، وبخاصة موطن الحرب كما قال تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وقال أيضا: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران 3/ 200] والله مع الصابرين، والمراد بهذه المعية: النصرة والمعونة.

وأما البطر (الفخر والاستعلاء والتكبر) والمراءاة فهما مرض خطير ينخر في تكوين شخصية الإنسان، ويعجل في تدمير كيان صاحبه. وأما الصد عن سبيل الله، أي إضلال الناس فهو أشد إثما من الكفر لأن كفر الكافر مقصور على نفسه، والصد يتجاوز الإنسان إلى غيره، وقد تكرر ذم الصد عن سبيل الله في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وكان الصدّ ملازما لكفر أهل مكة، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمّد 47/ 1] . ولما كان أبو جهل وعصبته مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب، وكان صدهم عن سبيل الله حاصلا في زمان نبوة محمد عليه الصلاة والسّلام، ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل. والخلاصة: أمر الله المؤمنين عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم أن يكون الباعث لهم على الثبات هو البطر والرئاء، وإنما الواجب أن يكون الباعث عليه هو طلب عبودية الله تعالى. وشأن المؤمن إرضاء الرحمن وإظهار العبودية الخالصة لله، وهو هدف القرآن، والمعصية مع الحياء والتذلل والانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار. وضمانا للإخلاص في طلب مرضاة الله ختمت الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لأن الإنسان ربما أظهر الإخلاص، والحقيقة بخلافه، فيكون الله أعلم بما في القلوب. وهذا كالتهديد والزجر عن الرياء والتصنع. وقد احتج نفاة القياس على عدم مشروعيته بآية وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ... لأن القياس يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام بسبب اختلاف الأقيسة، ويردّ عليهم بأنه ليس كل قياس بوجب المنازعة، والآية في أمور السياسة العامة

تبرؤ الشيطان من الكفار وقت أزمة بدر وحين تهكم المنافقين بالمؤمنين [سورة الأنفال (8) الآيات 48 إلى 49] :

والمصالح الكبرى التي لا مجال للاختلاف فيها في تقدير المخلصين، أما القياس في مجال الاجتهاد في الفروع الفقهية، وجزئيات الأحكام، فلا عيب فيه، وهو أمر محمود مطلوب شرعا، وإن أدى إلى الاختلاف لأن المجتهد يجب عليه شرعا العمل بما غلب على ظنه. تبرؤ الشيطان من الكفار وقت أزمة بدر وحين تهكم المنافقين بالمؤمنين [سورة الأنفال (8) : الآيات 48 الى 49] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) الإعراب: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ لا: نافية للجنس، وغالِبَ: اسمها المنصوب، ولَكُمُ: في موضع رفع خبر لا وتقديره: لا غالب كائن لكم. والْيَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه لَكُمُ. المفردات اللغوية: وَإِذْ زَيَّنَ واذكر إذ زين لهم إبليس أعمالهم بأن وسوس لهم وشجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر. وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير لكم من كنانة، وكان أتاهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد تلك الناحية. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ التقت واقتربت الجماعة المسلمة والكافرة، كل منهما من الأخرى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع هاربا على عقبيه أي

سبب النزول:

رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، والمراد: أحجم وَقالَ لما قالوا له: أتخذلنا على هذه الحال؟: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ من جواركم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من الملائكة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني. إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ أي زين لهم الشيطان حين قال المنافقون بالمدينة، والمنافق: من يظهر الإسلام ويبطن الكفر وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم ضعاف الإيمان الذين تملأ قلوبهم الشبهات والشكوك غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا مع قلتهم وهم ثلاثمائة، وبضعة عشر، يقاتلون الجمع الكثير وهم زهاء ألف، توهما أنهم ينصرون بسبب دينهم، فأجابهم الله بقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي من يثق به يغلب فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره، يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي حَكِيمٌ في صنعه. سبب النزول: نزول الآية (48) : وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ: روي أن الشيطان تمثّل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلا منهم. وقد وصف الله تعالى ما قال الشيطان لهم. قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا، وهم يقاتلون على دين آبائهم. وذكر البيهقي وغيره عن ابن عباس قال: أمدّ الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل عليه السّلام في خمسمائة من الملائكة مجنّبة «1» ، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ. فلما اصطفّ القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره، ورفع

_ (1) مجنبة الجيش: هي التي تكون في الميمنة والميسرة، وهما مجنبتان.

نزول الآية (49) :

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يده فقال: «يا ربّ إنك إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال جبريل: «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السّلام إلى إبليس، فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين- قيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام-، انتزع إبليس يده، ثم ولى مدبرا وشيعته فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار؟ قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ. وفي موطأ مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع «1» الملائكة» . نزول الآية (49) : إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ: روي عن مجاهد أنه قال: هم فئة من قريش: قيس بن الوليد بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطّلب، ويعلى بن أمية، والعاص بن منبّه، خرجوا مع قريش من مكة، وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم، حتى أقدموا على ما أقدموا عليه، مع قلة عددهم، وكثرة عدد قريش. المناسبة: ما تزال الآيات تعرض مواقف وعبرا من مشاهد يوم بدر، وهنا تذكر

_ (1) يزع الملائكة: أي يرتبهم ويسوّيهم ويصفهم للحرب.

التفسير والبيان:

موقفين: موقف الشيطان كيف تخلص من المشركين وقت اشتداد المحنة، وموقف المنافقين الذين سخروا من المؤمنين لتهورهم، قائلين: غرّ هؤلاء دينهم. التفسير والبيان: اذكر أيها الرسول حين زين الشيطان للمشركين أعمالهم بوسوسته، وأوهمهم أنهم لا يغلبون أبدا لكثرة عَددهم وعُددهم، وأن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، وأزال مخاوفهم من إتيان عدوهم بني بكر في ديارهم، وقال: إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير لكم من بني كنانة، وذلك أنه تبدي لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية. والجار: المدافع عن صاحبه، والذائد عنه أنواع الضرر، كما يدفع الجار عن جاره. وكل ذلك من الشيطان كما قال تعالى عنه: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء 4/ 120] . فلما تلاقى الفريقان المتقاتلان نكص الشيطان على عقبيه، أي تراجع مدبرا، وولّى هاربا، وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الملائكة للمسلمين، وأظهر أنه يخاف الله، والله شديد العقاب في الدنيا والآخرة. وكان خوفه من الملائكة حتى لا تحرق جنوده. وهكذا كان جند الشيطان في مبدأ الأمر مع المشركين يوسوسون لهم ويضللونهم، وكان الملائكة جند الرحمن مع المؤمنين يثبّتون قلوبهم ويؤيدونهم ويعدونهم بنصر الله تعالى. وقوله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله: أَخافُ اللَّهَ ثم قال تعالى ذاك. أما السبب في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة، فلإظهار المعجزة العظيمة للرسول عليه الصلاة والسّلام لأن كفار قريش، لما رجعوا إلى مكة، قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغتني

فقه الحياة أو الأحكام:

هزيمتكم. فعندئذ تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة، بل كان شيطانا «1» . هذا موقف الشيطان، ثم ذكر الله تعالى موقف المنافقين، فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ... أي اذكر أيها النبي حين قال المنافقون ومرضى القلوب، أي ضعفاء الاعتقاد والإيمان، وقد رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي أن المسلمين اغتروا بدينهم، وتقووا به، وظنوا أنهم ينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. وهذا صحيح في موازين القوى العسكرية، وتقدير مدى تكافؤ الجيشين في أنظار الناس عادة، ولكنه في ميزان الله وتقديره غير يقيني: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 249] لذا قال تعالى في ختام الآية: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ... أي ومن يفوض أمره إلى الله، ويثق به، ويلجأ إليه، فهو حسبه وناصره ومؤيده، والله عزيز غالب لا يدرك، حكيم في فعله وصنعه، عليم بخلقه، ينصر من يشاء، وبخاصة اقتضت سنته أن ينصر الحق على الباطل، ويسلط القليل الضعيف على الكثير القوى. وقوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفات المنافقين، وأن يراد بهم الذين ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام، كالمؤلفة قلوبهم، والأولى أنهما صنف واحد. فقه الحياة أو الأحكام: ما أشبه موقف المنافقين بموقف الشيطان، إنه موقف المتخاذل المتفرج، المحرّض على الشر، ثم المتخلي عن المؤازرة وقت الشدة والمحنة. أما الشيطان: فيوسوس بالباطل لأعوانه، ثم يحجم عن الشيء الذي زين به، وحبّب فيه، وأغرى الناس عليه. فالواجب على العاقل الحذر منه،

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 174- 175.

إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم كإهلاك آل فرعون [سورة الأنفال (8) الآيات 50 إلى 54] :

والتفكير في عواقب الأمور، وعدم الانسياق في تيار الأهواء والوساوس الشيطانية، فمن انجرف في سيل الشيطان فإن الله يعاقبه أشد العقاب. وأما المنافقون (الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر) والذين في قلوبهم مرض (الشاكون، وهم دون المنافقين لأنهم حديثو عهد بالإسلام، وفيهم ضعف النية والاعتقاد) فيصطادون عادة في الماء العكر، وينتهزون الفرص، ويوقعون الفتنة، وينتظرون الانحياز للغالب ويشككون في قوة المؤمنين، ويتهمونهم بالتهور والطيش لقلتهم عددا وعددا أمام الكثرة في العدد والعدد. وقد خيّب الله الفريقين: الشيطان والمنافقين، فنصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة، والله يؤيد بنصره من يشاء لأن من يتوكل على الله، ويفوض أمره إليه، ويثق به، ويلجأ إليه، فإن الله حسبه وناصره ومؤيده. إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم كإهلاك آل فرعون [سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

الإعراب:

الإعراب: يَضْرِبُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الْمَلائِكَةُ ولو جعل حالا من الَّذِينَ كَفَرُوا لكان جائزا. وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي يقولون: ذوقوا عذاب الحريق، وحذف القول كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إنما قال: ذلك، على خطاب الواحد، ولم يقل: ذلكم، على قياس اللغة الأخرى بأن يقال: (ذلكم بما قدمت أيديكم) لأنه أراد به الجمع، فكأنه قال: ذلك أيها الجمع، والجمع بلفظ الواحد، وهما لغتان جيدتان نزل بهما القرآن. وَأَنَّ اللَّهَ ... إما بالجر عطفا على بِما في قوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وإما بالنصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: وبأن الله، وإما بالرفع بالعطف على ذلِكَ أو على تقدير ذلك. كَدَأْبِ الكاف صفة لمصدر محذوف، وتقديره: فعلنا ذلك بهم فعلا مثل عادتنا في آل فرعون. المفردات اللغوية: أَدْبارَهُمْ ظهورهم الْحَرِيقِ النار، وجواب لَوْ: لرأيت أمرا عظيما. ذلِكَ التعذيب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ عبر بالأيدي دون غيرها لأن أكثر الأفعال تزاول بها لَيْسَ بِظَلَّامٍ أي بذي ظلم، فلا يعذب العبيد بغير ذنب. كَدَأْبِ كعادة مستمرة، أي عادة هؤلاء كعادة قوم فرعون. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أي تعذيب الكفرة بسبب أن الله مُغَيِّراً نِعْمَةً مبدلا لها بالنقمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ يبدلوا نعمتهم كفرا كتبديل كفار مكة إطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف. وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ وكل من الأمم المكذبة.

المناسبة:

المناسبة: لما شرح الله تعالى أحوال مشركي مكة من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورياء، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم، وتثبيط المنافقين للمؤمنين، شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يلقونه في ذلك الوقت. التفسير والبيان: ولو عاينت يا محمد حال الكفار حين تتوفاهم الملائكة، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا لا يكاد يوصف، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، وينزعون أرواحهم من أجسادهم بشدة وعنف، قائلين لهم: ذوقوا عذاب الحريق أي عذاب النار في الآخرة، وهذا إنذار لهم بذلك العذاب. ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمتم من أعمال سيئة، وارتكبتم من منكرات كالكفر والظلم في حياتكم الدنيا. ونسب ارتكاب المعاصي إلى الأيدي مع أنها تقع بغيرها كالأرجل وسائر الحواس لأن أكثر الأعمال تقع بها. جازاكم الله بها هذا الجزاء عدلا لا ظلما لأن الله لا يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور أبدا، ويضع الموازين القسط ليوم القيامة، ويعطي كل ذي حق حقه، فلا تظلم نفس شيئا. جاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا ... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . ثم عقد الحق تبارك وتعالى مقارنة، وأعطى شبها ومثلا لعذاب المشركين،

فقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ... أي أنه تعالى فعل بهؤلاء المشركين المكذبين برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وكفرهم بها، كما فعل بالأمم المكذبة قبلهم، فعادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون (أي قومه) في كفرهم، فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي، كما جوزي أولئك بالإغراق، كفر هؤلاء المشركون والكفار بآيات ربهم، فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فالسنة والعادة في الفريقين واحدة، والجزاء من جنس العمل. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي إن الله قوي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب. روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . ثم أخبر الله تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، فقال: ذلك العذاب الناجم عن سوء العمل وإهلاك قريش بكفرها بأنعم الله عليها، بسبب سنته تعالى وحكمته التي اقتضت ألا يغير نعمته على قوم، حتى يغيروا ما بهم من الحال، فيكفروا النعمة، ويبطروا بها، فاستحقوا تبديل الأوضاع، كتبديل أهل مكة إطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرعد 13/ 11] . وفي هذا دلالة واضحة على أن استحقاق النعم منوط بصلاح العقائد، وحسن الأعمال، ورفعة الأخلاق، وأن زوال النعم يكون بسبب الكفر والفساد وسوء الأخلاق، إلا أن يكون ذلك استدراجا كما قال تعالى في آية أخرى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم 68/ 44] . وكل الناس تحت رقابة الله المتصرف فيهم، لذا قال: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ

فقه الحياة أو الأحكام:

عَلِيمٌ أي سميع لما يقول مكذبو الرسل، عليم بما يفعلون. ثم أكد تعالى الكلام السابق وفصله تفصيلا، فقال مرة أخرى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ لترسيخ وجه الشبه، وبيان المقصود بالكلام الأول من الأخذ وهو الإغراق، وبيان ما نزل بهم من العقوبة حال الموت، ثم ما ينزل بهم في القبر في الآخرة، وتوضيح أن سبب العذاب أولا- الكفر بآيات الله، أي إنكار الدلائل الإلهية، وثانيا- التكذيب بآيات ربهم أي إنكار وجوه التربية والإحسان والنعمة، مع كثرتها وتواليها عليهم، فقوله: بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق. والخلاصة: لقد اجتمع في هؤلاء المعذّبين: الكفر بوجود الله ووحدانيته، وإنكار النعم التي أنعم الله بها عليهم. وختم تعالى الكلام بقوله: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أي أن كلا من مشركي قريش وآل فرعون كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء، وأن الله إنما أهلكهم بسبب ظلمهم وذنوبهم، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أي كانوا هم الظالمين الذي عرّضوا أنفسهم لعذاب الله تعالى، ولا يظلم ربك أحدا. وكان عذاب مشركي قريش مقصورا على القتل وسلب النعمة منهم بسبب كفرهم ومعاصيهم. وأما عذاب من قبلهم فكان عذاب استئصال كإغراق آل فرعون وإرسال الريح على عاد، والصيحة المجاوزة للحد في الشدة (وهي الطاغية) على ثمود. فقه الحياة أو الأحكام: ما أتعس حال الكفار، وإن انغمسوا في الثروة والأموال إلى ما شاء الله!! فإنهم في النتيجة آيلون إلى سوء المصير، فليست السعادة بالأموال والأولاد كما

يتوهم السطحيون، وإنما السعادة بالإيمان وطمأنينة القلب وتعمير الدنيا بالعمل الصالح للآخرة!! ما أشقى هؤلاء الكفار قاطبة في كل مكان وزمان، وليتهم اعتبروا بالعبر والعظات بمن سبقهم في التاريخ!! لقد اشتد إيذاء المشركين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وقاتلوهم قتالا عنيفا، وصادروا أموالهم في مكة، فماذا كانت النتيجة؟ هل حصدوا خيرا أم جنوا شرا وسوءا؟ إنهم قتلوا في بدر أشد قتلة، وضربوا قبل نزع أرواحهم بشدة وعنف أشد ضربة. ولو انكشف لنا حالهم أثناء تعذيب الملائكة لهم لرأينا العجب العجاب. قال الحسن البصري: إن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشّراك «1» ؟ قال: ذلك ضرب الملائكة. ثم إنهم يذوقون في عذاب النار أشد العذاب، والذوق حسي ومعنوي. وليس تعذيبهم في الدنيا والآخرة ظلما أو جورا، فليس الله بظلام للعبيد، بعد أن أوضح السبيل وبعث الرسل، وأنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع، فما عليهم إلا أن يشتغلوا بالعبادة والشكر، ويعدلوا عن الكفر، فإذا بقوا في الفسق والكفر، فقد غيروا نعمة الله على أنفسهم، فاستحقوا تبديل النعمة بالنقمة، والمنحة بالمحنة. وهذا أدل شيء على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة، والذي يفعله لا يكون إلا جزاء على معاص من أنفسهم، ولو كان تعالى خلقهم وخلق أجسامهم وعقولهم ابتداء للنار، كما يزعم بعضهم، لما وافق ذلك عدل الله وحكمته ورحمته.

_ (1) الشراك: سير النعل، جمع أشرك.

معاملة من نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض [سورة الأنفال (8) الآيات 55 إلى 59] :

إنهم أشبهوا قوم فرعون بالكفر والمعصية وإنكار وجود الله ووحدانيته، وتكذيب الرسل، وتبديل الجحود والعناد بالنعمة المستحقة للشكر. إن مظهر تغيير آل فرعون ومشركي مكة نعمة الله عليهم، كان مقابلة الإله المنعم بجحوده وإنكاره وعبادة الأصنام، فسلبوا الخيرات التي أنعم الله عليهم، من ثمار كثيرة في مصر، وجلب الأرزاق لأهل مكة، وقد تتغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، فلما بعث إليهم الرسل، كذبوهم وعادوهم وهموا بقتلهم، فغير الله حالهم إلى أسوأ مما كانت، وغير ما أنعم به عليهم من الإمهال إلى التعجيل بالعذاب. معاملة من نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) الإعراب: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من قوله الَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين عاهدت من الذين كفروا. وقوله: مِنْهُمْ للتبعيض. فَانْبِذْ فعل أمر هو جواب الشرط، وفيه حذف تقديره: فانبذ إليهم العهد وقابلهم على إعلام منك لهم، وفي هذه الآية من لطيف الحذف والاختصار ما يدل على فصاحة القرآن وبلاغته. عَلى سَواءٍ حال متساوية في العلم بنقض العهد.

المفردات اللغوية:

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ: الَّذِينَ كَفَرُوا: فاعل، وسَبَقُوا: تقديره: أنهم سبقوا، فسد مسد المفعولين. وقرئ: ولا تحسبن، فيكون الَّذِينَ كَفَرُوا المفعول الأول، وسَبَقُوا: المفعول الثاني، كأنه قال: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا سابقين. وإنهم لا يعجزون: ابتداء كلام، وقرئ بفتح: أن، على تقدير: لأنهم. المفردات اللغوية: الدَّوَابِّ جمع دابة: وهي في الأصل: كل ما دبّ على الأرض وغلب استعماله في الحيوانات ذوات الأربع، والمراد به هنا: الناس، وهو المعنى الأصلي للكلمة وهم بنو قريظة عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وعلمه الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ألا يعينوا المشركين، وهم طوائف من يهود المدينة وَهُمْ لا يَتَّقُونَ الله في غدرهم. فَإِمَّا فيه إدغام نون إن الشرطية في «ما» المزيدة تَثْقَفَنَّهُمْ تجدنهم وتصادفنّهم، من ثقف الرجل: أدركه وظفر به فَشَرِّدْ بِهِمْ فرّق وبدّد وخوّف بهم، والتشريد: التفريق مع إزعاج، والمراد هنا: نكّل بهم تنكيلا وعاقبهم عقابا يخوّف غيرهم مَنْ خَلْفَهُمْ أي غيرهم من المحاربين ناقضي العهد، وهم كفار مكة وأعوانهم من المشركين. لَعَلَّهُمْ أي الذين خلفهم يَذَّكَّرُونَ يتعظون بهم. فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم وحاربهم عَلى سَواءٍ أي استواء أنت وهم في العلم بنقض العهد، بأن تعلمهم به، لئلا يتهموك بالغدر، أو على طريق واضح سوي لا خداع فيه ولا خيانة. سَبَقُوا أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يعجزون الله في إدراكهم ولا يفوتونه، بل سيجازيهم على كفرهم. وهو تعليل على سبيل الاستئناف. وعلى قراءة الفتح أي أنهم فيه تصريح بالتعليل، قال البيضاوي: والأظهر أنه تعليل للنهي، أي لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. سبب النزول: نزول الآية (55) : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ: قال ابن عباس: إنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأعانوا عليه بالسلاح في بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق، وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة، فحالفهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

نزول الآية (59) :

نزول الآية (59) : وَإِمَّا تَخافَنَّ: روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن شهاب الزهري قال: دخل جبريل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: قد وضعت السلاح، وما زلت في طلب القوم، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً الآية. وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود، منهم ابن تابوت. وقال مجاهد: نزلت في يهود المدينة، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى كل الكفار بقوله: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد. وبعد أن أبان تعالى حال مشركي قريش في قتالهم النبي والمؤمنين ببدر، ذكر حال فريق آخر قاتلوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو يهود الحجاز. التفسير والبيان: نزلت هذه الآيات في يهود بني قريظة، ومفادها: إن شر ما دبّ على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الذين كفروا ونقضوا العهد، فهم شر خلق الله لاتصافهم بصفتين: الإصرار على الكفر الدائم والعناد، ونقض العهد الذي عاهدوه وأكدوه بالأيمان، ولهم صفة ثالثة هي أنهم لا يتقون الله ولا يخافون منه في شيء ارتكبوه من الآثام، ولا يتقونه في غدرهم ونقض العهد. وقد وصفهم الله بأنهم شر الدواب للإشارة إلى أنهم بلغوا درجة الدواب، بل هم شر منها لعدم وجود نفع منهم، كما قال تعالى في أمثالهم: إِنْ هُمْ إِلَّا

كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 44] أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] . وبعد أن أبان الله تعالى صفاتهم الثلاث وأخصها هنا تكرار نقض العهد، أبان حكم من نقض العهد وهو القتل، فقال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أي إن ظفرت بهم في الحرب، فافعل بهم فعلا يفرّق بهم من خلفهم، أي فنكّل بهم تنكيلا شديدا يخافك من وراءهم أو سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة، افعل هذا لعلهم يتعظون بهم، ويحذرون أن ينقضوا العهد، فيصنع بهم مثل ذلك. وفي هذا دلالة على أن الحرب ليست مرغوبة، وإنما هي ضرورة لمنع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الله، وإن القسوة مع ناقضي العهد أمر مطلوب للعظة والعبرة، حتى لا يعودوا هم وغيرهم إلى مثل صنيعهم. وبما أن الوقاية خير من العلاج، أوضح الله تعالى أيضا حكم من ظهرت منه بوادر نقض العهد والخيانة بأمارة من الأمارات، فقال تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ.... أي إن توقعت من قوم معاهدين وغلب على ظنك خيانة بنقض العهد الذي بينك وبينهم، بأمارة ظاهرة وقرينة واضحة، فاطرح لهم عهدهم على سواء، أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، فتكون أنت وهم متساويين في العلم بنقض العهد، وبأنك حرب لهم وهم حرب لك، أي قيام حالة الحرب. والنبذ لغة: الرمي والرفض. والسواء: المساواة والاعتدال. إن الله يكره الخيانة ويعاقب عليها، حتى ولو في حق الكفار، فلا يك منك إخفاء نكث العهد والخداع.

قال الإمام أحمد عن شعبة عن سليم بن عامر: كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدرا، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ومن كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلنّ عقدة، ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء» فبلغ ذلك معاوية، فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه» . وروى الإمام أحمد أيضا عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدعوهم فقال: إنما كنت رجلا منكم، فهداني الله عز وجل للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أبيتم نابذناكم على سواء: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع، غدا الناس إليها، ففتحوها بعون الله تعالى. وروى البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثة، المسلم والكافر فيهن سواء: من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا» . ثم أنذر الله تعالى الخائنين بما يحل بهم من عقاب، وبيّن حال من فات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وغيره، لئلا يبقى حسرة في قلبه نحو من بلغ في إيذائه مبلغا عظيما، فقال: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ... أي لا يظننّ الذين كفروا أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم، ونجوا من عاقبة خيانتهم، وأنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا، فلا يعجزوننا، كقوله تعالى:

_ (1) ورواه أيضا أبو داود الطيالسي عن شعبة، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحة من طرق عن شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

فقه الحياة أو الأحكام:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا، ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي يظنون [العنكبوت 29/ 4] . إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه، وإنما سيجزون على كفرهم، كما قال تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور 24/ 57] وقال تعالى أيضا: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [التوبة 9/ 2] . فالآية تطمين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه منتقم ممن كفروا وآذوه، وقطع لأطماعهم بالتغلب على المؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآية الأولى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ... بيان أوصاف اليهود من بني قريظة، فهم كفرة، ناقضوا العهود على الدوام، لا يتقون الله في غدرهم وخيانتهم. قال أهل المعاني: إنما عطف المستقبل ثُمَّ يَنْقُضُونَ ... على الماضي الَّذِينَ كَفَرُوا ... لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة. قال ابن عباس: هم قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى، فنقضوه أيضا يوم الخندق. ثم أوضح الله تعالى ما يفعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في حق من يجده في الحرب من ناقضي العهد وهو التنكيل الشديد، ليكون عبرة لغيره. ثم ذكر ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد والغش في قوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ وهو نبذ العهد وإعلامه بانتهاء المعاهدة، حتى

يتساوى الطرفان في العلم بقيام حالة الحرب. حكى الطبري عن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. فآية فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ في شأن بني قريظة، الذين كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة حين تحزبوا مع قريش في وقعة الخندق. وآية وَإِمَّا تَخافَنَّ تشمل بني النضير وغيرهم ممن تخاف خيانتهم. وقد تساءل ابن العربي حول آية وَإِمَّا تَخافَنَّ ثم أجاب عن التساؤل، فقال: كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظنّ لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد بظنّ الخيانة؟ والجواب من وجهين: أحدهما- أن الخوف هاهنا بمعنى اليقين، كما يأتي الرجاء بمعنى العلم، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح 71/ 13] . الثاني- إنه إذا ظهرت آثار الخيانة، وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد، لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هاهنا بالظن للضرورة «1» . أي أن قوله: تَخافَنَّ إما بمعنى تعلمنّ، وإما بمعنى تظنن، ويكفي الظن للضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة عام الفتح لما اشتهر منهم نقض العهد، من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. وفي الآية دلالة واضحة على إيجاب الإسلام المحافظة على العهود مع الأعداء، وتحريم الخيانة معهم. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة، يرفع له بقدر غدره، ألا

_ (1) أحكام القرآن: 8/ 860 [.....]

الإعداد الحربي لقتال الأعداء بحسب الطاقة والاستطاعة [سورة الأنفال (8) آية 60] :

ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة» والسبب أن غدره يفقد الثقة بعهوده ومصالحاته، فيعظم ضرره، ويكون ذلك منفّرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد، فيمكن اتخاذ كل الحيل والخديعة معه، وعليه يحمل قوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر: «الحرب خدعة» وإذا كان العدو اليوم مثل اليهود في الأرض المحتلة لا يعتد بعهد ولا ذمّة، فتكون مفاجأته من ألوان الفن الحربي. وهل يجاهد مع الإمام الغادر؟ للعلماء رأيان: ذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. ثم ذكر الله تعالى حال من فاته العقاب يوم بدر، وظل على قيد الحياة، وهو أن شأنهم يسير هيّن على الله، فهم إن تخلصوا من الأسر والقتل لا يعجزون الله من الانتقام منهم في الآخرة، بل لا يعجزونه من العقاب في الدنيا حتى يظفر الله الرسول بهم. والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته، ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه. الإعداد الحربي لقتال الأعداء بحسب الطاقة والاستطاعة [سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) الإعراب: تُرْهِبُونَ بِهِ الهاء في بِهِ إما أن تعود على مَا أو على الرباط، أو على الإعداد المفهوم من قوله: وَأَعِدُّوا.

البلاغة:

وَآخَرِينَ منصوب بالعطف على عَدُوَّ اللَّهِ أي ترهبون آخرين من دونهم. البلاغة: مِنْ قُوَّةٍ نكرة تفيد العموم، فتشمل الإعداد المادي بمختلف الأسلحة المناسبة للعصر، المتطورة حسبما يوجد لدى العدو، المصنّعة في داخل البلاد الإسلامية، وتشمل أيضا الإعداد المعنوي والروحي من حفز المواهب والقوى وإعداد الجيل إعدادا حربيا، وتسليحه بالعقيدة الإسلامية الحقة، وبالأخلاق الدينية الصالحة، وبغير ذلك لا نصر على العدو. المفردات اللغوية: وَأَعِدُّوا الإعداد: التهيئة للمستقبل. لَهُمْ لقتالهم. مِنْ قُوَّةٍ قال صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثا فيما رواه مسلم: «ألا إن القوة: الرمي» وهي الآن: كل ما يتقوى به في الحرب. وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ رباط الخيل: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، فالمراد من رباط الخيل: حبسها واقتناؤها في سبيل الله وإعدادها للجهاد باعتبار أنها كانت في الماضي أداة الحرب المهمة. تُرْهِبُونَ بِهِ تخوفون من الإرهاب والترهيب: وهو الإيقاع في الرهبة: وهي الخوف المقترن بالاضطراب. عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ هم في الماضي كفار مكة، والآن: كل من يعادي الإسلام ويتآمر عليه وعلى المسلمين. وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي غيرهم وهم المنافقون أو اليهود. يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه إليكم. وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون منه شيئا. المناسبة: بعد أن أمر الله رسوله بتشريد ناقضي العهد، ونبذ العهد إلى من خاف منه النقض، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار، وهذا أمر طبيعي يستتبع نقض العهد وقيام حالة الحرب. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى المؤمنين بإعداد آلات الحرب المناسبة لكل عصر، وإعداد الجيش المقاتل على أرفع المستويات لأن الجيش درع الأمة وحصنها المنيع، وذلك بحسب الطاقة والإمكان والاستطاعة. فقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ... أي هيئوا لقتال الأعداء ما أمكنكم من

أنواع القوى المادية والمعنوية المناسبة لكل زمان ومكان، ومن مرابطة الخيول في الثغور والحدود لأنها منفذ الأعداء ومواطن الهجوم على البلاد، وقد كانت الخيول أداة الحرب البرية الرهيبة في الماضي، وما تزال لها أهميتها أحيانا في بعض ظروف الحرب الحاضرة، مثل حال استعمال السلاح الأبيض والتجسس ونقل بعض المؤن والذخيرة في الطرق الجبلية، وإن كان الدور الحاسم اليوم هو لسلاح الطيران، والمدافع، والدبابات، والغواصات البحرية، فصار ذلك هو المتعين إعداده بدلا من الخيول لأن المهم تحقيق الأهداف، وأما الوسائل والآلات فهي التي يجب إعدادها بحسب متطلبات العصر، ويكون المقصود هو إعداد جيش دائم مستعد للدفاع عن البلاد، ويتم ذلك بالمال المخصص لهذه المهمة، ودعمه بالسلاح الذي ينفق عليه من المسلمين بحسب الطاقة. وقد خص الله الخيل بالذكر، وإن كانت داخلة في القوة، تشريفا لها، وتكريما، واعتدادا بأهميتها. ثم ذكرت الآية سبب الإعداد وهدفه وهو إرهاب عدو الله وعدو المسلمين من الكفار الذين ظهرت عداوتهم كمشركي مكة في الماضي، وإرهاب العدو الخفي الموالي لهؤلاء الأعداء، سواء أكان معلوما لنا أم غير معلوم، بل الله يعلمهم لأنه علام الغيوب. وهذا يشمل اليهود، والمنافقين في الماضي، ومن تظهر عداوته بعدئذ مثل فارس والروم، وسلالاتهم في دول العالم المعاصر. وبغير الإعداد الملائم للحرب في كل عصر لا يصان السّلام، وصون السّلام عرفا وعادة وعقلا لا يكون إلا بآلات الحرب الحديثة. وبما أن الإعداد للجهاد لا يتوافر بغير المال، حثّ القرآن على الإنفاق في سبيله، فقال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ... أي أن كل شيء قليل أو كثير تنفقونه في الجهاد في سبيل الله، فإنه يوفى لصاحبه، ويجازى عليه على أتم وجه وأكمله، ولا ينقص منه شيء. جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: أن الدرهم

فقه الحياة أو الأحكام:

يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ، كما نص تعالى في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 261] . وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات. وهذا يدل على أن الإعداد الحربي متوقف على إنفاق المال الكثير في سبيله. ومردود النفقة في الواقع يعود إلى المنفق في الدنيا بتحصين ماله وأرضه وتجارته وصناعته مثلا، وفي الآخرة بالظفر في جنان الخلد جزاء ما قدم، كما قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة 2/ 272] . فقه الحياة أو الأحكام: ما تزال الأمم قديما وحديثا تعنى بإعداد وتجهيز الجيوش الضاربة المقاتلة للدفاع عن وجودها وعزتها وكرامتها، وحماية حدودها، وصون أمنها ومجدها ورخائها. لذا أمر الله المؤمنين بالإعداد الدائم للقوة الحربية لمواجهة الأعداء، وفي هذا كما أشارت الآية إرهاب للعدو، ومنعه من التفكير في العدوان على الأمة والمقدسات. وبما أن الإعداد المادي والأدبي والفني للجهاد متوقف على الدعم المالي، أوجب الله على المؤمنين المساهمة في الإنفاق على متطلبات القتال بحسب الحاجة وعلى قدر الطاقة والسعة. وقد استدل بعض علماء المالكية بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزّان لها، عدّة للأعداء. وقد اختلف العلماء في جواز وقف

إيثار السلام وتوحيد الأمة وتحريضها على القتال [سورة الأنفال (8) الآيات 61 إلى 66] :

الحيوان كالخيل والإبل على قولين: قول بالمنع وهو لأبي حنيفة، وقول بالصحة وهو قول الشافعي والجمهور، وهو أصح لهذه الآية، وقوله عليه الصلاة والسّلام في حق خالد: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده «1» في سبيل الله» ولأنه مال ينتفع به في وجه يعد قربة، فجاز أن يوقف كالديار والأراضي. إيثار السّلام وتوحيد الأمة وتحريضها على القتال [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 66] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

_ (1) الأعتاد: آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها.

الإعراب:

الإعراب: حَسْبُكَ اللَّهُ مبتدأ وخبر، والمعنى: يكفيك الله، فكأنه قال: يكفيك الله وتابعك. وَمَنِ اتَّبَعَكَ الواو بمعنى (مع) وما بعده منصوب، تقول: حسبك وزيدا درهم، ولا تجرّ لأن عطف الظاهر المجرور على المكني ممتنع، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا. ومَنِ: إما مرفوع عطفا على لفظ اللَّهُ أي حسبك الله وتابعوك، أو مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: ومن اتبعك من المؤمنين كذلك. وإما منصوب بالحمل في العطف على المعنى. وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ ... فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ ... من قرأ يكن بالياء على التذكير فللفصل بين الفعل والفاعل، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث المائة. البلاغة: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... الآية فيها ما يسمى بالإطناب، للتذكير بنعمة الله العظمى على الرسول والمؤمنين، وهي نعمة التأليف ووحدة الأمة. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فيه ما يسمى بالاحتباك وهو إثبات قيد الصبر في الشرط الأول، وحذف نظيره من الشرط الثاني، وإثبات صفة الكفر من الآية الثانية وحذفها من الأولى، ثم ختمت الآية بالصابرين للمبالغة في الطلب. المفردات اللغوية: وَإِنْ جَنَحُوا مالوا. لِلسَّلْمِ بكسر السين وفتحها: الصلح، والإسلام دين السّلام، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة 2/ 208] . فَاجْنَحْ لَها مل إليها وعاهدهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للقول. الْعَلِيمُ بالفعل. أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح ليستعدوا للحرب. فَإِنَّ حَسْبَكَ كافيك وناصرك عليهم. حَرِّضِ حث على القتال. بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم. قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يدركون حكمة الحرب وما تؤدي إليه من سعادة الدنيا والآخرة. إِنْ يَكُنْ هذا خبر بمعنى الأمر، أي ليقاتل العشرون منكم المائتين، والمائة ألفا، ويثبتوا لهم، ثم نسخ ذلك لما كثروا، بالآية التالية. أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عن قتال الواحد عشرة أمثاله. بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته. وَإِنْ يَكُنْ خبر بمعنى الأمر أي لتقاتلوا مثليكم وتثبتوا لهم. مَعَ الصَّابِرِينَ أي يعينهم.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (64) : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ: قال الزمخشري في الكشاف نقلا عن الكلبي: هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. وهذا هو الراجح. وقيل: نزلت في إسلام عمر، والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سورة مدنية، كما ذكر القشيري. قال ابن عباس: نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة فأسلم عمر، وصاروا أربعين. وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لما أسلم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة، ثم أسلم عمر، نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الآية. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: لما أسلم عمر، أنزل الله في إسلامه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الآية. لكن ورد في السيرة خلاف ما ذكر عن إسلام عمر، قال ابن مسعود: ما كنا نقدر على أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا، حتى صلّى عند الكعبة، وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة. قال ابن إسحاق: وكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا، أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا. نزول الآية (65) : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ: أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده

المناسبة:

عن ابن عباس قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة، ثقل ذلك عليهم وشق، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحد رجلين، فأنزل الله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ... الآية وما بعدها. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بإعداد العدة لإرهاب الأعداء، أمر هنا بالصلح القائم على العزة والكرامة، وأنه عند توافر الرهبة إذا مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح لأن الحرب ضرورة لرد العدوان، وتحقيق حرية نشر الإسلام، ومنع الظلم والطغيان، والضرورة تقدر بقدرها، فلا يلجأ إليها إلا إذا استعصت الحلول السلمية. التفسير والبيان: بعد توافر الإعداد الحربي والاستعداد التام للجهاد إن مال العدو إلى طلب الصلح، وآثر السلم على الحرب والقتال، فالحكم قبول الصلح حسبما يرى الإمام من المصلحة، قال الزمخشري: والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله، من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا «1» . ومعنى الآية: وإن جنح، أي مال الأعداء إلى السلم أو الهدنة والصلح، فمل إليها لأنك أولى بالسلم منهم، وصالحهم وتوكل على الله أي ثق به، وفوّض الأمر إليه، ولا تخف من مكرهم وغدرهم في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم، والله سميع لما يقولون، عليم بما يفعلون.

_ (1) الكشاف: 2/ 22

وإن يريدوا بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم، فهو كافيك وحده. وهذا دليل واضح على إيثار السلم وتفضيله على الحرب لأن الإسلام دين السّلام والهداية والمحبة، ولا يلجأ في شرعه إلى القتال إلا عند وجود الظروف القاهرة، والضرورات الملجئة. ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من شروط مجحفة في حق المسلمين. روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه سيكون اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل» . وأما ما نقل عن ابن عباس وجماعة آخرين من التابعين: أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [29] ففيه نظر، كما ذكر ابن كثير لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفا، فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص «1» . ثم ذكر الله تعالى نعمته عليه بما أيده من المؤمنين: المهاجرين والأنصار، فقال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أي لا تأبه بمكرهم وخديعتهم، فإن الله أيدك بنصره ومعونته، وأيدك بالمؤمنين، وجعلهم أمة متآلفة واحدة على الإيمان بك وعلى طاعتك، وعلى مناصرتك ومؤازرتك، فكان التأييد على

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 322- 323

قسمين: تأييد مباشر من الله من غير توسط أسباب معلومة، وتأييد معتمد على أسباب معتادة معلومة. ثم أبان الله تعالى كيفية تأييده بالمؤمنين وتوحيد صفوفهم، فقال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... أي إنه تعالى جعلهم أمة واحدة متآلفة، متعاونة في مناصرتك، بعد ما كان بينهم من العداوة والبغضاء إثر منازعات وحروب طويلة في الجاهلية، كما كان الحال بين الأوس والخزرج من الأنصار، ثم أزال الله كل تلك الخلافات بنور الإيمان، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ... [آل عمران 3/ 103] . ولو أنفقت جميع ما في الأرض من أموال، ما استطعت تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولكن الله بهدايتهم للإيمان، وتوحيدهم على صراط مستقيم سوي، أمكنه بقدرته وحكمته التأليف بينهم. وهذا دليل واضح على أن من أهم أسباب النصر هو التآلف واتحاد الكلمة. ولم يقتصر التأليف على تسوية المنازعات الجاهلية القديمة، وإنما شمل تسوية المنازعات الجديدة التي حدثت بعد الإسلام، كما وقع من خلاف بين المهاجرين والأنصار، حين قسمة الغنائم في حنين، جاء في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وعالة «1» فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ. ولهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي إنه تعالى

_ (1) أي فقراء.

قوي غالب على أمره، لا يغلبه خداع الخادعين، ولا مكر الماكرين، ولا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه. وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي عن ابن عباس قال: «قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب» يقول الله تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ. وبعد أن وعد تعالى رسوله بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في جميع الحالات في الدين والدنيا، فلا تكرار، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ... أي إن الله كافيك ما يهمك من شؤونهم وناصرك ومؤيدك على عدوك، وإن كثرت أعداده، وتزايدت أمداده، ولو قلّ عدد المؤمنين، وحسبك وكافيك من تبعك وآمن بك من المؤمنين. لكن وإن كان يكفيك الله بنصره وبنصر المؤمنين، فلا يعني ذلك تعطيل الأسباب والأخذ بالوسائل المطلوبة عادة للقتال، فلا تتكل على ذلك وحده، وإنما عليك أن تحرض المؤمنين على القتال، فإنه تعالى يكفيك بشرط أن يبذلوا النفس والمال في المجاهدة. والتحريض: الحث على الشيء. ثم قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وليس المراد منه الإخبار، بل المراد الأمر، كأنه قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ أي إن يوجد منكم عشرون صابرون ثابتون في مواقعهم، يغلبوا بإيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكفار ليست عندهم هذه الخصال الثلاث، لذا قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي أن السبب في هزيمة الكفار أنهم قوم جهلة لا يدركون حكمة الحرب كما تدركونها، فهم إنما يقاتلون بقصد مجرد التفوق والاستعلاء، وأنتم تقاتلون لإعلاء كلمة الله، من إصلاح العقيدة، والتطهر من الوثنية، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وإظهار

العبودية لله عز وجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء 44/ 76] وقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ [الحج 22/ 41] . ثم إنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، وأما أنتم فتنتظرون إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة في سبيل الله والظفر بالجنة. وفي الآية عدة من الله وبشارة بأن جماعة المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده. وفيها أيضا أن من شأن المؤمنين أن يكونوا واعين لأهداف القتال، يعملون لما يرضي الله عز وجل، وأن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يصلح حياة البشر وارتقاء الأمم. أما الكفار والمشركون واليهود والنصارى فهم قوم ماديون يبغون من حروبهم مجرد التسلط والشهرة وإذلال الشعوب الأخرى. ووقوف المسلم أمام عشرة من الكفار كان في مبدأ الأمر حيث كان المسلمون قلة، فطولبوا بالمرتبة العليا من الأفعال الكريمة وهي مرتبة العزيمة، وأما بعد أن كثر المسلمون، فلم يطالبوا إلا بما هو رخصة وتيسير وسهولة، لذا جاءت الآية التالية مخففة نوع التكليف، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ أي لما أوجب الله على المسلم الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم، وثقل ذلك عليهم، خفف عنهم إلى مرتبة أقل منها، هي مقاومة الواحد الاثنين، فإن يكن منكم مائة صابرة، بعد أن علم فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل، يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف صابرون يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته ومشيئته، والله دائما مع الصابرين بالمعونة والتأييد والرعاية. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة،

فقه الحياة أو الأحكام:

فجاء التخفيف فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ... الآية قال: فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وفي كلا الحالين يطالب المسلمون القلة بمقاومة الجماعة الأكثر منهم لأن العبرة بالانضباط والصبر، والحزم والعزم، وصدق الإيمان، واتباع أوامر الله تعالى. وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تحذير للمؤمنين من الاعتماد على الإيمان وحده لتحقيق النصر والغلبة، فإنه لا بد مع الإيمان من أوصاف أخرى، أهمها الصبر والثبات، والإعداد المادي والنفسي الدائم، والمعرفة بحقائق الأمور، ومقاصد الجهاد. وقد تكرر الأمر بالثبات فردا وجماعة والصبر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى في الثبات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال 8/ 45] وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف 61/ 4] وقوله تعالى في الصبر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران 3/ 200] وقوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال 8/ 46] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت آية وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ على الأمر بقبول عقد الصلح والمهادنة أو المسالمة إن مال إليه العدو، وعلى الأمر بالتوكل على الله، أي تفويض الأمر فيما عقد من صلح إلى الله، ليكون عونا على السلامة، والنصر عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء. ونبه تعالى في آخر الآية بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على الزجر عن نقض الصلح لأنه تعالى عالم بما يضمره العباد، وسامع لما يقولون. وفي هذا دلالة واضحة على أن الإسلام يؤثر السلم على الحرب، ويوجب

الوفاء بالمعاهدات والمصالحات، ويحرم المبادرة إلى الغدر والخيانة ونقض العهود. وقد أثير خلاف حول هذه الآية، هل هي منسوخة أو لا؟ فقال قتادة وعكرمة: نسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة 9/ 36] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا: لا إله إلا الله. وقال ابن عباس الناسخ لها: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد 47/ 35] . وقال جماعة: ليست بمنسوخة، لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان فيه المصلحة، فإذا رأى الإمام مصالحتهم، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة، وإن كانت القوة للمشركين، جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة. وصالح أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وصالح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها، فنقض صلحهم. وقد صالح الضّمري (مخشي بن عمرو، من بني ضمرة بن بكر، في غزوة الأبواء) وأكيدر دومة (أكيدر بن عبد الملك، من كندة، ودومة: هي دومة الجندل، مدينة قريبة من دمشق) وأهل نجران. وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل عاملة وسالكة. والخلاصة كما ذكر ابن العربي: إذا كان للمسلمين قوة وعزة ومنعة فلا صلح،

وإن كان لهم مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه فلا بأس بالصلح. «1» وقد نقلت سابقا عن ابن كثير ترجيحه أن الآية غير منسوخة وغير مخصصة، ولا منافاة بينها وبين أوامر القتال، فهذه الأوامر عند الاستطاعة، والصلح عند العجز وقوة العدو وعدم التكافؤ بين قوتنا وقوته. وكذلك قال الجصاص: قد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة، وعاهد قبائل من المشركين، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك، وذلك قبل أن يكثر المسلمون. فلما كثر المسلمون لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ويقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضا. وعقد الصلح جائز غير لازم للمسلمين باتفاق العلماء، فيجوز نبذه إذا ظهرت أمارات الخيانة والنقض والغدر. ويجوز- كما ذكر ابن العربي- عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال، يبذلونه للعدو، بدليل موادعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب، على أن يعطيه نصف تمر المدينة، فقال له السعدان: إن كان هذا الأمر من قبل الله فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به، ولك فيه هوى، فسمع وطاعة، وإن كان الرأي والمكيدة، فأعلمنا به، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إنما هو الرأي والمكيدة لأني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة، فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم. فقال

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 69

السعدان: إنا كنا كفارا، وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى، فإذ أكرمنا الله بك، فلا نعطيهم إلا السيف، وشقّا الصحيفة التي كانت كتبت «1» . ودلت آية: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ على حكم من أحكام الصلح، وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم يبنى على الظاهر، كما يبنى الإيمان على الظاهر. وأرشدت آية وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ إلى أن تألف القلوب الشديدة في العرب من آيات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته لأن أحدهم كان يلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حميّة، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدّين. والله تعالى أيّد نبيه بمناسبة الصلح مع المشركين في حالين: خاصة وعامة، وليس ذلك من قبيل التكرار، ففي الآية الأولى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ كفاية خاصة، وهي حال الخديعة، أي وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء. وفي الآية الثانية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كفاية عامة أي حسبك الله وكافيك وناصرك في كل حال. واستدل أهل السنة بقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ على أن أحوال القلوب والعقائد والإرادات والكرامات، كلها من خلق الله تعالى، بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسّلام «2» . ودلت هذه الآية أيضا على أن العرب كانوا قبل الإسلام في خصومة دائمة ومحاربة شديدة، يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض، فلما آمنوا بالله

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 865 (2) تفسير الرازي: 15/ 189

ورسوله واليوم الآخر، زالت الخصومات، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة. وقد أيد الله رسوله بمعونته ونصرته وبالمؤمنين من المهاجرين، وهذه آية ربانية ومعجزة أخرى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذي كان فردا وحده يدعو إلى الإسلام، فأيده الله بتوفيقه، وحماه بالمؤمنين التابعين من حوله، في مكة والمدينة. وأرشدت آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إلى أن الواجب على المسلمين الإقدام على الجهاد بروح وثابة عالية، وشجاعة فائقة، وصبر شديد، وعزيمة لا تلين، حتى إنه كان المسلم مطالبا في مبدأ الأمر بالصمود أمام العشرة من الأعداء، ثم خفف الله عنه، فاكتفي بمطالبته بالثبات أمام اثنين فقط. وهذا بدليل قول ابن عباس المتقدم، فإن الثبات أمام العدو فرض على المسلمين، لا اختيار لهم فيه، ويحرم عليهم الانهزام أمام ضعفي العدد لأن قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ... وإن ورد بصيغة الخبر، فالمراد به الأمر، والأمر يقتضي الوجوب لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به، لا في المخبر عنه. ونظرا لوجود التخفيف، فلا محالة- كما قال الجصاص- قد وقع النسخ عن المسلمين فيما كلفوا به أولا، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم، ولا قلّ صبرهم، وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً «1» . ودل قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ على أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله، أي إرادته. ودل قوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ على تأييد الله الصابرين وإعانتهم.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 71

شرط اتخاذ الأسرى وقبول الفداء منهم وإباحة الانتفاع به [سورة الأنفال (8) الآيات 67 إلى 71] :

ودل قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ على وجود فوارق بين قتال المسلمين وقتال الأعداء، وتلك الفوارق توضح علة الغلبة والنصر وهي: 1- من حيث الهدف: إن هدف غير المؤمن بالله وبالمعاد هو مجرد الاستمتاع بالحياة الدنيا والسعادة فيها، فيكون متمسكا بها، حريصا عليها، هيابا من الموت. أما المؤمن فيعتقد ألا سعادة في هذه الحياة، وأن السعادة لا تكون إلا في الآخرة، فلا يبالي بالحياة الدنيا، ويقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، حتى إنه يقاوم العدد الكثير. 2- من حيث الوسيلة: يعتمد الكفار على قوتهم وشوكتهم، ويستعين المسلمون بربهم بالدعاء والتضرع، فيكون النصر والظفر لهم أولى. 3- من حيث الباعث: إن قلب الكافر خاو من نور الله والإيمان به والعلم والمعرفة، فيكون جبانا ضعيفا عند القتال. وأما قلب المؤمن فيستضيء بنور الله ومعرفته، فيقوى قلبه وتكمل روحه، فيقدم على القتال بروح عالية لا تعرف التردد والضعف. شرط اتخاذ الأسرى وقبول الفداء منهم وإباحة الانتفاع به [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

الإعراب:

الإعراب: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ كِتابٌ: مبتدأ مرفوع، مِنَ اللَّهِ: صفة له، تقديره: ثابت من الله، وسَبَقَ: فعل ماض، محله إما مرفوع على أنه صفة أخرى لكتاب، وإما منصوب على أنه حال من الضمير الذي في الظرف أي مِنَ اللَّهِ. وخبر المبتدأ محذوف تقديره: لولا كتاب بهذه الصفة تدارككم، لمسّكم. ولا يجوز جعل سَبَقَ خبر المبتدأ لأن الخبر بعد لولا لا يجوز إظهاره. حَلالًا طَيِّباً حَلالًا: منصوب على الحال من مِمَّا أي المغنوم، أو صفة للمصدر، أي أكلا حلالا، وفائدته: إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على الأولين، ولذلك وصفه بقوله: طَيِّباً. وقوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ أي من الفدية فإنها من جملة الغنائم، والفاء للتسبب، ولسبب محذوف تقديره: أبحت لكم الغنائم فكلوا، وهو دليل لمن قال: إن الأمر الوارد بعد الخطر للإباحة. المفردات اللغوية: ما كانَ لِنَبِيٍّ ما صح وما ينبغي له وما شأنه. يُثْخِنَ يكثر القتل ويبالغ فيه. تُرِيدُونَ أيها المؤمنون. عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء من الأسرى. وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يريد لكم ثواب الآخرة بقتلهم. وَاللَّهُ عَزِيزٌ قوي لا يغلب وإنما يغلب أولياءه على أعدائه. حَكِيمٌ في صنعه وحكمه يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها. كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده، أو ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم، أو بإحلال الغنائم والأسرى لكم. لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء. إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً إيمانا وإخلاصا. يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء بأن يعوضكم عنه في الدنيا ويثيبكم في الآخرة. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم.

سبب النزول:

وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى. خِيانَتَكَ بما أظهروا من القول. مِنْ قَبْلُ قبل بدر بالكفر. فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ببدر قتلا وأسرا، فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا. عَلِيمٌ بخلقه. حَكِيمٌ في صنعه. سبب النزول: نزول الآية (67) : ما كانَ لِنَبِيٍّ: روى أحمد وغيره عن أنس قال: استشار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه، فقام أبو بكر فقال: نرى أن نعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء، فأنزل الله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية. وروى أحمد والترمذي والحاكم عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر، وجيء بالأسارى، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ الحديث. وفيه: فنزل القرآن بقول عمر: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الآيات. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لم تحل الغنائم، لم تحل لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء، فتأكلها، فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وأخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر: اقتلهم، فقال قائل: أرادوا قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهدم الإسلام، ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.

فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقول أبي بكر، ففاداهم فنزل: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فقال رسول الله: إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر» . فهذه الروايات تدل بالاتفاق على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخذ برأي أبي بكر، وقبل الفداء من أسرى بدر، وتذكر الرواية الثانية والرابعة أن القرآن نزل تشريعه موافقا لرأي عمر، وتنفرد الرواية الثانية عند الترمذي أن نزول الآية كان بسبب أخذ الغنائم قبل أن تحل لهم. وفي رواية خامسة عند ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن الأعمش عن ابن مسعود توضيح أكثر، يجعل الآراء ثلاثة، قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأصلك استبقهم واستأن بهم لعل الله عز وجل يتوب عليهم. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك، فقدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم نارا، فقال العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يجبهم. ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله، ثم خرج عليهم فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله عز وجل ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة. وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم 14/ 36] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة 5/ 118] . وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ،

وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يونس 10/ 88] ومثلك يا عمر كمثل نوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أنتم اليوم عالة، أنتم اليوم عالة، فلا ينفلتنّ منهم أحد، إلا بفداء أو ضرب عنق؟ قال ابن مسعود: فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الآيات «1» . وتنفرد رواية سادسة ذكرها مسلم وأحمد عن عكرمة بن عمارة عن ابن عباس في وصف حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبي بكر بعد نزول الآية، وتصرح بأن الذين اختاروا الفداء كثيرون، قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر والتقوا، فهزم الله المشركين، وقتل منهم سبعون رجلا، وأسر سبعون رجلا، استشار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكّن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله عز وجل أنه ليس في قلوبنا موادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد، قال عمر: غدوت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو قاعد، وأبو بكر الصديق، وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني، ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت؟

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 136 وما بعدها.

نزول الآية (70) :

فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة، وأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي من الفداء وهذه الرواية أجمع الروايات وأصحها وأولاها بالاحتجاج بها. والخلاصة: كان الأولى قتل الأسرى، وكان أخذ الفداء باجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكل اجتهاد عرضة للخطأ والصواب، لكن اجتهاد المصطفى لا يقر فيه على الخطأ. روى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر، ففادوهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة. نزول الآية (70) : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ: روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال العباس: فيّ والله نزلت حين أخبرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي وجدت معي، فأعطاني بها عشرين عبدا، كلهم تاجر بمالي في يده، مع ما أرجو من مغفرة الله. وفي رواية أخرى أكثر إيضاحا، قال الكلبي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الآية: نزلت في العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسر يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب، كان خرج بها معه إلى بدر ليطعم بها الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، ولم يكن بلغته التّوبة حتى أسر، فأخذت معه وأخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منه، قال:

المناسبة:

فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لي العشرين أوقية الذهب التي أخذها مني من فدائي، فأبى عليّ وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا، وكفلني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة، فقلت له: تركتني والله أسأل قريشا بكفي، والناس، ما بقيت. قال: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل مخرجك إلى بدر، وقلت لها: إن حدث بي حدث في وجهي هذا، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم، قال: قلت: وما يدريك؟ قال: أخبرني الله بذلك، قال: أشهد أنك لصادق، وإني قد دفعت إليها ذهبا، ولم يطلع عليها أحد إلا الله، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. قال العباس: فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني، كما قال: عشرين عبدا، كلهم يضرب بمال كبير، مكان العشرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربي «1» . وروى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس: أن العباس وأصحابه قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، فنزل: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً الآية. المناسبة: الآيات متصلة بما قبلها في بيان الأحكام الحربية بمناسبة غزوة بدر، فهي لتبيان حكم آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو حكم الأسرى في مبدأ قيام الدولة الإسلامية وهو القتل. التفسير والبيان: ما صح لنبي وما استقام له وما كان شأنه الذي ينبغي أن يكون له أسرى يختار فيهم إما المنّ أو الفداء في مبدأ أمره حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 138

فيه، لإظهار عزة الإسلام والمسلمين. وإرهاب الدولة أعداءها، واشتداد أمرها، فلا يتجرأ على النيل منها أحد، ولا يقدم على إضعافها والتجسس عليها أحد من الأسرى الذين تركوا يعودون لديارهم بفداء مالي. فالذين يرون قبول الفداء إنما يريدون الحصول على عرض الدنيا «1» أي حطام الدنيا الفاني، والله يريد لكم ثواب الآخرة الدائم وما هو سبب الجنة بما يشرعه لكم من الأحكام المؤدية إليه، ومنها الإثخان في القتل في الأرض، وإعزاز الدين، والقضاء على الأعداء، لإعلاء كلمة الحق، وإقامة العدل، وإقرار النظام الأصلح للبشرية. والله عزيز يغلّب أولياءه على أعدائه، ويمكنهم منهم قتلا وأسرا، حكيم في أفعاله وأوامره، يشرع لكل حال ما يليق به، ويخصه به، كالأمر بالإثخان ومنع أخذ الفداء حين كانت الشوكة والقوة للمشركين، وبذلك تتحقق عزة المؤمنين كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] . لولا كتاب من الله سبق أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ «2» : وهو أنه لا يعاقب المخطئ في اجتهاده لأن أصحاب هذا الرأي نظروا ورأوا أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأضعف لشوكتهم. وقيل: إن الحكم الذي سبق هو ألا يعذب أهل بدر فهم مغفور لهم، أو ألا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة والبيان، والتصريح المتقدم بالنهي عن الفداء، ولم يكن قد تقدم نهي عن ذلك، أو أنهم استعجلوا في استباحة الغنائم، ولم تكن قد أحلت لهم، والله تعالى سيحلها لهم.

_ (1) إنما سميت منافع الدنيا ومتاعها عرضا لأنه لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول. (2) سيأتي جواب: لولا في مطلع الصفحة الآتية.

لولا هذا الحكم الإلهي السابق إبرامه لنالكم أيها المؤمنون فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعة، شديد هوله. وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا. وبعد أن عاتبهم الله تعالى على أخذ الفداء، أباحه لهم وجعله من جملة الغنائم المباحة التي أبيحت لهم في مطلع السورة، فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ... أي أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم من الفدية، حال كونه حلالا لكم، طيبا بنفسه لا حرمة فيه لذاته، كحرمة الدم ولحم الخنزير، أو كلوه أكلا حلالا لا شبهة فيه. والفائدة إزاحة ما وقع في نفوسهم من أكل الفداء بسبب تلك المعاتبة أو حرمة الغنائم على الأولين. واتقوا الله في مخالفة أوامره، ولا تعودوا لشيء من المخالفة لأمره ونهيه، ولا ترتكبوا المعاصي بعد ذلك، إن الله غفور لذنوبكم بأخذ الفداء، رحيم بكم بإباحته لكم ما أخذتم، ومن رحمته: قبوله التوبة عن عباده وعفوه عن السيئات. والخلاصة: أن مفاداة الأسرى أو المنّ عليهم بإطلاق سراحهم لا يكون إلا بعد توافر الغلبة والسلطان على الأعداء، وإظهار هيبة الدولة في وجه الآخرين. وبعد أن أخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الفداء من الأسرى، وشق عليهم أخذ أموالهم منهم، أنزل هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ ... استمالة لهم، وترغيبا لهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم إذا بقوا على الكفر. ومعنى الآية: يا أيها النبي قل لمن وقع في أيديكم من أسرى المشركين الذين أخذتم منهم الفداء: إن يعلم الله في قلوبكم الآن أو في المستقبل إيمانا وإخلاصا وحسن نية وعزما على طاعة الله والرسول في جميع التكاليف، والتوبة عن الكفر، وعن جميع المعاصي، ومنها العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته، يؤتكم

فقه الحياة أو الأحكام:

خيرا مما أخذ منكم من الفداء، ويغفر لكم ما كان منكم من الشرك والسيئات، والله غفور لمن تاب عن المعاصي، رحيم بالمؤمنين، فهو يمدهم بعنايته وتوفيقه وإسعاده. قال ابن عباس: الأسرى في هذه الآية العباس وأصحابه، قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحنّ لك على قومك، فنزلت هذه الآية. وفي هذا حض على إعلان الإسلام وقبول دعوته. وإن يريدوا أي الأسرى خيانتك يا محمد بإظهار الإسلام والمسالمة، ثم نقض ما عاهدوك عليه، فلا تخف من خيانتهم، فإنهم قد خانوا الله من قبل بدر بالكفر، ونقض ميثاقه الذي أخذه على البشر في قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] ، وأقام الأدلة الكونية والعقلية عليه، وآتاهم من العقل الذي يرشد المتأمل بحق إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى. فأمكن منهم، أي فأمكنك منهم يوم بدر، وإن عادوا إلى الخيانة فسيمكّنك منهم، ويسلطك عليهم فتهزمهم. والله عليهم بنو إياهم، حكيم في تدبيره وصنعه، فينصر المؤمنين على الكافرين. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بوعده بالنصر، ووعيده لهم بالهزيمة لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود، ومهيمن على جميع البشر، وقادر على تحقيق ما يريد. فقه الحياة أو الأحكام: آية: ما كانَ لِنَبِيٍّ نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب

نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم. والمستفاد منها أنه ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان أي القتل والتخويف الشديد. وهذه الآية إحدى موافقات الوحي لرأي عمر، وقد بلغت بضعا وثلاثين. ولقد كان هذا الحكم مناسبا لبدء قيام الدولة الإسلامية، ولا شك أن لكل دولة في بداية تأسيسها أحكاما وظروفا وقتية، تستدعيها المصلحة واستكمال قيام الدولة، وهذا الحكم القتل المشروع للأسرى من الأعداء مجرمي الحرب، وليس التقتيل الداخلي للشعب بعد قيام الثورة مثلا. ولم يكن فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلا اجتهادا واختيارا لأحد أمرين مشروعين: هما القتل وأخذ الفداء. فهو فعل لخلاف الأولى، وليس في ذلك مساس أصلا بعصمة الأنبياء عليهم السّلام كما فهم بعضهم لأن المساس بالعصمة يحصل إذا خالف النبي نصا صريحا أو أمرا قائما، ولم يكن هناك نص أو أمر سابق بالقتل، بدليل مشاورة الصحابة، إذ لا يجوز له بحال ترك حكم النص، وطلب الحكم من مشاورة الصحابة. وأما بكاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيحتمل أن يكون بسبب الخطأ في الاجتهاد، وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقد أقدم على البكاء لأجل هذا المعنى، بسبب حرصه الشديد على الإصابة فيما ارتاه، وموافقة اجتهاده حكم الله في المسألة. وعلى كل حال، فقد قتل بعض أسرى بدر وهم اثنان أو ثلاثة وهم: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي، لكنه لم يحقق الإثخان في الأرض، وحاول بعض المستشرقين الطعن بذلك، فكيف لو قتل جميع الأسرى، وكان عددهم سبعين، فيهم العباس عم النبي وعقيل بن أبي طالب ابن عمه؟! أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال للناس: «إن شئتم أخذتم فداء

الأسارى، ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم قتلوا وسلمتم» فقالوا: نأخذ الفداء، ويستشهد منا سبعون. وإذا كان التخيير بين القتل وأخذ الفداء، فكيف وقع التوبيخ بقوله: لَمَسَّكُمْ؟ الجواب: أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك. وأما قوله تعالى: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون، فأصح الأقوال- في رأي ابن العربي والقرطبي- في كتاب الله السابق: ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا، فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم، فأنزل الله عز وجل: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي بتحليل الغنائم. وبما أن هذه الآية في إحلال الغنيمة، واستحقاق العذاب بما اقتحموا فيها مما ليس لهم اقتحامه إلا بشرع، استنبط ابن العربي من ذلك بأن الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما، مما هو في علم الله حلال، إنه لا عقوبة عليه، كالمرأة إذا قالت: هذا يوم حيضتي فأفطر، والصائم إذا قال: هذا يوم نوبتي في سفري فأفطر، ثم حدث الحيض والسفر فعلا، ورجح ابن العربي ألا كفارة في هذه الحالة لأن حرمة اليوم ساقطة عند الله، فصادف هتك حرمة الصوم محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفّت إليه، وهو يعتقد أنها ليست بزوجة، فإذا هي زوجة. وهذا رأي أبي حنيفة. ومشهور مذهب المالكية والشافعي أن فيه الكفارة «1» . والمعنى الراجح لقوله: كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ في رأي الرازي: لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 872

وظاهر قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ يقتضي أن تكون الغنيمة كلها ملكا للغانمين، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء إلا أن قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ المتقدم بيّن وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى مصارفه المذكورة. وفي الآية أيضا إباحة الغنائم التي كانت محظورة قبل ذلك، عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم» . وأرشدت الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إلى أنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان. وتضمنت بشارة للمؤمنين باستمرار النصر على المشركين، ما داموا آخذين بأسباب النصر المادية والمعنوية. روى البخاري عن أنس: «أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ترك فداء عمه العباس رضي الله عنه، وكان في أسرى المشركين يوم بدر، فقالوا: ائذن لنا، فنترك لابن أختنا «1» العباس فداءه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: والله لا تذرون منه درهما» . وكان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا، فجعل على العباس مائة أوقية (لأنه كان موسرا) وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ قال: فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ فقال العباس (بعد إسلامه) : وددت لو كان أخذ مني أضعافها، لقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ. وذكر ابن العربي أنه لما أسر من أسر من المشركين، تكلم قوم منهم بالإسلام، ولم يمضوا بذلك عزيمة، ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين، ولا يبعدوا من المشركين، فنزلت الآية.

_ (1) لأن جدته كانت أنصارية. [.....]

أصناف المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى الإيمان والهجرة [سورة الأنفال (8) الآيات 72 إلى 75] :

قال المالكية: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه، ولم يمض به عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن، كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها. وقد بيّن الله لرسوله الحقيقة فقال: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك، فأمكنك منهم، وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله، فيقبل ذلك منهم، ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم «1» . والمراد بالخير في قوله: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ يشمل خيري الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيخلفهم الله أفضل مما أخذ منهم، وأما في الآخرة فيعطيهم الثواب ويدخلهم الجنة. وذلك يشمل كل من أخلص من الأسارى. أصناف المؤمنين في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بمقتضى الإيمان والهجرة [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 874

الإعراب:

الإعراب: فِي سَبِيلِ اللَّهِ متعلق ب جاهَدُوا، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجَرُوا وَجاهَدُوا إِلَّا تَفْعَلُوهُ الهاء: إما أن تعود على التوارث، وإما أن تعود على التناصر. وتَكُنْ: تامة بمعنى: تقع لا تفتقر إلى خبر. وفِتْنَةٌ: فاعل تكن. والمعنى: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين، وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهرا، والفساد زائدا (الكشاف: 2/ 25) . المفردات اللغوية: وَهاجَرُوا أي تركوا مكة التي كانت دار حرب وكفر، وذهبوا إلى المدينة دار الإسلام آوَوْا أنزلوا وأسكنوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وَنَصَرُوا هم الأنصار أَوْلِياءُ بَعْضٍ في النصرة والإرث وَلايَتِهِمْ أي توليتهم في الميراث، والولاية في الأصل: ملك الأمر والسلطة عليه والقيام به مِنْ شَيْءٍ أي فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة حَتَّى يُهاجِرُوا وهذا أي التوارث بالهجرة كان في مبدأ الأمر، ثم نسخ بآخر السورة وأصبح التوارث بقرابة الرحم مِيثاقٌ عهد، أي فلا تنصروا المسلمين على المعاهدين وتنقضوا عهدهم. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في النصرة والإرث، فلا إرث بينكم وبينهم. إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي تولي المسلمين وقمع الكفار تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أي تحدث فتنة عظيمة بقوة الكفر وضعف الإسلام وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أيها المهاجرون والأنصار وَأُولُوا الْأَرْحامِ

سبب النزول:

ذو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الإرث من التوارث بسبب الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة فِي كِتابِ اللَّهِ اللوح المحفوظ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومنه حكمة الميراث وتدرجها من التوارث بالهجرة إلى التوارث بالرحم، إلى التوارث بشدة القرابة في سورة النساء. سبب النزول: نزول الآية (73) : وَالَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج ابن جرير الطبري، وأبو الشيخ ابن حيان عن السّدّي عن أبي مالك قال: قال رجل: نورّث أرحامنا المشركين؟ فنزلت: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... الآية. نزول الآية (75) : وَأُولُوا الْأَرْحامِ: أخرج ابن جرير عن ابن الزبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل: ترثني وأرثك، فنزلت: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وأخرج ابن سعد عن عروة قال: آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: فلقد رأيت كعبا أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات، فانقلع عن الدنيا وأهلها، لورثته، فنزلت هذه الآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فصارت المواريث بعد للأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى قواعد الحرب والسلم مع الكفار، وحكم معاملة الأسرى، ختم السورة ببيان قرابة الإسلام ورابطته البديلة عن علاقة الكفر، وهي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة، في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض، ولكن بشرط المحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار مدة العهد.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: جعلت الآيات أصناف المؤمنين في مواجهة الكفار أربعة أقسام: 1- المهاجرون الأولون قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية. 2- الأنصار: أهل المدينة الذين آووا إخوانهم المهاجرين. 3- المؤمنون الذين لم يهاجروا. 4- المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية. أما المصنف الأول فهم المذكورون في مطلع الآية الأولى وهم الذين آمنوا بالله ورسوله أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية سنة ست من الهجرة، الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوها في مكة، وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله. وهذا الصنف هو الأفضل والأكمل. وقد وصفهم الله بالإيمان، أي التصديق بكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم، فرارا بدينهم من فتنة المشركين، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونعتهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. أما الجهاد بالأموال: فهو إنفاقها في التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله، كصرفها للكراع (الخيول) والسلاح، وعلى محاويج المسلمين. فضلا عن سخاء النفس بترك تلك الأموال في وطنهم: مكة. وأما الجهاد بالنفس فهو قتال الأعداء والاستعلاء عليهم وعدم المبالاة بهم، وما كان قبل ذلك من احتمال المشاق، والصبر على الأذى والشدائد والاضطهاد المتواصل. وتقديم الجهاد بالأموال على الأنفس لأنه أدفع للحاجة ويتوقف الجهاد بالنفس عليه.

وأما الصنف الثاني:

والخلاصة: وصف المهاجرون الأولون بأربع صفات: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والهجرة، والجهاد، وأولية الإقدام على هذه الأفعال. وأما الصنف الثاني فهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي آووا الرسول والمهاجرين إليهم، ونصروهم، فكانت المدينة عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة في أرجاء الأرض، وملجأ المهاجرين الذين عملوا مع الأنصار على نصرة دين الله والقتال معهم، وشارك هؤلاء أولئك في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، فكانوا في الفضل بعد الصنف الأول. ثم وصف الله الصنفين بأن بعضهم أولياء بعض، أي يتولي بعضهم أمر الآخر كما يتولي أمر نفسه، ويكون كل منهم أحق بالآخر من كل أحد لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة، ولهذا آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء إرثا مقدما على القرابة، حتى تقوّى المهاجرون بالتجارة وغيرها، فنسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس. وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» لكن تفرد به أحمد. فكان الإرث بين المهاجرين والأنصار بالإسلام والهجرة دون القرابة، فالمسلم في غير المدينة لا يرث المسلم الذي في المدينة وما حولها إلا إذا هاجر إليها، فيرث ممن بينه وبينه إخاء. وهكذا فالولاية بين المهاجرين والأنصار عامة في الحرب والإرث وكل أوجه العلاقة بينهم وبين الكفار. وقال أبو بكر الأصم: الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالولاية: النصرة والمظاهرة.

وأما الصنف الثالث:

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار، في غير ما آية في كتابه، لتضامنهم وتناصرهم، فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ [التوبة 9/ 100] وقال تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة 9/ 117] وقال عز وجل: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر 59/ 8- 9] أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم. وظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك، كما ذكر ابن كثير. ولهذا روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة قال: خيرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة» . وأما الصنف الثالث وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا فقد ذكرهم الله بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي أن الذين صدّقوا برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة، وظلوا مقيمين في أرض الشرك تحت سلطان المشركين أي في دار الحرب والشرك، لا يثبت لهم شيء من ولاية (نصرة) المؤمنين الذين في دار الإسلام. أما من أسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار. إن الولاية منقطعة بين أهل الدارين إلا في حالة واحدة ذكرها تعالى بقوله: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ ... وهي مناصرتهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم، إلا إذا كان هؤلاء الكفار معاهدين، فيجب الوفاء بعهدهم لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض

العهود. وهذا أصل من أصول أحكام الإسلام وسياسته الخارجية العادلة الرفيعة المستوى. وحذر الله تعالى من نقض العهد بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الله مطلع على جميع أعمالكم، فالزموا حدوده، ولا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل بكم عقابه. والخلاصة: ليست المقاطعة تامة، كما في حق الكفار، بين المؤمنين في دار الإسلام وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا، فلو استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم. ومن أجل دعم الولاية (التناصر والتعاون) بين المهاجرين والأنصار، ذكر الله تعالى حال الكفار في مواجهة المؤمنين، ليكونوا صفا واحدا تجاههم، وليعلموا قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكفار في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، يوالي بعضهم بعضا في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، وإن تعددت مللهم، وعادى بعضهم بعضا، وقد أكد التاريخ ذلك، فكان اليهود مناصرين المشركين في حربهم ضد المؤمنين، حتى إنهم نقضوا عهودهم مع المسلمين، مما استوجب حربهم وإجلاءهم من خيبر، والتاريخ يعيد نفسه، فترى المشركين والماديين الملحدين واليهود والنصارى في كل عصر في خندق معاد للإسلام والمسلمين. وجعل الكفار في صف والمسلمين في صف آخر مواجه لهم اقتضى امتناع الإرث بسبب اختلاف الدين باتفاق المذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافرا، ولا الكافر مسلما، لما رواه الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما» ثم قرأ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ وروى الجماعة إلا النسائي عن أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» .

أما توارث الكفار بعضهم من بعض فجائز في رأي الجمهور لأن الكفر ملة واحدة في الإرث لقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وقال المالكية: لا يرث كافر كافرا إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك لعموم الحديث السابق: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» ولأنه لا موالاة بينهم. وأما اختلاف الدار فهو مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل (دار الإسلام) فيكون هذا المانع خاصا بغير المسلمين. وليس اختلاف الدار لدى الشافعية مانعا من موانع الإرث، لكنهم قالوا: لا توارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن لانقطاع الموالاة بينهما. وليس اختلاف الدار مطلقا مانعا للميراث لدى المالكية والحنابلة، فيرث أهل الحرب بعضهم من بعض، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت. ثم قال تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ ... أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من موالاة المسلمين وتواصلهم وتناصرهم وتعاونهم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض، وتجنب موالاة المشركين وعدم الاختلاط بهم، تحصل فتنة عظيمة في الأرض هي ضعف الإيمان وقوة الكفر، وفساد كبير وهو سفك الدماء، فتعم الفتنة وهي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد زائد في الدين والدنيا. وفي هذا دلالة على حرص الإسلام على الحفاظ على شخصية المسلمين الذاتية، واستقلالهم في ديارهم، وعدم إقامتهم في أوطان الكفار. روى ابن جرير عن

وأما الصنف الرابع:

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال: «لا يتراءى ناراهما» . ثم أراد الله تعالى أن يبين فضل المهاجرين والأنصار على غيرهم، ويوضح مالهم في الآخرة، بعد أن ذكر حكمهم في الدنيا فهم متواصلون بينهم، وهذا ثناء عليهم، فلا تكرار، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... أي إن الله تعالى يخبر عنهم بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله، دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك، مع حاجة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى هجرته، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة التامة والصفح عن ذنوبهم إن كانت، وبالرزق الكريم في الجنة: وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، الدائم المستمر الذي لا ينقطع أبدا. هؤلاء الأصناف الثلاثة هم السابقون المقربون كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. وأما الصنف الرابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية، فهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ ... أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى، وبعد أن قويت شوكة المسلمين، وهاجروا إلى المدينة، وجاهدوا مع السابقين لهم، فأولئك منكم، أي أنهم كالمهاجرين الأولين والأنصار، في الموالاة والتعاون والتناصر والفضل والجزاء، فهؤلاء الأتباع لهم في الدنيا، على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح، النصرة، وهم مع المتقدمين في حسن الجزاء والعاقبة في الآخرة، فهم تبع لمن سبقهم، لذا قال تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية [الحشر 59/ 10] وفي الحديث المتفق عليه المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «المرء مع من أحب» وفي الحديث الآخر الذي رواه الطبراني والضياء عن أبي قرصافة: «من أحب قوما فهو منهم» وفي رواية «حشره الله في زمرتهم» .

وفي جعل الصنف الرابع من جملة الأصناف الثلاثة السابقة بقوله فَأُولئِكَ مِنْكُمْ دليل على فضل السابقين على اللاحقين، كما أن في الآية قدرا مشتركا بين الصنف الأول والأخير وهو الهجرة والإيمان، مما يدل على الترغيب فيهما. ثم ذكر الله تعالى ولاية الرحم والقرابة بعد ولاية الإيمان والهجرة، فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ ... أي أصحاب القرابة التي تربط بينهم رابطة الدم، والآية عامة تشمل جميع القرابات، سواء أكانوا من ذوي الفروض أم العصبات (القرابة من جهة الأب) أم الأرحام (القرابة من جهة الأم) في اصطلاح علماء الفرائض، هؤلاء بعضهم أولى ببعض أي أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأباعد بالتناصر والتعاون والتوارث في دار الهجرة، في كتاب الله، أي في حكم الله الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام. فولاية الرحم أهم من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها السابق، والقريب المؤمن أولى بقريبه الرحم من المؤمن المهاجر والأنصاري البعيد القرابة، فتكون الآية مخصصة ما سبقها. أما القريب الكافر فيقطع الكفر صلته بقريبه. وتكون الأخوة في النسب والدم، والأخوة في الله أولى في حكم الله من مجرد الأخوة الدينية. ثم ختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله عليم بكل الأشياء، وعلمه واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدنيوية والأخروية، وبكل ما شرعه في هذه السورة من أحكام في السلم والحرب والغنائم والأسرى والعهود والمواثيق والولاية العامة والخاصة بين المؤمنين وصلة الأرحام، وهو إشارة إلى أن جميع أحكام السورة محكمة غير منسوخة ولا منقوضة وكلها حكمة وصواب وصلاح، وليس فيها شيء من العبث، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ [الأعراف 7/ 52] .

لكن آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ نقل عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد: أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا. ويؤيدهم حديث صحيح متواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» . فالإرث الذي كان بسبب النصرة والهجرة صار منسوخا، فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة، وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ المراد منه السهام المذكورة في آيات المواريث في سورة النساء. وهذا ما ذهب إليه الشافعية، فلا إرث لذوي الأرحام بالمعنى الضيق عند علماء الفرائض كالخال والخالة والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، وليس لهم نصيب، والعصبات أولى بعضهم ببعض لأن الفروض عينت. وقال الحنفية: يثبت الإرث لذوي الأرحام بنص هذه الآية، وذلك إذا لم يوجد أحد من العصبات. وأما من نفي كون آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ ناسخة لما تقدمها، فإنه فسر المراد بالولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم، وتكون الآية الأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم المؤمنون حقا، والثالثة لبيان أن المتأخرين في الإيمان والهجرة لهم حكم من تقدمهم، وأن التناصر بالقرابة أيضا مطلوب. ويكون المراد من آية أولي الأرحام أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة الوهم في أن الولاية محتملة للولاية بسبب الإرث، قال الرازي: وهذا أولى لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 213

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام، وبيان فضل المهاجرين السابقين على اللاحقين، وفضل المهاجرين على الأنصار، وجعل المتأخرين في الإيمان والهجرة بمنزلة المتقدمين في تضامنهم معهم. 2- ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام ومؤمني دار الحرب في حال مقاتلتهم أو اضطهاد الكفار لهم إلا إذا كان بيننا وبينهم ميثاق صلح وسلام، فلا تمكن مناصرتهم. وفيما عدا حالة المقاتلة لا تثبت ولاية النصرة بين المسلمين في دار الإسلام، والمسلمين في دار الحرب. 3- تقديس الوفاء بالعهود والمواثيق في شرعة الإسلام، وإن مس ذلك مصلحة بعض المسلمين. 4- الكفار بعضهم أولياء بعض أي نصراء وأعوان. 5- إذا لم نحقق ولاية النصرة بيننا، ووالينا الكفار، أدى ذلك إلى ضعفنا، وقوتهم علينا. 6- إن كل ما شرعه الله من أحكام صادر عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية. 7- إرث ذوي الأرحام وهو من لا سهم له في القرآن من قرابة الميت، وليس بعصبة، وبه قال الحنفية والحنابلة محتجين بالآية «1» ، فقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان: القرابة والإسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام. وروى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من ترك كلّا

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 76

فإلي، ومن ترك مالا فلورثته، فأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» . وقال المالكية والشافعية: لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام، وترد التركة إلى بيت المال لأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئا، ولو كان لهم حق لبينه: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم 19/ 64] وروى الترمذي وغيره من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الله أعطى لكل ذي حق حقه» . وأما آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ فهي آية مجملة جامعة، وآيات المواريث مفسّرة، والمفسّر قاض على المجمل ومبيّن. وروى أبو داود في المراسيل أنه صلّى الله عليه وآله وسلم سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: «أخبرني جبريل أن لا شيء لهما» . والأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأنها صارت حينئذ بلد إسلام وجزءا من دار الإسلام.

سورة التوبة:

بسم الله الرحمن الرّحيم سورة التوبة مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية. نزلت في غزوة تبوك سنة تسع. تسميتها: قال الزمخشري: لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكّلة، المدمدمة، سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، أي تبحث عنها، وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم «1» . وتسمى أيضا البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين. وعن حذيفة رضي الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم، وتنال منهم، حتى خشينا ألا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.

_ (1) الكشاف: 2/ 25

السبب في إسقاط التسمية من أولها:

السبب في إسقاط التسمية من أولها: قال ابن عباس: سألت عليا رضي الله عنه، لم لم يكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود، وليس فيها أمان «1» . وقال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين «2» . قال القرطبي نقلا عن القشيري: والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها في هذه السورة. فلم يكتبها الصحابة في المصحف الإمام، مقتدين في ذلك بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، كما قال الترمذي. مناسبتها لما قبلها: هناك شبه بين سورة براءة وسورة الأنفال قبلها، فهي كالمتممة لها في وضع أصول العلاقات الدولية الخارجية والداخلية، وأحكام السلم والحرب، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمنافقين، وأحكام المعاهدات والمواثيق، إلا أن في الأنفال بيان العهود والوفاء بها وتقديسها، وفي براءة نبذ العهود، وذكر في السورتين صدّ المشركين عن المسجد الحرام، والترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وتفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب وبيان أوضاع المنافقين. وبالرغم من هذا الشبه الموضوعي في السورتين، وأنهما تدعيان القرينتين، وأنهما نزلتا في القتال، فإنهما في الأصح سورتان مستقلتان، فليست براءة جزءا

_ (1) تفسير الرازي: 15/ 216 (2) تفسير القرطبي: 8/ 62- 63

تاريخ نزولها:

من الأنفال، بدليل كثرة أسمائها المميزة لها، وفصلها عما سبقها، واستقر على ذلك ترتيب السور والآيات، وتناقل المسلمون هذا الفصل في المصحف من عهد الصحابة لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان. قال عثمان رضي الله عنه: قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يبين لنا أنها منها. وفي قوله هذا دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه، وأن براءة وحدها ضمّت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين، فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حيّ «1» . قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشّبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان الله قد بيّن دخول القياس في تأليف (أي جمع) القرآن، فما ظنك بسائر الأحكام «2» ؟! تاريخ نزولها: كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بعد الهجرة، وبراءة من آخر ما نزل من القرآن، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي حدثت فيها غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلّى الله عليه وآله وسلم، خرج فيها لغزو الروم، وقت القيظ والحر الشديد، زمن العسرة، حين طابت الثمار، فكانت ابتلاء لإيمان المؤمنين، وافتضاحا لنفاق المنافقين. وقد نزل أولها بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عليا ليقرأها على المشركين في موسم الحج.

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 63 (2) أحكام القرآن: 2/ 881

ما اشتملت عليه السورة:

روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت: براءة. ما اشتملت عليه السورة: افتتحت السورة بالبراءة من المشركين، ومنحهم مدة أمان أربعة أشهر، ثم إعلان الحرب عليهم بسبب جرائمهم، ثم منعهم من دخول المسجد الحرام إلى الأبد. ثم مجاهدة أهل الكتاب حتى يؤدوا الجزية أو يسلموا. وتضمنت السورة في قسمها الأول حتى نهاية الآية [41] الحث على الجهاد والنفير العام في سبيل الله بالأموال والأنفس. ثم تحدثت عن أوصاف المنافقين ومخاطرهم في القسم الثاني إلى آخر السورة، وتخلل ذلك الإشارة إلى تخلف الأعراب عن الجهاد، وعدم قبول تخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عن المشاركة في الجهاد، وختمت السورة بمقارنات واضحة تميز بين المؤمنين والمنافقين، وجعل الجهاد فرض كفاية، وتخصيص فئة أخرى للتفقه في الدين. فكان محور السورة يدور حول أمرين: الأول- أحكام جهاد المشركين وأهل الكتاب. الثاني- تمييز المؤمنين عن المنافقين بصدد غزوة تبوك. أما أحكام الجهاد فقد مهد لها القرآن الكريم في هذه السورة بنبذ العهود والأمان بالنسبة للمشركين، وإنهاء المعاهدات التي كانت قائمة بين المسلمين وأهل الكتاب لأن كلا من المشركين والكتابيين نقضوا العهود، وتواطأت طوائف اليهود من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع مع المشركين على محاربة المسلمين ومحاولة القضاء عليهم. وتحدثت حوالي عشرون آية عن أحقاد اليهود ودسائسهم ومؤامراتهم، وخبثهم وكيدهم، فلا عهد ولا أمان، ولا سلم ولا مصالحة بعد انتهاء أمد الأمان، ونقض العهود من غير المسلمين.

أضواء من التاريخ على صلح الحديبية:

وأما الأمر الثاني فكان بسبب استنفار المسلمين لغزو الروم في غزوة تبوك، وقد أوضحت الآيات في القسم الأعظم من هذه السورة نفسيات المسلمين، وظهور عوارض التثاقل والتخلف والتثبيط، ومراوغة المنافقين، ودسائسهم الماكرة، واتخاذهم ما أطلق عليه (مسجد الضرار) الذي نزل بشأنه أربع آيات، وكرا للتآمر والتخريب، وتعريتهم بشكل فاضح، حتى سميت السورة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين، ولم تدع لهم سترا إلا هتكته. والخلاصة: كانت هذه السورة سورة الحسم الكامل لأوضاع غير المسلمين، وربما كانت أخطر سورة حشدت جيش الإيمان وأعدته للمعركة الفاصلة النهائية بين المسلمين وغيرهم، سواء في داخل الدولة بتصفية جذور النفاق، والقضاء على مكر اليهود، أو في خارج الدولة بالتصدي لغطرسة الروم في غزوة تبوك التي أرهبتهم، وجمّدت كل تحركاتهم المشبوهة للقضاء على الإسلام والمسلمين. وكان لهذه التصفية المقدّر والمخطط لها من قبل الله تعالى على الصعيد الداخلي والخارجي الأثر الأكبر في استقرار الدولة الإسلامية، والحفاظ على كيانها الدولي وإظهار هيبتها ومنعة وجودها، بعد انتقال مؤسسها وقائدها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى. أضواء من التاريخ على صلح الحديبية: عقد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم معاهدة صلح الحديبية سنة ست من الهجرة مع المشركين على وضع الحرب أوزارها، وعلى السلم والأمان مدة عشر سنوات، بشروط متسامح فيها عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة. ثم نقضت قريش المعاهدة بإعانة حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالسلاح والرجال، فاستغاث عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأغاثه قائلا:

«نصرت يا عمرو بن سالم، لا نصرت إن لم أنصر بني كعب» فكان ذلك سبب عودة حالة الحرب مع قريش. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس بالتأهب للقتال، وسار لفتح مكة سرا، ففتحها في السنة الثامنة من الهجرة. ولما بلغ هوازن فتح مكة، جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين، وكانت غزوة حنين التي شهدها دريد بن الصّمّة في شوال في السنة الثامنة، ثم حاصر النبي بعدها الطائف بضعا وعشرين ليلة، وقاتلهم قتالا شديدا، ورماهم بالنبل والمنجنيق. ثم خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك، وهي آخر غزواته، وفيها نزلت أكثر آيات سورة براءة. ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أراد الحج، ولكنه تذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم، ويطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب، ليكون مبلّغا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لكونه عصبة له. وقال له: «أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا» . فخرج علي راكبا العضباء ناقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة، وأمّ أبو بكر الناس في الحج، وقرأ عليّ على الناس صدر سورة براءة «1» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 331 وما بعدها، الكشاف: 2/ 26، تفسير القرطبي: 8/ 64- 68

نقض عهود المشركين وإعلان الحرب عليهم والبراءة منهم [سورة التوبة (9) الآيات 1 إلى 4] :

وذلك يوم النحر بمنى سنة تسع. روى الإمام أحمد والترمذي في التفسير عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عليا سنة تسع، فأذن يوم النحر بمنى بصدر سورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وروى أحمد والترمذي والنسائي عن زيد بن يثيغ رجل من همدان قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر في الحجة، قال: «بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا» . نقض عهود المشركين وإعلان الحرب عليهم والبراءة منهم [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 4] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

الإعراب:

الإعراب: بَراءَةٌ خبر مبتدأ محذوف، أي هذه براءة، ويكون مِنَ اللَّهِ في موضع رفع لأنه وصف براءة وتقديره: براءة كائنة من الله. ويجوز أن تكون بَراءَةٌ مبتدأ وخبره: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ. ومِنَ اللَّهِ وصف لبراءة، ومِنَ لابتداء الغاية متعلق بمحذوف. وَأَذانٌ معطوف على بَراءَةٌ، ورفعه مثل الوجهين المذكورين في بَراءَةٌ من أنه خبر مبتدأ محذوف، أو أنه مبتدأ، ويكون خبره إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ. ومِنَ اللَّهِ وصف لأذان. ويَوْمَ الْحَجِّ: العامل فيه الصفة. ولا يجوز أن يكون أَذانٌ لأنه وصف، والمصدر إذا وصف لم يعمل عمل الفعل. أَنَّ اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي بأن وَرَسُولِهِ بالرفع والنصب، فالرفع من وجهين: أحدهما- أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي ورسوله بريء، وحذف لدلالة الأول عليه. والثاني- أنه معطوف على الضمير المرفوع في بَرِيءٌ وجاز العطف على الضمير المرفوع وإن لم يؤكد، لوجود الفصل بالجار والمجرور لأنه يقوم مقامه. أو معطوف على محل: إن واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول. وأما بالنصب فهو عطف على اسم أَذانٌ أو لأن الواو بمعنى مع. ولا تكرار لمعنى بَراءَةٌ لأن قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ إخبار بثبوت البراءة وبَرِيءٌ إخبار بوجوب الاعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس، ولم يخص بالمعاهدين. البلاغة: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تنوين بَراءَةٌ للتفخيم، وتقييدها بأنها مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لزيادة التهويل. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا أسلوب تهكمي لأن البشارة بالعذاب، وهي تكون عادة بما هو مفرح. المفردات اللغوية: بَراءَةٌ أي تبرؤ من الله ورسوله، يقال: برئ من العهد أو المرض: خلص منه، وبرئ من الذنب: تركه وتباعد عنه، وبرئ من الدين: أسقط عنه. عاهَدْتُمْ المعاهدة: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها. وكانت توثق بالأيمان بوضع كل فريق يمينه في يمين الآخر، فسميت أيمانا في قوله تعالى: إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا عهود لهم. والمراد من المعاهدين هنا: ذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، وكذا من

المناسبة:

كان له عهد فوقها ونقض العهد. أما من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ الآية، وللحديث: «ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عهد، فعهده إلى مدته» قال ابن كثير: وهذا أحسن الأقوال وأقواها. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ سيروا آمنين أيها المشركون في الأرض مدة أربعة أشهر، والمراد حرية الانتقال مع الأمان هذه المدة دون قتال فيها، وأولها شوال، بدليل قول الزهري: إن براءة نزلت في شوال. ولا أمان لكم بعدها. والسياحة والسيح: الانتقال في الأرض بحرية غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه من عذابه بالهرب والتحصن وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ مذلّهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، والخزي: الذل والفضيحة بما هو عار. وَأَذانٌ إعلام يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم العيد الأكبر وهو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الحجيج لإتمام مناسكهم، وإنما قيل: الأكبر من أجل قول الناس عن العمرة: الحج الأصغر أَنَّ اللَّهَ أي بأن الله بريء من عهود المشركين وَرَسُولِهِ بريء أيضا فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان وَبَشِّرِ أخبر بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة. ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد والميثاق، فلم يقتلوا أحدا ولم يضروه. وَلَمْ يُظاهِرُوا يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من الكفار فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى انقضاء مدتهم التي عاهدتم عليها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ بإتمام العهود. المناسبة: كان هناك عهد عام بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة وغيرهم على ألا يصدّ عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم، وكانت هناك أيضا عهود بينه عليه الصلاة والسّلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال معينة، فنقض كثير من المشركين عهودهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، مما اقتضى نزول البراءة من عهودهم. التفسير والبيان: نزلت آيات بَراءَةٌ الأولى في أهل مكة في السنة التاسعة، بعد أن عاهدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية سنة ست هجرية، فنقضوا العهد، إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأمر المسلمون بالتبرؤ من عهود المشركين وإمهالهم أربعة

أشهر، فإذا انتهت هذه المدة قاتلوهم. والمراد بالعهود: العهود المطلقة غير المؤقتة بزمن، ومن كان له عهد دون أربعة أشهر فتكمل له هذه المدة، وأما من عهده مؤقت بمدة فوق ذلك فأجله إلى مدته، مهما كان لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [براءة 9/ 4] . هذا أصح الأقوال الذي اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما. قال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ. وقد أمّر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم- كما أوضحت- أبا بكر في السّنة التّاسعة أميرا على الحجّ، فلما سافر نزلت سورة براءة متضمّنة نقض عهد المشركين، فأرسل عليّا ليبلّغ ذلك النّاس يوم الحجّ الأكبر قائلا: «لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي» . فلما اجتمع الناس بمنى يوم النّحر، قرأ عليهم علي آيات من أول سورة براءة، ثم قال- فيما رواه التّرمذي والنسائي وأحمد-: بعثت بأربع: ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا. ومعنى الآية: بَراءَةٌ أي تبرؤ وتخلص، وهي براءة صادرة من الله ورسوله، واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله لأنها تشريع جديد من الله، وأمر لرسوله بتنفيذه، وتنويه بمقامه ومكانته. ونسبت المعاهدة بقوله: عاهَدْتُمْ للمؤمنين لأنهم هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، مع أن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي عقد العهد بوصفه قائد الأمّة. قال الجصّاص: البراءة: هي قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان.

براءة إلى أهل العهد المشركين، وهم أهل مكة وخزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم من العرب، أي إن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم لأنهم ما عدا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة نكثوا العهد، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا، لا يتعرض لهم. وقوله: فَسِيحُوا عدول من الخبر إلى الخطاب، أي قل لهم: سيحوا، أي سيروا في الأرض آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين. وتبيّن بالآية أن هذه البراءة وهذا النّبذ إليهم، إنما هي بعد أربعة أشهر، وأن عهد المعاهدين باق إلى آخر هذه المدّة «1» . وحددت لهم هذه المدّة ليفكروا في أمرهم، فيختاروا إما الإسلام وإما القتال، ولتكون لديهم فرصة للاستعداد للقتال، إذا أصرّوا على شركهم وعداوتهم. وهذا منتهى التّسامح والإنذار، حتى لا يتهم المسلمون بأخذهم فجأة على غرّة. والأربعة الأشهر في رأي السيوطي هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم لأنه روي عن الزّهري: أن براءة نزلت في شوال. وقال آخرون كالزّمخشري والرّازي والقرطبي وابن كثير: هي الأشهر الحرم في قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وهي عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وهذا هو القول الأصحّ في تقديري لأن الإمام علي رضي الله عنه قرأ أوائل سورة براءة على الناس يوم النّحر في منى.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 77

وليس المراد بالأشهر الأربعة هي الأشهر الحرم المعروفة، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب كما ارتأى ابن جرير نقلا عن ابن عباس لأن ذلك مخلّ بالنّظم القرآني، مخالف للإجماع لأن حرمة هذه الأشهر قد نسخت، ومثل هذا القول يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. وإنما المراد أشهر التّسيير الأربعة المذكورة آنفا. والحكمة في إعطاء براءة لعليّ رضي الله عنه لتبليغها: أن براءة تضمّنت نقض العهد الذي كان عقده النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحلّ العقد إلا الذي عقده، أو رجل من أهل بيته، فأراد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلّم. وتضمّنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين، وذلك في حالتين: حالة انقضاء مدّة المعاهدة، فنؤذنهم أي نخبرهم بالحرب، وحالة نقض العهد منهم، أو خوف الغدر منهم، فننبذ إليهم عهدهم. ثم قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ... أي واعلموا علم اليقين أنكم لن تفلتوا من عذاب الله بالهرب والتّحصن إن بقيتم على شرككم وعداوتكم، وإن أمهلكم، وهو مخزيكم أي مذلّكم في الدّنيا بالقتل، والآخرة بالعذاب في النّار، كما قال تعالى في مشركي مكة وأمثالهم: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الزّمر 39/ 25- 26] . وبعد أن أعلن الله براءته من المشركين، أمر بإعلان هذه البراءة للناس قاطبة، فقال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ ... أي وإعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين إلى الناس جميعا، يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النّحر الذي تنتهي

فيه فرائض الحجّ، وأفضل أيام المناسك، ويجتمع فيه الحجاج في منى لإتمام مناسكهم. فليس بين البراءتين تكرار لأن البراءة الأولى مختصة بالمعاهدين والنّاكثين العهد منهم، وأما الأذان بالبراءة فعام لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين، ومن لم ينكث. وسمّي الأكبر لأنه حجّ فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. ويوم الحجّ الأكبر في رأي ابن عباس في رواية عنه، وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة، وهو مذهب مالك: هو يوم النّحر لأن يوم النّحر فيه الحجّ كله لأن الوقوف بعرفة في ليلته، والرّمي والنّحر والحلق والطّواف في صبيحته. وهو في رأي عمر وعثمان، وابن عباس في رواية أخرى، وطاوس ومجاهد، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: يوم عرفة لحديث مخرمة أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «يوم الحج الأكبر: يوم عرفة» . وروي عن عطاء ومجاهد: الحجّ الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر: العمرة. أي أنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر. وكان علي هو المخبر بنقض العهد، مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، كما تقدّم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذنين بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» ثم أردف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذّن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أكّد الله تعالى الاعلام أو التّبليغ الفوري فقال: فَإِنْ تُبْتُمْ ... أي قولوا لهم: فإن تبتم عن الشرك فهو خير لكم، أي أنفع لكم في الدّنيا والآخرة.

وإن توليتم عن الإيمان، وأعرضتم عن الإسلام، فاعلموا أنكم غير معجزي الله، أي فائتي عذابه، فلن تفلتوا منه، فإنه محيط بكم، ومنزل عقابه عليكم، ولا طاقة لكم بحربه في الدّنيا، ووعده لرسله وللمؤمنين بالنّصر عليكم. وبشّر أيها الرّسول من أنكر رسالتك، ولم يؤمن بالله وملائكته بعذاب مؤلم شديد الألم في الآخرة. وهذا أسلوب تهكّمي واستهزاء إذ استخدم البشارة بالسّوء محل الإنذار. ثم استثنى الله تعالى من مدّة التّأجيل بأربعة أشهر لأصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة: من له عهد مؤقت، فأجله إلى انتهاء مدة عهده التي عوهد عليها، فقال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ... أي إن الإخبار بنقض العهد يسري على جميع المشركين إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم، ثم لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد، ولم يظاهروا- يعاونوا- عليكم عدوا، كبني ضمرة وبني كنانة فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، بشرط ألا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين أحدا، أي يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمّته وعهده، وأكّد تعالى وجوب الوفاء بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي الموفين بعهدهم. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم. وهذا دليل قاطع على حرمة المعاهدات في الإسلام، وأن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دامت مدّة المعاهدة قائمة، وأن العهد المؤقّت لا ينقض إلا بانتهاء وقته، وأن مراعاة شروط المعاهد من مظاهر التّقوى ومشتملاتها.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يلي: 1- نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقّتة بزمن لأنهم نكثوا العهد وأخلّوا بشروط التّعاهد. 2- من كان له عهد دون أربعة أشهر، تكمل له مدّة أربعة أشهر. 3- مدة الأمان وحريّة الانتقال والتّأمل في المصير، إما باعتناق الإسلام أو بالدّخول في القتال: هي أربعة أشهر، تبدأ بعد عيد الأضحى أو يوم النحر، وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر سنة عشر. وهي دليل واضح على حرص الإسلام على تسوية العلاقات الخارجية مع الأعداء على أساس من السّلم والأمن والتّفاهم. 4- من كان له عهد مؤقّت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدّته، مهما كان، ما لم ينقض العهد، أو يخلّ بشرط من شروطه. 5- الإسلام يقدّس العهود ويوجب الوفاء بها ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله تعالى. 6- لن يعجز الله أحد من الكفار ولن يفوت من العقاب في الدّنيا، وللكافرين عذاب أليم في الآخرة، كيلا يظن أحد أنّ عذاب الدّنيا لما فات وزال، فقد تخلّص من العذاب، بل العذاب الشّديد معدّ له يوم القيامة. 7- إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة يدخل في النّفس الرّهبة الشّديدة والخوف الأشدّ. 8- لا يأس في شرعة القرآن، فقد فتح الله باب التوبة والأمل أمام الكفار، وهددهم بالعذاب إن تولوا عن الإسلام.

فرضية قتال مشركي العرب في أي مكان وجدوا [سورة التوبة (9) آية 5] :

فرضية قتال مشركي العرب في أي مكان وجدوا [سورة التوبة (9) : آية 5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الإعراب: كُلَّ مَرْصَدٍ إما منصوب بتقدير حذف حرف الجرّ، أي على كل مرصد وهو المنصوب بنزع الخافض، وإما منصوب على الظرف. البلاغة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيه استعارة، شبّه انقضاء الشّهر بالانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده. المفردات اللغوية: فَإِذَا انْسَلَخَ خرج وانقضى، شبّه مضي الزّمان بانسلاخ الجلد المحيط بالشّاة، لانتهاء تعلقه به. الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ جمع حرام، وهي آخر مدّة التّأجيل، وهي الأشهر التي أبيح للناكثين أن يسيحوا في الأرض، ويحرّم فيها قتالهم، وهي يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الآخر، كما تقدّم. حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في حلّ أو حرم. وَخُذُوهُمْ أي أسروهم، والأخيذ: الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ امنعوهم من الخروج والتّنقل في البلاد، واحبسوهم وحاصروهم في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي اقعدوا لهم على كل مرصد، أي ممرّ وطريق يجتازونه في أسفارهم. فَإِنْ تابُوا من الكفر. فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتركوهم ولا تتعرّضوا لهم. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن استغفره وتاب، يستر ذنوبه، ويرحم شأنه.

المناسبة:

المناسبة: هذه الآية مفرعة على ما قبلها، فبعد أن أعلن تعالى البراءة من عهود المشركين، وأعطاهم مهلة أمان، أربعة أشهر، ذكر ما يجب على المؤمنين فعله: وهو قتالهم في أي مكان في الحلّ أو الحرم. التفسير والبيان: هذه هي آية السّيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال، ومعناها: إذا انقضت الأشهر الأربعة الحرم التي حرم فيها القتل والقتال بين المسلمين والمشركين، من يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الآخر، على الرّاجح لدى المفسّرين، وأجلناهم فيها، فافعلوا معهم ما يحقق المصلحة الحربية التي ترونها من اتّخاذ أحد التدابير الآتية: أن تقتلوهم في أي مكان وجدوا فيه، من حلّ أو حرم. أو تأخذوهم أسرى إن شئتم، والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المنّ على ما يراه الإمام. أو تحاصروهم في مواقعهم من القلاع والحصون، وتمنعوهم من الخروج حتى يسلموا، ويرضخوا لما تملونه عليهم من الشروط، إلا أن تأذنوا لهم، فيدخلوا إليكم بأمان. أو تقعدوا لهم في كل مرصد، أي تراقبوهم في كل موضع أو طريق أو ممرّ يجتازونه في أسفارهم، حتى تضطروهم إلى الإسلام أو القتل، وحتى تملؤوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم. والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، وهو موضع الغرّة والمباغتة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فإن تابوا عن الكفر أو الشرك الذي حملهم على قتالكم وعداوتكم، ودخلوا في الإسلام بأن أعلنوا الشّهادتين، وأقاموا حدوده، والتزموا أركانه، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزّكاة، فخلّوا سبيلهم، واتركوهم وشأنهم، واعلموا أن الله غفور لمن استغفره، رحيم بمن تاب إليه. وقد نبّه على إقامة الصّلاة التي هي حقّ الله عزّ وجلّ بعد أداء الشّهادتين لأنها أشرف أركان الإسلام بعد الشّهادتين، وبعدها أداء الزّكاة التي هي أشرف الأفعال المتعلّقة بالمخلوقين، وتؤدّي إلى تحقيق التّكافل الاجتماعي في الإسلام، وتساهم في حلّ مشكلة الفقر، ونفع الفقراء، ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزّكاة. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على ما يأتي: 1- وجوب قتال المشركين العرب حتى يسلموا إذ لا يقبل منهم باعتبارهم حملة رسالة الدّعوة الإسلامية إلى العالم إلا الإسلام أو القتل. 2- إنّ إقامة الصّلاة أو إيتاء الزّكاة دليل على الإسلام، وأنهما يعصمان الدّم والمال، ويوجبان لمن يؤدّيهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بحق الإسلام، كارتكاب ما يوجب القتل من قتل النفس البريئة، وزنى الزّاني المحصن، والرّدّة إلى الكفر بعد الإيمان، قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود وغيره: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» . وروى الشّيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال- وهو حديث متواتر-: «أمرت أن أقاتل الناس- أي مشركي العرب

بالإجماع- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلّا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله» . واشتراط الأمور الثلاثة للتّحقق من إسلام المشركين لأن النّطق بالشّهادتين يدلّ على ترك عبادة غير الله، وطاعة الرّسول فيما يبلّغه عن ربّه، وإقامة الصّلاة خمس مرات في اليوم والليلة، أمارة على الانخراط في سلك الرّابطة الدّينية الاجتماعية بين المسلمين، وأداء الزّكاة دليل على احترام النّظام المالي الاجتماعي في الإسلام. 3- احتجّ الشّافعي بهذه الآية على أنّ تارك الصّلاة يقتل لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الحالات، ثم حرّمها عند مجموع هذه الثلاثة: وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، فإذا لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدّم على الأصل. ورأى الجصّاص الحنفي أن المراد من قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما «1» . 4- نقل عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنه كان يقول في مانعي الزّكاة: «لا أفرّق بين ما جمع الله» وقال أيضا: «لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة فإن الزّكاة حقّ المال» . وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصّلاة وسائر الفرائض مستحلّا كفر، ومن ترك السّنن متهاونا فسق، ومن ترك النّوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 81- 82

فيكفر لأنه يصير رادّا على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ما جاء به وأخبر عنه «1» . واختلف العلماء فيمن ترك الصّلاة كسلا من غير جحد لها ولا استحلال فقال مالك والشّافعي: من آمن بالله، وصدّق المرسلين، وأبى أن يصلّي قتل. وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب، ولا يقتل لأنه إذا زال حكم القتل بزوال سمة الشّرك، فالحصر والحبس باق لترك الصّلاة ومنع الزّكاة، فمن ترك الصّلاة ومنع الزّكاة حبسه الإمام، فاستفيد الحبس من الآية. 5- هذه الآية دالّة على أنّ من قال: قد تبت، أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحقّقة للتّوبة لأن الله عزّ وجلّ شرط هنا مع التّوبة إقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، ليحقّق بهما التّوبة. وقال في آية الرّبا: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [البقرة 2/ 279] ، وقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة 2/ 160] . 6- قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عام في كل مشرك وفي كل من كفر بالله، كما ذكر ابن العربي، لكن السّنّة خصّت منه المرأة والصّبي والرّاهب، وخصّ من القتل المثلة للنّهي عنها في السّنّة، وعن قتل الصّبر بالنّبل ونحوه، وقال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود: «أعفّ الناس قتلة: أهل الإيمان» ، وقال فيما رواه الجماعة عن شدّاد بن أوس: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» . والمراد بالآية: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم «2» . فيقتل مشركو العرب أو يسلموا. وخصّت الآية أيضا بأهل الكتاب بإقرارهم على الجزية فيخيرون بين الإسلام أو الجزية أو القتل، كما سيأتي في آية: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 29]

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 74. (2) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 889

مشروعية الأمان [سورة التوبة (9) آية 6] :

وفي حديث بريدة الذي رواه مسلم: «إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعوهم إلى أداء الجزية، فإن فعلوا فخذوا منهم وكفوا عنهم» وهذا الحديث وإن كان عامّا في سائر المشركين إلا أنه استثني منه مشركو العرب بالآية. وصار قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ خاصّا في مشركي العرب دون غيرهم «1» . 7- دلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على أنه يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر. مشروعيّة الأمان [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) الإعراب: وَإِنْ أَحَدٌ: ارتفع أَحَدٌ بفعل الشرط المقدر الذي دلّ عليه الظاهر وفسّره، تقديره: وإن استجارك أحد، ولا يرتفع بالابتداء لأن إِنْ من حروف الشرط، لا تدخل إلا على الفعل، فوجب تقديره، فارتفع الاسم بعده لأنه فاعله. المفردات اللغوية: اسْتَجارَكَ طلب جوارك، أي حمايتك وأمانك واستأمنك من القتل. فَأَجِرْهُ أمّنه. كَلامَ اللَّهِ أي القرآن. مَأْمَنَهُ مكان أمنه، وهو مسكنه الذي يأمن فيه، أو دار قومه، إن لم يؤمن، لينظر في أمره. ذلِكَ المذكور. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الإسلام أو دين

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 81 [.....]

المناسبة:

الله وحقيقته، فلا بدّ لهم من إعطاء الأمان، لسماع القرآن، وفهم الحقّ، ليعلموا، ولا يبقى لهم معذرة. المناسبة: بعد أن أوجب الله تعالى قتال المشركين بعد مهلة الأمان التي هي أربعة أشهر حرم، لنقضهم العهود، أبان تعالى أن المطالبة بالإسلام أو القتل لا يعني عدم تمكين المشركين من سماع أدلّة الإيمان، فلو طلب أحد من المشركين الدّليل والحجّة، أو جاء طالبا استماع القرآن، فإنه يجب إمهاله، ويحرم قتله، ويجب إيصاله إلى مأمنه، ليكون على بيّنة وعلم من أمره. التّفسير والبيان: بالرّغم من نزول آية السّيف الشّديدة الوطأة على مشركي العرب، ونظرا لأن الإسلام يحرص على نشر دعوته بالوسائل السلمية، وبالإقناع والحجة والبرهان، وأنه ليس الهدف من تشريع الجهاد سفك الدّماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود، وقبول الدّين والإقرار بالتّوحيد، بالرّغم من كلّ ذلك وتقديرا لأسباب مشروعية القتال، وتأكيد الحرص على السّلام، أرشد الله المؤمنين إلى وجوب قبول الأمان ومنحه لمن استأمن المسلم من المشركين. والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين الذين نقضوا العهد بعد انقضاء مهلة السياحة في الأرض بحرية مطلقة وهي الأشهر الأربعة، يطلب الأمان ليسمع كلام الله ويتدبّره، ويفهم حقيقة الدّين والأمر، فيجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ويحرم قتله والتّعدّي عليه. ومتى أراد العودة لبلاده يجب منحه الأمان حتى يصل إلى وطنه الذي يأمن فيه أو داره وبلاده ومأمنه، ثم قاتله بعدئذ إن شئت من غير غدر ولا خيانة.

وهذا الحكم ثابت في كلّ وقت، قال الحسن رضي الله عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ. وروي عن السّدّي والضّحّاك رضي الله عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. وردّ القرطبي: والصّحيح أن الآية محكمة، بدليل ما قاله الإمام علي رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن جبير من الكلام السابق. ثم قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ يعني أن ذلك التّسامح المفهوم من الأمر بإجارة المستجير في قوله تعالى: فَأَجِرْهُ وإبلاغه مأمنه، بسبب أن هؤلاء المشركين قوم جهلة، لا يعلمون حقيقة الإسلام وما يدعو إليه، ومن جهل شيئا عاداه، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق. وبناء عليه كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو حاملا رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرّسل من قريش، منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وغيرهم، واحدا بعد واحد، يتردّدون في القضيّة بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك. وكان ذلك من أكبر أسباب هداية أكثرهم. ولما قدم رسولا مسيلمة الكذّاب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لهما: أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود عن نعيم بن مسعود: «والله لولا أنّ الرّسل لا تقتل، لضربت أعناقكما» . والآية تفيد عموم حكم الأمان لأهداف دينيّة أو سياسيّة أو تجاريّة، قال

ابن كثير: والغرض أنّ من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا، أعطي أمانا، ما دام متردّدا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه «1» . ونص الحنفيّة والشافعيّة وغيرهم على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله، أو دخل بأمان للتّجارة، وجب تأمينه وحماية نفسه وماله، إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها، فإن دخل الحربي دار الإسلام بلا أمان، كان مغنوما مع ماله. وقال ابن العربي: الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنّظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين ومنفعتهم «2» . ولا يقتصر الأمر على مجرد كون المستجير طالبا لسماع القرآن، كما صرّحت الآية، وإنما يلحق به كونه طالبا لسماع الأدلّة على كون الإسلام حقّا، وكونه طالبا الجواب عن الشّبهات التي عنده لأن كلّ هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحقّ. والمراد بالسّماع: أن يسمع ما تقوم به الحجّة، ويتبيّن به بطلان الشّرك وحقيقة التّوحيد والبعث وصدق الرّسول في تبليغه عن الله، وكلّ ما يدلّ على أنّ الإسلام حقّ، سواء أكان سورة براءة أو جميع القرآن، أو غير ذلك من الأدلّة العقليّة والبراهين العلميّة.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 337 (2) أحكام القرآن: 2/ 791

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآية ما يأتي: 1- مشروعيّة الأمان، أي جواز تأمين الحربي إذا طلبه من المسلمين، ليسمع ما يدلّ على صحّة الإسلام، وفي هذا سماحة وتكريم في معاملة الكفار، ودليل على إيثار السّلم. 2- يجب علينا تعليم كلّ من التمس منّا تعلّم شيء من أحكام الدّين. 3- يجب على الإمام حماية الحربي المستجير، وصون دمه وماله ونفسه من الأذى، ومنع التّعرّض له بأي شيء من ألوان الإيذاء. 4- يجب على الإمام تبليغه مأمنه، أي وطنه وبلاده بعد قضاء حاجته، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته، عملا بالآية: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» ، قال العلماء: لا يجوز أن يمكّن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكّن من إقامة أربعة أشهر «2» . ونصّ الحنفيّة على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته، وأن يعلمه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام، صار ذميّا مواطنا، وتفرض عليه الجزية «3» . 5- دلّ قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ على أن التّقليد في الدّين غير مقبول، وأنه لا بدّ من تكوين الاعتقاد والإيمان بالنّظر والاستدلال، بدليل إمهال الكفار وتأمينه وتبليغه مأمنه لسماع أدلّة الإيمان، فلا بدّ من الحجّة والبرهان.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 84 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 337 (3) الجصاص، المرجع السابق.

6- قوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ دليل على أن كلام الله عزّ وجلّ مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدلّ عليه إجماع المسلمين على أنّ القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. لكن ذلك كما قال ابن العربي بواسطة اللغات، وبدلالة الحروف والأصوات، أما القدوس فلا مثل له ولا لكلامه. واستدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ كلام الله الذي يسمعه كلّ الناس ليس إلا هذه الحروف والأصوات، وهذه ليست قديمة، فدلّ هذا على أنّ كلام الله محدث مخلوق غير قديم. وأجابهم الرّازي بأن الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم، وإنما نسمع حروفا وأصواتا فعلها الإنسان. وهذا لا شكّ حادث، وأما الكلام الأصلي الصادر عن الله فهو قديم قدم الله تعالى. وهل كلّ أمان من المسلم للحربي نافذ؟ لا شكّ أن أمان السّلطان جائز لأنه قائم للنّظر في مصالح الأمة وأحوالها، نائب عن الجميع في جلب المنافع والمضارّ. وأما أمان غير الخليفة فمختلف في بعض حالاته، فقال الجمهور: يجوز أمان الحرّ والعبد، والكبير والصّبي، والرّجل والمرأة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» . وقال أبو حنيفة: لا أمان للعبد والمرأة والصّبي لأنه لا يسهم لهم في الغنيمة.

أسباب البراءة من عهود المشركين وقتالهم [سورة التوبة (9) الآيات 7 إلى 10] :

أسباب البراءة من عهود المشركين وقتالهم [سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 10] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) الإعراب: كَيْفَ يَكُونُ كيف: محلها النصب على التشبيه بالظرف أو الحال. ويكون إما تامة أو ناقصة، وعهد: اسمها، وخبرها إما كَيْفَ أو لِلْمُشْرِكِينَ أو عِنْدَ اللَّهِ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ هم المستثنون من قبل، ومحله النصب على الاستثناء، أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع، أي ولكن الذين عاهدتم فاستقيموا لهم. فَمَا اسْتَقامُوا ما: شرطية أو مصدرية. وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ جملة الشرط حال، أي حالهم أنهم لا يراعوا حلفا. المفردات اللغوية: كَيْفَ يَكُونُ أي لا يكون، وهو استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد وهم أعداء حاقدون. لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وهم كافرون بالله ورسوله غادرون. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يوم الحديبية وهم قريش المستثنون من قبل. فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أقاموا على العهد ولم ينقضوه. فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء بالعهد.

المناسبة:

كَيْفَ يكون لهم عهد، تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوما. وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يظفروا بكم ويغلبوكم. لا يَرْقُبُوا لا يراعوا، ومنه: فلان لا يرقب الله في أموره، أي لا ينظر إلى عقابه. إِلًّا الإل: الحلف، وقيل: القرابة، واشتقاق الإلّ بمعنى الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا، رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الإل: وهو الجؤار. وسميت به القرابة لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. وَلا ذِمَّةً الذمة والذمام: العهد، الذي يلزم من ضيّعه الذمّ. فاسِقُونَ المراد به هنا ناقضون للعهد والميثاق، متجاوزون ما يوجبه الصدق والوفاء. والعهد: ما يتفق طرفان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينا. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى براءة الله ورسوله من عهود المشركين، وإعلان الحرب عليهم بعد أربعة أشهر إلا من يستجير أو يستأمن لسماع كلام الله أو للرسالة أو للتجارة، أبان سبب البراءة من المشركين وإمهاله إياهم أربعة أشهر، ثم مناجزتهم بكل أنواع القتال، وهو نقضهم العهود ومعاملتهم بالمثل. التفسير والبيان: كيف يكون للمشركين الناكثين للعهد عهد محترم عند الله وعند رسوله؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد، وهم في الواقع أعداء الداء حاقدون مضمرون الغدر، مشركون بالله، كافرون به وبرسوله، يعني محال أن يثبت لهم عهد، فلا تطمعوا في ذلك. وهذا بيان حكمة البراءة وسببها. ثم استدرك واستثنى الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، وهم بنو بكر وبنو ضمرة الذين لم ينقضوا عهودهم المعقودة معهم يوم الحديبية، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا، وهم المستثنون من قبل في قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً.

والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم كما هي عادة القرآن، إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف أي قرب المسجد الحرام. فهؤلاء حكمهم أنهم ما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم، فأقيموا لهم على مثل ذلك. فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب. وهو كقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ غير أن الكلام هنا مطلق، والآية النظير مقيدة. وأعيد ذكرهم هنا لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعية من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية المدة، وأما غيرهم فينبذ عهدهم. ثم أكد الله تعالى ضرورة الوفاء لهم بالعهد بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي يرضى عن الذين يوفون بالعهد، ويتقون الغدر ونقض العهد. وهذا تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين بأن مراعاة العهد من باب التقوى، وإن كان المعاهد مشركا. ثم كرر الله تعالى قوله: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، أي كيف يكون لغير الذين يوفون بعهدهم عهد مشروع محترم واجب الوفاء عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظفروا بكم، لم يراعوا حلفا ولا قرابة ولا عهدا. وهذا تحريض للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، وتبيان أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد، لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسوله، ولأنهم إن تغلبوا على المسلمين لم يبقوا ولم يذروا، ولا يراعوا فيهم إلّا ولا ذمة أي حلفا وعهدا. ومن خبثهم وضغينتهم أنهم قوم مخادعون يظهرون الكلام الحسن بأفواههم، وقلوبهم مملوءة حقدا وحسدا وكراهية: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح 48/ 11] وأكثرهم فاسقون أي متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم،

خارجون من أصول الدين والمروءة والأخلاق، متجاوزون حدود الصدق والوفاء، متحللون من قيود العهد والميثاق. وقال: أَكْثَرُهُمْ لأن نقض العهد كان من الأكثرين، وهناك أقلية حافظت على الوفاء بالعهد، استثناهم تعالى وأمر بالوفاء بعهدهم. ثم ذكر تعالى سببين آخرين للبراءة والقتال وهما: 1- إنهم اشتروا أي اعتاضوا واستبدلوا بآيات الله الدالة على الحق والخير والتوحيد ثمنا قليلا حقيرا من متاع الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات، والالتهاء بأمور الدنيا الخسيسة، فصدوا عن سبيله، أي عدلوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وأخلاقه، وصرفوا أيضا غيرهم عنه، فمنعوا الناس من اتباع الدين الحق، إنهم ساء ما كانوا يعملون، أي بئس العمل عملهم، وقبح ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر والضلالة والصدّ عن دين الله، بدلا من الإيمان والهدى، واتباع شرع الله. روي أن أبا سفيان لما أراد إقناع قريش وحلفائها بنقض عهد الحديبية، صنع لهم طعاما استمالهم به، فأجابوه إلى ما طلب. 2- وهم من أجل كفرهم لا يراعون في شأن مؤمن قدروا على الفتك به حلفا ولا قرابة ولا عهدا على الإطلاق، وأولئك هم المعتدون، أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر، فهم لا يفهمون بغير لغة السيف، والخضوع للقوة لا للعهد والذمة، وقد أثبت التاريخ أنهم كذلك في الواقع. وقد أجمل القرآن صفاتهم بأنهم أولا هم الفاسقون، وثانيا بأنهم المعتدون، فكيف يحترمون العهود؟ وقوله هنا: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ليس تكرارا لأن الأول لجميع المشركين، والثاني لليهود خاصة، بدليل قوله: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني اليهود، فلو أريد بالثاني المشركون كان تكرارا للتأكيد والتفسير.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات أسباب البراءة من المشركين وحكمة الأمر بقتالهم بعد مهلة الأربعة الأشهر: وهي أنهم نقضوا العهد، ولا يرعون في المؤمنين إلّا ولا ذمة أي حلفا وقرابة وعهدا وأمانا، ومخادعون يقولون بألسنتهم ما يرضي في الظاهر وقلوبهم تغلي حقدا وحسدا وكراهية، وأكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم، مما يوجب المبالغة في الذم، أي ناقضون العهد، وأنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، ومنعوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله: سبيل التوحيد والحق والخير، وأنهم معتدون، أي مجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد. واستفيد من الآيات بالنسبة للمؤمنين: أن العهد المحترم عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، ففي الحالين معاملة بالمثل، وأن مراعاة العهد وتنفيذ شروطه من تقوى الله التي يرضاها لعباده. مصير المشركين إما التوبة وإما القتال [سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) الإعراب: فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم، خبر لمبتدأ محذوف. أَئِمَّةَ مفعول به، جمع إمام، وأصله «أأممة» على أفعلة، فألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة الساكنة قبلها، وأدغمت الميم الأولى في الثانية، وأبدل من الهمزة المكسورة ياء مكسورة.

البلاغة:

لا أَيْمانَ لا نافية للجنس، وأَيْمانَ: اسمها، وهي جمع يمين، أي لا عهود لهم. وتقرأ بالكسر، أي لا إيمان، وهو مصدر بمعنى التصديق تأكيدا لقوله تعالى: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وإما مصدر أمنته إيمانا من الأمن، لئلا يكون تكرارا لقوله: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. البلاغة: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وضع أئمة الكفر موضع الضمير، للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة والتقدم في الكفر، أحقّاء بالقتل. وقيل: المراد بالأئمة: رؤساء المشركين، فالتخصيص لأن قتلهم أهم وهم أحق به. المفردات اللغوية: وَنُفَصِّلُ نبين. يَعْلَمُونَ يتدبرون. نَكَثُوا نقضوا العهد، وأصل النكث: نقض الحبل. أَيْمانَهُمْ مواثيقهم. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ عابوه. أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رؤساء الكفر، فيه وضع الظاهر موضع الضمير. لا أَيْمانَ لا عهود. لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عن الكفر. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى حال المشركين من أنهم لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وينقضون العهد، ويضمرون النفاق، ويتعدون ما حدّ لهم، بيّن حالهم بعد ثبوت عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين: التوبة أو القتال. التفسير والبيان: هذا مصير الكفار المشركين بعد إعلان عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين: أحدهما- التوبة الصادقة عن الكفر ونقض العهد والصدّ عن سبيل الله: أي إن تابوا عن شركهم بالله، وآمنوا بالله ربا واحدا لا شريك له، وأقاموا الصلاة، أي أدّوها بشروطها وأركانها باعتبارها عماد الدين، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم الدالة على التكافل بين المسلمين وصدق الاعتقاد، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في

الدين، لهم مالكم، وعليهم ما عليكم. ووصفهم بالإخوة دليل على أن أخوة الدين أعلى وأخلد وأقوى من أخوة النسب. واستحقوا هذا الوصف بالأمور الثلاثة المتقدمة المتلازمة مع بعضها: وهي التوبة عن الكفر ونقض العهد، والإنابة إلى الله والإيمان به، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وَنُفَصِّلُ الْآياتِ، أي نبين الأدلة والبراهين على وجودنا الحق، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما نبين لهم، فيفهمون ويتفقهون. وهذا اعتراض قصد به الحث على تأمل ما فصّل من أحكام المعاهدين، وعلى المحافظة عليها. والثاني- القتال بعد نقضهم العهود: أي إن نقض هؤلاء المشركون ما أبرم معهم من عهود، وطعنوا في دينكم، أي عابوا القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واستهزءوا بالمؤمنين، كما كان يفعل شعراؤهم وزعماء الكفر فيهم، فهم أئمة الكفر وقادته ورؤساؤه، فقاتلوهم قتالا عنيفا، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة لأنهم لما لم يفوا بها صارت كأن لم تكن، وذلك لتكون المقاتلة سببا في انتهائهم ورجوعهم عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإنسان. فقوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين. قال قتادة: أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وآخرين. وليس المراد بالآية هنا هؤلاء لأنها لما نزلت، كان هؤلاء قد قتلوا في بدر. وخصّ الأئمة والسادة منهم بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأعمال الباطلة. وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام، فقد نكث عهده، وعلى أن القتال ليس بقصد المنافع الدنيوية أو الغنائم، أو إظهار الاستعلاء، وحب السيطرة، وإرادة الانتقام، وإنما هو من أجل التمكين من قبول دعوة الإسلام وما الحرب إلا ضرورة يقتصر فيها على قدر الضرورة.

فقه الحياة أو الأحكام:

قال ابن كثير: والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش، فهي عامة لهم ولغيرهم «1» . فقه الحياة أو الأحكام: حضت الآية على التوبة الصادقة عن الشرك والتزام أحكام الإسلام، وعلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا تفرقة بين هذه الأمور الثلاثة. روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته، لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها، والله عنه راض» . فإن أعرض المشركون عن قبول دعوة الإسلام وطعنوا في الدين، استحقوا القتل والقتال، وأصبحت عهودهم لا قيمة لها وكأنها لم تكن. وربما كان القتال سبيلا لقبول الإسلام، والتخلص من الوثنية والشرك. واستدل أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ على أن يمين الكافر ليست يمينا، قال البيضاوي: وهو استدلال ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها، صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان: أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ولو لم يكن منعقدا، لما صحّ وصفها بالنكث. واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدّين إذ هو كافر. والطعن: أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 339

ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه «1» . وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يقتل من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمّة، وإنما يقتل بالحرابة والقتال. وينتقض عهد الذمي إذا طعن في الدين في المشهور من مذهب مالك، وهو مذهب الشافعي لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ فأمر بقتلهم وقتالهم. وقال أبو حنيفة: إنه يستتاب ويعزر، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النّكث «2» لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما- نقضهم العهد، والثاني- طعنهم في الدين. ورد الجمهور بأن ذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا. وإذا حاربنا الذمي نقض عهده، وكان ماله وولده فيئا معه. وأكثر العلماء على أن من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمة، أو عرّض، أو استخف بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، فإنه يقتل فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. ورأى أبو حنيفة والثوري أنه لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدّب ويعزّر. والحجة عليهما قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا الآية. وقتل كعب بن الأشرف لإيذائه النبي وكان معاهدا.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 893 (2) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 85

التحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم [سورة التوبة (9) الآيات 13 إلى 15] :

وإذا سبّه ثم أسلم تقيّة من القتل، يسقط إسلامه قتله في مشهور مذهب مالك لأن الإسلام يجبّ ما قبله، بخلاف المسلم إذا سبّه ثم تاب، قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 8/ 38] . قال القرطبي في قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ: وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم، لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا. التحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) الإعراب: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ: فيه ثلاثة أوجه: الأول- أن يكون فَاللَّهُ مبتدأ، وأَنْ تَخْشَوْهُ: بدل منه، وأَحَقُّ خبر المبتدأ. الثاني- أن يكون فَاللَّهُ مبتدأ، وأَحَقُّ: خبره، وأَنْ تَخْشَوْهُ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، تقديره: فالله أحق من غيره بأن تخشوه، أي بالخشية. الثالث- أن يكون فَاللَّهُ مبتدأ، وأَنْ تَخْشَوْهُ: مبتدأ ثان، وأَحَقُّ: خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره: خبر المبتدأ الأول.

البلاغة:

البلاغة: أَلا تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار، فأفادت المبالغة في الفعل. أَتَخْشَوْنَهُمْ استفهام للإنكار والتوبيخ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ذكر لفظ الجلالة مكان الضمير لغرس الهيبة والرهبة في القلب. المفردات اللغوية: أَلا للحض. نَكَثُوا نقضوا. أَيْمانَهُمْ عهودهم. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة، لما تشاوروا في شأنه بدار الندوة. وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالقتال. أَوَّلَ مَرَّةٍ حيث قاتلوا مع بني بكر خزاعة حلفاءكم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم. أَتَخْشَوْنَهُمْ أتخافونهم. أَنْ تَخْشَوْهُ في ترك قتالهم. يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ يقتلهم. وَيُخْزِهِمْ يذلهم بالأسر والقهر. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يعني خزاعة. غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كربها، أي ويذهب الغيظ عنهم. سبب النزول: نزول الآية (14) : قاتِلُوهُمْ أخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة. وأخرج عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في خزاعة. وأخرج عن السدّي: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال: هم خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، يشف صدورهم من بني بكر. المناسبة: بعد أن قال الله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أتبعه بذكر السبب الذي يبعث على مقاتلتهم، وهو نقضهم العهد، واعتداؤهم على المؤمنين، وبدؤهم لهم بالقتال، وهمهم بإخراج الرسول من بلده، وأما قتالهم فلأجل تطهير الجزيرة العربية من الشرك والوثنية.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا حض وتحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم، وذلك لأسباب ثلاثة ذكرها الله تعالى في هذه الآية: 1- نكثهم العهد: إنهم نقضوا عهودهم التي أقسموا عليها. قال ابن عباس والسدي والكلبي: نزلت في كفار مكة الذين نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة. وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار، ليكون ذلك زجرا لغيرهم. والعهد الذي نقضوه: هو- كما تبين- صلح الحديبية، لمناصرة قريش حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ليلا بالقرب من مكة، على ماء يسمى (الهجير) . فسار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وفتح مكة سنة ثمان هجرية في العشرين من رمضان. 2- إخراج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة: فقد هموا بإخراج الرسول من مكة، أو حبسه حتى لا يراه أحد، أو قتله بيد عصابة من أفراد القبائل ليذهب دمه هدرا، كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ، أَوْ يَقْتُلُوكَ، أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال 8/ 30] وقال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة 60/ 1] وقال عز وجل: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الإسراء 17/ 76] . 3- بدؤهم بالقتال: إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين يوم بدر، حين قالوا بعد العلم بنجاة العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. وكذلك في أحد والخندق وغيرها.

وبعد أن ذكر الله تعالى هذه الأسباب الثلاثة التي تستدعي الإقدام على القتال زاد أربعة أخرى: أولها- تعداد موجبات القتال وتفصيلها، وثانيها- التحميس بالإغارة والتحريك، كما لو قال شخص لآخر: أتخشى خصمك وتخافه؟ وثالثها- كون الله أحق بالخشية لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع وهو القتل، ورابعها- إن كنتم مؤمنين، فالإيمان قوة دافعة على الإقدام. فهذه أمور سبعة تبعث على مقاتلة أولئك الكفار الناكثين. وبعد بيان هذه الأسباب أنكر الله تعالى عليهم الخشية من المشركين ووبخهم عليها، فقال: أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ أي أبعد هذا تتركون قتالهم خشية وخوفا منهم؟ فإن كنتم تخشونهم، فالله أحق بالخشية، أي لا تخشوهم واخشون، فأنا أحق بالخشية منهم، إن كنتم مؤمنين بي، إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده دون سواه لأن بيده النفع والضرّ. وفي هذا دلالة على أن المؤمن الذي يخشى الله وحده يجب أن يكون أشجع الناس وأجرأهم على القتال. وبعد أن ذكر الله تعالى مسوغات القتال وحكمته، أمر به المؤمنين أمرا صريحا، فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ ... أي قاتلوهم أيها المؤمنون، وهذا عام في المؤمنين كلهم، فإن قاتلتموهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة، وهم بنو خزاعة حلفاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال مجاهد. ويذهب غيظ قلوبهم أي قلوب هؤلاء المؤمنين على المشركين من غدرهم وظلمهم وشدة إيذائهم. أو يذهب غيظ قلوبكم لما لقيتم من شدة المكروه منهم. والفرق بين شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب: أن الأول إحداث للسرور بتحقيق النصر الذي ينتظرونه بعد وعد الله لهم به، وأن الثاني: إزالة لآثار الواقع.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة، فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يشكون إليه، فقال: «أبشروا، فإن الفرج قريب» . ثم قال تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وهذا ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وقد حدث ذلك فعلا، فأسلم أناس منهم وحسن إسلامهم، مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو. والسبب في جعل هذه الجملة استئناف كلام جديد هو أن التوبة لا يكون سببها القتال إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال. والله عليم بما يصلح عباده، حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحكيم الذي لا يجور أبدا، ولا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة، ويجازي كل إنسان على ما قدم من خير أو شر في الدنيا والآخرة. وهذا دليل على أن من سنته تعالى تفاوت البشر في قابلية التحول من حال إلى حال بأسباب ومؤثرات تقتضيها المقادير الإلهية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن قتال المشركين الناكثين العهد كان لأسباب كثيرة أهمها نقضهم العهد، والتصميم على طرد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من موطنه، أو حبسه أو قتله، وبدؤهم المؤمنين بالعدوان والقتال، إلى آخر الأسباب السبعة الداعية للقتال. فبالرغم من التحريض على القتال بقوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ فإنه تعالى أثار في المؤمنين روح الشجاعة والإقدام من طريق أنهم لا يخشون أحدا إلا الله، ومن إيمانهم الحق الصادق بالله، فإن من لا يخشى غير الله، وآمن بالله إيمانا

صادقا، هانت عليه الصعاب، وأقدم على المقاتلة بنفس متحمسة لا تعرف التردد والخوف والجبن. ونقل عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً ترغيب في فتح مكة. وهذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة. وقال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال، لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 216] فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات. ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه، وألا يخشى أحدا سواه. وتضمن قوله تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ الإخبار بأن بعض المشركين يتوب عن كفره، وقد حدث ذلك فعلا، وهذا من معجزات القرآن، لتأييد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في دعوته، ودفع الناس إلى الإيمان برسالته، ما دام قد ظهر لهم صدقه. فالآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار، فيكون ذلك إخبارا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجز. وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيمانا حقيقيا لأنها تدل على أن قلوب الصحابة كانت مملوءة بالحمية لأجل الدين، والرغبة الشديدة في إعلاء شأن الإسلام «1» . وأرشدت الآية إلى خمس منافع من هذا القتال: وهي تعذيب المشركين

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 4

اختبار المسلمين واتخاذ البطانة [سورة التوبة (9) آية 16] :

بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، وخزيهم وإذلالهم بعد قتلهم، وتحقيق النصر عليهم، وشفاء الصدور من انتظار الفتح الذي وعدهم الله به، وإذهاب غيظ القلوب. اختبار المسلمين واتخاذ البطانة [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) الإعراب: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا: أن وصلتها: في موضع نصب بحسب، وسدت مع الصلة مسد المفعولين. وَلَمَّا معناها التوقع. وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة: الدخيلة. البلاغة: أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. المفردات اللغوية: أَمْ بمعنى همزة الإنكار، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلّص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله، لوجه الله. وَلِيجَةً أي بطانة من قوم ليس منهم، والمراد هنا: من الذين يضادون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم. وَلَمَّا أي لم، ومعناها التوقع، أي إن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله، يميز بينهم وبين المخلصين. والمراد بقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ نفي المعلوم الموجود لا نفي العلم. وقال السيوطي: المراد علم ظهور. والمعنى: ولم يظهر المخلصون وهم الموصوفون بما ذكر من غيرهم.

المناسبة:

المناسبة: كانت الآيات المتقدمة مرغبة في جهاد المشركين الناقضين العهد، وهذه الآية ترغيب جديد زائد عما سبق لتمييز المجاهدين المخلصين عن غيرهم. التفسير والبيان: الآية مرتبطة بما قبلها، والمعنى: ألا تقاتلون أولئك المشركين الذين نقضوا العهود واعتدوا عليكم إلى آخر الأسباب السبعة التي يوجب كل واحد منها الإقدام على القتال، أم حسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا وشأنكم مهملين بغير اختبار بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب، من طريق الجهاد الذي يتبين فيه الخلّص من المجاهدين منكم بالأموال والأنفس، والذين لم يتخذوا بطانة من الكفار أولياء يسرّون إليهم بأحوال المسلمين وأمورهم وأسرارهم، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، ويتميزوا من المنافقين الذين يطلعون الولائج على أسرار الأمة وسياستها، وقد اكتفى بأحد القسمين عن الآخر، للعلم به ضمنا. قال الجصاص: قوله: وَلَمْ يَتَّخِذُوا ... وَلِيجَةً يقتضي لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم، كما يلزم اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع، وهو كقوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ.. «1» [النساء 4/ 115] . والله خبير في كل وقت بأعمالكم، فيجازيكم عليها. ومن المعروف أن التكليف الشاق على الأنفس هو الذي يحقق الاختبار، ويظهر المخلص من المنافق. وليس المقصود بقوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ نفي علم الله، وأنه تعالى- كما فهم هشام بن عبد الحكم من ظاهر الآية- لا يعلم الشيء إلا حال وجوده، وإنما المراد منه نفي المعلوم الموجود في الواقع وإظهاره على مسرح الحياة، ليكون

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 87.

فقه الحياة أو الأحكام:

دليلا ملموسا على الناس يوم القيامة، يقصد منه أن يصدر الجهاد عنهم فعلا، ويظهر المجاهدون ويتميزوا عن المنافقين، بدليل قوله تعالى في آخر الآية: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي عالم، مطلع على كل شيء، محيط به علما، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له. ونظير الآية في الاختبار قوله تعالى: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت 29/ 1- 3] . ونظير الآية في اتخاذ الوليجة أو البطانة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران 3/ 118] . والخلاصة: أن الله تعالى لما شرع لعباده الجهاد، بيّن حكمته، وهي اختبار عبيده، من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى قبل ذلك وبعده العالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن. فقه الحياة أو الأحكام: تبين من الآية أن المكلف لا يتخلص من العقاب إلا بأمرين: الأول- أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، عن طريق إظهارهم في الواقع، وتمييزهم بين الناس. الثاني- أن يكون المجاهد مخلصا، باطنه وظاهره سواء، لا منافقا، باطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ بطانة أو وليجة من المشركين، يخبرهم بأسرار المسلمين، ويعلمهم بأمورهم، فليس كل مجاهد مخلصا، وليس الغرض من إيجاب القتال القتال نفسه فقط، بل الغرض الإتيان به على وفق أمر الله وحكمه.

عمارة المساجد [سورة التوبة (9) الآيات 17 إلى 18] :

وتبين من الآية أيضا أن الله عالم بالنيات والأغراض، مطلع عليها، لا يخفى عليه منها شيء، فعلى الإنسان التركيز على أمر النية وجعلها خالصة لوجه الله تعالى. عمارة المساجد [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) الإعراب: شاهِدِينَ حال من الواو في يَعْمُرُوا. وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إما عطف على جملة حَبِطَتْ على أنها خبر آخر لأولئك، وإما مستأنفة كجملة أُولئِكَ حَبِطَتْ وفائدتهما تقرير النفي السابق، الأولى: من جهة نفي استتباع الثواب، والثانية: من جهة نفي استدفاع العذاب. أُولئِكَ عبر به للاستبعاد. البلاغة: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر توضيح لأهميتهما وحث على القيام بهما. المفردات اللغوية: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صح لهم وما استقام وما ينبغي لهم. أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ عمارة المسجد لغة: لزومه والإقامة فيه وعبادة الله فيه، وبناؤه وترميمه. وعمارة المساجد نوعان: حسية، ومعنوية، فالحسية: بالتشييد والبناء والترميم والتنظيف والفرش والتنوير بالمصابيح والدخول إليها والقعود فيها، والمعنوية: بالصلاة وذكر الله والاعتكاف والزيارة للعبادة فيها، وذلك

سبب النزول:

يشمل العمرة، ومن الذكر: درس العلم، بل هو أجله وأعظمه وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، فضلا عن فضول الحديث، كما قال الزمخشري. والمساجد فيها وجهان: أحدهما- أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل: مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني- أن يراد جنس المساجد، وتشمل المسجد الحرام، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، فلأن لا يعمروا المسجد الحرام آكد. والمعنى: ما استقام للمشركين أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبّدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. والمساجد في الأصل: جمع مسجد، وهو مكان السجود، ثم صار اسما للبيت المخصص للعبادة. ومن قرأ: مسجد الله، فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض. شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ معنى هذه الشهادة: ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا لها. حَبِطَتْ بطلت. أَعْمالُهُمْ لعدم شرطها وهو الإيمان. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحجاج، ونفكّ العاني (أي الأسير) فأنزل الله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ الآية. وفي رواية أخرى: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر، فعيّروهم بالشرك، فطفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول، فقال العباس: تذكرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت «1» . والمراد أن الآية تضمنت الرد على العباس وأمثاله، لا أنها نزلت عقب قوله.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 139، الكشاف: 2/ 31

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله في أول السورة البراءة عن الكفار، وذكر أنواع فضائحهم وقبائحهم الموجبة تلك البراءة، احتجوا بأن هذه البراءة غير جائزة، وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة لأنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية، ومن جملتها كونهم عامرين للمسجد الحرام، كما ورد في سبب النزول. وكذلك ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود منع عبادة الشرك من المسجد الحرام، وإبطال حق المشركين في الإشراف عليه وخدمته، وذلك مناسب لنقض عهودهم. التفسير والبيان: ما ينبغي للمشركين بالله، وما صح لهم وما استقام أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الحرام بالإقامة فيه للعبادة، أو للخدمة والولاية عليه، ولا أن يدخلوه حجاجا أو عمّارا، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي بشهادة الحال والمقال، بأن يعبدوا الأصنام، وأن يطوفوا بالبيت عراة، وكلما طافوا بالكعبة شوطا سجدوا لها. وقيل: هو قولهم: «لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» فهذه شهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا، أما القول فهذا، وأما العمل فهو عبادة الأصنام. فهم بهذا جمعوا بين الضدين، وبين أمرين متنافيين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح: عمارة بيت الله مع الكفر به. أولئك المشركون بالله حبطت أعمالهم أي بشركهم، وبطلت فلا ثواب لهم، وهم في نار جهنم خالدون لعظم ما ارتكبوه أي ماكثون مقيمون إقامة خلود وبقاء، فإن الكفر محبط للعمل ولا ثواب لصاحبه في الآخرة، بدليل آيات كثيرة في القرآن الكريم منها: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

[الأنعام 6/ 88] ، ومنها: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزّمر 39/ 65] ومنها: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . وبعد أن نفى أهليتهم لعمارة المساجد، أبان من هم أهل لهذه المهمة، فقال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ ... أي إنما يستحق عمارة المساجد وتستقيم منه العمارة، ويكون أهلا لها من اتصف بالإيمان بالله تعالى إيمانا صحيحا، على النحو المبيّن في القرآن من الإقرار بوجود الله والاعتراف بوحدانيته، وتخصيصه بالعبادة، والتوكل عليه، وآمن باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد، ويجزي فيه بالثواب للمحسنين وبالعقاب للمسيئين، وأقام الصلاة المفروضة على الوجه المستكمل لأركانها وشروطها وتدبر تلاوتها وأذكارها، وخشوع القلب لله وخشيته، وآتى الزكاة لمستحقيها المعروفين كالفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولم يخش في قوله وعمله إلا الله وحده، دون غيره من الأصنام والعظماء الذين لا ينفعون ولا يضرون في الحقيقة، وإنما النفع والضر بيد الله. أما إنه لم يذكر الإيمان بالرسول فلأنه دل عليه ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به الرسول، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول. هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات هم الذين يقتصر عليهم عمارة المساجد الحسية بالبناء والتشييد والترميم، والمعنوية بالعبادة والأذكار وحضور دروس العلم، فلا يعمر بيوت الله غيرهم، وهؤلاء هم الذين يرجى بحق أن يكونوا من المهتدين إلى الخير دائما، وإلى ما يحب الله ويرضيه، المستحقون الثواب على أعمالهم، لا أولئك المشركون الضالون الذين يجمعون بين الأضداد، فيشركون بالله ويكفرون بما جاء به رسوله، ويسجدون للطواغيت (الأصنام) ثم يقدمون بعض الخدمات للمسجد الحرام.

وليس المراد من الرجاء المستفاد من (عسى) حقيقته، فذلك لا يصح أن يكون صادرا من الله لأنه ظن بحصول أمر وقعت أسبابه. وإنما عبر بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار من الانتفاع بأعمالهم التي افتخروا بها وتأملوا عاقبتها، أي إذا كان جزاء المؤمنين على أعمالهم منوطا بالرجاء منهم، فليس للكفار أي دور، أو إذا كان حصول الاهتداء للمؤمنين دائرا بين- لعل وعسى- فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى؟! ويؤكد استحقاق عمارة المساجد من قبل المتصفين بالأوصاف السابقة أحاديث نبوية كثيرة، منها في البناء المادي أو الحسي: ما رواه الشيخان والترمذي عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة» . ومنها ما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعا: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها، بنى الله له بيتا في الجنة» والمفحص: موضع البيض. وروى الحارث بن أبي أسامة وأبو الشيخ بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه: «من أسرج في مسجد سراجا، لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له، ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج» . ومنها في العمارة المعنوية: ما رواه الشيخان والحافظ أبو بكر البزار وعبد بن حميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنما عمّار المساجد هم أهل الله» . ومنها ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان. قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ومنها قوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وهو ضعيف: قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإخلال بحرمة المساجد، فقال فيما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وهو ضعيف: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي، يأتون المساجد، فيقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا، وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة» . وفي حديث آخر: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» «1» . فقه الحياة أو الأحكام: استنبط من الآيات ما يأتي: 1- لا ثواب للمشركين في الآخرة على أعمال البر التي تصدر عنهم في الدنيا. 2- المتصفون بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، والمقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة، والذين لا يخشون أحدا سوى الله، هم الجديرون بعمارة المساجد، وأصحاب هذه الصفات الأربعة هم الذين يعمرون المساجد، وهم أهل الاهتداء إلى الخير والصراط المستقيم. 3- دل قوله: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ على أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه، وألا يقصد الرياء والسمعة. والأصح أنه يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد، والقيام بأعمال لا ولاية له فيها، كنحت الحجارة والبناء والنجارة، فهذا لا يدخل في المنع المذكور في الآية، إنما المنع موجه إلى الولاية على المساجد والاستقلال بالقيام بمصالحها، مثل تعيينه ناظر المسجد أو ناظر أوقافه. وقيل: إن الكفار ممنوعون من عمارة مساجد المسلمين مطلقا. ولا مانع أيضا من قيام الكافر ببناء مسجد أو المساهمة في نفقاته، بشرط ألا

_ (1) هكذا ذكره الكشاف، والمشهور على الألسنة «الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (كشف الخفا 1/ 354) .

يتخذ أداة للضرر، وإلا كان حينئذ كمسجد الضرار. ولكن ليس للكافر ترميم المساجد، حفاظا على تعظيمها، ولأن تطهير المساجد واجب لقوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والكافر نجس الاعتقاد، لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة 9/ 28] ولأنه لا يحترز من النجاسات، فدخوله في المسجد ربما يؤدي إلى تلويثه، فتفسد عبادة المسلمين. 4- الترغيب بعمارة المساجد الحسية والمعنوية، كما دلت الآية والأحاديث. 5- قال الواحدي: يمنع الكافر من دخول المساجد، وإن دخل بغير إذن مسلم، استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفد ثقيف في المسجد، وهم كفار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام، وهو كافر. 6- دل قوله: وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ على أن الكفار مخلدون في النار. 7- قوله تعالى في بدء الآية: إِنَّما يَعْمُرُ وتعبيره بكلمة إِنَّما التي تفيد الحصر، دليل على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة، من فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا، وكما أوضحت الأحاديث المتقدمة. 8- قال الجصاص: اقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد، ومن بنائها، وتولي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ- أي العمارة- للأمرين، وهما الدخول والبناء. فإن عمارة المسجد تكون بمعنيين: أحدهما- زيارته والكون فيه، والآخر- ببنائه وتجديد ما استرم منه «1» . 9- دلت الآية على أن عمارة المسجد لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 87

فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله [سورة التوبة (9) الآيات 19 إلى 22] :

فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) الإعراب: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ... في الكلام حذف مضاف إما من أول الكلام تقديره: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وأصحاب عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله. وإما من آخر الكلام تقديره: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله. وإنما وجب تقدير الحذف ليصح المعنى. خالِدِينَ فِيها حال لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ نَعِيمٌ مُقِيمٌ: مبتدأ وصفة، ولَهُمْ: خبر المبتدأ، والجملة صفة لجنات. وضمير فِيها يعود إلى الجنات أو الرحمة أو البشرى. وكذلك ضمير فِيها الثانية حال ... البلاغة: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ استفهام إنكاري لمن يسوي بين هذا أو ذاك. وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ في الجملة حصر، أي هم الفائزون لا غيرهم. بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ تنكير الكلمتين للتفخيم والتعظيم، أي برحمة ورضوان لا يوصفان.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سِقايَةَ الْحاجِّ سقي الحجيج الماء، والسقاية في اللغة: موضع السقي أو إناء السقي. وكانت قريش تسقي الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يتولى هذا العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام. وفي الآية حذف مضاف: أي أجعلتم أهل ذلك. لا يستوون عند الله في الفضل. الظَّالِمِينَ الكافرين. دَرَجَةً رتبة. الْفائِزُونَ الظافرون بالخير. نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ماكثين فيها على الدوام، أكد الخلود بالتأييد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعم الدنيا. سبب النزول: أخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفتيته فيما اختصمتم، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ- إلى قوله- وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وأخرج الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم علي بن أبي طالب مكة، فقال للعباس: أي عم؟ ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أعمر المسجد، وأحجب البيت، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية. والحجابة: هي سدانة البيت وخدمته. والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش، وقد أقرهما الإسلام، جاء في الحديث الوارد في خطبة حجة الوداع عن جابر: «إن مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت» ومآثر العرب: مكارمها ومفاخرها التي تؤثر عنها، أي تروى وتذكر.

المناسبة:

وأخرج عبد الرزاق عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال علي: لقد صليت إلى القبلة قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية كلها. والخلاصة: أن الأصح في سبب النزول ما ذكره النعمان بن بشير، والروايات الأخرى عن الحسن والشعبي والقرظي وابن سيرين تفصيل لمجمل رواية النعمان. المناسبة: هذه الآية مرتبطة بما قبلها، ومكملة لها، فالآية السابقة أوضحت أن عمارة المسجد الحرام مقبولة إذا كانت صادرة عن إيمان، فهي للمسلمين دون المشركين، وهذه الآية أبانت أن الإيمان والجهاد أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج. التفسير والبيان: هذه الآية خطاب للمؤمنين بحسب حديث النعمان بن بشير، وقيل: هي خطاب للمشركين بدليل السياق، والأصح أنها تضمنت المفاضلة التي جرت بين المسلمين والكافرين، لقوله تعالى: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فإن العباس- كما تقدم- احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام وسقى الحاج. والمعنى: أجعلتم أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله سواء في الفضيلة والدرجة؟ فإن السقاية والعمارة، وإن كانتا من أعمال الخير، فأصحابهما لا يساوون في المنزلة أهل الإيمان والجهاد. وهذا معنى قوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أي لا تساوي أبدا بين الفريقين

لا في الصفة ولا في العمل، في حكم الله وفي إثابته، في الدنيا والآخرة. ثم بين عدم تساويهم بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يهدي القوم الكافرين في أعمالهم إلى ما هو الأفضل والأرقى رتبة إذ قد طمس على قلوبهم. والمعنى: إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم، وجعل تسويتهم ظلما، بعد ظلمهم بالكفر. فالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس أفضل وأعظم درجة عند الله من أعمال السقاية والسدانة أو العمارة. ثم بين الله تعالى مراتب التفاضل بين المؤمنين أنفسهم، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي أن المؤمنين بالله ورسوله، المهاجرين من مكة إلى المدينة، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولإعلاء كلمة الله، هم أعظم درجة وأرفع مقاما ومكانة من القائمين بأعمال أخرى كالسقاية والعمارة. وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بفضل الله وكرامته ومثوبته. وهذا الفوز هو أنه تعالى يبشرهم في كتابه المنزل على رسوله برحمة واسعة، ورضوان كامل، وجنات لهم فيها نعيم دائم، وهم في هذا النعيم خالدون على الدوام إلى ما شاء الله تعالى. وإن الله عنده الثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح ومنه الهجرة، والجهاد في سبيله ومن أجل مرضاته، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة 9/ 72] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والرضوان: نهاية الإحسان، وهو شيء روحي، والنعيم في الجنة شيء مادي، فهو لين العيش ورغده. وروى الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن الجهاد مع الإيمان أفضل عند الله من أي عمل آخر من أعمال الخير والبر لأنه بذل للنفس أو المال، بقصد إعلاء كلمة الله. وأما السقاية وعمارة المسجد الحرام فهما وإن كانا عملين طيبين، إلا أنهما ليسا في الدرجة مثل الجهاد. روى عبد الرزاق عن الحسن البصري قال: نزلت آية أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ... في علي وعباس وعثمان وشيبة، تكلموا في ذلك، فقال العباس: ما أراني إلا أني تارك سقايتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيرا» . والآية إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وأن يسوى بينهم، وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر. ومراتب فضل المجاهدين كثيرة، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة، فلهم المزية والمرتبة العلية، وهم الفائزون الظافرون الناجون، وهم الذين يبشرهم ربهم، أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل

ولاية الآباء والإخوان الكافرين وتفضيل الإيمان والجهاد على ثمانية أشياء [سورة التوبة (9) الآيات 23 إلى 24] :

والنعيم المقيم، وهم الخالدون إلى الأبد وإلى ما شاء الله في جنان الخلد، ولهم ثواب عظيم أعده الله لهم في دار كرامته. هؤلاء هم أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة، وهم المختصون بالفوز دون غيرهم. ولاية الآباء والإخوان الكافرين وتفضيل الإيمان والجهاد على ثمانية أشياء [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) البلاغة: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أمر يراد به الوعيد، مثل اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] . المفردات اللغوية: اسْتَحَبُّوا اختاروا، وهو بمعنى: أحبوا الظَّالِمُونَ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وَعَشِيرَتُكُمْ أقرباؤكم ذوو القرابة القريبة اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها كَسادَها عدم رواجها أو عدم نفادها، وبوارها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي أحب إليكم

سبب النزول:

من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله، فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد فَتَرَبَّصُوا انتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ تهديد لهم، والأمر: العقوبة العاجلة أو الآجلة. سبب النزول: نزلت الآيتان فيمن ترك الهجرة لأجل أهله وتجارته. سبب نزول الآية: (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شيء فنضيع، فيرق، فيجلس معهم ويدع الهجرة، فنزلت يعاتبهم سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ الآية «1» . ونزلت في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا آية: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ إلى قوله فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ يعني القتال وفتح مكة. أخرج الفريابي عن ابن سيرين عن علي بن أبي طالب قال لقوم قد سماهم: ألا تهاجروا، ألا تلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فأنزل الله: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية كلها. المناسبة: لما أمر الله تعالى المؤمنين بالتبري عن المشركين ونبذ عهودهم، قالوا: كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه، فذكر تعالى أن

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 140 [.....]

التفسير والبيان:

الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر، وهو قوله: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ. ثم جاءت الآية التالية: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ مؤكدة لمضمون الآية السابقة، وأبان تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية، ليبقى الدين سليما، إذ سلامة الدين تكون بمباينة الكفار وعدم موالاتهم. والخلاصة: أن الدين يغير المفاهيم، فيجعل رابطة الدين أعلى وأقوى وأولى من رابطة العصبية الجنسية، وصلة القرابة، والانتماء للأسرة، ويقرر أن ثمرة الهجرة والجهاد لا تظهر إلا بترك ولاية المشركين، وإيثار طاعة الله والرسول على كل شيء في الحياة. التفسير والبيان: يا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال، وتؤيدون الكفار لأجلهم، أو تطلعونهم على أسرار المسلمين العامة أو الحربية، إن اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا الشرك على الإسلام، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم وأمتهم لأنه خالفوا الله ورسوله، بموالاة الكافرين بدلا من التبرؤ منهم. فبعد أن نهى عن مخالطتهم، أوضح أن هذا النهي للتحريم لا للتنزيه، بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق. ويؤيد ذلك آية أخرى هي إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة 60/ 9] .

ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله، مصدرا ذلك بكلمة إِنِ المفيدة للشك لأن حب الكافرين مشكوك فيه من المؤمنين، والمقصود هو تفضيل حبهم على حب الله، أما أصل الحب فهو أمر فطري طبعي لا لوم عليه، ولا مؤاخذة فيه لأن التكليف يتوجه على الأمور المقدورة للإنسان، لا على الأمور الجبلية الفطرية كالحب والبغض. فقال له: قل: إن كنتم تؤثرون هذه الأشياء الثمانية، وتفضلون الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة (القرابة القريبة) والأموال، والتجارة، والمساكن، على حب الله ورسوله، أي طاعتهما، والجهاد في سبيله الذي يحقق السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظروا حتى يأتي الله بعقابه العاجل أو الآجل. ويمكن تصنيف هذه الأنواع الثمانية بأربعة: وهي مخالطة الأقارب، وذلك يشمل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم بقية العشيرة، والميل إلى إمساك الأموال المكتسبة، والرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة، والرغبة في المساكن. وهذا ترتيب حسن، يبدأ بالأشد تعلقا والأدعى إلى المخالطة وهو القرابة، ثم الحرص على المال، ثم طريق اكتسابه بالتجارة، ثم الرغبة في البناء في الأوطان والدور المخصصة للسكنى. ولكن الله تعالى أبان أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور. ومن المعروف أن محبة هذه الأمور الثمانية بالطبيعة، فمحبة الآباء غريزة عند الأبناء لأن الولد بضعة من أبيه، والولد يشعر أن أباه سبب في وجوده، والعرب قديما وحديثا يفخرون بالآباء، لهذا حث الله على ذكره في الحج مثل ذكر الآباء أو أشد، فقال: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة 2/ 200] .

ومحبة الأبناء غريزة أيضا، بل هي أشد من محبة الآباء إذ الولد فلذة من الكبد، وهو محط الأمل، ومفخرة الأهل، كما قال تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف 18/ 46] . والأخ يتقوى بأخيه، ويربطهما الانتماء للأصول من الأب والأم، قال تعالى لموسى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص 28/ 35] . وحب الزوجة أمر فطري أيضا، وكل من الزوجين يكمل الآخر، وسكينة له، وبينهما الود والتراحم: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21] . وحب العشيرة قائم على الحاجة للتعاون والتناصر، وهو شديد التأثير في المجتمعات القبلية. وحب المال المكتسب قوي عند الإنسان لأنه ثمرة عنائه وجهده، وكذلك حب التجارة أصيل في النفس البشرية لأنه مصدر التمويل، لذا يحرص الشخص على تنمية تجاراته، لتنمو موارده، وتكثر أرباحه، فيستفيد منها. وحب المساكن الطيبة أمر مستكن في النفوس لأنها مهد الراحة والطمأنينة والاستقرار، ووسيلة التفاخر والتظاهر بالنعمة، وربما كانت من المقومات الاجتماعية في الأعراف والعادات. وبالرغم من مظاهر الحب وحقائقه لهذه الأنواع الثمانية، أمر الله تعالى بإيثار حب الله والرسول وطاعتهما والجهاد في سبيله على هذه الأشياء لأن الله تعالى مصدر جميع النعم، وملجأ لدفع كل الكروب والمحن، لذا وصف تعالى المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة 2/ 165] .

وكذلك حب الرسول واجب بعد محبة الله لأنه صاحب الفضل في إنقاذنا من الضلالة إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ولأنه القدوة الحسنة والمثل الأعلى للمؤمنين في تطبيق الشريعة والأخلاق. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» . وروى أحمد والبخاري عن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله: «الآن يا عمر» . وأما الجهاد، وإن كان مكروها لدى بعض الناس: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 216] فإنه السبيل للحفاظ على كرامة الأمة ومنعة البلاد واستقلالها ومصالح الأفراد، وسبب للذود عن الحرمات والأموال والأعراض، وطريق لدفع العدوان وقمع الأطماع، وأساس لتوفير عزة الأمة ومجدها، وبدونه تكون المصالح العامة والخاصة مهددة بالزوال. لذا فرضه تعالى للضرورة من أجل الحفاظ على هذه المقاصد، ولمنع الفتنة في الدين، وحماية المستضعفين، والتمكين لحرية انتشار الإسلام بالطرق السلمية، وكانت محبته أمرا مطلوبا لحياة المسلمين، لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فيما أخرجه الترمذي عن معاذ بن جبل-: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» وقال فيما يرويه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» . ثم ختم الله تعالى الآية بوعيد المخالفين وتهديد المعرضين بعقوبة عاجلة أو

فقه الحياة أو الأحكام:

آجلة، فقال: فَتَرَبَّصُوا ... أي فانتظروا العقاب الآتي عاجلا أو آجلا. قال الزمخشري: وهذه آية شديدة، لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين «1» . وقال البيضاوي: وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يرشد العصاة الخارجين عن حدود الدين ومقتضى العقل والحكمة أو عن طاعة الله إلى معصيته. ونظير هذه الآية قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... [المجادلة 58/ 22] . فقه الحياة أو الأحكام: ظاهر آية: لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ... أنها خطاب لجميع المؤمنين، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها، فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة 5/ 51] ليبين أن القرب قرب الأديان، لا قرب الأبدان. ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان وهبة الأشياء مستثناة من الولاية، بدليل ما أخرجه البخاري:

_ (1) الكشاف: 2/ 33

قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة، وهي مشركة، أفأصلها؟ قال: صلي أمك» . وقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تفسير لقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إما بالمآل وسوء العاقبة، وإما بالأحكام في الدنيا العاجلة، وذلك ظلم، أي وضع الشيء في غير موضعه. وفي آية: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ... دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. ومعنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله كما قال الأزهري: طاعته لهما واتباعه أمرهما، قال الله تعالى: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران 3/ 31] «1» . ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله، ويبغض في الله، حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» . وهذه الآية دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وقال المفسرون: هذه الآية في بيان حال من ترك الهجرة، وآثر البقاء مع الأهل والمال.

_ (1) تفسير القرطبي: 4/ 60

نصر المؤمنين في مواطن كثيرة [سورة التوبة (9) الآيات 25 إلى 27] :

نصر المؤمنين في مواطن كثيرة [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) الإعراب: فِي مَواطِنَ امتناعه من الصرف لأنه جمع وعلى صيغة لم يأت عليها واحد. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ظرف منصوب بالعطف على موضع فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وتقديره: ونصركم يوم حنين. وعطف الزمان وهو يَوْمَ على المكان وهو مَواطِنَ لأن معناه وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ويجوز أن يراد بالموطن: الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون يَوْمَ حُنَيْنٍ منصوبا بفعل مضمر، لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أن قوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدل من يَوْمَ حُنَيْنٍ. أما لو جعل ناصبه هذا الظاهر فلم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرا في جميعها، فصار ناصبه فعلا خاصا به، إلا إذا نصبت إِذْ بإضمار: اذكر. وحُنَيْنٍ: اسم منصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن، ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة. البلاغة: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف خاص على عام للتنويه بشأنه، لمجيء النصر بعد اليأس. وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ استعارة، شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة بضيق الأرض على سعتها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي مواقع الحرب ومشاهدها، مثل بدر وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي واذكر، وهو واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من الطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين، وهم اثنا عشر ألفا، الذين حضروا فتح مكة، منضما إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف، وهم أربعة آلاف مع من انضم إليهم من أمداد سائر العرب. وتسمى غزوته غزوة أوطاس، وغزوة هوازن، في شوال سنة ثمان، فكانوا الجم الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: «لن نغلب اليوم من قلة» فساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدل من يَوْمَ. بِما رَحُبَتْ ما: مصدرية، ورَحُبَتْ: اتسعت، والرحب: السعة، والرحب: الواسع، أي ضاقت عليكم الأرض مع رحبها أي سعتها، فلم تجدوا مكانا تطمئنون إليه، لشدة ما لحقكم من الخوف ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي هاربين منهزمين، وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته البيضاء، وليس معه غير العباس، وأبو سفيان آخذ بركابه سَكِينَتَهُ طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي فردوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ناداهم العباس بإذنه وقاتلوا. وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها أي ملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم بالإسلام. سبب النزول: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ: أخرج البيهقي في الدلائل أن رجلا قال يوم حنين: «لن نغلب اليوم من قلة» وكانوا اثني عشر ألفا، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الآية. المناسبة: لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء وغيرهم، رعاية لمصالح الدين، وعلم الله أن هذا يشق جدا على النفوس، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين، فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا، وضرب مثلا لذلك كثرة عسكر المؤمنين وقوتهم يوم حنين، فلما أعجبوا

أضواء من التاريخ على وقعة حنين:

بكثرتهم انهزموا، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وهو يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا، آتاه الله الأمرين معا على أحسن الوجوه، فكان ذكر ذلك تسلية عن مقاطعة الآباء ومن عداهم، لمصلحة الدين، وإعلاما للمؤمنين ليتذكروا أن عنايته تعالى لهم بالقوة المعنوية، لا بالكثرة العددية. قال مجاهد: هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم، وإحسانه لديهم في نصره إياهم، في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره، لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا، فولوا مدبرين إلا القليل منهم، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قل الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. أضواء من التاريخ على وقعة حنين: كانت هوازن قوة كبيرة بعد قريش، وكانت تنافسها، فلما بلغها فتح مكة، نادى سيدهم مالك بن عوف النصري بالحرب، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، ونصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وساق مع جيشه أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي نفوسهم به، ويقوي شوكتهم، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد، وشهد الحرب دريد بن الصمة، وكان شيخا كبيرا، له رأي وحكمة، ونزلوا بأوطاس: واد في ديار هوازن عند الطائف، كانت فيه وقعة حنين. ولما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم، خرج إليهم، وكان معه إثنا عشر ألفا من

التفسير والبيان:

المسلمين: عشرة آلاف من أصحابه في المدينة، من المهاجرين والأنصار، وألفان من أهل مكة مسلمة الفتح، وهم الطلقاء. واستعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا. ولما رأى المسلمون كثرتهم، وبلوغ عددهم ما لم يبلغه عدد في غزوة سابقة، اغتروا وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» قيل: إن القائل: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: أبو بكر رضي الله عنه. واتكل المسلمون على قوتهم في مبدأ الأمر فانهزموا، ثم لما عدلوا عن غرورهم، وتضرعوا إلى ربهم، كان النصر حليفهم. التفسير والبيان: لقد نصركم الله أيها المؤمنون في مواقع حربية كثيرة، كبدر والحديبية ومكة وقريظة والنضير، وأنتم قلة وهم كثرة: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران 3/ 123] حيث كنتم متوكلين على الله، معتمدين على أن النصر من عند الله. والمواطن الكثيرة: غزوات رسول الله، ويقال: إنها ثمانون موطنا، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين، إما نصرا كاملا وهو الأكثر، وإما نصرا جزئيا للتربية والتعليم، كما حدث في أحد، حينما خالف جماعة من الصحابة أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتركوا جبل الرماة، وكما حدث في حنين حينما اعتمدوا على الكثرة العددية، وغاب عنهم أن الله هو الناصر، لا كثرة الجنود، فانهزموا. وذكر بعضهم أن المواطن أقل من ثمانين، روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرون، قاتل بنفسه في ثمان: بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف. وبعوثه وسراياه ست وثلاثون.

ثم قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ... أي ونصركم أيضا في يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فيه، إذ بلغتم اثني عشر ألفا، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، وقيل: ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد، فكانت الهزيمة عليكم، لاعتمادكم على أنفسكم، وغروركم بقوتكم، وتركتم اللجوء إلى ربكم واهب النصر، فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء الله، وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف، ثم وليتم مدبرين منهزمين. وذلك أنهم اقتتلوا اقتتالا شديدا، فانهزموا أمام ثقيف وهوازن، إذ كمنت هوازن في وادي حنين، ثم بادروا المسلمين بالقتال، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم سيدهم، فولى المسلمون مدبرين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بلجامها وبركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع في السير. وهذا دليل على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وآله وسلم، وما هي إلا من آيات النبوة، ثم قال: «يا رب ائتني بما وعدتني» . ثم قال للعباس وكان صيتا: صح بالناس، فنادى الأنصار ثم نادى: يا أصحاب الشجرة «1» ، يا أصحاب السمرة، فأجابوه: لبيك لبيك. ويدعو الرسول المسلمين إلى الرجعة قائلا: «إلى عباد الله، إلي أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب

_ (1) يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على ألا يفروا عنه.

فتراجع الناس، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، وقيل: ثمانون، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتال المسلمين، فقال: «الآن حمي الوطيس» «1» ثم أخذ كفا من تراب، فرماهم به، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا، قال العباس: «فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا» «لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركض خلفهم على بغلته» . وتمت هزيمة هوازن، وكانت هذه آخر غزوة ضد المسلمين، انتصر فيها المسلمون، وانهزم فيها العرب. ولهذا قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ... أي أفرغ الله طمأنينته وثباته على رسوله، وعلى المؤمنين الذين كانوا معه، وأنزل جنودا لم تروها، وهم الملائكة، كما روي مسلم في صحيحة، لتقوية روح المؤمنين وتثبيتهم، وإضعاف الكافرين بما يقذفون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم. إلا أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، روي عن بعض من أسلم بعد حنين أنه قال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليهم، بيض، ما كان قتلنا إلا بأيديهم؟! وعذب الذين كفروا بسيوفكم بالقتل والسبي والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين في الدنيا، ونظير الآية: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 14] . وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وكانت تلك أكبر غنيمة غنمها المسلمون.

_ (1) يعني: استعرت الحرب، وهي من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يسبق إليه.

وجريا على عادة القرآن في فتح باب الأمل والتوبة أمام الكفار والعصاة، قال تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ثم يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي حدث في الحرب على من يشاء من الكفار، يعني: ومع كل ما جرى عليهم من الخذلان، فإن الله تعالى قد يتوب على بعضهم، بأن يزيل عن قلبه الكفر، ويخلق فيه الإسلام، كما قال أهل السنة، أو بأن يسلموا ويتوبوا فيقبل الله توبتهم، كما قال المعتزلة. والله غفور لمن تاب، رحيم بمن آمن وعمل صالحا. وقد تاب الله على بقية هوازن، فأسلموا، وقدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة «1» ، بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما، فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبي وامرأة، فرده عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء (أهل مكة) لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة: مالك بن عوف النصري، واستعمله على قومه: هوازن، كما كان. روى البخاري عن المسور بن مخرمة: «أن ناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وأبر الناس، وقد سبي أهلونا، وأولادنا، وأخذت أموالنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن عندي من ترون، إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم» قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «هؤلاء جاءونا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء، وطابت به نفسه أن يرده فشأنه، ومن لا فليعطنا، وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا: رضينا وسلمنا.

_ (1) الجعرانة: موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم، فليرفعوا ذلك إلينا» فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا. فقه الحياة أو الأحكام: 1- الآيات تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم، إذ نصرهم في معارك حربية كثيرة، وأن النصر من عند الله، فقد تخطئ الحسابات والاحتمالات، وكثيرا ما تنهزم الكثرة الكاثرة، وتنتصر القلة القليلة، والمعول عليه إنما هو عناية الله بعباده المؤمنين وتأييده لهم، فذلك أقوى تأثيرا من كل القوى العسكرية أو المادية. 2- ذكر العلماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذه الغزوة فيما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة وغيره: «من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه» وهذا في رأي الشافعية والحنابلة صادر عنه بطريق التبليغ والوحي، فهو حكم دائم لا يحتاج إلى إذن الإمام، وفي رأي الحنفية والمالكية: هذا الحكم صادر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الإمامة والسياسة، فلا يستحق في كل معركة إلا بإذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد. ولم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك إلا يوم حنين، وليس في مغازيه كلها. 3- في قصة هذه الغزوة استعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صفوان بن أمية وهو مشرك أدراعا وأسلحة. وهذا يدل على جواز استعارة السلاح، وجواز الاستمتاع بما أستعير إذا كان على المعهود مما يستعار مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه. وفي هذه الغزوة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري «ألا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة.

وفيها أيضا أنه صلى الله عليه وآله وسلم استعان بصفوان في الحرب، وقد قال أبو حنيفة والشافعي: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على المشركين، إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وقال مالك: لم يكن خروج صفوان إلى حنين والطائف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين، إلا أن يكونوا خدما أو نواتية (بحارة) . 4- أبان الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة، فلا يغلبون بكثرتهم، وقد قال: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران 3/ 160] . والنصر عند اشتداد المحنة من أعظم النعم الإلهية، والمحنة هي ما طرأ عليهم من الخوف، حتى لكأنهم لا يجدون في الأرض موضعا يصلح لفرارهم من عدوهم. 5- أنزل الله في هذه المعركة ما يسكن قلوب المؤمنين ويذهب خوفهم، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا، وأنزل ملائكة يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعضعون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي- كما تقدم- أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟! فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقال: «تلك الملائكة» . 6- عذب الله الكافرين في هذه المعركة بالقتل بأسياف المسلمين، وهو جزاؤهم المستحق في دار الدنيا، ثم تاب الله على من انهزم، فهداه إلى الإسلام، كمالك بن عوف النصري رئيس حنين، ومن أسلم معه من قومه. والخلاصة: حدثت أمور ثلاثة يوم حنين: إنزال الله السكينة على رسوله

تحريم دخول المسجد الحرام على المشركين [سورة التوبة (9) آية 28] :

وعلى المؤمنين، وإنزاله جنودا هم الملائكة، وتعذيب الكافرين بالقتل والسبي. 7- لما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هوازن مسلمين، راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فخيرهم بين السبي والأموال، فاختاروا السبي، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءهم وأولادهم، واستطاب أنفس الغانمين عما بيدهم من الأموال، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه من الغنائم أعواضا رضوا بها. وكان من جملة السبي الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر، وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها. وحدثت قصة طريفة عند رد السبي، أخرج مسلم عن ابن عباس قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصحيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل: فقدت بنيا لها، ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه: «أطارحة هذه ولدها في النار» قالوا: لا، قال: لم؟ قالوا: لشفقتها، قال: «الله أرحم بكم منها» . تحريم دخول المسجد الحرام على المشركين [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

البلاغة:

البلاغة: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إِنَّمَا: تفيد الحصر، وقوله: الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ: تشبيه بليغ أي كالنجس في خبث الاعتقاد، حذفت منه أداة الشبه ووجه الشبه، مثل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً أي كالأرباب في طاعتهم. وقال الزمخشري: نَجَسٌ: مصدر، ومعناه ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ عبر عن الدخول بالقرب للمبالغة، أي إنما نهى عن الاقتراب للمبالغة، أو للمنع عن دخول الحرم. وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد به النهي عن الحج والعمرة، لا عن الدخول مطلقا. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع. المفردات اللغوية: نجس ونجاسة: قذارة وعدم نظافة، وإذا وصف به الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس، وإن كان طاهر البدن. والناجس والنجيس: داء خبيث لا دواء له. وفي اصطلاح الفقهاء: ما يجب تطهيره، سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا. الْمَسْجِدَ الْحَرامَ المراد به في رأي عطاء: الحرم كله وهو مكة. وهو مذهب الشافعية أيضا. ورأى المالكية أن المراد خصوص المسجد الحرام، أخذا بظاهر اللفظ، ولكن بقية المساجد تقاس عليه لأن العلة وهي النجاسة موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد، فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها. ومذهب الحنفية: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا، كما كانوا يعملون في الجاهلية. بَعْدَ عامِهِمْ هذا العام التاسع من الهجرة عَيْلَةً فقرا بانقطاع تجارتهم عنكم، وفعله: عال يعيل عيلا وعيلة فهو عائل. وأعال: كثر عياله، ويعول عيالا كثيرين، أي يمونهم ويكفيهم معاشهم مِنْ فَضْلِهِ عطائه وتفضله وقد أغناهم بالفتوح والجزية. سبب النزول: نزول وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه، فلما منعوا

المناسبة:

عن أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا الطعام، فأنزل الله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وأخرج ابن جرير الطبري وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ شق ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام والمتاع؟ فأنزل الله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية. المناسبة: لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا رضي الله عنه أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة، وينبذ إليهم عهدهم، سنة تسع من الهجرة، وأن الله بريء من المشركين ورسوله، قال أناس: يا أهل مكة، ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل، وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة. التفسير والبيان: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن المشركين أنجاس، فاسدو الاعتقاد، منغمسون في النجاسة، فهم أنجاس إما لخبث باطنهم وفساد عقيدتهم لعبادة الأصنام والأوثان، أو لأن معهم الشرك الذي هو مثل النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات الحسية. وإذا كانوا أنجاسا، فلا يدخلوا المسجد الحرام، ولا أن يطوفوا به عراة. فهذا نهي للمؤمنين أن يمكنوا المشركين من دخول المسجد الحرام بعد العام التاسع من الهجرة. وقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يدل على الحصر، أي لا نجس إلا المشرك. والمراد بالمشركين في رأي الأكثرين هم عبدة الأوثان، وقال قوم: بل يتناول جميع الكفار، بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ،

وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . وهذا هو الأرجح الظاهر من الآية. والمراد بالنجس: النجاسة المعنوية أي نجاسة الاعتقاد. ونقل الزمخشري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير، تمسكا بظاهر هذه الآية «1» . ولكن جمهور الفقهاء اتفقوا على خلاف ذلك وعلى طهارة أبدانهم، فليس المشرك أو الكافر نجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب. والمقصود بالمسجد الحرام كما تبين في المفردات: الحرم كله في رأي عطاء والشافعية، وخصوص المسجد الحرام في مذهب المالكية أخذا بظاهر اللفظ، ورأى الحنفية أن ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا، كما كانوا يعملون في الجاهلية، بدليل قوله تعالى: بَعْدَ عامِهِمْ هذا أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو العام التاسع من الهجرة، ولقول علي رضي الله عنه حين نادى بسورة براءة: «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك» ولأن قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً يدل على أن خشية العيلة بسبب انقطاع مواسم المشركين، لمنعهم من الحج والعمرة، ولإجماع المسلمين على منع المشركين من سائر أعمال الحج وإن لم تكن في المسجد. ثم ألقى الله الطمأنينة في قلوب المسلمين بشأن توافر موارد الأطعمة وأنواع التجارات، فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ... أي وإن خفتم أيها المسلمون فقرا، بسبب قلة جلب الأقوات وأنواع التجارات التي كان المشركون يجلبونها، ومنعوا بعد هذا العام من دخول المسجد الحرام، فسوف يغنيكم الله من فضله وعطائه بوجه آخر، وييسر لكم موارد المعيشة والأرزاق والمكاسب.

_ (1) وهو قول الهادي من أئمة الزيدية ورأي بعض الظاهرية، وروى ابن جرير عن الحسن: من صافح مشركا توضأ.

فقه الحياة أو الأحكام:

إن الله عليم بأحوالكم وبما يكون في المستقبل من غنى وفقر، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهي، كالأمر بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم، والنهي عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام، وهو أيضا حكيم فيما يعطي ويمنع لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره تعالى. وهذا إخبار عن غيب في المستقبل، وقد تحقق الخبر، وأنجز الله وعده، فأسلم أهل اليمن وأهل جدة وجرش وغيرهم، وصاروا يحملون الأطعمة إلى مكة، وأسلم المشركون أنفسهم، ولم يبق منهم أحد يمنع من الحرم، وأتتهم الثروات والخيرات من كل مكان، وجاءتهم الغنائم وأموال الجزية التي كانوا يأخذونها من أهل الذمة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أن المؤمن طاهر ليس بنجس. لذا كان مذهب المالكية والحنابلة: إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم، وقال الشافعي: أحب إلي أن يغتسل. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بثمامة بن أثال يوما، فأسلم، فبعث به إلى حائط (بستان) أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد حسن إسلام صاحبكم» وأخرجه مسلم بمعناه. وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. 2- المشرك ممنوع من دخول المسجد الحرام، والمقصود به لدى الشافعية: حرم مكة كله، سواء مساجدها وغيرها، فلا يمكن الكافر من دخول حرم مكة «1» . قال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين، وبخاصة في المسجد

_ (1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي: ص 173 وما بعدها.

الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، كما دخل في المسجد ثمامة وأبو سفيان، وهما مشركان. وقال المالكية: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد، إلا في حالة العذر، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم. وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله، واستدل بهذه الآية، ويؤيدهم قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور 24/ 36] ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها، ولأن قوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة «1» . وأباح الحنفية للكافر دخول المساجد كلها في الحرم وغيره لحاجة أو لغير حاجة لأن المقصود بالآية النهي عن حج المشركين واعتمارهم، كما تقدم بيانه. فلا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان. 3- قال الرازي: لا شبهة في أن المراد بقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا السنة التي حصل فيها النداء من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة «2» أي أن المنع يبدأ من السنة العاشرة. 4- الفضل المذكور في الآية مطلق، يشمل كل ما أغناهم الله به، وهو الأصح، وقيل: المراد به حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء وحنين، فإنه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين. وقيل: المراد به الجزية، وقيل: الفيء.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 901، تفسير القرطبي: 8/ 104 وما بعدها. (2) تفسير الرازي: 16/ 26.

وقوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم، وقد وقع الأمر مطابقا لذلك الخبر، فكان معجزة. وفي هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بأسباب الرزق جائز، ولا ينافي ذلك التوكل، وإن كان الرزق مقدرا، وأمر الله وقسمه مفعولا، ولكنه علقه بالأسباب، لحمل الناس على العمل، والسبب لا ينافي التوكل، بدليل ما أخرج البخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا «1» » فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يعارضه الغدو والرواح في طلب الرزق. وقوله تعالى: إِنْ شاءَ يدل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو فضل من الله تعالى تولى قسمته، وذلك في قوله: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... [الزخرف 43/ 32] . 5- إقامة الكفار في ديار الإسلام: بلاد الإسلام بالنسبة لدخول الكفار إليها وإقامتهم فيها ثلاثة أقسام: الأول- الحرم المكي: يمنع الكافر من دخول الحرم المكي وهو قول الشافعية والحنابلة، عملا بظاهر الآية، فلا يسمح لكافر بدخول الحرم، ولو كان حاملا رسالة، وإنما يخرج إليه الإمام أو نائبه خارج الحرم ليسمع رسالته. وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام بأمان لمدة ثلاثة أيام، أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام. وأباح أبو حنيفة أيضا للكافر دخول الحرم بإذن الإمام أو نائبه، ثلاثة أيام بلياليها.

_ (1) أي تغدو بكرة وهي جياع، وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف والبطون.

الثاني- الحجاز: وهو ما بين عدن إلى حدود العراق طولا، وما بين جدّه وما والاها من ساحل البحر إلى حدود الشام عرضا. يجوز للكافر دخولها بالإذن لمدة ثلاثة أيام فقط. روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلما» وفي رواية لمسلم: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» . والمراد من جزيرة العرب في رأي الشافعية والحنابلة هو الحجاز خاصة، كما حكى ابن حجر عن الجمهور، بدليل رواية أحمد: «أخرجوا اليهود من الحجاز» ولفعل عمر رضي الله عنه فيما رواه البخاري والبيهقي، حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب. ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم الحديث السابق عن ابن عمر، وحديث عائشة عند أحمد: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وما أخرجه مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . الثالث- سائر بلاد الإسلام: يجوز للكافر أن يقيم فيها بأمان، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن المسلم، فيجوز للكافر دخول المسجد واللبث فيه، وإن كان جنبا، فإن الكفار كانوا يدخلون مسجده صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن فيهم الجنب، وقد ترجم البخاري: دخول المشرك المسجد «1» .

_ (1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي: ص 318

قتال أهل الكتاب [سورة التوبة (9) آية 29] :

قتال أهل الكتاب [سورة التوبة (9) : آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) الإعراب: مِنَ الَّذِينَ بيان للذين الأولى، وهي بدل. عَنْ يَدٍ في موضع حال. المفردات اللغوية: لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لا يؤمنون إيمانا صحيحا بالله لأن اليهود جعلوا عزيرا ابن الله، والنصارى جعلوا عيسى ابن الله، وهو الله، ولا يؤمنون باليوم الآخر على نحو صحيح لأن النصارى يجعلون الدينونة والحساب لعيسى لا لله تعالى، ثم إنهم جميعا كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم الذي أمروا في كتبهم بالإيمان به، فلم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاؤوا به، وإنما يتبعون أهواءهم فيما هم فيه، ولا يتبعون شرع الله ودينه ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كالخمر والربا وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ الثابت الناسخ لغيره من الأديان، وهو دين الإسلام، يقال: دان بكذا: اتخذه دينا وعقيدة مِنَ الَّذِينَ بيان للذين الأولى. أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصاري حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ يلتزموا أداء الجزية، وهي ضريبة مفروضة على الأشخاص القادرين، لا على الأرض، كضرائب الدخل اليوم عَنْ يَدٍ سعة وقدرة وَهُمْ صاغِرُونَ الصغار: التزام أحكام الإسلام وسيادته. سبب النزول: روى ابن المنذر عن الزهري قال: أنزلت في كفار قريش والعرب:

المناسبة:

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ونزلت في أهل الكتاب: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية، فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسّلام. وروى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن الحسن البصري قال: قاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام، لم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد على هذه الآية في شأن أهل الكتاب: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهودهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وإبعادهم عن المسجد الحرام، أعقبه ببيان حكم أهل الكتاب: وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية. وفي ذلك توطئة للكلام عن غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب، والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ، حين طابت الثمار واشتد الحر، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين، وتمحيص المؤمنين. التفسير والبيان: لما كفر اليهود والنصارى بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لم يبق لهم إيمان صحيح، ولا شرع ولا دين، وإنما يتبعون أهواءهم لأنهم لو كانوا مؤمنين بأصل دينهم، لقادهم ذلك إلى الإيمان برسالة الإسلام وبنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به، وأمروا باتباعه، ولم يعد ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء لأن الإسلام من عند الله، وختمت به الديانات، فلم يكف الإيمان بالبعض دون البعض، ما داموا قد كفروا بخاتم النبيين وأشرف المرسلين. لهذا أمر الله بمقاتلة أهل الكتاب، إذا كانوا موصوفين بصفات أربع وهي:

1- إنهم لا يؤمنون بالله: فإن أكثر اليهود مشبّهة يعتقدون أن الإله جسم، والله منزه عن الجسمية والشبيه، فهم لا يؤمنون بوجود الله وتوحيده حقا، وجودا منزها عن التجسيم. والنصارى يعتقدون بالتثليث ثم التوحيد، فهم يقولون بوجود الأب والابن وروح القدس، ثم يعتقدون أن الإله حل في عيسى، فأصبح هو الرب، والله منزه عن الاتحاد والحلول في غيره، وعن الابن والشريك، فصاروا لا يؤمنون بوجود الإله الحق. ثم إن اليهود يقولون: عزيز ابن الله، وكل من اليهود والنصارى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يشرّعون لهم العبادات ويحرّمون، ويطيعونهم في ذلك، فصاروا بمثابة الرب. 2- إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على النحو الصحيح، فهم يعتقدون بأن الأرواح هي التي تبعث دون الأجساد، كالملائكة، وأن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون، وليس هناك متع مادية، ويرون أن نعيم الجنة وعذاب النار معان روحية فقط كالسرور والهم، فهم لا يؤمنون بحياة كاملة مادية وروحية في عالم الآخرة، وهذا مناف لما أخبر به القرآن، ومن أنكر البعث الجسماني، فقد أنكر صريح القرآن. 3- وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: فهم لا يحرمون ما حرمه القرآن وسنة الرسول، ولا يحرمون ما حرمه موسى وعيسى عليهما السّلام، بل حرفوا التوراة والإنجيل، وشرعوا لأنفسهم أحكاما تخالف أصل دينهم المنسوخ بحكم الإسلام، فترى اليهود يستحلون أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، والنصارى استباحوا ما حرم عليهم في التوراة كالشحوم والخمور. 4- ولا يدينون دين الحق: أي لا يعتقدون بصحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق، وإنما يسيرون على وفق ما وضعه رجال الدين بحسب أهوائهم،

فبدلوا التوراة والإنجيل، ولم يعد أصل الدين المطابق للإسلام والموحى به إلى موسى وعيسى عليهما السّلام هو المعمول به. فقاتلوا هؤلاء الموصوفين بأنهم من أهل الكتاب، لتمييزهم عن المشركين في الحكم، فالمشركون يجب في حقهم القتال أو الإسلام، وأهل الكتاب يجب فيهم أحد خصال ثلاث: القتال أو الإسلام أو الجزية. وغاية قتالهم حتى يلتزموا الدخول في عهد مصحوب بأداء الجزية، وهم صاغرون أي ملتزمون الخضوع لأحكام الإسلام. وكما أن قتال المشركين واجب إذا حاربوا المسلمين، كما تقدم بيانه عن ابن العربي «1» ، كذلك قتال أهل الكتاب عند وجود مقتضيات القتال، كالاعتداء على المسلمين أو بلادهم أو أعراضهم أو فتنتهم عن دينهم أو تهديد أمنهم وسلامتهم، كما حصل من الروم، فكان ذلك سببا لغزوة تبوك، أو حسبما يرى الإمام من المصلحة الحربية معتمدا على التحركات المشبوهة، والاستعدادات الحربية، والحشود العسكرية على حدود دار الإسلام. وقد سموا بأهل الكتاب لأن لهم في الأصل كتابا سماويا، ويعتقدون في الجملة بالإله وبالبعث والحساب والرسل والشرائع والملل. ويسمون أيضا «أهل الذمة» أي أهل العهد والميثاق الذي يوجب الإسلام معاملتهم بالعدل والمساواة بمقتضى ذمة الله ورسوله. ويقال لهم أيضا «المعاهدون» لأنهم يقيمون في دار الإسلام بموجب عهد أو معاهدة معقودة بيننا وبينهم، ويجب تنفيذ أحكامها واحترامها من الجانبين، ويحرم ظلمهم وتكليفهم مالا يطيقون.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 889

والصغار كما تقدم وذكر بعض الفقهاء كالشافعية وابن القيم: هو التزام الأحكام، وليس الإذلال والإهانة. والجزية ليست من مبتدعات الإسلام، وإنما كانت معروفة لدى الفرس، وأول من سنّها كسرى أنو شروان، فعمل بها عمر حينما افتتح بلاد الفرس. ولم يحدد القرآن مقدارها، فاختلف الفقهاء في تقديرها، فقال الشافعي: هي في السنة دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، لما روى أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية. قال الشافعي: وهو أي الرسول المبيّن عن الله تعالى مراده. وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز. وتؤخذ في آخر السنة. وقال المالكية: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق (الفضة) ، الغني والفقير سواء، ولو كان مجوسيا، لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر، لا يؤخذ منهم غيره. وقال الحنفية: مقدار الجزية اثنا عشر درهما على الفقراء، وأربعة وعشرون درهما على الأوساط، وأربعون درهما على الأغنياء. وتؤخذ في أول السنة. ويعامل المجوس في أخذ الجزية معاملة أهل الكتاب، قال ابن المنذر: لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم. روى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» قال ابن عبد البر: يعني في الجزية خاصّة. وفي هذا القول دليل واضح على أنهم ليسوا أهل كتاب. أما أهل الأوثان: فقال الشافعي رحمه الله وجمهور الفقهاء: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب على التخصيص، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين

خصّوا بالذكر، فتوجه الحكم إليهم دون سواهم لقوله عز وجل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] ولم يقل: حتى يعطوا الجزية، كما قال في أهل الكتاب. فلا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب. وقال الأوزاعي والمالكية: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذّب، عربيا أو عجميا، تغلبيا أو قرشيا، كائنا من كان إلا المرتد. والجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين لأنه تعالى قال: قاتِلُوا الَّذِينَ إلى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل، وقد أجمع العلماء على أن الجزية تؤخذ من الرجال الأحرار المقاتلين. وإذا أعطوا الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا زروعهم ولا تجارتهم، إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقرّوا فيها وصولحوا عليها، فحينئذ يؤخذ منهم العشر إذا باعوا أمتعة التجارة، وحصلوا على أثمانها، ولو كان ذلك في السنة مرارا، إلا في حملهم الطعام: الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة على التخصيص، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر، على ما فعل عمر. ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدّب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدّى، ويجب عليه الضمان في مذهبي المالكية والحنفية. وإن امتنعوا من أداء الجزية وغيرها، وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا، قوتلوا في رأي الجمهور غير الحنفية. وإن قطعوا الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية، أي يطبق عليهم حكم آية المحاربة: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة 5/ 33] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وإذا أسلموا سقطت عنهم الجزية باتفاق الفقهاء، لما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني عن ابن عباس من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ليس على مسلم جزية» وفي رواية للطبراني عن ابن عمر: «من أسلم فلا جزية عليه» . وكما تسقط الجزية بالإسلام تسقط بالموت. لذا فإنها تجب بدلا عن عصمة الدم، وسكنى دار الإسلام. فقه الحياة أو الأحكام: هذه آية الجزية التي تدخل ضمن معاهدة بين المسلمين وغيرهم، ليستوطنوا في دار الإسلام بأمان وسلام، مع إخضاعهم لأحكام الإسلام المدنية والجزائية، وما عدا ذلك فإنا في عباداتهم أمرنا بتركهم وما يدينون. وقتالهم مثل قتال المشركين إذا حاربونا واعتدوا علينا، فإنما القتال لمن قاتلنا كما قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة 2/ 190] . وربما تكون الإقامة في دار الإسلام من قبل هؤلاء المعقود لهم عقد الذمة سببا في تعرفهم على محاسن الإسلام وقوة دلائله، فيتركون دينهم، وينتقلون من الكفر إلى الإيمان. ومقتضى عقد الذمة: حقن الدماء، ومنع القتال، والتزام أحكام الإسلام، مع تقريرنا البقاء على دينهم إذ لا إكراه في الدين، ولكن ليس يراد بذلك الرضا بكفرهم. ودلت الآية على أن دين الحق هو الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] والإسلام: هو التسليم لأمر الله وما جاءت به

عقيدة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) [سورة التوبة (9) الآيات 30 إلى 33] :

رسله، والانقياد له، والعمل به. والدين: يراد به الطاعة، أو القهر، أو الجزاء «1» . والكفر: إنكار وجود الله، أو نسبة الشريك له، أو عدم الإيمان برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أو تكذيب أحد الأنبياء السابقين. وأرى أن المراد بالدين هنا: النظام الموضوع من الله لعباده في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع. عقيدة أهل الكتاب (اليهود والنّصارى) [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) الإعراب: قالَتِ الْيَهُودُ هذا لفظ خرج على العموم، ومعناه الخصوص لأنه ليس كلّ اليهود قالوا ذلك.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 90

لبلاغة:

عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ من قرأ بالتّنوين كان عُزَيْرٌ مبتدأ، وابْنُ خبره. ولا تحذف الألف في ابن من الخط، ويكسر التّنوين لالتقاء السّاكنين. ومن قرأه بغير تنوين ففيه ثلاثة أوجه: الأول- أن يكون عُزَيْرٌ مبتدأ، وابْنُ خبره، وحذف التّنوين لسكونه وسكون الباء من ابْنُ كقراءة من قرأ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص 112/ 1- 2] فحذف التّنوين لسكونه وسكون اللام. الثاني- أن يجعل ابْنُ صفة لعزيز، وابن: إذا كان صفة لعلم مضافا إلى علم، حذف التّنوين من الأول، مثل: زيد بن عمرو. ويكون خبر المبتدأ محذوفا تقديره: وقالت اليهود عزيز ابن الله معبودهم، وحذف الخبر للعلم به، كما يحذف المبتدأ للعلم به. الثالث- أن يكون عُزَيْرٌ ممنوعا من الصّرف للعجمة والتّعريف كإبراهيم وإسماعيل، وهذا أضعف الوجوه لأنه عند المحققين عربي مشتق من (عزّره) : إذا عظّمه ووقّره. لبلاغة: يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أراد نور الإسلام، فيه استعارة، شبّه الإسلام بوضوح أدلّته وقطعيّتها وإضاءتها بالشّمس السّاطعة في نورها وضيائها. المفردات اللغوية: عُزَيْرٌ هو المعروف عند اليهود باسم (عزرا) المنسوب إلى العازار بن هارون. يُضاهِؤُنَ يشابهون به في الكفر والشّناعة. قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ إلى غيره مع قيام الدّليل؟ أَحْبارَهُمْ علماء اليهود، جمع حبر. وَرُهْبانَهُمْ عبّاد اليهود المنقطعين للعبادة، جمع راهب. أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يتّبعونهم في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ. أَرْباباً جمع ربّ: وهو الخالق الذي يختصّ بالتّشريع حلاله وحرامه. وَما أُمِرُوا في التّوراة والإنجيل. إِلَّا لِيَعْبُدُوا أي بأن يعبدوا. سُبْحانَهُ تنزيها له. يُرِيدُونَ يقصدون إلى الشيء، أو يفعلون فعلا يفضي إلى المراد، وإن لم يقصدوه. نُورَ اللَّهِ هو دين الإسلام وشرعه وبراهينه. بِأَفْواهِهِمْ بأقوالهم فيه. أَنْ يُتِمَّ يظهر. أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم. لِيُظْهِرَهُ يعليه. عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ جميع الأديان المخالفة له.

سبب النزول نزول الآية (30) :

سبب النّزول: نزول الآية (30) : وَقالَتِ الْيَهُودُ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سلّام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيزا ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى في آية الجزية المتقدمة أن اليهود والنّصارى لا يؤمنون بالله، أوضح ذلك في هذه الآية، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا شرك، ومن جوّز ذلك فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأنهم اتّخذوا علماءهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ في التّحليل والتّحريم، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وهديه. وهذه الآيات دليل واضح في بيان سبب قتال المؤمنين لأهل الكتاب. التفسير والبيان: قالت اليهود أي بعضهم: عزيز ابن الله، وعزيز: كاهن يهودي سكن بابل حوالي سنة 457 ق. م، وأسّس المجمع الكبير، وجمع أسفار الكتاب المقدّس، وألّف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا، وهو يعدّ ناشر اليهودية، بعد أن نسيت، فقدّسه اليهود ووصفوه بأنه ابْنُ اللَّهِ. والثابت عند المؤرّخين حتى اليهود أنفسهم أن التوراة التي كتبها موسى، ووضعها في تابوت العهد قد فقدت عند ما تغلّب العمالقة على بني إسرائيل، أو بختنصّر قبل عهد سليمان عليه السّلام، فإنه لما فتح التّابوت، لم يجد فيه غير لوحي الوصايا العشر، كما جاء في سفر الملوك الأوّل، وأنّ عزرا هو الذي كتب

التّوراة بعد السّبي بالحروف الكلدانية مع بقايا العبرانية. ويرى النقّاد- كما جاء في دائرة المعارف البريطانية- أن أسطورة عزرا اختلقها الرّواة اختلاقا. وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وكان قدماؤهم يريدون بالنبوّة معنى مجازيا لا حقيقيا، يعنون به أنه المحبوب المكرّم عند الله، ثم تأثروا بوثنية الهنود، فصاروا يعنون بالبنوّة معنى حقيقيا، وأن ابن الله هو الله، وهو روح القدس، إذ اندمجت هذه الأقانيم الثلاثة وصارت واحدا حقيقة، وكان أول من أعلن ذلك مجمع نيقية 325 م أي بعد المسيح بثلاثة قرون، وصارت كلمة (الثّالوث) وهي الأب والابن وروح القدس تطلق على هذه الأقانيم الثّلاثة، التي حلّت في اللّاهوت. وكتبت الأناجيل بعد المسيح عليه السّلام في مدّة تتراوح بين قرن وثلاثة قرون، وقد تأثّرت بوثنية الرّومان، بعد أن فقد الإنجيل الأصلي الذي نزل على عيسى عليه السّلام. وبما أنّ كلّا من اليهود والنّصارى لا يعتمدون على أصل صحيح لديانتهم، وأن المكتوب لديهم مخترع موضوع من قبل علمائهم، لذا كذّبهم الله تعالى بقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي لا مستند لهم فيما ادّعوه سوى افترائهم واختلاقهم، كما قال تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف 18/ 4- 5] . يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي يشابهون في كفرهم قول من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضلّ هؤلاء، وهم الوثنيّون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرّومان. كما أن مشركي العرب كانوا يقولون: الملائكة بنات الله. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم الله، كيف يصرفون عن الحق وهو توحيد الله

وتنزيهه إلى غيره وهو الشّرك الباطل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله، ولا يعقل أن يجعل المخلوق خالقا، مع أنه يأكل ويشرب ويتعب ويألم، لذا قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ... [المائدة 5/ 75] ، وقال تعالى عن المسيح: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزّخرف 43/ 59] ، وقوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [النساء 4/ 172] . ثم أوضح تعالى وجه مضاهاة من كفروا قبلهم، فقال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي اتّخذوا اليهود والنصارى رؤساء الدّين فيهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يقومون بحقّ التّشريع، فيحلّون الحرام، ويحرّمون الحلال، ويطيعونهم في ذلك، تاركين حكم الله. أما اليهود فقد أضافوا لأحكام التّوراة ما شرعه رؤساؤهم، وأما النّصارى فقد غيّروا أحكام التّوراة وأوجدوا شرائع أخرى في العبادات والمعاملات. ويوضح ذلك قصة إسلام عدي بن حاتم، روى الإمام أحمد والتّرمذي وابن جرير الطّبري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فرّ إلى الشّام، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على أخته، وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطّائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم- وفي عنق عدي صليب من فضة- وهو يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنّهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إيّاهم.

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا عدي ما تقول؟ أيضرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرّك؟ أيضرّك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟» . ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم، والنّصارى ضالّون» . ثم أبان الله تعالى ترك أولئك الرؤساء دينهم، فقال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى إلا أن يعبدوا إلها واحدا، وهو الله الذي شرّع لهم أحكام الدّين، وهو ربّهم وربّ كلّ شيء، فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أنه تعالى شرعا وعقلا لا يوجد إله غيره، وأنه تعالى تنزّه وتقدّس عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه. ولكن هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب يريدون أن يطفئوا نور الإسلام الذي بعث به رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، ويطفئوا شعلة الحقّ ومصباح الهداية، فيضلّ الناس أجمعون. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه، ولو كره الكافرون ذلك بعد تمامه، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه. أما اليهود فكانوا أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، فهم كمشركي العرب. وأما النّصارى الرّوم فبدؤوا عدوانهم على المسلمين، ثم استمرّ الأوربيون في عدوانهم على الشرق الإسلامي، ثم جاءت الحروب الصّليبيّة التي مثّلت قمّة

العدوان على المسلمين، وما زالت السّياسة الاستعمارية والتّبشيرية تحتضن المخططات الرّهيبة لتفريق المسلمين وإبعادهم عن دينهم بمختلف الوسائل الإعلامية والمواقف الحاقدة المتحيّزة ضدّ مصالحهم في أي مكان. وأما النّور الإسلامي فهو الذي أرسل الله به رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر. والهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدّنيا والآخرة. والهدف من ذلك أن يعلي تعالى هذا الدّين على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك الإظهار. وقد وصفوا بالشّرك بعد الوصف بالكفر للدّلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرّسول والشّرك. وقد تحقّق وعد الله ونصره، كما ثبت في الصّحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعزّ عزيزا، ويذلّ ذليلا، إما يعزّهم الله، فيجعلهم من أهلها، وإما يذلّهم فيدينون لها» . وفي مسند أحمد أيضا عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «فوالذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الدّين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أثبتت الآيات أن أكثر اليهود وأكثر النّصارى مشركون لأنهم نسبوا الابن لله، مقلّدين في ذلك من سبقهم من الكفار كمشركي العرب الذين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك، فإن حكاية الله عنهم أصدق، ولعلّ هذا المذهب كان فاشيا فيهم، ثم انتهى. وقال ابن العربي: في هذا دليل من قول ربّنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره- الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به- لا حرج عليه لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له، والردّ عليه، فلا يمنع ذلك منه، ولو شاء ربّنا ما تكلّم به أحد، فإذا مكّن من إطلاق الألسن به، فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والرّدّ عليه بالحجّة والبرهان «1» . وقد كذّبهم الله تعالى بقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي أنه قول ساقط باطل لا يتجاوز الفم، ولعنهم بقوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: كلّ شيء في القرآن قتل فهو لعن. ثم وصفهم تعالى بنوع آخر من الشّرك بقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله والأكثرون من المفسّرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، مع أن التّوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بألا يعبدوا إلا إلها واحدا، وأنه لا إله إلا هو، تنزّه من أن يكون له شريك في الأمر والتّكليف أو التّشريع، وأن يكون له شريك في كونه مسجودا له أو معبودا، وأن يكون له شريك يستحقّ التّعظيم والإجلال.

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 913 [.....]

ثم أخبر الله تعالى عن نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنّصارى، وهو سعيهم في إبطال دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وإمعانهم في إخفاء أدلّة صحّة شرعه وقوّة دينه. والمراد من النّور: الدّلائل الدّالّة على صحّة نبوّته. أوّلها- المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده. وثانيها- القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مع أنه كان أميّا. وثالثها- أنّ حاصل شريعته تعظيم الله والثّناء عليه، والانقياد لطاعته، وصرف النّفس عن حبّ الدّنيا أي الحرص عليها دون الآخرة، والتّرغيب في سعادات الآخرة، والعقل يدلّ على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه. ورابعها- أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب، فليس فيه دعوة إلى غير الله، وإلى إصلاح حياة البشر «1» . ثم إنه تعالى وعد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم مزيد النّصر والقوة وإعلاء المنزلة، فقال: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. ثم بيّن الله تعالى بعد خيبتهم في إبطال دعوة الإسلام كيف يتمّ أمره بقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ. وفي هذه الآية الأخيرة دلالة على أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم تمتاز بكثرة الدّلائل والمعجزات على صحّتها، وهو الهدى، وأنها دين الحقّ المشتمل على الصّواب والصّلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدّنيا والآخرة، وأن دينه يعلو على كلّ الأديان، ويغلب كلّ الأديان، فلا دين يصمد أمام النّقاش العلمي والعقلي غير دين الإسلام. والتّاريخ على ممرّ الزّمان يؤكّد إنجاز هذه الوعود علانية في

_ (1) تفسير الرّازي: 16/ 38- 39

سيرة الأحبار والرهبان في معاملاتهم مع الناس [سورة التوبة (9) الآيات 34 إلى 35] :

اقتناع كبار العلماء في كلّ اختصاص إنساني أو علمي بأحقيّته في التّديّن والاعتقاد وإصلاح الحياة البشرية، وظهر الإسلام على كلّ الأديان في الماضي، فاندحر اليهود وأخرجوا من جزيرة العرب، وغلب المسلمون النّصارى في بلاد الشّام وغيرها، وغلبوا المجوس، وعبّاد الأصنام في كثير من بلاد التّرك والهند. والخلاصة: تضمّنت الآيات أوصافا قبيحة لليهود والنّصارى: نسبة البنوّة لله، إطاعة الرؤساء دون إطاعة الله، محاولتهم إبطال دعوة الإسلام وإخفات صوت الحقّ. سيرة الأحبار والرهبان في معاملاتهم مع الناس [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) الإعراب: وَالَّذِينَ مبتدأ، والخبر: فَبَشِّرْهُمْ لَيَأْكُلُونَ دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل، لأن يفعل تشبه الأسماء. وَلا يُنْفِقُونَها: إنما قال: يُنْفِقُونَها ولم يقل: ينفقونهما لأن عادة العرب أن يخبروا عن أحد الشيئين إذا كان هناك دليل يدل على اشتراك بينهما، كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ولم يقل إليهما وإنما أريد التجارة لأنها أعم، وكقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أريد الصلاة لأنها أهم، وكقوله

البلاغة:

تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أريد الرسول لتأكيد الاهتمام بسنته. وقيل: الضمير في «ينفقونها» يعود على الكنوز لدلالة يكنزون عليها، وقيل: يعود على الأموال لأن الذهب والفضة أموال. والخلاصة: أن الضمير يعود إلى الفضة لأنه قصد الأغلب والأعم. يَوْمَ يُحْمى يَوْمَ: منصوب من ثلاثة أوجه: إما بفعل مقدر تقديره: اذكر يوم يحمى، أو بفعل يقال: أي يقال لهم: هذا في يوم يحمى، أو يكون بدلا من بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي عذاب يوم يحمى، فحذف المضاف، فانتصب على الموضع، لا على اللفظ، كما انتصب قوله تعالى: دِيناً قِيَماً بالبدل على موضع إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. البلاغة: لَيَأْكُلُونَ عبر تعالى عن أخذ الأموال بالأكل على سبيل الاستعارة لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل، فسمي الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده. المفردات اللغوية: الْأَحْبارِ علماء اليهود. وَالرُّهْبانِ عبّاد النصارى، والقسيسون علماؤهم. لَيَأْكُلُونَ المراد التصرف فيها بكل أوجه الانتفاع، وعبر عن ذلك بالأكل، والمراد به الأخذ والانتفاع لأنه أهم حالات الانتفاع. بِالْباطِلِ بغير حق كالرشاوى في الحكم. وَيَصُدُّونَ يمنعون. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وطريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة. وَلا يُنْفِقُونَها الكنوز، والكنز: خزن الأموال في الصناديق دون إعطاء حق الله فيها. فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا يؤدون منها حق الزكاة. فَبَشِّرْهُمْ أخبرهم. بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، وهو تهكم بهم لأن البشارة تكون في الخير لا في الشر. فَتُكْوى تحرق. فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي نالوا جزاءه. سبب النزول: نزول الآية (34) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً ... : قال الواحدي: نزلت في العلماء والقرّاء من أهل الكتاب كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم، وهي المأكل الذي كانوا يصيبونه من عوامهم «1» .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 140.

نزول الآية والذين يكنزون الذهب والفضة ... :

نزول الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... : روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالرّبذة (موضع قريب من المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه كلام في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكو مني، وكتب إليّ عثمان أن: أقدم المدينة، فقدمتها، وكثر الناس علي حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت وكنت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا علي حبشيا لسمعت وأطعت. والمفسرون أيضا مختلفون، فعند بعضهم أنها في أهل الكتاب خاصة. وقال السدّي: هي في أهل القبلة. وقال الضحاك: هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين «1» ، وهو الأصح. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية، لادعائهم حق التشريع للناس، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تحقيرا لشأنهم، فهم ذوو أطماع وحرص شديد على أخذ أموال الناس بالباطل، وما قاوموا الإسلام إلا خوفا من ضياع مصالحهم المادية، فهم يتخذون الدين مطية لنيل الدنيا. ووصفهم تعالى أيضا بالبخل الشديد، وحب كنز المال في صناديقهم، والامتناع عن أداء الواجبات في أموالهم.

_ (1) أسباب النزول، المرجع السابق.

التفسير والبيان:

والوعيد على الكنز لا يقتصر عليهم في الحقيقة، وإنما يشمل المسلمين أيضا، فبعد أن وصفهم الله تعالى بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله. التفسير والبيان: هذه الآيات بيان لسيرة الأحبار (علماء اليهود) والرهبان (عبّاد النصارى) وكشف لقبائحهم، حتى يعرف أهل الكتاب حقيقتهم، ويتبينوا خطأهم في الاقتداء بهم والثقة فيهم، وليعلم المسلمون سبب عنادهم وبقائهم على كفرهم، ويكون الهدف من الآيات التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم. يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اعلموا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ليأخذون أموال الناس بالباطل، لا بحق شرعي، ونسب ذلك لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق، وإنصافا للقلة الصالحة منهم. وأمثلة أخذهم الأموال بالباطل كثيرة منها: قبول الرشاوى في الأحكام القضائية، وأخذ الربا وهو محرم عليهم، وأخذ الهدايا والنذور والأوقاف المخصصة لقبور الأنبياء والصالحين، وأخذ الأرثوذكس والكاثوليك مقابل صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى، أو في مقابل الدعاء والشفاعة للمخطئين عند الله. وبيع الفتاوى بالمال لتحليل الحرام وتحريم الحلال، بقصد إرضاء الملوك والأمراء والحكام، كما قال تعالى في حق اليهود: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ، تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ: اللَّهُ [الأنعام 6/ 91] . ومنها: استباحة اليهود أخذ أموال كل من عداهم ولو بالخيانة أو السرقة، كما قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً، ذلِكَ بأنهم قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا

فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران 3/ 75] . ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من قبائح رؤساء الدين اليهودي والنصراني، وهو صدهم عن سبيل الله، أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس ويمنعونهم عن اتباع الحق، إما بتكذيب رسالة الإسلام، أو التشكيك في مبادئها وأحكامها في العبادة والعقيدة والمعاملة، أو الطعن في النبي المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم أو في القرآن الكريم. وبه يتبين أن ما يحرص عليه الناس في الدنيا وهو المال والجاه، شغف به الأحبار والرهبان، فأخذوا المال بالباطل، ومنعوا الناس من معرفة الله معرفة صحيحة، وعبادته عبادة قويمة، وأمعنوا في المنع من متابعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، حفاظا على مراكزهم الأدبية ومكاسبهم المادية. ثم وصفهم الله بصفة أخرى هي البخل الشديد ومنع أداء حقوق الله في أموالهم، فقال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ... أي والذين يجمعون المال ويدخرونه في بيوتهم ولا يخرجون منه الحقوق الواجبة شرعا كالزكاة، ولا ينفقون منه في سبيل الله، فيستحقون العذاب الشديد المؤلم في نار جهنم. وهذا الوعيد كما هو موجه للأحبار يشمل المسلمين أيضا، فكان المراد به الكل. كما وأن المراد بالنفقة: الواجب لقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ولا يتوجه العذاب إلا على تارك الواجب. ولا يكون الكنز حراما إلا إذا لم تؤد زكاته، فإن أديت الزكاة فلا يحرم. قال مالك عن ابن عمر رضي الله عنه في الكنز: هو المال الذي لا تؤدى زكاته. وروى الثوري والشافعي وغيرهما عن ابن عمر قال: ما أدّي زكاته، فليس بكنز، وإن تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز. وهذا مروي أيضا عن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا. أخرج ابن عدي

والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز» . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا ألا يبقي لولده مالا بعده، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم» فكبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» . وورد في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منها أحاديث كثيرة منها ما رواه عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «تبّا للذهب والفضة» فقال الصحابة: يا رسول الله، فأي المال نتخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين أحدكم على دينه» . ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الذي يطبق على أصحاب الكنوز، وهو أنه يحمى على ما جمعوه من الأموال المكنوزة في النار، أي توضع ويوقد عليها في النار حتى تحمى، ثم يحرق بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وخصت هذه الأعضاء بالذكر لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس مغتبطين بالثروة، ويعبسون في وجوه الفقراء كيلا يعطوهم شيئا، ويتنعمون على جوانبهم وظهورهم في أوساط النعمة، ثم إن الكي على الوجه أشهر وأشنع، وعلى الجنب والظهر آلم وأوجع، ويقال لهم

فقه الحياة أو الأحكام:

من قبل الملائكة: هذا جزاء ما كنزتم، فذوقوا وبال ما كنزتم لأنفسكم، أي أن ما توهمتم فيه منفعة أصبح ضررا ووبالا عليكم، وهذه آفة المسلمين اليوم حيث إنهم اكتنزوا الأموال الضخمة ولم ينفقوا بعضا منها في سبيل الله، أي في صالح الأمة والجماعة المسلمة. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار» . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من آتاه الله مالا، فلم يؤدّ زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا (حنشا) أقرع له زبيبتان (نقطتان منتفختان في شدقيه) يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية [آل عمران 3/ 180] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات أحكاما ثلاثة: 1- تحريم أكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله تعالى: وهو المبالغة في منع الناس بجميع وجوه المكر والخداع من اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ومتابعة الأخيار من العلماء والناس. 2- تحريم اكتناز المال دون إنفاقه في سبيل الله، والكنز: المال الذي لا تؤدى زكاته.

3- استحقاق الكانز العقاب الشديد في الآخرة في نار جهنم، مع التوبيخ والتهكم والهم. أما الحكم الأول: فهو عام للأحبار والرهبان وغيرهم، إلا أنه كان مستقبحا منهم لأنهم يتاجرون في الدين، ويدعون أنهم مقربون إلى الله، وهم أشد الناس حرصا على جمع المال وطمعا فيه، وبخلا به، فجمعوا بين حب المال والجاه. وقد سبق بيان مظاهر أكل أموال الناس بالباطل. وأما الحكم الثاني: فالمراد به على الصحيح أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين لأنه لو أراد أهل الكتاب على التخصيص لقال: ويكنزون، بغير: وَالَّذِينَ فلما قال: وَالَّذِينَ فقد استأنف معنى آخر يبيّن أنه عطف جملة على جملة، فالذين يكنزون كلام مستأنف، مرفوع على الابتداء، وهذا قول أبي ذرّ وغيره، وعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. أما القولان الآخران فضعيفان، أحدهما- ما نقل عن معاوية أن المراد بالآية أهل الكتاب، والثاني- ما قاله السدّي وهو أن المراد مانعو الزكاة من المسلمين. قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية زكاة العين (أي النقود) وهي تجب بأربعة شروط: حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا «1» . أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر، وأخرج ربع العشر (5، 2) من هذا، وربع العشر من هذا «2» . أما اشتراط الحرية، فلأن العبد ناقص الملك، وأما اشتراط الإسلام فلأن الزكاة تطهير للمال والكافر ليس أهلا للتطهير، وأما اشتراط الحول فلأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه الدارقطني عن أنس بن مالك: «ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول» وأما اشتراط النصاب فلأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال ما معناه فيما رواه

_ (1) الدرهم العربي 975، 2 غم، والدينار هو المثقال وهو 457، 4 غم. (2) تفسير القرطبي: 8/ 124

أبو داود عن علي رضي الله عنه: «ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة» ويراعى كمال النصاب عند آخر الحول لاتفاق العلماء على أن الربح في حكم الأصل، فيه الزكاة. والصحيح ما نقل عن جماعة من الصحابة السابق ذكرهم: أن ما أدّي زكاته فليس بكنز، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز. ولا يصح ما نقل عن علي رضي الله عنه: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أدّيت زكاته، فهو خبر غريب. وأما ما نقل عن أبي ذرّ: «الكنز: ما فضل عن الحاجة» فهو رأي خاص به، ومن شدائده، ومما انفرد به رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون ذلك في وقت شدة الحاجة، ولم يكن في بيت المال ما يكفي المحتاجين، ولا يجوز ادّخار الذهب والفضة في مثل تلك الحال. وأما زكاة الحلي فلم يوجبها الجمهور لأنها غير مقصودة للنّماء لكن بشرط عدم قصد الكنز، وعدم تجاوز القدر المعتاد بين الناس وهو الوسط الذي لا إسراف فيه، كأن يكون دون الكيلوغرام، كما ذكر الشافعية. وأوجبها أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي عملا بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين (الذهب والفضة) ولم يفرّق بين حليّ وغيره. قال الرازي: وهو الصحيح عندنا، لظاهر الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ.... وأما الحكم الثالث: وهو تعذيب الكانز بعذاب أليم، فقد فسر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذا العذاب- فيما يرويه مسلم- بقوله: «بشّر الكنّازين بكيّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكيّ من قبل أقفائهم يخرج من جباههم» . ثم إن ظاهر الآية تعليق الوعيد بمن كنز، ولم ينفق في سبيل الله، وهذا أي عدم الإنفاق هو الغالب عرفا، فلذلك خص الوعيد به، أما الصحيح فهو أنه لا بد من توافر صفة الكنز واعتبارها: وهو المال الذي لم تؤدّ زكاته، كما تبين، فمن

أدّى زكاة المال لا يعد كانزا، ويعد كانزا أيضا في رأي المالكية من لم يكنز ومنع الإنفاق الواجب في سبيل الله، فما فضل عن الحاجة ليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله. وقد رتب الله سوء العقوبة والجزاء بقوله: يَوْمَ يُحْمى على حال المعصية الحاصلة من الكانز المسلم والكافر بتعطيله خاصية المال، وهي إنفاقه في سبيل الله، فإن كان المكتنز كافرا فهذه بعض عقوباته، وإن كان مؤمنا، فهذه عقوبته إن لم يغفر له، ويجوز أن يعفى عنه. وتمثيل صورة العذاب في الآية والحديث حقيقة، ففي حال يمثّل المال فيه ثعبانا، وفي حال يكون صفائح من نار، وفي حال يكون رضفا (حجارة محماة) فتتغير الصفات والجسمية واحدة، فالشجاع الأقرع (الحنش) الذي يمثل به المال جسم، والمال جسم. وخص الشجاع بالذكر لأنه العدو الثاني للناس، والشجاع من الحيات: هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصحاري. والأولى لطالب الدّين ألا يجمع المال الكثير، وإن لم يمنع عنه في ظاهر الشرع لأنه أقرب للتقوى، ولأن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد على النفس، ولأن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، ولأن كثرة المال والجاه تورث الطغيان، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 68/ 6- 7] ولأنه تعالى أوجب الزكاة بقصد تنقيص المال، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه. وكذلك خيرية اليد العليا لأنها تؤدي إلى نقصان المال.

عدد الشهور في حكم الله وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء [سورة التوبة (9) الآيات 36 إلى 37] :

عدد الشهور في حكم الله وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) الإعراب: اثْنا عَشَرَ شَهْراً اثنا عشر: خبر إِنَّ، وشَهْراً: منصوب على التمييز. فِي كِتابِ اللَّهِ فِي: متعلقة بمحذوف، وهي صفة لاثني عشر، وتقديره: إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا كائنة في كتاب الله. ولا يجوز أن تكون متعلقة ب عِدَّةَ لأنه يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بالخبر، وهو اثْنا عَشَرَ. وكِتابِ: مصدر، أي كتابة الله، ولا يجوز أن يكون اسما للقرآن ولا لغيره من الكتب لأن الأسماء التي تدل على الأعيان لا تعمل في الظروف لأنها ليس فيها معنى الفعل. ويَوْمَ: منصوب ب كِتابِ والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض، ولا يجوز تعلقه ب عِدَّةَ لما قدمنا في فِي كِتابِ اللَّهِ. والضمير في مِنْها يعود إلى الاثني عشر. والضمير في فِيهِنَّ يعود إلى الأربعة لأن (ها) تكون لجمع الكثرة، وهن: لجمع القلة. وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَافَّةً: منصوب على المصدر في موضع الجار، كقولهم:

البلاغة:

عافاه الله عافية، ورأيتهم عامة وخاصة. وكَافَّةً: إما حال من الفاعل أي قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين كما يفعلون ذلك معكم تماما، وإما من المفعول، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا دون تفرقة بين فئة وأخرى. لِيُواطِؤُا اللام متعلقة بالفعل الثاني، وهو: وَيُحَرِّمُونَهُ أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين السابقين. البلاغة: يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً: بين يحلون ويحرمون طباق. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وضع الظاهر وهو الْمُتَّقِينَ موضع المضمر (أي معكم) للثناء عليهم بالتقوى ولحث القاصرين عليها، وتبيان أنها سبب الفوز والفلاح. المفردات اللغوية: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي عددها المكون للسنة، والشهور: جمع شهر: وهو اسم للهلال سميت به الأيام. فِي كِتابِ اللَّهِ مصدر، وليس اسما للقرآن ولا للوح المحفوظ لأنه نصب كلمة يَوْمَ. مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أي من الشهور أربعة محرمة وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والحرم: جمع حرام: من الحرمة بمعنى التعظيم. ذلِكَ أي تحريمها. الدِّينُ الْقَيِّمُ الدِّينُ: الشرع، والْقَيِّمُ: المستقيم الذي لا عوج فيه. فِيهِنَّ أي في الأشهر الحرم. أَنْفُسَكُمْ أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا. كَافَّةً أي جميعا، في كل الشهور، مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر. النَّسِيءُ أي تأخير حرمة شهر إلى آخر، كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة المحرم إذا هل، وهم في القتال، إلى صفر. والنَّسِيءُ: من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة: إذا أخره عن موضعه. زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي زيادة لكفرهم بحكم الله فيه. يُحِلُّونَهُ أي النسيء. لِيُواطِؤُا يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله. عِدَّةَ عدد. ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر، فلا يزيدوا على تحريم أربعة، ولا ينقصوا، ولا ينظروا إلى أعيانها. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فظنوه حسنا. سبب النزول: نزول الآية (37) : إِنَّمَا النَّسِيءُ: أخرج ابن جرير الطبري عن أبي مالك قال: كانوا

المناسبة:

يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، فيجعلون المحرم صفر، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ. المناسبة: الآيات عود للكلام عن المشركين في تعداد قبائحهم: وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله، وذلك مثل فعل اليهود والنصارى الذين غيّروا حكم الله، فكان الكلام مناسبا عن حكم قتالهم ومعاملتهم، ثم العود إلى أحكام المشركين، فصار هناك تشابه بين المشركين وبين اليهود والنصارى في تعاطي أسباب القتال، وفي إيجاب القتال. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أشهر السنة، فيقول: إن عدة الشهور في علمه تعالى وحكمه، وفيما كتبه الله وأوجب الأخذ به، وأثبته في نظام دورة القمر، وفي اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض اثنا عشر شهرا، على هذا النحو المألوف اليوم. والمراد: الأشهر القمرية لأن الحساب بها يسير، يعتمد على رؤية القمر، من كل الناس المتعلمين والعوام. والمراد بقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ، أي في كتابته ونظامه وحكمه التشريعي على وفق السنن الإلهية في نظام الكون، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل: في اللوح المحفوظ. والمراد بقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: الوقت الذي تمّ فيه خلقهما، وهو ستة أيام من أيام التكوين والإيجاد. مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد

فرد وهو رجب، أي ذات حرمة وتعظيم تمتاز بها عن بقية الشهور، فقد ورد أن المعصية فيها أشد عقابا، وأن الطاعة فيها أعظم ثوابا، ولله تعالى أن يعظم بعض الأزمنة والأمكنة كما يشاء، فقد فضل البلد الحرام عن سائر البلاد، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة وعشر ذي الحجة عن سائر الأيام، وميز شهر رمضان وأشهر الحج عن بقية الشهور كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة 2/ 197] وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور، وميز بعض الليالي كليلة القدر، وبعض الأشخاص بالرسالة أو النبوة. وكان القتال محرما في هذه الأشهر الأربعة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام، واستمر العرب على ذلك، ثم نسخت حرمتها عن عطاء الخراساني رضي الله عنه قال: أحلّت القتال في الأشهر الحرم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وجاءت السنة مبينة حرمة الأشهر وثباتها في وقتها الصحيح، روى الإمام أحمد والبخاري في التفسير عن أبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خطب في حجة الوداع، فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» أي رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة «1» . ثم قال: «أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي شهر هذا؟

_ (1) الكشاف: 2/ 38

قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم- وأحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعلّ من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» . ثم قال الله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل، أي الحكم والشرع الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر، خلافا لما كان يفعل أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور وتأخير البعض. وكانت العرب قد تمسكت بتعظيم هذه الأشهر الحرم وراثة عن إبراهيم وإسماعيل، ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرض له. وسموا رجبا: الأصم، حتى أحدث النسيء، فغيروا وبدلوا وأخلّ أهل الجاهلية بحرمة هذه الأشهر. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها، وإياكم أن تعملوا النسيء فتنقلوا الحج من شهره إلى شهر آخر، وتغيروا حكم الله تعالى. والمراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من تعظيم الثواب والعقاب فيها، كما قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة 2/ 197] .

وهذه الأمور وإن كانت حراما في غير هذه الأشهر، إلا أنه أكد الله تعالى فيها المنع، زيادة في شرفها. ثم أبان الله تعالى حكم قتال المشركين بنحو عام في كل زمان، فقال: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا المشركين جميعا أي مجتمعين متعاونين، كما يقاتلونكم جميعا مجتمعين متعاونين، وهذا على أن كَافَّةً حال من الفاعل، ويصح كونها حالا من المفعول، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا، كما يقاتلونكم جميعا من غير تفرقة بين فئة وأخرى. وظاهر الآية: إباحة قتالهم في جميع الأشهر، حتى الأشهر الحرم، فيكون القتال فيها مباحا، ويؤيده قول عطاء الخراساني المتقدم: أحلت القتال في الأشهر الحرم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ما فيها من قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً. فهذه الآية تأذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام، إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة 2/ 194] وقال تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة 2/ 191] . وحاصر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف في شوال، واستمر الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، وهو بعض ذي القعدة. وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم [194، 217] وآية المائدة [2] فهي منسوخة بآيات التوبة لنزولها بعد سورة البقرة بسنتين. وهذا القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو المعتمد شرعا.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ... منقطعا عما قبله وأنه حكم مستأنف، للتحريض على قتال المشركين، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون. ثم قال الله تعالى مطمئنا المؤمنين بالنصر: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي أن الله تعالى مؤيد وناصر الأولياء الأتقياء الذين يتخذون وقاية من مخالفة أمره، وهو معهم بالمعونة والنصر فيما يقومون به من أعمال القتال وغيره. ثم أبان الله تعالى سبب استحقاق المشركين القتال والذم العظيم وهو تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الخاصة، وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحلّ الله، وذلك بالتلاعب في الزمان والوقت بلجوئهم إلى كبس السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، وعملهم النسيء في الأشهر الحرم لأنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متواليات. أما كبس السنة القمرية: فهو تكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، فيزيدون كل ثلاث سنين شهرا في العام، وذلك لأن السنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية أحد عشر يوما تقريبا، إذ هي (1000/ 366 354 يوما) فتنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل، فيكملون النقص بأن يزيدوا في كل ثلاث سنوات شهرا، لتكون السنة قمرية شمسية، وليجعلوا وقت الحج في زمن معين وفقا لمصلحتهم، لينتفعوا بتجاراتهم، فكانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أنحاء البلاد، فيختل بذلك نظام تجارتهم إذ قد يكون الحج مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، فيشق ذلك على العرب أيام الجاهلية، فاختاروا للحج وقتا معينا، وثبّتوا السنة القمرية كالسنة الشمسية لتنتظم علاقاتهم التجارية مع غيرهم من الشعوب الأخرى، مع احتفاظهم بمراعاة نظام السنة القمرية في المعاملات والعبادات الذي توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام.

وقد تعلموا كبس السنة من اليهود والنصارى الذين يعتمدون على السنة الشمسية، وهي (4/ 1 365 يوما) وفي كل أربع سنوات يتكون من الكسر عندهم يوم كامل، فتصبح السنة (366 يوما) وفي كل مائة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا، فتكون ثلاثة عشر شهرا، وتسمى كبيسة. أما في عصرنا فيقتصر على زيادة يوم في آخر شهر شباط (فبراير) كل أربع سنوات. وأما النسيء في الشهور: فهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عباداتهم والقيام بتجاراتهم بالسنة القمرية، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف، ولا ينتفعون بتجاراتهم التي يصطحبونها في موسم الحج، كما أنه كان يشق ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية، فتركوا اعتبار السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس، كما بينت، فنقلوا حرمة شهر المحرم إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله في الاسم دون الحقيقة، اكتفاء بمجرد العدد، ونقلوا الحج من شهر إلى آخر، وإذا كانوا في حرب ودخل شهر رجب مثلا قالوا: نسميه رمضان، ونطلق اسم رمضان على رجب. وذلك لأن دورة القمر الشهرية: (8، 2 ثانية 44 دقيقة 12 ساعة 29 يوما) فتكون السنة القمرية أنقص من السنة الشمسية. وأول من عمل النسيء: نعيم بن ثعلبة الكناني. وكان يفعل النسيء بعده رجل كبير من كنانة يقال له (القلمّس) يقول في أيام منى حيث يجتمع الحجيج: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون: صدقت، فأخّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، ويحرم عليهم صفرا، ثم يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته: إنا قد حرمنا صفر

وأخرنا المحرم، ثم صاروا ينسئون غير المحرم، فتتغير حقائق الشهور كلها، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد. لذا ذم الله تعالى تصرفهم وتلاعبهم بالشهور القمرية، فقال: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي إن تأخير حرمة شهر إلى آخر، وقلب وضع التحريم والتحليل زيادة في أصل كفرهم القائم على الشرك وعبادة الأصنام، وتغيير لملة إبراهيم بسوء التأويل، ولأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفرا. يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يوقع النسيء الذين كفروا في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وعلى قراءة يضل المبني للمعلوم معناه: يضلهم الله، فيحلون الشهر المؤخر عاما، ويحرمونه عاما. لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا في مجرد العدد الأربعة الأشهر الحرم. فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله تعالى من القتال، بتأخير هذا الشهر الحرام. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا، وتوهموا شبهتهم الباطلة أنها صواب. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يوفق ولا يرشد القوم الضالين الذين يختارون السيئات، إلى الحكمة والخير والصواب وفهم الحكمة من أحكام الشرع، وإنما يخذلهم ولا يلطف بهم لأن الهداية المؤدية إلى السعادة في الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس 10/ 9] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على الأحكام التالية: 1- إن عدد الشهور القمرية في علم الله تعالى وفي حكمه وإيجابه في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرا، فإنه تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه، يوم خلق السموات والأرض، على وفق سنته الإلهية ونظامه البديع المتقن، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وحكمها باق على ما كانت عليه، لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها. والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية، من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتّبوها عليه. 2- الواجب في شريعتنا الاعتماد على السنة القمرية في العبادات كالصوم والحج وغيرها، كما عرفتها العرب، دون السنة الشمسية أو العبرية أو القبطية وغيرها، وإن لم تزد على اثني عشر شهرا. وذلك بدليل الآية التي معنا، حيث ذكر فيها: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ والأربعة الحرم من الشهور القمرية وهي (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن رجب: «الذي بين جمادى وشعبان» وبدليل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] فجعل تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب، وهو إنما يصحّ بالاعتماد على دورة القمر. وبدليل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة 2/ 189] وهو يدل على السنة القمرية واعتبارها في الصيام والزكاة والحج والأعياد والمعاملات وأحكامها.

3- الإسلام دين الحق والصواب والاستقامة لقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الشرع والطاعة، والقيّم أي القائم المستقيم. وقيل: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفى، وقيل: ذلك القضاء، وقيل: الحق. 4- تحريم ظلم النفس بارتكاب المعاصي والذنوب في جميع السنة لقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ على قول ابن عباس: راجع إلى جميع الشهور. وقال الأكثرون: راجع إلى الأشهر الحرم خاصة لأنه إليها أقرب، ولها مزية في تعظيم الظلم لقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وهذا تعظيم لحرمتها وتأكيد لامتيازها، لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز، وإنما هو حرام في كل الأيام والشهور والسنين، وإذا عظم الله تعالى شيئا عظّمه من جهتين، وصارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، وذلك ثابت في البلد الحرام. وقيل: إن الظلم هو إباحة القتال فيها، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، كما قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري، وهو الصحيح المعتمد لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. ونظرا لتعظيم حرمة الشهر الحرام، قال الشافعي فيمن قتل فيه شخصا خطأ: تغلظ عليه الدية، وقال: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وقال الأوزاعي: القتل في الشهر الحرام تغلّظ فيه الدية فيما بلغنا، وفي الحرم، فتجعل دية وثلثا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى: القتل في الحلّ والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، قال القرطبي: وهو الصحيح لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سنّ الديات، ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا على أن

الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء، فالقياس أن تكون الدية كذلك. 5- تعظيم حرمة الأشهر الحرم: خصّ الله تعالى الأربعة الأشهر بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها، وإن كان منهيا عنه في كل الزمان، كما قال: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وهذا رأي أكثر المفسرين، أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروي عن ابن عباس قال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ في الاثني عشر. 6- الأمر بقتال المشركين كافة، قال ابن العربي: يعني محيطين بهم من كل جهة وحالة، فمنعهم ذلك من الاسترسال في القتال» . وهذا ترغيب في قتالهم وتحريض، معاملة بالمثل، وتوحيدا للصف وجمعا للكلمة. وقال بعض العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجّه على الأعيان (أي أن القتال فرض عين) ثم نسخ ذلك، وجعل فرض كفاية. وفي هذا الكلام بعد لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يلزم الأمة جميعا النّفر، وكان القتال قد استقرّ على أنه فرض كفاية بعد أن كان في مرحلة قصيرة فرض عين، وإنما معنى هذه الآية- كما ذكر القرطبي- الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم «2» . فليس في هذه الآية إعلان شامل للحرب على المشركين، وإنما هي آمرة بتوحيد المؤمنين، وجعلهم جبهة واحدة عند قتال المشركين، فهي لتحريضهم

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 928 (2) تفسير القرطبي: 8/ 136، تفسير الرازي: 16/ 54

على التعاون والتناصر، وعدم التخاذل والتقاطع، كما أن المشركين جبهة واحدة متعاونون متناصرون أثناء قتالهم المسلمين. 7- تحريم النسيء، أي تأخير حرمة شهر ووقته إلى شهر آخر، فذلك يضادّ الحقائق، ويظهر التلاعب بالسنن الإلهية، ويغير أوقات العبادة، وهو أيضا زيادة في كفر المشركين، الذين أنكروا وجود الباري فقالوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ [الفرقان 25/ 60] في أصح الوجوه، وأنكروا البعث فقالوا: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ [يس 36/ 78] وأنكروا بعثة الرسل فقالوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ [القمر 54/ 24] ، وزعموا أن التحليل والتحريم عائد إليهم، فحللوا ما حرّم الله وحرموا ما أحل الله على وفق شهواتهم وأهوائهم، وأضلوا الذين كفروا، وحافظوا على مجرد العدد في التحريم: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي لم يحلّوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة، وذلك كله من تزيين الشيطان لهم هذا العمل السيء، والله لا يرشد كل كفار أثيم. وكان الهدف من النسيء شيئين ماديين لمصالح الدنيا: الأول- ترتيب وقت الحج في زمن يناسب ظروف تجاراتهم، بدلا من تقلّبه تارة في الصيف وتارة في الشتاء، والثاني- شن الغارات والحروب، أو الاستمرار في القتال، على وفق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم. وترتب على النسيء الاعتماد على السنة الشمسية في الواقع لأنهم جعلوا السنة القمرية تساير السنة الشمسية، عن طريق الكبيسة، وأدى ذلك إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، ونقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غير وقته المخصص له.

التحريض على الجهاد والتحذير من تركه ومعجزة الغار في الهجرة [سورة التوبة (9) الآيات 38 إلى 40] :

التحريض على الجهاد والتحذير من تركه ومعجزة الغار في الهجرة [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) الإعراب: إِلَّا تَنْفِرُوا بإدغام لا في نون إن الشرطية، ومثلها: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. إِذْ أَخْرَجَهُ منصوب ب نَصَرَهُ اللَّهُ وثانِيَ اثْنَيْنِ أي أحد اثنين، وهو منصوب على الحال من هاء أَخْرَجَهُ وهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هو حال من ضمير محذوف تقديره: فخرج ثماني اثنين. فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواب الشرط. إِذْ هُما فِي الْغارِ منصوب على البدل من قوله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو بدل الاشتمال.

البلاغة:

إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ بدل من قوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ وهاء لِصاحِبِهِ يراد بها أبو بكر. لا تَحْزَنْ جملة فعلية في موضع نصب ب يَقُولُ. وهاء أَيَّدَهُ يراد بها النبي عليه الصلاة والسّلام. وَكَلِمَةُ اللَّهِ مبتدأ مرفوع، وهِيَ الْعُلْيا خبره. وقرئ كلمة بالنصب، وفيه بعد لأن كلمة الله لم تزل عالية، فيبعد نصبها ب جَعَلَ لما فيه من إيهام أنها صارت عالية بعد أن لم تكن. والذي عليه جماهير القراء: هو الرفع. هِيَ الْعُلْيا هِيَ ضمير فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة به دون سائر الكلم. البلاغة: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ استفهام للإنكار واللوم أو التوبيخ. أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فيه إيجاز بالحذف، أي أرضيتم بنعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إظهار الدنيا في مقام الإضمار لزيادة التقرير، والمبالغة في التهوين بشأن الدنيا وبيان حقارتها بالنسبة للآخرة. يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بينهما جناس اشتقاق. وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى: كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا استعارة للشرك والدعوة إلى الكفر، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا استعارة للإيمان والتوحيد والدعوة إلى الإسلام. المفردات اللغوية: انْفِرُوا أقدموا على القتال بخفة ونشاط، والمصدر: النفر والنفور، واستنفر الإمام الناس إلى القتال: أعلن النفير العام، وحثهم ودعاهم إلى جهاد العدو، واسم ذلك القوم الذين يخرجون: النفير. اثَّاقَلْتُمْ تباطأتم وملتم عن الجهاد. إِلَى الْأَرْضِ قعدتم فيها، والاستفهام للتوبيخ. مِنَ الْآخِرَةِ آثرتم الدنيا على الآخرة، وقبلتم بدل نعيمها. مَتاعُ ما يتمتع به من لذائذ الدنيا. فِي الْآخِرَةِ في جنب متاعها. إِلَّا قَلِيلٌ حقير. إِلَّا تَنْفِرُوا إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للجهاد. أَلِيماً مؤلما. وَيَسْتَبْدِلْ أي يأت بهم بدلكم. وَلا تَضُرُّوهُ أي الله

سبب النزول:

أو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. شَيْئاً بترك نصره، فإن الله ناصر دينه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مقتدر، ومنه نصر دينه ونبيه. إِلَّا تَنْصُرُوهُ إن لم تنصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. إِذْ حين. أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، أي ألجؤوه إلى الخروج، لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه، بدار الندوة. ثانِيَ اثْنَيْنِ أحد اثنين، والآخر أبو بكر، والمعنى: نصره الله في مثل تلك الحالة، فلا يخذله في غيرها. الْغارِ غار جبل ثور، والغار: النقب أو الفتحة في الجبل. إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أبي بكر الذي قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. لا تَحْزَنْ المراد بالنهي عن الحزن مجاهدة النفس وتوطينها على عدم الاستسلام له. إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بنصره وتأييده. سَكِينَتَهُ طمأنينته. عَلَيْهِ الضمير يعود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: على أبي بكر. وَأَيَّدَهُ أي النبي. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ملائكة في الغار، وفي مواطن قتاله. كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي دعوة الشرك والكفر. السُّفْلى المغلوبة. وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي كلمة التوحيد أو الشهادة بتوحيد الإله. هِيَ الْعُلْيا الغالبة. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ في صنعه. سبب النزول: نزول الآية (38) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أخرج ابن جرير عن مجاهد في هذه الآية قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين في الصيف حين طابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله هذه الآية. نزول الآية (39) إِلَّا تَنْفِرُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن نجدة بن نفيع قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أحياء من العرب، فتثاقلوا عنه، فأنزل الله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فأمسك عليهم المطر، فكان عذابهم. والخلاصة: لا خلاف أن هذه الآيات نزلت عتابا على تخلّف من تخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام.

المناسبة:

قال المحققون: وإنما استثقل الناس الخروج لغزوة تبوك لجهاد الروم لأسباب. أحدها- شدة الزمان في الصيف والقحط. وثانيها- بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات. وثالثها- إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت. ورابعها- شدة الحر في ذلك الوقت. وخامسها- مهابة عسكر الروم «1» . المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أسباب قتال الكفار من المشركين واليهود والنصارى، وذكر منافع مقاتلتهم، كقوله: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ. ذكر هنا ما يوجب قتال الروم وأتباعهم من النصارى من عرب الشام في غزوة تبوك. وتبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، تبعد عن الأولى 690 كم وعن الثانية 692 كم، وكانت هذه الغزوة في رجب السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من غزوة حنين والطائف. ونزلت هذه الآيات لما دعا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك، وكانوا في عسرة وضيق. وشدة حر وقد حان قطاف التمر عندهم، فشق ذلك عليهم، فأبان تعالى أنه لا يصح ترك سعادة الآخرة والخير الكثير من أجل سعادة الدنيا وطيباتها، فذلك جهل وسفه. والكلام من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك، وما صاحبها من هتك ستر

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 59

التفسير والبيان:

المنافقين وضعفاء الإيمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين في آخرها، وإلا ما جاء في أثنائها من أحكام وحكم، جريا على منهج القرآن في أسلوبه الذي اختص به. وسبب الغزوة: استعداد الروم والقبائل العربية المتنصرة من لخم وجذام وغيرهم، وتجهيز جيش كثيف، لغزو المدينة، بقيادة «قباذ» وعدد جنده أربعون ألفا. فندب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الناس للخروج لقتالهم، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» . ولما لم يجد النبي من يقاتله عاد إلى المدينة، بسبب انسحاب الروم وعدولهم عن فكرة الزحف واقتحام الحدود. ولكن كان لهذه الغزوة أثر معنوي كبير في نظر العرب والروم، فكانت كفتح مكة لأنها كانت احتكاكا بأعظم قوة حينذاك، وأثرت على المدى البعيد في نفوس الأعداء، بعد أن كان العرب يخشون غزو الروم في عقر دارهم. وقد مهد الله بهذا الغزو الذي كان له أثر عميق في نفوس العرب، لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين: أبي بكر وعمر. التفسير والبيان: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، ما لكم تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد، حين قال لكم الرسول الأمين: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ومهاجمتكم؟ فقوله: ما لَكُمْ ما: حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ، والتقدير: أي شيء يمنعكم عن كذا؟

ومعنى: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمته. واثَّاقَلْتُمْ: تكاسلتم وملتم إلى الراحة وطيب الثمار والتفيؤ في الظلال. فهذا ليس من شأن الإيمان الذي يدعو إلى بذل النفس والمال في سبيل الله وطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات 49/ 15] . أرضيتم بلذات الحياة الدنيا بدلا من الآخرة وسعادتها ونعيمها؟ إن كنتم فعلتم ذلك فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير، فما تتمتعون به في الدنيا متاعا مقترنا بالهم والألم، إذا قيس بنعيم الآخرة الدائم المقيم، إلا شيء حقير، لا يصلح عوضا عن الشيء الكثير. روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟» وأشار بالسبابة. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. فالآية والحديث تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة. ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد، فقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ ... أي إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى ما دعاكم إليه، يعذبكم عذابا مؤلما في الدنيا كالهلاك بالقحط وغلبة العدو، ويستبدل بكم قوما غيركم، لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد 47/ 38] أي أنه تعالى يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم وأطوع،

وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يؤثر تثاقلهم فيها شيئا. قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حيا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القطر، فكان عذابهم. ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد، وتثاقلكم عنه لأنه هو القاهر فوق عباده. وقيل: الضمير للرسول، أي ولا تضروه لأن الله وعده أن يعصمه من الناس، وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران 3/ 194] . وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج 22/ 47] . وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم. ثم رغبهم الله تعالى في الجهاد ثانية ومناصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ ... أي إن لم تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده، وكافيه وحافظه، كما تولى نصره عام الهجرة، لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه من بلده: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... [الأنفال 8/ 30] . فخرج منهم هاربا بصحبة صدّيقه وصاحبه أبي بكر، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيروا نحو المدينة. ففزع أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى المشركين، حال كون النبي أحد اثنين، والثاني أبو بكر في غار جبل ثور، إذ قال لصاحبه: لا تخف ولا تحزن، إن الله معنا يؤيدنا بنصره وعونه وحفظه. روى أحمد والشيخان عن أنس قال: «حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الغار، فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه، لأبصرنا تحت قدمه، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله

ثالثهما» وفي رواية أحمد: «لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ... » . فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ.. أي فأنزل الله طمأنينته وتأييده ونصره عليه، أي على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، في أشهر القولين، وقيل: على أبي بكر، قال ابن عباس وغيره: لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال. والسكينة: ما ألقى في قلبه من الأمن. وقال ابن العربي: عود الضمير على أبي بكر هو الأقوى لأنه خاف على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من القوم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ بتأمين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فسكن جأشه، وذهب روعه، وحصل الأمن، ورجح الرازي هذا القول لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات في هذه الآية: هو أبو بكر، ولأن الحزن والخوف كان حاصلا لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان الرسول خائفا لما أمكنه تسكين خوف أبي بكر بقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، وقال الجمهور: الضمير عائد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، لأن السكينة هنا بمعنى الصون وخصائص النبوة. ثم قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أي قوّاه وآزره بالملائكة. وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى أي المغلوبة، وكلمة الله التي هي لا إله إلا الله أو الدعوة إلى الإسلام هي العليا الغالبة، والله عزيز غالب في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يضام من لاذ به، حكيم في أقواله وأفعاله، يضع الأشياء في مواضعها. وقد تم نصر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وارتقاء دولته، وهزمت كلمة المشركين وذلت دولة الشرك، وأظهر الله دينه على كل الأديان: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف 61/ 9] قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا: الشرك، وكلمة الله: هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياء، أي

فقه الحياة أو الأحكام:

ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات عتاب من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام واحد. ودلت الآية الأولى: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... على وجوب الجهاد في كل حال، وذلك ليس من صيغة الأمر عند القائلين بأن الأمر يقتضي الفعل فقط، وإنما من النص على العقاب، وإنكار التثاقل لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا، لما كان هذا التثاقل منكرا. ثم إن الآية التي بعدها وهي إِلَّا تَنْفِرُوا فيها تهديد شديد، ووعيد مؤكد في ترك النفير، بعذاب أليم، ولا يكون العذاب أو العقاب إلا على ترك واجب، فوجب بمقتضى الآيتين النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم، على أن تكون كلمة الله هي العليا، لكن قيل: المراد بهذه الآية الثانية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم. وآية: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ وإن دلت على خطاب كل المؤمنين، إلا أن المراد بها البعض، وخطاب الكل وإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن، وفي سائر أنواع الكلام، كقول بعضهم: إياك أعني واسمعي يا جارة. ثم إن فرضية الجهاد العينية المستفادة من هاتين الآيتين قد نسخت بما يدل على أن فرض الجهاد استقر كونه فرض كفاية روى أبو داود عن ابن عباس قال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ- إلى قوله- يَعْمَلُونَ [التوبة 9/ 120- 121] نسختها الآية التي تليها: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة 9/ 122] . وهو قول الضحاك والحسن البصري وعكرمة.

وقال المحققون: إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا التقدير فلا نسخ. وتضمنت آية إِلَّا تَنْصُرُوهُ عتاب الله أيضا للمؤمنين بعد انصراف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من تبوك لأن معناها كما عرفنا: إن تركتم نصره، فالله يتكفّل به إذ قد نصره الله في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة. وأبانت الآية في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فضل أبي بكر بسبب صحبته النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أحلك الظروف وشدة الخوف، وتعرضه للقتل إن عثر المشركون عليه وعلى النبي، واختيار النبي له لعلمه بأنه من المؤمنين الصادقين، ولأن الظاهر يدل على كون الاختيار بأمر الله. ولتسميته بأنه ثانِيَ اثْنَيْنِ ولوصف الله تعالى أبا بكر بكونه صاحبا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السّلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. وفي قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وجاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك، ولم يبق منهم مخالف. روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فنخيّر أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان.

وجمهور أئمة السلف على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهم أجمعين. وتضمنت آية إِلَّا تَنْصُرُوهُ أيضا معجزتين هما: تأييد الله نبيه بجند من الملائكة في قوله: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها والضمير يعود إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وحماية الله نبيه في الغار من أذى المشركين في قوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ والمراد غار ثور. وقصة الهجرة ومعجزة الغار هي بإيجاز: لما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة، قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طوال ليلتهم، ليقتلوه إذا خرج فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه «1» ، ودعا الله أن يعمّي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض، فلما أصبحوا، خرج عليهم علي رضي الله عنه، وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط، ويقال: ابن أريقط، وكان كافرا، لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق، فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من خوخة (ثغرة) في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح، ونهضا نحو الغار في جبل ثور. وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه، ويريحها (يردّها) عليهما ليلا، فيأخذا منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار.

_ (1) وفي هذا مخاطرة وفضل كبير أيضا لسيدنا علي كرم الله وجهه، وهي طاعة عظيمة ومنصب رفيع.

وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم، فيعفّي آثارهما، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار، فقال: هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته «1» ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم، والخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مشهورة أيضا. وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: أن الله عز وجل أمر حمامة، فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار. روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدّيل هاديا خرّيتا «2» ، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الدّيلي، فأخذ بهما طريق الساحل، أي موضع بعينه، ولم يرد به ساحل البحر. قال المهلب: وفي هذا من الفقه ائتمان أهل الشرك على السرّ والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة، كما ائتمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذا المشرك على سرّه في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق «3» .

_ (1) هذا ثابت في صحاح السيرة، وإن لم يثبته أهل الحديث. (2) الخرّيت: الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز. (3) تفسير القرطبي: 8/ 144 وما بعدها.

النفر للجهاد في سبيل الله [سورة التوبة (9) آية 41] :

وفي قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ... دلالة واضحة على أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك مغلوبة خاسئة حقيرة، وأن كلمة الله هي العليا، وهي قوله: لا إله إلا الله. وختام الآية: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيه بيان مقتضب يدل على قدرة الله الباهرة وحكمته العالية، فالله قاهر غالب، لا يفعل إلا الصواب. النفر للجهاد في سبيل الله [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) الإعراب: خِفافاً وَثِقالًا منصوبان على الحال من واو انْفِرُوا. البلاغة: خِفافاً وَثِقالًا بينهما طباق. المفردات اللغوية: انْفِرُوا أصل النفر: الخروج إلى مكان، لأمر واجب، والمراد هنا الحث على الجهاد والدعوة إليه، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه النسائي عن صفوان بن أمية: «إذا استنفرتم فانفروا» واسم ذلك القوم الذين يخرجون: النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير. خِفافاً وَثِقالًا نشاطا وغير نشاط، وقيل: أقوياء وضعفاء، كهولا وشبانا، في العسر واليسر، أو أغنياء وفقراء، ثم خفف الأمر على الضعفاء بآية: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ ... [التوبة 9/ 91] . إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم فلا تتثاقلوا.

سبب النزول:

سبب النزول: أخرج ابن جرير عن حضرمي: أنه ذكر له أن أناسا ربما كان أحدهم عليلا أو كبيرا، فيقول: إني آثم، فأنزل الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا. وعن أبي طلحة: كهولا وشبانا، ما سمع الله عذر أحد. ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل. وعن مجاهد: قالوا: فإن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره، فأنزل الله تعالى، وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي على ما كان منهم. والخلاصة: نزلت الآية في الذين اعتذروا بالضيعة والشغل، فأبى الله أن يعذرهم دون أن ينفروا على ما كان منهم. التفسير والبيان: موضوع الآية: أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحتّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال، في المنشط والمكره والعسر واليسر. والمعنى: اخرجوا إلى الجهاد على كل حال من يسر أو عسر، صحة أو مرض، غنى أو فقر، شغل أو فراغ منه، كهولة أو شباب، نشاط وغير نشاط، أي خفاف في النفر لنشاطكم له، وثقال عنه لمشقته عليكم. وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي قاتلوا أعداءكم الذين يقاتلونكم، وفيه إيجاب للجهاد بالنفس والمال إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال، فمن قدر على

فقه الحياة أو الأحكام:

الجهاد بنفسه وماله، وجب عليه ذلك، ومن قدر على الجهاد بالنفس فقط، أو بالمال فقط، وجب عليه. ذلكم المأمور به من النفر والجهاد خير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة» . إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك وأنه خير، فانفروا ولا تتثاقلوا. فقه الحياة أو الأحكام: الآية تدل على إيجاب الجهاد والنفير العام في غزوة تبوك، لكن روي عن ابن عباس وآخرين أنها منسوخة بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة 9/ 91] . قال القرطبي: والصحيح أنها ليست بمنسوخة. ويبقى الجهاد فرض عين إذا تعيّن بغلبة العدو على قطر من الأقطار، فيجب حينئذ على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد خفافا وثقالا، شبانا وشيوخا، كلّ على قدر طاقته، يخرج الابن بغير إذن أبيه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بدحر العدو، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا لتحقيق الهدف المرجو، فالمسلمون كلهم يد واحدة على من سواهم، حتى إذا قام هؤلاء بدفع العدو سقط الفرض عن الباقين. ولو قارب العدو دار الإسلام، ولم يدخلوها، لزم المسلمين أيضا الخروج إليه، حتى تعلو كلمة الله، وتصان البلاد، ويخزي العدو. وفرض أيضا على الإمام غزو الأعداء كل سنة مرة، حتى يدخلوا الإسلام،

أو يعطوا الجزية عن يد «1» . وقد بادر الصحابة لتنفيذ هذا الأمر الإلهي الحاسم العام، فقال أبو أيوب الأنصاري- وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة-: قال الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وروى ابن جرير الطبري عن أبي راشد الحرّاني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فصل عنها من عظمه، يريد الغزو، فقلت: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث (أي سورة براءة) : انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا. وروى ابن جرير أيضا عن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص، فلقيت شيخا قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، قلت: يا عم، أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه، وقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا، ألا إن من أحبه الله ابتلاه. والجهاد واجب بالنفس والمال إذا قدر عليهما، أو على أحدهما، على حسب الحال والحاجة، فقد كان المسلمون ينفقون على أنفسهم من أموالهم، وهم يعدّون السلاح، وقد ينفقون على غيرهم، كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة. فهذه الآية: انْفِرُوا تتناول القادر المتمكن إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف. ولما أصبح في بيت المال وفر وسعة، صار الحكام يجهزون الجيوش من بيت المال، وهذا هو المتبع الآن، حيث تخصص بنود من الميزانية كل عام لنفقات الحرب والدفاع، وتزاد الميزانية عند الحاجة.

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 150- 152 [.....]

تخلف المنافقين عن غزوة تبوك وقضية الإذن لهم [سورة التوبة (9) الآيات 42 إلى 45] :

وللجهاد ثمرة يانعة عظيمة، فهو يحقق إحدى الحسنيين: إما النصر، وما الشهادة في سبيل الله، وفي ذلك من الخير العظيم مالا يوصف، سواء في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإعزاز المسلمين، وفي الآخرة بالقرار في نعيمها والاستمتاع بخلود الجنة، ولا يقدّر هذا إلا المؤمن الصادق الإيمان، الذي يؤمن بأن القيامة حق، وبأن الثواب والعقاب فيها حق وصدق. فما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير وأعظم مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولا تدرك هذه الخيرات إلا بالتأمل، ولا يعرفها إلا المؤمن بالآخرة، لذا قال الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. تخلف المنافقين عن غزوة تبوك وقضية الإذن لهم [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 45] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) الإعراب: بِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين، أي سيحلفون، يعني المتخلفين، عند رجوعك من غزوة تبوك، معتذرين يقولون: بِاللَّهِ.

البلاغة:

لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم والشرط. وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إما أن يكون بدلا من سَيَحْلِفُونَ أو حالا بمعنى: مهلكين. ويحتمل أن يكون حالا من قوله: لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك المشقة. أَنْ يُجاهِدُوا في موضع نصب بإضمار: في، وقيل: التقدير كراهية أن يجاهدوا، مثل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] . البلاغة: بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة الشاقة. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية عن خطئه في الإذن لأن العفو يعقب الخطأ، وهو خبر قصد به تقديم المسرة على المضرة، وإن من لطف الله بالنبي أن بدأه بالعفو قبل العتاب. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كني عنه بالعفو، ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك وهلا استأنيت بالإذن؟ المفردات اللغوية: لَوْ كانَ ما دعوتهم إليه من الخروج للجهاد عَرَضاً متاعا من الدنيا قريبا سهل المأخذ، أو ما يعرض من منافع الدنيا، ويكون غنيمة قريبة سَفَراً قاصِداً أي سهلا لا عناء فيه ولا مشقة، أي وسطا معتدلا لَاتَّبَعُوكَ طلبا للغنيمة الشُّقَّةُ المسافة البعيدة التي تحتاج لعناء ومشقة وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنا الخروج يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالحلف الكاذب عَفَا اللَّهُ عَنْكَ العفو: التجاوز عن الخطأ وترك المؤاخذة عليه إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ شكت قلوبهم في الدين يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون. سبب النزول: نزول الآية (43) : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: أخرج ابن جرير الطبري عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذ

المناسبة:

الفداء من الأسارى، فأنزل الله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. وهذا مروي أيضا عن قتادة. قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى، فقدّم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب. وهو عتاب تلطف إذ قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. وكان صلّى الله عليه وآله وسلم أذن من غير وحي نزل فيه. المناسبة: بعد أن بالغ الله تعالى في ترغيب المؤمنين في الجهاد في سبيل الله، ووبخ المتثاقلين عنه بقوله: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبيّن أن أقواما، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا عن غزوة تبوك، وأما الأكثر فكان يلبي نداء الجهاد بسرعة ونشاط لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وإما النصر. فهذه الآيات نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهي أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، لذا سميت سورة براءة كما بينت آنفا «الفاضحة» لأنها فضحت أحوال المنافقين، قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة أي لم يعرف شؤونهم مفصلة، فلما رجع من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم. التفسير والبيان: وبخ الله تعالى في هذه الآيات المتخلفين عن غزوة تبوك، الذين استأذنوا

النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في التخلف، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال: لَوْ كانَ عَرَضاً.... أي لو كان الأمر الذي دعوتهم إليه غنيمة أو منفعة قريبة المنال، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه، لاتبعوك أي لجاؤوا معك، وسارعوا إلى الذهاب، ولكنهم تخلفوا حينما رأوا أن السفر شاق إلى مسافة بعيدة إلى الشام، وأن القتال لأكبر قوة في العالم وهم الروم حينذاك، فآثروا الجبن والراحة والسلامة، والتفيؤ في الظلال وقت الحر والقيظ، فدل ذلك على انهم جماعة نفعيون ماديون دنيويون، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا- أي عظما عليه لحم- سمينا أو مرماتين «1» حسنتين، لشهد العشاء» أي لو علم أحدهم أنه يجد شيئا ماديا حاضرا معجّلا يأخذه، لأتى المسجد من أجله. ثم أخبر الله تعالى عن شيء سيقع منهم فقال: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي سيقسمون بالله اليمين الكاذبة عند رجوعك من غزوة تبوك، كما قال: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة 9/ 94] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة 9/ 96] قائلين: لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ في العذاب باليمين الكاذبة أو بالكذب والنفاق، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع» . وَاللَّهُ يَعْلَمُ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في الاعتذار والاعتلال وحلفهم بالله، وقولهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم، فإنهم لم يكونوا ذوي أعذار، وإنما كانوا أقوياء الأجسام، وأصحاب يسار. قال قتادة: لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.

_ (1) المرماتان: تثنية مرماة: وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم.

ثم عاتب الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم في إذنه لطائفة ممن تخلف من هؤلاء المنافقين، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ... أي سامحك الله بإذنك لهم، لم أذنت لهم بالتخلف، وهلا استأنيت بالإذن وتوقفت عنه حتى تظهر لك الحقيقة، ويتبين لك الفريقان: الذين صدقوا، والذين كذبوا في إبداء الأعذار، وهلا تركتهم لما استأذنوك لتعلم الصادق منهم من الكاذب، فإنهم كانوا مصرين على التخلف وإن لم تأذن لهم فيه. على أن الله كره انبعاثهم، وكان في خروجهم ضرر وخطر على المسلمين. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. لهذا أخبر الله تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... أي لا يستأذنك في القعود عن الغزو المؤمنون بالله واليوم الآخر في أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بل يقدمون على الجهاد من غير استئذان لأنهم يرون أن الجهاد قربة وسبيل إلى الجنة، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات 49/ 15] . فليس من شأن المؤمنين ولا من عادتهم أن يستأذنوك في الجهاد، وكان أكابر المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الجهاد، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان؟ والله عليم بالمتقين خبير بمن خافه فاتقاه، باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه مسلم وابن ماجه عن

فقه الحياة أو الأحكام:

أبي هريرة: «من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعا، طار على متنه، يبتغي القتل والموت في مظانّه ... » أي خير أعمال الرجل إعداد فرسه في سبيل الله، كلما سمع صيحة لقتال أو دعوة لجهاد، أقدم قاصدا الاستشهاد في المواضع التي يظن فيها ذلك. وإذا كان أهل الإيمان لا يستأذنون للجهاد عادة، فإن الذي يستأذنك في التخلف عن الجهاد من غير عذر، إنما هم المنافقون الذين لا يصدّقون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، وشكّت قلوبهم في صحة ما جئتم به، فهم في شكهم أو ريبهم يتحيرون، ليس لهم ثبات على شيء، فهم قوم حيارى هلكى. روي أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- إن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم عن خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع» . 2- الجهاد يتطلب التضحية والإيمان، للتغلب على أهواء النفس، وميلها إلى حب المنافع المادية العاجلة، وإيثارها على الباقي الدائم الخالد. 3- القرآن معجز لأسباب كثيرة منها إخباره عن المغيبات في المستقبل، مثل إخباره تعالى هنا أنهم سيحلفون، والأمر لما وقع كما أخبر، كان هذا إخبارا عن الغيب، فكان معجزا. 4- كان تقديم العفو على العتاب واللوم بالإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك لطفا عظيما من الله برسوله، ومبالغة في تعظيمه وتوقيره، وهو أخف من

العتاب على قبوله مفاداة أسرى بدر، الذي صدر بتقرير حازم صارم في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 8/ 67] . أما ما احتج به بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين: الأول- إصدار العفو، والعفو يستدعي سابقة الذنب، والثاني- الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يوجب الذنب، وإنما ذلك دليل على مبالغة الله في تعظيم نبيه وتوقيره. ويجاب عن الثاني بأنه بعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، ويحمل قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ على ترك الأولى والأكمل، لا سيما وهذه الوقعة من قضايا الحرب ومصالح الدنيا التي يجوز للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الاجتهاد فيها اتفاقا، فكان ما حكم به صادرا بمقتضى الاجتهاد. 5- دل قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ.. على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص والتريث. 6- قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور، فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [62] . 7- لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، وفضائل العادات مثل إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وفعل المعروف، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء 4/ 114] . 8- المنافقون غير مؤمنين بالله ورسوله واليوم الآخر، وعدم إيمانهم إنما كان بسبب الشك والريب، لا بسبب الجزم والقطع بعدمه، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله تعالى.

9- قوله: أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ دليل على أن الجهاد نوعان: جهاد بالمال وجهاد بالنفس. والجهاد بالمال له وجهان: إنفاق المال في التسليح والإعداد المادي الذي تتطلبه المعارك عادة، وإنفاق المال على المجاهدين وأسرهم وإعانتهم بالزاد والعتاد. والجهاد بالنفس أنواع منها: مباشرة القتال بالفعل وهو الأفضل، ومنها التحريض على القتال والأمر به، ومنها الإخبار بعورات العدو ومواطن الضعف لديه، والإرشاد إلى مكايد الحرب، وتنبيه المسلمين إلى الأولى والأصلح في أمر الحروب، كما قال الحباب بن المنذر حين نزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ببدر، فقال: يا رسول الله، أهذا رأي رأيته أم وحي؟ فقال: بل رأي رأيته، قال: فإني أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك، وتغوّر الآبار التي في ناحية العدو، ففعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك. ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه. وأي الجهادين أفضل، أجهاد النفس والمال، أم جهاد العلم؟ الحقيقة أن جهاد العلم أصل، وجهاد النفس فرع، والأصل أولى بالتفضيل من الفرع. فإذا كان النفير عاما: تعين فرض الجهاد على كل أحد، فيكون الاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم لأن ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه، وتعلم العلم ممكن في سائر الأحوال، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية، لا على كل أحد في خاصة نفسه. وأما إذا لم يكن النفير عاما: ففرض الجهاد على الكفاية، مثل تعلم العلم، إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أولى وأفضل من الجهاد، لعلو مرتبة العلم على مرتبة الجهاد لأن ثبات الجهاد بثبات العلم، ولأن الجهاد فرع عن العلم ومبني عليه «1» .

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 119

الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر وخطر خروجهم للقتال [سورة التوبة (9) الآيات 46 إلى 48] :

ويجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقا، وجنوده فساقا، وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق، وقد غرا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد بن أبي سفيان. وإذا جاهد الفساق فهم مطيعون في ذلك. ثم إن الجهاد نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو رأينا فاسقا يأمر بمعروف وينهى عن منكر، كان علينا معاونته على ذلك، فكذلك الجهاد «1» . الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر وخطر خروجهم للقتال [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 48] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) الإعراب: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الواو في وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ. والْفِتْنَةَ: مفعول به ثان. البلاغة: لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً واقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ بينهما جناس اشتقاق. وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ الأصل: ولأوضعوا ركائبهم بينكم بالنميمة، والتضرية أو الهزيمة، أو

_ (1) المرجع السابق.

المفردات اللغوية:

لسعوا بينكم بالنمائم وإفساد ذات البين، يقال: وضع البعير وضعا: إذا أسرع، وأوضعته أنا. فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إفسادهم ذات البين بالنميمة بسرعة سير الراكب، ثم أستعير لها الإيضاع وهو للإبل. المفردات اللغوية: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معك لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أهبة من السلاح والزاد، فالعدة: هي ما يعده الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل، وهو نظير الأهبة وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ استدراك عن مفهوم قوله: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ كأنه قال: ما خرجوا، ولكن تثبطوا، لأنه تعالى كره انبعاثهم، أي نهوضهم للخروج فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم وعوقهم بالجبن والكسل وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول لهم، والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم، وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ بخروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا فسادا وشرا ونميمة وزرع الاختلاف، وأصل الخبال: مرض في العقل كالجنون، ينشأ عنه اضطراب في الرأي وفساد في العمل. وهذا ليس من الاستثناء المنقطع في شيء، كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع: هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا لأن الخبال بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئا إلا خبالا. وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أسرعوا بالمشي بينكم بالنميمة يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم، والْفِتْنَةَ: التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء. وخلال الأشياء: ما يفصل بينها من الفرجة ونحوها. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي فيكم قوم ضعاف يسمعون قول المنافقين ويطيعونهم، أو فيكم نمامون يسمعون حديثكم وينقلونه إليهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي لقد طلبوا وأرادوا لك تشتيت أمرك وتفريق أصحابك من قبل، أول ما قدمت المدينة، يعني يوم أحد، فإن عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين، كما تخلفوا عن تبوك، بعد ما خرجوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى ذي جدّة أسفل من ثنية الوداع «1» ، انصرفوا يوم أحد وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أجالوا الفكر في تدبير المكايد والحيل لك، ونظروا في إبطال دينك وأمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ النصر والتأييد الإلهي وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ علا دينه وغلب شرعه وَهُمْ كارِهُونَ أي على رغم منهم.

_ (1) الثنية: الطريق في الجبل كالنقب، والوداع: واد بمكة، وثنية الوداع منسوبة إليه.

المناسبة:

المناسبة: بعد ما ذكر الله تعالى أن استئذان المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك كان بغير عذر، وأنهم أرادوا التخلف ثم استأذنوا سترا لنفاقهم، أقام الدليل هنا على ذلك وهو تركهم الاستعداد للمشاركة في هذه الغزوة، وأوضح أن خروجهم مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ما كان مصلحة، وإنما يؤدي إلى مفاسد ثلاثة: هي الإفساد والشر، وتفريق كلمة المؤمنين بالنميمة، والتسبب في سماع بعض ضعفاء الإيمان كلامهم وقبول قولهم. فكانت الآية الأولى فضحا لاعتذارهم ونفاقهم، والآيتان الآخريان لتسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على تخلفهم، وبيان ما ثبطهم الله لأجله، وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم، تداركا لأسباب عتاب الرسول عليه الصلاة والسّلام على الإذن. والخلاصة: تستمر الآيات في توضيح قبائح المنافقين، وبيان أخطارهم، وتحذير المؤمنين من مكائدهم. التفسير والبيان: ولو قصدوا الخروج معك إلى القتال لاستعدوا وتأهبوا له بإعداد السلاح والزاد والراحلة ونحوها، وقد كانوا مستطيعين ذلك، ولكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، أي أبغض الله خروجهم مع المؤمنين، لما فيه من أضرار، فثبطهم أي أخرهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف، وفي نفوسهم من الكسل والفتور، وقيل لهم من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: اقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والمرضى والعجزة الذين شأنهم القعود في البيوت، كما قال تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [التوبة 9/ 87] وهم القاعدون والخالفون.

ثم ألقى الله الطمأنينة في نفوس المؤمنين، وبيّن أن عدم خروجهم مصلحة للجيش، إذ لو خرج هؤلاء المنافقون ما زادوكم شيئا من القوة والمنعة، بل زادوكم اضطرابا في الرأي وفسادا في العمل والنظام، ولأسرعوا بالسعي بينكم بالنميمة والبغضاء، وتفريق الكلمة، وبذر بذور التفرقة والاختلاف، وإشاعة الخوف والأراجيف من الأعداء، وتثبيط الهمة. علما بأن فيكم قوما ضعاف العقل والإيمان والعزيمة يسمعون كلامهم، ويصدقونهم في قولهم، ويطيعونهم، فتفتر عزائمهم عن القيام بأمر الجهاد، وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. والله عليم علم إحاطة بأحوال الظالمين الظاهرة والباطنة، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، ومجازيهم على أعمالهم كلها. وفي هذا دلالة واضحة على أن خروجهم شر لا خير فيه، وضعف لا قوة. ثم ذكّر الله تعالى بموقفهم المتخاذل في الماضي، وحرّض نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم على مهادنة المنافقين، فقال تعالى ذاكرا نوعا آخر من مكر المنافقين وخبث باطنهم: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ ... أي لقد أرادوا إيقاع الفتنة بين المسلمين من قبل ذلك، في غزوة أحد، حين اعتزلهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين بثلث الجيش، في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد، ثم قال للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له، فعلام نقتل أنفسنا؟ وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة، ولكن عصمهم الله من الهوان: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ... [آل عمران 3/ 122] فكان خروجهم مع المؤمنين خطرا عليهم، وشرا محققا بهم. وأرادوا أيضا تدبير الحيل والمكايد للنبي، وفكروا في إبطال أمره، حتى جاء النصر والتأييد، وظهر أمر الله، أي وغلب دينه وعلا شرعه، بالتنكيل باليهود، وإبطال الشرك بفتح مكة، وانتشار الإسلام، وهم كارهون لذلك.

فقه الحياة أو الأحكام:

قال ابن كثير: لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة، رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر، وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه (أي أقبل) . فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله، غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كارِهُونَ «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- ترك المنافقين الاستعداد للمعركة دليل واضح على أنهم أرادوا التخلف، سواء أذن لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو لم يأذن، مع أنهم كانوا موسرين قادرين على تحصيل الأهبة والعدة. 2- إن لوم هؤلاء على ترك الإعداد للقتال يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه، وهو كقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال 8/ 60] . 3- لم تكن مشاركة المنافقين وخروجهم للقتال مع المؤمنين في غزوة تبوك وغيرها خيرا ومصلحة، وإنما كانت شرا ومفسدة، وقد شرح تعالى المفاسد وحصرها في ثلاث: إفساد النظام والعمل، وتفريق كلمة المسلمين بالنميمة، واستدراج فئة من ضعاف الإيمان والعقل والحزم إلى صفوفهم وسماع كلامهم. ثم تأكد ذلك بآيات أخرى، منها: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة 9/ 83] ومنها:

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 361

انتحال المنافقين أعذارا أخرى للتخلف عن غزوة تبوك وفرحهم عند السيئة التي تصيب المؤمنين وترحهم عند الحسنة [سورة التوبة (9) الآيات 49 إلى 52] :

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ- إلى قوله- قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح 48/ 15] . 4- كراهية انبعاثهم: معناها إرادة الله عدم ذلك الشيء «1» ، أي عدم خروجهم لأن خروجهم يؤدي إلى الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو وإثارة الخلافات والمنازعات، والخروج على هذا النحو معصية وكفر، فكرهه الله تعالى وثبطهم عنه، إذ كان معصية، والله لا يحب الفساد «2» . 5- المقصود من قوله: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيت، وهم القاعدون والقواعد، والخالفون والخوالف. 6- لن تفلح مكائد البشر من منافقين ويهود ومشركين وغيرهم، ولن تقف أي قوة في الدنيا أمام إرادة الله القاهرة إعلاء دينه، وغلبة شرعه، ونصرة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم. انتحال المنافقين أعذارا أخرى للتخلف عن غزوة تبوك وفرحهم عند السيئة التي تصيب المؤمنين وترحهم عند الحسنة [سورة التوبة (9) : الآيات 49 الى 52] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 79 (2) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 120

الإعراب:

الإعراب: أَلا للتنبيه وافتتاح الكلام. البلاغة: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ... فيها المقابلة بين أمرين. إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا اللام هنا مفيدة معنى الاختصاص، كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر، وإظهار لفظ الجلالة مكان الإضمار لتربية المهابة والخوف منه تعالى. هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا اللفظ استفهام، والمعنى توبيخ. فَتَرَبَّصُوا أمر يراد به التهديد والوعيد. المفردات اللغوية: ائْذَنْ لِي في التخلف والقعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك، هلك مالي وعيالي. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي وقعوا فيها وهي فتنة التخلف لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة، أو هي محيطة بهم لأن أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها، والمعنى: لا محيص ولا مهرب لهم عنها.

سبب النزول:

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة كنصر وغنيمة وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ نكبة وشدة يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي لقد احتطنا بالحزم حين تخلفنا من قبل هذه المصيبة فَرِحُونَ بما أصابك ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا إصابته هُوَ مَوْلانا ناصرنا ومتولي أمورنا هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي تنتظرون أن يقع، والأصل: تتربصون، فحذفت إحدى التاءين. إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إلا إحدى العاقبتين: النصر أو الشهادة، وهي تثنية حسنة تأنيث أحسن نَتَرَبَّصُ ننتظر بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء أَوْ بِأَيْدِينا بأن يؤذن لنا في القتال مُتَرَبِّصُونَ عاقبتكم. سبب النزول: نزول الآية (49) : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي: أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي، ولا تفتني، فأنزل الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أي لا تفتني بصباحة وجوههن. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مثله، وعبارته قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: الأصفر؟ قال جدّ، وكان من شيوخ المنافقين: أتأذن لي يا رسول الله، فإني رجل أحبّ النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو معرض عنه: قد أذنت لك، فنزلت الآية. ولما نزلت قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبني سلمة- وكان الجد بن قيس منهم- «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: جدّ بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي

نزول الآية (50) :

صلّى الله عليه وآله وسلم: وأي داء أدوى «1» من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور. نزول الآية (50) : إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ: أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة، يخبرون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبار السوء، يقولون: إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل: «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ» الآية. المناسبة: الآيات السابقة واللاحقة في تعداد قبائح المنافقين، وبيان نوع آخر من كيدهم ومن خبث بواطنهم، وشماتتهم بالمؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة، وترحهم إذا تعرضوا لحسنة. التفسير والبيان: ومن المنافقين من يقول لك: يا محمد ائذن لي في القعود والتخلف عن القتال، ولا توقعني في الإثم والهلاك بالخروج معك، حتى لا أفتتن بنساء الروم، منتحلين الأعذار الواهية، مظهرين التمسك بالفضيلة، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم، كاشفا حقيقتهم فقال: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إنهم بهذه المقالة وقعوا فعلا في الفتنة، حين انتحلوا الأعذار الكاذبة، وقعدوا عن الجهاد، فقوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي في الإثم والمعصية وقعوا.

_ (1) أي: أيّ عيب أقبح منه؟ قال ابن الأثير: والصواب: أدوأ بالهمز، ولكن هكذا يروى، إلا أن يجعل من باب دوي: إذا هلك بمرض باطن.

وإن نار جهنم لمحيطة بهم، لا يجدون عنها محيدا ولا محيصا ولا مهربا. وهذا وعيد شديد لهم بأنهم أهل جهنم لكثرة خطاياهم، كما قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة 2/ 81] . ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كيد المنافقين وخبث باطنهم، معلما نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بعداوتهم، فقال: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ... أي إن عرضت لك في بعض الغزوات حسنة، أي فتح ونصر وغنيمة، كيوم بدر، ساءهم ذلك وإن أصابتك مصيبة، أي نكبة وشر وشدة كانهزام وتراجع في معركة، كما حدث يوم أحد، قالوا: قد اتخذنا ما يلزم من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، واحترزنا من متابعته من قبل هذا الذي وقع، إذ تخلفنا عن القتال، ولم نتعرض للهلاك لأنا متوقعون هذه الهزيمة، وانصرفوا إلى أهاليهم عن موضع التحدث والمفاخرة بآرائهم هذه، وهم مسرورون للنتيجة. والحسنة: ما يسرّ النفس حصوله، والسيئة: ما يسوء النفس وقوعه. فأرشد الله تعالى رسوله إلى إجابتهم عن هذا الموقف الشامت فقال: قل لهم: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب وخطّ لنا في اللوح المحفوظ، فنحن تحت مشيئته وقدره، هو مولانا، أي ناصرنا ومتولي أمورنا ونتولاه، كما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد 47/ 11] فكل ما كتب لنا هو الخير والصلاح. وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، أي ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وحق المؤمنين ألا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم، ومن حقهم اتخاذ ما يجب من أسباب النصر المادية والمعنوية، كإعداد العدة

فقه الحياة أو الأحكام:

اللازمة، وتوقي كل المنازعات التي تؤدي الى الفشل وتفرق الكلمة. والتوكل: تفويض الأمر إلى الله، بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة عادة. ثم أرشد الله تعالى إلى جواب ثان عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، فقال: قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ أي قل لهم يا محمد: هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين الحسنتين: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والثواب العظيم، فإن عشنا عشنا أعزة كراما مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين. أما نحن فننتظر بكم إحدى السوأتين من العواقب: إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وهو قارعة من السماء، كما نزلت على عاد وثمود، أو بعذاب بأيدينا وهو السبي أو القتل على الكفر أو الإذن لنا في قتالكم، فانتظروا بنا ما ذكرنا من عواقبنا، إنا معكم منتظرون ما هو عاقبتكم، فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه، لا يتجاوزه، فنحن على بيّنة من ربنا، ولا بينة لكم، لا تشاهدون إلا ما يسرّنا، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم، وانتظروا أنتم مواعد الشيطان، إنا منتظرون مواعد الله. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن الأعذار الكاذبة لا تخفى على الله المطلع على الغيوب وأسرار النفوس وخفايا ما في الصدور، فلا يغترن أحد بذكائه وفطنته في تعمية الحقائق، فإن الله كاشف كل شيء، ولكن المنافقين قوم أغرار جاهلون لا يعلمون هذه الحقيقة. 2- المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الخروج معه إلى غزوة تبوك هم الواقعون في الإثم والمعصية. قال أهل المعاني في قوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا: فيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه

ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون. 3- المنافقون حصب جهنم وهم لها واردون، وهي تحيط بهم إحاطة شاملة، لا يفلت من حرها أحد منهم يوم القيامة. وقد عبر قوله تعالى عن ذلك: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وأفاد التعبير أنهم كانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بسبب تزايد دولة الإسلام واستعلائها وامتدادها، والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم العقوبات الروحانية، كما قال الرازي «1» . 4- هناك نوع آخر من كيد المنافقين وخبث بواطنهم، وهو إساءتهم إن أصاب المؤمنين في بعض المعارك حسنة كظفر أو غنيمة، وفرحهم إن أصاب المؤمنين سيئة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه، ثم قولهم: قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، من قبل وقوع ما وقع، ثم توليهم عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم، وهم فرحون مسرورون. 5- كان الرد الحاسم الأول على كل تلك المكائد: أنه لن يصيب الإنسان خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدر عليه مكتوب عند الله، معلوم لله، مقضي به عند الله تعالى. وهذا دليل في رأي أهل السنة على أن قضاء الله شامل لكل المحدثات، وأن تغير الشيء عما قضي الله به محال. ويؤكد مضمون الآية قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من علم سر الله في القدر، هانت عليه المصائب» .

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 84

إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة [سورة التوبة (9) الآيات 53 إلى 55] :

6- التوكل على الله بمعنى تفويض الأمر إليه بعد اتخاذ الأسباب من أصول الإيمان. 7- الجواب الثاني الحاسم عن فرح المؤمنين بمصائب المؤمنين: أن المؤمنين ينتظرون إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وأما المنافقون فينتظرون إحدى السوأتين: العذاب الإلهي بالإهلاك الشامل في الدنيا كما عذبت الأمم الخالية، كعاد وثمود، أو العذاب على أيدي المؤمنين بالقتل أو غيره. إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) الإعراب: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نصب على الحال، أي طائعين أو مكرهين. أَنْ تُقْبَلَ فاعل منع، والضمير في مِنْهُمْ وأَنْ تُقْبَلَ: مفعولا منع. وَهُمْ كُسالى مبتدأ وخبر، والجملة حالية.

البلاغة:

البلاغة: أَنْفِقُوا: أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. طَوْعاً أَوْ كَرْهاً بينهما طباق. المفردات اللغوية: أَنْفِقُوا في طاعة الله كالجهاد لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ما أنفقتموه إِنَّكُمْ تعليل لرد إنفاقهم فاسِقِينَ الفسق: التمرد والعتو كُسالى متثاقلون وَهُمْ كارِهُونَ النفقة لأنهم يعدونها مغرما فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي لا تستحسن نعمنا عليهم، فهي استدراج لِيُعَذِّبَهُمْ أي أن يعذبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بما يلقون في جمعها من المشقة وما فيها من المصائب وَتَزْهَقَ تخرج وَهُمْ كافِرُونَ فيعذبهم في الآخرة أشد العذاب. سبب النزول: نزول الآية (53) : قُلْ: أَنْفِقُوا: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: قال الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه نزلت: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي لقوله: أعينك بمالي. فهذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: هذا مالي أعينك به، فاتركني. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى عاقبة المنافقين وهي العذاب في الدنيا والآخرة، أعقب ذلك ببيان أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر كالإنفاق على الجهاد، فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة لأنهم يفعلونه رياء وسترا على نفاقهم من الفضيحة. والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم، وأن

التفسير والبيان:

أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا والآخرة، فأموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدارين. والآيات من [42] وما بعد هذه الآية إلى الآية [59] كلها في المنافقين، ثم جاءت آية مصارف الزكاة. التفسير والبيان: قل أيها النبي للمنافقين: مهما أنفقتم من نفقة في سبيل الله ووجوه البر طائعين أو مكرهين، لن يتقبل منكم لأنكم كفرتم بالله ورسوله، وما زلتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة، ولأنكم قوم فاسقون أي عتاة متمردون خارجون عن الإيمان، والأعمال إنما تصح بالإيمان، إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة 5/ 27] وقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ.. تعليل لرد إنفاقهم وعدم القبول منهم في الدنيا والآخرة: وهو أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين، أي كافرين. وقوله: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً معناه: طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق، لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وعدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقا، بل بخصوص وصفه: وهو كون ذلك الفسق كفرا، لذا صرح الله تعالى في الآية التالية بذلك فقال: وَما مَنَعَهُمْ ... أي وما منع قبول نفقاتهم إلا مجموع هذه الأمور الثلاثة: وهي الكفر بالله ورسوله، وعدم الإتيان بالصلاة إلا في حال الكسل، والإنفاق على سبيل الكراهية.

فهم كفروا بالله ورسوله وبما جاء به، والأعمال إنما تصح بالإيمان، كما ذكرت، ولا يصلون إلا وهم متكاسلون لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا، فهي ثقيلة عليهم، كقوله تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة 2/ 45] . ولا ينفقون نفقة في سبيل الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لها، لا تطيب بها أنفسهم لأنهم لا ينفقون لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة، وسترا للنفاق، ويعدون الإنفاق مغرما وخسارة بينهم. وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء المنافقين نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار. فلا تعجبك أيها النبي وأيها السامع أموالهم ولا أولادهم ولا سائر نعم الله عليهم، فإنما هي من أسباب المحن والآفات عليهم. والإعجاب بالشيء: السرور به مع التعجب والافتخار من حسنه، والاعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. أما أموالهم في الدنيا فهي سبب لتعذيبهم بها حيث يتعبون في جمعها، ويصحبها الهم والقلق، ثم ينفقونها كارهين في الجهاد والزكاة وفي سبيل الله وتقوية المسلمين، وكذلك أولادهم ربما يموتون في الحروب، فيحزنون عليهم أشد الحزن، وفي الآخرة يعذبون عذابا شديدا، حيث يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح، وهذا من قبيل الاستدراج لهم فيما هم فيه، وتكون النتيجة أنهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. والاستدراج بالنعم: الإمداد بها مع البقاء على المعصية، مثل قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 3/ 178] . فما يظنون أنه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم، وبه

فقه الحياة أو الأحكام:

يظهر أن النفاق مرض خطير جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا، ومبطل لجميع الخيرات فيهما. ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه 20/ 131] وقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 56- 55] . فقه الحياة أو الأحكام: في الآيتين دلالة على ما يأتي: 1- إن أفعال الكافر الخيرية كصلة القرابة وإغاثة الملهوف قد تفيده في الدنيا بدفع ضرر أو سوء، ولكن لا يثاب عليها، ولا ينتفع بها في الآخرة. بدليل ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . وروي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد ومسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها» . والصحيح أن إفادته من حسناته في الدنيا مقيّد بمشيئة الله المذكورة في قوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء 17/ 18] . والخلاصة: أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند الله، مع الكفر بالله. أما قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7] فيراد به بالنسبة للكافر تأثير الخير في تخفيف العقاب أو العذاب عنه.

2- لم تكن أعمال الخير في الظاهر، الصادرة من المنافقين عن إيمان وقناعة وطيب نفس، وإنما كانت في الواقع عن إكراه نفسي، سترا على نفاقهم، فهم لم يؤدوا الصلاة إلا وهم كسالى متثاقلون في أدائها، ولم ينفقوا نفقة في سبيل الله كالزكاة والجهاد، لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة لأنهم يعدّون النفقة مغرما، ومنعها مغنما، وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبّلة ولا مثاب عليها، حسبما تقدم. 3- الأموال والأولاد قد تكون سببا للعذاب في الدنيا، وقد تكون سببا للعذاب في الآخرة. أما الأموال في الدنيا فهي عذاب على المنافقين في كسبها وفي إنفاقها، فكسبها يحتاج إلى عناء شديد، والحفاظ عليها يتطلب الحذر، ويصحبها القلق والهم، والتهديد بالضياع والخسارة، وقد تؤدي إلى قسوة القلب والطغيان، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6] وإنفاقها يكون كرها لا طواعية، فيعذبون بما ينفقون، وأما الأولاد فقد يموتون في الجهاد، فيعقب موتهم الحزن والغم والندم، وقد يؤمنون فيحترق الآباء غيظا عليهم، مثل حنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدرا وكان من الله بمكان. وأما في الآخرة فيعذبون إذا اكتسبوا الأموال من حرام، وإذا آمن الأولاد وتبرموا من نفاق الآباء نجوا من العذاب الدائم.

حلف المنافقين الأيمان الكاذبة وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم [سورة التوبة (9) الآيات 56 إلى 59] :

حلف المنافقين الأيمان الكاذبة وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم [سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 59] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) الإعراب: إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ إذا للمفاجاة، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤوا النبي بالسخط. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا جواب لَوْ محذوف، تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم. البلاغة: رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ هنا طباق بين الرضا والسخط. المفردات اللغوية: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي مؤمنون يَفْرَقُونَ يخافون أن تفعلوا بهم كالمشركين، فيحلفون تقية. والفرق: الخوف الشديد الذي يحجب الإدراك الصحيح مَلْجَأً مكانا يلتجئون إليه للاعتصام به، كالقلعة أو الحصن أو الجزيرة أو نحوها مَغاراتٍ سراديب، جمع مغارة: وهي الكهف أو الغار في الجبل، سمي بذلك لأنه يستتر فيها مُدَّخَلًا موضعا يدخلونه، أو سربا في الأرض للدخول فيه بمشقة يَجْمَحُونَ يسرعون في دخوله إسراعا لا يقاوم يَلْمِزُكَ يعيبك، والهمز: العيب

سبب النزول نزول الآية (58) :

في الغيبة، واللمز: العيب في الوجه، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها، وقال الزجاج والجوهري: الهمز كاللمز وزنا ومعنى، أي لا فرق بينهما حَسْبُنَا كافينا راغِبُونَ محبون أن يغنينا، يقال: رغب ورغب فيه: أحبه، ورغب عنه: كرهه، ورغب إليه: طلبه وتوجه إليه. سبب النزول: نزول الآية (58) : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ: روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقسم قسما، إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي- وهو حرقوض بن زهير أصل الخوارج- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة، فنزلت فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر نحوه. وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: «أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بصدقة، فقسمها هاهنا وهاهنا، حتى ذهبت، ورأى ذلك رجل من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية» ومجموع الروايات يدل على أن الطاعنين من المنافقين. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين جامعون لكل مضار الآخرة والدنيا، كاستئذانهم كاذبين، بيّن هنا إقدامهم على الأيمان الكاذبة، وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد طعنوا فيه بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء، ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن فزع المنافقين وهلعهم أنهم يحلفون بالله يمينا مؤكدة: إنهم لمنكم أي لمن جملة المسلمين أهل الملة والدين، وما هم منكم في نفس الأمر فليسوا على دينكم، بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم قوم يخافونكم فيحلفون، فالخوف من القتل هو الذي حملهم على الحلف، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق، وهو كقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة 2/ 14] . ومن مظاهر خوفهم أنهم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدا عنكم، فلو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم، لفروا إليه ولفارقوكم. ولو وجدوا ملجأ، أي مكانا يتحصن فيه، أو مغارة أي كهفا في الجبال، أو مدّخلا أي سربا تحت الأرض كالآبار والقنوات، لولّوا إليه أي رجعوا إليه من أحد هذه المواضع مع أنها شر الأمكنة، وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا في ذهابهم عنكم على نحو لا يقاوم لأنهم إنما يعيشون معكم كرها لا محبة وودا، ولكن للضرورة أحكام. ولهذا لا يزالون في همّ وحزن وغم لأن الإسلام وأهله في تقدم ورفعة، وعز ونصر، وذلك كله يسوؤهم. ومن المنافقين من يعيب عليك ويطعن بك يا محمد في قسمة الصدقات وهي إما المغانم أو أخذ الصدقات من الأغنياء وهي أموال الزكاة المفروضة، قيل: هم المؤلفة قلوبهم كان يعطيهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للتأليف، وقيل: هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟!. وقيل: هو أبو الجوّاط من المنافقين قال: ألا ترون إلى صاحبكم؟ إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، وهو يزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:

فقه الحياة أو الأحكام:

لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود راعيا؟ فلما ذهب، قال عليه الصلاة والسّلام: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون. ثم وصفهم الله تعالى بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين، وما فيه صلاح أهله لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم، فضجر المنافقون منه. فقال تعالى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا.. أي إن أعطوا من الزكاة أو من الغنائم ولو بغير حق رضوا، وإن لم يعطوا منها فاجؤوك بالسخط، وإن لم يستحقوا العطاء، فهم إنما يغضبون لأنفسهم ولمنافعهم، لا للمصلحة العامة، فليس طعنهم أو نقدهم بريئا، ولكن لهدف خاص. ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الرسول من الغنائم وطابت به نفوسهم، وإن قلّ نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما أصبناه، وسيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيؤتينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أكثر مما آتانا اليوم، إنّا إلى الله في أن يمنحننا من فضله لراغبون، لا نرغب إلى غيره أبدا. وقد تضمنت هذه الآية أدبا عظيما حيث إنها ترشدهم وتعلمهم الرضا بما آتاه الله ورسوله، والتوكل على الله وحده، وهو قوله: وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ. والمقصود إنما هو التعليم بأن يرضوا بنعمة الله، وبقسمة الرسول، فهو لا يفعل إلا العدل وما فيه المصلحة العامة للإسلام وأهله، وما على المؤمن إلا أن يرضى بما قسمه الله له، ولا يطمع بأكثر من ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يلي: 1- إن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون، والإقدام على الأيمان

الكاذبة، كما قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الآية [المنافقون 63/ 1] . 2- المنافقون جماعة حيارى مضطربون قلقون كارهون العيش في الحقيقة مع المؤمنين، خوفا من افتضاح أمرهم، ويخافون أن يظهروا على ما هم عليه فيقتلوا، لذا يتمنون النجاة بأنفسهم واللجوء إلى شر الأمكنة كالحصون (الملاجئ) والمغارات (الكهوف في الجبال) والمداخل (السراديب المحفورة تحت الأرض) . 3- ومن أسوأ أخلاق المنافقين وقبائحهم وفضائحهم طعنهم في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بسبب أخذ الصدقات المفروضة من الأغنياء، ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، أو بسبب قسمة غنائم الحرب المغنومة من الأعداء، كغنائم حنين التي تألف بها النبي المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل. 4- تدل الآية على أن من طلب الدنيا وحدها آل أمره إلى النفاق، وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين، فهذا هو الطريق الحق. والأصل في هذه الأمور المادية الرضا بقضاء الله وقدره، بعد اتخاذ الأسباب، لذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ. 5- اشتملت هذه الآية: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا على مراتب أربع: الأولى- الرضا بما آتاهم الله ورسوله لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، فحكمه حق وصواب. الثانية- أن تظهر آثار الرضا على اللسان، وهو قوله: حَسْبُنَا اللَّهُ أي الرضا بحكم الله وقضائه.

مصارف الزكاة الثمانية [سورة التوبة (9) آية 60] :

الثالثة- أن يقول الإنسان إن لم يقل: حَسْبُنَا اللَّهُ: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أي إما في الدنيا أو في الآخرة. الرابعة- أن يقول: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ أي لا نبغي بالإيمان مكاسب الدنيا من مال وجاه، وإنما نريد الفوز بسعادة الآخرة. مصارف الزكاة الثمانية [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) الإعراب: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ منصوب بفعل مقدر، وهو في معنى المصدر المؤكد لما دلت عليه الآية، أي فرض الله لهم الصدقات فريضة، أو حال من الضمير المستكن في لِلْفُقَراءِ وقرئ بالرفع على تقدير: تلك فريضة. البلاغة: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كلاهما بصيغة فعيل التي هي للمبالغة، أي واسع العلم، عالي الحكمة يضع الأشياء في مواضعها. المفردات اللغوية: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ الزكوات المفروضة مصروفة لهؤلاء الثمانية، أفادت اللام وجوب إعطائها لهم، وأنها مختصة بهم لا تتجاوزها إلى غيرهم، فظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم، ومراعاة التسوية بينهم بسبب الاشتراك في الحق. وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد، وبه قال الأئمة الثلاثة. والمعنى: إنما الزكوات مستحقة لهؤلاء المعدودين دون غيرهم، وهو دليل على أن المراد باللمز في الآية السابقة لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم.

لِلْفُقَراءِ الفقير: من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته، من الفقار كأنه أصيب فقاره. وَالْمَساكِينِ المسكين: من له مال أو كسب لا يكفيه، من السكون كأن العجز أسكنه، ويدل عليه قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف 18/ 79] وأنه عليه الصلاة والسّلام كان يسأل المسكنة، ويتعوذ من الفقر. وقيل: المسكين: هو عديم المال، لقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد 90/ 16] والمسألة خلافية بين الشافعية والحنفية. والفقر والمسكنة يتحددان بما دون الحد الأدنى اللازم للمعيشة، بحسب كل زمان ومكان. وَالْعامِلِينَ عَلَيْها الساعين في تحصيلها وجمعها وهم الجباة. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة بالإسلام فتستألف قلوبهم، أو هم أشراف قد يترقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم، وقد أعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس لذلك. وقيل: أشراف يستألفون على أن يسلموا، فإنه عليه الصلاة والسّلام يعطيهم، والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله من الغنائم. وقد عدّ منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة، فهم أقسام: إما أن يعطوا ليسلموا، أو يثبت إسلامهم، أو يسلم نظراؤهم، أو يدافعوا عن المسلمين. والأول والأخير لا يعطيان اليوم عند الشافعي رضي الله عنه لعز الإسلام، بخلاف الآخرين، فيعطيان على الأصح. وَفِي الرِّقابِ أي وفي فك المكاتبين، بأن يعاون المكاتب بشيء من الزكاة على أداء الأقساط (النجوم) أو بأن يبتاع الرقاب فتعتق، وبه قال مالك وأحمد، أو بأن يفدى الأسارى. والعدول عن اللام إلى فِي للدلالة على أن الاستحقاق للجهة، لا للرقاب. وَالْغارِمِينَ المديونين إن استدانوا لأنفسهم في غير معصية ولا إسراف ولم يكن لهم وفاء للديون، أو استدانوا لإصلاح ذات البين ولو أغنياء لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «لا تحل الصدقة إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو رجل اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني، أو لعامل عليها» . وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أي القائمين بالجهاد ولو أغنياء، أو للصرف في مصالح الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وشراء السلاح. وقيل: وفي بناء القناطر والمصانع. وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع في سفره عن ماله. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله ذلك فريضة، ليس لأحد فيها رأي.

المناسبة:

المناسبة: لما لمز المنافقون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في الصدقات، بيّن لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية، فلا يبقى لأحد حق الاعتراض أو النقد والطعن في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بسبب أخذ الصدقات. فهم مخطئون في اعتراضهم، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم محق فيما صنع، والآية قاضية على أطماعهم. وورود الآية ضروري أيضا لبيان طريق الحق والعدل في صرف الزكاة، فلا يجور الأغنياء، وليس لهم أن يتحايلوا في صرفها إلى غير هؤلاء المستحقين، كما أن الآية تنبيه وتذكير دائم بهؤلاء المحتاجين، وحمل للأغنياء على إعطاء حقوق الله في أموالهم دون أن يكون لهم منّة، وحدّ من أطماعهم وحبهم للمال. وأما السبب في ذكر هذه الآية بين آيات المنافقين ومكايدهم فللتنبيه على أنهم ليسوا من مستحقي الزكاة، حسما لأطماعهم، وإشعارا باستحقاقهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها. التفسير والبيان: إنما مصارف الزكاة الواجبة لهؤلاء الأصناف الثمانية، وقد أفادت إِنَّمَا حصر الصدقات في هذه الأصناف، دون غيرهم. والدليل على أن المراد بالصدقات هنا هو الزكوات الواجبة: أن (أل) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة المشار إليها في الآية المتقدمة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ولأن الله أثبت الحق في هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية، والمملوك لهم إنما هو الزكاة الواجبة ولأنه ذكر في الآية سهما للعاملين، والعمال يوظفون لجباية الصدقات الواجبة لا المندوبة، ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير هذه الأصناف. والزكوات الواجبة هي زكاة النقود والأنعام والزروع والتجارة.

وقد أوجب الإمام الشافعي صرف جميع الصدقات الواجبة من الفطرة وزكاة الأموال إلى الأصناف الثمانية لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك، وشرّكت بينهم بواو التشريك، وحصرت صرفها في الأصناف الثمانية لأن لفظة إِنَّمَا تقتضي الحصر فيهم، فدلت الآية على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم. ولا يجوز الصرف لأقل من ثلاثة أشخاص من كل صنف لأن أقل الجمع ثلاثة. وأجاز الأئمة الثلاثة الآخرون صرفها إلى صنف واحد، وإلى شخص واحد من كل صنف في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الآية للتخيير في هذه الأصناف دون غيرهم، بدليل قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 271] وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الجماعة عن معاذ بن جبل: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها إلى فقرائكم» والمذكور فقط في الآية والحديث هو صنف واحد وهم الفقراء. ودليلهم على جواز الاقتصار على شخص واحد: هو أن (أل) في الجمع المعرف هنا مجاز في الجنس، أي جنس الصدقة لجنس الفقير، وجنس الفقير يتحقق بواحد، فتصرف إليه. وتحمل (أل) على المجاز لتعذر حملها على الحقيقة، وهو استغراق جميع الفقراء، وإعطاء الصدقة لكل فقير. والسر في التعبير باللام المفيدة للملك في ستة أصناف (وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون، وابن السبيل) أن أصحابها أشخاص يملكون. وأما التعبير ب فِي في صنفين (وهما: في الرقاب، وفي سبيل الله) فلأن المراد الجهة أو الأوصاف والمصالح العامة للمسلمين، وليس المراد الأشخاص، وللإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، فالتعبير بفي في قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه ترجيح لهذين الصنفين على الرقاب والغارمين.

وأما بيان الأصناف الثمانية فهو فيما يأتي: 1- الفقراء: وهم المحتاجون غير الأغنياء، الذين لا يجدون كفايتهم. 2- المساكين: وهم فئة أخرى من المحتاجين. وقد اختلف الفقهاء فيمن هو أسوأ حالا: الفقير أم المسكين، فقال الشافعية والحنابلة: الفقير أسوأ حالا من المسكين، فهو المعدم الذي لا يملك شيئا من مال ولا كسب يغطي حاجته، وأما المسكين: فهو من يملك أقل من كفايته. وقال الحنفية والمالكية: المسكين أسوأ حالا من الفقير. وليس للخلاف ثمرة في الزكاة، وإنما تظهر فائدة الخلاف في الوصية للفقراء دون المساكين أو العكس، وفيمن أوصى بشيء للفقراء وبشيء آخر للمساكين. وأدلة الشافعية والحنابلة هي: أنه تعالى قدم الفقراء لأنهم أحوج من غيرهم، وأنه تعالى بقوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ ... [الكهف 18/ 79] وصف بالمسكنة من له سفينة، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ من الفقر، ويقول فيما رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» ولا يعقل أن يتعوذ من شيء، ثم يسأل حالا أسوأ منه، فالمسكين يملك شيئا وقد نقل جماعة من أهل اللغة كابن الأنباري: أن المسكين: الذي له ما يأكل، والفقير: الذي لا شيء له. وقالوا: والفقير: معناه في كلام العرب: الذي نزعت بعض فقرات ظهره من شدة الفقر، فلا حال أشدّ من هذه. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فترده اللّقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا» .

حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ:

وأدلة الحنفية والمالكية على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير هي: أنه تعالى وصفه بقوله: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد 90/ 16] أي ألصق جلده بالتراب لمواراة جسده، مما يدل على شدة حاجته وأن بعض أهل اللغة كالأصمعي وابن السّكّيت قالوا: المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: هو الذي له بعض ما يكفيه وأن المسكين: هو الذي يسكن حيث يحل، مما يدل على نهاية الضرر والبؤس. والظاهر أن المنقول في اللغة متعارض، فيعذر الفريقان فيما ذهبا إليه، وهما متفقان على أنهما صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد: أنهما صنف واحد. وفائدة الخلاف: تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال: هما صنف واحد قال: يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين النصف الآخر، ومن جعلهما صنفين قسم الثلث بينهم أثلاثا. حدّ الفقر الذي يجوز معه الأخذ: أجمع العلماء على أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما: أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه. واختلفوا فيما عدا ذلك. فقال أبو حنيفة: من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم (نصاب الزكاة) فلا يأخذ من الزكاة. فاعتبر النصاب، لقوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الجماعة عن معاذ: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم» . وقال أحمد والثوري وإسحاق وغيرهم: لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب، ولا يعطى منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما لما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما» لكن في إسناده ضعف.

هل تعطى الزكاة للكفار وآل البيت؟ :

والمشهور عن مالك: ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل: هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما؟ قال: نعم. والفقير عند المالكية: هو من ملك من المال أقل من كفاية السنة. وقال الشافعي وأبو ثور: من كان قويا على الكسب والتحرّف، مع قوة البدن وحسن التصرف، حتى يغنيه ذلك عن الناس، فالصدقة عليه حرام لما أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني عن عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سوي» «1» . هل تعطى الزكاة للكفار وآل البيت؟ ظاهر الآية وإطلاق اللفظ يقتضي إعطاء الزكاة لمن اتصف بصفة الفقير والمسكين، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم، وسواء الأقارب وغيرهم، والمسلمون والكفار، ولكن رأى الفقهاء أن الزكاة محصورة في المسلمين، فلا يجوز دفع شيء منها إلى كافر لما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم» . وأباح أبو حنيفة رحمه الله دفع الفطرة إلى الكفار لأن الحديث مختص بالزكاة. وكذلك رأى الفقهاء أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب (وهم الأصول والفروع) والزوجات لأن الزكاة لدفع الحاجة، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم، ولأنه بالدفع إليهم يجلب لنفسه نفعا. واتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي لما رواه مسلم عن

_ (1) المرّة: القوة والشدة، والسوي: الصحيح الأعضاء.

مقدار ما يعطى للفقير والمسكين:

المطلّب بن ربيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» . ولم يجز الشافعي أيضا دفعها إلى مطّلبي لما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، وشبّك بين أصابعه» . مقدار ما يعطى للفقير والمسكين: للعلماء آراء متفاوتة في ذلك، فرأى أبو حنيفة: أنه لا يزاد على النصاب، أي أنه يكره أن يعطى إنسان من الزكاة مائتي درهم. وذهب مالك إلى أن الأمر راجع إلى الاجتهاد، وأجاز مع الإمام أحمد إعطاء ما يكفي سنة. ورأى الشافعي أنه يعطى الفقير والمسكين ما تزول به حاجته لأن المقصود من الزكاة سدّ الحاجة. نقل الزكاة لفقراء بلد آخر: للعلماء رأيان: فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة عن البلد الذي فيه المال إلى بلد آخر، لكن أجاز المالكية والشافعية والحنابلة نقلها إلى بلد آخر دون مسافة القصر (89 كم) لأنه في حكم موضع الوجوب. وأوجب الشافعية نقلها إلى أقرب البلاد لبلد الوجوب إذا لم توجد الأصناف الثمانية في بلد الزكاة، أو فضل شيء عن بعض منهم. وأباح ابن القاسم وسحنون نقلها لبلد آخر لضرورة أو حاجة شديدة فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج، «والمسلم أخو المسلم،

لا يسلمه «1» ، ولا يظلمه» قال ابن العربي: وهو الصحيح. وقال الحنفية: يكره تنزيها نقل الزكاة من بلد إلى آخر إلا أن ينقلها إلى قرابته المحتاجين ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها وأصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم، أو إلى الزهاد، أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير هذه الأحوال جاز لأن المصرف مطلق الفقراء. والدليل قول معاذ لأهل اليمن: ايتوني بخميس «2» أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة، فإنه أيسر عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة. وقد دلّ هذا الحديث على أمرين: أحدهما- نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة، فيتولى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قسمتها، ويعضد هذا قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ولم يفرق بين فقير بلد وفقير آخر. والثاني- أخذ القيمة في الزكاة. وهو رأي الحنفية لأن المقصود من الزكاة سدّ حاجة الفقراء، وأي شيء سدّ حاجتهم جاز، وقال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ولم يخص شيئا من شيء. ولم يجز الجمهور إخراج القيمة في شيء من الزكاة لأن الحق لله تعالى، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره، كالأضحية لما علقها على الأنعام، لم يجز نقلها إلى غيرها، وإنما يجب العلم بالمنصوص عليه. والمعتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال: المكان الذي فيه المال، والمعتبر في صدقة الفطر مكان وجود الصائم.

_ (1) أي لا يتركه مع من يؤذيه، بل يحميه. والحديث رواه أبو داود عن سويد بن حنظلة. (2) الخميس: لفظ مشترك: وهو هنا الثوب طوله خمسة أذرع، وأول من عمله الخمس أحد ملوك اليمن.

وعند المالكية قولان: قول يعتبر مكان المال وقت تمام الحول، فتفرق الصدقة فيه، وقول يعتبر مكان المالك، إذ هو المخاطب بإخراج الزكاة، فصار المال تبعا له. ومن أعطى فقيرا مسلما، ثم تبين له أنه عبد أو كافر أو غني، أجزأه على الأصح عند مالك، بدليل حديث مسلم عن أبي هريرة المتضمن قبول الصدقة على زانية وغني وسارق، ولأن المطلوب منه الاجتهاد في المعطى، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهل الزكاة، فقد أتى بالواجب عليه. ومن أخرج الزكاة عند حلول الحول، فهلكت من غير تفريط، لم يضمن عند المالكية لأنه وكيل للفقراء. فإن أخرجها بعد ذلك بمدة، فهلكت ضمن لتأخيرها عن محلّها، فتعلقت بذمته، فلذلك ضمن. وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف، لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناضّ «1» ولا في غيره. 3- العاملون عليها: وهم السّعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك. روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللّتبيّة، فلما جاء حاسبه. واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال: الأول- قال مجاهد والشافعي: هو الثمن، فإن زادت أجرتهم على سهمهم، تمّم لهم من بيت المال، وقيل: من سائر السهمان. وهذا رأي موافق لظاهر الآية.

_ (1) الناض من المال: هو الدرهم والدينار، وإنما يسمى ناضا إذا تحوّل نقدا بعد أن كان متاعا، أي صار ذا سيولة.

الثاني- قال الحنفية والمالكية: يعطون قدر عملهم من الأجرة لأنهم عطّلوا أنفسهم لمصلحة الفقراء، فكانت كفايتهم وكفاية أعوانهم في مال الفقراء. وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة، فلا يزيدهم الحنفية على النصف، ويعطون الوسط. الثالث- يعطون من بيت المال، وهو قول ضعيف الدليل فإن الله سبحانه أخبر بسهمهم في الزكاة، فكيف لا يعطونه؟ والذي يعطى للعامل هو بمثابة الأجرة على العمل، فيعطاها ولو كان غنيا، لذا فإنه يعطاها ولو كان هاشميا في رأي مالك والشافعي لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدّقا، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة، وولّى جماعة من بني هاشم، وولى الخلفاء بعده كذلك، ولأن العامل أجير على عمل مباح، فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره كسائر الصناعات. وقال أبو حنيفة: لا يعطى العامل الهاشمي لأن سهمه جزء من الصدقة، وقد قال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه مسلم عن المطّلب بن ربيعة: «إن الصدقة لا تحلّ لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» . ودلّ قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسّام والعاشر والعريف والحاسب وحافظ المال، يجوز للقائم به أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت فرضا عينيا على كل واحد، فإن التفرغ للإمامة من فروض الكفايات، كما ذكر القرطبي ... ودلّ هذا القول أيضا على أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة (الزكاة) لأن بعض من يملك المال لا يعرف ما يجب عليه، وبعضهم قد يبخل، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عمر بن الخطاب

رضي الله عنه على الصدقات. وروى أبو داود عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: ولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجلا من بني مخزوم على الصدقة. والنص على العامل في الآية يدل على أن أخذ الزكاة إلى الإمام، ويجب دفعها له، ولا يجزي رب المال أن يعطيها إلى المستحقين، ويؤكده قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة 9/ 103] . لكن يعارض ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج 70/ 25- 24] والحق يجوز لمن يجب عليه دفعه للسائل والمحروم مباشرة. لذا فصل العلماء فقالوا: أ- إن كان مال الزكاة خفيا (باطنا) كالنقود: فيجوز بالإجماع للمالك أن يفرقه بنفسه أو أن يدفعه إلى الإمام. ب- وإن كان مال الزكاة ظاهرا كالماشية والزرع والثمر: فيجب دفعه إلى الإمام في رأي الجمهور لأن حق المطالبة فيه للإمام، فيدفع إليه كالخراج والجزية. وقال الشافعي في الجديد: يجوز للمالك توزيعه بنفسه لأنه زكاة كزكاة المال الخفي. 4- المؤلفة قلوبهم: وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. وهم نوعان: مسلمون وكفار، يعطون ليتقوى إسلامهم. أما الكفار حال كونهم كفارا: فيعطون من الزكاة في مذهب الحنابلة والمالكية، ترغيبا في الإسلام لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم «أعطى المؤلفة قلوبهم من المسلمين والمشركين» «1» .

_ (1) نيل الأوطار: 4/ 166 [.....]

وهل بقي سهم المؤلفة قلوبهم أو نسخ؟ رأيان:

ولا يعطون من الزكاة في مذهب الحنفية والشافعية، لا لتأليف ولا لغيره لأن إعطاءهم في صدر الإسلام إنما كان في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وقد أعزّ الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال عمر رضي الله عنه: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» . وأما المسلمون من المؤلفة: فهم أصناف، يعطون لتثبيت إسلامهم: أولا- ضعفاء النية في الإسلام: يعطون ليتقوى إسلامهم. ثانيا- الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان بن حرب وآخرين، وأعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، لشرفهما في قومهما. ثالثا- المقيم في ثغر من ثغور المسلمين المجاورة للكفار، ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال. رابعا- من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم، وإن لم يمنعوها. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة. وهل بقي سهم المؤلفة قلوبهم أو نسخ؟ رأيان: قال الحنفية ومالك: قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وقوته، فيكون عدد الأصناف من بعد صدر الإسلام وإلى الآن سبعة لا ثمانية، ويكون سقوط هذا السهم من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار. وقال الجمهور منهم العلامة خليل من المالكية: حكم المؤلفة قلوبهم باق لم

ينسخ، فيعطون عند الحاجة، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل من القرآن، ولأن المقصود من إعطائهم ترغيبهم في الإسلام، لا لإعانتهم لنا، حتى يسقط بانتشار الإسلام. والخلاصة: أن هذا السهم حق للإمام يفعل فيه ما يراه محققا للمصلحة. 5- وفي الرقاب: أي في فك الرقاب، كما قال ابن عباس وابن عمر، أي أن فيه محذوفا، والمراد به عند أكثر العلماء: المكاتبون «1» المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون لأسيادهم، ولو مع القوة والتكسب لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [النور 24/ 33] إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعطى منها في رقبة، ويعاون بها مكاتب لأن قوله: وَفِي الرِّقابِ يقتضي مشاركة المزكي في عتق الرقبة، لا أن يستقل بالعتق. وقال المالكية: يشترى بسهمهم رقيق، فيعتق لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة: يراد بها عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات. ويكون ولاؤهم لبيت المال. وقد ورد حديث يدل على جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا، روى أحمد والبخاري والدارقطني عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: دلّني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني من النار، فقال: «أعتق النسمة، وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله، أو ليستا واحدا؟ قال: «لا،

_ (1) المكاتب: من كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفاها صار حرا. والكتابة مندوبة لقوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور 24/ 33] من أجل تحرير الرقاب.

عتق النسمة: أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في ثمنها» . وشرط إعطاء المكاتب: هو كونه مسلما محتاجا. وقال بعض العلماء كابن حبيب المالكي: يفدى من هذا السهم الأسارى. ويؤخذ بهذا القول اليوم لإنهاء الرق من العالم. 6- الغارمون: وهم المدينون الذين ركبهم الدّين ولا وفاء عندهم به، سواء استدان المدين في رأي الشافعية والحنابلة لنفسه أو لغيره، وسواء كان دينه في طاعة أو في معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان فقيرا، وإن استدان لإصلاح ذات البين، ولو بين أهل الذمة، بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهب، فيعطى من سهم الغارمين، ولو كان غنيا لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» «1» . وقال الحنفية: الغارم: من لزمه دين، ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه، أي أنه الفقير. وقال المالكية: الغارم: هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه، أي أنه الفقير، إذا كان الدين في غير معصية كشرب خمر وقمار، ولم يستدن لأخذ الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يعطى منها لأنه قصد مذموم، بخلاف فقير استدان للضرورة، ناويا الأخذ من الزكاة، فإنه يعطى قدر دينه منها لحسن قصده. لكن إن تاب من استدان لمعصية، أو بقصد ذميم، فإنه يعطى على الأحسن.

_ (1) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقال الجمهور: يقضى من الزكاة دين الميت لأنه من الغارمين قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا «1» فإليّ وعلي» «2» . 7- وفي سبيل الله: وهم في رأي الجمهور الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند، يعطون ما ينفقون في غزوهم، كانوا أغنياء أو فقراء لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، وهو المستعمل في القرآن والسنة. وأما من له شيء مقدر في الديوان فلا يعطى لأن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغن به. ولا يحج أحد بزكاة ماله، ولا يغزو بزكاة ماله، ولا يحج بها عنه، ولا يغزى بها عنه، لعدم الإيتاء المأمور به. وعلى هذا الرأي: لا يعطى الجيش الحالي من الزكاة لأن الجنود والضباط تصرف لهم اليوم رواتب شهرية دائمة، وإنما يمكن المساهمة عند الضرورة أو الحاجة العامة في شراء السلاح، أو إعطاء المتطوعة في الجهاد. وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرا. وقال أحمد في أصح الروايتين عنه: الحج من سبيل الله، فيعطى مريد الحج من الزكاة لما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله» وأجاب الجمهور بأن الحج سبيل الله، ولكن الآية محمولة على الجهاد، قال مالك: سبل الله كثيرة، وقال ابن العربي: ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو، ومن جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج.

_ (1) الضياع: مصدر ضاع، فسمي العيال بالمصدر، كما تقول: من مات وترك فقرا، أي فقراء. (2) رواه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو صحيح.

وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم، وفسره الكاساني بجميع القرب، فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى وبناء القناطر والحصون وعمارة المساجد لأن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل. والخلاصة: المراد بسبيل الله: إعطاء المجاهدين ولو كانوا أغنياء عند الشافعية، وبشرط كونهم فقراء عند الحنفية، والحج من سبيل الله عند أحمد والحسن وإسحاق. واتفق العلماء إلا ما يروى عن بعضهم أنه لا يجوز صرف الزكاة لبناء المساجد والجسور والقناطر وإصلاح الطرقات، وتكفين الموتى، وقضاء الدين، وشراء الأسلحة ونحو ذلك من القرب التي لم تذكر في الآية، مما لا تمليك فيه. 8- ابن السبيل: هو المسافر المنقطع في أثناء الطريق عن بلده، أو الذي يريد السفر في طاعة غير معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. والطاعة: مثل الحج والجهاد وزيارة مندوبة. وأما السفر المباح كالرياضة والسياحة فلا يعطى في رأي بعض الشافعية لعدم حاجته، ويعطي في رأي آخرين بدليل جواز القصر والفطر له. ويعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده إذا كان محتاجا في سفره، ولو كان غنيا في وطنه. ومن جاء مدعيا وصفا من الأوصاف السابقة، فيطالب بإثبات ما يقول، وعليه أن يثبت الدّين، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد لها، ويكتفى به فيها، كما ذكر ابن العربي والقرطبي المالكيان. وذكر الرافعي الشافعي أن الوصف الخفي كالفقر والمسكنة لا يطالب المدعي بإثباته، ويعطى بلا بيّنة، وأما الوصف الجلي فيطالب العامل والمكاتب والغارم بإثباته، ولا يطالب المؤلف قلبه بإثبات ما يدعيه من ضعف نيته في الإسلام،

فإن ادعى أنه شريف مطاع في قومه طولب بالبينة. واشتهار الحال أو الاستفاضة قائم مقام البينة في حق من يطالب بها. ولا يجوز إعطاء الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة. أما إن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز. والأفضل إعطاء الزكاة للأقارب المحتاجين، قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول. والدليل قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود زينب فيما رواه البخاري ومسلم: «لك أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة» . وقدر المعطى مختلف فيه، فالغارم يعطى قدر دينه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما مدة سنة عند مالك وأحمد كما تقدم، وبقدر الحاجة عند الشافعية، وألا يزاد على نصاب الزكاة عند الحنفية. ويلاحظ ضرورة الاهتمام في توزيع الزكاة بالترتيب المذكور في الآية، فإن الترتيب مقصود ومراد، لكن في سبيل الله وابن السبيل صنفان مفضلان على الرقاب والغارمين للتعبير بفي كما تقدم بيانه. ثم قال الله تعالى بعد بيان أصناف مستحقي الزكاة: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله الصدقات فريضة، أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه، وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد، فإنه سبحانه شرع الزكاة تطهيرا للنفس، وتحصينا للمال، وشكرا للخالق على ما أنعم به، كما قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة 9/ 103] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على بيان مصارف الزكاة، وأنها لثمانية أصناف، لكن اليوم تعطى الزكاة في الغالب من بعض الأغنياء لا من جميعهم للفقراء والمساكين، وإعطاؤها نادر للغارمين المديونين وأبناء السبيل. أما الرقاب والعاملون على الزكاة وفي سبيل الله والمؤلفة قلوبهم فلا يصرف من الزكاة عليهم شيء لأن سهم وَفِي الرِّقابِ قد انتهى بسبب انتهاء الرق في العالم، وأما العاملون أو الموظفون على جباية الزكاة فلم يعد لهم وجود بسبب ترك توزيع الزكاة لأصحابها، وعدم جباية الحاكم لها، إلا في بعض محاولات تقوم بها بعض الدول الإسلامية المعاصرة، وأما سهم في سبيل الله فإن الجيوش النظامية أصبحت تزود بالمؤن والذخائر والأسلحة والرواتب الشهرية الدائمة من خزينة الدولة العامة، ولم تعد تنتظر زكوات المزكين وإنما يمكن الإنفاق في شراء السلاح أو دعم المتطوعين للجهاد، وأما المؤلفة قلوبهم حتى عند القائلين ببقاء سهمهم فقد أصبح وجودهم وتشجيعهم وترغيبهم في الإسلام نادرا، ومحدودا جدا لأن نشاط الدول طغى على نشاط الأفراد، ولم تعد الدول المعاصرة تفكر غالبا في أمر انتشار الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. وفي الآية أحكام سبعة هي: 1- قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ يدل على أن مصارف الصدقات لثمانية أصناف، والمراد من لفظ الصدقات هنا هو الزكوات الواجبة، بدليل إثباته تعالى هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة، ولأن الحصر المستفاد من إنما في هؤلاء الثمانية يصحّ لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة، أما لو أدخلنا فيها المندوبات فلم يصح هذا الحصر لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد والرباطات في

الثغور، والمدارس، وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه. ثم إن قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ منصرف إلى الصدقات التي سبق بيانها وهي الصدقات الواجبة. 2- دلت الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام أو من يليه من قبله، بدليل تعيين نصيب أو سهم للعاملين فيها، فيدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل: هو الذي يعينه الإمام لأخذ الزكوات، فدلّ هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات. وتأكد هذا النص بقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة 9/ 103] . أما إخراج المالك زكاة أمواله الباطنة بنفسه فيستفاد من قوله تعالى: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج 70/ 24- 25] وحق السائل والمحروم يجوز دفعه إليه من غير واسطة الإمام. 3- للعامل في مال الزكاة حق، وإن كان غنيا في رأي الأكثرين. 4- ظاهر الآية يدل على وجوب تعميم الزكاة للأصناف الثمانية، وقد ذكرت آراء العلماء وأدلتهم في جواز الصرف إلى ثلاثة منهم أو إلى واحد. 5- العامل والمؤلفة والرقاب مفقودون في هذا الزمان. وأما مصرف فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي للمجاهدين فلم يعودوا بحاجة للزكاة، لأخذهم مرتبات شهرية دائمة، وإنما يعطى المتطوعون أو من أجل شراء السلاح عند الضرورة أو الحاجة الملحة. 6- قوله: لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ يشمل بعمومه الكافر والمسلم، لكنه خصص بالسنة النبوية التي دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين إلا إذا كانوا مسلمين. 7- المقصود من قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ الزجر عن مخالفة هذا الظاهر، وتحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه

حكمة الزكاة:

أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي، وهو ضعيف: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء» . حكمة الزكاة: أبان الرازي في تفسيره «1» الحكمة في إيجاب الزكاة، وذكر اثني عشر وجها من المصالح عائدة إلى معطي الزكاة، وثمانية وجوه من المصالح عائدة إلى آخذ الزكاة، أشير إليها بإيجاز وتصرف. أما فوائد الزكاة للمزكي فهي ما يلي: 1- الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، وكسر شدة الميل إلى المال، والمنع من انصراف النفس بالكلية إليه، وهو المراد من قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة 9/ 103] أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا. 2- الحد من ملذات الدنيا، والتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه، بالإنفاق في طلب مرضاة الله. 3- الوقوف أمام طغيان المال وقسوة القلب، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6- 7] فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن. 4- تربية النفس عن طريق الشعور بآلام الآخرين، والإحسان إلى الناس، والسعي في إيصال الخيرات إليهم، ودفع الآفات عنهم، وهذا من صفات الله، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «تخلقوا بأخلاق الله» . 5- توفير محبة الفقراء للأغنياء لأن الإنفاق عليهم يستدعي حبهم، على

_ (1) انظر 16/ 100- 104

ما قال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن عدي وأبو نعيم البيهقي عن ابن مسعود وصححه: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها» وإذا أحبوه دعوا له بالخير، فيصير الدعاء سببا لبقاء الإنسان في النعمة، كما قال تعالى: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد 13/ 17] وقال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الطبراني وأبو نعيم والخطابي عن ابن مسعود، وهو ضعيف: «حصّنوا أموالكم بالزكاة» . 6- الزكاة تنقل الإنسان من درجة الاستغناء بالشيء إلى مقام أعلى وهو الاستغناء عن الشيء، والأول صفة الخلق، والثاني صفة الحق. 7- الإنفاق من المال في وجوه البر والخير والمصالح العامة يوجب المدح الدائم في الدنيا، والثواب الدائم في الآخرة، فيكون ذلك سببا لنقل المال إلى القبر وإلى القيامة، بعد أن كان معرضا للزوال لأن المال غاد ورائح. 8- إن بذل المال تشبّه بالملائكة والأنبياء، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين، فكان البذل أولى. 9- إن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق تعالى، والإنفاق يؤدي إلى التخلق بأخلاق الله. 10- الإنفاق من المال يحقق السعادة الاجتماعية، كما أن الإيمان يحقق السعادة الروحانية، والصلاة تحقق السعادة البدنية. 11- الزكاة: شكر النعمة، وشكر المنعم واجب، وشكر النعمة: صرفها إلى طلب مرضاة المنعم. 12- إن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألفة بالمودة بين المسلمين، وزوال الحقد والحسد عنهم. وأما فوائد الزكاة للآخذ، فهي ما يأتي:

1- دفع الحاجة وسد الخلّة، وذلك مقصد راجح على مراعاة جانب المالك الذي اكتسب المال وتعلق قلبه به، لكنه فضل عنده فائض زائد على قدر حاجته، فأبقينا له الكثير، وأخذنا منه اليسير. 2- عدم تعطيل المال الفاضل عن الحاجات الأصلية، وقد خلق الله تعالى المال وسيلة لتوفير الحوائج، لا للاكتناز والادخار والإمساك. 3- المال مال الله، والأغنياء خزّان الله، والفقراء عيال الله، ولا بد من تضامن الفريقين وتعاطفهم وتعاونهم، وتنفيذ أمر الله المالك الحقيقي للكون بالإنفاق على المحتاجين من عباده، والإنفاق على عيال الله تعالى. 4- الحكمة والرحمة تقتضيان صرف الغني بعض ماله غير المحتاج إليه إلى الفقير العاجز عن الكسب بالكلية الذي هو أحوج إليه، وهذا يحقق معنى التكافل الاجتماعي في الإسلام. 5- الزكاة جبران للنقص الحادث عند الفقير، ويستطيع المالك جبر النقصان الذي حدث بسبب الزكاة، عن طريق الاتجار فيه. 6- الحد من ارتكاب الجرائم واللحاق بالأعداء، فلو لم ينفق الأغنياء على مهمات الفقراء، لأقدم هؤلاء على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها، أو على الالتحاق بأعداء المسلمين. 7- أداء الزكاة يساعد جميع المكلفين على الاتصاف بصفة الصبر والشكر معا، وقد قال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر» فإذا أدى الغني الزكاة شكر النعمة، وصبر على نقصان جزء من المال، وإذا أعطي الفقير الزكاة، صار شاكرا بعد أن كان صابرا. 8- أخذ الزكاة فيه مساعدة الفقير الغني بتخليصه في الدنيا من الذم والعار، وفي الآخرة من عذاب النار، فيكون الفقير كالمنعم على الغنى بتخليصه من النار.

إيذاء المنافقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصحيح مفاهيمهم [سورة التوبة (9) آية 61] :

إيذاء المنافقين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتصحيح مفاهيمهم [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) الإعراب: أُذُنُ خَيْرٍ خبر مبتدأ مقدر، أي هو أذن خير، أي هو مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد، والمراد بالأذن: صاحب الأذن. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ اللام زائدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره. وَرَحْمَةٌ مرفوعا معطوف على أُذُنٌ وقرئت بالجر عطفا على خَيْرٍ أي وهو أذن رحمة، فكما أضاف أذنا إلى الخير أضافه إلى الرحمة لأن الرحمة من الخير، والخير من الرحمة. وعدى فعل الإيمان بالباء لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، وعدّى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده. البلاغة: هُوَ أُذُنٌ تشبيه بليغ، حذف منه أداة التشبيه أي هو كالأذن يسمع كل ما يقال له، كأن جملته أذن سامعة، مثل قولهم للربيئة: عين. يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ أظهر كلمة رسول مقام الإضمار، تعظيما لشأنه عليه الصلاة والسّلام، وجمعا بين رتبتي النبوة والرسالة. وأضافها إلى الله زيادة في التكريم. المفردات اللغوية: وَمِنْهُمُ من المنافقين. يُؤْذُونَ الإيذاء: ما يؤلم الإنسان في نفسه أو بدنه أو ماله، قليلا كان أو كثيرا، والمراد هنا: عيبه ونقل حديثه. هُوَ أُذُنٌ أي يسمع من كل واحد ما يقول، ويصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، وهذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه

سبب النزول:

وهو آلة السماع للمبالغة في وصفه، وكأن جملته أذن سامعة، كما يقال للجاسوس: عين. وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه: هو أذن. وأُذُنُ خَيْرٍ مثل قولك: رجل صدق وشاهد عدل، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقبل من المؤمنين الخلّص من المهاجرين والأنصار لا من غيرهم، ويصدقهم بسبب إيمانهم وَرَحْمَةٌ أي وهو رحمة لمن آمن منكم، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يفضح أسراركم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم، لا أذن سوء، ومستمع خير لا مستمع شر. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث «1» يأتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فيجلس إليه، فيسمع منه، وينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الآية. وذكر القرطبي: أن الآية نزلت في عتّاب بن قشير قال: إنما محمد أذن، يقبل كل ما قيل له. وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن جماعة من المنافقين ذكروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بما لا ينبغي من القول، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول، فقال الجلاس بن سويد بن الصامت: بل نقول ما شئنا، ثم نذهب إليه، ونحلف أنا ما قلنا، فيقبل قولنا، إنما محمد أذن سامعة، فنزلت هذه الآية. والغرض من كلامهم أنه ليس له ذكاء ولا تعمق في الأمور، بل هو سليم القلب، سريع الاغترار بكل ما يسمع، فلهذا سموه بأنه أذن، كما أن الجاسوس يسمى بالعين.

_ (1) كان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية، آدم أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوّه الخلقة، وهو الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» والسّفعة: سواد مشرب بحمرة.

المناسبة:

المناسبة: هذا نوع آخر من جهالات المنافقين، وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنه أذن على وجه الطعن والذم، وإنه يصدق كل من حلف له. وقد ذكر تعالى في الآيات السابقة أنهم طعنوا في أفعاله صلّى الله عليه وآله وسلم ولمزوه في قسمة الصدقات. التفسير والبيان: ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالكلام فيه، ويعيبونه، فيقولون: هو أذن سامعة، يسمع كل ما يقال له، ويصدقه، فمن قال له شيئا صدقه، ومن حدثه صدقه، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. يقصدون بقولهم أنه سليم القلب، سريع الاغترار بكل ما يسمع، دون أن يتدبر فيه ويميز بين الأمور، وذلك لأنه عليه الصلاة والسّلام كان يعاملهم بالظاهر، ولا يكشف أسرارهم. فرد الله عليهم بأنه أذن خير لا أذن شر، أي مستمع خير، لا مستمع شر أي هو مستمع ما يحب استماعه، كما يقال: فلان رجل صدق وشاهد عدل، فهو يعرف الصادق من الكاذب، لكنه يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها، فلا يفتضح أحدا منهم، وهو صاحب الخلق الكامل والإنسان المثالي. وهو يصدق بالله لما قام عنده من الدلائل، وبما أوحي إليه مما فيه خيركم وخير غيركم، ويصدق المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، لا غيرهم، وهو رحمة لمن آمن منكم أي أظهر الإيمان أيها المنافقون، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن خير ورحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله، ويصدق ما أخبره به المؤمنون، ولا يصدق خبر المنافقين، وهو رحمة للناس بهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل كوصفه بالسحر أو الكذب، وعدم الفطنة، والطعن في عدالته، فلهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب إيذائه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صاحب الخلق الكامل، والفهم الشامل العميق، والذكاء الخارق، فسكوته عن المنافقين ليس عن غباء واغترار، وإنما لحكمة هي أن يترك الفرصة للمنافقين بالعدول التلقائي عن قبائحهم، وكيلا يعطي الفرصة للمشركين باستغلال حال المنافقين، والقول بأن هذا النبي يقتل من آمن به. ودلت الآية أيضا على أن هذا النبي أذن خير لا أذن شر، يستمع ما فيه الصلاح والخير، ويعرض ترفعا وإباء عن سماع الشر والفساد، وهو أيضا رحمة للمؤمنين، لأنه هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة. وأرشدت الآية إلى أن النبي لا يؤمن بأخبار المنافقين إيمان تسليم، ولا يصدقهم فيما يقولون، وإن أكدوا القول بالأيمان، لأن أدبه صلّى الله عليه وآله وسلم يمنعه من مواجهة الناس بما يكرهون، فهو يجري أمر المنافقين على الظاهر، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنهم. وقد وصفه الله بأوصاف ثلاثة هي أنه يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين أي يسلم لهم قولهم، ورحمة لمن آمن، وهذه الأوصاف توجب كونه أذن خير. ويستنبط من الآية أيضا أن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق برسالته كفر، يترتب عليه العقاب الشديد. أما الإيذاء الخفيف المتعلق بشخصه وشؤونه الشرية وعاداته الدنيوية، وكذا إيذاء أهل بيته، فحرام، لا كفر، مثل إيذائه في إطالة المكث عنده، كما قال تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي

بيان أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك الإقدام على اليمين الكاذبة، وتخوفهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله [سورة التوبة (9) الآيات 62 إلى 66] :

مِنْكُمْ [الأحزاب 33/ 53] ومثل رفع الصوت في ندائه وتسميته باسمه، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات 49/ 2] . بيان أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك الإقدام على اليمين الكاذبة، وتخوفهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله [سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 66] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الإعراب: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أحق: خبر رَسُولُهُ وحذف خبر الأول لدلالة خبر الثاني عليه، في مذهب سيبويه، وتقديره: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وفي مذهب المبرد: لا حذف في الكلام، ولكن فيه تقديم وتأخير، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. وإنما وحّد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مرضيّ واحد.

البلاغة:

فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ فيه أربعة أوجه: إما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب أن له نار جهنم، أو بتقدير محذوف بين الفاء وأن، أي فله أن له نار، أو بدل من فَأَنَّ الأولى المنصوبة بيعلموا، أو مؤكّدة للأولى في موضع نصب، والفاء زائدة. أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ... أن وصلتها في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: من أن تنزل، ويجوز أن تكون في موضع جر على إرادة حرف الجر لأن حرف الجر يكثر حذفه معها دون غيرها. وَلَئِنْ اللام لام القسم. البلاغة: ذلِكَ الْخِزْيُ الإشارة بالبعيد عن القريب للإشعار ببعد درجته في الهول والشناعة. المفردات اللغوية: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمؤمنين، أي لترضوا عنهم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق، وتوحيد الضمير لتلازم الإرضاءين إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ حقا أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ يشاقق، والمحادّة مفاعلة من الحد، كالمشاقة من الشّق، والحد: طرف الشيء، والشق: الجانب، أي يصبح كلّ في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة: وهي جانب الوادي. يَحْذَرُ يخاف في المستقبل أو يتحرّز أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق، وهم مع ذلك يستهزئون اسْتَهْزِؤُا أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مظهر الشيء الخفي المستتر، ويشمل إظهار مكنون الصدور، وإخراج الحب من الأرض، والنفي من الوطن ما تَحْذَرُونَ إخراجه من نفاقكم. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عن استهزائهم بك والقرآن، وهم سائرون معك إلى تبوك لَيَقُولُنَّ معتذرين إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ في الحديث، لنقطع به الطريق، ولم نقصد ذلك. والخوض في الأصل: الدخول في الماء أو في الوحل، كثر استعماله في الباطل، لما فيه من التعرض للأخطار، والمراد: الإكثار من العمل الذي لا ينفع لا تعتذروا عنه، والاعتذار: الإدلاء بالعذر: أي لمحو أثر الذنب قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بإخلاصها وتوبتها كمخشّ بن حمير نُعَذِّبْ طائِفَةً الطائفة: الجماعة من الناس، والقطعة من الشيء بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرّين على النفاق والاستهزاء.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (62) : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ: روى ابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلّفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله، إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا، لهم «1» شر من الحمير، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله، إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: ما الذي حملك على الذي قلت؟ فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدّق الصادق، وكذّب الكاذب، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الآية. وروي ذلك أيضا عن السدّي. نزول الآية (65) : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأينا مثل قرآن هؤلاء، ولا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء! فقال له رجل: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونزل القرآن. وسمي الرجل في رواية أخرى: عبد الله بن أبي، والأصح أنه وديعة بن ثابت لأن عبد الله لم يشهد تبوك. وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن كعب بن مالك: قال مخشّ بن حمير: لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منكم مائة، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فبلغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاءوا يعتذرون، فأنزل الله: لا تَعْتَذِرُوا

_ (1) وفي عبارة السدّي: لنحن أشرّ من الحمر.

المناسبة:

الآية، فكان الذي عفا الله عنه مخشّ بن حمير، فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله، فقتل يوم اليمامة، لا يعلم مقتله إلا من قتله. وقال السّدّيّ: قال بعض المنافقين: والله وددت لو أني قدّمت، فجلدت مائة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة أن ناسا من المنافقين قالوا: في غزوة تبوك: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات له ذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزلت. المناسبة: هذا نوع آخر من قبائح المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة، ومشاقة (معاداة) الله ورسوله، وتحرزهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله (القرآن) وهي آيات في الجملة لشرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم. التفسير والبيان: يخاطب الله المؤمنين مبينا لهم أن المنافقين يقدمون على حلف الأيمان الكاذبة لترضوا عنهم والله يعلم إنهم لكاذبون، وذلك يدل على أنهم شعروا بموقفهم الحرج، وظهور نفاقهم، وافتضاح أمرهم. يحلفون لكم معتذرين عما صدر منهم من قول أو فعل ليرضوكم، والحال أن

الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، وذلك يكون بالطاعة والوفاق والإيمان الصادق والعمل الصالح. والتعبير بإفراد ضمير يُرْضُوهُ للإعلام بأن إرضاء الرسول إرضاء لله، كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80] لأن مصدر الرسالة واحد، والأوامر والنواهي واحدة. هذا إذا كانوا مؤمنين حقا كما يدّعون ويحلفون، فمن كان مؤمنا فليرض الله ورسوله، وإلا كان كاذبا. ثم وبخهم الله تعالى مبينا خطورة الأمر والشأن الذي أقدموا عليه وفي ذلك مزيد تعظيم وتهويل، فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون ويتحققوا أن من يعاد الله ورسوله ويخالفه، بتجاوز حدوده، أو يلمز رسوله في أعماله كقسمة الصدقات، أو في أخلاقه كقولهم: هو أذن يسمع كل ما يقال له، وكان في حد، والله ورسوله في حد، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا، أي مهانا معذبا، وذلك العذاب هو الخزي العظيم أي هو الذل العظيم، والشقاء الكبير. والحقيقة أن المنافقين يعرفون حقيقة أمرهم، فهم غير مؤمنين بالله والرسول، وهم شاكّون مرتابون في الوحي، قلقون مضطربون، والشك والقلق يدعوهم إلى الحذر والخوف، لذا وصفهم تعالى بقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أي يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم، وتبين نفاقهم، كهذه السورة التي سميت: الكاشفة والفاضحة والمنبئة، التي تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، وتخبرهم بحقيقة وضعهم، فيفتضح أمرهم، وتنكشف أسرارهم. وقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ خبر وليس بأمر بدليل ما بعده: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ لأنهم كفروا عنادا. وقوله: مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي أن

الله مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم. وهم مع ذلك كانوا دائما يستهزئون بالقرآن وبالنبي والمؤمنين: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة 2/ 14] ، فهددهم الله وأوعدهم بقوله: قُلِ: اسْتَهْزِؤُا ... أي قل لهم يا محمد: استهزءوا بآيات الله كما تشاؤون، وهو أمر يقصد به التهديد والوعيد، إن الله مظهر ما تخافون حصوله، وسينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين له أمركم، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ- إلى قوله- ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد 47/ 29- 30] . ثم يقسم الله بأنه إن سألتهم أيها الرسول عن أقوالهم هذه وهزئهم، لاعتذروا عنها بأنهم لم يكونوا جادّين فيها، بل هازلين لاعبين خائضين في اللغو بقصد التسلي واللهو، فوبخهم الله وأنكر عليهم بقوله: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ أي إن هذا ليس مجال استهزاء، ألم تجدوا ما تستهزئون به غير ذلك؟ فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر محض، وشر مستطير. والمراد بالاستهزاء بالله: الاستهزاء بذكر الله وصفاته، وتكاليف الله تعالى. والمراد بآيات الله: القرآن وسائر أحكام الدين، والاستهزاء بالرسول معلوم كالطعن برسالته وتطلعاته وأخلاقه وأعماله. فليس قولكم عذرا مقبولا، ولا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره، للتخلص من هذا الجرم العظيم، فإنكم قد كفرتم وظهر كفركم، كما أظهرتم إيمانكم، وتبين أمركم للناس قاطبة. وقوله: لا تَعْتَذِرُوا على جهة التوبيخ، كأنه يقول: لا تفعلوا ما لا ينفع. فإن نعف عن بعضكم لتوبتهم الخالصة كمخشّ بن حميّر، نعذّب طائفة أي جماعة أخرى لبقائهم على النفاق، وارتكابهم الآثام، وإجرامهم في حق أنفسهم وغيرهم، فتعذيبكم بسبب إجرامكم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تعداد قبائح المنافقين وهي الإقدام على الأيمان الكاذبة، ومعاداة الله ورسوله، والاستهزاء بالقرآن والنبي والمؤمنين، والتخوف من نزول سورة في القرآن تفضح شأنهم، واعتذارهم بأنهم هازلون لاعبون، وهو إقرار بالذنب، بل هو عذر أقبح من الذنب. 2- لا يقبل الهزل في الدين وأحكامه، ويعتبر الخوض في كتاب الله ورسله وصفاته كفرا، ولا خلاف بين الأمة في أن الهزل بالكفر كفر، لأن الهزل أخو الباطل والجهل، كما قال ابن العربي. 3- دل قوله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على أربعة أحكام هي: أولا- الاستهزاء بالدين كفر بالله تعالى، لمنافاته مقتضى الإيمان وهو تعظيم الله تعالى. ثانيا- لا يقتصر الكفر على القلب، وإنما يشمل الأقوال والأفعال المكفرة. ثالثا- قولهم الذي صدر منهم كفر حقيقي، وإن كانوا منافقين من قبل، وأن الكفر يتجدد. رابعا- حدث الكفر بعد أن كانوا مؤمنين في الظاهر. والخلاصة: إنه تعالى حكم عليهم بالكفر وعدم قبول الاعتذار من الذنب، ما لم يتوبوا من النفاق. 4- التوبة عن النفاق أو الكفر مقبولة، فمن تاب عفي عنه، ومن أصر على الكفر أو النفاق عوقب في جهنم.

أوصاف المنافقين وجزاؤهم الأخروي [سورة التوبة (9) الآيات 67 إلى 70] :

هذا في أساسيات العقيدة، أما حكم الهزل في العقود كالبيع والزواج، والفسوخ كالطلاق، فمختلف فيه بين العلماء على ثلاثة أقوال: لا يلزم مطلقا، يلزم مطلقا، التفرقة بين البيع وغيره، فيلزم في الزواج والطلاق، ولا يلزم في البيع. والقول الثالث هو المشهور في المذاهب، لما روى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح، والطلاق، والرجعة» وفي موطأ مالك عن سعيد بن المسيّب قال: ثلاث ليس فيهن لعب: النكاح، والطلاق، والعتق. وذكر ابن المسيب عن عمر قال: أربع جائزات على كل أحد: العتق، والطلاق، والنكاح، والنذور. 5- تضمنت آية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدّعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل. وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت، ومن حلف له فليصدّق» . أوصاف المنافقين وجزاؤهم الأخروي [سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

الإعراب:

الإعراب: خالِدِينَ فِيها حال، والعامل فيه محذوف أي يصلونها خالدين هِيَ حَسْبُهُمْ مبتدأ وخبر. كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الكاف في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، وتقديره: وعدا كما وعد الذين من قبلكم، بدليل قوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ. كَمَا اسْتَمْتَعَ ... الكاف في موضع نصب أيضا صفة لمصدر محذوف، وتقديره: استمتاعا كاستمتاع الذين من قبلكم. وكذلك كاف كَالَّذِي خاضُوا في موضع نصب أيضا صفة محذوف دل عليه الفعل، وتقديره: وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا. البلاغة: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قبض اليد: كناية عن الشح والبخل، كما أن بسط اليد كناية عن الجود. نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ من باب المشاكلة، لأن الله لا ينسى، أي تركوا طاعته، فتركهم تعالى من رحمته. كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وخُضْتُمْ: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التقريع والذم. فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ ... فيه إطناب، قصد منه الذم والتوبيخ، لاشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في صفة النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد كما يقال: أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه. وقال الزمخشري: المراد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في حلفهم بالله: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وتقرير لقوله: وَما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة 9/ 56] وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين، وهو قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والمعاصي. والمنكر: إما شرعي: وهو ما يستقبحه الشرع ويمنعه، وإما عقلي: وهو ما تستنكره العقول السليمة والفطر النقية، لمنافاته الأخلاق والمصالح العامة. وضده المعروف. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي الإيمان والطاعة، والمعروف: كل ما أمر به الشرع، أو استحسنه العقل والعرف الصحيح غير المصادم للشرائع والأخلاق. وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في الطاعة، ويراد به الكف عن البذل فيما يرضي الله، وضده: بسط اليد نَسُوا اللَّهَ تركوا طاعته وأوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ فَنَسِيَهُمْ فتركهم من فضله ولطفه ورحمته، وجازاهم على نسيانهم وإغفالهم ذكر الله الْفاسِقُونَ الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن أصول الإيمان، الكاملون في التمرد والتنكر للخير. وَعَدَ اللَّهُ الوعد: يستعمل في منح الخير والشر، والوعيد خاص بالشر خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود هِيَ حَسْبُهُمْ كفايتهم عقابا وجزاء، وفيه دلالة على عظم عذابها وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرّمين. واللعن: الطرد أو الإبعاد من الرحمة والإهانة والإذلال وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا ينقطع، والمراد أن لهم نوعا من العذاب غير الصلي بالنار، أو لهم عذاب ملازم لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق. كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم من الكفار، أو فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم، وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا فَاسْتَمْتَعُوا تمتعوا بِخَلاقِهِمْ نصيبهم من ملاذ الدنيا فَاسْتَمْتَعْتُمْ أيها المنافقون وَخُضْتُمْ دخلتم في الباطل والطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم كَالَّذِي خاضُوا أي كخوضهم. وفائدة ذكر فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وقوله: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ: أن يذم الأولين بالاستمتاع بحظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل الفلاح في الآخرة، تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم. حَبِطَتْ بطلت وفسدت أعمالهم وذهبت فائدتها في الدنيا والآخرة، ولم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.

المناسبة:

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَعادٍ قوم هود أهلكوا بالريح وَثَمُودَ قوم صالح أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه وَأَصْحابِ مَدْيَنَ هم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى قوم لوط، أي أهلها، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجّيل أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أتتهم يعني الكل بالمعجزات، فكذبوهم فأهلكوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي لم يكن من عادته أن يعذبهم من غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب الذنب وتعريضها للعقاب بالكفر والتكذيب. المناسبة: تستمر الآيات في بيان فضائح المنافقين وقبائحهم، وهذا نوع آخر قصد به بيان الفرق بينهم وبين المؤمنين، وتشبيههم بمن قبلهم من المنافقين والكفار، وتمثيل حالهم بحال من سبقهم، وعقد قياس أو موازنة بينهم وبين أناس غابرين، لهم شبه بهم، كما قصد به بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة. التفسير والبيان: تبيّن هذه الآيات وما بعدها الفروق الواضحة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كان المنافقون عكسهم. المنافقون والمنافقات أي الرّجال والنّساء يشبه بعضهم بعضا في صفة النفاق والبعد عن الإيمان وفي الأخلاق والأعمال، فهم يأمرون بالمنكر: وهو ما أنكره الشّرع ونهى عنه، ولم يقرّه الطّبع السليم والعقل الصحيح، كالكذب والخيانة وخلف الوعد ونقض العهد، كما جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه الشّيخان والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ:

وهو ما أمر به الشرع وأقرّه العقل والطّبع كالجهاد وبذل المال في سبيل الله، كما قال تعالى عنهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون 63/ 7] . ونسوا ذكر الله، وأغفلوا تكاليف الشرع مما أمر به الله ونهى عنه، فنسيهم أي جازاهم بمثل فعلهم، وعاملهم معاملة من نسيهم، بحرمانهم من لطفه ورحمته، وفضله وتوفيقه في الدّنيا، ومن الثواب في الآخرة، كقوله تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية 45/ 34] ، وذلك لتركهم التّمسك بطاعة الله. إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ، أي الخارجون عن طريق الحقّ والاستقامة، الدّاخلون في طريق الضّلالة، المتمرّدون في الكفر، المنسلخون عن كلّ خير. ثم بيّن الله تعالى جزاءهم فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ. أي أنه تعالى أكّد وعيده السابق بمجازاتهم وضمّهم إلى الكفار، فأوعدهم جميعا نار جهنم يدخلونها، ماكثين فيها أبدا، مخلدين هم والكفار فيها، هي كفايتهم في العذاب ووفاء الجزاء أعمالهم، ولعنهم أي طردهم وأبعدهم من رحمته، ولهم عذاب دائم مستمر غير عذاب جهنم والخلود فيها، أو لهم عذاب ملازم في الدّنيا وهو ما يقاسونه من مرض النفاق، والخوف من اطّلاع الرّسول والمسلمين على بواطنهم، وحذرهم من أنواع الفضائح. وفي ذكر النساء مع الرّجال دليل على عموم الوصف وتأصّل الدّاء، وأما تأخير ذكر الكفار عن المنافقين فهو دليل على أنهم شرّ من الكفار، وأن النّفاق أخطر من الكفر الصريح. ثم بيّن الله تعالى أن ما أصاب هؤلاء المنافقين من العذاب في الدّنيا والآخرة،

له شبه بعذاب أولئك المنافقين والكفار السابقين مع أنبيائهم، فأنتم مثلهم مغرورون بالدّنيا ومتاعها الفاني، لكنهم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، فتمتعتم وخضتم كما تمتعوا وخاضوا، وانصرفتم مثلهم إلى الاستمتاع بنصيبكم من المال والولد، وبلذائذ الدّنيا وحظوظها الزائلة، وشغلتم عن التّمتع بكلام الله وهدي رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم تنظروا في عواقب الأمور، ولم تعملوا على طلب الفلاح في الآخرة، وتوافرت دواعي الخير عندكم، كما توافرت دواعي الشّرّ عندهم، فكنتم أسوأ حالا منهم، وأحقّ بالعقاب منهم. فقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي بنصيبهم من ملاذ الدّنيا، أو بنصيبهم من الدّين، كما فعل الذين من قبلهم. وخضتم كالذي خاضوا، أي دخلتم في الباطل كما دخلوا، أو خضتم خوضا كالذي خاضوا. وفائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق (النصيب) في حقّ المتقدمين أولا، ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا، ثم العود إلى ذكره مرة أخرى في حق المتقدمين ثالثا: هو ذمّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة، بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة، ثم شبّه منافقي العهد الإسلامي بأولئك، نهاية في المبالغة، وزيادة في قبح وجه الشّبه، كمن أراد أن ينبّه بعض الظّلمة على قبح ظلمه، فيقول له: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذّب من غير موجب، وأنت تفعل مثل فعله. وبالجملة فالتّكرار هاهنا للتّأكيد. وبعد أن بيّن الله تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك الكفار المتقدّمين في طلب الدّنيا، وفي الإعراض عن طلب الآخرة، بيّن شبها آخر بين الفريقين: وهو تكذيب الأنبياء، والاتّصاف بالمكر والخديعة والغدر بهم، فقال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي كخوضهم الذي خاضوا، وقد خاضوا في الكذب والباطل.

ثم بيّن الله تعالى مصير أعمال جميع المنافقين والكفار المتقدّمين واللاحقين، فقال: أُولئِكَ حَبِطَتْ ... أي إن أولئك المنافقين والكفار بطلت مساعيهم وحسناتهم وفسدت أعمالهم في الدّنيا، لأنها أعمال رياء وسمعة، وفي الآخرة، فلم يكن لهم أجر أو ثواب، لأنهم لم يقصدوا وجه الله، ولأن شرط الثواب عليها الإيمان، وهم لم يؤمنوا حقّا، بل أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فكانوا منافقين. وأولئك هم الخاسرون الذين خسروا في مظنة الرّبح والمنفعة، لأنهم لم يحصلوا على الثّواب، وأتعبوا أنفسهم في الرّدّ على الأنبياء والرّسل، فما وجدوا إلّا فوات الخيرات في الدّنيا والآخرة، وإلّا حصول العقاب في الدّنيا والآخرة. وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف 18/ 103- 104] ، وقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ... نقيض فعل الصّالحين المشار إليه في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت 29/ 27] . والمقصود: أنه تعالى بعد أن شبّه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار، بيّن أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال، وإلّا الخزي والخسار، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم، مما جعل هؤلاء المنافقين أولى بالوقوع في عذاب الدّنيا والآخرة، والحرمان من خيرات الدّنيا والآخرة «1» . ثم وعظ الله تعالى هؤلاء المنافقين المكذّبين للرّسل وأنذرهم بقوله: أَلَمْ يَأْتِهِمْ ... أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذّبة للرّسل، وذكر طوائف ستّة، وهم قوم نوح الذين أغرقوا بالطّوفان الذي عمّ جميع أهل الأرض القديمة إلا من آمن بنوح عليه السّلام، وعاد قوم هود الذين أهلكوا بالرّيح العقيم

_ (1) تفسير الرّازي: 16/ 129

لما كذّبوا هودا عليه السّلام، وثمود قوم صالح الذين أخذتهم الصّيحة لما كذّبوا صالحا عليه السّلام وعقروا النّاقة، وقوم إبراهيم الذين أهلكهم الله بسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني، ونصر الله إبراهيم عليه السّلام عليهم، وأيّده بالمعجزات الظاهرة وأنقذه من النار، وأصحاب مدين قوم شعيب عليه السّلام الذين أصابتهم الرّجفة وعذاب يوم الظّلّة، والمؤتفكات «1» قوم لوط الذين كانوا يسكنون في مدائن، فأهلكهم الله بالخسف، وجعل عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم الحجارة، قال تعالى في آية أخرى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم 53/ 53] أي الأمة المؤتفكة، وأمّ قراهم: سدوم، أهلكهم الله عن آخرهم، بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه السّلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين. ذكر الله تعالى هؤلاء الطوائف السّتّة، لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا أخبارهم في التاريخ المنقول من الناس، وتارة لأجل أن بلاد هؤلاء، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة. وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ استفهام للتقرير والتوبيخ، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام، فلم يعتبروا. هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات، أي بالمعجزات والحجج والدلائل القاطعات، وهنا لا بدّ من إضمار محذوف في الكلام، تقديره: فكذّبوا، فعجّل الله هلاكهم. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإهلاكه إياهم، لأنه أقام عليهم الحجّة بإرسال الرّسل، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بسبب أفعالهم القبيحة، وتكذيبهم

_ (1) قال الواحدي: المؤتفكات: جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، فالمؤتفكات صفة القرى.

فقه الحياة أو الأحكام:

الرّسل، ومخالفتهم الحقّ، فالظّلم كان من أنفسهم لا من الله تعالى، فاستحقّوا ذلك العذاب. والهدف من التذكير بهؤلاء الأقوام أن يعرف المنافقون والكفار أنّ سنّة الله في عباده واحدة لا تتغير ولا تتبدل، فإذا ما أصرّوا على كفرهم، فإن العذاب سينزل بهم، لأن ما جرى على النّظير يجري على نظيره، قال تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر 54/ 43] . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- النّفاق: مرض عضال متأصّل في البشر، وأصحاب ذلك المرض متشابهون في كل عصر وزمان في الأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف، وقبض أيديهم وإمساكهم عن الإنفاق في سبيل الله للجهاد، وفيما يجب عليهم من حق. 2- للمنافقين عذابان: عذاب في نار جهنم، ونوع آخر من العذاب المقيم الدائم، غير العذاب بالنار والخلود فيها. 3- الجزاء من جنس العمل، فقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ معناه أنهم تركوا أمره وطاعته حتى صار ذلك بمنزلة المنسي، فتركهم من رحمته، وسمّاه باسم الذّنب لمقابلته، لأنه جزاء وعقوبة على الفعل، وهو مجاز كقولهم: الجزاء بالجزاء، وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] ونحو ذلك. 4- سبب العذاب للكفار والمنافقين واحد في كل العصور: وهو إيثار الدّنيا على الآخرة والاستمتاع بها، وتكذيب الأنبياء والمكر والخديعة والغدر بهم. وقد وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم، لفعلهم أفعال الذين من

قبلهم كالأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف. جاء في الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟» . وقال ابن عباس ونحوه عن ابن مسعود: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل، شبّهنا بهم. 5- آية كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ دلّت على مشروعية القياس، وإلحاق النظائر والأشباه ببعضها، ويؤيّدها قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر 59/ 2] . 6- لا ثواب على أعمال الكفار في الآخرة: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت حسناتهم وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فلم يحصلوا على الثواب. 7- إن إهلاك الأمم والأقوام الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الأنبياء فيه عظة وعبرة للمعتبر من العقلاء. 8- لا عقوبة إلا بذنب: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء، ويصدر منهم ما يستحقون به العذاب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.

أوصاف المؤمنين وجزاؤهم الأخروي [سورة التوبة (9) الآيات 71 إلى 72] :

أوصاف المؤمنين وجزاؤهم الأخروي [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) البلاغة: في هذه الآيات مقابلة لطيفة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، ومقابلة أيضا في الجزاء بين نار جهنم والجنة، فهي مقابلة في الصفات وفي الجزاء. المفردات اللغوية: أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يتناصرون ويتعاضدون، من الولاية: وهي النصرة في الشدائد، والأخوة والمحبة، وهي ضد العداوة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده، فيعز من أطاعه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين حَكِيمٌ لا يضع شيئا إلا في محله جَنَّاتٍ هي البساتين، الكثيرة الأشجار، الملتفة الأغصان، التي تستر ما حولها من الأرض وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي حسنة البناء طيبة القرار جَنَّاتِ عَدْنٍ عدن: اسم مكان خاص في الجنة كالفردوس، بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم 19/ 61] ويدل عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «عدن: دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك» . وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي وشيء من رضوان الله أكبر وأعظم من ذلك كله لأن رضاه هو

المناسبة:

سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب ذلِكَ إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعدّه الناس فوزا. المناسبة: لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة وما أعده لهم من العذاب، أعقبه بذكر صفات المؤمنين المحمودة وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم. وهكذا الشأن في الأسلوب القرآني يذكر المتقابلات والأضداد، للعبرة والعظة، وبيان الفروق، لاختيار الإنسان ما فيه المصلحة. وهنا يتجلى الفرق الواضح بين أفعال المنافقين الخبيثة وما يستحقونه من العذاب، وبين أفعال المؤمنين الحميدة وما يلاقونه من ثواب، ليعلم المنافقون أنهم غير مؤمنين في الحقيقة، وأن ما يظهرونه من إيمان نفاق وخداع، سرعان ما ينكشف، ولا يفيدهم مطلقا. وأما السبب في ذكر لفظ مِنْ في المنافقين: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وفي المؤمنين لفظ أَوْلِياءُ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: فهو أن تجمع المنافقين على النفاق إنما هو بسبب التقليد والميل والعادة، وأما تجمع المؤمنين على الإيمان فهو بسبب المشاركة في القناعة والاستدلال والتوفيق والهداية. التفسير والبيان: إن أهل الإيمان من الذكور والإناث متناصرون متعاضدون، كما جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه ، وفي الصحيح أيضا: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» .

وقد كان التعاون بين المسلمين والمسلمات قائما في الميادين والمواقف الحاسمة كلها كالهجرة والجهاد، مع اعتصام الرجال بالعفة وغض البصر، واعتصام النساء بالأدب الجم والحياء والتعفف وغض البصر والاحتشام في الحديث واللباس والعمل. فقد كان للمرأة دور بارز في إنجاح الهجرة كأسماء ذات النطاقين، وكانت النسوة في المعارك والحروب مع الأعداء يسقين الماء، ويجهزن الطعام، ويحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، ويواسين الجرحى، ويعالجن المرضى. وقوله في أهل الإيمان: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله في المنافقين: بعضهم من بعض لأن المؤمنين إخوة تسودهم المحبة والمودة والتعاون والتعاطف، وأما المنافقون فلا رابطة قوية بينهم ولا عقيدة تجمعهم، وإنما هم أتباع بعضهم بعضا في الشكوك والجبن والبخل والانهزام والتردد لأن قلوبهم مختلفة. وقد ذكر الله تعالى هنا للمؤمنين أوصافا خمسة غير الولاية مع بعضهم يتميز بها المؤمن عن المنافق، وهي في قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فالمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنافقون يأمرون بالمنكر كما في الآية المتقدمة. والمؤمنون ينهون عن المنكر، والمنافقون ينهون عن المعروف كما تقدم. والمؤمنون يقيمون الصلاة على أكمل وجه وفي خشوع لله، والمنافقون لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى، يراءون الناس. والمؤمنون يؤتون الزكاة المفروضة عليهم مع التطوع بالصدقات، والمنافقون يبخلون ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله، كما في الآية السابقة.

والمؤمنون يطيعون الله ورسوله، بفعل ما أمرا به، وترك ما نهيا عنه، والمنافقون فاسقون متمردون خارجون عن الطاعة. وبسبب هذه الصفات التي يتصف بها أهل الإيمان استحقوا الرحمة: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة، وذكر حرف السين في قوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ للتوكيد والمبالغة، ويقابل هذا نسيانه تعالى المنافقين من رحمته: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فهو تعالى كما وعد المنافقين نار جهنم، فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة. إن الله عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعد ولا وعيد، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، فلا حائل يحول بينه وبين عباده من رحمة أو عقوبة، وهو الحكيم المدبر أمر عباده على وفق العدل والحكمة والصواب، فيخص المؤمنين بالجنة والرضوان، ويخص المنافقين بالنار والعذاب والغضب. ثم فصل الله تعالى ما وعد به المؤمنين من الرحمة، فأبان أن تلك الرحمة تشمل خيرات كثيرة ونعيما مقيما في جنات: بساتين مشجرة تغطي ما تحتها، تجري الأنهار من تحت أشجارها، فتزيدها جمالا، وهم خالدون ماكثون فيها أبدا، ولهم فيها مساكن طيبة أي حسنة البناء طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «جنتان: من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا» . وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إن في الجنة مائة

درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» . وجنات عدن: اسم مكان ومنزل من منازل الجنة كالفردوس، بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم 19/ 61] وبدليل حديث أبي الدرداء المتقدم في شرح المفردات. وقيل: العدن: الإقامة والاستقرار، فجنات عدن: هي جنات الإقامة والخلود، كقوله تعالى: جَنَّةُ الْخُلْدِ [الفرقان 25/ 15] وجَنَّةُ الْمَأْوى [النجم 53/ 15] فالجنات كلها جنات عدن. وللمؤمنين أيضا رضوان من الله أكبر وأعظم من الجنان، أي رضا الله عنهم أجل مما هم فيه من النعيم، وذلك دليل قاطع على أن السعادة الروحية أكمل وأشرف من السعادة الجسدية. ويؤيده ما رواه الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» . وقيل: إن الرضوان هو رؤية الله يوم القيامة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] . ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة (الجنات، والمساكن الطيبة في جنات عدن، والرضوان الإلهي الأكبر) قال: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ذلك

فقه الحياة أو الأحكام:

الوعد الصادر من الله، أو ذلك الرضوان أو هما معا أي النعيم الجسدي والروحي هو الفوز العظيم وحده، دون ما يعده الناس فوزا، وهو الذي يجزى به المؤمنون الخلّص، لا غيره من طيبات الدنيا الفانية التي يحرص عليها المنافقون والكفار ويطلبونها دائما. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات في صفات المؤمنين لتمييزهم عن المنافقين، وما وعدهم به ربهم في الآخرة، أما الصفات فهي ست، وأما الوعود فهي ثلاثة، والصفات الست هي ما يأتي: 1- إن أهل الإيمان رجالا ونساء أمة واحدة مترابطة متعاونة متناصرة، قلوبهم متحدة في التوادّ والتحابّ والتعاطف. أما المنافقون بعضهم من بعض لأن قلوبهم مختلفة، لا رابطة تربطهم غير الاتصاف بالنفاق وضم بعضهم إلى بعض في الحكم. 2- يأمر أهل الإيمان بالمعروف أي بعبادة الله تعالى وتوحيده وما يتبع ذلك من أوامر الشرع ومحاسنه وآدابه. والمنافقون يأمرون بالمنكر. 3- ينهي أهل الإيمان عن المنكر من عبادة الأوثان وما تبع ذلك مما منعه الشرع، والمنافقون ينهون عن المعروف. 4- أهل الإيمان يقيمون الصلوات المفروضة الخمس، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس. 5- أهل الإيمان يؤدون الزكاة المفروضة عليهم، والمنافقون كانوا يزكون خوفا أو رياء، لا طاعة لله تعالى، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله.

جهاد الكفار والمنافقين وأسبابه [سورة التوبة (9) الآيات 73 إلى 74] :

6- أهل الإيمان يطيعون الله في الفرائض ورسوله فيما سنّ لهم، والمنافقون متنكرون للطاعة. وأما وعد الله تعالى للمؤمنين فيشمل ثلاثة أشياء مفسّرة للرحمة التي وعدهم بها في الآية المتقدمة: 1- الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، أي البساتين التي ينعم بها الناظر، وتجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، وهي تجري منضبطة بالقدرة الإلهية في غير أخدود (شقّ) . 2- المساكن الطيبة في جنات عدن، أي القصور من الزبرجد (جوهر معروف هو الزمرّد الأخضر) والدّرّ والياقوت (ذي اللون الأحمر) يفوح طيبها من مسيرة خمس مائة عام، في جنات عدن (اسم موضع معين في الجنة، أو دار إقامة) . قال مقاتل والكلبي: عدن: أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. 3- رضوان من الله أكبر وأعظم وأجل من كل ما ذكر. وفي هذا دلالة واضحة على أن السعادة الروحانية أفضل من الجسمانية. جهاد الكفار والمنافقين وأسبابه [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)

الإعراب:

الإعراب: وَلَقَدْ قالُوا اللام لام القسم. إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ... الاستثناء مفرّغ. البلاغة: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذّم، كما قال الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب المفردات اللغوية: جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسّلاح. والجهاد: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدوّ. وَالْمُنافِقِينَ باللسان والحجّة. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالانتهار والمقت، والغلظة: الخشونة والقسوة في المعاملة وهي ضدّ اللين. الْمَصِيرُ المرجع. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المنافقون. ما قالُوا وهو ما بلغك عنهم من السّبّ والطّعن. وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام. وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من الفتك بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة، عند عوده من تبوك، وهم بضعة عشر رجلا، فضرب عمار بن ياسر وجوه الرّواحل لما غشوه، فردّوا. وَما نَقَمُوا أنكروا وكرهوا وعابوا عليه. إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أثراهم بالغنائم بعد شدّة حاجتهم. فَإِنْ يَتُوبُوا عن النّفاق ويؤمنوا بك. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عن الإيمان. عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل. وَالْآخِرَةِ بالنّار. وَلِيٍّ يحفظهم منه. وَلا نَصِيرٍ يمنعهم منه. سبب النزول: نزول الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ: قال الضّحّاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدّين، فنقل

ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا أهل النّفاق، ما هذا الذي بلغني عنكم؟» ، فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية كذّابا لهم «1» . وقال قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة، والآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهني، فنادى عبد الله بن أبيّ، يا بني الأوس انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، فوالله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع بها رجل من المسلمين، فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، وأنزل الله تعالى هذه الآية «2» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الجلاس بن سويد أحد المتخلّفين عن غزوة تبوك قال: لئن كان هذا الرّجل صادقا (يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم) على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا، لنحن شرّ من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلّف من المنافقين) فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحلف بالله: ما قلت، فأنزل الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. فزعموا أنه تاب وحسنت توبته. ولعل أصحّ ما ذكر في سبب نزول هذه الآية: ما رواه ابن جرير والطّبراني وأبو الشيخ ابن حيان وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالسا في ظلّ شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال له: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرّجل، فجاء

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 144 (2) أسباب النزول، المرجع السابق، تفسير الرازي: 16/ 136، تفسير ابن كثير: 2/ 371

نزول وهموا بما لم ينالوا:

بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية» . والخلاصة: إنه عليه الصّلاة والسّلام أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المتخلّفين، فنطق بعضهم بكلمة الكفر التي لم تذكر في القرآن، لئلا يتعبّد المسلمون بتلاوتها، فاختلف الرّواة فيها، كما ذكر، ولا مانع من تعدّد أسباب النّزول. نزول: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا: قال الضّحّاك: همّوا أن يدفعوا ليلة العقبة، وكانوا قوما قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم معه يلتمسون غرّته حتى أخذ في عقبة، فتقدّم بعضهم وتأخّر بعضهم، وذلك كان ليلا، قالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، وكان قائده في تلك الليلة عمار بن ياسر، وسائقه حذيفة، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، فالتفت فإذا هو بقوم متلثّمين، فقال: إليكم يا أعداء الله فأمسكوا، ومضى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى نزل منزله الذي أراد، فأنزل الله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا «1» . المناسبة: بعد أن قارن الله تعالى صفات المؤمنين مع صفات المنافقين، وقابل بين جزاء كل من الفريقين، عاد مرة أخرى إلى تهديد الكفار والمنافقين وإنذارهم بالجهاد، وأبان أسبابه من إظهار الكفر، وحلف الأيمان الكاذبة، وقول كلمات فاسدة، ثم فتح لهم باب الأمل وهو التوبة، وهددهم بالعذاب الأليم إن أصروا على الكفر.

_ (1) أسباب النزول، المرجع السابق: ص 145، تفسير الرّازي، المرجع السابق.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الجهاد ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس والهوى. ويشملها كلها قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الحج 22/ 78] وقوله: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة 9/ 41] . وقال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» والجهاد باللسان: إقامة الحجة والبرهان. وروى ابن كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة 9/ 5] وسيف للكفار: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة 9/ 29] وسيف للمنافقين: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة 9/ 73] وسيف للبغاة: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات 49/ 9] . وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، كما اختار ابن جرير الطبري. فإن لم يظهروا النفاق يعاملون باتفاق الأئمة معاملة المسلمين إلا إذا ارتدوا، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. قال ابن عباس رضي الله عنه: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان، أي بالحجة والبرهان. والكافر: هو كل من لم يؤمن بالإسلام، أو من لم ينطق بالشهادتين، والكفر: ستر نعمة الله تعالى وجحود الإسلام. والمنافق: هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه.

ومعنى الآية: يا أيها النبي جاهد كلّا من الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم أي عاملهم بالخشونة والشدة، ولا تحابهم ولا تلن لهم واعلم أن مقرهم جهنم لا مقر لهم سواه، وبئس المصير مصيرهم: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 66] . أي أن لهم عذابين: عذاب الدنيا بالجهاد، وعذاب الآخرة في جهنم. والجهاد: عبارة عن بذل الجهد، وليس في الآية ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان، أو بطريق آخر، وإنما تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين، فأما كيفية تلك المجاهدة فلفظ الآية لا يدل عليها، بل إنما يعرف من دليل آخر، وهذا هو الرأي الصحيح الذي اختاره الرازي. وقد دلت الدلائل الأخرى من غير الآية على أن جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين تارة بإقامة الحجة والبرهان، وبترك الرفق أحيانا، وبالانتهار أحيانا أخرى. قال ابن مسعود في قوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: تارة باليد (أي بالسلاح الحربي) وتارة باللسان، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه، فمن لم يستطع فبالقلب. وقد أدت سياسة الإسلام الحكيمة بأمر الله وحكمة رسوله، ومعاملة المنافقين معاملة المسلمين في الظاهر، إلى توبة أكثرهم وإسلام الألوف منهم. ثم ذكر الله تعالى أسباب جهاد الكفار والمنافقين، وهي إظهار الكفر بالقول، والهمّ بالفتك برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والاستهزاء بآيات الله وبالنبي والمؤمنين، فقال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ.... أي إن القرآن يثبت للمنافقين الكذب الصريح واليمين الفاجرة، فهم يحلفون بالله، إنهم ما قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن تلك الكلمة، ترفعا من ذكرها، ولئلا يردد المسلمون تلاوتها، ولكنهم قالوها، وهي كما ذكر

في سبب النزول: إنهم لما اجتمعوا إثر رجوع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من تبوك، وكانوا خمسة عشر، بقصد الفتك به، ودفعه عن راحلته، فقد طعنوا في نبوته، ونسبوه إلى الكذب، والتصنع في ادعاء الرسالة، وذلك هو قول كلمة الكفر، كما اختار الزجاج والرازي. وكفروا بعد إسلامهم: معناه أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام. وهمّهم بما لم ينالوا: هو اغتيال الرسول في العقبة، بعد رجوعه من تبوك. والصحيح أن عددهم كما جاء في رواية مسلم اثنا عشر منافقا. وما أنكر هؤلاء المنافقون وما عابوا من أمر الإسلام أو الدين وبعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا، إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ تعالى من فضله ورسوله، بالغنائم الحربية، وكانوا كسائر الأنصار في المدينة فقراء، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للأنصار: «كنتم عالة، فأغناكم الله بي» أي أن أكثر أهل المدينة كانوا بحاجة وضنك من العيش، فلما قدمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أثروا بالغنائم. وروي أنه قتل للجلاس بن سويد (أحد المتخلفين عن تبوك) مولى، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بديته اثني عشر ألفا، فاستغنى. فليس هناك شيء ينقمون منه إلا أن الإسلام كان سببا في غناهم. وهذا مدح بما يشبه الذم. فإن ينوبوا من النفاق ومساوئ أقوالهم وأفعالهم، يكن ذلك خيرا لهم وأصلح، ويفوزوا بالخير، ويقبل الله توبتهم. وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة، وفتح باب الأمل والرجاء بالرحمة أمامهم. وإن يتولوا عن التوبة بالإصرار على النفاق، يعذبهم الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو قتلهم وسبي أولادهم ونسائهم واغتنام أموالهم،

فقه الحياة أو الأحكام:

وعيشهم في قلق وهمّ وخوف، كما قال تعالى عنهم: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ، وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة 9/ 57] وقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون 63/ 4] . وأما عذابهم في الآخرة فهو معروف، وهو إلقاؤهم فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وما لهم في الأرض كلها من ولي يتولى أمورهم ويدافع عنهم، ولا نصير ينصرهم وينجّيهم من العذاب، إذ أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأما المنافقون فلا ولاية لهم ولا نصرة بينهم، فليس لهم أحد يجلب لهم خيرا أو يدفع عنهم شرا. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات جهاد الكفار والمنافقين وأسباب ذلك، وقد دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولأمته من بعده. وجهاد الكفار بالسيف وسائر أنواع الأسلحة الحربية، وجهاد المنافقين باللسان، وشدة الزجر والتغليط، أي بإقامة الحجة والبرهان تارة، وبالانتهار والكهر تارة أخرى. ويلاحظ أن إقامة الحجة باللسان دائمة. 2- أسباب جهادهم: إعلان الكفر، وسبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والطعن في الإسلام، وتآمرهم على اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واستهزاؤهم بآيات الله وبالرسول والمؤمنين. 3- حلفهم الأيمان الفاجرة الكاذبة. والصحيح أن هذه الأقوال والأفعال لخبيثة هي ظاهرة عامة بين المنافقين لعموم القول، ووجود المعنى في

عبد الله بن أبي والجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت وفي غيرهم. وأساس اعتقادهم في النبي أنه ليس بنبي. 4- كلمة الكفر التي قالوها قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله من الفتح، أو قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشرّ من الحمير، أو قول عبد الله بن أبي: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون 63/ 8] ، وقيل: هي سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والطعن في الإسلام. والظاهر هو المعنى الأخير. 5- دل قوله: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي بعد الحكم بإسلامهم، على أن المنافقين كفار، ويدل عليه دلالة قاطعة قوله تعالى في آية أخرى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون 63/ 3] . ودلّ هذا القول أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق بالله وبالنبوة، والمعرفة لله عز وجل، وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله، دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. فمن شوهد يصلي الصلاة في وقتها، حتى صلّى صلوات كثيرة حكم عليه بالإيمان. 6- دلّ قوله: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا على مؤامرة جماعية من المنافقين، وكانوا في الأصح اثني عشر منافقا، لقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك. تشبه مؤامرة كفار قريش ليلة الهجرة. 7- المنافقون من شرّ الناس لأنهم كما ذكر تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ ... غادرون، يقابلون الإحسان بالإساءة، فقد استغنوا بالغنائم، ومع ذلك هموا بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فانطبق عليهم المثل المشهور: «اتق شرّ من أحسنت إليه» .

كذب المنافقين وإخلافهم العهد والوعد قصة ثعلبة بن حاطب المزعومة [سورة التوبة (9) الآيات 75 إلى 78] :

8- أرشد قوله: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ على توبة الكافر الذي يسرّ الكفر، ويظهر الإيمان، وهو الذي يسميه الفقهاء: الزنديق. وقد اختلف العلماء في شأن توبته، فقال الشافعي والجمهور: تقبل توبته، وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف لأنه كان يظهر الإيمان ويسرّ الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يقبل قوله، وإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه، قبلت توبته. وهو المراد بالآية. 9- المنافقون خسروا الدنيا والآخرة، فإن هم أصروا على النفاق يعذبهم الله عذابين: في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في الأرض كلها وليّ أي مانع يمنعهم، ولا نصير أي معين ينصرهم. كذب المنافقين وإخلافهم العهد والوعد قصة ثعلبة بن حاطب المزعومة [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الإعراب: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ مَنْ: مبتدأ وَمِنْهُمْ متعلق بالخبر المحذوف، وتقديره كائن منهم. وهي صيغة قسم في المعنى، بدليل اللام في قوله: لَئِنْ وهي لام القسم، وأما لام: لَنَصَّدَّقَنَّ فهي لام الجواب. وكلاهما للتأكيد.

البلاغة:

البلاغة: يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وعَلَّامُ الْغُيُوبِ فيهما جناس اشتقاق. أَلَمْ يَعْلَمُوا الاستفهام للتوبيخ والتقريع. المفردات اللغوية: وَمِنْهُمْ أي ومن المنافقين. وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد الحج. وَتَوَلَّوْا عن طاعة الله. فَأَعْقَبَهُمْ فأورثهم البخل، والضمير يعود للبخل، في رأي الحسن وقتادة رحمهما الله، والظاهر أن الضمير لله عز وجل. نِفاقاً ثابتا متمكنا. فِي قُلُوبِهِمْ لأنه كان سببا فيه وداعيا إليه، وبما أن الضمير يعود لله تعالى في الراجح فالمعنى: فخذلهم حتى نافقوا، وتمكن في قلوبهم نفاقهم، فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح. إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ إلى يوم لقاء الله وهو يوم القيامة. سبب النزول: هناك قصة مشهورة بين الناس تروي سبب نزول هذه الآيات رددتها كتب التفسير، لكنها لم تصح لدى المحدثين، وهي ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن أبي أمامة: أن ثعلبة بن أبي حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، قال: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، قال: والله، لئن آتاني الله مالا، لأوتين كل ذي حقّ حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت، حتى ضاقت عليه أزقّة المدينة، فتنحّى بها، وكان يشهد الصلاة، ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة، ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها، فترك الجمعة والجماعة، ثم أنزل الله على رسوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فاستعمل على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتما، فمرا بي، ففعلا، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! فانطلقا، فأنزل

وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن ثعلبة بن أبي حاطب أبطأ عنه:

الله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ، لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ إلى قوله: يَكْذِبُونَ. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. فجاء ثعلبة بالصدقة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال: هذا جزاء عملك، قد أمرتك، فلم تطعني، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فلم يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه. والحقيقة أن ما روي عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين، وثعلبة بدري أنصاري، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان. قال ابن عبد البر: ولعلّ قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث، وجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير. قال القرطبي: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم، إلا أن قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً يدل على أن الذي عاهد الله تعالى لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «1» . وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن ثعلبة بن أبي حاطب أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه، ولأصلنّ منه، فلما سلم بخل بذلك، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح.

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 210

المناسبة:

المناسبة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم للناس، وبما أنهم أقسام وأصناف ذكرهم تعالى على التفصيل، فقال: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة 9/ 61] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة 9/ 58] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة 9/ 49] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ. التفسير والبيان: وبعض المنافقين عاهد الله ورسوله: لئن أغناه الله من فضله، ليصدّقن وليكونن من الصالحين الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله، كصلة الرحم والجهاد. فقوله: لَنَصَّدَّقَنَّ إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة، وقوله: وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق. فلما رزقهم الله تعالى، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، لم يوفوا بما قالوا، ولم يصدقوا فيما وعدوا، وإنما بخلوا به وأمسكوه، فلم يتصدقوا منه بشيء، ولم ينفقوا منه في مصالح الأمة كما عاهدوا الله عليه، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة عن العهد وطاعة الله، وأعرضوا إعراضا جازما عن النفقة وعن الإسلام، بسبب تأصل طبع النفاق في نفوسهم. وبخلوا به أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وهم معرضون أي عن الإسلام. وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاث: الأولى: البخل: وهو عبارة عن منع الحق، والثانية: التولي عن العهد، والثالثة: الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.

فأعقبهم الله تعالى أي صيّر عاقبة أمرهم نفاقا دائما في قلوبهم، بمعنى زادهم نفاقا، وقيل: أعقبهم ذلك البخل نفاقا، ولهذا قال: بَخِلُوا بِهِ والأول أصح لأن البخل لا يؤدي عادة إلى النفاق فقد يوجد لدى كثير من الفساق، ولأن الضمير في قوله تعالى: يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله تعالى. واستمر ذلك النفاق ثابتا متمكنا ملازما قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة. وفي هذا دليل على أنهم ماتوا منافقين. وهذا دليل آخر على أن المنزّل فيه ليس ثعلبة أو حاطب البدريين لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: «وما يدريك، لعلّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. ثم ذكر الله تعالى سببين للموت على النفاق وهما: إخلاف الوعد والكذب، فقال: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي أن ملازمة النفاق لهم كان بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى من التصدق والصلاح، وكونهم كاذبين، وكذبهم: نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك. أي أنه تعالى أعقبهم النفاق في قلوبهم إلى الموت بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، وخلف الوعد والكذب من أخص صفات المنافقين، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . وخرّج البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أربع من كنّ فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . ثم ندد الله تعالى بالمنافقين ووبخهم فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا ... أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يسرونه من الكلام،

فقه الحياة أو الأحكام:

ويتناجون أو يتحدثون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وأنه أعلم بضمائرهم، فإنهم إن قالوا: ليتصدقن بشيء من أموالهم، فإن الله أعلم بهم من أنفسهم، وأنه علام الغيوب، يعلم كل غيب وشهادة، وكل سرّ ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم الله كل ذلك وما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه؟! والفرق بين السرّ والنجوى والغيب: أن السر: ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى: ما يتحدث به الناس فيما بينهم. والغيب: ما كان غائبا عن الخلق. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- المعاهدة مع الله توجب الوفاء بالعهد، وهل من شرط المعاهدة التلفظ بها باللسان أو لا حاجة إلى التلفظ، وإنما تكفي النية في القلب؟ خلاف بين العلماء، قال المالكية: العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء، ولا يفتقر إلى غيره فيه، فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده، وإن لم يتلفظ به. سئل مالك: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه، فقال: يلزمه كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. وروي عنه غير ذلك كما سيأتي. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به، وذلك يشمل النذور والأيمان والطلاق ونحوها. ودليلهم ما رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم به» قال ابن عبد البر: هذا هو الأشهر عن مالك، وقال القرطبي: وهذا هو الأصح في النظر وطريق الأثر لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به» .

وبناء عليه: إن كان المعاهد به نذرا، فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف، وتركه معصية. وإن كان يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. 2- دلّ قوله تعالى: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ على أن من قال: «إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة» فإنه يلزمه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يلزمه. ويجري الخلاف في الطلاق والعتق. وقال أحمد: يلزمه ذلك في الطلاق، ولا يلزمه في العتق لأن العتق قربة، وهي تثبت في الذمة بالنذر، بخلاف الطلاق، فإنه تصرف في محل. واحتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وغيرهم. 3- مظاهر نقض المنافقين العهد تمثلت في أوصاف ثلاثة: أ- البخل بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا ب- والتولي عن العهد وعن طاعة الله تعالى ج- وإظهار الإعراض عن الإسلام أي عن تكاليف الله وأوامره. 4- ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. 5- دلّ قوله: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ على أن ذلك المعاهد مات منافقا، وهذا إخبار بالغيب الذي هو أحد وجوه إعجاز القرآن. 6- قوله تعالى: نِفاقاً: إذا كان النفاق في القلب فهو الكفر، وأما إذا

طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم [سورة التوبة (9) الآيات 79 إلى 80] :

كان في الأعمال فهو معصية. وعلى هذا فإن الخيانة والكذب ونقض العهد والفجور عند الخصام التي هي آية المنافق في الحديث تعتبر معاص لا تكفّر مرتكبها، قال ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له، تعالى وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. ثم قال: والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد «1» . وقالت طائفة عن الحديث: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. 7- يوصف الله تعالى بأنه علام الغيوب، أي أن ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء، فيعلم بجميع المعلومات، وهو عالم بما في الضمائر والسرائر. فأما وصف الله بالعلّامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف بالعلم، والتكلف في حق الله تعالى محال. طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم [سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 974 وما بعدها. [.....]

الإعراب:

الإعراب: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ... الَّذِينَ: اسم موصول مبتدأ، ويَلْمِزُونَ: صلته، وفِي الصَّدَقاتِ من صلة يَلْمِزُونَ. وما بين يَلْمِزُونَ وفِي الصَّدَقاتِ داخل في صلة الَّذِينَ. والَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ: عطف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وخبر المبتدأ: إما أن يكون سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو أن يكون مقدرا، تقديره: ومنهم الذين يلمزون. البلاغة: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ التنوين في عَذابٌ: للتهويل والتفخيم. اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بينهما طباق السلب، والمراد بالأمر التسوية. سَبْعِينَ مَرَّةً هذا جار مجرى المثل للمبالغة، وليس لتحديد العدد. وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مائة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره. المفردات اللغوية: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ يعيبون. الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين أو المتنفلين المؤدي النفل بعد الواجب. إِلَّا جُهْدَهُمْ طاقتهم: وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان، فيأتون به. سَخِرَ استهزأ بهم احتقارا، والمراد هنا جازاهم على سخريتهم، مثل: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة 2/ 15] فهو خبر غير دعاء. اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا محمد. أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يراد به التسوية بين الأمرين. سَبْعِينَ مَرَّةً المراد بالسبعين: المبالغة في كثرة الاستغفار. سبب النزول: روى الشيخان عن أبي مسعود البدري قال: «لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل «1» على ظهورنا فجاء رجل (أبو عقيل اسمه الحبحاب) بشيء كثير،

_ (1) المعنى: نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة، ونتصدق من تلك الأجرة، أو نتصدق بها كلها، وبعبارة أخرى: نؤاجر أنفسنا في الحمل.

المناسبة:

فقالوا: مرائي، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزل: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ... الآية. المناسبة: هذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعا وطبعا. قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه ابن جرير: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خطبهم ذات يوم، وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة، وهذه الأربعة أقرضتها ربي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. قيل: قبل الله دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيه، حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفا. وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر الصدقة، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، وقال: آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي، وأقرضت الآخر ربي، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة. وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، والله غني عن صاعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 144- 145

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إن شأن المنافقين في كل أمة عجيب وغريب، ديدنهم تثبيط الهمم، وتدمير القيم، فلا يسلم أحد من طعنهم، ولو كان العمل خيرا محضا فهم يعيبون المتطوعين في الصدقات، والمراد بها هنا النوافل، سواء أكان المتطوع غنيا يأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، أم فقيرا كأبي عقيل، الذي يأتي بالقليل، وهو جهد المقلّ، فلا يجدون ما ينفقونه في سبيل الله إلا غاية جهدهم ومنتهى طاقتهم، فيهزءون منهم، وذكر هؤلاء، وإن كانوا داخلين في المتطوعين لأن السخرية منهم كانت أشد وأوقع. ولكن الله تعالى سخر منهم، أي جازاهم على سخريتهم بمثل ذنبهم، حيث صاروا إلى النار، فقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ من باب المقابلة أو المشاكلة على سوء صنيعهم، واستهزائهم بالمؤمنين لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم، انتصارا للمؤمنين في الدنيا. وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا شديدا مؤلما لأن الجزاء من جنس العمل. ثم أبان الله تعالى أنهم كالكفار ليسوا أهلا للاستغفار، ولا ينفعهم الدعاء، فسواء استغفر لهم الرسول أو لم يستغفر لهم، فلن يستر الله عليهم ذنوبهم بالعفو عنها، وترك فضيحتهم بها، وإنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ولن يعفو عنهم، وذلك نظير قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون 63/ 6] . وليس المراد بالسبعين هنا التحديد بعدد معين، فيكون ما زاد عليها بخلافها، وإنما المراد المبالغة في الكلام بحسب أسلوب العرب. وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إظهارا لرحمته بالأمة، ولطلبهم الاستغفار منه، يدعو الله لهم بالهداية، ويستغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له،

فقه الحياة أو الأحكام:

فيقول كما روى ابن ماجه: «اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون» فمنعه الله من ذلك. وكان عذر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في استغفاره: هو عدم يأسه من إيمانهم، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 9/ 113] . وقد ذكر الله تعالى هنا سبب عدم قبول الاستغفار والدعاء لهم بقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا ... أي إنهم كفروا وجحدوا بالله ورسوله، فلم يقروا بوحدانية الله تعالى، ولم يعترفوا ببعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأصروا على الجحود والإنكار، فلم تعد قلوبهم مستعدة لقبول الخير والنور، وإن سنة الله ألا يوفق للخير القوم المتمردين في الكفر، الخارجين عن الطاعة، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والتوبة. فاليأس من المغفرة وعدم قبول الاستغفار لهم ليس لبخل من الله، ولا قصور في النبي، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عن المغفرة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن المنافقين قوم حيارى مرضى القلوب لا يدركون حقيقة الأمور، فتراهم يعيبون غيرهم من المؤمنين، تسترا على النفاق، وحماية لأنفسهم من افتضاح أمرهم، وحبا في النقد والطعن، فافتضح القرآن أسرارهم، وأبان سوء تصرفاتهم. 2- لقد كان جزاء لمزهم وعيبهم المؤمنين المتطوعين بالإنفاق في سبيل الله هو النار والعذاب الأليم فيها لأن الجزاء من جنس العمل كما تبين.

فرح المنافقين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك [سورة التوبة (9) الآيات 81 إلى 82] :

3- لن ينفعهم استغفار الرسول ما داموا كفارا مصرين على النفاق. قال الشعبي: سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان رجلا صالحا أن يستغفر لأبيه في مرضه، ففعل، فنزلت الآية. أي إن استغفار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لبعض المنافقين كان بطلبهم، لكن رجح الرازي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يستغفر لهم لأنه يعلم أن المنافق كافر، والاستغفار للكافر لا يجوز في شرعه، وإنما لما طلب القوم منه أن يستغفر لهم، منعه الله منه «1» . فرح المنافقين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) الإعراب: خِلافَ منصوب: لأنه مفعول لأجله، وقيل: لأنه مصدر. جَزاءً مفعول لأجله، أي للجزاء. البلاغة: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فيه ما يسمى بالمقابلة من أنواع الجناس. المفردات اللغوية: فَرِحَ سرّ وطرب، والفرح: شعور النفس بالارتياح والسرور. الْمُخَلَّفُونَ المتروكون في المدينة عن تبوك، من خلف فلانا، أي تركه خلفه. بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم. خِلافَ أي

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 147

سبب النزول:

بعد، أو هو مصدر كالمخالفة، ويصح المعنيان هنا. وَقالُوا أي قال بعضهم لبعض. لا تَنْفِرُوا تخرجوا إلى الجهاد. أَشَدُّ حَرًّا من تبوك، فالأولى أن يتقوها بترك التخلف. لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يعقلون أو يعلمون ذلك ما تخلفوا. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا في الدنيا. وَلْيَبْكُوا في الآخرة. وهو خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر. سبب النزول: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا ننفر في الحر، فأنزل الله: قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا. وأخرج ابن جرير أيضا عن محمد بن كعب القرظي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله: قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح المنافقين من اعتذارهم عن الخروج للقتال في تبوك، ولمزهم في قسمة الصدقات، عاد إلى بيان حال أولئك الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، وهو نوع آخر من قبائحهم، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد. وسموا بالمخلّفين لا بالمتخلفين أي المتأخرين عن الجهاد، لأنهم تخلفوا عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعد خروجه إلى الجهاد، من حيث إنهم لم ينهضوا، فبقوا وأقاموا، ولأن الرسول منع أقواما منهم من الخروج معهم، لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون، ولأن الله تعالى لما منعهم في الآية التالية عن الخروج معه بقوله: فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً صاروا بهذا السبب مخلّفين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآيات ذمّ واضح للمنافقين المتخلفين عن المشاركة في القتال في غزوة تبوك، وإخبار عن مصيرهم السيء في الآخرة، وقد نزلت في أثناء السفر. والمعنى: فرح أولئك المنافقون المخلّفون في المدينة بقعودهم في بيوتهم، بعد أن تركهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك، وسبب فرحهم عدم إيمانهم بأن في الجهاد خيرا، وكراهيتهم الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والفرح بالإقامة يدل على كراهة الذهاب، إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد. والخلاصة: إنهم فرحوا بسبب التخلف، وكرهوا الذهاب إلى الجهاد. ولم يقتصر الأمر على فرحهم بأنفسهم، بل أغروا غيرهم بعدم الخروج، وقال بعضهم لبعض: لا تخرجوا للجهاد لأن غزوة تبوك في شدة الحر، وقد طابت الثمار والظلال. فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أي إن نار جهنم التي أعدت للعصاة والتي تصيرون إليها بمخالفتكم أشدا حرا مما فررتم منه من الحر، فلو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به، لما خالفوا وقعدوا، ولما فرحوا بل حزنوا، كما روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» . ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال: فَلْيَضْحَكُوا ... أي إن الأولى بهم أن يضحكوا ويفرحوا قليلا، ويبكوا كثيرا، وهو خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر، يقصد به التهديد وانتظار ما سيلاقون من عذاب شديد، جزاء على ما اقترفوه أو اكتسبوه من الجرائم والنفاق. أخرج الشيخان في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل،

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يرى أن أحدا من أهل النار أشدّ عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا» . فقه الحياة أو الأحكام: الآيات تدل على قصر نظر الإنسان، فهو ينظر غالبا إلى الحال والواقع الذي هو فيه، ولا ينظر إلى المستقبل وما يتمخض عنه من أحداث. فهؤلاء المنافقون فرحوا بالقعود والراحة في المدينة لعدم إيمانهم بجدوى الجهاد، وكرهوا الجهاد لأنه يحرمهم نعمة التفيؤ بالظلال وقطاف الثمار. ولكن القرآن لامهم ونبّه عقولهم، فإن شدة الحر في نار جهنم التي يصيرون إليها بسبب تخلفهم عن جهاد الأعداء ونصرة الإسلام أكثر بكثير جدا من حر الصيف في الدنيا. ثم هددهم تعالى بأنهم إن فرحوا قليلا في الدنيا، فليبكوا وليحزنوا كثيرا في جهنم، أو إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا، جزاء بما كسبت أنفسهم، واقترفته أيديهم. ولا يقتصر هذا التهديد على المنافقين، بل يشمل العباد الصالحين الذين يتحسسون شدة الخوف من الله تعالى، أخرج الترمذي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولخرجتم إلى الصّعدات «1» تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني كنت شجرة تعضد» . ولا يعني هذا منع الضحك الخفيف لأن الله أضحك وأبكى، ولكن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة، وفي الخبر: «أن كثرته تميت القلب» . والخلاصة: لقد صدرت من المنافقين مخالفات خطيرة ثلاثة: هي التخلف

_ (1) الصعدات: هي الطرق، وهي جمع صعد، وصعد جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات.

منع المنافقين من الجهاد والمنع من الصلاة على موتاهم والتحذير من الاغترار بأموالهم وأولادهم [سورة التوبة (9) الآيات 83 إلى 85] :

في المدينة عن غزوة تبوك، وكراهة الجهاد، وإغراء إخوانهم بعدم الجهاد، فاستحقوا نار جهنم، فهم إن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم، فهذا قليل لأن متاع الدنيا قليل، وسيكون حزنهم وبكاؤهم في الآخرة كثيرا لأنه عقاب دائم لا ينقطع، بسبب ما كانوا يكسبون في الدنيا من النفاق. منع المنافقين من الجهاد والمنع من الصلاة على موتاهم والتحذير من الاغترار بأموالهم وأولادهم [سورة التوبة (9) : الآيات 83 الى 85] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) الإعراب: فَإِنْ رَجَعَكَ الكاف: منصوب برجع، وهو يكون متعديا، كما يكون لازما يقال: رجع ورجعته، نحو زاد وزدته، ونقص ونقصته، في أفعال تزيد على ثمانين فعلا. ماتَ صفة لأحد، وإنما قيل: مات وماتوا بلفظ الماضي بالنسبة إلى سبب النزول وزمان النهي، لكن معناه على الاستقبال على تقدير الكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة. إِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهي. أَبَداً ظرف متعلق بالنهي.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَإِنْ رَجَعَكَ ردك. اللَّهُ من تبوك. إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ممن تخلف بالمدينة من المنافقين. الْخالِفِينَ المتخلفين من النساء والصبيان. وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لدفن أو زيارة والمراد النهي عن الوقوف على قبره حين دفنه أو لزيارته، والقبر هو مدفن الميت. فاسِقُونَ كافرون. وَتَزْهَقَ تخرج. سبب النزول: نزول الآية (84) : وَلا تُصَلِّ: روى الشيخان عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب، وأخذ بثوبه، وقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين؟ قال: إنما خيرني الله، فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ... وسأزيده على السبعين، فقال: إنه منافق، فصلى عليه، فأنزل الله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فترك الصلاة عليهم. وقد فهم عمر ذلك من قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، على أنه تقدم نهي صريح. أو أنه فهم ذلك من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة 9/ 113] لأنها نزلت بمكة. وورد ذلك من حديث عمر وأنس وجابر وغيرهم. وجاء في رواية عن ابن عباس: فقال عمر رضي الله عنه، لم تعطي قميصك الرجس النجس «1» ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن قميصي لا يغني عنه من الله

_ (1) وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة، منها آية الفداء عن أسارى بدر، وآية تحريم الخمر، وآية تحويل

المناسبة:

شيئا، فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام. وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله، فلما رأوه يطلب هذا القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألف. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما خيرني الله» مشكل، والظاهر أن الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه إنما هو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له. وصلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليه بعد أن علم كونه كافرا، وقد مات على كفره لأنه لما طلب منه أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه، غلب على ظنه أنه انتقل إلى الإيمان لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر، ويؤمن فيه الكافر. أو إنما صلى عليه بناء على الظاهر من إعلان إسلامه. وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي، فأخذ جبريل بثوبه، فقال: وَلا تُصَلِّ ... الآية. فهذه الرواية تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على عبد الله بن أبي. وأمام هذا التعارض في الروايات رجح بعض العلماء رواية البخاري، وجمع بعضهم بين الروايتين، فقال: المراد من الصلاة في رواية عمر وابنه: الدعاء، أو الهم بالصلاة عليه ثم منعه جبريل. المناسبة: ما تزال الآيات تتحدث عن مخازي المنافقين وسوء طريقتهم، فبعد أن بين تعالى قبائحهم، بين بعض المواقف الحاسمة في معاملتهم، بعد رجوعه من غزوة تبوك، فمنعهم الله تعالى من الخروج مع النبي إلى الجهاد في غزوات أخرى لأن

_ القبلة، وآية أمر النسوان بالحجاب، وهذه الآية. لهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه: «لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيا» .

التفسير والبيان:

خروجهم يؤدي إلى الفساد، ومنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على موتاهم لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك، ونهاه عن الاغترار بأموالهم وأولادهم أو استحسان ما لديهم لأنها ليست لخيرهم، وإنما هي طريق لتعذيبهم بها في الدنيا، وانشغالهم بها عن الآخرة. التفسير والبيان: يأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه إن ردك الله من سفرك هذا حين رجوعك من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين، وكانوا كما ذكر قتادة اثني عشر رجلا، فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى، فقل لهم تعزيرا وعقوبة: لن تخرجوا معي أبدا على أية حال، ولن تقاتلوا معي أبدا عدوا بأي وضع كان. ثم علل ذلك وبين سبب المنع بقوله: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ ... أي إنكم اخترتم القعود عني أول مرة، وتخلفتم بلا عذر، وكذبتم في أيمانكم الفاجرة، وفرحتم بالقعود، بل وأغريتم بالتخلف عن الجهاد، فاقعدوا أبدا مع الخالفين أي الرجال المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد كما قال ابن عباس، أو مع فئة النساء والصبيان والعجزة كما قال الحسن، لكن قال ابن جرير: وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون، ولو أريد النساء لقال: فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات. وقيل: المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز. وقوله: أَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخرجة إلى غزوة تبوك. وعلى كل حال، فالآية تأمر بعقابهم بألا يصاحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبدا، وذلك كما قال تعالى في سورة الفتح: قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا [15] . ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبرأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله

ورسوله، وماتوا عليه. وهذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وهو حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين. ومعنى الآية: ولا تصل أيها النبي على أحد من المنافقين سيموت في المستقبل، ولا تقم على قبره حين دفنه أو لزيارته، داعيا له ومستغفرا، ويجوز أن يراد بالقبر: الدفن، ويكون المعنى: لا تتول دفنه. ثم بين الله تعالى سبب النهي عن الصلاة والقيام على القبر للدعاء بقوله: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... أي لأنهم كفروا بوجود الله وتوحيده وأنكروا بعثة نبيه لأن الصلاة على الميت استشفاع له، والقيام على قبره احتفال بالميت وإكرام له، وليس الكافر من أهل الاحترام والإكرام. وماتوا وهم فاسقون أي إنهم ماتوا والحال أنهم خارجون من دين الإسلام، متمردون على أحكامه، متجاوزون حدوده وأوامره ونواهيه. ثم نهى الله رسوله عن استحسان بعض مظاهر المنافقين، فقال: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ... أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد، فلا يريد الله بهم الخير، إنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب، وتخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر وهم مشغولون بالتمتع بها عن النظر في عواقب الأمور. وقد سبق ذكر هذه الآية في هذه السورة رقم (55) مع تفاوت في بعض الألفاظ: فلا تعجبك ولا تعجبك. أموالهم ولا أولادهم أموالهم وأولادهم، ليعذبهم أن يعذبهم، في الحياة الدنيا في الدنيا، ويفهم من اللفظ السابق: وَلا أَوْلادُهُمْ أن إعجابهم بأولادهم كان أكثر من إعجابهم بأموالهم، وأما هنا رقم [85] فلا تفاوت بين الأمرين. وفائدة التكرار التأكيد والتحذير من الاشتغال بالأموال والأولاد، مرة بعد أخرى، بسبب شدة تعلق النفوس بها، حتى

فقه الحياة أو الأحكام:

لا تحجب عن طلب ما هو أولى وهو الاشتغال للآخرة، فهي تحذير ونهي صريح عن الاغترار بالأموال والأولاد. فقه الحياة أو الأحكام: تتضمن الآيات اتخاذ مواقف حاسمة من المنافقين، بعد أن أمهلوا لمدة طويلة، وعوملوا في الظاهر معاملة المسلمين. وهي مواقف ثلاثة: منعهم من الخروج إلى الجهاد مع المسلمين، وعدم الصلاة على موتاهم، وعدم الاغترار بأموالهم وأولادهم التي يتباهون بها، وتلك المواقف تدل على أنهم جماعة كفار، كفروا بالله ورسوله. أما الموقف الأول: فاقتصر على طائفة من المنافقين لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا عنهم وتاب عليهم، كالثلاثة الذين خلفوا. وأما الموقف الثاني: فإسقاط لاعتبارهم لأن الصلاة على الميت والقيام على قبره للدعاء له إكرام له واحترام، والكافر ليس من أهل الاحترام. وعلى العكس من ذلك أهل الإيمان، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبادر إلى الصلاة عليهم لأن صلاته شفاعة وسكن لهم واطمئنان وكان يطلب من المؤمنين الدعاء لهم والاستغفار تكريما وتعظيما. روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم. وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» . وهذه الآية نص في الامتناع من الصلاة على الكفار وحظر الوقوف على قبورهم حين دفنهم، وكذلك تولي دفنهم، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين، وإنما يستفاد وجوب الصلاة على الميت المسلم من الأحاديث الصحيحة، مثل ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن أخا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه» قال: فقمنا فصففنا صفين، يعني النجاشي.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات. وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم قولا وعملا. وألحق بعض العلماء بذلك تشييع جنائز المسلمين، ويفهم من الآية من طريق دليل الخطاب مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، وقد قام على قبر حتى دفن الميت، ودعا له بالتثبيت، وكان ابن الزبير إذا مات له ميت، لم يزل قائما على قبره حتى يدفن. وجاء في صحيح مسلم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. وجمهور العلماء على أن التكبير على الجنائز أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الملائكة صلت على آدم، فكبرت عليه أربعا، وقالوا: هذه سنتكم يا بني آدم» . ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة: «إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء» . وذهب الشافعي وأحمد وداود وجماعة إلى أنه يقرأ بالفاتحة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الجماعة عن عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» حملا له على عمومه، وبما أخرجه البخاري عن ابن عباس، وصلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقالوا: لتعلموا أنها سنة. وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، وهو رأي الشافعي

قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أبي:

لما رواه أبو داود عن أنس، وصلى على جنازة، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك، يكبر أربعا، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى على أم كعب، ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليها وسطها. وأما الموقف الثالث مع المنافقين الذي دلت عليه الآية فهو النهي عن الاغترار بأموالهم وأولادهم، والتحذير منه مرة بعد أخرى لشدة تعلق النفوس بذلك، وحملا للإنسان المؤمن على الاشتغال بما هو خالد باق، وطلب مغفرة الله تعالى. والتكرار مع ما سبق لهذه الآية لأجل التأكيد والمبالغة في التحذير، كما كرر تعالى مرتين قوله في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [4، 116] . قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أبي: ضعف جماعة من العلماء كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني، والغزالي حديث الصلاة على زعيم المنافقين، لمخالفته لظاهر الآية من أوجه هي: 1- إن الآية نزلت أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك، وابن أبي مات في السنة التي بعدها. 2- اعتراض عمر وقوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟» يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي. وهذا يعارض قوله بعدئذ: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ وهو صريح في أن الآية نزلت بعد الصلاة عليه.

استئذان زعماء المنافقين للتخلف عن الجهاد وإقدام المؤمنين عليه [سورة التوبة (9) الآيات 86 إلى 89] :

3- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله خيرني» يعارض صريح الآية بأن الله لن يغفر لهم بسبب كفرهم، فأو فيها للتسوية، لا للتخيير. وأما محاولة الجمع بين الآية والحديث فلا تخلو من تكلف غير مقنع. استئذان زعماء المنافقين للتخلف عن الجهاد وإقدام المؤمنين عليه [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) الإعراب: مَعَ الْخَوالِفِ عاطف ومعطوف، والْخَوالِفِ: جمع خالفة، فإن فاعلة يجمع على فواعل، كقاتلة وقواتل، وضاربة وضوارب، والْخَوالِفِ: النساء. البلاغة: مَعَ الْخَوالِفِ فيها استعارة، إذ شبه النساء المقيمات في البيوت بعد رحيل الرجال بالخوالف، وهي الأعمدة التي تكون في أواخر البيوت لكثرة لزوم الخوالف للبيوت.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سُورَةٌ طائفة من القرآن. أَنْ أي بأن. أُولُوا الطَّوْلِ أولو الغنى والثروة، والمقدرة على الجهاد. ذَرْنا اتركنا ودعنا. الْقاعِدِينَ المتخلفين. الْخَوالِفِ جمع خالفة، أي النساء اللاتي تخلفن في البيوت. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ختم عليها، فلم تعد قابلة لشيء جديد. لا يَفْقَهُونَ لا يعقلون الخير. وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ في الدنيا والآخرة. الْمُفْلِحُونَ الفائزون. المناسبة: بعد أن بين الله تعالى أن المنافقين احتالوا في التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقعود عن الجهاد، أوضح أمرا آخر: وهو أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الجهاد، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ، أي مع الضعفاء والعاجزين عن القتال. التفسير والبيان: يذم الله تعالى في هذه الآيات فريقا ويمدح فريقا آخر، فيذم المتخلفين عن الجهاد، مع القدرة عليه، ووجود الثروة والغنى (أو السعة والطول) واستأذنوا الرسول في القعود. فكلما أنزلت سورة- والمراد بالسورة إما تمامها وإما بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه- فيها الأمر بالإيمان والدعوة إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، استأذنك أولو الطول، أي ذوو الفضل والسعة، وأولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس، في التخلف قائلين: اتركنا مع القاعدين في بيوتهم من النساء والصبيان والعجزة والضعفاء، وقوله تعالى: أَنْ آمِنُوا الأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان، وللمنافقين بابتداء الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى:

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَوْلى لَهُمْ [محمد 47/ 20] . وهذا دليل على الجبن والذل والهوان. وفي تخصيص أُولُوا الطَّوْلِ بالذكر فائدتان: الأولى: أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على السفر والجهاد، والثانية: أن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان لأنه معذور. هؤلاء رضوا لأنفسهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ من النساء، وفي هذا طعن برجولتهم، وتشبيه لهم بالنساء. وعلة ذلك أن الله ختم على قلوبهم، بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله، فلم تعد قابلة لنور العلم والهداية، حتى كأنها قد ختم عليها، فأصبحوا لا يفقهون أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه، ولا يدركون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد. ثم قارن الله تعالى وضعهم بوضع المؤمنين، وبين ثناءه عليهم ومآلهم في الآخرة، فقال: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... أي بين تعالى حالهم ومآلهم، وهو أن الرسول والمؤمنين معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وأدوا واجبهم، فنالوا الخيرات العظمى في الدنيا كالنصر وهزيمة الكفر، وفي الآخرة بالاستمتاع في جنات الفردوس والدرجات العلى، وأولئك هم الفائزون بالسعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، خلافا للمنافقين الذين حرموا منهما. وقوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... إما تفسير للخيرات والفلاح، وإما أن الخيرات والفلاح هي منافع الدنيا كالعزة والكرامة والنصر والثروة، والجنات ثواب الآخرة. والفوز العظيم: هو المرتبة الرفيعة والدرجة العالية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن رؤساء المنافقين القادرين على الجهاد بالمال والنفس تخلفوا عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورضوا لأنفسهم المذلة والمهانة بالقعود مع العاجزين عن الخروج للجهاد. وقد أدى ذلك إلى الطبع على قلوبهم، فأصبحوا لا يميزون بين الخير والشر، ولا بين المصلحة والضرر، أي أن حالهم التخلف ومآلهم انعدام الخير فيهم. قال الحسن البصري: الطبع: عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان. وعند المعتزلة: عبارة عن علامة تحصل في القلب. ودلت الآيات أيضا على حال المؤمنين ومآلهم، فحالهم أنهم بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه، ومآلهم تحصيل الخيرات أي منافع الدارين، والفوز بالجنة والتخلص من العقاب والعذاب. وذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز غيره، وهو المرتبة الرفيعة والدرجة العالية. نفاق الأعراب واستئذانهم للتخلف عن الجهاد [سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) المفردات اللغوية: الْمُعَذِّرُونَ المعذر: هو المجتهد البالغ في العذر، وهو المحق، أو المقصر من عذر في الأمر: إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، أو من اعتذر: إذا مهد العذر، أي أن في تفسيره قولين:

سبب النزول:

أحدهما- أنه يكون المحق، فهو بمعنى المعتذر أو المعذور لأن له عذرا. والثاني- أنه غير المحق وهو الذي يعتذر ولا عذر له. وسياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم، ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. فهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة 9/ 94] . الْأَعْرابِ هم سكان البادية وهم أسد وغطفان، استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أظهروا الإيمان بهما كذبا أو ادعوا الإيمان، يقال: كذبته عينه: إذا رأى ما لا حقيقة له. سبب النزول: قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا إن غزونا معك، أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «سيغنيني الله عنكم» . وعن مجاهد: هم نفر من غفار أو من غطفان اعتذروا، فلم يعذرهم الله تعالى. وعن قتادة: اعتذروا بالكذب. المناسبة: بعد أن بين الله تعالى أحوال المنافقين من سكان المدينة، قفى على ذلك ببيان أحوال المنافقين من الأعراب البدو. التفسير والبيان: وجاء المعتذرون من الأعراب يطلبون الإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التخلف عن غزوة تبوك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قد أنبأني الله من أخباركم، وسيغني الله عنكم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وقعد عن الجهاد الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بادعائهم الإيمان، وهم منافقو الأعراب الذين جاؤوا وما اعتذروا، وظهر بذلك أنهم كاذبون. ثم أوعدهم بالعذاب، فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار لاعتذار الأولين بغير حق، وقعود الآخرين عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من منافقي الأعراب، فالآية بشقيها في منافقي الأعراب، سواء من انتحل العذر بالباطل، ومن لم ينتحل وتخلف عن الجهاد، وعاقبتهم العقاب الشديد الأليم في الدنيا والآخرة بالقتل والنار. وإنما قال: مِنْهُمْ الدال على التبعيض لأنه تعالى كان عالما بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب. ومن المفسرين من جعل القسم الأول معذورين صادقين، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة، أو هم أسد وغطفان جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون إليه بسبب الضعف وعدم القدرة على الخروج، بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلما ميز أولئك عن الكاذبين، دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين. ورجح ابن كثير هذا القول لما ذكر، ورجح الرازي والزمخشري القول الأول بدلالة سياق الكلام لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم، ولو كانوا معذورين بحق لم يحتاجوا إلى الاستئذان. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن مصير المنافقين الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بادعائهم الإيمان، والكاذبين من المعتذرين هو العقاب في نار جهنم، بسبب عدم إيمانهم، وبسبب كذبهم، وكل من الكفر أو ادعاء الإيمان في الظاهر، والكذب التابع له أمر عظيم يستحق فاعله العقوبة عليه.

أصحاب الأعذار المقبولة لعدم الجهاد [سورة التوبة (9) الآيات 91 إلى 92] :

وأما المعتذر بحق فيقبل عذره، وهم ذوو الأعذار في ترك الجهاد الذين أعفاهم الله، وتتحدث عنهم الآية التالية: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ.... أصحاب الأعذار المقبولة لعدم الجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) الإعراب: تَوَلَّوْا جواب إِذا قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من كاف أَتَوْكَ بإضمار: وقد. وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الجملة في موضع نصب على الحال. مِنَ الدَّمْعِ من للبيان، وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز، وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا حَزَناً نصب على أنه مفعول لأجله، أو على الحال، أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. أَلَّا يَجِدُوا أي لئلا يجدوا، متعلق ب حَزَناً أو ب تَفِيضُ. البلاغة: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على الضُّعَفاءِ، أو على الْمُحْسِنِينَ. وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم. وهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أنهم من جملة المحسنين غير المعاتبين بالتخلف.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الضُّعَفاءِ كالشيوخ أو الهرمى جمع ضعيف وهو غير القوي، والمرضى جمع مريض، كالزمنى والعمي ما يُنْفِقُونَ في الجهاد حَرَجٌ ذنب أو إثم في التخلف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ في حال قعودهم بعدم الإرجاف والتثبيط، وبالطاعة ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ما عليهم بذلك من طريق بالمؤاخذة غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم في التوسعة عليهم حَزَناً الحزن والحزن: ضد السرور. والحزن: الصعب وما غلظ من الأرض، وفيها حزونة. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ معك إلى الجهاد وهم البكاؤون سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عتمة، وعبد الله بن مغفل، وعلية بن زيد، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: نذرنا الخروج، فاحملنا على الخفاف المرفوعة، والنعال المخصوفة، نغز معك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجد ما أحملكم، فتولوا وهم يبكون. وقيل: هم بنو مقرن من مزينة: معقل وسويد والنعمان وعقيل وسنان، وسابع لم يسم، وعلى هذا جمهور المفسرين. وقيل: أبو موسى وأصحابه. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب براءة فإني لواضع القلم في أذني، إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى، فقال: كيف بي يا رسول الله، وأنا أعمى؟ فنزلت: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الآية. وأما آية: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ فذكر في سبب نزولها ثلاث روايات: الأولى- أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه، فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله، احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد، ولا يجدوا نفقة ولا محملا،

المناسبة:

فأنزل الله عذرهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الآية. وقد ذكرت أسماؤهم في المبهمات، وكانوا يسمون البكائين. الثانية: قال مجاهد: هم ثلاثة إخوة: معقل، وسويد، والنعمان بن مقرن، سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحملهم على الخفاف المدبوغة، والنعال المخصوفة، فقال: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وهذا رأي الجمهور. والثالثة: قال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحملونه، ووافق ذلك منه غضبا، فقال: «والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه» . المناسبة: هناك ارتباط واضح بين هذه الآيات وما قبلها، فبعد أن ذكر تعالى الوعيد لمن يوهم العذر أو ينتحل الأعذار، مع أنه لا عذر له، ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية، وبين إسقاط فريضة الجهاد عنهم. التفسير والبيان: أبان الله تعالى في هذه الآيات الأعذار التي يقبل بها القعود عن القتال، وذكر أصنافا ثلاثة من ذوي الأعذار المقبولة: وهم الضعفاء، والمرضى، والفقراء. فقال: ليس على الضعفاء والمرضى والفقراء العاجزين عن الإنفاق في الجهاد إثم أو ذنب أو عتاب في عدم الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بأن أخلصوا الإيمان لله، وللرسول في الطاعة في السر والعلن، وعرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه، وللأمة بالحفاظ على مصلحتها العامة العليا من كتمان السر، والحث على البر، وعدم الإرجاف والتثبيط والقضاء على الإشاعات الكاذبة أو المغرضة، روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الدين النصيحة، قالوا لمن

يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» . والنصيحة لله وللرسول: إخلاص الإيمان بهما وطاعتهما والحب والبغض فيهما، والنصيحة لكتابه: تلاوته وتدبر معانيه والعمل بما فيه، والنصيحة لأئمة المسلمين: مؤازرتهم وترك الخروج عليهم، وإرشادهم إن أخطئوا، والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى طريق الحق، والعمل على تقويتهم. والنصح: إخلاص العمل من الغش. والضعفاء: كل من لا قدرة لهم على القتال كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان. والمرضى: من طرأ لهم مرض مزمن أو مؤقت لا يتمكنون معه من الجهاد، كالزمنى والعمي والعرج، والمحمومين. والفقراء: الذين عدموا النفقة على أنفسهم في أثناء الجهاد، وعلى عيالهم. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم جناح ولا مؤاخذة، ولا إلى معاتبتهم طريق، ولا إثم عليهم بسبب القعود عن الجهاد. وهذا نص عام يشمل كل من أحسن عملا من أعمال البر والخير، وهو أصل معتبر في الشريعة، في تقرير أن الأصل براءة الذمة أو البراءة الأصلية، وعدم مطالبة الغير له في نفسه وماله، فالأصل في نفسه حرمة القتل، والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل ثابت، والأصل عدم مطالبته بشيء من التكاليف إلا بدليل مستقل. فما دام هؤلاء المعذرون عذرا شرعيا ناصحين لله ورسوله، مخلصين أعمالهم لله، فلا مؤاخذة عليهم. والله غفور، كثير المغفرة لهم ولأمثالهم، رحيم بهم، فلا يكلفهم ما لا طاقة

لهم به. أما العصاة والمنافقون فلا يغفر لهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن العصيان والنفاق الذي كان سببا في الإثم. وكذلك لا حرج ولا إثم على من استعد للقتال بنفسه، ولكنه لا يجد مركبا أو نفقة ينفقها في أثناء الجهاد على نفسه وعياله، بسبب فقره، ومن أخصهم أولئك النفر من الأنصار البكاؤون، أو من بني مقرن من مزينة الذين جاؤوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليحملهم على الرواحل، أو ليمدهم بالزاد والماء والنفقة في غزوهم، فيخرجوا معه، فلم يجد ما يحملهم عليه، فانصرفوا من مجلسه، وهم يبكون بكاء شديدا بسبب حزنهم على ما فاتهم من شرف المشاركة في الجهاد، وبسبب فقدهم النفقة التي تساعدهم على الجهاد. والتعبير بقوله: لِتَحْمِلَهُمْ يفيد عموم سائر وسائل النقل والحرب والقتال القديمة والحديثة. قال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب. قال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلي بن زيد أخو بنى حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني. وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا

فقه الحياة أو الأحكام:

إلا وقد شركوكم في الأجر» ثم قرأ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ الآية. وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم، حبسهم العذر» وفي رواية أحمد: «حبسهم المرض» . فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات إسقاط فرضية الجهاد بسبب العذر عن أصناف ثلاثة من ذوي الأعذار وهم الضعفاء والمرضى والفقراء، وأنه لا حرج ولا إثم على المعذورين بسبب القعود عن الجهاد، وهم قوم عرف عذرهم، كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون. والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوة: لا يجب عليه الجهاد. وقال المالكية: إذا كانت عادته المسألة، لزمه كالحج، وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير، يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد المليء. ودلت الآيات على أصلين عظيمين من أصول الشريعة وهما: الأصل الأول- سقوط التكليف عن العاجز، لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة البدنية، أو العجز من جهة المال. ونظير هذه الآية قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] وقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور 24/ 61] . الأصل الثاني- الأصل في الإنسان براءة الذمة، أو براءة المتهم حتى تثبت

إدانته، ويعبر عنه بعبارة: الأصل براءة الذمة، وهذا مبدأ البراءة الأصلية. وذلك لقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فالأصل في النفس حرمة القتل، والأصل في المال حرمة الأخذ، إلا لدليل ثابت أو لدليل منفصل مستقل. ولا تكرار بين هؤلاء وبين قوله تعالى سابقا: وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ لأن الذين لا يجدون ما ينفقون: هم الفقراء الذين ليس معهم نفقة، وهؤلاء في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة، إلا أنهم لا يجدون المركوب.

مؤاخذة المتخلفين الأغنياء بغير عذر [سورة التوبة (9) آية 93] :

[الجزء الحادي عشر] [تتمة سورة التوبة] مؤاخذة المتخلفين الأغنياء بغير عذر [سورة التوبة (9) : آية 93] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) المفردات اللغوية: إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف عن الجهاد وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون للأهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف من النساء والصبيان والعجزة، إيثارا للدعة والراحة وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ختم عليها بسبب تقصيرهم حتى غفلوا عن سوء العاقبة فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لا يدركون مغبة عملهم. المناسبة: لما قال الله تعالى في الآية السابقة: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ قال في هذه الآية: إنما السبيل على من كان مستأذنا من الأغنياء، أي إن طريق المعاتبة بالتخلف عن الجهاد لهؤلاء المنافقين. التفسير والبيان: لما بيّن الله تعالى من لا سبيل عليه وهم ذوو الأعذار بحق، ذكر من عليهم السبيل، أي إن العلامة والمعاتبة لا على المحسنين، وإنما على هؤلاء الذين يستأذنون في العقود عن الجهاد، وهم أغنياء قادرون على إعداد العدة من زاد وراحلة وسلاح وغير ذلك، فلا عذر لهم البتة، والسبب في استحقاقهم المؤاخذة: أنهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والصبيان

فقه الحياة أو الأحكام:

والعجزة والمرضى والمعذّرين المفسدين، فكان شأنهم قبول المهانة والمذلة والانتظام في جملة الخوالف، وذلك من أخس مظاهر الخزي والعارفي عرف العرب وغيرهم. وقد تكرر هذا مع الآية السابقة [87] لترسيخ هذا الوصف فيهم، وللتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم. وترتب على تقصيرهم ما قاله تعالى في الآيتين: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ... أي وختم عليها، حتى لا يصل إليها الخير، ولا ينفذ إليها النور، فهم لذلك لا يهتدون، ولا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا، بسبب ما أحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم، فأصبحوا لا يدركون حقيقة أمرهم، وسوء عاقبتهم. فقه الحياة أو الأحكام: الإسلام دين العقل والمنطق والواقعية، كما أنه دين الرحمة والحق والعدل، لذا فإنه تعالى نفى السبيل على المحسنين، أي رفع العقوبة والإثم عن المؤمنين ذوي الأعذار، وأوجب العقوبة والمأثم على المنافقين المستأذنين وهم أغنياء ذوو قدرة على الجهاد بالمال والنفس. وقد كرر تعالى ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم. فلا عذر لهم بالتخلف عن الجهاد، وإنما كان السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة والخسة، وخذلان الله تعالى إياهم، وأن الله طبع على قلوبهم، بسبب سوء أعمالهم. ويا لها من خسارة! فقد شلّ فيهم عنصر أو أداة التمييز بين الخير والشر، وبين المصلحة والضرر. وإنهم خسروا الدنيا والآخرة، ففي الدنيا أصبحوا قوما منبوذين عن المجتمع، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأليم.

اعتذار المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وحلفهم الأيمان الكاذبة [سورة التوبة (9) الآيات 94 إلى 96] :

اعتذار المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وحلفهم الأيمان الكاذبة [سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 96] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الإعراب: قَدْ نَبَّأَنَا نبّأ: بمعنى أعلم، وهو يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ويجوز أن يقتصر على واحد، ولا يجوز أن يقتصر على اثنين دون الثالث. ولهذا لا يجوز أن يكون نُؤْمِنَ في قوله: مِنْ أَخْبارِكُمْ زائدة، وإنما تعدى إلى مفعول واحد، ثم تعدى بحرف جر. جَزاءً بِما ... يجوز أن يكون مصدرا، وأن يكون علة أي مفعولا لأجله. البلاغة: عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق، وقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ.. أي إليه، فوضع الوصف موضع الضمير، للدلالة على أنه مطلع على سرّهم وعلنهم، لا يفوت عليه شيء من ضمائرهم وأعمالهم. لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فيه أيضا إظهار في موضع الإضمار لزيادة التشنيع والتقبيح، وأصله: لا يرضى عنهم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من الجهاد أو من هذه السفرة لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لأنّه لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم لأنه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أي أخبرنا بأحوالكم، وأعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ هل تتوبون عن الكفر أم تبقون عليه، وكأنه إعطاء فرصة للتوبة ثُمَّ تُرَدُّونَ بالبعث إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي إلى الله. والغيب: كل ما غاب عنك علمه. والشهادة: كل ما تشهده وتعرفه من عالم الحس فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه بالتوبيخ والعقاب عليه انْقَلَبْتُمْ رجعتم إليهم ووصلتم من تبوك لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم ولا تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا توبخوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ قذر، لخبث باطنهم، فيجب الإعراض عنهم، ولا ينفع فيهم التأنيب وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل، أي إن النار كفتهم عتابا، فلا تتكلفوا عتابهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ ... المقصود من الآية: النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض وعدم الالتفات نحوهم. فلا ينفع رضاكم مع سخط الله وتأكد عقابه إياهم. سبب النزول: روي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في الجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم. وقال قتادة ومقاتل: إنها نزلت في عبد الله بن أبيّ، فإنه حلف للنبي صلى الله عليه وسلّم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا، وطلب أن يرضى عنه، فلم يفعل. المناسبة: بعد أن لام الله تعالى المنافقين المعذّرين الذي انتحلوا الأعذار للتخلف عن غزوة تبوك، وعذر المحقين من أصحاب الأعذار، ورفع الحرج عن الضعفاء والمرضى والفقراء، أخبر المؤمنين بما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في

التفسير والبيان:

المدينة وما حولها عن تبوك، بعد عودتهم. وهذا من شأن الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم ومن الإخبار عن المغيبات في المستقبل. التفسير والبيان: هذا كلام مستأنف قصد به الإخبار عن المنافقين إذا رجع المؤمنون من تبوك إليهم، أنهم يعتذرون إليكم أيها المؤمنون عن سيئاتهم وتخلفهم عن القتال بغير عذر إذا رجعتم إليهم من غزوة تبوك. قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا بالأعذار الكاذبة لأنا لن نصدقكم أبدا. والسبب في عدم تصديقكم أن الله قد أخبرنا سلفا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وأحوالكم: وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد ومناقصة الحقائق. وسيرى الله عملكم ورسوله، أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، ويعلم مستقبلكم من الإصرار على النفاق أو التوبة منه، فإن تبتم فإن الله يتقبل توبتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، وإن مكثتم فيما أنتم عليه من النفاق، عاملكم الرسول بما تستحقون. وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة وإمهال لإظهارها وإصلاح شؤونهم. ثم يكون مصيركم إلى الله عالم الغيب والشهادة، فيعلم ما تكتمون وما تعلنون، فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها، ويجزيكم عليها، علما بأنكم أشد عذابا من الكفار، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145] وقوله: فَيُنَبِّئُكُمْ ... تصريح بالتوبيخ والعقاب على أعمالهم. وهذا يتضمن ضرورة تجنب المعاذير الكاذبة، وتحاشي كل ما يعتذر منه من السيئات، كما قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الضياء عن أنس: «إياك وكل أمر يعتذر منه» . ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم سيؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ... أي إنهم سيحلفون لكم بالله معتذرين، لتعرضوا عنهم،

فلا تعاتبوهم ولا تؤنبوهم على قعودهم مع الخالفين من النساء وأمثالهم. فأعرضوا عنهم ولا توبخوهم، احتقارا لهم لأنهم رجس أي قذر معنوي، وخبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم، لا يقبلون التطهير، وهذا علة الإعراض وترك المعاتبة. ومأواهم في آخرتهم جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام والخطايا. وهذا من تمام التعليل، وكأنه قال: إنهم أرجاس من أهل النار، لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة. ثم أعلمنا الله تعالى بأن أيمانهم الكاذبة التي يحلفونها هي مجرد استرضاء لكم، لتستديموا في معاملتهم كأهل الإسلام. وإنكم إن رضيتم عنهم، فلا ينفعهم رضاكم، إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، بسبب فسقهم، أي خروجهم عن طاعة الله وطاعة رسوله، فليكن همهم إرضاء الله ورسوله، لا إرضاؤكم، كما قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء 4/ 108] وقال سبحانه: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر 59/ 13] . وهذا إرشاد إلى منع المؤمنين من الرضا عنهم، والاغترار بأيمانهم الكاذبة، وكفى بالله شهيدا، وكفى بالله عليما ومعلما للمؤمنين طريق الاستقامة والصواب ومواقف الحزم والسداد. ونظرا لأهمية هذه المعاني أعيدت هنا مرة أخرى، ويكون الكلام شاملا مناهج المنافقين كلهم، سواء كانوا من أهل الحضر وهم من سبق أو من أهل البادية، وهم المقصودون هنا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم، بعد إعلام الله بحقيقة أمرهم وأخبارهم. 2- المستقبل خير شاهد وكفيل لإظهار كذب المنافقين. 3- الله تعالى عالم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما في بواطن المنافقين من خبث ومكر ونفاق، وكذب وكيد. وفي هذا تخويف شديد، وزجر عظيم لهم. 4- الجزاء على الأعمال ثابت، يردع كل فاسق وعات وظالم. 5- المنافقون أنجاس أرجاس رجسا معنويا يقتضي الاحتراز عنهم، كما يجب الاحتراز عن الأرجاس الحسية، خوفا من التأثر بأعمالهم والميل إلى طبائعهم. وزادهم رجسا أنهم حصب جهنم هم لها واردون، جزاء بما كسبوا في الدنيا من أعمال النفاق وخبث الأفعال وسوء الأخلاق. 6- ينبغي الابتعاد عن كل ما يقتضي الاعتذار من الذنوب والسيئات. 7- لا ينفع رضا الناس مع سخط الله، فإن المعول عليه عند العقلاء وأهل الإيمان الحق التماس رضا الله تعالى، أخرج الترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من التمس رضاء الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس» . 8- إن سخط الله على المنافقين وأمثالهم إنما هو بسبب فسقهم وخروجهم عن دائرة الطاعة الواجبة لله وللرسول.

كفر الأعراب ونفاقهم وإيمانهم [سورة التوبة (9) الآيات 97 إلى 99] :

كفر الأعراب ونفاقهم وإيمانهم [سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) الإعراب: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، والدائرة في الأصل: مصدر أو اسم فاعل من دار يدور، سمي بها دورة الزمان، وهي هنا ما يحيط بالإنسان حتى لا يجد له منه مخلصا، وأضيفت إلى السوء (بضم السين وفتحها) للمبالغة والتأكيد والبيان، كقولهم: شمس النهار، ورجل صدق. قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ قُرُباتٍ: مفعول ثان ليتخذ، وعِنْدَ اللَّهِ: صفتها، أو ظرف ليتخذ. البلاغة: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مجاز مرسل أي في جنته، من باب إطلاق الحال وإرادة المحل أي محل الرحمة. المفردات اللغوية: الأعراب لفظ عام معناه الخصوص في جماعة من أهل البدو من العرب، والعرب: من ينطق بالعربية، سواء البدو والحضر وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة، وهي

سبب النزول:

من تهامة، فنسبوا إليها أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل المدن، لجفائهم وغلظ طباعهم، وبعدهم عن سماع القرآن وَأَجْدَرُ أحق وأولى أَلَّا يَعْلَمُوا بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الأحكام والشرائع عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه بهم. مَغْرَماً غرامة وخسرانا لازما لأنه لا يرجو ثوابه، بل ينفقه خوفا، وهم أسد وغطفان وَيَتَرَبَّصُ ينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان ذات الضرر والسوء أن تنقلب عليكم فيتخلص من الإنفاق عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصونه، أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم، أي يدور العذاب والهلاك عليهم، لا عليكم، والسوء: اسم لما يسوء ويضر وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال الناس ولما يقولون عند الإنفاق عَلِيمٌ بأفعالهم وبما يضمرون. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ كجهينة ومزينة قُرُباتٍ جمع قربة: وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى، ويقصد بها هنا اتخاذ المنزلة والمكانة عند الله وَصَلَواتِ الرَّسُولِ جمع صلاة ويراد بها هنا دعاؤه واستغفاره، فالصلاة من الله تعالى: الرحمة والخير والبركة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب 33/ 43] والصلاة من الملائكة: الدعاء، وكذا هي من النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة 9/ 103] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة أَلا استئناف بحرف التنبيه إِنَّها أي نفقتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ أي تقرّبهم من رحمة الله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ جنته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لأهل طاعته رَحِيمٌ بهم. سبب النزول: نزول الآية (97) : الْأَعْرابِ.. قال الواحدي: نزلت في أعاريب من أسد وغطفان، ومن أعاريب حاضري المدينة. نزول الآية (99) : وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ.. أخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد أنها نزلت في بني مقرّن الذين نزلت فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ. [التوبة 9/ 92] وأخرج عن عبد الرحمن بن معقل المزني قال: كنا عشرة ولد مقرّن، فنزلت فينا هذه الآية.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم بالمدينة، ذكر أحوال الأعراب خارج المدينة وهم سكان البادية، وأخبر أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين. ويرى الرازي أن هذه الآيات كسابقتها مباشرة تخاطب منافقي الأعراب وأصحاب البوادي أي الصحاري. ويرى المفسرون الآخرون أن ما سبق كله في منافقي المدينة وهذا في منافقي الأعراب. التفسير والبيان: إن كفر بعض الأعراب سكان البادية ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، وأحرى وأولى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي فرائض الشرع لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا، وأكثر جهلا، روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» ورواه أبو داود والبيهقي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا، وزاد فيه: «وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا» لأن السلاطين لا يريدون غالبا النصح وصراحة القول، فلا يتقرب منهم إلا المراؤون عادة. والله عليم واسع العلم بأحوال خلقه من أهل المدن والبوادي، حكيم فيما شرعه لهم وفيما يجازي محسنهم ثوابا ومسيئهم عقابا. وليس هذا طعنا في الأعراب وإنما هو وصف لأحوالهم، وذم لواقعهم ما داموا راضين به، وكل من نزل البادية فهم أعراب. وأما من استوطن القرى والبلاد فهم عرب، ولا يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «حب العرب إيمان» «1» .

_ (1) حديث ضعيف رواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.

ومن الأعراب أناس ينفقون أموالهم رياء أو تقيّة، وتقربا للمسلمين ويعدون ذلك مغرما وخسارة لأنهم لا يرجعون به ثوابا عند الله، وينتظرون بكم الحوادث والآفات، فيتخلصون من الإنفاق، وقد كانوا يتوقعون انتصار المشركين على المؤمنين، فلما يئسوا انتظروا موت النبي صلى الله عليه وسلّم ظنا منهم أن الإسلام ينتهي بموته. روي أنهم أسد وغطفان كانوا يفعلون ذلك. فرد الله عليهم: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي هي منعكسة عليهم، والسوء دائر عليهم وحدهم، أو أن هذا دعاء عليهم بنحو ما ينتظرونه في المسلمين، وقد تحقق هذا الدعاء، فدارت دائرة السوء والشر عليهم، وأصيبوا بالهزيمة والخيبة والخذلان، والله سميع لما يقولون عند الإنفاق، ولدعاء عباده عليهم، عليم بما يضمرون وبمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان، كما قال تعالى: قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التوبة 9/ 52] . وكما أن في الأعراب كفارا ومنافقين، فيهم أيضا مؤمنون لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ ... أي وبعض آخر من الأعراب يؤمنون إيمانا صحيحا، مثل جهينة ومزينة، وبنو أسلم وغفار، وقال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ وهؤلاء الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله تعالى، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، أي صلواته. ألا إن ذلك قربة حاصلة لهم، وهذا شهادة من الله بصحة معتقدهم، وتصديق لرجائهم وتمنيهم، على الاستئناف مع حرف التنبيه، وإنّ المحققة للنسبة. وضمير إِنَّها لنفقتهم. سيدخلهم الله في رحمته أي في جنته ورضوانه، وهذا وعد لهم بإحاطة الرحمة

فقه الحياة أو الأحكام:

بهم، إن الله غفور رحيم واسع المغفرة والرحمة للمخلصين في أعمالهم، فهو يستر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى صالح الأعمال المؤدية إلى حسن الختام والمصير، وإحاطة الرحمة في هذه الآية أبلغ في إثباتها لهم في مثل قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة 9/ 21] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين. أما الكفار والمنافقون فهم أشد كفرا ونفاقا من غيرهم، بسبب قسوة البيئة التي يعيشون فيها، وضعف مستوى الثقافة والمعرفة والعلم في أوساطهم، مما يجعلهم قساة الطباع والأكباد والقلوب، ويرتعون في مفاسد الجهل والأهواء ونقص السياسة والتأديب. وهم أيضا لذلك أولى بألا يعلموا حدود الشرائع ومقادير التكاليف والأحكام وما أنزله الله على رسوله بالوحي الثابت. وترتب على ذلك أحكام ثلاثة «1» : أولها- لا حق لهم في الفيء والغنيمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم من حديث بريدة: «ثم أدعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم بأنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين» .

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 232

وثانيها- إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال: لأنها لا تراعى كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا، قال القرطبي: وهو الصحيح. وثالثها- أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة، وتركهم الجمعة. وقال الشافعي والحنيفة: الصلاة خلف الأعرابي جائزة. ومن الأعراب جماعة منافقون يعدون النفقة خسارة، وينتظرون أن تحيط الدواهي والمصائب والحوادث بالمسلمين ليتخلصوا من الإنفاق. فقوله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني الموت والقتل، وانتظار موت الرسول صلى الله عليه وسلّم، وانتصار المشركين. ولكن الأمر سيكون بالعكس مما يتوقعون، فعليهم وحدهم دائرة العذاب والبلاء. وبعض آخرون من الأعراب مؤمنون، وصفهم الله بوصفين: الأول: كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر، وهذا دليل على أنه لا بد في جميع الطاعات حتى الجهاد من تقدم الإيمان. والثاني: كونهم ينفقون أموالهم تقربا إلى الله تعالى، وبقصد التوصل إلى صلوات الرسول صلى الله عليه وسلّم أي استغفاره ودعائه لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم، كقوله: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» وقال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ كما تقدم. وقد شهد الله تعالى بقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، أي إن نفقاتهم تقربهم من رحمة الله، وذلك حاصل لهم، وهو وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد.

أصناف الناس في المدينة وما حولها [سورة التوبة (9) الآيات 100 إلى 102] :

أصناف الناس في المدينة وما حولها [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 102] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) الإعراب: وَالسَّابِقُونَ مبتدأ، وخبره رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه: رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عطف على: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أو خبر لمحذوف تقديره: قوم مردوا على النفاق، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. مثل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا. البلاغة: عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً بين الصالح والسيء طباق. المفردات اللغوية: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وهم من شهد بدرا، أو الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين أسلموا قبل الهجرة، وأهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، أو جميع الصحابة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اللاحقون بالسابقين من الفئتين، أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم

سبب النزول:

القيامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي قبل طاعتهم وارتضى أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية، أو بما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ممن حول بلدتكم المدينة يا أهل المدينة مُنافِقُونَ هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها مَرَدُوا مرنوا وحذقوا واستمروا لا تَعْلَمُهُمْ لا تعرفهم بأعيانهم أيها النبي سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة والقتل في الدنيا، وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة وإنهاك الأبدان ثُمَّ يُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو النار. خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً هو الجهاد السابق قبل ذلك أو إظهار الندم والتوبة وَآخَرَ سَيِّئاً وهو تخلفهم، وهم أبو لبابة وجماعة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، وحلفوا ألا يحلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلّم، فحلّهم لما نزلت عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أن يقبل توبتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه. سبب النزول: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: الصحيح عند الرازي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ: قال البغوي، والواحدي نقلا عن الكلبي: نزلت في جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار من أهل المدينة أي كانوا حول المدينة، يعني عبد الله بن أبيّ، وجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير، والجلاس بن سويد، وأبي عامر الراهب. وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ: أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتخلّف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا، وقالوا لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقها، ففعلوا، وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة، فقال: من هؤلاء الموثقون بالسواري؟ فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم، فقال: لا أطلقهم حتى أؤمر

المناسبة:

بإطلاقهم، فأنزل الله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية. فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ الآية، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، حتى نزلت: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى فضائل قوم من الأعراب ينفقون تقربا إلى الله تعالى ومن أجل دعاء الرسول، أبان فضائل قوم أعلى منهم منزلة وأعظم، وهي منازل السابقين الأولين، ثم أتبعهم ببيان حال طائفة من منافقي المدينة وما حولها، وإن كانوا غير معلومين بأعيانهم، وحال طائفة أخرى خلطوا صالح العمل بسيئه وهؤلاء يرجى قبول توبتهم، ثم عاد بعدئذ لبيان حال طائفة أخرى يرجى أمر قبول توبتهم إلى الله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [الآية: 106] . التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن رضاه على أرفع منزلة في المسلمين وتفضيلهم على من عداهم، وهم السابقون الأولون، وهم ثلاث طبقات: الأولى: السابقون الأولون من المهاجرين الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، فتقدموا على غيرهم في الهجرة والنصرة. وأفضل هؤلاء الخلفاء الراشدون الأربعة، ثم العشرة المبشرون بالجنة، وأول السابقين من المهاجرين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن المعول عليه في السبق: الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة. والثانية: السابقون الأولون من الأنصار: وهم أصحاب بيعة العقبة الأولى

في منى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، ثم أصحاب بيعة العقبة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. والثالثة: التابعون للأولين بإحسان: أي بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة. وهؤلاء جميعا رضي الله عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فانقذهم من الشرك والضلال، ووفقهم إلى الخير، وهداهم إلى الحق، وأعزهم وأغناهم، وأعز بهم الإسلام، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز غيره، وهو فوز شامل، كما أن نعيم الجنة شامل للبدن والروح معا. ويلاحظ أن الاتباع المطلوب هو الاتباع بإحسان، أي إحسان الأعمال والنيات والظواهر والبواطن، أما الاكتفاء بظاهر الإسلام فلا يحقق شرط الإحسان. وحينئذ ينطبق عليهم قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] وقوله عز وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة 2/ 143] . ثم أخبر الله تعالى عن فئة المنافقين حول المدينة وفيها، فقال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ... أي إن في المدينة وما حولها مردة المنافقين الذين مرنوا على النفاق وأتقنوه، وثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا، وهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، الذين كانت منازلهم حول المدينة، وكان جماعة منهم آخرون في المدينة من الأوس والخزرج، لا تعلمهم أو لا تعرفهم بأعيانهم أيها النبي، ولا تعلم عاقبة أمورهم، وإنما نحن نختص بعلمها وبمعرفتهم، كما قال تعالى فيهم: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد 47/ 29- 30] . وقوله وَمِمَّنْ يشير إلى بعضهم، أما الآخرون فهم مؤمنون بدليل

ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وغفار موالي لله تعالى، لا موالي لهم غيره» وقال صلى الله عليه وسلّم أيضا داعيا لبعضهم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها، لكن قالها الله تعالى» . هؤلاء المنافقون سنعذبهم في الدنيا مرتين: بالفضيحة والمصائب في أموالهم وأولادهم أولا، ثم بآلام الموت وعذاب القبر ثانيا، أو بأخذ الأموال وإنهاك الأبدان. قال ابن عباس: بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة، فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة. ثم يكون لهم عذاب جهنم، وهو أشد العذاب. والغرض من الآية بيان مضاعفة العذاب عليهم. وهناك فريق آخر حول المدينة وفيها وهم: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي إنهم جماعة أقروا بمعاصيهم واعترفوا بها لربهم، ولهم أعمال آخر صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه، إن الله غفور لمن تاب، رحيم بمن أحسن وأناب: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] . وهذه الآية، وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين. قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه. وقال ابن عباس وآخرون: نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل: وسبعة معه، وقيل: وتسعة معه ... إلخ ما ذكر في سبب النزول.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: وهم الذين سبقوا إلى الهجرة قبل صلح الحديبية، وإلى النصرة في بيعتي العقبة الأولى والثانية. وقيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، أو أهل بدر. وأفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة المبشرين بالجنة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. ولا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: وهو التقدم في الصفة أو في الزمان أو في المكان، فالصفة: الإيمان، والزمن: لمن حصل في أوان قبل أوان، والمكان: من تبوّأ دار النصرة واتخذه بدلا عن موضع الهجرة. وأفضل هذه الوجوه: سبق الصفات. والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم. فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدا، والنصارى بعد غد» فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن من سبقنا من الأمم بالزمان، فجئنا بعدهم، سبقناهم بالإيمان، والامتثال لأمر الله تعالى، والانقياد إليه، والاستسلام لأمره، والرضا بتكليفه، والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه، ولا نختار معه، ولا نبدّل بالرأي شريعته، كما فعل أهل الكتاب، وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله «1» .

_ (1) أحكام القرآن: 2/ 990، 993

والصحابي في علم الحديث: كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والتابعي: من صحب الصحابي. قال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيّب، فقيل له: فعلقمة والأسود؟ فقال: سعيد بن المسيب، وعلقمة والأسود. وفي التابعين طبقة تسمى المخضرمين: وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأسلموا ولا صحبة لهم، وعددهم كما ذكر مسلم عشرون نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي. وممن لم يذكره مسلم: أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب، والأحنف بن قيس. لكن رجح الرازي: أن السبق ليس في زمن الإيمان أو الإسلام لأن لفظ السابق مجمل أو مطلق، يمكن حمله على السبق في سائر الأمور، لكن وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه: السابقون الأولون في الهجرة والنصرة، إزالة للإجمال عن اللفظ «1» . 2- الرضا الدائم عنهم لأن قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات، بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه، مثل وقت طلب الإمامة، ولأن ذلك الحكم معلل بكونهم سابقين في الهجرة، والسبق في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجوده، ولأن إعداد الجنات لهم يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات. وبعض العلماء أثبت هذا المدح لجميع الصحابة لأن كلمة مِنَ في قوله: مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ليست للتبعيض، بل للتبيين، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الجنة والرضوان. وشرط على التابعين شرطا هو أن

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 168- 169

يتبعوهم بإحسان في العمل: وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك. 3- الرضا عن التابعين والثواب إلى يوم القيامة مشروط باتباع الصحابة بإحسان، أي إحسان القول والعمل، فمن لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقا للرضوان من الله تعالى، ولا يكون من أهل الثواب لهذا السبب. 4- هناك قوم منافقون مردوا على النفاق، أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه، وهم قوم من الأعراب حول المدينة، يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع، وقوم من أهل المدينة أيضا. وهؤلاء لهم عذاب مضاعف: في الدنيا بالأمراض والمصائب، وفي الآخرة بالإصلاء (الإلقاء) في نار جهنم. وقيل: بالفضيحة في الدنيا، ثم عذاب القبر. وقيل بغير ذلك. والأولى في رأي الرازي حمل قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ على عذاب الدنيا بجميع أقسامه، وعذاب القبر، وأما قوله: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ يراد منه العذاب في يوم القيامة. 5- ومن أهل المدينة ومن حولها قوم أقروا بذنبهم، وآخرون مرجون لأمر الله، يحكم فيهم بما يريد. والصنف الأول: إما قوم من المنافقين، تابوا عن النفاق وما مردوا عليه، أو إنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا للكفر والنفاق، لكن للكسل، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا. ومجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة وإنما هو مقدمة للتوبة، فإذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل، كان ذلك توبة. وقد تاب هؤلاء لقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والمفسرون قالوا: إن (عسى) من الله يدل على الوجوب.

أخذ الصدقة وقبول التوبة والأمر بالعمل الصالح [سورة التوبة (9) الآيات 103 إلى 105] :

قال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة، وقال: وفيهم نزل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وهي الآية التالية. أخذ الصدقة وقبول التوبة والأمر بالعمل الصالح [سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 105] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) الإعراب: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ جملتان فعليتان في موضع نصب على الحال من ضمير خُذْ أو أن يكون تُطَهِّرُهُمْ وصفا لصدقة، وتزكيهم: حالا من ضمير: خُذْ. البلاغة: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فيه تشبيه بليغ، وأصله كالسكن، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه. أَلَمْ يَعْلَمُوا استفهام للتقرير في النفس، قصد به حثهم على التوبة والصدقة. وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ مجاز عن قبوله لها. المفردات اللغوية: صَدَقَةً ما ينفقه المؤمن قربة لله وَتُزَكِّيهِمْ بِها تنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل

سبب النزول نزول الآية (103) :

المخلصين، فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ادع لهم واستغفر سَكَنٌ أي تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم، والسكن في الأصل: ما تسكن إليه النفس وترتاح من منزل وأهل ومال ودعاء وثناء وَاللَّهُ سَمِيعٌ لاعترافهم عَلِيمٌ بندامتهم وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها التَّوَّابُ صيغة مبالغة، أي يقبل توبة عباده الرَّحِيمُ بهم، صيغة مبالغة أيضا. اعْمَلُوا ما شئتم وَسَتُرَدُّونَ بالبعث إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الله فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يجازيكم به سبب النزول: نزول الآية (103) : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن هؤلاء الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلّم من سواري المسجد لما اعترفوا بذنوبهم وتاب الله عليهم، وهم أبو لبابة وأصحابه، جاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية. فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلّم من أموالهم الثلث. قال الحسن البصري: وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم. وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة، وعلى هذا يكون قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ هو لجميع الأموال والناس، وهو عام يراد به الخصوص في الأموال، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالديار والثياب «1» . وهذا النص، وإن كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلّم، وذا سبب خاص، فهو عام يشمل خلفاء الرسول ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لذا قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب، حتى أدّوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الصدّيق: «والله لو منعوني عقالا- أو عناقا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأقاتلنهم على منعه» .

_ (1) البحر المحيط: 5/ 95

المناسبة وتعيين المراد بالصدقة:

المناسبة وتعيين المراد بالصدقة: إذا كان المقصود من كلمة صَدَقَةً كفارة الذنب الذي صدر من المتخلفين عن غزوة تبوك، كما قال الحسن البصري فيما تقدم، فالمناسبة بين هذه الآية وما قبلها واضحة لأن المراد علاج خطأ هذه الفئة من الناس، وتكون الآية خاصة بهم. ويمكن تعميم المراد بالآية بأن يقال: إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة، فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى. وأما إذا كان المقصود من الآية الزكوات الواجبة أو إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء، وهو رأي أكثر الفقهاء، وهو الصحيح، فالمناسبة تكون على النحو التالي: لما أظهر هؤلاء التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك، وأقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف هو حبهم للأموال، وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق، فكأنه قيل لهم: إنما تظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فإن أدوا تلك الزكوات عن طيب نفس، ظهر كونهم صادقين في توبتهم، وإلا فهم كاذبون. ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات. قال الجصاص: والصحيح أنها الزكوات المفروضة، إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس، سوى زكوات الأموال، وإذا لم يثبت بذلك خبر، فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس. ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوي الناس في الأحكام إلا من خصه دليل، فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة

التفسير والبيان:

على جميع الناس، غير مخصوص بها قوم دون قوم، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة. وقوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة لأن الزكاة المفروضة أيضا تطهر وتزكي مؤديها، وسائر الناس في المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم «1» . التفسير والبيان: خذ أيها الرسول وكل حاكم مسلم بعدك من أموال هؤلاء التائبين ومن غيرهم صدقة مقدرة بمقدار معين، تطهرهم بها من داء البخل والطمع، وتزكي أنفسهم بها، وتنمي بها حسناتهم، وترفعهم إلى منازل المخلصين. والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال، أي أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا للإنماء، وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «ما نقصت صدقة من مال» . وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم واستغفر وترحم، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم. والصلاة من الله على عباده: الرحمة، ومن ملائكته: الاستغفار، ومن النبي والمؤمنين: الدعاء. وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بما في ضمائرهم وبإخلاصهم في توبتهم وصدقاتهم وبما فيه الخير والمصلحة لهم. فالصدقة مطهرة للنفس، مرضاة للرب، وحصن للمال. ألم يعلم أولئك التائبون وجميع المؤمنين أن الله هو الذي يقبل توبة عباده،

_ (1) أحكام القران للجصاص: 3/ 148

ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ الصدقات أي يقبلها ويثيب عليها ويضاعف أجرها، كما قال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعِفْهُ لَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن 64/ 17] وفي الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة: «إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوّه» أي ولد الفرس، وهذا تمثيل لزيادة الأجر. وفي هذا حث على التوبة وإعطاء الصدقة سواء كانت فريضة أو تطوعا. قيل في سبب نزول هذه الآية: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلّمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصّوا بها فنزلت: أَلَمْ يَعْلَمُوا فالضمير في يَعْلَمُوا عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. وأن الله هو التواب الذي من شأنه قبول توبة التائبين، والتفضل عليهم، وهو الرحيم بعباده التائبين، الذي يثيبهم على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه 20/ 82] وقال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران 3/ 135] والتوبة مفيدة في تجديد همة النفس والعهد، ومحو الذنب. وقل أيها الرسول لهؤلاء التائبين ولغيرهم: اعملوا، فإن عملكم لا يخفى على الله وعباده، خيرا كان أو شرا، فالعمل أساس السعادة، وسيرى الله عملكم، ورسوله والمؤمنون باطلاعه إياهم على أعمالكم. وهذا وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار على الذنب والذهول عن التوبة، ولكل المخالفين أوامر الله، بأن أعمالهم ستعرض عليه تعالى، وعلى الرسول، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] . وقال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد والبيهقي عن أبي سعيد الخدري: «لو أن

فقه الحياة أو الأحكام:

أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوّة، لأخرج الله عمله للناس، كائنا ما كان» وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما قال أبو داود الطيالسي، روي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك» . وستردون يوم القيامة إلى الله الذي يعلم سرائركم وعلانيتكم، يعلم الغائب والحاضر، والباطن والظاهر، فيعرفكم أعمالكم، ثم يجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا كلام جامع للترغيب والترهيب. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام الثلاثة التالية: 1- فرضية أخذ الصدقات وهي الزكوات الواجبة لتطهير النفوس وتزكيتها وتنمية الأموال والبركة فيها. وأن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلّم شفاعة وطمأنينة. 2- قبول الله توبة التائبين بحق أي التوبة الصحيحة، وقبول الصدقات الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها، وسمى تعالى نفسه باسم اللَّهُ لينبه على أن كونه إلها يوجب قبول التوبة، والتخصيص بالله يدل على أن قبول التوبة وردها إلى الله، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم. 3- كل إنسان مجزي بعلمه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والعمل مشهود عند الله ورسوله والمؤمنين، وفي ذلك وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعلى المؤمنين، في عالم البرزخ، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] .

لكن آية: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ عامة في أصناف الأموال، لم تبين نوع المال المأخوذ منه ولا مقدار المأخوذ، فيقتضي الظاهر أن يؤخذ من كل صنف بعضه لأن مِنْ أَمْوالِهِمْ تقتضي التبعيض، فدلت الآية على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال، لا كلها، لكن البعض غير مذكور هنا صراحة في اللفظ، فجاءت السنة والإجماع لبيان مقدار المأخوذ والمأخوذ منه، ومقادير الأنصبة ووقت الاستحقاق، ويكون لفظ الزكاة مجملا في هذه الوجوه كلها، مفتقرا إلى البيان فيما ذكر كما قال الجصاص. وقد نص القرآن على زكاة الذهب والفضة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة 9/ 34] ونص أيضا على زكاة الزروع والثمار في قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ إلى قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام 6/ 141] وأوضحت السنة زكاة سائر الأموال الأخرى التي تجب فيها الزكاة، وهي عروض التجارة، والأنعام السائمة (الإبل والبقر والغنم) وبينت مقاديرها وأنصبتها روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة» «1» . وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من الفضة، وهي الخمس الأواق المنصوصة في الحديث، حولا كاملا، فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم. وإنما اشترط الحول لما أخرجه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلّم: «ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وما زاد على المائتي درهم من الفضة فبحساب ذلك في كل شيء منه ربع عشره، قل أو كثر.

_ (1) الخمسة أوسق 653 كغ، والورق: الفضة، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة.

وأما زكاة الذهب فتجب في رأي جمهور العلماء إذا كان الذهب عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم، فما زاد، عملا بحديث علي الذي أخرجه الترمذي. وأما زكاة الغنم ففي كل أربعين شاة شاة، على ما جاء في كتاب الصّديق لأنس لما وجهه إلى البحرين، وأخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وزكاة البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنّة لما رواه الدارقطني والترمذي عن معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن. ولا زكاة في رأي الجمهور على الأنعام إلا إذا كانت سائمة ترعى في البراري ونحوها لما روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ليس في البقر العوامل صدقة» وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسّنة» وروى أبو داود والدارقطني عن علي «ليس على العوالم شيء» وفي حديث البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب لأبي بكر الصديق كتابا في الصدقات، جاء فيه: «صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، فيها شاة» فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة. وقال مالك والليث: في العوامل صدقة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلّم في حديث أنس المتقدم: «في خمس من الإبل شاة» والجواب: ذلك مخصوص بالأحاديث المتقدمة. وظاهر عموم هذه الآية يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان أي الكفالة. وأما قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فقال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلّم، أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم. وظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن

الآثام، وبما أن الإثم لا يتقرر إلا في حق البالغ، فوجب ألا تجب الزكاة في حق الصغير، كما قال أبو حنيفة رحمه الله. وأوجب الجمهور الزكاة في مال الصبي والمجنون، لأن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم، فتكون طهرة للأموال. وظاهر قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق بالبركة، وهذا رأي الظاهرية. وأما سائر الأئمة فحملوا الأمر على الندب والاستحباب لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» ولم يأمره بالدعاء لهم، ولأن الفقراء إذا أخذوا الزكاة لا يلزمهم الدعاء. ومع هذا، روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم: قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته، فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» والصلاة هنا: الرحمة والترحم. وبناء عليه قال الحنابلة والظاهرية في صيغة الدعاء: لا مانع أن يقول آخذ الزكاة: اللهم صل على آل فلان. وقال باقي الأئمة: لا يجوز هذا القول لأن الصلاة صارت مخصوصة بالأنبياء عليهم السلام. ولا خلاف أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم، فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه لأن السلف استعملوه، وأمرنا به في التشهد. والسلام في حكم الصلاة لأن الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب على غير الأنبياء. أما استحباب السلام في مخاطبة الأحياء تحية لهم وفي تحية الأموات فهو ثابت في السنة. واستحسن الشافعي أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت.

الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة عليهم [سورة التوبة (9) آية 106] :

وقوله: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ دليل على كونه تعالى رائيا للمرئيات، ودليل لأهل السنة أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، أي إبصاره لأن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. والعمل المرئي يشمل أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار، وأعمال الجوارح، كالحركات والسكنات. وقوله تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلّم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل الأئمة بعده، كما تقدم. روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، ويَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وفي صحيح مسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فتربو في كفّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل» . وهذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض، تعطفا عليه بقوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني» . وخصّ اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه، أو يوضع له فيه فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزّه عن الجارحة. الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة عليهم [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَآخَرُونَ من المتخلفين مُرْجَوْنَ مؤخرون عن العقوبة، وموقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم بأن يأمر فيهم بما شاء إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بأن يميتهم بلا توبة وإما يتوب عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه. سبب النزول: قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وآخرون: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية من بني واقف، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا. وكان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة «1» : 1- المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين. 2- التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا فتاب الله عليهم، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وهم أبو لبابة وأصحابه، فنزلت توبتهم. 3- الذين بقوا موقوفين وهم المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم عن تخلفهم، وأرجؤوا توبتهم، فلم يربطوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله الحكم في أمرهم، فوقف أمرهم خمسين ليلة، وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، والذين نزلت فيهم هذه الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة 9/ 118] . التفسير والبيان: وآخرون من المتخلفين موقوفون مرجون أي مؤخرون لأمر الله في شأنهم،

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 191 [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

ولا يدري الناس ما ينزل فيهم، هل يتوب الله عليهم أولا، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن، إلى أن نزل قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إلى قوله- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. [التوبة 9/ 118] . هؤلاء في هذه الآية أمرهم متردد بين أمرين: التعذيب والتوبة. وقد ترك أمرهم غامضا، لا للشك، فالله تعالى منزه عنه، وإنما ليكون أمرهم على الخوف والرجاء، وإثارة الغم والحزن في قلوبهم، ليقدموا على التوبة، ويصير أمرهم عند الناس على الرجاء، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذرا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم. ولا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو، فلم يحكم تعالى بكونهم تائبين لأن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة، ثم ندموا على المعصية لكونها معصية، فصحت توبتهم. والله عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، وبما يصلح عباده ويربّيهم، حكيم في أفعاله وأقواله، وفيما يشرعه لهم من الأحكام المؤدية لهذا الصلاح. ومن حكمته: إرجاء النص على توبتهم. فقه الحياة أو الأحكام: إن الحكمة الإلهية قد تقتضي البت في شأن بعض العباد، وقد ترجئ ذلك، ليظل الناس في أمل ورجاء ورهبة وخوف، وقد أثمرت هذه الحكمة في دفع هؤلاء المخلفين عن التوبة إلى مزيد من الشعور بالقلق والاضطراب والخوف والهلع، وكادوا يحسون باليأس من قبول عذرهم، حتى أنزل الله في شأنهم ما يدل على قبول توبتهم في قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.... وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ دليل على أنه لا حكم إلا أحد

مسجد الضرار (مسجد المنافقين) ومسجد التقوى (مسجد قباء) [سورة التوبة (9) الآيات 107 إلى 110] :

هذين الأمرين، وهو إما التعذيب وإما التوبة. أما العفو عن الذنب من غير توبة فغير معتبر. مسجد الضّرار (مسجد المنافقين) ومسجد التّقوى (مسجد قباء) [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) الإعراب: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا عطف على وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أو مبتدأ، وخبره: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ، أو خبره محذوف، أي وفيمن وصفنا أو ممن ذكرنا الذين اتّخذوا، أو كما رجح أبو حيان منصوب على الاختصاص، كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء 4/ 162] . ضِراراً إما منصوب على المصدر أي مضارّة للمؤمنين، وإما مفعول به، وما بعده من المنصوبات عطف عليه. مِنْ قَبْلُ متعلق بحارب أو باتّخذوا، أي اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتّخلف، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فيه مضاف محذوف، تقديره: من تأسيس أول يوم لأن مِنْ

البلاغة:

لا تدخل على ظروف الزمان. ويرى الكوفيون أنها تدخل على ظروف الزمان، فلا تحتاج إلى تقدير مضاف. هارٍ صفة، أصله هائر، فقلب، كما قالوا: لاث في لائث، وشاك في شائك. وحذفت الياء كما حذفت في نحو قاض ورام في الرّفع والجّر. أَفَمَنْ أَسَّسَ من: بمعنى الذي مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ. البلاغة: هارٍ فَانْهارَ بينهما جناس ناقص. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى استعارة مكنية، حيث شبهت التّقوى والرّضوان بأرض صلبة يقوم عليها البناء، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو التّأسيس. والاستفهام معناه التّقرير. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ مصدر أريد به اسم المفعول. المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ أي ومنهم الذين اتّخذوا مسجد الضّرار. وهم اثنا عشر من المنافقين. ضِراراً مضارّة لأهل مسجد قباء، والضّرار: إيقاع الضّرر بالغير ولا منفعة لك فيه، والضرر: إيقاع الضّرر بالغير وفيه لك منفعة. وكلاهما ممنوع للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار» . وَكُفْراً لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الرّاهب، ليكون معقلا له، يقدم فيه من يأتي من عنده، وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر، لقتال النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين يصلّون بقباء، بصلاة بعضهم فيه، أي الذين يجتمعون للصّلاة في مسجد قباء. وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا مع العداوة. لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائه، وهو أبو عامر الراهب. إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببنائه. إِلَّا الْحُسْنى الفعلة أو الخصلة أو الإرادة الحسنى من الرّفق بالمسكين في المطر والحرّ والتّوسعة على المسلمين. إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم ذلك، وكانوا سألوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، فنزل: لا تَقُمْ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لا تصلّ فيه أبدا، فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة. والتأسيس: وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي بني من

سبب النزول:

أول أيام وجوده، يوم حللت بدار الهجرة، وهو مسجد قباء، كما في البخاري. والتّقوى: ما يرضي الله ويبقي من سخطه. أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أجدر بأن تقوم فيه. فِيهِ رِجالٌ هم الأنصار. يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي يثيبهم. عَلى تَقْوى مخافة من الله. وَرِضْوانٍ ورجاء رضوان منه وهذا مثال مسجد قباء. عَلى شَفا طرف أو حرف أو حدّ. جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه. هارٍ مشرف على السقوط. فَانْهارَ بِهِ سقط مع بانيه. فِي نارِ جَهَنَّمَ وهذا تمثيل للبناء على غير التقوى بما يؤول إليه، وهو مثال مسجد الضّرار. رِيبَةً شكّا وحيرة. تَقَطَّعَ تنفصل وتنفرق قلوبهم أجزاء، بأن يموتوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه. حَكِيمٌ في صنعه بهم. سبب النزول: نزول آية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا: قال المفسّرون: إن بني عمرو بن عوف وهم من الأوس اتّخذوا مسجد قباء «1» ، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وهم من الخزرج، وقالوا: نبي مسجدا، ونبعث إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلّي لنا فيه، كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشّام فأتوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلّة، والليلة المطيرة، ونحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة. فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّي على سفر وحال شغل، فلو قدمنا لآتيناكم، وصلّينا لكم فيه» .

_ (1) لما هاجر النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، نزل أولا قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس. وقباء: قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الاثنين إلى الجمعة، وأسس مسجد قباء.

فلما انصرف النّبي صلى الله عليه وسلّم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه، وصلّوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضّرار. فدعا النّبي صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدّخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السّكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه» . فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدّخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا. وأما أبو عامر الراهب: فهو رجل من الخزرج، كان قد تنصّر، وكان له منزلة كبيرة في أهل الكتاب، فلما قدم النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرا، واجتمع عليه المسلمون، وعلت كلمة الإسلام، خرج فارّا إلى مكة، وألّب المشركين على المسلمين في وقعة أحد. ولما فرغ الناس من الموقعة فرّ إلى هرقل ملك الرّوم يستنصره، فوعده وحباه. وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النّفاق: أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتّخذوا له معقلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. والخلاصة: أن هذا المسجد بناه اثنا عشر رجلا من المنافقين، بمشورة أبي عامر الرّاهب، ولقي هوى في نفوس أبناء عمّ بني عمرو بن عوف، لينافسوهم على تأسيس مسجد قباء، ومضاهاتهم به، وليكون مقرّا لأبي عامر إذا قدم، ليكون إمامهم فيه.

المناسبة:

سبب نزول: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا: أخرج التّرمذي عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: فِيهِ رِجالٌ ... قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عويم بن ساعدة، فقال: «ما هذا الطّهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال: يا رسول الله، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال: مقعدته، فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «هو هذا» . وقيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومعه المهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أمؤمنون أنتم؟» فسكتوا، فأعادها، فقال عمر: إنهم مؤمنون، وأنا معهم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أترضون بالقضاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في الرّخاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصّلاة والسّلام: «أنتم مؤمنون، وربّ الكعبة» فجلس، ثم قال: «يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء، وعند الغائط؟» ، فقالوا: يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين وطرائقهم المختلفة في النّفاق، قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ...

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ومن المنافقين الذين ذكرناهم جماعة بنوا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج، لأسباب أربعة هي: 1- مضارّة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه النّبي صلى الله عليه وسلّم بمجرد وصوله إلى المدينة. 2- الكفر بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام وبما جاء به، وللطعن عليه وعلى الإسلام، واتّخاذه مقرّا للكيد والتّآمر على المسلمين، فصار مركز الفتنة، وبيت النّفاق، ومأوى المنافقين، للتّهرّب من أداء الصّلاة. وهذا كفر، لأن الكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان. 3- التّفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلّون خلف النّبي صلى الله عليه وسلّم في مسجد واحد، فإذا صلّى فيه بعضهم، حدثت الفرقة، وبطلت الألفة، وتفرّقت الكلمة. لذا كان الأصل أن يصلّي المسلمون في مسجد واحد، ويكون تكثير المساجد لغير حاجة منافيا لأغراض الدّين وأهدافه. 4- الإرصاد، أي التّرقب والانتظار لمجيء من حارب الله ورسوله إليه، ويتّخذه مقرّا له، ومكانا لقوم راصدين مستعدين للحرب معه، وهم المنافقون الذين بنوا هذا المسجد. والمقصود بمن حارب الله ورسوله كما ذكر في سبب النزول: هو أبو عامر الراهب من الخزرج، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق ، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وترهّب وطلب العلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاداه، لأنه زالت رياسته، وقال للرّسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين،

فلما انهزم مع هوازن، هرب إلى الشّام، ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات بقنّسرين (بلد في شمال سوريا) وحيدا. وقيل: كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب، فلما انهزموا خرج إلى الشّام. فذهاب أبي عامر إلى هرقل كان إما بعد يوم أحد، أو بعد يوم حنين، أو بعد يوم الأحزاب (الخندق) بحسب ما دلّت عليه الرّوايات. وليحلفن هؤلاء المنافقون: ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهي الرّفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أهل الضّعف والعجز، وفي أثناء المطر ليصدقهم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، وليصلّي معهم فيه، تغريرا لبقية المسلمين، والله تعالى يعلم أنهم لكاذبون في أيمانهم وادّعائهم، منافقون في أعمالهم، وقد أطلع رسوله بذلك، فمعنى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ..: أنه يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه. وبما أنهم بنوه للضّرر والإساءة نهى الله تعالى بوحيه إلى جبريل أن يصلّي فيه والأمّة تبع له في ذلك، فقال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصلّي فيه أبدا، وقد يعبر عن الصّلاة بالقيام، يقال: فلان يقوم الليل، ومنه الحديث الصحيح لدى البخاري: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» . ويلاحظ استعمال الظّرف أَبَداً الذي يستغرق الزمن المستقبل كله لاتّصاله بلا النافية، فيفيد العموم. ثم حثّه على الصّلاة في مسجد قباء لأمرين: الأول- أنه بني على التّقوى، أي الذي أسس من أول يوم بنيانه على التّقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله، وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله، فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ... أي إن المسجد المؤسس على التقوى، تقوى الله، بإخلاص

العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والعمل على وحدة الإسلام، أولى وأحق من غيره بالصّلاة فيها أيها الرّسول. والمراد به كما جاء في صحيح البخاري، وكما دلّ عليه السياق والقصة: مسجد قباء، لهذا جاء في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» . لكن روى أحمد ومسلم والنسائي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم سئل عنه، فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة. ولا مانع من إرادة المسجدين لأن كلّا منهما قد بني على التّقوى، من أول يوم بدئ ببنائه. الثاني- إن في هذا المسجد رجالا يحبّون أن يتطهّروا طهارة معنوية: وهي التّطهر عن الذّنوب والمعاصي، وطهارة حسية للثوب والبدن بالوضوء والاغتسال، وبالماء بعد الحجر في الاستنجاء، وهذا النوع الأخير هو قول أكثر المفسّرين، والأولى إرادة نوعي التّطهّر. والله يحبّ المطّهّرين، أي المبالغين في الطّهارة الرّوحية المعنويّة والجسديّة البدنيّة، وهؤلاء هم الكمّل بين النّاس. قال البيضاوي: فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله، وقيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها. والله يحبّ المطهّرين: يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحبّ حبيبه. وقال في الكشّاف: محبّتهم للتّطهّر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهي له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم، ويحسن إليهم، كما يفعل المحبّ بمحبوبه «1» .

_ (1) الكشّاف: 2/ 58

فمحبة الله عباده: معناها الرّضا والقبول والإدناء لأنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة صفاتنا، فحبّه غير حبّنا، وهو شيء يليق بكماله تعالى، كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» . والحبّ في هذه الآية يشبه أيضا حبّ الله تعالى في تطهير آل بيت النبّوة في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب 33/ 23] . ثم قارن الله تعالى بين أهداف بناء المسجدين فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ... أي لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، أي على أساس متين نافع في الدّنيا والآخرة، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار، أي ساقط، وجرف: جانب الوادي الذي ينحفر بالماء، والمعنى: على طرف حفرة أو واد، أي أساس ضعيف منهار، مشرف على السقوط، فإذا أنهار فإنما ينهار في قعر جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين أي لا يصلح عمل المفسدين، ولا يوفقهم إلى الحق والعدل والسّداد والصّواب وما فيه صلاحهم ونجاتهم، قال الرّازي «1» : ولا نرى في العالم مثالا أجدر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال! وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم. وقوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل: إن ذلك حقيقة، أي إنه

_ (1) تفسير الرّازي: 16/ 197

فقه الحياة أو الأحكام:

موضع من مواضع جهنم، وقيل: إنه مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه أنهار إليه وهوى فيه. ثم أبان الله تعالى ما يجسّده إقامة المنافقين مسجد الضّرار من معان سيئة ثابتة راسخة على ممرّ التاريخ، فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ.. أي لا يزال بناؤهم هذا وهدمه سبب شكهم في الدّين، وتزايد نفاقهم لأنه يجسّد آثار النّفاق والكفر، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبّه، وأصبح وسمه لا يزول عن قلوبهم، فلا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا في حال تقطع قلوبهم أجزاء، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أي بموتهم، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة. والمراد أن هذا البناء الذي فرحوا به مصدر استلهام الشّكوك في الدّين، ومظهر تجسيد الكفر والنّفاق الجاثم في نفوسهم، فحينما أمر النّبي صلى الله عليه وسلّم بهدمه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وازداد ارتيابهم في نبوّته، وعظم خوفهم، وارتابوا في أمرهم: هل سيتركون أو يقتلون؟ فكان ذلك البنيان نفسه ريبة، لكونه سببا للرّيبة، وظهرت سببيّته للرّيبة بتخريبه وهدمه. والله عليم بأعمال خلقه، حكيم في مجازاتهم عنها من خير أو شرّ، ومن حكمته تبيان حال المنافقين وإظهار ما خفي من أمرهم، لمعرفة الحقائق. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- من المنافقين جماعة أقاموا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء لمقاصد أربعة: محاولة الضّرار، والكفر بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وتفريق جماعة المؤمنين، واتّخاذه معقلا لمن عادى الله ورسوله.

والمقصود في الضّرار بالمسجد من أهله، وليس لذات المسجد ضرار. 2- كانت أيمانهم على حسن النّيّة، وسلامة القصد كاذبة. 3- قال المالكية: كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصّلاة فيه. ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول، فيبقى شاغرا، إلا إذا كانت البلدة كبيرة، وأهلها كثيرين، ولم يعد يكفيهم مسجد واحد، فيبنى حينئذ. ولا ينبغي أن يبنى في البلد الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه «1» . 4- قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلّى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن عمر بن الخطّاب في خلافته لم يأذن لمجمّع بن جارية أن يصلّي إماما في مسجد قباء لأنه كان إمام مسجد الضّرار، ثم أذن له لمّا تبيّن أنه كان جاهلا بما أضمر عليه المنافقون. 5- إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره، فكلّ ما فيه ضرر يزال ويهدم، كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضّرر على الغير. والضابط: أن من أدخل على أخيه أو جاره ضررا منع، وهذا ما يسمّى حديثا عند القانونيين: نظرية التّعسّف في استعمال الحقّ. وقد سبق فقهاء المالكية وغيرهم إلى تقرير هذه النّظرية. 6- الكفر العملي: قال ابن العربي: لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النّبي صلى الله عليه وسلّم، كفروا بهذا الاعتقاد. 7- دلّ قوله تعالى: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ على أنّ المقصد الأسمى من

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 254

وجود الجماعة تأليف القلوب واتّحادهم على الطّاعة، حتى يأنسوا بالمخالطة، وتصفو القلوب من الأحقاد. واستنبط مالك من هذه الآية: أنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء. 8- دلّ قوله تعالى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، على أن الأفعال تختلف باختلاف المقصود والإرادة. 9- تحريم الصّلاة في مسجد الضّرار لقوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً يعني مسجد الضّرار. 10- أحقيّة مسجد التّقوى بالصّلاة فيه، والتّقوى: هي الخصال التي تتّقى بها العقوبة. 11- ترغيب الإسلام بالنّظافة المعنوية (السّلامة من الأحقاد وصفاء النّفس وصحّة الإيمان) والنظافة البدنيّة (بالوضوء والاغتسال وإزالة النّجاسة عن الثّوب والبدن والمكان) لأن الله تعالى في هذه الآية أثنى على من أحبّ الطّهارة وآثر النّظافة. وللعلماء في إزالة النّجاسة ثلاثة أقوال: الأول- أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلّى بثوب نجس، عالما كان أو ساهيا، وهو قول الشّافعي وأحمد، وروي عن مالك. الثاني- إن كانت النّجاسة قدر الدّرهم أعاد الصّلاة. وقدر الدّرهم قياس على حلقة الدّبر. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. الثالث- إزالة النّجاسة من الثياب والأبدان سنّة وليس بفرض، وهو قول آخر لمالك وأصحابه.

قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري ومسلم- مرّ على قبرين، فقال: «إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنّميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله» ولا يعذّب الإنسان إلا على ترك واجب. وروى أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أكثر عذاب القبر من البول» . واحتجّ الآخرون بخلع النّبي صلى الله عليه وسلّم نعليه في الصّلاة لما أعلمه جبريل عليه السّلام أنّ فيهما قذرا وأذى «1» . ولما لم يعد ما صلّى دلّ على أنّ إزالة النّجاسة سنّة، وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت، طلبا للكمال. 12- دلّت آية: أَفَمَنْ أَسَّسَ.. على أن كلّ شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم، هو الذي يبقى، ويسعد به صاحبه، ويصعد إلى الله ويرفع إليه: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف 18/ 46] . 13- كان مسجد الضّرار سببا لريبة المنافقين، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به، ولما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلّم بتخريبه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وزاد ارتيابهم في نبوّته. وظلّ ذلك الرّيب في قلوبهم حتى الموت.

_ (1) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

صفات المؤمنين الصادقين الكمل وهم المجاهدون التائبون العابدون [سورة التوبة (9) الآيات 111 إلى 112] :

صفات المؤمنين الصادقين الكمّل وهم المجاهدون التائبون العابدون [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) الإعراب: التَّائِبُونَ إما بدل من واو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم التائبون، أو مبتدأ وخبره: الْآمِرُونَ وما بعده. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف. البلاغة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى استعارة تبعية، شبه بذلهم الأنفس والأموال وإثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء. ولا يجوز أن يشتري الله شيئا في الحقيقة لأن الله مالك لكل شيء. ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها. فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ بينهما جناس ناقص، لاختلاف الشكل. فَاسْتَبْشِرُوا فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.

المفردات اللغوية:

الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلون، فيه مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الإظهار في موضع الإضمار أي بشرهم للتكريم والاعتناء بهم، وللتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل: من اتصف بتلك الصفات. المفردات اللغوية: اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... بأن يبذلوها في طاعته كالجهاد، وهذا تمثيل مثل قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة 2/ 16، 175] . يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. جملة استئناف بيان للشراء. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى منه. وَذلِكَ المبيع. هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ المحقق غاية المطلوب. الْعابِدُونَ المخلصون العبادة لله. الْحامِدُونَ له على كل حال. السَّائِحُونَ الصائمون. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ المصلون. وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لأحكامه بالعمل بها. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالجنة. سبب النزول: نزلت هذه الآية لما بايع الأنصار- وكانوا سبعين رجلا- رسول الله صلى الله عليه وسلّم في البيعة الثالثة، وهي بيعة العقبة الكبرى، وكان أصغرهم سنّا عقبة بن عمرو. أخرج ابن جرير عن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة» قالوا: ريح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. الآية. المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأبان أصناف المقّصرين من المؤمنين، ذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وأولها الجهاد في سبيل الله.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآية تمثيل قصد به الترغيب في الجهاد، عبّر فيه تعالى عن بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم وإثابتهم بالجنة، كرما وفضلا وإحسانا، عبر عن ذلك بالشراء والمعارضة، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم. والمعنى: إن الله تعالى اشترى من المؤمنين الأنفس والأموال بثمن هو الجنة، أي مثّل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بصفقة الشراء. ثم استأنف بيان ما لأجله تم الشراء، وكيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقال: يقاتلون في سبيل الله فيقتلون الأعداء، أو يستشهدون في سبيل الله، فسواء قتلوا أو قُتلوا أو اجتمع الأمران، فقد وجبت لهم الجنة. ثم أكد الله تعالى وعده وإخباره بقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا.. أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا ثابتا مقررا فيما أنزله على رسله في التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وضياع التوراة والإنجيل وتحريفهما لا ينفي وقوع ذلك، فقد أثبته الله في القرآن الذي جعله مصدقا لتلك الكتب ومهيمنا عليها. ومن أوفى بعهده من الله؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء 4/ 87] وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء 4/ 122] . وهذا مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا. وإذا كان الوفاء بالعهد مؤكدا على هذا النحو، فأظهروا غاية السرور والفرح على ما فزتم به من الجنة، ثوابا من الله وفضلا وإحسانا على بذلكم أنفسكم وأموالكم لله. وذلك الفوز هو الفوز العظيم والنعيم المقيم الذي لا فوز أعظم منه.

وهؤلاء المؤمنون المذكورون الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله هم التائبون عن الكفر حقيقة، الراجعون إلى الله، بتركهم كل ما ينافي مرضاته، والتوبة تختلف باختلاف نوع المعصية، فالتوبة عن الكفر بالرجوع عنه، وتوبة المنافق بترك نفاقه، وتوبة العاصي: بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله في المستقبل، وتوبة المقصر في شيء: بالتعويض عن تقصيره، وتوبة الغافل عن ربه: بالإكثار من ذكره وشكره. وهم العابدون: الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، الحامدون لنعمائه، أو لما نالهم من السّراء والضراء، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه الأمر يسّره قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الحمد الله على كل حال» . السائحون في الأرض للجهاد أو لطلب العلم أو للرزق الحلال، أو الصائمون، لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة: «السائحون هم الصائمون» لأنه يعوق عن الشهوات واللذات، كما أن السياحة كذلك غالبا، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت. الراكعون الساجدون أي المؤدون صلواتهم المفروضة، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما ولما فيهما من الدلالة على التذلل والتواضع لله تعالى. الآمرون بالمعروف أي الداعون إلى الإيمان والطاعة، والناهون عن المنكر أي عن الشرك والمعاصي. والعاطف الواو هنا للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين. والحافظون لحدود الله أي الحافظون لفرائض الله وشرائعه وأحكامه، وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل لها، فمن اتصف بتلك الصفات كان حافظا حدود الله. وذكرت الواو هنا لقربه من المعطوف عليه وهو: وَالنَّاهُونَ عَنِ

فقه الحياة أو الأحكام:

الْمُنْكَرِ . وقيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له. وجزاؤهم المعبر عنه بقوله: بشر أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الفضائل بخيري الدنيا والآخرة. وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- إن ثواب الجهاد في سبيل الله بالمال أو النفس أو بهما معا هو الجنة. وقد دل الله تعالى على هذا المعنى من طريق المجاز، بتمثيل المبذول وعوضه بصفقة بيع وشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال. وأكد تعالى منحه الثواب والجنة بمؤكدات عشرة هي: كون المشتري هو الله، وإيصال الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد، وقوله: وعدا، ووعد الله حق، وإثباته في الكتب الكبرى: التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا يتضمن إشهاد جميع الكتب وجميع الرسل والأنبياء على هذه المبايعة، وقوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ وهو غاية في التأكيد، وقوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ وهو أيضا مبالغة في التأكيد، وقوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ وقوله: الْعَظِيمُ. 2- قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين، كذلك اشترى من الأطفال، فآلمهم وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، لأن هؤلاء يكونون أكثر صلاحا وأقل فسادا عند ألم الأطفال، ثم يعوض الله عز وجل هؤلاء الأطفال عوضا حسنا. 3- القتال في سبيل الله وحده ومن أجل مرضاته هو المستحق لهذا الجزاء وهو الجنة.

4- تشريع الجهاد أو مقاومة الأعداء قديم من عهد موسى عليه السّلام. 5- لا أحد أوفى بعهده من الله، وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، لكن وعده للجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين، وببعض الذنوب، وفي بعض الأحوال. 6- قال الحسن عن آية: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ ... : والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة. 7- آية التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ذكرت أوصافا تسعة، بعد صفة المجاهدين، فتكون أوصاف المؤمنين الكّمل عشرة، والآيتان مرتبطتان ببعضهما، لا مستقلتان. قال ابن عباس: لما نزل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية، قال رجل: يا رسول الله، وإن زنى، وإن سرق، وإن شرب الخمر، فنزلت التَّائِبُونَ الآية «1» . والأوصاف التسعة هي: الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله، المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه، والراضون بقضاء الله، المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال، الصائمون، وسمي الصائم سائحا لأنه يترك اللذات كلّها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة المكتوبة وغيرها الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان أو بالسنة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ من الكفر والبدعة والمعصية وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي القائمون بما أمر به، والمنتهون عما نهى عنه.

_ (1) البحر المحيط: 5/ 103

الاستغفار للمشركين وشرط المؤاخذة (العقاب) على الذنوب [سورة التوبة (9) الآيات 113 إلى 116] :

هذه أوصاف المؤمنين الكلمة، ذكرها الله، ليتسابق المؤمنون في الاتصاف بها. 8- الحافظون لحدود الله تشمل جميع التكاليف الشرعية، سواء ما يتعلق منها بالعبادات أو بالمعاملات. وأما تفصيل الصفات التسع قبلها، فلأنها أمور تلازم المكلف غالبا. 9- قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ للتنبيه على أن البشارة المذكورة لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات. الاستغفار للمشركين وشرط المؤاخذة (العقاب) على الذنوب [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) البلاغة: لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ بينهما طباق. وكذلك بين يُحْيِي وَيُمِيتُ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: أَنْ يَسْتَغْفِرُوا يطلبوا المغفرة. أُولِي قُرْبى ذوي قرابة. أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار، بأن ماتوا على الكفر. مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم 19/ 47] رجاء أن يسلم. أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بموته على الكفر. تَبَرَّأَ مِنْهُ وترك الاستغفار

سبب النزول:

له. لَأَوَّاهٌ كثير التضرع والتأوه والدعاء. حَلِيمٌ صبور على الأذى لا يغضب. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع معاداته له لِيُضِلَّ قَوْماً ليسميهم ضلالا أو يؤاخذهم. بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام. ما يَتَّقُونَ من العمل أي يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، فإذا لم يتقوه استحقوا الإضلال. عَلِيمٌ يعلم كل شيء، ومنه مستحق الإضلال والهداية. مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره. مِنْ وَلِيٍّ يحفظكم منه. وَلا نَصِيرٍ يمنعكم من ضرره. سبب النزول: أخرج أحمد والشيخان وابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لما حضر أبا طالب الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم: قل: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى آخر شيء كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية. وأنزل في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية [القصص 28/ 56] . وظاهر هذا أن الآية نزلت بمكة ولأن أبا طالب مات بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. ونظرا لأن هذه السورة مدنية، فقد استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب. وأخرج الترمذي وحسنه الحاكم عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك، وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه، وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن ابن مسعود قال: خرج

المناسبة:

رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا، ثم بكى فبكيت لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل الله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. وأخرج أحمد وابن مردويه، واللفظ له، من حديث بريدة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم، إذ وقف على عسفان، فأبصر قبر أمه، فتوضأ وصلى وبكى، ثم قال: استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فأنزل الله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكّركم الموت» . دلت الروايات على أن سبب النزول أبو طالب أو أم النبي، أو رجل مسلم يستغفر لأبويه. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون لنزول الآية أسباب: متقدم، وهو أمر أبي طالب، ومتأخر، وهو أمر آمنة، وقصة علي وجميع غيره بتعدد النزول. المناسبة: كان موضوع سورة التوبة من أولها إلى هنا إعلان البراءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، ثم بيّن هنا أنه تجب البراءة أيضا من أمواتهم، وإن كانوا أقرب الناس إلى الإنسان كالأب والأم، كما وجبت البراءة من أحيائهم. والمقصود بيان وجوب مقاطعتهم في الحالات كلها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ما ينبغي للنبي والمؤمنين، وليس من شأنهم أن يستغفروا أو يدعو الله بالمغفرة للمشركين، أو معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي «1» لأن النبوة والإيمان مانعان من الاستغفار للمشركين، ولا تستغفروا، والمعنيان متقاربان، وسبب المنع قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 9/ 113] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 116] . والمنع حتى ولو كانوا من أقرب المقربين، قياما بحق البر والصلة والشفقة عليهم. من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أي أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار، وهذه العلة لا تفرّق بين الأقارب والأباعد. قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم، فإنه طلب توفيقهم للإيمان، وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر، فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ ... أما استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه آزر بقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء 26/ 86] أي وفقه للإيمان، فكان بسبب صدور وعد سابق على المنع، إذ قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم 19/ 47] أي لا أملك إلا الدعاء لك. وكان من خلق إبراهيم الوفاء: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم 53/ 37] .

_ (1) قال أهل المعاني: ما كانَ في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل 27/ 60] والآخر بمعنى النهي كقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب 33/ 53] وكهذه الآية.

فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، بأن مات على الكفر، أو أوحي إليه فيه بأنه لن يؤمن، تبرأ منه، وقطع استغفاره له، إن إبراهيم لأوّاه أي لكثير التأوه والتحسر، أو لكثير التضرع والدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلّم: «الأواه: الخاشع المتضرع» وهو كناية عن فرط رحمته، ورقة قلبه، حليم: صبور على الأذى. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له، مع معاداته له وسوء خلقه معه، بدليل أنه أي آزر قال لإبراهيم: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم 19/ 46] . ثم رفع الله تعالى المؤاخذة عن الذين استغفروا للمشركين قبل نزول آية المنع هذه، وبيّن أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ ... أي وما كان من سنة الله في خلقه ولا في رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال أو يؤاخذهم مؤاخذة الضالين، بعد إذ هداهم للإسلام حتى يبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من الأقوال والأفعال. وهذا يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين، وإزالة العذر. إن الله تعالى عليم بكل شيء، وبأحوال الناس وحاجتهم إلى البيان، وكأن هذا بيان عذر للرسول في قوله لعمه أو لمن استغفر له قبل المنع. وفي هذا دلالة على أن الغافل الذي لم تبلغه رسالة نبي غير مكلف. وبناء عليه، يستبعد أن يكون سبب نزول الآية الاستغفار لأم الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنها ماتت قبل البعثة في عهد الفترة الجاهلية، التي انقطعت فيها النبوة بعد عيسى عليه السّلام، ولم يعد هناك مجال للتعرف على الدين الحق، لاختلاط الأمور. وبعد أن أمر الله تعالى بالبراءة من الكفار، بين أن النصر لا يكون إلا من عنده لأن له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو الناصر لكم، فهم لا يقدرون على إضراركم، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ ... أي إنه تعالى مالك كل موجود

فقه الحياة أو الأحكام:

ومتولي أمره، والغالب المهيمن عليه بيده الأمر كله، يحيي ويميت، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتبرؤوا مما عداه، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه، ولا تهمنكم القرابة والصلة الذين هم أولياء مناصرون لكم عادة، فما لكم ولي ولا نصير غير الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- تحريم الدعاء لمن مات كافرا، بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك، كقولهم: المغفور له، والمرحوم فلان، كما يفعل بعض الجهلة. 2- قطع الموالاة مع الكفار حيّهم وميّتهم فإن الله لم يسمح للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين، فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. وأما دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجّوا وجهه: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» فإنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء، كما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم، أو أن هذا الدعاء كان قبل نزول سورة التوبة التي هي من آخر ما نزل من القرآن. وحديث مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» . 3- لا حجة للمؤمنين في استغفار إبراهيم الخليل عليه السّلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة (وعد) . والواعد: إما أبو إبراهيم، فإنه وعده أن يؤمن، قال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله، ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر، علم أنه عدو الله، فترك الدعاء له. وقوله: إِيَّاهُ ترجع إلى إبراهيم، والواعد أبوه. أو أن يكون الواعد هو إبراهيم، أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، رجاء إسلامه، فلما مات مشركا تبرأ

التوبة على أهل تبوك وعلى الثلاثة المخلفين والصدق [سورة التوبة (9) الآيات 117 إلى 119] :

منه. ودل عليه قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم 19/ 47] . أي إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار قبل أن يتبين الكفر منه، وأملا في إسلامه، فلما تبين له الكفر منه، تبرأ منه. 4- يحكم على الإنسان بظاهر حاله عند الموت، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله. 5- لا عقوبة إلا بنص، ولا مؤاخذة إلا بعد بيان، لقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً.... 6- تدل هذه الآية أيضا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً على أن المعاصي سبب للضلالة والهلاك، وطريق إلى ترك الرشاد والهدى. 7- الله مالك الملك، وبيده مقاليد السموات والأرض، فالنصر منه وحده، لا من الأقارب أو الأباعد. التوبة على أهل تبوك وعلى الثلاثة المخلفين والصدق [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

الإعراب:

الإعراب: كادَ يَزِيغُ اسمها ضمير الشأن، وجملة يَزِيغُ خبرها، وهي تفسير لضمير الشأن، وجاز إضمار الشأن في كادَ دون (عسى) لأنها أشبهت (كان) الناقصة، فإنها لا تستغني عن الخبر، بخلاف (عسى) فإنها قد تستغني عن الخبر إذا وقعت (أن) بعدها. ويجوز أن يكون اسمها ضمير القوم أصحاب النبي، وتقديره: كاد قبيل يزيغ، وضمير مِنْهُمْ عائد على هذا الاسم. وَعَلَى الثَّلاثَةِ معطوف على النَّبِيِّ في الآية السابقة، وتقديره: لقد تاب الله على النبي وعلى الثلاثة. البلاغة: ضاقَتْ.. ورَحُبَتْ بينهما طباق. التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة. المفردات اللغوية: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ أدام توبته. الْعُسْرَةِ الشدة والضيق، وساعَةِ الْعُسْرَةِ: وقتها، وهي حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة من الركائب والزاد، حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، والعشرة تعتقب على بعير واحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث. يَزِيغُ يميل عن اتباع النبي إلى التخلف، لما هم فيه من الشدة. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بالثبات. وكرر للتأكيد والتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة. رَؤُفٌ رَحِيمٌ الرأفة: الرفق بالضعيف، والرحمة: السعي في إيصال المنفعة. وَعَلَى الثَّلاثَةِ أي وتاب على الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. الَّذِينَ خُلِّفُوا تخلفوا عن الغزو، أو خلّف وأخر أمرهم مدة، فإنهم المرجون لأمر الله، ثم تاب عليهم بعدئذ. رَحُبَتْ أي مع رحبها أو برحبها، أي سعتها، فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه، وأعرض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ قلوبهم من فرط الوحشة والغم بتأخير توبتها، فلا يسعها سرور ولا أنس. وَظَنُّوا أيقنوا أو علموا. أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ أن: مخففة، أي ألا ملجأ من سخطه أي لا ملاذ ولا معتصم. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ وفقهم للتوبة. اتَّقُوا اللَّهَ بترك معاصيه. مَعَ الصَّادِقِينَ في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق.

سبب النزول:

سبب النزول: روى البخاري وغيره عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها إلا بدرا، حتى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوة، وآذن الناس بالرحيل ... فأنزل الله توبتنا: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قال: وفينا نزل أيضا: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. المناسبة: بعد أن استقصى الله تعالى في شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلفين عنها، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها، وهذا أسلوب القرآن في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، للتأثير على النفس، وتجديد الذكرى، ومنع اليأس في التلاوة. والآية مناسبة لما قبلها في النهي عن الاستغفار للمشركين، وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلّم خلاف الأولى، كما كان من بعض الصحابة زلات، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات. التفسير والبيان: لقد تفضل الله ورضي عن نبيه، وتاب على أصحابه المؤمنين الذين صاحبوه واتبعوه في غزوة تبوك وقت الشدة والضيق، التي تسمى غزوة العسرة، وجيشها جيش العسرة الذي جهزه عثمان وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. فكانوا في نقص شديد من وسائط الركوب والزاد والماء، حتى إن العشرة يعتقبون البعير الواحد، ويقتسم الاثنان التمرة الواحدة، وينحرون البعير ويعتصرون الفرث الذي في كرشه، ليبلّوا به ألسنتهم، بالإضافة إلى شدة الحر أو حرارة القيظ التي

صادفت خروجهم لتلك الغزوة. قال جابر بن عبد الله في ساعة العسرة: عسرة الظهر (الإبل) وعسرة الزاد، وعسرة الماء. والتوبة على النبي لأنه كان قد صدر عنه ما هو خلاف الأفضل والأولى، مثل إذن المنافقين في التخلف بناء على اجتهاد منه لم يقره الله عليه لأن غيره خير منه، فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين، بقوله: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 9/ 43] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه. والتوبة على الصحابة من المهاجرين والأنصار كانت بسبب تثاقل بعضهم في الخروج، أو لسماعهم للمنافقين ما يثيرونه من فتنة. والتوبة هنا ذات معنيين: بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلّم تعني الرضا والعطف، وبالنسبة للصحابة تعني قبول التوبة منهم وتوفيقهم إليها. حدثت هذه التوبة على المؤمنين من بعد ما كاد يزيغ أو يميل بعضهم عن الحق والإيمان، وهم الذين تخلفوا لغير سبب النفاق، وهم الذين عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم. ومن بعد ما ارتاب بعضهم بما نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم. ثم أكد الله تعالى التوبة عليهم، فقال: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه، إن ربهم رؤف رحيم بهم، فلا يتركهم بعد ما صبروا على الجهاد في سبيله، وإنما يزيل ضررهم ويوصل المنفعة إليهم. وهذا معنى الرأفة أي السعي في إزالة الضر، والرحمة أي السعي في إيصال النفع. وفائدة تأكيد ذكر التوبة مرة أخرى تعظيم شأنهم، وإزالة الشك من نفوسهم، والتجاوز عن وساوسهم التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة.

الصفة الأولى:

وتاب الله أيضا على الثلاثة الذين خلّفوا أي تخلفوا عن الغزو لا بسبب النفاق، وإنما كسلا وإيثارا للراحة والقعود. وخلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وأرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم شيء، وهم المرجون لأمر الله، وهم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الواقفي الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع العامري، وكلهم من الأنصار. ووصف الله هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاث هي: الصفة الأولى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ: أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا، خوفا من العاقبة، وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلّم عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، حتى بقوا على هذه الحالة خمسين يوما أو أكثر. والصفة الثانية: وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي ضاقت صدورهم بسبب الهم والغم، ومجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة. والصفة الثانية: وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا واعتقدوا ألا ملجأ ولا ملاذ من غضب الله إلا بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي أنزل قبول توبتهم. لِيَتُوبُوا أي ليرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلّم. وهذه الأوصاف السابقة كانت دليلا على توبتهم وصدقهم في ندمهم. إن الله

كثير القبول لتوبة التائبين، واسع الرحمة للمحسنين. وقصة قبول توبتهم تظهر فيما يأتي: قال أكثر المفسرين: إنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام، قال كعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب حديثي، فلما أبطأت عنه في الخروج، قال عليه الصلاة والسلام: «ما الذي حبس كعبا؟» فلما قدم المدينة، اعتذر المنافقون، فعذرهم، وأتيته وقلت: إن كراعي (خيلى) وزادي كان حاضرا، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلّم ذلك. ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءت امرأة هلال بن أمية، وقالت: يا رسول الله، لقد بكى هلال، حتى خفت على بصره، حتى إذا مضى خمسون يومأ أنزل الله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وأنزل قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فعند ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حجرته، وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر، قد أنزل الله عذر أصحابنا» فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتلا عليهم ما نزل فيهم. فقال كعب: توبتي إلى الله أن أخرج مالي صدقة، فقال: لا، قلت: فنصفه قال: لا، قلت: فثلاثة؟ قال: نعم «1» . وبعد أن نزل قوله تعالى بقبول توبة هؤلاء الثلاثة، زجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.

_ (1) تفسير الرازي: 16/ 218

فقه الحياة أو الأحكام:

أي اتقوا وتجنبوا ما لا يرضاه الله من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها، وجالسين مع المنافقين في البيوت، وكونوا في الدنيا مع الصادقين في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نية وقولا وعملا، تكونوا في الآخرين مع الصادقين في الجنة. والصدق: الثبات على دين الله وشرعه، وتنفيذ أوامره، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وقد استتبع صدق هؤلاء الثلاثة في ندمهم على ما فعلوا قبول الله تعالى توبتهم. وذلك مؤذن بأن الصدق في المواقف طريق النجاة والفلاح، قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البيهقي مرفوعا: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال للصادق: صدق وبرّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا» . وترك الكذب كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلّم سبيل لترك جميع المعاصي من خمر وزنا وسرقة ونحوها. ولا يرخص في الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته ليرضيها، كأن يقول لها: أنت أجمل الناس، وأحب الناس إلى، لا في غير ذلك كمصالح البيت والنفقة ونحوها. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل يكذب في خديعة حرب، أو صلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها» . وجاء في حديث آخر أخرجه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين، وهو ضعيف: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» . فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات: التوبة والصدق.

أما التوبة فكانت شاملة عامة لكل من شارك في غزوة العسرة أو غزوة تبوك. وذلك تفضل من الله ورحمة، بعد ما تعرضوا للشدائد في جميع أوقات تلك الغزوة، قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظّهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء. قال الزمخشري في قوله تعالى: تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ هو كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر 40/ 55] وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرين والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأولين صفة الأنبياء «1» . وشملت هذه التوبة أيضا الثلاثة الذين خلّفوا عن هذه الغزوة، أي أرجئوا وأخّروا عن المنافقين، فلم يقض فيهم بشيء، وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخّر النبي صلى الله عليه وسلّم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. قال كعب فيما رواه مسلم: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر الله مما خلّفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه. والأوصاف الثلاثة التي وصفهم بها القرآن دليل على صدقهم في التوبة. لذا

_ (1) الكشاف: 2/ 61

أمر تعالى بالصدق بعد هذه الأوصاف، وهو خطاب لجميع المؤمنين يأمر فيه تعالى التزام مذهب الصادقين وسبيلهم. والآية هذه توجب الصدق، وهو أمر حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وأبعدهم عن منازل المنافقين، وهي دالة على فضل الصدق، وكمال درجته. ولا شك بأن التوبة النصوح من أخص أحوال الصدق، فما على العاقل المتقي إلا ملازمة الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأفعال، والصفاء في الأحوال، ومن اتصف بذلك صار مع الأبرار، وحظي برضا الإله الغفار. موقفا صدق وإيمان للمقارنة مع المتخلفين: الأول- عن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى سواده: كن أبا ذر! فقال الناس: هو ذاك، فقال: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» . والثاني- أن أبا خيثمة الأنصاري بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحر والريح، ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكان، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واستغفر له «1» .

_ (1) الكشاف: 2/ 61- 62

فرضية الجهاد على أهل المدينة والأعراب وثوابه [سورة التوبة (9) الآيات 120 إلى 121] :

فرضية الجهاد على أهل المدينة والأعراب وثوابه [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) الإعراب: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً مفعول به، وهو اسم منقوص كقاض، ودخلته الفتحة في النصب لخفتها، وجمعه أودية، وليس في كلام العرب فاعل جمعه أفعلة غيره. البلاغة: يَطَؤُنَ مَوْطِئاً بينهما جناس اشتقاق، وكذلك يَنالُونَ ... نَيْلًا صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً بينهما طباق. المفردات اللغوية: أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا غزا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشدائد، والرغبة الأولى: المحبة والإيثار، والثانية: الكراهة، وهو نهي بلفظ الخبر ذلِكَ أي النهي عن التخلف بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم ظَمَأٌ عطش نَصَبٌ تعب مَخْمَصَةٌ جوع يَغِيظُ يغضب نَيْلًا أسرا أو قتلا أو أخذ مال إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلا استوجبوا به الثواب والجزاء عليه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أجرهم على إحسانهم، بل يثيبهم، وهو تنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار فلأنه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن

المناسبة:

كشرب المريض الدواء المرّ، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم من سطوة الكفار واستيلائهم. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً أي في الجهاد ولو مثل التمرة وَلا كَبِيرَةً مثل إنفاق عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة وادِياً في مسيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل، والمراد أي أرض إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أثبت لهم ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أو أحسن جزاء أعمالهم. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بقوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بالصدق في متابعة الرسول في جميع الغزوات، أكد هنا ذلك، فنهى عن التخلف عنه، وأبان حسن الجزاء على الجهاد. التفسير والبيان: يعاتب الله تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ورغبتهم بأنفسهم عن مشاركته في المشاق التي تعرض لها، فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.. أي ما كان ينبغي لأهل المدينة المؤمنين، ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لها كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم، التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، بل عليهم أن يصحبوه، فإن النفير كان فيهم، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحق بذلك من غيرهم، بل إن المراد من النص النهي عن التخلف، والتوبيخ عليه لأن المتخلف يؤثر نفسه على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي لا بد من إيثارها وحبها أكثر من حب النفس. وظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أصحاب الأعذار بدليل العقل، وبقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] وقوله أيضا: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. [النور 24/ 61] ولا يقصد بهذا وجوب الجهاد عينا على كل واحد، فقد دل الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية،

فقه الحياة أو الأحكام:

فيكون مخصوصا من هذا العموم، ويكون المنصوص عليهم هم المقصودين بالنص العام. ولا يصح لهؤلاء إيثار أنفسهم على نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم، فلا يرضوا لأنفسهم بالدعة والراحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في المشقة. لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع والجهاد، بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم- من معاناة ومكابدة ومشاق كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار، والنيل من الأعداء بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة- يستوجب الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، أي لا يدع له شيئا من الثواب على إحسانه إلا كافأه به، كقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف 18/ 30] . وكذلك لا ينفق هؤلاء المجاهدون (الغزاة) «1» في سبيل الله نفقة صغيرة ولا كبيرة، أي قبيلا ولا كثيرا، ولا يقطعون واديا، أي في السير إلى الأعداء، إلا أثبت لهم الجزء الأوفى، ليجزيهم الله أحسن الجزاء على عملهم لأن الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الإسلام، وصون الإيمان، وحفظ الأوطان، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا واستعبدوا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- فرضية الجهاد ووجوبه على أهل المدينة وقبائل العرب المجاورة لها، بسبب كون المدينة عاصمة الإسلام، وكونهم سكانها، وجيران الرسول صلى الله عليه وسلّم،

_ (1) الغزو والجهاد والحرب كلها بمعنى واحد في اللغة.

ويصيبهم مباشرة ما أصابه من مجد أو خير أو نصر أو غير ذلك. 2- لا يصح لمؤمن إيثار نفسه على نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم لأن الإيمان لا يكمل إلا بأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلّم أكثر مما يحب نفسه. 3- إن كل ما يتعرض له المجاهد من مكابدة ومتاعب في السفر للجهاد يثاب عليه ثوابا جزيلا. 4- إن في الجهاد إحسانا، سواء في حق الأعداء لأنه قد ينقلهم من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، وفي حق المسلمين لأنهم يصونون به الحرمات: حرمة الدين والإيمان، وحرمة البلاد والأوطان والأموال والأعراض، ويحققون به العزة والمجد والكرامة. 5- تستحق الغنيمة بمجرد الاستيلاء، كما قال الشافعي لأن الله تعالى جعل وطء ديار الكفار بمثابة النّيل من أموالهم، وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم، ويدخل الذّل عليهم، فهو بمثابة نيل الغنيمة والقتل والأسر. 6- إن هذه الآية منسوخة بالآية التالية بعدها: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.. وإن حكمها كان في حال قلة المسلمين، فلما كثروا نسخت، وأباح الله التخلف عن الجهاد مع الحكام لمن شاء. قال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلّم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة، فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. قال القرطبي: قول قتادة حسن، بدليل غزاة تبوك. أما المعذورون الباقون في المدينة فلهم مثل أجر العاملين المجاهدين لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر» وأخرجه مسلم من حديث جابر قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزاة، فقال:

الجهاد فرض كفاية وطلب العلم فريضة [سورة التوبة (9) آية 122] :

إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض» فأعطى صلى الله عليه وسلّم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل. ويؤكد ذلك أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة، فعجز عنها صاحبها لمانع منها، فله الثواب على عمله لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي عن أنس وهو ضعيف: «نية المؤمن خير من عمله» . الجهاد فرض كفاية وطلب العلم فريضة [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) الإعراب: لولا: للتحضيض، وهي داخلة هنا على الماضي، فتفيد التوبيخ واللوم على ترك الفعل فيما مضى، والأمر به في المستقبل. المفردات اللغوية: لِيَنْفِرُوا إلى الجهاد فَلَوْلا فهلا وهي تفيد الحض والحث على ما تدخل عليه نَفَرَ خرج للقتال فِرْقَةٍ قبيلة أو جماعة عظيمة طائِفَةٌ جماعة قليلة أقلها اثنان أو واحد، ومكث الباقون لِيَتَفَقَّهُوا ليتعلم الباقون الفقه والأحكام الشرعية، والتفقه: تكلف الفقاهة والفهم، وتجشم مشاق التحصيل وَلِيُنْذِرُوا يخوفوا إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ من الجهاد، بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا عقاب الله بامتثال أمره ونهيه، والحذر من الشيء: التحرز منه. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً

المناسبة:

أَلِيماً وقد تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أصحاب البوادي، فنزلت: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: كان المؤمنون، لحرصهم على الجهاد، إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سرية، خرجوا فيها، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة في رقة من الناس، فنزلت. قال ابن عباس: لما شدّد الله على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده، فنزل: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ الآية. وقال ابن عباس أيضا: فهذه مخصوصة بالسرايا، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد، فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلّم. المناسبة: هذه الآية من بقية أحكام الجهاد، فهي لا توجب على جميع المؤمنين الجهاد إذا لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلّم إليه، وإنما أرسل سرية. وحينئذ يجب على المؤمنين طلب العلم والتفقه في الدين لأن الجهاد يعتمد على العلم، ولأن نشر الإسلام في الأصل يتوقف على البيان بالحجة والبرهان. التفسير والبيان: هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلهم، فتكون فئة منهم للتفقه وفئة أخرى للجهاد، فإنه فرض كفاية على الناس، كما أن طلب العلم فرض كفاية أيضا. فما كان من شأن المؤمنين أن ينفروا جميعا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم وحده، فإن

فقه الحياة أو الأحكام:

الجهاد فرض كفاية، متى قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، لا فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، وإنما يصبح فرض عين إذا خرج الرسول للجهاد واستنفر الناس إليه. فهلا نفر في أثناء النهضة من كل جماعة كالقبيلة أو البلد طائفة قليلة منهم للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة وأسرارها، حتى إذا ما رجع المجاهدون من المعركة أنذروهم من الأعداء وحذروهم من غضب الله وعرفوهم أحكام الدين، لكي يخافوا الله، ويحذروا عاقبة عصيانه، ومخالفة أمره. والضمير في لِيَتَفَقَّهُوا، ولِيُنْذِرُوا للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلّم. وضمير إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أي المجاهدون من الجهاد. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على الأحكام التالية: 1- الجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، إذ لو نفر الكل لتعطلت مصالح الأمة، وتضررت الأسر والأولاد، فليخرج فريق من المسلمين للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، ويصونون مصلحة البلاد. حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع. وهذه الآية مبينة لقوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا وللآية التي قبلها: انْفِرُوا. وقال مجاهد وابن يزيد: ناسخة والأصح القول بأنها مبينة لا ناسخة. وكل من مِنْ المفيدة للتبعيض، والفرقة (الجماعة الكثيرة) والطائفة (الجماعة الأقل) يفيد كون الجهاد وطلب العلم موجها للبعض. 2- وجوب طلب العلم، والتفقه في القرآن والسنة، وهو فرض على الكفاية لا على الأعيان بدليل قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ

لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 43] . وآية لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وإن اقتضت فقط الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام، فقد لزم طلب العلم بأدلة أخرى، مثل حديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس، ورواه آخرون. والطائفة وإن أطلقت على الاثنين والواحد في اللغة، فلا شك إن المراد بها هنا جماعة لقوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ فجاء بضمير الجماعة، ولأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب. ومما يدل على أن الواحد يقال له طائفة قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات 49/ 9] يعني نفسين، بدليل قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فجاء بلفظ التثنية. وأما ضمير اقْتَتَلُوا وإن كان ضمير جماعة، فأقل الجماعة اثنان، في أحد القولين للعلماء. 3- يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم لأن الآية أمرت بإنذارهم إلى الدين الحق، وعليهم أن يحذروا الجهل والمعصية، ويرغبوا في قبول الدين. فغرض المعلم الإرشاد والإنذار، وغرض المتعلم اكتساب الخشية. هذا.. وطلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان كالصلاة والزكاة والصيام، وفرض على الكفاية كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه. وطلب العلم فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل، لما رواه مسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وروى الترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل

السياسة الحربية في قتال الكفار [سورة التوبة (9) آية 123] :

العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» . 4- خبر الواحد حجة لأن الطائفة مأمورة بالإنذار أو الإخبار، وهو يقتضي فعل المأمور به، ولأنه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار، والمراد: ليحذروا. السياسة الحربية في قتال الكفار [سورة التوبة (9) : آية 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) المفردات اللغوية: يَلُونَكُمْ يجاورونكم الأقرب فالأقرب غِلْظَةً شدة وخشونة، أي اغلظوا عليهم مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر. المناسبة: لما أمر الله سبحانه المؤمنين بقتال المشركين كافة، كما يقاتلونهم كافة، أرشدهم في هذه الآية إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدءوا من الأقرب فالأقرب، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته بهذه الخطة، فقد قاتل قومه في مكة، ثم قاتل سائر العرب، ثم انتقل إلى قتال الروم في الشام، ثم دخل صحابته العراق. وهكذا سار خط الدعوة الإسلامية على هذا الترتيب، فقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ثم اتسع نطاقها إلى الجزيرة العربية، فقال

التفسير والبيان:

تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام 6/ 92] وقال عزّ وجلّ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح 48/ 16] ثم انتشرت خارج الجزيرة بين أهل الكتاب فقال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 29] وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] أي لأنذر العرب ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان. فالسياسة الإسلامية تسير على منهج دعوة الأقرب فالأقرب سلما، وقتال الأقرب فالأقرب إذا توافرت دواعي القتال. التفسير والبيان: يأيها المؤمنون قاتلوا الأقرب منهم فالأقرب إلى ديار الإسلام، فإن الأقرب أحق بالشفقة والإصلاح، ولأن تكوين الأتباع المؤمنين من الجوار بالدعوة الإسلامية أفيد وأحصن وأجدى، وفيه حماية الديار والوطن، ولأن هذا الترتيب يحقق قلة النفقات، والاقتصاد في نقل الآلات وانتقال المجاهدين بأمان، حتى لا يطعنوا من الخلف. وهذا بالطبع يشمل أولا اليهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر، ثم المشركين في جزيرة العرب، ثم أهل الكتاب وهم الروم في الشام شمال المدينة. وسياسة القتال أن يجدوا في المؤمنين المقاتلين غلظة أي شدة وخشونة، وقوة وحميّة، وصبرا على القتال، وجرأة على خوض المعارك والفتك والأسر ونحو ذلك، وهذه طبيعة الحرب ومصلحة القتال، ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 73] . وأعلموا أن الله مع المتقين أي بالنصر والحراسة والإعانة، والمتقون: هم

فقه الحياة أو الأحكام:

المتبعون أوامر الله، المجتنبون نواهيه. فهذه المعية ملازمة للتقوى، فالله معكم إذا التزمتم أحكام شرعه ومن أهمها إقامة الفرائض والسنن، والثبات والصبر والطاعة والنظام، وابتعدتم عن اختراق حدوده والتقصير في إعداد العدة المناسبة لكل عصر وزمان ومكان، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال 8/ 60] . وإذا أريد بالمتقين المخاطبون، ففيه إظهار بدل الإضمار للدلالة على أن الإيمان والقتال من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين. وإذا أريد بالمتقين الجنس دخل المخاطبون دخولا أولياء، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله، أي قاتلوهم واغلظوا عليهم ولا تخافوهم لأن الله معكم أو لأنكم متقون. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يلي: 1- التعريف بكيفية الجهاد، وكون الابتداء به بالأقرب فالأقرب من العدو، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعرب، ثم قصد الروم بالشام. وروي عن الحسن البصري أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] . والأصح أنها غير منسوخة لأنها للإرشاد ورسم خطة الحرب في قتال الكفار. قال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى «1» . 2- أمر المؤمنين بالاتصاف بالغلظة على الكفار، حتى يجدهم الكفار متصفين بذلك. وهذا لا شك في أثناء القتال، أما قبل بدء المعركة فشأن المسلمين هو الرفق واللين والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن وجدوا تنمرا وتجهما

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 297، تفسير الرازي: 16/ 288

موقف المنافقين من سور القرآن [سورة التوبة (9) الآيات 124 إلى 127] :

من الأعداء، عوملوا بما يناسب من العنف والشدة فالفائدة في الشدة في هذه المواطن أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح والشر، وقد يحتاج الأمر إلى الرفق واللطف. فالأمر بالعنف ليس مطردا، وإنما يعمل بما هو الأوفق ولو في أثناء المعركة. 3- إن الله نصير المتقين في السلم والحرب، والواجب أن يكون الهدف من القتال تقوى الله، لا طلب المال والجاه. موقف المنافقين من سور القرآن [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) الإعراب: وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ جملة حالية. البلاغة: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي كفرا مضموما إلى الكفر بغيرها. ولما ازداد المنافقون عند

المفردات اللغوية:

نزول السورة عمى، أضيف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة. أَوَلا يَرَوْنَ هذه ألف استفهام، دخلت على واو العطف، وهو خطاب على سبيل التنبيه. المفردات اللغوية: سُورَةٌ من القرآن فَمِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه استهزاء إِيماناً تصديقا يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بها وبنزولها مَرَضٌ شك وضعف اعتقاد وكفر ونفاق رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا ونفاقا إلى كفرهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا على الكفر. أَوَلا يَرَوْنَ أي المنافقون يا أيها المؤمنون يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البلاء، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي أنهم يتعرضون للعذاب في الدنيا في كل عام مرة أو مرتين، وقال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم كل سنة مرة أو مرتين ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يتعظون. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية، أو غيظا، لما فيها من عيوبهم هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي أنهم يريدون الهرب، ويقولون: هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإن لم يرهم أحد قاموا، وإن رآهم أحد أقاموا وتثبتوا ثُمَّ انْصَرَفُوا على كفرهم صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الهدى والإيمان، وهو يحتمل الإخبار، والدعاء بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحق، لسوء فهمهم وعدم تدبرهم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة، كتخلفهم عن غزوة تبوك، وتعللهم بالإيمان الفاجرة، ذكر هنا أنواعا أخرى أخطر مما سبق، وهي استهزاؤهم بالقرآن وتهربهم حين سماعه لأنه كلما نزلت سورة مشتملة على تبيان فضائحهم وعيوبهم تأذوا من سماعها، وكذلك كلما سمعوا سورة وإن لم يذكر فيها شيء عنهم، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إذا ما أنزلت سورة من سور القرآن وبلغت المنافقين، فمنهم من يقول لإخوانه أي يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي تصديقا بأن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في نبوته. ومن المعروف أن الإيمان الصحيح: وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس، يزيد بنزول القرآن، ويتضاعف بسماعه سماع تدبر وإمعان، مما يدفع إلى العمل بما نزل فيه. وفي هذا دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب الأكثرين. فأجابهم الله تعالى عن حقيقة أثر القرآن: فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن يقينا وتصديقا وقوة دافعة إلى العمل به، وهم أي وحالهم أنهم يفرحون بنزول السورة لأنها تزكي أنفسهم، وترشدهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الزمخشري في فَزادَتْهُمْ إِيماناً: لأنها أزيد لليقين والثبات وأثلج للصدر، أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل. والذين في نفوسهم شك وكفر ونفاق، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، ويستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا وهم كافرون بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وسلّم. وهذا مناقض للهدف من إنزال السورة، فهي في الحقيقة هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، وجلاء لما في القلوب، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] وقال عز وجل: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] فهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء المزاج لا يفيده الغذاء إلا تأخرا ونقصا.

وبعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين يموتون كفارا، أوضح أنهم يتعرضون أيضا لعذاب الدنيا كل عام مرة أو مرتين، فقال: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يختبرون كل عام مرة أو مرتين بأنواع الاختبار العديدة من جهاد وقحط ومرض وهي التي تذكّر الإنسان بالله، وتجعله ميالا إلى الإيمان وترك الكفر والتمييز بين الحق والباطل. ثم إنهم مع توالي الاختبارات لا يتوبون من ذنوبهم السابقة، ولا يتعظون فيما يستقبل من أحوالهم، مما يجعلهم غير مستعدين لقبول الإيمان. وإذا أنزلت سورة قرآنية على النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم جلوس عنده، تلفتوا وتغامزوا بالعيون وتهكموا لفساد قلوبهم، وعزموا على الهروب، قائلين: هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلّم أو المؤمنون إذا خرجتم؟ ثم انصرفوا جميعا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم أي تولوا عن الحق، فهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه، كقوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر 74/ 49- 51] وقوله: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج 70/ 36- 37] أي ما لهؤلاء القوم يخرجون مسرعين، هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل. صرف الله قلوبهم عن الحق والإيمان وعن الخير والنور. وهذا إما دعاء عليهم به أو إخبار عن أحوالهم. ذلك الصرف بسبب أنهم قوم لا يفهمون الآيات التي يسمعونها، ولا يريدون فهمها، ولا يتدبرون فيها حتى يفقهوا، بل هم في شغل عن الفهم ونفور منه، كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 61/ 5] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب أكثر السلف والخلف، فالمؤمنون يزدادون إيمانا بما يتجدد نزوله من القرآن، ويفرحون به، لتزكية نفوسهم، وتحقيق سعادتهم. 2- الكفر يتراكم بعضه فوق بعض، وينضم بعضه إلى بعض لأنهم كلما جددوا بتجديد الله الوحي كفرا ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم، وتضاعف عقابهم. 3- المنافقون المستهزئون بالقرآن يموتون على كفرهم إن لم يتوبوا، مما يدل على مداومة الكفر. 4- وسائل تذكير المنافقين بالإيمان والحق كثيرة متكررة، فتتوالى عليهم اختبارات عديدة كالأمراض والأوجاع، والشّدة والقحط، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة أو مرتين، ويرون ما وعد الله من النصر والتأييد. 5- ومن الوسائل الداعية لإيمان المنافقين أيضا ما ينزل به القرآن كاشفا أسرارهم، معلما بمغيبات أمورهم، ومع ذلك ينصرفون عن تلك الحال التي هي مظنّة النظر الصحيح والاهتداء، ولا يسمعون القرآن سماع تدبر وتعقل ونظر في آياته: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال 8/ 22] . أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] . وقوله: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قول صادر على سبيل الاستهزاء، وقوله نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اكتفاء بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزء، وطلب الفرار.

صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ذات الصلة بأمته [سورة التوبة (9) الآيات 128 إلى 129] :

6- إن الله تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه في مذهب أهل السنة، لصرف نفوسهم عنه لقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهو إما دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا، وإما خبر عن صرفها عن الخير والرشد والهدى، مجازاة على فعلهم. وهذا رد على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم، وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم، ويحكمون بإرادتهم واختيارهم. صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم ذات الصلة بأمته [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) الإعراب: ما عَنِتُّمْ ما: مصدرية، وهي مع عَنِتُّمْ في تأويل المصدر، وتقديره: عزيز عليه عنتكم. وهو إما مرفوع بعزيز لأنه وقع صفة لرسول، وإما مبتدأ، وعَزِيزٌ خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع لأنها صفة رَسُولٌ. المفردات اللغوية: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منكم ومن جنسكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم عَزِيزٌ شديد أو شاق ما عَنِتُّمْ أي عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أن تهتدوا والحرص: شدة الرغبة في الحصول على الشيء رَؤُفٌ شفوق، والرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة رَحِيمٌ يريد لكم الخير، والرحمة عامة شاملة حال الضعف وغيره فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك فَقُلْ: حَسْبِيَ كافي تَوَكَّلْتُ وثقت به لا بغيره وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الكرسي الْعَظِيمِ خص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات.

المناسبة:

المناسبة: لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يبلغ في هذه السورة تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا من خصة الله بالتوفيق، ختمها بما يوجب سهولة تحملهم تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلّم منكم، فكل ما يحققه من عز وشرف فهو عائد إليكم، وهو بحال يشق عليه ضرركم، وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب الحاذق إذا أقدم على علاجات صعبة، فإنما يريد الخير، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير. وكذلك لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم أو من نسبهم عربي قرشي يبلغهم عن الله، متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم بالوقوع في العذاب الأخروي، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم «1» . روى الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ... إلى آخر السورة. وروى الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت: بَراءَةٌ. وعن ابن عباس: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلّم ثمانون يوما. وهذا قول سعيد بن جبير أيضا. التفسير والبيان: امتن الله تعالى على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم، أي من

_ (1) البحر المحيط: 5/ 117

جنسهم وعلى لغتهم. لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم وبلغتكم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة 62/ 2] وقال أيضا: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران 3/ 164] وصف الله هذا الرسول بخمس صفات: الأولى- قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من العرب، والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته. قال ابن عباس: إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلّم مضريّها وربيعيها ويمانيها، أي أن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب. الثانية- عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه في الدنيا والآخرة، إذ هو منكم، يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم. الثالثة- حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على هدايتكم وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة. الرابعة والخامسة- بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه. فإن تولوا أي أعرض المشركون والمنافقون عنك وعن الإيمان برسالتك والاهتداء بشرعك، فقل: حسبي الله، أي الله كافي في النصر على الأعداء. لا إله إلا هو، أي لا معبود سواه أدعوه وأخضع له، عليه توكلت أي فوضت أمري إليه وحده، فلا أتوكل إلا عليه. وهو رب العرش العظيم، والعرش: سقف المخلوقات كلها في السموات والأرض وما بينهما، وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، فيدخل فيه ما دونه

فقه الحياة أو الأحكام:

إذا ذكر، إذ عليه تدبير أمور الخلق، كما قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس 10/ 3] . روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: «حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله ما أهمه، صادقا كان بها أو كاذبا» . وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة. وقد اتفق الصحابة حين جمع القرآن على وضع هاتين الآيتين في آخر سورة بَراءَةٌ روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخرها. أي لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، كما ذكر ابن حجر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال: لا أسألك عليها. بيّنة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرؤها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أمرين: 1- اتصاف النبي صلى الله عليه وسلّم بصفات خمس تستدعي من العرب الاستجابة لدعوته، وتحمّل أعباء رسالته، والقيام بالتكاليف التي أمر بها، لأنه منهم وفيهم، وحريص على اهتدائهم، ورؤف رحيم بهم.

2- إن أعرض الناس عن دعوة النبي فهو يستنصر بالله المعين الكافي ويكتفي باللجوء إليه في الدعاء والعبادة والإعانة، والخضوع والتذلل، لأن الله رب العرش العظيم، والناس مقهورون تحت العرش بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.

سورة يونس عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة يونس عليه السّلام مكية وهي مائة وتسع آيات. تسميتها: سميت «سورة يونس» لذكر قصة نبي الله يونس فيها، وهي قصة مثيرة، سواء بالنسبة لشخصه الذي تعرض لالتقام الحوت له، أو بالنسبة لما اختص به قومه من بين سائر الأمم، برفع الله العذاب عنهم حين آمنوا وتابوا بصدق. موضوعها: تتميز بالكلام عن الأهداف الكبرى لرسالة القرآن وهي إثبات التوحيد لله وهدم الشرك، وإثبات النبوة والبعث والمعاد، والدعوة للإيمان بالرسالات السماوية وخاتمتها القرآن العظيم، وهي موضوعات السور المكية عادة. مناسبتها لما قبلها: ختمت سورة التوبة السابقة بذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبدئت هذه السورة بتبديد الشكوك والأوهام نحو إنزال الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلّم، للتبشير والإنذار، وكانت أغلبية آيات السورة المتقدمة في أحوال المنافقين وموقفهم من القرآن، وهذه في أحوال الكفار والمشركين وقولهم في القرآن. فالاتصال بالسورة المتقدمة واضح، فقد ذكرت أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلّم التي تستدعي الإيمان به، ثم

ما اشتملت عليه السورة:

ذكر هنا الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن شأن الضالين التكذيب بالكتب الإلهية. ويلاحظ أنه لا يشترط وجود تناسب واضح بين السور ولا بين الآيات في ضمن السورة الواحدة، فقد تتعدد الأغراض والانتقال من العقيدة إلى العبادة إلى الأخلاق والأمثال والقصص وأحكام السلوك والمعاملات، وذلك أسلوب خاص بالقرآن لاجتذاب الأنفس حين التلاوة والبعد عن السأم والملل، وقد أصبح هذا الأسلوب هو المرغوب فيه شعبيا كما يظهر في الإقبال على الروايات وأساليب العرض القصصي والتمثيليات، لشد انتباه المشاهدين والقارئين والسامعين، من خلال المفاجآت والاستطرادات وتحليل بعض القضايا الجانبية. فقد يكون هناك تناسب بين السور، كسور الطواسين وحواميم وسورتي المرسلات والنبأ، وقد يوجد فاصل بينهما كسورتي الهمزة واللهب مع أن موضوعهما واحد. ما اشتملت عليه السورة: سورة يونس تتحدث عن الرسالات الإلهية، والألوهية وصفات الإله، والنبوة وقصص بعض الأنبياء، وموقف المشركين من القرآن، والبعث والمعاد. 1- بدأت السورة بتقرير سنة الله في خلقه بإرسال رسول لكل أمة، وختم الرسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم، مما لا يستدعي عجب المشركين من بعثته: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [2] . 2- ثم تحدثت عن إثبات وجود الإله من طريق آثاره في الكون: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. الآيات. ثم التذكير بمصير الخلائق إليه بالبعث والجزاء: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً.. وانقسام البشر إلى

مؤمنين وكفار وجزاء كل منهم. وإنذار الجاحدين بإهلاك الأمم الظالمة: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ... 3- ثم أوضحت عقائد المشركين وذكرت خمس شبهات لمنكري النبوة والرسالة وناقشتهم نقاشا منطقيا مقنعا، وأثبتت أن القرآن كلام الله ومعجزة النبي الخالدة على مر الزمان: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وأقامت الدليل على كونه من عند الله بتحدي المشركين وهم أمراء البيان وأساطين الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... وذكرت موقف المشركين من القرآن: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ.... 4- ثم ذكرت آثار القدرة الإلهية الباهرة التي تدل على عظمة الله وضرورة الإيمان به، لأنه مصدر الحياة والرزق والنعم: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟!. 5- ثم تناولت بإيجاز للعبرة والعظة وتقرير صدق القرآن قصص بعض الأنبياء، كقصة نوح عليه السّلام في تذكير قومه، وقصة موسى عليه السّلام مع فرعون، واستعانة فرعون بالسحرة لإبطال دعوة موسى، وشأن موسى مع قومه، ودعائه على فرعون، ونجاة بني إسرائيل، وغرق فرعون في البحر، وقصة يونس عليه السّلام مع قومه، فصار المذكور في هذه السورة ثلاث قصص. 6- ختمت السورة بما أشارت إليه في الآية [57] : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو اتباع رسالة القرآن وشريعة الله، لما فيها من خير وصلاح للإنسان: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ،

قضية إنزال الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم [سورة يونس (10) الآيات 1 إلى 2] :

وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ذكر البيضاوي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس ومن كذب به، وبعدد من غرق مع فرعون» ، والظاهر أنه غير صحيح. قضية إنزال الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) الإعراب: تِلْكَ آياتُ مبتدأ وخبر، أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. والمراد من تِلْكَ: هذه أي هذه آيات الكتاب أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا أن وما بعدها في تأويل المصدر في موضع رفع اسم كانَ، وعَجَباً خبره، واللام في لِلنَّاسِ متعلقة بمحذوف، لأنه صفة لعجب، فلما تقدم صار حالا، لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت على الحال. ولا يجوز أن تتعلق اللام بكان، لأنها لمجرد الزمان، ولا تدل على الحدث الذي هو المصدر، فضعفت. أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كانَ: هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر أن لهم الباء معه محذوف. البلاغة: الْحَكِيمِ بمعنى مفعول، أي الحكم الذي لا فساد فيه ولا نقص. أَنْذِرِ.. وَبَشِّرِ بينهما طباق. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا استفهام معناه التقرير والتوبيخ.

المفردات اللغوية:

قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة. وإضافة قدم إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة، ففي ذلك غاية البلاغة لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى بها. وجاء في القرآن: مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر 54/ 55] ، ومُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء 17/ 80] ، ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 17/ 80] ، وقَدَمَ صِدْقٍ [يونس 10/ 2] . المفردات اللغوية: الر تقرأ هكذا: ألف، لام، را. والحروف المقطعة في أوائل السور وتعديدها يقصد به التحدي، والإشارة إلى أن هذا القرآن كلام مكون من الحروف العربية المألوفة غير الغريبة على العرب، فما لهم عجزوا عن محاكاته؟ مما يدل على كونه كلام الله. أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها. تِلْكَ أي هذه الآيات آياتُ الْكِتابِ القرآن العظيم، والإضافة بمعنى من الْحَكِيمِ المحكم، أي هذه آيات القرآن المحكم المبين. أَكانَ لِلنَّاسِ أي أهل مكة، استفهام إنكار أَنْ أَوْحَيْنا أي إيحاؤنا، والوحي: إعلام خفي إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ محمد صلى الله عليه وسلّم أَنْذِرِ خوّف، والإنذار: الإخبار بما فيه تخويف النَّاسَ الكافرين بالعذاب وَبَشِّرِ التبشير: إعلام مقترن بالبشارة بحسن الجزاء أو الثواب قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموه من الأعمال، سميت قدما، لأن السعي إلى هذه الفضائل بالقدم، كما سميت النعمة يدا، وإضافتها للصدق للتحقق. والصدق يكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال وسائر الفضائل. إِنَّ هذا الكتاب وما جاء به محمد لَساحِرٌ مُبِينٌ بيّن واضح ظاهر، والسحر: شيء مؤثر في النفوس بدون أن يكون له حقيقة. سبب النزول: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدا رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية. وأنزل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا الآية [يوسف 12/ 109 ومواضع أخرى] ، فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى

التفسير والبيان:

رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الآية [الزخرف 43/ 32] . التفسير والبيان: الر: تقرأ هذه الحروف الثلاثة هكذا: ألف، لام، را، والقصد منها التنبيه إلى ما يتلى بعدها ليعتني المرء بفهم ما يسمع أو يقرأ، وتعديد الحروف على طريق التحدي، كما مر في أول سورة البقرة. تلك آيات القرآن المحكم، أو ذات الحكمة لا لاشتماله عليها، أو تلك آيات السورة الحكيمة، التي أحكمها الله وبينها لعباده، كما قال تعالى: الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي أحكمت معانيه ومبانيه. والأولى بالصواب كما ذكر القرطبي أن المراد القرآن، لأن الحكيم من نعت القرآن، كما دل قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ. والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ينكر الله تعالى على من تعجب من الكفار على إرسال المرسلين من البشر، أي عجيب أمر بعض الناس الذي ينكرون إيحاءنا إلى رجل من جنسهم من البشر، كأن الاشتراك في البشرية تحول دون الإرسال، وكأنهم يريدون رسولا من غير جنسهم، كما قال تعالى في آيات أخرى حكاية عنهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن 64/ 6] أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 94] لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت 41/ 14] وقال هود وصالح لقومهما: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ [الأعراف 7/ 63] . قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم رسولا أنكرت العرب ذلك،

أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً. هذا التعجب في غير محله، إذ أن كل الرسل كانوا بشرا: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام 6/ 9] وردد الله هذا المعنى في آيات كثيرة منها: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء 17/ 95] . فإرسال الرسول من جنس المرسل إليهم أدعى إلى قبول دعوته، والتفاهم معه. وأما اختيار أحد هؤلاء البشر فالله أعلم من هو أولى للرسالة وأحق بالاصطفاء والاختيار: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج 22/ 75] ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 31] . أما معايير البشر فهي خطأ، مثل كون محمد صلى الله عليه وسلّم يتيم أبي طالب، إذ قال القرشيون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبي طالب، أو أنه فقير، وهم يريدون كونه غنيا مترفا وزعيما مرموقا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] وهم يعنون إما الوليد بن المغيرة من مكة، أو مسعود بن عمرو الثقفي من الطائف. ومهمة هذا النبي الموحي إليه هي الإنذار من النار: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس وخوفهم من عذاب النار يوم البعث، إذا ظلوا كافرين ضالين عاصين، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ [يس 36/ 6] وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم، أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند الله في جنات النعيم، وأجرا حسنا بما قدموا. والأعمال الصالحة: هي صلاتهم وصومهم وصدقهم في القول والفعل وتسبيحهم.

والإنذار والتبشير هما من أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد صرح القرآن بهما في آيات كثيرة مثل: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [الكهف 18/ 2] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب 33/ 45] . وفي الكلام حذف يدل الظاهر عليه تقديره: ومع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم، رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ أي قال المنكرون المكذبون رسالته: إن محمدا ساحر ظاهر. وعلى قراءة: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ معناه إن هذا القرآن سحر ظاهر بيّن. وعلى أي حال فإنهم وصفوا القرآن وصاحبه المنزل عليه بالسحر وكونه الساحر، وهم الكاذبون في ذلك. ووصفوه بالسحر لما رأوا من تأثيره القوي في القلوب، والسحر عندهم يطلق على كل فعل غريب خارق للعادة، لا يعرف له سبب، مؤثر في النفوس، جذاب يلفت الأنظار. ثم تبيّن لعقلاء العرب وحكمائهم أن القرآن ليس سحرا، لأنهم جربوا السحر وعرفوه، فلم يجدوه مطابقا له، لأن السحر علم يعتمد إما على الحيل والشعوذة، أو على خواص بعض الأشياء الطبيعية، أو على علم النجوم، أو على دراسات نفسانية، والقرآن ليس من هذه الأشياء إطلاقا بالتجربة والحس والمشاهدة والموازنة، وإنما هو مغاير لها، وفوقها، لأنه وحي من عند الله على قلب نبيه، مشتمل على أحكام سامية عالية في التشريع والقضاء، والسياسة والاجتماع، والعلوم والأخلاق والآداب، معجز في أسلوبه ونظمه ومعانيه، يفوق قدرة البشر على محاكاته أو الإتيان بشيء من مثله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً، مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ

فقه الحياة أو الأحكام:

اللَّهِ، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر 39/ 23] . فقه الحياة أو الأحكام: 1- القرآن الكريم كتاب محكم واضح بيّن فيما اشتمل عليه من حلال وحرام وحدود وأحكام. 2- الإيحاء إلى رجل من البشر ليؤدي رسالة الله إلى الناس أمر طبيعي منطقي، ليس محل تعجب واستغراب، وإنما هو موافق للحكمة والعقل والواقع. 3- ليست مقومات اختيار الأنبياء بحسب معايير الناس ومفاهيمهم كالمال والغنى والثروة والجاه والزعامة، وإنما المعيار هو ما في علم الله جل وعز من كون النبي المصطفى هو الأهل الأكفاء الأجدر بتحمل أعباء الرسالة، والأوفق لتحقيق المصلحة وتبليغ الوحي إلى الناس. 4- مهمة الرسول هي الإنذار والتبشير، إنذار من عصاه بالنار، وتبشير من أطاعه بالجنة. وله خصائص أخرى مثل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم في الصحاح عن نفسه أنه قال: «لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب: أي آخر الأنبياء، كما قال تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب 33/ 40] . 5- لا يملك الضعيف أو الخاسر المفلس سوى الاتهام الرخيص الكاذب الذي لا فائدة منه، لذا قال الكافرون: إن هذا أي الرسول صلى الله عليه وسلّم لساحر مبين، أو إن هذا القرآن لسحر مبين، بحسب القراءتين، فوصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل كما قال الرازي على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا، وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام الذي ذكروه في معرض الذم، على

الله خالق السموات والأرض وعلى الخلق عبادته [سورة يونس (10) آية 3] :

ما يظهر، وأرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، أو ذكروه في معرض المدح، وأرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر. الله خالق السموات والأرض وعلى الخلق عبادته [سورة يونس (10) : آية 3] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) المفردات اللغوية: خَلَقَ الخلق: التقدير والإيجاد فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في قدر أيام الدنيا لأنه لم يكن ثمّ شمس ولا قمر، ولو شاء لخلقهن في لحظة، ولكنه عدل عن ذلك لتعليم خلقه التثبت. واليوم لغة: الوقت الذي يحده حدث يحدث فيه. الْعَرْشِ مركز تدبير المخلوقات، ولا نعلم حقيقته، والاستواء على العرش شيء يليق به تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ بين الخلائق، والتدبير: النظر في عواقب الأمر لإيقاعها على النحو المناسب محمودة العاقبة شَفِيعٍ يشفع لأحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ رد لقولهم إن الأصنام تشفع لهم ذلِكُمُ الخالق المدبر فَاعْبُدُوهُ وحده. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ورد عليهم تعجبهم بأنه من الممكن الإيحاء إلى رجل يبشر على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الفاسدة بالعقاب، ذكر تعالى أمرين: الأول هنا: إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهي. والثاني في الآية التالية: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، ليحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر بهما الأنبياء.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أزمنة أو أيام، قيل: كأيام الدنيا وهو قول الجمهور وهو الصواب، وقيل: كل يوم كألف سنة مما تعدون، والأصح عند جماعة أنه تعالى خلق الكون سماءه وأرضه في زمن لا يعلم مقداره إلا هو. واليوم في اللغة هو الجزء من الزمن. ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله، ولا يعلمه إلا هو، والعرش هو كرسيه أو مركز تدبير الخلائق، وهو أعظم المخلوقات وسقفها، ولا يعلم أحد حقيقة العرش إلا هو سبحانه وتعالى. والله تعالى في استوائه على العرش يدبر أمر الخلائق والملكوت بما يتفق مع حكمته وعلمه، ويقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته. وإذا كان الله الرب خالق الأكوان وفاطر السموات والأرض على هذا النظام البديع المحكم، فيمكنه ولا يستبعد عنه أن يوحي بشيء من علمه على بشر من خلقه، ليهدي الناس إلى سواء السبيل، فذلك مظهر من مظاهر قدرته وإرادته، فيجب على منكري النبوة الإيمان بهذا الوحي وتصديق صاحبه وتأييده بكل ما جاء به. ولله تعالى أيضا السلطان المطلق يوم القيامة في حساب الخلائق، فلا يستطيع شفيع أن يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه أي إرادته ومشيئته، كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ 34/ 23] وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] وقوله: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه 20/ 109] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي هذا رد واضح على عبدة الأصنام أو الملائكة أو البشر الذين يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، كما قال تعالى عن عبدة الأصنام: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] . وفيه أيضا إثبات الشفاعة لمن أذن له الله الرحمن. ذلكم الله، أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية من الخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في الشفاعة، هو ربكم المتولي شؤونكم، لا غيره إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك. فاعبدوه، أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، أفلا تذكرون، أي أفلا تتفكرون أدنى تفكر في أمركم أيها المشركون، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه من الآلهة، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] وقوله: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون 23/ 86- 87] . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر 39/ 38] . فلقد كان العرب يؤمنون بوحدة الربوبية، كما فهم من الآيات المذكورة، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، لذا قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. ثم دعاهم تعالى إلى التفكر بقوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتجهلون فلا تتذكرون أن الله هو خالق السموات والأرض، فتستدلوا بها عليه؟! فقه الحياة أو الأحكام: تدل هذه الآية على ما يأتي: 1- إثبات الألوهية أو وجود الله بإثبات صفة الخلق لله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.

إثبات البعث والجزاء [سورة يونس (10) آية 4] :

2- كون خلق السموات والأرض في ستة أيام، لتعليم الخلق التثبت في الأمور، مع أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر. 3- اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسما عظيما هو العرش، الله أعلم به، وبكيفية استوائه عليه. 4- إن الله وحده هو الذي يدبر الخلائق بمقتضى حكمته، لا يشركه في تدبيرها أحد، وتدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر. 5- لا شفاعة لأحد- نبي ولا غيره- يوم القيامة إلا بإذن الله تعالى لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل؟! 6- إن الله الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره، فهو وحده الذي يستحق العبادة بإخلاص له. 7- قوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ دال على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، وأن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على عظمته أعلى مراتب التفكير وأكملها. إثبات البعث والجزاء [سورة يونس (10) : آية 4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)

الإعراب:

الإعراب: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم جَمِيعاً حال منصوب. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران منصوبان بفعلهما المقدر، أي وعد الله ذلك وعدا وحققه. المفردات اللغوية: إِلَيْهِ تعالى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي بدأه بالإنشاء حَقًّا صدقا لا خلف فيه ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث لِيَجْزِيَ يثيب بِالْقِسْطِ بالعدل حَمِيمٍ ماء شديد الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم. التفسير والبيان: أثبت الله تعالى في الآية السابقة وجوده ووحدانيته المقتضية توحيده الخالص في العبادة، وهنا يثبت أمرا آخر مهما في الإسلام وهو البعث والجزاء. يخبر الله تعالى أن إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، بعد الموت، لا يترك أحدا منكم أبدا، ووعد الله ذلك وعدا حقا ثابتا لا خلف فيه. ثم ذكر أنه تعالى كما بدأ الخلق وأنشأه حين التكوين، كذلك يعيده في النشأة الأخرى، والإعادة أهون من البدء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] . أما البدء فمشاهد بلا نزاع، ولكن البشر لم يستطيعوا إلى الآن معرفة النشأة الأولى والقوة الموجدة للحركة في المادة. وأما الإعادة فيتوقع العلماء خراب العالم، لكن بعضهم ينكر البعث والجزاء، ولكن القرآن أقام الدليل عليه بأن القادر على البدء والتكوين، قادر على إعادة الحياة مرة أخرى بعد الموت والفناء. والهدف من الإعادة حساب الخلق بالعدل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أي

فقه الحياة أو الأحكام:

ليجازي المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله وما أنزل إليهم، وعملوا الأعمال الطيبة الصالحة، بالعدل والجزاء الأوفى، فيعطي كل عامل ما يستحقه من الثواب: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] . والجزاء بالعدل لا يمنع التفضل بمضاعفة أجر المحسنين، كما قال تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر 35/ 30] وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] فالحسنى جزاء، والزيادة فضل من الله وإحسان. وأما الذين كفروا بالله ورسله وأنكروا البعث، وتعجبوا من الإيحاء إلى بشر ينذرهم ويبشرهم، فلهم من الجزاء شراب ساخن شديد الحرارة يقطع الأمعاء ويشوي البطون، بئس الشراب شرابهم، ولهم أيضا يوم القيامة عذاب موجع مؤلم أشد الألم بسبب كفرهم، من سموم وحميم وظل من يحموم: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 57- 58] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يأتي: 1- إثبات المعاد (البعث) والحشر والنشر، بدليل أنه تعالى قادر على كل شيء، فهو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف 7/ 29] فالله قادر على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق، فلأن يكون قادرا على إيجادنا مرة أخرى، مع سبق الإيجاد الأول، كان أولى وأهون. 2- الجزاء ثابت على الأعمال، أما جزاء المؤمنين الصالحين فهو مقصود

بالذات، بدليل تعليل الرجوع إليه تعالى بأنه للجزاء: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا لأن العدل يقضي بتقديم المقابل على العمل الصالح، وهو جزاء حسن لا يعادل بالعمل المبذول، بل هو أفضل وأرقى وأكمل منه بكثير، كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] وروى البخاري حديثا قدسيا: «أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وأما جزاء الكافرين على كفرهم فليس من مقاصد خلق الإنسان، وإنما اقتضاه العدل والعقل، للتمييز بين المحسنين والمسيئين، وبين الأبرار والفجار، وبين المؤمنين والكفار، لأننا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات أحيانا، ونرى العلماء والصالحين ضد ذلك، فهل يعقل أن يتساوى العامل مع العاطل، والمحسن مع المسيء؟! قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى، لإقامة العدل بين الخلائق. ودلت الآية أيضا على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمنا، وبين أن يكون كافرا لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين. والخلاصة: أثبت تعالى البعث والحشر والنشر بناء على أنه لا بد من إثابة أهل الطاعة، وعقوبة أهل الكفر والمعصية، وأن الحكمة تقتضي تمييز المحسن عن المسيء.

إثبات القدرة الإلهية في الكون بالشمس والقمر واختلاف الليل والنهار [سورة يونس (10) الآيات 5 إلى 6] :

إثبات القدرة الإلهية في الكون بالشمس والقمر واختلاف الليل والنهار [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) الإعراب: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ضياء: مفعول به ثان لجعل. وَقَدَّرَهُ الضمير إما راجع للشمس والقمر، ووحّد لكنه في معنى التثنية، اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة 9/ 62] . وإما أن يكون الضمير راجعا إلى القمر وحده لأن بسير القمر تعرف الشهور، والشهور المعتبرة في الشريعة هي الشهور القمرية، المبنية على رؤية الأهلة، وكذلك السنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ [التوبة 9/ 36] . المفردات اللغوية: ضِياءً ذات ضياء أي نور نُوراً أي ذا نور، وسمي نورا للمبالغة، وهو أعم من الضوء. وقيل: ما بالذات ضوء، وما بالاكتساب من غيره نور، وقد نبه تعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيّرة في ذاتها، والقمر نيرا بالاكتساب من الشمس وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لكل واحد من الشمس والقمر، أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدر القمر ذا منازل، والتقدير: جعل الأشياء على مقادير مخصوصة، والمنازل: مكان النزول لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أى لتعلموا بذلك حساب الأوقات من السنين والأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ المذكور إلا خلقا ملتبسا بالحق، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثا. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتدبرون، فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها.

المناسبة:

فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك وَالْأَرْضِ وفي الأرض من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها لَآياتٍ دلالات على قدرته تعالى ووجوده ووحدته وكمال علمه وقدرته. لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ يتقون عواقب الأمور، فيؤمنون، لأن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على إثبات الألوهية والتوحيد، والبعث، من خلق السموات والأرض، خصص بالذكر للتأكيد أحوال الشمس والقمر الدالة على التوحيد من جهة الخلق والإيجاد، وعلى إثبات المعاد من جهة كونهما أداة لمعرفة السنين والحساب، وذلك رصد للزمن الذي لا بد له من نهاية، وموت أهله، ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السموات والأرض. فصارت الأدلة على الألوهية والتوحيد أربعة: خلق السموات والأرض، وأحوال الشمس والقمر، والمنافع المترتبة على اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السموات والأرض من حوادث وأحوال، كالأمطار والرعد والبرق، والزلازل والبراكين، والمد والجزر في البحار، وأحوال النبات والحيوان والمعادن. التفسير والبيان: الله ربكم هو الذي خلق السموات والأرض، وجعل الشمس في النهار ضياء للكون، ومصدرا للحياة وإشعاع الحرارة الضرورية للحياة، في النبات والحيوان، وجعل القمر نورا في الليل يبدد الظلمات، وقدر مسيره في فلكه منازل أو ذا منازل، ينزل كل ليلة في واحد منها، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب، يرى القمر فيها بالأبصار، كقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس 36/ 39] .

وتخصيص القمر بذكر منازله، إذا جعل الضمير عائدا إليه وحده، لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به، ولذلك علله بقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي يعرف به حساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي، والفصول الأربعة، والحساب مطلوب لضبط أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج وزكاة ومعاملات وعقود. وإذا كان تقدير المنازل لكل من الشمس والقمر، فيعرف بهما حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام. وقد حث الشرع على الانتفاع بالحساب الشمسي في نحو قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن 55/ 5] وقوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء 17/ 12] وفي كل من الحساب الشمسي والقمري فوائد، فالحساب الشمسي ثابت، والحساب القمري أسهل على البدوي والحضري، فأنيطت به الأحكام الشرعية. ما خلق الله ذلك المذكور من الشمس والقمر إلا خلقا متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثا، بل له حكمة عظيمة في ذلك، وحجة بالغة، كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص 38/ 27] وقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] . يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يبين الله الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته، والآيات القرآنية، لقوم يعلمون طرق الدلالة على الخالق ومنافع الحياة، ويميزون بين الحق والباطل. إن في اختلاف الليل والنهار أي في تعاقبهما، إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا

فقه الحياة أو الأحكام:

ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئا، وفي طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس، ومالهما من نظام دقيق، وما فيهما من برودة وحرارة، وكون الليل لباسا وسكنا والنهار معاشا. وإن ما خلق الله في السموات والأرض من أحوال الجماد والنبات والحيوان، وأحوال الرعود والبروق والسحب والأمطار، وأحوال البحار من مد وجزر، وأحوال المعادن من خواص وتركيب ونحو ذلك. إن في ذلك كله لآيات ودلائل دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته، وعظمته، وكمال علمه، لقوم يتقون مخالفة سنن الله في التكوين، وسننه في التشريع، فسنة الكون الحفاظ على الصحة، من خالفها مرض، وسنة الحياة الاستقامة، من أفسدها وخالفها، أساء لنفسه، وكل من لم يتق عقاب الله وسخطه وعذابه بارتكاب المعاصي ومخالفة السنن، عوقب على ذلك في الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- إن أحوال الشمس والقمر وما فيهما من فوائد، والمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وكل ما خلق الله في السموات والأرض آيات دالة على وجود الله وتوحيده، وكمال قدرته وعظيم سلطانه، ولم يخلق الله ذلك إلا لحكمة وصواب، ومصلحة للإنسان. 2- وإن تقدير الشمس والقمر في منازل مفيد في التوقيت لمعرفة عدد السنين والحساب. قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت، والحساب، والتاريخ، ومنازل القمر.

المؤمنون والكافرون وجزاء كل [سورة يونس (10) الآيات 7 إلى 10] :

3- أودع سبحانه في أجرام الكواكب والأفلاك خواص معينة وقوى مخصوصة وفوائد وآثارا في هذا العالم، وإلا كان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد. 4- المستفيد من آيات الكون هم العلماء العقلاء، والمتقون الذين يخافون الله ويحذرون عقابه، والحذر يدعوهم إلى التدبر والنظر. المؤمنون والكافرون وجزاء كلّ [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) الإعراب: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف، أو خبر ثان، أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر أو حال آخر منه أو من الأنهار، أو متعلق بتجري أو بيهدي. البلاغة: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فيه التفات، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله. المفردات اللغوية: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه لإنكارهم للبعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، واللقاء: الاستقبال والمواجهة. وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا بدل الآخرة بإنكارهم لها وغفلتهم عنها. وَاطْمَأَنُّوا بِها سكنوا إليها، وقصروا هممهم على لذائذها وزخارفها. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أي تاركون النظر في دلائل وحدانيتنا، لا يتفكرون فيها، لأنهما كهم فيما يضادها.

المناسبة:

مَأْواهُمُ ملجأهم الذي يأوون إليه وقد أطلق المأوى على الجنة في ثلاث آيات، وعلى النار في بضع عشرة آية. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الشرك والمعاصي. يَهْدِيهِمْ يرشدهم. بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم، إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو نعيم عن أنس، والظاهر أنه ضعيف: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» أو لما يريدونه في الجنة، بأن يجعل لهم نورا يهتدون به يوم القيامة. دَعْواهُمْ فِيها طلبهم لما يشتهونه في الجنة، والدعوى: الدعاء، والدعاء للناس: النداء والطلب المعتاد بينهم، والدعاء لله: سؤاله الخير والرغبة فيما عنده، مع الشعور بالحاجة إليه. ودعاؤهم هنا أن يقولوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها لك وتقديسا يا الله، فإذا ما طلبوه وجدوه عندهم. وَتَحِيَّتُهُمْ فيها بينهم، والتحية: التكرمة، بقولهم: حياك الله، أي أطال عمرك. سَلامٌ السلامة من كل مكروه. أَنِ الْحَمْدُ أن مفسرة. المناسبة: بعد أن أقام الله تعالى الدلائل على إثبات الإله ووجوده، وعلى إثبات البعث والجزاء على الأعمال يوم الحساب، ذكر حال من كفر به وأعرض عن أدلة وجوده ووحدانيته، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات، ثم أوضح جزاء كل من الفريقين. التفسير والبيان: إن الذين لا يتوقعون لقاء الله في الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال، لإنكارهم البعث، ورضوا بالحياة الدنيا بدل الآخرة لغفلتهم عنها، واطمأنوا بها وسكنوا إليها وإلى شهواتها ولذائذها وزخارفها، وكانوا غافلين عن آيات الله الكونية والشرعية، فلا يتفكرون في الأولى، ولا يأتمرون بالثانية، أولئك المذكورون من الفريقين مثواهم ومقامهم النار وملجؤهم الذي يلجأون إليه، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا مع كفرهم بالله ورسوله واليوم الآخر. وهذا الجزاء توضيح للجزاء السابق المذكور في الآية [4] . وعطف وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ الذي يقتضي المغايرة إما لتغاير

الوصفين، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالفريق الأول: من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وهم الماديون الملحدون، والمراد بالفريق الثاني: من ألهته الدنيا عن التأمل في الآخرة والإعداد لها. هذا جزاء الفريق الكافر وهم الأشقياء، أما جزاء الفريق المؤمن وهم السعداء فأخبرت الآية التالية عنه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات، ولم يغفلوا عن آيات الله في الكون والشريعة، يرشدهم ربهم بسبب إيمانهم إلى الصراط المستقيم الذي يؤدي بهم إلى الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، ومن تحت غرفهم في جنات النعيم والخلد، وهذا مثل للتنعم والراحة والسعادة والانسجام في تلك المناظر الخلّابة، التي تأخذ بمجامع القلوب، وتسرّ النفوس. ومفهوم الترتيب بين الإيمان والعمل الصالح، وإن دلّ على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دلّ منطوق قوله: بِإِيمانِهِمْ على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتابع له والتتمة. دَعْواهُمْ ... أي يبدءون دعاءهم وثناءهم على الله تعالى بهذه الكلمة: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، أو اللهم إنا نسبحك، وتحيتهم فيما بينهم سَلامٌ الدالة على السلامة من كل مكروه مثل قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] ، وهي أيضا تحية المؤمنين في الدنيا، وهي كذلك تحية الله تعالى حين لقائه لأهل الجنة تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ [الأحزاب 33/ 44] وتحية الملائكة لهم عند دخول الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر 39/ 73] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وآخر دعائهم الذي هو التسبيح: الحمد لله رب العالمين، وهو أيضا أول ثناء على الله حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر 39/ 74] وهو كذلك آخر كلام الملائكة: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر 39/ 75] . قال ابن كثير: وفي هذا دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وعند ابتداء تنزيل كتابه، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام 6/ 1] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف 18/ 1] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- للكافرين الجاحدين عذاب النار بسبب ما اكتسبوا أو اقترفوا من الكفر والتكذيب والمعاصي. وقد وصفهم الله تعالى بصفات أربع هي: الأولى- إن الذين لا يرجون لقاءنا، أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. الثانية- ورضوا بالحياة الدنيا، أي رضوا بها عوضا من الآخرة، فعملوا لها. الثالثة- واطمأنوا بها، أي فرحوا بها وسكنوا إليها. الرابعة- والذين هم عن آياتنا غافلون، أي لا يعتبرون ولا يتفكرون بأدلتنا.

2- للمؤمنين المحقين العاملين الأعمال الصالحة جنات النعيم، تجري من تحتهم أي من تحت بساتينهم أو أسرّتهم الأنهار، يمجدون فيها الله تعالى بقولهم: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ويحمدون ربهم بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والفرحة تغمرهم، والبهجة تملأ قلوبهم، والسعادة ترفرف بأجنحتها عليهم، تحية الله لهم، أو تحية الملك أو تحيتهم لبعضهم: سلام. 3- التسبيح والحمد والتهليل قد يسمّى دعاء، روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات وربّ الأرض ورب العرش الكريم» قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء، ويسمّونه دعاء الكرب. وهذا الدعاء الصادر من أهل الجنة ليس بعبادة إذ لا تكليف في الجنة، إنما يلهمون به، فينطقون به تلذذا بلا كلفة. 4- من السنة لمن بدأ بالأكل أو الشرب أن يسمّي الله عند أكله وشربه، ويحمده عند فراغه، اقتداء بأهل الجنة. ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة، فيحمده عليها» . 5- يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه، كما قال أهل الجنة: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. 6- الإيمان والعمل الصالح طريق الإنسان إلى الجنة. والله يهدي أي يسدد ويرشد بسبب الإيمان إلى طريق الاستقامة المؤدي إلى الثواب على الأعمال. ويجوز أن يريد الله تعالى بقوله: يَهْدِيهِمْ أي في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد 57/ 12] ومنه الحديث: «إن المؤمن إذا خرج من

استعجال الإنسان الخير دائما والشر حال الغضب [سورة يونس (10) الآيات 11 إلى 12] :

قبره، صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار» . وما على المؤمن إلا أن يستزيد من الأعمال الصالحة ليتبوأ مكانه في الجنة، إذ ليست الجنة بمجرد الاتصاف بالإسلام، أو بالتمنيات المعسولة، كما قال تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء 4/ 123- 124] والنقير: قدر النّقرة في ظهر النواة. والإيمان: هو المعرفة والهداية المترتبة عليها. والمقصود: معرفة صفات الله تعالى، لا معرفة ذاته فذلك مستحيل. والأعمال الصالحة: عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة. والأعمال المذمومة ضدّ ذلك. استعجال الإنسان الخير دائما والشرّ حال الغضب [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 12] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

الإعراب:

الإعراب: اسْتِعْجالَهُمْ منصوب على المصدر، تقديره: استعجالا مثل استعجالهم. فحذف المصدر وصفته، وأقام ما أضيفت إليه الصفة مقامه. لِجَنْبِهِ في موضع نصب على الحال، وعامله دَعانا وقيل: العامل: مسّ، أي مسّ الإنسان مضطجعا أو قاعدا أو قائما، والأول أرجح. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا مخففة من الثقلية واسمها محذوف أي كأنه، وحذف ضمير الشأن. البلاغة: الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم، ففيه تشبيه مؤكد مجمل. وبين الشرّ والخير طباق. ووضع الاستعجال موضع التعجيل لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير. المفردات اللغوية: يُعَجِّلُ يقدمه على وقته، والتعجيل: تقديم الشيء على وقته المقدر له. اسْتِعْجالَهُمْ طلب التعجيل، قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ بأن يهلكم ولكن يمهلهم، وقضاء الأجل: انتهاؤه. فَنَذَرُ نترك. فِي طُغْيانِهِمْ الطغيان: مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان. يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين. الضُّرُّ الشدة كالمرض والفقر والخطر. لِجَنْبِهِ أي مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً في كل حال. مَرَّ مضى في طريقته على كفره. كَذلِكَ أي كما زين له الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء. لِلْمُسْرِفِينَ المشركين، والإسراف: تجاوز الحد. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة، ثم ذكر أدلة التوحيد والبعث، أبان هنا الجواب عن قول كانوا يقولونه: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ومضمون الجواب: أنه لا مصلحة لهم في استعجالهم الشر وإلا ماتوا وهلكوا.

التفسير والبيان:

وأما مضمون الجواب عن تعجبهم: فهو أني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد، وقد أقمت الأدلة على صحتها، فلا معنى للتعجب من نبوتي. التفسير والبيان: العجلة من طبائع الإنسان، فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه، ويتعجل الشّر حين الغضب والحماقة والضجر، فلو يعجل أو يسرع الله للناس إجابة دعائهم في حال الشر، كاستعجالهم تحقيق الخير، لأميتوا وأهلكوا، وذلك مثل استعجال مشركي مكة إنزال العذاب عليهم، كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد 13/ 6] وقال سبحانه: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . وسمى الله تعالى العذاب شرّا في هذه الآية لأنه أذى في حق المعاقب، ومكروه عنده، كما أنه سماه سيئة في قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ.. وفي قوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . ولكنه تعالى بحلمه ولطفه بعباده لا يستجيب لهم ويذرهم إمهالا لهم واستدراجا، فإنه لو أجابهم لانتهى أمرهم وهلكوا، كما هلك الذين كذبوا الرسل، وربما آمن به بعضهم، أما من عاند فيعاقبه الله بالقتل، كما قال تعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 14] . وأما عذاب سائر الكفار فنتركه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي فنترك غير المتوقعين لقاءنا فيما هم فيه من طغيان الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين، ولا نعجل لهم في الدنيا عذاب الاستئصال تكريما للنبي صلى الله عليه وسلّم، ونمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.

وكذلك اقتضت رحمته تعالى بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر، في حال الضجر والغضب لأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك. روى أبو داود والحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة، فيستجيب لكم» وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: «إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه» . ومن عجلة الإنسان أيضا وضجره وقلقه أنه إذا أصابه الضرّ أي الشدة والألم من مرض أو فقر أو خطر: يدعو ربه بإلحاح في كشف ضره وإزالته، حالة كونه مضطجعا لجنبه، أو قاعدا أو قائما وفي جميع أحواله لأن فائدة الترديد في القعود وغيره تعميم الدعاء لجميع الأحوال، فإذا فرّج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء، ومضى في طريقه من الغفلة عن ربه والكفر به، كأنه لم يدع إلى شيء ولم يكشف الله عنه ضره. فقوله: إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أي إلى كشف ضر. وذلك كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت 41/ 51] ، ثم قال تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي مثل ذلك العمل القبيح المنكر أو التزيين وهو الذي حدث من اللجوء إلى الله تعالى وقت الشدة وتركه في الرخاء، زيّن للمشركين طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك والإعراض عن القرآن والعبادات، واتباع الشهوات. والمراد بالإنسان في قوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ هو الكافر لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوله: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً يراد به أحوال الدعاء. والمراد بالمزين في قوله: زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ هو الشيطان أو النفس، أو الله تعالى. وسمي الكافر مسرفا في نفسه وماله ومضيعا لهما لأنه في النفس جعلها عبدا للوثن، وفي المال فلأنه أضاعه فيما لا يفيد. والأصح كما قال القرطبي أن الآية تعم الكافر وغيره، وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته العافية، استمر على ما كان عليه من المعاصي. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الآتي: 1- الله لطيف بعباده حليم رحيم بهم لا يستجيب دعاءهم على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال الضجر والغضب، فلو عجل الله للناس العقوبة، كما يستعجلون الثواب والخير، لماتوا لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وذلك على عكس خلقهم يوم القيامة لأنهم حينئذ يخلقون للبقاء. فالآية ذامّة خلقا ذميما في بعض الناس، يدعون في الخير، فيريدون تعجيل الإجابة، ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشرّ، فلو عجّل لهم لهلكوا. ومن حكمة الله تعالى أن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم قومه العرب وآخرون من الأمم، ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة، وهذا معنى قوله: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ... 2- لا يعجل الله للناس الشر، فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. وقد رحم الله تعالى العالم كله بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فرفع عن الأمم عذاب الاستئصال لأنه رحمة للعالمين. 3- الإنسان في جميع حالاته الاضطرارية لا يجد ملجأ أمامه سوى الله تعالى

سنة الله في إهلاك الأمم الظالمة الكافرة واستخلاف خلائف بعدهم [سورة يونس (10) الآيات 13 إلى 14] :

فيدعوه لكشف ما تعرض له من ضرّ، ولكنه سرعان ما ينسى ربه، ولا يكون وفيا لفضل الله عليه، فإذا نجا وكشف الله عنه الضر، استمر على كفره ولم يشكر ولم يتّعظ. 4- وكما زيّن للإنسان الدعاء عند البلاء، والإعراض عند الرخاء، زيّن للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي، وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله بخذلانه وتخليته، ويجوز أن يكون من الشيطان بوسوسته. وإضلال الشيطان: دعاؤه إلى الكفر. سنة الله في إهلاك الأمم الظالمة الكافرة واستخلاف خلائف بعدهم [سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) الإعراب: لَمَّا ظَلَمُوا لَمَّا: ظرف لأهلكنا لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي. وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عطف على ظَلَمُوا، أو حال من واو ظَلَمُوا بإضمار: قد. كَيْفَ تَعْمَلُونَ كيف: معمول تَعْمَلُونَ ومنصوب به. البلاغة: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه.

المفردات اللغوية:

لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ في النظر استعارة تمثيلية، حيث شبه حال العباد مع الله، بحال رعية مع حاكمها، في إمهالهم للنظر في أعمالهم، وأستعير المشبّه به للمشبه للتقريب والتمثيل، لكن ليس كمثل الله شيء. وأستعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنطر الناظر وعيان المعاين. المفردات اللغوية: الْقُرُونَ الأمم، جمع قرن: وهم القوم المقترنون في زمان واحد. مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم. لَمَّا ظَلَمُوا بالشرك والتكذيب. بِالْبَيِّناتِ الدلالات الواضحات الدالة على صدقهم. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء: وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم. نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الكافرين. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أهل مكة. خَلائِفَ جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيها، أتعملون خيرا أو شرا، فنعاملكم على مقتضى أعمالكم، وهل تعتبرون بالأمم السابقة، فتصدقوا رسلنا. وننظر: نشاهد ونرى. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أنهم كانوا يتعجلون العذاب، وأوضح أنه لا فائدة في إجابة دعائهم، ثم ذكر أنهم كاذبون في هذا الطلب إذ لو نزل بهم ضر، تضرعوا إلى الله تعالى في إزالته وكشفه، بيّن هنا ما يجري مجرى التهديد: وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال، كما أنزله في الأمم السابقة، ليكون ذلك رادعا لهم عن مطلبهم تعجيل العذاب. التفسير والبيان: يخاطب الله تعالى أهل مكة ويخبرهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم قبلهم بسبب ظلمهم وتكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، كما قال: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف 18/ 59] وهلاك تلك القرى والأمم بالظلم: إما بعذاب الاستئصال لأقوام

الرسل الذين كذبوا بهم مثل قوم نوح وعاد وثمود، وإما بإضعافهم واستيلاء الأمم القوية عليهم بسبب ظلم الأفراد بالفسق والفجور أو ظلم الحكام. لقد أهلكناهم لما كذبوا بالبينات الدالة على صدق رسلهم، وما كانوا ليؤمنوا، أي وما كانوا يؤمنون حقا، وهو تأكيد لنفي إيمانهم، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل. كذلك.. أي مثل ذلك الجزاء أي الإهلاك، نجزي كل مجرم. وهذا وعيد شديد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ثم خاطب الله الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ أي جعلناكم خلفاء في الأرض بعد تلك القرون التي أهلكنا، لننظر أتعملون خيرا أم شرا، وننظر طاعتكم لرسولنا واتباعكم له. وفي هذا بيان بأن أمة الإسلام ستكون لها الخلافة في الأرض إذا لازمت الطاعة واتبعت هدي القرآن: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور 24/ 55] وقد تمت هذه فملكوا ملك كسرى وقيصر وفرعون وكثير من الأمم. وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء» . والخلافة منوطة بالأعمال الصالحة، لا بمجرد الوراثة للصفة الإسلامية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى المبادئ التالية: 1- إن إهلاك الأمم الظالمة قديما وحديثا إنما يكون بسبب الظلم، والظلم: إما الكفر والشرك، وإما طغيان الأفراد أو الحكام. 2- هذه الآية تخويف ووعيد لأهل مكة الكفار ولأمثالهم على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالله قادر على إهلاك الأمة التي تكذب محمدا صلى الله عليه وسلّم، ولكن حكمته اقتضت إمهالهم لعلمه بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهكذا حال الأمم الحالية، نرى في كل أمة اتجاها إلى إيمان الآلاف منهم بعقيدة الإسلام ونظامه. 3- هذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان. 4- الاستخلاف في الأرض منوط بالعمل الصالح، فالله يستخلف قوما بعد آخرين لينظر كيف يعملون، خيرا أو شرا، فيعاملهم على حسب عملهم. وبما أن الله يعلم ما سيكون في المستقبل في كل أنحاء الكون ومن المخلوقات، فيكون المقصود إقامة الدليل الحسي والمادي المشاهد على الناس من خلال أعمالهم الواقعية، لذا قال المفسرون كالرازي: ليس معنى الآية بأن الله تعالى ما كان عالما بأحوال الخلق قبل وجودهم، وإنما المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه، كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك 67/ 2] .

مطالبة المشركين بقرآن آخر أو بتبديل بعض آياته [سورة يونس (10) الآيات 15 إلى 17] :

مطالبة المشركين بقرآن آخر أو بتبديل بعض آياته [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 17] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) الإعراب: بَيِّناتٍ حال. مِنْ تِلْقاءِ مصدر استعمل ظرفا. البلاغة: أَفَلا تَعْقِلُونَ استفهام إنكار وتوبيخ. المفردات اللغوية: آياتُنا القرآن. بَيِّناتٍ ظاهرات. قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا وهم المشركون الذين لا يخافون البعث. ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ليس فيه عيب آلهتنا، ولا ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت. أَوْ بَدِّلْهُ بنفسك بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى. ما يَكُونُ لِي ما ينبغي وما يصح لي. أَنْ ما عَصَيْتُ رَبِّي بتبديله. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. وهذا يعني أنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به على لساني، وَلا: نافية عطف على ما قبله والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى، لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه. لَبِثْتُ مكثت. فِيكُمْ عُمُراً أربعين سنة. مِنْ قَبْلِهِ لا أحدثكم بشيء. أَفَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من قبلي، أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه، لتعلموا أنه ليس إلا من الله.

المناسبة:

فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن فكفر بها. إِنَّهُ أي الشأن. لا يُفْلِحُ لا يسعد. الْمُجْرِمُونَ المشركون. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى شبهتين للمشركين (وهما التعجب من إنزال الوحي على بشر وتخصيص محمد بالنبوة، والمطالبة بتعجيل العذاب إن كان ما يقول محمد حقا، ثم أثبت لهم الألوهية والتوحيد والقدرة على الوحي والبعث بخلق العالم وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه، ذكر هنا النوع الثالث من شبهاتهم في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو التشكك في القرآن، لذا طالبوه بأحد أمرين: أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن، أو أن يبدل هذا القرآن. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] فذكر تعالى أنهم كلما تليت عليهم آيات: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. التفسير والبيان: إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلّم على المشركين كتاب الله وحججه الواضحة، قالوا له: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر، ليس فيه ما يعيب آلهتنا ولا ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال، أو بدّله إلى وضع آخر، بأن تجعل مكان آية الوعيد آية أخرى. ومقصدهم من هذه المساومة إذا نفّذ اقتراحهم إبطال دعواه أن القرآن كلام

الله. وقوله: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب، أي أنهم مكذبون بالحشر والنشر. فأمره الله أن يقول ردا عليهم: ما يصح لي وليس من شأني أن أبدل هذا القرآن من قبل نفسي، فإني ما أتبع فيه إلا ما يوحى إلي، وهو ما أبلّغكم به، وما علي إلا البلاغ، فهو كلام الله تعالى، والمتبع لغيره في أمر ليس له التصرف فيه. وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل، لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر. فقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ تعليل لما يكون، ثم أكد ما سبق بقوله: إِنِّي أَخافُ.. أي إني أخشى إن ارتكبت أي مخالفة أو عصيان لما أمر ربي عذاب يوم عظيم هو عذاب النار يوم القيامة. وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. ثم احتج لهم في مجال صحة ما جاءهم به، وهو جواب عن طلبهم الأول تغيير القرآن، بقوله: قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ.. أي قل لهم أيها الرسول: لو شاء الله ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه بأمره، وجئتكم به بإذنه، وأفعل ذلك بمشيئته وإرادته. ولو شاء الله ألا يعلمكم به بإرسالي إليكم، لما أرسلني، ولما أعلمكم الله به، ولا أخبركم به، ولكنه شاء أن يرفدكم بهذا الكتاب المشتمل على الهدى والسعادة: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف 7/ 52] . والدليل على ما أقول أني لبثت فيكم مقدار عمر أربعين سنة من قبل نزول القرآن، لا أتلو شيئا منه ولا أعلمه أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر في أن من عاش أميا أربعين سنة، لم يقرأ كتابا، ولا تعلم من

فقه الحياة أو الأحكام:

أحد، ولا خطّ بيمينه شيئا من الكلام، لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولكل العلماء، فأنتم وغيركم من الإنس والجن لم تستطيعوا معارضته. وهذه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة لأنه كلام الله، وليس كلام بشر، بدليل أنكم فرسان البلاغة والفصاحة وأساطين البيان، ولم تأتوا بسورة من مثله لأن فصاحته بذّت فصاحة كل منطيق، وعلا عن كل منثور ومنظوم، واحتوى على قواعد الأصول والفروع، وأعرب عن قصص الأولين، وأخبر عن مغيبات المستقبل، وجاء مطابقا للعلوم الصحيحة والنظريات العلمية الثابتة: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] . فلا أحد أظلم من رجلين: أحدهما- من افترى على الله الكذب بنسبة الشريك أو الولد إليه، أو بتبديل كلامه على النحو الذي اقترحتموه، أو بالتقول على الله والزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك. والثاني- من كذّب بآيات الله البينة، فكفر بها، ثم علل تعالى ذلك بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ ... أي إنه لا يفوز المجرمون، أي الكافرون في الآخرة، فالمقصود من قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ ... نفي الكذب عن نفسه. والمقصود بقوله: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث كذبوا بآيات الله. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- التسجيل الواضح الفاضح لكلام المشركين المطالبين إما الإتيان بغير القرآن وإما تبديله، والفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه غيره، وأما التبديل فلا يجوز أن يكون معه غيره. وسبب هذا الطلب إما السخرية والاستهزاء، وإما التجربة والامتحان.

ومضمون الأمرين: إما إسقاط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وإما تحويل الوعد وعيدا، والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا، وإما إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور. ويصح إرادة كل هذه الأشياء. 2- رفض مطالب المشركين، وإعلان كون القرآن كلام الله، وأن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلّم مقصورة على تبليغ ما يوحى إليه، واتباع ما يتلوه عليهم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي. 3- الموقف الثابت من عدم التبديل والتغيير لشريعة القرآن، والإصرار على العمل بالقرآن إنما هو بسبب التعرض لعذاب عظيم يوم القيامة. 4- المقصود من إنزال القرآن تبليغه إلى جميع الناس، ولا سيما المشركون، ولولا أن تكون مشيئة الله ذلك لما أنزله، ولما أمر بتلاوته عليهم، ولما أخبرهم بمضمونه. 5- القرآن كلام الله بدليل إعجازه من حيث النظم والأسلوب والمبنى، ومن حيث المعاني التي اشتمل عليها، وبدليل كون المبلّغ له أمّيا لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلم من أحد، وبدليل التحدي لمعارضته والإتيان بمثله أو بأقصر سورة من مثله. 6- لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ممن افترى على الله الكذب، وبدّل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله، وكذلك لا أحد أظلم منكم أيها المشركون والكفار إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم: ليس هذا كلامه. 7- لا فوز ولا فلاح للمجرمين الكافرين، والاجرام مصيره الخيبة حتما.

عبادة الأصنام وادعاء شفاعتها [سورة يونس (10) آية 18] :

عبادة الأصنام وادعاء شفاعتها [سورة يونس (10) : آية 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) الإعراب: هؤُلاءِ إشارة إلى ما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ حملا على معنى ما لأنها هاهنا في معنى الجمع، وإن كان لفظها مفردا، كما أن مِنْ تقع على الجمع، وإن كان لفظها مفردا. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف في يَعْلَمُ مؤكدة للنفي، منبهة على أن ما تعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي. عَمَّا يُشْرِكُونَ ما: موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء أو عن إشراكهم. البلاغة: أَتُنَبِّئُونَ استفهام تقريع وتهكم بهم. المفردات اللغوية: مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وهو الأصنام لأنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر، والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. وَيَقُولُونَ عنها هؤُلاءِ الأوثان شُفَعاؤُنا تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا وفي الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم شاكين فيه. أَتُنَبِّئُونَ أتخبرون بِما لا يَعْلَمُ وهو أن له شريكا، إذ لو كان له شريك لعلمه، إذ لا يخفى عليه شيء سُبْحانَهُ تنزيها له عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن المشركين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلّم قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي اتخذوها آلهة لأنفسهم، ندد بعبادتهم تلك الأصنام وجعلها شفعاء، مع أنها جماد لا تضر ولا تنفع، ولا برهان لهم على ما يدّعون، فكيف يليق بالعقلاء عبادتها من دون الله؟! التفسير والبيان: ينكر الله تعالى على المشركين أمرين: عبادة الأصنام وجعلها شفعاء لهم عند الله، ظانين أنها تنفعهم شفاعتها عند الله، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا. إن أكثر العرب كانوا يعترفون بالخالق: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 9] وينكرون البعث، ويعبدون الأصنام، وهي لا تنفع ولا تضر لأنها حجارة أو أجسام مصنوعة، فهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، كما قال تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ، إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف 12/ 106] . فهم يزعمون وجود قدرة للأصنام على النفع والضرر، وأنها وسطاء تملك الشفاعة لهم عند الله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] فهذان هما السببان في عبادتهم الأصنام. روي أن النضر بن الحارث قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللّات والعزى. فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ.. أي قل أيها الرسول لهم: لا دليل لكم على ما تدعون، أتخبرون الله بما لا وجود له في السموات ولا في الأرض، وما لا يعلمه من هؤلاء الشفعاء؟ نظيره قوله: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ

فقه الحياة أو الأحكام:

فِي الْأَرْضِ [الرعد 13/ 33] ونفي العلم دليل على عدم وجود تلك الشفعاء والشركاء لله، فلا شيء من الموجودات السماوية والأرضية إلا وهو حادث مقهور مثلهم، لا يليق أن يشرك به. ثم نزّه الله تعالى نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله وتعاظم وتعالى علوا كبيرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء، فهو منزه عن إشراكهم وعن الشركاء الذين يشركونهم به. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- عبد المشركون الأصنام مع اعترافهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى لأمرين: اعتقادهم فيها القدرة على الضرر والنفع، وأنها تملك الشفاعة لهم عند الله في أمور الدنيا والآخرة. وهذا غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وتركوا عبادة الموجد الضار النافع. 2- عبادة المشركين الأوثان واتخاذها شركاء لله افتراء على الله بوجودها، فلا وجود أصلا لتلك الشركاء في السموات والأرض لأن الله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض لأنه لا شريك له، فلذلك لا يعلمه، فلو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى، وحيث لم يكن معلوما لله تعالى وجب ألا يكون موجودا. 3- دل قوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ على أنه أعظم من أن يكون له شريك. قال الزمخشري عن عَمَّا ما: موصولة أو مصدرية. أي عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم. 4- أثبتت الآية بطلان الشرك في الألوهية: وهو عبادة غير الله مطلقا،

الأصل في الناس جميعا كونهم على الدين الحق [سورة يونس (10) آية 19] :

وبطلان الشرك في الربوبية، بادعاء وساطة المعبود في الخلق والتدبير، أو الشفاعة عند الله. الأصل في الناس جميعا كونهم على الدين الحق [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) المفردات اللغوية: أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد وهو دين الإسلام من لدن آدم إلى نوح، أو من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحيّ الذي سنّ للعرب عبادة الأصنام فَاخْتَلَفُوا بأن ثبت بعض وكفر بعض وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحكم بينهم أو تأخير الجزاء والعذاب الفاصل إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الناس عاجلا في الدنيا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بإهلاك المبطلين وهم الكافرون، وإبقاء المحقين وهم المؤمنون. المناسبة: بعد أن أقام الله تعالى الأدلة على بطلان عبادة الأصنام، بيّن سبب حدوث هذا المذهب الفاسد، وأن هذا الشرك حادث في الناس بسبب الاختلاف أي اتباع الهوى والباطل، بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد هو الدين الحق وهو دين الإسلام. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال 8/ 42] .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة على الفطرة النقية المؤمنة بالله تعالى وحده لا شريك له، أي فطرة الإسلام والتوحيد. ثم اختلفوا بعدئذ في الأديان باتباع الأهواء والأباطيل، أو عند بعثة الرسل فتبعتهم طائفة وأصرّت أخرى على الضلال. ونظير هذه الآية قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة 2/ 213] ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» «1» . فكل الناس كانوا جميعا على الدين الحق وهو دين الإسلام، ثم اختلفوا فبعث الله الأنبياء والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب الله، فمنهم من آمن واهتدى، ومنهم من ضل واعتدى، ثم اختلفوا في كتاب الله اتباعا لأهوائهم. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، أي ولولا ما تقدم من الله تعالى من كلمة حق في جعل الجزاء الفاصل بين الناس يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء، لعجّل لهم العذاب في الدنيا بإهلاك المبطلين، وتعذيب العصاة بسبب اختلافهم، ولقضي بينهم فيما اختلفوا فيه: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس 10/ 93] . وفي هذا وعيد على الاختلاف في أصول الاعتقاد وفي الكتاب الذي أنزل لإعادة الناس إلى الوحدة الأولى وإزالة الشقاق بينهم. كما أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم في تأخير العذاب عمن كفر به، وبيانا لطبع الإنسان.

_ (1) رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع، وهو حديث صحيح. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآية أحكاما ثلاثة: 1- الأصل في الإنسان كونه على دين الفطرة والتوحيد، وهذا دليل على عدل الخالق ورحمته، فإنه تعالى خلق كل إنسان موحدا، وحكم ببقائه على التوحيد إلى البلوغ، ثم تركه للعقل والتفكر في الوحي الإلهي. 2- الاختلاف على الأنبياء والكتب الإلهية بسبب اتباع الهوى والباطل هو سبب تفرق الناس وانقسامهم إلى مؤمنين وكفار. 3- سبق القضاء والقدر وتم حكم الله بأنه لا يقضي بين العباد فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة، ولولا ذلك الحكم السابق والتأجيل المتقدم، لقضى الله بين الناس في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار بكفرهم، وهو موعدهم يوم القيامة الذي جعله الله لحكمة بالغة هي إعطاء الفرصة الكافية للإنسان في تصحيح عقيدته، وتعديل وضعه، والتوبة من عصيانه وكفره وضلاله، حتى لا يؤخذ على حين غرّة. طلب المشركين إنزال آية كونية [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) المفردات اللغوية: وَيَقُولُونَ أي أهل مكةهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد صلى الله عليه وسلّم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي آية حسية كونية مادية من الآيات التي اقترحوها، كما كان للأنبياء من ناقة صالح، والعصا واليد لموسى، والمائدة لعيسى عليهم السلام فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فقل لهم: إنما الغيب (وهو ما غاب

المناسبة:

عن العباد) لأمر الله، فهو المختص بعلمه، ولا يأتي بها إلا هو، وإنما على التبليغ، ولعله لا ينزلها، لعدم الفائدة في إنزالها، فقد نزلت آيات كثيرة ولم يؤمن بها المعاندون الجاحدون، والمانع من إنزالها أمر مغيب لا يعلمه إلا هو فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه، أو العذاب إن لم تؤمنوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل عليه من الآيات العظام واقتراحكم غيره. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ثلاث شبهات للمشركين للطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم (وهي عجبهم من نزول الوحي على محمد، وتعجلهم العذاب إن كان صادقا، وتشككهم في القرآن) ذكر هنا شبهة رابعة لإنكار نبوته، وهي أن الكتاب لا يكون معجزا، بدليل أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما، بل كان لهما معجزات أخرى دلت على نبوتهما، وكان في مشركي العرب من يدعي إمكان معارضة القرآن، لقوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] وإنما لا بد لإثبات نبوته من نزول آية كونية حسية مادية غير هذا القرآن، ليكون معجزة له. هذا مع العلم بأن القرآن الكريم اشتمل على آيات علمية وعقلية دالة على النبوة والرسالة. التفسير والبيان: ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون قولا متكررا: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم آية كونية حسية مشاهدة كالتي نزلت على نوح وشعيب وهود وصالح وموسى وعيسى، أو أن يحول الصفا لهم ذهبا، أو يزيح، عنهم جبال مكة، ويجعل مكانها بساتين وأنهارا، أو نحو ذلك مما الله عليه قادر. وقد حكى القرآن عنهم في مواضع كثيرة هذا الطلب بإنزال معجزات مادية، وأجاب عنه إما مجملا كما هنا، وإما مفصلا، كما في سورة الفرقان: وَقالُوا

مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [7- 8] ثم في آيات بعدها: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [10] . وفي سورة الإسراء طالبوا بواحدة من بضع آيات: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [90- 93] . وكان الرد الحاسم على مثل هذه الاقتراحات قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء 17/ 59] أي كذب بها قوم عاد وثمود وغيرهم. وقضينا ألا نعاملهم بمثل معاملة الأقوام الغابرة، فنستأصلهم لأن محمدا خاتم النبيين، ورحمة عامة شاملة للعالمين، وقد يلد منهم من يؤمن ويوحد الله تعالى. ومع كل هذا آتى الله نبيه آيات علمية وكونية، ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته، ولا طالبهم بالإيمان بموجبها، بل كانت لضرورة كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلّم، كشفاء المرضى، وإشباع العدد الكثير في غزوتي بدر وتبوك من الطعام القليل، وانشقاق القمر نصفين، وحنين الجذع، وتكليم الضب، ونحو ذلك مما هو معروف مستقصى في كتب السنة والسيرة مثل أعلام النبوة للماوردي. وبالرغم من تلك الآيات، ظل القرآن الكريم هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلّم الخالدة، ولعل عصرنا بما اكتشف فيه من اختراعات عجيبة، وظهرت فيه

فقه الحياة أو الأحكام:

نظريات كونية وعلمية تتفق مع الأخبار الواردة في القرآن، يؤيد الاكتفاء بهذه المعجزة. روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . وكان الجواب الإجمالي في هذه الآية: فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي إن تلبية مقترحاتكم ونزول الآية من الأمور الغيبية، والله وحده هو المختص بعلم الغيب، فلا يعلم به إلا هو، والأمر كله لله، وهو يعلم عواقب الأمور، وليس لي ولا لأحد علم بالغيب المستأثر به سبحانه وتعالى، فإن قدّر إنزال آية علي، فهو يعلم وقتها. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي إن كنتم لا تؤمنون بي حتى تشاهدوا ما سألتم من نزول الآيات المقترحة، فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم، وهو ما سيحلّ بكم من العذاب لعنادكم وجحودكم بالآيات. وقد فسّر الله تعالى ما ينتظر في القسم الأخير من هذه السورة: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [102] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآية أمرين: 1- علم الغيب ومنه الوحي وإنزال المعجزات والآيات الكونية مختص بالله تعالى، وما النبي إلا رسول موحى إليه، يبلّغ ما أنزل إليه من ربه. 2- تهديد كفار مكة وأمثالهم بحلول العذاب إن لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنذارهم بفصل القضاء بينه وبينهم بنصره عليهم، وإظهار المحق على المبطل.

عادة الكفار المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف [سورة يونس (10) الآيات 21 إلى 23] :

عادة الكفار المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) الإعراب: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ بَغْيُكُمْ: مبتدأ، وعَلى أَنْفُسِكُمْ: خبره. مَتاعَ الْحَياةِ منصوب إما بفعل مقدر، تقديره: تبتغون متاع الحياة الدنيا، أو على المصدر المؤكد بفعل مقدر تقديره: تمتعوا متاع الحياة الدنيا. ويقرأ بالرفع خبرا بعد خبر لبغيكم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو متاع الحياة الدنيا. ويقرأ بالجر على غير المشهور على البدل من الكاف والميم في أَنْفُسِكُمْ وتقديره: إنما بغيكم على متاع الحياة الدنيا. جاءَتْها جواب إِذا. دَعَوُا اللَّهَ ... بدل من: ظَنُّوا بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم. لَئِنْ أَنْجَيْتَنا.. على إرادة القول، أو مفعول: دعوا لأنه من جملة القول. ولام لَئِنْ: لام القسم. البلاغة: أَسْرَعُ مَكْراً المكر: إخفاء الكيد، وهو من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر، وتسمية عقوبة الله مكرا من باب «المشاكلة» .

المفردات اللغوية:

وَجَرَيْنَ بِهِمْ فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة، لزيادة التقبيح والتشنيع على الكفار، لعدم شكرهم النعمة، وللتعجب من حالهم والإنكار عليهم. المفردات اللغوية: أَذَقْنَا أصل الذوق: إدراك الطعم بالفم، ويستعمل مجازا في إدراك غيره من الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة، والعذاب والنقمة. النَّاسَ أي كفار مكة رَحْمَةً مطرا وخصبا وصحة وسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ بؤس، وجدب أو قحط، ومرض مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها والاحتيال في دفعها بالاستهزاء والتكذيب قُلِ لهم اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً المكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالغير إلى مالا يتوقعه، والمراد هنا: مجازاة أو جزاء على المكر، أو المراد الاستدراج إِنَّ رُسُلَنا الحفظة الكرام الكاتبين من الملائكة. يُسَيِّرُكُمْ يسخّر لكم، أو يعطيكم أداة السير من سفينة أو دابة أو سيارة أو طائرة ونحوها، أو يحملكم على السير ويمكنكم منه، والتسيير بإيجاز: التمكين من الانتقال بالنفس أو بالواسطة الْفُلْكِ السفن أو السفينة، جمعا أو واحدا بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة، والطيب من كل شيء: ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال: رزق طيب، ونفس طيبة، وشجرة طيبة جاءَتْها الضمير للفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها رِيحٌ عاصِفٌ شديدة الهبوب، تكسر كل شيء، وذات عصف أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء مِنْ هذِهِ الأهوال الشَّاكِرِينَ الموحدين. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه، والبغي: الزيادة على القصد والاعتدال حتى الوقوع في الفساد والظلم، كالشرك، وبغير الحق أي مبطلين فيه. وأما الفساد بحق كتخريب الديار وإحراق الزروع وقطع الأشجار في حالة الحرب فهو إفساد بحق إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ظلمكم أي وباله وإثمه عليكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتعون فيها قليلا مَرْجِعُكُمْ أي بعد الموت فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فنجازيكم المناسبة: بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين الطالبين إنزال آية كونية غير القرآن، بأن هذا من الغيب المستأثر به الله تعالى، ذكر جوابا آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم لأن عادتهم المكر والجحود والعناد

التفسير والبيان:

وعدم الإنصاف، فكثيرا ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله ثم يمكرون فيها، فهم إن أصابتهم الشدة تضرعوا، وإن جاءتهم الرحمة بطروا وكفروا. التفسير والبيان: موضوع هذه الآيات الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية، فإذا تحققت لم يعتبروا ولم يتعظوا، مما يدل على سوء طبع الإنسان وتأصل خلق السوء فيه، وتنكره للأدلة العقلية والحسية، والقواعد الخلقية أيضا التي تقتضي الوفاء بالمعروف وشكر النعمة الإلهية. وهذا المذكور في الآيات مثال لسوء الطبع والانقلاب على الفطرة. إذا أذاق الله الناس رحمة، ورزقهم فضلا، من بعد ضرّاء مستهم «1» ، كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط ونحو ذلك، إذا هم يسرعون بالمفاجأة الغريبة وهي المكر في مقام الحمد والشكر، والمراد بالمكر: الاستهزاء والتكذيب لها، أو الطعن فيها والاحتيال في دفعها، والتنكر لها. وهكذا إذا رزق الله المطر، قال الإنسان: مطرنا لأنا في فصل الأمطار، أو لأن الكوكب الفلاني طلع، وإذا نجا من مكروه أو شدة، قال: نجوت صدفة، وإذا نجح في مشروع ما، نسب النجاح إلى تفوقه ومهارته وذكائه، ولم يذكر توفيق الله له، كما قال قارون: إنما أوتيته أي المال على علم عندي، وإذا رفع الكرب بدعاء نبي، لم يقروا له بالفضل، كما حدث لمشركي مكة، روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم نسبوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء «2» ، وكل ذلك لمقابلة النعمة بالكفران.

_ (1) ذكر هذا القيد لأن الشعور بالنعمة بعد زوال البؤس والشدة أكمل وأتم وأفرح. (2) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما. وكانت العرب-

والقصة هي كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صل الله عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسنيّ سيدنا يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدخان 44/ 10- 11] فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قوما ربما هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم، فكشف الله عنهم العذاب، ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول يطعنون في آيات الله، ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلّم، ويكذّبونه» . فرد الله عليهم بقوله: قُلِ: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي قل لهم يا محمد: إن الله أسرع جزاء لكم على أفعالكم قبل أن تدبروا مكائدهم لإطفاء نور الإسلام، أو أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة، ثم يؤخذ على غرة منه. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي إن الحفظة أو الكتبة من الملائكة الكرام يكتبون جميع ما تفعلونه وتدبرونه أو تخططون له، ويحصونه عليكم، ثم يعرضونه على الله عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلا منكم على الجليل والحقير. وفي هذا دلالة على تمام الحفظ والعناية وعدم خفاء تدبيرهم على الله تعالى، وعلى أن عقابه واقع بهم لا محالة. ثم ضرب الله مثلا للمشركين المعاندين على مقابلتهم النعمة بالجحود، فقال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ.. أي إن الله تعالى هو الذي يمكنكم من السير والانتقال

_ - تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها لأنه في سلطانه، والجمع أنواء.

بالنفس أو بالوسائط المعروفة في البر بالدواب والسيارات والقطارات وفي البحر بالسفن والمراكب، وفي الجو فوق البر والبحر بالطائرات فوق الهواء. حتى إذا كنتم راكبين في الفلك (السفينة أو السفن) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية للاتجاه في جهة السير، وفرحتم بما تحقق لكم من راحة وقطع مسافة، ثم جاءت تلك السفن ريح عاصفة شديدة قوية، فاضطرب البحر، وتلاطمت بالأمواج العالية من مختلف الجهات، وظننتم أي اعتقدتم أنكم هالكون لا محالة بسبب إحاطة الموج، فلم تجدوا ملجأ إلا الله، فدعوتموه مخلصين له الدعاء والعبادة والتضرع، ولم تتجهوا إلى آلهتكم من الأوثان، وقلتم: لئن أنجانا الله من هذه المخاطر الجسيمة، لنكونن من جماعة الشاكرين النعمة، الموحدين الله، ثم بعد النجاة عدتم إلى الكفر، كما قال تعالى في الآية السابقة: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ، دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس 10/ 12] . وقال هنا: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ ... أي فلما نجاهم من تلك الورطة، عادوا فجأة إلى سيرتهم الأولى من البغي وإلحاق الظلم بالنفس وبالآخرين، وكأن شيئا لم يكن، كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] . ثم خاطب الله الناس البغاة الذين لم يعتبروا ونكثوا العهد مع الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنما وبال هذا البغي وجزاؤه وإثمه على أنفسكم في الدنيا والآخرة ولا تضرون به أحدا غيركم، أما في الدنيا فأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا قرار له، وأقله توبيخ الضمير والوجدان، أو المعاملة بالمثل، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة

فقه الحياة أو الأحكام:

الرحم» وفي حديث آخر رواه الترمذي عن عائشة: «أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقابا البغي وقطيعة الرحم» «ثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» . وأما في الآخرة فالجزاء المحقق على البغي في النار، وهذا ما أفاده قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ ... أي إن مصيركم ومآلكم إلينا يوم القيامة، يوم الفصل والجزاء، فنخبركم بجميع أعمالكم، ونوفيكم إياها، ونجازيكم عليها الجزاء الأوفى المناسب، بسبب ما كنتم تعملون، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. وفي هذا تهديد كاف ووعيد شاف. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- إن مقابلة النعمة الإلهية بالجحود والإنكار، والتكذيب بآيات الله، مرصود رصدا تاما عند الله، والملائكة الحفظة تدون كل شيء، ثم يحاسب الله تعالى كل إنسان على ما قدم وأخر. 2- إن الفضل في إنقاذ الإنسان ونجاته من ألوان المخاطر والشدائد والأهوال هو لله تعالى وحده. 3- دلت هذه الآية على ركوب البحر مطلقا، وأكدت السنة ذلك، مثل حديث أنس في قصة أم حرام، الذي يدل على جواز ركوبه في الجهاد. ودلت هذه الآية أيضا على أن سير العباد في البحر من الله تعالى وتوفيقه. 4- الكفار شأنهم نكث العهد وعدم الوفاء بالوعد، فبالرغم مما قد يتعرضون له من مخاطر الغرق، تراهم ينسون ذلك، ويعودون إلى الفساد في الأرض بالمعاصي، والبغي: الفساد والشرك، وهو أشنع أنواع الظلم.

مثل الحياة الدنيا في سرعة زوالها وفنائها [سورة يونس (10) آية 24] :

5- البغي من منكرات المعاصي، قال ابن عباس: لو بغى جبل على جبل، لاندك الباغي. والبغي يغلب استعماله في غير الحق، ولا يكون بحق غالبا، ولكن قد يكون بحق كحال تنفيذ القصاص، وحالة الضرورات الحربية وما يتطلبه الجهاد لتحقيق الغلبة والنصر. 6- عاقبة البغي يتحمل وزرها الباغي نفسه، سواء في الدنيا بالعقاب العاجل أو الآجل، أو في الآخرة. مثل الحياة الدنيا في سرعة زوالها وفنائها [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) الإعراب: وَازَّيَّنَتْ فعل ماض، أصله: تزينت، فأدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا، وقلبت التاء زايا ولم تقلب الزاي تاء لأن فيها زيادة صوت وهي من حروف الصفير. فَجَعَلْناها حَصِيداً مفعول به أول وثان. كَأَنْ مخففة من الثقيلة، أي كأنها. البلاغة: أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها استعارة، شبه الأرض حينما تتزين بالنبات والأعشاب والأزهار، بالعروس المزينة بالحلي والثياب، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو الزخرف على سبيل الاستعارة المكنية. أَتاها أَمْرُنا كناية عن العذاب والدمار.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مَثَلُ صفة عجيبة تشبه المثل في الغرابة، ومَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا: أي حالها العجيبة في سرعة انقضائها وذهاب نعيمها، بعد إقبالها واغترار الناس بها كَماءٍ مطر فَاخْتَلَطَ بِهِ أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الزروع والقبول وغيرها وَالْأَنْعامُ من الحشيش زُخْرُفَها بهجتها من النبات، والزخرف: كمال حسن الشيء وَازَّيَّنَتْ بالزهر وغيره من النباتات، أي صارت ذات زينة أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها وتحصيل ثمارها وجني غلتها أَتاها أَمْرُنا قضاؤنا أو عذابنا، فاجتاح زرعها فَجَعَلْناها جعلنا زرعها حَصِيداً كالمحصود أو المقطوع بالمناجل لا شيء فيها كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كأن لم يغن زرعها، أي لم يلبث فلم تكن عامرة، يقال: غني بالمكان: أقام به وعمره. بِالْأَمْسِ فيما قبله، وهو مثل في الوقت القريب، والمراد هنا زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعد ما كان غضا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم المنتفعون به. المناسبة: ذكر الله تعالى في الآية السابقة: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولما كان سبب بغي الناس هو حرصهم على الدنيا وإفراطهم في التمتع بنعيمها، أتبعه بهذا المثل العجيب لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويعرض عن الآخرة، فكأن الدنيا أرض سقيت ماء، فأنبتت وأزهرت وأثمرت، وحان وقت الحصاد، ثم لم تلبث أن أصابتها فجأة جائحة، فاستأصلتها. وقد تكرر هذا التشبيه والمثل في القرآن كثيرا، كقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد 57/ 20] .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا مثل ضربه الله تعالى للحياة الدنيا في سرعة انقضائها وزوال بهجتها ونعيمها، وهو أن صفة الحياة الدنيا العجيبة كالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء المطر المنزل من السماء، فإذا هطل على الأرض أنبت نباتات شتى تشابكت واختلط بعضها ببعض، منها ما يأكله الناس من زروع وحبوب وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، ومنها ما تأكله الأنعام من أقوات ومراع وغير ذلك. وقوله: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي اختلط بالماء نبات الأرض. حتى إذا اكتمل نمو النبات وازدهر، وأَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي حسنها وزينتها الفانية، وَازَّيَّنَتْ بأبهى أنواع الزينة، أي تزينت وحسنت بما خرج في رباها ووهادها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان وحبوب وثمار، وَظَنَّ أي أيقن أهلها الذين زرعوها وغرسوها، أنهم متمكنون قادرون من جذاذها وحصادها والانتفاع بها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها. ويلاحظ أنه أخبر عن الأرض وأراد النبات إذ كان مفهوما، وهو منها. وهو معنى قوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً.. أي نزل بها قضاؤنا المقدر لهلاكها ليلا أو نهارا، فجعلناها كالأرض المحصودة، يابسة بعد الخضرة والنضارة، كأن لم تنبت، وكأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف 7/ 97- 98] وقال تعالى إخبارا عن المهلكين: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها [هود 11/ 67- 68] وجاء في الحديث الذي أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أنس: «يؤتي بأنعم أهل الدنيا، فيغمس في النار غمسة، فيقال له: هل رأيت خيرا

فقه الحياة أو الأحكام:

قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا، فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا» . ثم قال تعالى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كهذا المثل المبين الذي يوضح حال الدنيا وسرعة زوالها، نبين الحجج والأدلة الدالة على إثبات التوحيد والجزاء وكل ما فيه صلاح الناس في معاشهم ومعادهم، لقوم يتفكرون في آيات الله أي يستعملون تفكيرهم وعقولهم في الاتعاظ والاعتبار بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها زوالا سريعا، مع اغترارهم بها، وتمكنهم من خيراتها، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها. وتشبيه الدنيا بنبات الأرض كثير في كتاب الله، مثل الآية السابقة في سورة الحديد، ومثل آية الكهف: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [45] وآية الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [21] . فقه الحياة أو الأحكام: أفادت الآية أن الحياة الدنيا سريعة الزوال والانقضاء، وأن معيشة الناس والأنعام تعتمد على خيرات الأرض، وأن الإنسان عاجز ضعيف أمام قدرة الله وسلطانه، وأن مراد الله وأمره بشيء كالعذاب والهلاك هو النافذ، وأنه تعالى يبين الآيات والأمثال لمن يستخدم تفكيره وعقله فيها، فإن عاقبة هذه الحياة الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي تعلقت الآمال بالانتفاع به، فحين عظم الرجاء بالمنفعة وقع اليأس منها. والمقصود من الآية ألا يعتمد المرء على نعيم الدنيا بنحو دائم، وألا يغتر

الترغيب في الجنة ووصف حال المحسنين والمسيئين في الآخرة [سورة يونس (10) الآيات 25 إلى 27] :

بزخارفها، وينسى ما يجب عليه نحو الآخرة، فيكون هو الخاسر خسارة كبري لا تعوض، إذ إنه يكون من الذين خسروا الدنيا والآخرة، وهو معنى قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام 6/ 44] . الترغيب في الجنة ووصف حال المحسنين والمسيئين في الآخرة [سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 27] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) الإعراب: وَالَّذِينَ كَسَبُوا الَّذِينَ مبتدأ، وخبره: جَزاءُ سَيِّئَةٍ، على تقدير: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ معطوف على كَسَبُوا وجاز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لأنها جملة مبينة للأول، وليست أجنبية عنه. بِمِثْلِها الباء زائدة، وتقديره: وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما في آية أخرى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً جمع قطعة، ومظلما حال من الليل، وليس وصفا لقطع لأنه كان يقال: مظلمة. ومن قرأ بإسكان الطاء، جاز أن يكون مُظْلِماً وصفا لقوله: قطعا، وجاز أن يكون حالا من اللَّيْلِ. البلاغة: أَحْسَنُوا الْحُسْنى بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية:

كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ تشبيه مرسل مجمل. المفردات اللغوية: وَاللَّهُ يَدْعُوا إلى الإيمان الموصّل إلى الجنة دارِ السَّلامِ أي السلامة وهي الجنة، وتخصيص الجنة بهذا الاسم للتنبيه على ذلك وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بالتوفيق إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دين الإسلام. وفي تعميم الدعوة بقوله: يَدْعُوا وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بالإيمان الْحُسْنى المثوبة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ ما يزيد على المثوبة تفضلا، وهي النظر إلى الله تعالى، كما في حديث مسلم وقيل: الزيادة: الفضل أو تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها. ودليل التفضل قوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 173 وغيرها] . وَلا يَرْهَقُ يغشى قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ كآبة وهوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخارفها. وَالَّذِينَ كَسَبُوا عطف على الذين أحسنوا، أي وللذين كسبوا السيئات أي عملوا الشرك بِمِثْلِها أي أن يجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها مِنْ عاصِمٍ مِنَ زائدة، وعاصِمٍ: مانع يعصمهم من سخط الله ومن جهة الله ومن عنده، بخلاف المؤمنين الذين لهم مانع يعصمهم أُغْشِيَتْ ألبست قِطَعاً جزءا مُظْلِماً لفرط سوادها وظلمتها. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي أولئك الكفار، فالآية في الكفار، لاشتمال السيئات على الكفر أو الشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة، فلا يتناولهم قسيمه. المناسبة: بعد أن نفّر الله تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها. ووجه الترغيب في الآخرة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد، بنى دارا، ووضع مائدة، وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المائدة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد، فالله

التفسير والبيان:

السيد، والدار: دار الإسلام، والمائدة: الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلّم» «1» . وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق، إلا الثقلين، أيها الناس، هلموا إلى ربكم، والله يدعو إلى دار السلام» «2» . التفسير والبيان: بعد أن ذكر الله تعالى الدنيا وسرعة زوالها، رغب في الجنة ودعا إليها، فقال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي والله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح المؤديين إلى الجنة، وسماها دار السلام لسلامتها عن الآفات والشوائب والنقائص والأكدار ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام لكل الناس. ويهدي من يشاء أي يوفقهم إلى الطريق المستقيم الموصل إلى الجنة، وهو دين الإسلام: عقائده وأخلاقه وأحكامه لأنه الطريق الذي لا عوج فيه ولا التواء. والهداية خاصة بالمشيئة، على عكس الأمر بالإيمان. ومن المعلوم أن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهي عامة لجميع الناس، وهي الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وهداية توفيق وهي خاصة بمن يشاء الله من عباده إلى طريق الاستقامة، ومعناها التوفيق والعون. والسبب في تلك الدعوة إلى الإسلام مصلحة المدعوين لأن للذين أحسنوا العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح المثوبة الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن 55/ 60] ولهم أيضا زيادة:

_ (1) حديث مرسل عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وجاء متصلا رواه ابن جرير عن جابر بن عبد الله. (2) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وهي تضعيف ثواب الأعمال الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا، والزيادة التي هي أعظم من جميع ما أعطوه هي النظر إلى وجه الله الكريم، بدليل ما روى أحمد ومسلم وجماعة من الأئمة عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبّيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم» . وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي، يا أهل الجنة- بصوت يسمع أولهم وآخرهم- إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن عز وجل» . ونظير الآية قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] . وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي ولا يغشى وجوههم شيء مما يغشى وجوه الكفرة من الغبرة التي فيها سواد، والهوان والصغار، أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الدهر 76/ 11] أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم. والصفة الأولى (القتر) هي المذكورة في قوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس 80/ 40- 41] والصفة الثانية (الذلة) هي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية 88/ 2- 3] .

أولئك المتصفون بهذه الصفات هم أهل الجنة لا غيرهم، وهم المقيمون الماكثون فيها أبدا، لا زوال فيها، ولا انقراض لنعيمها. ولما أخبر تعالى عن حال السعداء، عطف بذكر حال الأشقياء، كما هو الشأن الغالب في الموازنة والمقارنة في الأسلوب القرآني، وشأنه تعالى مع الفريق الأول الفضل والإحسان، ومع الفريق الثاني المعاملة بالعدل. فللذين اقترفوا السيئات والمعاصي في الدنيا ومنها الكفر والشرك والظلم الجزاء العادل وهو المجازاة على السيئة بمثلها، لا زيادة عليها كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام 6/ 160] ، وتغشاهم أي تعتريهم وتعلوهم ذلّة من فضيحة معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى 42/ 45] وقال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ [إبراهيم 14/ 42- 43] . ثم قال: ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ليس لهم مانع ولا واق يقيهم العذاب، أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] وقال تعالى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة 75/ 10- 12] . كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ.. أي ألبست وجوههم أجزاء أو أغشية من سواد الليل المظلم لفرط سوادها وظلمتها، كقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران 3/ 106- 107] وقوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ

فقه الحياة أو الأحكام:

مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 80/ 38- 42] . أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ.. أي أولئك المتصفون بتلك الصفات هم لا غيرهم أصحاب النار، هم فيها خالدون، دائمون فيها، لا يزحزحون عنها. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات صريحة في الدعوة إلى السعادة الأبدية، والخلود في الجنان، من طريق الإيمان والعمل الصالح. وهي موضحة معالم الطريق، معلنة أن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة: طاعة أحكامه، لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام: هو الله، وداره الجنة. وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. وقد عمّ بقوله يَدْعُوا جميع الناس بالدعوة إلى دائرة الإيمان، إظهارا لحجّته، وخص بالهداية من شاء من عباده استغناء عن خلقه، وتمييزا بين الأمر والإرادة، فهناك دعوة عامة دعا فيها جميع الخلق إلى دار السلام، وهداية خاصة مغايرة لتلك الدعوة العامة، مشتملة على التوفيق الإلهي. والصراط المستقيم واحد سواء قلنا: إنه كتاب الله، أو الإسلام. وللذين أحسنوا العمل في الدنيا المثوبة الحسنى وهي الجنة، والزيادة فضلا من الله وهي تضعيف الحسنات، والنظر إلى وجه الله الكريم، والشعور بالسعادة الظاهرية والباطنية، فلا غشاوة لغبار مع سواد في محشرهم إلى الله، ولا مذلة ولا إهانة. وللمسيئين الذين أشركوا بالله شريكا آخر، وكفروا بنعمته، فلم يقابلوها

حشر الخلائق وتبرؤ الشركاء من المشركين ومن عبادتهم [سورة يونس (10) الآيات 28 إلى 30] :

بالإيمان والإحسان عقاب مماثل لسيئاتهم دون زيادة، أخذا بالعدل، ويغشاهم الهوان والخزي والذل والعار، ولا عاصم لهم، ولا مانع يمنعهم من عذاب الله، وجوههم مسودّة كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ في حال ظلمته. جعلنا الله من أهل جنته بفضله ورحمته، وحمانا من عذاب أهل النار، تكرما وإحسانا وإنعاما، وهدانا إلى سواء السبيل. وقد أثبت أهل السنة بهذه الآية وما وضحها من السنة جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، وأكد ذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] فأثبت لأهل الجنة أمرين: أحدهما- نضرة الوجوه، والثاني- النظر إلى الله تعالى. حشر الخلائق وتبرؤ الشركاء من المشركين ومن عبادتهم [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) الإعراب: جَمِيعاً نصب على الحال، أي نحشر الكل حال اجتماعهم. مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ مَكانَكُمْ: اسم فعل لا لزموا، كما أن «مه» اسم لا كفف، و «صه» اسم لا سكت. وفتحة النون فتحة بناء لقيامه مقام فعل الأمر. وقال الرازي والسيوطي: منصوب بإضمار: الزموا.

المفردات اللغوية:

وأَنْتُمْ: توكيد لضمير مَكانَكُمْ المستتر، وشُرَكاؤُكُمْ: معطوف عليه لوجود التوكيد، كقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 2/ 35 والأعراف 7/ 19] . فَزَيَّلْنا من زيّلت الشيء من الشيء: إذا نحيته. ولا يجوز أن يكون من زال يزول لأنه يلزم فيه الواو، فيقال: زوّلنا. ما كُنْتُمْ إِيَّانا ما: نافية، وإِيَّانا مفعول به مقدم لتعبدون، وقدم مراعاة لفواصل الآيات. إِنْ مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا، واللام في لَغافِلِينَ هي الفارقة بينها وبين النافية. المفردات اللغوية: نَحْشُرُهُمْ أي الخلق وهم فريقا المحسنين والمسيئين المذكورين في الآية السابقة، والحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقد سد مسد قوله: «الزموا» ويراد بذلك التهديد والوعيد. وَشُرَكاؤُكُمْ أي الأصنام فَزَيَّلْنا فرقنا وميزنا وقطعنا ما بينهم من صلات وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم، فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الآمرة بالإشراك إِنْ كُنَّا أي تقول الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دونه من أولي العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله عز وجل، فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي زعموها لهم، وعلقوا بها أطماعهم بقولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] . هُنالِكَ في ذلك اليوم أو في ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدمت من عمل، فتعاين نفعه وضرره، وأَسْلَفَتْ: قدمت ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة، لا ما اتخذوه مولى: والحق: الثابت الدائم وَضَلَّ غاب أو ذهب وضاع عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ عليه من الشركاء. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى مصير المحسنين والمسيئين يوم القيامة، أعقبه بذكر يوم الجزاء الذي يتم فيه حشرهم، فيحشر العابد والمعبود، ثم يتبرأ المعبود من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته. والمقصود نفي الشفاعة، فإن

التفسير والبيان:

القوم كانوا يقولون: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرءون منهم، وهو يدل على نهاية الخزي والنكال في حق الكفار. التفسير والبيان: هذا مشهد فاصل من مشاهد يوم القيامة، تصفّى فيه علاقة الشرك بين المشركين وآلهتهم المزعومة، فيقول الله لنبيه: واذكر أيها الرسول يوم نحشرهم أي نجمع أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبرّ وفاجر، وفيهم الفريقان المذكوران سابقا وهم المحسنون والمسيئون كما قال تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 18/ 47] . ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي الذين اتخذوا مع الله شريكا: الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم، كقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات 37/ 24] وفي هذا وعيد وتوبيخ أمام الخلائق. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فرقنا بين الشركاء والمشركين، وقطعنا ما كان بينهم في الدنيا من صلات وروابط. وتبرأ الشركاء من عابديهم: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ أي وقال الشركاء لعابديهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا، فأطعتموهم. وفي هذا أيضا تهديد ووعيد، وأنه تتبدد حينئذ آمال المشركين في شفاعة الشركاء. والشركاء: إما الملائكة وعيسى المسيح ونحوهم ممن عبدوا من دون الله، أو الأصنام التي ينطقها الله عز وجل، فتكلمهم بذلك، والأولى أن المراد بالشركاء: كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وملك وإنسي وجني.

فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي كفى بالله شاهدا وحكما بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك. وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين، وتهديد في حق العابدين. إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ أي إننا كنا في غفلة تامة عن عبادتكم، لا نعلم بها، ولا ننظر إليها، ولا نرضى عنها، وقال القرطبي. ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل لأنا كنا جمادا لا روح فينا أي أنه جعل إِنْ هنا نافية، والحق أنها مخففة من الثقلية بدليل دخول اللام على: غافلين. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي هنالك في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتذوق وتعلم ما قدمت من العمل من خير وشر، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليتبين حاله؟ كما في قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق 86/ 9] . وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي وأرجعوا إلى الله، ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، الحق الثابت الدائم، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، دون تلك الشركاء والأنداد. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وذهب عن المشركين افتراؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، ويتخذون تلك الأنداد آلهة مزعومة، ولم يبق لهم نصير ولا شفيع، والأمر كله يومئذ لله تعالى. فهذا تنبيه على زوال ما يدعون أن أولئك الشركاء شفعاء، وأن عبادتهم تقرّب إلى الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الحشر (أي جمع الخلائق من كل جانب في موقف واحد) أمر ثابت يوم القيامة. 2- انقطاع الصلة تماما بين الشركاء والمشركين يوم القيامة. 3- وعيد الكفار المشركين المتكرر في قوله تعالى: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ وقوله: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وقوله: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... 4- إظهار الخيبة والخزي والإفلاس من عبادة الشرك والمشركين للآية هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ.... 5- وصف الله تعالى نفسه بالحق لأن الحق منه، كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه أي كل عدل وحق فمن قبله. 6- خيبة الآمال التي تعلق بها المشركون في شفاعة الشركاء وتقريبهم إياهم إلى الله تعالى. والسبب في قوله تعالى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مع أنه تعالى أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم: هو أن المولى هنا يراد به أنه مولاهم في الرزق وإدرار النعم، وليس بمولاهم في النصرة والمعونة.

إثبات التوحيد بثبوت الربوبية لدى المشركين [سورة يونس (10) الآيات 31 إلى 33] :

إثبات التوحيد بثبوت الربوبية لدى المشركين [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) الإعراب: أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أن وصلتها: يجوز كونها في موضع نصب وجر ورفع، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بأنهم أو لأنهم، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل به فنصبه، والجر: بأن يجعل حرف الجر في نية الإثبات، وإنما حذف للتخفيف، والرفع على أن يكون بدلا من كَلِمَةُ. البلاغة: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ استفهام إنكاري، أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى، وقع في الضلال. المفردات اللغوية: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم، وهو تعميم بعد تخصيص. فَذلِكُمُ الفعال لهذه الأشياء الْحَقُّ الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي ليس بعد عبادة الله التي هي الحق إلا الضلال والانحراف فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تصرفون عن الحق أي الإيمان إلى غيره مع قيام البرهان؟

المناسبة:

كَذلِكَ حَقَّتْ أي كما صرف هؤلاء عن الإيمان ثبتت كلمة ربك أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا كفروا، وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أو هي أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى جناية المشركين على أنفسهم باتخاذهم الأنداد والشركاء، ذكر أدلة فساد مذهبهم وهو عبادة الأوثان، وإذا فسد مذهبهم ثبت التوحيد، بدليل إقرارهم بأن الرازق ومالك الحواس، والمحيي والمميت هو الله تعالى، فهو سبحانه يحتج على المشركين باعترافهم بوحدانية الله وربوبيته على وحدانية الألوهية. التفسير والبيان: قل أيها النبي لمشركي مكة وأمثالهم: من ذا الذي ينزل من السماء المطر، فيكون سببا في إثبات الأرض بالزرع والزهر والشجر، فيخرج منها حبا وعنبا وقضبا (البرسيم) وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا متشابكة وفاكهة كثيرة ونحو ذلك؟ كقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ [الملك 67/ 21] فهي مصدر رزقكم، بسبب بركات السماء والأرض، فيرزقكم منهما جميعا، دون اقتصار على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته. ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وغيرهما من الحواس، فيملك خلقها وتسويتها على نحو بديع وتحصينها من الآفات، ومن الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها؟ كقوله تعالى: قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك 67/ 23] فهي وسائل العلم والمعرفة وإدراك ما في هذا العالم. وخص السمع والبصر لأنهما أهم الحواس، وأداة تحصيل العلوم.

ومن الذي بقدرته العظيمة أمر الحياة والموت؟ فيحيي ويميت، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، مثل إخراج النخلة من النواة والطائر أو الحيوان من البيضة أو النطفة، وعكس ذلك كإخراج الحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه من الشجر والحيوان، وفي هذا دلالة عامة على إيجاد أمارات الحياة والموت، وعلامة الحياة في النبات: النمو، وفي الحيوان: النمو والحركة الإرادية. وفسر بعضهم الحياة والموت بالشيء المعنوي وهو إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون من المفسرين يفسرون الآية بالمعنى الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، كما قال الرازي. وإذا كان المفسرون قد مثلوا للحي بالنطفة وللميت بالبيضة، فهم يلاحظون الوضع الظاهر المشاهد للناس عادة وهي حياة الحركة والنمو، وهذا لا ينفي ما يقوله الآن علماء الأحياء بأن في البذور والبيض والمني والنطفة حياة أي حياة الخلية، لكن هذه حياة خاصة لا حركة فيها ولا نمو. ويمكن التمثيل في العلم الحديث لإخراج الميت من الحي بما يطرحه البدن من الخلايا الميتة في الدم والجلد فيخرج مع البخار والعرق، ومثال إخراج الحي من الميت الغذاء الذي يحرق بالنار، ثم يتناوله الإنسان فيتولد منه الدم. وإذا قال هؤلاء العلماء الجدد: الحي لا يخرج إلا من حي، فإنهم يقررون أن الحياة الأولى هي من خلق الله بدون أي شك. وعلى أي حال فإن المقصود من الآية إثبات القدرة الكاملة لله تعالى وأنه خالق الموت والحياة، أيا كان المثال لأن إطلاق النص القرآني وعمومه يمكن تطبيقه على ما يقره العلم. ومن الذي يدبر أمور العالم وبيده ملكوت كل شيء، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟.

هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، وأن يجيبوا بأن الموجد والمعدم هو الله تعالى، بلا تردد ولا شك، ومن غير مكابرة وعناد في ذلك، لفرط وضوح الأمر، ولأنه لا جواب في الواقع غيره. وإذا اعترفوا بالحقيقة، فقل لهم أيها الرسول عندئذ: أفلا تتقون أنفسكم عقاب الله بإشراككم إياه وعبادتكم غيره، مما لا يشاركه في شيء من ذلك، ولا يملك ضرا ولا نفعا. فذلكم الذي يتصف بما ذكر من القدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله خالقكم ومربّيكم على فضله ومدبر أموركم، وهو المستحق للعبادة، وهو ربكم الثابت ربوبيته بذاته، لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، فلا إله غيره، ولا معبود سواه. وإذا كان الله هو ربكم الحق الثابت بذاته، فليس بعد القول الحق والفعل الحق إلا الضلال والباطل، ولا واسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال. فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق. كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي كما حقت الربوبية لله والألوهية لله، حقت أي ثبتت كلمة الله وحكمه أو وعيده على الذين فسقوا أي تمردوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم، وخرجوا عن دائرة الحق والصلاح وتوحيد الربوبية والألوهية، أنهم لا يؤمنون، أي حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان وأن إيمانهم غير كائن. ويجوز أن يراد بالكلمة الوعيد بالعذاب، ويكون قوله أَنَّهُمْ

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يُؤْمِنُونَ تعليلا للحقية، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون «1» . ويلاحظ أن الآية صرحت باليأس من إيمان الذين فسقوا وأصروا على كفرهم، ولم تذكر غيرهم لأن من لم يصرّ يرجى إيمانه وتخلصه من العذاب إذا آمن وأطاع، فلا مانع أمامه، كما أنه ليس هناك أي مانع قهري يمنع من إيمان أي كافر، وإنما هو الذي يمتنع باختياره من الإيمان، ويصرّ على الكفر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . وجعل ابن كثير الآية الأخيرة كَذلِكَ حَقَّتْ في المشركين أنفسهم، فقال: أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرزاق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده، فلهذا حقت عليهم أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] «2» . فقه الحياة أو الأحكام: هذا نقاش منطقي هادئ مع المشركين، فإنهم إن سئلوا عن الرازق والخالق والمحيي والميت والمدبر، فلا يسعهم إلا الاعتراف بأنه هو الله رب الخلائق قاطبة، وهذا اعتراف صريح منهم بوحدة الربوبية، فلم لا يعترفون بوحدة الألوهية، وإنما يشركون مع الله إلها آخر؟! والمنطق يقضي بالتسوية بين الأمرين والإقرار بوحدة الربوبية والألوهية، فتكون الآية دالة على إثبات التوحيد.

_ (1) الكشاف: 2/ 74 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 416

ودلت الآية على ما يأتي: 1- الله تعالى هو الرزاق، المتصرف في الملك والخلق والإيجاد وحده، المحيي، المميت، المدبر أمر الكون والعالم. 2- من كانت هذه قدرته ورحمته ويفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه، لا ما أشركتم معه: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ. وبما أن الله تعالى هو الحق المبين، وجب أن يكون ما سواه ضلالا لأن النقيضين لا يجتمعان، فإذا كان أحدهما حقا، وجب أن يكون ما سواه باطلا: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال؟ وبناء عليه، قال العلماء: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى. ويقاس عليها مسائل الأصول، الحق فيها واحد لا يتعدد، بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات» . وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام إلى صلاة التهجد قال: «اللهم لك الحمد» وفي الحديث: «أنت الحق ووعدك الحق..» فقوله: «أنت الحق» أي الواجب الوجود، وهذا وصف لله تعالى بالذات والحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، بخلاف غيره، كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] . ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية، وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا، كما في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ

الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الحج 22/ 62] . وحقيقة الضلال: الذهاب عن الحق. 3- احتج الإمام مالك على تحريم اللعب بالشّطرنج والنّرد بقوله تعالى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فقال: اللعب بالشطرنج والنّرد من الضلال. وقد اختلف العلماء في حكم اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار، فقال جمهور الفقهاء: إن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به، مرة في الشهر أو العام، لا يطّلع عليه ولا يعلم به: أنه معفوّ عنه، غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن اشتهر به سقطت مروءته وعدالته، وردّت شهادته. وذهب الشافعي إلى أنه لا تسقط شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج إذا كان عدلا في غير ذلك، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا، سقطت عدالته، وسفّه نفسه لأكله المال بالباطل. وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد وكل اللهو، فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة، وكانت محاسنه أكثر من مساويه، قبلت شهادته. 4- العاقل يلتزم المعقول، لذا استنكر الله تعالى على المشركين الخروج عن دائرة المعقول بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟ أي كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر، وكيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟! 5- علم الله قديم واسع الإحاطة، والعذاب حق وعدل ومعلوم سابقا في علم الله تعالى على الذين أصروا على الكفر وماتوا وهم كفار لقوله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي ثبت حكمه وقضاؤه وعلمه السابق على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا أنهم لا يصدقون، أو ثبت عليهم استحقاق العذاب والوعيد به لأنهم لا يؤمنون.

إثبات البعث [سورة يونس (10) الآيات 34 إلى 36] :

إثبات البعث [سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 36] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) الإعراب: أَفَمَنْ يَهْدِي.. مِنْ: مبتدأ مرفوع، وأَحَقُّ: خبره، وفي الكلام محذوف تقديره: أحق ممن لا يهدي. وأَنْ يُتَّبَعَ: إما موضعه النصب على تقدير حذف حرف الجر، وإما الرفع على البدل من مِنْ بدل اشتمال. وأَحَقُّ: الخبر. ويحتمل أن يجعل أَنْ مبتدأ ثانيا، وأَحَقُّ خبره مقدم عليه، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو مِنْ. ويَهْدِي أصله يهتدي، فأبدل من التاء دالا، وأدغم الدال في الدال، وكسرت الهاء لاتباع ما بعدها ولالتقاء الساكنين لأنه الأصل في التقاء الساكنين. وقرئ بفتح الهاء (يهدّى) لأنه نقلت فتحة التاء إلى الهاء. فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما: مبتدأ مرفوع، ولَكُمْ: خبره، وكَيْفَ في موضع نصب بتحكمون. شَيْئاً منصوب لأنه في موضع المصدر، أي غناء، مثل: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي إشراكا ويجوز أن يكون مفعولا به، ومِنَ الْحَقِّ: حالا منه. البلاغة: يَبْدَؤُا ... ثُمَّ يُعِيدُهُ بينهما طباق. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ استفهام توبيخ وتقرير أي الأول أحق. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وفَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الاستفهام للتوبيخ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الإعادة كالابتداء في الإلزام بها، لظهور برهانها. تُؤْفَكُونَ تصرفون عن الحق إلى الباطل وعن عبادته مع قيام الدليل. مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بإقامة الحجج، وإرسال الرسل، وخلق الاهتداء أو التوفيق للنظر والتدبر. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو الله أَمَّنْ لا يَهِدِّي أم الذي لا يهتدي، والاستفهام للتقرير والتوبيخ، أي الأول أحق. كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد من اتباع ما لا يحق اتباعه، وما يقتضي صريح العقل بطلانه. وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في عبادة الأصنام، والمراد بالأكثر الجميع، أو الذي عنده تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد. إِلَّا ظَنًّا وهو تقليد الآباء بالاعتماد على خيالات فارغة وقياسات فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يفيد الظن فيما يطلب فيه العلم والاعتقاد الحق. شَيْئاً من الإغناء. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فيجازيهم عليه. المناسبة: انتقل الله تعالى فورا في بيانه من إثبات التوحيد إلى إثبات البعث، من طريق معرفة القادر ابتداء على خلق الإنسان وخلق السموات والأرض، وأن الإعادة كالابتداء، ثم عرض الأمر على العقلاء في بيان الأحق بالاتباع أهو الله الذي يخلق الاهتداء والتوفيق إليه، أم المحتاج إلى هداية غيره؟ وصيغ البيان أو الحجة بطريق السؤال والاستفهام لأنه أوقع في النفس، وأبلغ تأثيرا على القلب. التفسير والبيان: قل للمشركين أيها الرسول: من الذي بدأ خلق السموات والأرض، ثم أنشأ ما فيهما من الخلائق؟ هل يستطيع أحد غير الله ذلك؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو جنّا أو رسولا أو غيرهم؟ ومن يقدر أن يعيد الخلق خلقا جديدا؟

وبما أنهم بسبب اللجاج والمكابرة لا يؤمنون بالبعث والمعاد، فلم يجيبوا كما أجابوا عن الأسئلة الخمسة المتقدمة، فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلِ: اللَّهُ ... أي قل أيها الرسول: الله هو القادر على بدء الخلق وإعادته لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، فهو سبحانه وتعالى الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له. علما بأنهم يعترفون بأن المبدئ والمعيد في النباتات هو الله، لما يشاهدونه من تكرار بدء ظهور النبات بالمطر في فصل الشتاء، ثم موته في الصيف، ثم عودته إلى الظهور في الشتاء القادم مرة أخرى. ولكنهم ينكرون إعادة الحياة في الأحياء الحيوانية من إنسان وغيره. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل وعن الحق وهو التوحيد إلى الضلال وهو الإشراك وعبادة الأصنام؟ أي إذا كانت فطرتكم وعقولكم أو أنظاركم وملاحظاتكم تؤدي إلى أن الله تعالى هو الذي يعيد الحياة إلى النبات، فلم لا تعترفون بقدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان؟ وذلك يؤدي بكم إلى الإيمان بالبعث والجزاء يوم القيامة؟! ثم سألهم الله تعالى عن شأن من شؤون الربوبية، بقوله: قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ؟ ... أي قل لهم أيها الرسول: هل يستطيع أحد من شركائكم هداية الضال والحيران: إما بالفطرة والغريزة، وإما بالحواس من سمع وبصر ونحوهما، وإما بالعقل والتفكير، وإما بهداية الكتب السماوية والرسل، أو هم عاجزون عن ذلك كله؟! وهذه الهداية هي تماما كالقدرة على الخلق والتكوين، كقوله تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] . وبما أنهم يدركون تماما أن شركاءهم لا يستطيعون شيئا من الخلق والهداية التشريعية، فلم يجدوا جوابا، فأجابهم الله تعالى: قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ

أي قل أيها الرسول: هو الله الذي يهدي إلى الحق بما أوجد من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، ومنح الإنسان مفاتيح العلم والمعرفة والإيمان بالعقل والحواس. ومن هو أحق باتباع قوله وطاعة أمره؟ أهو الذي يقدر على الهداية إلى الحق والرشد والإيمان، أم الذي لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهو الله تعالى؟ وهذا يشمل جميع الشركاء من ملائكة وغيرهم كالمسيح وعزير فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي فما بالكم وأي شيء دهاكم، كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه، وحكمتم بجواز عبادة غير الله وشفاعتهم؟ وهذا تعجب شديد من حكمهم الجائر بالمساواة بين عبادة الله تعالى وعبادة شركائهم العاجزة عن كل شيء. ثم بين الله تعالى أنهم لا يتبعون في اعتقادهم هذا وشركهم وعبادتهم غير الله دليلا ولا برهانا، وإنما يتبع جميعهم نوعا من الظن الضعيف وهو التوهم والتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، لأن الظن الخائب لا يغني شيئا من الإغناء فيما يطلب فيه الحق الثابت، أي العلم والاعتقاد الصواب. إن الله عليم بأفعالهم، فيجازيهم على كل فعل منها، كتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلّم، مع قيام الأدلة القطعية على صدقه، وتقليد الآباء والأجداد بدون حجة أو دليل. وهذا تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء. والخلاصة: أن مجموعات، الآيات السابقة اشتملت على حجج ثلاث للاستدلال على وجود الله تعالى: الأولى- أنه الرازق الموجد السمع والبصر خالق الموت والحياة، والثانية- أنه خالق الإنسان والسموات والأرض وما بينهما، والثالثة-

فقه الحياة أو الأحكام:

أنه القادر على الهداية. والاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا: عادة مطردة في القرآن. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت هذه الآيات من أجل إثبات البعث على توبيخين للمشركين وتهديد. أما التوبيخ الأول: فهو على عبادتهم شركاء عاجزين عن الخلق بدءا وإعادة، فكيف تصح تلك العبادة؟ وكيف تنقلبون أيها المشركون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟ وبما أن الحق تعالى هو القادر على الخلق، فخلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة دم، وهو قدير على إعادته، فيجب الإيمان بالبعث إيمانا لا يخالجه أي شك أو ريبة. وأما التوبيخ الثاني: فهو أيضا على اتخاذ الشركاء آلهة معبودة مع أنهم لا يستطيعون هداية أنفسهم ولا غيرهم، فيكون الأحق بالعبادة والتوحيد هو الله تعالى القادر على الإرشاد إلى الطريق المستقيم الذي هو القرآن ودين الإسلام.. فما لكم كيف تحكمون، أي فأي شيء لكم في عبادة الأوثان، وكيف ترضون لأنفسكم وعقولكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؟ وأما التهديد: فهو على الكفر والتكذيب: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وسيجازيكم عليه. ودلت آية إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً على أنه لا يكتفى بالظن في

القرآن كلام الله وتحدي العرب به [سورة يونس (10) الآيات 37 إلى 39] :

العقائد، وعلى أن تحصيل العلم واليقين في الأصول واجب، وأما الاكتفاء بالتقليد والظن فيها فهو غير جائز لأن أصول الإيمان أساسية، فتبني على اليقين، ولا يجدي فيها الظن، وإنما يكفي هذا في فروع الأعمال. القرآن كلام الله وتحدي العرب به [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 39] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) الإعراب: وَلكِنْ تَصْدِيقَ تَصْدِيقَ: خبر كان مقدرة، تقديره: ولكن كان هو تصديق، أي القرآن. وأجاز الكسائي الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: ولكن هو. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ خبر ثان. لا رَيْبَ فِيهِ خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك. مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر تقديره: كائنا من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، ولا رَيْبَ فِيهِ: اعتراض، ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو الضمير في فِيهِ. البلاغة: بَيْنَ يَدَيْهِ استعارة لما سبقه من التوراة والإنجيل اللذين بشرا به. أَمْ يَقُولُونَ الهمزة فيه للإنكار، والمعنى: بل أيقولون افتراه محمد؟

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أن يفتري افتراء من غير الله تعالى. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي كان أو أنزل مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها وليس كذبا. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ تبيين ما كتبه الله من الأحكام وغيره، وتوضيح ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع. لا رَيْبَ فِيهِ لا شك. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقولون: اختلقه محمد، والهمزة للإنكار. فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وقوة المعنى، على وجه الافتراء فإنكم عرب فصحاء، مثلي في العربية والفصاحة، وأشدّ تمرنا في النظم والعبارة. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. مِنْ دُونِ اللَّهِ سوى الله أو غيره، فإنه وحده قادر على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه افتراء وأنه اختلقه، فلم يقدروا على ذلك. بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب. بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي القرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه. وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ لم يطلعوا على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، ولم تتحقق عاقبة ما فيه من الوعيد، أو تقع أخباره عن المغيبات، حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب. والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجؤوا بتكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتفحصوا معناه. كَذلِكَ التكذيب. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ بتكذيب الرسل، أي آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك نهلك هؤلاء. المناسبة: ذكر الله تعالى مطلب المشركين من النبي صلى الله عليه وسلّم بإنزال آية من ربه (الآية 20) لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز، وأن محمدا إنما يأتي به من عند نفسه اختلاقا، وأجابهم بأن محمدا عاجز كغيره عن إنزال آية والإتيان بمثله، ثم أبطل شركهم بأدلة كثيرة، ثم عاد هنا إلى ترسيخ حقيقة أصيلة وهي أن القرآن وحي من عند الله تعالى، وليس إتيان محمد عليه الصلاة والسلام به على سبيل الافتراء على الله تعالى، مما يدل على أنه معجز نازل من عند الله، وأنه مبرأ من الافتراء.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآيات في بيان إعجاز القرآن، وكونه كلام الله، وهذا من أصول الدين، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن لإثبات أنه من عند الله تعالى، وليس من عند النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما هو معجزة خالدة تشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو معنى قول الله في الحديث القدسي: «صدق عبدي في كل ما يبلغه عني» . ومعنى الآية: ما شأن القرآن وما ينبغي أن يختلق من غير الله لأنه بفصاحته وبلاغته، ووجازته وحلاوته، وإخباره عن المغيبات، وأصالة تشريعه، واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله تعالى، فهو كلامه الذي لا يشبه كلام المخلوقين، ولا يقدر أحد إلا الله أن يجاريه أو يعارضه. وقد ثبت أن أبا جهل قال: إن محمد لم يكذب على بشرط، أفيكذب على الله؟ وإنه مطابق ومصدّق لما تقدمه من الكتب الإلهية المنزلة على الرسل، كإبراهيم وموسى وعيسى، وموافق لها في الدعوة إلى أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر، وصالح الأعمال، وفضائل الأخلاق، وهو أيضا مهيمن عليها، ومبيّن كاشف لما وقع فيها من تحريف وتبديل، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة 5/ 48] . وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي وبيان الأحكام والشرائع، والحلال والحرام، والعبر والمواعظ، والآداب والأخلاق الشخصية والاجتماعية، بيانا شافيا كافيا. لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أبدا، ولا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه، لوضوحه، وبيانه الحق والهدى والصواب.

مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منزل وموحى به من الله لا من غيره، بدليل سلامته عن الاضطراب والاختلاف، كما قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] . وبه يتبين أن الله سبحانه وصف القرآن بصفات خمس هي: 1- لا يصح أن يفتري من دون الله لأن القرآن معجز لا يقدر عليه البشر. 2- وهو مصدّق مؤيد لما قبله في أصول الدين والفضائل، ومهيمن عليه، فهو معجز لاشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، وهو المراد بقوله: تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. ومن إخباره عن مغيبات المستقبل التي وقعت مطابقة للخبر: قوله تعالى: الم. غُلِبَتِ الرُّومُ.. وقوله تعالى في فتح مكة: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح 48/ 27] وقوله في ظهور الدولة الإسلامية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] مما يدل على أن الإخبار إنما حصل بالوحي من الله تعالى. 3- وهو مفصّل ما يحتاج إليه الإنسان من الأحكام الشرعية والعلوم الكثيرة الدينية والدنيوية، ففيه علم العقائد والأديان: وهو معرفة الله تعالى (ذاتا وصفات) وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفيه علم الأعمال وهو علم الفقه، وعلم الأخلاق مثل قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف 7/ 199] وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل 16/ 90] وهو المراد بقوله: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف 12/ 111] .

4- لا ريب ولا شك فيه، لبيانه العلوم الكثيرة، وعدم وجود التناقض فيه. 5- كونه من عند الله تعالى، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلّم ليكون من المنذرين. ثم أنكر الله تعالى على المشركين الجاهلين القائلين بأن محمدا صلى الله عليه وسلّم قد افتراه، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. أي بل أيقولون: اختلقه محمد؟! فمحمد بشر مثلكم، وقد زعمتم أنه جاء بهذا القرآن، فأتوا بسورة مثله، أي من جنس هذا القرآن، ولو بما يشابه أقصر سورة فيه في النظم والأسلوب، والقوة والإحكام، والبلاغة والدقة، واستعينوا على ذلك بمن قدرتم عليه من إنس وجان، ولن تستطيعوا فعل شيء فإن جميع الخلق عاجزون عن معارضته أو الإتيان بمثله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] . فإن كنتم صادقين في ادعائكم أن القرآن من عند محمد، فلتأتوا بنظير ما جاء به وحده، ولتستعينوا بمن شئتم. ولقد كان التحدي للإتيان بمثل القرآن على مراحل: أولها- ما ذكر في هذه الآية: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ وهي أعلى المراتب. وثانيها- التنازل معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [13] . وثالثها- التنازل إلى سورة، فقال هنا في هذه السورة المكية: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وكذا في سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [23] . ثم أثبت القرآن موقف هؤلاء المشركين منه فقال: بَلْ كَذَّبُوا.. أي بل

فقه الحياة أو الأحكام:

سارع هؤلاء إلى تكذيب القرآن من قبل أن يتدبروا ما فيه، أو يفهموه، وهذا. شأن المعاند الجاهل. وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي وكما أنهم كذبوا به بداهة قبل التدبر والمعرفة تقليدا للآباء، كذلك كذبوه بعد التدبر ومعرفة علو شأنه وإعجازه وضعف قواهم في المعارضة، تمردا وعنادا، وبغيا وحسدا. ويجوز أن يكون معنى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ: لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالمغيبات، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق؟ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل ذلك التكذيب كذبت الأمم السابقة بمعجزات الأنبياء قبل النظر فيها وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن تقليدا للآباء وعنادا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي فانظر أيها الرسول كيف كانت عاقبة أولئك الظالمين لأنفسهم بتكذيبهم رسلهم وطلبهم الدنيا وترك الآخرة، وهي أننا أهلكناهم بسبب تكذيبهم رسلنا، ظلما وعلوا، وكفرا وعنادا وجهلا، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت 29/ 40] . فقه الحياة أو الأحكام: الآيات إثبات قاطع لكون القرآن كلام الله تعالى ووحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، وليس افتراء من محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك بدليل وصفه بالأوصاف الخمس التي ذكرت في الآية، وأوضحتها في التفسير السابق.

وبدليل التحدي للعرب بأن يأتوا بمثل سورة من هذا القرآن، إذا كان في زعمهم من كلام محمد صلى الله عليه وسلّم وهو بشر مثلهم، وهم عرب فصحاء بلغاء مثله. فالآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله تعالى لأنه مصدّق الذي بين يديه من الكتب، وموافق لها، من غير أن يتعلم محمد عليه الصلاة والسلام عن أحد. والآية الثانية إلزام بسورة مثله إن كان مفترى. وهذا مناسب لما اشتهر به العرب من فصاحة وبلاغة وبيان، فالقرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلّم الخالدة في بيانه ونظمه وتشريعه وعلومه. كما أن كل معجزة لنبي تناسب العصر الذي عاش فيه، مثل معجزة العصا واليد لموسى عليه السّلام في زمن برع فيه السحرة بفنون السحر، ومعجزة عيسى عليه السلام الذي بعث في زمان اشتهار علم الطب، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهذا من غير علاج ولا دواء. لهذا جاء في الحديث الصحيح المتقدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من نبي من الأنبياء، إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» . ودلت الآية الثالثة: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ على انهيار موقف العرب من القرآن، فهم قبل أن يتأملوا بما فيه كذبوا به تقليدا للآباء وإبقاء على عبادة الأوثان، وبعد أن تأملوا وتدبروا فيه كذبوا به أيضا تمردا وعنادا، وبغيا وحسدا، وعجزا وضعفا من معارضته والإتيان بمثل أقصر سورة فيه في سلامة النظم والأسلوب والمعنى والحكم. لذا أنذرهم القرآن بالدمار والهلاك على ظلمهم كما أهلك الأمم الخالية بسبب تكذيب الرسل.

انقسام المشركين إلى فريقين حول الإيمان بالقرآن والنبي [سورة يونس (10) الآيات 40 إلى 44] :

انقسام المشركين إلى فريقين حول الإيمان بالقرآن والنبي [سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 44] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) الإعراب: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ حملا على معنى مَنْ لأن معناها الجمع. مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ينظر حملا على لفظ مَنْ لأن لفظها مفرد. وَلكِنَّ النَّاسَ ذهب جماعة من النحويين إلى أن الاختيار في لكِنَّ إذا جاءت معها الواو أن تكون مشدّدة، وإذا جاءت بغير واو أن تكون مخففة، قال الفراء: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخففت لتكون مثلها في الاستدراك، وإذا جاءت بالواو خالفت فشدّدت، فمن شددها، كان ما بعدها منصوبا لأنه اسمها، ومن خففها رفع ما بعدها على الابتداء، وما بعده الخبر أَنْفُسَهُمْ مفعول به مقدم. البلاغة: مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... ومَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ بينهما طباق السلب. الصُّمَّ.. الْعُمْيَ مجاز عن الكافرين، شبههم بالصم والعمي لإعراضهم عن الحق والهدى. المفردات اللغوية: وَمِنْهُمْ ومن المكذبين أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق

المناسبة:

ولكن يعاند، أو من سيؤمن به ويتوب عن كفره. وضمير بِهِ يعود إلى القرآن مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو المصرين على الكفر، وهو تهديد لهم. وَإِنْ كَذَّبُوكَ أصروا على تكذيبك لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي لكل جزاء عمله، وأنا بريء من عملكم، وبما أني تبرأت منه فقد أعذرت أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذوني بعملي ولا أؤاخذ بعملكم. مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ شبههم بهم في عدم الانتفاع بالقرآن وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم وتدبرهم. وهذا يدل على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه. مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ شبههم بهم في عدم الاهتداء وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة، فإن المقصود من الإبصار: هو الاعتبار والاستبصار. والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم. لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها وتفويت منافعها عليها. وفيه دليل على أن للعبد كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت المجبرة. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى طعن الكافرين في النبوة والوحي، وبعد أن أنذرهم بالدمار والعذاب في الدنيا بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ذكر أنهم في الواقع فريقان: فريق يصدق بأن القرآن كلام الله، ولكنه يكابر ويعاند، وفريق لا يصدق به أصلا لفرط غباوته وجهله، فيصر على تكذيب النبي لفقده الاستعداد للإيمان به، فلا أمل في إصلاحه وهدايته، فتكون المصلحة في إعطاء الفرصة للفريق الأول للإيمان دون الاستئصال. التفسير والبيان: المشركون في الحال والاستقبال فريقان: فريق يصدق بالقرآن في نفسه

ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب، وفريق يشك فيه لا يصدق به. هذا في الحال. ويجوز أن يراد بفعل يُؤْمِنُ الاستقبال، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من سيؤمن بهذا القرآن، ويتبعك، وينتفع بما أرسلت به ومنهم من سيصرّ على كفره، ويموت على ذلك ويبعث عليه. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهؤلاء هم المعاندون أو المصرّون، والله العادل الذي لا يجوز، بل يعطي كلا ما يستحقه، فمعنى الآية: وربك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم والطغيان، فلا أمل في صلاحهم، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وسيعذبهم في الدنيا والآخرة. وإن كذّبك هؤلاء المشركون وأصروا على ذلك، فتبرأ منهم ومن عملهم، وقل لهم: لِي عَمَلِي: وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير والطاعة والإيمان، وسيجازيني الله عليه، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ: وهو الظلم والشرك والفساد، وسيجازيكم الله عليه، كما قال تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس 10/ 52] . أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يراد بذلك الزجر والردع، وإعلان مبدأ المسؤولية الفردية: وهي انحصار مسئولية كل إنسان بنفسه، وعدم سؤاله عن ذنب غيره. والمعنى: فلا تؤاخذوني بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم فقد أعذرت وأنا بريء من عملكم، كقوله تعالى: قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود 11/ 35] وقوله: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] وقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] وقوله: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء 26/ 216] .

وأما موقف المشركين المكذبين منك يا محمد، فلا تعجب منه، فمنهم من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وإنما يسمعون دون تدبر ولا فهم، ويهتمون بسماع نظم القرآن وجرس صوته، فهم لاهون لاعبون غير جادّين: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء 21/ 2- 3] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك، وضموا إلى ذلك أنهم لا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه، فينتفعوا به، فإن السماع النافع للمستمع: هو ما عقل به ما يسمعه، وعمل بمقتضاه وإلا كان في الواقع كالأصم حقيقة. وهذا حال بعض المسلمين مع الأسف اليوم. وفيه دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم بالقسر والإلجاء إلا الله عز وجل. ومنهم من ينظر إليك عند قراءتك القرآن نظرة إعجاب، ولكنه لا يبصر نور الإيمان والقرآن وهداية الدين والخلق القويم. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي لا تقدر على هداية هؤلاء، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة، فلا تستطيع هدايتهم لفقدهم نعمة البصيرة المدركة والعقل المدرك: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] . والخلاصة: إنك يا محمد لا تستطيع هداية هؤلاء، لفقدهم الاستعداد للفهم والهداية، وكأنهم مثل من فقد حاسة السمع في الحقيقة، وفقد حاسة البصر أيضا لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] والمراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً.. أي إن الله تعالى لا يجور أبدا، بسلب

فقه الحياة أو الأحكام:

حواسهم وعقولهم التي بها يدركون الأشياء ويهتدون إلى الحق والصواب، ولكن الناس هم الظالمون أنفسهم وحدها دون غيرها لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي، بتعطيلهم نعمة العقل، وتنكرهم لهداية الدين. وهذا وعيد للمكذبين، فإن عذابهم يوم القيامة عدل وحق لا ظلم فيه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- جميع الكفار ومنهم أهل مكة في الماضي: منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، لكنه يتعمد إظهار التكذيب، ومنهم من لا يؤمن به أصلا. ومنهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويؤمن، ومنهم من يصر على الجحود ويستمر على الكفر، والله تعالى عليم بالجميع. 2- كل إنسان مسئول عن نفسه وسيلقى جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر. 3- إن الحواس من سمع وبصر لها هدفان: هدف ظاهري وهو سماع المسموعات ورؤية المبصرات، لتكون الحياة بوجه سليم وهدف حقيقي: وهو استخدامها في تدبر المسموع وفهمه وتعقله، وإنعام النظر وإدراك البصيرة في أمور الدين والأخلاق، للتوصل إلى نعمة الإيمان والهداية والحق، والتخلص من ظلمة الكفر والضلال والباطل. 4- الرسول صلى الله عليه وسلّم مجرد مبلّغ ومنذر ومبشر، فلا يقدر على غرس الإيمان في القلوب، وزرع الهداية في النفوس، وما على العقلاء إلا الاستجابة لبلاغاته، والاستماع لمواعظه ولأنه كما لا يقدر على إسماع من سلب السمع، وإبصار من حرم البصر، فلا يقدر أن يوفق هؤلاء للإيمان إذا أصروا على الكفر.

زوال الدنيا سريع [سورة يونس (10) آية 45] :

5- إن السمع أفضل من البصر، بدليل أنه كلما ذكر الله السمع والبصر، فإنه في الأغلب وكما في هذه الآية يقدم السمع على البصر. 6- احتج أهل السنة بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام، وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء، والله هو الذي يخلق القدرة على الهداية فيها. 7- إن الله لم يظلم أهل الشقاء، فهو في جميع أفعاله عادل، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. زوال الدنيا سريع [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) الإعراب: وَيَوْمَ منصوب بتقدير: اذكر، أو على الظرف، وعامله: يَتَعارَفُونَ. كَأَنْ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير يَحْشُرُهُمْ أي يحشرهم متشابهين أو صفة مصدر محذوف، تقديره: يحشرهم حشرا مشابها لحشر يوم لم يلبثوا قبله، أو صفة (ليوم) على تقدير محذوف أيضا، أي كأن لم يلبثوا قبله، فحذف المضاف فاتصلت الهاء يلبثوا، فحذفت للطول. وكَأَنْ: مخففة من الثقيلة، تقديره: كأنهم لم يلبثوا، وواو يَلْبَثُوا عائدة إلى ضمير يَحْشُرُهُمْ. يَتَعارَفُونَ جملة فعلية حال من ضمير لَمْ يَلْبَثُوا ويجوز جعلها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم يتعارفون. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ.. إما استئناف فيه معنى التعجب أي ما أخسرهم، وإما حال من ضمير يتعارفون.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يَحْشُرُهُمْ الحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد. كَأَنْ أي كأنهم، فخففت. لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، أو في القبور، لهول ما يرون. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا، ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ بالبعث. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ طريق الرشاد، وقوله: قَدْ خَسِرَ ... هو استئناف، فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم، وهي شهادة من الله تعالى على خسرانهم، أو حال من ضمير: يَتَعارَفُونَ، على إرادة القول، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك. المناسبة: لما وصف الله تعالى هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر، وتكذيبهم القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلّم، أتبعه بالوعيد بالجزاء في الآخرة على ما كان منهم في الدنيا. التفسير والبيان: يذكّر الله تعالى الناس بقيام الساعة والحشر من قبورهم إلى أرض المحشر يوم القيامة، فيقول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي اذكر لهم أيها الرسول وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت في موقف الحساب والجزاء، فيلاحظون كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة، والساعة مثل في القلة، ثم انقضت، حالة كونهم يتعارفون أي يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا، ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال، أو فهم يتعارفون. وتقديرهم قصر الدنيا في ذلك الموقف الرهيب معنى متكرر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف 46/ 35] وقوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم 30/ 55] وقوله: قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟

فقه الحياة أو الأحكام:

قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ، قالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون 23/ 112- 114] . ثم أعلن الله تعالى خسارتهم فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا.. أي إن هؤلاء الكفار المكذّبين بالبعث قد خسروا ثواب الجنة خسارة كبري، إذ بدلوا الإيمان بالكفر، وما كانوا مهتدين لأوجه الربح والنفع بعمل الصالحات، فما أخسرهم! وهذا تعجب شديد من الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن عمر الدنيا قصير، إذا قوبل بحياة الآخرة الطويلة الأمد بل الخالدة، وعلى أن الكافرين المكذبين بالبعث خسروا ثواب الجنة خسارة كبري لا تعوض لأن الخسران إنما هو في يوم لا يرجى فيه القيام بالبديل، ولا تنفع فيه التوبة، وذلك بعد قيام الأدلة الكثيرة في القرآن المجيد على البعث والنشور. ويفهم من الآية أيضا أن لذات الدنيا بالنسبة إلى جميع العالم لا تعادل شيئا أمام العذاب الشديد والآفات الحاصلة للكافر يوم القيامة، فمن باع آخرته بالدنيا فقد خسر لأنه أعطى الكثير وأخذ القليل، وأن الكافر اهتدى إلى رعاية مصالح تجارته هذه. كذلك أشارت الآية إلى أن الناس في الآخرة يعرف بعضهم بعضا، ولكن التعارف يمكث وقتا يسيرا، ويقولون: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي بالبعث والنشور. ومع أنني اتجهت في تفسير الآية إلى مقابلة الدنيا بالآخرة فإن ما ذكر في الآية من لبث قدر ساعة من النهار يحتمل أن يكون ذلك هو عمرهم في الدنيا، أو مدة بقائهم في قبورهم، لهول ما يرون من البعث.

تعذيب المشركين في الدنيا والآخرة [سورة يونس (10) الآيات 46 إلى 56] :

تعذيب المشركين في الدنيا والآخرة [سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 56] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

الإعراب:

الإعراب: بَياتاً منصوب على الظرف بمعنى وقت بيات. ماذا يَسْتَعْجِلُ يجوز جعله جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ويجوز جعل جواب الشرط محذوفا وهو: تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ إما بمعنى: يستخبرونك، فيتعدى إلى مفعولين، الأول هو الكاف والثاني جملة أَحَقٌّ هُوَ جملة اسمية في موضع المفعول الثاني. وإما بمعنى يستعملونك فيتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فتكون الجملة الاسمية قد سدت مسدّ المفعولين. إِي وَرَبِّي أي: حرف يكون مع القسم بمعنى نعم، وجواب القسم: إِنَّهُ لَحَقٌّ. أَرَأَيْتُمْ تستعمل «أرأيت» بمعنى أخبرني، والرؤية إما بصرية أو علمية، ولا تستعمل في غير الأمر العجيب مثل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى. البلاغة: ضَرًّا وَلا نَفْعاً بينهما طباق، ومثله بين بَياتاً أَوْ نَهاراً وبين يُحيِي وَيُمِيتُ وبين يَسْتَأْخِرُونَ.. ويَسْتَقْدِمُونَ. يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فيه وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل والتشنيع على الجرم، كما أن هذا الاستفهام للتهويل والتعظيم. أَثُمَّ دخول حرف الاستفهام على ثم لإنكار التأخير لإيمانهم، فلا يقبل منهم. المفردات اللغوية: وَإِمَّا أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما المزيدة. نُرِيَنَّكَ نبصرنك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر، وجواب الشرط محذوف أي فذاك. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة، وهو جواب: نتوفينك. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ مطلع أو مجاز عليه، فإنه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها. عَلى ما يَفْعَلُونَ من تكذيبهم وكفرهم، فيعذبهم أشد العذاب. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ إليهم بالبينات فكذبوه. قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل، أي بين الرسول ومكذبيه، فيعذبون وينجّى الرسول ومن آمن به. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بتعذيبهم بغير جرم، فكذلك نفعل بهؤلاء.

المناسبة:

وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ بالعذاب، يراد استبعاد له واستهزاء به، وقولهم خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه أو يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة معلومة لهلاكهم. فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يتقدمون عليه. قُلْ: أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ عذاب الله الذي تستعجلون به. بَياتاً ليلا. ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ: أي شيء من العذاب يستعجلونه، وكله شديد مؤلم لا يلائم الاستعجال. الْمُجْرِمُونَ المشركون. وجواب الشرط: هي جملة الاستفهام، كقولك: إذا أتيتك ماذا تعطيني؟ والمراد به التهويل، أي ما أعظم ما استعجلوه. آلْآنَ تؤمنون؟ على إرادة القول، أي يقال لهم إن آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به؟ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ استهزاء وتكذيبا. ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على (قيل أو: يقال) المقدر قبل: آلْآنَ ... عَذابَ الْخُلْدِ أي الذي تخلدون فيه، أي المؤلم على الدوام. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ما تجزون إلا جزاء على ما كسبتموه من الكفر والمعاصي. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك. أَحَقٌّ هُوَ؟ أي أحق ما تقول من الوعد الذي وعدتنا به من العذاب والبعث. قُلْ: إِي نعم. بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب. ظَلَمَتْ بالشرك أو الكفر أو التعدي على الغير. ما فِي الْأَرْضِ ما فيها جميعا من خزائن وأموال. لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة. النَّدامَةَ على ترك الإيمان. لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا بما عاينوا من الهول فلم يقدروا على النطق. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الخلائق. بِالْقِسْطِ بالعدل. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا. وليس هذا تكرارا مع ما سبق من القضاء بالقسط لأن الله يقضي بين الأنبياء ومكذبيهم، والثاني فيه مجازاة المشركين على الشرك، أو الحكم بين الظالمين والمظلومين. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء من ثواب وعقاب كائن ثابت لا خلف فيه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى خسارة المشركين المكذبين بالبعث الذين لم يهتدوا إلى وجوه الخير والصلاح، وأنهم سيعذبون، أوضح أن بعض هذا العذاب سيكون في

التفسير والبيان:

الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهو تنبيه على أن عاقبة المذنبين مذمومة قبيحة جدا. وليس هذا حال محمّد صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بل هو حال كل الأنبياء مع أقوامهم. ثم بيّن الله تعالى الشبهة الخامسة «1» من شبهات منكري النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلّم كلما هددهم بنزول العذاب، ومرّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ واحتجوا بعدم وجوده على القدح في نبوته صلى الله عليه وسلّم. ثم أجابهم تعالى بأنه لو نزل هذا العذاب، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم: نؤمن عنده، فالإيمان وقت الإلجاء والعسر باطل، فيكون هذا العذاب في الدنيا، ثم يعقبه عذاب آخر أشد منه يوم القيامة؟ وبالرغم من سؤالهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ وإجابتهم، عادوا مرة أخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم يسألونه: أَحَقٌّ هُوَ أي المعاد والقيامة من القبور ثم العذاب؟ هو حق وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى، وأن ثبوت النبوة وصحة المعاد متفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وكل ما سواه ملكه. التفسير والبيان: كان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلّم في توعده لهم بالعذاب، وكانوا يستعجلون نزوله تكذيبا له واستهزاء به، ويتمنون موته لتموت دعوته، فرد الله تعالى عليهم مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلّم: إن ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينك كما حدث يوم بدر وحنين وغيرهما، فذاك وإن توفيناك قبل ذلك فمصيرهم ومنقلبهم إلينا بكل حال، فنريك عذابهم في الآخرة، والله مطلع على أفعالهم بعدك، فيجازيهم به، على علم وشهادة حق. وذلك كقوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ،

_ (1) قد مضى بيان الشبهات الأربعة في هذه السورة.

أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] . وهذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته. وهذا ليس حال النبي صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بل هو حال الأنبياء كلهم مع أقوامهم، فإنه تعالى أرسل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا، يدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى العمل الصالح مناط النجاة في الآخرة. وهذا يدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولا: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] . فإذا جاء رسولهم إليهم بالبينات فكذبوه، قضى الله بينه وبينهم بالعدل، فيعذبون، وينجي الله رسوله ومن صدقه، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا، مما ينزل بهم من عذاب، فلن يكون عذاب بغير ذنب ارتكبوه. ويقول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين تكذيبا واستهزاء، كلما هددهم بنزول العذاب على شركهم ولم ينزل: متى يقع هذا الوعيد، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟ فأجابهم الله تعالى بجواب يحسم هذه الشبهة: قل أيها الرسول لمن يستعجل العذاب: إني بشر لا أملك لنفسي ضرا أمنعه، ولا نفعا أجلبه، إلا ما شاء الله أن يقدرني. والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار نصر المؤمنين لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، وأنه تعالى ما عيّن لذلك الوعيد وقتا معينا، فهذا من شأن الإله، وأما الرسول فمهمته مقصورة على التبليغ لما جاء من عند الله. والاستثناء هنا في رأي أهل السنة منقطع، أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن.

ولكل أمة من الأمم مدة من الزمن أو العمر مقدرة، فإذا جاء أجلهم، لا يملك رسولهم ولا غيره أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة من الزمان المقدر له. وهذا يدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط، لا متأخرا عنه، وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي، وإنما يدل على كونه جزاء. ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ.. أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم، أو نهارا وقت شغلكم. وأي نوع من العذاب تستعجلون، أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟ وكل من العذابين واقع شديد، وأي عذاب تطلبون تعجيله فهو جهل وحماقة؟ فأي فائدة لكم فيه؟ إن قلتم: نؤمن عنده، فالإيمان وقت الشدة واليأس باطل، فالعذاب القريب هو عذاب الدنيا، ويعقبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه. وهذا معنى قوله: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ أي أتنتظرون مجيء هذا العذاب للإيمان؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به، في وقت لا ينفع الإيمان، ويقال لكم توبيخا: آلآن آمنتم بالله والرسول اضطرارا وقسرا، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! ودخلت ألف الاستفهام على ثُمَّ للتقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى. ثم يقال للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان، وتكذيب الرسول ووعيده: تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، هل تجزون أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون وتعملون باختياركم من الكفر والمعاصي. وذكر هذه العلة: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كلما ذكر العقاب والعذاب دليل على أن جانب الرحمة راجح غالبا، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.

وظاهر الآية يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ويوجب العمل لأن ذلك الجزاء عند أهل السنة واجب بحكم الوعد المحض، وعند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى. والآية تدل أيضا على كون العبد مكتسبا للخير والشر، خلافا للجبرية. وبالرغم من جواب الله تعالى بما ذكر عن سؤال الكفار: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ فإنه أخبر سبحانه أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى، وسألوه مرة أخرى، عن ذلك السؤال، فقال: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ. أي ويستخبرونك أيها الرسول أن تخبرهم عن عذاب الدنيا والآخرة أحق أنه سيقع على ما نكسبه من المعاصي في الدنيا، أم هو مجرد إرهاب وتخويف؟. وتكرار السؤال دليل على أن القوم تملّكهم إحساس شديد بالقلق والخوف من العذاب، كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم. فقل لهم أيها الرسول: نعم وربي، إنه لحق ثابت واقع ماله من دافع، وما أنتم بمعجزين أي بفائتين العذاب، وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . وليس لهذه الآية نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد، وهما في سورة سبأ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [3] وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [7] . ثم أخبر الله تعالى عن بعض مضايقات وأهوال القيامة فقال: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ

فقه الحياة أو الأحكام:

نَفْسٍ.. أي أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا. وأسروا الندم: وهو ما يجد الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل ضارّ، لما رأوا العذاب الشديد، فصاروا مبهوتين متحيرين. وقد يجهرون بالندم كما قال: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 39/ 56] ثم بين تعالى أنه لا ظلم حينئذ فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.. أي وحكم الله بين الظالمين والمظلومين بالعدل. لأن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم بالحق، رفعا لما ظلم به بعضهم بعضا في الدنيا، فيكون في القضاء تخفيف عذاب بعضهم، وتثقيل عذاب الباقين. ثم أتبع ذلك الاعلام وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به، بأن الملك كله لله وأنه المعاقب فإن الله مالك السموات والأرض، وكل الأشياء ملكه وفي سلطانه، وأن وعده حق كائن لا محالة، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة والمعاد، لغفلتهم عنها، وعدم إيمانهم بالإله القادر الحكيم، فأبان تعالى لهم الحقيقة، وأن كل ما سواه مملوك له. والدليل على قدرته تعالى على البعث والجزاء والثواب والعقاب أنه تعالى هو المحيي والمميت، وإليه مرجع الخلائق حين يحييهم بعد موتهم، فيحشرهم للحساب والجزاء على أعمالهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- عذاب الكفار شديد مضاعف في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعذبون بالهزيمة والذل والخزي ونحوها من القلق والخوف، وفي الآخرة بعذاب النار.

والله تعالى يري رسوله في الدنيا نماذج من عذابهم، وسيريه يوم القيامة ما هو أشد وأكثر، مما يدل على أن عاقبة المؤمنين محمودة، وعاقبة المذنبين مذمومة. 2- لكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم، وكذلك لا يعذب الناس في الدنيا حتى يرسل الله إليهم رسولا، فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذّب لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] . 3- القضاء بين العباد حق قائم على العدل المطلق، وهم لا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة. 4- النقاش حول نزول العقاب الإلهي ومجيء القيامة قديم بين الأمم مع الرسل عليهم السلام، وبين الأمة العربية مع النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو مستمر دائم بين الكفار ودعاة الإسلام المصلحين. 5- إنزال العذاب مقدر بأجل معين في علم الله تعالى، ولا يملك إنزاله إلا الله تعالى، ومتى حان وقت هلاك أمة من الأمم، فلا يتأخر ولا يتقدم لحظة. وليس لرسول أو نبي أو غير هما الحيلولة دون وقوع العذاب المقرر. 6- استعجال العذاب لا نفع فيه، وإنما النافع هو الإيمان قبل نزول العذاب، فإذا نزل فلا فائدة ولا نفع فيه لأن إيمان اليأس غير مفيد ولا صحيح. والقائل في قوله: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إما الملائكة استهزاء بهم، وإما من قول الله تعالى. 7- تبكيت الظالمين بما يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي الذي لا ينقطع، والجزاء لا يكون إلا جزاء الكفر والعصيان.

8- قيام الساعة والبعث والمعاد حق ثابت أقسم الله ورسوله على أنه حق كائن لا شك في وقوعه، وجميع الناس غير فائتين عن عذابه ومجازاته. 9- لا يقبل من أحد الفداء عن ذنبه لأن الله هو مالك السموات والأرض وكل شيء في ملكه وسلطانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً، وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمران 3/ 91] . 10- يندم الكفار والظلمة والعصاة على أعمالهم في الدنيا، وهم إما أن يخفوا الندامة أحيانا، وإما أن يظهروها أحيانا أخرى. ورؤساء الضلالة يخفون ندامتهم عن أتباعهم قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع، بدليل قولهم: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون 23/ 106] فبيّن أنهم لا يكتمون ما بهم. 11- القضاء بالعدل بين الكفار أنفسهم لدفع الظلم الذي كان بينهم واقع أيضا في الآخرة، فيخفف العذاب حينئذ عن المظلوم، ويزاد على الظالم. 12- تنبيه الناس قاطبة على أمور هي: أن الله مالك السموات والأرض، وأن وعد الله حق كائن لا محالة فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده، وأنه يحيي ويميت، وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ما يريد، العليم بأماكن وجودهم قبل البعث والحشر في البر والبحر، وأن أكثر الكفار منكري البعث غافلون عن أمر الآخرة، مقصّرون في الاستعداد لها. والله تعالى في الآخرة كما في الدنيا قادر لذاته على الإحياء والإماتة، لا تزول قدرته، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا.

مقاصد القرآن الكريم [سورة يونس (10) الآيات 57 إلى 58] :

مقاصد القرآن الكريم [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) الإعراب: مَوْعِظَةٌ.. وَشِفاءٌ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ التنكير للتعظيم. بِفَضْلِ اللَّهِ.. الباء متعلقة بفعل يفسره قوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، أي فليعتنوا أو فليفرحوا ثم قال: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وفائدة هذا التكرار: التأكيد والبيان بعد الإجمال. والفاء بمعنى الشرط، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء، فبهما فليفرحوا، وإعادة الباء بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ دليل على أن كلا منهما سبب في الفرح. وقوله فَبِذلِكَ للواحد والاثنين والجمع. البلاغة: شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ، أي شفاء للقلوب التي في الصدور. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة وغيرهم. مَوْعِظَةٌ أو عظة: هي الوصية بالحق والخير واجتناب الشر والباطل، بأسلوب جمع بين الترغيب والترهيب. وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ودواء من العقائد الفاسدة والشكوك. وَهُدىً بيان الحق من الضلال، والبيان في العقيدة بالبرهان، وفي التشريع العملي ببيان المصالح. وَرَحْمَةٌ رقة تقتضي الإحسان والعطف. بِفَضْلِ اللَّهِ التوفيق لتزكية النفوس، أو هو الإسلام. وَبِرَحْمَتِهِ أي ثمرة الفضل أو هي إنزال القرآن. فَبِذلِكَ الفضل والرحمة. فَلْيَفْرَحُوا الفرح والسرور: انفعال في النفس بنعمة حسية أو معنوية ترتاح له وتستمتع به.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أقام الله تعالى الأدلة على أسس الدين الثلاثة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، ذكر التشريع العملي وهو القرآن، وأبان صفاته ومقاصده الأربعة. التفسير والبيان: يا أيها الناس، قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ أو الوصايا الحسنة التي تصلح الأخلاق والأعمال وتزجر عن الفواحش، وتشفي الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وتهدي إلى الحق واليقين والصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، وترحم المؤمنين رحمة خاصة. وهذه هي صفات القرآن المجيد أو خصائصه. 1- كونه موعظة حسنة من عند الله، يجمع بين الترغيب والترهيب، فيبعث على فعل الحسن وترك القبيح، مثل قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 138] . 2- شفاء لما في القلوب من الشبهات والشكوك والنفاق والكفر وسوء الاعتقاد والخلق، كقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] . 3- هاد إلى الحق واليقين والصراط المستقيم المحقق لسعادتي الدنيا والآخرة كقوله تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت 41/ 44] . 4- رحمة للمؤمنين خاصة، ينجيهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، ويحجبهم من النيران، ويرفعهم إلى درجات الجنان. وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون بالإيمان.

فقه الحياة أو الأحكام:

قل أيها الرسول للمؤمنين: ليفرحوا بفضل الله وبرحمته بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق، فإنه أولى ما يفرحون به. وقوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يفيد الحصر، يعني يجب ألا يفرح الإنسان إلا بذلك. روى ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن أنس مرفوعا: «فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله» وقال الحسن البصري والضحاك وقتادة ومجاهد: «فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن» . إن الفرح بما تفضل به الله وبما رحم به المؤمنين هو أجدى وأنفع من كل ما يجمعونه من الأموال وسائر خيرات الدنيا، لا محالة لأنه يؤدي إلى سعادة الدارين، وتلك الأموال سبب السعادة في الدنيا فقط. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الصفات الأربع هي صفات القرآن، ففي القرآن المواعظ والحكم، وهو الشفاء النافع من الشك والنفاق والخلاف والشقاق، وهو الهدى أي الرشد لمن اتبعه، عصمة لمن تبعه، ونجاة لمن تمسك به. ورحمة أي نعمة كبري خاصة بالمؤمنين. وإن فضل الله ورحمته من أعظم دواعي الفرح والسرور، بل لا فرح ولا سرور بغير فضل الله ورحمته، وفضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وهذا قول الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة. وعن أبي سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما العكس تماما، فقالوا: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام. وعلى كل فإن مصدر الفرح الصحيح للمسلمين شيئان: الإيمان أو الإسلام، والقرآن. وإن فضل الله ورحمته خير للمؤمنين مما يجمعون من حطام الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل. روى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من هداه الله للإسلام، وعلمه القرآن، ثم شكا

الإنكار على المشركين بالتحليل والتحريم للأنعام [سورة يونس (10) الآيات 59 إلى 60] :

الفاقة، كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه، ثم تلا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. الإنكار على المشركين بالتحليل والتحريم للأنعام [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) الإعراب: ما أَنْزَلَ ما: منصوب ب أَنْزَلَ أو ب أَرَأَيْتُمْ، فإنه بمعنى أخبروني. يَوْمَ الْقِيامَةِ: منصوب بالظن، وهو ظن واقع فيه أو منصوب على الظرف. البلاغة: حَراماً وَحَلالًا بينهما طباق. قُلْ: آللَّهُ كرر الفعل للتأكيد. آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ الاستفهام للإنكار. وأَمْ منقطعة بمعنى بل، ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله، بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء. ويجوز أن تكون متصلة ب أَرَأَيْتُمْ. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتُمْ أخبروني. ما أَنْزَلَ اللَّهُ ما خلق. لَكُمْ أي ما حل لكم، ولذلك وبخ على التبعيض فقال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا كالبحيرة والسائبة والوصيلة. قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في ذلك بالتحليل والتحريم؟ لا. أَمْ بمعنى بل. تَفْتَرُونَ تكذبون بنسبة ذلك إليه.

المناسبة:

وَما ظَنُّ الَّذِينَ.. أي، أيّ شيء ظنهم به. يَوْمَ الْقِيامَةِ أيحسبون أنه لا يعاقبهم عليه؟ وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل، وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأنعم عليهم بنعم كثيرة، وأمهلهم في العقاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة. المناسبة: بعد أن أثبت الله تعالى في أوائل السورة الوحي والنبوة، ذكر طريقا آخر في إثبات النبوة: وهو أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى، وأن الأصل في الأرزاق والأشياء الإباحة، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض، مع تساويها في الصفات والمنافع، دليل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة لأنه لم يقم لكم دليل عقلي ولا نقلي على هذا التمييز، فهو منهج فاسد باطل، وأن ما عليه الأنبياء هو الحق والصواب. التفسير والبيان: ينكر الله تعالى على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا [الأنعام 6/ 136] وقوله: وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ، بِزَعْمِهِمْ [الأنعام 6/ 138] وقوله: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام 6/ 139] وقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، قُلْ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام 6/ 144] . ورد الله تعالى عليهم كل ما شرعوه من تحليل وتحريم بقوله: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [المائدة 5/ 103] .

ومعنى الآية: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين كفار مكة: أخبروني عما أنزل الله من رزق حلال لكم للانتفاع به، فجز أتموه أو بعضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام بزعمكم، أخبروني: آلله أذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبون على الله، في نسبة ذلك إليه. والآية توبيخ على التبعيض، وزجر بليغ على التهاون في الفتوى، وباعثة على وجوب الاحتياط فيما يسأل عنه العالم من الأحكام، وألا يقول أحد في شيء: جائز أو غير جائز، إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت. وإلا فهو مفتر على الله «1» ، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل 16/ 116] . وَما ظَنُّ الَّذِينَ ... المعنى: أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه؟ وهو يوم الجزاء، والإحسان والإساءة، أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله أو أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به؟ وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره، أم أن لهم شفعاء يشفعون لهم؟ كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 42/ 21] . إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل، ورحمهم بالوحي، وتعليم الحلال والحرام، وتشريع الدين، وفضّل عليهم بالرزق وجعل الأصل فيما رزقهم من المنافع الإباحة، ولكنه جعل حق التحليل والتحريم إليه وحده، كيلا يعبث به، كما عبث به الأخبار والرهبان، ولم يحرّم عليهم إلا ما فيه ضرر بهم في دنياهم أو دينهم. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة وذلك الفضل كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] ولا يتبعون ما هدوا إليه، بل

_ (1) الكشاف: 2/ 78

فقه الحياة أو الأحكام:

يحرمون ما أنعم الله به عليهم، ويضيّقون على أنفسهم، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما، وقد وقع في هذا المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وربما وقع فيه بعض المسلمين، فتغالوا في الزهد وتركوا طيبات الرزق، أو أسرفوا في الأكل والشرب والزينة، مخالفين نهج الإسلام في التوسط والاعتدال في الإنفاق، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] وقال سبحانه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها [الطلاق 65/ 7] . وأيدت السنة ذلك الاتجاه، روى البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا: «إذا آتاك الله مالا فلير عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس» . وأخرج أحمد عن أبي الأحوص عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا رثّ الهيئة فقال: هل لك مال؟ قلت: نعم، قال: من أيّ المال؟ قلت: من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال: إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته» . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات ما يأتي: 1- الشيء الذي جعله أهل الجاهلية المشركون حراما: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كما ذكر في سورة المائدة، وهو أيضا المذكور في سورة الأنعام من جعل نصيب من الزروع والثمار والمواشي لله تعالى يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها، كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام 6/ 136] .

إحاطة علم الله تعالى بجميع شؤون العباد وأعمالهم وبكل الكائنات [سورة يونس (10) آية 61] :

2- مصدر التشريع هو الله عز وجل، وحق التحليل والتحريم لله، لا لأحد سواه من الخلق ولو كان نبيا أو رسولا، فإن كانت الأحكام من الله تعالى فهو المراد بقوله: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وإن كانت ليست من الله، فهي افتراء، وهو المراد بقوله تعالى: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ. 3- توبيخ من تجرأ على تبعيض الأحكام الشرعية، فجعل بعضها حلالا، وبعضها حراما. وهذا أيضا تنديد بمن يتهاون في الفتوى، ولا يحتاط في وصف الأحكام، فيحلل أو يحرم برأيه دون تثبت ولا تيقن. 4- وعيد من يفتري على الله الكذب، فينسب الحكم إليه، وهو منه براء. 5- معاقبة المفترين يوم القيامة على جريمة افتراء الكذب على الله. 6- الله تعالى صاحب الفضل العظيم على الناس بإعطاء العقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وجعل التحليل والتحريم إليه دون سواه، وجعل الأصل في المنافع والأرزاق والأشياء والأعيان الإباحة. 7- أكثر الكفار لا يشكرون الله على نعمه، ولا على تأخير العذاب عنهم. إحاطة علم الله تعالى بجميع شؤون العباد وأعمالهم وبكل الكائنات [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

الإعراب:

الإعراب: وَما تَتْلُوا مِنْهُ الهاء تعود على «الشأن» على تقدير حذف المضاف، وتقديره: وما تتلو من أجل الشأن من قرآن، أي: يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله. ومن: تبعيضية، أو مزيدة لتأكيد النفي. وإضمار القرآن قبل التصريح به تفخيم له أو لله عز وجل. وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ النصب فيهما على أن لا نافية، وأَصْغَرَ اسمها، وفِي كِتابٍ: خبرها وهذا كلام مستقل بنفسه، مقرر لما قبله. ويجوز الرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه، أو على العطف على محل: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ وتقديره: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر. ويجوز الجر، مراعاة للفظ مِثْقالِ لأن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في اللفظ مجرور. وفِي كِتابٍ مُبِينٍ موضع الرفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو في كتاب مبين. المفردات اللغوية: وَما تَكُونُ يا محمد، وما: نافية، أي لست في شأن من عبادة أو غيرها إلا والربّ مطلع عليك. شَأْنٍ أمر مهم عظيم وَما تَتْلُوا مِنْهُ من الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل هو معظم شأنه، أو ما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو من الله عز وجل وَلا تَعْمَلُونَ أنتم جميعا أيها المؤمنون (الأمة والنبي) وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم شُهُوداً شاهدين رقباء نحصي عليكم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تندفعون فيه وتخوضون أو تأخذون في العمل وَما يَعْزُبُ وما يبعد عنه وما يغيب عن علمه مِثْقالِ وزن ذَرَّةٍ أصغر نملة أو هباء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في الوجود والإمكان إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن وهو اللوح المحفوظ. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أن القليل من الناس شاكرون نعم الله بدوام طاعته وترك معصيته، ذكّرهم بأن علمه محيط بجميع شؤونهم وأعمالهم صغيرها وكبيرها، وبكل الموجودات والكائنات كلها في السموات والأرض، حتى يحملهم ذلك على الطاعة والشكر والعبادة وتجنب المعصية لأنه إذا كان الحق تعالى عالما بكل شيء، سرّ الطائعون، وهدّد المذنبون.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل لحظة. وما تكون أيها الرسول في أي أمر من أمورك الخاصة أو العامة، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك، لنشر الدعوة بين الناس إلا ونحن شهود عليكم. وفي التعبير بالشأن دليل على أن جميع أموره صلى الله عليه وسلّم كانت عظيمة، حتى العادات لأنه قدوة حسنة للمؤمنين. وبعد أن خصه الله بأمرين وهما وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ووَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ خاطب جميع الأمة التي هو رأسها. وضمير مِنْهُ إما عائد إلى الشأن، وإما إلى القرآن أي وما تتلو من القرآن من قرآن لأن القرآن اسم للمجموع واسم لكل جزء من أجزاء القرآن، والإضمار قبل الذكر يدل على التعظيم، وإما إلى الله أي وما تتلو من قرآن نازل من عند الله. وَلا تَعْمَلُونَ.. أي ولا تعملون أيتها الأمة أي عمل صغير أو كبير، خير أو شر، وأي عمل كان، إلا كنا عليكم شاهدين رقباء مطلعين، نحصي عليكم، وسنجازيكم عليه. إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تندفعون وتأخذون فيه، أي في ذلك الشيء. وما يبعد عن الله ولا يغيب عن علمه أي شيء، ولو كان مثقال ذرة أي وزن أصغر نملة أو هباء، وبه يضرب المثل في الصغر والخفة، ولا أصغر من الذرة أي أجزاء الذرة، وهذا يشير إلى نظرية أو مبدأ تحطيم الذرة واكتشاف جزيئاتها،

فقه الحياة أو الأحكام:

ولا شيء أكبر من ذلك، كالعرش الذي هو أعظم المخلوقات، إلا وهو معلوم له، ومحصى معروف في كتاب عظيم الشأن وهو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها. وفي هذا دلالة إلى سبق القرآن إلى الإشارة إلى أصغر الموجودات في الكون مما لا يدرك بالعين المجردة، وإنما بالمكبّرات، كأجزاء الذرة والجراثيم، ويحتاج تكبيره إلى مئات أو آلاف المرات. كما أن هناك أشياء كبيرة جدا، أكبر من السموات والأرض، وما فيهما، فإن بعض النجوم أكبر من الشمس والأرض والقمر بملايين المرات، والعرش أعظم المخلوقات. ونظير الآية قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] أي أنه تعالى يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة، وكل ما هو موجود في طبقات الأرض، وأجواء السماء. فقه الحياة أو الأحكام: إن كل من يتأمل في مدلول هذه الآية- ولا يتأمل فيها بحق إلا عالم مؤمن، واسع العلم والأفق والنظر- فيجد سعة علم الله الشامل، ورصده لكل شيء في الوجود، وأعمال جميع الكائنات الحية، والناس قاطبة في البر والبحر والجو، يسيطر عليه الخوف والرهبة، ويمتلئ قلبه اليقين بعظمة الله تعالى، ويدرك أن جميع أعماله محصية عليه، سواء أكانت صغيرة حقيرة أم كبيرة جليلة. ولو قيل: إن شاشة كبيرة من التلفاز (الرائي) تصوّر جميع حركات الإنسان على أشرطة مسجلة في منزله وغيره، وفي تنقلاته كلها، وإن ما يرتسم على هذه الشاشة وما يسجل فيها من أصوات، سيعرض على حاكم الدولة،

أولياء الله - أوصافهم وجزاؤهم [سورة يونس (10) الآيات 62 إلى 64] :

وسيحاسبه على أموره كلها، هل أدى واجبه أو قصر، وهل أدى الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه أو خانها، وهل أحسن أو أساء إلى نفسه أو غيرها من الأهل والجيران والمجتمع، لو قيل ذلك، وقدّر كل إنسان ما يرصد عليه في هذه الشاشة في يوم أو شهر أو سنة أو في العمر كله، لفكّر تفكيرا دقيقا جدا، والتزم درب الاستقامة، حتى لا يعرّض نفسه إلى الإهانة. وهكذا- ولله المثل الأعلى- رصد الله لحركاتنا، وعلمه بجميع أعمالنا، بل اطلاعه على ما تكنه نفوسنا، يملأ النفس رهبة وخوفا، فسبحانك يا رب لا يسعنا إلا سترك وعفوك ورحمتك، وكفى بهذه الآية باعثا على الطاعة والإيمان، ورادعا عن المعصية والكفر، وكفى بالله حسيبا، وهو أسرع الحاسبين. أولياء الله- أوصافهم وجزاؤهم [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) الإعراب: الَّذِينَ آمَنُوا فيه ثلاثة أوجه: النصب على أنه صفة للأولياء أو بدل منهم، أو النصب على المدح أي أخص أو أعني، أو الرفع على الابتداء، وخبره: هُمُ الْبُشْرى. ويجوز أن تكونْ بُشْرى مبتدأ، وهُمُ خبره، والجملة في موضع رفع: خبر الَّذِينَ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَوْلِياءَ اللَّهِ أي أحبابه وأصفياؤه والمقرّبون إليه، الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة، هم المؤمنون المتقون كما فسرتهم الآية، فكل من كان تقيا كان لله وليا. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات مأمول. وَكانُوا يَتَّقُونَ الله بامتثال أمره ونهيهْ بُشْرى الخبر السارّ، وهي ما بشّر الله به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم، وما يريهم في الرؤيا الصالحة، كما في حديث صححه الحاكم: يراها الرجل أو ترى له، وما يسنح لهم من المكاشفات، وبشرى الملائكة عند النزع فِي الْآخِرَةِ الجنة والثواب وتلقي الملائكة إياهم مسلّمين مبشرين بالفوز والكرامة. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لا خلف لمواعيده لِكَ المذكور. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى إحاطة علمه بأعمال العباد وبجميع الكائنات ليكون ذلك باعثا لهم على الشكر والعبادة، ذكر حال الشاكرين المتقين الذين حسن جزاؤهم في الآخرة. التفسير والبيان: إن أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة والعبادة، ويتولاهم بالكرامة هم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكانوا يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فكل من كان تقيا كان لله وليا. وأولياء الله هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح والتقوى. فلا خوف عليهم في الدنيا من مكروه يتوقع، كما قال تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 175] أي لا تخافوا أولياء الشيطان وأنصاره. ولا خوف عليهم في الآخرة مما يخاف منه الكفار والعصاة من أهوال الموقف وعذاب القيامة، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء 21/ 103] .

ولا هم يحزنون في الدنيا من فوات مأمول، ولحوق مكروه، وذهاب محبوب لأنهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويبتغون رضوان الله، كما لا يحزنون في الآخرة من مخاوف القيامة. روى البزار عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله» . ولهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر والاستخلاف في الأرض ما داموا على شرع الله ودينه، يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج 22/ 41] وقال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] . ومن بشائر الدنيا لهم الرؤيا الصالحة، روى أحمد والحاكم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال: «هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له» . ومن البشائر بشرى الملائكة لهم بحسن الحال وبالدرجة الرفيعة عند النزع: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل 16/ 32] . ولهم البشرى في الحياة الآخرة بحسن الثواب والنعيم المقيم في الجنة، كما قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة 9/ 21] . وتلقي الملائكة لهم يبشرونهم بالجنة، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها

فقه الحياة أو الأحكام:

ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت 41/ 30- 32] . تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير لأقواله، ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق 50/ 29] ومنها تبشير المؤمنين بالجنة. ِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ذلك المذكور وهو البشارة لهم في الدارين بالسعادة هو الفوز العظيم الساحق الذي لا فوز غيره لأنه ثمرة الإيمان والعمل الصالح. فقه الحياة أو الأحكام: وضعت هذه الآية الحد الفاصل أمام الأدعياء، فأبانت أن أولياء الله هم المؤمنون الأتقياء، روى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل: من أولياء الله؟ فقال: «الذين يذكر الله برؤيتهم» . وقال عمر بن الخطاب- فيما رواه أبو داود- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء، تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة، لمكانهم من الله تعالى. قيل: يا رسول الله، خبّرنا من هم وما أعمالهم، فلعلنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تحابّوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها، فو الله، إن وجوههم لنور، وإنهم على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» . وما أعظم وأجدى هذه الحوافر للعمل الصالح والاتصاف بصفة أولياء الله، التي ذكرتها هذه الآية، وهي المجموعة في قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وفي تلك البشرى إيماء إلى الوعد بنصرهم على الأعداء.

_ (1) قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب، لكن رواه أحمد عن أبي مالك الأشعري، ورواه ابن جرير عن أبي هريرة.

العزة والملك لله تعالى وفائدة جعله الليل والنهار [سورة يونس (10) الآيات 65 إلى 67] :

والبشرى: هي الخبر السارّ أو البشارة السارّة بالخير والفضل والمكافأة، وقد جمعت هذه البشرى بين سعادتي الدنيا والآخرة، ففي الدنيا: النصر والعز والثناء الحسن، وفي الآخرة: الفوز والنجاة والظفر بالجنة ونعيمها الأبدي الخالد. ولا خلف لوعد الله، ولا تبديل لأخباره، فلا ينسخها شيء، ولا تكون إلا كما قال، فما أجلّ ذلك، وما أكرم الله المبشّر وأحبّه إلى عباده، وما أسعد المبشّرين! جعلنا الله منهم. العزة والملك لله تعالى وفائدة جعله الليل والنهار [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) الإعراب: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ.. ما: إما بمعنى الذي، وإما بمعنى النفي، وإما بمعنى الاستفهام. فإن كانت بمعنى الذي فهي معطوفة بالنصب على مَنْ أي، ألا إن لله تعالى الأصنام الذين تدعونهم من دون الله شركاء، فحذف العائد من الصلة. وشُرَكاءَ: حال من ذلك المحذوف. وإن كانت نفيا وهو الظاهر كانت حرفا، والتقدير: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. وانتصب شركاء ب يَدْعُونَ، والعائد إلى الَّذِينَ الواو في يَدْعُونَ

البلاغة:

ومفعول يَتَّبِعُ قام مقامه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، ولا ينتصب الشركاء ب يَتَّبِعُ لأنك تنفي عنهم ذلك، والله تعالى قد أخبر به عنهم. وإن كانت ما بمعنى الاستفهام، والمراد به الإنكار والتوبيخ، كانت اسما في موضع نصب ب يَتَّبِعُ، وتقديره: وأي شيء يتبع الذين يدعون. البلاغة: وَالنَّهارَ مُبْصِراً استعارة، شبه النهار بالإنسان لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له أي للإبصار على طريق المبالغة، كما قالوا: ليل أعمى وليلة عمياء، إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها. المفردات اللغوية: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إشراكهم وتهديدهم وتكذيبهم وقولهم لك: لست مرسلا إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ استئناف بمعنى التعليل، والْعِزَّةَ: الغلبة والقوة والمنعة هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بعزماتهم وأفعالهم، فيجازيهم عليها وينصرك عليهم. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين: الإنس والجن، ملكا وخلقا وعبيدا. قال البيضاوي: وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا، لا يصلح أحد منهم للربوبية، فما لا يعقل منها- وهي الأصنام- أحق ألا يكون له ندا وشريكا، فهو كالدليل على قوله. وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره أصناما شُرَكاءَ له على الحقيقة، تعالى الله عن ذلك إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في ذلك يقينا، وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء، أو أنها آلهة تشفع لهم وَإِنْ هُمْ ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون فيما ينسبون إلى الله، فيستعمل الخرص بمعنى الكذب لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين، والأصل في الخرص: الحزر والتقدير، ويجوز أن يراد: يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا. وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ذا إبصار، وإسناد الإبصار إلى النهار مجاز لأنه يبصر الناس فيه، وإنما قال مبصرا، ولم يقل: لتبصروا فيه، تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب لَآياتٍ دلالات على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار أو اتعاظ. المناسبة: بعد أن أورد الله تعالى أنواع شبهات المشركين في هذه السورة، وأجاب

التفسير والبيان:

عنها، ذكر أنهم عدلوا إلى طريق آخر، وهو التهديد والتخويف بأنهم أصحاب السلطة والمال، فأجابهم الله عن ذلك بقوله: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تبشيرا له بالنصر عليهم، كما أنه تعالى مهد لذلك في بيان صفة الأولياء وبشارتهم في الآيات المتقدمة، إيماء إلى الوعد بالنصر على الأعداء في مكة المغترين بقوتهم، المكذبين بوعد الله. التفسير والبيان: ولا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين: لست مرسلا، وغيره من إشراك وتكذيب وتهديد بأنهم أصحاب القوة والمال، واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه، فإن العزة أي الغلبة والقوة والقهر لله تعالى جميعا، أي جميعها له، وأما إثبات العزة لرسوله وللمؤمنين ففي آية أخرى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون 63/ 8] فالعزة كلها بالله، وإلى الله. هو السميع لأقوال عباده، ومنها أقوالهم المتضمنة تكذيب الحق وادعاء الشرك، العليم بأحوالهم وبما يفعلون من إيذاء وكيد، وسيجازيهم عليه، فلا تأبه لقولهم ومكيدتهم، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من أذى قومه، وتبشير له بالنصر عليهم. ثم أقام الدليل على انفراده بالعزة كلها بقوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ... أي انتبهوا أيها الناس، إن لله ملك السموات والأرض وما بينهما، لا ملك لأحد فيهما سواه، فكيف تصلح الأصنام آلهة؟ وهي مملوكة، والعبادة لا تكون إلا للمالك، بل إنها لا تعقل ولا تملك شيئا، لا ضرا ولا نفعا، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وأوهامهم. وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي لا يتبع هؤلاء المشركون شركاء لله في الحقيقة، فليس لله شريك أبدا، وليس للشركاء المزعومين

قدرة على شيء من تدبير أمور العباد ودفع الضر عنهم، بل إنهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم، ولا يملكون جلب أي نفع لهم. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.. أي ما يتبع المشركون في الحقيقة فيما يزعمون إلا الظن الفاسد والخطأ الفادح، وما هم في هذا الظن إلا متخرصون كاذبون فيما ينسبون إلى الله، أو حازرون مقدّرون أن تكون شركاء تقديرا باطلا. فهذه الجمل الثلاث بعد بيان استقلال الله بملكية ما في السموات وما في الأرض مؤكدات متوالية، تؤكد سلب صلاحية الملائكة والأصنام والمسيح وغيرهم عن اتخاذها آلهة، ولا اتخاذها وسطاء أو شفعاء أو وسائل لله، كما هو شأن حكام الدنيا والملوك الظالمين الذين لا يصل إليهم إلا الوسطاء، فجميع من في السموات والأرض مملوك لله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] والمملوك لا شأن له أمام المالك. ثم استدل تعالى على كون العزة لله جميعا وانعدام أي دور للشركاء مع الله في الخلق والتقدير والتصرف والتدبير بقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ.. أي إنه تعالى قسم الزمان قسمين وهما الليل والنهار، وجعل الليل للاستراحة والسكن والاطمئنان فيه بعد عناء النهار والاشتغال فيه، وجعل النهار مضيئا للمعاش والسعي والأسفار وقضاء المصالح، كقوله تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ 78/ 9- 11] وقوله سبحانه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء 17/ 12] . ففي هذا تنبيه على كمال قدرته تعالى، وعظيم نعمته المتوحد هو بهما، ليدلّهم على تفرده باستحقاق العبادة، وأن يوحدوه بها، بأنه أظلم الليل للسكن فيه من متاعب المعاش في النهار، وأضاء النهار لإبصار مطالب الأرزاق

فقه الحياة أو الأحكام:

والمكاسب. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. أي إن في تخليق الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما لدلائل واضحة دالة على أن الإله المعبود بحق هو خالق الليل والنهار، لقوم يسمعون هذه الحجج والأدلة، فيعتبرون بها ويتدبرون ما يسمعون، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدّرها ومسيّرها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن العزة لله جميعا، أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده، فهو ناصر رسوله ومعينه ومانعة من أذى الأعداء. ولا يعارض هذا قوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فإن كل عزة بالله، فهي كلها لله، قال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات 37/ 180] . 2- إن الله هو السميع لأقوال العباد وأصواتهم، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم. 3- إن الله مالك من في السموات ومن في الأرض، أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء، فليس للمحكوم والمملوك نفاذ أو تدخل في أي حكم، أو قدرة على التصرف في الأملاك، وهذا دليل سلب الألوهية عما سوى الله. 4- إن المشركين لا يتبعون في عبادتهم شركاء على الحقيقة، بل يظنون ظنا باطلا أنها تشفع أو تنفع، وما هم في ظنهم إلا يحدسون يخمنون ويكذبون فيما ينسبونه إلى الله. 5- إن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار، وإحكام تعاقبهما بنظام دقيق، لا عبادة من لا يقدر على شيء.

الإشراك بنسبة الولد لله تعالى [سورة يونس (10) الآيات 68 إلى 70] :

6- إن لله الحكمة البالغة في إيجاد الليل والنهار، فالله جعل الليل لمنافع عديدة منها السكون (أي الهدوء عن الاضطراب) مع الأزواج والأولاد، وزوال التعب والكلال الناجم عن الانهماك في الأعمال. وجعل النهار لفوائد جليلة منها إبصار موارد العيش، والاهتداء به إلى الحوائج، والأنس مع الناس. 7- إن في خلق السموات والأرض وفي خلق الليل والنهار لعلامات ودلالات قاطعات واضحات على استحقاق الخالق للعبادة والتفرد بها وحده، ولكن لا يتعظ بهذا إلا القوم الذين يسمعون سماع تدبر واعتبار واتعاظ، وذلك هو جوهر فائدة خلق السمع والبصر. الإشراك بنسبة الولد لله تعالى [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الإعراب: بِهذا متعلق ب سُلْطانٍ أو نعت له، أو ب عِنْدَكُمْ، كأنه قيل: إن عندكم في هذا سلطان. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف، أي افتراؤهم أو تقلبهم متاع في الدنيا، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم متاع أو تمتع في الدنيا.

البلاغة:

البلاغة: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ استفهام يراد به التوبيخ والتقريع على اختلافهم وجهلهم. المفردات اللغوية: قالُوا أي اليهود والنصارى والمشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي تبناه، والولد يستعمل مفردا وجمعا سُبْحانَهُ رد الله عليهم بقوله: سُبْحانَهُ أي تنزيها وتقديسا له عن التبني، فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ عن كل أحد، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه، وهو علة لتنزيهه، فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، وهو تقرير لغناه إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم من حجة وبرهان على هذا الذي تقولونه أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ توبيخ وتقريع على قولهم. يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة الولد وإضافة الشريك إليه لا يُفْلِحُونَ لا يسعدون، فلا ينجون من النار، ولا يفوزون بالجنة مَتاعٌ أي لهم متاع قليل فِي الدُّنْيا يتمتعون به طوال حياتهم ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ثُمَّ نُذِيقُهُمُ بعد الموت بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى أفعال المشركين باتخاذ الأوثان والأصنام شفعاء، وردّ عليهم ردا مقنعا، ذكر هنا نوعا آخر من أباطيلهم وهو نسبة الولد إلى الله تعالى، وهذا يشمل المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله، واليهود القائلين بأن عزيزا ابن الله، والنصارى القائلين بأن المسيح عيسى ابن الله. التفسير والبيان: موضوع الآيات: الإنكار على المشركين واليهود والنصارى الذي ادعوا أن الله تعالى ولدا.

والمعنى: وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله. سُبْحانَهُ تنزه وتقدس الله عن التبني، والمراد التعجب من كلامهم الباطل، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور له الولد، والله لا والد له ولا ولد. هُوَ الْغَنِيُّ علة لتنزيهه، أي أن الله هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه، ولا حاجة له للولد، وإن اتخاذ الولد ناشئ عن الحاجة. لَهُ ما فِي السَّماواتِ.. فكيف يكون له ولد مما خلق؟ وكل شيء مملوك له وعبد له، وهو خالق السموات والأرضين وكل ما فيهما، لا يشبهه أحد من خلقه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل الكل محتاج إليه، وكل ما في السموات وما في الأرض له ملكا وخلقا وعبيدا، وتصريفا، لا يشاركه في ذلك أحد، فكيف بالموجد الخالق واهب الحياة وحوائجها يتخذ ولدا موجودا مخلوقا موهوبا له، محتاجا إليه في كل شيء مادي كالرزق ومعنوي كالإعانة والنصرة والإعزاز؟!. إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ليس عندكم دليل على ادعائكم وما تقولونه من الكذب والبهتان. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أتقولون على الله قولا لا حقيقة له، وتنسبون إليه تعالى مالا يصح عقلا وواقعا نسبته إليه. وهذا استفهام يراد به التوبيخ والتقريع، أو الإنكار والوعيد الأكيد، والتهديد الشديد. قال البيضاوي: وفي هذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد لها من دليل قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ. ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا

فقه الحياة أو الأحكام:

لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 88- 95] . ثم توعد الله تعالى الكاذبين عليه المفترين، ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون، مما يدل على أن هذا المذهب افتراء على الله ونسبة لما لا يليق به إليه: قُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ ... أي قل لهم أيها الرسول: إن الذين يختلقون على الله الكذب بنسبة الشريك إليه، أو باتخاذ الولد، لا يفلحون ولا يفوزون أبدا، في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فيستدرجهم ويمتعهم قليلا، وأما في الآخرة فيضطرهم إلى عذاب غليظ شديد، كما قال تعالى: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أي لهم تمتع في الدنيا قليل لمدة قصيرة ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثم بعد الموت يرجعون إلى ربهم بالبعث يوم القيامة، وما فيه من أهوال الحشر والحساب ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي ثم يلقون الشقاء المؤبد ويعذبون في نار جهنم العذاب الموجع المؤلم الغليظ أي الشديد، بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور. وفي هذا دلالة واضحة على الخسارة المحققة للكافرين، فإن ما يتوهمون أنه نجاح في الدنيا بالحصول على المنافع المادية والمعنوية، لا قيمة له أصلا في مقابلة ما فاتهم في الآخرة من ثواب عظيم ونعيم مقيم في جنان الخلد، فإن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات أمرين: الأول- بطلان القول بنسبة الولد لله تعالى بالأدلة القاهرة، وبانعدام الدليل على صحة هذا القول. والثاني- ظهور أن هذا المذهب افتراء على الله ونسبة لما لا يليق به إليه.

أما أدلة بطلان القول بنسبة الولد لله تعالى فهي كما ذكرت الآية الأولى خمسة: 1- سبحانه: وهو تنزيه وتقديس الله تعالى عن الصاحبة والأولاد وعن الشركاء والأنداد، وتعجب شديد من هذه الكلمة الحمقاء لأنه تعالى ليس محتاجا إلى غيره، وإنما هو مصدر قضاء الحوائج. 2- هو الغني: الله هو الغني غنى مطلقا عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه. وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له أب وأم، ومن تقدس عن الوالدين تقدس عن الأولاد. وامتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه، والولد عبارة عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان. وامتنع أن يكون موصوفا بالشهوة واللذة، فلا صاحبة له ولا ولد. وامتنع من اتخاذ الولد، لعدم احتياجه إلى إعانته على المصالح الحاصلة والمتوقعة. وكل من كان غنيا كان قديما أزليا باقيا سرمديا، فلا يطرأ عليه الانقراض والانقضاء، والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي وينقرض. وكل من كان غنيا مطلقا كان واجب الوجود لذاته، فلو كان له ولد، لكان ولده مساويا له، أي يصبح واجب الوجود أيضا، وإذا اتصف بهذه الصفة امتنع تولده من غيره، وإذا لم يكن متولدا من غيره لم يكن ولدا. فثبت أن كونه تعالى غنيا من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له «1» . 3- له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فكيف يكون له ولد مما خلق، وكل شيء مملوك له، عبد له؟!.

_ (1) تفسير الرازي: 17/ 132 وما بعدها.

4- إن عندكم من سلطان بهذا، أي ليس عندكم من حجة ولا دليل على صحة قولكم، والدعوى العارية من الدليل باطلة بطلانا مطلقا. «1» 5- أتقولون على الله مالا تعلمون؟ من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة، والله تعالى لا يجانس شيئا، ولا يشابه شيئا. وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا لما سبق إنكار شديد ووعيد أكيد وتقريع وتوبيخ على من تجرأ بنسبة الولد إلى الله تعالى. وأما ظهور كون هذا المذهب افتراء وكذبا على الله، فواضح مترتب على بطلان الادعاء بثبوت الولد لله تعالى. وقد دل قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ على أن إثبات العقيدة لا سيما فيما يتعلق بإثبات الله الصانع يتطلب دليلا قطعيا يقينا، ولا يقبل فيه التقليد والوراثة ومحاكاة عقائد المسلمين المؤمنين بحق. ودل قوله لا يُفْلِحُونَ على إفلاس الكافر وخسارته المحققة يوم القيامة وعدم نجاته من العذاب. كذلك دل قوله تعالى: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ... الآية على أن التمتع في الدنيا قليل وحقير جدا بالنسبة لنعيم الآخرة، وأن مرجع جميع الخلائق إلى الله تعالى، وأن الكفار والمشركين معذبون عذابا شديدا بسبب كفرهم.

_ (1) تفسير الرازي: 17/ 132 وما بعدها.

قصة نوح عليه السلام مع قومه [سورة يونس (10) الآيات 71 إلى 73] :

قصة نوح عليه السّلام مع قومه [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) الإعراب: إِذْ قالَ بدل مما قبله. وَشُرَكاءَكُمْ منصوب لوجهين: أحدهما- لأنه مفعول معه، أي، فأجمعوا أمركم مع شركائكم. والثاني- بتقدير فعل، أي فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم. وقيل: التقدير: وادعوا شركاءكم. والنصب على تقدير الفعل مثل قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا وتقديره: وكحلن العيون لأن العيون لا تزجج. وقرئ: وشركاؤكم بالرفع عطفا على ضمير فَأَجْمِعُوا المرفوع، لوجود الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو أَمْرَكُمْ لأن الفصل يتنزل منزلة التوكيد، كقوله تعالى: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يونس 10/ 28] . ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً اسم يكن وخبرها. البلاغة: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ تقديم متعلّق تَوَكَّلْتُ لإفادة الحصر، أي توكلت على الله لا على غيره.

المفردات اللغوية:

لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً استعارة، عبر عن الالتباس والستر بالغمة، أي لا يكن أمركم مبهما، فيكون كالغمة. المفردات اللغوية: وَاتْلُ يا محمد عَلَيْهِمْ أي على كفار مكة نَبَأَ نُوحٍ خبره مع قومه كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم وشق عليكم مَقامِي قيامي أو إقامتي ومكثي فيكم. وَتَذْكِيرِي وعظي إياكم بآيات الله تَوَكَّلْتُ وثقت به فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه عزما لا تردد فيه أي اعزموا على أمر تفعلونه بي وَشُرَكاءَكُمْ أي مع شركائكم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ في قصدي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا خفيا، بل أظهروه وجاهروني به، والغمة: الستر واللبس ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أدّوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون بي، ونفذوه بي وَلا تُنْظِرُونِ تمهلوني ولا تؤخروني، فإني لست مباليا بكم. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن تذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي فما طلبت منكم ثوابا عليه يوجب تولّيكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله إِنْ أَجْرِيَ أي ما ثوابي على الدعوة والتذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي فهو يثيبني به، سواء آمنتم أو توليتم مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره، ولا أرجو غيره. فَكَذَّبُوهُ فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة، وبيّن أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم، فحقت عليهم كلمة العذاب فَنَجَّيْناهُ من الغرق وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ السفينة، وكانوا ثمانين. وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي وجعلنا من معه يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها، وهي جمع خليفة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من إهلاكهم، فكذلك نفعل بمن كذّب. وهذا تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذّب الرسول صلى الله عليه وسلّم وتسلية له. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة الدالة على الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة، وفنّد شبهات المشركين وكشف عنادهم لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتكذيبهم له، ذكر هنا بعض قصص الأنبياء، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم ليتأسى بهم، فيهون عليه ما يتعرض له من الشدائد والمكائد، وتذكيرا للمشركين بمن سبقهم في مثل فعلهم، وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسل عليهم السلام.

التفسير والبيان:

وذكر تعالى هنا ثلاث قصص: قصة نوح مع قومه، وقصة موسى وهارون مع فرعون، وقصة يونس مع قومه، وفي كل قصة عبرة وعظة. ولقد ذكرت أضواء من التاريخ على القصتين الأوليين، وسأذكر ما يناسب قصة يونس عليه السلام. التفسير والبيان: وأخبر أيها الرسول واقصص على كفار مكة الذين يخالفونك ويكذبونك خبر نوح مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله، ودمر هم بالغرق أجمعين عن آخرهم، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك. اذكر لهم حين قال نوح لقومه: يا قوم إن كان قد شق عليكم وعظم قيامي معكم للدعوة إلى عبادة ربكم، وتذكيري ووعظي إياكم بآيات الله أي بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وعبادته، فإني توكلت على الله وحده ووثقت به، فلا أبالي ولا أكف عن دعوتي ورسالتي، سواء عظم عليكم أو لا. فأجمعوا أمركم، أي اعزموا على ما تريدون من أمر تفعلونه بي، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله من صنم ووثن. ولا تجعلوا أمركم الذي تعتزمونه خفيا ملتبسا عليكم، بل أظهروه لي، وتبصروا فيه، وافصلوا حالكم معي. فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلى ذلك الأمر ونفّذوه بالفعل، ولا تؤخروني ساعة واحدة عن تنفيذ هذا القضاء، فمهما قدرتم فافعلوا، فإني لا أبالي بكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء. وهذا الموقف الواثق بالله وبنصره لنوح أبي البشر الثاني مشابه لموقف هود عليه السّلام إذ قال لقومه: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ الآية [هود 11/ 54- 56] .

وهكذا يتبين الفرق الجلي بين موقف المؤمن الراسخ الإيمان الذي لا يعرف التردد، المعتصم بالله وبوعده وثقته به، وبين موقف الكافر الضعيف المتردد الذي لا ملاذ له، إلا بالقوة الوهمية الخاثرة بل المنعدمة للشركاء والآلهة المزعومة. فإن توليتم أي أعرضتم عن تذكيري وكذبتم ولم تؤمنوا برسالتي ولم تطيعوني فيما أدعوكم إليه من الدين الحق، فإني لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا: أجرا أو جزاء، إن ثواب عملي وجزائي على الله ربي الذي أرسلني إليكم، وأمرني أن أكون من المسلمين، أي المنقادين الممتثلين لما أمرت به من الاستسلام لكل ما يصل إلى من أجل هذه الدعوة، والإسلام والخضوع لله عز وجل، والإسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم «1» ، وإن تنوعت شرائعهم التفصيلية كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] فأصولهم واحدة، ومصدرهم واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد:

_ (1) فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ، يا بَنِيَّ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة 2/ 131- 132] . وقال يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف 12/ 101] . وقال موسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس 10/ 84] وقال السحرة: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف 7/ 126] وقالت بلقيس: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [النمل 27/ 44] . وقال تعالى واصفا رسالة الأنبياء: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة 5/ 44] وقال تعالى عن الحوار بين: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، قالُوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [المائدة 5/ 111] وقال الرسول وسيد البشر صلى الله عليه وسلّم امتثالا لقول الله: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام 6/ 163] أي من هذه الأمة.

فقه الحياة أو الأحكام:

«الأنبياء أولاد علّات» أي أننا أولاد من أمهات شتى والأب واحد، وديننا وإيماننا واحد: وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا. فكذبوه، أي فأصروا على تكذيبه، فنجيناه هو ومن آمن معه في الفلك أي السفينة التي صنعها بأمرنا. وجعلناهم خلائف، أي وجعلنا الناجين مع نوح في السفينة خلائف أولئك الهالكين، في عمارة الأرض وسكناها من بعدهم، وأغرقنا بالطوفان الذين كذبوا نوحا، فانظر أيها الرسول كيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا المكذبين المنذرين، الذين أنذرهم رسولهم بالعذاب قبل وقوعه، فلم يرتدعوا، وأصروا على تكذيبه، وهذه عاقبة كل المصرّين على تكذيب الأنبياء، وعاقبة المؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: 1- العبرة من قصة نوح: ذكر الله تعالى في هذه السورة قصة نوح عليه السلام لفائدتين: الأولى- أن تصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وهجر الجحود بالتوحيد والإيمان بالنبوة لأن الله عجل هلاك قوم نوح بالغرق لما أصروا على الكفر والجحود. والثانية- أن الإنذار بالعذاب لا بد أن يتحقق، فقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول صلى الله عليه وسلّم لهم، ويقولون له: كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فذكر الله تعالى قصة نوح ليبين لهم أن ما أنذر به نوح قومه وقع في نهاية الأمر، كما أخبر، فكذلك يقع كل عذاب أنذركم به. 2- النظر في الموقف والمقارنة بينها: موقف نوح وموقف قومه، فموقف نوح عليه السّلام كان موقف المؤمن الجريء الجسور الذي لا يخشى الصعاب، ولا يعرف التردد، ولا يهاب الموت في سبيل دعوته، ويتحدى الجمع الغفير فيما

يريدون أن يعملوه معه. وموقف قومه كان موقف الهيّاب الضعيف المتخاذل المتردد الذي لم يستطع اتخاذ قرار حاسم في شأن نوح، الذي كانت هيبة الإيمان تحميه وتعصمه من مكائدهم وشرورهم. 3- كلمات نوح مع أولئك الكفار: كانت كلمات نوح مكونة من جملة شرط وجزاء. أما الشرط ففيه أمران: الأول- إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي أي ثقل وشق بسبب مكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وبسبب ما ألفه الكفار من مذاهب فاسدة وعقائد ومناهج باطلة، والغالب أن من ألف طريقة في الدين يثقل عليه تغييرها. والأمر الثاني- تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ لأن من شغف بلذات الدنيا كان شديد النفرة من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات. وأما الجزاء على الشرط ففيه أمور خمسة: الأول- فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي إن شدة بغضكم لي التي تحملكم على إيذائي تجعلني لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله، وهذا منه توكل على الله في دفع شر هذه الساعة، إن كان متوكلا أبدا على الله تعالى. الثاني- فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ أي اعزموا على الأمر الذي تريدون إيقاعه بي، وابذلوا جهودكم في الكيد لي والمكر بي، مع شركائكم الأوثان التي تسمونها آلهة، وفي هذا تحد شديد لمخططاتهم ومكائدهم. الثالث- ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم، وفي هذا استعداد لمواجهة قراراتهم بصراحة وجرأة، وصرامة وصبر. الرابع- ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي امضوا إلى بمكروهكم وما توعدونني به، وهذا

دليل الإباء وعدم المبالاة بما ينفذون من قرار. الخامس- وَلا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه، وهذا غاية الشجاعة والبأس، فإنه لا يحتاج إلى إنذار وإمهال. وهو أيضا من دلائل النبوات، فإنه أعلمهم أنهم لا يصلون إليه بسوء لأن الله عاصم أنبياءه. 4- النبي في دعوته لا يطلب أجرا من أحد على نصحه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ قال المفسرون: هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالا على دعوتهم إلى دين الله تعالى. ومتى كان الإنسان خاليا من الطمع كان قوله أقوى تأثيرا في القلب. وهكذا كانت سيرة جميع الأنبياء. 5- الثبات على المبدأ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيه قولان: الأول- أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام. والثاني- أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلى لأجل هذه الدعوة. قال الرازي: وهذا الوجه أليق بهذا الموضع، لانسجامه مع قوله السابق: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ. 6- عاقبة القصة بين نوح وقومه: ترتب على هذا النقاش الحاد بين نوح وقومه الكفار نتائج حاسمة ومهمة جدا. أما بالنسبة لنوح وأصحابه فأمران: أنه تعالى نجاهم من الكفار، وأنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق. وأما بالنسبة للكفار: فهو أنه تعالى أغرقهم بالطوفان وأهلكهم. وهذه القصة زحر للمخالفين من حيث يخافون آن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح،

عادة الأمم في تكذيب الأنبياء [سورة يونس (10) آية 74] :

ودعوة المؤمنين للثبات على الإيمان. وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا عرضت على سبيل الحكاية تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ. وتفاصيل هذه القصة ذكرت في سور أخرى. عادة الأمم في تكذيب الأنبياء [سورة يونس (10) : آية 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) الإعراب: كَذَّبُوا بِهِ الضمير يعود على قوم نوح، أي فما كان قوم الأنبياء الذين أرسلوا بعد نوح ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، بل كذبوا كتكذيب قوم نوح. المفردات اللغوية: مِنْ بَعْدِهِ أي بعد نوح. رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كإبراهيم وهود وصالح فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات المثبتة لدعواهم مِنْ قَبْلُ أي قبل بعث الرسل إليهم، أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل. ويجوز أن يكون ذلك حكاية لما حدث في عهد نوح عليه السّلام. كَذلِكَ نَطْبَعُ نختم والمراد أن القلوب تصبح غير قابلة لغير ما رسخ فيها عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي كما طبعنا على قلوب أولئك نطبع على قلوب المعتدين، أي المتجاوزين حدود الحق والعدل فلا تقبل الإيمان، بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف. قال البيضاوي: وهذا دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى قصة نوح مع قومه والعبرة منها، ذكر عبرة أخرى من تاريخ الأقوام مع أنبيائهم، فإنهم لما كذبوا عوقبوا، وكما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، كذلك يطبع الله على قلوب أمثالهم. فما على أهل مكة وغيرهم إلا الاتعاظ بذلك، وتجنب أسباب تلك العاقبة، من الكفر والتكذيب، وإلا أدى بهم الكفر إلى الحيلولة عن الإيمان وما يتبعه من السعادة. التفسير والبيان: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم مثل هود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب عليهم السلام، بالبينات، أي بالمعجزات القاهرة والأدلة والبراهين العقلية والحسية على صدق ما جاءوهم به. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي فما كانت تلك الأقوام لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، وكما كذب به المتقدمون عنهم من قبل ممن كانوا أمثالهم في سبب الكفر. والمراد بقوله مِنْ قَبْلُ ما كان إيمانهم إلا ممتنعا كالمحال لتصميمهم على الكفر قبل بعثة الرسل، وتكذيبهم كتكذيب قوم نوح، وكأنه لم يبعث إليهم أحد. وعبارة المفسرين في تفسير القبلية متقاربة، فقال بعضهم: قبل بعثة الرسل، وقال آخرون: بما كذب به قوم نوح من قبل. كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي كما نختم على قلوب هؤلاء فلا يؤمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا نختم على قلوب من أشبههم في العناد ممن بعدهم من المعتدين كقومك، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

فقه الحياة أو الأحكام:

قال الزمخشري: والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن الخذلان يتبعه، ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به. وبعبارة أخرى: المراد بالطبع عدم قبول القلوب شيئا من نور الهداية والمعرفة لأنهم تجاوزوا كل حد في الكفر والتكذيب، فلا يؤمنوا. وهذا إنذار شديد لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء، فإنه إذا كان قد أصاب المكذبين السابقين العذاب والنكال، فما ظن هؤلاء وقد فعلوا مثلهم وأكبر مما فعله من تقدمهم؟!. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يأتي: 1- تكذيب الأنبياء عادة شائعة بين الناس، لتأثرهم بما كانوا عليه قبل بعثة الرسل من تصميم على الكفر ورسوخ فيه. 2- الطبع أو الختم على القلوب معناه التعبير عن العناد واللجاج والخذلان. 3- لقد أهلك الله الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن منهم. 4- احتج أهل السنة بالآية على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان، بسبب عناده وتصميمه على الكفر وتكذيبه الرسل. 5- في الآية دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد، أي أن الله يخلق للإنسان القدرة، والعبد يستخدمها فيما يختاره من خير أو شر.

قصة موسى عليه السلام مع فرعون:

قصة موسى عليه السّلام مع فرعون - 1- الحوار بين موسى وفرعون [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) المفردات اللغوية: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد هؤلاء الرّسل. وَمَلَائِهِ قومه أو أشراف القوم. بِآياتِنا الآيات التّسع. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها. لَسِحْرٌ مُبِينٌ بيّن ظاهر. أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه لسّحر، فحذف المحكي بالقول لدلالة ما قبله عليه. أَسِحْرٌ هذا هو استئناف بإنكار ما قالوه. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ من تمام كلام موسى، للدّلالة على أنه ليس بسحر، فإنه لو كان سحرا لاضمحلّ، ولم يبطل سحر السّحرة، فهذا دليل من موسى عليه السّلام على أنه ليس بسحر، وإنما السّحر تخييل وتمويه. لِتَلْفِتَنا لتردّنا وتصرفنا عنه، واللفت والفتل مترادفان. وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ الملك فيها، سمي بها لاتّصاف الملوك بالكبر والتّكبر على الناس باستتباعهم. وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فيما جئتنا به. المناسبة: هذه هي القصّة الثانية المذكورة في سورة يونس، وهي قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، وقد تكرر ذكرها في القرآن للدّلالة على أنّ قوة الحقّ وصوت

التفسير والبيان:

النبّوة يعلوان الملك والحكم والسّلطان، ويقوضان العروش، ويزيلان دعائم الباطل. وهذا هو الفصل الأول من القصة وهو الحوار بين موسى وفرعون. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الأول من قصة موسى عليه السّلام. والمعنى: ثم بعثنا من بعد تلك الرّسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه، أما بقية الناس فهم تبع لهم في الكفر والإيمان، ولذا لم يذكروا. بعثناهما بآياتنا المذكورة في سورة الأعراف «1» وغيرها، فاستكبروا عن اتّباع الحقّ والانقياد له، وعن الإيمان بموسى وهارون، وكانوا قوما مجرمين أي معتادي الاجرام كفارا ذوي آثام عظام، راسخين في الجريمة والظّلم والإفساد في الأرض. وأعظم الكبر: أن يتهاون الناس برسالة ربّهم بعد قيام الأدلّة على صحّتها. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ.. أي فلما جاءهم موسى بالأدلّة الدّالة على الربوبية والألوهية الحقّة، قالوا عنادا وعتوا وحبّا للشّهوات: إن هذا لسحر واضح، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بإنّ، واسم الإشارة، واللام في الخبر، والجملة الاسمية. وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] . قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ.. قال لهم موسى منكرا عليهم وموبّخا لهم: أتقولون للحقّ الواضح البعيد كلّ البعد عن السّحر الباطل: إنه سحر،

_ (1) وهي السّنون (أعوام الجدب والقحط) ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثّمرات، والطّوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ.. [الأعراف 7/ 133] . [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

عجبا لكم أسحر هذا؟! والحال أنكم تعرفون أن السحر تخييل وتمويه، ولو كان هذا سحرا لاضمحلّ، ولم يبطل سحر السّحرة، ولا يفوز السّاحرون في ساحات الحقائق، وقضايا الدّين، وأصول الحياة، وإقامة الممالك لأن السّحر شعوذة وخفّة يد لا تغير من الحقيقة شيئا. وقولهم: هذا سحر محذوف، والاستفهام بقوله: أتقولون؟ إنكار، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله، فقال: أَسِحْرٌ هذا؟! وحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه. فأجابوه إجابة الضعيف المفلس الحجة الذي لا يجد متمسكا له إلا التقليد للآباء والأجداد ووراثة العادات والطقوس الدّينية، فقالوا: قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا.. أي أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين آبائنا وأجدادنا، ولتكون لكما أي لك ولهارون أخيك الكبرياء في الأرض، أي الرّياسة الدّينية والدّنيوية أو العظمة والملك والسّلطان، وما نحن لكما بمصدقين لكما فيما تدعيانه من دين جديد يغاير دين الأسلاف والآباء، وهذا سبب تكذيب الرّسل دائما. وقد خاطبوا موسى أولا لأنه كان هو الدّاعي لهم للإيمان بما جاء به، والإقرار بتوحيد الإله، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان. ثم أشركوا معه أخاه في الإفادة من ثمرات الدّعوة وهي النّفوذ والسّلطة والعظمة. فقه الحياة أو الأحكام: لم يختلف شأن فرعون وقومه عمن قبله من الأمم، في تكذيب الأنبياء، وعناد الدّعاة إلى الإيمان بالله، والتّخلص من عبادة الأصنام. وتمثل هذه القصة شدّة العناد بسبب عظمة السلطان والملك والجاه، أمام شخصين ضعيفين موسى وهارون، وكان موسى قد تربى في بيت فرعون. ولكن الضعف الشّخصي يزول أمام قوة الاعتزاز بالنّبوة والإيمان، فبالرغم

والخلاصة:

من هذا الضعف بادر موسى وهارون إلى دعوة فرعون وقومه إلى الإيمان بالله تعالى، والتّرفع عن التّأله وتعظيم ما دون الله. وأيد الله موسى بآيات تسع سلّطها على أهل مصر، كالقحط المتوالي، ونقص الأنفس والأموال والثّمرات بسبب الأمراض والجوع، والطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم، ومع ذلك لم يؤمن فرعون وقومه، ووصفوا الآيات والمعجزات بالسّحر. فعجب موسى منهم ووبّخهم منكرا عليهم وصف المعجزة بالسّحر، وناقشهم ببيان الفرق الواضح بين المعجزة والسّحر، فلم يجدوا جوابا مقنعا إلا الارتماء في أحضان التّقليد واتّباع دين الآباء والأجداد، والتّرفع عن الإيمان، واتّهموا موسى وأخاه بأنهما يستهدفان من وراء دعوتهما الوصول إلى السلطة والملك في أرض مصر، ولم يدروا بأن الإيمان بالله وبالأنبياء أسمى وأجل وأقدس من النزعات الشخصية الشهوانية، وحبّ السّلطة والتّسلط، فهذه مظاهر فانية، وأثر الإيمان خالد باق. والخلاصة: إن قوم فرعون عللوا عدم قبول دعوة موسى بأمرين: الأول- التّمسك بالتّقليد: وهو معنى قوله تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فإنهم تمسكوا بالتّقليد، ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار. والثاني- الاتّهام بالحرص على طلب الدّنيا والوصول إلى الرّياسة: وهو معنى قوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي يكون لكما الملك والعزّ في أرض مصر، والخطاب هنا لموسى وهارون، ولما ذكروا هذين السّببين صرحوا بالحكم وقالوا: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ.

- 2 - إحضار فرعون السحرة لمقاومة دعوة موسى [سورة يونس (10) الآيات 79 إلى 82] :

- 2- إحضار فرعون السّحرة لمقاومة دعوة موسى [سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82] وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) الإعراب: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ فَلَمَّا: إما اسم موصول بمعنى الذي، وإما استفهامية، فإذا كانت اسما موصولا كانت مع الصّلة في موضع رفع بالابتداء، والسِّحْرُ: خبره. وإذا كانت استفهاما كانت أيضا مبتدأ، وجِئْتُمْ بِهِ الخبر، والسِّحْرُ خبر مبتدأ مقدر، تقديره: هو السحر. ويجوز أن تكون فَلَمَّا في موضع نصب على تقدير فعل بعد فَلَمَّا وتقديره: أي شيء أتيتم أو جئتم به، والسِّحْرُ خبر مبتدأ مقدر أي هو السحر. ولا يجوز أن تكون فَلَمَّا في موضع نصب إذا كانت بمعنى الذي لأن ما بعدها صلتها، والصّلة لا تعمل في الاسم الموصول، ولا تكون تفسيرا للعامل الذي تعمل فيه. البلاغة: وَيُحِقُّ الْحَقَّ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: ساحِرٍ عَلِيمٍ حاذق في السحر، فائق فيه. فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم. ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السّحر، لا ما سمّاه فرعون وقومه سحرا وهو المعجزات. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه أو سيظهر بطلانه. إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يقويه. وفيه دليل على أن السّحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويظهره. بِكَلِماتِهِ بأوامره وقضاياه. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

المناسبة:

المناسبة: هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى مع فرعون، فإن فرعون أراد الاستعانة بالسّحرة لمعارضة معجزة موسى ومقاومة دعوته، فأمر بإحضار حذاق السّحرة ليظهر للناس أن ما أتى به موسى نوع من السّحر، فيصد الناس عن اتّباعه، باعتبار أنه ساحر. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى عليه السّلام حيث استعان فرعون عليه بالسحرة. ويلاحظ أنه ذكرت قصة السّحرة مع موسى في سورة الأعراف، كما تقدّم، وفي هذه السّورة، وفي سورة طه وفي الشّعراء لأن فرعون أراد التمويه على الناس وصدّهم عن اتّباع موسى ومعارضة ما جاء به عليه السّلام من الحقّ المبين، من طريق زخارف السّحرة والمشعوذين، فانعكس عليه الأمر، وصدم مرامه، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف 7/ 120- 122] . ومعنى الآيات هنا: قال فرعون لحاشيته أو ملئه لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنها سحر فائق حاذق في علم السحر، لظنّهم ألا فرق بين المعجزة الإلهية والسّحر. فأتوا بهم، فلما جاء السّحرة وتجمّعوا، قال لهم موسى بعد أن خيّروه بين أن يلقي ما عنده أولا، أو يلقوا هم ما عندهم، كما ذكر في سورة الأعراف: بل ألقوا ما أنتم ملقون من فنون السّحر، ليظهر الحقّ ويبطل الباطل. فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا، ويستنفدوا ما لديهم من طاقات وخبرات، ثم يأتي بالحق بعده، فيدمغ باطلهم، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا:

فقه الحياة أو الأحكام:

لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه 20/ 67- 69] . فَلَمَّا أَلْقَوْا.. أي فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصي قال موسى واثقا غير مبال بهم: ما أتيتم به هو السّحر بعينه، لا ما سمّاه فرعون سحرا مما جئت به من الآيات والمعجزات من عند الله. وهذا السّحر الذي أظهر تموه إن الله سيمحقه وسيظهر بطلانه قطعا أمام الناس، بما يفوقه من المعجزة التي هي آية خارقة للعادة تفوق السّحر وأشكاله المختلفة. ثم علل ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يثبّته ولا يقويه، ولا يجعله صالحا للبقاء، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي ويريد الله أن يؤيّد الحقّ ويظهره، ويثبته ويقويه، وينصره على الباطل بأوامره ووعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي ولو كره المجرمون الظالمون كفرعون وملئه ذلك، أي نصر الحقّ على الباطل. وفي آية أخرى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف 7/ 118] ، وقوله تعالى: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه 20/ 69] . فقه الحياة أو الأحكام: هذه مبارزة بين الحقّ والباطل، بين المعجزة والسّحر، فالمعجزة آية إلهية خارقة للعادة يؤيّد الله بها صدق الأنبياء لإقناع الناس وتصديق دعوتهم. وأمّا السّحر فهو إفساد وتمويه وتزييف لا حقيقة له، فلم يستطع الصمود أمام الشيء الحقيقي الثابت الذي لا تمويه فيه. وهذا المعنى هو ما تضمنته آية: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يضرّ أحدا كيد ساحر. لذا قال العلماء: لا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.

- 3 - إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى [سورة يونس (10) الآيات 83 إلى 87] :

وكان في خطة موسى عليه السّلام بأن يبدأ السّحرة أولا بالإلقاء براعة وثقة بما لديه من المعجزة وعدم اكتراث بالسّحرة، فإنّ كل ما فعلوه من لفت أنظار الناس وإخافتهم حينما ألقوا حبالهم وعصيهم، محق وأبطل بإلقاء العصا التي انقلبت ثعبانا عظيما التهم جميع الحبال والعصي، وصدق فيما أعلنه قبل المبارزة: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ. وحينئذ أدرك السّحرة خسارتهم، وعرفوا أنّ فعل موسى ليس من قبيل السّحر، فهم أعرف الناس بفنونه، فلم يعاندوا، وشرح الله صدورهم للإيمان، واستيقظ فيهم عنصر العقل والتّفكير، ولم يرهبهم تهديد فرعون، فأعلنوا إيمانهم بربّ موسى وهارون، فأسقط في أيدي فرعون وملئه، وخابوا وخسروا، واستوجبوا نار جهنم بإصرارهم على الكفر. والخلاصة المستنبطة من هذه الآية: أن السّحر تمويه وزيف باطل، والله تعالى يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون، أي الفجرة الكافرون. - 3- إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 87] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

الإعراب:

الإعراب: مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ جمع الضّمير في ملئهم لخمسة أوجه: الأول- جمع الضمير على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، فيقول الواحد منهم: نحن فعلنا، ومنه قوله: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، وكان فرعون جبارا فأخبر عنه بفعل الجميع. الثاني- جمع الضمير على أن المراد بفرعون آله، كما يقال: ربيعة ومضر، ويكون في الكلام حذف مضاف، تقديره: على خوف من آل فرعون. الثالث- جمع لأنه ذو أصحاب يأتمرون به. الرابع- أن جمع الضمير يعود على الذّرية التي تقدم ذكرها. الخامس- أنه يعود على القوم الذين تقدم ذكرهم. أَنْ يَفْتِنَهُمْ بدل مجرور من فِرْعَوْنَ بدل اشتمال. أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً اللام مقحمة، وجعل تبوأا متعديا مثل بوّأ، يقال: بوّأته وتبوّأته، كقولهم: علقته وتعلقته. المفردات اللغوية: ذُرِّيَّةٌ طائفة من شبّانهم، والذّرية في أصل اللغة: صغار الأولاد، وتستعمل عرفا في الصّغار والكبار. عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي مع خوف منهم، والضّمير لفرعون أَنْ يَفْتِنَهُمْ الفتنة في اللغة: الاختبار والابتلاء بالشّدائد، والمراد هنا التّعذيب، أي أن يعذّبهم فرعون ويصرفهم بالتّعذيب عن دينهم. وإفراده بالضّمير للدّلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه. إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ متكبّر قوي فتّاك. فِي الْأَرْضِ أرض مصر. وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحدّ بادّعاء الرّبوبية واسترقاق أسباط الأنبياء. فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فثقوا به واعتمدوا عليه. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مستسلمين لقضاء الله، مخلصين له، مذعنين لأمره. فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً موضع فتنة. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تظهرهم علينا، فيظنّوا أنهم على الحقّ فيفتتنوا بنا، أولا تسلّطهم علينا فيفتنونا. وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي من كيدهم

المناسبة:

وشؤم مشاهدتهم. وفي تقديم التّوكل على الدّعاء تنبيه على أن الدّاعي ينبغي أن يتوكّل أولا لتجاب دعوته. أَنْ تَبَوَّءا اتّخذا مباءة ومسكنا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما. بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً مصلّى أو مساجد تصلّون فيها لتأمنوا من الخوف، وكان فرعون منعهم من الصّلاة. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أتّموها فيها حتى لا يؤذيهم الكفرة ويفتنوهم عن دينهم. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنّصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة. وإنما ثنّى ضمير تَبَوَّءا أولا لأن التبوء للقوم واتّخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور، ثم جمع في قوله: وَاجْعَلُوا لأن جعل البيوت مساجد والصّلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم أفرد بقوله: وَبَشِّرِ لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشّريعة. المناسبة: أبان الله تعالى أنه بالرّغم من مشاهدة المعجزات الباهرة على يد موسى عليه السّلام، فإنه لم يؤمن به من بني إسرائيل إلا طائفة من شبّان قومه، توطئة لإخراجهم من أرض مصر. وفي ذلك تسلية للنّبي محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر، فله بسائر الأنبياء أسوة. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الثالث من قصة موسى عليه السّلام. يخبر الله تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السّلام في أول أمره، مع ما جاء به من الآيات البيّنات والحجج القاطعات، إلا قليل من قومه بني إسرائيل، وهم طائفة من الشباب، على وجل وخوف من فرعون وملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر لأن فرعون كان جبارا عنيدا، مسرفا في التّمرد والعتوّ متجاوزا الحدّ في الظلم والفساد، شديد البطش والفتك، حتى إنه ادّعى الرّبوبية واسترقّ أسباط الأنبياء، وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديد. فالضمير في

قَوْمِهِ عائد إلى بني إسرائيل قوم موسى، لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورين. وهذا قول مجاهد. وقيل: الضمير في قَوْمِهِ لفرعون، والذّرّية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. وهذا قول ابن عباس. وضمير مَلَائِهِمْ يعود إلى فرعون بمعنى آل فرعون، أو على ما هو المعتاد في ضمير العظماء. والذّرّية: أولاد الذين أرسل إليهم موسى. وَقالَ مُوسى: يا قَوْمِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ.. أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الاضطهاد والتّعذيب: إن كنتم آمنتم أي صدّقتم بالله وبآياته حقّ الإيمان، فعليه توكّلوا واعتمدوا، وبه ثقوا، واطمئنوا لوعده، إن كنتم مسلمين أي إن كنتم مستسلمين لقضاء الله، مذعنين مخلصين له إذ لا يكون الإيمان كاملا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام، فالمعلّق بالإيمان وجوب التّوكل، فإنه المقتضي له، ثم شرط في التّوكل الإسلام: وهو أن يسلموا نفوسهم لله بأن يجعلوها له سالمة خالصة، لا حظّ للشيطان فيها، وذلك بأن يعملوا بالأحكام لأن التوكل الصحيح لا يكون مع خلطه بغيره. والخلاصة: أن الإيمان: عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد، وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه. والإسلام: هو الانقياد للتّكاليف الصادرة عن الله تعالى، وإظهار الخضوع وترك التّمرد. فقالوا على الفور ممتثلين أمره لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا وبه وحده استعنا على أعدائنا، ثم دعوا ربّهم قائلين: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بأن تنصرهم علينا وتسلطهم علينا فيفتتن الناس،

ويقولون: لو كان هؤلاء على حقّ لما هزموا أمام فرعون وظلمه، أو موضع فتنة لهم أي عذاب بأن يفتنونا عن ديننا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي خلّصنا برحمتك وإحسانك وعفوك من تسلّط الكافرين بك، الظالمين الطّغاة، الذين كفروا الحقّ وستروه، ونحن قد آمنّا بك وتوكّلنا عليك. وقد دعوا بهذا الدّعاء لأن التّوكل على الله هو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصّبر على الشّدائد، والدّعاء لا يستجاب إلا مع الطاعة واتّخاذ الأسباب، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] ، وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتّوكل كقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 11/ 123] ، وقوله تعالى: قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك 67/ 29] ، وقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل 73/ 9] . وأمر الله تعالى المؤمنين أن يكرروا في صلواتهم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] . ثم ذكر الله تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم منهم، فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ.. أي أمرنا موسى وأخاه هارون عليهما السّلام أن يتبوأ أي يتّخذا لقومهما بمصر بيوتا تكون مساكن للاعتصام فيها، والأصح أن تكون مساجد وليست منازل مسكونة في رأي أكثر المفسّرين. وأمرهما مع قومهما أن يجعلوا البيوت مساجد متّجهة نحو القبلة، بأن يصلّوا في بيوتهم لأنهم كانوا خائفين. وقال قتادة والضّحّاك وسعيد بن جبير: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي يقابل بعضها بعضا. قال القرطبي: والقول الأول أصح أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة باتّجاه بيت المقدس، وهو قبلة اليهود إلى اليوم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأن يقيموا الصّلاة في تلك البيوت أي يتموها. وقد أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم. وبشّر يا موسى المؤمنين بالحفظ والنّصر على عدوّهم في الدّنيا، والجنة في العقبى. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- بالرّغم من المعجزات العظيمة لموسى عليه السّلام وانتصاره على السّحرة بتلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السّحر، فإنه لم يؤمن به من قومه إلا طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل، فإنه لطول الزّمان هلك الآباء وبقي الأبناء، فآمنوا. وقيل: كانت الطائفة من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأته، وماشطة ابنته، وامرأة خازنه. وكان إيمانهم على خوف من فرعون لأنه كان مسلّطا عليهم، عاتيا متكبّرا، مجاوزا الحدّ في الكفر لأنه كان عبدا فادّعى الرّبوبية. 2- أراد موسى عليه السّلام الاستيثاق من إيمان تلك الطائفة، فقال لهم: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ أي صدّقتم بالله وبرسالتي، فتوكّلوا على الله وحده، أي اعتمدوا عليه، إن كنتم مسلمين، كرر الشّرط تأكيدا، أو أن الإسلام هو العمل، وبيّن موسى أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله. فأجابوا بأنّا توكّلنا على الله، أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره. ودعوا الله بألا ينصر الظالمين عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم في الدّين، أو

لا يمتحنهم بأن يعذّبوا على أيديهم، وأن ينجيهم ويخلّصهم من الكافرين، أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة. 3- اتّخاذ البيوت في فترة ما مساجد، حتى لا يؤذي فرعون المصلّين لأن بني إسرائيل كانوا لا يصلّون إلا في مساجدهم وكنائسهم، فخرّبها فرعون ومنعهم من الصّلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون: أن اتّخذا وتخيّرا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد متّجهة نحو القبلة، ولم يرد في رأي أكثر المفسّرين المنازل المسكونة، وإنما أراد الاتّجاه إلى بيت المقدس. وهذا يدلّ على أن القبلة في الصّلاة كانت شرعا لموسى عليه السّلام. واستنبط العلماء من جواز أداء الصّلاة في البيوت: أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة، والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض المانع من التّنقل، أو خوف زيادته، أو خوف جور السّلطان في مال أو بدن، دون القضاء عليه بحقّ. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرّضه عذر أيضا، وقد فعل ذلك ابن عمر. وأثير بهذه المناسبة خلاف في أداء صلاة التراويح (قيام رمضان) هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك وأبو يوسف وبعض الشّافعية إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه، لما أخرجه البخاري: «فعليكم بالصّلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» . وقال أكثر الأئمة: إن حضورها في الجماعة أفضل لأن النّبي صلى الله عليه وسلّم قد صلّاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدّوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم، فلذلك قال: «فعليكم بالصّلاة في بيوتكم» . ثم إن الصحابة كانوا يصلّونها في المسجد فرادى متفرّقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد، فاستقرّ الأمر على ذلك، وثبت سنّة.

- 4 - دعاء موسى على فرعون وملئه [سورة يونس (10) الآيات 88 إلى 89] :

4- إن أداء الصّلاة في البيوت التي أمر الله بني إسرائيل فيها خوفا من أذى الأعداء أمر مشروع لا شكّ فيه. وكذلك تكتل الفئات القليلة في مواجهة طغيان الظالمين كفرعون أمر مطلوب سياسة، إذا جرينا على القول بأن البيوت هي مساكن للاعتصام فيها، لأن ذلك أدى إلى نجاة بني إسرائيل من ظلم فرعون. 5- دلّ إيمان الطائفة القليلة برسالة موسى عليه السّلام وتقديمهم في دعائهم عدم الفتنة على النّجاة على أن اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم، فإنهم قالوا أولا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، ثم قالوا: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فهذا الترتيب يدلّ على تفضيلهم أمر الدّين على أمر الدّنيا. - 4- دعاء موسى على فرعون وملئه [سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) الإعراب: لِيُضِلُّوا اللام للعاقبة وهي متعلقة ب آتَيْتَ، ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النّعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضّلال. فَلا يُؤْمِنُوا إما منصوب أو مجزوم، الجزم: على أنه دعاء عليهم. والنّصب: إما لأنه معطوف على لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، أو على جواب الدّعاء أو جواب الأمر بالفاء بتقدير أن.

البلاغة:

وَلا تَتَّبِعانِّ بالتّشديد، أي أنه نهى بعد أمر. ومن قرأ بتخفيف النون، كان في موضع نصب على الحال، أي استقيما غير متبعين، فتكون لا نافية، لا ناهية. البلاغة: رَبَّنَا اطْمِسْ أمر أريد به الدّعاء بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره، كقولك: لعن الله إبليس، وتكرار رَبَّنا لِيُضِلُّوا للتّأكيد والتّنبيه على أن المقصود عرض ضلالاتهم وكفرانهم، تقدمة لقوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة لتغليظ العقاب ومضاعفته. فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدّعاء، أو دعاء بلفظ النّهي، أو عطف على: لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض. المفردات اللغوية: زِينَةً ما يتزيّن به من الملابس والمراكب ونحوهما، وأصل الزينة في اللغة: ما يتزين به من الحلي واللباس والأثاث والأموال والصحة ونحوها. لِيُضِلُّوا في عاقبته، واللام لام العاقبة أي الصيرورة. عَنْ سَبِيلِكَ دينك. اطْمِسْ أي أهلكها وأزلها، والطّمس: المحق وإزالة الأثر. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي وأقسها واطبع عليها واستوثق حتى لا يدخلها الإيمان. فقوله تعالى: رَبَّنا لِيُضِلُّوا، وقوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ دعاء بلفظ الأمر. وقوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدّعاء أو دعاء بلفظ النّهي، أو عطف على لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض. الْأَلِيمَ المؤلم. قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أي موسى وهارون، روي أن موسى كان يدعو، وهارون يؤمّن. فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا، فإن ما طلبتما كائن، ولكن في وقته، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة. سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الجهلة في الاستعجال، أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى. المناسبة: لما بالغ موسى في إظهار المعجزات القاهرة الدّالة على نبوّته، ورأى القوم: فرعون وملأه مصرّين على الجحود والعناد والإنكار، دعا عليهم بعد أن ذكر سبب

التفسير والبيان:

إقدامهم على تلك الجرائم وهو حبّهم الدّنيا وبسطة النّعيم التي أبطرتهم فتركوا الدّين، لهذا قال موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا. قال ابن كثير: هذه الدّعوة كانت من موسى عليه السّلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبيّن له أنهم لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح عليه السّلام، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 26- 27] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السّلام فيهم هذه الدّعوة التي أمّن عليها أخوه هارون، فقال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما. قال أبو العالية: دعا موسى وأمّن هارون فسمّي هارون وقد أمّن على الدّعاء داعيا. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الرابع من قصة موسى مع فرعون، بعد وجود فاصل استطرادي للإخبار بإيمان طائفة بموسى عليه السّلام، فبعد أن أبى فرعون وملؤه قبول دعوة الحقّ من موسى عليه السّلام، واستمرّوا على ضلالهم وكفرهم معاندين عتاة متكبّرين، وبعد أن أعدّ موسى قومه بني إسرائيل للخروج من مصر، وغرس في قلوبهم الإيمان وإيثار العزّة والكرامة، بعد ذلك دعا ربّه مبيّنا سبب الدّعاء فقال: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً.. أي أعطيتهم من الدّنيا والنّعمة ما أبطرهم، وهو الزّينة الشّاملة من حلي ولباس وأثاث ورياش وأموال كثيرة ومتاع الدّنيا ونحوها من الزّروع والأنعام، وأدّى النعيم بهم أن تكون عاقبة أمرهم إضلال عبادك عن الدّين، والطّغيان في الأرض، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6- 7] ، ويشهد لما ذكر ما يوجد في قبور الفراعنة والآثار المصرية من الذهب والفضة والحلي والتّحف، وما بنوه من

القصور والقبور والتّماثيل الدّالة على رقي المدنية والحضارة. فقوله تعالى: لِيُضِلُّوا اللام لام العاقبة أو الصّيرورة، كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] ، فكانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال. ويحتمل أن تكون اللام لام التعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر لا في الحقيقة نفسها، بمعنى أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال، وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطي المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ.. أي ربّنا أمحق وأزل آثارها وأهلكها، واختم على قلوبهم وأقسها حتى لا تنشرح للإيمان، فيستحقوا شديد العقاب، ولا يؤمنوا حتى يشاهدوا العذاب المؤلم الموجع. ولما دعا موسى بهذا الدّعاء وكان هارون أخوه يؤمّن على دعائه، قال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أي استجبنا دعاءكما وقبلناه كما سألتما من تدمير آل فرعون، فاستقيما، أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة إلى الحقّ، وإلزام الحجة، ولا تستعجلا الأمر قبل ميقاته، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون، أي طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى. ولا يعني هذا النّهي أن مقتضاه صدر من موسى وهارون عليهما السّلام، كما أنّ قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزّمر 39/ 65] لا يدلّ على صدور الشّرك منه. قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدّعوة أربعين سنة. وقال محمد بن كعب وعلي بن الحسين: أربعين يوما.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- إن دعاء موسى وهارون كدعاء نوح عليهم السّلام لم يكن إلا بعد اليأس من إيمان القوم، بعد طول العهد من النّبي موسى بالدّعوة إلى الدّين الحقّ، وملازمة قومه حال الكفر وإصرارهم عليه، وبعد نفاد الصّبر منه. وكل ذلك لم يتم إلا بعد إذن من الله لأن مهمة الرّسل استدعاء إيمان قومهم، ولا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن، ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن بدليل قوله تعالى لنوح عليه السّلام: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود 11/ 36] ، وعند ذلك قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] . 2- احتجّ بهذه الآية من يقول: إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا، وهارون أمّن. والتأمين على الدّعاء: أن يقول: آمين، فقولك: آمين دعاء، أي يا ربّ استجب لي. 3- إن إجابة الدّعوات لها أوقات مخصوصة في علم الله وتقديره، وليس ذلك بحسب مراد العبد الدّاعي، وإنما بحسب مراد الله تعالى، وإن تعجّل الإجابة جهل لا يليق مع الأدب مع الله تعالى، وهو أيضا شكّ في الثّقة بوعد الله تعالى بإجابة دعاء الداعي إذا دعاه، لهذا قال تعالى لموسى وهارون عليهما السّلام: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.

- 5 - إغراق فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل [سورة يونس (10) الآيات 90 إلى 93] :

- 5- إغراق فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 93] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) الإعراب: بَغْياً وَعَدْواً مفعول لأجله. بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أي ببدنك عاريا عن الروح. البلاغة: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ استفهام توبيخ وإنكار. بَوَّأْنا ... مُبَوَّأَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَجاوَزْنا أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم. يقال: جاز المكان وجاوزه وتجاوزه: إذا قطعه حتى تركه وراءه. فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم. مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي المنقادين لأمره، كرر ذلك ليقبل منه فلم يقبل، وقال جبريل له: آلْآنَ تؤمن، أي أتؤمن

المناسبة:

الآن، وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ قبل ذلك مدة عمرك. وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الضالين المضلين عن الإيمان. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ نلقيك على نجوة (مكان مرتفع) من الأرض ليراك بنو إسرائيل، أو لا نغرقك في قعر البحر ونجعلك طافيا. بِبَدَنِكَ جسدك الذي لا روح فيه. لِمَنْ خَلْفَكَ بعدك وهم بنو إسرائيل. آيَةً عبرة وعظة، فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. روي عن ابن عباس: أن بعض بني إسرائيل شكّوا في موته، فأخرج لهم ليروه. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي أهل مكة وغيرهم. عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وَلَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا. مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزل كرامة أو منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ. فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم، بأن آمن بعض وكفر بعض، إلا من بعد ما قرءوا التوراة وعلموا أحكامها، أو اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين، فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك. المناسبة: هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى مع فرعون التي ابتدأها الله تعالى بالحوار بينهما، ثم أتبعها بقصة السحرة، ثم استطرد في أثنائها لبيان إيمان طائفة من بني إسرائيل بدعوة موسى، استعدادا للخروج من مصر، ثم ذكر دعاء موسى على فرعون وملئه. ولما أجاب الله تعالى دعاء موسى وهارون، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسّر لهم أسبابه، وفرعون كان غافلا عن ذلك، فذكر هنا خاتمة القصة الدالة على تأييد الله لموسى وأخيه على ضعفهما، وقوة فرعون وقومه. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الخامس من قصة موسى عليه السّلام.

وموضوع الآيات كيفية إغراق فرعون وجنوده، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر مع موسى عليه السّلام، وهم فيما قيل: ست مائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حنق فرعون عليهم، فركب وراءهم مع جنوده وجيوشه الهائلة، فلحقوهم وقت شروق الشمس عند ساحل البحر (البحر الأحمر- بحر السويس) فخاف أصحاب موسى عليه السّلام، وإذا ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقا لكل سبط واحد، وأمر الله الريح فنشفت أرضه، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه، انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمّ بالرجوع، ثم صمّم على المتابعة وقال لأمرائه: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، ولما أصبحوا في وسط البحر، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، كقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر 40/ 84- 85] . ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي أهذا الوقت تؤمن، وقد عصيت الله قبل هذا؟ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي في الأرض من الذين أضلوا الناس. هذه القصة من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلّم.

معنى الآيات:

معنى الآيات: وتجاوزنا ببني إسرائيل البحر بقدرتنا وحفظنا، فلحقهم فرعون وجنوده ظلما وعدوا، أي باغين وعادين عليهم، أو للبغي والعدوان، والفتك بهم، أو إعادتهم إلى مصر ليعذبوهم سوء العذاب ويستعبدوهم كما كانوا يفعلون. فلما أشرف على الغرق، قال: آمنت بأنه لا إله بحق إلا الله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين أي المنقادين المذعنين لأمره. وكرر فرعون بهذه العبارة المعنى الواحد ثلاث مرات، في ثلاث عبارات، حرصا منه على القبول، ومع ذلك لم يقبل منه إيمانه حيث أخطأ وقته، وقاله عند الإكراه والاضطرار، وحين لم يبق له اختيار قط. ويلاحظ أن المرة الواحدة كانت كافية في حال الاختيار. فردّ الله تعالى عليه على لسان جبريل، أو بإلهام من الله تعالى نفسه بقوله: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك، وقد عصيت الله قبل هذا، وكنت من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ... أي فاليوم نرفعك على مكان مرتفع من الأرض، وننقذك بجسدك الذي لا روح فيه، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير من الارتماء في قعر البحر لتكون لبني إسرائيل دليلا أو علامة على موتك وهلاكك وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق، ولتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك، فينزجرون عن الكفر والفساد في الأرض وادعاء الربوبية.

وفي هذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ... أي وإن أكثر الناس لغافلون عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة لله وحده، فلا يتعظون بها ولا يعتبرون بها، لعدم تفكرهم في أسبابها ونتائجها. وفي الآية دلالة على ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها. وقد كان هلاكهم يوم عاشوراء من شهر المحرم، كما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه» . ثم أخبر الله تعالى بالمناسبة عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية فقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ... أي ولقد أنزلنا بني إسرائيل منزلا صالحا مرضيا، وهو منزلهم سابقا في مصر، ولاحقا في فلسطين، ورزقناهم من الطيبات أي اللذائذ المستطابة المباحة فيها، وأنعمنا عليهم فيها بكثير من الخيرات من الثمار والغلال والأنعام وصيود البر والبحر. لقد وعدهم الله على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرض فلسطين في الماضي، ولكن لما كفروا بالأنبياء، وعلى التخصيص عيسى ومحمد عليهما السلام، نزعها الله منهم. فليس لهم أي حق ديني بعدئذ في الاستيطان بأرض فلسطين بعد بغيهم وعدوانهم وكفرهم برسالات الله تعالى. وللعلماء في تحديد المراد ببني إسرائيل قولان: الأول- أنهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السّلام، وعلى هذا يكون مبوأ الصدق مصر والشام، والطيبات منافع تلك البلاد ووراثة بني إسرائيل ما كان تحت أيدي قوم فرعون، وأن التوراة هي العلم الذي أدى إلى الاختلاف بينهم.. والقول الثاني- هم اليهود

فقه الحياة أو الأحكام:

المعاصرون للنبي عليه الصلاة والسلام، وبه قال جمع عظيم من المفسرين وهم قبائل اليهود في المدينة (قريظة والنضير وبنو قينقاع) ومنزل الصدق: ما بين المدينة والشام، والطيبات: ما في تلك البلاد من التمور، والمراد بالعلم: القرآن، وسماه علما لأنه سبب للعلم على سبيل المجاز، وكونه سبب الاختلاف: أن اليهود اختلفوا فآمن قوم وبقي آخرون على كفرهم، فصار نزول القرآن سببا لحدوث انقسام بينهم. فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي فما اختلف بنو إسرائيل في أمر دينهم إلا من بعد ما علموا وقرءوا التوراة وعلموا أحكامها، أو ما اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم مقرين بنبوته، مجمعين على صحة رسالته، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم، فلما بعث وجاءهم ما عرفوا، كفروا به، فكفر به بعضهم حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال، وآمن آخرون. والخلاصة: إنهم ما اختلفوا في شيء من المسائل جهلا، وإنما من بعد ما جاءهم العلم، ولم يكن لهم أن يختلفوا. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي ... أي إن ربك يفصل ويحكم بينهم يوم القيامة في شأن ما اختلفوا فيه، فيميز المحق من المبطل بالإنجاء للمحقين من النار وإدخالهم الجنة، والإهلاك للمبطلين في عذاب جهنم. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآيات على الأحكام التالية: 1- قد ينصر الله تعالى الضعفاء أو المستضعفين على الأشداء الأقوياء، كما

نصر الله موسى وأخاه هارون على ضعفهما، على فرعون الجبار وجنوده الأشداء، إذ كانت دولتهم أقوى دول العالم القديم. 2- إيمان اليأس لا ينفع لأنه في وقت الإلجاء والاضطرار والإكراه وفقد عنصر الاختيار وزوال وقت التكليف، فلم يقبل الله إعلان فرعون الإيمان حينما أشرف على الغرق بمعان ثلاثة يؤكد بعضها بعضا. قال الرازي: آمن فرعون ثلاث مرات، أولها قوله: آمَنْتُ وثانيها قوله: لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وثالثها قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فما السبب في عدم القبول، والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد، حتى يقال: إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار؟ والجواب أنه إنما آمن عند نزول العذاب. والإيمان في هذا الوقت غير مقبول لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء، وفي هذه الحال لا تكون التوبة مقبولة، ولهذا السبب قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» 3- كان فرعون عاصيا كافرا عاتيا متكبرا مفسدا في الأرض بالضلال والإضلال، فاستحق التوبيخ والإنكار والتهكم عليه. 4- تمّ إنقاذ جثة فرعون من الغرق، واسمه منپتاح بن رمسيس 1225 ق. م، وهي التي ما تزال موجودة في متحف الآثار المصرية بالقاهرة وشاهدتها بنفسي، وشاهدت فيها آثار ملوحة ماء البحر البيضاء على عظم الجبهة. ويعدّ هذا الإنقاذ عبرة وعظة لكل من يدعي الربوبية ويكفر بالله، فهو أحقر من أن يكون ربا لأن الرب لا يموت. قال المفسرون: إنما نجّى الله بدن فرعون بعد الغرق لأن قوما اعتقدوا فيه الألوهية، وزعموا أن مثله

_ (1) تفسير الرازي: 17/ 154

لا يموت، فأراد الله أن يشاهده الناس على ذلك الذل والمهانة، ليتحققوا موته، ويعرفوا أن الذي كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة قد آل أمره إلى الذل والهوان، فيكون عبرة للخلق، وزجرا لأهل الطغيان. 5- ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث الجسام وعواقبها المؤثرة في التاريخ. 6- إن في قصة إغراق فرعون الطاغية عبرة لمكذبي النبي محمد صلى الله عليه وسلّم الذين يغترون بقوتهم وكثرتهم وثروتهم، فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا، وأشد قوة، وأوفر ثروة، وقد جعل الله تعالى سنته في المكذبين واحدة وهي التدمير والإهلاك، إما في الدنيا وإما في الآخرة، فالعاقل من المكذبين من يتدبر في الأمر، ويبادر إلى ساحة الرضا والإيمان، ليكون من أهل النجاة في الآخرة: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] . 7- لقد أنعم الله على بني إسرائيل بالنعم الكثيرة الدينية والدنيوية، ومن أهمها إنقاذهم من طغيان فرعون، وأمانهم واستقرارهم في فلسطين في الماضي، ولكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا بها. بل إنهم كفروا بهذه النعم، وكفروا برسالة عيسى ومحمد عليهما السلام، فأصبحوا مثل غيرهم ممن يستحق العذاب والطرد والإجلاء من ديار الإسلام. والمقصود بذلك أحوال بني إسرائيل القدامى والمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلّم لأن المتأخرين راضون بفعل المتقدمين، وسائرون على نهجهم، وهذا جمع بين القولين السابقين. ولم يختلفوا في شأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلّم وصدقه قبل بعثته، بل كانوا مجمعين على نبوته والإيمان به على وفق الأوصاف المذكورة في كتبهم، وإنما اختلفوا بعد بعثته حسدا وبغيا وحبا في بقاء المراكز الدينية، والزعامة السياسية، فكان اختلافهم

تأكيد صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد [سورة يونس (10) الآيات 94 إلى 97] :

بإيمان بعضهم وكفر الآخرين لا عن جهل بحقيقة ووصف محمد صلى الله عليه وسلّم، وإنما عن علم ومعرفة حقيقية به، فإنهم يعرفونه بأوصافه المذكورة لديهم كما يعرفون أبناءهم. 8- كان فلق البحر بعصا موسى عليه السّلام اثني عشر فرقا، كل فرق منها كالجبل الأشم معجزة عظمي لسيدنا موسى عليه السّلام، تمّ على أثرها إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين، لذا سن صوم يوم عاشوراء الذي تم فيه هذا الحدث شكرا لله على ما أنعم. 9- القضاء المبرم والحكم القاطع يتبين يوم القيامة في شأن المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم في أمر قبول دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم، حيث ينجي الله المحقين، ويدمر المبطلين. تأكيد صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) البلاغة: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ كناية عن القضاء الأزلي بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَإِنْ كُنْتَ أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبيك إليك أو أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم والمراد به قومه، على نحو قول العرب: إياك أعني واسمعي يا جارة، وهو مثل قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب 33/ 41] . فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد من القصص على سبيل الافتراض. الْكِتابَ هنا التوراة. مِنْ قَبْلِكَ فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقه، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا أشك ولا أسأل» . لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ واضحا لا مرية فيه، بالآيات القاطعة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ الشاكين فيه. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.. أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه، كقوله: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص 28/ 86] . إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ وجبت وثبتت. كَلِمَتُ رَبِّكَ باستحقاق العذاب. لا يُؤْمِنُونَ وهذا واقع لأن الله لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لأنهم أصروا على الكفر. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وحينئذ لا ينفعهم، كما لا ينفع فرعون. المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى عن قصص الأنبياء السابقين كنوح وموسى وهارون عليهم السلام بإنجاز النصر لهم على أقوامهم، وحكى اختلاف بني إسرائيل عند ما جاءهم العلم حسدا وبغيا وإيثارا لبقاء الرياسة، أورد ما يقوي صدق القرآن فيما قال ووعد وأوعد، وخاطب به النبي صلى الله عليه وسلّم وأراد قومه. التفسير والبيان: أراد الله تعالى أن يؤكد صحة القرآن وصدق النبوة على سبيل الافتراض والمبالغة، فقال: فإن وقع منك شك على سبيل الافتراض والتقدير في صحة ما أنزلنا إليك من القرآن المتضمن قصص الأنبياء المتقدمين مثل هود ونوح وموسى وغيرهم، فاسأل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب أي التوراة من قبلك، فهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك.

والمراد الإحالة على علماء أهل الكتاب الصادقين ووصفهم بالعلم، لا وصف النبي صلى الله عليه وسلّم بالشك، قال ابن عباس: لا والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم، وقال: «لا أشك ولا أسأل، بل أشهد أنه الحق» كما ذكر قتادة وسعيد بن جبير والحسن البصري. والرأي الأولى كما ذكرت في بيان المفردات: أن الخطاب للسامع أو للنبي صلى الله عليه وسلّم والمراد به أمته، وهذا تعبير مألوف بين العرب. كما أن افتراض الشك في الشيء لنفي احتمال وقوعه مألوف أيضا لدى العرب، فيقول أحدهم: إن كنت ابني حقا فكن شجاعا. وذلك مثل قول عيسى عليه السّلام: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة 5/ 116] فهو يعلم أنه لم يقله، ولكنه يفرضه ليستدل على أنه لو قاله لعلمه الله منه. قال البيضاوي: وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.. أي تالله لقد جاءك الحق واضحا لا مرية فيه ولا ريب، بما أخبرناك في القرآن، وبأنك رسول الله، وأن اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، لما يجدون في كتبهم من نعتك وأوصافك، فلا تكونن من الشاكين في صدق ما نقول. وفي هذا تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلّم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف 7/ 157] . وهذا النهي: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ تعريض بالشاكين والمكذبين للنبي صلى الله عليه وسلّم من قومه.

وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا ... أي ولا تكونن أيها النبي ممن كذب بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر، فتكون ممن خسروا الدنيا والآخرة. وهذا أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص 28/ 86] وفيه تعريض بالكفار الخاسرين الضالين. إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ... أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة الله أي قضاؤه وحكمه بالعذاب لا يؤمنون أبدا، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وتصميمهم على الكفر، وليس المعنى أن الله يمنعهم الإيمان، وإنما هم الذين اختاروا الكفر وكسبوه. والمراد من الآية: أن من علم الله منهم الإيمان أو الكفر، لا بد من حصوله لأن علم الله واسع شامل، لا يتخلف. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ.. أي إن هؤلاء الذين علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، سيبقون على كفرهم وجحودهم، ولو جاءتهم كل آية كونية حسية، أو علمية، أو قرآنية، مثل آيات موسى التي اقترحوا مثلها على النبي صلى الله عليه وسلّم، ومثل تفجير الأنهار والصعود في السماء، وامتلاك الجنات أي البساتين، ومثل آيات القرآن الدالة بإعجازها على أنها من عند الله تعالى، وربما لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم الموجع الذي يحدق بهم ويطبق عليهم، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أشرف على الغرق، وكما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام 6/ 111] فالأدلة لا تنفعهم مهما كثرت لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله وتوفيقه، وتوافر الاستعداد لقبوله.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- القرآن حق، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلّم حق، وأدلة إثبات أحقيتهما: صدقهما فيما أخبرا به من قصص الأنبياء، ومغيبات المستقبل، وما أشار إليه من الآيات الدالة على الصدق في كل ما اشتمل عليه القرآن والسنة. 2- افتراض الشك أحيانا يفيد في إثبات عكسه وهو اليقين، وهذه نظرية أخذ بها الفلاسفة مثل (ديكارت) . 3- على كل من شك في شيء أن يبادر إلى سؤال العلماء لإزالته وتثبيت يقينه، وترسيخ عقيدته. 4- الخطاب في الآيتين الأوليين: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وفَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ للنبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. قال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال لما نزلت هذه الآية: «والله لا أشك» . 5- الإحالة في تبين صدق القرآن وصحة النبوة كانت على من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وأمثاله. 6- إن الذين ثبت عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون، حتى ولو جاءتهم الآيات تترى بما يطلبون. فإن آمنوا حين نزول العذاب بهم لا ينفعهم إيمانهم لأنه إيمان يأس وإلجاء وقسر، وتوبة يائس. 7- احتج أهل السنة بهذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب، وقال في الكشاف في هذه الآية: ثبت

قصة يونس عليه السلام مع قومه [سورة يونس (10) الآيات 98 إلى 100] :

عليهم قول الله تعالى الذي كتبه في اللوح، وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا، فلا يكون غيره، وتلك كتابة معلوم، لا كتابة مقدّر. قصة يونس عليه السّلام مع قومه [سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) الإعراب: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ منصوب إما لأنه استثناء منقطع ليس من جنس الأول وإما على الاستثناء المتصل غير المنقطع، بأن يقدر في الكلام حذف مضاف، تقديره: فلولا كان أهل قرية آمنوا إلا قوم يونس. ويونس: ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة. وقرئ برفع يونس على البدل، كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس والبدل من غير الجنس لغة بني تميم. كُلُّهُمْ تأكيد لقوله لَآمَنَ، وجَمِيعاً عند سيبويه: نصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقوله: جَمِيعاً بعد كل تأكيدا كقوله: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. البلاغة: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ الاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَلَوْلا فهلا، وكل منهما للتحضيض والتوبيخ. قَرْيَةٌ أهل قرية أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها، كما أخر فرعون. آمَنَتْ قبل نزول العذاب بها. فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند رؤية أمارة العذاب، ولم يؤخروه إلى حلوله. الْخِزْيِ الذل والهوان. وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى انقضاء آجالهم، الحين: مدة من الزمن، والمراد بها هنا العمر الطبيعي الذي يعيشه الإنسان. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قال المعتزلة: المراد مشيئة القسر والإلجاء، أي لو شاء الله تعالى أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه، ولصح ذلك منه، ولكنه ما فعل ذلك لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة، فالمشيئة المرادة في الآية لم تقع في رأيهم. وقال أهل السنة: المراد تخليق الإيمان أو خلق الإيمان، أي لو شاء ربك لخلق الإيمان فيهم، ولكنه لم يفعل، فدلّ على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم لأن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته، فإذا لم يحصل ذلك المعنى لم يحصل الإيمان. والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر، فكل إيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان 76/ 30] . وهذا المذهب موافق للمعتزلة في أن الله تعالى ما قسر الخلق، ولكنه أيضا ما سلب اختيارهم، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا وقصدا، فإبقاء الآية على إطلاقها أولى، وربط كل شيء من إيمان وغيره بمشيئة الله تعالى هو الواجب. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بما لم يشأه الله منهم، والاستفهام للإنكار، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله تعالى. والإذن بالشيء لغة: الاعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ هنا العذاب أو الخذلان. وأصله في اللغة: الشيء القبيح المستقذر. لا يَعْقِلُونَ لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، وهي قصة يونس عليه السّلام. فبعد أن بيّن الله تعالى أن الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أتبعه بهذه الآية

أضواء من التاريخ:

للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. وهذا يدل على أن الكفار فريقان: منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان، وكل ما قضى الله به فهو واقع. وذكر في هذه الآيات ما يكمل قبلها في أن الله تعالى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وأن مشيئة الله وحكمته متعلقتان بأفعال عباده، ووقوعها على وفقهما. وكانت العبرة من إيراد هذه القصص الثلاث (قصة نوح، وقصة موسى، وقصة يونس) الرّد على شبهات الكفار التي منها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يهددهم بنزول العذاب عليهم، ولم ينزل، فأبان الله تعالى أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، بدليل أن الله أخّر العذاب عن قوم نوح، وفرعون، وقوم يونس، ثم أوقعه في الأولين ولم يوقعه في قوم يونس بسبب إيمانهم. أضواء من التاريخ: ذكر يونس عليه السّلام في القرآن الكريم باسمه أربع مرات: في سورة النساء [163] والأنعام [86] ويونس [98] والصافات [139] وذكر بوصفه في سورتين: في سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [87] وفي سورة القلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [48] . وهو يونس بن متى، ويقول أهل الكتاب: يونس بن أمتاي. وقد أرسله الله تعالى إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه، فوعدهم بالعذاب بعد مدة، قيل: إلى أربعين يوما، وذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب، ولما دنا الموعد غامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد، فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى

الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين كل والدة وولدها، فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة «1» . قال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان. أما يونس فقد ذهب مغاضبا لقومه الذين أرسل إليهم لإبطائهم عن تلبية دعوته، والدخول فيما دعاهم إليه من الإيمان، فهرب إلى الفلك المشحون، من غير إذن الله تعالى. ثم امتحنه الله تعالى بالإلقاء في اليم والتقام الحوت، قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء 21/ 87- 88] . فنبذه الله بالعراء وهو سقيم بعد أن مكث في بطنه ثلاثا أو سبعا أو أكثر أو أقل، وحماه من هضم الحوت له، وأنبت عليه شجرة من يقطين. ثم أرسله الله تعالى إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا، وقبل الله منهم إيمانهم. وأما قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فمعناه المناسب للأنبياء المعصومين عن الخطأ: فظن أن لن نضيق عليه، أي ظن أننا لن نلزمه بالذهاب إلى القوم الذين أرسل إليهم، ولا نلجئه إلى تبليغ رسالة الله تعالى إليهم، والمراد أنه تأول الأمر وهو أمر الذهاب إلى قومه على أنه أمر إرشاد لا أمر وجوب، ولا

_ (1) تفسير الرازي: 17/ 165، تفسير القرطبي: 8/ 384

التفسير والبيان:

إثم في مخالفته، كما تأول الفقهاء كتابة الدين المأمور به في قوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ على أنه أمر ندب وإرشاد، ففهم الأمر على هذا الوجه «1» . التفسير والبيان: فهلا كان أهل قرية من قرى الرسل الذين أرسلوا إليهم، آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، وقبل نزول العذاب واستحالة الإيمان، فنفعهم إيمانهم. ولكن قوم يونس عليه السّلام الذي بعث في أهل نينوى بأرض الموصل شمال العراق، كانوا قد كفروا، ثم لما رأوا أمارات العذاب، تضرعوا إلى الله تعالى، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان فرحمهم الله، وكشف عنهم العذاب- أي العذاب الذي وعدهم يونس بنزوله- وقبل إيمانهم، ومتّعهم إلى أجلهم. أي لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم من القرى الغابرة إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه. وكان قبول إيمانهم مغايرا لقبول إيمان فرعون، فإنه آمن عند الإشراف على الغرق واقتراب الموت. أما قوم يونس فآمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وإن كان إيمانهم عند ظهور أماراته. وفي القصة تعريض بأهل مكة، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس، قبل أن يصلوا إلى درجة اليأس، فإن العذاب قابل للتحقق كما حدث في قوم نوح، وفرعون وجنوده. وعلى هذا التأويل لا تعارض ولا إشكال ولا خصوص لقوم يونس. قال علي رضي الله عنه: إن الحذر لا يردّ القدر، وإن الدعاء ليردّ القدر.

_ (1) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص 357، 359

وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أي ولو شاء ربك يا محمد أن يأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به، وأن يخلق فيهم الإيمان، لفعل ولآمنوا كلهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى، كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 118- 119] . وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد 13/ 31] . وكُلُّهُمْ في الآية أي على وجه الإحاطة والشمول، وجَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان، مطبقين عليه، لا يختلفون فيه. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ... أي أفأنت يا محمد تلزم الناس وتلجئهم إلى الإيمان، ليس ذلك عليك ولا إليك، بل إلى الله وعليه. فالإيمان لا يتم بالإكراه والإلجاء والقسر، وإنما يتم بالطواعية والاختيار، كما قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة 2/ 256] وقال تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] وإنما مهمتك فقط التبليغ بالإنذار والتبشير، كما قال تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى 42/ 48] وقال سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] . وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ليس لنفس أن تؤمن إلا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه أو ما ينبغي لنفس أن تؤمن إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته، والنفس مختارة في الإيمان اختيارا غير مطلق، وليست مستقلة في اختيارها استقلالا تاما، بل مقيدة بسنة الله في الخلق، يهدي الله من يشاء بحكمته وعلمه وعدله.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي ويجعل الله العذاب على الذين لا يتدبرون حجج الله وأدلته، ولا يستعملون عقولهم في النظر بما يرشدهم إلى الحق من آيات الله وحججه الكونية والعقلية القرآنية، فهم لتعطيلهم منافذ المعرفة وحواسهم الهادية إلى الصواب، ولاتباع الهوى، يؤثرون الكفر على الإيمان. فقه الحياة أو الأحكام: استنبط العلماء من الآيات ما يأتي: 1- الحض على الإيمان وقت الرخاء والسعة قبل الإحاطة بالعذاب، فهو الوقت الذي يقبل فيه الإيمان. 2- خص الله قوم يونس من بين سائر الأمم بقبول توبتهم بعد معاينة العذاب، كما ذكر الطبري عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان. قال القرطبي معلقا: قول الزجاج حسن فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» والغرغرة: الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا «1» . فعلى قول الزجاج والقرطبي: لا تخصيص لقوم يونس. 3- احتج أهل السنة بآية: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ... على قولهم بأن جميع

_ (1) تفسير القرطبي: 8/ 384

الكائنات بمشيئة الله تعالى لأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية، فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل «1» . ولقد أوردت في بيان المفردات مذهبي أهل السنة والمعتزلة في تفسير وَلَوْ شاءَ هل المشيئة مشيئة القسر والإلجاء، أم مشيئة الخلق والإرشاد والهداية؟ وفسر القرطبي الآية بقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لاضطرهم إليه، أي إلى الإيمان. 4- الإكراه في الدين ممنوع، لقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان جميع الناس فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذّكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول. 5- احتج أهل السنة على قولهم: «أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع» . بقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وجه الاستدلال به: أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج، وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان. 6- احتج أهل السنة أيضا على قولهم: بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وتقريره أن الرجس هو العمل القبيح، سواء كان كفرا أو معصية، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه، ذكر بعده أن

_ (1) انظر تفسير الرازي: 17/ 166، وكذا ص 167 للحكم رقم (5) ، وص 168 للحكم رقم (6) .

فرضية النظر والتفكير وإنذار المهملين [سورة يونس (10) الآيات 101 إلى 103] :

الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه، والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر. هذا ما ذكره الرازي. ويلاحظ أننا فسرنا الرجس بالعذاب، كما ذهب إليه كثير من المفسرين، وهو ما قرره أبو علي الفارسي النحوي في أن الرجس يحتمل كون المراد منه العذاب. فرضية النظر والتفكير وإنذار المهملين [سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) الإعراب: ماذا إما استفهام مبتدأ، وخبره: فِي السَّماواتِ، أو أن الخبر: ذا بمعنى الذي، والجملة الابتدائية في موضع نصب. ثُمَّ نُنَجِّي معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله: إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا. كَذلِكَ الكاف: صفة مصدر محذوف، تقديره: ننجي رسلنا، والذين آمنوا ننجيهم مثل ذلك، وتصير الجملة: كذلك ننج المؤمنين، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين. حَقًّا عَلَيْنا اعتراض، وهو منصوب بفعله المقدر، أي حق ذلك علينا حقا، ويجوز أن يكون حَقًّا بدلا من كَذلِكَ. ولا يجوز أن ينصب كَذلِكَ وحَقًّا ب نُنَجِّي لأن الفعل الواحد لا يعمل في مصدرين، ولا في حالين، ولا في استثناءين، ولا في مفعولين معهما.

البلاغة:

البلاغة: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا عبر بصيغة المضارع عن الماضي، لتهويل الأمر، باستحضار صورة ذلك الماضي. المفردات اللغوية: قُلِ يا محمد لكفار مكة وغيرهم. انْظُرُوا تفكروا ماذا أي الذي. فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته. وإن جعلت ماذا استفهامية علقت انْظُرُوا عن العمل. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله وحكمته. وما: نافية أو استفهامية في موضع النصب. مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي مثل وقائعهم من نزول العذاب بهم إذ لا يستحقون غيرها. مأخوذ من قولهم: أيام العرب أي وقائعها. فَانْتَظِرُوا ذلك. ثُمَّ نُنَجِّي المضارع لحكاية الحال الماضي. رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا من العذاب. كَذلِكَ الإنجاء. حَقًّا عَلَيْنا اعتراض. نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي كذلك الإنجاء ننج النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حين تعذيب المشركين. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، أمر بالنظر والاستدلال في الأدلة، حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض، فقال: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فعلى كل عاقل التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار، وما الدين إلا مساعد للعقل على حسن الاختيار. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده بالتفكر في خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات الباهرة ذات النظام البديع، كالكواكب النيرة من ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار واختلافهما، وتعاقبهما طولا وقصرا، وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وزينتها، وما أنزل الله منها من مطر، فأخرج به أنواع

الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات، وما ذرأ في الأرض من دواب برية وبحرية مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وثروات معدنية، وما في البحر من العجائب، وهو مع ذلك مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير العلي القدير العليم الذي لا إله غيره، ولا رب سواه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 21- 20] . فالنظر في ذلك يرشد إلى وجود الخالق، ويدعو إلى التصديق بالرسل، والإيمان بالقرآن والوحي المخبر عن هذه الآيات العظام. ولكن ما تغني وما تفيد وما تنفع أي لن تغني هذه الآيات أي الدلالات الكونية والقرآنية والرسل المنذرون أو الإنذارات قوما لا يتوقع إيمانهم كما ذكر في (الكشاف) وهم الذين لا يعقلون، أي لا ينظرون في تلك الآيات. وقال القرطبي: عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن. وقيل: ما استفهامية والتقدير: أي شيء تغني. والمعنى على الاستفهام: أي شيء تغني الآيات السماوية والأرضية والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها لقوم لا يؤمنون بالله ورسله، ولم يستخدموا عقولهم فيما خلقت من أجله؟ وقوله: وَما تُغْنِي ... عَنْ قَوْمٍ أي لا تفيدهم شيئا، أو أي شيء تغني الآيات وهي الدلائل، والظاهر أن ما للنفي، ويجوز أن تكون استفهاما «1» . فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ.. يحذّر الله المشركين قائلا: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل وقائع الأمم الماضية المكذبة لرسلهم، من نزول العذاب بهم؟ وهي وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود

_ (1) البحر المحيط: 5/ 194

فقه الحياة أو الأحكام:

وغيرهم. والأيام هنا بمعنى الوقائع، يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم، والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما كقوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم 14/ 5] ، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام. قُلْ: فَانْتَظِرُوا.. قل أيها الرسول لهم منذرا مهددا موعدا: انتظروا عذاب الله وعقابه، إني من المنتظرين هلاككم، أو فانتظروا هلاكي، إني معكم من المنتظرين هلاككم، أو من المنتظرين موعد ربي. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا.. أي إن حكمنا المتبع وسنتنا السائدة أنه إذا وقع العذاب إنجاء رسلنا والمؤمنين معهم، وإهلاك المكذبين. كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا ... أي مثل هذا الإنجاء للرسل السابقين ومن آمن معهم، ننجي المؤمنين معك أيها الرسول، ونهلك المكذبين بالرسل. وهذا حق أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة، كقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] وكما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب النظر في الدلائل السماوية والأرضية للاهتداء بها إلى معرفة الخالق، فلا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل، كما قال عليه الصلاة والسلام: «تفكروا في الخلق، ولا تفكّروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره» «1» .

_ (1) رواه أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس، وهو حديث صحيح.

إخلاص العبادة لله تعالى ونبذ الشرك [سورة يونس (10) الآيات 104 إلى 107] :

فعلى الناس الاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال. 2- وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم عبرة وعظة للمكذبين الرسل. 3- سنة الله تعالى عند إيقاع العذاب الشامل إنجاء الرسل والمؤمنين معهم، وإهلاك الكافرين الضالين المكذبين. وهذا الاصطفاء والتمييز عدل من الله ورحمة. إخلاص العبادة لله تعالى ونبذ الشرك [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) الإعراب: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ حذف حرف الجر من إِنْ أمر مطرد، مثل «أنّ» وقد يكون الحذف غير مطرد، فيقال: أمرتك الخير، فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر 15/ 94] . وَأَنْ أَقِمْ عطف على أَنْ أَكُونَ لكن المعطوف محكي بصيغة الأمر، ولا ضير في ذلك لأن المقصود هو الوصل بما يتضمن معنى المصدر، ولا فرق في الأفعال كلها، سواء الخبر منها والطلب، والمعنى: وأمرت بالاستقامة في الدين بأداء الفرائض، والانتهاء عن القبائح، وقد سوغ سيبويه أن توصل أَنْ بالأمر والنهي، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر.

البلاغة:

حَنِيفاً حال من لِلدِّينِ أو من الوجه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معطوف على قوله: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء. البلاغة: ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بينهما طباق. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ.. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ بين الجملتين مقابلة. فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ إظهار الفضل في موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد لهم من الخير، لا استحقاق لهم عليه. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لأهل مكة وغيرهم. فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أي في صحته وأنه حق مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره وهو الأصنام، لشككم فيه. يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم، والمعنى كما ذكر البيضاوي: هذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا، فاعرضوها على العقل الصرف، وانظروا إليها بعين الإنصاف، لتعلموا صحتها: وهو أني لا أعبد ما تختلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي وأمرت بأن أكون من المصدقين بما دل عليه العقل ونطق به الوحي. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي وبأن أستقيم في الدين بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح. حَنِيفاً مائلا عن الشرك وتوابعه إلى الدين الحق. ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بنفسه إن. دعوته أو خذلته، فلا ينفعك إن دعوته، ولا يضرك إن لم تعبده. فَإِنْ فَعَلْتَ فإن دعوته وفعلت ذلك افتراضا. وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصبك. بِضُرٍّ أي سوء من مرض أو ألم أو فقر. فَلا كاشِفَ رافع. فَلا رَادَّ فلا دافع لفضله الذي أرادك به. قال البيضاوي: ولعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول. يُصِيبُ بِهِ أي بالخير. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي فتعرضوا لرحمته بالطاعة، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على صحة الدين ووحدانية الخالق وصدق

التفسير والبيان:

النبوة، أمر رسوله بإظهار دينه، وبإظهار المفارقة بينه وبين الشرك وما عليه المشركون من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الله الذين خلقهم، فتخرج عبادة الله من حالة السر إلى الإعلان. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن يقول لأهل مكة وغيرهم من الناس إلى يوم القيامة: إن كنتم لا تعرفون ديني، فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل، وإن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي، فاعلموا وصفه وأنه لا مجال للشك فيه، وهو أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، من حجارة وغيرها لأنها لا تضر ولا تنفع، بل أعبد الله وحده لا شريك له، الذي يتوفاكم كما أحياكم، ثم إليه مرجعكم، وأن أكون من المؤمنين إيمانا حقا بالله، العارفين به تمام المعرفة. وفي هذا تعريض بأن الدين الحق لا يشك فيه، ويستحسنه ذوو العقول الصحيحة والفطر السليمة، وأما عباده الأصنام فمقطوع ببطلانها لأنها لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، ويستنكرها كل عاقل، فإنها أحجار!!. ويلاحظ أنه تدرج من نفي عبادة غير الله لأن الإزالة في كل شيء بقصد إصلاحه مقدمة على الإثبات، والتخلي مقدم على التحلي، ثم انتقل إلى إثبات عبادة الله، ليبين أنه يجب ترك عبادة غير الله أولا، ثم يجب الاشتغال بعبادة الله، ثم انتقل إلى ذكر الإيمان والمعرفة بعد العبادة التي هي عمل جسدي، ليدل على وجوب تطابق العمل مع الاعتقاد، فإنه لا جدوى لعمل ما لم ينبع من اعتقاد صحيح يتجلى فيه نور الإيمان والمعرفة. وفي هذا التدرج من نفي عبادة الأصنام إلى إثبات من يعبده وهو الذي يتوفاكم، وفي ذكر هذا الوصف الدال على التوفي دلالة على البدء وهو الخلق وعلى الإعادة «1» .

_ (1) البحر المحيط: 5/ 195

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ.. أي وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقيم وجهي للدين القيم، أي بالاستقامة في أمر الدين بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، وبأن أخلص العبادة لله وحده، حنيفا أي مائلا عن الشرك والباطل إلى الدين الحق، ولهذا قال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي ممن يشرك في عبادة الله إلها آخر، وهو معطوف على قوله: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي قيل لي: كن من المؤمنين وأقم وجهك ولا تشرك. فقوله أَقِمْ وَجْهَكَ معناه استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. ونظير الآية قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 79] . وهذا يدل على وجوب التوجه في العبادة والدعاء إلى الله وحده، دون التفات إلى شيء سواه، فمن توجه بقلبه إلى غير الله في عبادة أو دعاء فهو عابد غير الله. لذا قال تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ... أي لا تدع ولا تعبد أيها الرسول متجاوزا الله تعالى ما لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة إن دعوته، ولا يضرك أصلا إن تركت دعاءه. فإن فعلت هذا وعبدت ودعوت غير الله، كنت حينئذ من الظالمين نفسك لأنه لا ظلم أكبر من الشرك بالله تعالى، ومن الظلم وضع العبادة في غير موضعها. ثم أكد الله تعالى سلب صلاحية النفع والضر عن غير الله، فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... أي وإن تتعرض لضرر يمسّ جسمك أو مالك من مرض أو فقر أو ألم، فلا كاشف أو لا رافع له إلا الله، وإن يردك أو يخصك الله بخير منه في دينك أو دنياك من نصر ورخاء ونعمة وعافية، فلا دافع لفضله إلا الله إذ

فقه الحياة أو الأحكام:

لا رادّ لقضائه، ولا معقب لحكمه ولا مانع لفضله أحد، وهو القادر على كل شيء، يمنح ويمنع، ويعطي ويحرم، يفعل كل ذلك بحكمة وعلم. والفضل الإلهي يكون عادة عاما بعموم الرحمة، أما الضرر فإنه لا يقع إلا بسبب، فإن البلاء لا يقع إلا بذنب، ولا يرتفع إلا بتوبة: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى 42/ 30] . وهو سبحانه الغفور الرحيم لمن تاب إليه، ولو من أي ذنب كان، حتى من الشرك به، فإنه يتوب عليه، فتعرضوا لرحمته بالطاعة، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أمرين: تخصيص العبادة بالله تعالى ونبذ الشرك، وبيان أن الضار والنافع هو الله تعالى، مما يوجب استحقاقه العبادة. أما تخصيص العبادة وإخلاصها بنحو كامل نقي لله عز وجل فيتطلب ضوابط أو قيودا ستة مفهومة من الآيات الثلاث الأولى وهي ما يأتي: 1- الامتناع النهائي البات المطلق عن عبادة غير الله بمختلف الأشكال. 2- عبادة الله تعالى وحده دون سواه لأنه المحيي المميت وإليه المرجع والمآب. 3- التصديق أو الإيمان الكامل الذي لا يخالجه أي شك بآيات الله. 4- الاستقامة على أمر الدين بأداء الفرائض واجتناب القبائح، والميل التام عما سوى الدين والشرع القويم، فقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً كما قال الرازي: إشارة للاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه.

5- تجنب كل مظاهر الشرك الحقيقي الظاهر من عبادة الأوثان ونحوها، وهذا صار مفهوما من آية فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وتجنب ما يسمى بالشرك الخفي وهو الرياء، وهو المراد بقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. 6- الامتناع من عبادة أي شيء سوى الله، مما لا يضر ولا ينفع، ولا يغني من الحق شيئا، ولا يفيد شيئا عند الله، ولا ينفع عابده أو داعيه، فمثل تلك العبادة والتعظيم لغير صاحب العظمة والجلال ظلم بحت بوضع العبادة في غير موضعها، وضياع وإهدار للجهود، وعدم إثمارها شيئا ما. وأما النفع والإضرار وجلب الخير ودفع الشر: فلا يؤمل الخير من غير الله تعالى، ولا يدفع الشر بغير الله تعالى، ولا يمنح الفضل سوى الله، ولا يكشف السوء غير الله عز وجل، وهو سبحانه في كل الأحوال غفور لمن استغفره، رحيم بمن تاب إليه وأناب، ولو من أعظم المعاصي والجرائم هو الشرك. ففي قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الآية بيان أن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده، لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وتكون هذه الآية مؤكدة للآيات السابقة، ومكملة لها، ومبرهنة لكل ذي عاقل أن المعبود بحق هو الله الذي يكشف الضر والسوء، ويمنح الفضل والخير. روى الحافظ ابن عساكر عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوا أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم» . 7- المغفرة والرحمة تشملان كل من تاب وأناب، ولو من أي ذنب كان، حتى من الشرك به، فإن الله يتوب عليه.

الإسلام دين الحق ووجوب اتباعه [سورة يونس (10) الآيات 108 إلى 109] :

الإسلام دين الحق ووجوب اتباعه [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) الإعراب: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ مبتدأ وخبر. البلاغة: فَمَنِ اهْتَدى.. وَمَنْ ضَلَّ بينهما طباق. يَحْكُمَ اللَّهُ.. الْحاكِمِينَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة وغيرهم. قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ.. أي رسوله والقرآن، ولم يبق لكم عذر. فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن نفعه وثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ بالكفر بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلّم. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال الضلال عليها. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إليّ أمركم، وإنما أنا بشير ونذير. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك بالامتثال والتبليغ. وَاصْبِرْ على دعوتهم وأذاهم. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فيهم بامره بالنصرة أو بالأمر بالقتال. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أعدلهم إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر.

المناسبة:

المناسبة: هذه خاتمة عظيمة موجزة أجملت ما في السورة من مبدأ اتباع شريعة الله ووحيه إلى نبيه، فبعد أن قرر سبحانه وتعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وزيّن آخر هذه السورة بالبيان الدال على استقلاله تعالى بالخلق، والإبداع، ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية، وهي إكمال الشريعة أو دين الحق، وأزال علة التنكر لها، وأوجب اتباعها، وأوضح للناس كافة طريق الرؤية الصحيحة: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. التفسير والبيان: قل أيها الرسول للناس قاطبة، من حضر ومن ستبلغه هذه الدعوة: قد جاء الحق المبين من ربكم، يبين حقيقة هذا الدين، وكمال هذه الشريعة، على لسان رجل منكم. فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله تعالى هو الحق الذي لا شك فيه. فمن اهتدى به، وصدق القرآن ورسول الله، واتبعه، فإنما يهتدي لنفسه، أي يعود نفعه وثواب اهتدائه واتباعه على نفسه، ومن ضل عنه وحاد عن منهجه، فإنما يضل على نفسه، أي يرجع وبال ذلك عليه. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي وما أنا بموكّل بكم من عند الله بأموركم حتى أجعلكم مؤمنين وأكرهكم على الإيمان، وإنما أنا نذير منذر لكم عذاب الله لمن أعرض وكذب، وبشير مبشر من اهتدى، والهداية على الله تعالى. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ.. أي اتبع يا محمد ما أنزل الله عليك وأوحاه إليك، وتمسك به أشد التمسك، واصبر على دعوتك وأذى قومك ومخالفة من

فقه الحياة أو الأحكام:

خالفك من الناس، حتى يحكم الله، أي يقضي بالفصل بينك وبينهم، أي المكذبين فينصرك عليهم ويحقق لك الغلبة، وهو خير الحاكمين أي أعدل الحكام وأحكمهم، يقضي بالعدل التام والحكمة الصحيحة والواقع الحقيقي. وقد أنجز الله وعده لنبيه صلى الله عليه وسلّم فنصره مع الجند المؤمنين، على فئات المشركين، واستخلفهم في الأرض، وجعلهم الأئمة الوارثين. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم عما لقيه من أذى قومه، ووعد للمؤمنين أنصاره، ووعيد للكافرين أعدائه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيتان إلى ما يأتي من الأحكام: 1- الإسلام دين الحق وشريعة الله الكاملة، والقرآن مصدر هذا الحق والشرع، والرسول صلى الله عليه وسلّم هو المعبّر عن الدين الحق المبلغ له. 2- الإسلام منهج الهداية الربانية ومعقد الأمل والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فمن أبصر الحق واتبع سبيل الهداية الإلهية بما فيها من اعتقاد حق صحيح، وتشريع عادل، ونظام سديد، فاز ونجا وأسعد نفسه، ومن تنكب طريق الحق، وترك الرسول صلى الله عليه وسلّم والقرآن، واتّبع الأصنام والأوثان، وسار مع الأهواء وتقليد الآباء والأجداد، هلك ووبال ذلك على نفسه. 3- ما الرسول إلا مبلغ وحي الله، مبشر من أطاعه بالجنة، منذر من عصاه بالنار، لا يملك إكراه أحد على الإيمان بدعوته، واتباع رسالته. 4- الرسول كغيره من الرسل والمؤمنين يجب عليه اتباع ما أوحى الله له، والصبر على الطاعة وعن المعصية، فإن أصابه مكروه بسبب نشر دعوته، فليصبر عليه إلى أن يحكم الله فيه وله بالنصر على أعدائه والغلبة على المكذبين.

قال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلّم الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم، فقال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة «1» ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» . 5- لا يحكم الله عز وجل إلا بالحق والعدل، وحكمه مطابق يقينا للواقع لأنه يعلم السرائر والبواطن كما يعلم الظواهر.

_ (1) أي حب الذات والمؤاثرة عليكم، فيفضل غيركم مثلا في نصيبه من الفيء، وتكون الأولوية للأتباع والأشياع، لا للذين سبقوا إلى الإيمان ونصرة الإسلام.

سورة هود عليه السلام:

[الجزء الثاني عشر] بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود عليه السلام مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة هود لاشتمالها على قصة هود عليه السلام مع قومه: «عاد» في الآيات [50- 60] وهي كغيرها من قصص القرآن تمثل صراعا حادا عنيفا بين هود عليه السلام وبين قومه الذين دعاهم إلى عبادة الله تعالى، وهجر عبادة الأصنام والأوثان، فلما أصروا على كفرهم وتكذيبه، عذبهم الله بعذاب غليظ شامل وهو الريح العقيم الصرصر، التي سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود 11/ 58] وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 6- 8] . نزولها وشأنها ومناسبتها لما قبلها: هذه السورة مكية أي نزلت في مكة إلا الآيات الثلاث التالية وهي: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ.. [12] كما قال ابن عباس ومقاتل، وقوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.. [17] فإنها

ما اشتملت عليه السورة:

نزلت في ابن سلام وأصحابه، وقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.. [114] فإنها نزلت في نبهان التمار. وقد نزلت بعد سورة يونس، وهي منفقة معها في معناها وموضوعها وافتتاحها ب الر واختتامها بوصف الإسلام والقرآن والنبي الذي جاء بالحق من الله، والدعوة إلى الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفصيلها ما أجمل في سورة يونس من أمور الاعتقاد من إثبات الوحي والتوحيد والبعث والمعاد والثواب والعقاب والحساب، وإعجاز القرآن وإحكام آياته، ومحاجّة المشركين في ذلك وتحديهم بالقرآن، وذكر قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام. وتمتاز هذه السورة بما فيها من القوارع والزواجر التي اشتملت عليها قصص هؤلاء الأنبياء، والدعوة الشديدة إلى الاستقامة، مبتدأة بالنبي صلى الله عليه وسلّم، روى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبت، قال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت» . وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم عما شيبة من سورة هود، فقال: قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. ومن فضائلها: ما أسنده أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة هود، أعطي من الأجر عشر حسنات..» . ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة كسورة يونس أصول الدين العامة وهي التوحيد، والرسالة، والبعث والجزاء، وتوضيح هذه العناصر إجمالا فيما يأتي:

1- إثبات كون القرآن من عند الله، من طريق إحكام آياته وإتقانها بنظمها نظما رصينا محكما لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم، ثم تفصيلها في الحال دون تراخ، ببيان دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والتفرقة بين الحق والباطل، ومن طريق إعجاز القرآن وتحديه العرب بأن يأتوا بعشر سورة مثله: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود 11/ 13] وبعد أن عجزوا عن محاكاته والإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه، أعلن الله تعالى إفلاسهم وعجزهم فقال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود 11/ 14] . 2- توحيد الله: وهو نوعان: أ- توحيد الألوهية: وهو عبادة الله وحده وعدم عبادة أحد سواه، كما قال تعالى في مطلع هذه السورة: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.. فعبادة كل من سواه كفر وضلال. ب- توحيد الربوبية: أي الاعتقاد بأن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته. وكان عرب الجاهلية يؤمنون بأن الله هو الرب الخالق: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. [العنكبوت 29/ 61] ولكنهم كانوا يقولون بتعدد الآلهة. وورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت توحيد الربوبية، مثل المذكور في هذه السورة: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. [7] والخلق: التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة، ثم أريد به الإيجاد التقديري. 3- إثبات البعث والجزاء: للإيمان بهما وللترغيب والترهيب، كما في قوله

تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [4] وقوله: وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [7] . 4- اختبار البشر لمعرفة إحسان أعمالهم: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7] . 5- الموازنة بين طبع المؤمن والكافر في أحوال الشدة والرخاء، فالمؤمن صابر وقت الشدة، شاكر وقت الرخاء، والكافر فرح فخور حال النعمة، يئوس كفور حال المصيبة [الآيات 9- 11] . 6- استعجال البشر الخير والنفع، والعذاب الذي ينذر به الرسل: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ: ما يَحْبِسُهُ.. [8] وقال تعالى في سورة يونس المتقدمة: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [11] . 7- طبائع البشر مختلفة حتى في قبول الدين إلا من رحم ربك: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ.. [118- 119] أي أن لهذا الاختلاف فوائد علمية وعلمية، كما أن فيه مضارّ إذا أدى إلى التفرق في الدين والاختلاف في أصول الحياة والمصالح العامة. 8- إيراد قصص الأنبياء بالتفصيل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم على ما يتعرض له. من أذى قريش وصدودهم عن دعوته: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.. [120] ، وفي كل قصة عبرة وعظة أيضا للمؤمنين. وقد ذكر الله قصة نوح أب البشر الثاني وأمره له بصناعة الفلك، لنجاته ومن معه من المؤمنين، وإغراق قومه بالطوفان الذي عم الأرض، ونوح أطول الأنبياء عمرا، وأكثرهم بلاء وصبرا [الآيات: 25- 49] وتبين من قصته أن أتباع الرسل عادة هم

الفقراء، كما حكى تعالى عن قوم نوح: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود 11/ 27] . ثم ذكر الله تعالى قصة هود الذي سميت السورة باسمه، ودعوته قومه «عاد» الأشداء العتاة المتجبرين إلى عبادة الله تعالى، فاعترفوا بقوتهم وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية في بحر أسبوع: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 7] وعبر عن ذلك بأنه عذاب غليظ، بسبب الكفر والجحود بالآيات الإلهية: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.. [الآيات: 50- 60] . ثم ذكر سبحانه قصة صالح مع قومه ثمود [الآيات: 61- 68] . وأشار إلى قصة ضيوف إبراهيم من الملائكة [الآيتان: 69- 70] ثم قصة «لوط» [الآيات: 70- 83] ثم قصة شعيب [الآيات: 84- 95] ثم قصة موسى مع فرعون [الآيات: 96- 99] . 9- التعقيب المباشر على ما في تلك القصص من عبر وعظات، بإهلاك الظالمين، كما قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآيات: 100- 111] . 10- الأمر بالاستقامة في الدين [الآية: 112] وهو أمر ثقيل شديد على النفس، يتطلب جهاد النفس، والصبر على أداء الواجبات، وحمايتها من الموبقات المهلكات. 11- الطغيان سبيل الدمار، والركون إلى الظلم موجب عذاب النار: وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [الآية: 113] . 12- الأمر بإقامة الصلاة في أوقاتها ليلا ونهارا لأن الحسنات يذهبن

إحكام القرآن ودعوته إلى عبادة الله والتوبة إليه والإيمان بالبعث [سورة هود (11) الآيات 1 إلى 4] :

السيئات [الآية: 111] والصبر على الطاعة، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [الآية: 115] . 13- محاربة الفساد في الأرض من أجل حفظ الأمة والأفراد من الهلاك: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [الآية: 116] . 14- لا إهلاك ولا عذاب للأمم في حال الإصلاح [الآية: 117] . 15- تهديد المعرضين عن دعوة الحق بالعذاب، وجعل العاقبة للمتقين. ويلاحظ أن التهديد والترغيب أمران متلازمان مفيدان في إصلاح الأفراد والجماعات، وبناء الأمة وتحقيق غلبتها على خصومها، لذا اقترنا غالبا في القرآن. 16- ختمت السورة بما بدئت به من الأمر بعبادة الله وحده والاتكال عليه، والتحذير من عقابه: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، ليتناسق البدء مع الختام. إحكام القرآن ودعوته إلى عبادة الله والتوبة إليه والإيمان بالبعث [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

الإعراب:

الإعراب: كِتابٌ أُحْكِمَتْ كتاب: كتاب: خبر مبتدأ محذوف، وأُحْكِمَتْ صفة له، وقال الرازي: الر اسم للسورة وهو مبتدأ، وكِتابٌ خبره، وذكر البيضاوي الوجهين. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أي من عنده إحكامها وتفصيلها. أَلَّا تَعْبُدُوا إما أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: قال: ألا تعبدوا إلا الله، أو آمركم ألا تعبدوا إلا الله، مثل قوله تعالى: أَنِ امْشُوا [ص 38/ 6] أي امشوا. وإما أن تكون مفعولا لأجله، على معنى: لئلا تعبدوا إلا الله. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا معطوف على أَلَّا تَعْبُدُوا على الوجهين السابقين. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه. يُمَتِّعْكُمْ مجزوم لأنه جواب الأمر، وهو قوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ وجزم جواب الأمر لأنه جواب لشرط مقدّر. وَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولّوا، فحذفت إحدى التاءين، لاجتماع حرفين متحركين من جنس واحد، فاستثقلوا اجتماعهما، فحذفوا إحداهما تخفيفا. البلاغة: أُحْكِمَتْ.. وفُصِّلَتْ بينهما طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم، وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور. وكذلك بين نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ طباق أيضا. عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إضافة العذاب إلى اليوم الكبير وهو يوم القيامة للتهويل. المفردات اللغوية: الر تقرأ بأسمائها ساكنة، كما ذكر في أول سورة يونس، فيقال: ألف، لام، را، وهي للتحدي والإلزام للعرب الفصحاء، لإثبات إعجاز القرآن وكونه من عند الله، أو هي حروف تنبيه مثل: ألا، لما سيلقى بعدها. والسور المفتتحة بمثل تلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران. والسور المكية تعنى بإثبات التوحيد والبعث والوحي وإعجاز القرآن، وفيها غالبا قصص الأنبياء.

التفسير والبيان:

أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما محكما لا خلل فيه من جهة اللفظ والمعنى ثُمَّ فُصِّلَتْ بينت الأحكام والقصص والمواعظ، وبالإحكام والتفصيل يصبح القرآن كامل الصورة والمعنى. وقال الزمخشري: ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد (أي عقود النساء) بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد، أي بيّن ولخص «1» . وقوله: ثُمَّ فُصِّلَتْ ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل «2» . مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي من عند الله الحكيم الصنع في أقواله وأفعاله وأحكامه، العليم بأحوال الناس والكون، في الظاهر والباطن، الخبير بعواقب الأمور. نَذِيرٌ بالعذاب إن كفرتم أو أشركتم وَبَشِيرٌ بالثواب إن آمنتم أو التزمتم عقيدة التوحيد وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك والمعاصي ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا بالطاعة يُمَتِّعْكُمْ في الدنيا مَتاعاً حَسَناً بطيب عيش وسعة رزق. والمتاع: كل ما ينتفع به في المعيشة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الموت أو العمر المقدّر وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يعط كل محسن ذي فضل في العمل جزاءه وَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولوا، فحذفت إحدى التاءين، أي تعرضوا عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة أو يوم الشدائد، وقد ابتلي مشركو مكة بالقحط حتى أكلوا الجيف. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في ذلك اليوم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ القادر على كل شيء، ومنه الثواب والعذاب، وكأنه تقرير لكبر ذلك اليوم. التفسير والبيان: موضوع هذه الآيات تقرير أصول الدين وهي إحكام القرآن وتفصيله، والدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والإنابة إليه، والإيمان بالبعث والجزاء في عالم الآخرة. والمعنى: هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر، محكم النظم والمعنى، لا خلل

_ (1) الكشاف: 2/ 89 (2) الكشاف: 2/ 90

فيه ولا نقص، فهو كامل الصورة والمعنى لأنه صادر من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه، الخبير بحوائج عباده وبعواقب الأمور. ففي هذه السورة كغيرها من السور تبيان حقائق الاعتقاد وتفنيد أباطيل الكافرين، وتوضيح أسلم الأحكام التشريعية للحياة، وأقوم المناهج والفضائل والمواعظ من خلال القصص القرآني والتنبيه إلى غرر الشمائل والأخلاق. أَلَّا تَعْبُدُوا.. أي أن هذا الكتاب المحكم نزل بألا تعبدوا غير الله ولا تشركوا به شيئا، أو أنه نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، أو لئلا تعبدوا إلا الله، وهذا كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي، وقل للناس: إنني كائن لكم من جهة الله، نذير من العذاب، إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه، كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال: «يا معشر قريش، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم، ألستم مصدّقي؟» فقالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . وهذا بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلّم ووظيفته وهي الإنذار لمن عصاه بالنار، والتبشير لمن أطاعه بالجنة. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... أي: وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة، أي أن تطلبوا المغفرة من الشرك والكفر والمعاصي، وأن تتوبوا منها إلى الله عز وجل بالندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب في المستقبل،

والاستمرار على ذلك، فإن استغفرتم وتبتم من الذنوب، يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا، أي يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة طيبة ورزق واسع ونعمة متتابعة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يتوفاكم، كقوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل 16/ 97] . والجمع بين الاستغفار والتوبة للدلالة على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة، والاستغفار مطلوب بالذات، والتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، هذا على أساس أنهما معنيان متباينان لأن الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والتوبة: الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها، والمعنى: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. ومن قال: الاستغفار توبة، جعل قوله: ثُمَّ تُوبُوا بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والعبادة. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل جزاء فضله لا يبخس منه. والتمتيع في الدنيا والثواب في الآخرة جمع بين الجزاءين، إلا أن جزاء الدنيا موقوت محدود، وجزاء الآخرة دائم مطلق غير مقيد بشيء. وفي هذا دلالة على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه تعالى، وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطائه، كما أن فيه إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس، لا لكل فرد فرد، وأما جزاء الآخرة فمخصوص بكل فرد على حدة. ومن عادة القرآن أن يذكر الشيء وفائدته للترغيب فيه، ثم يذكر مقابله للترهيب والتهديد، والتنفير، فقال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي وإن أعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإني أخشى عليكم عذاب يوم كبير هو يوم القيامة، وصف بالكبر لما فيه من الأهوال، كما وصف بالعظم والثقل والشدة والألم، لما فيه من العظائم والشدائد والأثقال والآلام.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم بيّن عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، ومنه العذاب والثواب، أي أن معادهم يوم القيامة، إلى الله القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة. ولفظ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره. وهذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذّب رسله، فإن العذاب يناله يوم القيامة، لا محالة. وهو ترهيب يقابل الترغيب السابق. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- آي القرآن الكريم محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل، منظمة بنظم محكم اللفظ والمعنى، لا تناقض فيها ولا اضطراب، مفصلة تفصيلا تاما شاملا جميع الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها، فهي كاملة الصورة والمعنى، محققة للمصالح البشرية في الدنيا والآخرة. وقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ دليل على وجود الصانع الخالق. 2- دعوة القرآن صريحة تتجه نحو تحقيق العبودية للخالق المنعم المتفضل، وتخصيصه وإفراده بالعبادة، دون أي أحد سواه، فالآية مشتملة على الأمر بعبادة الله، ومنع عبادة غير الله. 3- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم هي الإنذار والتخويف لمن عصاه بالعذاب، والتبشير بالرضوان والجنة لمن أطاعه. 4- واجب الإنسان الاستغفار، أي طلب المغفرة من الشرك والذنوب، والتوبة والإنابة إلى الله بالطاعة والعبادة، فمعنى قوله تُوبُوا ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذابين.

إعراض الكفار عن الحق [سورة هود (11) آية 5] :

5- إن ثمرة الاستغفار والتوبة وهو الفضل الإلهي على الإنسان المؤمن الطائع أمر عظيم واسع شامل الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تمتيع إلى نهاية العمر المقدر بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، وعدم الاستئصال بالعذاب كما فعل بمن أهلك من الأمم السابقة، فالمتاع الحسن: وقاية من كل مكروه وأمر مخوف، واستمتاع بطيبات الحياة. وفي الآخرة إيتاء كل ذي عمل من الأعمال الصالحة جزاء عمله. ودلت الآية على أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط. 6- مرجع أو معاد الخلائق جميعا بعد الموت إلى الله تعالى القادر على كل شيء من ثواب وعقاب. وهذا ترهيب بعد الترغيب السابق. إعراض الكفار عن الحق [سورة هود (11) : آية 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) البلاغة: ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يعرضون عن الحق، ويطوون صدورهم على ما فيها من حقد وحسد وعداوة النبي صلى الله عليه وسلّم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي يحاولوا الخفاء من الله أو ليتواروا عن محمد يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يتغطون بها يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ في أفواههم، فالله تعالى يستوي في علمه سرهم وعلنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب وأحوالها.

سبب النزول:

سبب النزول: روى البخاري عن ابن عباس في قوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال: كان أناس يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. أي كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، أي في المسلمين. وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال: كان أحدهم إذا مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلّم ثنى صدره لكيلا يراه، فنزلت. وقيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد، كيف يعلم؟ وذكر الواحدي والقرطبي: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما يحب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء. والظاهر لي أن الآية في إعراض الكفار عن الحق، بدليل ما قبلها وما بعدها. المناسبة: بعد وصف حالة الكفار وبيان أنهم إن أعرضوا عن عبادة الله وطاعته، تعرضوا لعذاب يوم كبير، بيّن الله تعالى أن التولي عن ذلك باطنا أو سرا كالتولي عنه ظاهرا، وأن إعراضهم متصف بالحيرة والجهل. التفسير والبيان: ألا إن الكفار أو المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله، يعرضون عن

فقه الحياة أو الأحكام:

النبي صلى الله عليه وسلّم بصدورهم، كيلا يراهم النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا يراهم أحد، إمعانا في العناد والكفر. وقوله: أَلا للتنبيه. ألا حين يستغشون ثيابهم ويغطون بها رؤوسهم، ليستخفوا أو يتواروا من محمد أو من الله، يظنون أن الله لا يراهم، مع أن الله يعلم ما يسرون في قلوبهم، وما يعلنون بأفواههم، ويعلم ما يسرون ليلا، وما يظهرون نهارا. وكرر أَلا للتنبيه على وقت استخفائهم. وعود الضمير إلى الله أولى، لقوله تعالى: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. إن الله عليم بالأسرار ذات الصدور، وبخواطر القلوب، فليحذر من يظن أن أسراره خفية على الله، وليعلم أن الله مطلع على كل شيء في الوجود، وما تنطوي عليه النفوس من شكوك وأوهام، ويجازي كل إنسان بما أسر وأعلن. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على تصميم الكفار في إعراضهم عن سماع القرآن، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الإيمان برسالته، وأنهم بهذا الإعراض أغبياء جاهلون. ودلت أيضا على أنه لا فائدة في استخفائهم وتواريهم عن الله أو عن محمد صلى الله عليه وسلّم لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود من النيات والضمائر والسرائر، ومن الأقوال والأفعال العلنية، يستوي علمه بالسر مع علمه بالجهر، ولا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم.

فضل الله وعلمه وقدرته [سورة هود (11) الآيات 6 إلى 7] :

فضل الله وعلمه وقدرته [سورة هود (11) : الآيات 6 الى 7] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) المفردات اللغوية: وَما مِنْ دَابَّةٍ: مِنْ: زائدة، والدّابة في اللغة: كل ما يدبّ على الأرض، زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه، وإطلاق الدّابة على الخيل والبغال والحمير إطلاق عرفي. رِزْقُها غذاؤها ومعاشها، لتكفله إياها تفضّلا ورحمة. وإنما أتى بلفظ الوجوب بهذا التّعبير تحقيقا لوصوله وضمانه وحملا على التّوكل فيه. مُسْتَقَرَّها مكانها من الأرض ومسكنها. وَمُسْتَوْدَعَها ما كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة، والمراد بالمستقر والمستودع: أماكن الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلّ مما ذكر، أي كلّ واحد من الدواب وأحوالها ورزقها ومستقرّها ومستودعها مذكور في اللوح المحفوظ، مكتوب فيه مبيّن، والمراد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها، وكونه قادرا على الممكنات بأسرها، لتقرير التوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي وكان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السّموات والأرض. وليس المعنى على سبيل كون أحدهما ملتصقا بالآخر، وإنما كقوله: السماء على الأرض. والماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. والعرش: مركز التنظيم للملك ومصدر التدبير، وهو أعظم من السموات والأرض. لِيَبْلُوَكُمْ متعلّق بخلق، أي خلق ذلك لحكمة بالغة هي أن يعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم المختبر لأوضاعكم كيف تعملون. والابتلاء: الاختبار والامتحان. أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أطوع لله، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، وأما أعمال الكافرين فتتفاوت إلى حسن

المناسبة:

وقبيح. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما هذا القرآن الناطق بالبعث، والذي تقوله يا محمد إلا سحر، أي تخييل وتمويه، مُبِينٌ أي بيّن ظاهر البطلان. ويجوز تضمين قُلْتَ معنى ذكرت. ومعنى قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر، تشبيها له به. المناسبة: لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أردفه بما يدلّ على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل شيء، فهو الخالق والرّازق والعالم بأحوال البشر، والباعث لهم بعد الموت، فالبعث واقع لا محالة. التفسير والبيان: ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجوّ إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها، المعدّ لطعامها بعد البحث والحركة والعمل، ويعلم مستقرّها ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرّها، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها، ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام وأيام الحياة والممات. وكل ما ذكر من كلّ الدّواب وأرزاقها ومستقرّها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق. وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة عَلَى المفيدة للوجوب تفضّلا منه ورحمة، إلا أن الرّزق بمقتضى سنّته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات، أي أن الحصول على الرّزق مرتبط بالسّعي والعمل، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق، وهدايتهم إلى الطّلب والتّحصيل، كما قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] .

ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام 6/ 38] ، وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] . وبعد أن أثبت تعالى بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات، أثبت بكونه خالقا السموات والأرض كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وفي الحقيقة كل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته، فقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... أي أنه تعالى يخبر عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق أو أبدع وكوّن السموات والأرض في ستة أيام من أيام الله في الخلق والتكوين، لا كأيامنا الحالية، وهو الظاهر بدليل قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج 22/ 47] وقوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] . ويقدر علماء الفلك اليوم من أيام التكوين بألوف الألوف من سنوات الدنيا. وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ العرش: أعظم المخلوقات، ولا نعلم حقيقته وإنما نؤمن به كما أخبر عنه تعالى، وأما استواؤه عليه، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما روي عن أم سلمة رضي الله عنها ومالك وربيعة. وهذه الآية تدل على كيفية بدء الخلق قبل أن يخلق الله السموات والأرض، وعلى أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض، وأن العرش كان قبل أن يخلق شيئا، وأن ما تحت العرش هو الماء أصل المادة الحية، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً، فَفَتَقْناهُما، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ

[الأنبياء 21/ 30] وهذا ما يسميه علماء الفلك بنظرية السديم، ويعبر عنها القرآن بالدخان، أو الماء أو متن الريح. ثم ذكر تعالى علة الخلق العجيب بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ولم يخلق ذلك عبثا، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] . والتكليف بالعبادة والطاعة واجتناب المعاصي للاختبار والامتحان، ومعرفة الأحسن عملا: وهو العمل الخالص لله عز وجل، القائم على أساس شريعة الله، فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين حبط وبطل، فمن شكر وأطاع أثابه الله، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: لِيَبْلُوَكُمْ أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم، كيف تعملون. وبما أن للابتلاء والاختبار ثمرة، فلا بدّ من حصول الحشر والنشر، المقتضي تخصيص المحسن بالرحمة والثواب، وتخصيص المسيء بالعقاب، ولا بد للعاقل من الاعتراف بالمعاد والقيامة، لذا قال تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ.... والمعنى ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت، وذكرت ذلك للمشركين، لقال الكافرون: هذا سحر، أي غرور باطل لأن السحر في مفهومهم باطل. ومعنى الجملة: ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- تكفل الله بأرزاق المخلوقات، وضمنها لهم تفضلا من الله تعالى لهم، ورحمة بهم. وهذا دليل على اتصافه تعالى بالعدل والرحمة. ولكن الرزق مرتبط بالسعي والكسب والعمل، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك 67/ 15] . 2- علم الله عز وجل محيط شامل بكل مخلوقات الأرض ودوابها البرية والبحرية والجوية، بدءا من وجود مادتها في الأصلاب والأرحام، إلى ظهورها في ساحة الحياة الحركية، إلى تنقلاتها وتحركاتها ومسيرها حيث تأوي إليه، وإلى الموضع الذي تموت فيه فتدفن. 3- الله خالق السموات والأرض وما بينهما من كائنات حية، وهاتان الآيتان: وَما مِنْ دَابَّةٍ ووَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ تدلان على كمال علم الله تعالى وكمال قدرته. 4- العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء. والله تعالى أمسك الماء لا على قرار، والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات، من غير دعامة تحته، ولا علاقة فوقه. 5- الله خلق السموات لابتلاء واختبار المكلف، وهذا يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكبير لمصلحة المكلفين. 6- الواجب قطعا وعقلا حصول الحشر والنشر، والاعتراف بالمعاد والقيامة، لإقامة العدل بين الخلائق، وللجزاء الذي يميز بين المحسنين والمسيئين، فيجازى المحسن بالثواب والرحمة، والمسيء بالعقاب والعذاب.

موقف الإنسان المؤمن والكافر عند النعمة والنقمة [سورة هود (11) الآيات 8 إلى 11] :

موقف الإنسان المؤمن والكافر عند النعمة والنقمة [سورة هود (11) : الآيات 8 الى 11] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) الإعراب: وَلَئِنْ أَخَّرْنا اللام للقسم، والجواب: لَيَقُولُنَّ. وَلَئِنْ أَذَقْنَا اللام في لَئِنْ موطئة لقسم مقدّر، وليست جوابا للقسم، وإنما جوابه قوله: إنه ليئوس كفور. وأغنى جواب القسم عن جواب الشرط، كما في قوله تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء 17/ 88] فرفع لا يَأْتُونَ على أنه جواب القسم الذي هيأته اللام، وتقديره: والله لا يأتون. ولو كان جواب الشرط، لكان مجزوما، فلما رفع دل على أنه جواب القسم، واستغني به عن جواب الشرط. أَلا يَوْمَ منصوب بخبر لَيْسَ مقدم عليه، وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في موضع نصب على الاستثناء من: الْإِنْسانَ لأن المراد به الجنس المفيد للاستغراق، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر 103/ 2] . وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] . وإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق 96/ 6] . وقيل: هو استثناء منقطع. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مبتدأ وخبر.

البلاغة:

البلاغة: لَيَؤُسٌ كَفُورٌ من صيغ المبالغة، أي شديد اليأس، كثير الكفران. نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: إِلى أُمَّةٍ المراد: إلى أجل معلوم، أي إلى مجيء أوقات أمة. والأمة في الأصل: الجماعة من جنس واحد، مثل: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص 28/ 23] ، وقد تطلق على الدين والملة، كما في قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف 43/ 22] وقد تطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل 16/ 120] وقد تطلق على الزمن، كما في قوله تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف 12/ 45] وكما هنا. وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] . وفي الصحيح: «فأقول: أمتي أمتي» . لَيَقُولُنَّ استهزاء ما يَحْبِسُهُ ما يمنعه من النزول مَصْرُوفاً مدفوعا وَحاقَ نزل بهم العذاب وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ المراد بالإذاقة هنا: الإعطاء القليل. والمراد بالإنسان هنا: الكافر أو مطلق الإنسان رَحْمَةً غنى وصحة نَزَعْناها سلبناها إياه لَيَؤُسٌ شديد اليأس من عود تلك النعمة، قنوط من رحمة الله كَفُورٌ شديد الكفر به. نَعْماءَ هي النعمة والنّعمى: وهي الخير والمنفعة من صحة وغنى، ويقابلها: الضراء والضّر: وهو الألم من فقر وشدة السَّيِّئاتُ المصائب لَفَرِحٌ بطر مغتّر بالنعمة فَخُورٌ متعاظم على الناس بسبب النعم صَبَرُوا على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في النعماء وَأَجْرٌ كَبِيرٌ هو الجنة. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلّم بقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ حكى عنهم في الآية الأولى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا نوعا آخر من أباطيلهم، وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، أخذوا في الاستهزاء، وقالوا: ما سبب حبسه عنا؟

التفسير والبيان:

وبعد أن ذكر أن عذاب الكفار، وإن تأخر، فلا بد من مجيئه، ذكر بعده ما يدل على كفرهم واستحقاقهم لذلك العذاب، وهو سوء طبع الإنسان، ففي حال النعمة يبطر ويتفاخر، وفي حال الضر يجحد وييأس من رحمة الله، إلا من صبر وشكر وعمل صالحا. التفسير والبيان: والله لئن أخرنا العذاب عن الكفار أو المشركين، بعد أن توعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، إلى حين من الزمان، على وفق سنتنا وحكمتنا: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] لقالوا استهزاء وتكذيبا واستعجالا: ما يحبسه؟ أي ما الذي يؤخر هذا العذاب عنا؟ ومعنى إِلى أُمَّةٍ إلى أجل معلوم وحين معلوم. فأجابهم الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزئون به، لم يصرفه عنهم صارف، وسيحيط بهم حينئذ من كل جانب، جزاء بما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور 52/ 7- 8] والمضاف الذي هو جزاء محذوف. ثم أخبر تعالى عن صفات الإنسان الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين: أنه إذا أعطاه الله نعمة من صحة ورزق وأمن وولد بارّ، رحمة منه، ثم سلبه تلك النعمة، وأبدله بها نقمة من مرض أو فقر أو خوف أو موت أو كارثة، أضحى شديد اليأس من رحمة ربه، كثير الكفر والجحود للماضي ولما عليه من نعم أخرى، فهو قانط بالنسبة للمستقبل، جاحد لماضي الحال كأنه لم ير خيرا، ولما عليه الآن من النعم، وذلك لعدم التزامه بفضيلة الصبر والشكر. وإن أعطاه الله نعمة من بعد ضراء، كشفاء من مرض، وقوة من بعد ضعف، ويسر من بعد عسر، لقال: ذهب ما كان يسوؤني من المصائب، ولن

ينالي بعد اليوم ضيم ولا سوء، وأصبح شديد الفرح والبط بتلك النعمة أو بما في يده، متفاخرا متعاظما على غيره، محتقرا من دونه. فهو في موقفه هذا لا يقابل النعمة بالشكر عليها، بل يبطر ويفخر على الناس، ولا يواسي البائس الفقير. ويلاحظ أنه عبر في حال النعمة بقوله: أَذَقْنَا والذوق: إدراك الطعم، ليدل على التمتيع بالنعمة بأقل أوصافها، وفي حال الضراء بقوله: مَسَّتْهُ والمس: مبدأ الوصول، ليشعر بأن الضر في أقل مرتبة من الإصابة. وهناك مقابلة بين التعبير ب أَذَقْنَا الذي يفيد اللذة والاغتباط، وقوله: نَزَعْناها الذي يفيد شدة تعلقه بالنعمة والحرص عليها. وكل هذا يدل على أن في الإنسان طبائع سيئة وأمراضا فتاكة وهي اليأس من رحمة الله والكفر بنعمته، والبطر والفخر والتكبير، ولا علاج لها إلا بالصبر والإيمان والرضا بالقضاء والقدر. والمراد بالإنسان مطلق الإنسان بدليل استثناء الصابرين الذين يعملون الصالحات منه بقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن المقصود بالإنسان المؤمن والكافر. وحينئذ يكون الإنسان شاملا المؤمن والكافر، والاستثناء متصل، قال القرطبي: وهو حسن. وفي قول آخر: إن المراد منه الكافر، حملا على المعهود السابق في الآية المتقدمة وهو الكافر، ولأن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر، وهي صفات: اليؤوس، والكفور، وقوله: ذهب السيئات عني، والفرح، والفخور، وتلك هي صفات الكافرين، وليست من صفات أهل

فقه الحياة أو الأحكام:

الدين، وحينئذ يجب حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، حتى لا تلزم هذه المحذورات. ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان الصابرين العاملين الصالحات بقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... أي إلا الذين صبروا على الشدائد والمكاره كالجهاد والفقر والمصيبة، وعملوا الصالحات أي الأعمال الطيبة المفيدة في حال الرخاء أو النعمة والعافية، كأداء الفرائض وشكر النعمة وأعمال البر والخير والإحسان للناس، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم بعملهم الصالح أو بما يصيبهم من الضراء، وأجر كبير في الآخرة على ما عملوا من بر وخير وما أسلفوا في زمن الرخاء، أقله الجنة. وفي معنى الآية قوله تعالى: وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر 103/ 1- 3] والحديث النبوي الثابت: «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب، ولا وصب «1» ، ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» وفي الصحيحين: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء فصبر، كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن» . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات ما يأتي: 1- أقسم الله تعالى على أن كل عذاب أوعد الله أو الرسول به الكفار آت

_ (1) النّصب: التعب، والوصب: المرض.

لا ريب فيه، ولا يصرفه عنهم صارف، وهو نازل محيط بهم، جزاء ما كانوا به يستهزئون. والمراد من العذاب إما عذاب الدنيا وهو عذاب الاستئصال أو الهزيمة الساحقة في معركة فاصلة كمعركة بدر، وإما عذاب الآخرة. وأخبر تعالى عن أحوال القيامة بلفظ الماضي: وَحاقَ مبالغة في التأكيد والتقرير. 2- وأقسم عز وجل أيضا على أن الإنسان (وهو اسم شائع للجنس في جميع الناس، أو الكفار) إن وجد أقل القليل من الخيرات العاجلة وهو الإذاقة والذوق (وهو أقل ما يوجد به الطعم) يقع في التمرد والطغيان، وإن أدرك أقل القليل من المحنة والبلية، يقع في اليأس والقنوط والكفر. واليؤوس: من الرحمة، والكفور للنعم: الجاحد لها، وكلاهما من صيغ المبالغة، يراد به التكثير، كفخور للمبالغة. وتفسير هذه الظاهرة: هو أن الكافر يعتقد أن سبب حصول تلك النعمة مصادفة ومجرد اتفاق. وأما المسلم فيعتقد أن تلك النعمة من الله تعالى وفضله وإحسانه، فلا يحصل له اليأس، ويأمل خيرا منها، ويصبر على فقدها كما قال تعالى: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ [القلم 68/ 32] وقال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] . 3- وأقسم تعالى ثالثا على أن الإنسان إن أمدّه الله بنعمة كالصحة والرخاء والسعة في الرزق، بعد ضر مسّه كالفقر والشدة، قال: ذهب السيئات عني أي المصائب التي تسوء صاحبها من الضر والفقر، وهو فرح (بطر) فخور (متعال على الناس) بما ناله من السعة، وينسى شكر الله عليه. وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، كما قال البيضاوي. 4- استثنى الله تعالى من أوصاف الإنسان الذميمة وأحواله حالة المؤمنين

مطالبة مشركي مكة بإنزال كنز أو مجيء ملك مع النبي صلى الله عليه وسلم وتحديهم بالقرآن [سورة هود (11) الآيات 12 إلى 14] :

الذين يصبرون على الشدائد والمكاره، ويكونون عند الرخاء والسعة من الشاكرين، ويعملون الأعمال الطيبة الخيّرة في الدنيا، فهؤلاء لهم من الله مغفرة على ما صبروا على عمل الخير وحال المصاب، ولهم ثواب كبير أقله الجنة. وهذا جمع بين المطلوبين: زوال العقاب والخلاص منه، وهو المراد من قوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والفوز بالثواب، وهو المراد من قوله: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهذا دليل على إعجاز القرآن لا بألفاظه فحسب، بل بمعانيه أيضا. أما الكافر عند البلاء فلا يكون عادة من الصابرين، وعند الفوز بالنعمة لا يكون من الشاكرين لأن الشكر الحقيقي لا يكون إلا بالإيمان بالمنعم، والصبر لا ثواب له عليه ما لم ينبعث من الإيمان، وكثيرا ما يجزع وينفد صبره وربما ينتحر لأنه لا يجد سلوى أو عزاء له بمصابه يعوضه عنه في الآخرة لعدم إيمانه بالبعث والحساب والجزاء الحق من الله تعالى وحده. والخلاصة: أن الآيات موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر، ومنشأ الفرق هو الإيمان والكفر. 5- أحوال الدنيا غير باقية، بل هي متغيرة متحولة من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات، وبالعكس وهو الانتقال من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات. مطالبة مشركي مكّة بإنزال كنز أو مجيء ملك مع النّبي صلى الله عليه وسلّم وتحدّيهم بالقرآن [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

الإعراب:

الإعراب: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ: ضائِقٌ: عطف على تارِكٌ، وصَدْرُكَ مرفوع به، وهاء بِهِ تعود على ما أو على بَعْضَ، أو على التّبليغ أو على التّكذيب. أَنْ يَقُولُوا في موضع نصب، أي كراهية أن يقولوا. المفردات اللغوية: فَلَعَلَّكَ هنا للاستفهام الإنكاري، الذي يراد به النّفي أو النّهي، أي لا تترك. والأصل أن «لعلّ» للتّرجي وتوقع المحبوب، وقد تكون للإعداد والتّهيئة، كما في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 2/ 21 وغيرها] ، وقد تكون للتّعليل كما في قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] . تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلغهم إياه، وهو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم واستهزائهم، ولا يلزم من توقع الشيء وجوده ووقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرّسل من الخيانة في الوحي مانعا. وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ عارض لك أحيانا ضيق الصّدر، بتلاوته عليهم، لأجل أن يقولوا، أي مخافة أن يقولواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي هلا صحبه كنز ينفقه لكسب الأتباع كالملوك، والكنز: المال الحاصل بغير كسب. أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه كما اقترحنا. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، لا الإتيان بما اقترحوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ رقيب حفيظ للأمور، فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم. أَمْ يَقُولُونَ: أَمْ بمعنى بل. افْتَراهُ الضمير لما يوحى وهو القرآن. بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة والبيان وحسن النّظم، تحدّاهم أولا بالإتيان بمثل القرآن، ثم بعشر سور، ثم لما عجزوا عنها تحدّاهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كلّ واحد. مُفْتَرَياتٍ مختلقات

المناسبة:

من عند أنفسكم، إن صحّ أني اختلقته من عند نفسي، فإنكم عرب فصحاء مثلي، تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر لمعرفتكم بأساليب البيان خطابة وشعرا ونثرا. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إلى المعاونة على المعارضة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي بالإتيان بما دعوتم إليه للمعاونة. والاستجابة: الإجابة. وجمع ضمير لَكُمْ إما لتعظيم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم أيضا. فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ خطاب للمشركين: فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بعلم الله فلا يعلمه إلا الله، ولا يقدر عليه سواه، وليس افتراء عليه. وَأَنْ مخففة أي أنه. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إن كان الخطاب للمؤمنين؟ وهل أسلموا بعد هذه الحجة القاطعة إن كان الخطاب مع الكفار؟ المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر مبين، وإعراضهم عنه كيلا يسمعوه، ذكر تكذيبهم للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللقرآن، وظنّهم أنه مثل الملوك مدعوم بالمال للإغراء وكسب الأتباع، ومطالبتهم دعمه بالكنز أو بالملك، وتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم. سبب النّزول: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآية. التفسير والبيان: لعلك أيها الرّسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به، مثل تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، أو لأجل أن يقولوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ

والمراد بهذا الاستفهام الإنكاري النّفي أو النّهي، أي لا تترك شيئا مما أوحينا إليك من تبليغه المشركين وغيرهم، ولا تتضايق من تلاوته عليهم. ويقصد من ذلك المبالغة في التّحذير، والإغراء بأداء الرّسالة، وعدم المبالاة بكلماتهم الفاسدة، تأكيدا على تبليغ كامل الوحي، سواء رضي الناس أو غضبوا، لأن مجاملتهم غير مفيدة. ولا يعني هذا وقوع المنهي عنه، لعصمة الرّسول من التّقصير أو الخيانة في الوحي، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن يخون في الوحي، والتّنزيل، وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشّك في كلّ الشّرائع والتّكاليف، وذلك يقدح في النبوة. أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ.. أي لا تتضايق لأجل أن يقولوا، أو كراهة أن يقولوا «1» : لولا أي هلا أنزل عليه كنز من عند ربّه يغنيه عن التّجارة والكسب، ويدلّ على صدقه، والقائل عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أو ينزل معه ملك من السماء يؤيد دعوته، كقوله تعالى: وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان 25/ 7- 8] . وإنما قال: ضائِقٌ ولم يقل «ضيق» ليشاكل تارِكٌ الذي قبله، ولأن الضائق عارض طارئ غير لازم، والضيق ألزم منه. فهذا إرشاد من الله تعالى لنبيّه ألا يضيق صدره بتبليغ الوحي والرّسالة، وألا يثنيه شيء عن دعوتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر 15/ 97] .

_ (1) وذلك مثل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 4/ 176] أي لئلا تضلّوا.

ثم أكّد الله تعالى مهمّة نبيّه فقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ... أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك، غير مبال بما يقولون، ولا آت بما يقترحون، ولك أسوة بإخوانك من الرّسل قبلك، فإنهم كذّبوا وأوذوا، فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ، والله هو الرّقيب على عباده، الحفيظ للأمور، فتوكّل عليه، ولا تبال بهم، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أعمالهم. وهذا كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] ، وقوله تعالى: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] ، وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] . ثم أبان الله تعالى إعجاز القرآن الكريم بدليل تحدّي العرب به، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. أي بل يقول مشركو مكة: افترى محمد القرآن أي اختلقه من عند نفسه، فإن كان ما يزعمون صحيحا، فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات، تضارعه في الفصاحة والبلاغة، وإتقان الأحكام والتّشريعات في شؤون الحياة المختلفة من سياسة واجتماع واقتصاد ونظام تعامل، والإخبار بقصص الأنبياء والغيبيات، وهم أهل السّبق في البيان والتّفوق في ملكة اللسان. والمختار عند أكثر المفسّرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة، وقيل: بسبب الأسلوب، وقيل: بسبب عدم التناقض، وقيل: بسبب اشتماله على العلوم الكثيرة، وقيل: بسبب إخباره عن المغيبات. ولكنهم عجزوا لأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، بل ولا بأقصر سورة من مثله لأن كلام الرّب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء. وهذه الآية اشتملت على خطابين: خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: قُلْ: فَأْتُوا..، وخطاب الكفار بقوله: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ...

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم قال الله تعالى بعد هذا التّحدي: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ.. أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن القرآن نزل من عند الله، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه، وتشريع بأمره ونهيه لا يبلغون مستواه. وجاء ضمير لَكُمْ بصيغة الجمع لأنه خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله تعالى. واعلموا أنه لا إله موجود ومعبود بحقّ إلا الله عزّ وجلّ. فهل أنتم بعد قيام الحجة القاطعة على أنه، أي القرآن، من عند الله مسلمون، مؤمنون بالله وبهذا القرآن، وبما تضمنه من عقائد ووعد ووعيد وأخلاق وآداب ونظام شامل للحياة؟ وهذا يدلّ على أن الخطاب للكفار، فإن كان الخطاب للمسلمين فمعناه: فهل أنتم مخلصون؟ ومعنى هذا أنه بعد ظهور الدّليل القاطع على صدق النّبي صلى الله عليه وسلّم وصدق القرآن، يكون كفرهم مجرد عناد وإعراض واستكبار. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- وجوب تبليغ الوحي بكامله دون إنقاص أو إرجاء شيء منه، ولا يتنافى هذا الحكم مع مبدأ عصمة الرّسول صلى الله عليه وسلّم عن الخيانة في الوحي والتّنزيل، وترك بعض ما يوحى إليه، وهذا كقوله تعالى في تأكيد الأمر بإبلاغ الوحي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة 5/ 67] . وهذا الحكم لا يختلف سواء قلنا: إن معنى الكلام في آية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ.. الاستفهام الإنكاري أي هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما

من أراد الدنيا وحدها حرم نعيم الآخرة [سورة هود (11) الآيات 15 إلى 16] :

سألوك؟ أو معنى الكلام النّفي مع استبعاد، أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك لأن مشركي مكة قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلّم: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتّبعناك، فهمّ النّبي صلى الله عليه وسلّم أن يدع سبّ آلهتهم فنزلت. 2- لا مجاملة ولا مهادنة ولا إرجاء في تبليغ الوحي، فسواء كره الناس تبليغهم ما أنزل الله أم قالوا: لولا أنزل عليه كنز أو ملك، فلا تراجع عن تبليغ الوحي. 3- تحدّى الله العرب في هذه السّورة بأن يأتوا بعشر سور مثل سور القرآن، بعد أن كان تحدّاهم بالإتيان بمثل القرآن، فعجزوا في الحالين، كما عجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه، في سورة أخرى. والتحدي ليثبت أن القرآن كلام الله المعجز. 4- ثبت بقوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ عجزهم عن المعارضة، فقامت عليهم الحجة بأن القرآن ليس من عند محمد أو غيره، وإنما هو كلام الله، وليعلم الجميع أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ. 5- إن وجوه إعجاز القرآن كثيرة منها البلاغة والفصاحة، ومنها الاشتمال على الغيبيات، ومنها الأحكام التّشريعية، ومنها مواكبه الاكتشافات العلمية الحديثة. من أراد الدنيا وحدها حرم نعيم الآخرة [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)

الإعراب:

الإعراب: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ابتداء وخبر، أي وباطل عمله. المفردات اللغوية: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي من قصد بعمله الطّيب وإحسانه وبرّه الدّنيا. نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نؤتهم ثمار أعمالهم وافية تامة، جزاء ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم. فِيها بأن نوسع عليهم رزقهم. وَهُمْ فِيها أي الدّنيا. لا يُبْخَسُونَ ينقصون شيئا من أجورهم. حَبِطَ فسد وبطل ولم ينتفعوا به. سبب النّزول: قيل: إن الآية مختصّة بالكفار، أو بالمنافقين، وقيل: إنها عامّة مطلقة في أهل الرّياء، والظاهر أن المراد بهذا العام هو الكافر لأن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لا يليق إلا بالكفار. المناسبة: بعد أن أثبت الله تعالى أن القرآن من عند الله تعالى، وليس بالمفترى من محمد صلى الله عليه وسلّم كما يزعم المشركون، ذكر أن سبب المعارضة والتّكذيب هو الهوى والشهوة ومحض الحسد وحظوظ الدّنيا. التفسير والبيان: من كانت إرادته مقصورة على حبّ الدّنيا وزينتها، من متاع ولباس، وزينة وأثاث، ولم يكن طالبا السعادة الأخروية، يوصل الله إليه جزاء عمله في الدّنيا من الصّحة والرّياسة وسعة الرّزق وكثرة الأولاد، ويوفّيه ثمرة جهده تماما دون أن ينقصه شيئا من مردود العمل ونتيجة الكسب لأن الأرزاق منوطة بالأعمال، لا بالنّيات.

فقه الحياة أو الأحكام:

وذلك يدلّ على أن ثمرة العمل في الدّنيا مرتبطة بالكسب وتقدير الله، وأما جزاء الآخرة فهو محصور بإرادة الله وفضله وإحسانه. وأولئك الذين لا همّ لهم إلا الدّنيا، لا حظّ لهم في الآخرة إلا النّار في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا في الدّنيا ثمرة العمل الحسن، وبقي لهم في الآخرة وزر العمل السّيء، وتبدد أثر عملهم في الدّنيا، وبطل ثواب عملهم في الآخرة لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى، والعمدة في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عزّ وجلّ. ونظير الآية قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 18- 19] ، وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى 42/ 20] . ويؤيّده الحديث المشهور في الصّحيحين عن عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنّيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقال قتادة: من كانت الدّنيا همّه ونيّته وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدّنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدّنيا، ويثاب عليها في الآخرة. أي أن للمؤمن على عمله الحسن ثوابين، ثواب الدّنيا وثواب الآخرة، وللكافر ثوابا واحدا وهو في الدّنيا فقط. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيتان على ما يأتي:

من كان يريد الآخرة [سورة هود (11) آية 17] :

1- اقتضى عدل الله وحكمته أن من قصد الدنيا وحدها وأتى بعمل البرّ والخير كصدقة وصلة رحم وكلمة طيّبة ونحو ذلك، يكافأ بها فقط بصحة الجسم، وكثرة الرّزق، لكن لا حسنة له في الآخرة، ويحرم من ثمرة عمله فيها. 2- إن أهل الرّياء والسّمعة يعطون بحسناتهم في الدّنيا، حتى لا يظلموا شيئا منها مهما قلّ، ويحرمون من الثواب الأخروي لأن ثواب الجنة يكون بتزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، واجتناب المعاصي، وأما عمل أهل الدّنيا فمقصور عليها وعلى مظاهرها وشهواتها. 3- ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية وأمثالها المذكورة مطلقة، تشمل المؤمن والكافر. 4- إن العبد ينوي ويريد، والله سبحانه يحكم ما يريد. 5- الكافر يخلد في النّار، والمؤمن لا يخلّد لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . 6- الإسلام يدعو إلى إيثار العمل للآخرة على عمل الدّنيا، في النّيّة والقصد، فإن قصد الدّنيا والآخرة معا كان ذلك مقبولا شرعا. من كان يريد الآخرة [سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

الإعراب:

الإعراب: أَفَمَنْ كانَ: فَمَنْ: مبتدأ، والهمزة للإنكار، والخبر محذوف تقديره: أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحياة الدّنيا، والهاء في يَتْلُوهُ للقرآن، والشاهد: الإنجيل. والهاء في مِنْهُ عائد لله تعالى، والهاء في قَبْلِهِ للإنجيل. وكِتابُ مُوسى معطوف مرفوع على قوله: شاهِدٌ ففصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وهو قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ وتقديره: ويتلوه كتاب موسى من قبله. إِماماً وَرَحْمَةً نصب على الحال من كِتابُ مُوسى. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ مبتدأ وخبر، والجملة خبر وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ. المفردات اللغوية: بَيِّنَةٍ حجة وبيان وبرهان من الله يدلّه على الحقّ والصّواب فيما يأتيه ويذره، والبيّنة: هي القرآن، وهو حكم يعمّ كلّ مؤمن مخلص، وقيل: المراد به النّبي صلى الله عليه وسلّم، أو المؤمنون، وقيل: مؤمنو أهل الكتاب. وَيَتْلُوهُ يتبعه. شاهِدٌ له بصدقه. مِنْهُ أي من الله، و «الشاهد» : الإنجيل، وقيل: جبريل، وقيل: القرآن، وقيل: النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَمِنْ قَبْلِهِ أي الإنجيل، وقيل: القرآن. كِتابُ مُوسى التّوراة شاهد له أيضا. إِماماً كتابا مؤتّما به في الدّين. أُولئِكَ أي من كان على بيّنة، ويراد بكلمة فَمَنْ المعنى الجماعي. يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، فلهم الجنة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ أهل مكة وجميع الكفار الذين تحزّبوا معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يردها لا محالة، أي مكان الوعد وهي النّار يردها. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ في شكّ من الموعد المذكور، أو القرآن. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أهل مكة وأمثالهم. لا يُؤْمِنُونَ لقلّة نظرهم واختلال فكرهم. المناسبة: تعلّق الآية بما قبلها واضح، فبعد أن ذكر الله تعالى من كان يريد الدّنيا وزينتها ولا يهتم بالآخرة وأعمالها، أعقبه بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها، ومعه شاهد يدلّ على صدقه وهو القرآن.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أفمن كان على نور وبصيرة من الله تدلّه على الحقّ والصّواب، ويؤيّده شاهد له على صدقه، وهو كتاب الله من إنجيل أو قرآن، وهم المؤمنون بالفطرة بأنه لا إله إلا الله، كمن كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها؟ كما قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزّمر 39/ 22] ، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم 30/ 30] . وكذلك يؤيّده كتاب موسى عليه السّلام وهو التّوراة، الذي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمّة إماما لهم، أي كتابا مؤتما به في الدّين وقدوة يقتدون به، ورحمة من الله بهم لأنه همزة وصل بخير الدّارين، فمن آمن به حقّ الإيمان، قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن، ويكون ذلك الكتاب رحمة لمن آمن به وعمل به. وكون الإنجيل والتّوراة تابعين للقرآن ليس في الوجود، بل في دلالتهما على هذا المطلوب، وتبشيرهما بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وكونه موصوفا فيهما: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف 7/ 157] . أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... أي أولئك الذين يؤمنون بما في التّوراة من البشارة بمحمد النّبي صلى الله عليه وسلّم، يؤمنون بهذا القرآن إيمانا حقّا عن يقين وإذعان. وفي الجملة: من كان مؤمنا بالفطرة وبالعقل، وبنور القرآن، وبالوحي الثابت الذي نزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرّسل، فهو على منهج الحقّ والصّواب. ومن يكفر بالقرآن من أهل مكة ومن تحزّبوا على النّبي صلى الله عليه وسلّم وغيرهم من اليهود والنّصارى والوثنيين، فالنّار موعده لا ريب في وروده إياها، أي أن مآله حتما إلى جهنم وهو من أهل النّار، جزاء تكذيبه، كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود 11/ 16]

فقه الحياة أو الأحكام:

والْأَحْزابِ هم كما قال مقاتل: بنو أميّة، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل طلحة بن عبيد الله. وقال سعيد بن جبير: الأحزاب: أهل الأديان كلّها، وروي عن مقاتل: «من الملل كلّها» لأنهم يتحازبون. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النّار» . فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي فلا تكن أيها المكلّف السّامع في شكّ من أمر هذا القرآن، فإنه حقّ من الله لا ريب ولا شكّ فيه، كما قال تعالى: الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السّجدة 32/ 1- 2] . والخطاب بقوله: فَلا تَكُ للنّبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد جميع المكلّفين. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ.. أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] ، والسبب أن المشركين مستكبرون مقلّدون زعماءهم، وأن أهل الكتاب حرّفوا دين أنبيائهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يأتي: 1- إن من تبيّن الرشد والصّواب بالفطرة والعقل، واهتدى بنور الوحي الإلهي فهو الذي يؤثر الآخرة على الدّنيا، ولا يستوي إطلاقا مع من آثر الدّنيا الفانية وزينتها الموقوتة على الآخرة الباقية الخالدة. 2- اليهود والنصارى المؤمنون بحقّ يؤمنون بما في التّوراة والإنجيل من البشارة بالنّبي صلى الله عليه وسلّم، وأما غير المؤمنين بحقّ، المتأخرون منهم أو من غيرهم، فهم

الكافرون والمؤمنون وجزاء أعمال كل منهم [سورة هود (11) الآيات 18 إلى 24] :

الذين موعدهم النّار، فمن يكفر بالقرآن أو بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام، من أهل الملل كلها أو أهل الأديان كلها، فهو من أهل النّار. 3- القرآن الكريم حقّ ثابت من عند الله، فلا يشكّنّ أحد بذلك، وليبادر إلى الإيمان بما جاء فيه. ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون به. الكافرون والمؤمنون وجزاء أعمال كلّ منهم [سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) الإعراب: الَّذِينَ يَصُدُّونَ إما نعت للظالمين، وإما خبر لمبتدأ أي هم الذين. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ما: فيها ثلاثة أوجه:

البلاغة:

أ- أن تكون ظرفية زمانية في موضع نصب بيضاعف، وتقديره: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار، أي أبدا، كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود 11/ 107] أي مدة دوام السموات والأرض، أي: أبدا. ب- أن تكون في موضع نصب، على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بما كانوا، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به. ج- أن تكون ما نافية، ومعناه لا يستطيعون السمع ولا الإبصار، لما قد سبق لهم في علم الله تعالى. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مبتدأ وخبر. لا جَرَمَ ردّ لكلامهم، وهو نفي لما ظنوا أنه ينفعهم. وجَرَمَ فعل ماض بمعنى كسب. أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ في موضع نصب من وجهين: أحدهما- تقديره: كسب ذلك الفعل لهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي كسب ذلك الفعل الخسران في الآخرة. وهذا قول سيبويه. والثاني- التقدير: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة، وحذف حرف الجر، فانتصب بتقدير حذف حرف الجر، وهذا قول الكسائي. مَثَلًا تمييز منصوب. البلاغة: كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ تشبيه مرسل مجمل لوجود أداة التشبيه وحذف وجه الشبه، أي مثل الفريق الكافر كالأعمى والأصم في عدم البصر والسمع، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير. المفردات اللغوية: وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك والولد إليه. يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ في الموقف يوم القيامة مع جملة الخلق، بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم، والمراد: يحاسبهم ربهم. الْأَشْهادُ جمع شاهد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ، وعلى الكفار بالتكذيب. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعنة واللعن: الطرد من رحمة الله تعالى. يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يصرفون عن دين الله: دين الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون السبيل معوجة، والعوج: الالتواء. هُمْ تأكيد للأولى. مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي ما كانوا معجزين لله في الدنيا أن يعاقبهم، ولا يمكنهم أن يهربوا من عذاب الله تعالى. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره.

المناسبة:

أَوْلِياءَ أنصار يمنعونهم من عذابه أو عقابه، ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. يُضاعَفُ لَهُمُ بإضلالهم غيرهم. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ للحق. وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي يبصرونه، لفرط كراهتهم له، كأنهم لم يستطيعوا ذلك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. وَضَلَ غاب. يَفْتَرُونَ على الله من ادعاء الشريك. لا جَرَمَ حقا. قال الفراء: إنها بمنزلة قولنا: لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا) . تقول العرب: لا جرم أنك محسن، على معنى: حقا إنك محسن. وَأَخْبَتُوا خشعوا وسكنوا وأخلصوا لله تعالى، وأصل الإخبات: قصد الخبث وهو المكان المطمئن المستوي. مَثَلُ صفة. الْفَرِيقَيْنِ الكفار والمؤمنين. كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ هذا مثل الكافر، وتشبيه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لعدم استماعه كلام الله تعالى وتدبر معانيه. وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هذا مثل المؤمن لتبصره بالقرآن وسماعه له سماع تدبر وإمعان، فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، أصله: تتذكرون، فأدغم التاء في الذال. المناسبة: بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس: وهما الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة. وكان القصد من آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ذم الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة، والقصد من آية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الرّد على منكري نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم والطعن في معجزاته، وأما المراد من آية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فهو الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وهذا محض الافتراء على الله تعالى، وهو داخل تحت عموم وعيد المفترين على الله تعالى. التفسير والبيان: يبين الله تعالى حال المفترين عليه ووصفهم بأنهم أظلم الناس، وفضيحتهم في الآخرة أمام الخلائق كلهم، فيذكر أنه لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن اختلق

الكذب على الله تعالى، في صفته أو حكمه أو وحيه، أو زعم وجود شفعاء له بدون إذنه، أو اتخاذه ولدا من الملائكة كالعرب القائلين بأن الملائكة بنات الله، واليهود القائلين بأن عزيرا ابن الله، والنصارى القائلين بأن المسيح ابن الله. أُولئِكَ يُعْرَضُونَ.. أي أولئك المغرقون في الكفر والشرك والافتراء على الله، يعرضون على ربهم أي يحاسبهم ربهم حسابا شديدا، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم وافتروا عليه، فلعنة الله على الظالمين، أي أنهم مطرودون من رحمة الله تعالى. وبما أن العرض عام في كل العباد، فإن المراد به هنا عرض خاص وهو العرض بقصد افتضاحهم، فيحصل لهم الخزي والنكال في أسوأ حال، والعرض يكون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال، أو على من شاء الله من الخلق بأمر الله تعالى، من الملائكة والأنبياء والمؤمنين. والآية مثل قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر 40/ 51- 52] . وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في النجوى يوم القيامة: «إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» . الَّذِينَ يَصُدُّونَ.. إن هؤلاء الظالمين يردون الناس عن اتباع الحق

والإيمان والطاعة، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل، ويحولون بينهم وبين الجنة، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويعدلون بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، فهم يريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة، والحال أنهم كافرون بالآخرة أي جاحدون بها مكذبون، وأعاد لفظ هُمْ تأكيدا. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ ... إن أولئك الظالمين الصادين عن سبيل الله لا يعجزون ربهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف كما فعل بغيرهم، بل هم تحت قهره وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدنيا قبل الآخرة، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، ويحجبون عنهم العذاب، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم، كما ضلوا بأنفسهم، وكانوا صمّا عن سماع الحق، عميا عن اتباعه. ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم 14/ 42] وقوله سبحانه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] وقوله صلى الله عليه وسلّم في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» . وعلة مضاعفة العذاب هي: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي لم يستمعوا إلى القرآن سماع تدبر واتعاظ، ولم يبصروا طريق الحق والخير وينظروا إلى آيات القرآن وآيات الكون، الدالة على صدق الوحي، كما قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت 41/ 26] وقال: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام 6/ 26] . فليس المراد نفي السمع والبصر، بل المقصود أنهم وإن كانوا يسمعون ويبصرون في الظاهر، إلا أنهم ما استخدموا هاتين الحاستين استخداما صحيحا في

تلقي المعارف والمعلومات وتكوين العقيدة السلمية، ونظرا لعنادهم وعتوهم وكراهتهم الحق والهدى، ما كانوا يطيقون سمع آيات القرآن والتبصر بآيات الكون. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا ... أي أولئك الموصوفون بالأوصاف السابقة خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نارا حامية يتزايد سعيرها، كما قال تعالى: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء 17/ 97] ولا موت ولا حياة فيها. وضلّ عنهم أي ذهب عنهم الذي كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام، فلم تجد عنهم شيئا، بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 6] وقال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] . لا جَرَمَ ... حقا إنهم في الآخرة أخسر الناس صفقة لأنهم استبدلوا بنعيم الجنان ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن بغضب الديان وعقابه. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا في الدنيا الأعمال الصالحة، فآمنت قلوبهم، وثابروا على الطاعات وترك المنكرات، وخشعوا لله وأنابوا إليه، فلهم جنات العلى ذات النعم التي لا تعد ولا تحصى، من كل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون فيها، ماكثون فيها على الدوام، لا يموتون ولا يهرمون، ولا يمرضون، ولا يخرج منهم مستقذر، وإنما هو رشح مسك يعرقون به.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر الله شبه الكافرين والمؤمنين وضرب مثلا لكليهما فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ أي مثل الفريقين المذكورين اللذين وصفا سابقا وهم الكفار بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، كمثل الأعمى والأصم، والسميع والبصير الكافر مثل الأعمى، لتعاميه عن وجه الحق في الدنيا والآخرة، وعدم اهتدائه إلى الخير وعدم معرفته إياه، ومثل الأصم لعدم سماعه الحجج، فلا يسمع ما ينتفع به والمؤمن مثل متفتح السمع والبصر، لاستفادته بما يسمع من القرآن، ويرى في الأكوان. والسمع والبصر وسيلتا العلم والهدى، وطريقا تكوين العقل. لا يستوي هذا وذاك صفة وحالا ومالا، أفلا تذكرون أي تعتبرون، فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، وكيف لا تميزون بين هذه الصفات المتباينة؟! كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] وقال سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر 35/ 19- 22] واستعمال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ تنبيه على أنه يمكن علاج هذا العمى وهذا الصمم. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات ما يأتي: 1- لا أحد أظلم لأنفسهم من الذين افتروا على الله كذبا، فنسبوا كلامه إلى غيره، وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. 2- ينادى بالكفار والمنافقين على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله، ألا لعنة الله على الظالمين، أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.

والأشهاد المنادون بذلك: هم الملائكة، أو الأنبياء والمرسلون، والعلماء لذين بلّغوا الرسالات. 3- إن سبب اللعنة على الظالمين وطردهم من رحمة الله إنما هو صدّ أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة لله تعالى، وعدولهم بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، وكفرهم وجحودهم بالآخرة. 4- الظالمون وغيرهم لا يعجزون الله بعقابهم في الدنيا، ولا يقدرون على الإفلات من سلطان الله وقدرته وخسف الأرض بهم، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، وعقابهم مضاعف على قدر كفرهم ومعاصيهم بسبب إضلالهم غيرهم، وبسبب تعطيلهم قدرات السمع والبصر في استماع الحق وإبصاره. 5- هؤلاء الظالمين خسروا أنفسهم وضاع عنهم افتراؤهم، وتبدد كل ما تعلقوا به من آمال خاسرة، وهم حقا في الآخرة أخسر الناس صفقة لاستبدالهم بنعيم الجنة بعذاب جهنم. 6- المؤمنون المصدقون بالله ورسوله، العاملون الصالحات، الخاشعون الخاضعون المنيبون لربهم، هم أصحاب الجنة الماكثون فيها أبدا. 7- لا تساوي إطلاقا بين المؤمنين والكافرين، كما لا تساوي بين الأعمى والبصير، ولا بين الأصم والسميع، أفلا تنظرون في الوصفين وتتعظون وتعتبرون؟! والخلاصة: إن الله تعالى وصف السعداء أهل الجنة بصفات ثلاث هي: الإيمان، والعمل الصالح، والخشوع إلى الله تعالى ووصف الأشقياء المنكرين الجاحدين أهل النار بأربع عشرة صفة هي: 1- كونهم مفترين على الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ

2- إنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ. 3- حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة لهم: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ. 4- كونهم ملعونين من عند الله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. 5- كونهم صادّين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. 6- سعيهم في إلقاء الشبهات، وتعويج الدلائل المستقيمة: وَيَبْغُونَها عِوَجاً. 7- كونهم كافرين: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. 8- كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. 9- إنهم ليس لهم أولياء يدفعون عنهم عذاب الله، فليست أصنامهم شفعاء عند الله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ. 10- مضاعفة العذاب لهم، لسعيهم في الإضلال ومنع الناس عن الدين، مع ضلالهم الشديد: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ. 11- تعطيلهم وسائل الإيمان والمعرفة والاعتقاد الصحيح: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. 12- كونهم خاسرين أنفسهم لاشترائهم عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ .

قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) الآيات 25 إلى 31] :

13- غيبة افترائهم وذهابه عنهم بحيث لم يعودوا يتنبهون لضلالهم: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. 14- كونهم خاسرين في الآخرة: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

الإعراب:

الإعراب: أَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ أو مفعول مُبِينٌ ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ما نَراكَ الكاف: مفعول أول. الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فاعل اتَّبَعَكَ، واتَّبَعَكَ وفاعله: مفعول ثان لنراك إذا كان من رؤية القلب، وفي موضع الحال إذا كان من رؤية العين. بادِيَ الرَّأْيِ منصوب على الظرف، أو في بادي الرأي، والعامل فيه: نَراكَ أي ما قبل إلا لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. وبادِيَ بغير همز: اسم فاعل من بدا يبدو: إذا ظهر، أي: ظاهر الرأي، وقرئ بالهمز: من بدأ يبدأ، أي أول الرأي. أَنُلْزِمُكُمُوها أنلزم: يتعدى إلى مفعولين، الأول: الكاف والميم، والثاني: الهاء والألف، وأثبت الواو في: أَنُلْزِمُكُمُوها، ردا إلى الأصل لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، كقولك: المال لك وله. وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا، وقدم الأعرف منهما، جاز في الثاني الفصل والوصل. وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ جملة اسمية في موضع الحال، ولَها: في موضع نصب لأنه يتعلق بكارهون. تَزْدَرِي تقديره: تزدريهم، فحذف المفعول من الصلة وهو العائد، مثل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه الله. وأصله: تزتري على وزن تفتعل، ثم أبدل من التاء دالا لقرب مخرجهما. البلاغة: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ شبّه من لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك الصحراء لا يعرف طرقها على سبيل الاستعارة التمثيلية. أَفَلا تَذَكَّرُونَ استفهام للإنكار والتقريع. المفردات اللغوية: إِنِّي لَكُمْ أي بأني لكم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، أبيّن لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص. أَنْ لا تَعْبُدُوا أي بألا تعبدوا. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عبدتم غيره عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم في الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب، لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة: جدّ جده، ونهاره صائم للمبالغة.

المناسبة:

الْمَلَأُ الأشراف والزعماء. إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا فضل لك علينا، ولا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. أَراذِلُنا أسافلنا وأخساؤنا وأصحاب الحرف الخسيسة والفقراء، جمع أرذل الذي هو جمع رذل، مثل كلب وأكلب وأكالب. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الرأي من غير تعمق، من البدو، أو أول الرأي أو ابتداء الرأي من غير تفكر فيك، من البدء، أي في بدء الحكم عليك من أول وهلة ووقت حدوث أول رأيهم. وهو منصوب على الظرف، أي وقت حدوث أول رأيهم. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ في ادعاء الرسالة والنبوة، وهذا الخطاب أدرجوا قومه معه فيه، وغلب المخاطب على الغائبين. أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على حجة شاهدة بصحة دعواي الرسالة أو معجزة. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة. فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت عليكم فلم تهدكم، وحقه أن يقال: فعميتا، ولكن أفرد الضمير إما لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن حذفها للاختصار أو الاقتصار على ذكره مرة، أو لأنه لكل واحدة من البينة والرحمة. أَنُلْزِمُكُمُوها يعني أنجبركم أو أنكرهكم على قبولها والاهتداء بها. وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها، أي لا نقدر على ذلك. لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ، وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. مالًا جعلا تعطونيه. إِنْ أَجرِيَ أى ما ثوابي المأمول. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سألوا طردهم. إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث، فيجازيهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم. تَجْهَلُونَ عاقبة أمركم. مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي يمنعني من عذابه، أي لا ناصر لي إن طردتهم. أَفَلا فهلا. تَذَكَّرُونَ تتعظون، فإن طردهم ليس بصواب. خَزائِنُ اللَّهِ أي خزائن رزقه أو أمواله حتى جحدتم فضلي. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف، أي ولا أقول لكم: أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة ولا تصميم قلبي. وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ بل أنا بشر مثلكم. تَزْدَرِي تحتقر شأنهم لفقرهم. لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي فإن ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ قلوبهم. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت شيئا من ذلك. المناسبة: بعد أن أثبت الله تعالى بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم، وأن القرآن وحي من الله تعالى، وبعد أن ذكر حال فريقي المؤمنين والكافرين المكذبين، وحض على الاعتبار

التفسير والبيان:

والاتعاظ بالحالين بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ ذكر مجموعة من قصص الأنبياء للعظة والتذكر، وبيان اشتراك النبي صلى الله عليه وسلّم مع من قبله من الأنبياء في الدعوة إلى أصول واحدة مشتركة بين الأنبياء، وهي عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء، وتنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. التفسير والبيان: أول هذه القصص المذكورة هنا هي قصة نوح عليه السلام، وكان قد ذكر تعالى هذه القصة في سورة يونس، وأعاد ذكرها هنا لما فيها من عظات وفوائد، أهمها إعلام الكفار أن محمدا صلى الله عليه وسلّم كغيره من الرسل، جاء للدعوة إلى توحيد الله وإثبات البعث والحساب والجزاء. وتضمنت قصة نوح هنا عدة عناصر هي: وصف دعوته إجمالا، ومناقشة قومه والرد عليهم، واستعجالهم العذاب، وكيفية صنع نوح السفينة، وإغراقهم بالطوفان، ونجاة نوح ومن آمن معه، والتماس نوح إنجاء ابنه معه. وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام. والمعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه المشركين، فقال لهم: إني لكم نذير من الله ظاهر الإنذار، أنذركم عذابه وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله، فآمنوا به وأطيعوا أمره، ولا تعبدوا غيره، ولا تشركوا به شيئا لأني أخاف عذاب يوم القيامة، الذي هو عذاب شديد الألم. ثم ذكر الله تعالى أجوبة قومه له وهي أربع شبهات: الأولى- فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي قال السادة الكبراء من الكافرين منهم: ما أنت إلا بشر مثلنا، أي لست بملك، ولكنك بشر مشابه لنا في الجنس، فلا مزية تمتاز بها علينا تستوجب الطاعة.

الثانية- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ.. أي ولم يتبعك إلا أراذل القوم الأخساء أصحاب الحرف الخسيسة كالزرّاع والصناع، وهم الفقراء والضعفاء، في بادئ الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبر في عواقب الأمور. ولو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والأكياس من الناس، كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء 26/ 111] . الثالثة- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما رأينا لكم علينا امتيازا ظاهرا في فضيلة أو قوة أو ثروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي، يحملنا على اتباعكم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 46/ 11] . الرابعة- بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أي بل يترجح لدينا كذبكم في ادعائكم الصلاح والسعادة في الدار الآخرة. ويلاحظ أنهم أشركوا معه أتباعه في هذه الإجابة، وكان الخطاب لنوح ومن آمن معه. ثم أخبر الله تعالى عن ردود نوح عليه السلام على قومه الذين أثاروا تلك الشبهات، وغيرها مما لم يحكها القرآن وطواها، أو لم يقولوها ولكن كلامهم يستلزمها. قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ.. قال نوح: يا قومي، أخبروني ماذا أفعل وما ترون؟ إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربي، يتبين لي بها أني على حق من عنده، وآتاني رحمة من عنده وهي النبوة والوحي، فعمّيت عليكم أي خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، أنكرهكم على قبولها ونغصبكم عليها، وأنتم لها كارهون، معرضون عنها، فلا يعقل الإكراه في الدين. وهذا دليل النبوة والترفع عن آراء الجهال والسذّج. وَيا قَوْمِ، لا أَسْئَلُكُمْ.. أي لا أطلب منكم على نصحي لكم مالا أي أجرا

آخذه منكم، وإنما أجري على الله عز وجل. وهذا قول تكرر صدوره من جميع الأنبياء بعد نوح، مثل هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليس من شأني طرد المؤمنين وتنحيتهم من مجلسي. ويظهر من هذا أن أكابر الكفار كانوا يبغون تخصيصهم ببعض المزايا والامتيازات، كتخصيص مجلس خاص بهم، لا يلتقون فيه مع الضعفاء والفقراء، أنفة منهم وكبرا وترفعا، كما حدث تماما بين النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وبين قومه قريش، فقال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام 6/ 52] . إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبكم، ويعاقب من طردهم، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق وتترددون في ظلمات الجهل في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم، فإن تفضيل الناس بعضهم على بعض إنما هو بالعمل الطيب والخلق الفاضل، لا بالثروة والمال والجاه كما تزعمون. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي ... أي يا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم، فذلك ظلم عظيم، كما قال تعالى: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام 6/ 52] أفلا تذكّرون، أي أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟! وَلا أَقُولُ لَكُمْ.. أي لا تعني النبوة والرسالة أني أملك خزائن رزق الله تعالى، وأقدر على التصرف فيها، وإنما أنا بشر كغيري من الناس مؤيد بالمعجزات، أدعو إلى عبادة الله بإذنه، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه، ولست ملكا من الملائكة، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم: لن ينالهم خير، وليس لهم ثواب على أعمالهم، وهو ما وعدهم الله به

فقه الحياة أو الأحكام:

على الإيمان من سعادة الدنيا والآخرة، الله أعلم بما في صدورهم، فإن كان باطنهم كظاهر هم في الإيمان، فلهم الحسنى، وإن حكم إنسان على سرائرهم، كان ظالما قائلا ما لا علم له به. والمقصود بالآية أن نوحا عليه السلام أخبرهم بتذلله وتواضعه لله عز وجل. وفي هذا دلالة على الخط الفاصل بين الأنبياء وبين الزعماء، الأولون يهتمون بإرشاد الناس إلى ما فيه سعادتهم الدنيوية والأخروية دون إغراء بمال أو عطاء نفعي، والآخرون يعتمدون في كسب الأتباع على الوعود بالمنافع المادية وبذل الأموال رخيصة من أجل كسب تأييدهم. وفيه دلالة على أن النبي بشر لا ملك، وأنه لا يعلم الغيب وإنما علمه عند الله، كقوله تعالى: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف 7/ 188] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- دعوة نوح قومه كدعوة سائر الأنبياء إلى عبادة الله وإطاعته وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام. 2- الاستمرار على الكفر أو عبادة الأصنام يوجب العذاب الأليم الموجع الشاق في الدار الآخرة. 3- إن الغالب في إعراض قوم نوح من الأشراف والسادة والكبراء كإعراض كل المكذبين الجاحدين مبني على أعذار واهية، رأسها الاستكبار والاستعلاء على بقية الناس من الفقراء والضعفاء الذين يتبعون الحق غالبا، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف 43/ 23] .

وهكذا يكون الغالب على ضعفاء الناس اتباع الحق، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما ذكرت الآية: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها.. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلّم قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل. 4- قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ ليس بمذمة ولا عيب في الواقع لأن الحق إذا وضح، لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق حينئذ لكل ذي عقل وذكاء، ولا يفكر عندئذ بالبعد عنه إلا غبي أو عيي، والرسل عليهم السلام إنما جاؤوا بأمر جلي واضح. جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم» أي ما تردد ولا تروى لرؤيته أمرا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع. 5- الأنبياء يتمسكون عادة بما ثبت لديهم يقينا من وحي الله تعالى، والنبوة والرسالة، ولو عارضهم أكثر الناس. 6- لا يلجأ الأنبياء عادة إلى إكراه أحد من الناس على قبول دعوتهم: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يمكنني أن أضطركم إلى الإيمان والمعرفة بها، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، أو النبوة والرحمة الإلهية أو البينة. وهذا أول نص يمنع الإكراه على الدين. 7- لا يصح عقلا وذوقا وأدبا طرد الأنبياء من يؤمنون بهم، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ضعفاء، فلو فعل ذلك أحدهم فرضا لخاصموه عند الله، وجازاهم على إيمانهم، وجازى من طردهم، ولا يجد من ينصره ويمنعه من عذاب الله إن طردهم لأجل إيمانهم، ويكون طرد المؤمنين بصفة دائمة لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي، ولا يقدم عليه نبي. والمقصود هو الطرد المطلق على سبيل التأبيد.

استعجال قوم نوح العذاب ويأسه منهم [سورة هود (11) الآيات 32 إلى 35] :

8- خزائن الرزق في تصرف الله تعالى، والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يقول نبي: إن منزلته عند الناس منزلة الملائكة. 9- احتج بعض العلماء بآية: وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؟ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم مذ خلقوا إلى يوم القيامة. 10- الفضائل الحقيقة الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء: الاستغناء المطلق فلا أدعيه: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ والعلم التام: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ والقدرة التامة الكاملة: وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ والملائكة أكمل المخلوقات في القدرة والقوة. والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة أنه ما حصل لنوح عليه السلام إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية، وأما الكمال المطلق فلا يدعيه. 11- إن استحقاق المؤمن ثواب الله تعالى لا يمنعه اعتراض أحد: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم، الله أعلم بما في أنفسهم فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. استعجال قوم نوح العذاب ويأسه منهم [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

الإعراب:

الإعراب: إِنْ أَرَدْتُ شرط، وجواب الشرط دل عليه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وتقدير الكلام: إن كان الله يريد أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. البلاغة: فَعَلَيَّ إِجْرامِي مجاز بالحذف، أي عقوبة إجرامي، على سبيل الفرض، بدليل استعمال كلمة إِنِ الدالة على الشك. وأما إجرامهم فهو محقق: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ. المفردات اللغوية: جادَلْتَنا خاصمتنا. فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فأطلته أو أتيت بأنواعه. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا به من العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوى النبوة، والوعيد، فإن مناظرتك لا تؤثر فينا. إِنْ شاءَ تعجيله لكم، أو تأجيله، فإن أمره إليه لا إلي. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب أو الهرب منه فلستم بفائتين الله تعالى. نُصْحِي النصح: قصد الخير للمنصوح وإخلاص القول والعمل له. أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي إغواءكم أي الإيقاع في الغيّ والفساد، وقيل: المراد أن يهلككم هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم والمتصرف فيكم على وفق إرادته. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم. أَمْ يَقُولُونَ بل أيقول كفار مكة. افْتَراهُ اختلق محمد القرآن. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي عقوبة ذنبي ووباله. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من إجرامكم في إسناد أو نسبة الافتراء إلي. المناسبة: بعد أن أجاب نوح قومه على شبهاتهم، أوردوا عليه أمرين: الأول- أنهم وصفوه بكثرة المجادلة، والثاني- أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به. ثم ذكر تعالى يأسه منهم، واعتراضا في القصة وهو براءة محمد من نسبة افترائهم إليه. التفسير والبيان: قال قوم نوح له: قد حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك، فأتنا بما تعدنا به من العذاب المعجل في الدنيا، إن كنت صادقا في دعواك أن الله

يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة، وهذا كقوله تعالى: قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح 71/ 5- 6] . قال لهم نوح: إنما الذي يعاقبكم ويعجل تعذيبكم الله الذي لا يعجزه شيء، إن شاء عقابكم عاجلا أو آجلا، فما أنتم بمعجزين أي بفائتي الله ولا بمستطيعي الهرب من عذابه لأنكم في قبضته وملكه وسلطانه. ولا يفيدكم نصحي واجتهادي في إيمانكم، إن أراد الله إغواءكم أي إيقاعكم في الغي والضلال والفساد، ودماركم وهلاككم، هو ربكم أي خالقكم والمتصرف في أموركم، والحاكم العادل الذي لا يجور، وإليه ترجعون في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير أو شر. ومعنى إرادة الله إغواءهم وإضلالهم: ربط الأسباب بالمسببات، لا خلقه للغواية والشقاوة فيهم، فإن ذلك منوط بالعمل والكسب، والنتائج متوقفة على المقدمات. أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. هذا كلام معترض في وسط قصة نوح، مؤكد لها، مقرر لها، وهي حكاية لقوله مشركي مكة في تكذيب هذه القصص: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ بل يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون في مكة: إن محمدا افترى القرآن، أي اختلقه من قبل نفسه، ومنه ما أخبر به عن نوح وقومه، فرد الله معلما نبيه أن يقول لهم: إن افتريته فعلي عقوبة إثمي، وعذاب ذنبي، والاجرام: اقتراف المحظورات واكتسابها، وأنا بريء من آثامكم وذنوبكم، وسيجزيكم الله على أعمالكم، فجرمكم ليس مفتعلا ولا مفترى لأني اعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه، فكل إنسان مسئول عن ذنبه، كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا

فقه الحياة أو الأحكام:

ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم 53/ 36- 41] . ونظير الآية: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] . والأظهر أن قوله: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ هو من محاورة نوح لقومه، كما قال ابن عباس لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، والخطاب منهم ولهم. وأنهم يقولون: افترى ما أخبركم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الآتي: 1- إن عناد الكفار وغباءهم وحماقتهم استوجب كل ذلك التنكر لدعوة النبي نوح عليه السلام، مهما أتى به من الأدلة المثبتة لتوحيد الله ووجوب طاعته وعبادته، وورّطهم في طلب تعجيل نقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق. 2- الجدال في الدين لتقرير الأدلة وإزالة الشبهات أمر محمود، وهو حرفة الأنبياء، ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله نجا، ومن ردّه خاب وخسر. 3- التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار، والجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق أمر مذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. 4- قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ رد على المعتزلة والقدرية ومن وافقهما الذين زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي، وأنه يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك.

والواقع أن الله هو الهادي والمضل، وإرادة الله يصح تعلقها بالإغواء، والمعنى أن الله يبين للناس طريق الهداية وطريق الضلال، ويختار الإنسان ما يشاء مع إرادة الله. وكلام نوح عليه السلام دليل على أنه تعالى ما أغواهم، بل فوض الاختيار إليهم من وجهين: الأول- لو أراد الله تعالى إغواءهم، لما بقي في النصح فائدة، ولما أمر الله نوحا بأن ينصح الكفار، وأجمع المسلمون على أن نبينا كغيره من الأنبياء مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم. الثاني- لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم أو خلقهم غاوين ضالين، لصار هذا عذرا لهم في عدم إيمانهم، ولصار عمل نوح غير ذي موضوع ولا هدف، ولا داعي له، ولا فائدة منه لأنه يسهل عليهم الاعتذار بذلك، والرد عليه بعدم جدوى دعواه. والخلاصة: إن مبدأ أهل السنة أن الله تعالى قد يريد الكفر من الإنسان، ولكن لا يأمره بذلك، وإنما يأمره بالإيمان، وإذا أراد الكفر من العبد فإنه يمتنع صدور الإيمان منه. 5- كل إنسان مسئول عن نفسه، فإن افترى أو اختلق نبي الوحي والرسالة كما يزعم قومه المعادون له، فعليه عقاب إجرامه، وإن كان محقا فيما يقول، وهو الحق الأكيد، فعليهم عقاب تكذيبهم وسيئاتهم.

نهي نوح عن الاغتمام بهلاك قومه وأمره بصنع السفينة [سورة هود (11) الآيات 36 إلى 41] :

نهي نوح عن الاغتمام بهلاك قومه وأمره بصنع السفينة [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 41] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) الإعراب: نُوحٍ منصرف لأنه خفيف، وإن كان فيه العجمة والتعريف. مِنْ قَوْمِكَ يُؤْمِنَ فاعل يُؤْمِنَ. مَنْ يَأْتِيهِ مَنْ موصولة، مفعول العلم. اثْنَيْنِ في موضع نصب لأنه مفعول احْمِلْ. ووَ أَهْلَكَ معطوف عليه. مَنْ سَبَقَ منصوب على الاستثناء من أَهْلَكَ. وَمَنْ آمَنَ في موضع نصب لأنه معطوف على اثنين، أو على أهلك.

البلاغة:

مَجْراها فيه ثلاثة أوجه: الأول- أن يكون منصوبا على تقدير حذف ظرف مضاف إلى ذلك. وَمُرْساها عطف عليه، وتقديره: باسم الله وقت إجرائها وإرسائها، أي اركبوا فيها متبكرين باسم الله تعالى في هذين الوقتين. وبِسْمِ اللَّهِ متعلق بمحذوف في موضع نصب على الحال من واو ارْكَبُوا. وبِسْمِ اللَّهِ هو العامل في مَجْراها. الثاني- أن يكون مَجْراها مبتدأ، وبِسْمِ اللَّهِ خبره، وتقديره: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، والجملة حال من ضمير فِيها. والثالث- أن يكون مَجْراها في موضع رفع بالظرف، والظرف حال من هاء: فِيها. ومن قرأ مَجْراها وَمُرْساها جعله اسم فاعل من أجراها الله فهو مجري، وأرساها فهو مرسي، وهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو مجريها ومرسيها. إِلَّا قَلِيلٌ مرفوع بفعل: آمَنَ ولا يجوز نصبه على الاستثناء لأن الكلام قبله لم يتم. والتعبير حصر بهم. البلاغة: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا كناية عن الرعاية والحفظ. المفردات اللغوية: فَلا تَبْتَئِسْ تحزن، أي لا تغتم بهلاكهم، وهذا يعني أن الله أيأسه أو أقنطه من إيمانهم، ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإيذاء. بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الشرك، فدعا عليهم بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] فأجاب الله دعاءه. الْفُلْكَ السفينة، ويطلق على الواحد والجمع. بِأَعْيُنِنا بحفظنا وعنايتنا ورعايتنا، على طريق التمثيل. وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها. الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم والمقصود: لا تدعني برفع العذاب عنهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ محكوم عليهم بالإغراق، فلا سبيل إلى كفه. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية. مَلَأٌ جماعة. سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به لعمله السفينة، فإنه كان يعملها، في برية بعيدة عن الماء، فكانوا يضحكون منه ويقولون له: صرت نجارا بعد ما كنت نبيا. قالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أي سنهزأ بكم إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة، ونجونا وتركناكم. وقيل: المراد بالسخرية: الاستجهال. عَذابٌ يُخْزِيهِ يذله ويفضحه. وَيَحِلُّ ينزل. عَذابٌ مُقِيمٌ دائم وهو عذاب النار.

المناسبة:

حَتَّى إِذا.. حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن كانت غاية فهي غاية للصنع، أي لقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد. ويكون ما بعد يَصْنَعُ من الكلام حالا من يَصْنَعُ كأنه قال: يصنعها، والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه، سخروا منه. وجواب كُلَّما إما سَخِرُوا وإما قالَ وسَخِرُوا بدل من مَرَّ أو صفة لملأ. جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم. وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء فيه وارتفع كالقدر تفور، والتَّنُّورُ تنور الخبز، ابتدأ منه النبع، على خرق العادة، وكان ذلك علامة لنوح. وكان في الكوفة في موضع مسجدها، أو في الهند، أو بعين وردة بأرض الجزيرة. وقيل: التَّنُّورُ وجه الأرض. احْمِلْ فِيها في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي ذكر وأنثى، أي من كل أنواعهما. اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى. جاء في القصة: إن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب بيديه في كل نوع، فتقع يده اليمنى على الذكر، واليسرى على الأنثى، فيحملها في السفينة. وَأَهْلَكَ أي زوجته وأولاده. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي منهم بالإهلاك والإغراق، وهو ولده كنعان وزوجته، وأخذ معه سام وحام ويافث وزوجاتهم الثلاثة. إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا ثمانين، نصفهم رجال ونصفهم نساء، وقيل: كانوا تسعة وسبعين: زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة (سام وحام ويافث) ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم. مَجْراها وَمُرْساها أي جريها ومنتهى سيرها. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لولا مغفرته للسيئات ورحمته بالعباد، لما أنجاكم، فهو رحيم حيث لم يهلكنا. المناسبة: الآيات تتمة لما ذكر قبلها، تتضمن الإعداد لإغراق قوم نوح وإهلاكهم، ومقابلة السخرية والتهكم بالتخطيط للنجاة وغرق القوم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى أنه أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك إلا من قد آمن سابقا، فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم، فدعا عليهم نوح عليه

السلام بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] . واصنع الفلك أي السفينة أداة النجاة بأعيننا أي بمرأى منا وبرعايتنا وحفظنا وحراستنا، وبتعليمك بوحينا كيفية الصنع، حتى لا تخطئ، فقوله وَوَحْيِنا يعني تعليمنا لك ما تصنعه، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير. واستعمل القرآن تعبير الأعين لكمال العناية وتمام الرعاية في قوله تعالى لموسى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه 20/ 39] وقوله للنبي محمد صلى الله عليه وسلّم: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور 52/ 48] . وَلا تُخاطِبْنِي ... أي ولا تراجعني يا نوح ولا تدعني في شأن قومك ودفع العذاب عنهم بشفاعتك، فقد وجب عليهم العذاب، وتم الحكم عليهم بالإغراق. والمقصود ألا تأخذك بهم رأفة ولا شفقة. وبدأ يصنع السفينة، وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه، استهزءوا منه ومن عمله السفينة، وكذبوا بما توعدهم به من الغرق. قال نوح متوعدا بوعيد شديد وتهديد أكيد: إن تسخروا منا لصنع ما نصنع مما لا يفيد شيئا في ظنكم، فإنا نسخر منكم في المستقبل حين الغرق، كما تسخرون منا الآن، أي نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة. فسوف تعلمون قريبا بعد تمام عملنا من يأتيه عذاب يهينه في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب مقيم، أي دائم مستمر أبدا في الآخرة. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا.. أي حتى إذا حان وقت أمرنا بالهلاك من الأمطار المتتابعة، وفار التنور أي نبع الماء من التنور، موقد الخبز، وارتفع كما تفور القدر بغليانها، والفوران: الغليان، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام،

وعن ابن عباس: التنور وجه الأرض، أي صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار، صارت تفور ماء. وهذا هو المعنى الأول لأن العرب تسمي وجه الأرض تنورا، قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر 54/ 11- 13] . وقلنا لنوح حينئذ: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين: ذكرا وأنثى، للحفاظ على أصل النوع الحيواني. واحمل فيها أهلك أي أهل بيتك من الذكور والإناث إلا أمرأتك وابنك: يام أو كنعان، وهما من سبق عليه القول أنه من أهل النار، للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه، تعالى الله عن ذلك. وخذ معك من آمن من قومك، وإن لم يؤمن إلا عدد قليل، أو نزر يسير، مع طول المدة ودعوتهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما. قيل: كانوا ستة أو ثمانية رجال، ونساءهم: نوحا عليه السلام وأهله وأبناءه الثلاثة وأزواجهم، وقال ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا، منهم نساؤهم. ولم ير الحق سبحانه وتعالى حاجة لبيان العدد لقلتهم التي لا تستحق الذكر، ولم يبين أنواع الحيوان المحمولة ولا كيفية حملها، فذلك متروك للبشر. وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها أخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لمن حملهم معه في السفينة: بسم الله يكون جريها على سطح الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها، أي بتسخيره تعالى وقدرته يكون مجراها ومرساها، لا بقوتنا. إن ربي غفور لذنوب عباده رحيم بهم، فلولا مغفرته لذنوبكم ورحمته بكم لما نجاكم فقوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لأهل السفينة. أخرج الطبراني عن

فقه الحياة أو الأحكام:

الحسين بن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن الرحيم: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . وفي رواية أخرى لأبي القاسم الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. الآية. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها.. الآية» . وذكر المغفرة والرحمة بعد ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين هو في الجملة شأن القرآن في بيان الأضداد والمتقابلات، كما في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف 7/ 167] وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد 13/ 6] ونحو ذلك من الآيات التي تقرن بين الرحمة والانتقام. وذكر آية المغفرة والرحمة هنا في وقت الإهلاك وإظهار القهر لبيان فضل الله على عباده الذين نجاهم، فهم في جميع الأحوال بحاجة إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، والإنسان لا ينفك عادة عن أنواع الزلات والخطايا، فإن نجاتهم لا ببركة علمهم كما قد يظنون، وإنما بمحض فضل الله، لإزالة العجب منهم. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- الإياس من إيمان قوم نوح واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. وهذا يدل على صحة قول أهل السنة في القضاء والقدر، فإنه تعالى أخبر عن قوم نوح أنهم لا يؤمنون، ولا بد أن يقع ما يتفق مع هذا الخبر، وإلا انقلب علم الله جهلا وكذبا، وذلك محال.

2- لطف الله بنبيه نوح، إذ أخبره قبل الهلاك بألا يغتم بهلاك قومه، حتى لا يصبح بائسا حزينا. 3- أول سفينة عبرت البحر هي سفينة نوح، وكان صنعها برعاية الله وتعليمه نوحا كيفية الصنع. والمقصود من بِأَعْيُنِنا معنى الإدراك والإحاطة، لا التجسيم لأنه سبحانه منزه عن الحواسّ والتشبيه والتكييف، لا ربّ غيره. واتخذ نوح عليه السلام السفينة في سنتين، كما قال ابن عباس، وقيل: في ثلاثين سنة، كما قال كعب، وقيل في مائة سنة كما ذكر زيد بن أسلم. وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلّمه كيف يصنعها. أما طولها وعرضها فعن ابن عباس: كان طولها ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا وكانت من خشب الساج. 4- من الغباوة سخرية الناس من نبي يوحي إليه فيما يفعل، وسخريتهم إما بقولهم: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا، وإما لأنهم لم يشاهدوا سفينة تبنى وتجري على الماء. وسخرية نوح كانت عند الغرق، والمراد بالسخرية الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا. 5- ماء الطوفان جاء من السماء: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ وفوران التنور على وجه الأرض كان علامة. 6- من رحمة الله بخلقه نجاة نوح ومن آمن معه من قومه، وهم ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه: سام وحام ويافث وزوجاتهم. ومن فضله تعالى الحفاظ على أصل الثروة الحيوانية، إذ أمر الله نوحا عليه السلام باصطحاب الحيوانات من كل شيء زوجين ذكر وأنثى. 7- الآية دليل على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل.

انتهاء الطوفان ونجاة السفينة وهلاك ابن نوح مع استشفاع أبيه [سورة هود (11) الآيات 42 إلى 47] :

انتهاء الطوفان ونجاة السفينة وهلاك ابن نوح مع استشفاع أبيه [سورة هود (11) : الآيات 42 الى 47] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) الإعراب: لا عاصِمَ اسم لا، وخبرها: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وهو متعلق بمحذوف، تقديره: لا ذا عصمة كائن من أمر الله. الْيَوْمَ معمول الظرف، وإن تقدم عليه، كقولهم: كلّ يوم لك درهم. أي في اليوم. مَنْ رَحِمَ منصوب على أنه استثناء منقطع لأن عاصِمَ فاعل، ومَنْ رَحِمَ مفعول. وقيل: لا عاصِمَ بمعنى معصوم، فلا يكون مَنْ رَحِمَ استثناء منقطعا، وإنما هو

البلاغة:

بدل مرفوع من عاصِمَ. والتقدير: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي الراحم، وهو الله تعالى. وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ مبتدأ وخبر. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعود الضمير إلى السؤال، أي إن سؤالك أن أنجي كافرا عمل غير صالح، أو يعود إلى الابن، والمراد: إنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن قرأه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ جعله فعلا ماضيا، ونصب غَيْرُ على أنه مفعول به، وهذه القراءة تدل على أن الضمير في إِنَّهُ يعود على الابن. فَلا تَسْئَلْنِ الأصل فيه أن تأتي بثلاث نونات: نوني التوكيد ونون الوقاية، فاجتمعت ثلاث نونات فاستثقلوا اجتماعها، فحذفوا الوسطى لأن نون الوقاية لا تحذف، وكسرت الشديدة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة. البلاغة: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي بين الأرض والسماء طباق، وبين ابلعي وأقلعي جناس ناقص. قال أبو حيان: في هذه الآية و، حد وعشرون نوعا من البديع بالرغم من أن ألفاظها تسع عشرة لفظة: المناسبة في قوله: أَقْلِعِي وابْلَعِي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله يا سَماءُ المراد مطر السماء. والاستعارة في قوله: أَقْلِعِي، والإشارة في قوله وَغِيضَ الْماءُ فإنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ عبر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإرداف في قوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فلفظ وَاسْتَوَتْ كلام تام، أردفه بقوله عَلَى الْجُودِيِّ قصدا للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليل في قوله: وَغِيضَ الْماءُ فإنه علة للاستواء، والاحتراس في قوله: وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهو أيضا ذم لهم ودعاء عليهم، والإيضاح بقوله الظَّالِمِينَ أي القوم الذين سبق ذكرهم في قوله: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ ... فالألف واللام في القوم للعهد، والمساواة وَاسْتَوَتْ فلفظها مساو لمعناها، وحسن النّسق، لعطف قضايا بعضها على بعض، والإيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعبا للمعاني الجمة، والتسهيم لأن أول الآية يا أَرْضُ ابْلَعِي فاقتضى آخرها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، والتجنيس في قوله أَقْلِعِي وابْلَعِي والمقابلة في قوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والذم في قوله:

المفردات اللغوية:

بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ والوصف: قص القصة ووصفها بأحسن وصف (النهر الماد من البحر لأبي حيان: 5/ 227) بهامش البحر المحيط. المفردات اللغوية: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه: ارْكَبُوا أي فركبوا مسمين، وهي تجري وهم فيها مَوْجٍ جمع موجة: وهي ما يرتفع من الماء الكثير عند اضطرابه كَالْجِبالِ في الارتفاع والعظم وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عن السفينة عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يمنعني ويحفظني مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عذاب إِلَّا لكن مَنْ رَحِمَ الله، فهو المعصوم ابْلَعِي ماءَكِ اشربي الماء الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارا وبحارا أَقْلِعِي أمسكي عن المطر، فأمسكت. وَغِيضَ نقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ تم أمر هلاك قوم نوح الكافرين وإنجاء المؤمنين وَاسْتَوَتْ وقفت واستقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالجزيرة بقرب الموصل في ديار بكر. وهذا النداء والخطاب بالأمر استعارة مجازية بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين. والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار للمجهول للدلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه. إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إن كنعان من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الذي لا خلف فيه وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم. إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الناجين أو ليس من أهل دينك. قال ابن عباس: كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن مؤمنا، وما بغت امرأة نبي قط. ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. إِنَّهُ أي سؤالك إياي بنجاته أو إن ابنك ذو عمل غير صالح، فإنه كافر، ولا نجاة للكافرين. وفي قراءة بكسر ميم عَمَلٌ ونصب غير، فالضمير لابنه ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ من إنجاء ابنك مِنَ الْجاهِلِينَ بسؤالك ما لم تعلم لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال، وأغناه عن السؤال، لكن أشغله حب الولد عنه، حتى اشتبه عليه الأمر. أَنْ أَسْئَلَكَ في المستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحته وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من السؤال وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والتفضل علي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا. المناسبة: بعد أن أمر نوح عليه السلام أهله والمؤمنين بركوب السفينة قائلين: بسم

التفسير والبيان:

الله، أعقبه بتصوير إلهي رائع لسير السفينة وسط المياه ذات الأمواج العظيمة، بسبب الرياح الشديدة العاصفة، وبقصد بيان شدة الهول والفزع. التفسير والبيان: السفينة تجري بسرعة، سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طفت على رؤوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا، وقيل: بثمانين ميلا. إنها تجري بهم وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها، وهذا يدل على حصول رياح عاصفة شديدة حينذاك، والمقصود: بيان شدة الهول والفزع. وهي تسير بإذن الله وتحت كنفه ورعايته وحراسته، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] وقال سبحانه: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 13- 15] . واستولت الشفقة وعاطفة الأبوة على نوح، فنادى ابنه وهو الابن الرابع، واسمه يام أو كنعان، وكان في مكان منعزل عنه، وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ناداه بقوله: يا بني اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الهالكين. فرد الابن العاصي عليه قائلا: سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء، ظنا منه أنه ماء سيل عادي يمكن النجاة منه بالتحصن في مكان عال أو جبل شامخ. فأجابه نوح عليه السلام: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله وعذابه الذي

يعاقب به الكافرين، لكن يحفظ من رحم الله، ومن رحمه الله فهو المعصوم، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفورا رحيما، غفورا لذنوبهم رحيما بهم إذا تابوا وأنابوا. أو إلا الراحم وهو الله، وقيل: إن عاصما بمعنى معصوم، كما يقال: طاعم وكاس، بمعنى مطعوم ومكسو. وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش فكان من المغرقين الهالكين. وما أدهش هذا المنظر الرهيب، ماء ينهمر من السماء، وأرض تتفجر بالمياه، فيرتفع حتى يغطي أعالي الجبال، ويغمر الأرض. ولما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة، أمر الله الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، وتم النداء العلوي: يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك، ويا سماء كفّي عن المطر، فغاض الماء، أي نقص، امتثالا للأمر، وقضي الأمر، أي وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه الظالمين، واستقرت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمال العراق، في الموصل، وقيل: هلاكا وخسارا للقوم الظالمين، وبعدا من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم، فلم يبق لهم بقية، بسبب ظلمهم وكفرهم. واستبدت العاطفة مرة أخرى بنوح على ابنه، فسأل ربه سؤال تسليم وكشف عن حال ولده، فقال مناديا ربه: رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاتهم، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فما مصيره، وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق، فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، وتمام العدل والصواب، حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق. فأجابه ربه: يا نوح إن ابنك ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، وابنك ذو عمل غير صالح، أي تنكر

لدعوة الهدى والصلاح، وانضم مع الكافرين وهذا تعليل لانتفاء كونه من أهله، قال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك.، فهو على حذف مضاف. فلا تطلب مني شيئا ليس لك به علم صحيح، ولا تلتمس مني التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. إني أنهاك أن تكون من فئة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمته وحكمه وتقديره في خلقه، رعاية لأهوائهم، ومجمل المعنى: أنهاك عن هذا السؤال وأحذرك أن تكون من الآثمين. وقد تضمن دعاؤه معنى السؤال أو سمي نداؤه سؤالا، ولا سؤال فيه، أي وإن لم يصرح به لأن ذكر الوعد بنجاة أهله من الغرق استنجاز له، فرتب عليه طلب نجاة ابنه. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. وفي الآية دلالة على أن العبرة بقرابة الدين، لا بقرابة النسب، وأن حكم الله في خلقه قائم على العدل المطلق دون محاباة نبي أو ولي، وأن الأنبياء قد يخطئون في اجتهادهم، ويعد ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع وتمام معرفتهم بربهم، وأنه لا يجوز الدعاء بطلب ما يغاير سنن الله في خلقه، وأن من الجهالة أن يدعو ولي بما نهي عنه الأنبياء. وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وعلى جعل الجهل كناية عن الذنب، وهو أمر مشهور في القرآن، كما قالت تعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة 2/ 67] وقال: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء 4/ 17] . ويحمل كل ما صدر من نوح وغيره من خطأ الاجتهاد على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وبناء عليه حصل العتاب والأمر

فقه الحياة أو الأحكام:

بالاستغفار، ولا يدل هذا الأمر على سابقة ذنب، مثل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ ... وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر 110/ 1 و3] ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، ليست بذنب يوجب الاستغفار، وقال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد 47/ 19] وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك الأفضل. لذا طلب نوح المغفرة من ربه، فقال: قالَ: رَبِّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ.. أي قال نوح: رب إني التجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي، أكن من الخاسرين أعمالا. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات العبر والعظات التالية: 1- إجراء السفن في البحار بقدرة الله تعالى وإرادته، وحفظه ورعايته. 2- لن يحقق العناد والاستكبار فائدة أو مصلحة لمن يتصف بهما، فقد أغرق الله ابن نوح واسمه كنعان، وقيل: يام لأنه كان كافرا، ولم يستفد شيئا من الاعتصام بأعالي الجبال، فإذا وقع العذاب العام على الكفار فلا مانع منه لأنه يوم حقّ فيه ذلك العذاب، إلا من رحمه الله، فهو يعصمه. 3- آية وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ... في أعلى مستوى البلاغة والفصاحة والإيجاز، لما فيها من التعبير عن قضايا كثيرة تحتاج إلى بيان صاف، بعبارة محكمة موجزة، محققة لأغراض عديدة، وذات ألوان بيانية بلاغية وآفاق متنوعة. 4- إنما سأل نوح عليه السلام ربه ودعا لإنجاء ابنه، لوعده تعالى له بإنجاء أهله في قوله: وَأَهْلَكَ وترك قوله: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بدليل

قوله له: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أي لا تكن منهم لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحا بما تفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته، بدليل قراءة عليّ: «ونادى نوح ابنها» لكنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها، والصحيح أنه كان ابنه، لكن ليس على منهج أبيه في الدين والإيمان والاستقامة. 5- لم يعص نوح الله تعالى فيما سأل من إنجاء ابنه، وإنما كان خطأ في الاجتهاد، بنية حسنة، وعدّ هذا ذنبا لأنه ما كان ينبغي لأمثاله من أهل العلم الصحيح الوقوع في هذا الخطأ غير المقصود، وترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، لذا عاتبه الله تعالى وأمره بالاستغفار. 6- إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، ولا علاقة للصلاح والتقوى بالوارثة والأنساب، لذا نجى الله المؤمنين من قوم نوح، وأهلك ابنه وزوجته مع الكافرين. والصحيح أنه كان ابنه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدّين، لذا قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ. 7- هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم، وإن كانوا صالحين. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت فمن أوصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. قال تعالى في آية أخرى: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات 37/ 75- 76] . 8- العدل الإلهي مطلق، لا محاباة فيه لنبي أو ولي، وإنه تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون 23/ 101] .

فمن يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضي ربه، فهو جاهل بشرع الله ودينه، قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي: «يا معشر قريش لا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالأنساب» . 9- إن غيرة الله على حرماته اقتضت تحذير الأنبياء من الأخطاء ولو كانت غير مقصودة. قال ابن العربي عن آية: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ: وهذه زيادة من الله وموعظة، يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين، فقال نوح: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. 10- كان اعتذار نوح بمثابة توبة كاملة تتضمن عنصري حقيقة التوبة وهما: الأول- في المستقبل: وهو العزم على الترك، وإليه الإشارة بقوله: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ والثاني- في الماضي: وهو الندم على ما مضى، وإليه الإشارة بقوله: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ. 11- كان الطوفان عاما شاملا لكل الأرض، في رأي المفسرين وأهل الكتاب، ويؤيدهم ما يقول علماء الجغرافية من وجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، وهي لا تكون إلا في البحر. والذي يجب اعتقاده أن الطوفان كان شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم، وذلك في منطقة الشرق الأوسط، أما أجزاء الكرة الأرضية الأخرى فلا يدل نص قاطع في القرآن على تغطيتها بالطوفان.

العبرة من قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) الآيات 48 إلى 49] :

العبرة من قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 48 الى 49] قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) الإعراب: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ: تِلْكَ مبتدأ، وخبره: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. نُوحِيها خبر بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال، أي تلك كائنة من أنباء الغيب نوحيها إليك. ويجوز أن يكون: تِلْكَ مبتدأ، ونُوحِيها: خبره، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ: من صلته، وتقديره: تلك نوحيها إليك من أنباء الغيب. وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أُمَمٍ مبتدأ، وسَنُمَتِّعُهُمْ صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، ودل عليه قوله مِمَّنْ مَعَكَ. المفردات اللغوية: اهْبِطْ بِسَلامٍ أنزل من السفينة بسلامة أو بتحية، أي مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ خيرات عليك ومباركا عليك، أو زيادات في نسلك حتى تصير آدم ثانيا وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم هم الذين معك في السفينة، أي من أولادهم وذريتهم هم المؤمنون، سموا أمما لتشعب الأمم منهم، فهم أصول البشرية، وقد تسللت الأعراق والأجناس من أولاد نوح: سام (وهم السامانيون) وحام (وهم الأفارقة) ويافث (وهم أهل الصين واليابان وأمثالهم) .

المناسبة:

وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا، ثم يمسّهم منا عذاب أليم في الآخرة، والمراد بهم الكفار من ذرية من معه، وقيل: قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: هو ما نزل بهم. تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ من بعض أخبار ما غاب عنك نُوحِيها إِلَيْكَ يا محمد مِنْ قَبْلِ هذا القرآن فَاصْبِرْ على التبليغ وأذى قومك كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك والمعاصي. المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى عن استواء السفينة واستقرارها على الجودي، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ذكر تعالى أمرين هما عبرة القصة: الأول- تكريم نوح عليه السلام والمؤمنين معه بوعده تعالى عند الخروج من السفينة بالسلامة أولا، ثم بالبركة ثانيا، والسلامة تتضمن الدعوة لهم بالوقاية من المكروه لأنهم كانوا كالخائفين على وضعهم: كيف يعيشون وكيف يحققون حاجاتهم من المأكول والمشروب، بعد أن عم الغرق جميع الأرض، وعلموا أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان. ثم إنه تعالى لما وعد نوحا ومن معه بالسلامة، أردفه بأن وعدهم بالبركة وهي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل. والثاني- الإخبار عن أمور غائبة عن الخلق، تكون بمثابة الإنذار والإرهاب والاعتبار، وإعطاء الأمثلة للصبر الذي هو مفتاح الفرج: التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عما قيل لنوح عليه السلام، حين أرست السفينة على الجودي، من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته

إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. والمعنى: قال الله أو الملائكة لنوح بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من جبل الجودي إلى الأرض، فقد ابتلعت الماء وجفّت، بسلام منا، أي بسلامة وأمن أو بتحية، أي مسلما محفوظا من جهتنا، أو مسلما عليك مكرّما كما قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات 37/ 79] ، وبركات عليك، والبركات: نعم ثابتة وخيرات نامية، أي ومباركا عليك في المعايش والأرزاق، تفيض عليك، وعلى أمم ممن معك نسلا وتولدا، أي هم ومن يتناسل منهم من ذرية، ويصير التقدير: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم، فيدخل في قوله مِمَّنْ مَعَكَ كل مؤمن إلى يوم القيامة، وفي قوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ كل كافر إلى يوم القيامة، كما روي ذلك عن محمد بن كعب. والمعنى: إن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين، ينشئون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون بالدنيا، منقلبون إلى النار. وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. وهكذا عم السلام والتبريك كل المؤمنين، على اختلاف تجمعاتهم. لكن من أولئك المؤمنين سيكون من نسلهم أمم وجماعات آخرون من بعدهم، يمتعون في الدنيا بالأرزاق والبركات، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة، لكفرهم وعنادهم، فانقسم الناس بعد نوح قسمين: قسم مؤمنون صالحون ممتعون في الدنيا والآخرة، وقسم ممتعون في الدنيا فقط معذبون في الآخرة. ثم ذكر الله تعالى العبرة العامة من قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

فقه الحياة أو الأحكام:

أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيوب السابقة، نوحيها إليك على وجهها، كأنك تشاهدها، ونعلمك بها وحيا منا إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا أحد من قومك، حتى يقول من يكذبك: إنك تعلمتها من إنسان، بل أخبرك الله بها. فاصبر على تكذيب المكذبين من قومك، وأذاهم لك، وعلى تبليغ رسالتك كما صبر نوح على أذى الكفار، فإن النصر والفوز والنجاة للمتقين الذين يطيعون الله ويتجنبون المعاصي، وإنا سننصرك ونرعاك ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين، حيث نصرناهم على أعدائهم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر 40/ 51] الآية، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات 37/ 171- 172] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيتان إلى ما يأتي: 1- السلامة والأمن، والتحية والتسليم والتكريم، والبركات والنعم من الله تعالى، على كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وذلك بدءا من نوح عليه السلام ومن آمن معه. 2- المتاع والانتفاع بنعم الدنيا، والتعذيب في الآخرة، لكل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، بدءا من ذرية المؤمنين في عصر نوح عليه السلام وذرية أمم من بعدهم. 3- كان خبر نوح وقصته مع قومه من أنباء ما غاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، أوحى الله بها إليه وأطلعه عليها، دون أن يكون عالما هو وقومه بها قبل ذلك،

فلم يعرف أحد أمر الطوفان، وكانت القصة على النحو الصحيح الدقيق مجهولة عند النبي صلى الله عليه وسلّم وعند قومه. 4- كان الغرض من ذكر قصة نوح في سورة يونس هو معرفة وجه الشبه بين قوم نوح وقوم محمد عليهما السلام، وهو ان قوم نوح كذبوه لأنه هددهم بنزول العذاب، فاستعجلوه، ثم ظهر في نهاية الأمر، وكذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلّم استعجلوا نزول العذاب مثل قوم نوح. فوجه الشبه في سورة يونس هو استعجال العذاب. وفي هذه السورة (هود) أعاد الله تعالى ذكر هذه القصة لهدف آخر، وهو بيان أن إقدام الكفار على الإيذاء كان حاصلا في زمن نوح، فلما صبر عليه السلام، نال الفتح والظفر، فلتكن يا محمد كذلك، لتنال المقصود، فقد عرفت مآل الصبر عند نوح والمؤمنين، وعاقبة الكفر، فوجه الشبه هو الإيذاء، وأن الصبر عليه مؤد إلى النصر. 5- إن الصبر على مشاق تبليغ الرسالة الإلهية، وإذاية القوم، مفتاح الفرج، وسبيل الظفر والنصر، كما صبر نوح ومحمد وأولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد صبر نوح على أذى قومه، ثم نصره الله عليهم، وكذلك صبر النبي صلى الله عليه وسلّم على أذى العرب الكفار، فأيده الله، وأعزّه، ونصره عليهم نصرا مؤزرا. 6- إن العاقبة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز للمتقين عن الشرك والمعاصي، القائمين بأوامر الله، الملتزمين حدوده، المطيعين شرعه. 7- يدل إيراد قصة نوح عليه السلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه.

قصة هود عليه السلام [سورة هود (11) الآيات 50 إلى 60] :

قصة هود عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

الإعراب:

الإعراب: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أَخاهُمْ منصوب بفعل مقدر، أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وغَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور، وقرئ بالجر صفة على اللفظ. مِدْراراً حال من السَّماءَ، والعامل فيه يُرْسِلِ. والأصل في مدرار أن يكون مدرارة، ولكنهم يحذفون هاء التأنيث عادة من مفعال كامرأة معطار، ومن مفعيل كامرأة معطير، ومن فاعل كامرأة طالق وحائض. عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في تاركي. ما مِنْ دَابَّةٍ في موضع رفع بالابتداء. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا إن: حرف نفي بمعنى ما، أي ما نقول إلا هذه المقالة، فالاستثناء من المصدر الذي دل عليه الفعل، مثل أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى [الصافات 37/ 59] فموتتنا مستثنى من أنواع الموت الذي دل عليها قوله: بِمَيِّتِينَ. فقد ذكر الفعل ويستثني من مدلوله، كما يستثني من الظرف والحال، مثال الأول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ [يونس 10/ 45] ساعَةً: مستثنى مما دل عليه لَمْ يَلْبَثُوا، أي كأن لم يلبثوا في الأوقات إلا ساعة من النهار ومثال الثاني: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا متمسكين بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران 3/ 112] أي ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل من الله، أي عهد من الله. وَتِلْكَ عادٌ مبتدأ وخبر، وبُعْداً منصوب بفعل مقدر، أي أن المصدر قائم مقام فعله. البلاغة: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً عبر بالسماء عن المطر من قبيل المجاز المرسل، لنزوله من السماء، ومدرار: للمبالغة. فَكِيدُونِي جَمِيعاً أمر بمعنى التعجيز. ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها استعارة تمثيلية، شبه الخلق وهم في قبضة الله وملكه بمن يقود دابة بناصيتها، فهي مقدورة له. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ استعارة، فإنه استعار الطريق المستقيم للدلالة على كمال العدل. وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا الأمر كناية عن العذاب. نَجَّيْنا هُوداً.. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فيه إطناب، لتكرار لفظ الإنجاء بقصد بيان أن الأمر شديد عظيم الأهوال. وَعَصَوْا رُسُلَهُ المراد عصوا رسولهم هودا، من قبيل المجاز المرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.

المفردات اللغوية:

أَلا إِنَّ عاداً.. أَلا بُعْداً لِعادٍ تكرار حرف التنبيه، وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم. المفردات اللغوية: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم من القبيلة وواحدا منهم، وهو عطف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهُوداً: عطف بيان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده. ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مِنْ: زائدة للتأكيد. إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم في عبادتكم الأوثان. إِلَّا مُفْتَرُونَ كاذبون على الله باتخاذ الأوثان شركاء لله وجعلها شفعاء عند الله تعالى. لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ الضمير في عَلَيْهِ عائد على الدعاء إلى الله وتوحيده. إِنْ أَجْرِيَ ما أجري. فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة- فطرة التوحيد لله والمقصود من الآية بيان إخلاصه في النصيحة، فإنها لا تفيد ما دامت مشوبة بالمطامع. اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أخلصوا التوبة من المعاصي والكفر لله، وارجعوا إليه بالطاعة، أي اطلبوا المغفرة من الله بالإيمان، ثم توسلوا إليها بالتوبة، ثم لا يكون التبري من الغير إلا بالإيمان بالله والرغبة فيما عنده. يُرْسِلِ السَّماءَ المطر، وكانوا قد منعوه واشتدت حاجتهم إليه لأنهم كانوا أصحاب زروع. مِدْراراً كثير الدر. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي يزدكم قوة مع قوتكم بالمال والولد، أو يضاعف قوتكم بالتناسل والأموال. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ مشركين. بِبَيِّنَةٍ ببرهان على قولك، وبحجة تدل على صحة دعواك، وهذا لفرط عنادهم، وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم. عَنْ قَوْلِكَ صادرين عن قولك أو لقولك. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإجابة والتصديق. إِنْ نَقُولُ ما نقول في شأنك. اعْتَراكَ أصابك. بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون، لسبك إياها وصدك عنها، فأنت تهذي وتتكلم بالخرافات، والجملة مفعول القول، وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. فَكِيدُونِي اجتمعوا على الكيد لي في إهلاكي من غير إنظار. جَمِيعاً أنتم وأوثانكم. ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ تمهلون. والمراد بيان عجزهم عن إلحاق الضرر به ليعلموا أن آلهتهم جماد لا تضر ولا تنفع. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي أي وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني، فإني متوكل على الله، واثق برعايته. ما مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب على الأرض. إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا وهو مالك لها، قادر عليها، يصرفها على ما يريد بها، فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه، والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك.

المناسبة:

وخص الناصية بالذكر لأن من أخذ بناصيته يكون في غاية الذل. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على الحق والعدل، لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا وتتولوا، وقد حذفت فيه إحدى التاءين. فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أي فقد أديت ما علي من الإبلاغ، وإلزام الحجة، فلا تفريط مني ولا عذر لكم، فقد أبلغتكم رسالة ربي. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم، بأن الله يهلكهم، ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم. وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتوليكم وإشراككم. حَفِيظٌ رقيب. أَمْرُنا عذابا أو أمرنا بالعذاب. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ هداية، وكانوا أربعة آلاف. غَلِيظٍ شديد، وهذا تعريض بأنهم كما عذبوا في الدنيا بريح السموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الشديد. وَتِلْكَ عادٌ أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم، أي فانظروا آثارهم في الأرض. جَحَدُوا كفروا. وَعَصَوْا رُسُلَهُ جمع الرسل لأن من عصى رسولا، عصى جميع الرسل لاشتراكهم في أصل ما جاؤوا به وهو التوحيد. وَاتَّبَعُوا أي السفلة. أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي معاند للحق، يعني كبراءهم ورؤساءهم الطاغين، والمعنى: عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، في الدنيا من الناس، ويوم القيامة لعنة على رؤوس الناس، توقعهم في العذاب. كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه أو كفروا نعمه، أو كفروا به، فحذف الجار. أَلا بُعْداً لِعادٍ أي من رحمة الله، وهو دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم من العذاب، بسبب أفعالهم. قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد، لتمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم. المناسبة: هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وقد ذكرت هذه القصة في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر. وكان هود أول من تكلم بالعربية من ذرية نوح. وفي إيراد هذه القصة هنا شبه بقصة نوح مع قومه، ففيها تبليغ هود الدعوة والتكاليف إلى قومه، وردهم عليه، وما انتهت به القصة من إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: دعا هود قومه إلى أنواع من التكاليف: النوع الأول- دعوتهم إلى التوحيد، في قوله تعالى: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ أي وكما أرسلنا نوحا، أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، والمراد أخا لهم في النسب والقبيلة، لا في الدين لأن هودا كان رجلا من قبيلة عاد، فيقال للرجل: يا أخا العرب، والمراد رجل منهم، وكانت هذه القبيلة قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف (شمال حضرموت) وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأصحاب زرع وضرع. إنه أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها، فقال لهم: آمركم بعبادة الله الذي لا إله غيره، ولا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما، ولا تشركوا به شيئا، مالكم من إله غيره، خلقكم ورزقكم، وأمدكم بالنعم الوفيرة، فما أنتم إلا مفترون الكذب على الله باتخاذكم الشركاء لله، ووصفكم إياهم بأنهم شفعاء. ويا قوم، لا أطلب على ما أدعوكم عليه من عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة فطرة التوحيد، أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، وتقدرون ما يقال لكم من نصح قائم على الإخلاص والأمانة، وتعلمون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام. والنوع الثاني- من التكاليف التي ذكرها هود لقومه: الاستغفار والتوبة فقال: ويا قوم، اطلبوا المغفرة من الله على الشرك والكفر والذنوب السابقة، وأخلصوا التوبة له، وعما تستقبلون، فإذا استغفرتم وتبتم يرسل الله

عليكم مطرا كثيرا متتابعا، وقد كانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد أن منعوه لأنهم أصحاب زروع وبساتين، ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد، وعزا إلى عزكم، وقد كانوا أشداء أقوياء يهمهم التفوق والغلبة على الناس، والاعتزاز بالقوة، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف 7/ 69] وقال سبحانه: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء 26/ 128- 133] وقال عز وجل: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] . وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ولا تعرضوا عني وعن دعوتي وعما أرغبكم فيه، مصرّين على إجرامكم وآثامكم. وفائدة الاستغفار المذكورة في الآية، لها ما يؤيدها في السنة النبوية، ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس: «من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» . وبعد أن حكى تعالى ما ذكره هود لقومه، حكى ما ذكره القوم له: قالُوا: يا هُودُ.. أي قالوا لنبيهم: ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه أنك رسول من عند الله، ولن نترك عبادة آلهتنا بمجرد قولك: اتركوهم، وما نحن لك بمصدقين، وما نظن إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب شتمك لها ونهيك عن عبادتها وعيبك لها. فكان جوابهم متضمنا أربعة أشياء كلها عناد وحماقة واستكبار، وهي المطالبة بالبينة والإصرار على عبادة الآلهة، مع أنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر وعدم التصديق برسالة هود مما يدل

على الإصرار والتقليد والجحود وإفساد عقله وجعله مجنونا بواسطة الآلهة. فقال لهم هود: أشهد الله على نفسي واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام، ولا يعني هذا أنهم كانوا أهلا للشهادة، ولكنه نهاية للتقرير، أي لتعرفوا، ولم يقل: إني أشهد الله وأشهدكم، لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فإن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم. وإذا كنت بريئا من جميع الأنداد والأصنام، أي مما تشركون من دون الله، فإني أعلن ذلك صراحة، فاجمعوا كل ما تستطيعون من أنواع الكيد لي، جميعا أي أنتم وآلهتكم، ولا تمهلوني طرفة عين، إني فوضت أمري كله لله ربي وربكم، ووكلته في حفظي، فهو على كل شيء قدير. فما من دابة تدب على الأرض أو السماء إلا هي تحت سلطان الله وقهره فهو مصرف أمرها ومسخرها، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، إن ربي على الحق والعدل. وقد تضمن جوابه الدال على التحدي والمعجزة الباهرة وقلة المبالاة بهم عدة أمور هي: البراءة من الشرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم، وطلبه المكايدة له، وإظهار قلة المبالاة بهم وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم. وهذا موقف مشابه تماما لموقف نوح في قوله السابق: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس 10/ 71] وقوله: قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ، فَلا تُنْظِرُونِ [الأعراف 7/ 195] . فَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي فإن تتولوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم

وحده لا شريك له، فقد بلغتكم رسالة ربي التي بعثني بها إليكم، ولا عتاب علي على تفريط في التبليغ، وكنتم محجوجين بأن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم، فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. ثم استأنف كلاما جديدا فقال: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين، يخلفونكم في دياركم وأموالكم ويكونون أطوع لله منكم، ولا تضرونه شيئا بتوليكم وكفركم، بل يعود وبال ذلك عليكم، وما تضرون إلا أنفسكم، إن ربي على كل شيء رقيب، مهيمن عليه، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم. ثم ذكر الله تعالى العذاب وآثاره وعاقبة أمر هود وقومه، فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي ولما حان وقت نزول أمرنا بالعذاب، ووقع عذابنا، وهو الريح العقيم، نجينا هودا والمؤمنين معه من عذاب شديد شاق ثقيل، برحمة من لدنا ولطف منا، وأهلكنا قومه عن آخرهم. وسبب ذلك العقاب أن عادا كفروا بآيات ربهم وحججه، وعصوا رسله، وقد جمع الرسل والمقصود رسولهم هودا لأن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، فهم كفروا بهود، فصار كفرهم كفرا بجميع الأنبياء، واتّبعوا أمر رؤسائهم الجبابرة الطغاة المعاندين. فلهذا لحقت بهم لعنة الله في الدنيا، ولعنة عباده المؤمنين كلما ذكروا، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق: ألا إن عادا كفروا بربهم وبنعمه، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدمار والبعد من الرحمة. والخلاصة: إنه تعالى جمع أوصاف عاد في ثلاثة: جحود دلائل المعجزات على الصدق، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم، وعصيان رسولهم، ومن عصى رسولا واحدا، فقد عصى جميع الرسل، لقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ

فقه الحياة أو الأحكام:

مِنْ رُسُلِهِ [البقرة 2/ 285] ، وتقليد القوم رؤساءهم، ثم ذكر تعالى عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة وهي مصاحبة اللعن لهم في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة: الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، ثم بين تعالى السبب الأصلي في استحقاق تلك الأحوال فقال: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي جحدوه، أو كفروا بربهم على حذف الباء، أو نعمة ربهم، على حذف المضاف. وفائدة قوله: أَلا بُعْداً لِعادٍ بعد قوله: وَأُتْبِعُوا.. الدلالة على غاية التأكيد. وفائدة قوله لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ تعيين عاد القديمة، تمييزا لهم عن عاد التي هي إرم ذات العماد، فقصد به إزالة الاشتباه، أو لمزيد التأكيد. فقه الحياة أو الأحكام: دلت قصة هود مع قومه على ما يلي: 1- حصر هود عليه السلام دعوته في نوعين من التكاليف هما: الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، والاستغفار ثم التوبة، والفرق بينهما أن الاستغفار: طلب المغفرة وهو المطلوب بالذات، والتوبة: هي السبب إليها، وذلك بالإعراض أو الإقلاع عما يضاد المغفرة، وقدم المغفرة لأنها هي الغرض المطلوب، والتوبة سبب إليها. وقد تقدم في أول السورة توضيح الفرق. 2- اقتصرت إجابة عاد قوم هود له على التركيز على عبادة الآلهة من الأصنام والأوثان، وتقليد الأسلاف، وذلك يدل على تعطيل الفكر والعقل، وعدم النظر الحر الطليق القائم على الاستدلال بالأدلة الكثيرة والمعجزات المتضافرة التي أظهرها الله على يد هود عليه السلام، ومنها تحديهم بالمكايدة والمعاداة والإضرار له جميعا هم وآلهتهم، وعدم الإمهال ساعة، وهو موقف يدل مع كثرة الأعداء على كمال الثقة بنصر الله تعالى، وهو أيضا من أعلام النبوة: أن يكون الرسول وحده

يقول لقومه: فَكِيدُونِي جَمِيعاً.. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلّم لقريش، وقال نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس 10/ 71] 3- التوكل على الله الخالق القاهر المتصرف بالمخلوقات كيف يشاء، والمانع مما يشاء هو من أصول الإيمان التي تمنع وصول الضرر إلى النبي هود عليه السلام وكل مؤمن صادق مخلص، فما من نفس تدب على الأرض أو في السماء إلا وهي تحت سلطان الله وقهره وتصرفه. 4- الله تعالى قادر على الحق والعدل، وهو سبحانه وإن كان قادرا على قوم عاد العتاة الأشداء، لكنه لا يظلمهم، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب. 5- مهمة الأنبياء هي تبليغ الرسالات ومحاجة الكفار، فإن أعرض الناس عن دعواتهم وبيانهم، فهم أي الأنبياء قد أبرؤوا الذمة، وأدوا الغرض، وكان الناس الكافرون المعرضون هم الذين يخسرون، ويتضررون، ويتعرضون للعذاب في الدنيا بالإهلاك، واستخلاف قوم آخرين هم أطوع لله منهم يوحدونه ويعبدونه، وفي الآخرة بدخول جهنم. والله رقيب على كل شيء من أقوال العباد وأفعالهم، ويحاسبهم ويجازيهم عليها. 6- أحوال قبيلة عاد خطيرة ذات أوصاف ثلاثة: هي الجحود بآيات ربهم، وعصيان رسولهم، واتباعهم أو تقليدهم أوامر رؤسائهم دون تفكير ولا روية. 7- كانت عقوبة قبيلة هود لحوق اللعنة عليهم في الدنيا من الله ومن الناس، وهلاكهم بريح صرصر عاتية وبعدهم عن الخير، والطرد من رحمة الله في يوم القيامة، وما ربك بظلام للعبيد.

قصة صالح عليه السلام [سورة هود (11) الآيات 61 إلى 68] :

قصة صالح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) الإعراب: ثَمُودَ ممنوع من الصرف عند الجمهور، على إرادة القبيلة، وقرأه بعضهم مصروفا على إرادة الحي. لَكُمْ آيَةً إما حال من ناقَةُ اللَّهِ أي: هذه ناقة الله لكم آية بيّنة ظاهرة، وعامله معنى الإشارة، وإما تمييز أي: هذه ناقة الله لكم من جملة الآيات. وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ من قرأه بالكسر أعربه على الأصل، ومن قرأه بالفتح بناه لإضافته

البلاغة:

إلى غير متمكّن لأن ظرف الزمان إذا أضيف إلى اسم غير متمكن أو مبني أو فعل ماض، بني، كما في قول الشاعر: على حين عاتبت المشيب على الصّبا فقلت: ألمّا تصح، والشيب وازع فبنى حين على الفتح لإضافته إلى الفعل الماضي. والتنوين في إذا من يَوْمِئِذٍ عوض عن جملة محذوفة، ويسمى تنوين التعويض. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قال: أخذ لأنه فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وهو الَّذِينَ ظَلَمُوا أو لأن تأنيث الصيحة غير حقيقي، أو محمول على المعنى لأن الصيحة في معنى الصياح، كقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ.. لأن موعظة في معنى وعظ. أَلا إِنَّ ثَمُودَ من صرفه جعله اسم الحي، ومن لم يصرفه جعله اسم القبيلة معرفة، فلم ينصرف للتعريف والتأنيث. كَأَنْ مخففة، واسمها محذوف، أي كأنهم. البلاغة: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ استفهام معناه النفي، أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. المفردات اللغوية: وَإِلى ثَمُودَ أي وأرسلنا إلى ثمود أَخاهُمْ من القبيلة اعْبُدُوا اللَّهَ وحدّوه هُوَ أَنْشَأَكُمْ ابتدأ خلقكم وتكوينكم منها، لا غيره، فإنه خلق آدم ومواد النّطف التي خلق نسله منها من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم تعمرونها، وأبقاكم عمركم فيها، تسكنون بها فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا إليه بالطاعة وأقلعوا عن الذنب إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قريب الرحمة من خلقه بعلمه مُجِيبٌ لمن سأله أو لداعيه. مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا مأمولا أن تكون لنا سيدا أو مستشارا في الأمور لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فلما سمعنا هذا القول الذي صدر منك، انقطع رجاؤنا عنك أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، على حكاية الحال الماضية وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد، والتبري من الأوثان مُرِيبٍ موقع في الريبة أو الريب أي الظن والشك أَرَأَيْتُمْ من رؤية القلب، أي أتدبرتم؟ عَلى بَيِّنَةٍ بيان وبصيرة، واستعمل حرف الشك في قوله إِنْ كُنْتُ باعتبار

المناسبة:

المخاطبين رَحْمَةً نبوة فَمَنْ يَنْصُرُنِي يمنعني مِنَ اللَّهِ أي من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ في تبليغ رسالته، والمنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي أي فما تطلبون مني باتباعكم غَيْرَ تَخْسِيرٍ تضليل أو إيقاع في الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد، أو بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ دعوها ترعى نباتها وتشرب ماءها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ عقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا، وهو ثلاثة أيام، إن عقرتموها فَعَقَرُوها قتلوها، عقرها قدار بأمرهم فَقالَ صالح تَمَتَّعُوا عيشوا في منازلكم ثلاثة أيام: الأربعاء والخميس والجمعة، ثم تهلكون غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أربعة آلاف وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي ونجيناهم من هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة الْقَوِيُّ القادر على كل شيء الْعَزِيزُ الغالب على كل شيء. الصَّيْحَةُ المرة الواحدة من الصوت الشديد المهلك، والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب، وصعق بها الكافرون جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين، أو ساقطين على وجوههم مصعوقين، والجثوم للطائر كالبروك للبعير يَغْنَوْا يقيموا فِيها في دارهم بُعْداً هلاكا وطردا من رحمة الله، وهو اللعن. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، وهي قصة صالح مع ثمود، وصالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود: الحجر: وهي بين الحجاز والشام، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم. ونظم هذه القصة مثل النظم المذكور في قصة هود، إلا أنه لما أمرهم بالتوحيد هاهنا ذكر في تقريره دليلين: الإنشاء من الأرض، والاستعمار فيها أي جعلكم عمارها. وقد ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف. وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها، ومضمون القصة تبليغ صالح دعوته، ومناقشتهم، وإنذارهم بالهلاك، وردودهم عليه، وتأييد صدقه بمعجزة الناقة، وقتلهم لها، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ولقد أرسلنا إلى ثمود الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد، أرسلنا لهم رجلا منهم أي من قبيلتهم، وهو صالح عليه السلام، فأمرهم بعبادة الله وحده، وأقام لهم دليلين على التوحيد: الدليل الأول- قوله: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها، إذ خلق منها أباكم آدم فهو أبو البشر، ومادة التراب هي المادة الأولى التي خلق منها آدم، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين، بالوسائط التالية: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة تكسى بعدئذ بهيكل عظمي ولحم، وأصل النطفة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء إما من نبات الأرض أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات. والدليل الثاني- وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها بالزراعة والصناعة والبناء والتعدين. فكون الأرض قابلة للعمارة النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرا عليها، دليل على وجود الصانع الحكيم، الذي قدر فهدى، ومنح الإنسان العقل الهادي والأداة لتسخير موجودات الدنيا، وجعل له القدرة على التصرف. وإذا كان الله هو المستحق للعبادة وحده، فاستغفروه لسالف ذنوبكم، من الشرك والمعصية، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنب في الماضي، والعزم على عدم العودة إليه وإلى أمثاله في المستقبل. إن ربي قريب من خلقه بالرحمة والعلم والسمع، مجيب دعوة الداعي المحتاج المخلص بفضله ورحمته، كقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186]

فأجابوه بكلام يدل على الجهل والعناد: قالُوا: يا صالِحُ.. أي قال قوم ثمود: يا صالح، قد كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت، أو كنا نأمل أن تكون سيدا أو مستشارا في الأمور لما نرى لك من رجاحة في العقل وسداد في التفكير، فالآن خيبت الآمال وقطعت الرجاء. وقال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: كان فاضلا خيّرا. والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: مَرْجُوًّا مشورا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر. ثم تعجبوا من دعوته قائلين: أتنهانا عن عبادة الآباء والأسلاف؟ وقد تتابعوا على تلك العبادة كابرا عن كابر دون إنكار من أحد. وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك التوسل إليه بالشفعاء المقربين عنده، وهو شك موقع في التهمة وسوء الظن. والشك: هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات، والمريب: هو الذي يظن به السوء. والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد، ووجوب متابعة الآباء والأسلاف. وهذا نظير ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص 38/ 5] . فأجابهم صالح مبينا ثباته على المبدأ ومنهج النبوة: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.. أي كيف أعصي الله في ترك ما أنا عليه من البينة؟ أخبروني ماذا أفعل، إن كنت على برهان وبصيرة ويقين فيما أرسلني به إليكم، وآتاني منه رحمة، أي نبوة تتضمن تبليغ ما أوحى به إلي.

وقدّروا أني نبي على الحقيقة، وكان على يقين أنه على بيّنة لأن خطابه للجاحدين، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟! وإذا تابعتكم وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، لما نفعتموني، ولما رددتموني حينئذ غير خسارة وضلال، باستبدال بما عند الله ما عندكم. ولما كانت عادة الأنبياء ابتداء الدعوة إلى عبادة الله، ثم اتباعها بدعوى النبوة، فإن صالحا عليه السلام الذي طلبوا منه المعجزة على صحة قوله، أتاهم بمعجزة الناقة. روي أن قومه خرجوا في عيد لهم، فسألوه أن يأتيهم بآية، وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا صالح ربه، فخرجت الناقة كما سألوا. وقال لهم: هذه آية على صدقي: ناقة الله، التي تتميز عن سائر الإبل بأكلها وشربها وغزارة لبنها، كما قال تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 54/ 27- 28] . فاتركوها تأكل ما شاءت في أرض الله من المراعي، دون أن تتحملوا عبء مؤنتها، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه، فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن إصابتكم إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم. فلم يسمعوا نصحه، وكذبوه وعقروها، عقرها بأمرهم قدار بن سالف، كما قال تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29] فقال لهم: استمتعوا بالعيش في داركم، أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار، مدة ثلاثة أيام، ذلك وعد مؤكد غير مكذوب فيه. ثم وقع ما أوعدهم به: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي فلما حان وقت أمرنا بالعذاب والإهلاك، وحل العقاب ووقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة، نجينا صالحا والمؤمنين معه، برحمة منا، ونجيناهم من عذاب شديد، ومن ذل ومهانة

فقه الحياة أو الأحكام:

حدثت يومئذ أي يوم وقوع الهلاك أو يوم القيامة، والخزي: الذل العظيم البالغ حد الفضيحة، إن ربك هو القوي القادر الغالب على كل شيء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكلمة يَوْمِئِذٍ إما بفتح الميم فهو معرب، أو بكسرها فهو مبني مضاف لغير متمكن. وأصبح أمرهم أنه أخذتهم صيحة العذاب وهي الصاعقة ذات الصوت الشديد المهلك، التي تزلزل القلوب، وتصعق عند سماعها النفوس، فصعقوا بها جميعا، وأصبحوا جثثا هامدة ملقاة على الأرض. وكأنهم لسرعة هلاكهم لم يوجدوا في الدنيا، ولم يقيموا في ديارهم، بسبب كفرهم وجحودهم بآيات ربهم، ألا إنهم كفروا بربهم، فاستحقوا عقابه الشديد، ألا بعدا لهم عن رحمة الله، وسحقا لثمود، وهلاكا لهم ولأمثالهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت قصة صالح مع قومه ثمود على العبر والعظات التالية: 1- إن جحود ثمود وكفرهم بآيات الله وعدم إطاعتهم أوامر رسولهم كان هو شأن هؤلاء القوم إيثارا لتقليد الآباء والأسلاف، بالرغم من أن صالحا عليه السلام منهم نسبا وقبيلة، وأقام لهم الأدلة الكافية الشافية على وجوب عبادة الله وتوحيده، من الخلق والإيجاد في الأرض، وجعلهم عمارا لها. 2- إن الاستغفار من الذنوب والتوبة من المعاصي سبب سريع لإجابة الدعاء لأن الله قريب من عباده، رحيم بهم، مجيب دعوة المحتاجين والمضطرين، قريب الإجابة لمن دعاه. 3- لا تلاقي بين جحود الجاحدين من ثمود وأمثالهم وبين النبي صالح وأمثاله من الأنبياء لأن الجاحدين متمسكون بتقليد الآباء والأسلاف، والنبي ثابت على مبدئه ثبوت الجبال الراسيات، لأنه على يقين من صحة دعوته، وبصيرة من

صدق ما أوحى الله به إليه، ولأنه أشد الناس خوفا من عذاب الله إن عصاه وخالف أمره. 4- كانت الناقة معجزة عجيبة مدهشة لخلقها من الصخرة وخلقها في جوف الجبل، وخلقها حاملا من غير ذكر، وخلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة، ولما كان لها من شرب يوم، ولكل القوم شرب يوم آخر، ولإدرارها بلبن كثير يكفي الخلق العظيم، فهذه ستة وجوه، كل وجه منه معجز، مما جعل تلك الناقة آية ومعجزة. 5- اقتضى العدل الإلهي ورحمة الله إنجاء صالح عليه السلام ومن آمن معه، وكانوا أربعة آلاف، وإهلاك قبيلة ثمود بسبب الجحود برسالة نبيهم، وكفرهم بربهم، وإنكارهم وجوده. 6- لا شك بأن وعد الأنبياء صادق صحيح، ووعيدهم مؤكد الحصول، وقد أوعد صالح قومه بالعذاب بعد ثلاثة أيام، وتحقق ذلك في اليوم الرابع. 7- كان عذابهم بالصيحة أو بالصاعقة أو بالرجفة، صيح بهم فماتوا، وأصبحوا جثثا ملقاة هنا وهناك في أنحاء ديارهم. والصيحة: إما صيحة جبريل، أو صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا، لما أحدثته من رهبة وهيبة عظيمة. 8- سحقا وهلاكا لثمود الذين كفروا ربهم، وبعدا وطردا لهم عن رحمة الله بسبب جحودهم وكفرهم.

قصة إبراهيم عليه السلام - بشارته بإسحاق ويعقوب -[سورة هود (11) الآيات 69 إلى 76] :

قصة إبراهيم عليه السلام- بشارته بإسحاق ويعقوب- [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) الإعراب: وَلَقَدْ اللام لتأكيد الخبر، ودخلت لَقَدْ هاهنا لأن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع. قالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ الأول منصوب بقالوا أو على المصدر، والثاني مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي وعليكم سلام، أو مرفوع على الحكاية. أَنْ جاءَ إما في محل نصب على تقدير حذف حرف الجرّ، أي عن جاء، وإما في محل

البلاغة:

رفع على أنه فاعل لَبِثَ أي فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ، أي مشوي. وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ منصوب بتقدير فعل دل عليه فَبَشَّرْناها أي بشرناها بإسحاق، ووهبنا له يعقوب، أو معطوف على موضع قوله: بِإِسْحاقَ. ويقرأ بالضم مبتدأ، أو مرفوعا بالجار والمجرور، ويقرأ بالجر معطوفا على بِإِسْحاقَ. شَيْخاً حال من معنى اسم الإشارة أو التنبيه، ويقرأ بالرفع إما خبرا بعد خبر أو بدلا من بَعْلِي أو يكون بَعْلِي بدلا من هذا، وشيخ خبر عن هذا، أو شيخ خبر مبتدأ آخر، أي هذا شيخ، ونظيره في هذه الأوجه الأربعة قوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا [الكهف 18/ 106] . أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على المدح أو النداء بقصد التخصيص، والأصح أنه منصوب على الاختصاص. فَلَمَّا ذَهَبَ.. لما ظرف زمان، جوابه محذوف، أي أقبل يجادلنا. وجملة يُجادِلُنا حال من ضمير أقبل وهو ضمير إبراهيم. آتِيهِمْ عَذابٌ مرفوع باسم الفاعل الذي جرى خبرا، فجرى مجرى الفعل، أي فإنه يأتيهم. البلاغة: أَأَلِدُ؟ استفهام معناه التعجب. ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ.. وَجاءَتْهُ بينهما طباق. جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ كناية عن العذاب الذي حكم به الله عليهم. المفردات اللغوية: رُسُلُنا الملائكة، قيل: كانوا تسعة، وقيل: ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل بِالْبُشْرى ببشارة الولد، وقيل: بهلاك قوم لوط قالُوا: سَلاماً سلمنا عليك سلاما، أو منصوب بقالوا أي ذكروا سلاما قالَ: سَلامٌ أمركم سلام أو جوابي سلام أو وعليكم سلام، وقد أجابهم بالرفع بأحسن من تحيتهم فَما لَبِثَ أبطأ حَنِيذٍ مشوي بالرّضف أي بالحجارة المحماة لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي لا تمتد للتناول نَكِرَهُمْ أنكر ذلك منهم، ضد عرفه وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أحسّ منهم خوفا في نفسه إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب،

المناسبة:

وإنما نمدّ إليه أيدينا لأنا لا نأكل. ولوط: النبي الكريم ابن أخي إبراهيم وأول من آمن به. وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وراء الستر، تسمع محاورتهم، أو تقوم بالخدمة. فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخوف، أو بهلاك أهل الفساد وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي وهبناها من بعد إسحاق يعقوب يا وَيْلَتى أصله يا ويلي وهلاكي أي يا عجبا، وهي كلمة تقال عند التعجب من بلية أو فجيعة أو فضيحة. بَعْلِي زوجي، وأصله القائم بالأمر، ويجمع على بعولة شَيْخاً ابن مائة أو مائة وعشرين أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين أو تسع وتسعين، فهي عقيم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يعني الولد من هرمين، وهو تعجب من حيث العادة لا القدرة الإلهية مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قدرته وحكمته، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات، ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل، فضلا عمن نشأت وشبت في ملاحظة الآيات. إِنَّهُ حَمِيدٌ تحمد أفعاله مَجِيدٌ كثير الخير والإحسان الرَّوْعُ الخوف والرعب وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الروع. يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ يجادل رسلنا في شأنهم قائلا: إن فيها لوطا. لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسيء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس مُنِيبٌ راجع إلى الله، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط رحمته. يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول، أي قالت الملائكة: يا إبراهيم أَعْرِضْ عن هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك. المناسبة: هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وقد ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكر إبراهيم في القرآن كثيرا، ذكر مع أبيه وقومه، وذكر هنا مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب، مخبرين له بهلاك قوم لوط، وذكر مع إسماعيل خاصة في موضع آخر، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن ضيافته. التفسير والبيان: والله لقد جاءت رسلنا الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل مع

جبريل سبعة ملائكة آخرون، وذلك مروي عن عطاء وغيره من التابعين، جاءت الرسل إبراهيم بالبشرى تبشره بالولد إسحاق لقوله تعالى هنا: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وقوله: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات 51/ 28] . وقيل: البشرى بهلاك قوم لوط وسلامة لوط. قالوا: سلاما عليك، قال: سلام عليكم، وهذا أحسن مما حيوه لأن الرفع بقوله سَلامٌ يدل على الثبوت والدوام، كما ذكر علماء البيان. فما لبث أي فما أبطأ وذهب سريعا، فأتاهم بالضيافة بعجل (وهو فتى البقر) مشوي على الرّضف (جمع رضفة) وهي الحجارة المحماة بالنار أو بالشمس، كما قال تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات 51/ 26] . فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام، أنكر ذلك منهم، ووجد في نفسه خوفا وفزعا منهم، إذ أدرك أنهم ليسوا بشرا، وربما كانوا ملائكة عذاب. قالوا له: لا تخف، فنحن لا نريد سوءا بك، وإنما أرسلنا لا هلاك قوم لوط، وكانت ديارهم قريبة من دياره. ونحن نبشرك بغلام عليم، يحفظ نسلك، ويبقي ذكرك، وهو إسحاق، ثم يعقوب من بعده وهو الذي من ذريته أنبياء بني إسرائيل. وكانت امرأة إبراهيم قائمة وراء ستار بحيث ترى الملائكة، أو كانت واقفة تخدم الملائكة، فضحكت سرورا بزوال الخوف وتحقيق الأمن، أو استبشارا بهلاك قوم لوط لكراهتها لأفعالهم المنكرة، وغلظ كفرهم وعنادهم، فجوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ أي فبشرناها بولد هو إسحاق، وسيلد لإسحاق ولد هو يعقوب كما في قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام 6/ 84] . وفسر مجاهد وعكرمة: فَضَحِكَتْ أي حاضت، وكانت آيسة، تحقيقا للبشارة.

وهو تفسير غريب مخالف لرأي الجماهير. وذلك لأنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر، تمنّت سارّة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنّها، فبشرت بولد يكون نبيا، ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. قالت سارّة لما بشرت بالولد: عجبا كيف ألد وأنا عجوز كبيرة شيخة عقيم، وزوجي في سن الشيخوخة لا يولد لمثله، إن هذا الخبر لشيء عجيب غريب عادة. فأجابتها الملائكة: كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، أي لا عجب من ان يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق، فإن الله لا يعجزه شيء في الكون وهو على كل شيء قدير: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . فإن رحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة، وقد توورثت النبوة في نسل إبراهيم إلى يوم القيامة، إنه تعالى المحمود في جميع أفعاله وأقواله، المستحق لجميع المحامد، الممجد في صفاته وذاته، الكثير الخير والإحسان، فهو محمود ماجد. ثم أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الخوف من الملائكة حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد، وأخبروه بهلاك قوم لوط، وعلم أنهم ملائكة العذاب لقوم لوط، أخذ يجادل الملائكة وهم رسل الله في قوم لوط، وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنهم جاؤوا بأمره. لأن إبراهيم حليم غير متعجل بالانتقام من المسيء إليه، كثير التأوه مما يسوء الناس ويؤلمهم، ويرجع إلى الله في كل أموره، أي أن رقة قلبه وفرط رحمته حملته على المجادلة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فأجابته الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ القضاء والعذاب فيهم، وإنهم آتيهم عذاب غير مصروف ولا مدفوع عنهم أبدا، لا بجدال ولا بدعاء ولا بشفاعة ونحوها. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت القصة إلى ما يلي: 1- تبادل السلام بين الملائكة وبين الأنبياء، فقد سلم الملائكة على إبراهيم عليه السلام بقولهم: سلاما، كما تقول: قالوا خيرا، فرد عليهم بتحية أحسن، فقال: سلام عليكم. 2- دلت الآية أن من أدب الضيف أن يعجّل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان لديه شيء وسعة، ولا يتكلف المفقود غير المستطاع الذي يتضايق به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وهي سنة وليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي شريح، وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة: «الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة» . وقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح وأبي هريرة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . والمخاطب بالضيافة أهل المدن أو الحضر والبادية في رأي الشافعي، وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة، لحديث القضاعي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الضيافة على أهل الوبر، وليست على أهل المدر» لكنه حديث لا يصح، كما قال القرطبي.

والسنة إذا قدّم للضيف الطعام أن يبادر المقدّم إليه بالأكل فإن تكريم الضيف من مضيفه تعجيل التقديم، وتكريم صاحب المنزل من ضيفه المبادرة بالقبول. فلما قبض الملائكة أيديهم، تخوف إبراهيم، أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. ومن أدب الطعام: أن ينظر المضيف في ضيفه، هل يأكل أولا؟ وذلك بلمح نظر سريع، لا بتأكيد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلت معك. 3- مشاركة الزوجة لعواطف زوجها أمر مستحسن، فإن سارّة ضحكت استبشارا بتعذيب قوم لوط، لكراهتها خبائثهم، قال الجمهور: هو الضحك المعروف. وأنكر بعض اللغويين أن يكون في لغة العرب: ضحكت بمعنى حاضت. 4- من السنة قيام المرأة بخدمة الرجال الضيوف بنفسها، وترجم البخاري لحديث في ذلك: «باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس» قال القرطبي: ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. 5- امتنع الملائكة من الطعام لأنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أتوا إبراهيم في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها، وهو كان مشغوفا بالضيافة. 6- ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدّم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن فقال لهم: «ثمنه أن تذكروا الله في أوله، وتحمدوه في آخره» فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا.

قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة هود (11) الآيات 77 إلى 83] :

7- إن رحمة الله متكاثرة، وبركاته على أهل بيت النبوة متعاقبة، فكان التبشير بولادة ولد لزوجين عجوزين معجزة خارقة للعادة، وتخصيصا لبيت النبوة بكرامة عالية رفيعة، والله تعالى قادر على كل شيء، وإنه حميد مجيد، فلا عجب بعدئذ. 8- إن جدل إبراهيم في شأن إهلاك قوم لوط ليس من الذنوب، بدليل إيراد المدح العظيم عقبه بقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ أي إن رقة قلبه وفرط رحمته وسعة حلمه حملته على المجادلة، التي كان المراد منها سعي إبراهيم في تأخير العذاب عن قوم لوط، رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة من المعاصي. 9- دلت آية رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ على أن زوجة الرجل من أهل البيت، وأن أزواج الأنبياء من أهل البيت، فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم وممن قال الله فيهم: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب 33/ 33] . قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

الإعراب:

الإعراب: يُهْرَعُونَ في موضع الحال. هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ هؤُلاءِ مبتدأ، وبَناتِي عطف بيان، وهُنَّ ضمير فصل، وأَطْهَرُ خبر المبتدأ. فِي ضَيْفِي وحّد الضيف وإن كان جمعا في المعنى لأن ضيفا في الأصل مصدر يصلح للواحد والاثنين والجماعة. لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً.. لَوْ حرف امتناع لامتناع، وجوابه محذوف تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هاهنا أبلغ لأنه يوهم تعظيم الجزاء. وآوِي منصوب بأن، ليكون الفعل معها بتأويل المصدر معطوفا على قُوَّةً وتقديره: لو أن لي بكم قوة أو اويا. مثل قول ميسون بنت الحارث أم يزيد بن معاوية: ولبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إلى من لبس الشفوف أي: وأن تقرّ عيني. إِلَّا امْرَأَتَكَ مستثنى منصوب من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ ويرفع على البدل من أَحَدٌ. والمراد بالنهي وَلا يَلْتَفِتْ في رأي المبرد المخاطب، ولفظه لغيره، كما تقول لغلامك: لا يخرج فلان، أي لا تدعه يخرج. البلاغة: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ استفهام معناه التعجب والتوبيخ.

المفردات اللغوية:

أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ استعارة، والمراد بها قومه وعشيرته لأن الإنسان يلجأ إليهم ويستند كالاستناد إلى ركن. عالِيَها سافِلَها بينهما طباق. المفردات اللغوية: سِيءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم وحزن بسببهم لأنهم جاؤوا في صورة غلمان، فظن أنهم أناس، فخاف أن يقصدهم قومه، فيعجز عن مدافعتهم. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وهو كناية عن شدة الانقباض، للعجز عن مدافعة المكروه، يقال: ما لي به ذرع أي مالي به طاقة عَصِيبٌ شديد الأذى. يُهْرَعُونَ يسرعون، يقال: هرع وأهرع: إذا حمل على الإسراع وَمِنْ قَبْلُ قبل مجيئهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش وهي إتيان الرجال في الأدبار. هؤُلاءِ بَناتِي فتزوجوهن هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا أو أقل فحشا، وقال أبو حيان: الأحسن أن تكون الإضافة مجازية أي بنات قومي، أي البنات أطهر لكم إذ النبي يتنزل منزلة الأب لقومه. وفي قراءة ابن مسعود: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم» ويدل عليه: أنه فيما قيل: لم يكن له إلا بنتان، وهذا بلفظ الجمع، وأيضا فلا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه. وقيل: أشار إلى بنات نفسه، وندبهم إلى النكاح إذ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر. وقيل: (أحل وأطهر) ليس أفعل التفضيل إذ لا طهارة في إتيان الذكور. وَلا تُخْزُونِ تفضحوني، من الخزي، أو لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء فِي ضَيْفِي أضيافي، يطلق الضيف على الواحد والجمع رَشِيدٌ ذو رشد وعقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح مِنْ حَقٍّ من حاجة لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من إتيان الرجال. لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً طاقة، أي لو قويت بنفسي على دفعكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قوي أمتنع به عنكم، أو عشيرة تنصرني، لبطشت بكم لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ طائفة أو بقية من الليل، والسّرى: السير ليلا وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ولا يتخلف أو ولا ينظر إلى ورائه، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط، وسبب النهي ألا يرى عظيم ما ينزل بهم إِلَّا امْرَأَتَكَ فلا تسر بها إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ تعليل بطريقة الاستئناف، قيل: إنه لم يخرج بها، وقيل: خرجت والتفتت فقالت: وا قوماه، فجاءها حجر فقتلها. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنه علة الأمر بالإسراء، أو قد سألهم عن وقت هلاكهم، فأخبروه بذلك. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا أو أمرنا به جَعَلْنا عالِيَها أي قراهم سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض مِنْ سِجِّيلٍ طين طبخ بالنار، بدليل آية أخرى لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات 51/ 33] أي طين متحجر.

المناسبة:

مَنْضُودٍ متتابع منظم ومعدّ لعذابهم مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب، أي لها علامة خاصة عند ربك أي في خزائنه وَما هِيَ الحجارة أو بلادهم مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي أهل مكة وأمثالهم، وهذا وعيد لكل ظالم، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سأل جبريل عليه السلام، فقال: يعني ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. المناسبة: هذه هي القصّة الخامسة من القصص المذكورة في هذه السّورة، وهي قصة لوط عليه السّلام، وقوم لوط: أهل سدوم في الأردن. قال ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط (ابن أخي إبراهيم) وبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله. التفسير والبيان: ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا، بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم هذه الليلة، وكانوا في أجمل صورة بهيئة شباب حسان الوجوه، ابتلاء من الله، فساءه شأنهم ومجيئهم، وضاقت نفسه بسببهم لأنه ظنّ أنهم من الإنس، فخاف عليهم خبث قومه، وأن يعجزوا عن مقاومتهم، وقال: هذا يوم عصيب أي شديد البلاء. وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ.. وجاء لوطا قومه عند ما سمعوا بالضّيوف وقدومهم، بإخبار امرأته قومها، يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، لإتيان الفاحشة، وليس ذلك غريبا، فإنهم كانوا قبل مجيئهم يعملون السّيئات ويرتكبون الفواحش، فلم يزل هذا من سجيّتهم، حتى أخذوا وهم على تلك الحال، كما حكى الله عنهم: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت 29/ 29] أي ظلوا يقترفون الفاحشة إلى وقت الهلاك.

قالَ: يا قَوْمِ، هؤُلاءِ.. قال لوط: يا قوم، هؤلاء البنات فتزوّجوهنّ، والمراد بنات القوم ونساؤهم فإن النّبي للأمّة بمنزلة الوالد، كما قال ابن عباس، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدّنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشّعراء 26/ 165- 166] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد: لم يكنّ بناته، ولكن كنّ من أمته، وكلّ نبي أبو أمته. وقال ابن جريج: أمرهم أن يتزوّجوا النّساء، لم يعرض عليهم سفاحا. وقال سعيد بن جبير: يعني نساءهم هنّ بناته، وهو أب لهم. فَاتَّقُوا اللَّهَ.. أي فاخشوا الله، وأقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم، ولا تفضحوني أو لا تخجلوني في ضيوفي، فإن إهانتهم إهانة لي. أليس منكم رجل فيه رشد وحكمة وعقل وخير يقبل ما آمر به ويترك ما أنهى عنه، ويهديكم إلى الطريق الأقوم. قالوا: لقد علمت سابقا ألا حاجة لنا في النّساء ولا نشتهيهنّ، فلا فائدة فيما تقول، وليس لنا غرض إلا في الذّكور، وأنت تعلم ذلك منا، فأي فائدة في تكرار القول علينا في ذلك؟ والمراد أنهم صمموا على ما يريدون. قال لوط لقومه متوعّدا: لو كان لدي قوة تقاتل معي، أو عشيرة تؤازرني وتنصرني عليكم، وتدفع الشّرّ عني، لكنت قاتلتكم وحلت بينكم وبين ما تريدون. وبعد هذه المخاوف من الفضيحة التي أقلقت لوطا على ضيفانه، بشرته الملائكة بنجاته منهم وهلاكهم بالعذاب: قالُوا: يا لُوطُ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ.. أي قالت الملائكة للوط: إنا رسل ربّك أرسلنا لنجاتك من شرّهم، وإهلاكهم، لن يصلوا بسوء إليك ولا إلى ضيوفك، وحينئذ طمس الله أعينهم، فلم يعودوا

يبصروا لوطا ومن معه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر 54/ 37] . فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ.. أي فاخرج من هذه القرية في جزء من الليل يكفي لتجاوز حدودها، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذّاريات 51/ 35- 36] . وَلا يَلْتَفِتْ.. أي ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه أبدا، حتى لا يصيبه شيء من العذاب، أو يتعاطف معهم، وامضوا حيث تؤمرون. إِلَّا امْرَأَتَكَ ... أي امض بأهلك إلا امرأتك فلا تأخذها معك، إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب لأنها كانت كافرة خائنة. ثم ذكر علّة الإسراء ليلا، فقال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أي إن موعد عذابهم وبدءه هو الصّبح من طلوع الفجر إلى شروق الشّمس، كما قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر 15/ 73] . أليس موعد الصّبح بموعد قريب، وسبب اختيار هذا الوقت كونهم متجمعين في مساكنهم. روي أنهم لما قالوا للوط عليه السّلام: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال: أريد أعجل من ذلك، بل الساعة، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسّرون: إن لوطا عليه السّلام لما سمع هذا الكلام، خرج بأهله في الليل. فلما جاء أمرنا بالعذاب، وكان ذلك عند طلوع الشّمس، ونفذ قضاؤنا، جعلنا عاليها وهي سدوم سافلها، وخسفنا بهم الأرض، وأمطرنا عليهم حجارة من طين متحجّر، منضّد بعضها فوق بعض وتتابع في النّزول عليهم، مسوّمة أي معلّمة للعذاب، عليها علامة خاصة عند ربّك أي في خزائنه، كقوله تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. فَغَشَّاها ما غَشَّى [النّجم 53/ 53- 54] . فمن لم يمت حتى سقط للأرض، أمطر الله عليه، وهو تحت الأرض الحجارة، حجارة من سجيل، أي طين متحجّر قوي شديد. وفي التّفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرّحمة. ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة متوعّدا بها كلّ ظالم فقال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي وما هذه النّقمة أو تلك القرى التي وقعت فيها ممن تشبه بهم في ظلمهم كأهل مكة ببعيد عنه، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها. قال أنس: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل عن هذا، فقال: يعني عن ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم، إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وفي هذا عبرة للظالمين في كلّ زمان ومكان. وجاء بِبَعِيدٍ مذكّرا على معنى بمكان بعيد. ونظير الآية: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات 37/ 137- 138] ، أي وإنكم لتمرّون على ديارهم في أسفاركم نهارا أو ليلا، أفلا تعقلون وتتدبّرون بما نزل بهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت قصة لوط عليه السّلام مع قومه على ما يأتي: 1- إنّ المؤمن يغار على حرمات الله، ويستبق وقوع الحوادث استعدادا للبلاء قبل نزوله، لذا استاء لوط عليه السّلام من مجيء وقد الملائكة (ملائكة العذاب الذين بشّروا إبراهيم بالولد) وضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وقال: هذا يوم شديد في الشّر. لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، بصرت بنتا لوط- وهما تستقيان- بالملائكة، ورأتا هيئة حسنة

فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية، قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ، وأشارتا إلى لوط فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم. 2- كان مجيء القوم مسرعين بقصد ارتكاب الفاحشة دليلا ماديا محسوسا للملائكة وغيرهم على استحقاقهم العذاب الأليم والعقاب السريع. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إنّ لوطا قد أضاف الليلة فتية، ما رئي مثلهم جمالا وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرّسل لما وصلوا إلى بلد لوط، وجدوا لوطا في حرث (بستان) له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم.. إلخ ما ذكر سابقا. 3- كان قوم لوط يعملون السّيئات، أي كانت عادتهم إتيان الرّجال، فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: هؤلاء بناتي، أي أرشدهم إلى التّزوج بالنّساء، وإيثار البنات على الأضياف وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النّكاح، وكانت سنّتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنتا له من عقبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الرّبيع قبل البعثة والوحي، وكانا كافرين. وقال جماعة من المفسّرين كمجاهد وسعيد بن جبير: أشار بقوله: بَناتِي إلى النّساء جملة إذ نبيّ القوم أب لهم، ويؤيّد هذا أن في قراءة ابن مسعود: «النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم» ، والظاهر أن هذا هو أمثل الآراء وأقربها إلى الصحة.

4- إن الكريم الشّهم الأبي هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه، لذا قال لوط: فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تهينوني ولا تذلّوني. ثم وبّخهم بقوله: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟ أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو ذو رشد، أو راشد أو مرشد أي صالح أو مصلح. والرّشد والرّشاد: الهدي والاستقامة. 5- من ألف الفساد والفحش بعد عن الصّلاح والطّهر، لذا قال قوم لوط: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي ليس لنا إلى بناتك رغبة ولا هنّ نقصد، ولا لنا عادة نطلب ذلك، فإن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا أو طريقنا الذي نحن عليه، ولا حاجة لنا بالبنات، أو لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض لا جدّية فيه، فقوله: مِنْ حَقٍّ أي مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة. ثم أعلنوا عن شهوتهم فقالوا: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ إشارة إلى الأضياف، والرّغبة في إتيان الذّكور، وما لهم فيه من الشّهوة. 6- لم يجد لوط عليه السّلام سبيلا للرّدع والإرهاب إلا التّهديد وإظهار الغضب والضّجر من موقف قومه، واستمرارهم في غيّهم، وضعفه عنهم وعجزه عن دفعهم، فتمنى لو وجد عونا على ردّهم، وقال على جهة التّفجع والاستكانة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي أنصارا وأعوانا، لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون، أو لو أجد ملجأ ألجأ وأنضوي إليه من قبيلة أو عشيرة تؤازرني ضدّ البغي والبغاة، والظّلم والظّالمين، والفسق والفاسقين. وهو دليل على أن لوطا كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حقّ أضيافه.

7- لما رأت الملائكة حزن لوط عليه السّلام واضطرابه ومدافعته، عرّفوه بأنفسهم: قالُوا: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ فلما علم أنهم رسل، مكّن قومه من الدّخول، فأمر جبريل عليه السّلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفّت. وطمأنوه بقولهم: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بمكروه، وكان كلام الملائكة متضمّنا أنواعا خمسة من البشارات هي: أنهم رسل الله، وأن الكفار لن يصلوا إلى ما همّوا به، وأنه تعالى يهلكهم، وأنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب، وأن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى. 8- اقتضت رحمة الله تعالى وعدله إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، وتلك معجزة للنّبي وتكريم لمن آمن معه، وردع للظّالمين وإرهاب للكافرين. فأنقذ الله لوطا وأهله وهم بنتاه إلا امرأته، وأهلك قومه. 9- كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس بقلب جبريل عليه السّلام قرى قوم لوط وجعل عاليها سافلها، وهي خمس: سدوم (وهي القرية العظمى) وعامورا، ودادوما، وضعوة، وقتم. أي أن العذاب له وصفان: الأول: قوله تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض، والثاني قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. وكان هذا العمل معجزة قاهرة من وجهين: أحدهما- أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادة. والثاني- أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض، بحيث لم تتحرك

سائر القرى المحيطة بها بتاتا أمر عجيب. ثم إن عدم وصول الآفة إلى لوط عليه السّلام وأهله، مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا. 10- وصف الله تعالى الحجارة التي رمي بها قوم لوط بصفات ثلاث هي: الأولى- كونها من سجّيل، أي الشّديد الكثير، أو الطين المتحجّر. الثانية- قوله تعالى: مَنْضُودٍ أي متتابع، أو مصفوف بعضه على بعض، أو مرصوص. الثالثة- مُسَوَّمَةً أي معلّمة، من السّيما وهي العلامة، أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ قال الحسن: دليل على أنها ليست من حجارة الأرض. وقوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني قوم لوط أي لم تكن تخطئهم، وهي أيضا عبرة لكلّ ظالم من أهل مكة وغيرهم. روي عن النّبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرّجال، ونساؤهم بالنّساء، فإذا كان ذلك، فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجّيل» ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. 11- دلّ قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ على أن من فعل فعل قوم لوط، حكمه الرّجم، كما تقدّم في سورة الأعراف.

قصة شعيب عليه السلام [سورة هود (11) الآيات 84 إلى 95] :

قصة شعيب عليه السّلام [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

الإعراب:

الإعراب: مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لمعنى عاملها: تَعْثَوْا. أَنْ نَفْعَلَ في موضع نصب، معطوف على نَتْرُكَ أي: أن نترك عبادة آبائنا وفعل ما نشاء في أموالنا. لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي فاعل، والضمير مفعول أول، والثاني: أَنْ يُصِيبَكُمْ. ضَعِيفاً حال من كاف لَنَراكَ لأنه من رؤية العين، ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا. مَنْ يَأْتِيهِ اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب بتعلمون. وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ جاء بالتاء هنا على الأصل، ولم يعتد بالفصل بالمفعول به بين الفعل والفاعل، وقد جاء القرآن بالوجهين، وكأنه جيء بالتاء هاهنا طلبا للمشاكلة لأن بعدها: كما بعدت ثمود، وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وذكر في قصة صالح على معنى الصياح. البلاغة: عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ مجاز عقلي، أسند الإحاطة للزمان الذي هو اليوم، مع أنه ليس بجسم والعذاب فيه. وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين. والمراد أهل مدين، وهو بلد بناه مدين بن إبراهيم عليه السّلام، فسمي باسمه. اعْبُدُوا اللَّهَ وحدوه. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بثروة، وسعة في الرزق، ونعمة تغنيكم عن التطفيف، أو أراكم بنعمة من الله تعالى، حقها أن تقابل بغير ما تفعلون، أو أراكم بخير، فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ بكم، لا يشذ منه أحد منكم، يهلككم، ووصف اليوم به مجاز، لوقوعه فيه. أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أوفوهما بالعدل، أمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء، ولو بزيادة لا يتأتى دونها. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوا من حقهم شيئا. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي تفسدوا، بنقص الحق أو القتل أو غيره كالسرقة والغارة، وكل من الجملتين الأخيرتين تعميم بعد تخصيص، فقوله: لا تَبْخَسُوا أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره. وقوله: لا تَعْثَوْا يعمّ العثو تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. بَقِيَّتُ اللَّهِ رزقه الباقي لكم بعد إيفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم خَيْرٌ لَكُمْ من البخس ومما تجمعون بالتطفيف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، فإن ثواب الفعل الصالح والنجاة مشروط بالإيمان وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن القبائح، أو رقيب أحفظ عليكم أعمالكم، فأجازيكم عليها، وإنما أنا نذير ناصح مبلّغ، وقد أعذرت حين أنذرت. قالُوا: يا شُعَيْبُ قالوا له استهزاء. أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أجابوا به بعد أن أمرهم بالتوحيد. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا معطوف على ما، أي: وأن نترك فعلنا ما نشاء بأموالنا، والمعنى: هذا أمر باطل لا يدعو إليه داع بخير، وقصدوا الاستهزاء بصلاته، وكان شعيب كثير الصلوات، فخصوا الصلاة بالذكر، وقالوا: إن دعوتك لا يؤيدها داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه من الصلاة. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا ذلك استهزاء، وتهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك. والحليم: العاقل المتأني، والرشيد: المستقيم على الهداية الراسخ فيها. قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة. وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ضمير مِنْهُ عائد إلى الله، وذلك إشارة إلى ما آتاه الله من الحلال، فهل أشوبه بالحرام، من البخس والتطفيف. وجواب الشرط محذوف تقديره: فهل يعقل لي مع هذه السعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه؟! وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء. إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أذهب إلى ما نهيتكم

عنه فأرتكبه. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بالعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أي وما قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت أمري إليه، فإنه القادر المتمكن من كل شيء، وما عداه عاجز في ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع، إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضا يفيد الحصر، بتقديم الصلة على الفعل. وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق من الله تعالى، والاستعانة به في أموره كلها، والإقبال عليه، وحسم أطماع الكفار، وعدم المبالاة بمعاداتهم، وتهديهم بالرجوع إلى الله للجزاء. لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنكم خلافي الشديد معكم ومعاداتي. ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ أي منازلهم أو زمن هلاكهم، أي مكانا أو زمانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم، فاعتبروا بهم. وإفراد بِبَعِيدٍ إما لأن المراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد، أو بزمان أو مكان بعيد. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بالمؤمنين، عظيم الرحمة بالتائبين. وَدُودٌ محب لهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل الصادق الود بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار. قالُوا إيذانا بقلة المبالاة. ما نَفْقَهُ ما نفهم، والفقه: الفهم الدقيق المتعمق. مِمَّا تَقُولُ من التوحيد. ضَعِيفاً ذليلا رَهْطُكَ عشيرتك وقومك، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. لَرَجَمْناكَ بالحجارة. بِعَزِيزٍ أي كريم عن الرجم. وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ فتتركوا قتلي لأجلهم، ولا تحفظوني لله. وَاتَّخَذْتُمُوهُ أي الله. وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا جعلتموه بشرككم كالشيء الملقى خلف الظهر، لا تراقبونه، أو كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به وإهانة رسوله. مُحِيطٌ علما بما تعملون، فيجازيكم لأنه لا يخفى عليه شيء منها. عَلى مَكانَتِكُمْ حالتكم وتمكنكم في قوتكم. إِنِّي عامِلٌ على حالتي. سَوْفَ تَعْلَمُونَ الذي يعذبه الله تعالى. وَارْتَقِبُوا انتظروا عاقبة أمركم. رَقِيبٌ منتظر. وقد سبق مثله في سورة الأنعام بالفاء: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام 6/ 135 ومواضع أخرى] والفاء للتصريح بان الإصرار على الكفر سبب للعذاب، وحذفها هاهنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل. وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم. الصَّيْحَةُ صاح بهم جبريل فهلكوا. جاثِمِينَ

المناسبة:

باركين على الرّكب ميتين. كَأَنْ مخففة أي كأنهم لَمْ يَغْنَوْا يقيموا. كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبههم بهم لأن عذابهم أيضا كان بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم، وصيحة مدين كانت من فوقهم. المناسبة: هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة، وقد تقدم ذكر هذه القصة في سورة الأعراف، وجيء بها في كل موضع لعظة وعبرة وأحكام مختلفة، مع اختلاف في الأسلوب والنظم. وتضمنت القصة هنا تبليغ شعيب عليه السّلام دعوته، ومناقشة قومه له وردّه عليهم، وإنذار شعيب لهم بالعذاب، ثم وقوعه بالفعل، ونجاة المؤمنين. ومدين: اسم مدينة بين الحجاز والشام قرب (معان) بناها مدين بن إبراهيم عليه السّلام. التفسير والبيان: ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم في القبيلة شعيبا الذي كان من أشرفهم نسبا، فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فهذا أمر بالتوحيد الذي هو أصل الإيمان، ثم نهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان فقال: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين 83/ 1- 3] والمطففون: المنقصون، ويُخْسِرُونَ: ينقصون. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي إني أراكم بثروة وسعة في الرزق ورفاه في المعيشة، تغنيكم عن الطمع والدناءة في بخس الناس حقوقهم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله تعالى، وإني أخشى عليكم عذاب يوم يحيط بكم جميعا،

فلا يترك أحدا منكم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، وإما عذاب الآخرة في جهنم. ويا قوم وفّوا الكيل والوزن بالعدل، آخذين ومعطين، وهو أمر بالإيفاء بعد النهي عن البخس، للتأكيد والتنبيه على أنه لا يكفي الامتناع عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم الإيفاء ولو بزيادة قليلة. ثم نهاهم عن النقص في كل الأشياء، فقال: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ والبخس: النقص في كل الأشياء، أي إياكم والظلم أو الجور في حقوق الناس. وَلا تَعْثَوْا.. العثو: الفساد التام، أي لا تفسدوا شيئا من مصالح الدين والدنيا، وقد كانوا يقطعون الطريق، وأنتم تتعمدون الإفساد، فقوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا يشمل إنقاص الحقوق وغيره من أنواع الفساد الدنيوية والدينية، وقوله بعدها مُفْسِدِينَ معناه: حالة كونكم قاصدين الإفساد، فلا إثم في حال الخطأ أو إرادة الإصلاح. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.. أي ما يبقى لكم من الربح الحلال بعد إيفاء المكيال والميزان خير لكم من الحرام، وأكثر بركة وأرجى عاقبة مما تأخذونه بطريق الحرام، بشرط أن تكونوا مؤمنين لأن جعل البقية خيرا لهم إنما هو متحقق في حال الإيمان، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال، ثم إن الإيمان حافز باعث على الطاعة، فإنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب، عملوا على تحصيل ما يؤدي إلى الثواب والنجاة من العقاب، وذلك خير من مسعاهم في أخذ الزائد القليل من الحرام في أثناء الكيل والوزن. وما أنا عليكم برقيب على أعمالكم، ولا مستطيع منعكم من القبائح، وإنما أنا ناصح أمين، فافعلوا الحلال والواجب بدافع من أنفسكم لله عز وجل، ولا تفعلوه ليراكم الناس، ما علي إلا البلاغ، وعلى الله حساب الأقوال والأفعال.

ثم ذكر الله تعالى ردّ أهل مدين على شعيب عليه السّلام في الأمر بعبادة الله وحده، وترك البخس أو عدم نقص الكيل والميزان. أما الردّ على الأول وهو العبادة لله فقالوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ... أي هل صلاتك (أي الأعمال المخصوصة) - وكان شعيب كثير الصلاة- تأمرك بترك عبادة الآباء والأجداد وهي عبادة الأوثان والأصنام؟! قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، وأعلنوا التمسك بطريقة التقليد في التدين والإيمان، كما يقال اليوم لعالم الدين المصلح: هل علمك أو مشيختك دافع لك إلى ترك ما نحن عليه؟! وأما الرّد على الأمر الثاني وهو ترك البخس فقالوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا.. أي وهل صلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نريد فعله؟ والمقصود بيان أنهم أحرار في أموالهم يتصرفون فيها بما هو مصلحة لهم، ولا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون منها شيئا في سبيل الخير، وإنما يزيدونها بمختلف الوسائل، فما أمرتنا به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل، وأنه خير من الحرام الكثير، مناف لسياسة تنمية المال وتكثيره، وما ذلك إلا حجر على حريتنا الاقتصادية. والخلاصة: أن ردهم على شعيب في الأمرين تضمن إمعانهم في التمسك بالتقليد، وفي الطمع المادي الذي لا يبالي فيه صاحبه بالحلال والحرام. ثم أكدوا سخريتهم وهزءهم بقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أي إنك لصاحب الحلم والأناة والعقل والتروي، والرشد والاستقامة! وأرادوا وصفه بضد ذلك من الجهالة والطيش وسفاهة الرأي، وغواية الفعل، فعكسوا ليتهكموا به. ثم حسم أطماع الكفر فقال: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.. أي أخبروني يا قوم إن كنت على بصيرة من ربي فيما أدعو إليه، ويقين تام وحجة واضحة فيما آمركم به

وأنهاكم عنه، ورزقني من لدنه رزقا طيبا من النبوة والحكمة، أو رزقا حسنا حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف، أخبروني إن كنت على يقين من ربي، وكنت نبيا على الحقيقة، أيصح لي ألا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك، فجواب الكلام محذوف. وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي لا أنهاكم عن الشيء، وأخالف أنا في السر، فأفعله خفية عنكم، والمراد لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، بل أنا متمسك به. ثم أكد مهمته: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ... أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وأمري بالمعروف، ونهي عن المنكر، مدة استطاعتي للإصلاح، لا آلو جهدا في ذلك. وفيه إيماء إلى إثبات عقله ورشده، وإبطال تهكمكم. وما توفيقي في إصابة الحق فيما أريده إلا بالله وهدايته وعونه، عليه توكلت في جميع أموري، ومنها تبليغ رسالتي، وإليه أنيب أي أرجع. وهذا يعني ثباته على المبدأ والدعوة، دون أن يخشى منهم سوءا. ويا قوم، لا يحملنكم خلافي معكم، ولا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم ما أصاب غيركم وأمثالكم من العذاب والنقمة، مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، أو قوم هود من الريح الصرصر العاتية، أو قوم صالح من الرجفة. وما حدث بقوم لوط من العذاب ليس ببعيد زمانا ولا مكانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم، فاعتبروا بهم. وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.. أي اطلبوا المغفرة من ربكم على سالف الذنوب من

عبادة الأوثان ونجس المكيال والميزان، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، وارجعوا إلى طاعته، فإن ربي رحيم بمن تاب إليه وأناب، كثير الود والمحبة، يحب من تاب، فهو عظيم الرحمة للتائبين، كثير المودة فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه من الإحسان. وهذا دليل على أن الاستغفار والتوبة عن الذنوب يسقطها، ويكون سببا لخيري الدنيا والآخرة. وبعد أن فشلت المحاورات والمجادلات، لجأ القوم إلى الإهانة والتهديد وإلصاق التهم الباطلة بشعيب عليه السّلام، وعدم المبالاة به. قالُوا: يا شُعَيْبُ، ما نَفْقَهُ.. قال أهل مدين: يا شعيب ما نفهم كثيرا من قولك، مع أنه كما قال الثوري: كان يقال له خطيب الأنبياء، وأنت واحد ضعيف، لا حول لك ولا قوة ولا قدرة على شيء من النفع والضر، ولولا جماعتك وعشيرتك الأقربون ومعزتهم علينا، لرجمناك بالحجارة، وليس عندنا لك معزة ولا تكريم، ولا حرمة ولا منزلة في الصدور. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، ورهط الرجل: عشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم. والمعنى أنك لما لم تكن علينا عزيزا، سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك. وكل ما ذكروه لا يبطل ما قرره شعيب عليه السّلام من الدلائل، بل هو مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة. فوبخهم شعيب على سفاهتهم: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَهْطِي ... أي يا قومي وأهلي، أرهطي أعز وأكرم عليكم من الله، أتتركوني لأجل قومي؟ ولا تتركوني لأجل الله، والله تعالى أولى أن يتبع أمره، وقد اتخذتم جانب الله وراءكم ظهريا، أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه، ولا تخافون بأسه وعقابه إن أقدمتم على الإساءة لنبيه ورسوله. إن ربي محيط علمه بعملكم، عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيكم. وذلك تحذير وتهديد ووعيد.

ولما يئس شعيب عليه السّلام من استجابتهم لدعوته أعلن موقف الحسم والفصل فيما بينه وبينهم: وَيا قَوْمِ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ.. أي يا قوم اعملوا على طريقتكم، واعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم على إلحاق الشر بي، فإني أيضا عامل على طريقتي بما آتاني الله من القدرة، أي أنتم باقون على الكفر والضلال، وأنا ثابت على الدعوة والثقة بقدرة الله تعالى، وهذا تهديد شديد. سوف تعلمون من ينزل به عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة، ومن هو كاذب في قوله مني ومنكم، وانتظروا ما أقول لكم من إيقاع العذاب، إني معكم رقيب منتظر. وهذا تصريح منه بالوعيد، بعد الترك على ما هم عليه. ثم جاء ما يؤيد صدقه: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ... أي ولما جاء أمرنا بعذابهم، ونفذ قضاؤنا فيهم، نجينا رسولنا شعيبا والمؤمنين معه، برحمة خاصة بهم، وأخذت الظالمين بظلمهم الصيحة: وهي صوت من السماء شديد مهلك مرجف، وفي سورة الأعراف: هي الرجفة، وفي الشعراء: عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، فأصبحوا قعودا ميتين لا يتحركون، وقد اختلف التعبير في كل سورة بما يناسب الإساءة، ففي الأعراف هددوا بإخراج شعيب ومن معه من قريتهم، فذكر هناك الرجفة، وهنا أساؤوا الأدب في مقالتهم مع نبيهم فذكر الصيحة التي أخمدتهم، وفي الشعراء طلبوا إسقاط كسف من السماء عليهم، فأخذهم عذاب يوم الظلة. كأنهم لم يقيموا في بلادهم طويلا في رغد عيش، ولم يعيشوا فيها قبل ذلك، ألا بعدا من رحمة الله، وهلاكا لهم، كما بعدت وهلكت من قبلهم ثمود، وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار، وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا عربا مثلهم. فكان عذابهم واحدا وهو الصاعقة ذات الصوت الشديد، التي زلزلت الأرض

فقه الحياة أو الأحكام:

من شدتها ورجفت، فخروا ميتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت قصة شعيب مع قومه على ما يأتي، ومجملة: إيقاع العذاب بعد الإعراض عن رسالة السماء: 1- اشتملت دعوة شعيب على جانبين: إصلاح العقيدة وإصلاح الحياة الاجتماعية، ففي الجانب الأول: دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي الجانب الثاني: أمرهم بإيفاء الكيل والميزان وترك البخس والنقص أو التطفيف، فإنهم كانوا مع كفرهم أهل بخس ونقص في حقوق الناس كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام، أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا عليه بما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء بالحق التام الكامل نهيا عن التطفيف، علما بأنهم كانوا بخير وفي سعة من الرزق وكثرة النعم، لكن الطمع والشره المادي أرادهم وجعل سمعتهم سيئة بين الناس. 2- كان عذاب أهل مدين عذاب استئصال في الدنيا، ودمار عام لقوله تعالى: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وصف اليوم بالإحاطة، أي الإحاطة بهم، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم، فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد أي شديد حره. وقيل: هو عذاب النار في الآخرة. جاء في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء» .

3- اكتفى شعيب بمرة واحدة بالدعوة إلى توحيد الإله، ولكنه كرر وأكد النهي عن بخس الحقوق بألوان مختلفة، فأمر بالإيفاء (أي الإتمام) بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا، ووصف الإيفاء بالقسط أي بالعدل والحق، لكي يصل كل ذي حق إلى حقه، وأراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصّنجات، ثم عمم بعد التخصيص عن بخس الناس أشياءهم، أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا، ثم نهى عن الإفساد في مصالح الدنيا والآخرة: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض. وذكر أن البخس بطر وترف وطمع، فلم يكونوا بحاجة، وإنما كانوا بخير: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي سعة في الرزق والمعيشة، وقال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم. وشرط للاستقامة وجود الإيمان: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة كون بقية الله خيرا إن كانوا مؤمنين. وجعل رقابة الله في السر والعلن على كل تاجر هي الأساس والباعث على الخشية والطاعة وأداء الحقوق: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، فلا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. 4- كانت ردود القوم المحجوجين بالأدلة والبينات في غاية الجهالة والسفاهة، فأعلنوا تمسكهم بالتقليد في عبادة الأوثان والأصنام، وادعاء حريتهم التجارية التي لا تقوم على العدل والحق، وسخروا من صلاته وعبادته التي كان يكثر منها، ونالوا من صفاته، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ؟ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ! أي أنت ذو سفاهة

وطيش، وغواية وضلال، لا لشيء إلا لأن شعيبا عليه السّلام أمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم!! وإنما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الناس بصفة الحلم والرشد. 5- كان من قبائحهم قرض الدراهم لتنقيص قدرها، وكسرها لإفساد وصفها، قال المفسرون: كان مما ينهاهم عنه، وعذّبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدّا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن. وتلك معاص ومفاسد تستحق العقاب، وتوجب ردّ الشهادة. 6- حسم شعيب عليه السّلام أطماع الكفار، سواء في العقيدة أو في صلاح التعامل، وأعلن ثباته على مبدئه بقوله: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا فعل الصلاح وإزالة الفساد، وهو أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، ولم يتزحزح عن موقفه في توحيد الله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وثقته به وتفويض أمره إليه ورجوعه إليه في جميع النوائب، واعتماده في الرشد والتوفيق عليه: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. وإذا كانت هذه صفاتي فاعلموا أن أمري بالتوحيد وترك إيذاء الناس هو دين حق، وأن مهمتي هي الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه. ولم يتردد شعيب عليه السّلام لحظة واحدة في إيفاء الحقوق وإتمام الكيل والميزان: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السّلام كثير المال وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي ليس

أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. وهكذا فإن فعل النبي مطابق لقوله لأنه الأسوة الحسنة، ولا يعقل غير ذلك. والخلاصة: إنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية والجسمانية، وهي المال والرزق الحسن، فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه. 7- دلّ قوله: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته، وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى، والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله فإن شعيبا أراد القول لهم: فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أقرر دين الله، وأوضح شرائعه. 8- التهديد والإنذار بالعذاب قبل وقوعه رحمة بالناس ولطف بهم، لعلهم يرعوون ويرجعون من قريب إلى الله تعالى وإلى طاعته، وإلى توحيده، والتخلص من الشرك والوثنية. وقد أنذر شعيب عليه السّلام قومه أهل مدين بقوله: لا يكسبنكم معاداتي أن يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا، مثل ما حصل لقوم نوح عليه السّلام من الغرق، ولقوم هود من الريح العقيم، ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف، وكانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. 9- الاستغفار والتوبة من الذنوب الماضية والتصميم على عدم العود إلى مثلها في المستقبل طريق النجاة والأمن من العذاب لأن الله عظيم الرحمة كثير الودّ والمحبة لعباده لينقذهم من العقاب. روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء» . 10- بعد أن يئس الكفار أهل مدين من تحقيق مآربهم عن طريق التهكم

والاستهزاء والسخرية من شعيب عليه السّلام، لجؤوا إلى التهديد والوعيد مظهرين أنه ضعيف لا سند له، وأنهم أعزة أقوياء، ولولا مجاملة عشيرته لقتلوه رجما بالحجارة، وما هو بعزيز عليهم ولا كريم، ولا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع. وهذا شأن الكفار عادة، يعتمدون على القوة المادية، ويهملون النظر إلى تدبير الله وقوته وقهره وقدرته، لذا أراد شعيب أن يلفت نظرهم إلى ضرورة رعاية جانب الله تعالى، وليس مجرد رعاية جانب قومه، فقال: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله تعالى أولى أن يتبع أمره. 11- قابلهم شعيب عليه السّلام بتهديد ووعيد أشد وآكد وأوقع وأصدق، وقال لهم: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ سوف تعلمون الصادق من الكاذب، وسوف ترون من يأتيه عذاب يخزيه ويهلكه. وانتظروا العذاب والسخط، فإني منتظر النصر والرحمة. 12- كان عذاب أهل مدين كثمود بالصيحة، قيل: صاح بهم جبريل صيحة، فخرجت أرواحهم من أجسادهم، وصاروا ميتين، كأن لم يعيشوا في دارهم. 13- ينضم إلى العذاب الدعاء على الكفار وإعلان الطرد من رحمة الله تعالى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أي هلاكا لهم وبعدا عن رحمة الله، كما هلكت قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى. 14- من فضل الله ورحمته أنه نجى شعيبا ومن معه من المؤمنين، وهو تنبيه على أن كل ما يصل إلى العبد، لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، وأن الخلاص والنجاة والإيمان والطاعة والأعمال الصالحة لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى.

قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه [سورة هود (11) الآيات 96 إلى 99] :

قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وملئه [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) البلاغة: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ استعارة مكنية، شبه النار بماء يورد، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الورود، وشبه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إلى الماء، للري من العطش. وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ تأكيد لما سبق لأن الورد يكون عادة لتسكين العطش، وفي النار إلهاب للعطش. المفردات اللغوية: بِآياتِنا أي بالمعجزات، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية 101] وسورة النمل [الآية 12] والمفصّلة في سورة الأعراف [الآية 133] . وَسُلْطانٍ مُبِينٍ السلطان: الدلائل والحجج القوية الظاهرة، والمبين: الظاهر الجلي. والفرق بين هذه الكلمات الثلاث: أن الآيات: اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن، وبين الدلائل التي تفيد اليقين. وأما السلطان: فهو اسم لما يفيد القطع واليقين، لكنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس، وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس. والسلطان المبين: هو الدليل القاطع الذي تأكد بالحس. ولما كانت معجزات موسى عليه السّلام هكذا، وصفها الله بأنها سلطان مبين. وَمَلَائِهِ الملأ: أشراف القوم وزعماؤهم. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما شأنه وتصرفه بمرشد أو سديد أو بذي رشد وهدى، وإنما هو غيّ محض وضلال صريح.

المناسبة:

يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار، كما كان يتقدمهم في الدنيا إلى الضلال ويتبعونه في الحالين، يقال: قدم بمعنى تقدم. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أدخلهم فيها، ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، ونزل النار لهم منزلة الماء، فسمي إتيانها موردا. وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ هي، أي بئس المورد الذي وردوه، فإن المورد يراد عادة لتبريد الأكباد وتسكين العطش، والنار بالضد من ذلك. والآية كالدليل على قوله: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإن من هذه عاقبته لم يكن في أمره رشيدا. وَأُتْبِعُوا ألحقوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً طردا من رحمة الله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون في الدنيا والآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان، أو العطاء المعطى. والمخصوص بالذم محذوف، أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين. المناسبة: هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وهي آخر قصة في هذه السورة، وقد ذكرت قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وملئه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، فذكرت في سورة الأعراف [104- 105] وفي سورة الشعراء [17- 28] وفي سورة طه [48- 55] وفي سورة القصص [38] وفي سورة غافر [36- 37] . والعبرة منها واضحة وهي نجاة موسى ومن آمن معه، وهلاك فرعون وأشراف قومه، واللعنة عليهم في الدنيا والآخرة، مثل كفار أولئك الأقوام الظالمين الذين أعرضوا عن دعوة أنبيائهم، كما تقدم، ولكن عذاب فرعون وملئه وهو الغرق في البحر لم يعمّ جميع قومه. التفسير والبيان: تالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع ودلالاتنا الباهرة الدالة على توحيد الله إلى فرعون ملك القبط وملئه، وفيها السلطان الواضح الجلي أي الدلالة القاطعة المؤيدة بالحس المشاهد، على صدق نبوته.

وقيل: المراد من الآيات: التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام. وقيل: المراد بها الآيات التسع البينات وهي المعجزات، وهي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الثمرات والأنفس. ومنهم من أبدل بنقص الثمرات والأنفس إضلال الجبل، وفلق البحر. وفي هذه الآيات سلطان مبين لموسى على صدق نبوته. فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي تبع الملأ منهج فرعون ومسلكه وطريقته في الغيّ والضلال، من الكفر بموسى، وظلم بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم. وإنما خصّ الملأ بالذكر لأنهم القادة والرؤساء المستشارون والمنفذون وغيرهم تبع لهم. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما شأنه وتصرفه ومنهجه بصالح معقول، فليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال، وكفر وعناد، وظلم وفساد وجزاؤهم في الآخرة: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي يتقدم فرعون كبير قومه وقائدهم إلى نار جهنم يوم القيامة، فيدخلهم فيها لأنه كما اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدم يوم القيامة إلى النار، فأوردهم إياها، وله فيها الحظ الأوفر من العذاب الأكبر، كما قال تعالى: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل 73/ 16] وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] وأخبر تعالى عن الكفرة أنهم يقولون في النار: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 68] وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار» . وورد في القرآن أن آل فرعون يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء

فقه الحياة أو الأحكام:

كل يوم، كما قال تعالى: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر 40/ 45- 46] . وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي وبئس المورد الذي يردونه النار وبئس المدخل المدخول فيه وهو النار لأن وارد الماء يرده للتبريد وإطفاء حرّ الظمأ، ووارد النار يزداد احتراقا بلهبها ويتلظى بسعيرها. والورد قد يكون بمعنى الورود مصدرا، وقد يكون بمعنى الوارد، والمورود: الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي ألحق الله بهم زيادة على عذاب النار لعنة عظيمة في الدنيا من الأمم الآتية بعدهم، وكذلك يوم القيامة يلعنهم أهل الموقف جميعا، وهم من المقبوحين، فعليهم لعنتان في الدنيا والآخرة فوق عذابهم، كما قال تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص 28/ 42] قال مجاهد: زيدوا لعنة يوم القيامة، فتلك لعنتان. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان والعطاء المعطى هذه اللعنة اللاحقة بهم في الدنيا والآخرة، فقد سميت اللعنات رفدا تهكما بهم، والرفد: هو العطية. قال ابن عباس عن هذه الجملة: هو اللعنة بعد اللعنة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات المذكورة من قصة موسى مع فرعون وقومه إلى العظات التالية: 1- تتابعت آيات الله من التوراة وما فيها من شرائع وأحكام، ومن المعجزات الدالة على وحدانية الله تعالى، إلى فرعون وقومه، فما أفادتهم الآيات، وعصوها، واتبعوا منهج فرعون ومسلكه في الغي والضلال.

العبرة من قصص الأمم الظالمة في الدنيا [سورة هود (11) الآيات 100 إلى 102] :

2- ليس مسلك فرعون وغيره من الفراعنة المتألهين بسديد يؤدي إلى الصواب، ولا بمرشد إلى خير، وإنما هو غيّ وضلال، وكفر وفساد. 3- كل قائد إلى الضلال في الدنيا قائد إلى النار يوم القيامة، وله عذاب مضاعف. 4- لفرعون وآله فوق عذاب جهنم لعنتان: في الدنيا والآخرة، وهم معذبون في قبورهم عذابا شديدا، ويعرضون فيها على النار صباحا ومساء. 5- بئست عاقبة الكافرين، وبئس العطاء المعطى لهم وهو نار جهنم، الموصوفة في قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج 22/ 19- 22] . العبرة من قصص الأمم الظالمة في الدنيا [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) الإعراب: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ مبتدأ وخبر، أو على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، وذلك: يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر، أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك. مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ جملة مستأنفة لا محل لها، أي بعضها باق وبعضها عافي الأثر كالزرع القائم على ساقه والذي حصد.

البلاغة:

وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى. البلاغة: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ استعارة مكنية، شبه الباقي من آثار القرى بعد تدميرها بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما دمّر مع أهله بالزرع المحصود. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بينهما طباق السلب. إِذا أَخَذَ الْقُرى مجاز مرسل، أطلق المحل وأراد الحالّ وهو أهل القرى. المفردات اللغوية: ذلِكَ النبأ المذكور سابقا. مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك يا محمد. مِنْها أي من تلك القرى. قائِمٌ باق كالزرع القائم، وهلك أهله دونه. وَحَصِيدٌ أي ومن القرى زال أثره وهلك بأهله، فلا أثر له كالزرع المحصود بالمناجل. وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكهم بغير ذنب. وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك الذي عرضوها به للعذاب. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم، بل ضرتهم. آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ التي يعبدون. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ شَيْءٍ من صلة زائدة. لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ حين جاءهم عذابه ونقمته. وَما زادُوهُمْ بعبادتهم لها. غَيْرَ تَتْبِيبٍ غير هلاك أو تخسير. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الأخذ. إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ بالذنوب، فلا يغني عنهم من أخذهم شي. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ووجيع غير مرجوّ الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير. المناسبة: المناسبة ظاهرة بين هذه الآيات وما قبلها من الآيات، فبعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء مع الأمم السابقة (وهي سبع قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليه السّلام) قال منبها إلى ما فيها من العظة والعبرة: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. فيتعلم منها الإنسان أسلوب الجدال ومقارعة الحجة بالحجة، وتأييد الأدلة

التفسير والبيان:

العقلية بالقصص الواقعية، ويتهيأ السامع والقارئ للاستفادة من عبرها وعظاتها، فيلين قلبه، وترق نفسه، وتخشع جوارحه لذكر الله ويرهب عذابه للعصاة، ويعلم أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل فيها، والثواب الجزيل في الآخرة، وأن الكافر يخرج من الدنيا مع اللعن فيها، والعقاب في الآخرة. وهي دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، لإخباره عن تلك القصص من غير مطالعة كتب، ولا مدارسة مع معلم، ولا تلمذة لأحد، وهي معجزة عظيمة تدل على النبوة، كما قال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.. [يوسف 12/ 111] «1» . التفسير والبيان: لما أخبر الله تعالى عن الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، وكيف أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي ذلك النبأ المذكور بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك يا محمد، لتخبر به الناس، ويتلوه المؤمنون إلى يوم القيامة تبليغا عنك. وقوله ذلِكَ إشارة إلى الغائب، والمراد به هنا الإشارة إلى القصص المتقدمة، وهي حاضرة، كما في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة 2/ 2] . من تلك القرى ما له أثر باق كالزرع القائم على ساقه، كقوم صالح، ومنها ما عفا أثره ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود، مثل قرى قوم لوط. وما ظلمناهم بإهلاكهم من غير ذنب، ولكن ظلموا أنفسهم بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم، وشركهم وإفسادهم في الأرض، وثقتهم أن آلهتهم المزعومة تدفع عنهم

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 55 [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

المخاوف والمخاطر والمحاذير. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ.. فما نفعتهم شيئا ولا دفعت عنهم بأس الله، بل ضرتهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها من دون الله أو غيره، فما نفعوهم ولا أنقذوهم بإهلاكهم. وفي قوله تعالى: الَّتِي يَدْعُونَ حذف، أي التي كانوا يدعون أي يعبدون. وقوله: وَما زادُوهُمْ فيه إضمار ومضاف محذوف أي ما زادتهم عبادة الأصنام. وما زادوهم غير تخسير وهلاك لأن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة، فخسروا الدنيا والآخرة. ومثل ذلك الأخذ بالعذاب، وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا، كذلك نفعل بأشباههم، فنأخذ القرى ونهلكها وهي في حالة الظلم الشديد، إن أخذه وجيع شديد لا يرجى منه الخلاص. وهو إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم. وفي قوله: وَهِيَ ظالِمَةٌ مضاف محذوف أي وأهلها ظالمون، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] . ومعنى: إن أخذه أليم شديد أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة. ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- فائدة القصص القرآني العظة والاعتبار، فإن كل من يشاهد آثار تلك القرى المهلكة، أو يعلم بما حدث لها من غير وجود أثر ظاهر، يأخذه الخوف والوجل والرهبة، ويخشى أن يتعرض لما تعرض له الأقدمون من عذاب مخيف.

العبرة في قصص القرآن بجزاء الآخرة [سورة هود (11) الآيات 103 إلى 109] :

2- إن الله تعالى كما أخذ الأمم المتقدمة كقوم نوح، وعاد وثمود، يأخذ جميع الظالمين على النحو ذاته، كما أفاده قوله: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ... ثم زاده تأكيدا وتقوية بقوله: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فوصف العذاب بالإيلام والشدة، والألم وشدته سبب المنغصة في الدنيا والآخرة. والآية تفيد أن كل من شارك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركهم في الأخذ الأليم 3- لم يكن عقاب تلك الأمم الظالمة إلا بما بدر منهم من ظلم وهو الكفر والمعاصي، وكان عقابهم عدلا وحكمة. 4- كل من أقدم على ظلم، يجب عليه أن يتدارك ظلمه بالتوبة والإنابة، لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد. 5- لم تنفع المشركين والكافرين آلهتهم المزعومة بل أضرت بهم، وما زادتهم عبادة الأصنام إلا خسارة ثواب الآخرة. العبرة في قصص القرآن بجزاء الآخرة [سورة هود (11) : الآيات 103 الى 109] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

الإعراب:

الإعراب: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مَجْمُوعٌ خبر المبتدأ أو نعت ليوم، وقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مبتدأ وخبر، والنَّاسُ مرفوع لمجموع، أي يجمع له الناس، لأن اسم المفعول بمنزلة اسم الفاعل في العمل لشبه الفعل. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ابتداء وخبر. يَوْمَ يَأْتِ فيه ضمير يعود إلى قوله: يَوْمٌ مَشْهُودٌ. ولا تَكَلَّمُ إما صفة ليوم، أي يوم يأتي لا تكلّم نفس فيه، كقوله تعالى: يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة 2/ 48] أي فيه، وإما حال من ضمير يَأْتِ أي يوم يأتي اليوم المشهود غير متكلم فيه نفس، وتكلم: حذف منه إحدى التاءين. ويوم: منصوب بما دل عليه قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي شقي حينئذ من شقي، وسعد من سعد. ما دامَتِ السَّماواتُ.. ما ظرفية زمانية مصدرية في موضع نصب، تقديره: مدة دوام السموات والأرض. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ما في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. عَطاءً.. منصوب على المصدر المؤكد، أي أعطوا عطاء، أو منصوب على الحال من الْجَنَّةِ. غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب. البلاغة: شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ بينهما طباق. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فيه لف ونشر مرتب. المفردات اللغوية: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من القصص أو ما نزل بالأمم الهالكة. لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي يعتبر بتلك القصص من خاف العذاب الأخروي، لعلمه بأن ما نزل بتلك الأقوام أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. ذلِكَ يَوْمٌ أي يوم القيامة، دل عليه عذاب الآخرة. يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس، واستعمل صيغة مَجْمُوعٌ للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه من شأنه لا محالة، وأن الناس لا ينفكون عنه، فهو أبلغ من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن 64/ 9] ومعنى الجمع له: الجمع لما فيه من الحساب والجزاء.

المناسبة:

وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده جميع الخلائق، والمعنى الأدق: مشهود فيه أهل السموات والأرضين، ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه، لبطل المقصود من تعظيم اليوم وتمييزه، فإن سائر الأيام كذلك. وَما نُؤَخِّرُهُ أي اليوم. إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لوقت معلوم عند الله، فهو على حذف مضاف، أي إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية. يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم والجزاء. إِلَّا بِإِذْنِهِ بإذن الله تعالى. فَمِنْهُمْ أي من الخلق أهل الموقف. شَقِيٌّ وجبت له النار بمقتضى الوعيد، فالشقي: من استحق النار لإساءته. وَسَعِيدٌ وجبت له الجنة، بموجب الوعد، والسعيد: من استحق الجنة لعمله مع فضل الله ورحمته فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا في علم الله تعالى. زَفِيرٌ صوت شديد. وَشَهِيقٌ صوت ضعيف، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم. وأصل الزفير: إخراج النّفس، الشهيق: إدخال النفس مع السرعة والجهد. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة دوامهما في الدنيا، وليس المراد ارتباط دوامهم في النار بدوام السموات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم، وانقطاع دوامهما. والمقصود التعبير عن التأبيد بما كانت العرب يعبرون به على سبيل التمثيل. والمفهوم لا يقاوم المنطوق. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ غير ما شاء الله من الزيادة على مدتها، مما لا منتهى له، والمعنى: خالدين فيها أبدا. أو أن هذا استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فسّاق الموحدين يخرجون منها. والخلاصة: إن خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار ثابت بنصوص القرآن العديدة، وأما الاستثناء بالمشيئة هنا، فيراد به الدلالة على الثبوت والاستمرار، وعبر بذلك لبيان أن هذه القضايا بمشيئة الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي من غير اعتراض أحد. عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع. فَلا تَكُ يا محمد. فِي مِرْيَةٍ شك. مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من الأصنام، إنا نعذبهم، كما عذبنا من قبلهم، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم. كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ أي كعبادتهم، والاستثناء بقوله: إِلَّا كَما يَعْبُدُ معناه تعليل النهي عن المرية، أي هم وآباؤهم سواء في الشرك. نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب. غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي تاما. المناسبة: الآيات متصلة بما قبلها من أجل بيان العبرة من قصص الأمم الظالمة، فبعد أن ذكر الله تعالى العبرة من إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا، ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة لكل من الأشقياء والسعداء، وهي إقامة الدليل على صدق الأنبياء وصدق

التفسير والبيان:

وعد الله في الآخرة، والترهيب من عصيان الله والكفر به، لئلا يكون الإنسان من الأشقياء الذين يصلون النار، والترغيب بالإيمان وطاعة الله ليصير المؤمن الطائع مع السعداء الذين يتمتعون بالجنة. التفسير والبيان: إن في ذلك القصص المتقدم المتضمن إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين لدليلا واضحا وحجة قوية على صدق وعد الله في الآخرة، لمن يؤمن بها ويخاف عذابها، فيتقي الكفر والظلم والعصيان في الدنيا لأنه يعلم أن ما أخبر به الأنبياء من البعث والجزاء صدق لا شك فيه، وأن من عذب الظالمين في الدنيا قادر أن يعذبهم في الآخرة، وأن ما أصاب المجرمين في الدنيا ما هو إلا أنموذج لعذاب الآخرة. قال الزمخشري: قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم وقوله: لَآيَةً أي لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدته، اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، ونحوه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات 79/ 26] «1» . ذلك اليوم يوم عذاب الآخرة يجمع فيه الناس جميعا أولهم عن آخرهم، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يجازوا عليها، كقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 18/ 47] وذلك يوم مشهود، أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها.

_ (1) الكشاف: 2/ 115

والتصرف في الخلائق، سواء في الدنيا بإهلاك تلك الأمم وأمثالها، أو في الآخرة، إنما هو بإرادة الله واختياره لتربية الأمم، لا بالطبيعة كما يزعم الماديون الذين قالوا: إن الطوفان أو الغرق، والصاعقة، وخسف الأرض أو الزلازل أمور طبيعية غير إلهية. وأبسط رد عليهم أن تلك العقوبات حدثت بعد إنذار الرسل لأقوامهم، وحددوا لهم وقتا معلوما، كما قال صالح عليه السّلام: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] وقال لوط: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] . ثم أخبر الله تعالى عن تأخير يوم القيامة وعذابه إلى أجل معين: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهي عمر الدنيا، لإعطاء الفرصة الكافية للناس لإصلاح أعمالهم، وتصحيح عقيدتهم، كقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] . يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ.. أي يوم يأتي يوم القيامة، لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى، فهو صاحب الأمر والنهي، ولا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه، كقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] وقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه 20/ 108] . فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ.. أي فمن أهل الجمع من الناس في ذلك اليوم شقي معذّب لكفره وعصيانه، ومنهم سعيد منعّم في الجنان لإيمانه واستقامته، كما أخبر تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى 42/ 7] فمن أريد له الشر فعمل

الشر فهو من أهل الشقاوة، ومن أريد له الخير فعمل الخير، فهو من أهل السعادة، وكل ميسر لما خلق له. روى الترمذي والحافظ أبو يعلى في مسنده عن عمر قال: لما نزلت: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، علام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: «على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسّر لما خلق له، وقرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل 92/ 5- 10] . ثم بيّن الله تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال عن الفريق الأول: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا.. أي فأما الأشقياء فهم في جهنم مستقرهم ومثواهم، بسبب اعتقادهم الفاسد وعملهم السيء، لهم من الهم والكرب وضيق الصدر زفير وشهيق، تنفسهم زفير، وإخراجهم النّفس، وشهيق، لما هم فيه من العذاب، كما ذكر ابن كثير، مع أن الزفير في العادة هو إخراج النّفس، والشهيق: ردّه. خالِدِينَ فِيها.. أي ماكثين فيها على الدوام، مدة بقاء السموات والأرض، والمراد التأبيد ونفي الانقطاع، على سبيل التمثيل وقول العرب: أفعل كذا أو لا أفعله ما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وما تغنّت حمامة. ويجوز أن يكون المراد سماء الآخرة وأرضها، وهي دائمة مخلوقة للأبد، والدليل على أن للآخرة سموات (ما هو فوق الخلائق) وأرض (ما هم مستقرون عليه) وقوله: تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم 14/ 48] وقوله: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر 39/ 74] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلّهم ويظلهم، وكل ما أظلك فهو سماء. قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء.

إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يراد بهذا الاستثناء الدلالة على الثبوت والاستمرار لأنه ثبت خلود أهل الجنة والنار فيهما إلى الأبد من غير استثناء، والمقصود بذلك بيان أن الخلود بمشيئة الله تعالى، ولا يخرج شيء في الدنيا والآخرة عن المشيئة الإلهية. وهو كقوله تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام 6/ 128] وقوله: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعراف 7/ 188] وقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى 87/ 6- 7] والمراد بذلك كله تقييد الأحكام بمشيئة الله تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها. وهذا هو الظاهر الراجح. قال ابن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، وكذلك يقولون: هو باق ما اختلف الليل والنهار. وللعلماء المفسرين أحد عشر قولا ذكرها القرطبي «1» ، قال الزمخشري: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، بما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله عليهم وإهانته إياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها، وأجلّ موقعا منهم وهو رضوان الله، ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة، مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «2» . أي أنهم خالدون في كل من الجنة والنار إلا ما شاء ربك من تغيير هذا

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 99 وما بعدها، تفسير الرازي: 18/ 65 وما بعدها. (2) الكشاف: 2/ 116

النظام المعدّ، أو الإضافة أو النقص منه، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه، إن شاء أبقاه وإن شاء منعه. وقال أبو حيان: والظاهر أن قوله إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ استثناء من الزمان الدال عليه قوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ والمعنى إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى، فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله بين الخلق يوم القيامة، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة. وأما إن كان الاستثناء من الخلود، فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمان المستثنى هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار، ويدخلون الجنة، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها، وصاروا في الجنة. وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار إذ ليس منهم من يدخل الجنة، ثم لا يخلد فيها «1» . إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي يفعل ما يشاء، على وفق علمه ومقتضى حكمته، فهو يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له. ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريق الثاني وهم السعداء: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا أي وأما أهل السعادة وهم أتباع الرسل، فمأواهم الجنة، خالدين فيها، أي ماكثين فيها أبدا، مدة دوام السماء والأرض، بمشيئة الله تعالى، عطاء غير منقطع ولا ممنوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، كقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق 84/ 25] .

_ (1) البحر المحيط: 5/ 263

قال ابن كثير: معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم دائما، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النّفس» . فكل من جزائي أهل النار وأهل الجنة دائم بمشيئة الله تعالى، فعذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته تعالى، وأنه بعدله وحكمته موافق لأعمالهم، وثواب أهل الجنة في الجنة بحسب مشيئته تعالى أيضا جزاء بما كانوا يعملون، إلا أنه تعالى أورد فرقا في ختام آية كل من الفريقين، فقال عقب بيان حال الأشقياء: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ كما قال: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء 21/ 23] وقال عقب بيان حال السعداء: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لتطييب القلوب، والإشارة إلى أن جزاء المؤمنين هبة منه تعالى وإحسان دائم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» . وجاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت» وفي الصحيح أيضا: «فيقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا، فلا تيأسوا أبدا» . وبعد ذكر أحوال الأشقياء والسعداء، أنذر الله تعالى أعداء النبي صلى الله عليه وسلّم بتعذيبهم كما عذب الأمم المهلكة المتقدمة، فقال: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي إذا علمت يا محمد كل ما ذكر، وعرفت سنة الله في عباده، فلا تك في شك في عاقبة

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 460

فقه الحياة أو الأحكام:

ما يعبد المشركون، وفي نهايتهم، فكل ما يعبدون باطل وجهل وضلال، وعذابهم محقق لا شك فيه، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم ووعيد لقومه. إنهم يعبدون الأوثان والأصنام مثلما يعبد آباؤهم، فهم مثلهم في الجهل، وهم مقلدون لهم، فليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات، وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء، فيعذبهم عذابا لا يعذبه أحدا، أما حسنات أعمالهم في الدنيا فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة تماما غير منقوص، فإذا كانوا محسنين فيها كبّر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء، وفعل الخير، فإن الله تعالى يوفيهم جزاءهم عليها في الدنيا بسعة الرزق والصحة، والسرور، ودفع الضرر، وهو جزاء عاجل زائل، وتمام غير نقص بمقتضى العدل الإلهي، فلا يغترن أحد بما يراه في الكفار أحيانا من نعمة ورخاء في الدنيا، فإن لهم الدنيا فقط، ويحرمون من نعيم الآخرة، وليس لهم فيها إلا العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- الأنبياء على صدق تام فيما أخبروا به من أخبار الماضين، ومغيبات المستقبل، سواء في عالم الدنيا، أو في عالم الآخرة، من وقوع العذاب والعقاب، والحشر والحساب: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي لعبرة وموعظة لمن يخشى عذاب القيامة. وقوله: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يدل على إثبات الحشر، فالجمع: الحشر، أي يحشرون ليوم القيامة. وهو يوم يشهده البر والفاجر، ويشهده أهل السماء. 2- البعث حق، ولكن اقتضت حكمة الله تأخير يومه لأجل معلوم معدود سبق به قضاؤه.

3- السلطان المطلق في يوم القيامة لله عز وجل، فلا يتكلم فيه أحد بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه تعالى. قال قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف، في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام. وهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه. 4- الناس يوم القيامة صنفان: شقي وسعيد، الأشقياء في النار، والسعداء في الجنة، وكلاهما خالد مخلد فيما هم فيه، من العذاب أو الثواب، بمشيئة الله وإرادته. وهذا الحكم من الله لا يتغير ولا يتبدل، فمن حكم الله عليه بحكم، وعلم منه عمله وأمره، امتنع أن يصير بخلافه، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا، وعلمه جهلا، وذلك محال، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا. 5- اتفق الجمهور الأعظم من الأمة على أن عذاب الكافر دائم لأن الخلود المذكور في الآية المرتبط بدوام السموات والأرض يقصد به الدوام، على نحو تعبير العرب الذين يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم: ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل. أو أن المراد سموات الآخرة وأرضها، وفي الآخرة سماء وأرض، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، وَالسَّماواتُ [إبراهيم 14/ 48] وقوله: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر 36/ 74] وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسموات. 6- قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يدل على أن خلود أهل النار فيها وخلود أهل الجنة فيها حاصل بمشيئة الله تعالى، ولا يخرج شيء في الدنيا والآخرة عن المشيئة الإلهية، والمراد بالآية الدلالة على الثبوت والاستمرار. واستدل الرازي

بالآية على أنه تعالى يخرج الفساق المؤمنين من أهل الصلاة من النار، وهو المراد بهذا الاستثناء في ترجيحه المشابه له ترجيح أبي حيان، فالآية استثناء من الخلود، وهي في الذين زال حكم الخلود عنهم وهم عصاة المؤمنين. وأما الاستثناء بالنسبة لأهل السعادة فيراد به في وجه ذكره الرازي رفع المنازل، فقد يرفع الله من الجنة إلى العرش، وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] . 7- نعيم أهل الجنة دائم غير منقطع ولا ممنوع، لقوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة 56/ 33] . 8- إن عبادة المشركين أوثانهم وأصنامهم لا دليل عليها من العقل والمنطق، وإنما صادرة عن محض الجهل وتقليد الآباء والأسلاف، كما قال تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ.. الآية، أي فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع، وأن الله عز وجل ما أمرهم بعبادتها، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. 9- الله تعالى عادل أيضا في حق الكفار، فيوفيهم ثواب أعمالهم الحسنة، في الدنيا، ولا يكون لهم ثواب عليها في الآخرة لأن قبول الأعمال حينئذ منوط بالإيمان، ولقوله تعالى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية. ويحتمل أن يكون المراد: ما وعدوا به من خير أو شر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أيضا إرادة أنه يوفيهم نصيبهم من العذاب، وربما كان الكل مرادا.

أهداف القصة في القرآن:

أهداف القصة في القرآن: قد يتكرر إيراد القصة الواحدة في القرآن بأساليب مختلفة، لمناسبات متعددة، وتأثير نفسي متفاوت، وإيحاء متنوع الهدف. ويظهر لنا من بيان قصص الأمم السابقة في هذه السورة وغيرها من السور المكية غالبا أنها تهدف إلى تحقيق أغراض معينة أهمها ما يأتي: 1- الإخبار عن تواريخ بعض الأمم الماضية، وإلقاء الأضواء على حوادث غيبية مهمة جدا، لم يكن يدري بها النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أحد من قومه ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف 12/ 102] ، فيكون ذلك دليلا على صدق نبوته، وأن هذا القرآن من عند الله، وليس افتراء منه، كما زعم المشركون إذ قالوا كما حكى القرآن الكريم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «1» اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 4- 6] . 2- إخبار الناس جميعا عن جهود الأنبياء والرسل في سبيل نشر دعوتهم، وصراعهم مع أقوامهم، ومجادلاتهم ومناقشاتهم السديدة المتنوعة لإظهار الحق وإبطال الباطل، ومدى استجابة أقوامهم لهم وإعراضهم عنهم، وتسلية لنبيا صلى الله عليه وسلّم عما كان يؤلمه من صدود الناس عن الإيمان برسالته، كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود 11/ 120] وفيها بيان كونهم الأسوة الحسنة للجهاد والصبر

_ (1) أساطير الأولين: القصص والأكاذيب القديمة، وكانت العرب لجهلها تزعم ذلك.

الشديد على الدعوة: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف 46/ 35] . 3- إظهار كون الأنبياء متفقين في أصول رسالتهم، وتأييد بعضهم بعضا في الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالبعث والجزاء واليوم الآخر، وتبيان أصول الخير المشترك من الفضائل والأخلاق والقيم العليا: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف 12/ 111] . 4- القصة عنصر مشوق، جذاب محبب، مرغوب فيه في التربية والتعليم وإثبات البراهين العقلية بالوقائع الحسية، لا يختلف في التأثير بأسلوبها وحكاية عناصرها الكبار والشباب، والنساء والفتيات، وذلك يؤدي إلى غرس بذور الإيمان، والترغيب في الطاعة، والترهيب من المعصية، مما يجعل القصة مدرسة إلهية للمؤمنين، أساتذتها الأنبياء، وواقعها الأقوام، وتاريخها قديم عريق، وموضوعها إهلاك الظالمين، وغايتها التهذيب والإصلاح والتربية الحسنة. 5- تهدف القصة القرآنية في المرتبة الأولى إلى إثبات توحيد الله وتقرير وجوده، وإثبات النبوة، والبعث، ويتخللها أحكام تشريعية هادفة مفيدة للفرد والجماعة، وللأمة والدولة، ولكل الشعوب والحكام. 6- تبين القصة أن مهمة النبي مجرد تبليغ الوحي، وإعلام الناس بالإنذارات الإلهية بوقوع العذاب قريبا أم بعيدا، دون أن يكون لديه سلطان ما في التأخير والتغيير، والنفع والضر. 7- تظهر القصة أيضا مدى التماثل في طباع البشر، ومدى استعدادهم للإيمان والكفر، والخير والشر.

8- في القصة إظهار سلطان الله وقدرته وقوته القاهرة في تعجيل العذاب، الذي هو أنموذج عن عذاب الآخرة. 9- تتضمن القصة التأييد الإلهي للرسل، وإظهار آيات الله ومعجزاته وحججه على الناس، مما يحمل على الإقناع بصحة الدعوة الإلهية، والإيمان بأصحابها الرسل. 10- كان لكل قصة مواعظ وعبر خاصة، تختلف باختلاف أصحابها، فقصة قوم نوح مثلا تمثل الغرور المستحكم والإصرار على الوثنية، وقصة قوم عاد تظهر مدى الاعتداد بالبطش والقوة والتجبر والعتو، وقصة قوم لوط تدل على انحطاط المستوى الإنساني، والشذوذ الجنسي، والفحش الأخلاقي، وقصة قوم شعيب مظهر من مظاهر الانحراف الاجتماعي أو الظلم الاجتماعي وأخذ حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، وقصة قوم فرعون مثل بارز للاعتماد على السلطان والثروة والجاه، تهز عروش وكيان المتفرعنين الجبابرة في كل زمان ومكان، وجميع تلك القصص لمقاومة الوثنية والفوضى في نظام المجتمع، فإن كل أولئك الأمم كانوا وثنيين عبدة أصنام، وكانت جهود الأنبياء المكثفة مركزة على تخليص الناس من عبادة الأوثان والأصنام. 11- القصة في الجملة عظة وعبرة، وعلاج للنفوس، واعتبار بما حل بالعصاة والكفار المتمردين، مما يذهل العقل، ويشيب الرأس، ويقطّع نياط القلب، ويجعل الإنسان في دهشة وخوف ورعب. 12- إن إخبار نبي أمي غير كاتب ولا قارئ، ولا راو ولا حافظ، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، عن تلك القصص، دليل قاطع على نبوته، وسمو رسالته، وحرصه على نشر العلوم والمعارف، وخفق ألوية الهدى والرشاد، ودليل قبل كل شيء على أن هذا القرآن كلام الله ودستوره لبني البشر إلى يوم القيامة.

التذكير بعاقبة الاختلاف في التوراة [سورة هود (11) الآيات 110 إلى 111] :

13- تضمنت القصص صلابة كل نبي على مبدئه ودعوته، وإن تعرض للإساءة وتسفيه الرأي، والتصميم أحيانا على قتله أو إبعاده، والأمثلة كثيرة، منها: ما حكاه القرآن عن نوح عليه السّلام: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها، وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود 11/ 28] وتكرر مثل ذلك على لسان شعيب [هود 11/ 88] وغيره من الأنبياء. ومنها ما حكاه عن هود: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ. قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 66- 67] . ومنها ما قال قوم شعيب: قالُوا: يا شُعَيْبُ، ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود 11/ 91] . 14- تكرار القصة الواحدة في سور القرآن أكثر من مرة إنما هو لتحقيق مقاصد وأهداف ومعان كثيرة، لتكون ماثلة أمام الأعين في كل جيل. ولكن تكرارها لم يكن مملا وإنما كان بأساليب متنوعة تجتذب الأنظار، وتنبه العقول، وتطرد السامة والملل من نفس القارئ والسامع. التذكير بعاقبة الاختلاف في التوراة [سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)

الإعراب:

الإعراب: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا.. إن بالتشديد هو الأصل فيها، وكُلًّا: اسمها المنصوب. ومن قرأ إِنَّ بالتخفيف، أعمل إن المخففة، كما أعملها مشددة، كما يعمل الفعل تاما ومخففا. وأما لَمَّا بالتشديد فهو مشكل، إذ ليست هنا بمعنى الزمان، ولا بمعنى إلا، ولا بمعنى لم، وقيل فيها بأوجه منها: أن الأصل فيها «لمن ما» ثم أدغم النون في الميم، فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الميم المكسورة، وتقديره: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. ومنها: أن تكون «ما» زائدة، وتحذف إحدى الميمات، وتقديره: لخلق ليوفينهم. ومن خفف الميم من «لما» جعل «ما» زائدة، أتى بها ليفصل بين اللام التي في خبر إِنَّ ولام القسم التي في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وقال الزمخشري: وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض من المضاف إليه، يعني وإن كلهم، وإن جميع المختلفين فيه. ولَيُوَفِّيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف واللام في لَمَّا موطئة للقسم، وما: مزيدة للفصل، والمعنى: وإن جميعهم والله ليوفينهم، ولام لَيُوَفِّيَنَّهُمْ للتأكيد. البلاغة: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر. المفردات اللغوية: الْكِتابَ التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق والتكذيب فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف مشركو مكة في القرآن وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فيما اختلفوا فيه، بإنزال ما يستحقه المبطل، ليتميز به عن المحق وَإِنَّهُمْ وإن كفار مكة، أو المكذبين بالتوراة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ لفي شك في القرآن أو في التوراة، موقع في الريبة. وَإِنَّ كُلًّا إن بالتشديد والتخفيف، أي وإن كل المختلفين، المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين: بدل المضاف إليه لَمَّا ما: زائدة، واللام موطئة لقسم محذوف مقدر، واللام الثانية التي في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ للتأكيد، أو بالعكس، وما: مزيدة للفصل بين اللامين. لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم ببواطن العمل كظواهره. المناسبة: بعد أن ذكّر الله تعالى مشركي مكة بمصير الأمم الهالكة لكفرهم، ذكّرهم هنا

التفسير والبيان:

أيضا بقوم موسى الذين اختلفوا في التوراة، بين مؤمن وكافر، فعاقبهم الله وجازاهم بسوء أعمالهم. وهو يدل على أن سيرة الكفار الفاسدة مع كل الأنبياء واحدة، فكما أنكر كفار مكة التوحيد، أنكروا أيضا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وكذبوا بكتابه، شأنهم في ذلك شأن وعادة الكفار من قبلهم. التفسير والبيان: والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده، ظلما وبغيا، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية، فآمن به قوم وكفر به آخرون، مع أن الكتاب نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد، فلا تبال يا محمد باختلاف قومك في القرآن، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة، فلا تجزع لتكذيبهم. ولولا كلمة من ربك أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى، لقضي بينهم في الدنيا، بإهلاك العصاة، وإنجاء المؤمنين، كما حدث لأمم آخرين. وإن المكذبين لفي شك موقع في الريبة والقلق، والظاهر عود الضمير في قوله: وَإِنَّهُمْ وقوله: بَيْنَهُمْ على قوم موسى عليه السّلام إذ هم المختلفون في الكتاب، الشاكون في التوراة، كما قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى 42/ 14] والذين أورثوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والتوراة قد فقدت مع إحراق البابليين لهيكل سليمان، وقيل: يعود الضمير على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية: وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي. وهذه الجملة من جملة تسليته صلى الله عليه وسلّم «1» .

_ (1) البحر المحيط لأبي حيان: 5/ 266

فقه الحياة أو الأحكام:

وإن كلا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله ليوفينهم الله جزاء أعمالهم، وما وعدوا به من خير أو شر لأنه خبير بتلك الأعمال كلها، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا أيضا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وتهديد ووعيد لقومه. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيتين ما يأتي: 1- عادة الناس واحدة مع كل الأنبياء، فمنهم من يقبل دعوتهم، ويؤمن برسالتهم، ومنهم من ينكرها، وكفار قوم موسى وغيرهم أنكروا التوحيد، وأصروا على إنكار النبوات، والتكذيب بالكتب السماوية، وكذلك كفار مكة وغيرهم من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم وغيرهم مثل من تقدمهم فيما ذكر، فيكون جزاؤهم واحدا. 2- الاختلاف في الكتاب الإلهي كالتوراة والقرآن، بأن يؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم الآخر، موجب للعقاب والعذاب في الآخرة. 3- حكم الله عز وجل أن يؤخر عقاب الكافرين كبني إسرائيل لانقسامهم بالنسبة للتوراة بين مكذب بها ومصدّق بها، إلى يوم القيامة، لما علم في حكم التأخير من الصلاح ولولا التأخير، لقضي بينهم أجلهم، بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر، وينزل عذاب الاستئصال عليهم، لكن المتقدم من قضاء الله أخر العذاب عنهم في دنياهم. 4- إن أولئك المختلفين في التوراة من اليهود لفي شك من كتاب موسى، وهم في شك أيضا من القرآن. 5- إن كل الأمم والأفراد، المؤمن منهم والكافر، يرون في الآخرة جزاء أعمالهم، سواء من أقوام الأنبياء السابقين أو من قوم محمد عليهم السلام، فمن

الاستقامة على أوامر الله تعالى [سورة هود (11) الآيات 112 إلى 113] :

عجلت عقوبته ومن أخّرت، ومن صدّق الرسل ومن كذب، حالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، وهو مأخوذ من الآية لَيُوَفِّيَنَّهُمْ التي جمعت بين الوعد والوعيد، فإن إيفاء جزاء الطاعات وعد عظيم، وإيفاء جزاء المعاصي وعيد عظيم. وتأكد الوعد والوعيد بقوله تعالى: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لأنه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات، كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي، وعالما بالقدر المناسب لكل عمل من الجزاء، فلا يضيع شيء عنده من الحقوق والجزاءات. وأكد الله تعالى توفية الجزاءات على المستحقين في الآية المذكورة: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ بسبعة أنواع من المؤكدات: وهي إنّ، وكل، والام الداخلة على خبر إن، وحرف «ما» إذا جعلناه على قول الفراء موصولا، والقسم المضمر، فإن تقدير الكلام: وإن جميعهم والله ليوفينهم، واللام الثانية الداخلة على جواب القسم، والنون المؤكدة في قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ فكل هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد، تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ كما تقدم، وهو من أعظم المؤكدات «1» . الاستقامة على أوامر الله تعالى [سورة هود (11) : الآيات 112 الى 113] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 70

الإعراب:

الإعراب: وَمَنْ تابَ مَعَكَ مرفوع بالعطف على ضمير فَاسْتَقِمْ وجاز العطف على الضمير المرفوع لأن الفصل بالظرف، وهو قوله تعالى: كَما أُمِرْتَ ينزّل منزلة التأكيد، فجاز العطف. ويجوز أن يكون وَمَنْ تابَ في موضع نصب لأنه مفعول معه. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواو للحال. المفردات اللغوية: فَاسْتَقِمْ على العمل بأمر ربّك والدّعاء إليه، والاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد والأعمال، من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزلت، والقيام بوظائف العبادات من غير إفراط ولا تفريط. والاستقامة في غاية العسر، لذا قال عليه الصّلاة والسّلام: «شيبتني سورة هود» . وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي وليستقم من تاب معك، بأن تاب من الشرك والكفر وآمن معك. وَلا تَطْغَوْا لا تجاوزوا حدود الله، والطغيان: مجاوزة الحدّ بالإفراط أو التفريط. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التّعليل للأمر والنّهي. وَلا تَرْكَنُوا لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والرّكون: الميل اليسير. إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فتصيبكم النّار كونكم إليهم. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ أَوْلِياءَ مِنْ: زائدة، وأَوْلِياءَ مناصرون يحفظونكم منه، أو أنصار يمنعون العذاب عنكم. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ تمنعون من عذابه، ولا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم. وثُمَّ: لاستبعاد نصره إياهم بعد أن أوعدهم بالعذاب على فعلهم، وأوجبه. المناسبة: لما بيّن الله تعالى أمر المختلفين في التّوحيد والنبّوة، وأطنب في بيان وعدهم ووعيدهم، أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثلما أمر بها غيره، وهي كلمة شاملة لكلّ ما ينعق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق. التفسير والبيان: فالزم يا محمد ومن آمن معك طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال

والأخلاق، دون إفراط ولا تفريط. فالاستقامة تقتضي توحيد الله في ذاته وصفاته، والإيمان بالغيب من جنّة ونار وبعث وحساب وجزاء، وملائكة وعرش، والتزام ما أمر به القرآن في نطاق العبادات والمعاملات. وهي درجة عليا وعسيرة إلا على من جاهد نفسه، وترفّع عن أهوائه وشهواته، وقد أمر بها موسى وهارون بقوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 89] ، وكان جزاؤها تطمين الملائكة بعدم الخوف والحزن، والتّبشير بالجنّة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت 41/ 30] ، وأجاب النّبي صلى الله عليه وسلّم سائلا- هو سفيان الثقفي فيما رواه مسلّم- قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم» . ولا يعني أمر الرّسول بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة، والمقصود بهذا الأمر الدّوام والاستمرار على ما هو عليه. فالله تعالى يأمر رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدّوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النّصر على الأعداء. وخطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بالاستقامة للتّثبيت على الاستقامة. وفي الآية دليل على وجوب اتّباع النّصوص الشّرعية من غير تصرّف وانحراف، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح، ومن حاد عن منهج السّلف زاغ وضلّ، فكانوا كقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم 30/ 32] . وطريق رفع الخلاف الرّد إلى القرآن والسّنة، فقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النّساء 4/ 59] .

وبعد أن أمر الله تعالى بالاستقامة، نهى عن ضدّها وهو الطّغيان، أي البغي وتجاوز حدود الله، فإنه مزلقة إلى الهلاك، فقال تعالى: وَلا تَطْغَوْا. ثمّ حذّر الله تعالى من المخالفة، فقال: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه تعالى بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء، فيجازي عليها. والدّعوة إلى الاستقامة وتجنّب الطّغيان هو هدف القرآن الكريم المتكرر فيه، فقال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى 42/ 15] . ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين، فقال: وَلا تَرْكَنُوا.. أي ولا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم، أو استعانة بهم، أو اعتماد عليهم، فتصيبكم النّار بركونكم إليهم، فالرّكون إلى الظّالمين ظلم، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم، ثم لا ينصركم الله، أي لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة لأنه تعالى لا ينصر الظّالمين: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة 2/ 270] ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحجّ 22/ 71، فاطر 35/ 37] . والآية تدلّ على عاقبة الرّكون، وعلى أن الميل إلى الظّالمين موقع عادة في الظّلم، ومزلقة تستدعي إقرارهم على ما يفعلون، والرّضى بما هم عليه من الظّلم، واستحسان طريقتهم، وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في أعمالهم الظّالمة. قال البيضاوي: ولعل الآية أبلغ ما يتصوّر في النّهي عن الظّلم والتّهديد عليه. وإذا كان الرّكون إلى الظّلم موجبا عذاب النّار، فكيف يكون حال الظّالم في نفسه؟!

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تدلّ الآيتان على الأمر بالاستقامة والثّبات والدّوام عليها، وعلى تحريم ضدّها وهو الطّغيان، أي تجاوز حدود الله تعالى، وعدم الاعتماد على الظّلمة والرّضا بظلمهم. والاستقامة: امتثال أمر الله، وليست تلك مهمة سهلة وإنما هي شاقّة عسيرة تستدعي الطّاعة الدّائمة، ومراقبة الإنسان نفسه، والحذر من المخالفة، قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ ولا أشقّ من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشّيب! فقال: «شيّبتني هود وأخواتها» . وروي عن أبي علي السّري قال: رأيت النّبي صلى الله عليه وسلّم في المنام، فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: «شيّبتني هود» ، فقال: «نعم» ، فقلت: ما الذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: «لا، ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» . والاستقامة تقتضي اتّباع نصوص القرآن والسنّة، والبعد عن التّأويلات الباطلة، والعمل بالرّأي الفاسد المخالف روح الشّريعة ومبادئها العامة. ثمّ حذّرت الآية من الاعتماد على الظّلمة، والرّضا بظلمهم، والاستعانة بهم، والتعاون معهم، وودّهم وإطاعتهم لأن ودّهم يستدعي إطراءهم وتملّقهم، وتزييف الحقائق، وكتمان الحقّ، والسّكوت عن المنكر، وعدم الأمر بالمعروف. والظّلم: يشمل الشّرك وكلّ أنواع القبائح والمعاصي والمنكرات، والآية دالّة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصّحبة لا تكون إلا عن مودّة. أما صحبة الظّالم على التّقيّة، فهي مستثناة من النّهي بحال الاضطرار. روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن أبي بكر أنه قام، فحمد الله،

الأمر بالصلاة والصبر [سورة هود (11) الآيات 114 إلى 115] :

وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ألا وإن النّاس إذا رأوا الظّالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمّهم بعقابه، ألا وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ النّاس إذا رأوا المنكر بينهم، فلم ينكروه، يوشك أن يعمّهم الله بعقابه» . وقد تضمّنت الآية صراحة بيان عاقبة الرّكون إلى الظّلمة، وهي الإحراق بالنّار، بسبب مخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على ما هم عليه، وموافقتهم في أمورهم. والظّلمة: هم أعداء المؤمنين، من المشركين، أو كلّ ظالم، سواء أكان كافرا أم مسلما، والرّأي الثّاني أصح لأن الأخذ بعموم الكلام أولى. ويلاحظ من اختلاف التّعبيرين: فَاسْتَقِمْ ووَ لا تَرْكَنُوا أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنّبي صلى الله عليه وسلّم، وإن كانت عامة في المعنى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وقوله في الآية التالية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ، وَاصْبِرْ. أما المنهيّات فقد جمعت للأمة: وَلا تَطْغَوْا، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. الأمر بالصّلاة والصّبر [سورة هود (11) : الآيات 114 الى 115] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) الإعراب: طَرَفَيِ النَّهارِ منصوب على الظّرف لأنه مضاف إليه.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ بينهما طباق. ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ بينهما جناس اشتقاق. لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن المضمر، ليكون كالبرهان على المقصود، ودليلا على أن الصّبر والصّلاة إحسان، وإيماء بأنه لا يعتدّ بهما دون الإخلاص. المفردات اللغوية: طَرَفَيِ النَّهارِ أي في الغداة والعشي، أي الصّبح والظّهر والعصر كما قال الحسن وقتادة والضّحاك، وطرف الشيء: الطّائفة منه من النّهاية والبداية. وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ جمع زلفة أي طائفة وجزء من أول الليل قريب من النّهار، وذلك يشمل صلاة المغرب وصلاة العشاء، كما قال الحسن البصري. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها، وفي الحديث الذي أخرجه أبو نعيم عن أنس: «الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» والحسنات كالصلوات الخمس وغيرها من أعمال البر، والسيئات: الذنوب الصغائر. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين. وَاصْبِرْ على الطاعات وعن المعاصي. لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بالصبر على الطاعة. سبب النزول: روى الشيخان، وابن جرير، عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأخبره، فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فقال الرجل: إليّ هذه؟ قال: لجميع أمتي كلهم. وأخرج الترمذي وغيره عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا، فقلت: في البيت أطيب منه، فدخلت معي البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فذكرت ذلك له، فقال: أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! وأطرق طويلا، حتى أوحى الله إليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إلى قوله: لِلذَّاكِرِينَ

المناسبة:

وروي ذلك من حديث أبي أمامة ومعاذ بن جبل وابن عباس وبريدة وغيرهم. ومنه يفهم أن ذنب الرجل لا حدّ فيه، وإنما هو ذنب يكفره العمل الصالح، من إقامة الصلاة وإحسان القول والعمل. ورواية الترمذي عن ابن مسعود هي: قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها، وأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلا فدعاه، فتلا عليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: «لا، بل للناس كافة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بالاستقامة، وعدم تجاوز حدود الدين، وعدم الركون إلى ذوي الظلم، أردفه بالأمر بالصلاة والصبر، وهو يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة، ويليها الصبر، فإنه نصف الإيمان، فهما عدة الامتثال، والصلاة أساس العبادات، وعمود الدين. التفسير والبيان: موضوع هاتين الآيتين: الاستعانة بالصلاة والصبر، كما قال تعالى في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 153] . أما بالنسبة للصلاة فالآية في تحديد أوقاتها، ومعناها: أدّ الصلاة تامة كاملة الأركان والشروط والأوصاف، باعتبارها صلة بين العبد والرب، مطهرة

للنفس، مرضاة للرب، مانعة عن الفحشاء والمنكر، وأداؤها في جميع أجزاء اليوم، فقوله: طَرَفَيِ النَّهارِ يشمل ثلاث صلوات هي الصبح والظهر والعصر، وقوله: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يشمل صلاتي المغرب والعشاء. فتكون الآية شاملة جميع أوقات الصلاة، كما جاء في آيات أخر هي: 1- أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 17/ 78] . 2- فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا، وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم 30/ 17- 18] فصلاة الصبح عند الإصباح، وبقية الصلوات تدخل تحت تعبير المساء لأنه يشمل ما بين الظهر والغروب فما بعده. 3- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ، لَعَلَّكَ تَرْضى [طه 20/ 130] والتسبيح يكون بالصلاة وغيرها. ثم ذكر الله تعالى فائدة الصّلاة بقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ.. أي إنّ فعل الخيرات أو الأعمال الحسنة، ومنها الصّلوات الخمس، تكفّر الذّنوب السّالفة، والسّيئات الصّغائر، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدّثني عنه أحد، استحلفته، فإذا حلف صدّقته، وحدّثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما من مسلم يذنب ذنبا، فيتوضأ، ويصلّي ركعتين، إلا غفر له» . وفي الصّحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان: أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوضأ، وقال: «من

فقه الحياة أو الأحكام:

توضأ وضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين، لا يحدّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدّم من ذنبه» . والحسنات: جميع الأعمال الصّالحة، حتى ترك السّيئة، والسّيئات: الذّنوب الصّغائر لأن الكبائر لا يكفّرها إلا التّوبة لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النّساء 4/ 31] ، ولما رواه مسلم: «الصّلوات الخمس كفّارة لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر» . وأمّا شروط التّوبة الصّادقة فهي أربعة: الإقلاع عن الذّنب، والنّدم عليه، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل، والعمل الصّالح الذي يساعد على محو أثر الذّنب، ومنه ردّ الحقوق لأصحابها، وطلب السّماح ممن آذاه. ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي إنّ النّصح السّابق بفعل الحسنات والاستقامة، وعدم تجاوز حدود الدّين، وعدم الرّكون إلى الظّلمة، عظة للمتّعظين الذي يعقلون الأحداث ويقدّرون مخاطرها ويخشون الله عزّ وجلّ. وَاصْبِرْ.. أي الزم الصّبر على الطّاعة ومشاقّها، وعن المعصية ومغرياتها، وابتعد عن المنكر والمحرّمات، وفي حال الشّدائد والمصائب، فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا، الصّابرين على مراد الله وقدره. وهذا دليل على أن الصّبر إحسان وفضيلة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيتان إلى ما يأتي: 1- الأمر بالصّلوات المفروضة وإيجابها، وخصّت بالذّكر هنا لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النّوائب، وكان النّبي صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه «1» أمر، فزع إلى الصّلاة.

_ (1) حزبه: نزل به مهمّ، أو أصابه غمّ.

2- الآية دليل على قول أبي حنيفة رحمه الله في أنّ التّنوير بالفجر أفضل، وفي أنّ تأخير العصر أفضل لأنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على وجوب إقامة الصّلاة في طرفي النّهار، وطرفا النّهار: الزّمان الأوّل لطلوع الشّمس والزّمان الثاني لغروبها، وبما أنّ ظاهر الآية غير مراد بالإجماع، فوجب حمله على المجاز، وهو إقامة الصّلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النّهار لأنّ ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه. وإقامة صلاة الفجر عند التّنوير أقرب إلى وقت الطّلوع من إقامتها عند التّغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عند ما يصير ضلّ كلّ شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عند ما يصير ظلّ كلّ شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى. 3- أوضحت الآية أوقات الصّلوات الخمس المفروضة لأنّ طرفي النّهار يشملان صلاة الصّبح، وصلاة الظّهر والعصر، والزّلف من الليل يقتضي الأمر بإقامة صلاتي المغرب والعشاء. والزّلف: الساعات القريبة بعضها من بعض، وزلف الليل تشمل المغرب والعشاء. 4- الحسنات وهي الأعمال الصّالحة ومنها الصّلوات الخمس، وقول الرّجل: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والأولى حمل اللفظ على عمومه. وأما السّيئات فهي الذّنوب الصّغائر، للحديث المتقدّم: «ما اجتنبت الكبائر» . 5- دلّت الآية على أنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان لأنّ الإيمان أشرف الحسنات وأجلّها وأفضلها. وعلى أنّ الحسنات يذهبن السّيئات، فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة، يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان، فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل السّيئات درجة، كان أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكليّة، فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم.

سبب إهلاك القرى والأمم السالفة [سورة هود (11) الآيات 116 إلى 119] :

6- دلّت الآية مع الأحاديث الواردة في سبب نزولها على أن القبلة واللّمس الحرام لا يجب فيهما الحدّ. واختار ابن المنذر أنه لا يجب فيهما أدب أو تعزير. 7- القرآن الكريم موعظة وتوبة لمن اتّعظ وتذكّر، وخصّ الذّاكرين بالذّكر لأنهم المنتفعون بالذّكرى. 8- الصّبر على الصّلاة كما قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه 20/ 132] ، والصّبر على الطّاعات، وعلى ما يلقاه المؤمن من أذى الأعداء، وعلى الشّدائد والمصائب، الصّبر على كلّ ذلك إحسان وفضيلة، وله ثواب عظيم، وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان: «الصّبر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كلّه» إلا أنه ضعيف. سبب إهلاك القرى والأمم السّالفة [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) الإعراب: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ ... منصوب لأنه استثناء منقطع، ويجوز فيه الرّفع على البدل من

المفردات اللغوية:

أُولُوا بَقِيَّةٍ كما جاز الرّفع في قوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس 10/ 98] وإن كان استثناء منقطعا، وهي لغة بني تميم. وَاتَّبَعَ عطف على مضمر دلّ عليه الكلام إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد، واتّبع الذين ظلموا. وَكانُوا مُجْرِمِينَ عطف على اتَّبَعَ أو جملة اعتراضية. بِظُلْمٍ حال من الفاعل، أي واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها. المفردات اللغوية: فَلَوْلا فَلَوْلا: للتّحضيض والحثّ على الفعل، أي فهلا كان. مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن، وهو الجيل من الناس المقترنون في زمن واحد، وشاع تقديره بمئة سنة. أُولُوا بَقِيَّةٍ أولو عقل ورأي وبصر بالأمور، أو أولو فضل، والأصل في البقية: ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرا في الباقي الأصلح لإنفاق الأردأ عادة وإبقاء الأجود، وتلك قاعدة بقاء الأصلح، ومنه يقال: فلان من بقيّة القوم، أي من خيارهم. ويجوز أن يكون مصدرا كالتّقية، أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب. ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي ما أنعموا فيه من الشهوات. وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي كافرين، وهو سبب استئصال الأمم، وهو فشو الظلم فيهم، واتّباعهم الهوى، وترك النّهي عن المنكرات مع الكفر. بِظُلْمٍ بشرك. وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا، وذلك لفرط رحمة الله ومسامحته في حقوقه، ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد على حقوق الله تعالى. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مسلمين كلّهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كلّ أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق، وبعضهم على الباطل، لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقا. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا أناسا هداهم الله من فضله، فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ والعمدة فيه. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ: إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي الصّيرورة، أو أن الضّمير يعود للنّاس وإلى الرّحمة. وإن كان الضّمير يعود لمن رحم، فإلى الرّحمة. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده وقضاؤه وأمره. مِنَ الْجِنَّةِ الجنّ، سمّوا بهذا لاستتارهم. وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي من عصاتهما. أَجْمَعِينَ صفة للعصاة، أو منهما أجمعين لا من أحدهما.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى ما حلّ بالأمم السّابقة المكذّبة لرسلها، من عذاب الاستئصال في الدّنيا، واستحقاق النّار في الآخرة، ذكر هنا سبب العذاب وهو أمران: الأول- أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض، والثاني- أن الظّالمين اتّبعوا طلب الشّهوات واللّذات، واشتغلوا بتحصيل الرّياسات. والظّالمون: هم تاركو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. التّفسير والبيان: فهلا وجد من القرون، أي الأمم والأقوام الماضية الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم جماعة أولو عقل ورأي وبصيرة وأهل خير ينهون عما كان يقع بينهم من الشّرور والمنكرات والفساد في الأرض. وهذا توبيخ للكفار. لكن قد وجد قليل من هؤلاء، وهم الذين أنجاهم الله تعالى عند حلول غضبه وفجأة نقمته، قد نهوا عن الفساد في الأرض. فهذا استثناء منقطع، ولا يمكن جعله استثناء متّصلا، وإلا كان القليل من النّاجين غير مرغّبين في النّهي عن الفساد. واتّبع الظّالمون أنفسهم، وهم الأكثرية ما أترفوا فيه من نعيم وعزّة وسلطان. والمترف: الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة. والمراد بالذين ظلموا: تاركو النّهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف: اشتغالهم بالشّهوات والمال واللّذات والرّياسات، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم، وإيثار الترف على الآخرة. وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي والحال أنهم كانوا ظالمين. فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 11/ 101] ، وقال تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصّلت 41/ 46] .

وفي الآية إيماء إلى أن التّرف مدعاة إلى الإسراف، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان، والظّلم والانحراف، وتلك عادة متّبعة كما قال تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء 17/ 16] . ثمّ بيّن تعالى عدله وسنّته في المصلحين، فقال تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى، ظالما لها، وأهلها قوم مصلحون، تنزيها لذاته تعالى عن الظّلم، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظّلم. وقيل الظّلم: الشّرك، ومعناه: أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها، وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم، أو في أمورهم الاجتماعية، يتعاطون الحقّ فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، أي لا ينزل عذاب الاستئصال لأجل كون القوم مجرّد كونهم معتقدين للشّرك والكفر، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات، وسعوا في الإيذاء والظّلم، كما فعل قوم شعيب، وقوم هود، وقوم فرعون، وقوم لوط. ويؤيده أنّ الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظّلم. ثم أخبر الله تعالى أنه قادر على جعل الناس أمة واحدة من إيمان أو كفر، فقال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ.. قال الزّمخشري معبّرا عن مذهب المعتزلة: يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملّة واحدة، وهي ملّة الإسلام، كقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون 23/ 52] . فهم يحملون الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، والمراد نفي الاضطرار، وأنه لم يقهرهم على الاتّفاق على دين الحقّ، ولكنه مكّنهم من الاختيار الذي هو أساس التّكليف، فاختار بعضهم الحقّ، وبعضهم الباطل، فاختلفوا، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم، فاتّفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه. ويرى أهل السّنّة: أن الآية بيان لقدرة الله تعالى على جعل الناس كلهم على

منهج واحد من إيمان أو كفر، بخلقهم قابلين دينا واحدا، لكنه تعالى لم يشأ ذلك، مثل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] وإنما شاء أن يكون لهم دور اختياري في الاتّجاه إلى الحقّ والإيمان ونبذ الضّلالة والشّرك، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ استثناء منقطع، أي لكن من رحم ربّك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي في الأديان والاعتقادات والمذاهب والآراء، وقيل: في الهدى، أو في الرّزق يسخر بعضهم بعضا، قال ابن كثير: والمشهور الصّحيح الأول. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي المرحومين من أتباع الرّسل الذين تمسّكوا بما أمروا به من الدّين، الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى جاء خاتم الرّسل، ففاز من اتّبعه بسعادة الدّنيا والآخرة، فهم الفرقة النّاجية. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الزّمخشري ممثلا رأي المعتزلة: لِذلِكَ: إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأول وتضمّنه، يعني: ولذلك المذكور من التّمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف، خلقهم، ليثيب مختار الحقّ بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره «1» . ويرى أهل السّنة كما ذكر أبو حيان: أنّ اللام ليست للتّعليل، وإنما هي على التّحقيق لام الصّيرورة في ذلك المحذوف، أي ليس الاختلاف والرّحمة علّة الخلق، وإنما خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. مثل قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] . ولا يتعارض هذا مع قوله

_ (1) الكشّاف: 2/ 120

تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذّاريات 51/ 56] لأن معنى هذا الأمر بالعبادة «1» . والإشارة في قوله تعالى: لِذلِكَ: إشارة إلى الاختلاف والرّحمة معا في رأي ابن عباس، واختاره الطّبري، وقال مجاهد وقتادة: لِذلِكَ: إشارة إلى الرّحمة التي تضمّنها قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ والضّمير في خَلَقَهُمْ عائد على المرحومين. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.. أي سبق في قضاء الله وقدره لعلمه التّام وحكمته النّافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنّة، ومنهم من يستحق النّار، وأنه لا بدّ أن يملأ جهنّم من هذين الثّقلين: الجنّ والإنس، وهم الذين لا يهتدون بما أرسل الله به الرّسل من الآيات والأحكام. قال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ مَنْ: لبيان الجنس، أي من جنس الجنّة وجنس النّاس.. وقوله تعالى: أَجْمَعِينَ تأكيد. وفي الصّحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اختصمت الجنّة والنّار، فقالت الجنّة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء النّاس وسقطهم «2» ، وقالت النّار: أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، فقال الله عزّ وجلّ للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنّار: أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، فأما الجنّة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنّة، وأما النّار فلا تزال تقول: هل من مزيد، حتى يضع لها ربّ العزّة قدمه، فتقول: قط قط «3» ، وعزّتك» .

_ (1) البحر المحيط: 5/ 273 (2) السّقط: رديء المتاع. (3) قط بمعنى حسب، وهو الاكتفاء. والقطّ: الكتاب والصّكّ بالجائزة، ومنه قوله تعالى: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- وجوب النّهي عن المنكر والفساد، والأمر بالمعروف، كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران 3/ 104] ، وفي الحديث الصّحيح: «إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيّروه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» . 2- المصلحون في كلّ زمان، النّاهون عن الفساد في الأرض كقوم يونس، وأتباع الأنبياء وأهل الحقّ ناجون من عذاب الله تعالى. 3- التّرف يدعو عادة إلى الإسراف المؤدّي إلى الفسوق والعصيان والظلم، والمترف: الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة. 4- الظّلم أو الاجرام كالشّرك والكفر وإلحاق الأذى والضّرر بالنّاس سبب موجب للعقاب في الدّنيا والآخرة، لكن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدّنيا من الشّرك، وإن كان عذاب الشّرك في الآخرة أصعب. 5- لم يكن الله ليهلك قوما بالكفر وحده، حتى ينضم إليه الفساد في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، كما أهلك الله قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط. 6- الله تعالى قادر على جعل النّاس كلّهم أمّة واحدة من إيمان أو كفر. قال الضّحّاك في آية: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ..: أهل دين واحد، أهل ضلالة، أو أهل هدى. وقال سعيد بن جبير: على ملّة الإسلام وحدها. وأما قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ فقال مجاهد وقتادة: أي على أديان شتّى.

وقوله تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن ومقاتل وعطاء: الإشارة إلى الاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضّحّاك: ولرحمته خلقهم. واختار الطّبري وتابعه القرطبي: الإشارة بذلك للاختلاف والرّحمة، وهو أولى في تقديري لأنه يعمّ، أي ولما ذكر خلقهم. ولام وَلِذلِكَ للعاقبة والصّيرورة كما بيّنا. والقول بعموم إشارة وَلِذلِكَ أشار إليه مالك رحمه الله قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنّة، وفريق في السّعير، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرّحمة للرّحمة. وقال ابن عباس أيضا كما تقدّم: خلقهم فريقين: فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. 7- استدلّ أهل السّنّة بآية: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى لأن تلك الرّحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرّسل، وإنزال الكتب، وإزالة العذر، فإن كلّ ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرّحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة «1» . 8- مما ثبت في الأزل وأخبر تعالى عنه وقدر أنه يملأ ناره، ويملأ جنّته، فقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ..، وأخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قال عن الجنّة والنّار: «ولكلّ واحدة ملؤها» .

_ (1) تفسير الرّازي: 18/ 77- 78 [.....]

الفائدة العملية من قصص الأنبياء والأمر بالعبادة والتوكل على الله تعالى [سورة هود (11) الآيات 120 إلى 123] :

الفائدة العملية من قصص الأنبياء والأمر بالعبادة والتوكل على الله تعالى [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) الإعراب: وَكُلًّا منصوب على المصدر ب نَقُصُّ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل ما يحتاج إليه، وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك. ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لقوله: وَكُلًّا أو بدل منه، أو مفعول به. المفردات اللغوية: وَكُلًّا وكل نبأ نَقُصُّ نخبرك به، والقص: تتبع أثر الشيء للإحاطة به، كما قال تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ.. [القصص 28/ 11] . مِنْ أَنْباءِ جمع نبأ: وهو الخبر المهم. نُثَبِّتُ بِهِ نقوّي ونطمئن. فُؤادَكَ قلبك، أي نجعله راسخا كالجبل، وهو المقصود من الاقتصاص، وهو زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، وثبات نفسه على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الأنباء أو الآيات الْحَقُّ ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى سائر فوائده العامة، وخصّ المؤمنون بالذكرى لانتفاعهم بها في الإيمان، بخلاف الكفار. عَلى مَكانَتِكُمْ على حالتكم أو على تمكنكم واستطاعتكم. إِنَّا عامِلُونَ على حالتنا، وهو تهديد لهم. وَانْتَظِرُوا عاقبة أمركم. إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم.

المناسبة:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم ما غاب فيهما، لا يخفى عليه خافية مما فيهما. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي يرجع إليه أمرك وأمرهم، لا محالة، فينتقم ممن عصى. فَاعْبُدْهُ وحده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثق به، فإنه كافيك. وتقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على ما هو الأنفع للعابد. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم، فيجازي كلّا ما يستحقه، وإنما يؤخرهم لوقتهم. المناسبة: بعد أن قص الله على نبيه أخبار الأنبياء مع أقوامهم، ذكر فائدة تلك القصص وحصرها في نوعين من الفائدة وهما: تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وبيان ما هو حق وعظة وعبرة وذكرى تذكر المؤمنين. ثم ختم السورة بما بدأها به وهو الأمر بالعبادة، والتوكل على الله، وعدم المبالاة بعداوة المشركين. التفسير والبيان: وكل خبر من الأخبار التي هي من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم نقصها عليك لفائدتين: الأولى- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي ما به يقوى الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى لأن الأنبياء الذين من قبلك تحملوا في محاجة أقوامهم الأذى الكثير، فصبروا على ما كذبوا به، فنصرهم الله وخذل أعداءهم الكافرين، فلك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة. الثانية- وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي وتبين لك في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء، أو في هذه الأنباء والآيات، ما هو الحق والصدق واليقين: وهو وحدانية الله وعبادته وحده، وإثبات البعث، وفضيلة التقوى والخلق الفاضل، وفي تلك الأنباء عظة وعبرة يرتدع بها

الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون. وخصّ هذه السورة بالذكر لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. والحق: البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة. والموعظة: التنفير من الاعتماد الكلي على الدنيا وما فيها من شقاوة، وإيثارها على الآخرة وما فيها من سعادة. والذكرى: الإرشاد إلى الأعمال الصالحة الباقية. وبعد هذا الإنذار والترهيب والترغيب أمر الله رسوله بقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون بما جئت به من ربك، على وجه التهديد: اعملوا على طريقتكم ومنهجكم وحالكم، وافعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشرّ، كما قال شعيب عليه السّلام لقومه، فنحن أيضا عاملون على طريقتنا ومنهجنا وما نقدر عليه من الدعوة إلى الخير، وانتظروا بنا نهاية أمرنا، إما بموت أو غيره مما تتأملون، إنا منتظرون عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من عقاب نزل بأمثالكم، إما من عند الله أو بأيدي المؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانتظروا الهلاك، فإنا منتظرون لكم العذاب. والتهديد بقوله: اعْمَلُوا.. مثل قوله تعالى لإبليس: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ... [الإسراء 17/ 64] وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] . وتمني انتهاء أمر النبي حكاه الله عن المشركين بقوله: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] . وانتظار مصير الفريقين له شبيه في قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام 6/ 135] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ختم الله تعالى السورة بخاتمة جامعة سامية، جمعت كل مطالب الخير، فقال: وَلِلَّهِ غَيْبُ.. أي أنه تعالى عالم غيب السموات والأرض في الماضي والحاضر والمستقبل، وعلمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات، والمعدومات والموجودات، والحاضرات والغائبات، ومرجع الكل ومصير الخلائق والكائنات إليه لأنه مصدر الكل ومبدأ الكل، وهو عظيم القدرة نافذ المشيئة، قهار للعبيد، وسيحاسب كل عامل بما عمل يوم الحساب، من صغير أو كبير. وإذا كان الله هو المتصف بما ذكر، فاعبده وحده ومن معك من المؤمنين، وتوكل عليه في كل أمورك حق التوكل، وثق به تمام الثقة فيما تستطيع وما لا تستطيع، فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه، وما ربك بغافل عما تعملون، أي ليس بخفي عليه كل ما يعمل به المكذبون والمصدقون، وما عليه أحوالهم، وما تصدر عنه أقوالهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين، فلا تبال بهم. روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الكيّس: من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- في إيراد قصص الأنبياء وما كابدوه من مشاق من أجل دعوتهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وتثبيت له على أداء الرسالة، والصبر على ما يناله فيها من الأذى. وفيها بما تضمنته من بيان ما هو الحق واليقين عظة وعبرة وذكرى لكل مؤمن. والموعظة: ما يتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية. والذكرى: تذكر المؤمنين

ما نزل بمن هلك فيتوبون. وخصّ الله تعالى المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء. 2- فيها تهديد ووعيد الكافرين على أعمالهم، وندب لهم أن يفعلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلّم كل ما يقدرون عليه من الشر، فلن ينالوا منه شيئا. وفي هذا إعلان الثقة التامة بعصمة الله له، وتأكيد الإيمان بصحة عمله، والإنذار بسوء عاقبة المخالفين. 3- العلم بالغيب والشهادة في جميع السموات والأرض، في الحاضر والماضي والمستقبل مختص بالله تعالى. 4- المرجع والمآب في الدار الآخرة إلى الله تعالى، وليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. 5- إيجاب العبادة بالإخلاص لله وحده، وإيجاب التوكل على الله في كل شيء، أي اللجوء إليه والثقة به وتفويض الأمور إليه. 6- الله مطلع على أحوال العباد وأقوالهم وأفعالهم، ويجازي كلّا بعمله، فلا يضيع طاعات المطيعين، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، والجزاء بإحضارهم في موقف القيامة، وحسابهم على الصغير والكبير، والعتاب على كل شيء. وتحصل عاقبة الأمر: فريق في الجنة وفريق في السعير.

سورة يوسف عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف عليه السّلام مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية. تسميتها وسبب نزولها: سميت سورة يوسف، لإيراد قصة النبي يوسف عليه السّلام فيها، روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف فنزلت السورة. وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- فيما رواه عنه الحاكم وغيره-: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف 12/ 3] و [الكهف 18/ 13] فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو حدثتنا فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 39/ 23] . وقد نزلت بعد اشتداد الأزمة على النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة مع قريش، وبعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي زوجته الطاهرة خديجة، وعمه أبا طالب الذي كان نصيرا له. روي في سبب نزولها أن كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في شأن محمد صلى الله عليه وسلّم، فقال لهم اليهود: سلوه، لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن قصة يوسف، فنزلت. وبالرغم من أنها سورة مكية، فأسلوبها هادئ ممتع، مصطبغ بالأنس والرحمة، واللطف والسلاسة، لا يحمل طابع الإنذار والتهديد كما هو الشأن

مناسبتها لما قبلها:

الغالب في السور المكية. قال عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتلو هذه السورة، أسلموا لموافقتها ما عندهم. مناسبتها لما قبلها: نزلت هذه السورة بعد سورة هود، وهي مناسبة لها، لما في كلّ من قصص الأنبياء، وإثبات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد تكررت قصة كل نبي في أكثر من سورة في القرآن، بأسلوب مختلف، ولمقاصد وأهداف متنوعة، بقصد العظة والاعتبار، إلا قصة يوسف عليه السّلام، فلم تذكر في غير هذه السورة، وإنما ذكرت جميع فصولها بنحو متتابع شامل، للإشارة إلى ما في القرآن من إعجاز، سواء في القصة الكاملة أو في فصل منها، وسواء في حالة الإجمال أو حالة التفصيل والبيان. قال العلماء: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن، وكرّرها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرّر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل «1» . ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة قصة يوسف عليه السّلام، بجميع فصولها المثيرة، المفرحة حينا والمحزنة حينا آخر، فبدأت ببيان منزلته عند أبيه يعقوب وصلته به، ثم علاقته بإخوته (مؤامرتهم عليه، وإلقاؤه في البئر، وبيعه لرئيس شرطة مصر، وشراؤهم الطعام منه في المرة الأولى ومنحهم إياه دون مقابل، ومنعهم شراء الطعام في المرة الثانية إن لم يأتوه بأخيهم (بنيامين) وإبقاء أخيه بنيامين لديه في

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 118

أضواء من التاريخ على قصة يوسف عليه السلام:

حيلة مدروسة وسرقة مزعومة، حتى يأتوه بأخيهم لأبيهم، ثم تعريفه نفسه لإخوته) ، ومحنة يوسف وجماله الرائع، وقصة يوسف مع امرأة العزيز، وبراءته المطلقة، يوسف في غياهب السجون يدعو لدينه، بوادر الفرج وتعبير رؤيا الملك، توليته وزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم، إبصار يعقوب حين جاء البشير بقميص يوسف، لقاء يوسف في مصر مع أبويه وجميع أسرته. ثم إيراد العبرة من هذه القصة، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وتسليته، وبشائر الفرج بعد الضيق، والأنس بعد الوحشة، فإن يوسف عليه السّلام انتقل من السجن إلى القصر، وجعل عزيزا في أرض مصر، وكل من صبر على البلاء فلا بد من أن يأتيه الفرج والنصر، وتحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم، والدروس والأخلاق المستفادة من قصة يوسف عليه السّلام، وأهمها نصر الرسل بعد الاستيئاس. أضواء من التاريخ على قصة يوسف عليه السّلام «1» : نسب يوسف: هو يوسف بن يعقوب (إسرائيل الله) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر ذكرا الذين ولدوا في فدان آرام أثناء رعاية غنم خاله (لابان) مقابل تزوجه ابنتيه، إلا بنيامين فقد ولد في أرض كنعان بعد رحيله إليها. قال النبي صلى الله عليه وسلّم عن يوسف فيما أخرجه أحمد والبخاري عن ابن عمر: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» . وكان يوسف رائع الجمال، محبوبا لدى أبيه، مما أثار حقد إخوته عليه وتآمرهم عليه. وقد رأى في منامه في صغره في سن السابعة عشرة سنة أو

_ (1) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 120 وما بعدها

إلقاء يوسف في البئر:

الثانية عشرة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدوا له، فقصّ الرؤيا على أبيه، فبشره بالنبوة وتعبير الأحلام. إلقاء يوسف في البئر: أخذه إخوته معهم إلى البرية بقصد السياحة واللعب، ثم ألقوه في البئر، وأخبروا أباهم كذبا أن الذئب أكله، فلم يقتنع الأب الصالح بكلامهم، واتهمهم بمكيدة أوقعوها فيه، ثم أنقذه الله بتعلقه بحبل دلو أدلي في البئر، ثم باعه آخذوه في مصر بثمن نجس، وادعوا أنهم اشتروه من سيده، باعوه لرئيس الشرطة وهو العزيز في محافظة الشرقية قرب بحيرة المنزلة، واسمه (فوطيفار) أو (أطفير) فأحبه وقال لامرأته زليخا: أَكْرِمِي مَثْواهُ.. وجعله صاحب أمره ونهيه، ورئيس خدمه والمتصرف في بيته، وتولاه الله تعالى بالهداية والتربية والتوفيق. محنة يوسف: وكان جماله الرائع سبب محنته، روى مسلم في صحيحة أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن» فأحبته امرأة العزيز، وراودته عن نفسه، فأبى إيمانا بالله، وامتثالا لأمره، واجتنابا لمنهياته، وتقديرا لأفضال زوجها عليه: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وامتنع همّه بها لوجود البرهان عنده، وهو حرصه على الطاعة، والتمسك بآداب آبائه، لأنحرف امتناع لوجود، امتنع الهم لوجود البرهان، كما في قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص 28/ 10] أي امتنع إبداؤها بما في نفسها على ابنها، لوجود الربط على قلبها. مكيدة امرأة العزيز: ولما خابت في تحقيق رغبتها منه، حقدت عليه، كما هو شأن السادة عند ما

دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه:

يخالفهم أحد الأتباع. ولما رأت زوجها لدى الباب يريد الدخول، لفقت عليه التهمة، وأفهمته أنه يريدها بسوء، فكذبها يوسف الصّديق، فاحتكم الزوج العاقل إلى القرائن: إن كان قميصه مزّق من الأمام فهي الكاذبة، وإن مزق من الخلف فهو الصادق، لأن المقدم على المرأة يظهر أثر مقاومتها ودفاعها من الناحية الإمامية، والهارب من المرأة يظهر أثر لحاقها به من الخلف، فظهرت براءته، والتصقت التهمة بها، وأمر يوسف بكتمان الخبر، وأمرها بالاستغفار لذنبها. ومع هذا، شاع خبر امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولامتها النساء، فأعدت لهن طعاما يحتاج إلى القطع بالسكين، وآتت كل واحدة سكينا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن، فبهرهن جماله، فقطعن أيديهن، وقلن: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فعذرنها، ثم هددته بالسجن إن لم يستجب لها، وفشا أمره بين الناس، فرأى سيده أن يزجه في السجن، ليحمي سمعة امرأته. دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه: وأدخل يوسف السجن، ودخل معه السجن فتيان: أحدهما: رئيس الخبازين عند الملك، والثاني: رئيس سقاته، فرأى الثاني في منامه أنه يعصر في كأس الملك خمرا، ورأى الأول أنه يحمل فوق رأسه خبزا وطيرا تأكل الناس منه، وطلبا من يوسف تعبير الرؤيا. فأظهر يوسف مقدرته على تأويل الرؤيا، ولكنه قدم لذلك بدعوته السجناء إلى توحيد الله، قائلا لصاحبيه: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ وقال للساقي: إنه يسقي ربه خمرا، وقال للآخر: إنه سيصلب، فتأكل الطير من رأسه. وتأمل يوسف الفرج وقال لمن ظن أنه ناج منهما: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

رؤيا الملك:

رؤيا الملك: ثم رأى الملك أن سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنابل خضراء حسنة في ساق واحدة يأكلهن سبع يابسات، فدعا بالسحرة لسؤالهم عن تأويل المنام، فقالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. فتذكر ساقي الملك يوسف في السجن، فعرض الأمر على الملك، فوافق على أن يرسله إلى السجن ليأتي له بالتفسير الصحيح للمنام، فجاءه فيه، ثم عاد بالجواب إلى الملك، فقال الملك: ائتوني بيوسف، فأبى يوسف الخروج من السجن، حتى تظهر براءته وحقيقة أمره مع النساء، فأحضرهن الملك، وسألهن عنه، قلن: حاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأقرت امرأة العزيز (زليخا) ببراءته، وقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وآية: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ... من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف كما يذكر بعض المفسرين خطأ. خروج يوسف من السجن إلى القصر: وخرج يوسف من السجن بريئا من التهمة، وسأله الملك عن أي عمل يرضاه لنفسه؟ فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ فجعله على كل أرض مصر، وصاحب الأمر والنهي، ووزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم، وجعل خاتمه في يد يوسف الذي أصبح عمره ثلاثين سنة. طلب إخوة يوسف الطعام منه: ومرت السنوات السبع المخصبة، ثم جاءت السبع المجدبة، فباع يوسف المصريين من مخازن القمح التي كان قد ادخرها أثناء الخصب، ثم جاءه أهل

حيلة يوسف في إبقاء أخيه عنده:

فلسطين، وأرسل يعقوب أولاده مع الجمال والحمير لحمل الطعام من مصر، فلما قدموا عرفهم يوسف ولم يعرفوه، إذ أصبح في سن الأربعين، وطلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم مرة أخرى، وأعطاهم الطعام بلا ثمن، ليأتوه بأخيهم، دون أن يعلموا أنه ردّ عليهم الثمن، ووضع نقودهم في أوعيتهم لأنهم سيعودون بها إليه لأنهم لا يقبلون ما ليس لهم. ولما اشتد القحط بأهل فلسطين، سمح يعقوب بسفر ابنه (بنيامين) مع إخوته، فلما قدموا أحسن يوسف ضيافتهم واستقبالهم في حفل غداء ظهرا، ولكنه لم يأكل معهم جريا على عادة المصريين الذين يعتبرون الأكل مع العبرانيين نجاسة، وأخبروا خادما ليوسف أنهم عادوا بالفضة ثمن الطعام سابقا، وبفضة أخرى لشراء القمح. حيلة يوسف في إبقاء أخيه عنده: أمر يوسف بتجهيز إخوته من الطعام، وأمر أن توضع فضة كل واحد في عدله، وأن يوضع صواع الملك في رحل أخيه بنيامين، وعند ما عزموا على المسير، نودوا بأنهم سرقوا سقاية الملك، وأن من سرقه فهو فداؤه في قانون الملك. ففتشت أعدالهم، ثم أخرج الصواع من عدل بنيامين، فتوسطوا لدى الملك واسترحموا أن يأخذ أحدهم بدلا عنه لأن له أبا شيخا كبيرا، فأبى، فقالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرها يوسف في نفسه، وقال لهم: أنتم شرّ مكانا من هذا السارق. وسرقة يوسف المزعومة: أن أمه ماتت وهو صغير، فكفلته عمته، ولما أراد أبوه أن يأخذه منها، ألبسته منطقة لإبراهيم كانت عندها، وأخفتها تحت ثيابه، ثم أظهرت أنها سرقت منها، ثم أخرجتها من تحت ثيابه، وطلبت بقاءه عندها يخدمها مدة، جزاء له بما صنع.

تعارف الإخوة ولقاء الأسرة:

فلما قدم إخوة يوسف على أبيهم يعقوب ما عدا أكبرهم وأصغرهم، أخبروه بما حدث، فازداد حزنا حتى ابيضت عيناه، وتذكر يوسف فقال: يا أسفا على يوسف. تعارف الإخوة ولقاء الأسرة: ثم جاء إخوة يوسف إلى مصر في المرة الثالثة، وطلبوا إمدادهم بالطعام، لما تعرضوا له من الضرّ (الجوع) قائلين: وجئنا ببضاعة مزجاة أي قليلة، كما طلبوا إطلاق سراح أخيهم، فذكرهم يوسف بإساءتهم القديمة قائلا: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ، إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فعرفوا أنه يوسف: قالُوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ: أَنَا يُوسُفُ، وَهذا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ... وأعطاهم قميصه لإلقائه على وجه أبيهم، والإتيان بأهله أجمعين إليه، فلما وصلوا فلسطين ألقوا القميص على وجه يعقوب، فارتد بصيرا، وبشره البشير بسلامة يوسف وأخيه. فجاء يعقوب وآله إلى مصر، فآوى يوسف إليه أبويه: يعقوب وزوجه خالة يوسف، لموت أمه وهو صغير، وسجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر سجود تحية وتعظيم، لا سجود عبادة، وتلك هي تأويل رؤياه السابقة بسجود أحد عشر كوكبا له مع الشمس والقمر، وكان هذا اللقاء فرحة كبري للأسرة برئاسة يعقوب، استوجبت من يوسف إعلان شكر الله تعالى على نعمه عليه، من العلم والملك، وطلب من الله تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة، وأن يتوفاه مسلما أي مطيعا لله، غير عاص، وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء. العبر والعظات المستفادة من قصة يوسف: يمكن استخلاص عبر كثيرة وعظات عديدة، وأخلاق وفضائل سامية من قصة يوسف عليه السّلام، منها:

1- قد تؤدي النقمة إلى النعمة، فقد بدأت قصة يوسف بالأحزان والمفاجآت المدهشة، من الإلقاء به في البئر، ثم بيعه عبدا لرئيس شرطة مصر، ثم كانت محنته الشديدة مع النساء، فزجّ به في غياهب السجون، ثم آل الأمر به إلى أن يصبح حاكم مصر الفعلي. 2- قد توجد ضغائن وأحقاد بين الإخوة ربما تدفع إلى الموت أو الهلاك. 3- كانت نشأة يوسف في بيت النبوة نشأة صالحة، تربى فيها على الأخلاق الكريمة، والخصال الرفيعة، فشب على تلك الأوصاف الكاملة التي ورثها من آبائه وأجداده الأنبياء، وقد أفاده ذلك في مختلف الأحداث الكبرى التي مرا، وانتصر بها على المحن، وجاءه الفرج بعد الشدة، والعز والنصر بعد الذل والانكسار. 4- إن العفة والأمانة والاستقامة مصدر الخير كله، للرجال والنساء، على حدّ سواء، وإن الاستمساك بالدين والفضيلة مصدر الاحترام وحسن السمعة، وإن الحق وإن استتر زمنا لا بدّ من أن يظهر ولو بعد حين. 5- إن مثار الفتنة هو خلوة الرجل بالمرأة، لذا حرمها الإسلام، وحرم سفر المرأة لمسافة قصيرة بغير محرم، ولو بوسائط النقل السريعة الحديثة، لما يطرأ لها من عثرات ومضايقات ملحوظة ومشكلات تصاحب الأسفار، ثبت في الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» . 6- الإيمان بالمبدأ، وصلابة الاعتقاد سبيل لتخطي الصعاب، والترفع عن الدنايا، وذلك هو الذي جعل ليوسف نفسا كريمة، وروحا طاهرة، وعزيمة صماء لا تلين أمام الشهوات والمغريات. 7- الاعتصام بالله عند الشدة، واللجوء إليه عند الضيق، فلم يأبه يوسف

عليه السّلام بتوعد امرأة العزيز له بالسجن، وإنما لجأ إلى الله قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. 8- المحنة لا تثني المؤمن عن واجبه في الدعوة إلى الله تعالى، فإن يوسف عليه السّلام بالرغم من كونه في السجن، انتهز فرصة تأويل رؤيا سجينين معه، فبادر إلى الدعوة إلى التوحيد ودين الله، لعل الموجودين معه يؤمنون بدعوته، وقد أسلم فعلا الملك، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال. 9- الفطنة لاستغلال الأحداث والاتصاف بالإباء والشمم، فلم يبادر يوسف عليه السّلام إلى الخروج من السجن، حتى تعلن براءته، وتظهر طهارته، وشرف نفسه، حتى لا يوصف بأنه مجرم، أودع السجون بجرمه. 10- إظهار فضيلة الصبر، فقد كان يوسف متدرعا بدرع الصبر على الأذى، لاجتياز العقبات والصعاب والمصائب التي تعرّض لها وهي ما ذكر، والصبر مفتاح الفرج، ونصف الإيمان، وطريق تحقيق النصر، وقد نصره الله كما نصر باقي الرسل بعد الاستيئاس. وتوّج نصره بالعفو عن إخوته وكرمه في العفو الذي أصبح مضرب الأمثال، حتى قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ.... 11- أسفرت قصة يوسف عن براءته المطلقة، كبراءة الذئب من دمه، فقد تضافرت شهادات عديدة على براءته، كما ذكر الرازي «1» : أولها- شهادة رب العالمين: فقد شهد الله تعالى ببراءته عن الذنب بقوله: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهد تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات، بقوله: لِنَصْرِفَ.. واللام للتأكيد

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 116 وما بعدها.

والمبالغة، وقوله: وَالْفَحْشاءَ وقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا وقوله: الْمُخْلَصِينَ. وثانيها- شهادة الشيطان ببراءته بقوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 38/ 82] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف من المخلصين، للآية السابقة. وثالثها- شهادة يوسف عليه السّلام بقوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقوله: رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. ورابعها- شهادة امرأة العزيز: فإنها اعترفت ببراءته وطهارته، فقالت للنسوة: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَاسْتَعْصَمَ وقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وخامسها- الشهود من أهل العزيز: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، فَكَذَبَتْ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ.. الآية. وسادسها- شهادة النسوة اللائي قطّعن أيديهن بقولهن: ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ. كل تلك الشهادات قاطعة ببراءة يوسف عليه السّلام، فمن أراد أن يتهمه بالهمّ على السوء- علما بأن الهمّ أمر نفسي لا عقاب عليه- فهو من دعاة السوء، وأهل الجهالة والغباوة، وأدنى من الشيطان الذي شهد كما أوضحنا بطهارة يوسف. 12- أرشدت قصة يوسف إلى أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدر الله تعالى، وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة، لم يمنعه عنه أحد ولو اجتمع العالم عليه.

عربية القرآن ومنزلة القصص القرآني [سورة يوسف (12) الآيات 1 إلى 3] :

13- دلت القصة على أن الحسد سبب للخذلان والخسران. 14- الصبر مفتاح الفرج، فإن يعقوب عليه السّلام لما صبر فاز بمقصوده، وكذلك يوسف عليه السّلام لما صبر فاز كما تقدم بيانه. عربية القرآن ومنزلة القصص القرآني [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) الإعراب: تِلْكَ آياتُ.. مبتدأ وخبر. قُرْآناً حال من هاء. أَنْزَلْناهُ أي أنزلناه مجموعها. وكذلك عَرَبِيًّا حال أخرى. أَحْسَنَ الْقَصَصِ أَحْسَنَ منصوب نصب المصدر لأنه مضاف إلى المصدر، وأفعل: إنما يضاف إلى ما هو بعض له، فينزل منزلة المصدر، فصار بمنزلة قولهم: سرت أشدّ السير، وصمت أحسن الصيام. هذَا الْقُرْآنَ هذَا مفعول به، والْقُرْآنَ بدل أو عطف بيان أو نعت. وَإِنْ كُنْتَ إن مخففة من الثقيلة، واللام: هي التي تفرق بينها وبين النافية، وضمير قَبْلِهِ راجع إلى قوله بِما أَوْحَيْنا والمعنى: وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه.

البلاغة:

البلاغة: تِلْكَ آياتُ أشار إلى القرآن بالعبيد لبيان علو منزلته وبعد مرتبته في الكمال. المفردات اللغوية: الر البدء بالحروف المقطعة إشارة إلى إعجاز القرآن، فمن هذه الحروف العربية الأبجدية ونحوها التي تكونت منها لغة العرب، تألفت آيات الكتاب المعجز، كما بينا في أول سورة البقرة وآل عمران وغيرهما من السور المتقدمة. تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة. الْكِتابِ الْمُبِينِ أي السورة، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو الواضحة معانيها لنزولها بلسان العرب، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله، لا من عند البشر. والْمُبِينِ الموضّح المفصل ما يريد. أَنْزَلْناهُ أي الكتاب الذي فيه قصة يوسف. قُرْآناً عَرَبِيًّا مجموعا بلغة العرب، وسمي بعض القرآن قرآنا لأن القرآن اسم جنس، يقع على كله وبعضه، وصار علما للكل بالغلبة. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ علة لإنزاله بهذه الصفة، أي أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه. الْقَصَصِ إما مصدر بمعنى الاقتصاص، وإما اسم مفعول بمعنى المقصوص من الخبر والأحاديث. وقص الخبر: حدثه على وجهه الصحيح. وأَحْسَنَ الْقَصَصِ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر. بِما أَوْحَيْنا أي بإيحائنا إليك هذا القرآن، يعني السورة لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة، الجاهلين بها، فلم يكن لك فيها علم قط، ولا عرفت شيئا منها. سبب النزول: نزول الآية (3) : نَحْنُ نَقُصُّ: روى ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا؟ فنزلت: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ. التفسير والبيان: تشبه فاتحة هذه السورة فاتحة سورة يونس، لكن وصف القرآن هنا بالمبين

وهناك بالحكيم، والسبب أن سورة يوسف تعبر عن أحداث جسام مرّ بها نبي كريم صبور فناسبها الوصف بالبيان، وأما سورة يونس فموضوعها إثبات أصول الدين من توحيد الله، وإثبات الوحي والنبوة، والبعث والجزاء، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة. والمعنى: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب، وهذا تفسير الزمخشري. وقال أبو حيان: والظاهر أن المراد بالكتاب: القرآن، والْمُبِينِ إما البيّن في نفسه، الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، وأما المبين الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وما يحتاج إليه من أمر الدين، أو المبين الهدى والرشد والبركة. وعلى أي حال، فإن الكتاب اسم جنس يطلق على البعض وعلى الكل، فسواء قلنا: إن المراد به هذه السورة، أو كل القرآن، فالمقصود إثبات صفة القرآن، وصفاته لا تختلف بين السور جميعها، فكلها واضحة جلية تفصح عن أشياء مبهمة، وآياتها تبين وتفسر غوامض الأمور، وتوضح أحكام الشريعة، وترشد إلى ما هو خير في الدنيا والآخرة. قال القرطبي وابن كثير: هذه آيات الكتاب وهو القرآن المبين، أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها، يعني بالكتاب المبين: القرآن المبين، أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه، وهداه وبركته. إِنَّا أَنْزَلْناهُ.. أي إنا أنزلنا هذا القرآن على النبي محمد العربي، بلغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، لتتعلموا ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار، وآداب وأخلاق، وأحكام وتشريعات، ومناهج حياة سليمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد وشؤون الدولة، ولتتدبروا ما فيها من معان وأهداف،. تبني الفرد والجماعة على أقوم الأسس.

فقه الحياة أو الأحكام:

قال ابن كثير: فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة، فكمل من كل الوجوه. ولهذا قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ.. أي نحن نخبرك بأحسن الأخبار، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن، الذي جاء تاما كاملا مفصلا كل شيء، وجاءت قصة يوسف كاملة تامة مفصلة ذات أهداف سامية وعبر كثيرة. وإن كنت من قبل ما أوحينا أي من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عما عرفناك به، أي من الجاهلين به، فلا علم لك به قط، شأنك شأن قومك، لا يعلمون من قصص الماضين وأخبارهم شيئا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- القرآن الكريم كتاب مبين، أوضح الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والشرائع والأخلاق، ليكون هدى للعالمين، وبركة وخيرا للناس أجمعين، فهو معجزة بيّنة لمحمد صلى الله عليه وسلّم. 2- القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين، يقرأ بلغة العرب، فكان معشر العرب أولى الناس بالإيمان به، وفهم ما فيه، وتعلم معانيه. 3- القرآن بيان جلي متضمن أحسن القصص، وأثبت الأخبار، وأجدى الآثار وتواريخ الأمم الماضية. والمراد بأحسن القصص: أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب، أي أن المراد من الحسن حسن البيان وكون الألفاظ بالغة بالفصاحة حد الإعجاز. 4- قصة يوسف عليه السّلام أحسن القصص، والسبب في تسمية هذه

الفصل الأول من قصة يوسف عليه السلام رؤيا يوسف وتعبير يعقوب الرؤيا [سورة يوسف (12) الآيات 4 إلى 6] :

السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص هو ما تضمنته هذه القصة من العبر والحكم، وما اشتملت عليه من التوحيد والفقه والسّير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجميل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجنّ والإنس، والأنعام والطير، وأخبار الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهّال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن. فهي قصة جامعة شاملة للدين والدنيا والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية الملأى بالعبر والعظات، ولعل من أهمها الصبر على الأذى والعفو عند المقدرة. الفصل الأول من قصة يوسف عليه السّلام رؤيا يوسف وتعبير يعقوب الرؤيا [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) الإعراب: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ إِذْ في موضع نصب على الظرف، وعامله (الغافلين) وهو

البلاغة:

بدل اشتمال من أَحْسَنَ الْقَصَصِ لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، أو بإضمار «اذكر» . ويُوسُفُ ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة، ووزنه يفعل، وليس في كلام العرب يفعل. يا أَبَتِ من قرأ بكسر التاء، جعلها بدلا عن ياء الإضافة، ويوقف عليها بالهاء عند سيبويه لأنه ليس ثمّ «ياء» مقدرة. وذهب الفراء إلى أن الياء في النّية، والوقف عليها بالتاء، وعليه أكثر القراء اتباعا للمصحف. ومن قرأ بفتح التاء ففيه وجهان: إما أصله «يا أبتي» فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف فصارت يا أَبَتِ. وإما أنه محمول على قول من قال: يا طلحة بفتح التاء، كأنه قد رخّم، ثم ردّ التاء وفتحها، تبعا لفتح الحاء، فقال: يا طلحة. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ أجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء لأن السجود من صفات من يعقل، فوصفها بصفات من يعقل. وساجِدِينَ حال من الهاء والميم في رَأَيْتُهُمْ. فَيَكِيدُوا منصوب بأن مضمرة، وعدي باللام مع أنه متعد بنفسه، لتضمينه معنى فعل يتعدى باللام، للتأكيد والمبالغة في التخويف. البلاغة: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. فيها استعارة لأن الكواكب والمذكور معها مما لا يعقل، فكان الأصل أن يقال: ساجدة، فلما وصفها بصفات العقلاء وهو السجود، أطلق عليها فعل من يعقل على طريق الاستعارة. كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ تشبيه مرسل مجمل. المفردات اللغوية: إِذْ قالَ أي ذكر، أو بدل من أَحْسَنَ الْقَصَصِ بدل اشتمال إن جعل أَحْسَنَ مفعولا به لِأَبِيهِ هو يعقوب، روى أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» . إِنِّي رَأَيْتُ في المنام من الرؤيا لا من الرؤية. أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً هم إخوة يوسف، وكانوا أحد عشر، والشمس والقمر: أبوه

المناسبة:

وأمه. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ إما تأكيد، أو استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرار. وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم، وهو السجود الذي هو من صفات العقلاء. والسجود المراد هنا: هو الانحناء، مبالغة في الاحترام، وليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لا يكون إلا بنية التقرب لمن يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق السلطان المعتاد. لا تقصص رؤياك قص الرؤيا: الإخبار بها، والرؤيا كالرؤية، غير أنها مختصة بما يكون في النوم، ففرق بينهما، بتاء التأنيث المربوطة، كالقربة والقربى. والرؤيا: انطباع الصورة المنحدرة من الخيال إلى الحس المشترك، فتصير مشاهدة. فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً يحتالون في هلاكك حسدا. عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الاجتباء. يَجْتَبِيكَ يختارك ويصطفيك، أي وكما اجتباك ربك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام. وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا: أي الإخبار بما يؤول إليه الشيء في الوجود، وسميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها، وتعبير الرؤيا يميز بين أحاديث الملك الصادقة وبين أحاديث النفس والشيطان الكاذبة. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة. وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي أهله وأولاده. والآل: خاص بمن لهم شرف وخطر. كَما أَتَمَّها بالنبوة. مِنْ قَبْلُ اي من قبلك أو من قبل هذا الوقت. عَلِيمٌ بخلقه وبمن يستحق الاجتباء. حَكِيمٌ في صنعه بهم، يفعل الأشياء على ما ينبغي. المناسبة: هذا شروع في بيان أحسن القصص، وهذه بداية مثيرة مجملة في حلقات أو فصول قصة يوسف، تجتذب ذهن القارئ والسامع لتعرف ما هو المصير، وكيف يتم حل اللغز المبهم المبدوء بقصّ يوسف رؤياه الغريبة على أبيه وهو صغير، وما أجابه به، من إخفاء الرؤيا على إخوته حتى لا يحسدوه ويكيدوا له وهذا. الأسلوب يحتذيه واضعو القصص، إذ يبدءون القصة بلغز أو نبأ مثير، ثم يتدرجون في حل اللغز وبيان أبعاد النبأ وحقيقته. هل أبناء يعقوب أنبياء؟ يفسر بعض المفسرين الأسباط في آية قُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا

التفسير والبيان:

وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [البقرة 2/ 136] بأنهم إخوة يوسف وأنهم أنبياء. والصحيح كما ذكر ابن كثير أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب، وإنما هم القبائل من ذرية يعقوب لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم: الأسباط، كما يقال للعرب قبائل، وللعجم شعوب «1» . التفسير والبيان: اذكر يا محمد لقومك قصة يوسف حين قال لأبيه يعقوب: إني رأيت في منامي أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر تسجد لي، سجود احترام وانحناء وخضوع وتواضع، لا سجود عبادة، وقد وصف فعل غير العاقل بوصف العاقل وهو السجود، للدلالة على أنها رؤيا إلهام، لا مجرد أضغاث أحلام. قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي. والرؤيا الصالحة جزء من النبوة، ونوع من الإخبار بالغيب إذ رآها صالح وتأولها عالم صالح. وتكون بارتسام الوقائع على الروح الصافية، وتظهر غالبا موافقة لحديث النفس. والأحد عشر كوكبا هم إخوته الأحد عشر نفرا، والكواكب هم الإخوة، والشمس والقمر أبوه وأمه. وهذا رأي جماعة من المفسرين لأن الكواكب لا تسجد في الحقيقة، فيحمل الكلام على الرؤيا، ولقول يعقوب عليه السّلام: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ. وذكر ابن جرير الطبري عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلّم رجل من يهود، يقال له: بستانة اليهودي، فقال له: يا محمد، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له، ما أسماؤها؟ قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم ساعة، فلم يجبه بشيء، ونزل عليه جبريل عليه السّلام، فأخبره بأسمائها، قال: فبعث

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 469- 470

رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليه، فقال «هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟» فقال: نعم، قال: «جريان، والطارق والذيال، وذو الكنفات، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، ودو الفرغ، والضياء والنور» فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها «1» . قالَ: يا بُنَيَّ.. قال يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا المتضمنة خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه إجلالا واحتراما وإكراما: لا تخبر إخوتك بما رأيت، حتى لا يحسدوك، ويحتالوا لك حيلة توقعك في مكروه، فإن الشيطان عدو لآدم وبنيه، ومن دأبه إيقاع الفتنة بين الناس، كما قال يوسف نفسه: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف 12/ 100] . وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأى أحدكم ما يحب، فليحدّث به، وإذا رأى ما يكره، فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره» «2» . وروى الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر، فإذا عبرت وقعت» . وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ.. أي كما اختارك ربك، وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، يختارك لنفسه ويصطفيك لنبوته على آلك وغيرهم، ويعلمك تعبير الرؤيا. وتعبير الرؤيا: الإخبار بما تؤول إليه في الوجود. وتعليم الله يوسف التأويل:

_ (1) ورواه البيهقي في الدلائل عن الحكم بن ظهير، والحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما، وابن أبي حاتم في تفسيره (تفسير ابن كثير: 2/ 468) لكن الحكم بن ظهير ضعيف. (2) رواه البخاري عن أبي سلمة.

فقه الحياة أو الأحكام:

إلهامه الصواب فيها، أو صدق الفراسة، كما قال يوسف لأبيه: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف 12/ 100] وقال لصاحبي السجن: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف 12/ 37] وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... أي بإرسالك والإيحاء إليك، وعلى آل يعقوب، أي أبيك وإخوتك وذريتهم، وآل الإنسان: أهله، وهو خاص بمن لهم مجد وشرف، كآل النبي صلى الله عليه وسلّم. كَما أَتَمَّها.. أي كإتمام تلك النعمة من قبل هذا الوقت على جدك إسحاق، وجد أبيك إبراهيم، وقدم إبراهيم لأنه الأشرف، إن ربك عليم بخلقه وبمن يستحق الاجتباء والاصطفاء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، كما في آية أخرى، حكيم في صنعه وتدبيره، يفعل الأشياء على ما ينبغي. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- رؤيا الأنبياء حق، ورؤيا الصالحين جزء من النبوة، والكواكب هي إخوة يوسف، والشمس والقمر أبوه وأمه، وهذا هو الأصح. قال الحكماء: إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين. والرؤيا حالة شريفة ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «لم يبق بعدي من المبشّرات: الرؤيا الصالحة الصادقة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له» وقال في رواية لحديث عند الشيخين عن أبي هريرة: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» وحكم صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وهو أصح الروايات. وإنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة لأن فيها ما يعجز ويمتنع، كالطيران،

وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب. والرؤيا الصادقة من الله، وهي التي خلصت من الأضغاث «1» والأوهام، قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان» . والتصديق بالرؤيا الصالحة حق. أما رؤيا الكافر والفاجر والفاسق والكاذب، وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب، يكون خبره ذلك نبوة. ومن المعلوم أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك نادر وقليل، فكذلك رؤيا هؤلاء. وحقيقة الرؤيا: هي إدراك حقيقة في أثناء النوم، وأكثر ما تكون في آخر الليل، لقلة غلبة النوم، وتسمى أحلام اليقظة، فيخلق الله للرائي علما ناشئا. ولا يرى الرائي في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، فلا يرى المستحيل، وإنما يرى الجائزات المعتادات. ويمثل الله في الرؤيا للرائي صورة محسوسة، قد توافق الواقع، وقد تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين قد تكون مبشّرة أو منذرة. 2- لا تقص الرؤيا على غير عالم ولا محب ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها، أخرج الترمذي حديثا: «الرؤيا معلّقة برجل طائر، ما لم يحدّث بها صاحبها، فإذا حدّث بها وقعت، فلا تحدّثوا بها إلا عاقلا أو محبّا أو ناصحا» . 3- يطلب كتمان النعمة أمام من تخشى غائلته حسدا وكيدا، حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث أخرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن عمر: «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود» .

_ (1) سميت الرؤيا الكاذبة أو الحلم ضغثا لأن فيها أشياء متضادة، وهي من الشيطان.

4- يباح أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة لأن يعقوب (إسرائيل) عليه السّلام قد حذّر يوسف عليه السّلام أن يقص رؤياه على إخوته، فيكيدوا له كيدا. 5- في الآية دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السّلام بتأويل الرؤيا، فإنه عرف أن يوسف سيظهر على إخوته، فسّره ذلك ودل على أن محبته له كانت مبنية على مقومات فيه، والرجل يودّ أن يكون ولده خيرا منه، أما الأخ فلا يودّ ذلك لأخيه. ودلت الآية أيضا على أن يعقوب عليه السّلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه، فنهاه عن قص الرؤيا عليهم خوف المكيدة والحسد، والعمل على هلاكه. ودل هذا وفعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء لأن الأنبياء معصومون من الحسد الدنيوي، ومن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، وتآمر على قتله. 6- اشتمل كلام يعقوب مع ابنه يوسف على عدة بشائر، فأخبره أنه كما أكرمه الله بالرؤيا، فإن الله يجتبيه ويحسن إليه بتحقيق الرؤيا، بالسجود له. والاجتباء: اختيار معالي الأمور للمجتبى، ويعلمه كيفية تعبير الرؤيا وتأويل أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، وهي إشارة إلى النبوة، ويتم نعمته عليه بالنبوة، كما أتم تلك النعمة على أجداده: إسحاق وإبراهيم، فجعل الله إبراهيم خليلا ونبيا ونجاه من النار، وجعل إسحاق نبيا أيضا، وفي قول غير راجح: إنه الذبيح، والنعمة: الذبح. والخلاصة: إن القول الصحيح في تفسير النعمة على يوسف وغيره هي النبوة لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها. وإن يعقوب وعد يوسف بدرجات ثلاث: هي الاجتباء أو الاصطفاء، وتعبير الرؤيا أو تأويلها، والنبوة

الفصل الثاني من قصة يوسف يوسف وإخوته:

الفصل الثاني من قصة يوسف يوسف وإخوته - 1- اتفاقهم على إلقائه في البئر [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 10] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) الإعراب: آياتٌ لِلسَّائِلِينَ آياتٌ جمع آية، وآية على وزن «فعلة» بكسر العين، فتقلب العين ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصير آية «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ» مبتدأ وخبر. وَنَحْنُ عُصْبَةٌ مبتدأ وخبر، والواو حالية. أَرْضاً منصوب على أنه ظرف مكان، وتعدّى إليه. اطْرَحُوهُ وهو لازم لأنه ظرف مكان مبهم، وليس له حدود بحصره ولا نهاية تحيط به، لأنه نكرة، فنصبت كالظروف المبهمة. أو انتصب على إسقاط حرف الجر. يَخْلُ لَكُمْ جواب الأمر. وَتَكُونُوا مجزوم بالعطف على يَخْلُ أو منصوب بإضمار أن.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في خبرهم وقصتهم، وهم أحد عشر وإخوته العشر هو: يهوذا، وروبيل، وشمعون، ولاوي، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر. والسبعة الأولون كانوا من «ليا» بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سرّيّتين (أمتين) : زلفة وبلهة، فلما توفيت «ليا» تزوج يعقوب أختها «راحيل» فولدت له بنيامين ويوسف «1» . لآيات عبر، أو علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لمن سأل عنهم وعرف قصتهم، والظاهر أنها الدلالات على صدق الرسل. لِلسَّائِلِينَ عن خبرهم. إِذْ قالُوا اذكر حين قال بعض إخوة يوسف لبعضهم. وَأَخُوهُ بنيامين. عُصْبَةٌ جماعة رجال ما بين الواحد والعشرة. لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ خطأ بيّن، بإيثارهما علينا وتفضيله المفضول، أو لترك العدل في المحبة. روي أن يوسف كان أحب إلى أبيه، لما يرى فيه المخايل، وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، بحيث لم يصبر عنه، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له. اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة المحكي بعد قوله: إذ قالوا، كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال: لا تقتلوا يوسف. أَرْضاً أي بأرض بعيدة من العمران. يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يصف لكم، فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم. مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف أو من بعد قتله أو طرحه. صالِحِينَ تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم، بأن تتوبوا، أو صالحين مع أبيكم، أو في أمر دنياكم. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا، وقيل: روبيل لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن القتل عظيم. وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ في قعره سمي به لغيبوبته عن أعين الناظرين. السَّيَّارَةِ المسافرين، الذين يسيرون في الأرض. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما أردتم من التفريق بينه وبين أبيه، أو فاعلين بمشورتي، فاكتفوا بذلك. المناسبة: هذه بداية قصة يوسف مع إخوته، بعد أن قدم الله تعالى لها بمقدمتين: الأولى- وصف القرآن، وأنه تنزيل من عند الله بلسان عربي مبين، دال على رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم، ورتب عليه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. والثانية- الكلام على رؤيا يوسف وتأثيرها في نفس يعقوب، وبنى عليها العبرة منها وهي يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا.

_ (1) الكشاف: 2/ 124

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: تالله، لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه عبرة ومواعظ للسائلين الذين سألوا عنهم، دالة على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لكل سائل عن أحداث القصة، ودالة على صدق الرسول يوسف وغيره، وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها، حتى قام بحق الأمانة «1» . فذلك خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه. إنه لعبرة حين قالوا: والله ليوسف وأخوه بنيامين شقيقه أحب إلى أبينا منا، فهو يفضلهما علينا في الحب، وهما صغيران، ونحن جماعة عشرة رجال. حلفوا فيما يظنون، وأَحَبُّ أفعل تفضيل أي أكثر حبا منا. والعصبة: ما بين الواحد إلى العشرة. إن أبانا لفي خطأ واضح مجاف الصواب في ذلك، بإيثار يوسف وأخيه علينا بالمحبة، وتركه العدل والمساواة في المحبة، فكيف يفضّل صغيرين ضعيفين لا كفاية فيهما ولا منفعة، على رجال أشداء، نقوم بكل ما يحتاج إليه من منافع معاشية ودفاعية، وكيف يحب الاثنين أكثر من الجماعة؟! وهذا في الحقيقة خطأ منهم لا من أبيهم لأن يوسف وأخاه صغيران يتيمان ماتت أمهما، ولأنه كان يرى في يوسف إرهاصات النبوة والعقل والحكمة، وتأكد توقعه بما فهم من رؤياه. ومع ذلك يطلب الاحتياط في معاملة الأولاد والتسوية بينهم في المحبة والمعاملة ولو في القبلة، وتجنب ما يثير التحاسد والتباغض بينهم، كما أوصى النبي

_ (1) البحر المحيط: 5/ 282

فقه الحياة أو الأحكام:

صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن النعمان بن بشير: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» وما يرويه الطبراني عن النعمان بن بشير أيضا: «اعدلوا بين أولادكم في النّخل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف» . ثم ذكر الله تعالى مؤامرتهم بقوله: اقْتُلُوا.. أي ومما قالوا، أي قال بعض إخوة يوسف لبعض: اقْتُلُوا يُوسُفَ حسما للمشكلة، أو انبذوه في أرض مجهولة عن العمران، فلا يستطيع الرجوع إلى أبيه، فإن فعلتم ذلك تستريحوا منه، ويصف لكم وجه أبيكم، وتخلوا أنتم مع أبيكم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، وتكونوا من بعد يوسف أو بعد قتله أو طرحه أرضا قوما تائبين إلى الله مما جنيتم عليه، أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه، أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده، بخلوّ وجه أبيكم، فيرضى عنكم ربكم وأبوكم. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ... أي قال أكبرهم وهو يهوذا، وقيل: روبيل: لا تقدموا على قتله، فإن القتل جريمة عظيمة، وهو أخوكم، ولكن ألقوه في أسفل البئر، يلتقطه بعض المسافرين الذين يسيرون في الأرض للتجارة، فتستريحوا منه بهذا، ويتحقق غرضكم وهو إبعاده عن أبيه، ولا حاجة إلى قتله، إن كنتم فاعلين، أي عازمين على ما تقولون، وفاعلين ما هو الصواب، فهذا هو الرأي. وقوله: اقْتُلُوا يُوسُفَ فيه حذف، أي قال قائل منهم: اقتلوا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- في قصة يوسف وإخوته دلالة على صدق الرسل، وعبرة تمخضت عنها

وهي التنبيه على عاقبة البغي والحسد، وفضيلة ضبط النفس، والتصديق بتعبير الرؤيا وصحة تأويلها إن كانت من نبي أو عالم ناصح. 2- لقد دفع التباغض والتحاسد والغيرة إخوة يوسف على تدبير مؤامرة لقتله أو إلقائه في بادية بعيدة عن الناس حتى يهلك، أو يأخذه بعض التجار المسافرين ويتملكونه لأن خبر المنام بلغهم، فتآمروا على كيده، أو لمجرد الغيرة الشديدة من عاطفة أبيهم نحو يوسف وأخيه. 3- إن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد، ويورث الآفات، لكن يعقوب عليه السّلام العالم بذلك لم يفضل ولديه يوسف وأخيه إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر، فكان معذورا فيه، ولا لوم عليه. 4- دل قوله: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ أي تائبين، بأن تحدثوا توبة بعدئذ، فيقبلها الله منكم، وهو دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم، كما ذكر القرطبي «1» . 5- علق محمد بن إسحاق على مؤامرة أولاد يعقوب على أخيهم يوسف فقال فيما رواه ابن أبي حاتم: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه، على كبر سنه، ورقة عظمه، مع مكانه من الله، ممن أحبه طفلا صغيرا، وبين الأب وابنه على ضعف قوته، وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده، وسكونه إليه، يغفر الله لهم، وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 131 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 470

حكم الالتقاط:

6- أفعال إخوة يوسف المتقدمة تدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، لا أولا ولا آخرا لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. ومما يرد قول من قال إنهم أنبياء: أن الأنبياء معصومون من الكبائر. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء، ثم نبأهم الله «1» وقد سبق بيان الرأي الأصح في هذا عن ابن كثير وغيره. حكم الالتقاط: الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، ومنه اللقيط واللّقطة. أما اللقيط: فالأصل فيه الحرية، لغلبة الأحرار على العبيد، فهو قضاء بالغالب، وهو مسلم أخذا بالغالب أيضا، فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون، قال ابن القاسم، يحكم بالأغلب فإن وجد عليه زيّ اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زيّ النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام. وقال غير ابن القاسم: لو لم يكن في القرية إلا مسلم واحد، قضي للقيط بالإسلام، تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو، ولا يعلى عليه. أما النفقة عليه: فقال أبو حنيفة: إذا أنفق الملتقط على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم. وقال مالك: إذا أنفق عليه الملتقط، ثم أقام رجل البينة أنه ابنه، فإن الملتقط يرجع على الأب، إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه، ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة. وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 133

يكن ففيه قولان: أحدهما- يستقرض له في ذمته. والثاني- يقسط على المسلمين من غير عوض. والخلاصة: اتفق العلماء على أنه إذا لم يكن للقيط مال: إن شاء تبرع الملتقط بالإنفاق عليه، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم، لينفق منه على حساب بيت المال المعدّ لحوائج المسلمين. وإن كان للقيط مال، بأن وجد معه مال، فتكون النفقة من مال اللقيط لأنه غير محتاج إليه. ولو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه: فإن أنفق بإذن القاضي، فله أن يرجع على الملتقط بعد بلوغه، وإن أنفق بغير إذن القاضي، يكون متبرعا، ولا يرجع على اللقيط بشيء. وأما اللقطة والضّوال- وهما بمعنى واحد على الأصح «1» - فأجمع العلماء على أنها ما لم تكن تافها يسيرا، أو شيئا لا بقاء لها، فإنها تعرّف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول، وأراد صاحبها أن يضمّنه، فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخيّر بين التضمين وبين الرضا بالثواب أو الأجر على التصدق بها، وليس لملتقطها التصدق بها أو التصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالّة الغنم المخوف عليها، له أكلها. وللعلماء آراء في الأفضل من ترك اللقطة أو أخذها، فقال المالكية: إن شاء أخذها وإن شاء تركها، ونقل عن مالك وأحمد كراهة الالتقاط، ودليلهم حديث أصحاب الكتب الستة عن زيد بن خالد الجهني في الشاة: «هي لك أو

_ (1) وقيل: إن الضالة لا تكون إلا في الحيوان، واللقطة في غير الحيوان، وأنكر أبو عبيد القاسم بن سلّام ذلك.

- 2 - تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم وتدليسهم الأمر على أبيهم [سورة يوسف (12) الآيات 11 إلى 18] :

لأخيك، أو للذئب» ولا تلزم صاحبها بيّنة عندهم وعند الحنابلة، ويكفي بيان علاماتها، من وعاء ووكاء مثلا. وذهب الحنفية، والشافعية في الأصح إلى أنه يجوز الالتقاط، لحفظ اللقطة لصاحبها، صيانة لأموال الناس، ومنعا من ضياعها ووقوعها في يد خائنة. ولكن لا تدفع لصاحبها إلا إذا أقام البينة أنها له. وكذلك للعلماء آراء في النفقة على الضوال، فقال المالكية: للملتقط الرجوع بالنفقة على صاحبها، سواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره. وقال الشافعية والحنابلة: لا يرجع الملتقط بشيء من النفقة، لأنه متطوع. وكذا قال الحنفية: إن أنفق الملتقط على اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع أو متطوع، وإن أنفق عليها بإذن الحاكم، كان ما ينفقه دينا على المالك، فيرجع عليه. وأما تملك اللقطة بعد تعريفها سنة، فقال الحنفية: إذا كان الملتقط غنيا، لم يجز له أن ينتفع باللقطة، وإنما يتصدق بها على الفقراء، وإذا كان فقيرا فيجوز له الانتفاع بها بطريق التصدق، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البزار والدارقطني عن أبي هريرة: «فليتصدق به» . وقال الجمهور: يجوز للملتقط أن يتملك اللقطة، وتكون كسائر أمواله، سواء أكان غنيا أم فقيرا، فإن عرف صاحبها في المستقبل ضمنها له. - 2- تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم وتدليسهم الأمر على أبيهم [سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 18] قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)

الإعراب:

الإعراب: تَأْمَنَّا: أصله: تأمننا، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، فاستثقلوا اجتماعهما فسكنوا الأول منهما وأدغموه في الثاني، وبقي الإشمام يدل على ضمة الأولى. والإشمام: ضم الشفتين من غير صوت، وهذا يدركه البصير دون الضرير. يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ العين في يَرْتَعْ ساكنة للجزم على وزن «يفعل» ، ويقرأ بكسر العين، وأصله يرتعي على وزن يفتعل، من الرّعي، إلا أنه حذفت الياء للجزم. أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ أن الأولى وصلتها: في تأويل مصدر فاعل لَيَحْزُنُنِي وأن الثانية وصلتها: في تأويل مصدر مفعول أَخافُ. والواو في قوله وَنَحْنُ عُصْبَةٌ للحال. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ.. جواب «لما» محذوف، وتقديره: فلما ذهبوا به حفظناه. عِشاءً أي ليلا، وهو ظرف في موضع الحال. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ: إما مبتدأ وخبره محذوف، أي فصبر جميل أمثل من غيره، أو خبر مبتدأ محذوف، أي فصبري صبر.

البلاغة:

البلاغة: بِدَمٍ كَذِبٍ الدم لا يوصف بالكذب، والمراد: بدم مكذوب فيه، وجيء بالمصدر على طريق المبالغة. المفردات اللغوية: لَناصِحُونَ لقائمون بمصالحه، والناصح: المشفق المحب للخير، أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير، أرادوا استنزاله عن رأيه في حفظه منهم، لما تنسم من حسدهم أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى البرية أو الصحراء، والغد: اليوم التالي ليومك يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ يرتع: يتسع في أكل الفواكه ونحوها، من الرتعة: وهي الخصب، والرتع: التوسع في الملاذ، والأكل من الفاكهة حيث شاء. ويلعب: ينشط ويلعب بالاستباق والانتضال بالسهام لَحافِظُونَ أن يناله مكروه لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ذهابكم، لشدة مفارقته أو فراقه علي وقلة صبري عنه، والحزن: ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه. والخوف: ألم في نفس مما يتوقع من مكروه. أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ المراد به الجنس، وكانت أرضهم مذأبة كثيرة الذئاب غافِلُونَ مشغولون عنه بالرتع واللعب، أو لقلة اهتمامكم بحفظه. لَئِنْ أَكَلَهُ اللام لا قسم، وجوابه إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. وَنَحْنُ عُصْبَةٌ جماعة لَخاسِرُونَ عاجزون أو ضعفاء مغبونون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار وَأَجْمَعُوا أي وعزموا على إلقائه في البئر: بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين، بأن نزعوا قميصه بعد ضربه وإهانته وإرادة قتله، وأدلوه إلى البئر، فلما وصل إلى نصف البئر، ألقوه ليموت، فسقط في الماء، ثم أوى إلى صخرة، فنادوه فأجابهم ظانا رحمتهم، فأرادوا رضخه بصخرة، فمنعهم يهوذا. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في البئر، أي ألهمناه، وله سبع عشرة سنة أو دونها تطمينا لقلبه لَتُنَبِّئَنَّهُمْ لتخبرنهم بعد اليوم بِأَمْرِهِمْ بصنيعهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بك حال الإنباء أنك يوسف، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم عِشاءً وقت المساء، آخر النهار يَبْكُونَ متباكين نَسْتَبِقُ نتسابق في العدو أو في الرمي مَتاعِنا ثيابنا بِمُؤْمِنٍ بمصدّق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي ولو ثبت صدقنا لا تهمتنا، فكيف وأنت تسيء الظن بنا؟! أو ولو صدقنا لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ محله نصب على الظرفية، أي فوقه بِدَمٍ كَذِبٍ أي ذي كذب، بمعنى مكذوب فيه، بأن ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وذهلوا عن شقه، وقالوا: إنه دمه قالَ

المناسبة:

أي يعقوب، لما علم كذبهم بَلْ سَوَّلَتْ زينت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ففعلتموه به فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا جزع فيه، وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ المطلوب منه العون عَلى ما تَصِفُونَ تذكرون من أمر يوسف أو من هذه المصيبة وهلاكه. المناسبة: الكلام مرتبط بما قبله، مبين مكيدة إخوة يوسف له، وخداعهم أباهم، وإظهارهم أنهم في غاية المحبة ليوسف والشفقة عليه، وهم يعلمون أن أباهم كان يحب يوسف محبة شديدة، ويحرص عليه، ويحب تطييب قلبه، فأرسله معهم، وهو غير مقتنع بكلامهم ويخافهم عليه. التفسير والبيان: لما تواطأ إخوة يوسف على أخذه وطرحه في البئر، كما أشار به عليهم أخوهم يهوذ أو روبيل، جاؤوا أباهم يعقوب عليه السّلام، فقالوا: ما بالك لا تأتمنا على يوسف، وتخافنا عليه، ونحن له ناصحون، أي نحبه، ونشفق عليه، ونريد الخير له، ونخلص له النصح؟ وهم يريدون خلاف ذلك، لحسدهم له، بعد ما علموا من رؤيا يوسف، وأدركوا حب أبيه له، لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة. أرسله معنا، أي ابعثه معنا في الغد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى في الصحراء، يرتع أي يأكل ما يطيب له من الفاكهة والبقول، ويلعب أي ويسعى وينشط ويشاركنا في السباق بالسهام، وإنا له لحافظون من أي أذى ومكروه يصيبه، ونحفظه من أجلك. فأجابهم يعقوب بقوله: إني ليحزنني ويؤلمني ذهابكم به وفراقه لي على أي نحو، وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم، فيأتيه ذئب، فيأكله وأنتم غافلون عنه لا تحسون به. وبه يتبين أنه اعتذر إليهم بشيئين: أن فراقه إياه مما يحزنه، وخوفه عليه

من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم، لقلة اهتمامهم به، وكأنه لقنهم الحجة، وشدة الحذر دفعته لقول ذلك. فأجابوه في الحال: والله لئن أكله الذئب، ونحن جماعة أشداء ندافع عن الحرمات، لكنا خاسرين، أي هالكين عاجزين لا خير فينا ولا نفع. ثم بدؤوا تنفيذ المؤامرة بالفعل، فلما ذهبوا به من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك، صمموا على مرادهم، وعزموا عزما لا تردد فيه على إلقائه في قعر بئر وأسفله، وهو البئر المعروف لديهم، ليذهب حيث شاء، أو يهلك، فيستريحوا منه. ولكنّ الله تعالى ذا القدرة الشاملة، والإرادة النافذة، والرحمة واللطف، وإنزاله اليسر بعد العسر، والفرج بعد الكرب، أوحى إليه وحي إلهام على الأظهر، مثل قوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل 16/ 68] وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص 28/ 7] تطمينا لقلبه وتثبيتا له ألا تحزن مما أنت فيه، فإن لك فرجا ومخرجا، وسينصرك الله عليهم، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع السيء، وهم لا يعرفون ولا يشعرون بأنك يوسف. وهو وعد بالخلاص من هذه المحنة، والنصر عليهم، وصيرورتهم تحت سلطانه. ثم جاء دور الاعتذار بالأعذار الكاذبة لأبيهم يعقوب عليه السّلام، فحينما رجعوا إليه في آخر اليوم وقت العشاء في ظلمة الليل، أخذوا يتباكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف، وقالوا معتذرين عما زعموا: إنا ذهبنا نتسابق ونترامى بالنبال، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأمتعتنا، حارسا لها، فأكله الذئب، وهذا الذي كان قد جزع منه وحذر عليه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا- والحالة هذه- لو كنا صادقين موثوقين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك؟! وأنت معذور في هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما حدث. والحاصل أنا

فقه الحياة أو الأحكام:

وإن كنا صادقين، لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا في يوسف، لشدة محبتك إياه، ولظنك أنا قد كذبنا. وهذا إيماء بعدم قناعتهم بما يقولون، وإحساسهم بالكذب ضمنا. وزاد في التلبيس والتدليس أنهم جاؤوا بقميصه ملطّخا بدم مكذوب مفترى، أخذوه من دم سخلة ذبحوها، ولطخوا ثوب يوسف بدمها، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب، لذا قال: عَلى قَمِيصِهِ ولكن إرادة الله أبت إلا أن يظهر آثار جريمتهم، فنسوا أن يخرقوا الثوب ويشقّوه إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميص، فلم يصدقهم يعقوب وأعرض عنهم وعن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه، فقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أي بل زينت أو سهلت وهونت لكم أنفسكم السيئة أمرا منكرا غير ما تصفون وتذكرون، فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، وأستعين بالله حتى يفرج الكرب بعونه ولطفه، فالصبر الجميل أولى بي، يروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن الصبر الجميل فقال: «هو الذي لا شكوى معه» . والله المستعان على ما تذكرون من الكذب، وهو المعين على شر ما تصفون من الحدث الأليم. روي أن يعقوب قال استهزاء: ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه؟! فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- نجح إخوة يوسف في حبك المؤامرة، وخداع أبيهم، والمؤمن غر كريم، وتلك حيلة يلجأ إليها الأولاد عادة لأن لعب الصبيان المباح وتنشيطهم مرغوب فيه، لا سيما وقد أظهروا شفقتهم عليه وحبهم له، وتعهدوا بحفظه ورعايته من المخاوف.

2- كانت إجابة يعقوب لأولاده متضمنة بحكم العاطفة الأبوية المألوفة تحذيرا من التقصير، وتنبيها على شدة الصون والحفظ، وإشعارا بحب ابنه يوسف وعدم تحمله الصبر على فراقه، وهذا أمر طبيعي. 3- موّه إخوة يوسف على أبيهم الحقيقة، وأظهروا كاذبين أنهم حماة يصونون أخاهم، فهم عصبة أقوياء، وجماعة أشداء، يخشى الناس بأسهم، أفلا يقدرون على مطاردة ذئب يهاجم أخا لهم. 4- كان إخوة يوسف في أشد ما يكونون قسوة وشدة على أخ لهم من أبيهم، فرموه في البئر، ونزعوا عنه قميصه، ووجد عند كل واحد من الغيظ والحسد والظلم أشد مما عند الآخر. 5- إن رحمة الله ولطفه قريب من المحسنين، فلا يدع سبحانه مظلوما حتى ينصره، ولا مفجوعا حتى يسلي قلبه ويطمئنه، ويبشره بالسلامة، فألهم يوسف أنه سينجو مما هو فيه، وأنه سينصره عليهم، وأنه سيخبرهم بسوء ما يصنعون به ويوبخهم على ما صنعوا، وسيكونون تحت قهره وسلطانه، وهم لا يدرون أنه يوسف. وهذا يدل على أن الوحي ليوسف بعد إلقائه في الجب كان تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة. 6- إنما جاؤوا عشاء، أي ليلا ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. 7- ودلت آية يَبْكُونَ على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعا، فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر، وقد قيل: إن الدم المصنوع لا يخفى.

8- الاستباق مباح في السهام أو الرمي، وعلى الفرس، وعلى الأقدام والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو لما له من فائدة في قتال الأعداء، ومطاردة الذئاب. قال ابن العربي: إن المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلّم بنفسه وبخيله فروي أنه سابق عائشة فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم سابقها فسبقته، فقال لها: هذه بتلك «1» . وتسابق النبي أيضا مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبقهما. وسابق سلمة بن الأكوع- فيما رواه مسلم- رجلا لما رجعوا من «ذي قرد» إلى المدينة، فسبقه سلمة. وروى مالك عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سابق بين الخيل التي قد أضمرت «2» ، وسابق بين الخيل التي لم تضمّر ، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها. وكذلك المسابقة بالنّصال والإبل، أخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا سبق «3» إلا في نصل أو خفّ أو حافر» . وروى البخاري عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلّم ناقة تسمى العضباء، لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين حتى عرفه فقال: «حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» . وأجمع المسلمون على أن السّبق على وجه الرهان المباح الآتي بيانه لا يجوز إلا في الخف والحافر والنصل. قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسّبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري القاضي في الحديث السابق: «أو جناح» لإرضاء الرشيد،

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1063 وما بعدها. [.....] (2) تضمير الخيل: هو علف الخيل حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف. (3) السبق: ما يجعل للسابق على سبقه من المال، أي لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة. والسّبق بالسكون: مصدر. والصحيح رواية الفتح.

فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته فلا يكتب العلماء حديثه بحال. ولا يجوز السّبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، وكذلك الرمي لا يجوز السّبق فيه إلا بغاية معلومة، ورشق معلوم، ونوع من الإصابة. والسبق الجائز اثنان: ما يخصصه الوالي أو غيره من ماله تطوعا، وما يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإلا بقي له. والسبق غير الجائر أو الحرام: هو ما يكون من الطرفين المتسابقين، بأن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه. ولا يجوز هذا الوجه إلا بمحلّل لا يأمنان أن يسبقهما، فإن سبق المحلّل أحرز السّبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين، أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه، ولا شيء للمحلّل فيه، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما. وسمي محلّلا لأنه يحلل السّبق للمتسابقين أو: له. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلّل، واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه، أنه قمار، ولا يجوز. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أدخل فرسا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق، فليس بقمار، ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار» وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلّل، فإن سبق أخذ السّبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء. وهذا قول الجمهور. ولا يكون سباق الخيل والإبل إلا لمحتلم، أو لأربابها، وهو أولى. 9- استفاد أولاد يعقوب الحجة من قول أبيهم: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لأنه كان أظهر المخاوف عليه.

10- لم يصدقهم يعقوب، لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه. وأحسّوا هم بضعف حجتهم حينما قالوا: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا، ولا تتهمنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف. 11- دلسوا على أبيهم بالدم المكذوب فيه، فهو دم ظبية، كما قال قتادة، ولما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم، قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التمزيق المعتاد عند اعتداء الذئب على إنسان. قال ابن عباس: لما نظر إليه، قال: كذبتم لو كان الذئب أكله لخرق القميص. حكى الماوردي أن في القميص- أي في جنسه- ثلاث آيات: حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قدّ قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه، فارتد بصيرا. 12- استدل الفقهاء بقصة القميص الملوث بالدم على جواز الاعتماد على الأمارات، في مسائل فقهية كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص وسلامته من التخرق. وهكذا على الناظر ملاحظة الأمارات والعلامات، ويقضي بالراجح منها. 13- الاعتصام بالصبر، والاستعانة بالله، على التزوير والظلم والكذب والمصيبة وفي المحنة والشدة، فذلك مؤذن بالفرج بعد الكرب، وباليسر بعد العسر، وهو دليل الإيمان بأن لهذا لكون ربا يفعل فيه ما يشاء. 14- الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه، وهو أن يعرف أن منزل البلاء

الفصل الثالث من قصة يوسف نجاة يوسف وإكرامه في بيت العزيز:

هو الله تعالى، ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه. ولا يكون الصبر جميلا ما لم يكن فيه رضا بقضاء الله وقدره. والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات: أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى، كان حسنا، وإلا فلا. والجمع بين الصبر والاستعانة في كلام يعقوب دال على أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى، للتغلب على الجزع أو الحزن بسبب الدواعي القوية إليه. الفصل الثالث من قصة يوسف نجاة يوسف وإكرامه في بيت العزيز - 1- تعلق يوسف بالدلو ومسيره مع السيارة [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الإعراب: يا بُشْرى منادى مفرد، كأنه جعل بُشْرى اسم المنادي أي هذه آونتك كقولك: يا زيد، ومن قرأ يا بشراي كان منادى مضافا.

المفردات اللغوية:

وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً المراد بالواو: التجار، والمراد بالهاء: يوسف، أخفوه من الرفقة، وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في البئر، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء، لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس: أن الضمير لإخوة يوسف قالوا للتجار: هذا غلام لنا قد أبق، فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وذلك لأن يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم، فأتاه يومئذ، فلم يجده، فأخبر إخوته، فأتوا الرفقة، وساوموهم على بيعه لهم، فاشتروه منهم. وبِضاعَةً منصوب على الحال من يوسف، ومعناه: مبضوعا، أي أخفوه متاعا للتجارة. دَراهِمَ بدل من «ثمن» . ومِنَ الزَّاهِدِينَ في موضع نصب خبر كان. وفِيهِ متعلق بفعل دل عليه من الزَّاهِدِينَ، ولا يجوز أن يتعلق بالزاهدين لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي، وصلة الاسم الموصول لا يعمل فيما قبله. المفردات اللغوية: سَيَّارَةٌ جمع مسافرون معا، كالكشافة والتجار، وكانوا قوما مسافرين من مدين إلى مصر وارِدَهُمْ هو الرائد الذي يرد الماء أو يبحث عنه ليستقي للقوم، وهو مالك بن دعر الخزاعي من العرب العاربة. فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسل دلوه في الجب ليملأها، فتدلى بها يوسف، والدلو: إناء يستقى من البئر يا بُشْرى نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه، كأنه تعالى قال: فهذا أوانك، كما تقول: يا هناي، ويكون هذا النداء مجازا، أي احضري فهذا وقتك. وَأَسَرُّوهُ أخفوه وأخفوا أمره عن الرفاق بِضاعَةً أي أخفوه حال كونهم جاعليه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أي قطع وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه إسرارهم وَشَرَوْهُ باعوه لأن لفظ الشراء والبيع من ألفاظ الأضداد، فيقال: اشتراه أي ابتاعه، وشراه: باعه بَخْسٍ مبخوس أي ناقص ومعيب، ومنه قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ [الأعراف 7/ 85 وغيرها] والمراد بالبخس هنا قول الحرام أو الظلم لأنه بيع حر، والأصح أن المراد به الناقص عن ثمن المثل مَعْدُودَةٍ قليلة، قيل: كان عشرين درهما أو اثنين وعشرين وَكانُوا فِيهِ في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين عنه. والضمير إن كان للإخوة فظاهر، وإن كان للرفقه التجار، فزهدهم فيه لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به، مستعجل في بيعه. وباعته السيارة في مصر للذي اشتراه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى ما فعله إخوة يوسف بإلقائه في أعماق الجب (البئر)

التفسير والبيان:

ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة عن طريق قافلة تجار ذاهبة إلى مصر، فأخذوه وباعوه فيها. التفسير والبيان: ومرّ بالبئر جماعة مسافرون مارّون من مدين إلى مصر، روي أنهم من العرب الإسماعيليين، بعد أن مكث يوسف في البئر ثلاثة أيام، كان يتردد عليه بالطعام أخوه يهوذا، وذكر محمد بن إسحاق أن إخوته بعد إلقائه في الجب، جلسوا قريبا من تلك البئر، فساق الله له سيارة، فأرسلوا واردهم (وهو الذي يبحث عن الماء ليسقي القوم فلما جاء إلى البئر، وأدلى دلوه فيها، تشبّث يوسف عليه السّلام بها، وخرج من البئر. فقال مبشرا جماعته السيارة: يا بشرى هذا غلام، أي هذه أوان البشرى فاحضري، هذا غلام وسيم جميل صبوح ظريف، كما تقول: يا أسفا، ويا حسرتا. فاستبشروا به فهو غلام يباع. وأخفوه عن الناس، ليكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر، والله عليم بما يعملون لا يخفى عليه شيء من أفعال هؤلاء وغيرهم، وعليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير الواقع ودفعه، ولكن له حكمة وقدر سابق، فترك الأمر ليمضي ما قدره وما قضاه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] . والبائع: إما إخوة يوسف، كما روي عن ابن عباس، والتجار هم الذين اشتروه والذين أسرّوه بضاعة هم إخوة يوسف، لما استخرج من الجبّ. وإما أن البائع هم السّيارة، والمشتري: واحد من أهل مصر. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما كان يلقاه من أذى قومه المشركين، وإعلام له بأن الله عالم بأذى قومك لك، فإنه قادر على تغيير الأذى، ولكن

فقه الحياة أو الأحكام:

اصبر كما صبر يوسف على كيد إخوته وأذاهم، وسأنصرك عليهم، كما نصرت يوسف على إخوته، وجعلته سيدا عليهم. وَشَرَوْهُ أي باعه إخوة يوسف، قال ابن كثير: وهو الأقوى، أو باعته السيارة القافلة في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن المثل من الدراهم المعدودة عدا، لا وزنا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها، فباعوه بعشرين أو باثنين وعشرين درهما، فالمراد بالبخس هنا الناقص أو المعيب أو كلاهما، أي باعوه بأنقص الأثمان. وقيل: المراد به الظلم أو الحرام، لكونه بيع حر، والراجح هو المعنى الأول، كما ذكر ابن كثير لأن الحرام معلوم يعرفه كل أحد لأن ثمنه حرام على كل حال، وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي، ابن نبي، ابن خليل الرحمن، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم. وكانوا في يوسف وبيعه من الزاهدين أي الراغبين عنه الذين يودون التخلص منه بأي حال دون أن يعلموا منزلته عند الله تعالى. وقد اشتراه عزيز مصر رئيس الشرطة وصار فيما بعد مسلما آمن بيوسف ومات في حياته. والخلاصة: أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث: كونه بخسا، وبدراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن مجيء السيارة وإرسال الدلو في البئر تدبير خفي من الله، وتيسير ولطف بعبده يوسف، لإنقاذه من الموت أو الهلاك في البئر لأن الله عليم بكل شيء في هذا الكون، ومدبر ما يراه خيرا على وفق حكمته وإرادته. 2- كان بيع يوسف بثمن ناقص عن ثمن المثل، بدراهم معدودة هي عشرون

درهما كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، فلم يستوف ثمنه الحقيقي بالقيمة لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه وإن كان الذين باعوه هم السيارة الواردة، فإنهم التقطوه، ومن أخذ شيئا بلا ثمن، باعه بأرخص الأسعار، فما يأخذونه فيه ربح كله. 3- في الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما. 4- الله تعالى عليم بأفعال الخلائق وأقوالهم، لا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيهم عليها. وبمناسبة الكلام عن الدراهم، قال العلماء: أصل النقدين الوزن، لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الذهب بالذهب الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ولكن جرى في النقود العدّ تخفيفا عن الخلق، لكثرة المعاملة، ومشقة الوزن. وهل تتعين الدراهم والدنانير أو لا؟ رأيان: قال أبو حنيفة، ومالك في الظاهر من قوله: لا تتعين بالتعيين. وقال الشافعي: إنها تتعين. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا قال: بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم، فعلى الرأي الأول: تعلقت الدنانير بذمه صاحبها، والدراهم بذمه صاحبها، فلو تلفت، ظل البيع صحيحا ولم يتأثر بتلف شيء من العوضين لأن مال الذمة لا يتلف. وعلى الرأي الثاني: لو تلفت الدراهم والدنانير، لم يتعلق بذمة صاحبهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.

- 2 - يوسف عند ملك مصر وإيتاؤه النبوة [سورة يوسف (12) الآيات 21 إلى 22] :

- 2- يوسف عند ملك مصر وإيتاؤه النبوة [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 22] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، واسمه قطفير أو أطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياته. روي أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وكان ابن ثلاثين، وآتاه الله الحكمة والعلم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين. واختلف فيما اشتراه به، فقيل: عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان لِامْرَأَتِهِ زليخا أو راعيل أَكْرِمِي مَثْواهُ مقامه عندنا، أي اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا، والمعنى: أحسني تعهده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في ضياعنا وأموالنا ونستعين به في مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبناه، وكان عقيما، لما تفرّس به من الرشد، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص 28/ 26] ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. وَكَذلِكَ كما نجيناه من القتل والبئر، وعطفنا عليه قلب العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ مكنا له في أرض مصر وجعلنا له مكانة رفيعة فيها، حتى صار رئيس حكومتها ووزير ماليتها وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا، وهو معطوف على محذوف مقدر متعلق

المناسبة:

بمكنا، أي لنملكه أو ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه، أو الواو زائدة وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي لا يعجزه شيء، فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد. أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه وكمال قوته الجسمية والعقلية، وهو رشده، وهو سن ما بين الثلاثين والأربعين آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة، وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكما بين الناس، أو حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق وَعِلْماً يعني علم تأويل الأحاديث، وفقه الدين قبل أن يبعث نبيا وَكَذلِكَ كما جزيناه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لأنفسهم، وهو تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله واتقائه في عنفوان أمره. المناسبة: بعد مسيرة يوسف مع السيارة إلى مصر، أبان الله تعالى بداية قصة يوسف في بيت عزيز مصر الذي اشتراه، وإيتاءه النبوة والعلم والحكمة وتعبير الرؤيا وجعله من زمرة المحسنين. التفسير والبيان: بعد تلك المأساة الحزينة التي مرّ بها يوسف في البئر، ثم اعتباره كالعبيد يباع ويشترى، قيّض الله له الذي اشتراه من مصر، ولم يذكر هنا اسمه، وإنما وصفه النسوة بأنه عزيز مصر على خزائنها، وذكر في التاريخ أنه رئيس الشرطة والوزير بها، وكان اسمه «قطفير» أو أطفير بن روحيب وزير المالية، حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به، لما توسم فيه الخير والصلاح، فقال لامرأته زليخا أو راعيل بنت رعابيل: أكرمي مقام هذا الغلام ومنزله عندنا أي أحسني تعهده، لما تفرس فيه من الرشد. روى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ والمرأة التي قالت لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ الآية [القصص 28/ 26] ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

وقيل: كان فرعون موسى الذي عاش أربع مائة سنة هو الذي اشترى يوسف، بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غافر 40/ 34] قال البيضاوي: والمشهور أن المشتري من أولاد فرعون، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء. ثم علل عزيز مصر طلبه من امرأته حسن تعهد يوسف بقوله كما قال الله: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي لي رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة واستثمار أموالنا، أو مصالحنا العامة، أو نتبناه ولدا تقر به أعيننا لأنه كان عقيما لا يولد له ولد، وكان حصورا. والآية تدل على على أن العزيز كان عقيما، وأنه كان صادق الفراسة. ثم أبان الله تعالى أفضاله الأدبية المعنوية بعد أن قيض له من يعينه ماديا فقال: وكما أنعمنا عليه بالسلامة من الجبّ، وأنقذناه من إخوته، وهيأنا له المنزل والمثوى الطيب الكريم، عطّفنا عليه قلب العزيز، وجعلنا له مكانة عالية في أرض مصر، يملك الأمر والنهي وتدبير أمور المالية وشؤون الدولة والحكم، بسبب حدوث ما حدث له في بيت العزيز، ثم السجن، الذي كان سببا في التعرف على ساقي الملك، ثم الاتصال بالملك نفسه، حتى قال له الملك: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف 12/ 54] وقال يوسف للملك: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف 12/ 55] . وتحقيق الكمال يكون بأمرين هما القدرة والعلم، أما تكميله في صفة القدرة فبقوله تعالى: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وأما تكميله في صفة العلم، فبقوله تعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وهو معطوف على مقدر متعلق بمكنا، أي لنملّكه ولنعلمه. وتأويل الأحاديث: تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الأمور، وكيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحكمته وجلاله.

ثم قال تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ.. لا يعجزه شيء، فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد، إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب، وهو الفعال لما يشاء، كما قال سعيد بن جبير: «ولكن أكثر الناس لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد، ويأخذون بظواهر الأمور، كما ظن إخوة يوسف أنه لو أبعد خلالهم وجه أبيهم، وكانوا من بعده قوما صالحين» . وقوله: أَكْثَرَ النَّاسِ دليل على أن الأقل يعلمون الحقائق كيعقوب عليه السّلام، الذي يعلم أن الله غالب على أمره. ثم بيّن الله تعالى ما جازى به يوسف لما صبر على إساءة إخوته إليه، وعلى الشدائد والمحن التي مرّ بها، فمكنه الله تعالى في الأرض، وهو القدرة التي أشرنا إليها، ولما بلغ أشده آتاه الله النبوة التي عبر عنها بالحكم والعلم، وهي أكمل درجات العلم، فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ.. أي ولما استكمل يوسف قواه الجسمية والعقلية، آتيناه حكما وعلما، أي النبوة التي حباه بها بين أولئك الأقوام، كالجزاء على صبره على تلك المحن وعلى الأعمال الحسنة. واكتمال الرشد وبلوغ الأشد: ما بين الثلاثين والأربعين، فقال جماعة: ثلاث وثلاثون سنة، أو بضع وثلاثون، وقال الحسن: أربعون سنة. وقال عكرمة وهو تقدير الأطباء: خمس وعشرون سنة. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ومثل ذلك الجزاء، نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم أعمالهم. وهذا دليل على أن يوسف عليه السّلام كان محسنا في عمله، عاملا بطاعة الله تعالى، وأن ما آتاه الله من سلطان ونفوذ، وعلم وحكمة، ونبوة ورسالة كان جزاء على إحسانه في عمله، وتقواه في حال شبابه، إذ للإحسان تأثير في صفاء العقول، وللإساءة تأثير في تعكير النفوس وسوء فهم الأمور.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما تفضل الله به على يوسف عليه السّلام جزاء صبره من نعم وفضائل مادية ومعنوية وهي ما يأتي: 1- تهيئة البيت الكريم، والمثوى والمقام المريح، والمطعم واللباس الحسن، والحفظ والرعاية المادية والأدبية في ظل بيت العزيز الذي كان وزيرا للمالية على خزائن مصر، وهو المنصب ذاته الذي تولاه يوسف عليه السّلام بعدئذ. 2- كان عزيز مصر صادق الفراسة، ثاقب الفكرة، أصاب فيما توقعه ليوسف من مكانة عالية في البلاد. 3- التمكين المادي ليوسف في أرض مصر، بأن عطف الله عليه قلب الملك، حتى تمكن من الأمر والنهي في بلد الملك نفسه، فصار وزيرا للمالية ورئيسا للحكومة. 4- التمكين المعنوي ليوسف ليوحي الله إليه بكلام منه، وليعلمه تأويل الكلام وتفسيره، وتعبير الرؤيا، والفطنة للأدلة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته. 5- إيتاؤه الحكم والعلم، أي النبوة بعد بلوغ الرشد واكتمال البنية الجسدية والقوى العقلية، فقوله: حُكْماً وَعِلْماً إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية. 6- جعله من المؤمنين المحسنين المطيعين أوامر ربه، المتجنب نواهيه، الصابرين على النوائب، حتى قال بعضهم: إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى، وشكر نعماء الله تعالى، وجد منصب الرسالة، بدليل أنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن، ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.

الفصل الرابع من قصة يوسف يوسف وامرأة العزيز [سورة يوسف (12) الآيات 23 إلى 29] :

7- دل قوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن الله يعطيه تلك المناصب. 8- الله تعالى غالب على أمره، فعال لما يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، نافذ أمره في الخلائق، كما قال سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . 9- أكثر الناس لا يعلمون حقائق الأمور الإلهية، ويكتفون بظواهر الأمور، والأقل كالأنبياء والمؤمنين الأتقياء هم الذين يدركون أن الله غالب على أمره. الفصل الرابع من قصة يوسف يوسف وامرأة العزيز [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)

الإعراب:

الإعراب: هَيْتَ لَكَ اسم لهلمّ، ولذلك كانت مبنية، وكان الأصل أن تبنى على السكون، إلا أنه لم يمكن أن تبنى على السكون لأنهم لا يجمعون بين ساكنين وهما الياء والتاء. ومنهم من بناها على الفتح لأنه أخف الحركات. ومنهم من بناها على الكسر لأنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين، ومنهم من بناها على الضم لحصول الغرض من زوال التقاء الساكنين. ومن قرأ: هيئت لك بالهمز فمعناه: تهيأت لك، وتكون التاء مضمومة لأنها تاء المتكلم. مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، يقال: عاذ يعوذ معاذا وعوذا وعياذا. رَبِّي في موضع نصب على البدل من هاء إِنَّهُ وهي اسم إن. أَحْسَنَ مَثْوايَ فعل ومفعول، ومن قرأ أحسن فهو خبر إنّ، أي إن ربي أحسن مثواي. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الهاء ضمير الشأن والحديث. وجملة لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ جملة فعلية خبر إن. أَنْ رَأى..حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره. وأَنْ رَأى في موضع رفع لأنه مبتدأ. ولا يجوز إظهار خبره بعدلطول الكلام بجوابها، وقد حذف خبر المبتدأ هنا والجواب معا، والتقدير: لولا رؤية برهان ربه موجودة لهمّ بها. ولا يجوز أن يكون وَهَمَّ بِها جوابلأن جوابلا يتقدم عليه. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ الكاف من كَذلِكَ يجوز أن تكون رفعا، بأن تكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: البراهين كذلك، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أي أريناه البراهين رؤية كذلك.

البلاغة:

البلاغة: فَصَدَقَتْ وفَكَذَبَتْ والصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بين كلّ طباق. مِنَ الْخاطِئِينَ من باب تغليب الذكور على الإناث. المفردات اللغوية: وَراوَدَتْهُ طلبت منه زليخا مواقعتها برفق ولين ومخادعة، ومنه قوله: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ [يوسف 12/ 61] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته، ليرسل أخاه بنيامين معنا، ومنه الرائد: الذاهب لطلب شيء. والمراد من آية وَراوَدَتْهُ تحايلت لمواقعته إياها، ولم تجد منه قبولا. وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أحكمت إغلاق أبواب البيت، قيل: كانت سبعة، والتشديد: للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. هَيْتَ لَكَ أي هلمّ وأقبل وبادر، أو تهيأت، وهي لغة عرب حوران والكلمة: اسم فعل مبني على الفتح، ولام لَكَ للتبيين، كالتي في «سقيا لك» . قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله وأتحصن من الجهل والفسق. إِنَّهُ رَبِّي إن الذي اشتراني سيدي قطفير، أو إن الشأن أَحْسَنَ مَثْوايَ مقامي، أي أحسن تعهدي، إذ قال لك: أَكْرِمِي مَثْواهُ فلا أخونه في أهله. وقيل: إن الضمير لله تعالى، أي إنه الذي خلقني وأحسن منزلتي بأن عطف عليّ قلب سيدي، فلا أعصيه. إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ المجازون الحسن بالسيء، وقيل: الزناة، فإن الزنى ظلم على الزاني والمزني بأهله. هَمَّتْ بِهِ قصدت منه الجماع ومخالطته أو أن تبطش به لعصيانه أمرها، والهم بالشيء: قصده والعزم عليه ومنه الهمام: وهو الذي إذا همّ بشيء أمضاه. وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا وجود النبوة، أو مراقبة الله تعالى وطاعته ورؤية ربه متجليا عليه، لقصد مخالطتها، والمفهوم منأنه لم يقصد ذلك أصلا، لوجود خشية الله في قلبه لأنحرف امتناع لوجود، فعند ما تقول: لولا إتيان ضيف إلى البارحة لجئت إليك، تعني تعذر المجيء لصاحبك بسبب مجيء ضيف يزورك، فالضيف مانع من حصول المجيء، وكذلك هنا: لولا برهان النبوة ومراقبة الله لهمّ بها. كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه وأريناه البرهان. لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الخيانة وَالْفَحْشاءَ الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ المختارين الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته وعلى قراءة كسر اللام الْمُخْلَصِينَ يكون المراد: المخلصين في الطاعة. وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار، أو ضمن الفعل معنى الابتدار، أي أسرع كل منهما نحو الباب، وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج،

المناسبة:

فمبادرته كانت للفرار، ومبادرتها كانت للتشبّث فيه، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها. وَقَدَّتْ شقت قميصه من دبر، أي من الخلف والقد: الشق طولا. وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ وجدا زوجها وصادفاه عند الباب. قالَتْ: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أي نزهت نفسها، وأو همت زوجها أنها فرّت منه تبرئه لساحتها عنده وإغراء به للانتقام من يوسف. وما نافية أو استفهامية، والمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن أي الحبس. أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بأن يضرب. وتعبير وَاسْتَبَقَا الْبابَ من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة. قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي قال يوسف: هي طالبتني بالمواتاة، دفاعا عن نفسه لما عرضت له من السجن أو العذاب، ولو لم تكذب عليه لما قال ذلك. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل: ابن عمها، أو ابن خالها، وكان صبيا في المهد، أنطقه الله تعالى. مِنْ قُبُلٍ من قدام أو أمام. مِنْ دُبُرٍ من خلف. فَلَمَّا رَأى زوجها قالَ: إِنَّهُ أي إن قولك: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَّ أي من حيلتكن أيها النساء، والخطاب لها ولأمثالها، أو لسائر النساء. إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي إن كيد النساء ألصق وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولا قدرة للرجال عليه ولا يفطنون لحيلهن. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي ثم قال زوجها: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، ولا تذكره واكتمه لئلا يشيع الخبر بين الناس. وَاسْتَغْفِرِي يا زليخا. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أي الاثمين المذنبين، ولكن شاع الخبر واشتهر. والتذكير للتغليب. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به يوسف من المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة، ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة، حتى إنه آثر دخول السجن على ارتكاب الفاحشة، والتخلص من افتتان النساء به. التفسير والبيان: كان يوسف عليه السّلام في غاية الحسن والجمال، وقد أوصى عزيز مصر امرأته بإكرامه وحسن تعهده، فأحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه، فحملها

ذلك على أن تجملت له، ودعته لمخالطتها، وتمحلت لمواقعته إياها، وأحكمت إغلاق الأبواب عليه قيل: كانت سبعة، وقالت: هيت لك، أي هلمّ أقبل وبادر، وتهيأت لك، وزيدت كلمة لَكَ لبيان المخاطب، مثل: سقيا لك ورعيا لك. وهذا أسلوب في غاية الاحتشام. فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: أعوذ بالله معاذا، وألتجئ إليه وأعتصم به مما تريدين مني، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين إِنَّهُ (الضمير للشأن والحديث) ربي أي سيدي ومالكي (قطفير) أَحْسَنَ مَثْوايَ أي منزلي ومقامي وأحسن إلي، حين قال لك: أكرمي مثواه فلا أقابله بالخيانة، وإتيان الفاحشة في أهله، إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الإحسان بالإساءة، أو لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المجازون الإحسان بالسوء. ولقد همّت بالانتقام منه والتنكيل به، لعصيانه أمرها، وعدم نزوله عند رغبتها، ومخالفته مرادها، وهي سيدته وهو عبدها، أو همت بمخالطته. وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كثر كلام الناس وتعليقاتهم حول معنى هذه الآية، والأمر فيها سهل يسير، لا يصح تفسير كلمة وَهَمَّ بِها وحدها دون بقية الجملة، وإذا فسرت الجملة مع بعضها، تبين أنه لم يهمّ بها قط لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك، بدليل أنحرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها لأن قوله: وَهَمَّ بِها يدل عليه، كقولك: (هممت بقتله لولا أني خفت الله) معناه: (لولا أني خفت الله لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها. ثم إن المراد بالهم: خطرات حديث النفس، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة

البشرية، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا، فلا يقال: كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إذا همّ عبدي بحسنة، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها» . والبرهان الذي رآه: هو برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، أو هو حجة الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب. وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة، وقيل: هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وجائز أن يراد كل هذه المعاني لأنها متقاربة غير متعارضة، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة الله عز وجل. والخلاصة: لم يرتكب يوسف عليه السّلام المعصية قط، ولولا حفظ الله ورعايته وعصمته لهمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران: الأول- إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، فهو الذي منعه من الهمّ، والثاني- إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية، ورأى برهان الله وتذكره، مثل قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء 17/ 74] . وبه تبين وجود الفارق بين الهمين: همها به وهمه، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به، شفاء لغيظها، أو همت بمخالطته، فكان همها المعصية، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه، والتخلص منها، حين رأى بوادر الإقدام عليه، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهم بالفرار من هذا المأزق، فكان همه النجاة منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر، وما هم بالسوء بها لما رأى برهان ربه لعصمة الأنبياء، قال تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ

وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ لذا أتبعه بقوله: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء: المنكر والمعصية وخيانة السيد، والفحشاء: الزنى والفجور. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص 38/ 47] . وحدثت المفاجأة الغريبة المحرجة بقدوم زوجها، وهما يتسابقان إلى الباب، فقال تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي وتسابقا إلى الباب، بناء على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف 7/ 155] أو بناء على تضمين اسْتَبَقَا معنى: ابتدرا، والتسابق مختلف الغرض، فيوسف فرّ منها مسرعا يريد الباب ليخرج، وهي أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي لحقته في أثناء هربه، فأمسكت بقميصه من الخلف، فقطعته. وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أي وحينئذ وجدا سيدها وهو زوجها عند الباب، فحاولت بمكرها وكيدها التنصل من جرمها وإلصاق التهمة بيوسف، فقالت: ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة إلا أن يحبس، أو عذاب مؤلم موجع، فيضرب ضربا شديدا. وكانت نساء مصر تلقب الزوج بالسيد، ولم يقل: سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعي.

وهنا ذكر الرازي علامات كثيرة دالة على أن يوسف عليه السّلام هو الصادق وهي «1» : 1- إن يوسف عليه السّلام كان في اعتبارهم عبدا، والعبد لا يتسلط على مولاه إلى هذا الحد. 2- شوهد يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، وطالب المرأة لا يفعل ذلك. 3- زيّنت المرأة نفسها على أكمل الوجوه، خلافا لما كان عليه حال يوسف. 4- لم تكن سيرة يوسف في المدة الطويلة دالة على حالة تناسب، هذا الفعل المنكر. 5- لم تصرح المرأة بنسبته إلى الفاحشة، بل أجملت كلامها، وأما يوسف فصرح بالأمر. 6- إن زوج المرأة كان عاجزا، فطلب الشهوة منها أولى. لكل هذا لم تطلب عقوبة شديدة، وإنما أرادت أن يحبس يوما أو أقل، على سبيل التخفيف والتخويف لأن حبها الشديد ليوسف حملها على أن تشفق عليه، ولكنها من جانب آخر استحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بالسوء، وأرادت تصيّد عذر ما، وحماية سمعتها وكرامتها أمام زوجها. ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. ثم جاء دور براءة يوسف: قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي.. قال يوسف بارّا صادقا مدافعا عن نفسه حينما اتهمته بقصد السوء: هي التي راودته عن نفسه،

_ (1) المرجع السابق: 18/ 123

فامتنع منها، وأنها تبعته وجذبته حتى قدت قميصه، ولم تترك حيلة إلا لجأت إليها لمواقعتها. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. وللعلماء قولان في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير؟ وهل هو إنسان أو القميص؟، فصار في تعيين هذا الشاهد ثلاثة أقوال: الأول- أنه كان ابن عم لها كبير، وكان رجلا حكيما عاقلا حصيف الرأي، فقال: إن كان «1» شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص، ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ.. أي من عملكن، ثم قال ليوسف: أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها: استغفري لذنبك. وهذا قول طائفة كبيرة من المفسرين. والثاني- وهو قول ابن عباس وجماعة: أن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد. روى ابن جرير حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم» . والثالث- أن ذلك الشاهد هو القميص. قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا، ولا ينسب إلى الأهل. ولما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به وظهر للقوم براءة يوسف عن هذا المنكر، قال العزيز أو الشاهد: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إن هذا

_ (1) إن كان قميصه: كان في موضع جزم بالشرط، وفيه إشكال نحوي لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان، فقال المبرد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى: إن يكن، أي إن يعلم، والعلم لم يقع.

فقه الحياة أو الأحكام:

الاتهام من جملة كيدكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي إن مكر المرأة وكيدها شديد التأثير في النفوس، غريب لا يفطن له الرجال، ولا قبل لهم به، ولا لحيلها وتدبيرها. ويا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة واكتم خبرها عن الناس، ويا أيتها المرأة اطلبي المغفرة لذنبك، إنك كنت من زمرة الخاطئين أي المذنبين. وقوله هذا لأنه لم يكن غيورا، فكان ساكنا، أو لأن الله تعالى سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف، حتى كفي ما قد يبادر به وعفا عنها. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات بيان محنة يوسف، وإظهار براءته، واتهام زوجة العزيز، وتكون الآيات دالة على ما يأتي: 1- اتهام امرأة العزيز بمراودة يوسف عن نفسه، وذكر في الآية ثلاثة تصرفات تؤكد تهمتها وهي: المراودة، وإغلاق الأبواب، ودعوتها يوسف لنفسها قائلة: هَيْتَ «1» لَكَ وهي لغة أهل حوران جنوب سوريا، أي هلمّ أقبل وتعال. 2- دفاع يوسف عن نفسه، مستخدما في الجواب ثلاثة أشياء: مَعاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، استعاذ بالله واستجار به مما دعته إليه، وتذكر فضل سيده عليه إذ آواه وأحسن مثواه ومقامه وتعهده بالرعاية والحفظ، ونظر إلى المستقبل نظرة العاقل المتأمل الذي يصون

_ (1) قال النحاس: فيها سبع قراءات: هيت وهيت وهيت (الهاء فيهن مفتوحة) وهيت لك بكسر الهاء وفتح التاء، وهيت لك بكسر الهاء والياء الساكنة والتاء المضمومة، وهئت لك، وهئت لك.

مستقبله، وقرر أنه لا يظفر الظالمون الخائنون الذين يقابلون الإحسان بالإساءة. 3- هناك فرق واضح بين همّها به وهو المعصية من مخالطة وانتقام، وبين همّه بها وهو الفرار والنجاة منها لأن الأنبياء معصومون عن المعاصي. وأدلة عصمة الأنبياء «1» : الدليل الأول- إن الزنى من منكرات الكبائر، وكذلك الخيانة من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموقعة بالفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب، ثم إن إقدام الصبي الذي تربى في حجر إنسان على الإساءة إلى المنعم عليه من أقبح المنكرات والأعمال. الدليل الثاني- إن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عن النبي، لقوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ثم إن الله تعالى جعل يوسف عليه السّلام من عباده المخلصين- بفتح اللام- الذين خلصهم الله من الأسواء، وبكسر اللام: من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السّلام الذين قال الله فيهم: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص 38/ 46- 47] . الدليل الثالث- من المحال أن يصدر عن الأنبياء عليهم السلام زلة أو هفوة ثم لا يتبعونها بالتوبة والاستغفار. الدليل الرابع- كل من كان له تعلق بتلك الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه السّلام من المعصية. والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السّلام، وتلك المرأة وزوجها،

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 115 وما بعدها.

والنسوة، والشهود، ورب العالمين، وإبليس، الكل شهدوا ببراءة يوسف عن الذنب والمعصية، كما تقدم سابقا. 4- قال العلماء: لما برّأت نفسها ولم تكن صادقة في حبه- لأن من شأن المحبّ إيثار المحبوب- قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. 5- الشاهد من أهلها: إما طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح، للحديث المتقدم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» وذكر فيهم شاهد يوسف، وإما رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها. 6- في آية قدّ القميص مقبلا ومدبرا دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة لأن القميص إذا جبذ من خلف تمزّق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدّام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب. 7- إذا كان الشاهد على براءة يوسف طفلا صغيرا، فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات وإذا كان رجلا صحّ الاعتماد على الأمارة، كالعلامة في اللقطة وغيرها فقال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة، فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة، فإن السلطان ينظر في ذلك، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال الحنفية وغيرهم: إذا اختلف الرجل والمرأة في متاع البيت: إن ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومة وأصل الاعتماد على الأمارات هذه الآية. 8- الحذر من فتنة النساء، فإن كيدهن عظيم لعظم فتنتهن، واحتيالهن في التخلص من ورطتهن، ذكر مقاتل عن أبي هريرة قال: قال

الفصل الخامس من قصة يوسف انتشار الخبر بين نسوة المدينة ومؤامرة امرأة العزيز بهن وتقرير سجن يوسف [سورة يوسف (12) الآيات 30 إلى 35] :

رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء 4/ 76] ، وقال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» . الفصل الخامس من قصة يوسف انتشار الخبر بين نسوة المدينة ومؤامرة امرأة العزيز بهن وتقرير سجن يوسف [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

الإعراب:

الإعراب: حُبًّا تمييز. حاشَ لِلَّهِ حذف الألف للتخفيف، ومن قرأ: حاشى لله، أتى به على الأصل. وحاشى: فعل في رأي الكوفيين، بدليل تعلق حرف الجر بها في قوله: حاشَ لِلَّهِ وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف. وهي حرف في رأي سيبويه وأكثر البصريين لأن ما بعدها يجيء مجرورا، يقال: حاش أبي ثوبان، ولو كان فعلا لما جاز أن يجيء ما بعده مجرورا. وأما تعلق حرف الجر بها في قوله لِلَّهِ فإن اللام في قوله: حاشَ لِلَّهِ زائدة لا تتعلق بشيء، مثل لام: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] وباء أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق 96/ 14] ثُمَّ بَدا لَهُمْ.. [يوسف 12/ 35] فاعل بدا: مصدر مقدر، دل عليه. بَدا أي ثم بدا لهم بداء، وهو الراجح، وقيل: دل عليه لَيَسْجُنُنَّهُ وقام مقامه، وقيل: الفاعل محذوف تقديره: ثم بدا لهم رأي. واللام جواب ليمين مضمر، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث. البلاغة: سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ استعار المكر للغيبة لأنها تشبهه في الإخفاء. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ استعار لفظ القطع للجرح أي جرحن أيديهن. المفردات اللغوية: نِسْوَةٌ اسم لجمع امرأة، وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي. فِي الْمَدِينَةِ مدينة مصر، وهو ظرف لقال، أي أشعن الحكاية في مصر، أو هو صفة نسوة، وكن خمسا: زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ فتاها: عبدها، أي تطلب مواقعة غلامها إياها. والعزيز بلغة العرب: الملك. قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي دخل حبه شغاف قلبها. أي غلافه المحيط به حتى وصل إلى فؤادها. فِي ضَلالٍ في خطأ أي انحراف عن طريق الرشد ومقتضى العقل. مُبِينٍ أي بيّن واضح، بحبها إياه. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن لها، وإنما سمي مكرا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، ولأنهن أردن إغضابها لتعرض عليهن يوسف، فيفزن بمشاهدته. وَأَعْتَدَتْ أعدّت وهيأت لهن. مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من الوسائد في مكان يجلسن فيه متكئين. وقيل: المتكأ: طعام يقطع السكين للاتكاء عنده، وهو الأترج. وَآتَتْ أعطت. وَقالَتِ ليوسف، أَكْبَرْنَهُ أعظمنه. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحن أيديهن بالسكاكين، ولم يشعرن بالألم لشغل قلبهن بيوسف، ودهشتهن من جماله الرائع.

المناسبة:

وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ تنزيها لله من صفات العجز، وتعجبا من قدرته على خلق مثله. ما هذا بَشَراً أي ما يوسف من جنس البشر لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ما هذا إلا ملك، لما حواه من الحسن الفائق، جاء في الحديث: «أنه أعطي شطر الحسن» أو لما جمع الله له من الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة التي هي من خواص الملائكة. قالَتْ امرأة العزيز، لما رأت ما حل بهن: فَذلِكُنَّ أي فهذا هو. الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في حبه والافتتان به قبل تصوره حق التصور، ولو تصورتنه بما عائنتن لعذرتنني، والمراد بيان عذرها. فَاسْتَعْصَمَ امتنع امتناعا شديدا، مأخوذ من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية. ما آمُرُهُ به. مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المهانين، فقلن له: أطع مولاتك. أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهن وأوافقهن على أهوائهن. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ وأصر من المذنبين، والقصد بذلك الدعاء. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه. السَّمِيعُ للقول ودعاء الملتجئ إليه. الْعَلِيمُ بالفعل والأحوال وما يصلحهم. بَدا ظهر لهم رأي جديد، وهو أن يسجنوه. الآيات الشواهد الدالة على براءة يوسف. لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي ليدخلنه السجن إلى زمن، ينقطع فيه كلام الناس، فسجن سبع سنين أو خمس سنين. والحين: الوقت غير المحدود من الزمن. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى محنة يوسف مع امرأة العزيز، ونجاته من تلك المحنة وقناعة زوجها ببراءته بناء على شهادة حكم شاهد من أقاربها بما رأى، أورد تعالى ما تمخضت عنه المحنة والمحاولة من نتائج طبيعية هي انتشار الخبر وشيوعه في مصر، ومحاولة امرأة العزيز تبرئة ساحتها أمام النساء بمكيدة محكمة وخطة مدروسة، واعترافها أمامهن بأنها التي راودته عن نفسه، فامتنع، وأنها ما تزال مصرة مصممة على ما تريد، وإلا أودع في قيعان السجون، وتم اتخاذ القرار بالسجن، وآثره يوسف ابتغاء مرضاة الله، بل دعا إليه ربه، فسجن سبع سنين أو خمس سنين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وقال جماعة من نساء الكبراء والأمراء في مدينة مصر، منكرات على امرأة العزيز وعائبات عليها ومتعجبات منها: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها، وما تزال محاولاتها مستمرة، بدلالة فعل تُراوِدُ الذي يفيد الاستمرار في الطلب في المستقبل، وما زال قلبها متعلقا به. وأكدوا إنكارهم عليها بأمرين لأن المألوف أن المرأة مطلوبة لا طالبة، وهي امرأة الوزير الأول، وتطلب مخالطة عبدها وخادمها: الأول- قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه المحيط به، ونفذ إلى سويدائه، فلم تعد تبالي بالعواقب وما يؤول إليه الحال. والثاني- إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنا لنعتقد ونعلم أنها في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه لفي خطأ واضح وبعد عن الصواب وجهل يتنافى مع مكانتها. وأردن من هذا القول المكر والحيلة، ودفعها إلى دعوتهن والاقتناع بعذرها فيما فعلت. قال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف، فأحببن أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن، وسوء مقالتهن، وكلامهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، وسمي الاغتياب مكرا لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره، فكما أن الغيبة تذكر على سبيل الخفية، فكذلك المكر. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي لما بلغها ما تقوله النساء عنها غيابيا، أرسلت إليهن، أي دعتهن إلى منزلها للضيافة، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الكراسي

والوسائد والطعام الذي يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه، وأعطت كل واحدة من النساء سكينا لقطع اللحم والفاكهة. ونحوها، وذلك مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، فمكرت بهن كما مكرن بها. وَقالَتِ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي وبيناهم في تناول الفاكهة والطعام، وكلّ تمسك بسكينها، أمرته بالخروج عليهن، بعد أن كانت قد خبأته في مكان آخر، وكانت ذكية ماهرة في اختيار الوقت المناسب وهو أن يفجأهن وقت انشغالهن بما يقطعنه ويأكلنه. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.. أي فلما خرج ورأينه، أعظمنه، ودهشن لجماله الفائق وحسنه الكامل، وجعلن يقطعن أيديهن، اندهاشا برؤيته، فجرحن أيديهن، وهن يظنن أنهن يقطعن ما قدم لهن من طعام، وهكذا يفعل المدهوش الذي اجتذب نظره حادث مؤثر، أو منظر غريب، أو شيء مثير. وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف للتخفيف واتباع المصحف، وقرأ أبو عمرو: وحاشا لله بإثبات الألف وهو الأصل، لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، وحاشا: كلمة تفيد معنى التنزيه، أي وقلن لها على الفور تنزيها لله تعالى عن العجز، وتعجبا حيث قدر على خلق جميل مثله: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا لأنهن لم يرين في البشر مثله، ولا قريبا منه، فإنه عليه السّلام قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بيوسف عليه السّلام في السماء الثالثة، فقال: «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» . ما هذا الذي رأيناه من جنس البشر، وما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر، والمقصود إثبات الحسن العظيم له لأنه استقر في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، وأن لا حي أقبح من الشيطان. فلما رأت النساء روعة

جمال يوسف شبهنه بالملك، ونفين عنه البشرية، لغرابة جماله وروعة حسنه. والأقرب عند الرازي: أن النسوة لما رأين عليه هيبة النبوة والرسالة، وعلامة التطهر والعفة، نفوا عنه آثار الشهوة البشرية والصفات الإنسانية، وأثبتوا له طهر الملائكة. قالت، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الأخاذ: فذلكن هو الذي وجهتن اللوم إلي بسببه، وعبتنّ علي فعلي. وإنما قالت فَذلِكُنَّ ولم تقل «فهذا» بالرغم من أنه حاضر أمامهن، رفعا لمنزلته في الحسن، وجدارة حبه والافتتان به، واستبعادا لمحله السامي، أي فذلك يوسف البعيد السامي في الكمال والجمال، فأنا معذورة، فهو حقيق أن يحب لجماله وكماله. وإذا كان هذا حالكن معه في لحظة، فماذا أفعل وهو معي دائما في المنزل، وإني أعترف وأقر أني والله لقد راودته عن نفسه، فامتنع بإباء وشمم عما أردته منه لأنه عفيف طاهر، ورث العفة عن أسلافه. قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال. ثم قالت متوعدة إياه بالعقاب: ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب، ليسجنن وليكونن من الذليلين المقهورين لأن زوجي لا يخالف أمري ورغبتي. وهذا دليل على أن حبه استولى على مجامع نفسها، وأن السجن المؤكد الدائم سيكون عقابه، لا مجرد الحبس المؤقت الذي كانت قد أشارت به على زوجها، عند اكتشاف أمرها لدى الباب، وأنها بهذا التهديد واثقة بسطانها على زوجها، مع علمه بأمرها، واستنكاره سلوكها، فقد أصبح عشقها له، وحبها المتناهي أمرا علنيا لا تواري فيه، ولا تخشى أحدا من نقدها وتوجيه اللوم لها.

فعندئذ استعاذ يوسف عليه السّلام من شرهن وكيدهن. والكيد: الاحتيال والاجتهاد، وقال: رَبِّ السِّجْنُ ... أي يا رب، أنت ملاذي وملجئي، إن السجن الذي توعدت به أحب إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية. وكنى عن امرأة العزيز في قوله كَيْدَهُنَّ بخطاب الجمع، إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والأولى حمل اللفظ على العموم، أي كيد النساء، وليس كيد امرأة العزيز فقط. وقد أسند الدعوة إلى النساء جميعا لأنهن زيّن له مطاوعتها ونصحنه بالاستجابة لرغبتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار. وهو في دعائه هذا آثر المشقة على اللذة لأن العذاب المكروه وهو السجن مع البراءة أهون من الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فإن البريء المسجون يشعر بسعادة عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وقد اختار أهون الشرين وأخف الضررين: السجن والزنى، ففي السجن راحة بال وهدوء نفس وخروج عن بيئة الفساد، وتخلص من التحكم في أمره. ثم أكد دعاءه مبينا عجزه وضعفه، ومفوضا أمره لمن له القدرة والقوة، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ.. أي وإن لم تبعد عني أثر كيدهن، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن، وأكن من الجاهلين السفهاء الذين تستهويهم الشهوات، والذين لا يعملون بما يعلمون لأن الحكيم لا يفعل القبيح، ولأن من لا ينتفع بعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أي إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي منها قدرة، وإنما أعتصم وألجأ إلى حولك وقوتك، فأنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي. وهذا

فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه من الصبر. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.. أي فأجاب ربه دعاءه المفهوم من قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي.. الذي فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف، فصرف عنه كيدهن، وعصمه عصمة عظيمة، وحماه من التورط في المعصية أو الجهل والسفه باتباع أهوائهن، إنه تعالى السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم. وهذا دليل على حراسة ربه له وعنايته به وتربيته تربية مثلي تليق بالأنبياء. وقد ترفع مع شبابه وجماله وكماله عن مواقعة امرأة عزيز مصر التي كانت أيضا في غاية الجمال والأبهة، وأختار السجن خوفا من الله ورجاء ثوابه، ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يميه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» . ثُمَّ بَدا لَهُمْ.. ثم ظهر من المصلحة والرأي للعزيز وامرأته والشاهد الذي شهد عليها من أهلها بعد شيوع الخبر، وبعد ما عرفوا براءته، وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم أن يسجنوه لأجل غير معلوم، إيهاما أنه راودها عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك، وتنفيذا لرغبة زوجة العزيز التي تبين أنها ذات سلطان على زوجها، وأنه فقد الغيرة عليها، وآثر رضاها بأى ثمن كان.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن خبر السوء سرعان ما يشيع في أنحاء المجتمع، وأشد ما يكون شيوعا ما يكون النساء وراءه. 2- كان نقد أكابر النساء في المجتمع المصري لامرأة العزيز لأول وهلة، وبحكم العادة المألوفة، حقا وصوابا، إذ كيف تراود امرأة الوزير الأول عبدا لها وخادما عندها، وهذا مستعظم عادة، لترفع السادة وأنفتهن من مخالطة الخدم والأتباع. لذا انتقدوا شدة حبها للغلام، ووجدوا أنها حائدة عن طريق الصواب. 3- قابلت امرأة العزيز المكر بمثله، فدعت نساء المدينة إلى وليمة، لتوقعهن فيما وقعت فيه، ولتبدي معذرتها أمامهن، فانبهرن ودهشن بجمال يوسف لحسن وجهه ورينته وما عليه، وجرحن أيديهن بالسكاكين التي كانت معهن لقطع ما يحتاج إلى تقطيع من الطعام، وكن يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ (وهو النارانج أو الكبّاد أو الكريفون وهو ثمر أكبر من الليمون الحامض يؤكل بعد إزالة قشرته) . 4- لم يملك النساء أنفسهن عن التعبير بما دهشن به عند رؤية يوسف، وقالوا: ليس هذا من النوع الإنساني، وإنما هو من جنس الملائكة، والمقصود منه إثبات الحسن الفائق والجمال الرائع، وأنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة، وقوله: حاشَ لِلَّهِ تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا. 5- لما رأت امرأة العزيز افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي بحبه، واللوم: الوصف بالقبيح.

6- آثر يوسف الصديق دخول السجن ابتغاء مرضاة الله، وأن السجن أحب أي أسهل عليه وأهون من الوقوع في المعصية، لا أنّ دخول السجن مما يحبّ حقيقة. حكي أن يوسف عليه السّلام لما قال: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أوحى الله إليه: «يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت: السجن أحبّ إلي، ولو قلت: العافية أحبّ إلي لعوفيت» . 7- جمع يوسف عليه السّلام في دعائه ليكون قدوة للبشر بين التأثر بالنوازع البشرية والميل الإنساني إلى النساء وبين جهاد النفس الذي استعان بالله عليه، وأوضح أن الوقوع في أهواء النساء جهل، وكون المنزلق من زمرة الجاهلين، أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال الذين يعملون بنقض ما يعلمون. ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه. 8- استجاب الله تعالى دعاء يوسف، ولطف به، وعصمه عن الوقوع في الزنى لصبره والاستعاذة بالله من الكيد. وهو شأنه تعالى يستجيب دعاء كل ملهوف، مستعصم به، ممتنع عن المعاصي ابتغاء رضوان الله تعالى. 9- اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارا بسجن يوسف إلى مدة غير معلومة، كتمانا للقصة ألا تشيع بين الناس، بالرغم مما ثبت لهم من عفته ونزاهته، ورأوا الآيات، أي العلامات على براءته من قدّ القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحزّ الأيدي بالسكاكين، وقلة صبر النساء عن لقاء يوسف. 10- لم يرض يوسف عليه السلام بارتكاب الفاحشة لعظم منزلته وشريف قدره، بالرغم من إكراهه على ذلك بالسجن، وأقام خمسة أعوام. وبناء عليه قال العلماء: لو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا. فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا،

الفصل السادس من قصة يوسف يوسف في السجن ودعوته إلى الدين الحق [سورة يوسف (12) الآيات 36 إلى 40] :

فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحدّه، فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يجعله بين بلاءين، فإنه من أعظم الحرج في الدين: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 22/ 78] . الفصل السادس من قصة يوسف يوسف في السجن ودعوته إلى الدين الحق [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 40] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

الإعراب:

الإعراب: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ سمّى: يتعدى إلى مفعولين، يجوز حذف أحدهما، فالأول: ها في سَمَّيْتُمُوها والثاني: محذوف، وتقديره: سميتموها الهة. وأَنْتُمْ تأكيد تاء سميتموها، ليحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل فيها. البلاغة: أَعْصِرُ خَمْراً مجاز مرسل باعتبار ما سيكون، أي أعصر عنبا يؤول إلى خمر. المفردات اللغوية: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي أدخل يوسف السجن، وصادف أن دخل معه غلامان آخران للملك، أحدهما: ساقيه، والآخر صاحب طعامه أي خبازه، فرأياه يعبر الرؤيا، فقالا: لنختبرنه. قالَ أَحَدُهُما وهو الساقي. خَمْراً أي عنبا يكون خمرا. وَقالَ الْآخَرُ وهو صاحب الطعام الخباز. نَبِّئْنا خبرنا. بِتَأْوِيلِهِ بتعبيره. مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين. قال لهما مخبرا أنه عالم بتعبير الرؤيا. تُرْزَقانِهِ في منامكما. نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ في اليقظة أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الواقع. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما تأويله ويتحقق المراد منه، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد، ويرشدهما إلى الطريق القويم، قبل أن يجيبهما على سؤالهما. ذلِكُما أي ذلك التأويل مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالإلهام والوحي، وليس من قبيل التكهن أو التنجيم، وهذا أيضا فيه حثّ على إيمانهما ثم قواه بقوله: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ دين قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ هم: تأكيد كفرهم بالآخرة، وهذا تعليل لما قبله، أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ.. معطوف على تَرَكْتُ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق به. وهو دليل على أنه يجوز لغير المعروف أن يصف نفسه حتى يعرف، فيستفاد منه. ما كانَ لَنا أي ما كان ينبغي لنا أو ما صحّ لنا معشر الأنبياء. أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي شيء كان، لعصمتنا. ذلِكَ أي التوحيد. مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي. وَعَلَى النَّاسِ وعلى سائر الناس، ببعثتنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم، وهم الكفار لا يَشْكُرُونَ الله على هذا الفضل، فيشركون ويعرضون عنه. ثم صرح يوسف بدعوتهما إلى الإيمان فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا ساكنيه أو

المناسبة:

يا صاحبيّ فيه. أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ.. استفهام تقرير. أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي هل الأرباب الشتى المتعددون خير أم الله الواحد المنفرد بالألوهية، الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره؟ مِنْ دُونِهِ أي غيره. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها أصناما. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ حجة وبرهان، أي فليست هي إلا أشياء ذات أسامي أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها، فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة، والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما القضاء في أمر العبادة إلا لله وحده لأنه المستحق لها بالذات، من حيث إنه الواجب لذاته، الموجد للكل، المالك لأمره. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أمر على لسان الأنبياء ألا تعبدوا إلا الذي دلت عليه الحجج. ذلِكَ التوحيد الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الحق، وأنتم لا تميزون المعوج من القويم. وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، فإنه عليه السّلام بين لهم: أولا- رجحان التوحيد على تعدد الآلهة. وثانيا- برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الألوهية، فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير، وكلا القسمين منتف عن تلك الآلهة. وثالثا- نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دود. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار لا يَعْلَمُونَ فيخبطون في جهالاتهم، ولا يدرون ما يصيرون إليه من العذاب، فهم يشركون. المناسبة: بعد أن اتخذ العزيز وأهل مشورته قرارهم بحبس يوسف، بالرغم من اقتناعهم بعفته ونزاهته وبراءته، ذكر الله تعالى هنا تنفيذهم ذلك القرار الذي عزموا عليه، من إدخاله السجن، وأنهم لما أرادوا حبسه حبسوه وحبسوا معه اثنين من عبيد الملك، وأن الله لطف بهم إذ علّمه تعبير الرؤيا، وكان ذلك طريقا لإنقاذه من السجن.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: لما أرادوا حبس يوسف حبسوه، وحبسوا معه غلامين من عبيد الملك، أحدهما: ساقيه، والآخر: خبازه لأنه رفع إليه أنهما تمالا على سمه في طعامه وشرابه، وليس ذلك مصادفة، ولكن تقدير العزيز العليم، وكان يوسف مشهورا في السجن بصدق الحديث وتعبير الرؤيا. فرأيا رؤيا، فقال الساقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا يصير بعدئذ خمرا، وقال الخباز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، فقالا ليوسف: أخبرنا بتأويل وتفسير ما رأينا، فهل سيحدث حقا أو هو مجرد أضغاث أحلام؟ إِنَّا نَراكَ.. إنا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أي من المحسنين في علم التعبير لأنه متى عبّر لم يخطئ، كما قال: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أو من المحسنين الذين يريدون الخير والإحسان للناس. فانتهز يوسف هذه الفرصة، وهي ثقة هذين الرجلين به وبعلمه وإخلاصه، فاندفع يدعوهما ومن معهما في السجن إلى توحيد الله الخالص، وترك الأوثان، فكان دخوله السجن لحكمة. ومهد لدعوته بما يدل على المعجزة على صدقه، فقال لهما: لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما. وهذا من تعليم الله إياي بوحي منه وإلهام، لا بكهانة ولا عرافة ونحوهما من علوم البشر. وهذا يدل على أن يوسف أوحي إليه، وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين والمذنبين، فهم أقرب إلى التصديق بدعوته من غيرهم. وسبب الوحي أني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر وهم الكنعانيون وغيرهم من أهالي فلسطين، والمصريين الذين كانوا يعبدون آلهة متعددة كالشمس

(رع) والعجل (أبيس) والفراعنة (حكام مصر) فهؤلاء لا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد، وهم كافرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الصحيح الذي دعا إليه الأنبياء، كالاعتقاد بأن الفراعنة يعودون إلى الآخرة بأجسامهم المحنطة، ويكون لهم فيها الحكم والسلطان، كما كانوا في الدنيا. وتكرير لفظ هُمْ للتأكيد وبيان اختصاصهم بالكفر، ولمبالغتهم في إنكار المعاد. وقد هجرت طريق الكفر والشرك، وتركت ملة الكافرين الذين لا يصدقون بالله ولا يقرون بوحدانيته، وأنه خالق السموات والأرض، واتبعت ملة آبائي الأنبياء المرسلين: إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين يدعون إلى التوحيد الخالص. وتعبيره آبائِي مفيد أن الجد أب، وأنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه لإخباره بالمغيبات، ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله. وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه، ويعلمه ما لم يكن يعلم، ويجعله إماما يقتدى به في الخير، وداعيا إلى سبيل الرشاد. وذلك ترغيب بالإيمان بالله وتوحيده. ثم قرر منهج الأنبياء بصفة عامة، فقال: ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله، أي شيء كان، من ملك أو جني أو إنسي، فضلا عن أن شرك به صنما أو وثنا لا يسمع ولا يبصر. ذلك التوحيد، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو من فضل الله علينا، إذ هدانا إلى الإقرار بوجوده وتوحيده في ربوبيته وألوهيته، وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننبههم إلى الصواب ونرشدهم إليه، ونبعدهم عن طريق الضلال، فهو فضل إلهي على الرسل وعلى المرسل إليهم.

ولكن أكثر الناس المبعوث إليهم لا يشكرون فضل الله، فيشركون ولا يتنبهون، ولا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إبراهيم 14/ 28] . وبعد أن أبطل يوسف عليه السّلام عبادة الشرك والمشركين، وأثبت النبوة، دعا إلى التوحيد الخالص القائم على الاعتراف بإله واحد ورب واحد، لا بآلهة متعددة، وهكذا مبدأ الأنبياء يهدمون عبادة الوثنية أولا، ثم يقيمون الأدلة العقلية على وجود الله ووحدانيته، فقال: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ ... أي يا صاحبيّ في السجن، هل تعدد الآلهة وتشتت الأرباب المتفرقين في الذوات والصفات التي تدعو إلى النزاع والتصادم وفساد الكون خير لكما ولغيركما في طلب النفع ودفع الضر والإعانة في عالم الغيب، أو الله الواحد الأحد الذي لا يحتاج لغيره ولا ينازع في تصرفه وتدبيره، القهار بقدرته وإرادته، الذي ذل كل شيء لجلاله وعظمته؟! ثم بين حقيقة آلهتهم فقال: ما تَعْبُدُونَ ... أي إن تلك الآلهة التي تعبدونها وتسمونها آلهة إنما هي أسماء مجردة لمسميات وضعوها من تلقاء أنفسهم، ليس لها مقومات، ولا مستند من عند الله، وما أنزل الله بتسميتها أربابا حجة ولا برهانا، حتى تصح عبادتها ويطيعها الناس، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي. ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله، وقد أمر عباده قاطبة ألا يعبدوا إلا إياه، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق الذي لا عوج فيه، فلهذا كان أكثرهم مشركين، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- قدّر الله تعالى مع سجن يوسف سجن اثنين آخرين من عبيد الملك، كانا سبب الإفراج عنه من السجن في المستقبل. 2- إن تعبير الأحلام يحتاج لعلم وصلاح وتقوى وإحسان، وإن الرؤيا قد تكون حقا، قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان عن أنس: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» . 3- كان يوسف بشهادة السجناء من زمرة المحسنين، وإحسانه: أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزّي الحزانى. وأنه كان من العالمين الذين أحسنوا العلم، فقولهم فيه يعني أنه عالم يؤثر الإحسان، ويأتي بمكارم الأخلاق، وجميع الأفعال الحميدة. 4- أعلن يوسف للسائلين اللذين سألاه عن تفسير رؤيا في المنام: أنه كان يخبرهما عن نوع الطعام وصفاته الذي يأتيهما من جهة الملك أو غيره، قبل الإتيان به، بوحي من الله عز وجل، لا تكهّنا وتنجيما، وهو إخبار بالغيب دال على نبوته، ومعجزة مثبتة لرسالته. 5- النبي المكلف بالدعوة ينتهز كل الفرص المناسبة للقيام بواجبه، وهذا ما فعله يوسف عليه السّلام، فإنه دعا إلى محاربة الشرك والوثنية، وإبطال عبادة المشركين، وإلى توحيد الله تعالى، متبعا ملة أجداده وآبائه الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أنبياء على الحق، وفائدة ذكر هؤلاء الأنبياء أنه عليه السّلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب، قرن به كونه من أهل بيت النبوة.

وليس من شأن الأنبياء الإشراك بالله أيا كان نوع الشرك. وهذا من فضل الله على الرسول مما يشير إلى عصمته من الزنى، والمرسل إليهم هم المؤمنون الذين عصمهم الله من الشرك. وقوله مِنْ شَيْءٍ رد على كل أصناف الشرك كعبادة الأصنام، وعبادة النار، وعبادة الكواكب، وعبادة الطبيعة، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله. ولكن أكثر الناس لا يشكرون على نعمة الإيمان والتوحيد. وقوله مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله تعالى. 6- نفى يوسف بالدليل العقلي والنقلي تعدد الآلهة، وأثبت صحة القول بوحدانية الإله وربوبيته. 7- إن الآلهة المزعومة من الأصنام والأوثان وغيرها أسماء مخترعة من عند الناس أنفسهم، ليس لها من الألوهية شيء إلا الاسم لأنها جمادات، وأما مسمياتها فليست لها حقيقة موضوعية، ويرفضها العقل والنقل. 8- لا حكم إلا لله، لأنه خالق الكل، فهو المستحق العبادة وحده لا شريك له، لذا أمر ألا يعبد سواه. 9- الدعوة إلى توحيد الإله هو الدين المستقيم أو القويم الذي لا عوج فيه، ولكن أكثر الناس لا يدرون حقيقة الدين الصحيح. 10- أورد الرازي خمس حجج على بطلان تعدد الآلهة وهي بإيجاز وتصرف ما يأتي «1» :

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 140 وما بعدها.

الأولى- أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم، وهو المراد بقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل والتنازع والصراع، أما توحيد الإله فيقتضي حصول النظام وحسن الترتيب. الثانية- أن هذه الأصنام ونحوها من البشر والكواكب معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة. الثالثة- أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته لأنه لو كان له ثان، لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك. وهذا دليل على فساد القول بعبادة الأوثان لأنها على فرض كونها نافعة ضارة لا نعلم حصول النفع ودفع الضرر من هذا الصنم، أو من ذاك، أو بالتعاون والاشتراك، فلا يعرف المستحق للعبادة، هو هذا أم ذاك. الرابعة- لو فرض أن هذه الأصنام تنفع وتضر، على ما يزعم أصحاب الطلاسم، فإن ذلك في وقت مخصوص وواقعة مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات في كل الأوقات، فكان الاشتغال بعبادته أولى. الخامسة- إن اتصاف الإله بصفة الْقَهَّارُ يقتضي ألا يقهره أحد سواه، وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه، وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا، ويجب أن يكون واحدا لا متعددا، إذ لو تعدد لما كان قاهرا لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا، وهذا لا ينطبق على الأفلاك والكواكب والنور والظلمة والطبيعة ونحوها من الآلهة المزعومة. 11- يستحسن للعالم إذا استفتاه أحد الجهال والفساق أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك.

الفصل السابع من قصة يوسف:

12- إذا جهلت منزلة العالم فوصف نفسه بما هو ملائم المسألة، وكان غرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين، لم يكن ذلك من باب تزكية النفس المنهي عنها «1» : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم 53/ 32] . الفصل السابع من قصة يوسف - 1- تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن ووصيته للناجي منهما [سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) المفردات اللغوية: أَمَّا أَحَدُكُما أي الساقي فيخرج بعد ثلاث رَبَّهُ سيده خَمْراً يسقيه خمرا على عادته وَأَمَّا الْآخَرُ الخباز، فيخرج بعد ثلاث، فيصلب، فقالا: كذبنا وما رأينا شيئا، فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي قطع الأمر الذي سألتما عنه، صدقتما أم كذبتما. والاستفتاء: طلب الفتوى عن السؤال المشكل، والفتوى: جواب السؤال. لِلَّذِي ظَنَّ أيقن أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الساقي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ سيدك، فقل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما فَأَنْساهُ أي الساقي ذِكْرَ يوسف فَلَبِثَ مكث يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع: من الثلاث إلى التسع، قيل: إنه مكث سبعا في السجن.

_ (1) تفسير الكشاف: 2/ 137

المناسبة:

المناسبة: بعد أن قرر يوسف عليه السّلام مسألة التوحيد وعبادة الله والنبوة، عاد إلى الإجابة عن السؤال، وتعبير الرؤيا. التفسير والبيان: قال يوسف: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا- ولكنه لم يعينه في خطابه لئلا يحزن- فيسقي سيده خمرا كما كان في عادته. وقوله: رَبِّهِ لم يقصد ربوبية العبودية، فإن ملك مصر في زمن يوسف لم يدّع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى عليه السّلام. روي أن يوسف قال له: ما أحسن ما رأيت، أما حسن العنبة فهو حسن حالك، وأما الأغصان: فثلاثة أيام، يوجه إليك الملك عند انقضائهن، فيردك إلى عملك، فتصير كما كنت، بل أحسن «1» . وهذا دليل على أنه كان بريئا من تهمة المشاركة في تسميم الملك. وأما الآخر: وهو الخباز الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه: فيصلب، فتأكل الطيور الجوارح كالنسر والعقاب والصقر والحدأة والرخمة من رأسه. روي أن يوسف قال له: بئسما رأيت، السلال الثلاث ثلاثة أيام، يوجه إليك الملك عند انقضائهن، فيصلبك، وتأكل الطير من رأسك، وهذا يدل على أن الخباز هو الذي اتهم بتسميم الملك وثبتت عليه التهمة. لكن تفاصيل هذه الرواية والتي قبلها تعارض ظاهر الآية. ثم نقل في التفسير: أنهما قالا: ما رأينا شيئا فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي لا تناقشا فإن الأمر قد نفذ، وسبق الحكم الذي تسألان عنه. والاستفتاء لغة: السؤال عن المشكل، والفتوى: جوابه.

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 142

وهذا صحيح لأن يوسف أعلم الصاحبين أن هذا قد فرغ منه، وهو واقع لا محالة لأن الرؤيا على رجل طائر، ما لم تعبّر، فإذا عبرت وقعت. روى الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت» . وجواب يوسف ليس مجرد تعبير رؤيا مبني على الظن والحسبان، وإنما اعتمد على الوحي من الله تعالى، والوحي يفيد القطع واليقين، لا الظن والتخمين. ثم أخبر يوسف عليه السّلام خفية لمن ظن أي تيقن أنه ناج وهو الساقي، دون علم الآخر، لئلا يشعره أنه المصلوب، وقال له: اذكر قصتي عند سيدك وهو الملك، لعله يخرجني من السجن بعد أن علم براءتي، وهذا من قبيل الأخذ بالأسباب الظاهرية المطلوبة عادة وشرعا، للنجاة والإنقاذ. فأنسى الشيطان ذلك الناجي تذكير الملك بقصة يوسف، وكان النسيان من جملة مكايد الشيطان، لئلا يخرج نبي الله يوسف من السجن، فيدعو إلى توحيد الله وعبادته، ومقاومة الشرك، ومطاردة وساوس الشيطان. فلبث يوسف في السجن منسيا مظلوما بضع سنين أي من الثلاث إلى التسع، قيل: إنه مكث سبعا، قال وهب بن منبّه: مكث أيوب في البلاء سبعا، ويوسف في السجن سبعا، وعذب بختنصّر سبعا. وقال مقاتل: مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا. وقال ابن عباس: ثنتا عشرة سنة، وقال الضحاك: أربع عشرة سنة. والرأي الأول أصح لأنه داخل في معنى البضع. ومن المعلوم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن

فقه الحياة أو الأحكام:

الأولى بالصدّيقين ألا يلجأوا إلا إلى الله في رفع الأسباب، فهو مسبب الأسباب ورافعها. روي أن جبريل جاء إلى يوسف، وهو في السجن، معاتبا له إذ استغاث بالآدميين، فقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك؟! قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجبّ؟ قال: الله تعالى، قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف تركت ربك، فلم تسأله، ووثقت بمخلوق؟! قال: يا ربّ، كلمة زلّت مني، أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين «1» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيتان إلى ما يلي: 1- إن تعبير الرؤيا يعتمد على العلم والصلاح والتقوى، فلا يفيد ذلك من العالم إلا الظن، وأما يوسف عليه السّلام فكان تعبيره الرؤيا مقترنا بالوحي من ربه، فيفيد اليقين. 2- من كذب في رؤياه، ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قال: العلماء: لا يلزمه، وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، فأوجد الله تعالى ما أخبر به الرائي كما قال، تحقيقا لنبوته. 3- الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة، لا إنكار عليه،

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 195- 196

- 2 - تأويل يوسف رؤيا الملك [سورة يوسف (12) الآيات 43 إلى 49] :

لكن الأمر بالنسبة ليوسف الصدّيق كان خلاف الأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. 4- كان من جملة مكايد الشيطان إنساء الناجي من السجن تذكير مولاه الملك بقصة يوسف عليه السّلام، لئلا يطلع من السجن. 5- لبث يوسف في السجن بضع سنين، وهي إما خمس سنين، وإما سبع سنين، كما روي عن بعض المفسرين. وعلى أي حال فهي مدة طويلة، صبر فيها يوسف على مراد الله، وآثر السجن على الوقوع في معصية الزنى. - 2- تأويل يوسف رؤيا الملك [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

الإعراب:

الإعراب: لِلرُّءْيا اللام زائدة للبيان أو لتقوية العامل، كما في آية: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] لأنها تزاد في المفعول به إذا تقدم على الفعل، وقد جاء أيضا زيادتها معه، وليس بمتقدم، مثل قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النمل 27/ 72] لكن زيادتها مع التقديم أحسن. دَأَباً منصوب على المصدر، وقرئ بسكون الهمزة وفتحها. البلاغة: إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ استعمل صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية بين كل من سِمانٍ.. وعِجافٌ وخُضْرٍ.. ويابِساتٍ طباق. أَضْغاثُ أَحْلامٍ شبه اختلاط الأحلام المشتملة على المحبوب والمكروه، والسّار والمحزن باختلاط الحشيش المجموع من أصناف متنوعة. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ براعة استهلال تتضمن الاستعطاف بالثناء للوصول إلى الجواب. يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ مجاز عقلي من قبيل الإسناد إلى الزمان والمراد به الناس لأن السنين لا تأكل، وإنما يأكل الناس ما ادخروه فيها. لمفردات اللغوية: وَقالَ الْمَلِكُ ملك مصر وهو الريان بن الوليد إِنِّي أَرى أي رأيت سِمانٍ جمع سمينة يَأْكُلُهُنَّ يبتلعهن عِجافٌ سبع من البقر هزيلة ضعيفة، جمع عجفاء وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ جمع سنبلة وهي التي تحمل الحب الذي انعقد، واليابسات: ما آن حصاده الْمَلَأُ أشراف القوم تَعْبُرُونَ تفسرون ببيان المعنى المراد أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ بينوا لي تعبيرها، وهو الانتقال من الصور الخيالية إلى الواقع الحسي المشاهد. أَضْغاثُ أخلاط، واحدها ضغث: وهو حزمة النبات أو مجموعة الحشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة أَحْلامٍ جمع حلم بضم اللام وتسكينها: ما يرى في النوم، وهو قد يكون واضح المعنى كأفكار اليقظة، وقد يكون غامضا مضطربا يشبه مجموعة الحزم والحشائش التي لا تناسب بينها. وإنما جمعوا الأحلام للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان والكذب والزيف وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة، أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة، وهو مقدمة ثانية للاعتذار بالجهل بتأويله.

المناسبة:

وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي من الفتيين وهو الساقي وَادَّكَرَ أي تذكر يوسف، وفيه أبدل التاء في الأصل دالا، ثم أدغم في الدال أصله «اذتكر» بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكر يوسف بعد طائفة من الزمن مجتمعة أي مدة. فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده علم أو إلى السجن، فأتى يوسف. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي يا يوسف الكثير الصدق أو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله، وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك وأصحابه أو إلى أهل البلد إذ قيل: إن السجن لم يكن فيه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما من الرجوع. تَزْرَعُونَ ازرعوا دَأَباً متتابعة، على عادتكم المستمرة، وهي تأويل السبع السمان فَذَرُوهُ اتركوه وادخروه فِي سُنْبُلِهِ لئلا يفسد أو يسوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين، فادرسوه. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد السبع المخصبات سَبْعٌ شِدادٌ مجدبات صعاب، وهي تأويل السبع العجاف يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن، فأسند إلى السنين على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون وتدخرون للبذر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السبع المجدبات عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ بالمطر من الغوث والإغاثة من القحط وَفِيهِ يَعْصِرُونَ الأعناب وغيرها لخصوبته. وهذه بشارة، بعد أن أوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي، أو بما جرت به السنة الإلهية على أن يوسع على عباده، بعد ما ضيق عليهم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن، ذكر تأويل رؤيا ملك مصر الذي كان من ملوك العرب المعروفين بالرعاة (الهكسوس) بعد أن أعلن الكهنة والعلماء وأهل الرأي عجزهم عن تأويلها، وقالوا: أضغاث أحلام، فكان هذا سببا في اتصال يوسف بالملك. التفسير والبيان: هذه رؤيا ملك مصر التي قدر الله أن تكون سببا لخروج يوسف عليه السّلام من السجن معززا مكرما، والقصة أن الملك هالته هذه الرؤيا وتعجب من

أمرها، وكيفية تفسيرها، فجمع الكهنة وكبار رجال دولته وأمراءه، فقص عليهم ما رأى، وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك، واعتذروا عن تأويلها بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أخلاط أحلام. والمعنى: وقال ملك مصر: إني رأيت في منامي رؤيا أدهشتني، وهي أن سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، أكلتهن سبع بقرات عجاف هزيلات، وسبع سنبلات خضر انعقد حبها، غلبتها سبع أخر يابسات آن حصادها، فالتوت عليها. فقال للملأ من قومه وهم الكهنة والعلماء: عبّروا على هذه الرؤيا، إن كنتم تعلمون تعبير الرؤيا، وبيان معناها الخيالي، وترجمتها إلى الواقع الحقيقي. فقالوا: هذه أحلام مختلطة من خواطر وخيالات تتراءى للنائم في دماغه، ولا معنى لها، وتنشأ من اضطراب الهضم، وتلبّك المعدة، وتعب النفس أحيانا، ولسنا عالمين بتأويل أمثالها، فلو كانت رؤيا صحيحة، لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها. وحينئذ تذكر الذي نجا من الموت من صاحبي يوسف في السجن، وهو الساقي، وكان الشيطان قد أنساه ما أوصاه به يوسف، من عرض أمره للملك، وكان تذكره بعد مدة من الزمان أي بعد نسيان، فقال للملك والملأ الذين جمعهم حوله: أنا أخبركم بتأويل هذا المنام، فابعثوني (وهو خطاب للملك والجمع، أو للملك وحده على سبيل التعظيم) إلى يوسف الصديق الموجود حاليا في السجن. فبعثوه فجاء فقال: يا يوسف، أيها الرجل كثير الصدق في أقوالك وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، أفتنا في منام رآه الملك، لعل الله يجعل لك فرجا ومخرجا بسبب تأويلك رؤياه. فذكر له يوسف النبي عليه السّلام تعبيره من غير لوم وعتاب على نسيانه

ما وصاه به، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك، فقال: مبينا لهم خطة أربع عشرة سنة: إنه يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات. ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تكون سببا للثمرات والزروع، وهن السنبلات الخضر. ثم أرشدهم إلى ما يفعلون في سني الخصب، فقال: مهما جنيتم في هذه السبع السنين الخصب من الغلال والزروع، فادخروه في سنبله، لئلا يأكله السوس، إلا المقدار القليل الذي تأكلونه، فادرسوه، ولا تسرفوا فيه لتنتفعوا بالباقي في السبع الشداد الصعاب، وهن السبع السنين الجدب التي تعقب هذه السنوات السبع المتواليات، وهن البقرات العجاف، اللاتي تأكل السمان لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب، وهن السنبلات اليابسات، ففي سني القحط لا تنبت الأرض شيئا، وما بذروه لا يرجع منه شيء، لهذا قال: يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا.. أي إن أهلها يأكلون كل ما ادخرتم في تلك السنين السابقة لأجل السنين الجدباء، إلا قليلا مما تحزنون وتحرزون وتدخرون لبذور الزراعة. ويلاحظ أنه نسب الأكل للسنين وأراد به أهلها. والخلاصة: تأول يوسف عليه السّلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين محصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة. ثم بشرهم بمجيء عام يغاث فيه الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر، وتغل البلاد، ويعصر الناس فيه ما كانوا يعصرون عادة من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب التمر والعنب ونحوها. وهذا الإخبار بمغيبات المستقبل من وحي الله وإلهامه، لا مجرد تعبير للرؤيا، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرؤيا بمجيء عام مبارك خصيب، كثير الخير، غزير النعم، وهو إخبار من جهة الوحي.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات تعبير رؤيا الملك الذي كان سببا في خروج يوسف من السجن، وقد دلت على الآتي: 1- لما دنا فرج يوسف عليه السّلام رأى الملك الأكبر: الرّيان بن الوليد رؤياه، فعرضها على الكهنة والعلماء، فاعتذروا عن تأويلها، وكان عجزهم عن التعبير سببا في إحالة الأمر إلى يوسف. 2- كانت رؤيا الملك في آخر الأمر بشرى ورحمة ليوسف. 3- الرؤيا نوعان: منها حق، ومنها أضغاث أحلام وهي الكاذبة، كما قال ابن عباس. 4- في الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أوّل ما تعبر لأن القوم قالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ ولم تقع كذلك فإن يوسف فسّرها على سنّي الجدب والخصب، فكان كما عبّر، وأما حديث أبي يعلى عن أنس مرفوعا: «الرؤيا لأول عابر» فيظهر أنه ضعيف. وفيها دليل أيضا على فساد أن الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت. وأما الحديث المتقدم الذي رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ والمعنى فلم تثبت صحته. 5- إن تذكر الخير والإقدام على فعله بعد نسيان، كما حدث للناجي الذي نسي ذكر أمر يوسف للملك، مردّه إلى القضاء والقدر والتوفيق الإلهي. 6- كان ذهاب ساقي الملك إلى يوسف في سجنه سببا في معرفة مكانه في الفضل والعلم، فخرج من السجن، كما كان تأويل الرؤيا سببا في إنقاذ أهل مصر من المجاعة مدة سبع سنوات، وهكذا فإن الأنبياء والرسل عليهم السلام رحمة

للناس جميعا، سواء في تصحيح العقيدة وتقويم الأخلاق، وتصحيح السلوك، أو في الحياة المعيشية والاقتصادية. وقد استفيد من فعل يوسف سلامة الخطة ونجاح سياسة التخطيط، وتعليم الناس كيفية حفظ الحبوب من التسوس، وهو إرشاد زراعي رفيع المستوى. 7- قال القرطبي: آية تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ.. أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل، ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق «1» . 8- كان إخبار يوسف عليه السّلام عن عام الإنقاذ والخصب بعد أربع عشرة سنة وحيا من الله وإلهاما له، وتلك معجزة تدل على صدق نبوته. 9- دل قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي مما تحبسون أو تدخرون لتزرعوا، على أن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وهو يدل أيضا على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة. 10- قال القرطبي أيضا: هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرّج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن فكيف إذا كانت آية لنبي، ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله وبين عباده «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 203 (2) المرجع السابق: 9/ 204

الفصل الثامن من قصة يوسف:

11- لم يكن لإخبار يوسف عليه السّلام عن عام الغوث إشارة في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله، وفيه تطمين لأهل مصر بشيوع الرخاء الاقتصادي، والرفاه المعيشي، واستقرار أحوال الناس بحسب عاداتهم القديمة بعصر الأعناب، واستخراج الأدهان، وحلب الألبان لكثرتها، وكثرة النبات، وذلك دليل على رحمة الإنسان والحيوان، وهو فضل من الله وإحسان. الفصل الثامن من قصة يوسف - 1- طلب الملك رؤية يوسف والأمر بإخراجه من السجن وامتناعه من الخروج حتى تثبت براءته [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) الإعراب: لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول، أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني، أو ظرف مكان أي بمكان الغيب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَقالَ الْمَلِكُ بعد ما جاءه الرسول بتعبير الرؤيا وأخبره بتأويلها ائْتُونِي بِهِ أي بالذي عبرها فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ أي لما جاء الرسول إلى يوسف وطلبه للخروج قالَ قاصدا إظهار براءته فَسْئَلْهُ اطلب منه أن يسأل ما بالُ النِّسْوَةِ.. أي ما حال النسوة الذي يشغل البال إِنَّ رَبِّي سيدي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي: أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه، وعلى أنه بريء مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن، فرجع فأخبر الملك فجمعهن. وإنما تريث يوسف في الخروج، وقدم سؤال النسوة ليظهر براءته، ويعلن أنه سجن ظلما، وهذا يدل على أنه ينبغي على المرء أن يجتهد في نفي التهم، ويتقي مواضعها. وإنما قال: فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ ولم يقل: فاسأله أن يفتش عن حالهن، إغراء له بالبحث وتحقيق الحال. وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب. ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن وأمركن العظيم، والخطب: أمر يحق أن يخاطب به صاحبه إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا إليكن حاشَ لِلَّهِ تنزيه لله وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله مِنْ سُوءٍ ذنب حَصْحَصَ الْحَقُّ ظهر الحق وثبت واستقر وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: هي راودتني عن نفسي. فأخبر يوسف بذلك فقال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أي طلب البراءة والتثبيت ليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ لم أخنه في أهله بظهر الغيب أي وراء الأستار والأبواب المغلقة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم، فأوقع فعل يَهْدِي على الكيد مبالغة. وفيه تعريض بامرأة العزيز: زليخا أو راعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته. المناسبة: بعد أن عاد الساقي إلى الملك يخبره بتعبير يوسف عليه السّلام للرؤيا، استحسنه، وطلب الملك رؤيته حتى يتحقق بنفسه صدق ما تشير إليه الرؤيا، إذ ليس الخبر كالعيان. وهذا الطلب يدل على فضيلة العلم، وأن العلماء يستشارون في مهام الأمور، وأن العلم كان سببا لخلاص يوسف من المحنة الدنيوية، وهو أيضا سبب للخلاص من المحن الأخروية، لذا طلب يوسف التحقيق في التهمة المشهورة: تهمة امرأة العزيز له.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن موقف الملك الذي استراح لتعبير يوسف رؤياه، فعرف فضل يوسف وعلمه، وسعة اطلاعه، واهتمامه بأهل بلده ورعاياه، وأدرك أن تفسير الرؤيا بما سمع كلام خطير يدل على رجاحة عقل يوسف وقوة ذكائه، فهو جدير بمقابلته شخصيا ليسمع منه الأمر. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي أخرجوه من السجن، وأحضروه لي، كي أستمع إلى كلامه، وأتلمس مصداق الرؤيا بنفسي، فلما جاءه الرسول بذلك، امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن كان ظلما وعدوانا. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلّم موقف يوسف عليه السّلام، ونبه على فضله وشرفه، وعلو قدره وصبره، ففي مسند أحمد والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «.. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، لأجبت الداعي» . قالَ: ارْجِعْ.. قال يوسف ردا على طلب مثوله أمام الملك: ارجع إلى سيدك، فاسأله عن حال النسوة اللاتي جرحن أيديهن إذ لا أحب أن آتيه وأنا متهم بمسألة سجنت من أجلها، واطلب من الملك أن يحقق في تلك القضية قبل أن آتيه، ليعرف حقيقة الأمر، إن ربي العالم بخفايا الأمور عليم بكيدهن وتدبيرهن وما دبرن لي من كيد. فجمع الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطبا لهن كلهن، وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز: ما خطبكن أي ما شأنكن وخبركن حين راودتن يوسف عن نفسه يوم الضيافة، أو ما شأنكن الخطير حين دعوتن يوسف إلى ارتكاب الفاحشة؟!

قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ.. أجبن الملك: معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء، وهو تعبير أريد به تبرئته والتعّجب من نزاهته وعفّته، أي حاشا لله أن يكون يوسف متّهما، والله ما علمنا عليه سوءا في تاريخه الطويل. وحينئذ قالت امرأة العزيز: الآن تبيّن الحقّ وظهر، أنا راودت يوسف عن نفسه، لا هو، فإنه استعصم وامتنع أيّما امتناع، وإنه لصادق في قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقد أرادت بذلك مكافأة يوسف على صون سمعتها، وإخفاء أمرها، وإعراضه عن شأنها. وهو اعتراف صريح من امرأة العزيز ببراءة يوسف من الذّنوب والعيوب. ثم قالت: ذلك الاعتراف منّي بالحقّ، ليعلم يوسف في سجنه أنّي لم أخنه أثناء غيبته، أو أطعن في شرفه وطهارته وعفّته. ويجوز كما رأى الزّمخشري أن يكون ذلك الكلام كلام يوسف عليه السّلام وهو متّصل بقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ والمعنى: ذلك الأمر الذي فعلته من ردّ الرّسول والتّثبت ومطالبة الملك بالتّحقيق في أمري، حتى تظهر براءتي أمام الملك والنّاس، وليتيقّن العزيز أنّي لم أخنه في زوجته أثناء غيابه، بل تعففت عنها «1» . وعقّب أبو حيان على ذلك فقال: ومن ذهب إلى أن قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ.. إلخ من كلام يوسف يحتاج إلى تكلّف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدلّ على أنه من كلام يوسف «2» . وقال الزّمخشري: كفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السّلام. والظاهر لي هو رأي أبي حيان. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وليعلم الجميع أن الله تعالى لا ينفذ ولا يسدّد كيد الخائنين، بل يبطله ويبدد أثره.

_ (1) الكشاف: 2/ 142 (2) البحر المحيط: 5/ 317 [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

وإذا كان هذا من كلام يوسف فكأنه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانة زوجها، وتعريض بزوجها في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- دلّ رجوع الملك إلى يوسف عليه السّلام على فضيلة العلم والمعرفة التي تميّز بها يوسف عليه السّلام على جميع الكهنة والعلماء حول الملك في مصر. 2- العلم المقرون بالعمل الصالح سبب للخلاص من المحنة الدّنيوية والأخروية، فقد نجّى الله يوسف من السّجن، وجعله من المحسنين الذين اختارهم الله لديه في الآخرة. 3- لا بأس بانتهاز الفرصة لإثبات الحقّ والصّدق والبراءة، فقد تريّث يوسف وتمهّل عن إجابة طلب الملك له. 4- الاعتصام بالصّبر والحلم وعزّة النّفس وصون الكرامة من أصول أخلاق الأنبياء، فإنّ يوسف تذرّع بالصّبر وحرص على إعلان براءته وعفّته، وصون سمعته في المجتمع. ورد في الصّحيحين مرفوعا: «ولو لبثت في السّجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي» . وفي رواية: «يرحم الله أخي يوسف، لقد كان صابرا حليما، ولو لبثت في السّجن ما لبثه، أجبت الدّاعي، ولم ألتمس العذر» ، وفي رواية أحمد: «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر» ، وفي رواية الطّبري: «يرحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إليّ، لخرجت سريعا، أن كان لحليما ذا أناة» . 5- الواجب شرعا عدم المبادرة إلى الاتّهام بالسّوء والطّعن بالأعراض، فإن

يوسف عفّ عن اتّهام النّساء بالسّوء حتى يتحقّق الملك ذاته من التّهمة. وقدّر جميل أو معروف سيدته امرأة العزيز، فلم يذكرها بسوء، وفاء لزوجها وبرّا له، ورحمة لها وسترا عليها، وعفّة القول أجدى في مستقبل الزّمان. 6- من الخصال الحسنة: الجرأة في إعلان الحقّ، والصّراحة في إظهار الحقائق، وعدم التّردد في إنصاف الأبرياء وتصديق الأتقياء، فإن امرأة العزيز أعلنت براءة يوسف في مجتمع النّسوة أثناء الضّيافة فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وكررت اعترافها بالحقّ بعد مضي سنوات على الحادث بعد أن زجّ بيوسف في قيعان السّجون، فقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ.. ثمّ أكدّت ذلك بقولها: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي أقررت بالصدق ليعلم أنّي لم أكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وترفّعت عن الخيانة. 7- المؤمن الصّادق هو الذي يؤثر مرضاة الله تعالى، وإعزاز دينه على أي شيء في هذا الوجود، فإن يوسف حرص على تمسّكه بدينه وبمرضاة ربّه في كلّ ظروف المحنة التي مرّ بها مع النّساء. 8- إن مصير الخيانة والكيد الفشل وعدم تحقيق النّتائج: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ومعناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم، وإنما يبطله، ولا يسدّده، ولا ينفذه، وتكون عاقبة الكيد الفضيحة والاضمحلال

تتمة الفصل الثامن:

[الجزء الثالث عشر] [تتمة سورة يوسف] [تتمة الفصل الثامن] بسم الله الرحمن الرحيم - 2- النّفس الأمّارة بالسّوء [سورة يوسف (12) : آية 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) البلاغة: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أمّارة: من صيغ المبالغة، على وزن «فعّال» مبالغة في وصف النّفس بالاندفاع نحو المعاصي والمهالك. المفردات اللغوية: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الزّلل أو السّوء. إِنَّ النَّفْسَ جنس النّفس. لَأَمَّارَةٌ كثيرة الأمر، مائلة بالطبع إلى الشّهوات. إِلَّا ما بمعنى «من» . والمعنى إلّا من رحم ربّي من النّفوس فعصمه، أو إلا وقت رحمة ربّي، وقيل: إن الاستثناء منقطع، أي ولكن رحمة ربّي هي التي تصرف الإساءة. والآية على الرّاجح حكاية قول امرأة العزيز: زليخا أو راعيل، والمستثنى نفس يوسف وأمثاله. وقيل: ذلك من قول يوسف، والمعنى: لا أنزهها، تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتّوفيق. المناسبة: هذه الآية من تتمة كلام امرأة العزيز، متّصلة بما قبلها، قال أبو حيان: الظاهر أن هذا كلام امرأة العزيز، وهو داخل تحت قوله: قالَتِ والمعنى: ذلك الإقرار والاعتراف بالحقّ، ليعلم يوسف أنّي لم أخنه في غيبته، والذّبّ عنه،

التفسير والبيان:

وأرميه بذنب هو منه بريء، ثم اعتذرت عمّا وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشّهوات بقولها: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، والنّفوس مائلة إلى الشّهوات، أمّارة بالسّوء «1» . وكذلك قال ابن كثير: هذا القول أقوى وأظهر: لأن سياق الكلام كله من امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السّلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك «2» . التفسير والبيان: قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحقّ، وليعلم يوسف أنّي لم أخنه في غيبته، وهو سجين، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بيوسف، وأني لم أرتكب الفاحشة، فلم يحدث مني إلا مجرد المراودة أو المغازلة، فامتنع وأبى ولاذ بالفرار، ولا أنزّه نفسي من الزّلل والخطأ، إن النّفوس ميّالة بالطّبع إلى الشّهوات والأهواء. إلا من رحمه الله الخالق، فصرف عنه السّوء والفحشاء كيوسف وأمثاله. ولكني لا أيأس من رحمة الله، إنّ ربّي كثير المغفرة، رحيم بالعباد. وفي قول مرجوح: إن هذه الآية حكاية لقول يوسف، بمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجه أثناء غيبته، وحال ثقته بي، وائتمانه على عرضه، وما أبرئ نفسي البشريّة من خواطر القلب، فكلّ نفس ميّالة بالطّبع للشّهوات والأهواء، إلا النّفس التي عصمها الله من الانزلاق في المعاصي، ووفقها للاستقامة، وتلك هي نفس الأنبياء، وسيرة الصّلحاء، إنّ ربّي غفّار لذنوب المخطئين، رحيم بهم إذا بادروا إلى التّوبة والإنابة والتّضرّع إلى الله، ليخلصهم من آثار الذّنوب، ويطهّر نفوسهم من شوائب المعاصي.

_ (1) البحر المحيط: 5/ 317 (2) تفسير ابن كثير: 2/ 482

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على أنّ أكثر النّفوس نزّاعة للشّهوة، ميّالة للهوى، ذات نزعة شريرة، تحتاج إلى مجاهدة ومكافحة ومراقبة وتحذير. جاء في الخبر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شرّ غاية، وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية؟! قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب في الأرض. قال: فو الذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم» . واستدلّ أهل السّنّة بآية: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي على أن الطّاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله، وعلى أن انصراف النّفس من الشّر لا يكون إلا برحمته. ودلّت الآية أيضا على مدى فضل الله وإحسانه فهو غفور لذنوب عباده، رحيم بهم إذا هم تابوا وأنابوا وأحسنوا العمل، أي يغفر للمستغفر لذنوبه، المعترف على نفسه، ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه. الفصل التّاسع من قصّة يوسف يوسف في رئاسة الحكم ووزارة الماليّة [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصا لنفسي دون شريك. فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي فلما أتوا به فكلّمه، وشاهد منه الرّشد والدّهاء. مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة. أَمِينٌ مؤتمن على كلّ شيء. خَزائِنِ الْأَرْضِ أرض مصر. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل: كاتب حاسب. وَكَذلِكَ أي كإنعامنا عليه بالخلاص من السّجن. فِي الْأَرْضِ أرض مصر. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ينزل من بلاد مصر أي مكان أراد، فصار صاحب الأمر والحكم بعد الضّيق والحبس. وفي القصّة كما يقول السّيوطي: أن الملك توّجه وختّمه وولاه مكان العزيز، وعزله، ومات بعد، فزوّجه امرأته، فوجدها عذراء، وولدت له ولدين، وأقام العدل بمصر، ودانت له الرّقاب. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدّنيا والآخرة. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفّي أجورهم عاجلا وآجلا. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدّنيا. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشّرك والفواحش، لعظمه ودوامه. المناسبة: بعد أن تحقق الملك الأكبر من أمر النّسوة بناء على طلب يوسف عليه السّلام، وظهرت له براءته وعفّته، طلب إحضاره إليه من السّجن، ليصطفيه لنفسه، فلما سمع منه تعبير رؤياه، أعجب به وبعلمه وحسن أدبه، وأعزّه وأنزله لديه مكانة عالية، وآمنه على نفسه، وائتمنه على كلّ شيء، وسلّمه مقاليد الحكم والسّلطة، وفوّض إليه تصريف وإدارة الأمور السياسيّة والماليّة في جميع أنحاء مصر. التفسير والبيان: المراد بالملك هنا: الملك الأكبر، وليس العزيز على الرّأي الرّاجح، لطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض، ولأنه كان قبل ذلك خالصا للعزيز، والآن يريد الملك الأكبر (الرّيان بن الوليد) استخلاصه لنفسه.

والمعنى: وقال الملك: أحضروه إليّ من سجنه، أجعله من خاصّتي وأهل مشورتي وموضع ثقتي، فلما خاطبه الملك وتعرّف عليه، ورأى فضله وعلمه وبراعته، وحسن أدبه، وسموّ أخلاقه، قال له: إنك عندنا اليوم وما بعده أصبحت ذا مكانة وعزّة وأمانة تؤتمن على كلّ شيء في أمور الحكم، وصاحب التّصرف التّام في شؤون البلاد. روي أن يوسف لما خرج من السّجن اغتسل وتنظّف ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزّتك وقدرتك من شرّه، ثم سلّم عليه بالعربيّة، فقال الملك: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمي إسماعيل، ودعا له بالعبريّة، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي. وكان إبراهيم وأولاده وحفدته من العرب القحطانيين، وكان ملوك مصر من العرب الذين يسمون بالرّعاة (الهكسوس) . قال يوسف: اجعلني أيها الملك على خزائن الأرض: وهي الخزن التي تخزن فيها الغلال، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلّات لما يستقبلونه من السّنين التي أخبرهم بشأنها، أي ولّني عليها، لأشرف عليها، وأتصرّف فيها حتى أجعل توازنا اقتصاديا بين سنوات الخصب وسني القحط، فأنقذ البلاد من المجاعة التي تهدد أهلها، بحسب الرؤيا التي رأيت لأني حفيظ عليم، أي خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وفي هذا إيماء لأهمية التّخطيط والتّنظيم المالي وإقامة التوازن بين الموارد الماليّة والنفقات. فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزير المال والخزانة، وأطلق له سلطة التّصرف في شؤون الحكم، لما لمس لديه من رجاحة عقل، وخبرة وضبط وسياسة، وحسن تصرّف، وقدرة على إحكام النّظام. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا.. أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا على يوسف في

تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السّجن، مكّنّا له في الأرض، أي أقدرناه على ما يريد، وجعلنا له مكانة ومنزلة في أرض مصر، فانتقل من كونه مملوكا إلى أن أصبح مالكا آمرا ناهيا، ذا نفوذ وسلطة، مطاعا بعد أن كان تابعا لغيره مطواعا، حرّا طليقا بعد أن كان سجينا أسيرا، وذلك لما تحلّى به من صبر، وإطاعة لله عزّ وجلّ، وعفّة وخلق وعقل حكيم، فإنه صبر على أذى إخوته، وفي الحبس بسبب امرأة العزيز، وعفّ عن السّوء والفحشاء، وامتنع من اقتراف المنكر، فأعقبه الله النّصر والتّأييد، وأصبح في منصب سيّده السّابق الذي اشتراه من مصر، العزيز زوج التي راودته، قال مجاهد: وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السّلام. وما أضاعه ربّه ورحمه وصانه، والله تعالى يخصّ برحمته من يشاء ورحمته وسعت كل شيء، فيعطي الملك والغنى والصّحة ونحوها من يريد من عباده. وقوله تعالى: بِرَحْمَتِنا أي بإحساننا، والرّحمة: النّعمة والإحسان. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي لا نضيع ثواب الذين يحسنون أعمالهم، فنمنحهم في الدّنيا سعادة وعزّا ومكانة، وفي الآخرة خلودا في الجنان. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ.. أي إنّ ثواب الآخرة للمؤمنين الأتقياء، وهو التّنعم في الجنان خير وأعظم وأكثر من خير الدّنيا وما فيها من متاع العزّ والسّلطان، والجاه والملك، والمال والزّينة ونحو ذلك. والله تعالى يخبر بهذا أن ما ادّخره لنبيّه يوسف عليه السّلام في الدّار الآخرة أعظم وأكثر وأجلّ مما أنعم عليه من التّصرّف والنّفوذ في الدّنيا، كقوله في حقّ سليمان عليه السّلام: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص 38/ 39- 40] . ومن جمع له الله السّعادتين في الدّنيا والآخرة، كان فضل الله عليهم أكثر،

فقه الحياة أو الأحكام:

وعطاؤه أتمّ، لقيامهم بواجب الطّاعة، واجتنابهم المعصية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدتنا الآيات إلى ما يلي: 1- إنّ الحوار وسيلة التّعارف والتّعرف على فضائل الإنسان ومعارفه، وبه يزن العاقل مقادير الرّجال. 2- إن المقوّمات العالية من علم وخلق وأدب وحسن تصرّف تبوئ صاحبها المنزلة السّامية والمكانة الرّفيعة. 3- يجوز طلب الولاية وإظهار كون الشّخص مستعدّا لها، إذا كان من أجل التّعريف للمغمور غير المعروف، وكان الشّخص واثقا من نفسه ودينه وعلمه، وأهلا لما يطلب. وأما النّهي عن طلب الإمارة في قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرّحمن بن سمرة فيما أخرجه الشيخان: «لا تسأل الإمارة» والنّهي عن مدح النّفس في قوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم 53/ 32] فالمراد به في الحديث لمن لا يثق بنفسه من القيام بحقّ الولاية لضعفه وعجزه، أو لأغراض نفسه، والمراد بالآية تزكية النّفس حال العلم بكونها غير متزكية، وكل من المحذورين لا ينطبق على النّبي يوسف عليه السّلام وأمثاله الأنبياء، لأنه يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، ولأن السّعي في إيصال النّفع إلى المستحقين ودفع الضّرر عنهم أمر مستحسن في العقول، وعلم يوسف أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الحقوق إلى الفقراء، فرأى أن قيامه بهذه الأمور فرض متعيّن عليه، وقال يوسف عن نفسه: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه.

4- يباح للرّجل الفاضل أن يعمل للرّجل الفاجر، والسّلطان الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحقّ وسياسة الخلق إلا بالاستعانة به، وكان مفوّضا في فعله لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء. وأما إذا كان عمله بحسب مراد الفاجر وهواه، فلا يجوز. فإن كان المولّي ظالما فللعلماء قولان: أحدهما- جواز تولّي العمل له إذا عمل بالحقّ فيما تقلّده: لأن يوسف عليه السّلام ولّي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار بفعله لا بفعل غيره. الثاني: أنه لا يجوز ذلك: لما فيه من إعانة الظّالم على ظلمه، وتزكيته ودعمه وتأييده بتقلّد أعماله. وأما فرعون يوسف فكان صالحا، وعن مجاهد: أن الملك أسلم على يده. وإنما الطّاغي فرعون موسى، ثم إنّ يوسف نظر في مصالح الأمة والبلاد وأملاك الملك دون أعماله، فزالت التّبعة عنه. 5- للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل إذا دعته الضرورة إليه، كالكسب المعيشي ونحوه. 6- قوله تعالى: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السّلام كان من المحسنين. 7- غمرت رحمة الله وفضله وإحسانه يوسف عليه السّلام لصبره وتقواه، وإنه سبحانه ما أضاع يوسف لصبره في الجبّ، وفي الرّقّ، وفي السّجن، وعلى أذى إخوته، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة. 8- إن ثواب الآخرة وعطاء الله فيها أجلّ وأعظم وأكثر من عطاء الدّنيا لمن كان مؤمنا تقيّا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدّنيا منقطع، وظاهر الآية: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ... العموم في كلّ مؤمن متّق، وهي تدلّ دلالة خاصة على

والخلاصة:

فضل الله على يوسف عليه السّلام، فإن ما سيعطيه الله له في الآخرة خير وأفضل مما أعطاه إيّاه في الدّنيا من الملك والسّلطان والمكانة والسّمو. ودلّت هذه الآية بخصوصها على أن يوسف عليه السّلام من الذين آمنوا وكانوا يتّقون، وهذا تنصيص من الله عزّ وجلّ. والخلاصة: تضمّنت الآيات شهادتين من الله تعالى ليوسف عليه السّلام الأولى أنه كان من المحسنين، والثانية أنه كان من المؤمنين المتّقين. ودلّت آية أخرى وهي: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ على أنه من المخلصين، فصارت الشّهادات من الله تعالى ليوسف ثلاثة: كونه من المتّقين، ومن المحسنين، ومن المخلصين. وسبب هذه الشّهادات الصّبر على مراد الله فيه، والطّاعة والتّقوى وإخلاص العمل وصفاء النّفس من الأحقاد والضّغائن. الفصل العاشر من قصة يوسف أولاد يعقوب يشترون القمح من أخيهم يوسف ومطالبته إياهم بإحضار أخيهم [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

البلاغة:

البلاغة: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ بين عرف وأنكر: طباق. المفردات اللغوية: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وهم أحد عشر إلا بنيامين ليمتاروا لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الطعام بثمنه. فَعَرَفَهُمْ أنهم إخوته، والمعرفة وعرفان الشيء: التّفكّر في أثره. وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الإنكار: ضدّ المعرفة، أي أنهم لم يعرفوه لبعد عهدهم به وظنّهم هلاكه. جَهَّزَهُمْ أو في لهم كيلهم من القمح الذي جاؤوا لطلبه من عنده، أي جعله تاما وافيا. وجهاز السّفر: أهبته وحوائجه، وجهاز العروس: حوائج الزّفاف. بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أي بنيامين لأعلم صدقكم فيما قلتم. أُوفِي الْكَيْلَ أتمّه من غير بخس. الْمُنْزِلِينَ المضيفين الضيوف، وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم. فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي ميرة. وَلا تَقْرَبُونِ نهي أو عطف على محل: فَلا كَيْلَ أي تحرموا ولا تقربوا، أي فلا تقربوني ولا تدخلوا دياري. سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه، ونستميله لتحقيق هذه الرّغبة برفق. وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك لا نتوانى فيه. لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيالين، جمع فتى. بِضاعَتَهُمْ ثمن ما أتوا به من الطعام، وكانت دراهم فضة، وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضّلا عليهم وترفّعا من أن يأخذ ثمن الطّعام منهم. فِي رِحالِهِمْ أوعيتهم. لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلهم يعرفون حقّ ردّها، أو لكي يعرفوها. إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا ورجعوا إلى أهلهم، وفتحوا أوعيتهم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرّجوع. أضواء من التّاريخ: قال ابن عباس وغيره «1» : لما أصاب النّاس القحط والشدّة، ونزل ذلك بأرض كنعان، بعث يعقوب عليه السّلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السّلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدله وسيرته، وكان يوسف عليه السّلام حين نزلت الشّدّة بالنّاس يجلس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكلّ رأس وسقا «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 220 (2) الوسق: ستون صاعا، والصّاع (2751 غم) ، وعند الحنفيّة (3900 غم) .

التفسير والبيان:

وذكر السّدّي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين: أن السّبب الذي من أجله أقدم إخوة يوسف بلاد مصر: أن يوسف عليه السّلام، لما باشر الوزارة بمصر، ومضت السّبع السّنين المخصبة، ثم تلتها السّبع السّنين المجدبة، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها، ووصل إلى بلاد كنعان: وهي التي فيها يعقوب عليه السّلام وأولاده، وحينئذ احتاط يوسف عليه السّلام للنّاس في غلّاتهم، وجمعها أحسن جمع، فحصل من ذلك مبلغ عظيم، وهدايا متعددة، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطي الرّجل أكثر من حمل بعير في السّنة، وكان عليه السّلام لا يشبع نفسه، ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النّهار، حتى يتكفأ الناس بما في أيديهم مدّة السّبع السنين، وكان رحمة من الله تعالى على أهل مصر «1» . وغير هذه الرّوايات هي من الإسرائيليات. التفسير والبيان: وجاء إخوة يوسف عليه السّلام من أرض كنعان (فلسطين) إلى مصر، يطلبون شراء القمح، لأن القحط عمّ بلاد الشّام ومصر، لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه. فلما دخلوا على يوسف، وهو في منصبه الرّفيع، عرفهم حين نظر إليهم، لأن ملامح الكبار لا تتغيّر كثيرا، وهم له منكرون، أي لا يعرفونه، لأنهم فارقوه، وهو صغير حدث، وباعوه للسّيّارة، والملامح في حال الصّغر تتغيّر كثيرا في حال الكبر، ولأنهم قدروا هلاكه، وما دار في خلدهم أنه سيصير إلى ما صار إليه، ولنسيانهم له بطول العهد. وزاد في الأمر أنه- كما ذكر السّدّي- شرع يخاطبهم، فقال لهم كالمنكر

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 483

عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا: أيّها العزيز، إنّا قدمنا للميرة، قال: فلعلكم عيون؟ قالوا: معاذ الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبيّ الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم، كنّا اثني عشر، فذهب أصغرنا هلك في البريّة، وكان أحبّنا إلى أبيه وبقي شقيقه، فاحتبسه أبوه ليتسلّى به عنه، فأمر بإنزالهم وإكرامهم. لكن يبعد من يوسف عليه السّلام أن يتّهم إخوته وينسبهم إلى أنهم جواسيس وعيون، لأنه يعرف براءتهم عن هذه التّهمة. وعلى كل حال إنه سؤال لا يقتضي صحته. ولما جهّزهم بجهازهم، أي لما أوفى لهم كيلهم، وحمل أحمالهم من القمح، وهي عشرة أحمال وزادهم حملين آخرين لأبيهم وأخيهم، قال: ائتوني في المرة القادمة بأخ لكم من أبيكم؟ وهو بنيامين، ألا ترون أني أتمّ لكم الكيل الذي تريدون دون بخس، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، المضيفين للضيوف، وكان أحسن ضيافتهم؟ وقصده من ذلك ترغيبهم في الرّجوع إليه، وكان السّبب في سؤال يوسف عن حال أخيهم أنهم ذكروا أن لهم أبا شيخا كبيرا وأخا بقي في خدمة أبيه، ولا بدّ لهما أيضا من شيء من الطعام، فجهّز لهما أيضا بعيرين آخرين من الطعام، فقال يوسف: فهذا يدلّ على أن حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم، فجيئوني به حتى أراه. ثم أنذرهم بقوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ، فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي إن لم تقدموا به في المرة الثّانية فليس لكم عندي ميرة، وَلا تَقْرَبُونِ أي ولا تدخلون بلادي. قالُوا: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه، ونحاول إقناعه بذلك برفق، وإنّا لفاعلون ذلك لا محالة، أي سنحرص على مجيئه إليك بكلّ إمكاناتنا ولا نبقي مجهودا نبذله، لتعلم صدقنا فيما قلناه.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقال لفتيانه أي لغلمانه، اجعلوا بضاعتهم في رحالهم أي اجعلوا البضاعة التي اشتروا بها الطعام، وقدموا بها للميرة معاوضة، في أمتعتهم التي لهم من حيث لا يشعرون. لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها.. لعلهم يعرفون حقّ ردّها وحقّ إكرامنا لهم بإعادتها إليهم، لعلهم يرجعون إلينا، بعد عودتهم إلى أهلهم، وفتح متاعهم. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- قد لا يعرف الأخ أخاه بسبب طول العهد والمدّة، لا سيما إذا تبدل حال الأخ من أدنى درجات الحال إلى أعلاها، مما يبعد عن التّصور في الذّهن احتمال معرفته. 2- تحقيق الغايات قد يستعمل من أجله التّرغيب والتّرهيب معا، كما فعل يوسف من أجل إحضار أخيه بنيامين، فالتّرغيب هو قوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، والتّرهيب هو قوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ، فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده، كان ذلك نهاية التّرهيب والتّخويف. 3- اتّفق أكثر المفسّرين على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم. 4- السّبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم: هو ترغيبهم في العود إليه، والحرص على معاملته، حينما يعلمون أن بضاعتهم ردت إليهم، كرما من يوسف، وسخاء محضا.

الفصل الحادي عشر من قصة يوسف مفاوضة إخوة يوسف أباهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم في المرة القادمة [سورة يوسف (12) الآيات 63 إلى 66] :

5- استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه، لأنه يجوز أن يكون الله عزّ وجلّ أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثّواب، فاتّبع أمره فيه، وهذا هو الأظهر كما قال القرطبي. وربّما كان السّبب تنبيه أبيه على حاله، أو لتتضاعف المسرّة لأبيه برجوع ولديه عليه، أو إيثارا لأخيه بالاجتماع معه قبل إخوته، لميله إليه. الفصل الحادي عشر من قصّة يوسف مفاوضة إخوة يوسف أباهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم في المرة القادمة [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 66] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) الإعراب: خَيْرٌ حافِظاً وقرئ: حفظا: وهما منصوبان على التّمييز، مثل قولهم: لله درّه فارسا. ما نَبْغِي: ما: استفهامية في موضع نصب، لأنها مفعول نَبْغِي وتقديره: أي شيء نبغي. لَتَأْتُنَّنِي بِهِ اللام لام القسم.

المفردات اللغوية:

إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قال الزمخشري: هذا استثناء متّصل، مفعول له أي لأجله، والكلام المثبت الذي هو قوله: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ في تأويل المنفي، ومعناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أي لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة، وهي أن يحاط بكم. المفردات اللغوية: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حكم بمنعه بعد هذا إن لم ترسل أخانا بنيامين. نَكْتَلْ نتمكن من اكتيال ما نحتاج إليه. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه. قالَ يعقوب لهم هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ أي ما آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه يوسف من قبل، وقد قلتم فيه: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ثم فعلتم به ما فعلتم. فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فأتوكّل عليه وأفوض أمري إليه. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع عليّ مصيبتين. ما نَبْغِي ما: استفهامية، أي: أيّ شيء نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ وكانوا ذكروا له إكرامه لهم. هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا استئناف موضح لقوله: ما نَبْغِي. وَنَمِيرُ أَهْلَنا نأتي بالميرة لهم وهي الطعام، وهو معطوف على محذوف، أي ردّت إلينا، فنستظهر بها، ونمير أهلنا بالرّجوع إلى الملك. وَنَحْفَظُ أَخانا من المخاوف في ذهابنا وإيابنا. وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ لأخينا، أي مكيل بعير. ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ سهل على الملك لسخائه، أو سهل لا عسر فيه لتوافر الغلال لديه. حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً حتى تعطوني عهدا. مِنَ اللَّهِ بأن تحلفوا به. إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ بأن تموتوا أو تغلبوا، فلا تطيقوا ذلك ولا تستطيعوا الإتيان به، وهو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، والتّقدير: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أعطوه عهدهم بذلك. قالَ: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإتيانه وَكِيلٌ شهيد، ورقيب مطّلع. المناسبة: الكلام وثيق الصّلة بما قبله، فبعد أن ذكر الله تعالى مطالبة يوسف عليه السّلام إخوته بإحضار أخيه بنيامين، ذكر هنا مفاوضتهم أباهم لإنجاز المطلوب، وإبداءه مخاوفه عليه كمخاوفه القديمة التي أظهرها عند ما تآمروا على أخذ يوسف عليه السّلام للصّحراء بقصد الرّتع واللعب.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: حينما رجع أولاد يعقوب إلى أبيهم قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم: إن عزيز مصر منع عنّا الكيل في المستقبل إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين، فإن لم ترسله لا نكتل، فأرسله معنا نكتل من الطعام بقدر عددنا، وإنّا له لحافظون من كلّ مكروه وسوء في الذّهاب والإياب، فلا تخف عليه، فإنه سيرجع إليك. قال يعقوب: هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيّبونه عنّي وتحولون بيني وبينه، وقد فرّطتم في يوسف، فكيف آمنكم على أخيه؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً أي فإني أثق به وأتوكّل عليه وأفوض أمري إليه، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي هو أرحم الرّاحمين بي، وسيرحم كبري وضعفي وتعلّقي بولدي، وأرجو الله أن يرحمني بحفظه، وأن يردّه عليّ، ويجمع شملي به، إنه أرحم الرّاحمين. وهذا دليل على موافقته على إرساله معهم، للحاجة الشّديدة إلى الطعام، وعدم ملاحظته وجود قرائن تدلّ على الحسد والحقد فيما بينهم وبين بنيامين، خلافا لحال يوسف. ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وأوعية طعامهم، وجدوا فيها بضاعتهم أي ثمن الطعام، ردّت إليهم، وهي التي كان يوسف أمر غلمانه بوضعها في رحالهم. فلما وجدوها في رواحلهم قالوا: يا أبانا، ماذا نريد زيادة على هذا الإكرام وإحسان الملك إلينا، كما حدثناك، هذه دراهمنا ردّها إلينا، وإذا ذهبنا بأخينا نزداد كيل بعير بسبب حضوره. وهذا إذا جعلت ما استفهامية، فإن كانت نافية كان المعنى: لا نبغي شيئا آخر، هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فهي كافية لثمن الطعام في الذّهاب الثّاني، ثم نفعل كذا وكذا من جلب الميرة وغيرها.

فقه الحياة أو الأحكام:

إننا إذا ذهبنا مع أخينا في المرّة الثّانية وأرسلته معنا، نأتي بالميرة إلى أهلنا من مصر. ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا، فلا تخف عليه. ونزيد مكيال بعير لأجله، لأن عزيز مصر كان يعطي لكلّ رجل حمل بعير، دون زيادة ولا نقص، اقتصادا وحسن تدبير. وذلك الحمل الزّائد أمر يسير قليل، أو سهل لا عسر فيه على هذا الرّجل السّخي الرّحيم في مقابلة أخذ أخينا. قال يعقوب، وقد تذكّر ماضي يوسف: لن أرسل بنيامين معكم حتى تعاهدوني عهدا موثقا باليمين، لتعودنّ به على أي حال كنتم، إلا في حال يمتنع ذلك عنكم بأن تهلكوا وتموتوا أو تغلبوا على أمركم وتقهروا كلكم، ولا تقدرون على تخليصه. ويلاحظ أن العهد المؤكّد باليمين يسمّى يمينا، وإن أكّد ووثّق بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به بغير اليمين يسمّى ميثاقا. فلما آتوه أي أعطوه موثقهم، أي عهدهم المؤكّد باليمين، قال يعقوب: الله على ما نقول جميعا وكيل، أي شهيد رقيب حفيظ مطّلع، وأفوض أمري إليه، وقد وافق على إرساله اضطرارا من أجل الميرة التي لا غنى لهم عنها. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- كان أولاد يعقوب فيما أخبروا به أباهم من منع الكيل صادقين، حتى يرسل معهم أخاهم، كما وعدوا عزيز مصر. 2- تعهد أولاد يعقوب عليه السّلام بالمحافظة على أخيهم بنيامين، وكأنهم لم

يريدوا تكرار مأساة يوسف عليه السّلام، لأنهم كانوا يحملون في صدورهم الحقد والحسد عليه، خلافا لحال بنيامين. 3- تعلّق إخوة يوسف بزيادة الكسب والرّبح، وطمحوا أن يأتوا مرة أخرى بطعام لهم من مصر من غير ثمن. 4- كان إكرام يوسف لإخوته وردّه ثمن الطعام إليهم عاملا مرغّبا قويّا في عودتهم إليه مرة أخرى، مصطحبين معهم أخاهم بنيامين. 5- إن يعقوب النّبي عليه السّلام كان في حديثه مع أولاده مطمئنا إلى حفظ الله ورحمته، فهو نعم الوكيل الحافظ، وهو أرحم الرّاحمين بعباده، لا سيّما حال الضّعفاء وكبار السّن أمثاله، فحفظ الله له خير من حفظكم إيّاه. 6- تشدّد يعقوب عليه السّلام هذه المرة مع أولاده أكثر مما حدث عند إذنه بإرسال يوسف عليه السّلام، بعد تلك التّجربة القاسيّة وما أعقبها من حزن شديد وألم، فطلب منهم الميثاق وهو العهد المؤكّد باليمين على إحضاره إليه إلا في حال العذر القاهر والإحاطة بهم، قال مجاهد معناها: إلا أن تهلكوا أو تموتوا. وقد دلّ قوله تعالى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ.. على أنه أجابهم إلى إرساله معهم. 7- أراد أولاد يعقوب عليه السّلام تطييب نفس أبيهم بقولهم: ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا..؟ فهم حشدوا لإقناعه وتطييب نفسه كلّ الأسباب والبواعث المادية واستغلّوا حاجتهم الشديدة: أخذ الطعام دون ثمن، إعالة الأهل، إضافة حمل بعير، وضمّوا إلى ذلك كلّه التّعهد بالحفظ والرّعاية، فلم يجد بدّا من الموافقة على إرسال بنيامين معهم. 8- قوله تعالى: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ

الفصل الثاني عشر من قصة يوسف وصية يعقوب لأولاده بالدخول إلى مصر من أبواب متفرقة [سورة يوسف (12) الآيات 67 إلى 68] :

دليل على جواز الكفالة (الحمالة) بالعين والوثيقة بالنّفس (كفالة النّفس) وللعلماء فيها رأيان: رأي الجمهور: هي جائزة إذا كان المكفول به مالا. ولا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص في رأي المذاهب الأربعة، وأجاز الشافعية الكفالة بالقصاص، والقذف، والتّعزير، لما فيها من حقّ العبد. وقال بعضهم: لا تجوز الكفالة بالنّفس، لتعذّر إحضار المكفول بنفسه، ولقوله تعالى على لسان العزيز في قصّة يوسف عليه السّلام: قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ. الفصل الثاني عشر من قصة يوسف وصية يعقوب لأولاده بالدخول إلى مصر من أبواب متفرقة [سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68] وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) الإعراب: مِنْ شَيْءٍ إما مفعول وإما فاعل، والتقدير على المفعولية: ما كان يغني من قضاء الله شيئا، وعلى الفاعلية: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه. البلاغة: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فيه طباق السلب، وفيه إطناب: وهو زيادة اللفظ على المعنى، للتأكيد والتقرير وتمكين المعنى في النفس.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية لا تَدْخُلُوا مصر. وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالكرامة والحظوة عند العزيز، فخاف عليهم أن يدخلوا جماعة واحدة فتصيبهم العين. ولعله لم يوصهم بذلك في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين حينئذ. وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما أدفع عنكم بقولي ذلك شيئا قدره الله عليكم وقضاه، وإنما ذلك شفقة، فإن الحذر لا يمنع القدر. ومن: صلة زائدة لتمكين النفي. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم إلا لله وحده، يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء، ولا ينفعكم ذلك. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ به وثقت. فَلْيَتَوَكَّلِ الفاء لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم. والواو في قوله وَعَلَيْهِ للعطف، وقدم عَلَيْهِ في عطف الجملة على الجملة للاختصاص. مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من أبواب متفرقة في البلد. ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ما كان يفيد رأي يعقوب واتباعهم له مما قضاه الله عليهم شيئا، فحدث وضع الصواع في رحل بنيامين، وتضاعفت المصيبة على يعقوب. إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها استثناء منقطع، أي ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم وحرصه على ألا يعانوا (تصيبهم العين) وقضاها أي أظهرها، ووصى بها. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ إن يعقوب عليم بحقائق الأمور وأن العين لا توقع ضررا إلا بإذن الله، لتعليمنا إياه بالوحي وإقامة الحجج، ولذلك قال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ولم يغتر بتدبيره. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار. لا يَعْلَمُونَ سر القدر، وأنه لا يغني عنه الحذر، وأن الحكم لله. وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السّلام. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى موافقة يعقوب على إرسال بنيامين مع إخوته إلى مصر، ذكر هنا وصيته لأولاده لما عزموا على الخروج إلى مصر، وهي الدخول من أبواب متفرقة، ليروا مدى الاهتمام والاستقبال لكل واحد منهم حين رؤية بنيامين شقيق يوسف، أو لئلا يحسدهم الحساد، وتصيبهم العين جميعا.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أمر يعقوب بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، لأنهم كانوا من أهل جمال وكمال، وذلك في رأي جمهور المفسرين لئلا تصيبهم العين، فإنه خاف من العين عليهم، والعين حق أي أنها سبب حق في الظاهر قد تؤدي إلى الضرر، ولكن بإذن الله وإرادته، بدليل قوله بعدئذ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. أو ليروا من العزيز فرق الاستقبال بينهم وبين أخيهم بنيامين. وَما أُغْنِي.. أي وما أدفع عنكم بوصيتي وتدبيري من قضاء الله شيئا، إذ لا يغني حذر من قدر، أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع، ولكنا مأمورون باتخاذ وسائل الحيطة والحذر: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء 4/ 102] أخذا بالأسباب العادية الظاهرية التي لا تؤثر في الواقع شيئا إلا بإذن الله، واستعانة بالله، وفرارا منه إليه، وليس دفعا للقدر، وتحديا للقضاء، فلا يملك الإنسان من أمره شيئا، فما أراد الله بكم سوءا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة. وما إنفاذ الأحكام وتدبير الأمور إلا لله وحده، عليه وحده توكلت، وبه وثقت، وإليه فوضت أمري، دون حولي وقوتي، وعليه تعالى وحده فليتوكل المتوكلون، لا على أنفسهم ولا على أمثالهم من البشر. ولما دخلوا أي أولاد يعقوب مصر، التي كان لها أربعة أبواب، من حيث أمرهم أبوهم، أي من أبواب متفرقة، ما كان رأي يعقوب ودخولهم على هذا النحو متفرقين يفيدهم شيئا قط، حيث أصابهم ما ساءهم، مع تفرقهم، من نسبة السرقة إليهم، وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم فداء لوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، أي مجرد شيء في نفسه أظهره، وهي شفقته عليهم، وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به. وإنه أي يعقوب لذو علم بأن الحذر لا يمنع القدر، لتعليمنا إياه بالوحي. وقال قتادة والثوري: لذو عمل بعلمه، وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السّلام. ولكن أكثر الناس وهم المشركون أو الكفار لا يعلمون ذلك أي مثل ما علم يعقوب، أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم، فإنهم لا يعلمون كيف أرشد الله أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة. ومن تلك العلوم الأخذ بالأسباب الظاهرة وتفويض الأمر لله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- قول يعقوب لأولاده: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ دليل في رأي جمهور المفسرين على التحرز من العين، والعين في الظاهر حق، ومرد النتيجة في الحقيقة إلى الله وحده، وتكون العين مجرد سبب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد بسند صحيح «العين حق» أي شيء ذو أثر موجود عند الناس، وذكر النسفي: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» وكان صلّى الله عليه وسلم يتعوّذ فيقول: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة» وكان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذ كما بكلمات الله التّامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة» ويقول: وهكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله عليهم. وروى عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أول النهار، فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار، فرأيته معافى، فقال: إن

جبريل عليه السّلام أتاني فقال فيما أخرجه أحمد عن عائشة وعبادة. «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن كل عين وحاسد، الله يشفيك» . وعلى كل مسلم أعجبه شيء أن يبرّك، فإنه إذا دعا بالبركة، صرف المحذور لا محالة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعامر: «ألا برّكت» فدل على أن العين لا تضر إذا برّك العائن. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار. والعائن إذا أصاب بعينه ولم يبرّك، يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه، لأن الأمر على الوجوب، وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر بالرقية. ومن عرف بالإصابة بالعين، منع من مداخلة الناس، دفعا لضرره. 2- دل قوله تعالى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ على أن الحذر لا ينفع مع القدر، فدخول أولاد يعقوب مصر من أبواب متفرقة ما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء. قال ابن عباس: ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمرا قدره الله. 3- الحكم لله، أي الأمر والقضاء لله وحده، وعلى المؤمن الاتكال على الله، أي الاعتماد عليه والثقة به وحده، لأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى. 4- إن وصية يعقوب لأولاده بالدخول من أبواب متفرقة مجرد خاطر خطر بقلبه،. وتحرز ظاهري، مع أنه عليم من طريق الوحي بأمر دينه، وأكثر الناس لا يعلمون ما يعلم يعقوب من أمر دينه. وقيل: المقصود بالعلم هنا العمل، أي لذو عمل بعلمه، فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه.

الفصل الثالث عشر من قصة يوسف معرفة يوسف أخاه بنيامين واتخاذه التدابير لإبقائه لديه [سورة يوسف (12) الآيات 69 إلى 76] :

5- أفادت الآية أن على المسلم أن يحذّر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة، فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم. الفصل الثالث عشر من قصة يوسف معرفة يوسف أخاه بنيامين واتخاذه التدابير لإبقائه لديه [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) الإعراب: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ جَزاؤُهُ مبتدأ، والهاء عائد للسّرق، وتقديره: جزاء

البلاغة:

السّرق أخذ من وجد في رحله. وقوله: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ جملة هي في موضع خبر المبتدأ، أي فالاستعباد جزاء السّرق، وفاء: فَهُوَ متضمنة معنى الشرط أو جواب له على أن مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ شرطية، والجملة الشرطية كما هي: خبر المبتدأ الاول: جَزاؤُهُ على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير، كأنه قيل: جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو، إلا أنه أقام الظاهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان. فَهُوَ جَزاؤُهُ مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ مَنْ وُجِدَ الذي هو الاسم الموصول. البلاغة: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ فيه جناس الاشتقاق. أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ فيه أيضا جناس الاشتقاق. المفردات اللغوية: آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل. فَلا تَبْتَئِسْ تحزن. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسد لنا، وأمره ألا يخبرهم، وتواطأ معه على أنه سيحتال على أن يبقيه عنده. جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أعد لهم الطعام بسرعة. السِّقايَةَ في الأصل: المشربة أو وعاء يسقى به، والمراد به هنا المكيال الذي كان يكال به الطعام للناس، وهو صواع الملك، فهو كان مشربة، ثم جعل صاعا يكال به، ويقدر بكيلة مصرية 12/ 1 من الإردب المصري، والإردب 198 لترا، أو 156 كغ. قيل: كان من فضة، وقيل: كان من ذهب. فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين. أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، أو أعلم وأخبر، وهو يفيد الكثرة والتكرار. أَيَّتُهَا الْعِيرُ القافلة أو الجمال التي تحمل الطعام، والمراد أصحابها. ماذا تَفْقِدُونَ أيّ شيء ضاع منكم، والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه. صُواعَ الْمَلِكِ صاعه أو مكياله. حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا له. وَأَنَا بِهِ بالحمل. زَعِيمٌ كفيل وضامن، أؤديه إلى من ردّه. تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب. لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ.. استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم، لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم، مما يدل على فرط أمانتهم، مثل ردّ البضاعة التي جعلت في رحالهم. قالُوا: فَما جَزاؤُهُ أي قال المؤذن وأصحابه، فما جزاء السارق. إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قولكم: ما كنا سارقين، ووجد فيكم. قالُوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي عقوبة السارق استعباد أو استرقاق من وجد في رحله. فَهُوَ جَزاؤُهُ تأكيد لما سبق أي فأخذ السارق جزاء

المناسبة:

المسروق لا غير، وكان ذلك سنة آل يعقوب. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين بالسرقة، وهذا تصريح منهم ليوسف بتفتيش أوعيتهم. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ففتشها. قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لئلا يتهم. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع. كَذلِكَ كِدْنا أي مثل ذلك الكيد (أي التدبير الخفي) كدنا ليوسف، علمناه الحيلة في أخذ أخيه وأوحينا به إليه. ما كانَ يوسف. لِيَأْخُذَ أَخاهُ رقيقا من السرقة. فِي دِينِ الْمَلِكِ في قانون أو نظام أو حكم أو شرع ملك مصر لأن جزاءه في ذلك النظام الضرب وتغريم مثلي المسروق، لا الاسترقاق. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، وهو أخذه بحكم أبيه، أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه سؤال إخوته، وجوابهم بنظامهم أو سنتهم. والاستثناء متصل من أعم الأحوال، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي لكن أخذه بمشيئة الله وإذنه. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم كيوسف. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من المخلوقين. عَلِيمٌ أعلم منه، حتى ينتهي إلى الله تعالى. المناسبة: الربط بين الآيات هنا واضح، إذ هي تعرض أجزاء ومشاهد قصة واحدة ذات حلقات متسلسلة، فبعد أن اتجه أولاد يعقوب إلى مصر لجلب الميرة، مزودين بوصية والدهم، وصلوا إلى مكان وجود العزيز الذي يتولى بيع الطعام للناس، فلما دخلوا عرف أخاه وضمه إليه. التفسير والبيان: حينما دخل أولاد يعقوب على يوسف في مجلسه الخاص ومنزل ضيافته، ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، بعد أن كانوا دخلوا القصر من أبواب متفرقة، ضم إليه أخاه واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرّفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيتخذ تدبيرا يبقيه عنده معززا مكرما. روي أنهم قالوا له: هذا أخونا، قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم

وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يواكله، وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتا، وهذا لا ثاني له، فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه، ويشم رائحته، حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال: لي عشرة بنين، اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل (أمهما) فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، وقال له: إني أنا أخوك يوسف، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا في الماضي، فإن الله قد أحسن إلينا، وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك «1» . فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ.. فلما أعدّ لهم الطعام، وحمل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية (الصواع أو المكيال، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين، وقيل: من ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ثم نادى مناد حينما عزموا على الخروج: أيتها العير أي يا أصحاب العير، إنكم قوم سارقون، فقفوا. فبهتوا وذهلوا. فالتفتوا إلى المنادي وقالوا: أي: قال إخوة يوسف للمنادي ومن معه: أيّ شيء تفقدونه؟ فأجابوهم: نفقد صاع الملك الذي يكيل به، ولمن أتى به حمل بعير من القمح، وهذا يدل على أن عيرهم الإبل، وأنا به زعيم أي كفيل ضامن، وهذا من باب الجعالة والضمان والكفالة. قال إخوة يوسف بعد اتهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا وجربتمونا في المرة الأولى وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا إليكم، وتحققتم منذ عرفتمونا، وشاهدتم

_ (1) الكشاف: 2/ 147

سيرتنا الحسنة أنا ما جئنا لنفسد في أرض بسرقة ولا غيرها من التعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا تقتضي هذه الصفة. فقال لهم فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التهمة عنكم؟ أي أيّ عقاب للسارق في شرعكم إن وجدنا فيكم من أخذه، وأنتم تدّعون البراءة؟ فأجابوهم: جزاؤه أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقوا، وهكذا كانت شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: أن السارق يدفع إلى المسروق منه، فيصيرا عبدا له، وهذا هو ما أراده يوسف عليه السلام. ولهذا بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتهم، ثم استخرج السقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ويحكمون به. قوله: فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم السابق وتأكيد له، بعد تأكيد ثقتهم وبراءتهم بأنفسهم. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل ذلك الكيد وهو التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبرنا له في الخفاء وأوحينا إليه أن يفعله. وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة. وهو دليل على جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بما ظاهره الحيلة إذا لم يخالف نصا تشريعيا أو حكما مقررا، فهي حيلة جائزة مشروعة، لا ممنوعة محظورة، لما يترتب عليها من الخير والمصلحة، دون إلحاق ضرر بأحد، مع اطمئنان بنيامين إلى البراءة، بسبب التواطؤ السابق بينه وبين أخيه يوسف.

فقه الحياة أو الأحكام:

وسبب ذلك التدبير الخفي أن يوسف ما كان يتمكن من أخذ أخيه في حكم ملك مصر الذي لا يبيح استرقاق السارق، ولكن قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه وهو أن يستعبد السارق، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم، ولهذا مدحه الله تعالى بقوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] . وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال أي ما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله، فإنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، مما يدل على أن تلك الحيلة بإقرار الشرع، ووحي الله تعالى. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي فوق كل عالم من هو أعلم منه، قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل. فإذا كان إخوة يوسف علماء فإن يوسف كان أعلم منهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كانت فرحة غامرة من أفراح العمر لقاء الأخوين: يوسف وبنيامين، فضم يوسف أخاه إليه، وتعرّف عليه بعد فراق دام أكثر من ربع قرن، وتواطأ معه على خطة إبقائه لديه. 2- دل قول يوسف لأخيه فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ على التحلي بصفة العفو والتسامح، وإظهار الحب والود لإخوته، ونسيان الماضي وتجاوز أخطائهم معه في مقتبل العمر. 3- كان وضع الصواع في رحل بنيامين بأمر يوسف عليه السلام تعليما

وإلهاما ووحيا من الله، وكان إبقاء أخيه لديه عملا بشريعة إبراهيم ويعقوب، وإلزاما لإخوته بما حكموا به. 4- لم يكن وصف أولاد يعقوب بأنهم سارقون كذبا من يوسف عليه السلام، وإنما المراد أيتها العير حالكم حال السّرّاق، والمعنى: إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. أو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، أو أنهم سارقون باعتبار ما كان منهم حينما أخذوا يوسف من أبيه، فألقوه في الجبّ. 5- دل قوله: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ على جواز الجعالة «1» وضمان الجعل قبل إنجاز العمل أو قبل إتمامه. وقد أجيز للضرورة، فجاز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره، وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع بالعمل وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعالة حضور المتعاقدين، كسائر العقود لقوله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ.. وبهذا كله قال الشافعي، وكذا المالكية والحنابلة، ولم يجز الحنفية الجعالة للجهالة. ولم يكن قوله حِمْلُ بَعِيرٍ ضمان المجهول، لأن حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق (60 صاعا) فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال عن المسروق، وهو كفالة بما لم يجب، لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة، فلعله كان يصح في شرعهم، أو كان هذا جعالة.

_ (1) الجعالة: التزام بعوض على شيء معلوم أو مجهول، وهو تصرف بإرادة منفردة، مثل الإعلان عن مكافأة أو جعل لمن يجد شيئا ضائعا، أو يكتشف علاجا لمرض معين، أو لمن يتفوق في قضية علمية أو اكتشاف علمي.

6- دل قوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ على جواز الكفالة بنوعيها: الكفالة بالمال والكفالة بالنفس، وهذا مطابق للحديث النبوي الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حسان وصححه عن أبي أمامة الباهلي وغيره: «الزعيم غارم» وهو رأي المذاهب الأربعة، ولم يجز بعضهم الكفالة بالنفس لعجز الكفيل عن إحضار المكفول بنفسه. وهل يلزم الكفيل بالنفس ضمان المال أو لا؟ قال الحنفية: لا يلزمه إن مات المكفول بنفسه: لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. وقال المالكية والليث والأوزاعي: يغرم المال، ويرجع به على المطلوب لأن الكفيل يعلم أن المضمون بنفسه إنما يطلب بمال، فإذا ضمن إحضاره ولم يأته به، فكأنه فوّته عليه، فلزمه المال. وإذا انعقدت الكفالة جاز في رأي الجمهور للدائن المكفول له أن يطالب بالمال أو الدين من شاء من المدين الأصيل أو الكفيل. ورأي مالك الأخير: ألا يطالب الكفيل إلا أن يفلس الغريم (المدين) أو يغيب لأن البدء بمطالبة من عليه الحق أولى إلا أن يكون معدما، فيؤخذ الدين من الكفيل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة. والكفالة لا تصح إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان الدين ثابتا مستقرا، أي لازما. فلا تصح الكفالة بنجوم (أقساط) الكتابة لأنها ليست بدين لازم أو ثابت مستقر. وأما الحقوق التي لا يمكن لأحد القيام بها عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها عند الأكثرين لأن درء هذه الحدود مطلوب ما أمكن، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره. وأجاز أبو يوسف ومحمد الكفالة في الحدود والقصاص، لجواز الكفالة بالنفس. وأجاز الشافعية كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير لأنها حق لآدمي، فصحت الكفالة، كسائر حقوق الآدميين المالية.

7- كان استرقاق أو استعباد السارقين دين يعقوب عليه السلام وحكمه، وقد فهم هذا من جواب أولاده: جَزاؤُهُ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، فَهُوَ جَزاؤُهُ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع، فهذا جزاؤه لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله. وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ. وأما قطع يد السارق في شريعتنا فهو ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق. 8- يجوز التوصل إلى الأغراض أو الحقوق المشروعة إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا. وأجاز الحنفية والشافعية الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق، لفعل يوسف بوضع الصواع في رحل أخيه، ولفعل أيوب مع امرأته: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص 38/ 44] ولأمر النبي صلّى الله عليه وسلم ببيع التمر الرديء بالدراهم، ثم شراء التمر الجيد (الجنيب) بالدراهم. واجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة، فإذا حال الحول لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرّق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق. وقال مالك: إذا فوّت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه، لزمته الزكاة عند الحول، أخذا منه بقوله صلّى الله عليه وسلم: «خشية الصدقة» . وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضرّه لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى الحديث السابق: «خشية الصدقة» «1» إلا حينئذ.

_ (1) نص الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس: «ولا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة» (سبل السلام 3/ 591، ط بيروت) .

الفصل الرابع عشر من قصة يوسف نقاش حاد بين أولاد يعقوب وبين يوسف وبين أبيهم حول السرقة المزعومة [سورة يوسف (12) الآيات 77 إلى 87] :

9- شاء الله أن يجري على ألسنة أولاد يعقوب حكم بني إسرائيل في استرقاق السارق، مع أنه كان حكم الملك الضرب والتغريم ضعفي المسروق. 10- لله في خلقه شؤون، يعزّ قوما ويذلّ آخرين، ويرفع من يشاء درجات بالعلم والإيمان. قال ابن عباس: يكون ذا أعلم من ذا، وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم. وقال أيضا: الله العليم، وهو فوق كل عالم. والآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات. الفصل الرابع عشر من قصة يوسف نقاش حادّ بين أولاد يعقوب وبين يوسف وبين أبيهم حول السرقة المزعومة [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 87] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

الإعراب:

الإعراب: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من أسرّها. مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، حذف فعله وأضيف إلى المفعول. اسْتَيْأَسُوا استفعلوا من يئس ييأس نَجِيًّا حال من خَلَصُوا ونَجِيًّا لفظه لفظ المفرد، والمراد به الجمع، كعدو وصديق، فإنهما يوصف بهما الجمع على لفظ المفرد. ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَمَّا إما مصدرية في موضع نصب بالعطف على قوله تعالى: أَباكُمْ وتقديره: ألم تعلموا أن أباكم وتفريطكم، وإما أن تكون زائدة، أي ومن قبل فرطتم، مثل فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ أي فبرحمته. يا أَسَفى في موضع نصب لأنه منادى مضاف، وأصله: يا آسفي، فأبدل من الكسرة فتحة، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار: يا أَسَفى. وعَلى يُوسُفَ في موضع نصب لأنه من صلة المصدر.

البلاغة:

البلاغة: فَأَسَرَّها.. وَلَمْ يُبْدِها بينهما طباق. شَيْخاً كَبِيراً فيه إطناب للاستعطاف. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ مجاز مرسل علاقته المحلية أي أهل القرية. يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ بينهما جناس الاشتقاق. تَاللَّهِ تَفْتَؤُا إيجاز بالحذف، أي والله لا تفتأ. وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ استعار الروح وهو تنسيم الريح الطيبة النسيم، للفرج بعد الكرب، واليسر بعد الشدة. المفردات اللغوية: إِنْ يَسْرِقْ بنيامين. فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قيل: ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام، وكانت تحضن يوسف وتحبه، فلما شبّ أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدت المنطقة على وسطه، ثم أظهرت ضياعها، فتفحص عنها، فوجدها محزومة عليه، فصارت أحق به في حكمهم. وقيل: كان لأبي أمه صنم من ذهب، فسرقه، وكسره، وألقاه في الجيف، لئلا يعبده. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لم يظهرها لهم، والضمير يعود للكلمة أو الجملة التي في قوله: قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. لَ في نفسه. أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي شر منزلة من يوسف وأخيه، لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي والله عالم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة، وليس الأمر كما تذكرون من أمره، أو وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون. إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن أو القدر، يحبه أكثر منا، ويتسلى به عن ولده الهالك، ويحزنه فراقه، وهذا استعطاف له عليه. فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ استعبده بدلا منه، فإن أباه مستأنس به. مِنَ الْمُحْسِنِينَ في أفعالك إلينا، فأتمم إحسانك، أو من المتعوّدين الإحسان، فلا تغير عادتك. مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله ونلجأ إليه. أَنْ نَأْخُذَ من أن نأخذ، ولم يقل: من سرق، تحرزا من الكذب. إِنَّا إِذاً إن أخذنا غيره مكانه لَظالِمُونَ في مذهبكم، لو أخذنا غيره مكانه، كنا من الظلمة. اسْتَيْأَسُوا يئسوا يأسا كثيرا من يوسف وإجابته إياهم، وزيادة السين والتاء للمبالغة. خَلَصُوا انفردوا واعتزلوا الناس. نَجِيًّا متناجين متشاورين سرا، يناجي بعضهم بعضا، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنة المصدر، كما قيل: هم صديق، وجمعه أنجية كنديّ وأندية. قالَ كَبِيرُهُمْ سنا: روبيل أو يهوذا، أو كبيرهم في الرأي وهو شمعون. مَوْثِقاً عهدا. مِنَ اللَّهِ في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا منه، لأنه بإذن منه وتأكيد من

المناسبة:

جهته. وَمِنْ قَبْلُ هذا. ما فَرَّطْتُمْ قصرتم في شأنه، وفَلَمَّا زائدة أو مصدرية في موضع نصب بالعطف على مفعول: تعلموا، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف، أو معطوف على اسم أن، وخبره: فِي يُوسُفَ. ويصح كونه مبتدأ وخبره: من قال قال البيضاوي: وفيه نظر: لأن قبل إذا كان خبرا، أو صلة، لا يقطع عن الإضافة، حتى لا ينقص. ويصح أن تكون موصولة، أي ما فرطتموه بمعنى: ما قدمتموه في حقه من الخيانة. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ لن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي بالعودة أو الرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أو يقضي الله لي بخلاص أخي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أعدلهم لأن حكمه لا يكون إلا بالحق. وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وما شهدنا عليه إلا بما تيقنا من مشاهدة الصاع في رحله واستخراجه من وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ لما غاب عنا وهو باطن الحال، حين إعطاء الموثق حافِظِينَ أي فلا ندري أنه سرق، أو ما كنا للعواقب عالمين، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.. واسأل أهل مصر وَالْعِيرَ أصحاب الإبل الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وهم قوم من كنعان وَإِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا، فرجعوا إليه، وقالوا له ذلك سَوَّلَتْ زينت أَمْراً ففعلتموه، اتهمهم لما سبق منهم من أمر يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي صبري صبر جميل أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ يوسف وأخويه الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في صنعه. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أعرض عنهم تاركا خطابهم يا أَسَفى يا حزني وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ انمحق سوادهما وتبدل بياضا من بكائه مِنَ الْحُزْنِ عليه كَظِيمٌ مملوء غيظا، مغموم مكروب لا يظهر كربه تَاللَّهِ تَفْتَؤُا لا تفتأ أي لا تزال تذكره تفجعا عليه حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشرفا على الهلاك، لطول مرضك، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث الْهالِكِينَ الموتى. لَ يعقوب لهم ثِّي هو عظيم الحزن الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الناس من. البث: وهو النشر حُزْنِي إِلَى اللَّهِ لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه، فخلوني وشكايتي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من أن رؤيا يوسف صدق وهو حي، وأعلم من الله أي من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ اطلبوا خبرهما وَلا تَيْأَسُوا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ رحمته وفرجه. المناسبة: هزت السرقة أعماق نفوس أولاد يعقوب، فثار النقاش الحاد والحوار الشديد

التفسير والبيان:

بين أولاد يعقوب أنفسهم، وبينهم وبين يوسف، وبينهم وبين أبيهم، لعودتهم إليه دون ولدين آخرين: وهما أكبر أولاده «روبيل أو يهوذا» وأصغر أولاده وهو بنيامين. ولم يجد أبناء يعقوب سبيلا للدفاع إلا الحجة الساذجة السطحية وهو تأكيد حادثة السرقة من أخيهم كما سرق أخوه يوسف من قبل، وقالوا: هذه الواقعة عجيبة أن «راحيل» ولدت ولدت ولدين لصين، ثم قالوا: يا بني راحيل، ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين: ما أكثر البلاء علينا منكم، ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له: فكيف خرج الصواع من رحلك؟ فقال: وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم «1» . التفسير والبيان قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من وعاء بنيامين، بعد أن نفوا السرقة نفيا باتا، والتزموا على أنفسهم استعباد من وجد في رحله: إن يسرق بنيامين، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما من أصل واحد، ومرادهم التنصل إلى العزيز من التشبه بالأخوين، وتأنيب أخيهم على ما فعل. وهذا يعني أن الطبائع والعادات والأخلاق تورث، وأن الحقد والكراهية والحسد عندهم ما يزال موجودا لديهم. ونسبة السرقة إلى يوسف في أصح الروايات ما روى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال: سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته. وقال سعيد بن جبير عن قتادة: كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره. وروى محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 183

ما دخل على يوسف من البلاء- فيما بلغني- أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت عندها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان من اختبأها ممن وليها، كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته، وكان لها به وله، فلم تحب أحدا حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام، فأتاها، فقال: يا أخية، سلّمي إليّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فو الله، ما أنا بتاركته، ثم قالت: فدعه عندي أياما، أنظر إليه، وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه. فلما خرج من عندها يعقوب، عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله، إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب، فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك، فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف، حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي فأخفى في نفسه مقالتهم هذه، أو أخفى الجملة أو الكلمة التي بعدها وهي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ... وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ أي لم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم. قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي وقال لهم في نفسه دون إعلان لهم: أنتم شر مكانا ومنزلة ممن تتهمونه بالسرقة، إذا أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم، وطرحتموه في البئر، بقصد الهلاك والتخلص منه.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي والله عالم بما تذكرون وما تصفونه به. وهذا من قبيل الإضمار قبل الذكر، وهو كثير في اللغة والقرآن والحديث. ثم استعطفوه واستشفعوا لديه لعله يأخذ أحدهم مكانه، فالفداء أو العفو أيضا جائز في شرعهم: قالُوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي قالوا: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا هرما متعلقا به، فهو يحبه حبا شديدا، ويتسلى به عن ولده الذي فقده، أو هو كبير القدر والمقام جدير بالرعاية والمجاملة والعناية. فخذ أحدا منا بدله، يكون عندك عوضا عنه، إنا نراك من المحسنين لنا في ميرتنا وضيافتنا، أو من العادلين المنصفين، القابلين للخير، أو من عادتك الإحسان مطلقا، فأحسن إلينا. فأجابهم: قالَ: مَعاذَ اللَّهِ.. أي نعوذ بالله معاذا أو نستعيذ بالله أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، كما قلتم واعترفتم، ولم يقل: إلا من سرق، تحاشيا للكذب، إنا إذا أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم، فهو أخذ بريء بمتهم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم. والمقصود الحقيقي من هذا الكلام بيان أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه، كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي. وهو رد قوي لهم، متضمن الاستعاذة من رأيهم، لأنه ظلم. ثم جاء دور حوارهم مع بعضهم. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا.. أي فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوا على ذلك، انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم ويتشاورون في أمرهم. قال كبيرهم في السن أو في العقل والرأي وهو روبيل أو يهوذا الذي أشار بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله: إن هذا الأمر عظيم، ألم تذكروا أخذ أبيكم موثقكم لتردّنه إليه، إلا أن يحاط بكم، وألم

تعلموا أيضا تفريطكم في الماضي بأخيكم يوسف وإضاعته عن أبيكم، مما جعله رهين الحزن والأسى عليه؟! فَلَنْ أَبْرَحَ ... فلن أغادر أرض مصر أبدا، وأترك بنيامين فيها، حتى يأذن لي أبي في العودة إليه، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي أو بالخروج من مصر، وهو خير الحاكمين، فلا يحكم أبدا إلا بالحق والعدل. هذا قراره الشخصي، وأما رأيه فيما يقولون لأبيهم فهو ارْجِعُوا.. أي عودوا إلى أبيكم وقولوا له: يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك، فاسترقه العزيز القائم بأمر الحكم في مصر، على وفق شريعتنا التي أخبرناه بها، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدنا من إخراج الصواع من وعاء بنيامين، وما كنا للغيب حافظين، أي وما علمنا أنه سيسرق ويسترق حين أعطيناك الموثق، أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف، وفي الجملة: حقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.. أي واسأل يا أبانا عما حدث أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، فقد اشتهر أمر هذه السرقة فيهم، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا. وهذا مبالغة منهم في إزالة التهمة عن أنفسهم، لأنهم مشكوك فيهم، وكانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام. ثم أكدوا صدقهم بقوله: وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به من أنه سرق، وأخذوه بسرقته، وهذا مقال كبيرهم، ثم ذكر تعالى مقال أبيهم: قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ.. أجابهم أبوهم بما يدل على عدم تصديقهم فيما قالوا، كما أجابهم حين جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب: بَلْ سَوَّلَتْ.. بل زينت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه؟ وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم!

فأمري الاعتصام بالصبر الجميل وهو الذي لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، وإنما أرضى بقضاء الله وقدره، وأشكو إلى الله وحده، ثم ترجى أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وبنيامين، وروبيل الذي أقام بمصر، ينتظر أمر الله فيه: إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.. أي لعل الله الذي أطلب منه إرجاع أولادي الثلاثة أن يعيدهم إلي جميعا، وقد كان ملهما أن يوسف لم يمت، إنه هو العليم بحالي من الكبر والحزن، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره، فما بعد الشدة إلا اليسر، وما بعد الكرب إلا الفرج. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ.. وأعرض يعقوب عن بنيه كارها لما قالوا ووصفوا، وقال متذكرا حزن يوسف القديم: يا حزني ويا أسفي على يوسف، والأسف: أشد الحزن والحسرة، فجدد له حزن الابنين الحزن الدفين. وهو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأن المصاب فيه دائم متجدد لم ينس مع تقادم العهد. وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ.. أي أصيبت عيناه بسبب الحزن بغشاوة بيضاء، حجبت البصر والرؤية فأصبح كظيما أي ساكتا لا يشكو أمره إلى مخلوق، كاظما غيظه على أولاده. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف، إلى حين لقائه، ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. والجزع البالغ والحزن الشديد أمر إنساني عند الشدائد والمصائب، وهو غير مذموم شرعا إذا اقترن بالصبر، وضبط النفس، حتى لا يخرج إلى مالا يحسن، ولقد بكى رسول صلّى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال فيما رواه الشيخان: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» . وإنما الجزع المذموم: ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور

والوجوه، وتمزيق الثياب. عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه بكى على ولد بعض بناته، وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح» . وقال الحسن البصري حينما بكى على ولد أو غيره: «ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب» . وعند ما شاهد أولاد يعقوب ما حدث لأبيهم، رقوا له، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تصير مريضا ضعيف القوة، أو تموت، أي إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف. فأجابهم عما قالوا: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم حزني، إنما أشكو همّي الشديد وأسفي وما أنا فيه إلى الله وحده داعيا له وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير، لأني أعلم من صنعه وإحسانه ورحمته وحسن ظني به أن يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. روي أنه رأى ملك الموت في منامه، فسأله، هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله، هو حيّ فأطلبه. وقال ابن عباس في قوله تعالى: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ.. يعني رؤيا يوسف أنها صدق، وأن الله لا بد أن يظهرها. يا بَنِيَّ، اذْهَبُوا.. يا أولادي اذهبوا إلى مصر، وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين. والتحسس يكون في الخير، والتجسس يكون في الشر، فهو قد ندبهم على الذهاب إلى مصر للتعرف على أخبار إخوتهم، وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله أي من فرجه وتنفيسه الكرب، ولا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون أي

فقه الحياة أو الأحكام:

الذين يجحدون قدرته ورحمته، ويجهلون حكمة الله في عباده. أما المؤمنون فلا ييأسون من رحمة الله وتفريجه الكروب، وإزالته الشدائد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن المؤمن من الله على خير، يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لم يتغير موقف أولاد يعقوب العشرة في حال الصغر والكبر معا، وظلوا على حقدهم وحسدهم وكراهيتهم لأخويهما: يوسف وبنيامين، وقد فهم هذا من محاولة تبرئة أنفسهم بأنهم على منهج وطريقة وسيرة تختلف عن منهج وسيرة أخويهم، فأخواهما مختصان بهذه الطريقة واحتراف السرقة، لأنهما من أم أخرى. والحق أن سرقة يوسف كانت رضى لله، وكانت على ما يبدو في حال الصغر، والصغير غير مكلف، ولم يكن وضع الصواع في رحل بنيامين منه إنما كان من غيره. 2- لم يقابلهم يوسف بالإساءة والتصريح عما في نفسه، وإنما أسرّ في نفسه مقالتهم، وقولهم هو: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وقيل: إنه أسرّ في نفسه على طريقة الإضمار قبل الذكر قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ثم جهر فقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. 3- استعطفوه لإطلاق سراح أخيهم بنيامين أو قبول الفداء عنه بأخذ أحدهم بدله، بحال أبيه الشيخ الكبير أي كبير القدر، ولم يريدوا كبير السن، لأن ذلك معروف من حال الشيخ، واستعطفوه أيضا بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم.

وأما عرضهم أخذ البدل عنه فهو إما مجاز، لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل المتهم، وإنما هو مبالغة في استنزاله، كما تقول لمن تكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله. وإما أن يكون قولهم: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ حقيقة، من طريق الكفالة بالنفس، ليصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف جلّية الأمر، والكفالة بالنفس جائزة على التحقيق في المذاهب الإسلامية الأربعة، حتى عند الشافعي على الراجح. وعلى كل حال كما أن الاستعباد للسارق في شرع إسحاق ويعقوب جائز، كذلك العفو وأخذ الفداء كان جائزا أيضا. 4- رفض يوسف عليه السلام أخذ البدل، ووصف ذلك بأنه ظلم. 5- تشاور أولاد يعقوب فيما يفعلون أمام الميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم مؤكدا باليمين بالله، وتذكروا تفريطهم السابق بيوسف، فقرر أكبرهم في السن أو في الرأي والعقل وهو شمعون أو يهوذا أو روبيل البقاء في مصر، حتى يأذن له أبوه بالرجوع إليه، لاستحيائه منه، أو يحكم الله له بالمضي مع أخيه إلى أبيهما. وهذا دليل على أن التناجي والمشاورة في أمر ما مطلوب شرعا. وقد ذكر القاضي عياض في «الشفا» أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه الآية: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. إذ أن هذه الجملة تضمنت معاني كثيرة، يعبر عنها اليوم بجمل كثيرة لعقد اجتماع سري، وتشاور فيه، ومداولة فيما يجابهون به أباهم، وكيفية بيان الحادث له. 6- اتفق أولاد يعقوب بمشورة كبيرهم الذي بقي في مصر على مصارحة أبيهم بما حدث من واقعة السرقة، وشهادتهم في الظاهر عليها، حيث أخرج الصواع

من متاع بنيامين، وجهلهم بالمغيب، فلم يعلموا وقت أخذ الميثاق عليهم أنه يسرق، ويصير أمرهم إلى ما آل إليه، من الاستعباد أو الاسترقاق، عملا بما هو المقرر من جزاء في شريعتهم. وعلى كل حال فإنهم لما تفكروا في الأصوب ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على نحو ما حدثت. 7- تضمنت آية وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فتصح شهادة المستمع والمعاين والأعمى والأخرس إذا فهمت إشارته، وكذلك تصح الشهادة على الخط إذا تيقن الشاهد أن الخط خط الكاتب أو خط فلان، فكل من حصل له العلم بشيء، جاز أن يشهد به، وإن لم يشهده المشهود عليه، قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف 43/ 86] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني: «ألا أخبركم بخير الشهداء: خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» . وقد شهد أولاد يعقوب بما رأوه حين إخراج الصواع من رحل أخيهم، فغلب على ظنهم أنه هو الذي أخذ الصواع. وأما شهادة المرور بأن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا، فالصحيح أنه إذا استوعب القول، جاز أداء الشهادة عليه. وإذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره، ردّت، لأنه ادّعى باطلا، فأكذبه العيان ظاهرا. والخلاصة: أن الشهادة تكون بالاعتماد على الحواس الظاهرة، أما حقيقة الغيب فلا يعلمها إلا الله تعالى. 8- استعان أولاد يعقوب لإقناع أبيهم بصدق قولهم بسؤال أناس من أهل

مصر، وسؤال قوافل الطعام التي كانت معهم من قوم من الكنعانيين، وهذا يدل على أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم: أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد كلام، وقد فعل هذا نبينا صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم- بقوله للرجلين اللذين مرّا، وهو مع صفية يردّها من المسجد: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» . فقالا: سبحان الله! وكبر عليهما، فقال: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» . ثم إنهم بالغوا في التأكيد والتقرير فقالوا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة، أو لم تنسبنا إليها، فنحن صادقون. 9- الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين عليهم السلام. قال يعقوب في واقعتي يوسف وبنيامين: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إلا أنه قال في واقعة يوسف: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وقال في واقعة بنيامين: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً. 10- قول يعقوب عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً صادر عن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بسؤال ملك الموت أن يوسف عليه السلام لم يمت، وإنما غاب عنه خبره. والذين تمنى إحضارهم ثلاثة: كبير أولاده ويوسف وبنيامين. 11- تجدد مصاب يعقوب وحزنه على يوسف بغياب ولدين آخرين هما أكبر أولاده وأصغرهم، فأسف أسفا شديدا، والأسف: شدة الحزن على ما فات، وعمي فلم يعد يبصر بعينيه ست سنين من البكاء، الذي كان سببه الحزن.

ولكن الله العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة هيأ لجمع الأسرة كلها. 12- إن الحزن ليس بمحظور إذا اقترن بالصبر والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، فذلك من طبع الإنسان وعاطفته، وإنما المحظور هو السخط على القضاء والقدر، والولولة، وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي، قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» . وبناء عليه لما سمع يعقوب عليه السلام كلام أبنائه، ضاق قلبه جدا، وأعرض عنهم، وفارقهم، ثم طلبهم أخيرا وعاد إليهم. 13- أشفق أولاد يعقوب على أبيهم، ورقوا، وذكروا له مخاطر الاستمرار في حال الحزن، وهي إما المرض المضعف القوة، وإما الهلاك والموت، وهذا أمر واقعي مطابق لأحوال الناس. 14- كانت شكاية يعقوب وحزنه ولجوءه بالدعاء إلى الله وحده، لا إلى أحد من الخلق، وهذا هو المطلوب شرعا في كل شاك حزين. 15- إن نبي الله يعقوب يعلم مالا يعلم غيره من الناس بما عند الله من رحمة وإحسان وتفريج كرب، ويعلم أيضا أن رؤيا يوسف صادقة، وأنه وزوجته وأبناؤه سيسجدون له، تصديقا لرؤياه السابقة وهو صغير. 16- تيقن يعقوب عليه السلام حياة ابنه يوسف إما بالرؤيا، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه، وهو أظهر، فعاد يكلم أولاده باللطف، وطلب منهم الذهاب إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه. 17- لا يقنط من فرج الله إلا القوم الكافرون، وهذا دليل على أن الكافر يقنط في حال الشدّة، وعلى أن القنوط من الكبائر، أما المؤمن فيرجو دائما فرج الله تعالى.

الفصل الخامس عشر من قصة يوسف تعرف أولاد يعقوب على يوسف في المرة الثالثة واعترافهم بخطئهم وعفوه عنهم [سورة يوسف (12) الآيات 88 إلى 93] :

قال الرازي: واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا «1» . الفصل الخامس عشر من قصة يوسف تعرّف أولاد يعقوب على يوسف في المرة الثالثة واعترافهم بخطئهم وعفوه عنهم [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 199

الإعراب:

الإعراب: لَأَنْتَ يُوسُفُ اللام: لام الابتداء، وأنت: مبتدأ، ويُوسُفُ: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: في موضع رفع خبر «إن» ويجوز أن تكون لَأَنْتَ ضمير فصل على قول البصريين، أو عمادا على قول الكوفيين. مَنْ يَتَّقِ مَنَّ شرطية مبتدأ، وخبره: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وكان الأصل أن يقال: فإن الله لا يضيع أجرهم، ليعود من الجملة إلى المبتدأ ذكر، إلا أنه أقام المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء. أي يسبقه شيء. وهو كثير في كلام العرب. والجملة من المبتدأ والخبر خبر إن الأولى، والهاء فيها: ضمير الشأن والحديث. ويَصْبِرْ: مجزوم بالعطف على يَتَّقِ. ومن قرأ «يتقي» على جعل من بمعنى «الذي» وإذا كانت بمعنى الذي، ففيها معنى الشرط، ولهذا تأتي الفاء في خبرها في الأكثر، مثل: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين 63/ 10] . لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا: نافية للجنس، وتَثْرِيبَ: اسمها، وعَلَيْكُمُ متعلق بالخبر المحذوف، وتقديره: لا تثريب مستقر عليكم، واليوم منصوب بالخبر المحذوف. ولا يجوز أن يتعلق أحدهما بتثريب، لأنه لو كان متعلّقا به، لوجب أن يكون منونا، كقولهم: لا خيرا من زيد. المفردات اللغوية: الضُّرُّ أي شدة الجوع بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي بدراهم رديئة أو زيوف، يدفعها التجار، من أزجى الشيء: إذا دفعه برفق، كما في قوله تعالى: يُزْجِي سَحاباً [النور 24/ 43] . فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي فأتم لنا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة عن رداءة بضاعتنا، أو برد أخينا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يثيبهم أحسن الجزاء، والتصدق: التفضل مطلقا، ولكنه اختص عرفا بما يبتغى به ثواب من الله تعالى. ثم قال لهم توبيخا: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من الضرب والبيع وغير ذلك وَأَخِيهِ فعلهم بأخيه: إفراده عن يوسف وإذلاله، حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز

المناسبة:

وذلة إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قبح أو عاقبة فعلكم، فأقدمتم عليه. وإنما قال ذلك تحريضا لهم على التوبة وشفقة عليهم، لما رأى من عجز هم وتمسكنهم، لا معاتبة وتثريبا. قالُوا بعد أن عرفوه، لما ظهر من شمائله أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير وإثبات، وحقق بأن ودخول اللام عليه وَهذا أَخِي من أبي وأمي، ذكره تعريفا لنفسه به، وتفخيما لشأنه قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أنعم علينا بالاجتماع والسلامة والكرامة مَنْ يَتَّقِ يخف الله وَيَصْبِرْ على ما يناله من البليات، أو على الطاعات وعن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وضع الظاهر الْمُحْسِنِينَ موضع الضمير أجرهم للتنبيه على أن المحسن: من جمع بين التقوى والصبر. آثَرَكَ فضلك، واختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة وبالملك والسلطة وغيرها وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ إن مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا، أي والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، وآثمين في أمرك. والخاطئ: الذي يتعمد الخطيئة، والمخطئ: الذي يريد الصواب فيخطئه ويصير إلى غيره. والخطء: الذنب. لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا لوم ولا تأنيب عليكم الْيَوْمَ خصه بالذكر، لأنه مظنة التثريب، فغيره أولى. وهو متعلق بالتثريب، أو بالخبر المحذوف وتقديره: لا تثريب كائن أو حاصل عليكم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ لأنه صفح عن جريمتهم التي اعترفوا بها حينئذ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنه يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هو قميص إبراهيم الذي لبسه، حين ألقي في النار، كان في عنقه في الجبّ، فهو القميص المتوارث، أو القميص الذي كان عليه. يَأْتِ بَصِيراً يصر مبصرا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي ائتوني أنتم وأبي وزوجته بنسائكم وذراريكم ومواليكم. المناسبة: الكلام مرتبط بما قبله، بتقدير محذوف، وهو أن يعقوب لما قال لبنيه: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ قبلوا من أبيهم هذه النصيحة، وعادوا إلى مصر للمرة الثالثة، يبحثون عن يوسف وأخيه، بلا يأس، وإنما بأمل وجدّ في البحث، فلما التقوا مع يوسف العزيز، ورق قلبه لاستعطافهم، عرّفهم بنفسه، وتم اجتماع الإخوة الاثني عشر.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فلما ذهبوا في المرة الثالثة، فدخلوا مصر، ودخلوا على يوسف عليه السلام، فقالوا مختبرين بذكر حالهم، واستعطافهم، وشكواهم إليه رقة الحال وقلة المال مما يرقق القلب: يا أيها العزيز- وكان أبوهم يرى أن هذا العزيز هو يوسف- قد أصابنا وأهلنا الضرر الشديد من الجدب والقحط والجوع وقلة الطعام، وأتينا إليك بثمن الطعام الذي نمتاره، وهو ثمن قليل أو رديء زيوف لا يروج بين التجار في الأسواق، فأتم لنا الكيل كما عودتنا من إحسانك، وتصدّق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة، وتسامح فيها بعد أن تتغاضى عن قلتها أو رداءتها، إن الله يجزي المتصدقين أحسن الجزاء، فيخلف لهم ما ينفقون، ويضاعف الثواب لهم. وكان القصد من هذا الكلام الرقيق والتضرع والتذلل اختبار حال العزيز، هل يرق قلبه، ويظهر نفسه، ويعلن عن شخصه؟ بعد أن ذكروا له ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام، وما لدى أبيه من الحزن لفقد ولديه. وقد نجحوا في هذا الاستعطاف، فأخذته رقة ورأفة ورحمة على أبيه وإخوته، وهو في حال الملك والتصرف والسعة، فأجابهم بقوله، مستفهما عن مدى استقباح فعلهم السابق بيوسف: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه بنيامين؟ حيث ألقيتم يوسف في الجبّ، وعرضتموه للهلاك، وفرقتم بينه وبين أخيه، وما عاملتم به أخاه من معاملة جافّة قاسية، حال كونكم جاهلين قبح ما فعلتموه، من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم والقرابة، وذلك كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ الآية [النحل 16/ 119] . والمراد بهذا الاستفهام التقريع والتوبيخ، ومراد يوسف تعظيم الواقعة، أي ما أعظم ما ارتكبتم بيوسف، كما يقال: هل تدري من عصيت؟ والصحيح أنه

قال جاهِلُونَ تأنيسا لقلوبهم وبيانا لعذرهم، كأنه قال: إنما دفعكم لهذا الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور، وكأنه لقنهم الحجة، كقوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار 82/ 6] «1» . وهذا تذكير رقيق بذنوبهم، تمهيدا لتعريفهم بنفسه، لا معاتبة ولوما وتوبيخا، بعد أن حان الوقت في هذه المرة الثالثة من لقاء يوسف مع إخوته، وكان قد أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بتقدير الله وأمره، وهو مصداق قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف 12/ 15] . فاغتنموا فرصة هذا التذكير وتساؤل العارف الخبير بأحوالهم، فسألوه سؤال المتعجب المستغرب المقرّر المثبت أنه أخوهم يوسف: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أي إنهم استفهموا استفهام تعجب من موقفه أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، ولكنهم في هذه المرة عرفوه بقولهم ذلك، وتوسموا أنه يوسف، واستفهموه استفهام استخبار، وقيل: استفهام تقرير، وهو أولى في تقديري، لأنهم كانوا عرفوه بعلامات. قال ابن عباس: إن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ رفع التاج عنه، فعرفوه، فقالوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أي إنهم قالوا: من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف. قالَ: أَنَا يُوسُفُ قال: نعم أنا يوسف المظلوم العاجز، الذي نصرني الله وقواني وصرت إلى ما ترون، وهذا أخي بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه،

_ (1) البحر المحيط: 5/ 341

ومقصوده: أن هذا أيضا كان مظلوما كما كنت، ثم صار منعما عليه من قبل الله تعالى، كما ترون. قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي قد أنعم الله علينا بالاجتماع بعد الفرقة وبعد طول المدة، وأعزنا في الدنيا والآخرة. وفيه إشارة إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخي. إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ.. أي إن كل من يتقي الله حق التقوى فيما أمر به ونهى، ويصبر على طاعة الله وعلى المحن التي يتعرض لها، فإن الله حسبه وكافيه من كل سوء، ومنجيه من كل مكروه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا في الدنيا والآخرة. وهذه شهادة من الله بأن يوسف من المتقين الصابرين المحسنين. قالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ.. أجابوه إعلانا للحق واعترافا له بالفضل، والله لقد فضلك الله علينا، وآثرك بالعلم، والحلم، والخلق، والملك والسعة والتصرف، والنبوة أيضا، وأقروا له بأنهم أساؤوا إليه، وأخطئوا في حقه، وأعلنوا بأنهم المذنبون الخاطئون، الذين لا يعذرون. وبعد اعتذارهم وإعلان توبتهم صفح عنهم فقال: لا لوم ولا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم، وكذا فيما قبله من الأيام، وخص اليوم بالذكر، لأنه مظنة التثريب والعتاب. ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة، فقال: يغفر الله لكم ذنوبكم وظلمكم، وهو أرحم الراحمين لمن تاب إليه وأناب إلى طاعته. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا.. لما عرف يوسف نفسه إخوته، سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره، أي عمي من كثرة البكاء، فقال لهم بما عرف بالوحي: اذهبوا بقميصي هذا الذي على بدني، أو المتوارث عن أجدادي وآبائي إبراهيم

فقه الحياة أو الأحكام:

وإسحاق ويعقوب، فألقوه على وجه أبي فور وصولكم إليه، يأت مبصرا (ذا بصر) كما كان، فإن الغشاوة التي ألمت به تزول بالفرح والبشرى، وذلك بفضل الله وكرمه، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنساء والأولاد، روي أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- جواز الشكوى عند الضّرّ، أي الجوع، بل يجب على الإنسان إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره، أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع، كما يجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه، ولا يكون ذلك معارضا التوكل: وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط. ويظل الصبر والتجلّد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى، كما قال يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده. أما الشكوى لمن لا يؤمل منه إزالتها فهو عبث وسفه، إلا أن يكون على وجه البثّ والتسلي. 2- جواز طلب الزيادة على الحق على سبيل الصدقة، والصدقة كما ذكر مجاهد لم تحرم إلا على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم. وروى ابن جرير أن سفيان بن عيينة سئل: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع قوله: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.

3- استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع: لأن إخوة يوسف قالوا له: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ فكان يوسف هو الذي يكيل. وكذلك الوزّان والعدّاد وغيرهم، لأن على البائع تسليم المبيع وتمييزه عما عداه، إلا إذا باع شيئا معينا أو ما لا يحتاج إلى الكيل أو الوزن أو العدد، ولأن البائع لا يستحق الثمن إلا بعد إيفاء الحق بالكيل أو الوزن. وكذلك أجرة النقد (فحص الدراهم التي هي الثمن) على البائع أيضا، لأنه هو الذي يدّعي الرداءة، ولأن النفع يقع له، فصار الأجر عليه. ويكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق عليّ، لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم، لا رب غيره. 4- استنباط الأحكام من فحوى الكلام وما يصحبه من إشارات، فإن يوسف وجّه لإخوته استفهاما بمعنى التذكير والتوبيخ بقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟ ففهموا منه أنه يوسف، فقالوا على سبيل استفهام التقرير والإثبات: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟. ودل قوله إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، وليسوا أنبياء، لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته، ويدل على أنه حسنت حالهم الآن، أي فعلتم فعلكم إذ أنتم صغار جهال. وتعرف إخوة يوسف عليه، فتجاوب معهم وعرفهم بنفسه قائلا: أَنَا يُوسُفُ أي أنا المظلوم. قال ابن عباس: كتب يعقوب إلى يوسف بطلب ردّ ابنه، وفي الكتاب: من يعقوب صفيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر:

أما بعد، فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدّي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحبّ أولادي إلي، حتى كفّ بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا، والسّلام. فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعرّ جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره، فباح بالسرّ. وأعلن يوسف عن مزيد فضل الله عليه بقوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالاجتماع بعد الفرقة، وبالعز بعد الذل، وبالنجاة والملك. 5- إن من اتقى الله بالتزام ما أمر واجتناب ما نهى، وصبر على المصائب وعن المعاصي، فإن الله يدخر له ثواب إحسانه العمل، ولا يضيع منه شيئا. 6- الاعتراف بالذنب أو الخطأ سبيل الحظوة بالعفو والصفح، فإن قول إخوة يوسف: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أي مذنبين، متضمن سؤال العفو، وقد ظفروا به. ولا مانع من العفو عن الخطأ وإن كان عمديا، فهو تجاوز للحق، أيا كانت صفته، وكل من اقترف ذنبا متجاوز لمنهاج الحق، واقع في الشبهة والمعصية. 7- شهد الله تعالى لنبيه يوسف عليه السّلام بصفات المتقين الصابرين المحسنين، وكفى بشهادة الحق فخرا، وهذا تعليم وتدريب ومثل عملي لنا. 8- كانت عبارة يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ مثلا رائعا في السماحة والعفو والصفح، فهو عفو لا لوم فيه ولا تعيير، وهو صفح في حال المقدرة على العقاب، وهو تنازل عن أي حق دون أي حقد أو كراهية، وأضيف إليه الدعاء بالمغفرة على الذنب والستر، والرحمة في عالم الآخرة بين يدي أرحم الراحمين. وهو لا يكون إلا عن وحي، فكان مرد الفضل في النهاية إلى الله تعالى.

واحتذى نبينا عليه الصلاة والسّلام حذو أخيه يوسف عليه السّلام في هذا القول العظيم يوم فتح مكة بإعلان العفو عن قريش، روى ابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: ماذا تظنون يا معشر قريش؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فخرجوا كأنما نشروا من القبور» . وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وقال يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. 9- حدثت الفرحة الصغرى بعودة البصر إلى يعقوب حينما ألقي عليه قميص يوسف. وهو- في القول الأصح المروي مرفوعا عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فيما ذكر القشيري- قميص إبراهيم الذي ألبسه الله أثناء إلقائه في النار من حرير الجنة ، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، ويعقوب علقه في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وهذا بإعلام الله يوسف به. وقيل: إنه قميص يوسف الذي خلعه من على بدنه، فإنه إذا ألقي على أبيه انشرح صدره، وحصل في قلبه الفرح الشديد، والفرح يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى الحسية، فيقوى بصره، ويزول عنه ما غشيه بسبب البكاء، والطب يؤيد ذلك. 10- تمت الفرحة الكبرى بطلب يوسف عليه السّلام من إخوته إحضار جميع أسرته إلى مصر لاتخاذها دارا، وكان عددهم سبعين أو ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة.

الفصل السادس عشر من قصة يوسف إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييده ببشارة البشير [سورة يوسف (12) الآيات 94 إلى 98] :

الفصل السادس عشر من قصة يوسف إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييده ببشارة البشير [سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَأَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) الإعراب: فَلَمَّا أَنْ جاءَ أن لتأكيد الربط بين شرط «لما» وهو جاءَ وجوابها وهو أَلْقاهُ. البلاغة: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ هذا استنكار من القوم الحاضرين مجلس يعقوب الذين أخبرهم بأن يوسف حي، وأكدوا كلامه بمؤكدات ثلاثة: القسم وإنّ واللام. المفردات اللغوية: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ انفصلت عن بلد مصر وجاوزت حدودها وخرجت من العريش قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره من ولد ولده ومن حوله من قومه إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لأحس برائحة يوسف، أشعره الله برائحة القميص حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخا «1» أي حملته إليه ريح الصبا بإذنه تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر تُفَنِّدُونِ تنسبوني إلى الفند: وهو ضعف العقل الحادث بسبب الهرم، أو الخرف، وجوابمحذوف، تقديره: لصدقتموني، أو لقلت: إنه قريب.

_ (1) الفرسخ: 5544 م

المناسبة:

قالُوا أي الحاضرون لَفِي ضَلالِكَ خطئك، أو في إفراطك في حبه، وإكثار ذكره، وتوقع لقائه بعد طول العهد فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ يهوذا، روي أنه قال: كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه، فأفرحه بحمل هذا إليه، وأن: زائدة أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه السّلام. فَارْتَدَّ رجع بصيرا، لما انتعش فيه من القوة، بسبب الفرح والبهجة. المناسبة: عمت الفرحة أولاد يعقوب في أرجاء مصر، بعد تعارفهم، وانتقل أثر الفرح إلى أرض كنعان في أسعد عودة من رحلتهم الثالثة إلى مصر، وأظهر الله المعجزة على يد يعقوب عليه السّلام بإحساسه برائحة يوسف، وأيّد الله ذلك الشعور ببشارة البشير ابنه الأكبر الذي اعتصم في مصر، حتى يأذن له أبوه بالرجوع بعد بقاء أخيه بنيامين. روى الواحدي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: أما قوله: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي، يَأْتِ بَصِيراً فإن نمروذ الجبار، لما ألقى إبراهيم في النار، نزل عليه جبريل عليه السّلام بقميص من الجنة، وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة، وقعد معه يحدثه، فكسا إبراهيم عليه السّلام ذلك القميص إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة، وعلقها في عنقه، فألقي في الجب، والقميص في عنقه. التفسير والبيان: ولما خرجت إبل أولاد يعقوب من حدود مصر عائدة إلى أرض كنعان (فلسطين) من بلاد الشام، قال يعقوب النبي عليه السّلام لمن حضره من حفدته وقومه: إني لأشم رائحة يوسف وقميصه، لولا أن تنسبوني إلى الفند (الخرف وضعف العقل) والكبر.

أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: لما خرجت العير، هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، أَنْ تُفَنِّدُونِ فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. قال الرازي: والتحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات، لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ليعقوب عليه السّلام على الأظهر أو الأقرب «1» . قالُوا: تَاللَّهِ.. قال الحاضرون في مجلس يعقوب له: والله، إنك لفي خطئك القديم الذي طال أمده بظنك أن يوسف حي يرزق يرجى لقاؤه. قال قتادة: أي من حب يوسف، لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه السّلام. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ.. فحينما وصل البريد، وهو ابنه يهوذا يحمل قميص يوسف، مبشرا له ببقائه حيا هو وأخوه بنيامين، ألقاه على وجه يعقوب، فانقلب فورا بصيرا كما كان، من شدة الفرح قال السّدّي: إنما جاء به (أي يهوذا بن يعقوب) لأنه هو الذي جاء بالقميص، وهو ملطّخ بدم كذب، فأحبّ أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص، فألقاه على وجه أبيه، فرجع بصيرا. قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ.. قال يعقوب لأولاده وحفدته ومن حوله: ألم أقل لكم حين طلبت منكم أثناء ذهابكم إلى مصر: ابحثوا عن يوسف، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته: إني أعلم من الله تعالى بوحي منه أشياء لا تعلمونها، وأعلم أن الله سيردّ يوسف إليّ. وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ كلام مستأنف مبتدأ لم يقع

_ (1) تفسير الرازي: 18/ 208

فقه الحياة أو الأحكام:

عليه القول، ويجوز إيقاع القول عليه وهو ما قاله لهم سابقا: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. وحين ذاك قالوا لأبيهم مترفّقين معظّمين متوسّلين: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، فإنّا كنّا مذنبين عاصين لله، فقد تبنا وأنبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا: يوسف وبنيامين. أجابهم والدهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في المستقبل، لأنّ ربّي غفور ساتر للذّنوب، رحيم بالعباد. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- يمتاز الأنبياء عن غيرهم بأن الله تعالى يظهر على أيديهم معجزات خارقة للعادة، خارجة عن المألوف، وهذا هو الذي مكّن يعقوب من الإخبار برائحة يوسف وقميصه، قبل وصول أولاده إليه، حاملين البشارة بلقائهم الحارّ مع أخيهم يوسف عليه السّلام. وقال ابن عباس: هاجت ريح، فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وعلى هذا القول أيضا يكون الإحساس بالرّائحة محتاجا إلى عناية ربّانيّة، وتأييد روحاني عميق الإدراك. 2- وظهرت معجزة أخرى بشفاء يعقوب عليه السّلام بوضع القميص على وجهه، بإرادة الله تعالى وعونه، فهو إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون. 3- كان كلام الحاضرين في مجلس يعقوب عليه السّلام مشوبا بالغلظة والتّهكّم، مما لا يليق توجيهه لنبيّ إطلاقا، وهو من بنيه زيادة في العقوق. 4- لم يجد يعقوب عليه السّلام عنده شيئا يعطيه مكافأة للبشير، وإنّما دعا

له قائلا: هوّن الله عليك سكرات الموت. وهذا الدّعاء من أعظم الجوائز وأفضل العطايا والهبات. والآية دالّة على جواز البذل والهبات عند البشائر. جاء في حديث كعب بن مالك: «فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني، نزعت ثوبيّ، فكسوتهما إيّاه ببشارته» . وتدلّ الآية أيضا على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغمّ والتّرح، بتفريح الصّبيان وإطعام الطّعام ونحوهما، وقد نحر عمر بعد حفظه سورة البقرة جزورا. 5- نصر الله نبيّه يعقوب عليه السّلام على أولاده وكلّ من حوله، كما ينصر أنبياءه الكرام في نهاية المطاف وفي عاقبة الأمور، وتبيّن أنّ الناس مع الأنبياء كالأقزام مع العمالقة، فلم يجد أولاد يعقوب عليه السّلام بدّا من الاعتذار من أبيهم، وطلب الدّعاء منه أن يغفر الله لهم، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يرتفع الإثم عنه أو يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله وتسامحه وعفوه عنهم، كما عفا عنهم أخوهم يوسف. وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له، فإنه يجب عليه أن يتحلّل منه ويطلب صفحة عنه ومسامحته عليه، ويخبره بالمظلمة وقدرها، والصّحيح أنه لا ينفعه التّحليل المطلق دون بيان السّبب، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال، ربّما لم تطب نفس المظلوم في التّحلل منها. روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيّئات صاحبه، فحمل عليه» ، فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أخذ منه بقدر مظلمته» يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر، مشارا إليها مبيّنة «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 262 [.....]

الفصل السابع عشر من قصة يوسف لقاء أسرة يعقوب عليه السلام في مصر [سورة يوسف (12) الآيات 99 إلى 100] :

6- لم يستعجل يعقوب عليه السّلام بطلب المغفرة لأولاده والدّعاء لهم، وإنّما أخّر ذلك- كما قال ابن عباس- إلى السّحر، قال طاوس: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وهذا رأي الأكثرين. وهذا الموقف من يعقوب يختلف عن موقف يوسف عليهما السّلام، لأنّ دعاء الأول كان مؤجّلا، ودعاء الثّاني كان في الحال. والسبب أن حال الأب حال المربّي، فهو يريد تعظيم الذّنب في أنفسهم، ولأنّ ذنبهم لم يكن موجّها إليه مباشرة، وإنما إلى يوسف عليه السّلام وأخيه، ولأن خطأهم ذنب كبير حدثت منه أضرار كثيرة، فيحتاج إلى توبة نصوح، وندم شديد، ولا يمحى بمجرد طلب الاستغفار، ثمّ إن يوسف عليه السّلام كان قادرا على عقابهم وهم ضعاف، فأراد المبادرة إلى تأمينهم من خوف الانتقام منهم، وتهدئة نفوسهم، وإظهارا للسّرور عقب المفاجأة بأنه أخوهم، وليرى الناس فضل العفو عند المقدرة، ويصبح للنّاس أسوة حسنة. الفصل السابع عشر من قصة يوسف لقاء أسرة يعقوب عليه السّلام في مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

الإعراب:

الإعراب: سُجَّداً جمع ساجد، كشهّد جمع شاهد، وهو حال من واو خَرُّوا وهي حال مقدّرة. البلاغة: إِنْ شاءَ اللَّهُ جملة دعائية للتّبرّك وجعل الأمان بمشيئة الله تعالى، وهي متقدّمة على قوله تعالى: آمِنِينَ، والتّقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً المراد بأبويه أبوه وأمه أو خالته من باب التّغليب للأب، والسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير، لكن قدّم الرّفع لفظا للاهتمام بتعظيمه أبويه. المفردات اللغوية: فَلَمَّا دَخَلُوا في الكلام حذف، تقديره: فرحل يعقوب عليه السّلام بأهله أجمعين، وساروا حتى تلقوا يوسف عليه السّلام. آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمّ إليه أباه وأمه، أو خالته، نزلت منزلة الأم تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله تعالى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة 2/ 133] وإسماعيل كان عمّا ليعقوب عليه السّلام. وَقالَ يوسف عليه السّلام لهم. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ سرير الملك. وَخَرُّوا لَهُ أي أبواه وإخوته الأحد عشر. سُجَّداً سجود تحية وتكرمة له، وسجود انحناء لا سجود عبادة، ولا وضع جبهة على الأرض، فإن ذلك كان تحيتهم في زمانهم. تَأْوِيلُ رُءْيايَ مآلها وعاقبتها. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يقل من الجبّ تكرّما، لئلا يخجل إخوته. الْبَدْوِ البادية. نَزَغَ أفسد ووسوس، يقال: نزغ بين الناس: أفسد بينهم بالحثّ على الشّرّ، وأصل النّزغ: النّخس، يقال: نزغ الرّائض الدّابة: إذا نخسها وحملها على الجري، ونزغه الشيطان: نخسه، ليحثّه على المعاصي. لَطِيفٌ لطيف التّدبير لما يشاء، إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته. الْعَلِيمُ بخلقه وبوجوه المصالح والتّدابير. الْحَكِيمُ في صنعه، الذي يفعل كلّ شيء في وقته، وعلى وجه يقتضي الحكمة. المناسبة: بعد أن طلب يوسف عليه السّلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين، أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان إلى مصر، فخرج يوسف عليه السّلام للقائهم، ومعه بأمر الملك أكابر دولته.

التفسير والبيان:

فتمّ لقاء الأسرة في المرّة الرّابعة من رحلات أولاد يعقوب عليه السّلام إلى مصر، ورأوا يوسف عليه السّلام في عزّ وأبهة، وتحققت رؤيا يوسف عليه السّلام بسجود إخوته الأحد عشر مع أبيه وأمه أو خالته، فتمّ الاجتماع بعد الفرقة، والأنس بعد الكدر. روي أن يوسف عليه السّلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة، ليتجهّز إليه بمن معه، وخرج يوسف عليه السّلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر للقاء يعقوب نبيّ الله عليه السّلام. قيل: إن يعقوب وولده دخلوا مصر، وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون منهم ست مائة ألف وخمس مائة، وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشّيوخ. وأقام يعقوب عليه السّلام عند ابنه يوسف عليه السّلام أربعا وعشرين سنة، أو سبع عشرة سنة، وكانت مدّة فراقه ثماني عشر، أو أربعين أو ثمانين سنة، وحضره الموت، فوصّى يوسف عليه السّلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه، فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وأقام بعده ثلاثا وعشرين سنة. التّفسير والبيان: بناء على طلب يوسف عليه السّلام من إخوته إحضار أهله أجمعين إليه من بلاد كنعان إلى مصر، للإقامة معه فيها، حضر أبوه وخالته وإخوته وأسرهم، فلما أخبر يوسف عليه السّلام باقترابهم، خرج لتلقّيهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف عليه السّلام، لتلقي نبيّ الله يعقوب عليه السّلام، فلما دخلوا على يوسف عليه السّلام في أبهة سلطانه، بعد أن استقبلهم في الطريق مع جموع غفيرة، ضمّ إليه أبويه وعانقهما: وهما أبوه وأمه على القول الذي رجّحه

ابن جرير، بأنّها كانت حيّة، أو أبوه وخالته لأن أمه قد ماتت، فتزوّج أبوه خالته. وقال لأسرته جميعا: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. ورفع أبويه على سرير ملكه بأن أجلسهما معه، تكريما لهما، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحيّة وإكرام له، لا سجود عبادة وتقديس، وكان سجود الانحناء هو تحيّة الملوك والعظماء في زمنهم. ويلاحظ أن في الآية حذفا في مطلعها تقديره: فجاء يعقوب وأسرته حتى وصلوا إلى مصر، وفيها تقديم المشيئة إِنْ شاءَ اللَّهُ على قوله: آمِنِينَ لأن القصد اصطحاب الدّخول بالأمان والسّلامة والغنيمة، وكذلك فيها تقديم وتأخير بين الرّفع على العرش وبين السّجود، فالسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير الملكي، لكن قدّم الرّفع، اهتماما بتعظيم أبويه. وحينئذ أعادت الذّاكرة إلى ذهن يوسف عليه السّلام رؤياه السابقة في عهد الصّغر، فقال لما رأى سجود أبويه وإخوته: يا أبت، هذا السّجود تأويل رؤياي القديمة حال صغري، وهي: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وتأويل رؤياي: ما آل إليه الأمر. إن تلك الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة وصحيحة صدقا، فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت، كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده، صار سببا لوجوب ذلك الذّبح عليه في اليقظة، فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف عليه السّلام، وحكاها ليعقوب من قبل، سببا لوجوب ذلك السّجود. وقد أحسن الله تعالى إليّ وأفاض عليّ من نعمه، إذ أطلق سراحي من

فقه الحياة أو الأحكام:

السّجن، ورزقني الملك، وجاء بكم من البادية، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش، فنقلكم إلى الحضر وترف المدينة. ولم يذكر إخراجه من البئر، ترفّعا عن لوم إخوته، وتكريما لهم، وحفاظا على حيائهم، ولأن السّجن كان آخر المحن، وأخطر من السّقوط في الجبّ لما فيه من اتّهام بالنّساء، ولأنه بعد خروجه من البئر صار عبدا لا ملكا، وصار بعد السّجن ملكا، فكان الإخراج منه أقرب إلى الإنعام الكامل. حدث هذا كلّه من بعد أن نزغ الشّيطان، أي أفسد وأغوى بيني وبين إخوتي، وقد أضاف النّزغ إلى الشّيطان لأنه سبب الإفساد، وتكريما لإخوته. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي إذا أراد أمرا قيّض له أسبابا وقدّره ويسّره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أقواله وأفعاله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن العاطفة بين الولد وأبويه طبيعية فطرية، لذا كان إكرام يوسف عليه السّلام لأبويه أشدّ من إكرام إخوته، فعانقهما وضمّهما إليه، وأجلسهما على سرير الملك معه، واكتفى بأن قال لجميع الأسرة: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. 2- دلّ قوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ على تأمين الحاكم الدّاخلين إلى بلاده من قطر آخر، وهو أمان يشمل الأنفس والأهل والأموال. والمراد بقوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ كما ذكر ابن عباس: أقيموا بها آمنين، سمّى الإقامة دخولا لاقتران أحدهما بالآخر.

والأمان الحقيقي لا يكون إلا بمشيئة الله، لذا علقه بقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ مثل قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح 48/ 27] . 3- أجمع المفسّرون على أنّ سجود أسرة يوسف عليه السّلام له كان سجود تحيّة وانحناء على عادتهم المألوفة في التّحية، لا سجود عبادة ولا على الأرض. وقد نسخ الله تعالى ذلك كله في شرعنا. وبالرّغم من نسخ الانحناء في التّحية، فإن بعض المسلمين مع الأسف، لا يتنبهون لذلك، وينحنون في التّحية والسّلام، كما يفعل الغربيون الآن. روى ابن عبد البرّ في التّمهيد عن أنس بن مالك قال: قلنا: يا رسول الله، أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: «لا» ، قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال: «لا» ، قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال: «نعم» . وأمّا القيام للقادم، كما أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة الأوس بقوله في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود عن أبي سعيد: «قوموا إلى سيّدكم وخيركم» يعني سعد بن معاذ، فهو جائز إذا لم يؤثّر ذلك في نفسه، فإن أثّر فيه، وأعجب به، ورأى لنفسه حظّا، لم يجز إعانته على ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يتمثّل له النّاس قياما، فليتبوأ مقعده من النّار» . وتجوز الإشارة بالإصبع للبعيد عنك، دون الدّاني القريب، وإذا سلّم لا ينحني، ولا أن يقبّل مع السّلام يده، ولأن الانحناء على معنى التّواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم. ولا بأس بالمصافحة، فقد صافح النّبي صلّى الله عليه وسلّم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال فيما أخرجه ابن عدي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «تصافحوا يذهب الغلّ» . وروى غالب التّمار عن الشّعبي أن أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا إذا التقوا تصافحوا،

الفصل الثامن عشر من قصة يوسف دعاء جامع يتضمن تحدث يوسف بنعم الله عليه وطلبه من ربه حسن الخاتمة [سورة يوسف (12) آية 101] :

4- عدّد يوسف عليه السّلام بعض النّعم عليه وعلى آله، منها الخروج من السّجن، ومجيء أهله من البادية في أرض كنعان، واللطف أو الرّفق الإلهي بالعباد حيث جمع الأسرة هذا الجمع الكريم الحافل السّارّ، بعد إيقاع الشّيطان الحسد بينه وبين إخوته، وتمّ ذلك كلّه بفعل الله تعالى وفضله. 5- تحققت رؤيا يوسف الّتي رآها في عهد الصّغر، واختلف العلماء في مقدار المدة بين تحقق الرؤيا وبين حدوثها، فقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون: إن تأويل الرؤيا إنّما صحّت بعد أربعين سنة. 6- إذا أراد الله تعالى شيئا هيّأ أسبابه ويسّرها، فحصول الاجتماع بين يوسف عليه السّلام وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة، وطيب العيش، وفراغ البال، كان في غاية البعد، إلا أنه تعالى لطيف بعباده، لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، وحكيم محكم في فعله، حاكم في قضائه، حكيم في أفعاله، مبرّأ عن العبث والباطل. الفصل الثامن عشر من قصّة يوسف دعاء جامع يتضمّن تحدّث يوسف بنعم الله عليه وطلبه من ربّه حسن الخاتمة [سورة يوسف (12) : آية 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

الإعراب:

الإعراب: فاطِرَ السَّماواتِ.. منصوب على أنه صفة المنادي أو منادى مستقل. المفردات اللغوية: مِنَ الْمُلْكِ بعض الملك وهو ملك مصر. وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تأويل الكتب الإلهيّة، وتعبير الرؤيا، ومِنَ أيضا للتّبعيض لأنه لم يؤت كلّ التّأويل. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما. أَنْتَ وَلِيِّي ناصري أو متولّي أمري أو منعم عليّ. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي، أو بعامة الصالحين في الرّتبة، فعاش بعد ذلك أسبوعا أو أكثر، ومات وله مائة وعشرون سنة، أو مائة وسبعة أعوام. فتنازع المصريون في مدفنه، فجعلوه في صندوق من مرمر، ودفنوه في أعلى النّيل، لتعمّ البركة جانبيه، ثم نقله موسى عليه السّلام إلى مدفن آبائه في فلسطين. أما يعقوب عليه السّلام فأقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة، ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه، فذهب به، ودفنه ثمّة، وعاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة. المناسبة: بعد أن حمد يوسف عليه السّلام ربّه على لطفه ونعمه، باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منّ الله به عليه من النّبوة والملك، دعا هذا الدّعاء، وسأل ربّه عزّ وجلّ، كما أتمّ نعمته عليه في الدّنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة، وأن يتوفّاه مسلما، وأن يلحقه بالصّالحين. التفسير والبيان: قال يوسف بعد اجتماعه بأبويه وإخوته: ربّ قد أعطيتني ملك مصر، وجعلتني حاكما مطلق التّصرف فيها دون منازع ولا معارض ولا حاسد. روي أن يوسف عليه السّلام أخذ بيد يعقوب عليه السّلام، وطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الذهب والفضة، وخزائن الحلي، وخزائن الثياب، وخزائن السّلاح، فلما أدخله خزائن القراطيس، قال: يا بني ما أغفلك! عندك هذه

فقه الحياة أو الأحكام:

القراطيس، وما كتبت إليّ على ثمان مراحل، قال: نهاني جبريل عليه السّلام عنه، قال: سله عن السّبب، قال: أنت أبسط إليه، فسأله، فقال جبريل عليه السّلام: أمرني الله تعالى بذلك، لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فهلا خفتني؟! وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي الكتب السّماوية وأسرار كلامك، وتعبير الرؤيا ومصداقيتها، فتقع كما ذكرت. ومِنَ في قوله: مِنَ الْمُلْكِ، ومِنْ تَأْوِيلِ.. للتّبعيض، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدّنيا وهو ملك مصر، وبعض التّأويل. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنت خالق السّموات والأرض ومبدعهما. أَنْتَ وَلِيِّي.. أنت ناصري ومتولّي أموري وشأني كلّه في الدّنيا والآخرة، فإن نعمك غمرتني في الدّنيا، وأملي فيها في الآخرة. تَوَفَّنِي مُسْلِماً أمتني على الإسلام منقادا خاضعا طائعا أوامرك. قال ابن عباس: «ما تمنّى نبيّ قط الموت قبل يوسف عليه السّلام» . وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ اجعلني ملحقا بالأنبياء والمرسلين، على العموم، وبآبائه على الخصوص وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر، ودفن في النّيل في صندوق من رخام، ثم نقل موسى عليه السّلام تابوته بعد أربع مائة سنة إلى بيت المقدس، فدفن مع آبائه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى أن سيرة الأنبياء عليهم السّلام مثل أعلى في القدوة، فإن نعم الله تعالى على يوسف عليه السّلام في الدّنيا من إيتاء الملك وتعبير الرؤيا، لم تحجبه عن طلب مرضاة الله تعالى في الآخرة، لأن العبرة بحسن الخاتمة،

الفصل التاسع عشر من قصة يوسف إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الإخبار عن المغيبات والإعراض عن التأمل في الآيات ودعوة النبي إلى التوحيد [سورة يوسف (12) الآيات 102 إلى 108] :

وبما يلقاه المؤمن من نعيم خالد في الآخرة، ولأن الآخرة خير وأبقى. وبما أنه نبيّ لم يطلب أقلّ من مرتبة الأنبياء وكرامتهم، فسأل الله أن يجعله مع الصالحين، وهم الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم. أما تمني الموت فلم يكن مطلقا، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفّني مسلما، وهذا قول الجمهور، فاللهم اجعل وفاتنا على الإيمان. ولا يجوز في شريعتنا تمنّي الموت، بدليل ما ثبت عند الإمام أحمد وفي الصّحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنّيا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي» ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» . الفصل التّاسع عشر من قصّة يوسف إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم الإخبار عن المغيبات والإعراض عن التّأمل في الآيات ودعوة النّبي إلى التّوحيد [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 108] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

الإعراب:

الإعراب: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ.. ذلِكَ: مبتدأ، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ، نُوحِيهِ إِلَيْكَ: خبران له. وَما أَكْثَرُ النَّاسِ.. بِمُؤْمِنِينَ ما: نافية حجازية، وأَكْثَرُ: اسمها، وبِمُؤْمِنِينَ: متعلّق بخبرها. ووَ لَوْ حَرَصْتَ اعتراضية. بَغْتَةً منصوب على الحال، وأصله المصدر. عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أَنَا: تأكيد للضمير المستتر في أَدْعُوا وفي عَلى بَصِيرَةٍ لأنه حال من أَدْعُوا ومَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه، يريد: أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتّبعني. ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ وخبره عَلى بَصِيرَةٍ خبر مقدّم، أي على حجة وبرهان، لا على هوى. هذِهِ سَبِيلِي مبتدأ وخبر. البلاغة: وَلَوْ حَرَصْتَ اعتراضية بين اسم ما الحجازية وخبرها، للدّلالة على أن الهداية بيد الله وحده. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ على حذف مضاف، أي وما تسألهم على تبليغ القرآن الكريم من أجر. مُعْرِضُونَ ومُشْرِكُونَ سجع: وهو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه السّلام، والخطاب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أخبار ما غاب عنك يا محمد. لَدَيْهِمْ لدى إخوة يوسف عليه السّلام. إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ في كيده، أي إلقائه في الجبّ، وأَجْمَعُوا: عزموا عليه. وَهُمْ يَمْكُرُونَ به، أي لم تحضرهم، فتعرف قصّتهم، فتخبر بها، وإنما ذلك من تعليم الله تعالى لك، وقوله: وَما كُنْتَ

المناسبة:

لَدَيْهِمْ.. إلخ الآية دليل على صدق الإخبار بالمغيب عنك، والمعنى: هذا النّبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي، لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه السّلام حين عزموا على ما همّوا به من أن يجعلوه في غيابة الجبّ، وهم يمكرون به وبأبيه، ليرسله معهم. ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك، فتعلّمته منه. وإنما حذف هذا الكلام استغناء بذكره في غير هذه القصة مثل: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود 11/ 49] . وَما أَكْثَرُ النَّاسِ أي أهل مكة. وَلَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات لهم. بِمُؤْمِنِينَ لعنادهم وتصميمهم على الكفر. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على الإنباء أو القرآن الكريم. مِنْ أَجْرٍ من جعل تأخذه كما يفعل حملة الأخبار. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ما هو أي القرآن الكريم إلا عظة للعالمين من الإنس والجنّ. وَكَأَيِّنْ وكم من آية، والمراد بها كثير من الآيات الدّالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده، فالآية هنا: دليل على وجود الصانع ووحدانيته. يَمُرُّونَ عَلَيْها يمرّون على الآيات، أي يشاهدونها. وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكّرون فيها، ولا يعتبرون بها. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ حيث يقرّون بوجوده وخالقيته، أي أنه الخالق الرّازق. إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ به بعبادة الأصنام، فكانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» ، أو يشركون باتّخاذ الأحبار أربابا من دون الله، ونسبة التّبنّي إليه، أو القول بالنور والظلمة. قيل: الآية في مشركي مكة، وقيل: في المنافقين، وقيل: في أهل الكتاب، والأولى حملها على العموم. غاشِيَةٌ نقمة تغشاهم أو عقوبة تحيط بهم وتعمّهم أو تشملهم. بَغْتَةً فجأة. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانها. هذِهِ سَبِيلِي طريقي. أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ إلى دين الله. عَلى بَصِيرَةٍ حجة واضحة ومعرفة تامة. وَمَنِ اتَّبَعَنِي ومن آمن بي. وَسُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عن الشّركاء. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وما أنا من جملة المشركين، وهو من جملة سبيله أيضا. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة يوسف عليه السّلام، أراد الحقّ تعالى أن يثبت بها نبوّة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، عن طريق أنها إخبار بالغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ولم يشاهده النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولا قومه، مما يدلّ على كون القرآن كلام الله تعالى، وكون نبوّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم حقّا وصدقا. ثم ندّد الله تعالى بموقف المشركين من الإيمان بالله تعالى، فذكر أن هناك

التفسير والبيان:

كثيرا من الآيات الدّالة على وجود الصانع ووحدانيته، ولكن لا يلتفت إليها أولئك المشركون، وإنّما يعرضون عنها. وحسم الحقّ تعالى الموقف، فأبان أن سبيل دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو الدّعوة إلى التّوحيد، ورفض الشّرك بمختلف أشكاله وأنواعه. التّفسير والبيان: ذلك المذكور من قصة يوسف بدءا من رؤياه الرؤيا وإلقائه في الجبّ إلى أن أصبح حاكم مصر الفعلي، وبيان موقف إخوته منه، وحال أبيهم يعقوب عليه السّلام، هو من أخبار الغيب الّتي لم يطّلع عليها النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يرها هو وقومه، والخطاب له، وهي وحي من الله تعالى إليه، لتثبيت فؤاده، وصبره على أذى قومه وإعراضهم عن دعوته. والمقصد الإخبار عن الغيب، فيكون معجزا، لأنه صلّى الله عليه وسلّم ما طالع الكتب، ولم يتتلمذ لأحد، ولم يكن حاضرا معهم، فإخباره بهذه القصة الطويلة من غير تحريف ولا غلط إعجاز. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ.. بمثابة الدّليل على كونه من الغيب، أي وما كنت حاضرا عندهم، ولا مشاهدا لهم، حين عزموا على إلقائه في الجبّ، وهم يمكرون به وبأبيه، ولكنّا أعلمناك به وحيا إليك، وإنزالا عليك، كقوله تعالى في قصّة مريم: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: 3/ 44] ، وقوله سبحانه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إلى قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [القصص 28/ 44- 46] ، وقوله عزّ وجلّ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا [القصص 28/ 45] .

وبالرّغم من هذه الأخبار المعجزة التي فيها عبرة وعظة لم يؤمن أكثر النّاس، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ.. أي وليس أكثر النّاس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك، ولو حرصت وتهالكت على إيمانهم، لتصميمهم على الكفر وعنادهم. والمراد بالآية العموم، كقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرّعد 13/ 1] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أهل مكة. ووجه اتصال الآية بما قبلها على قول ابن عباس: أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التّعنّت، واعتقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا ذكرها، فربّما آمنوا، فلمّا ذكرها أصرّوا على كفرهم، فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] «1» . ومعنى الحرص: طلب الشّيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد، وجواب لَوْ محذوف لأن جوابيكون مقدّما عليها، فلا يجوز أن يقال: قمت لو قمت. ثم نفى تعالى أن يكون للمشركين عذر بعدم الإيمان بدعوتك فقال: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.. أي ما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على هذا النّصح والدّعاء إلى الخير والرّشد من أجر، أي من جعل ولا أجرة، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه، فما عليهم إلا الاستجابة لدعوتك، لأنك لا تقصد إلا اتّباع أمر ربّك ونصحهم الخالص. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك إلا تذكير وموعظة لكلّ العالمين من الإنس والجنّ، به يتذكّرون وبه يهتدون، وينجون به في الدّنيا والآخرة. وهذا دلّ على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) تفسير الرّازي: 18/ 223

والسّبب في أن أكثر النّاس لا يؤمنون أنهم في غفلة عن التّفكّر في الدّلائل الدّالّة على وجود الصانع وتوحيده، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ.. أي وكم من آية دالّة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته في السّموات والأرض من كواكب ثابتة وسيّارة وجبال وبحار، ونبات وشجر، وحيوان وحي وميت، وثمار متشابهة ومختلفة في الطّعوم والرّوائح والألوان والصّفات، يمرّ على تلك الآيات ويشاهدها أكثرهم، وهم غافلون عنها، لا يتفكّرون بما فيها من عبر وعظات، وكلّها تشهد على وجود الله تعالى ووحدانيته. وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد والآية هنا: الدّليل على وجود الله تعالى وتوحيده. وأما علماء الفضاء والفلك فدأبهم الرّصد المادي كرصد الحركة أو الثّبات، واستنباط القوانين العلمية، لكنهم لا يفكرون غالبا في الخالق الموجد، وفي عظمة المدبّر والمقدّر. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ.. أي وما يكاد يقرّ أكثر المشركين بوجود الله، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] إلا وتراهم يقعون في الشّرك، لإشراكهم مع الله الأصنام والأوثان في العبادة. فكلّ عبادة أو تقديس وتعظيم لغير الله شرك، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» . وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد: من

كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشّركاء عن الشّرك» . وروى التّرمذي وحسّنه ابن عمر: «من حلف بغير الله فقد أشرك» أي حلف بغير الله قاصدا تعظيمه مثل الله فقد أشرك. وروى أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر، قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرّياء، يقول الله تعالى يوم القيامة: إذا جاز النّاس بأعمالهم، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدّنيا، فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟» . وروى أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أيها النّاس، اتّقوا هذا الشّرك، فإنه أخفى من دبيب النّمل» ثم بيّن للصحابة كيف يتّقى الشّرك الخفي، فقال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه» . ثم هدد الله تعالى المشركين بالعقاب فقال: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة، وهم لا يحسون ولا هم يشعرون بذلك، وهذا كالتأكيد لقوله: بَغْتَةً. ونظير الآية قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النّحل 16/ 45- 47] . وقوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَ

فقه الحياة أو الأحكام:

أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف 7/ 97- 99] . وإبهام السّاعة مبعث الهيبة والخوف من الله دون وازع مشاهد أو قريب. ثم أبان الله تعالى بعد كل تلك الأدلة هدف دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وثقته بها، فقال: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي.. أي قل يا محمد للثقلين: الإنس والجن: إن هذه الطريقة التّي أتبعها، والدّعوة الّتي أدعو إليها وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أدعو إلى دين الله بها، على يقين، وحجة واضحة قاطعة، وبرهان، أدعو أنا، ويدعو إليها كل من اتبعني أي آمن بي وصدّق برسالتي. وسبحان الله أي وأنزه الله وأجلّه وأعظمه وأقدسه من أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والدّ أو صاحبة أو وزير أو مشير، تبارك وتعالى وتقدس الله عن ذلك علوا كبيرا: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء 17/ 44] . وبعد أن أثبت الوحدانية لله نفى الشّرك نفيا قاطعا للرّد على المشركين الذين كانوا يقرون بوجوده ثم يشركون به في العبادة إلها آخر فقال: وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي أنا بريء من جميع المشركين على مختلف أنواعهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- الإخبار بقصة يوسف وغيرها من قصص الأنبياء السّابقين مع أقوامهم من أنباء الغيب الدّالة على المعجزة: وهي كون القرآن كلام الله، وصدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، فذلك معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

2- نزلت آية وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، أي حتى ولو أخبرتهم بقصة يوسف، فلم يؤمنوا، أي لست تقدر على هداية من أردت هدايته. 3- مهمة كل نبي تبليغ الوحي المنزل عليه بإخلاص وقصد الثواب عند الله عز وجل، دون تكليف النّاس بشيء من الأجر أو المقابل. 4- القرآن والوحي عظة وتذكرة للعالمين قاطبة، لا للعرب خاصة، إنه تذكرة لهم في دلائل التّوحيد والعدل والنّبوة، والمعاد والقصص، والتّكاليف والعبادات، ففيه منافع عظيمة. 5- ما أكثر الآيات، أي الدّلائل الدّالة على وجود الله تعالى ووحدانيته، وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته، في السّموات والأرضين من نجوم وكواكب وبحار وأنهار وجبال ونباتات وأشجار، وصحار شاسعات، وأحياء وأموات، وحيوان وثمرات مختلفة الطعوم والرّوائح والألوان والصّفات. وهذه كلها أدلة محسوسة. 6- إيمان المشركين مزيف باطل، فهم يقرون بوجود الله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان. قال ابن عباس: نزلت في تلبية مشركي العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وعنه أيضا أنهم النّصارى. وعنه أيضا أنهم المشبّهة الذين يشبهون الله بخلقه، آمنوا مجملا وأشركوا مفصّلا. وقيل: نزلت في المنافقين، والأولى حملها على العموم، والمعنى كما قال الحسن وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه. 7- عذاب الله وعقابه، وإتيان السّاعة (يوم القيامة) يأتيان فجأة، من حيث لا يشعر النّاس بهما. 8- طريقة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وسنته ومنهاجه، ومنهاج أتباعه المؤمنين به الدّعوة

الفصل العشرون من قصة يوسف العبرة من القصص القرآني [سورة يوسف (12) الآيات 109 إلى 111] :

إلى ما يؤدي إلى الجنة، على يقين وحق، وشعار المؤمن دائما: سبحان الله وما أنا من المشركين، أي أنزه الله عن أي شريك، ولست من الذين يتخذون من دون الله أندادا أي نظراء لله. وسمي الدّين سبيلا، لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، كما في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النّحل 16/ 125] . الفصل العشرون من قصّة يوسف العبرة من القصص القرآني [سورة يوسف (12) : الآيات 109 الى 111] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) الإعراب: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مبتدأ وخبر، وهذا إضافة الصّفة بعد حذف الموصوف، وتقديره: ولدار السّاعة أو الحال الآخرة، وهذه الإضافة في نيّة الانفصال، ولهذا لا يستفيد المضاف التّعريف من المضاف إليه.

المفردات اللغوية:

حَتَّى إِذَا متعلّقة بمحذوف، دلّ عليه الكلام، كأنه قيل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النّصر. وَلكِنْ تَصْدِيقَ خبر كان المقدرة، أي ولكن كان ذلك تصديق الذي بين يديه وتفصيلا، وهُدىً وَرَحْمَةً منصوبان بالعطف عليه. المفردات اللغوية: إِلَّا رِجالًا لا ملائكة. مِنْ أَهْلِ الْقُرى الأمصار لأنهم أعلم وأحلم، بخلاف أهل البوادي لجفائهم وجهلهم. أَفَلَمْ يَسِيرُوا أهل مكة. عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي آخر أمرهم من إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم. وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي ولدار الحال القادمة أو السّاعة الأخرى أو الحياة الآخرة وهي الجنة. اتَّقَوْا الله واتقوا الشّرك والمعاصي، أي خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. أَفَلا تَعْقِلُونَ أهل مكة، فيؤمنوا. حَتَّى غاية محذوف، دلّ عليه الكلام، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فتراخى نصرهم. اسْتَيْأَسَ يئس، أي لا يغررهم تمادي أيامهم، فإن من قبلهم أمهلوا، حتى أيس الرّسل من النّصر عليهم في الدّنيا أو من إيمانهم، لانهماكهم في الكفر. وَظَنُّوا أيقنوا. كُذِبُوا أي ظنّ الأمم أنّ الرّسل أخلفوا ما وعدوا به من النّصر، وعلى قراءة التّشديد، أي وظنّ الرّسل أن القوم قد كذبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم. فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وهم النّبي والمؤمنون. بَأْسُنا عذابنا. عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ المشركين. فِي قَصَصِهِمْ أي الرّسل. عِبْرَةٌ أي اعتبار من حال إلى حال. لِأُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول. ما كانَ هذا القرآن. يُفْتَرى يختلق. الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قبله من الكتب. وَتَفْصِيلَ تبيين. كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدّين. وَهُدىً من الضّلالة. وَرَحْمَةً ينال بها خير الدّارين. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقونه، خصّوا بالذّكر لانتفاعهم به دون غيرهم. المناسبة: بعد أن أثبت القرآن الكريم نبوّة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بدليل إخباره عن المغيبات، ردّ الله على منكري النّبوة، فقد كان من شبه منكري نبوّته صلّى الله عليه وسلّم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا، كما حكى القرآن عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت 41/ 14] .

التفسير والبيان:

ثم أنذر الله كفار قريش وأمثالهم بالعقاب والعذاب إن لم يؤمنوا، فإن سنّة لله في عباده واحدة أنهم إن لم يؤمنوا، حلّ بهم العذاب. ثم ذكر تعالى أن قصة يوسف عليه السّلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوي العقول والأفكار. التّفسير والبيان: ختمت سورة يوسف بهذه الخاتمة الدّالّة على وجوب الاتّعاظ والاعتبار بقصته المؤثرة الحادثة بين كنعان ومصر، وفي ألوان متعددة، تبتدئ بإلقائه في الجبّ، ثم صيرورته في بيت العزيز، ثم في السّجن، ثم في أعلى مناصب الحكم، وصف فيها كيد الإخوة وحسدهم، ومكر النّساء وكيدهنّ، وصبر يوسف عليه السّلام وحكمته ومهارته في إدارة الحكم، وأخلاقه وتسامحه مع إخوته، وتعظيمه أبويه. والمعنى: وما أرسلنا يا محمّد من قبلك رسلا إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، وكانوا من أهل المدن لا من البوادي، وكنّا ننزل عليهم الوحي والتّشريع. وهذا يدلّ على أن الله أرسل الرّسل من الرّجال، لا من النّساء، فلم تكن امرأة قط نبيّا ولا رسولا، وعلى اختيار الرّسل من أهل المدينة، فلم يبعث الله رسولا من أهل البادية، لتتبعهم المدن الأخرى، ولأن أهل البادية فيهم الجهل والجفاء، وأن أهلا لمدن أرق طباعا وألطف من أهل البوادي، ولهذا قال تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التّوبة 9/ 97] . قال ابن كثير: وزعم بعضهم أن سارّة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم بنت عمران أم عيسى نبيّات، واحتجّوا بأن الملائكة بشّرت سارّة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص 28/ 7] وبأنّ الملك جاء إلى مريم فبشّرها بعيسى عليه السّلام، وبقوله تعالى: وَإِذْ

قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران 3/ 42- 43] وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكنّ نبيّات بذلك «1» . ثم هدد الله المشركين على تكذيبهم بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم فقال متعجّبا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون لك يا محمّد في الأرض، فينظروا ويروا كيف كان مصير الأمم المكذّبة للرّسل، كيف دمّر الله عليهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وللكافرين أمثالها، فإن عاقبة الكافرين الهلاك، وعاقبة المؤمنين النّجاة. ثم حضّ الله تعالى على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتّقاء المهلكات فقال: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي إن الدّار الآخرة خير للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه، فهي أفضل من هذه الدّار للمشركين المكذّبين بالرّسل، أي وكما نجّينا المؤمنين في الدّنيا، كذلك كتبنا لهم النّجاة في الدّار الآخرة، وهي خير لهم من الدّنيا بكثير فإن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدّنيا، وأبقى وأخلد. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أجهلتم؟ فلا تعقلون أيها المكذّبون بالآخرة، فإنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم. ثم بشر الله نبيّه بالنّصر بإخباره أن نصره تعالى ينزل على رسله عليهم السّلام عند ضيق الحال واشتداد الأزمة وانتظار الفرج من الله تعالى في أحرج الأوقات إليه، فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ.. فيه محذوف، أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فبلغوا أقوامهم رسالتهم الدّاعية إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، فكذّبوهم وتمادى أقوامهم في الطغيان والكفر والعناد،

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 496

فتراخى نصرهم، حتى أيس الرّسل من إيمانهم أو من النّصر عليهم، لانهماكهم في الكفر، وظنّت (أيقنت) الأمم أن الرّسل أخلفوا فيما وعدوهم به من النّصر، وكذّبوهم فيما أخبروهم به عن الله من وعد النّصر، فجاءهم نصرنا، أي أتاهم نصر الله فجأة، فنجّي من نشاء وهم النّبي والمؤمنون، وحلّ العقاب بالمكذّبين الكافرين، ولا يردّ بأسنا، أي لا يمنع عقاب الله وبطشه عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله وكذّبوا رسله. والمعنى على قراءة كُذِبُوا بالتّشديد: وظنّ الرّسل أن القوم قد كذّبوهم تكذيبا لا إيمان بعده فيما أو عدوهم. وهذا تهديد ووعيد لكفار قريش وأمثالهم لعدم إيمانهم بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم. وللآية نظائر كثيرة في القرآن الكريم منها ما اشتمل على وعد الله الرّسل بالنّصر: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر 40/ 51] ، وقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] ، ومنها استنجاز النّصر: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] . ومنها بيان سبب العقاب وهو الظّلم والكفر: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التّوبة 9/ 70] . ومنها تقرير سنّة الله الواحدة في عباده وإلحاق النّظائر والأشباه بأمثالها، وأنه لا ظلم فيها ولا محاباة، فكفار قريش مثل الكفار السّابقين في استحقاقهم العذاب لارتكابهم سببه وهو الكفر: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر 54/ 43] . ونقل تفسير الآية على قراءة التّشديد: كُذِبُوا على النّحو السّابق عن

عائشة، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لابن أختها عروة بن الزّبير، وهو يسألها عن قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ الآية: «معاذ الله لم تكن الرّسل تظنّ ذلك بربّها، هم أتباع الرّسل الذين آمنوا بربّهم وصدّقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النّصر، حتى إذا استيأس الرّسل ممن كذّبهم من قومهم، وظنّت الرّسل أنّ أتباعهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك» . وأنكرت عائشة المعنى على قراءة التّخفيف. وقال الرّازي عن تأويل عائشة: وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية. ونقل تفسير الآية على قراءة التّخفيف كُذِبُوا عن ابن عباس وابن مسعود، قال ابن عباس: «لما أيست الرّسل أن يستجيب لهم قومهم، وظنّ قومهم أن الرّسل قد كذبوهم، جاءهم النّصر على ذلك» ، وقال ابن مسعود في آية: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ: من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا، بالتخفيف. وهذا هو المشهور عن الجمهور «1» . والخلاصة: على قراءة التّخفيف، الضمير في وَظَنُّوا عائد على المرسل إليهم، لتقدّمهم في الذّكر في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيكون الضّمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذّبي الرّسل، والظّن هاهنا بمعنى التّوهم والحسبان. والمعنى: وظنّ المرسل إليهم أنهم قد كذبهم الرّسل فيما ادّعوه من النّبوة وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب، وهذا مشهور قول ابن عباس وتأويل عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضّمائر في هذه القراءة على الرّسل لأنهم

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 497- 498، تفسير القرطبي: 9/ 275

معصومون، فلا يمكن أن يظنّ أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله «1» . وعلى قراءة التّشديد وجهان: الأول- أنّ الظنّ بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم، فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال، وورود الظنّ بمعنى العلم كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة 2/ 46] ، أي يتيقنون ذلك. والثاني- أن يكون الظنّ بمعنى الحسبان، والتّقدير: حتى إذا استيأس الرّسل من إيمان قومهم، فظنّ الرّسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم، وهذا التّأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها، قال الرّازي: وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية «2» . وقال الزّمخشري في قراءة التّخفيف: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو وظنّوا أنهم قد كذبهم رجاؤهم كقولهم: رجاء صادق ورجاء كاذب، والمعنى أن مدّة التّكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النّصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم، وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدّنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب «3» . ثم ذكر الله تعالى الهدف العام من قصص القرآن، فقال: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ أي لقد كان في سرد أخبار الأنبياء المرسلين مع قومهم، وكيف

_ (1) البحر المحيط: 5/ 354 (2) تفسير الرّازي: 18/ 226 وما بعدها. (3) الكشّاف: 2/ 157

نجّينا المؤمنين، وأهلكنا الكافرين عبرة وعظة وذكرى لأولي العقول والأفكار الصّحيحة. والاعتبار والعبرة: الانتقال والعبور من جهة إلى جهة. أما المهملون عقولهم فلا ينظرون في الأحداث ولا يستفيدون من دروس التّاريخ، فلا يفيدهم النّصح. ثم ذكر الله تعالى مشتملات القرآن فقال: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان هذا القرآن الشّامل للقصة وغيرها، أو ما كان هذا القصص والحديث الذي اشتمل عليه القرآن حديثا يختلق ويكذب من دون الله، لأنه كلام أعجز رواة الأخبار وحملة الحديث، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتّنزيل وتصديق ما تقدّمه من الكتب السّماوية كالتّوراة والإنجيل والزّبور، أي تصديق ما جاء فيها من الصّحيح والحقّ، ونفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، فهو مصدّق أصولها الصّحيحة، لا كلّ ما جاء فيها بعد من حكايات وأساطير لا يتقبّلها العقل السّليم، وهو أيضا مهيمن عليها وحارس لها. والقرآن أيضا فيه تفصيل كلّ شيء من الحلال والحرام والمحبوب والمكروه، والأمر والنّهي، والوعد والوعيد، وصفات الله الحسنى، وقصص الأنبياء على النّحو الثابت الواقع الذي لا تحريف فيه ولا تزويق. ونظير الآية قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] . والقرآن أيضا هدى للعالمين، ويهدي النّاس إلى طريق الاستقامة والسّداد، فيخرجهم من الظّلمات إلى النّور، وينقلهم من الغيّ إلى الرّشاد، ومن الضّلال إلى السّداد، ويرشدهم إلى الحقّ والخير والصّلاح في الدّنيا والدّين. وهو كذلك رحمة عامّة من ربّ العالمين للمؤمنين في الدّنيا والآخرة

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمّنت الآيات الأحكام التّالية: 1- الأنبياء دائما من الرّجال، ولم يكن فيهم امرأة ولا جنّي ولا ملك. وهذا ردّ على ما يروى عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في حديث غير ثابت: «إنّ في النّساء أربع نبيّات: حوّاء، وآسية، وأم موسى، ومريم» . 2- الأنبياء من أهل المدن، ولم يبعث الله نبيّا من أهل البادية، لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو، ولأن أهل الأمصار والقرى أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن البصري: لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية قط، ولا من النّساء، ولا من الجنّ. وقال العلماء: من شرط الرّسول: أن يكون رجلا آدميا مدنيا وإنما قالوا: آدميا، تحرّزا من قوله: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن 72/ 6] . 3- على النّاس قاطبة أن ينظروا بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائهم، فيعتبروا. 4- آية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا.. فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. والمعنى أو الحكم على قراءة التّخفيف كُذِبُوا في رأي الجمهور: ظنّ القوم أنّ الرّسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا. أو ظنّ الأمم أن الرّسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم. والمعنى أو الحكم، على قراءة التّشديد كُذِبُوا أيقنوا أن قومهم كذبوهم، أو حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذّبوهم، لا أن القوم كذّبوا، ولكن الأنبياء ظنّوا وحسبوا أنهم يكذّبونهم ...

5- في قصص الأمم الغابرة ومنها قصة يوسف عليه السّلام وأبيه وإخوته عبرة، أي فكرة وتذكرة وعظة، لأولي العقول. 6- ما كان القرآن حديثا يفتري ويختلق ويكذب من دون الله، فهو كلام معجز لا يستطيع بشر ولو كان نبيّا أن يأتي بمثله. وكذلك ما كانت قصّة يوسف حديثا يفتري من دون الله تعالى. 7- القرآن الكريم مصدّق لما تقدّمه من الكتب السّماوية من التّوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، ومهيمن عليها وحارس لها. 8- القرآن الكريم فيه تفصيل كل شيء مما يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام، والشّرائع والأحكام. وهو أيضا هداية ورحمة من الله تعالى لعباده وللمؤمنين بالغيب، وإنقاذ للبشرية من الضّلالة إلى النّور، ومن الفساد إلى النّظام والصّلاح: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] . 9- يمكن توجيه الكلام إلى قصّة يوسف عليه السّلام وحدها، فيكون تعالى وصفها بصفات خمس هي: أ- كونها عبرة لأولي الألباب. ب- ما كان حديثا يفتري، أي ليس لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يفتري، لأنه لم يقرأ الكتب، ولم يتتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء، وليس يكذب في نفسه لأنه لا يصحّ الكذب منه، وأكّد تعالى كونه غير مفترى فقال: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التّوراة وسائر الكتب الإلهية. ج- وتفصيل كلّ شيء من واقعة يوسف عليه السّلام مع أبيه وإخوته.

د- كونها هدى في الدّنيا. هـ- كونها سببا لحصول الرّحمة في القيامة لقوم يؤمنون. خصّهم بالذّكر لأنهم هم الذين انتفعوا به، كما في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] .

سورة الرعد:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرعد مدنية وهي ثلاث وأربعون آية. تسميتها: سمّيت سورة الرّعد، للكلام فيها عن الرّعد والبرق والصّواعق وإنزال المطر من السّحاب: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرّعد 13/ 12- 13] والمطر أو الماء سبب للحياة: حياة الأنفس البشريّة والحيوان والنّبات، والصّواعق قد تكون سببا للإفناء، وذلك مناقض للماء الذي هو رحمة، والجمع بين النّقيضين من العجائب. مناسبتها لما قبلها: هناك تناسب بين سورة الرّعد وسورة يوسف في الموضوع والمقاصد ووصف القرآن، أما الموضوع فكلاهما تضمّنتا الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف نجّى الله المؤمنين المتّقين وأهلك الكافرين، وأما المقاصد فكلّ من السّورتين لإثبات توحيد الإله ووجوده، ففي سورة يوسف: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. وفي سورة الرّعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. [2- 4] . قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ: اللَّهُ [16] ، وفيهما من الأدلّة على وجود الصّانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه ووحدانيته الشيء الكثير، ففي سورة يوسف: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وفي سورة الرّعد آيات دالّة على

ما اشتملت عليه السورة:

قدرة الله تعالى وألوهيّته مثل الآيات [2- 4] ، والآيات [8- 11] ، والآيات [12- 16] ، والآيتان [30 و33] . وأما وصف القرآن فختمت به سورة يوسف: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وبدئت سورة الرّعد بقوله سبحانه: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. ما اشتملت عليه السّورة: تحدثت سورة الرّعد عن مقاصد السّور المدنية التّي تشبه مقاصد السّور المكيّة، وهي التّوحيد وإثبات الرّسالة النّبوية، والبعث والجزاء، والرّد على شبهات المشركين. وأهم ما اشتملت عليه هو ما يأتي: 1- بدئت السّورة بإقامة الأدلّة على وجود الله تعالى ووحدانيته، من خلق السّموات والأرض، والشّمس والقمر، والليل والنّهار، والجبال والأنهار، والزّروع والثّمار المختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان، وأن الله تعالى منفرد بالخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والنّفع والضّر. 2- إثبات البعث والجزاء في عالم القيامة، وتقرير إيقاع العذاب بالكفار في الدّنيا. 3- الإخبار عن وجود ملائكة تحفظ الإنسان وتحرسه بأمر الله تعالى. 4- إيراد الأمثال للحقّ والباطل، ولمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام، بالسّيل والزّبد الذي لا فائدة فيه، وبالمعدن المذاب، فيبقي النّقي الصّافي ويطرح الخبث الذي يطفو. 5- تشبيه حال المتّقين أهل السّعادة الصّابرين المقيمي الصّلاة بالبصير،

القرآن حق [سورة الرعد (13) آية 1] :

حال العصاة الذين ينقضون العهد والميثاق، ويفسدون في الأرض بالأعمى. 6- البشارة بجنان عدن للمتّقين، والإنذار بالنّار لناقضي العهد المفسدين في الأرض. 7- بيان مهمّة الرّسول وهي الدّعوة إلى عبادة الله وحده، وعدم الشّرك به، وتحذيره من مجاملة المشركين في دعوتهم. 8- الرّسل بشر كغيرهم من النّاس، لهم أزواج وذريّة، وليست المعجزات رهن مشيئتهم، وإنما هي بإذن الله تعالى، ومهمّتهم مقصورة على التّبليغ، أما الجزاء فإلى الله تعالى. 9- إثبات ظاهرة التّغير في الدّنيا، مع ثبوت الأصل العام لمقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. 10- الاعلام بأن الأرض ليست كاملة التّكوير، وإنما هي بيضاوية ناقصة في أحد جوانبها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها. 11- إحباط مكر الكافرين بأنبيائهم في كلّ زمان. 12- ختمت السّورة بشهادة الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالنّبوة والرّسالة، وكذا شهادة المؤمنين من أهل الكتاب بوجود أمارات النّبي صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم. وكان في السّورة بيان مدى فرح هؤلاء بما ينزل من القرآن مصدّقا لما عرفوه من اكتب الإلهية. القرآن حق [سورة الرعد (13) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)

الإعراب:

الإعراب: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مبتدأ وخبر. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ الْحَقُّ: مبتدأ مؤخّر، وَالَّذِي أُنْزِلَ خبر مقدّم، ويجوز أن يكون الَّذِي مبتدا وخبره الْحَقُّ. ويجوز أن يكون وَالَّذِي في موضع جر عطفا على الْكِتابِ أو وصفا للكتاب، والواو زائدة. البلاغة: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إشارة بالبعيد عن القريب، للدّلالة على علوّ شأن الكتاب. وأل في الْكِتابِ للتّفخيم والتّعظيم، أي الكتاب الكامل في بيانه، السّامي في إعجازه. المفردات اللغوية: المر البدء بهذه الحروف الهجائية المقطّعة للتّنبيه على إعجاز القرآن الكريم وبيان أن نزوله من عند الله حق لا شكّ فيه، بالرّغم من كونه بلغة العرب ويتكون من حروف الكلمات التّي ينطقون بها. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ أي هذه الآيات آيات القرآن، والإضافة بمعنى من، أو أن الكتاب بمعنى السّورة، وتلك إشارة إلى آياتها، أي تلك الآيات آيات السّورة الكاملة. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن المنزل إليك من ربّك عطف عام على خاص، أو عطف صفة على صفة، أو مبتدأ، وخبره الْحَقُّ. الْحَقُّ لا شكّ فيه، والجملة كالحجّة على الجملة الأولى، وتعريف الْحَقُّ أعمّ من أن يكون المنزل صريحا أو ضمنا كالمثبت بالقياس وغيره مما أقرّ القرآن بحسن اتّباعه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إما أهل مكّة، أو على العموم. لا يُؤْمِنُونَ بأنه من عند الله لإخلالهم بالنّظر والتّأمل فيه. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى القرآن في آخر سورة يوسف بخمس صفات، أصاف هنا صفة أخرى وهي كونه حقّا من عند الله تعالى. التّفسير والبيان: آيات هذه السّورة آيات القرآن البالغ حدّ الكمال، أو تلك الآيات العظام القدر والشّأن آيات الكتاب وهو القرآن الكريم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وكلّ القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربّك حقّ لا شكّ فيه، وهو على التّفسير الأول بأن الآيات هي السّورة إجمال بعد تفصيل، أو عموم بعد خصوص، فبعد أن أثبت تعالى لهذه السّورة وصف الكمال والرّفعة، عمم هذا الحكم على القرآن جميعه. ولكن أكثر النّاس لا يصدقون بالمنزل إليك من ربّك، ولا يقدرون ما في القرآن من سمو التّشريع والأحكام ورعاية المصالح المناسبة لكلّ عصر وزمان. وهذا كقوله تعالى في سورة يوسف: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلَوْ حَرَصْتَ، بِمُؤْمِنِينَ [103] ، أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشّقاق والنّفاق والعناد. وإذا كان واقع البشريّة اليوم أن أكثر سكان العالم لا يؤمنون بالقرآن الكريم، وأن المسلمين بالنسبة لغيرهم هم الخمس، فيكون ذلك معجزة للقرآن الكريم الذي أخبر عن حال أكثر النّاس في الماضي كأهل مكة، وفي مسيرة التّاريخ، وفي الوقت الحاضر والمستقبل. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآية على أنّ آيات القرآن بالغة حدّ الكمال في الإعجاز والبيان، وأن القرآن الكريم حقّ منزل من عند الله تعالى لا شكّ فيه ولا ريب، باق على وجه الدهر، ولكن مع الأسف حجب العناد والكفر كثيرا من النّاس عن الإيمان بما جاء فيه من حكم بالغة، وأحكام رصينة، وتشريعات محكمة. وهذا ليس إقرارا لهم، وإنما هو على سبيل الزّجر والتّهديد. وقد تمسّك نفاة القياس بهذه الآية، وقالوا: الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله تعالى، فهو ليس حقّا، لأنه لا حقّ إلا ما أنزله الله تعالى.

بعض مظاهر قدرة الله في السموات والأرض [سورة الرعد (13) الآيات 2 إلى 4] :

ومثبتو القياس أجابوا عن ذلك بأن الحكم الثابت بالقياس نازل أيضا من عند الله تعالى، لأنه تعالى لما أمر بالعمل بالقياس، كان الحكم الذي دلّ عليه القياس نازلا من عند الله تعالى. وقد بيّنا أن تعريف كلمة الْحَقُّ وإن دلّ على اختصاص المنزل بكونه حقّا، فهو أعمّ من المنزل صريحا أو ضمنا، كالمثبت بالقياس وغيره، مما نطق المنزل بحسن اتّباعه. بعض مظاهر قدرة الله في السّموات والأرض [سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 4] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) الإعراب: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الباء متعلّقة برفع، أو ب تَرَوْنَها. وتَرَوْنَها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من السَّماواتِ، أي أنه ليس ثم عمد البتة، ويجوز أن تكون في موضع جر لأنها صفة ل عَمَدٍ أي أن ثمّ عمدا، ولكن لا ترى. وَزَرْعٌ معطوف على جَنَّاتٌ، وتقديره: وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات

البلاغة:

وزرع ونخيل صنوان مجتمعة من أصل واحد، وَغَيْرُ صِنْوانٍ غير مجتمعة من أصل واحد، وعلى قراءة الجرّ. وَزَرْعٌ معطوف على أَعْنابٍ، فتجعل الجنّات من الزّرع، وهو قليل. البلاغة: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ شبّه إزالة نور النّهار بظلمة الليل بالغطاء الكثيف، واستعار لفظ يُغْشِي من الغطاء الحسي للأمور المعنوية. المفردات اللغوية: عَمَدٍ جمع عماد، وهو الأسطوانة، والآية تحتمل ألا عمد أصلا، أو هناك عمد غير مرئية. اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، أو المراد منه المجاز، أي بالحفظ والتّدبير. وَسَخَّرَ ذلّل بالحركة المستمرة والسّرعة المعينة ونحو ذلك. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى كل منهما يسير في فلكه إلى يوم القيامة. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يصرف الأمر على وجه الحكمة. يُفَصِّلُ الْآياتِ يبين دلالات قدرته، وهي الأدلة التّي تقدم ذكرها من الشّمس والقمر. لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم. بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لتوقنوا وتتحققوا كمال قدرته بالبعث، فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء. واليقين: العلم الثابت الذي لا شكّ فيه. مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولا وعرضا ليتمكّن الإنسان والحيوان من السّير عليها والانتفاع بمنافعها. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وخلق فيها جبالا ثوابت. وَأَنْهاراً عطفها على الجبال مباشرة لأنها أسباب تولدها ونبعها. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلّق بقوله تعالى: جَعَلَ فِيها. زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي جعل فيها من جميع أنواع الثّمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والذكر والأنثى. يُغْشِي يغطي الليل بظلمته ضوء النّهار فيطمسه، ويصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله تعالى. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تلك الآيات وفي صنع الله تعالى، فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم، دبّر أمرها، وهيأ أسبابها. قِطَعٌ أي بقاع مختلفة. مُتَجاوِراتٌ متلاصقات، فمنها طيب ومنها سبخ، ومنها رخو ومنها صلب، وبعضها صالح للزّرع دون الشّجر وبعضها بالعكس، وذلك التّخصيص مع التّجاور والطّبيعة الأرضيّة من دلائل قدرة الله تعالى. وَجَنَّاتٌ بساتين. صِنْوانٌ جمع صنو، أي ونخلات يجمعها أصل واحد، وتتشعّب فروعها. وَغَيْرُ صِنْوانٍ آي ومتفرّقات مختلفة الأصول، وفي الحديث الذي أخرجه التّرمذي «عمّ الرّجل صنو

المناسبة:

أبيه» . يُسْقى أي الجنّات وما فيها. الْأُكُلِ ما يؤكل، فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها الثّمر ومنها الحبّ، وغير ذلك من الاختلاف شكلا وقدرا ورائحة وطعما، وهو من دلائل قدرته تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآياتٍ لدلالات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبّرون ويستعملون عقولهم بالتفكّر. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أن أكثر النّاس لا يؤمنون، أعقبه ببيان ما يدلّ على التّوحيد والمعاد، بالاستدلال بأحوال السّموات وأحوال الشّمس والقمر، وبأحوال الأرض: جبالها وأنهارها، وبأحوال النّبات من زروع وثمار وأشجار مختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان. وبعد أن بيّن الله تعالى أن القرآن حقّ، بيّن أن من أنزله قادر على الكمال، فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته. التّفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه: أنه الذي خلق السّموات بغير أعمدة، لا نشاهدها بالعين، فهي لا عمد لها أصلا، وقوله: تَرَوْنَها مؤكد معنى كونها بغير عمد، لأن المراد إثبات وجود الله تعالى وقدرته، فلو كان لها أعمدة، فلا يكون في الآية دلالة على وجود الله تعالى، فهي تقوم بقدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره، وتقوم في الفضاء بإبقائه تعالى، حتى ولو قيل بتوازن قانون الجاذبية بين النّجوم والكواكب، فإن ذلك بخلق الله تعالى. ثم استوى الله تعالى على عرشه استواء يليق به، والعرش شيء مخلوق، نؤمن به كما أخبر القرآن، وهو أعظم من السّموات والأرض، جاء في الحديث: «ما السّموات السّبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة» ، وفي رواية: «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ» .

وسخّر الشّمس والقمر، أي ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، من دوران وضياء، وظهور واختفاء، جاء في آيات أخرى ما يبيّن دورة الشّمس حول نفسها، وحركة القمر حول الأرض، فقال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 38- 40] . وكلّ من الشّمس والقمر وغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمّى، أي لمدة معيّنة هي نهاية الدّنيا ومجيء القيامة، أو لمدة محددة يتمّ فيها دورانه، فالشّمس تتمّ دورتها في سنة، والقمر يتمّ دورته في شهر. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي إنّ الله تعالى يدبّر أمر الكون ويصرفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته، فيحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويغني ويفقر، ويهيء الأسباب للنّتائج والمسببات، ويسيّر الأفلاك في نظام دقيق ثابت لا يخطئ ولا يتغيّر. يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يبيّن الدّلائل الدّالّة على وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته. لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي يوضح الآيات والدّلالات الدّالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه قادر على أن يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه أولّ مرة، رجاء أن تتيقّنوا وتتحقّقوا، أو لتعلموا علم اليقين القاطع الذي لا شكّ فيه أنّ الله قادر على البعث والإعادة، والحساب والجزاء، وإحياء الموتى من القبور في أي مكان دفنوا في البرّ أو البحر أو في أجواف الحيوان. فالذي قدر على خلق السّموات والأرض وما بينهما وما فيهما، ودبّر نظام الكون والحياة وأمور الخلق بدقة فائقة، لا يبعد عليه ولا يعجزه البعث الجديد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، ثم حساب أصحابها على ما قدّموا في دار الدّنيا.

هذه هي الأدلّة السّماوية على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، أتبعها بالأدلّة الأرضيّة، وهي: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي والله تعالى هو الذي جعل الأرض متّسعة، منبسطة للحياة، ممتدة في الطول والعرض، ليتمكّن الإنسان والحيوان من التّنقل فيها بسهولة، والانتفاع بخيراتها النّباتية والمعدنية كقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النّبأ 78/ 6] . ولا يمنع انبساط الأرض للحياة في أجزائها أنها غير كروية أو مسطّحة في حجمها الكلي، فقد أشار القرآن الكريم لكرويتها في آيات أخرى منها: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزّمر 39/ 5] والتّكوير: اللف على الجسم المستدير، فهي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها. وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، لسقاية ما فيها من الثّمرات المختلفة الألوان والأشكال والطّعوم والرّوائح. وجعل فيها من كلّ صنف من أصناف الثّمار زوجين اثنين أي ذكرا وأنثى، فالشّجر والزّرع لا ينتجان الثّمر والحبّ إلا من عضوين: ذكر وأنثى، وجعل أيضا من كلّ ثمر صنفين، إما من حيث الطّعم كالحلو والحامض، أو من حيث اللون كالأسود والأبيض، أو الطّبيعة كالحار والبارد. ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النّبأ 78/ 6- 8] . يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي الله ضوء النّهار بظلمة الليل، ويطرد ظلام الليل بنور النّهار، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النّبأ 78/ 9- 11] ، وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [النّمل 27/ 86] ، وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الرّوم 30/ 23] .

ثم نبّه الله تعالى في ختام الآية إلى وجوب التّفكّر في تلك الآيات السّماوية والأرضية، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إن في مخلوقات الله وعجائب خلقه وآلائه وحكمه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها ويعتبر بعظمتها، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه، وإرادته، مما لا يوجد له مثيل في الكون، وذلك يستوجب تخصيصه بالعبادة، والخضوع لسلطانه، والتّزام أوامره. ومن الآيات الأرضية اختلاف أجزاء الأرض بالطبيعة والماهية، وهي مع ذلك متجاورة فقال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ..، أي وفي الأرض أجزاء يجاور بعضها بعضا، ويقرب بعضها من بعض، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص، فمنها طيب ينبت ما ينفع النّاس، ومنها سبخة مالحة لا تنبت شيئا، ومنها صالح للزّرع دون الشّجر وبالعكس، ومنها الرّخوة ومنها الصّلبة، وتختلف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه صفراء، وهذه بيضاء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكلّ متجاورات، وهي مختلفة الصّفات، مما يدلّ على وجود الخالق المختار، الذي لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه. وفيها بساتين من أعناب، وزروع متفاوتة من حبوب مختلفة لتوفير غذاء الإنسان والحيوان، ونخيل صنوان وغير صنوان، والصّنوان: ذو الأصول أو الجذوع المجتمعة في منبت واحد كالرّمان والتّين وبعض النّخيل، وغير الصّنوان: ما كان على أصل أو جذع واحد كسائر الأشجار. جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه التّرمذي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر: «أما شعرت أن عمّ الرّجل صنو أبيه» . وقال البراء رضي الله عنه: الصّنوان هي النّخلات في أصل واحد، وغير لصّنوان: المتفرّقات. ويظهر التّفاوت العجيب في بقاع الأرض وأصناف النّبات في أن الأرض

فقه الحياة أو الأحكام:

المنبتة لها واحدة، وتسقى من ماء واحد، وتتفاوت طعومها، وتتفاضل مآكلها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي إن في هذا التّفاوت مع وجود مصادر التّشابه لأدلّة باهرة على وجود الله ووحدانيته، لقوم يتدبّرون ويفكّرون فيها، فهذا الاختلاف في أجناس الثّمرات والزّروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها، حلاوة وحموضة ومرارة وعذوبة وتلوّنا، وهذا الاختلاف في الأزهار في ألوانها وروائحها وإبداع ورقاتها وزهرها، مع أنها كلّها تستمد من طبيعة واحدة، وهو الماء والأرض، في كلّ ما ذكر آيات لمن كان واعيا، ومن أعظم الأدلّة على وجود الخالق الفاعل المختار القادر على كلّ شيء، ومن قدر على الإيجاد والخلق أول مرّة فهو قادر على الإعادة والتّكوين مرّة ثانية، بل هو أهون عليه. وختم الآيات الثلاث بما ذكر: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دليل على وجوب استخدام النّظر والعقل والفكر، للتّوصل إلى الاقتناع الذّاتي الحرّ بوجود الخالق ووحدانيته، وهذا الإعمال للعقل من مقاصد الإسلام، وفرائض القرآن، وأصول الدّين. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- من لطف الله بعباده ورحمته بهم وإرشاده لهم أنه أوضح لهم الأدلّة، ولفت نظرهم إلى ما يدلّ على وجوده وكمال قدرته، وعلمه، وإرادته، فتخصيص كلّ واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى. 2- الأدلّة متنوعة: سماوية وأرضية، فالسّماوية ثلاثة: رفع السّموات بغير أعمدة، والاستواء على العرش، وتسخير الشّمس والقمر وتذليلهما وتطويعهما

لغايات معينة في مدّة معينة لمنافع الخلق ومصالح العباد ما داموا في الدّنيا وحتى تقوم السّاعة، يدبّر الله فيها الأمر، أي يصرفه على ما يريد بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، وإنزال الوحي وبعثة الرّسل وتكليف العباد، ويبيّن الآيات، فمن قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة، لذا قال: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وهذا إثبات للألوهيّة والرّبوبية والمعاد يوم القيامة، فمن كان يمكنه تدبير من فوق العرش إلى ما تحت الثّرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن. وأمّا الأدلة الأرضية فهي ستّة: بسط الأرض بالنّسبة للنّاظر ليمكن العيش عليها، وتثبيتها بالجبال الرّاسيات الشّامخات، وإجراء الأنهار وتفجير الينابيع، وجعل الثّمار ذات وجهين اثنين، أي من صنفين متعارضين كالذّكر والأنثى، والحلو والحامض، والحار والبارد، والأبيض والأسود، وتغطية الليل النّهار، وتبديد ظلمة الليل بضوء النّهار، وتفاوت ما تنتجه الأرض من حبوب وزروع وثمار وأشجار، مجتمعة ذات جذوع متعددة من منبت واحد، ومتفرّقة ذات جذع مستقلّ بكلّ واحدة منها. فكلّ ما ذكر يدلّ دلالة قطعيّة على أنّ الكلّ بتدبير الله الفاعل المؤثر المختار، لا بالطّبيعة ولا بالصّدفة. 3- لا يفهم من آية: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ، وآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النّازعات 79/ 30] أنّ الأرض غير كروية، فقد ثبتت كرويتها بالأدلّة العلمية العقلية والحسيّة، ودلّت أقمار الفضاء الدّائرة حول الأرض بما لا يقبل أي شكّ أو جدل على أن الأرض كروية، وقد صرح بكرويتها علماؤنا كالرّازي «1» ، فإن المقصود أن كل قطعة من الأرض تشاهد كالسّطح، وأما مجموعها

_ (1) تفسير الرّازي: 19/ 2- 3

إنكار المشركين البعث واستعجالهم العذاب ومطالبتهم بإنزال آية مادية على النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الرعد (13) الآيات 5 إلى 7] :

وحجمها العظيم فهو كرة بدليل تثبيتها في الآية هنا بالجبال الرّواسي، وكذلك في آية أخرى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النّبأ 78/ 7] . وبدليل تكوير الليل على النّهار، والنّهار على الليل، والتّكوير: اللف على الجسم المستدير. 4- قال القرطبي عن آية وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ: في هذا أدلّ دليل على وحدانيته تعالى وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضلّ عن معرفته فإنه سبحانه نبّه بقوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ على أن ذلك كلّه ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته، وهذا أدلّ دليل على بطلان القول بالطّبع (الطّبيعة) إذ لو كان ذلك بالماء والتّراب والفاعل له الطّبيعة، لما وقع الاختلاف «1» . 5- الدّعوة القويّة، بل الفريضة والإيجاب لإعمال الفكر والعقل، والاسترشاد بما في الكون من دلائل وعلامات واضحة على وجود الله تعالى، وكمال قدرته، وعلمه، ووحدانيته. 6- قال الحسن البصري في آية: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ: المراد بهذه الآية المثل ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشّرّ والإيمان والكفر، كاختلاف الثّمار التي تسقى بماء واحد. إنكار المشركين البعث واستعجالهم العذاب ومطالبتهم بإنزال آية مادية على النّبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 281

الإعراب:

الإعراب: فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، ولا بد فيه من تقدير صفة لتمكن المعنى أي فعجب أي عجب أو فعجب غريب. أَإِذا عامل «إذا» : فعل مقدر دلّ عليه معنى الكلام، أي: أنبعث إذا كنا ترابا لأن في قوله: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ دليلا عليه، ولا يجوز أن يعمل فيه: كُنَّا لأن «إذا» مضافة إليها، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولأنهم لم ينكروا كونهم ترابا، وإنما أنكروا البعث بعد كونهم ترابا. وقوله أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم: إما بدل مرفوع من قَوْلُهُمْ وإما منصوب بالقول. والاستفهامان: أَإِذا وأَ إِنَّا للتأكيد وشدة الحرص على البيان. عَلى ظُلْمِهِمْ محله النّصب على الحال. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أَنْتَ: مبتدأ، وخبره: مُنْذِرٌ. وهادٍ: معطوف على مُنْذِرٌ، فتكون اللام في لِكُلِّ متعلقة بمنذر أو بهاد، وقد فصل بين الواو والمعطوف بالجار والمجرور، وتقديره: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم. ويجوز أن يكون هادٍ مبتدأ، ولِكُلِّ قَوْمٍ: الخبر، واللام متعلقة باستقر. البلاغة: بين بِالسَّيِّئَةِ والْحَسَنَةِ وبين مُنْذِرٌ وهادٍ طباق. المفردات اللغوية: وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من تكذيب الكفار لك وعبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان. فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي فأعجب منه، أو فعجب غريب أو فحقيق بالعجب تكذيبهم

المناسبة:

بالبعث وإنكارهم له. والعجب: تغير النّفس واندهاشها حين رؤية ما يستبعد في العادة. أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هذا استفهام إنكاري، ينكرون فيه إمكان إعادة الخلق بالبعث، وفاتهم أن القادر على إنشاء الخلق وما تقدم على غير مثال قادر على إعادتهم. الْأَغْلالُ جمع غل: وهو طوق حديدي تشد به اليدان إلى العنق. بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل السّلامة. الْمَثُلاتُ جمع مثلة بوزن سمرة: وهي العقوبة، أي مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها، فلا يستهزءوا. وسميت مثلة لما بين العقاب والجريمة من المماثلة، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشّورى 42/ 40] ومنه سمي عقاب القاتل قصاصا، لما فيه من المماثلة. مَغْفِرَةٍ الغفر والمغفرة: السّتر، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة. عَلى ظُلْمِهِمْ أي مع ظلمهم، وإلا لم يترك على ظهرها دابة. لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه. أُنْزِلَ عَلَيْهِ هلا أنزل على محمد. آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ آية حسية كقلب عصا موسى حية، وجعل يده بيضاء مشعة كالشمس، وناقة صالح. مُنْذِرٌ مخوف الكافرين، وليس عليك إتيان الآيات، والإنذار: التخويف. وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ الهادي: الذي يرشد النّاس إلى الخير والحق والصواب كالأنبياء والحكماء والعلماء، أي لكل قوم نبي يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه إياهم من الآيات، لا بما يقترحون، وهو مدعم عادة بمعجزة من جنس ما هو الغالب عليهم. المناسبة: أقام الله تعالى في الآيات السّابقة الأدلة السّماوية والأرضية على قدرته، ليثبت للناس أن من كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة، كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى الأكمل، فإنه قادر بالأولى على الأقل الأضعف: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف 46/ 33] . ثم حكى هنا إنكار المشركين للبعث والقيامة، وأتبعه بحكاية حماقة أخرى وهي استعجالهم العذاب، وأردفه بطلباتهم إنزال آيات حسية للتعجيز. التفسير والبيان: وإن تعجب أيها الرّسول من تكذيب هؤلاء المشركين لك، وعبادتهم

ما لا يضر وما لا ينفع من الأصنام، مع ما يشاهدونه من آيات الله تعالى ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع اعترافهم من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، إن تعجب من ذلك، فالأعجب منه والأغرب تكذيبهم بالبعث والقيامة، وقولهم: هل تمكن الإعادة بعد الفناء والبلى والصيرورة ترابا؟ وقد تكرر منهم هذا الاستفهام الإنكاري في أحد عشر موضعا، في تسع سور من القرآن: في الرعد، والإسراء، والمؤمنون، والنّحل، والعنكبوت، والسّجدة، والصافات، والواقعة، والنّازعات. مع أن كل عالم وعاقل يعلم أن خلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] . ثم حكم الله تعالى حكمه عليهم بأحكام ثلاثة بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي أولئك الكافرون الذين جحدوا بربهم، وكذبوا رسوله، وتمادوا في عنادهم وضلالهم لأن إنكار قدرة الله تعالى إنكار له. وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة، فهو كافر. وأولئك المقيدون بالسلاسل والأغلال يسحبون بها، قال أبو حيان: والظاهر أن الأغلال تكون حقيقية في أعناقهم كالأغلال «1» ، كما قال: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر 40/ 71] وهذا حقيقة، وحمل الكلام على الحقيقة أولى. وهم أصحاب النّار الخالدون فيها في الآخرة بقوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ..

_ (1) البحر المحيط: 5/ 366

أي وأولئك أهل النّار الملازمون لها، المستحقون دخولها، الماكثون فيها أبدا لا يحولون عنها ولا يزولون بسبب كفرهم وإنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] والمراد بذلك التهديد بالعذاب المخلد المؤبد. وهذا يدل على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية. ولم يقتصر تكذيبهم الرسول على إنكار عذاب الآخرة، وإنما أنكروا أيضا عذاب الدّنيا، فقال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ أي ويستعجلك هؤلاء المكذبون بالعقوبة قبل السّلامة منها والعافية من بلائها، كما قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج 70/ 1] وقال: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] وقال: وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] أي عجّل لنا عقابنا وحسابنا. وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم، وبعبارة أخرى: ويستعجلونك بالعقاب مستهزئين بإنذارك، والحال أنه قد مضت العقوبات النّازلة على أمثالهم من المكذبين، كالرجفة والخسف والطوفان ونحوها. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ.. أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس على ذنوبهم، مع أنهم يظلمون، ويخطئون باللّيل والنّهار، ولولا حلمه وعفوه لعجل لهم العذاب فور ارتكاب الذنب، كما قال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] وقال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .

والخلاصة: إن الله يغفر للنّاس مع ظلمهم أنفسهم باكتساب الذنوب، أي ظالمين أنفسهم، قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه. وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ أي وإنه تعالى شديد العقاب للعصاة. ويلاحظ أنه تعالى قرن حكم المغفرة والرحمة بأنه شديد العقاب، كما هو شأن القرآن كثيرا، ليعتدل الرجاء والخوف، وليكون الإنسان بين الأمل والحذر، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام 6/ 147] وقال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] وقال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف 7/ 167] ونحو ذلك من الآيات التي تجمع بين الرجاء والخوف. روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه، ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتّكل كل أحد» . ثم ذكر الله تعالى ما طالب به المشركون النّبي صلّى الله عليه وسلّم من معجزة حسية كالأنبياء السّابقين بقصد التعجيز والإصرار على الكفر والطعن في النّبوة والتشكيك في صحتها فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي يقول المشركون كفرا وعنادا: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، مثل عصا موسى، وناقة صالح، ومائدة عيسى، فيجعل لنا الصفا ذهبا، وأن يزيح عنا الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا. فرد الله عليهم الشّبهة بآية أخرى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء 17/ 59] أي نخشى تطبيق العقاب على المكذبين، فإن

فقه الحياة أو الأحكام:

سنتنا أن من لم يؤمن بالآيات المنزلة بعد طلبها، أهلكناهم ودمرناهم بذنوبهم. وهنا أعرض البيان عن الجواب عن قول المشركين، إلى توضيح مهمة الرسول التي أرسل بها وهي الهداية والإنذار، لا تلبية الطلبات، فقال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما أنت رسول عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، وأما الآيات فأمرها إلى الله، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] . وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي ولكل أمة أو قوم داع من الأنبياء، يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى الدّين الحق، وسبيل الخير والرشاد، كما في آية أخرى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] . ويصح أن يكون هادٍ معطوفا على مُنْذِرٌ وفصل بينهما بقوله لِكُلِّ قَوْمٍ أي أنت منذر وهاد لكل قوم، وبه قال عكرمة وأبو الضحى. والخلاصة: إن الآية نزلت في المشركين والكفار الذين لم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشّجر، وانقلاب العصا سيفا، ونبع الماء من بين الأصابع، وأمثال هذه، فاقترحوا عنادا آيات، كالمذكورة في الإسراء والفرقان كتفجير الينبوع والرقي في السّماء والملك والكنز، فقال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة، وناصح كغيرك من الرسل، ليس لك الإتيان بما اقترحوا، فالاقتراح إنما هو عناد، ولم ينزل الآيات إلا إذا تحتم العذاب والاستئصال «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إنكار البعث والقيامة مدعاة للعجب الشّديد، والله تعالى لا يتعجب،

_ (1) البحر المحيط: 5/ 367

ولا يجوز عليه التعجب لأنه تغير في النّفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر تعالى ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. 2- من أنكر البعث والقيامة، فهو كافر، لإنكاره القدرة الإلهية والعلم والصدق في الخبر، ويساق إلى جهنم بالأغلال والسّلاسل، وهو خالد في النّار. فهذه أوصاف ثلاثة لمنكري البعث: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. 3- العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية: هُمْ فِيها خالِدُونَ أي هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم، أما أهل الكبائر من المسلمين الذين يرتكبون الجرائم العظام، كالقتل وشهادة الزور وعقوق الوالدين، فلا يخلدون في النّار. 4- طلب المشركين إنزال العقوبة لفرط إنكارهم وتكذيبهم نوع من الطيش والحماقة، وكفاهم الاعتبار بعقوبات أمثالهم المكذبين، فالمثلات أي العقوبات كثيرة. وقد تبين من هذه الآية: أن عذاب الاستئصال لا ينزل بهم إلا بالإصرار على الكفر والمعاصي. 5- حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. 6- إن الله تعالى لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا، وقد يعفو تعالى عن صاحب الكبيرة قبل التوبة في رأي أهل السّنة، لأن قوله تعالى عَلى ظُلْمِهِمْ أي حال اشتغالهم بالظلم، وحال الاشتغال بالظلم لا يكون المرء فيها تائبا. قال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ. 7- وإن الله أيضا شديد العقاب للكافرين إذا أصروا على الكفر.

8- ليست مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تلبية طلبات المشركين واقتراحاتهم، إنما مهمته الإنذار، أي التعليم، فهو منذر لقومه مبين لهم، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع. 9- لكل قوم هاد، أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله أي عليك الإنذار، والله هادي كل قوم إن أراد هدايتهم. 10- اجتمع من المشركين كما تحكي هذه الآية ثلاثة طعون: وهي أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنّشر، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة. وسبب كل هذه الطعون: أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب. والإتيان بكتاب معين، لا يكون معجزا البتة، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السّلام، كفلق البحر بالعصا، وقلب العصا ثعبانا. ولا تعني هذه الآية أنه لم تظهر معجزة تصدق النّبي عليه الصلاة والسّلام سوى القرآن، ولعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات، أو أنهم طلبوا منه معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها منه صلّى الله عليه وسلّم كحنين الجذع، وانشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل. ويظل القرآن هو المعجزة الكبرى للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو المناسب لزمنه، فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السّلام هو السّحر، جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السّلام الطب، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة، وهو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه (الأعمى الذي ولد فاقد البصر) والأبرص، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفصاحة

بعض مظاهر علم الله المحيط بكل شيء [سورة الرعد (13) الآيات 8 إلى 11] :

والبلاغة، جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن. فإذا لم يؤمن العرب بهذه المعجزة، مع كونها أليق بطباعهم، فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى. بعض مظاهر علم الله المحيط بكل شيء [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) الإعراب: اللَّهُ يَعْلَمُ ما ما هنا وفي بقية الآية: اسم موصول، مفعول يَعْلَمُ والجمل الفعلية التي بعدها هي الصلات، والعائد منها كلها محذوف. ويجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بيعلم. ويجوز أن تكون ما مصدرية. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ من: مبتدأ مرفوع، وسَواءٌ: خبر مقدم، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فهو مستو. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ العامل في إِذا ما دل عليه الجواب.

البلاغة:

البلاغة: يوجد طباق في تَغِيضُ وتَزْدادُ وفي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وفي أَسَرَّ وجَهَرَ وفي بِاللَّيْلِ وبِالنَّهارِ وفي مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ أي ظاهر. المفردات اللغوية ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي حملها أو ما تحمله من كون الجنين ذكرا أو أنثى، واحدا أو متعددا، وصفات كل، وغير ذلك تَغِيضُ تنقص من زمن أو جسم. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي وما تنقصه وما تزداده من الجثة والمدة والعدد. بِمِقْدارٍ بقدر واحد لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين، وهيأ له أسبابا مسوقة إليه، تقتضي ذلك. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب، وما حضر أو شوهد. والغائب: ما غاب عن الحس، والشّاهد: الحاضر المشاهد. الْكَبِيرُ العظيم الشّأن. الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بالقهر أو بقدرته. سَواءٌ مِنْكُمْ أي في علمه تعالى. مُسْتَخْفٍ مستتر. بِاللَّيْلِ بظلامه. وَسارِبٌ ظاهر بارز بالنهار، بذهابه في سربه أي طريقه. لَهُ مُعَقِّباتٌ له ملائكة تعتقب في حفظه ورعايته، أو تتعاقب على كتابة أقو اله وأفعاله، جمع معقّبة، من عقّبه: جاء عقبه، والتاء للمبالغة، لا للتأنيث، والمراد: ملائكة يتعاقبون على الإنسان بالليل والنّهار. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قدامه. وَمِنْ خَلْفِهِ ورائه أي من جوانبه. مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمره وإعانته، أو يحفظونه من بأس الله متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، أو يحفظونه من المضار. لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنّعمة أي لا يسلبهم نعمته. حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة والمعاصي. سَواءٌ عذابا. فَلا مَرَدَّ لَهُ من المعقبات ولا غيرها. وَما لَهُمْ لمن أراد الله بهم سوءا. مِنْ دُونِهِ أي غير الله. مِنْ والٍ ناصر يمنعه عنهم، ومِنْ: زائدة، وهذا دليل على أن خلاف مراده محال. المناسبة: بعد أن حكى الله سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له، أورد الأدلة على قدرته على ذلك بعلمه المحيط بكل شيء، فهو يعلم ما في الأجنّة التي في البطون، ويعلم الغائب عنا والمشاهد لنا، ويعلم السّر وأخفى، ويعلم جميع أجزاء الإنسان

التفسير والبيان:

المتناثرة ومواضعها في البر والبحر وأجواف الحيوان، فيعيدها مرة أخرى. وبعد أن حكى عن المشركين أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بيّن أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيعلم من حالهم أنهم: هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد، أو لأجل التعنت والعناد؟ وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات، أو يزداد إصرارهم على الكفر واستكبارهم؟. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، فهو يعلم بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، أهو ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، حسن أو قبيح، ذو خصائص وأوصاف، طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان 31/ 34] وقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم 53/ 32] وقال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر 39/ 6] . وإذا أمكن معرفة نوع الجنين علميا بالتحليل مثلا من كونه ذكرا أو أنثى، فلا يكون ذلك معارضا الآية، لأن علم الله لا ينحصر به، وإنما علمه واسع محيط بكل شيء من الخواص والصفات الأخرى. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي والله يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده من الجثة (سقطا أو تماما) والمدة (أقل من تسعة أشهر أو تسعة أو أكثر إلى عشرة) والعدد (واحدا أو متعددا) والدم (إراقة حتى يخسّ الولد، وعدم إراقة حتى يتم الولد ويعظم) . والإحصاء العلمي دل على أن الجنين لا يزيد بقاؤه في بطن أمه عن 305 أو 308 أيام، وهناك رأي في المذهب المالكي أن عدة المطلقة سنة قمرية (354 يوما) .

وأما ما يذكر في المذاهب لأقصى مدة الحمل (أربع سنين عند الشافعية والحنابلة، وخمس سنين عند المالكية، وسنتان عند أبي حنيفة) فمستنده الاستقراء وأخبار الناس، والناس قد يخطئون أو يتوهمون وجود الحمل في فترة زمنية ما، وليس في ذلك أي نص شرعي ثابت. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي وكل شيء عنده تعالى بأجل معين، أو بقدر واحد، لا يزيد عنه ولا ينقص، كقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] . وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الجماعة عن أسامة بن زيد: أن إحدى بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره، فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب» . عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي يعلم كل شيء غائب عن العباد لا تدركه أبصارهم، ومشاهد لهم مرئي، ولا يخفى عليه منه شيء، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، المتعال على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، أي شمل علمه كل شيء، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب، ودان له العباد طوعا وكرها. ويلاحظ أن هذه الآية استوفت بيان كمال علم الله تعالى، ففي مطلع الآية الذي هو كلام مستأنف أوضح تعالى أنه عالم بالجزئيات والمفردات، ثم ذكر أنه عالم بمقادير الأشياء وحدودها لا تتجاوزها ولا تقتصر عليها، وخصص كل حادث بوقته بعينه وبحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ثم أضاف أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وهي أشياء جزئية من خفايا علمه، فهو يعلم الباطن والظاهر، والغائب: وهو ما غاب عن الحس، والشاهد: وهو ما حضر للحس، ثم ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء، لا فرق فيه بين الخفي السرّ أو الظاهر المعلن فقال: سَواءٌ مِنْكُمْ.. أي أنه تعالى محيط علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسرّ قوله وأخفاه أو جهر به وأعلنه، فإنه يسمعه لا يخفى عليه

شيء، كما قال: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] وقال: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ [النمل 27/ 25] . وقالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة، تشتكي زوجها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة 58/ 1] . وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي يعلم أيضا ما هو مختف في قعر بيته في ظلام الليل، والتنصيص على هذه الحالة تنبيه على رقابة الله في كل مكان قد يظن صاحبه أنه بتواريه عن أنظار الناس، لا يطلع عليه أحد. وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ظاهر ماش في ضوء النهار، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] . ثم ذكر الله تعالى وسيلة إثبات المعلومات وخزائن المعارف والوقائع لمواجهة أصحابها بها مع علمه تعالى بكل شيء، وهي: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي للإنسان ملائكة حفظة، ملائكة في الليل تعقب ملائكة النهار، وبالعكس فهم يتعاقبون يتعاقبون على حراسته وحفظه من المضار ومراقبة أحواله، ويتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والتدوين أو الكتابة، سواء خيرا أو شرا. فالضمير عائد إلى مِنْ في قوله: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وقيل: الضمير يعود على اسم الله في عالم الغيب والشهادة.

فلهؤلاء الملائكة الحفظة وظائف، منها: حفظ الإنسان في الليل والنهار من المضارّ والحوادث بإذن الله وأمره ورعايته، ويقوم به ملائكة معينون وعددهم اثنان يحرسه أحدهما من ورائه والآخر من قدامه، ومنها حفظ الأعمال من خير أو شر، ويقوم به ملائكة آخرون، وهما اثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، كما قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] فصار مجموع ملائكة كل إنسان أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل، وهم حافظان وكاتبان، كما جاء في الحديث الصحيح عند البخاري: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» وفي الحديث الآخر: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم» . قال ابن عباس: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه. ومن علم أن الملائكة الحفظة ترصد عليه أعماله وتحصي أقواله وأفعاله، تهيّب من مخالفة أوامر ربه، وكان حذرا من المعاصي، حتى لا تسجل عليه، ويفاجأ بها يوم القيامة، كأنه شريط مسجل من وقت التكليف (البلوغ والعقل) إلى الوفاة. وقوله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي يحفظونه بأمر الله وبإذنه، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له، وسؤالهم ربه أن يمهله، رجاء أن يتوب وينيب، كقوله: قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء 21/ 42] . ثم بيّن الله تعالى مزيد فضله وعدله بأنه لا عقاب بدون جريمة، فقال:

إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ.. أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم وينتقم منهم إلا بتغيير ما بأنفسهم بأن يكون منهم الظلم والمعاصي والفساد وارتكاب الشرور والآثام التي تهدم بنية المجتمع وتدمر كيان الأمم. أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب» . وهذا مؤكد للآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] . وواقع التاريخ الإسلامي في القرون الماضية يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى لم يغيّر ما كان عليه حال الأمة الإسلامية من عزة ومنعة، ورفاه واستقلال، وعلم وتفوق في السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلا بعد أن غيروا ما بأنفسهم، فحكموا بغير القرآن، وأهملوا دينهم، وتركوا سنة نبيهم، وقلدوا غيرهم، وضعفت روابط التعاون بينهم، وساءت أخلاقهم، وانتشرت الموبقات بينهم، وقد وعد الله الأرض من يصلحها بقوله: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] أي الصالحون لعمارتها، وقوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] . ثم وصف تعالى قدرته المطلقة على العذاب فقال: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً.. أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال ونحوها من أنواع البلاء، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم، ويدفع عنهم، أي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فتلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لعجزها عن فعل شيء نافع أو دفع أذى ضار.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا يدل على أن الله قادر في أي وقت على إيقاع العذاب بالناس، فليس من العقل والحكمة في شيء استعجالهم ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن الله تعالى عالم بالجزئيات وبالكليات، وبالماضي والحاضر والمستقبل، وبالباطن والظاهر أو السر المخفي والمعلن المجاهر به، وبالغائب عن مسامعنا وأبصارنا والشاهد الحاضر. 2- استدل مالك والشافعي بآية: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ على أن الحامل تحيض، قال ابن عباس في تأويلها: إنه حيض الحبالى، وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء، الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة. وقال عطاء والشعبي وغيرهما، وأبو حنيفة: لا تحيض، لأنه لو كانت الحامل تحيض، وكان ما تراه من الدم حيضا، لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع، فتماسك الحيض علامة على شغل الرحم، واسترساله علامة على براءة الرحم، فمحال أن يجتمع مع الشغل، لأنه لا يكون دليلا على البراءة لو اجتمعا. 3- وفي هذه الآية دليل أيضا على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وله أمثال كثيرون. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة. واختلف العلماء في أكثر الحمل، فقال مالك في المشهور عنه، خمس سنين، وقال الشافعي وأحمد: أربع سنين، وقال أبو حنيفة: سنتان. ولا أصل لهذه المسألة إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أحوال النساء.

قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر «1» . 4- تخصيص الممكنات بخواص وأوصاف معينة دليل على كمال القدرة الإلهية، والدليل: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، فكلمة بمقدار تعني عدم النقصان والزيادة، وقال قتادة: في الرزق والأجل، والمقدار: القدر، ويقال: بِمِقْدارٍ: قدر خروج الولد من بطن أمه، وقدر مكثه في بطنها إلى خروجه. قال القرطبي: وعموم الآية يتناول كل ذلك. 5- الله عالم الغيب والشهادة، أي هو عالم بما غاب عن الخلق وبما شاهدوه، فالغيب: مصدر بمعنى الغائب، والشهادة: مصدر بمعنى الشاهد. وهذا تنبيه على انفراده تعالى بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد. والله سبحانه الكبير أي الذي كل شيء دونه، المتعال عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره. والله تعالى يعلم ما أسرّه الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر، ويستوي في علم الله المستخفي بالليل والسارب بالنهار، أي يستوي في علم الله السرّ والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. 6- للإنسان بتخصيص الله ملائكة أربعة في الليل، وأربعة في النهار، حافظان وكاتبان، وهي تتعاقب عليه ليلا ونهارا، وتتعقب أعماله وتتبعها

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1097

بالحفظ والكتابة. قال الحسن البصري: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة. الفجر. والمراد من قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمر الله وبإذنه، وتكون مِنْ بمعنى الباء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقال الفرّاء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله، من بين يديه ومن خلفه يحفظونه. وفائدة جعل الملائكة موكلين علينا بالحفظ: أنها تدعونا إلى الخيرات والطاعات، وليكون الإنسان حذرا من المعاصي. وفائدة كتابة أعمال العباد: قال المتكلمون: الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة، وإن كان بالضد فبالضد. 7- لا يغير الله ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غيّر الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم. والمراد بالآية عند المفسرين: أنه تعالى لا يغير ما بالناس من النعم بإنزال الانتقال إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد «1» . وهذا المعنى موجّه للجماعة، أما الفرد فقد يتعرض للمصائب بذنوب الغير، ولا يشترط أن يتقدم منه ذنب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم، وقد سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال فيما رواه البخاري في المناقب: «نعم إذا كثر الخبث» أي الفسق والفجور. وقال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 22

مظاهر ألوهية الله وربوبيته وقدرته [سورة الرعد (13) الآيات 12 إلى 15] :

8- إذا أراد الله بالناس بلاء من أمراض وأسقام، فلا مرد لبلائه وقيل: إن معنى الآية: إذا أراد الله بقوم سوءا، أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. ولا ملجأ ولا ناصر لأحد من مراد الله وعذابه. والأولى تفسير الآية بأنه ليس للبشرية من يلي أمورها غير الله، الذي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، أما الآلهة المزعومة من أصنام وأوثان ونحوها فلا تستطيع أو تفعل شيئا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج 22/ 73] . مظاهر ألوهية الله وربوبيته وقدرته [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)

الإعراب:

الإعراب: خَوْفاً وَطَمَعاً مفعولان لأجله بتقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع، أو حال من البرق أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ الَّذِينَ: اسم موصول، ويَدْعُونَ: صلته، وعائده محذوف أي يدعونهم، كما حذف من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف 7/ 194] أي تدعونهم. كَباسِطِ كَفَّيْهِ الكاف: متعلقة بصفة مصدر محذوف، أي الاستجابة كاستجابة باسط كفيه، ويكون على هذا التقدير حرفا فيه ضمير انتقل إليه من: كائنة. ويجوز أن يجعل الكاف اسما، أي الاستجابة مثل استجابة باسط كفّيه، ولا يكون في الكاف ضمير. ويجوز الاستثناء من الفعل المصدر والظرف والحال. ولام لِيَبْلُغَ فاهُ متعلقة بباسط. البلاغة: يوجد طباق بين خَوْفاً وَطَمَعاً وبين طَوْعاً وَكَرْهاً. إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ.. تشبيه تمثيلي، شبه حال الكافرين في دعاء الأصنام بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه بكف مبسوط. أو شبه عدم استجابة الأصنام لمن يدعونها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بعيد. المفردات اللغوية: الْبَرْقَ شرارة ضوئية تظهر في السماء بسبب تصادم الأجرام السماوية خَوْفاً وَطَمَعاً أي من أجل الإخافة من الصواعق، والطمع في المطر، وفيها مضاف محذوف، أي إرادة خوف وطمع، أو إخافة وإطماعا، أو حال أي خائفين طامعين، وإطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. ومعنى الخوف والطمع: أن وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالمطر، وهو جمع ثقيلة، وإنما وصف به السحاب، لأنه اسم جنس في معنى الجمع الرَّعْدُ الصوت المسموع خلال السحاب بسبب احتكاك الأجرام السماوية، أي أنه ينشأ عن احتراق الهواء بالشرارة ظهور البرق، الذي يحدث من تصادم سحابتين مختلفتي الشحنة الكهربائية، ثم ينشأ عن تفريغ جزء من الهواء الذي يحدثه البرق احتكاك الهواء الذي يطرده البرق وظهور الرعد. الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهي التي تحدث بسبب الاحتكاك الكهربائي بين كهربة السحب

سبب النزول نزول الآية (13) :

وكهربة الأرض عند تقارب السحب من الأرض، فتنشأ عنه صاعقة تحرق ما تقع عليه وَهُمْ يُجادِلُونَ أي الكفار يخاصمون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله تعالى، والجدل: شدة الخصومة الْمِحالِ القوة أو الأخذ للأعداء. لَهُ تعالى دَعْوَةُ الْحَقِّ أي كلمته وهي لا إله إلا الله أو الدعاء الحق، فإنه الذي يحق أن يعبد وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون مِنْ دُونِهِ من غيره وهم الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مما يطلبونه إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء على حافة البئر، يطلب منه أن يبلغه، ليبلغ فاه بارتفاعه من البئر إليه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي بالغ فاه أبدا، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أي عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسار وبطلان. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين (الإنس والجن) طوعا حالتي الشدة والرخاء، ويسجد له الكفار كرها حالة الشدة والضرورة. والمنافقون من الكفار، إذ يسجدون كرها. ويحتمل أن يكون المراد: ينقادون لإحداث ما أراده الله فيهم من أفعاله، شاؤوا أو أبوا، لا يقدرون أن يمتنعوا عليه. وَظِلالُهُمْ جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للشيء المادي القائم أي ويسجد ظلالهم، أو تنقاد أيضا حيث تخضع لمشيئة الله في الامتداد والتقلص والفيء والزوال بِالْغُدُوِّ جمع غداة: وهي أول النهار وَالْآصالِ جمع أصيل: وهو ما بعد العصر إلى المغرب. سبب النزول: نزول الآية (13) : وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ: ذكر الرواة سببين لنزول هذه الآية، أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس: أن أربد بن قيس وعامر بن الطّفيل قدما المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: يا محمد: ما تجعل إليّ إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم، قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، فخرجا، فقال عامر: إني أشغل عنك وجه محمد بالحديث، فاضربه بالسيف، فرجعا، فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك، فقام معه، ووقف يكلمه، وسلّ (أربد) السيف، فلما وضع يده على قائم

المناسبة:

السيف، يبست، والتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا، حتى إذا كانا بالرّقم (موضع) أرسل الله على أربد صاعقة، فقتلته، فأنزل الله: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله شَدِيدُ الْمِحالِ. وأما عامر فأرسل الطاعون عليه، فخرجت فيه غدّة كغدة الجمل، ومات في بيت سلولية. وذكر الواحدي ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والنسائي والبزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رجلا مرّة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال: اذهب فادعه لي، فقال: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك، قال: اذهب فادعه لي، قال: فذهب إليه، فقال: يدعوك رسول الله، قال: وما الله، أمن ذهب هو، أو من فضة أو من نحاس؟ فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، وقال: وقد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، فقال: ارجع إليه الثانية فادعه، فرجع إليه، فعاد عليه مثل الكلام الأول، فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: ارجع إليه، فرجع الثالثة، فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينا هو يكلمني، إذ بعثت إليه سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «1» . المناسبة: بعد أن خوّف الله تعالى عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا مردّ له، أتبعه بهذه الآيات المشتملة على أمور ثلاثة، فهي دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته، وتشبه النعم والإحسان حينا، وتشبه العذاب والقهر والنقمة حينا آخر.

_ (1) أسباب النزول للواحدي 156، تفسير ابن كثير: 2/ 505، تفسير القرطبي: 9/ 296- 298 الكشاف: 2/ 162

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الله تعالى هو الذي يسخر البرق: وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلال السحاب، بسبب تقارب سحابتين مختلفتين في الشحنة الكهربائية، ويريكم إياه تخويفا، فيخاف منه المسافر والمزارع الذي جمع حبوبه في البيدر (الجرين) ويحذر عواقبه كل إنسان من خطف البصر، أو مجيء السيول الجارفة، وطمعا، أي يرجو نفع المطر من كان بحاجة إليه لسقي زرعه وشجره وغسل الجو من الأتربة والرمال والدخان والميكروبات. فالناس في الظواهر العامة قسمان: إما فرح طامع بالخير بالنسبة إليه، وإما متشائم متبرم عابس لما يصيبه من شر أو ضر بالنسبة إليه. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ أي والله سبحانه هو الذي يوجد السحب المحملة المترعة بالماء، وهي لكثرة مائها ثقلية قريبة إلى الأرض. قال مجاهد: السحاب الثقال: الذي فيه الماء. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي أن الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال ينزه الخالق عن الشريك والعجز، ويعلن خضوعه له، وانقياده لقدرته وحكمته، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] . وتسبح الملائكة ربهم وتنزهه عن الصاحبة والولد، من هيبته وإجلاله. ويرسل الله الصواعق نقمة، ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم، فيقول: من صعق قبلكم الغداة، فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان» .

وكل من الرعد والبرق إما بشير خير أو نذير شر، لذا أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء حين رؤيتهما، روى البخاري وأحمد عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . ويسن عند رؤية البرق والرعد أن يقول: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ روى مالك في موطئه عن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد، ترك الحديث، وقال: «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته» . وروى أحمد عن أبي هريرة أنه كان إذا سمع الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» . وروى أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تأخذ الصاعقة ذاكرا الله عز وجل» . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد يقول: «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة، فعليّ ديته» . وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وبالرغم من هذه الأدلة الدالة على قدرة الله وألوهيته، يجادل الكفار ويشكون في عظمة الله تعالى وأنه لا إله إلا هو، قال مجاهد: جادل يهودي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسأله عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ وهو سبحانه شديد المحال أي شديد القوة والأخذ، والمماحلة: وهي شدة المماكرة والمكايدة لأعدائه، فيدبر لهم الحيلة لإنزال العقاب الشديد بهم من حيث لا يشعرون، يقال: تمحل لكذا: إذا تكلف استعمال الحيلة، واجتهد فيه. وهو القادر على إنزال العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل 27/ 51] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] .

وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم لم يقتصروا على إنكار نبوته، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار الألوهية. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي لله تعالى دعوة الصدق والدعاء والتضرع، لا لغيره من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر الذين اتخذوا آلهة. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: دعوة الحق: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له. وذكر في الكشاف وجهان للآية: الأول- إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، أي أن دعوة الإسلام دعوة الحق المختصة به. والثاني- إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو الله عز وعلا أي أن الدعاء لله الحق الذي يسمع فيجيب «1» . وهذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن الوعيد بالعقاب الذي هددهم به. قال أبو حيان عن لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ: والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، كقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ والتقدير: لله الدعوة الحق، بخلاف غيره، فإن دعوتهم باطلة، والمعنى أن الله تعالى، الدعوة له هي الدعوة الحق، وهو رد على الكفار في إثبات آلهة مع الله، فمن يدعو الله فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء، فقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ.. أي إن الذين يدعون من دون الله الأصنام

_ (1) الكشاف: 2/ 162 قال أبو حيان: وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر لأن مآله إلى تقدير: الله دعوة الله وهذا التركيب لا يصح. البحر المحيط: 5/ 376 [.....]

والأوثان والمعبودات الباطلة وهم المشركون، لا يجيبونهم إطلاقا، ولا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء، ولا يحققون لهم نفعا ولا يدفعون عنهم ضرا، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد، طالبا وصوله إلى فمه، وهو عطشان، والماء جماد لا يعقل دعاء، ولا يلبي نداء، ولا يشعر به. ويلاحظ ما عليه هذا التشبيه من واقعية ومن بسط الكفين كما يبسطها الداعي إلى الله. فهذا مثل ضربه الله ليأس عبدة غير الله من الإجابة لدعائهم، لتنبيه عقولهم وحواسهم، والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد. قال الشاعر: فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الودّ مثل القابض الماء باليد وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسار وضياع وبطلان، فإن دعاءهم لهم غير مجاب، كما أن دعاءهم الله غير مجاب أيضا. ثم بين الله تعالى كمال قدرته وعظمته وسلطانه فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. أي ولله يخضع وينقاد كل شيء طوعا من المؤمنين والملائكة في حالي الشدة والرخاء، وكرها من الكافرين في حال الشدة، بل كل شيء من مخلوقات الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد خاضع منقاد للخالق الذي خلقهم وأوجدهم. وكذلك تسجد لله وتخضع ظلال كل من له ظل مما ذكر في الصباح الباكر وفي آخر النهار، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص، أو لإرادة الدوام، كما هو الشأن في استعمالات العرب. والسجود لله دال على الربوبية، فلا يستحق العبادة سوى الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدتنا الآيات إلى ما يلي: 1- بيان كمال قدرة الله تعالى، وأن تأخير العقوبة عن العصاة ليس عن عجز، وكل ما ذكر في الآية من البرق والسحاب والرعد والصواعق دلائل ملموسة على قدرة الله عز وجل، وأنه شديد القوة والأخذ، والمحال أو المماحلة: وهي المماكرة والمغالبة. فحدوث البرق مثلا دليل عجيب على قدرة الله تعالى: لأن السحاب مركب من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ونارية، والغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسم بارد رطب، والنار جسم حار يابس، فتغليب النار على الماء المتضادين، لا بد له من صانع مختار، يظهر الضد من الضد. والأجزاء المائية من السحاب، سواء قيل: إنها حدثت في جو الهواء أو تصاعدت من أبخرة البحار، لا بد أن يكون حدوثها بإحداث حكيم قادر محدث. وصوت الرعد المرعب بسبب تصادم كتل الهواء نتيجة تفريع جزء منه بالبرق دليل آخر على القدرة الإلهية. والصواعق المخيفة المدمرة المتولدة من السحاب والتي تحدث بسبب احتكاك كهربة السحب بكهربة الأرض برهان واضح على الألوهية، ووجود موجود متعال عن النقص والإمكان. 2- كل شيء في الوجود من إنسان وحيوان ونبات وجماد وجنّ وملائكة يسبح بحمده، فالرعد يسبح بحمد الله، والملائكة تسبح أيضا بحمد الله من هيبته وإجلاله، والتسبيح: التنزيه عن الشريك والوالد والولد والصاحبة، والتقديس لله تعالى، ولكن الناس لا يفقهون تسبيح من سواهم.

3- هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل الدالة على كمال قدرة الله، يجادلون في الله، ويشككون في وجوده وألوهيته، والله شديد القوة والأخذ، والعقاب، ومغالبة هؤلاء المشككين المجادلين بالباطل. 4- لله الدعوة الحق، فمن يدعوه فدعوته هي الحق، أما دعاء الأصنام وأمثالها من الآلهة المزعومة دون الله فهو باطل لا يفيد شيئا. 5- الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يحققون لأحد مطلبا، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لباسط كفيه إلى الماء، والماء جماد لا يشعر بأحد ولا بحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاء داعيه، فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم. 6- دل قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. على أنه يجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله إما طوعا أو كرها، فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول، أو أن كل من السموات والأرض يعترفون بعبودية الله تعالى، على ما قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ [لقمان 31/ 25] . وقيل: إن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل. 7- دل قوله: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ على أن كل شخص، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعا، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرها، وهو كاره. وقيل: إن المراد من سجود الظلال أي ظلال الخلق: ميلانها من جانب إلى جانب، وتختلف طولا وقصرا بسبب انحطاط الشمس وارتفاعها، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.

وحدانية الله ومثل المؤمن والمشرك تجاه الوحدانية [سورة الرعد (13) آية 16] :

وحدانية الله ومثل المؤمن والمشرك تجاه الوحدانية [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) لبلاغة: قُلِ: اللَّهُ فيه إيجاز بالحذف، أي الله خالق السموات والأرض. الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ والظُّلُماتُ وَالنُّورُ فيهما طباق. هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ فيهما استعارتان، استعار لفظ الأعمى للمشرك، والبصير للمؤمن، واستعار لفظ الظلمات والنور للكفر والإيمان. أَمْ جَعَلُوا الهمزة للإنكار، أي بل جعلوا. المفردات اللغوية: قُلْ يا محمد لقومك مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومتولي أمرهما قُلِ: اللَّهُ إن لم يجيبوا فلا جواب غير أن تقول: الله الخالق إذ لا جواب لهم سواه، ولأنه الجواب البين الذي لا يمكن المراء فيه، أو أنه لقنهم الجواب أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي كيف اتخذتم من غيره أصناما تعبدونها؟ والمراد أنه ألزمهم بذلك أن اتخاذهم منكر بعيد على مقتضى العقل، والاستفهام للتوبيخ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا يقدرون على جلب نفع إليها أو دفع ضر عنها، فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه؟ وكيف تركتم مالك السموات والأرض؟ وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء، رجاء أن يشفعوا لهم.

المناسبة:

هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الكافر الجاهل، والمؤمن العالم العاقل أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الكفر والإيمان؟ لا. أَمْ جَعَلُوا بل أجعلوا، والهمزة للإنكار خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي خلق الله بخلق الشركاء، أي ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله، حق يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق الله، فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الناس، فضلا عما يقدر عليه الخالق. وهو استفهام إنكاري، أي ليس الأمر كذلك، ولا يستحق العبادة إلا الخالق قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي لا خالق غيره، فيشاركه في العبادة، فهو لا شريك له في الخلق، فلا شريك له في العبادة، أي أنه جعل الخلق يستوجب العبادة ويلزم منه ذلك، ثم نفاه عما سواه ليتوصل إلى الآتي وهو قوله: وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي هو المتوحد بالألوهية، الغالب على كل شيء. المناسبة: بعد أن بيَّن الله تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد له، خاضع لقدرته وعظمته، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام، لإثبات الوحدانية، وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية، حتى لا يجدوا مناصا من الاعتراف بها. التفسير والبيان: قل للمشركين أيها الرسول: من خالق السموات والأرض؟ ثم أجب عنهم الجواب المتعين الذي لا مناص منه، وهو الذي يقرون به لأنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] وقل لهم إذن: الله خالقهما وربهما ومدبرهما. قال الزمخشري: وقوله: قُلِ: اللَّهُ حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا: الله. ثم قل لهم بعد أن ثبت هذا لديكم: فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات

هي جمادات، وإذا كنتم مقرين بوجود الله، فما بالكم اتخذتم من دونه نصراء عاجزين وأولياء تعبدونهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟! وإذا كانت تلك الآلهة لا تملك لنفسها النفع والضر، فهي لا تملك لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا. فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له، فهو على نور من ربه؟ لهذا قال: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ... أي قل لهم مبينا لهم سوء اعتقادهم: هل يتساوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يدرك الحق ويهدي الأعمى إليه؟ أم هل تتساوى الظلمات والنور؟ جمع الظلمات وأفرد النور لأن طريق الحق واحدة، وطرق الباطل والكفر متعددة. والمراد: هل يمكن لأحد الحكم بتساوي الكافر والمؤمن، وتساوي الكفر والإيمان، فالكافر كالأعمى، والكفر كالظلمات، والمؤمن كالبصير، والإيمان كالنور؟ أَمْ جَعَلُوا بل جعلوا أي جعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، وحينئذ تشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، فحينما جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله، تشابه ذلك عليهم، فيعبدونهم، مع أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، فكيف يشركون في العبادة، أفمن يخلق كمن لا يخلق؟! وهذا بمعنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج 22/ 73] . والمراد: ليس الأمر على هذا النحو، فإنه تعالى لا يشابهه شيء، ولا يماثله شيء، ولا ندّ له، ولا وزير له، ولا ولد له ولا صاحبة، وهؤلاء المشركون عبدوا آلهة، وهم معترفون أنها مخلوقة لله، وهم عبيد له، كما صرحوا في تلبيتهم:

فقه الحياة أو الأحكام:

«لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» وكما أخبر القرآن عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر 39/ 3] . وتضمن هذا الاستفهام التعجب منهم والإنكار عليهم والتهكم بهم. وبعد أن ناقشهم تعالى في فساد اعتقادهم، وأبان عدم وجود المسوغات لاتخاذ غير الله إلها معه، لعجزه وضعفه، قرر الحكم النهائي بقوله: قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.. أي قل لهم يا محمد مبينا وجه الحق: الله خالق كل شيء، خالقكم وخالق أصنامكم وخالق جميع المخلوقات، فإذا فكرتم تفكيرا سويا وجدتم أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد وهو المتوحد بالألوهية، المستحق للعبادة وحده، الغالب على كل شيء، فكيف تعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر؟! فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- تثبيت الحقيقة الأبدية الخالدة وهي أن الله تعالى وحده هو خالق السموات والأرض وجميع مخلوقات الكون. ومن له صفة الخلق والإيجاد هو المستحق للعبادة والتقديس. 2- دل قوله: قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ على اعترافهم بأن الله هو الخالق، وهو معنى آية أخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ [العنكبوت 29/ 61] أي فإذا اعترفتم بأن الله هو الخالق فلم تعبدون غيره؟ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح بالحجة القاطعة التي لا مجال لردها أو الطعن فيها. 3- ضرب الله مثلا للمشركين بالأعمى للكافر والبصير للمؤمن، وإذا كان مسلّما لدى كل البشر ألا يستوي الأعمى والبصير، فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق والمشرك الذي لا يبصر الحق.

ثم ضرب الله تعالى مثلا للشرك والإيمان بالظلمات والنور. 4- طمس الله على عقول المشركين، فلم يقتنعوا بما سبق، بل جعلوا لله شركاء فاقدة أهم مقومات الألوهية وهو الخلق والإبداع، فهي عاجزة عن خلق أي شيء، فلا يمكن بعدئذ أن تنافس مخلوقات الله، ولو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟! والمشركون حينما اتخذوا آلهة خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله، التبس الأمر عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. وهو تهكم بهم، فإنهم في الحقيقة يرون كل شيء من خلق الله، وأن هذه الآلهة لم تخلق شيئا، ومع هذا فإنهم يعبدونها من دون الله. 5- الله خالق كل شيء، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. والله تعالى هو الواحد قبل كل شيء، والقهار الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد، فكيف يصح بعد هذا القول بشريك لله؟! 6- استدل أهل السنة بهذه الآية على خلق الأفعال، أي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأن العبد لا يخلق فعل نفسه لأن فعله شيء والله خالق كل شيء، وإنما يحصل منه الكسب والتوجيه واختيار ما خلق الله له. أما المعتزلة فقالوا: إن العبد يفعل ويحدث، ولا نقول: إنه يخلق كخلق الله تعالى، وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك كله، فلا يلزمهم أنهم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه. وقال المجبرة: عين ما هو خلق الله تعالى هو كسب العبد وفعل له. وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين، وكل شريك له حق في فعل الآخر.

مثل الحق والباطل ومآل السعداء والأشقياء [سورة الرعد (13) الآيات 17 إلى 19] :

مثل الحق والباطل ومآل السعداء والأشقياء [سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الإعراب: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ جار ومجرور، في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في عَلَيْهِ وتقديره: ومما يوقدون عليه كائنا أو مستقرا في النار. ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ منصوب على المصدر في موضع الحال من ضمير يُوقِدُونَ. ولا يجوز أن يكون فِي النَّارِ متعلقا بيوقدون لأنهم لا يوقدون في النار، وإنما يوقدون على الذهب، كائنا في النار. زَبَدٌ مِثْلُهُ مبتدأ، ومِثْلُهُ: صفة له، وخبره إما يُوقِدُونَ أو فِي النَّارِ. جُفاءً حال من ضمير فَيَذْهَبُ عائد على الزبد لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى مبتدأ مؤخر وخبر مقدم وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مبتدأ، خبره: لَوْ أَنَّ ...

البلاغة:

البلاغة: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. تشبيه تمثيلي، وجه الشبه منتزع من متعدد، شبّه فيه الحق بالماء المستقر على الأرض، وبالجوهر الصافي من المعادن، وشبّه الباطل برغوة الماء وخبث المعدن الطافي عليه لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل. فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أي فسالت مياه الأودية، فهو مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه. يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فيه إيجاز بالحذف، أي أمثال الحق وأمثال الباطل. لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا بينهما طباق السلب. كَمَنْ هُوَ أَعْمى شبه الكافر الجاهل بالأعمى على سبيل الاستعارة. المفردات اللغوية: مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا من السحاب أو من جانب السماء أَوْدِيَةٌ أنهار، جمع واد: وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، ثم استعمل للماء الجاري فيه، وتنكيرها لإتيان المطر على التناوب بين البقاع بِقَدَرِها بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع، أو بمقدار مثلها في الصغر والكبر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه، والزبد: ما يعلو وجه الماء من رغوة وقذر ونحوه رابِياً عاليا عليه مرتفعا فوقه وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ من جواهر الأرض وفلزاتها كالذهب والفضة والنحاس والحديد ومن: للابتداء، أو للتبعيض، والضمير للناس، وإضماره للعلم به ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب زينة أَوْ مَتاعٍ ينتفع به كالأواني إذا أذيبت، وآلات الحرب والحرث، والمقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ أي مثل زبد السيل، وهو خبثه وهو الذي ينفيه الكير كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي المذكور مثل الحق والباطل وأهل كل. فَأَمَّا الزَّبَدُ من السيل وما أوقد عليه من المعادن فَيَذْهَبُ جُفاءً يزول باطلا مرميا به، فالجفاء: ما يرميه الوادي من الزبد إلى جوانبه وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والمعادن فَيَمْكُثُ يبقى وينتفع به أهلها فِي الْأَرْضِ زمانا، كذلك الباطل يضمحل وينمحق، وإن علا على الحق في بعض الأوقات، والحق ثابت باق، أي أن الحق في إفادته وثباته كالماء النافع الذي يستقر في الأرض، وكالمعدن الذي ينتفع به في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله كزبد الماء أو غثائه ورغوته، وخبث المعدن وشوائبه كَذلِكَ المذكور يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ يبين، لإيضاح المشتبهات. لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أطاعوه، أي للمؤمنين الذين استجابوا بالطاعة لله، واللام متعلقة

المناسبة:

بيضرب الْحُسْنى الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وهم الكفار لَافْتَدَوْا بِهِ من العذاب أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ المؤاخذ بكل ما عملوه، لا يغفر منه شيء، أو المناقشة في الحساب، بأن يحاسب الإنسان بذنبه، لا يغفر منه شيء وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مرجعهم النار وَبِئْسَ الْمِهادُ المستقر والفراش هي، والمخصوص بالذم محذوف. أَفَمَنْ يَعْلَمُ.. الهمزة للإنكار، أي فيؤمن ويستجيب كالحمزة كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كأبي جهل، والمراد لا يستويان، ولا يتشابهان يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى وجود دعوتين: دعوة الحق، ودعوة الباطل، وأن دعوة الله هي دعوة الحق ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل، ولما شبه تعالى المؤمن والكافر والإيمان والكفر، بالبصير والأعمى، والنور والظلمات، ذكر مثلا آخر للإيمان والكفر، وأبان مثلا للحق وأهله، والباطل وحزبه، فجعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه بالماء النازل من السماء فينفع الأرض والناس، وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه، واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته بزبد السيل الذي يرمي به، وزبد المعدن الذي يطفو فوقه إذا أذيب. التفسير والبيان: اشتملت الآية الأولى على مثلين للحق وهو القرآن أو الإيمان في ثباته وبقائه ونفعه، والباطل وهو الكفر في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ... أي أنزل الله تعالى من السحاب مطرا، فأخذ كل واد بحسبه صغرا وكبرا، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها في استيعاب الإيمان سعة وضيقا، فحمل السيل

المتجمع من ذلك المطر زبدا عاليا طافيا فوقه، وهذا هو المثل الأول للحق والباطل أو الإيمان والكفر. ثم ذكر تعالى المثل الثاني: وَمِمَّا يُوقِدُونَ.. أي ومثل الحق أو الإيمان كالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ونحوها الذي يستخلص من التراب والشوائب، بواسطة السبك في النار، ليجعل حلية أو آنية أو سلاحا أو متاعا ينتفع به، ويعلوه الخبث والشوائب الطافية عند الانصهار، وهو مثل الباطل. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي المذكور مثل الحق والباطل إذا اجتمعا، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقر النافع والمعدن النقي الصافي، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السيل على جوانبه، وخبث المعدن عند انصهاره، فالباطل لا دوام له أمام الحق. ثم ذكر الله تعالى اضمحلال الباطل وذهابه بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ.. أي أن الزبد الطافي فوق الماء يتبدد ويزول ويذهب في جانبي السيل، ويعلق على حافتيه، فتنسفه الرياح، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرا في الأرض، أما الماء فنشربه ونسقي به الزرع، وأما المعدن فنستفيد منه إما بالحلي أو بصناعة الأواني والأسلحة والأمتعة، كما قال تعالى عن الحديد: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 57/ 25] . كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي أنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال، فكذلك يضربها بيّنات، لإيضاح الفوارق بين أصول الاعتقاد الجوهرية من الإيمان والكفر، والحق والباطل. والخلاصة: إن القرآن الكريم الذي تجسد فيه الحق ونور الإيمان مثله في إحياء القلوب به مثل الماء الذي يحيي الأرض بعد موتها، ومثل المعدن النقي

الصافي الذي يحقق منافع كثيرة للناس. وأما الكفر وضلالات الشرك وباطل اعتقاد المشركين، فهو عديم النفع سريع الزوال، يتبدد فورا، فهو كرغوة الماء وغثاء السيل الذي يضمحل وتعصف به الرياح، وخبث المعدن الذي يستبعد ويلقى جانبا. وما ضرب هذا المثل الرائع إلا لخير الإنسان، الذي عليه أن يقدر مآل أمره، وما ينتظره من سعادة وشقاوة في المعاد، فإذا كان يوم القيامة وعرض الناس وأعمالهم على ربهم، فيزيغ الباطل ويتلاشى، وينتفع أهل الحق بالحق. وقد ضرب الله تعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين من النار والماء، فقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ.. [17] ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [19] . وضرب سبحانه للكافرين في سورة النور مثلين، فقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [39] والسراب يكون في شدة الحر، ثم قال: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.. [40] . وجاء في السنة أمثال مشابهة، فشبّه النبي صلّى الله عليه وسلّم أحوال المنتفعين بسنته بأحوال أراض ثلاث سقط عليها الماء، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لأتمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وهذا مثل مائي يشبه المثل الذي ضربه الله تعالى للمنافقين.

وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها» وهذا مثل ناري أبان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم حرصه على إبعاد أمته من النار، وتساقط بعضهم فيها كتساقط الفراش، وهو كالمثل الذي ضربه الله للمنافقين. ثم أبان الله تعالى مستأنفا الكلام مصير أهل الحق وأهل الباطل، ومآل السعداء والأشقياء، ترغيبا وترهيبا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.. أي الجنة للذين أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة والثواب العظيم، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] وقال: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً [الكهف 18/ 88] . وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا.. أي والذين لم يطيعوا الله ورسوله، لا ينفعهم في الآخرة الفداء بجميع ما في الدنيا وضعف ما فيها، أي لا يمكنهم في الدار الآخرة أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ومثله معه. ولو كان لهم ذلك لافتدوا به، ولكن لا يتقبل الله منهم لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا، أي فداء وتوبة. أولئك الذين لم يطيعوا الله لهم سوء العذاب في الدار الآخرة، ويناقشون على كل ما قدموه، لا يغفر منه شيء، ومن نوقش الحساب عذب، ومرجعهم إلى النار وبئس المستقر مستقرهم. وفي هذا تهويل شديد، وتخويف عظيم، لغفلتهم من اتباع أوامر ربهم، وتقربهم إليه، وانغماسهم في شهواتهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم نزل في حمزة رضي الله عنه وأبي جهل، كما ذكر ابن عباس قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ.. أي لا يستوي من يعلم من الناس أن المنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا لبس فيه، بل هو كله حق، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام 6/ 115] أي صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، لا يستوي من صدّق بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومن لم يصدق به، وكان أعمى لا يستبصر، ولا يهتدي إلى خير، ولا يفهمه، ولو فهمه، ما انقاد له ولا صدقه، ولا اتبعه. إنما الذي ينتفع بهذه الأمثال ويعتبر بها ويتعظ ويعقل هم أولو العقول السليمة، والأفكار الصحيحة، والآراء الرشيدة. ونظير الآية: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ، وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] . فقه الحياة أو الأحكام: أبانت الآيات أمورا ثلاثة: 1- تشبيه الحق والإيمان بالماء المستقر والمعدن النقي الصافي، وتشبيه الباطل والكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتنسفه الرياح، أو تشبيهه بالطافي فوق المعدن المذاب فكذلك الكفر وشبهاته وخيالاته تذهب وتضمحل، ويبقى الجوهر الصافي من الماء، والمعدن النقي. وهذان المثلان اللذان ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، يلفتان النظر إلى عواقب الأمور. وقيل وهو ما يروى عن ابن عباس: المراد تشبيه القرآن وما يدخل منه

أوصاف أولي الألباب السعداء وجزاؤهم [سورة الرعد (13) الآيات 20 إلى 24] :

القلوب بالمطر، لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبّه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثلما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. 2- للطائعين أهل السعادة الذين أجابوا إلى ما دعا الله من التوحيد والنبوات الجزاء الحسن، وهو النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا في الآخرة. وللعصاة أهل الشقاوة الذين لم يجيبوا إلى الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لا يتمكنون من فداء أنفسهم في الآخرة بملء الأرض ذهبا، ومثله معه، ولهم سوء العذاب، فلا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة، ومسكنهم ومقامهم النار، وبئس الفراش الذي مهدوا لأنفسهم، فهذه أربعة أنواع من العذاب والعقوبة: عدم قبول الفداء، والتعرض لسوء الحساب، ومأواهم جهنم، وبئس المهاد مهادهم أي بئس المستقر هي. 3- مثل آخر للمؤمن والكافر، روي أنه نزل في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل خزاه الله، فالمؤمن بالمنزل من الله على نبيه، المتحقق بصدقه، العامل بما بلغه إليه منه هو المستبصر الواعي العاقل، والكافر هو الجاهل بالدين أعمى القلب، وأولو العقول هم المتعظون المعتبرون بذلك. أوصاف أولي الألباب السعداء وجزاؤهم [سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

الإعراب:

الإعراب: الَّذِينَ يُوفُونَ إما صفة لأولي الألباب، وإما مبتدأ، خبره: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. وَمَنْ صَلَحَ مرفوع بالعطف على ضمير يَدْخُلُونَها المرفوع، وحسن العطف لوجود الفصل بضمير المفعول. ويجوز نصبه على أنه مفعول معه. ولا يجوز عطفه بالجر على لَهُمْ عُقْبَى لأن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة حرف الجر. وأجاز الكوفيون ذلك من غير إعادة حرف الخفض. جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى الدَّارِ، أو مبتدأ، خبره: يَدْخُلُونَها. بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم، أو بمحذوف، أي هذا بما صبرتم، ولا يتعلق بسلام فإن الخبر فاصل، والباء: للسببية أو البدلية. البلاغة: سِرًّا وعَلانِيَةً وبِالْحَسَنَةِ والسَّيِّئَةَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ المأخوذ عليهم، وهم في عالم الذر أو كل عهد، وهو ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا: بلى، أو ما عهده الله تعالى عليهم في كتبه. وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد، والنقض: الفك بترك الإيمان أو الفرائض، وهو تعميم بعد تخصيص. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام، والرحم وموالاة المؤمنين، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ تمتلئ قلوبهم مهابة منه وجلالا له. والخشية: الخوف مع العلم بمن تخشاه. وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويخشون خطر الحساب. وَالَّذِينَ صَبَرُوا على الطاعة والبلاء وعن المعصية. ابْتِغاءَ طلب. وَجْهِ رَبِّهِمْ أي طلب رضاه، لا غيره من أغراض الدنيا، كالفخر أو السمعة ونحوهما. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَأَنْفَقُوا.. في الطاعة بعض ما رزقهم الله. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ويدفعون

المناسبة:

السيئة بالحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان كالأذى بالصبر، والجهل بالحلم، أو يتبعون السيئة الحسنة، فتمحوها. عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة، وهي جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة يقيمون فيها. وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي ومن صلح، وإن لم يعملوا بعملهم، يكونون في درجاتهم تكرمة لهم، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، والتقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنة أو من أبواب المنازل، أول دخولهم للتهنئة. سَلامٌ قائلين: سلام عليكم، بشارة بدوام السلامة. بِما صَبَرْتُمْ بصبركم في الدنيا. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ عقباكم. المناسبة: هذه الآية متعلقة بما قبلها، فهي تذكر الصفات الحميدة لأولي الألباب، أو الصفات المذكورة في قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ومن اتصف بهذه الصفات لهم سعادة الدنيا والآخرة. التفسير والبيان: يصف الله تعالى أولي الألباب من المؤمنين الذين تحققوا من نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم واعتقدوا أن ما أنزل إليه هو الحق، يصفهم بالصفات التالية: 1- الوفاء بالعهد: الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبية الله تعالى، وبالمواثيق بينهم وبين ربهم، وبينهم وبين العباد. وعهد الله: كل ما قام الدليل على صحته من الأدلة العقلية والسمعية، والعهد: اسم للجنس، أي بجميع فروض الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل فيه التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. 2- عدم نقض الميثاق: أي لا يخلّون بواجبات العهد والتزاماته، ولا ينقضون عهد الإيمان مع ربهم، ولا بالعقود التي يبرمونها مع الناس من بيع وشراء وسائر المعاملات، حتى لا يكونوا

3 - صلة الرحم ورعاية جميع الحقوق الواجبة لله وللعباد:

كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، روى الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وفي رواية أربع ومنها: «وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . فعدم نقض الميثاق في رأي الأكثرين قريب من الوفاء بالعهد، وهما مفهومان متلازمان، وإن كانا متغايرين، ونص على منع النقض تأكيدا عليه. أو أنه تعميم بعد تخصيص. قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا في القرآن، عناية بأمره، واهتماما بشأنه. 3- صلة الرحم ورعاية جميع الحقوق الواجبة لله وللعباد: الذين يصلون كل ما أمر الله بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله، ومنها مؤازرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونصرته في الجهاد، وحقوق العباد، ومنها صلة الرحم. جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» ومنها الإحسان إلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف. ونص على هذا الوصف مع دخوله في الوصفين السابقين للتأكيد، ولئلا يظن ظان أن الوفاء بالعهد مقصور على ما بين الإنسان وبين الله تعالى. 4- الخوف من الله: ويخشون ربهم فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك. والخشية: خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن يخشاه، لذا خص الله العلماء بمزيد الخشية، فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28] .

5 - الخوف من العذاب:

5- الخوف من العذاب: ويحذرون سوء الحساب في الدار الآخرة، فيخافون المناقشة في الحساب لأن من نوقش الحساب عذّب، ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا لأن الحساب يشمل كل صغير وكبير، ومن خاف الحساب أقبل على الطاعة، وتجنب المعصية. ويلاحظ أن الوصف الرابع إشارة إلى الخشية من الله، وهذا يقتضي خوف الجلال والمهابة والعظمة، وهذا الوصف إشارة إلى الخوف من سوء الحساب. 6- الصبر: وهو حبس النفس على ما تكره: والذين صبروا على الطاعة وعن المعصية، وحال البلاء، ففعلوا الطاعات والتكاليف، وامتنعوا من المعاصي والسيئات أو المنكرات، ورضوا بالقضاء والقدر عند التعرض للمصائب، وكان صبرهم بقصد مرضاة الله عز وجل ونيل ثوابه، لا رياء ولا سمعة. 7- إقامة الصلاة: والذين أقاموا الصلاة أي أدّوها مستكملة أركانها وشروطها التامة، مع خشوع القلب لله تعالى على الوجه المرضي. 8- الإنفاق في وجوه الخير: وأنفقوا بعض ما رزقناهم في السر والجهر بحسب مقتضى الحال، فيسرّون النفقة بينهم وبين ربهم حتى لا يكون قصدهم الرياء والسمعة، ويعلنونها أحيانا للناس إذا كانت بقصد التشجيع والتعليم والقدوة، سواء كان إنفاقا واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء، أو مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمساكين الأباعد.

9 - مقابلة السيئة بالإحسان:

9- مقابلة السيئة بالإحسان: ويدفعون الإساءة بالإحسان كالجهل بالحلم، والأذى بالصبر، كما قال تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان 25/ 72] ، ويتبعون السيئة بالحسنة لمحوها، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد عن أبي ذر: «إذا عملت سيئة، فاعمل بجنبها حسنة تمحها» وفي رواية أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» . والثابت أن المعاملة الكريمة مع المسيء وغيره أفضل وأجدى وأوقع أثرا لأنها تهوّن الأمر، وتستل الأحقاد، وتكون عاقبتها أسلم. وبعد أن وصف الله المؤمنين العقلاء بتلك الصفات الحميدة، ذكر جزاءهم بقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي أولئك الموصوفون بما ذكر لهم العقبى الحسنة والسعادة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو النصر على الأعداء، وأما في الآخرة فهو الجنة. ثم أوضح هذه العقبى فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ.. أي تلك العقبى هي الجنات التي يقيمون فيها إقامة دائمة. يدخلونها هم والصالحون المؤمنون من أزواجهم وأصولهم وفروعهم، وهو دليل على أن سمو الدرجة يكون بالشفاعة، وأن التقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الأنساب لا تنفع، فلا تفيد الأنساب شيئا إذا لم تقرن بالعمل الصالح، وكما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ [المؤمنون 23/ 101] وقال سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء 26/ 88- 89] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة في مرض موته فيما رواه الترمذي: «يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وتأتيهم الملائكة عند دخولهم الجنة من أبواب مختلفة قائلين لهم: سلام عليكم بصبركم، أي أمن دائم عليكم، ورحمة من ربكم، فنعم عقبى الدنيا الجنة. فقوله سَلامٌ مشتمل على محذوف تقديره: ويقولون: سلام عليكم. روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- وجوب الوفاء بالعهد: وهو يشمل كل حقوق الله وفرائضه وحقوق العباد. 2- تحريم نقض المواثيق الإلهية والبشرية: فإذا عقد الإنسان عهدا في طاعة الله، أو مع الناس، لم يجز نقضه. 3- وجوب صلة الأرحام ورعاية جميع حقوق الله وحقوق العباد، وذلك يتناول جميع الطاعات والإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. 4- الخوف من سوء الحساب: وهو الاستقصاء فيه والمناقشة، ومن نوقش الحساب عذّب، كما روى الشيخان عن عائشة. 5- الصبر بإخلاص لله تعالى على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. 6- إقامة الصلاة: وهو أداؤها بفروضها وخشوعها في مواقيتها.

7- الإنفاق من بعض المال سرا وجهرا، بأداء الزكاة المفروضة والتطوع بالصدقات المندوبة في سبيل الله تعالى. 8- درء السيئة بالحسنة، أي الدفع بالعمل الصالح السيء من الأعمال، كالتخلق بالأخلاق الطيبة في مواجهة أذى الناس، كالحلم في وجه الجهل، والصبر في وجه الأذى، ودفع الشر بالخير، والمنكر بالمعروف، واتباع السيئة بالحسنة لمحو أثرها لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» . 9- للسعداء الطائعين عاقبة الآخرة: وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي. وجنان عدن: وسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن، جاء في صحيح البخاري «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة» . 10- يدخل الجنة مع المؤمن الصالح آباؤه وأزواجه وأبناؤه إن صدقوا وصلحت أعمالهم، وإن لم يعملوا مثل أعمالهم، واشتراط العمل الصالح كاشتراط الإيمان، ولكن من فضل الله تعالى وإكرام المؤمن وثواب المطيع: سروره واجتماعه مع قراباته في الجنة، وحضور أهله معه فيها، وان دخلها كل إنسان بعمل نفسه من زاوية العدل، وبرحمة الله تعالى من ناحية الفضل. 11- التقييد بالصلاح بقوله: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ.. دليل على أن مجرد الأنساب لا تنفع، فلا تفيد الأنساب شيئا إذا لم تقرن بالعمل الصالح. 12- تدخل أفواج الملائكة من مختلف أبواب الجنة مهنئة المؤمنين، ومبشرة لهم بالسلامة، قائلين لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي قد

صفات الأشقياء وجزاؤهم [سورة الرعد (13) آية 25] :

سلمتم من الآفات والمحن، أو هو خبر بمعنى الدعاء، أي ندعو لكم بدوام السلامة، سلمكم الله، وهذا يتضمن الاعتراف بالعبودية. والسلام عليكم كان بصبركم على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية، فنعم عاقبة الدار التي كنتم فيها، عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فالعقبى على هذا اسم، وهو قول ابن سلام. أو فنعم عقبى الجنة عن النار أو عن الدنيا، وهو قول أبي عمران الجوني. 13- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال: إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم، فكانوا به أجل مرتبة من البشر، ولو كانوا أقل مرتبة من البشر، لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم «1» . صفات الأشقياء وجزاؤهم [سورة الرعد (13) : آية 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ذكر في مقابلة الأولين الذين يوفون بعهد الله. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم والمعاصي وإثارة الفتن. لَهُمُ اللَّعْنَةُ الطرد أو البعد من رحمة الله. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ العاقبة السيئة في الدار الآخرة، وهي جهنم، أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عقبى الدار للسعداء.

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 45- 46

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى صفات السعداء وجزاءهم الذي أعده لهم في دار الكرامة، ذكر حال الأشقياء وما هيأه لهم من عذاب النار، وأتبع الوعد بالوعيد، والثواب بالعقاب، على ما هي عليه عادة القرآن للموازنة والمقابلة، وليكون البيان كاملا فيكون أدعى للامتثال والزجر، فقال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. التفسير والبيان: وصف الله تعالى الأشقياء بصفات ثلاث هي: 1- نقض العهد: والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده وأمر به. سواء ما يتعلق به سبحانه من الإيمان بوحدانيته وقدرته وإرادته، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وما أوحى لهم به، أو ما يتعلق بحقوق الناس. ونقض العهد: بألا ينظر في الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده أصلا، أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند، فلا يعمل بعلمه، أو بأن ينظر في الشبهة، فيعتقد خلاف الحق. وقوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد الإقرار بصحته والالتزام به. 2- قطع ما أمر الله به أن يوصل، أي قطع كل ما أوجب الله وصله، من لإيمان به وبرسله، وقطع الرحم والقرابات، وعدم صلة المؤمنين وسائر أصحاب الحقوق وعدم التعاون معهم. 3- الإفساد في الأرض، أي ويفسدون في الأرض بأعمالهم الخبيثة، يظلمون أنفسهم وغيرهم، ويدعون إلى غير دين الله، ويلحقون الظلم بالنفوس

فقه الحياة أو الأحكام:

والأموال، ويرتكبون كل ما يؤدي إلى تخريب البلاد، وإثارة الفتن، وتأجيج نار الحرب والدمار. ثم أبان تعالى ما يستحق هؤلاء من عقاب، فقال: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي أولئك الموصوفون بما ذكر يستحقون اللعنة، أي الطرد من رحمة الله والإبعاد من خيري الدنيا والآخرة. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي ولهم سوء العاقبة والمآل، وهو عذاب جهنم، وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها، كما قال سبحانه سابقا: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [الآية: 18] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى الأحكام التالية: 1- تحريم نقض العهد الإلهي بالإيمان وإيتاء الحقوق، الذي أقام عليه تعالى لأدلة العقلية والسمعية، وأوجب الوفاء به في قرآنه وكتبه المنزلة على أنبيائه. 2- تحريم قطع ما أمر الله بوصله من صلة الأرحام والإيمان بجميع الأنبياء، والتعاون مع المؤمنين. 3- تحريم الإفساد في الأرض بالكفر وارتكاب المعاصي والظلم وإثارة الفتن، وارتكاب كل ما يؤدي إلى دمار البلاد وتخريبها، وإتلاف الأموال والحقوق واغتصابها والاعتداء عليها. 4- المرتكبون لهذه المنكرات والفواحش لهم اللعنة، أي الطرد والإبعاد من لرحمة، ولهم سوء الدار، أي سوء المنقلب، وهو جهنم.

الرزق على الله والآيات بيد الله والهداية من الله لمن آمن بالله [سورة الرعد (13) الآيات 26 إلى 29] :

الرزق على الله والآيات بيد الله والهداية من الله لمن آمن بالله [سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الإعراب: الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله: مَنْ أَنابَ أو خبر مبتدأ محذوف. وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا معطوف على وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وفي الآية تقديم وتأخير، وما سبق ذلك اعتراض. طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ طُوبى مبتدأ، وخبره لَهُمْ، والجملة خبر المبتدأ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَحُسْنُ مَآبٍ: معطوف مرفوع على طُوبى. وقرئ: وَحُسْنُ مَآبٍ بالنصب، على أنه منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، أي يا حسن مآب، ويجوز أن يكون طُوبى منصوبا بفعل مقدر، أي أعطاهم طوبى لهم، وأعطاهم حسن مآب، فهذا معطوف بالنصب على ما سبقه. البلاغة: يَبْسُطُ ويَقْدِرُ ويُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق. إِلَّا مَتاعٌ تشبيه بليغ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه، أي ما الحياة الدنيا إلا مثل الذي يتمتع به الإنسان في منزله كالقصعة ونحوها، في حقارته وسرعة زواله.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه وَيَقْدِرُ يضيقه أو يعطي بقدر الكفاية فقط وَفَرِحُوا أي أهل مكة فرح بطر بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا وما نالوه فيها وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم، وشيء قليل يتمتع به ويذهب، والمعنى: أن الكفار بطروا بما نالوا من الدنيا، ولم يستخدموه فيما يوصلهم إلى نعيم الآخرة، واغتروا بما هو قليل النفع سريع الزوال. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكةهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ كعصا موسى ويده، وناقة صالح يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله، فلا تغني عنه الآيات شيئا لأنه عاند وأعرض عن الحق وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ يرشد إلى دينه من رجع عن العناد وأقبل إلى الحق. والمعنى: هذا جواب فيه تعجب من قولهم، كأنه قال لهم: ما أعظم عنادكم، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائهم، وإن أنزلت كل آية ويهدي إليه من أناب، أي من رجع عن العناد. وَتَطْمَئِنُّ تسكن بِذِكْرِ اللَّهِ أي بتوحيده ووعده تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قلوب المؤمنين، والمعنى أن قلوب المؤمنين تسكن وتستأنس بتوحيد الله وتذكر وعده، وتعتمد عليه وترجو منه، فتطمئن. طُوبى مصدر من الطيب، أي لهم العيش الطيب والنعمة والخير والسرور، والحسنى والكرامة. وقيل: هي شجرة في الجنة، يسير الراكب في ظلها مائة عام. مَآبٍ مرجع ومنقلب. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك، بيّن أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا لأنها دار امتحان، فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم، فلا تعلق للرزق بالكفر والإيمان، فربما وسع على الكافر دون المؤمن استدراجا له، وضيق على المؤمن دون الكافر زيادة في أجره وثوابه. ثم ذكر تعالى مقالة للمشركين، كثر في القرآن حكايتها وهي طلب آية

التفسير والبيان:

مادية حسية تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لإنكار هم أن القرآن آية دالة على النبوة، فرد الله عليهم أن اقتراح الآيات على الرسل جهل. ثم ذكر سبحانه حال المؤمنين المتقين وثوابهم عند الله تعالى. والتحدث عن المشركين والمؤمنين هنا مناسب لما ذكر سابقا من بيان عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك. التفسير والبيان: لما ذكر الله تعالى أن للمشركين سوء الدار، ناسب ذكر حكم الرزق في الدنيا، وأنه لا تعلق له بالإيمان والكفر، فقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ.. أي أن الله تعالى هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتر على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل، بصرف النظر عن كون الإنسان مؤمنا أو كافرا، فقد يضيق الله الرزق على المؤمن ابتلاء واختبارا، وزيادة في أجره، وقد يوسع الله الرزق على الكافر استدراجا له وحرمانا منه في الآخرة، عدالة، فليست سعة الرزق للكافر دليلا على الكرامة والرضا، وليس التقتير على المؤمن دليلا على الإهانة والسخط. كما قال تعالى في شأن رزق الكافر: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 56] وقال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 182] . ثم ذكر الله تعالى حال المشركين في حال الغنى فقال: وَفَرِحُوا.. أي وفرح مشركو مكة بالدنيا فرح بطر، ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله. لكن ما نعيم الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاع زائل، وشيء قليل ذاهب، يزول بسرعة. أخرج أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله

صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة. وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: «نام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها» . ولما أوضح تعالى أن المشركين اغتروا بمتاع الحياة الدنيا، وطمست المادة على مشاعرهم وقلوبهم، ذكر ما ترتب على الغرور والتأثر بالمادة، فطلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية واحدة مادية تدل على صدق نبوته، لعدم إيمانهم بكون القرآن معجزة مصدقة، وبرهانا قاطعا على ذلك لأنهم قوم ماديون، لا مجال لمخاطبة العقل لديهم، والقائل: عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، فقال تعالى حاكيا اقتراحهم: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... أي ويطلب أهل مكة المشركون قائلين: هلا أنزل على محمد آية أو معجزة قاهرة ظاهرة مادية مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، كقولهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء 21/ 5] . والله قادر على إجابة ما سألوا، لكن جاء في الحديث: «إن الله أوحى إلى رسوله، لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا، وأن يجري لهم ينبوعا، وأن يزيح الجبال من حول مكة، فيصير مكانها مروج وبساتين: إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك، فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال: بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة» . ورد الله عليهم بأن إنزال الآيات لا يؤثر في هداية ولا ضلال، بل الأمر كله بيد الله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. أي ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم، فلا فائدة لكم في نزول الآيات، إن لم يرد الله هدايتكم، فمن كان على

صفتكم من التصميم والعناد في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائكم، وإن أنزلت كل آية، فإن الضلال والهداية بيد الله، والله يضل من يشاء، أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات، وحرمكم الاستدلال بها، يضلكم عند نزول غيرها، ويهدي إليه من أناب، أي رجع عن العناد وأقبل على الحق أو الإسلام أو الله عز وجل، فهاء إِلَيْهِ عائد إلى واحد من المذكورات على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. وللآية نظائر كثيرة منها: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام 6/ 111] وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . ثم ذكر الله تعالى من يستحقون الهداية: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يهدي الله الذين صدقوا بالله ورسله، وسكنت قلوبهم إلى توحيد الله ووعده، أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه، ألا بتذكر الله، وتأمل آياته، ومعرفة كمال قدرته عن بصيرة، تطمئن قلوب المؤمنين، ويذهب القلق والاضطراب عنهم، بما وقر في تلك القلوب من نور الإيمان، كما قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] والمؤمن إذا تذكر عقاب الله، خاف، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال 8/ 2] وإذا تذكر المؤمن وعده تعالى بالثواب والرحمة، اطمأن قلبه وهدأت نفسه: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] . ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات العيش الطيب والنعمة والخير وحسن الثواب، وحسن المرجع.

فقه الحياة أو الأحكام:

والطوبى في رأي ابن عباس: الجنة، وروي عنه أنها شجرة في الجنة، ورجح القرطبي أنها شجرة في الجنة، فقال: والصحيح أنها شجرة «1» للحديث المرفوع عن عتبة بن عبد السّلمي وهو صحيح على ما ذكره السهيلي: «نعم شجرة تدعى طوبى» . وللحديث المرفوع أيضا عن أبي سعيد الخدري فيما رواه الإمام أحمد: «طوبى: شجرة في الجنة، مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها» ولا حرج على فضل الله ولا على قدرته، ففي الجنة كما ثبت في الحديث الذي أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الآتي: 1- الله تعالى مصدر الرزق، يوسع فيه على من يشاء، ويقتره على من يشاء، على وفق حكمته وعدله. 2- الكفار وكل أصحاب النزعات المادية يفرحون في الدنيا، ولا يعرفون غيرها، ويجهلون ما عند الله من أفضال ونعم وخيرات كثيرة. 3- ليست الدنيا في جانب الآخرة إلا متاع من الأمتعة، وشيء قليل سريع الزوال. 4- اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تغني عن كل آية، هي القرآن، تدل على الصدق، وصحة النبوة والوحي، وكونه كلام الله.

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 317، تفسير ابن كثير: 2/ 512

محمد صاحب الرسالة والرسول وبيان عظمة القرآن وقدرة الله الشاملة [سورة الرعد (13) الآيات 30 إلى 34] :

5- لا تعلق للرزق بالإيمان والكفر، فقد يرزق الله الكافر، ويحرم المؤمن، استدراجا للأول، وابتلاء واختبارا للثاني. 6- الإضلال والهداية من الله، وللإنسان دور فيهما، فالكافر هو الذي عاند وعارض ولم يؤمن، فلم يهده الله، والمؤمن هو الذي آمن وعمل الصالحات، فزاده الله هدى. 7- للمؤمنين الذين يعملون الصالحات الجنة والخير والنعمة والفرح وحسن المرجع، وفي هذا ترغيب في الطاعة، وتحذير من المعصية، ومن سوء العقاب والمصير. محمد صاحب الرسالة والرسول وبيان عظمة القرآن وقدرة الله الشاملة [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

الإعراب:

الإعراب: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً: جواب لَوْ محذوف، أي لكان هذا القرآن. وما بعده جمل فعلية في موضع نصب لأنها صفة قرآن. وجاء سُيِّرَتْ وقُطِّعَتْ بلفظ التأنيث لتأنيث الجبال والأرض، وجاء كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى على التذكير، لوجود الفصل الذي يتنزل منزلة إلحاق التأنيث. أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ تَحُلُّ: إما للتأنيث، أي قارعة تحل قريبا من دارهم، وهي جملة فعلية في موضع رفع صفة: قارعة، وتقديره: قارعة حالة، وإما للخطاب، أي أو تحل أنت قريبا من دارهم، وهو معطوف على خبر وَلا يَزالُ أي: ولا يزال الكافرون تصيبهم بصنيعهم قارعة، أو حالا أنت قريبا من دارهم. البلاغة: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ: تشبيه مرسل مجمل. المفردات اللغوية: كَذلِكَ أي مثل ذلك وهو إرسال الرسل، أي كما أرسلنا الأنبياء قبلك أرسلناك قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها مضت وتقدمتها أمم لِتَتْلُوَا تقرأ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي القرآن وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ حيث قالوا لما أمروا بالسجود له: وما الرحمن؟ أي وهم يجحدون ببليغ الرحمة، فلم يشكروا نعمه قُلْ لهم يا محمد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة سواه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ مرجعي ومرجعكم. سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي نقلت عن أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ شققت فجعلت عيونا وأنهارا، أو تصدعت من خشية الله عند قراءته أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يحيوا لما آمنوا بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ

سبب النزول نزول الآية (31) :

جَمِيعاً أي لله القدرة على كل شيء، لا لغيره، فلا يؤمن إلا من شاء إيمانه دون غيره، إن أوتوا ما اقترحوا، وهو إضراب عما تضمنته لَوْ من معنى النفي، أي بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأن قلوبهم لا تلين له. يَيْأَسِ المراد يعلم، وهو لغة هوازن، وهو رأي الأكثر، وقيل: هو يأس على الحقيقة، أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم، مع ما رأوا من أحوالهم، علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَنَّ: مخففة من الثقيلة، أي أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعا إلى الإيمان من غير آية، ومعناه: نفي هدى بعض الناس، لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة بِما صَنَعُوا بصنعهم أي كفرهم قارِعَةٌ داهية تقرعهم بصنوف البلاء من القتل والأسر والحرب والجدب، وتفزعهم وتقلقهم أَوْ تَحُلُّ أي القارعة، ويجوز أن يكون الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية، أو إنه حل مكة حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بالنصر عليهم، أو الموت أو القيامة أو فتح مكة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لامتناع الكذب في كلامه، وقد حل بالحديبية حتى أتى فتح مكة. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ.. أي كما استهزئ بك، وهذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَمْلَيْتُ أمهلت مدة طويلة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة، أي هو واقع موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك. وهذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب وحافظ عليها بِما كَسَبَتْ بما عملت من خير وشر، وهو الله، كمن ليس كذلك من الأصنام، لا قُلْ: سَمُّوهُمْ له من هم، أي صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بل تخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بشريك، والاستفهام إنكار، أي لا شريك له، إذ لو كان لعلمه أَمْ بل تسمونهم شركاء بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بظن باطل لا حقيقة له في الواقع مَكْرُهُمْ كفرهم عَنِ السَّبِيلِ طريق الهدى لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالقتل والأسر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أشد وأنكى منه وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ من عذابه مِنْ واقٍ مانع أو حافظ. سبب النزول: نزول الآية (31) : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً: أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس، قال: قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن كان كما تقول، فأرنا أشياخنا الأول، نكلمهم من الموتى، وافسح لنا هذه الجبال- جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ

المناسبة:

الآية. ورواية ابن جرير وأبي الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس أنهم قالوا: سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو سيرت لنا جبال مكة، حتى تتسع، فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض، كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى، كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيا كما تزعم، فباعد جبلي مكة أخشبيها (جبلين فيها) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة، حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى، حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجيء في ليلة، كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية. المناسبة: بعد أن قص الله علينا ما طلبه المشركون من آيات تثبت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أوضح أن محمدا كغيره من الرسل مع أقوامهم، طلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابهم الله إلى مطلبهم، ولكنهم لم يؤمنوا، فعذبوا بعذاب الاستئصال. ولو أرادوا آية، فقد أعطيناك هذا الكتاب، وأنت تتلوه، والله قادر على كل شيء من الإتيان بما اقترحوه، ولكنه لا يحقق المقصود. ثم هددهم الله بداهية تحل بهم، ثم أتبع ذلك بتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم على استهزائهم به. التفسير والبيان: مثلما أرسلنا رسلا في الأمم الماضية، أرسلناك يا محمد في هذه الأمة لتبلغهم

رسالة الله إليهم، وما أوحيناه إليك، وقد كذّب الرسل من قبلك، فلك بهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، قال تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل 16/ 63] وقال سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام 6/ 34] . والخلاصة: إننا أرسلناك بكتاب تبلّغه للناس وتقرؤه عليهم، كما أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، ولما كذّب الرسل، انظر كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة. وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي والحال أن هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يقرون به، ولا يشكرون نعمه وفضله، وقالوا: إن له شريكا. قُلْ: هُوَ رَبِّي، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي قل لهم: إن الرحمن الذي تكفرون به، أنا مؤمن به معترف، مقرّ له بالربوبية والألوهية، فهو متولي أمري وخالقي، وهو ربي لا إله إلا هو، لا رب غيره ولا معبود سواه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي توكلت عليه في جميع أموري، وفوضتها إليه، ووثقت به. وَإِلَيْهِ مَتابِ أي إليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه، أو إليه توبتي، بمعنى قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر 40/ 55] . ثم بيّن الله تعالى عظمة القرآن وشأنه وتفضيله على سائر الكتب المنزلة قبله، فقال: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً.. أي لو كان هناك في الكتب الماضية كتاب تسيّر بتلاوته الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتشقق وتجعل أنهارا

وعيونا، أو تكلم به الموتى في قبورها بإحيائهم بقراءته، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، بل هو الأولى لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ولأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا لاشتماله على الأدلة الكونية الدالة على وجود الصانع، والأحكام والأنظمة التي تصلح البشر وتسعدهم في الدارين. والآية مثل قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر 59/ 21] . بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً بل مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهد الله فما له من مضل، فهو سبحانه صاحب الإرادة والأمر في إنزال الآيات، وهو القادر على كل شيء، فلو كان تحقيق طلب ما اقترحوه مناسبا مشتملا على الحكمة والمصلحة، لأنجزه تعالى، ولكن كفى بالقرآن آية لأولي الألباب، والإرادة الإلهية لم تتعلق بغير ذلك لعلمه تعالى ألا فائدة في مجاراتهم، وأن قلوبهم لا تلين، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فكان الإضلال والهداية مرتبطا بنظام السببية، أي أن الله أنزل في القرآن آيات كافية للهداية، فمن أعرض عنها ضل، فكان ترك الآيات سببا في ضلاله. أَفَلَمْ يَيْأَسِ.. أي ألم يعلم المؤمنون أن الله قادر لو شاء على هداية الناس أجمعين إلى الإيمان بالقرآن. أو ألم ييأس الذين آمنوا من إيمان جميع الخلق، ويعلموا أو يتبينوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى دينه، فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ، ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن. ثبت في الصحيح الذي رواه البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله

البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . والمراد: أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار، قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي لا تزال القوارع والبلايا من القتل والأسر، والسلب تصيب الكافرين في الدنيا بسبب تكذيبهم لك وتماديهم في الكفر، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف 46/ 27] . حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ حتى ينجز الله وعده لك فيهم، بنصرك عليهم، وهو فتح مكة كما قال ابن عباس وآخرون، أو حتى ينتهي هذا العالم بالنسبة لكفار آخرين. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ إن الله ينجز وعده الذي وعدك به، من النصر عليهم، ولا ينقض وعده لرسله بالنصر لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ [إبراهيم 14/ 47] . ثم أنزل الله تسلية لنبيه عن استهزائهم بطلب هذه الآيات، وتخفيفا عما كان يشق عليه من ذلك، وعن تكذيب بعض قومه، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ.. أي إن كذّبك بعض قومك واستهزأ بك المشركون منهم، وطلبوا آيات منك عنادا ومكابرة، فاصبر على أذاهم، فلك في الرسل المتقدمين أسوة، ثم بين تعالى شأنه معهم فقال: فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي أنظرتهم وأجّلتهم مدة من الزمان، ثم أوقعت بهم العذاب، فانظر كيف عقابي لهم حين عاقبتهم، كما قال

تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها، وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج 22/ 48] وجاء في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . والمراد بالآية أني سأنتقم من هؤلاء الكفار، كما انتقمت من أولئك المتقدمين. ثم ذكر الله تعالى ما يكون توبيخا لهم على موقفهم وعقلهم، وما يدعو إلى التعجب منهم فقال: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ.. أي إن الله مطلع على كل نفس، عالم بما يكسبونه من أعمال الخير أو الشر، ولا يخفى عليه خافية، قادر على كل شيء كما قال: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس 10/ 61] وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام 6/ 59] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] . وبما أن الله قادر على كل شيء وعالم بكل شيء، فكيف يجعلون القادر العالم كمن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، وكيف يتخذونه ربا يطلبون منه النفع ودفع الضر؟! والمراد نفي المماثلة. ثم أكد تعالى ما سبق بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي واتخذوا شركاء لله، عبدوها معه، من أصنام وأوثان وأنداد. ثم وبخهم مرة أخرى بقوله: قُلْ: سَمُّوهُمْ أي صفوهم لنا، وأعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، وليسوا أهلا للعبادة لعدم نفعهم وضرهم. أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بل أتخبرونه بشركاء معبودين لا وجود لهم لأنه لو كان لها وجود في الأرض، لعلمها لأنه لا تخفى عليه

خافية. وهذا نفي لوجودها. والاستفهام: استفهام توبيخ. أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظن من القول أنهم ينفعون ويضرون، أم بباطل من القول، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر، وسميتموها آلهة كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم 53/ 23] . والخلاصة: إن آية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ.. حجاج للمشركين وتوبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، ويقصد منه نفي الدليل العقلي والدليل النقلي على استحقاق تلك الشركاء للعبادة بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي لا فائدة من هذا النقاش أو الحجاج معهم، فإنهم قوم زيّن لهم كفرهم وكيدهم: وهو ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ [فصلت 41/ 25] . وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي وصرفوا عن سبيل الحق وسبيل الله والدين القويم، بما زين لهم من صحة ما هم عليه. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ.. أي ومن يخذله الله لكفره وعصيانه، فما له من أحد يوفقه إلى الهداية وسلوك طريق النجاة والسعادة، مثل قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة 5/ 41] وقوله سبحانه: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [النحل 16/ 37] . ثم ذكر الله تعالى جزاءهم فقال: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لهم

فقه الحياة أو الأحكام:

عقاب شديد في الدنيا بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر والذلة والحرب، أو البلايا في أجسامهم ونحو ذلك من المصائب. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أي والعذاب المدخر في الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمتلاعنين فيما رواه مسلم عن ابن عمر: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» لأن عذاب الدنيا مؤقت، وذاك دائم أبدا في نار، هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا. وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي وما لهم ساتر يقيهم ويحفظهم من العذاب ويحميهم، ولا شفاعة لأحد عند الله إلا بإذنه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إرسال الرسل قبل إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم كان ظاهرة عامة، قد يؤمن بهم بعض أقوامهم، وقد يكذبهم الأكثرون، ويكفرون بالرحمن. 2- كما أرسل الله رسلا إلى أمم وأعطاهم كتبا تتلى عليهم، كذلك أعطى الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم هذا الكتاب (القرآن) وهو يتلوه عليهم، فلماذا اقترحوا غيره. 3- الله هو الإله بحق الذي لا إله غيره، ولا معبود سواه، وهو واحد بذاته، وإن اختلفت صفاته، عليه يتوكل العبد ويعتمد ويثق، وإليه مرجع العباد غدا، وعليه يتوكل المؤمن اليوم وفي كل وقت، رضى بقضائه، وتسليما لأمره. 4- لو كان هناك كتاب سماوي يقوم بنقل الجبال من أماكنها، وتفجير الأنهار والعيون وشق الأرض، وتكليم الموتى لإحيائها، لكان هذا القرآن، ولو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم.

5- ليعلم البشر أن الله لو يشاء لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات، ويروا المعجزات، وينظروا في دلائل الكون. ولكن ما شاء تعالى هداية جميع الناس. 6- لا يزال الكافرون في كل زمان تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة، أو أسر أو جدب أو زلزال أو بركان، أو غيرها من العذاب والبلاء كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء قريش. وقد تصيب من حولهم ممن هو قريب منهم، فيتأثرون بالعذاب. 7- دلت آية وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ على تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم والتبصير له على سفاهة قومه، فإن أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم، كما أن قومك يستهزئون بك. ودلت أيضا على تهديدهم، فإنه تعالى يمهلهم مدة ليؤمن من علم الله أنه يؤمن منهم، ثم لما حق القضاء أخذهم بالعقوبة، وكما صنع بمن قبلهم يصنع بمشركي مكة، وبكل الكفار في كل زمان. 8- لا مماثلة إطلاقا بين الله تعالى النافع والضارّ بسبب فعل العبد وبين الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، فالله تعالى هو القادر على كل شيء، وهو العالم بكل شيء، وتقدير الآية: أفمن هو قائم على كل نفس بالرقابة والحفظ بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع؟! 9- ليس للأصنام حقيقة تذكر، فلا وجود للشركاء مع الله، وما يعتمد عليه المشركون إن هو إلا مجرد ظن لا يغني من الحق شيئا، وباطل من القول لا يفيد شيئا، وكل ما في الأمر أن الشيطان زين لهم سوء اعتقادهم وصدهم عن سبيل الله ودينه الحق، أو زين لهم ضلالهم وكفرهم. 10- من يخذله الله ويعلم أنه لا يهتدي، فماله من هاد يقدر على هدايته وتوفيقه والأخذ بيده إلى طريق النجاة والسعادة.

صفة الجنة وموقف أهل الكتاب من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وشبهات المشركين حولها [سورة الرعد (13) الآيات 35 إلى 39] :

11- للمشركين الصادّين عن الحق ودين التوحيد العذاب في الدنيا بالقتل والسبي والأسر والذم والإهانة، وغير ذلك من الأسقام والأمراض والمصائب، والعذاب الأشد في الآخرة، وليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله، ولا دافع يدفعه عنهم. ففي الآية إخبار بأنه تعالى جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه، لا في الدنيا ولا في الآخرة. صفة الجنّة وموقف أهل الكتاب من نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وشبهات المشركين حولها [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) الإعراب: مَثَلُ الْجَنَّةِ مبتدأ مرفوع، وخبره إما محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الجنّة، وهو قول سيبويه، وإما قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهو قول الفرّاء.

البلاغة:

حُكْماً عَرَبِيًّا منصوب على الحال. البلاغة: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ تشبيه مرسل مجمل. أُكُلُها دائِمٌ، وَظِلُّها فيه إيجاز بالحذف، أي وظلّها دائم، حذف منه الخبر بدليل السابق. تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ فيه من المحسنات البديعية ما يسمّى المقابلة. أَرْسَلْنا رُسُلًا فيهما جناس اشتقاق. يَمْحُوا.. وَيُثْبِتُ بينهما طباق. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ فيه قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة، أي ليس لك إلا الأمر بعبادة الله. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التّهييج والإلهاب والبعث للسّامعين على الثّبات في الدّين والتّصلّب فيه، وعدم التأثّر بالشّبهة بعد التّمسّك بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شدّة الشّكيمة بمكان. المفردات اللغوية: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفتها التي هي مثل في الغرابة. أُكُلُها ما يؤكل فيها. دائِمٌ لا ينقطع ثمرها ولا يفنى. وَظِلُّها واحد الظّلال، فيه خبر محذوف، أي دائم لا تنسخه شمس لعدمها فيها. تِلْكَ عُقْبَى أي الجنة عاقبة الَّذِينَ اتَّقَوْا الشّرك ومآلهم ومنتهى أمرهم. وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير، وفي ترتيب النّظمين إطماع للمتّقين وإقناط للكافرين. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني المسلمين من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني اليهود، ومن آمن من النّصارى، وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة، أو عامّتهم، فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم. الْأَحْزابِ جمع حزب: وهو الطّائفة المتحزّبة، أي المجتمعة لشأن من الشؤون كحرب أو مكيدة ونحوهما، وهم الذين تحزّبوا عليك من المشركين واليهود، مثل كعب بن الأشرف اليهودي وأصحابه. مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرّفوه منها، وكذكر الرّحمن وما عدا القصص. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ جواب للمنكرين، أي قل لهم: إنّي أمرت فيما

سبب النزول نزول الآية (38) :

أنزل إليّ بأن أعبد الله وأوحّده، ولا سبيل إلى إنكاره وأما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم فليس ببدع اختلاف الشّرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام. إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره. وَإِلَيْهِ مَآبِ وإليه مرجعي للجزاء، لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتّفق عليه بين الأنبياء، وأما ما عدا ذلك من التّفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم، فلا معنى لإنكارهم الاختلاف فيه. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي مثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها. أَنْزَلْناهُ حُكْماً أي أنزلنا القرآن يحكم بين الناس في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة. عَرَبِيًّا بلغة العرب، ليسهل لهم حفظه وفهمه. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الكفار فيما يدعونك إليه من ملّتهم على سبيل الافتراض، كالصّلاة إلى قبلتهم بعد ما حوّلت عنها. بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ينسخ ذلك. وَلِيٍّ ناصر. واقٍ حافظ أو مانع من عذابه، أي مالك من أحد ينصرك، ويمنع العقاب عنك، وهو حسم لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثّبات على دينهم. أَزْواجاً نساء. وَذُرِّيَّةً أولادا، كما هي لك. وَما كانَ لِرَسُولٍ وما صحّ له ولم يكن في وسعه. أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تقترح عليه، وحكم يلتمس منه. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته وإرادته، فإنهم عبيد مربوبون لله تعالى. أَجَلٍ مدة أو وقت. كِتابٌ مكتوب فيه تحديده، أي لكل وقت وأمد تحديد أو حكم معين يكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه. وَيُثْبِتُ يبقي ما يشاء من الأحكام حسبما تقتضي حكمته، وقيل: يمحو سيئات التائب، ويثبت الحسنات مكانها. وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتب، وهو اللوح المحفوظ، وهو الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل، فما من كائن إلا وهو مكتوب فيه، أو العلم الإلهي. سبب النّزول: نزول الآية (38) : قال الكلبي: عيّرت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت: ما نرى لهذا الرّجل مهمّة إلا النّساء والنّكاح، ولو كان نبيّا كما زعم، لشغله أمر النّبوة عن النّساء، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «1» .

_ (1) أسباب النّزول للواحدي 158

المناسبة:

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: ما نراك يا محمد تملك من شيء، لقد فرغ من الأمر، فأنزل الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ «1» . المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى عذاب الكفار في الدّنيا والآخرة، أتبعه بذكر ثواب المتّقين وما أعدّه للمؤمنين من جنّات النّعيم، وذلك هو شأن القرآن الكريم، إذا وصف النّار وعذابها، ذكر الجنّة ونعيمها، مثل المذكور في سورة الفرقان: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً. قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا [11- 16] . ثم ذكر تعالى فرح مؤمني أهل الكتاب بتوافق القرآن مع المنزل إليهم من ربّهم، وإنكار فئة آخرين لذلك. ثم أورد الله تعالى شبهات المشركين لإبطال نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كالطّعن بتعدّد الزّوجات، وعجزه عن الإتيان بالمعجزات، فردّ الله عليهم بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كسائر الأنبياء له أزواج وأولاد، وأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله تعالى، لا إلى أحد سواه، وأن إنزال العذاب محدد بأجل معيّن، ولكلّ أجل كتاب، أي لكل حادث وقت معيّن.

_ (1) لباب النّقول في أسباب النّزول بهامش تفسير الجلالين للسيوطي 334

التفسير والبيان:

التّفسير والبيان: فيما نقصّه عليك، أو فيما يتلى عليك صفة الجنّة ونعتها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنّة التي وعدها الله للمتّقين، ذات أنهار تجري في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمّد 47/ 15] . أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها أي ما يؤكل فيها من الفواكه والمطاعم والمشارب لا ينقطع، ولا يفنى، وكذلك ظلّها دائم لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الدّهر 76/ 13] . وفي الصّحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه: قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: «إنّي رأيت الجنّة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا» . وبعد وصف الجنّة بهذه الصّفات الثلاث، قال تعالى: تِلْكَ عُقْبَى.. أي تلك الجنّة هي عاقبة ومصير أهل التّقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنوبهم، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] . والمراد أن ثواب المتّقين منافع خالصة عن الشّوائب موصوفة بصفة الدّوام. والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين. ثم ذكر الله تعالى انقسام أهل الكتاب فئتين من القرآن، فقال: وَالَّذِينَ

آتَيْناهُمُ أي والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنّصارى قسمان: فالقائمون بمقتضاه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن الكريم لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، والبشارة به، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة 2/ 121] ، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وجماعة من النّصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران. ومن الأحزاب، أي ومن جماعة أهل الكتاب الذين تحزّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي، والسيد والعاقب أسقفيّ نجران وأتباعهم، من ينكر بعض ما جاءك من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها. وأمام هذا الانقسام في الرأي بين اليهود والنّصارى بالنّسبة للقرآن الكريم ذكر تعالى طريق النّجاة والسّعادة، فقال: قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ.. أي قل يا محمد: إنّما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، فإلى سبيله وطاعته وعبادته أدعو الناس، وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء والحساب. وذلك كقوله تعالى: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران 3/ 64] . والآية تشير إلى مبدأ التّوحيد ورفض الشّرك، كما تشير إلى مبدأ البعث والحساب والجزاء يوم القيامة. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك أنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا

بلسان قومك، ليسهل عليهم فهمه وحفظه. وهذا دليل على أن كلّ رسول أرسل بلغة قومه، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 14/ 4] . وأراد بالحكم: أنه يفصل بين الحقّ والباطل، ويحكم في الأمور، مبيّنا الحلال والحرام، والشّرائع والأنظمة المؤدية إلى سعادتي الدّنيا والآخرة. ثم قال تعالى على سبيل الافتراض: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.. أي ولئن اتّبعت آراءهم وجاملتهم، كالتّوجّه إلى قبلتهم في بيت المقدس بعد تحويلها إلى البيت الحرام، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا تعريض بهم على طريقة: (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهو وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدّين الحقّ، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع الكفار، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. والخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد: الأمة. ثمّ ردّ الله تعالى على طعن المشركين على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بتعدّد الزّوجات، فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا.. أي وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا، يأكلون الطّعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزّوجات، ولهم ذريّة وأولاد، قال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف 18/ 110] ، وفي الصّحيحين عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ، وروى الإمام أحمد والتّرمذي عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من سنن المرسلين: التّعطّر، والنّكاح، والسّواك، والحناء» . أما تعدّد زوجات النبي بعد سنّ الأربع والخمسين- وهي سنّ تضعف فيه عادة

الرغبة إلى النّساء- فكان من أجل نشر الدّعوة الإسلامية، وما تقتضيه المصلحة في التّأليف بين القبائل العربية، وضرب المثل في الأخلاق والعدل بين الزّوجات والرّأفة ببعض النّساء تعويضا عن زوجها الذي فقدته في الجهاد أو غيره. ثمّ ردّ الله على طعنهم بعجزه عن تلبية ما اقترحوه من آيات فقال: وَما كانَ لِرَسُولٍ ... أي وما صحّ لرسول ولم يكن في وسعه أن يأتي قومه بمعجزة أو خارق للعادة، إلا إذا أذن له فيه، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عزّ وجلّ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وقد جاءكم القرآن الكريم معجزة خالدة على ممر الزّمان، فيه تحدّ وإفحام يثبت كونه من عند الله تعالى. لِكُلِّ أَجَلٍ.. لكلّ حادث وقت معيّن وزمن محدد، فالآيات تأتي في وقتها لحكمة وفي زمن يعلمه الله، وكلّ شيء عنده بمقدار: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] ، فقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكلّ مدّة كتاب مكتوب، مثل قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام 6/ 67] . وقال الزّمخشري: لكل وقت حكم يكتب على العباد، أي يفرض عليهم ما يقتضيه صلاحهم، والشّرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات. فشرائع الأنبياء السّابقين كموسى وعيسى عليهما السّلام، ثمّ شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم جاءت فيما يناسب عصورها، وأعمار النّاس وآجالهم وأرزاقهم وحدوث أعمالهم لها أوقات محددة لا تتقدّم ولا تتأخّر كما قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف 7/ 34] . يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.. أي ينسخ الله ما شاء وما يستصوب نسخه من الشّرائع، ويثبت بدله ما أراد إثباته وما رأى المصلحة في إثباته، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أو يتركه غير منسوخ. أو يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل كلّ كتاب، وهو اللوح المحفوظ لأن كلّ كائن مكتوب فيه، أو عنده الذي لا يتغيّر منه شيء، أو علم الله وجميع ما يقع في صحف الملائكة لا يكون إلا موافقا لما يثبت فيه، فهو الأمّ لذلك. قال ابن عمر: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السّعادة والشّقاوة والموت» . وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء: الخلق والخلق والأجل والرّزق والسّعادة والشّقاوة. قال ابن كثير: ومعنى الآية أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء «1» ، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرّجل ليحرم الرّزق بالذّنب يصيبه، ولا يردّ القضاء إلا الدّعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ» وفي رواية الحاكم «الدعاء يرد القضاء، وإن البر يزيد في الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» . وثبت في الصّحيح أن صلة الرّحم تزيد في العمر، وفي حديث آخر: «إنّ الدّعاء والقضاء ليعتلجان بين السّماء والأرض» . والخلاصة: إن الآية عامة في جميع الأشياء، والمحو والإثبات وارد فيها، وأصل الكتاب لا يتغيّر، واستثناء السّعادة والشّقاء والخلق والخلق والرّزق لأنها أمور لا تتغيّر، وهي مما لا يدرك بالرّأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن صحّ فالقول به يجب «2» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي:

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 519 (2) تفسير القرطبي: 9/ 329

1- الجنّة مخلوقة أعدّها الله للمتّقين، وقال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 133] . 2- ثمر الجنّة لا ينقطع، وظلّها لا يزول، وهذا ردّ على الجهميّة في زعمهم أن نعيم الجنّة يزول ويفنى. 3- النّار أيضا مخلوقة أعدّها الله للكافرين المكذّبين، قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة 2/ 24] . 4- بعض اليهود والنّصارى كابن سلام وسلمان الفارسي، والذين جاؤوا من الحبشة يفرح بالقرآن الكريم، لتصديقه كتبهم. ويفرح بذكر الرّحمن لكثرة ذكره في التّوراة. قال أكثر العلماء: كان ذكر الرّحمن في القرآن قليلا في أول ما نزل، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه، ساءهم قلّة ذكر الرّحمن في القرآن، مع كثرة ذكره في التّوراة فسألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فأنزل الله تعالى: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد، فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرّحمن! والله ما نعرف الرّحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذّاب فنزلت: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرّحمن، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. 5- ومن الأحزاب يعني مشركي مكّة، ومن لم يؤمن من اليهود والنّصارى والمجوس، أو هم العرب المتحزّبون على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، من ينكر بعض ما في القرآن الكريم لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السّموات والأرض. 6- دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم الناس مقصورة على الدّعوة إلى عبادة الله وحده

لا شريك له، وإلى الإيمان بالبعث والحساب والجزاء لقوله تعالى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ أي إلى عبادته أدعو النّاس، وأرجع في أموري كلّها. 7- كما أنزل الله تعالى الكتب على الرّسل بلغاتهم، كذلك أنزل القرآن الكريم إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عربيّا، أي بلسان العرب. والمراد بالحكم: ما فيه من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي: القرآن كلّه لأنه يفصل بين الحقّ والباطل ويحكم. 8- من اتّبع أهواء المشركين في عبادة ما دون الله تعالى، وفي الاتّجاه إلى غير الكعبة، بعد أن قام الدّليل العلمي القاطع على صدق رسالة القرآن الكريم والنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ليس له ناصر ينصره، ولا واق يمنع من عذابه. 9- الأنبياء قاطبة بشر، يقضون ما أحلّ الله من شهوات الدّنيا، ولهم زوجات وأولاد، وإنما التّخصيص بالوحي. 10- آية وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً تدلّ على التّرغيب في النّكاح والحضّ عليه، وتنهى عن التّبتّل، وهو ترك النّكاح، وهذه سنّة المرسلين، كما نصّت عليه هذه الآية، والسّنّة واردة بمعناها، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي وهو ضعيف: «تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم» وقال فيما رواه الطبراني عن أنس، وهو ضعيف: «من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان، فليتّق الله في النّصف الباقي» ، ومعنى ذلك أنّ النّكاح يعفّ عن الزّنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهما الجنّة، فقال فيما رواه الموطأ وغيره: «من وقاه الله شرّ اثنتين، ولج الجنّة: ما بين لحييه، وما بين رجليه» ، وتقدم حديث وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . 11- ليس للرّسول بإرادته أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة، وإنّما ذلك بإذن الله ومشيئته. 12- لكلّ أجل كتاب، أي لكلّ أمر قضاه الله كتاب عند الله تعالى. يمحو

الله من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به، ويثبت ما يشاء، أي يؤخّره إلى وقته. وعنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر منه شيء، فنزول العذاب على الكفار، ونصر المؤمنين لهما وقت معيّن مخصوص. والمحو يشمل الأقدار، والدّعاء يفيد في ردّ القدر، وقد يحرم الإنسان الرّزق بسبب ذنب يرتكبه، وقد يزداد عمره بصلة الرّحم وبرّ الأقارب. وقد تقدّم في الصّحيحين عن أبي هريرة حديث: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» . وأصول الأشياء لا تتغيّر: وهي الخلق والخلق، والأجل والرّزق، والسّعادة والشّقاوة. والذي في علم الله ثابت لا يتبدّل، مثل قيام السّاعة، وأجل بقاء النّاس في القبور وكلّ ما كتب من الآجال وغيرها. سئل ابن عباس عن أمّ الكتاب، فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله تعالى. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء بالتّوبة جميع الذّنوب، ويثبت الذّنوب حسنات، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 70] . والخلاصة: عقيدتنا هي أنه لا تبديل لقضاء الله تعالى، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء. والقضاء منه ما يكون واقعا محتوما، وهو الثّابت، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو. ويكون المحوّ إما بالدّعاء أو بصلة الرّحم وبرّ الأقارب، أو بالذّنب المقترف. ويشمل المحو نسخ الشّرائع، فقد تنسخ شريعة بأخرى، كالنّسخ بالقرآن لما عداه، لمصلحة وحكمة تقتضيها، ونسخ التّوجّه إلى بيت المقدس وتحويل القبلة إلى الكعبة، ونحو ذلك. والكلّ بقضاء الله وقدره، والأمور مرهونة بأوقاتها.

مهمة الرسول تبليغ الشريعة والله شاهد له ومحاسب وحاكم بين العباد ومحبط مكر الكفار [سورة الرعد (13) الآيات 40 إلى 43] :

مهمة الرّسول تبليغ الشّريعة والله شاهد له ومحاسب وحاكم بين العباد ومحبط مكر الكفار [سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) الإعراب: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مَنْ: إما اسم موصول، وعِنْدَهُ: صلته، وإما نكرة موصوفة، وعِنْدَهُ الصفة. ومحله: إما الجرّ عطفا على لفظ المجرور في قوله تعالى: كَفى بِاللَّهِ، وإما الرّفع عطفا على موضعه لأن موضعه الرّفع لأن تقديره: كفى الله. وذلك مثل: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر 35/ 3] إما بالجرّ حملا على اللفظ، أو بالرّفع حملا على الموضع. وعِلْمُ الْكِتابِ مرفوع بالظّرف عِنْدَهُ لأن الظّرف إذا وقع صلة أو صفة فإنه يرفع كما يرفع الفعل. لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ محل ذلك النّصب على الحال، أي يحكم نافذا حكمه. البلاغة: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة، أي ليس لك إلا صفة التّبليغ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِنْ ما فيه إدغام نون. «إن» الشّرطية في «ما» المزيدة. نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك، وهو فعل الشّرط، وجوابه محذوف، أي فذاك. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم. فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما عليك إلا البلاغ. وَعَلَيْنَا الْحِسابُ إذا صاروا إلينا، فنجازيهم. أَوَلَمْ يَرَوْا أي أهل مكة. أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الحياة التي يعيشون فيها. أَطْرافِها جوانبها، والنقص منها بما نفتحه على المسلمين منها. وَاللَّهُ يَحْكُمُ في خلقه بما يشاء. لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا رادّ ولا مبطل له، والمعقّب: الذي يتعقّب الشيء فيبطله بالنّقد، ويقال لصاحب الحقّ: معقّب لأنه يتابع غريمه المدين بالطّلب، والمعنى: أنه حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم عما قريب في الآخرة بعد ما عذّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم بأنبيائهم، كما مكروا بك. والمكر: إرادة الشيء في خفية. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي لا يؤبه بتدبير دون تدبيره، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فيعدّ جزاءها، وهذا هو المكر «التّدبير» كلّه لأنه يأتيهم به من حيث لا يشعرون. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ المراد به كلّ كافر. لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدّار الآخرة، ألهم، أم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي. وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي المطّلع على حقيقة الكتاب الإلهي من مؤمني اليهود والنّصارى. ومن هاهنا: لابتداء الغاية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى اقتراح المشركين إنزال آيات واستعجال العذاب، ذكر هنا احتمال وقوع ما توعّدوا به، وبيان أن وظيفة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم التّبليغ، وأن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت، بفتح المسلمين جوانب الأرض، وأن الله يحكم في خلقه ما يريد. ثم أبان أنّ مكر هؤلاء المشركين ومن تقدّمهم لا يضرّ المسلمين شيئا، فالنّصر سيكون لهم، والهزيمة والعذاب لغيرهم.

التفسير والبيان:

ثمّ ردّ الله على اليهود الذين أنكروا رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه شاهد له بالصّدق، وحسبه شهادة الله ومن آمن من أهل الكتاب. التفسير والبيان: إن أريناك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد أعداءك المشركين وغيرهم من الخزي والنّكال في الدّنيا، أو نتوفينّك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك، وإنما أرسلناك لتبلّغهم رسالة الله، وقد فعلت ما أمرت به، وليس عليك التّوصل إلى صلاحهم، فإنما علينا حسابهم وجزاؤهم على الخير والشّرّ، كقوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية 88/ 21- 26] . أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ.. أي أنسي هؤلاء المشركون في مكة أو شكّوا أنّا نأتي الأرض، فنفتحها لك أرضا بعد أرض، وتنتصر عليهم، وتمتد رقعة الإسلام، وتتقلّص رقعة الكفر، ويدخل النّاس في دين الله أفواجا، كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء 21/ 44] . وتدلّ الآية في نطاق العلم الحديث على كون الأرض مفلطحة بيضاوية، ليست كرة تامّة التّدوير، بل هي ناقصة الأطراف. وأما في الماضي فيراد بالآية كما أوضحت ظهور الإسلام على الشّرك قرية بعد قرية، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الأحقاف 46/ 27] . وقال ابن عباس: المراد موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصّلحاء والأخيار. ولكن اللائق الرّأي الأول، كما قال الواحدي. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أي والله يقضي القضاء المبرم، ولا يرد حكمه

النّافذ، فلا رادّ لقضائه، ولا يستطيع أحد أن يطعن فيه أو يبطله أو ينقضه، ومن حكم الله تعالى أن الأرض يرثها عباده الصّالحون بالعدل والإصلاح والعمران. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي والله محاسب عباده قريبا في الآخرة، وعقابه آت لا محالة، فلا تستعجل عقابهم، فإن الله معذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدّنيا بالقتل والأسر والخزي والذّل والنّكال. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على مكائد قومه، وتصبير له على أذاهم، فإن النّصر له في النّهاية حتما، أي لقد مكر الكفار السابقون برسلهم، وأرادوا إخراجهم من بلادهم، وعذّبوهم، كما فعل النّمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط، فمكر الله بهم، وجعل العاقبة للمتّقين، أي دبّر لهم ما أوقعهم في الهلاك بسبب ظلمهم وفسادهم. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي لا يؤبه بتدبير دون تدبيره، ولا يضرّ مكر الماكرين إلا بإذنه تعالى، ولا يؤثر إلا بمشيئته وتقديره، فلا خوف إلا منه. وهذا كقوله تعالى في مكر المشركين بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال 8/ 30] ، وقوله سبحانه: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النّمل 27/ 50- 52] . يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ أي أنه تعالى عالم بجميع السّرائر والضّمائر، وسيجزي كلّ عامل بعمله، فينصر أولياءه، ويعاقب الماكرين.

وهذا وعيد شديد وتهديد لكلّ كافر ماكر، وتسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمان له من مكرهم. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ.. أي وسيتحقق الكفار يوم القيامة لمن العاقبة المحمودة من الفريقين: المؤمنين والكافرين، حيث تكون العاقبة لأتباع الرّسل في الدّنيا والآخرة، ففي الدّنيا النّصر، وفي الآخرة الجنّة. ثمّ ردّ الله على منكري نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي يقول الكافرون الجاحدون نبوّتك: لست رسولا مرسلا من عند الله، تدعو النّاس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتنقذهم من الظّلمات إلى النّور، ومن عبادة الأصنام والأوثان، إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومن الظّلم والفساد إلى العدل والصّلاح. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسقف من اليمن، فقال له عليه الصّلاة والسّلام: «هل تجدون في الإنجيل رسولا؟» ، قال: لا، فأنزل الله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا الآية. قُلْ: كَفى بِاللَّهِ.. قل يا محمد لهم: حسبي وكفايتي أن الله شاهد لي بصدق رسالتي، ومؤيّد دعوتي، بما أنزله عليّ من القرآن المعجز، ومن الآيات البيّنات الدّالّة على صدقي، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح 48/ 28] . وكفاني أيضا بعد شهادة الله شهادة علماء أهل الكتاب الذين آمنوا من اليهود والنّصارى، بما وجدوه لديهم في التّوراة والإنجيل من بشارة برسالتي، وعلامات لا تنطبق على من سواي، وهم عبد الله بن سلام- اليهودي الأصل- وأصحابه. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: كان من أهل الكتاب قوم

فقه الحياة أو الأحكام:

يشهدون بالحقّ ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام، والجارود، وتميم الدّاري، وسلمان الفارسي رضي الله عنهم. وذلك كما دلّت آية أخرى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إنّ مهمّة الرّسول مقصورة على إبلاغ الرّسالة للأمّة، وليس عليه هداهم وصلاحهم. 2- الله تعالى هو الذي يحقّق الأحداث والوقائع، فينجز الوعد والوعيد، وينزل العقاب الشّديد متى شاء، وقد يكون ذلك في حال حياة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أو بعد وفاته. 3- الله تعالى هو المتكفّل القائم بحساب العباد على ما قدّموا من خير أو شرّ. 4- إن امتداد رقعة الإسلام واتّساع الفتوحات الإسلامية، وانحسار الكفر وتضييق رقعة بلاد الكافرين بيد الله تعالى وحده. 5- إن الأرض ليست تامّة الكروية، وإنما هي مفلطحة بيضاوية ناقصة الأطراف والتّكوير. 6- لا رادّ لقضاء الله تعالى ولا معقّب لحكمه، ولا يستطيع أحد تعقيب حكمه بنقص أو نقض أو إبطال أو تغيير. 7- الله تعالى سريع الحساب من العباد، أي الانتقام من الكافرين، سريع الثّواب للمؤمن. 8- تخيب أو تفشل كلّ مخططات الأعداء الكافرين ومكائدهم أمام تدبير الله

تعالى، ولا يضرّ مكرهم إلا بإذنه تعالى، وفي هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وشدّ من عزيمته، وبيان أن النّصر في النّهاية له، وأنّ الدّائرة ستدور على الكفار. 9- يعلم الله ما تعمل به كلّ نفس من خير وشرّ، فيجازي عليه. 10- سيتحقق الكفار لمن العاقبة المحمودة، أي عاقبة دار الدّنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثّواب والعقاب في الدّار الآخرة، وهذا تهديد ووعيد. 11- إن إنكار مشركي العرب واليهود رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وقولهم له: لست بنبيّ ولا رسول، وإنما أنت متقوّل، لما لم يأتهم بما اقترحوا من الآيات، إن إنكارهم لا يغض من الحقيقة شيئا، ولا يغيّر من الواقع، وكفى بالله شهيدا على صدقه، وحسبه شهادة مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الدّاري، والنّجاشي وأصحابه. لكن قال ابن جبير: السّورة مكيّة، وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السّورة، فلا يجوز أن تحمل الآية على ابن سلام، فمن عنده علم الكتاب جبريل، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضّحّاك: هو الله تعالى. وأما من قال: إنهم جميع المؤمنين فصدق لأن كلّ مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقه. والكتاب على هذا هو القرآن الكريم «1» . ويجوز أن يكون المراد به: الذي حصل عنده علم التّوراة والإنجيل، يعني: أن كلّ من كان عالما بهذين الكتابين، علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب، كان شاهدا على أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول حقّ من عند الله تعالى «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 9/ 336- 337 (2) تفسير الرّازي: 19/ 70

سورة إبراهيم عليه السلام:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة إبراهيم عليه السلام مكية وهي اثنتان وخمسون آية. تسميتها: سمّيت سورة إبراهيم لاشتمالها على جزء من قصّة إبراهيم أبي الأنبياء عليه السّلام، يتعلّق بحياته في مكّة، وصلته بالعرب وإسماعيل، وأنّ إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت الحرام، وأنهما كانا يدعو ان الله تعالى بالهداية، وأن إبراهيم دعا أن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأن يرزق زوجته وابنه إسماعيل اللذين أسكنهما في مكّة من الثّمرات، وأن يجعله هو وذريّته مقيمي الصّلاة، وذلك في الآيات [35- 41] . مناسبتها لما قبلها: هذه السّورة امتداد لما ذكر في سورة الرّعد، وتوضيح لما أجمل فيها، فكلّ منهما تحدّث عن القرآن، ففي سورة الرّعد ذكر تعالى أنه أنزل القرآن حكما عربيا [الآية 37] ، وهنا ذكر حكمة ذلك والغاية من تنزيل القرآن، وهي إخراج الناس من الظّلمات إلى النّور بإذن الله [الآية: 1] . وكلّ منهما ذكر فيه تفويض إنزال الآيات الكونية إلى الله وبإذنه، فقال تعالى في سورة الرّعد: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [38] ، وهنا ذكر ذلك على لسان الرسل: ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [11] .

ما اشتملت عليه هذه السورة:

وفي كليهما ذكرت الآيات الكونية من رفع السّماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشّمس والقمر، وجعل الرّواسي في الأرض، وخلق الثّمرات المختلفة الطّعوم والألوان. وتعرّضت السّورتان لإثبات البعث، وضرب الأمثال للحقّ والباطل، والكلام على مكر الكفار وكيدهم وعاقبته، والأمر بالتّوكّل على الله تعالى. ما اشتملت عليه هذه السّورة: اشتملت سورة إبراهيم على ما يأتي: 1- إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله وبالرّسل وبالبعث والجزاء، وإقرار التّوحيد، والتّعريف بالإله الحقّ خالق السّموات والأرض، وبيان الهدف من إنزال القرآن الكريم، وهو إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور، واتّحاد مهمّة الرّسل ودعوتهم في أصول الاعتقاد والفضائل وعبادة الله والإنقاذ من الضّلال. 2- الوعد والوعيد: ذمّ الكافرين ووعيدهم على كفرهم وتهديدهم بالعذاب الشّديد، ووعد المؤمنين على أعمالهم الطّيّبة بالجنان [الآية 2، والآية 23، والآيات 28- 31] . 3- الحديث عن إرسال الرّسل بلغات أقوامهم، لتسهيل البيان والتّفاهم [الآية 4] . 4- تسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ببيان ما حدث للرّسل السّابقين مع أقوامهم: قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، والتّذكير بعقابهم، كما في الآيات [9- 12] ، والآيات [13- 18] .

الغاية من إنزال القرآن وذم الكافرين وكون الرسول بلسان قومه [سورة إبراهيم (14) الآيات 1 إلى 4] :

5- ابتدأ من بين قصص بعض الأنبياء المتقدّمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيّاهم لعبادة الله تعالى [الآيات 5- 8] . 6- دعوات إبراهيم عليه السّلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلّق القلوب بالبيت الحرام، وتجنيبه وذريّته عبادة الأصنام، وشكره ربّه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصّلاة، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين [الآيات 35- 41] . 7- بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النّار في عالم الآخرة [الآيات 19- 23] . 8- ضرب الأمثال لكلمة الحقّ والإيمان وكلمة الباطل والضّلال بالشّجرة الطّيّبة والشّجرة الخبيثة [الآيات 24- 27] . 9- التّذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم [الآيات: 42- 52] . 10- بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة، وهو ما ختمت به السّورة [الآيتان: 51- 52] . الغاية من إنزال القرآن وذم الكافرين وكون الرسول بلسان قومه [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

الإعراب:

الإعراب: الر إما خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وإما في موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر، وتكون جملة: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مفسّرة. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ كِتابٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا كتاب. وأَنْزَلْناهُ: جملة فعلية في موضع رفع صفة كِتابٌ. إِلى صِراطِ بدل من قوله إِلَى النُّورِ. اللَّهِ الَّذِي بالجر بدل من قوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ويقرأ بالرفع، فيكون مبتدأ، وما بعده خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو الله الذي له ما في السموات. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ نعت للكافرين. عِوَجاً منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل: إنه مفعول «يبغون» واللام محذوفة من المفعول الأول، تقديره: ويبغون لها عوجا. فَيُضِلُّ اللَّهُ مرفوع على الاستئناف والاقتطاع من الأول. البلاغة: مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان. أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق. فَيُضِلُّ.. وَيَهْدِي بينهما طباق. الحميد.. شديد.. بعيد فيها سجع. المفردات اللغوية: الر الابتداء بالحروف الهجائية في بعض السور لبيان طبيعة تكوين القرآن وأنه من جنس الحروف التي ينطق بها العرب، فهي للتحدي وبيان إعجاز القرآن، وأنه من كلام الله، بدليل العجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، بالرغم من تكوينه من حروف اللغة العربية.

التفسير والبيان:

كِتابٌ أي هو كتاب. لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى ما تضمنه. مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الضلال والكفر. إِلَى النُّورِ إلى الهدى والإيمان. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره وتيسيره وتسهيله وتوفيقه. إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى طريق الغالب، المحمود المثنى عليه من نفسه ومن عباده. وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له. والتخصيص بالوصفين المذكورين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سابله. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. وَيْلٌ هلاك وعذاب. يَسْتَحِبُّونَ يختارون. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويق الناس عن الإيمان، واعتناق دين الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون السبيل معوجة، أو يطلبون لها زيغا واعوجاجا وانحرافا عن الحق ليقدحوا فيه. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي الكافرون ضلوا عن الحق وانحرفوا عنه. بِلِسانِ بلغة. لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ليفهمهم ما أتى به، ويوضح لهم ما آمروا به، فيفقهوه عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوه لغيرهم، فإنهم أولى الناس بالدعوة، وأحق بالإنذار. فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فيخذله عن الإيمان. وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق له. وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه، فلا يغلب على مشيئته. الْحَكِيمُ في صنعه، فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة. التفسير والبيان: هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن العظيم، لتخرج الناس به مما هم فيه من ظلمات الكفر والضلال والغي والجهل، إلى نور الإيمان والهدى والرشد، بما اشتمل عليه من أصول الحكم السديد، والدعوة إلى الحياة الكريمة والمدنية والحضارة السامقة، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة 2/ 257] وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الحديد 57/ 9] . وقد دلت الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلا من عند الله تعالى. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتوفيقه وتيسيره، فهو الهادي بإرسال نور الهداية إلى قلوبهم. لكن أسند الفعل لِتُخْرِجَ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الداعي والمبلّغ.

إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى الطريق المستقيم، طريق الله العزيز الذي لا يغالب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه، وأمره ونهيه، والصادق في خبره. اللَّهِ الَّذِي.. أي الإله الذي له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصريفا وتدبيرا. وتكرار هذه الصفة كثيرا في القرآن للتنبيه على عظمة الخالق، ولإعمال النظر في المخلوقات، والإفادة منها. وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ.. أي هلاك وعذاب شديد يوم القيامة لمن كفر برسالتك وجحد بوحدانية الله. وهذا وعيد شديد لهم. ثم وصفهم الله تعالى بصفات ثلاث بقوله: 1- الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ.. أي الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، ويقدمونها ويؤثرونها عليها، ويعملون للدنيا، ونسوا الآخرة وتركوها. 2- وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون من اتباع الرسل، ويعوقون عن الإيمان بالله، ويصرفون عن الإسلام كل من أراده. 3- وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة، منحرفة عن الحق، لتوافق أهواءهم وأغراضهم، وهي في واقعها مستقيمة في نفسها لا تقبل الانحراف عن الحق. والسبيل: تذكر وتؤنث. قال في الكشاف: الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجا، فحذف الجار وأوصل الفعل. ومن أمثلة ذلك في العصر الحديث الانصراف عن تطبيق الحدود الشرعية والقصاص، بحجة قسوتها، وعدم ملاءمتها لروح العصر، ومنافاتها للإنسانية: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف 18/ 5] . وقد

فقه الحياة أو الأحكام:

أدى هذا الاتجاه إلى كثرة الجرائم، حتى إنه في كل ثانية يقع في بريطانيا مثلا خمس عشرة ألف جريمة، وأما في أمريكا فأكثر من ذلك. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أولئك الكفار الموصوفون بتلك الصفات السابقة في ضلال بعيد كل البعد عن الحق، وفي جهل سحيق، لا يرجى لهم- والحالة هذه- صلاح ولا فلاح. وبعد أن بين تعالى مقاصد القرآن وأثره في الهداية، بيّن أنه سبيل ميسر للاهتداء به، لكونه بلغة قوم الرسول، فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ.. هذا من لطفه تعالى أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم، ليفهموا عنهم ما يريدون، وما أرسلوا به إليهم، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت 41/ 44] وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم يبعث الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه» . فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ.. أي أنه بعد البيان وإقامة الحجة على الناس يكون الناس فريقين: فريق يضله الله عن وجه الهدى، لإيغاله في الكفر واجتراحه السيئات والآثام، وعناده، وفريق يهديه الله إلى الحق، ويشرح صدره للإسلام، فيتبع سبيل الرشاد. وهذا كلام مستأنف وليس بمعطوف على لِيُبَيِّنَ لأن الإرسال إنما وقع للتبيين، لا للإضلال. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والله سبحانه القوي الذي لا يغلب، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والحكيم في صنعه وأفعاله، فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك، فلا يفعل شيئا إلا على وفق الحكمة والعلم. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ دليل على أن القرآن منزل من عند الله

تعالى، وأن مهمته إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والهدى والعلم، وذلك بتوفيق الله إياهم ولطفه بهم. وفيه إنعام على الرسول بتفويضه هذا المنصب العظيم، وعلى الناس لإرساله لهم من خلصهم من ظلمات الكفر، وأرشدهم إلى نور الإيمان. 2- قال المعتزلة: في هذه الآية دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات ثلاث: أحدها- إخراج الكفر من الكافر بالكتاب. وثانيها- أنه أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وثالثها- الإخراج من الكفر بالكتاب بتلاوته عليهم ليتدبروه وينظروا فيه، فيتوصلوا إلى كونه تعالى عالما قادرا حكيما، وإلى أن القرآن معجزة صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع، باختيارهم. قال أهل السنة: إن المؤثر الأول في صدور الفعل من العبد وترجيح جانب الوجود على جانب العدم هو الله تعالى. وفعل العبد مخلوق لله تعالى لقوله سبحانه: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بمشيئته وتخليقه. 3- طرق الكفر والجهل والبدعة كثيرة، وطريق الخير واحد لأنه تعالى قال: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهو جمع، وعبر عن الإيمان والهداية بالنور، وهو لفظ مفرد. 4- قدم ذكر العزيز على الحميد لأن الواجب أولا في العلم بالله: العلم بكونه تعالى قادرا، ثم العلم بكونه عالما، ثم العلم بكونه غنيا عن الحاجات، والعزيز: هو القادر، والحميد: هو العالم الغني.

5- لله ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا، وهذا يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو البتة لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، وبما أن كل ما في السموات فهو ملكه، فهو منزه عن الحصول في جهة فوقية. وأما قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك 67/ 16] فالمراد به سلطانه وقدرته. وتدل الآية أيضا على الحصر، أي كل ما في السموات والأرض له، لا لغيره، وهو يدل على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله عز وجل. ولهذا عطف عليه وعيد الكفار بقوله: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ لأنهم تركوا عبادة الله تعالى الذي هو مالك السموات والأرض وما فيهما، إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا، ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل. 6- استحقاق الكافرين الهلاك والعذاب في نار جهنم لصفات ثلاث: هي تفضيلهم أو إيثارهم الدنيا على الآخرة، ومنعهم الناس من الوصول إلى سبيل الله ودينه، وهو المنهج القويم والطريق المستقيم، وطلبهم لسبيل الله زيغا وميلا واعوجاجا، لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، فهم في ضلال بعيد عن الحق. 7- من فضل الله وتيسيره الاهتداء بهدايته إرسال كل رسول إلى قومه بلغتهم، ليبين لهم أمر دينهم، وليفهموا منه شرائع الله، ويفقهوها عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوها لغيرهم. وإرسال جميع الرسل بلغة قومهم يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وهو يدل على أن اللغات حاصلة بالاصطلاح، وليست توقيفية، كما ذكر الرازي. 8- قوله: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ رد على القدرية في

نفوذ المشيئة، وإخبار بأن الضلال والهداية من الله تعالى، فهو تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته حسبما يعلم من استعداد العبد واختياره، وليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين، ولم يكلف أن يهدي، بل الهدى بيد الله على ما سبق قضاؤه. وقال الزمخشري على طريقة الاعتزال: والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية: التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان «1» . ويؤكد الرأي الأول لأهل السنة ما روي: أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا؟» فقال بعضهم: يا رسول الله، يقول أبو بكر: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا، ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وبعضهم عمر، فتعرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قاله أبو بكر، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه، ثم أقبل على عمر، فتعرف ما قاله، وعرف البشر في وجهه. ثم قال: «أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر، فقضاء إسرافيل: أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى، وهذا قضائي بينكما» «2» . ثم ذكر الرازي تأويلات ثلاثة للآية، بعد أن قال: لا يمكن حمل الآية على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد «3» : الأول- أن المراد بالإضلال: هو الحكم بكونه كافرا ضالا، كما يقال: فلان يكفّر فلانا ويضلله، أي يحكم بكونه كافرا ضالا.

_ (1) الكشاف: 2/ 171 (2) تفسير الرازي: 19/ 80 (3) المرجع السابق 81

مهمة الرسول موسى عليه السلام ونصائحه لقومه [سورة إبراهيم (14) الآيات 5 إلى 8] :

والثاني- أن يكون الإضلال: عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية: عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة. والثالث- أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله، ولم يتعرض له، صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف، صار كأنه هو الذي هداه. والخلاصة: إنه لا إجبار على الإيمان والكفر، ولا يخلق العبد كافرا أو لا يخلق الكفر في العبد، وإنما المراد بالإضلال والهداية بيان طريقي الشر والخير، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] . مهمة الرسول موسى عليه السلام ونصائحه لقومه [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) الإعراب: أَنْ أَخْرِجْ أَنْ: إما أن يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، وتقديره: بأن أخرج قومك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، وإما ألا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مفسّرة بمعنى أي، مثل أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص 38/ 6] . وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ أتى بالواو هنا، ليدل على أن الثاني غير الأول، وحذفت في غير هذا الموضع في سورة البقرة، ليدل على البدل، وأن الثاني بعض الأول، أي أنه في سورة البقرة تفسير لما سبق، وهنا غير تفسير، وإنما التذبيح نوع آخر من العذاب غير الأول. إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ حذفت الفاء من جواب الشرط للشهرة. البلاغة: شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ بينهما طباق. صَبَّارٍ شَكُورٍ صيغة مبالغة فيهما. شديد.. حميد فيهما سجع. المفردات اللغوية: بِآياتِنا الجمهور على أنها الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، يعني اليد والعصا وسائر معجزاته. وقيل: هي الجراد والقمل والضفادع ونحوها. أَنْ أَخْرِجْ أي بأن أخرج، أو بمعنى أي كأن في الإرسال معنى القول. قَوْمَكَ بني إسرائيل. مِنَ الظُّلُماتِ الكفر والجهالات. إِلَى النُّورِ الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به وَذَكِّرْهُمْ عظهم، بِأَيَّامِ اللَّهِ وقائعه التي وقعت على الأمم السابقة، وأيام العرب: حروبها. وقيل: بنعمائه وبلائه. صَبَّارٍ كثير الصبر على البلاء والطاعة. شَكُورٍ أي كثير الشكر للنعم. وَإِذْ قالَ واذكر حين قال موسى. يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم العذاب السيء الشديد. وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ المولودين. وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهم أحياء للذل والعار لقول بعض الكهنة: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملك فرعون. وَفِي ذلِكُمْ الإنجاء أو العذاب. بَلاءٌ إنعام أو ابتلاء واختبار. وَإِذْ تَأَذَّنَ واذكر حين أعلم وآذن. لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي بالتوحيد والطاعة. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ جحدتم النعمة بالكفر والمعصية، لأعذبنكم، دل عليه إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. لَغَنِيٌّ عن خلقه. حَمِيدٌ مستحق للحمد في ذاته، محمود في صنعه بهم، تحمده

المناسبة:

الملائكة وتنطق بنعمه المخلوقات، فما ضررتم بالكفران إلا أنفسكم، حيث حرمتموها مزيد الإنعام، وعرضتموها للعذاب الشديد. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أنه أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن إرساله نعمة له ولقومه، أتبع ذلك بذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بقصص أنبياء آخرين مع أقوامهم، تنبيها على أن المقصود من بعثة الرسل واحد: وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتصبيرا للرسول على أذى قومه، وإرشادا له إلى كيفية معاملتهم ومكالمتهم. التفسير والبيان:

كما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بالآيات التسع، وأمرناه قائلين له: أخرج قومك من الظلمات إلى النور، أي أدعهم إلى الخير، ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان. وعظهم بأيام الله، أي بوقائعه التي مرت على أمم الأنبياء السابقين، وكيف نجا المؤمنون، وهلك الكافرون!! أو ذكّرهم بنعم الله عليهم في إخراجهم من أسر فرعون وقهره، وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، وغير ذلك من النعم. روى الإمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قال: بنعم الله تعالى. وأيام الله في عهد موسى: إما محنة وبلاء: وهي الأيام التي كان فيها

بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، وإما نعمة كإنجائهم من عدوهم، وفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. أي إن في ذلك التذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته، وإن فيما صنعنا ببني إسرائيل حين أنقذناهم من بطش فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة، لكل كثير الصبر على الطاعة والبلاء أو الضراء، شكور في حال النعمة والرفاه والسرور. قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر. وجاء في صحيح البخاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء، شكر، فكان خيرا له» . فعلى المسلم أن يكون صابرا شكورا، يصبر عند البلاء والمحنة، ويشكر عند الرخاء والنعمة. وَإِذْ قالَ مُوسى ... واذكر حين قال موسى لقومه: يا قوم، تذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون، وما كانوا يذيقونكم من العذاب والإذلال، ويكلفونكم من الأعمال ما لا تطيقون، وكانوا يذبحون أبناءكم المولودين الصغار، خوفا من ظهور ولد يكون سببا في تدمير ملك فرعون، كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر، وكانوا يتركون الإناث أحياء ذليلات مستضعفات، وذلك من أعظم البلاء، فأنقذكم الله من عذابهم، وهذه نعمة عظيمة. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي وفيما ذكرت لكم اختبار عظيم من ربكم، سواء في حال النقمة، أو في حال النعمة، ليعرف الإنسان أيشكر أم يكفر؟! كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ الأنبياء 21/ 35] وقال سبحانه: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ.. واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده لكم، وهو قوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها. أخرج البخاري عن أنس حديثا فيه: «ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة» . ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الأعراف 7/ 167] . وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ.. أي ولئن جحدتم النعم وسترتموها، فلم تؤدوا حقها من الشكر. إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ أي إن عقابي أليم وقعة، شديد تأثيره وألمه، في الدنيا بزوال تلك النعم، وسلبها عنهم، وفي الآخرة بالعقاب على كفرانهم، والمراد بالكفر هما: الكفران. جاء في الحديث الثابت الذي رواه الحاكم عن ثوبان: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» . وَقالَ مُوسى.. أي وأعلن موسى مبدأ أساسيا في الدين، حينما لا حظ منهم أمارات الكفر والعناد، وهو أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الإنسان، أما الله فهو غني عن عباده، فقال: إن تجحدوا نعمة الله عليكم أنتم وجميع من في الأرض من الثقلين: الإنس والجن، فإن الله غني عن شكر عباده. وهو المحمود، وإن كفر به من كفر، كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر 39/ 7] وقال تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن 64/ 6] وقال سبحانه: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر 39/ 7] . جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه عن ربه عز وجل- أنه قال: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على

فقه الحياة أو الأحكام:

أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- إن المقصود من بعثة الأنبياء واحد، وهو أن يسعوا في إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالات إلى أنوار الإيمان والهدايات. 2- على الناس الاعتبار والاتعاظ بأيام الله تعالى، أي الوقائع العظيمة التي وقعت فيها، وتذكر نعم الله عليهم. وذلك جمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد: أن يذكرهم النبي موسى أو غيره ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل، في سائر ما سلف من الأيام. والترهيب والوعيد: أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل، ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا، ويحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب. 3- إن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا. ففي حال المحنة والبلية يصبر، وفي حال المنحة والعطية يشكر، وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب ألا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين: الصبر أو الشكر. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان:

فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» ثم تلا هذه الآية: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. 4- لقد تعرض بنو إسرائيل في زمن فرعون للحالتين: المحنة والنعمة، ولكنهم لم يقدروا النعمة ولم يشكروها، ولم يصبروا عند المحنة، وذلك ملحوظ من نصح موسى عليه السلام لهم حينما رأى أمارات الكفر والعناد فيهم. 5- إن شكر النعمة سبب لزيادتها، وكفرانها سبب لزوالها، فالآية نص واضح في أن الشكر سبب المزيد، وأن جحود النعمة سبب النقص والزوال، فمن اشتغل بشكر نعم الله، زاده الله من نعمه، ومن كفر بنعمة الله فهو جاهل، والجهل بالله سبب لأعظم أنواع العقاب والعذاب، فالمراد بقوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ الكفران، لا الكفر. والشكر: هو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم، مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة. والخلاصة: الاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بشكر النعمة يستوجب زيادتها. 6- إن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود الا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران. أما المعبود المشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران. والمراد من قول موسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ.. بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات، لمنافع عائدة إلى العابد، لا لمنافع عائدة إلى المعبود، بدليل قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني، وهو المحمود في جميع الأحوال.

بعض أخبار الرسل السابقين مع أممهم [سورة إبراهيم (14) الآيات 9 إلى 12] :

بعض أخبار الرسل السابقين مع أممهم [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) الإعراب: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ ما: استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وخبره لَنا وأن في أَلَّا في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، تقديره: وما لنا في ألا نتوكل على الله، وهو في موضع نصب على الحال، والتقدير: أيّ شيء ثبت لنا غير متوكلين.

البلاغة:

البلاغة: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا استفهام تقرير، وهذا من كلام موسى عليه السلام، أو كلام مستأنف أو مبتدأ من الله. نَبَؤُا خبر. وَثَمُودَ قوم صالح. لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة اعتراضية، والمعنى: أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله، لذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: كذب النسابون. بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحة على صدقهم. فَرَدُّوا أي الأمم. أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم السلام، كقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي في زعمكم. مُرِيبٍ موقع في الريبة، أي الاضطراب والقلق أَفِي اللَّهِ شَكٌّ استفهام إنكاري، أي لا شك في توحيده، للدلائل الظاهرة عليه. فاطِرِ خالق ومبدع على أكمل نظام. يَدْعُوكُمْ إلى طاعته. مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ: صلة زائدة، أو تبعيضية، والمراد على الأول: أن الإيمان أو الإسلام يغفر به ما قبله، وعلى الثاني يكون القصد هو إخراج حقوق العباد. وَيُؤَخِّرَكُمْ بلا عذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أجل الموت. قالُوا: إِنْ أي ما. عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي برهان أو حجة ظاهرة قوية على صدقكم. إِنْ نَحْنُ أي ما نحن. يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ بالنبوة. وَما كانَ لَنا وما ينبغي. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره لأنا عبيد مربوبون لله تعالى، فليس في قدرتنا الإتيان بالآيات. وفيه دليل على أن النبوة عطائية، وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يثقوا به، في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل، وقصدوا به أنفسهم أولا. وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ أي لا مانع لنا من ذلك، ولا عذر لنا في ألا نتوكل عليه. وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا على أذاكم، وهو جواب قسم محذوف، أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم الناشئ عن إيمانهم. المناسبة: هذا تذكير بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل، بعد تذكير موسى لقومه بما أنعم الله عليهم من نعم، ودفع عنهم من نقم، وبما وعد به تعالى

التفسير والبيان:

الشاكرين بالزيادة، والجاحدين بالعذاب، وبأن الكفران لا يضرّ إلا أهله. ويحتمل أن يكون المذكور هنا من تتمة كلام موسى وخطابا منه لقومه، ليخوفهم بمثل هلاك من تقدم، وهذا رأي ابن جرير، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا جديدا مستأنفا من الله لقوم موسى وغيرهم، لتذكيرهم أمر القرون الأولى. والمقصود إنما هو العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا حاصل على التقديرين. إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول الرازي، وقال ابن كثير: والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه، وقصصه عليهم، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة «1» . التفسير والبيان: ألم يأتكم خبر أقوام من قبلكم: وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل. وضمير الخطاب في يَأْتِكُمْ لأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمائر: جاءتهم رسلهم، فردوا أيديهم في أفواههم للكفار. جاءت هؤلاء رسلهم بالمعجزات والحجج والدلائل الواضحة الباهرة القاطعة، التي تثبت صدقهم ودعواهم الرسالة عن الله، لإخراجهم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان والهداية. فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي إلا أن هؤلاء القوم عضوا أناملهم من شدة الغيظ، لما جاءهم به الرسل، أي اغتاظوا منهم وعادوهم ونفروا منهم، كما فعل العرب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله سبحانه: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ،

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 88، تفسير ابن كثير: 2/ 524

قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران 3/ 119] . والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا ولم يؤمنوا. فهو- كما قال أبو عبيدة والأخفش- مثل. وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا.. أي وقالوا للرسل: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات، أي كفرنا بدلالتها على صدق رسالتكم. وإنا لفي شك موقع في الريبة والقلق والاضطراب مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده، وترك ما سواه. وتساءل الرازي بقوله: فإن قيل: كيف تنازلوا إلى الشك في صحة قولهم بعد تصريحهم بالكفر برسالتهم؟ ثم أجاب بأنهم أرادوا أنهم كافرون في الواقع وبنحو جازم متيقن بدعوتهم، فإن لم نكن جازمين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم. قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أفي وجود الله شك؟! فإن الفطرة تقرّ بوجوده، ومجبولة على الإقرار به. وهل في تفرده بالألوهية ووجوب عبادته شك وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؟! فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى. وأما دليل الفطرة فثابت كما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله فيما رواه ابن عدي والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، أو يمجّسانه» . وأما دليل الخلق فهو أمر حسي مشاهد، وهو ما نبّه إليه بقوله مباشرة: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كيف تشكون في الله، وهو خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق، وعلى هذا النظام المحكم البديع؟! وهو تعالى عدا كونه خالقا وهو دليل وجوده، هو كامل الرحمة لقوله:

يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يدعوكم إلى الإيمان الكامل به، من أجل أن يغفر لكم في الدار الآخرة ذنوبكم- على أن من صلة زائدة- أو بعض ذنوبكم- على أن من تبعيضية- فهو يغفر الذنوب المتعلقة به، لا الذنوب التي لها صلة بحقوق العباد. وهذا هو الغرض الأول من الدعوة إلى الإيمان. ويلاحظ أنه تعالى في كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب الكفار، جاء بلفظ (من) وفي كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب المؤمنين، جاء بغير لفظ (من) . مثال الحالة الأولى: قوله تعالى: وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح 71/ 3- 4] وقوله سبحانه: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف 46/ 31] لأنه يدعوهم إلى الإيمان الذي هو أصل الدين. ومثال الحالة الثانية: قوله عز وجل: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران 3/ 31] وقوله عزت أسماؤه: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف 61/ 11- 12] لأنه بعد توافر الإيمان لا تكون المغفرة إلا إلى المعاصي. وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هذا هو الغرض الثاني من الدعوة إلى الإيمان، وهو الإمهال والتأخير إلى وقت محدد معين في علم الله تعالى، وهو منتهى العمر، إن حدث الإيمان، وإلا عاجلكم الهلاك والعذاب بسبب الكفر. فالإيمان يتحقق به رحمتان أو نعمتان وهما مغفرة الذنوب والإمهال إلى نهاية الأعمار. ثم ذكر الله تعالى ردّ تلك الأمم على رسلها من نواح ثلاث هي: 1- قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم، ولما نر منكم معجزة، فما أنتم إلا مثلنا في البشرية، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصصون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا، لبعث من جنس أفضل.

2- تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي وأنتم تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، بهذه الدعوى التي لا دليل على صحتها. 3- فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي فأتونا بأمر خارق نقترحه عليكم، أو بحجة ظاهرة تدلّ على صحة ادعائكم النبوة، فنحن لا نؤمن إلا بالحسيّات، أما خلق السموات والأرض وما فيهما من عجائب، فلا نعقلهما، ولا يصلح دليلا على صحة ما تقولون. ثم ذكر الله ما ردّ به الأنبياء على شبهاتهم الثلاث، وهو المصادقة والتسليم للشبهتين الأولى والثانية، وإسناد الأمر إلى الله في الثالثة، فقال: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ.. أي قالت الرسل للأمم: ما نحن إلا بشر مثلكم كما ذكرتم، نأكل ونشرب وننام ونمشي في الأسواق ونبحث عن الرزق، ولكن الله سبحانه يتفضل على من يشاء من عباده بالرسالة والنبوة: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] وقد منّ الله علينا بالرسالة. وأما تقليدكم الآباء لمجرد كونهم آباء فهذا شيء لا يقبله العقل. وأما طلبكم الحجة والبرهان على صدق رسالتنا، والإتيان بسلطان على وفق ما سألتم، بالرغم من المعجزات التي ظهرت لنا، فأمره إلى الله، ولا نتمكن من الإتيان بسلطان إلا بمشيئة الله وإرادته، ولا نقدر عليه. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي على جميع المؤمنين أن يتكلوا على الله في جميع أمورهم، لدفع شرّ عدوهم، والصبر على معاداتهم. ثم أكدوا اعتمادهم على الله فقالوا: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ.. أي وكيف لا نتوكل على الله الذي هدانا إلى سبيل المعرفة، وأرشدنا إلى طريق النجاة؟! وما يمنعنا من التوكل عليه، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَنَصْبِرَنَّ.. أي ولنصبرن على إيذائكم لنا بالكلام السيء والأفعال السخيفة. ثم مدحوا التوكل فقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي فليستمر وليثبت المتوكلون من المؤمنين على توكلهم على الله، وليثقوا به، وليتحملوا كل أذى في سبيله، ولا يبالوا بشيء صعب مهما كان. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- على الناس الاعتبار بأحوال المتقدمين الذين كذبوا رسلهم، وسخروا منهم، واستهزءوا بهم، فكان عاقبتهم الدمار والهلاك. 2- كانت مواقف الكفار من أنبيائهم على مراتب ثلاث: المرتبة الأولى- أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام، وحاولوا إسكات الأنبياء عن تلك الدعوى. والمرتبة الثانية- أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة. والمرتبة الثالثة- أنهم أخيرا وعلى الأقل صاروا شاكين مرتابين في صحة النبوة. وكل ذلك دليل منهم على عدم الاعتراف بالنبوة. 3- أقام الأنبياء الأدلة على وجود الله ووحدانيته بأن الفطرة السليمة شاهدة على ذلك، وبأن خلق السموات والأرض على غير مثال سبق الدال على معنى الحدوث والإبداع والتسخير للمخلوقات دليل قاطع على وجود الخالق وألوهيته وتفرده بوجوب العبادة له، فلا يبقى شك لدى عاقل بوحدانية الله تعالى، بعد

أن تبين وأقرت الأمم بأنه الخالق لجميع الموجودات، وبأنه يستحيل وجود شيء كدار مثلا يتميز بالإبداع والترتيب والنظام والنقش الجميل من دون موجد عالم حكيم، وإذا كان الله هو الخالق، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له. 4- الله تعالى فاطر السموات والأرض متصف أيضا بكمال الرحمة والكرم والجود، بدليل أن الغرض من دعوة الناس إلى الإيمان به وبتوحيده أمران: الأول- مغفرة الذنوب والخطايا والآثام، وفيها تطهير للنفس يبوئها لدخول الجنان التي لا يستحقها إلا الأطهار. والثاني- تأخير الناس إلى نهاية أعمارهم وهو الموت، فلا يعذبهم في الدنيا. 5- كانت أجوبة الكفار واهية مشتملة على شبهات ثلاث: الأولى- التساوي في الإنسانية يمنع وجود التفاضل بينهم، بأن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله، مطلعا على الغيب، مخالطا لزمرة الملائكة، والباقون غافلون عن كل هذه الأحوال، وهذا معنى قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. والثانية- التمسك بطريق التقليد: وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم متفقين على عبادة الأوثان، ويعبد أنهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين، وهذا معنى قولهم: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا. والثالثة- المعجز لا يدل على الصدق أصلا، وإن سلّم أنه يدل على الصدق، فإن ما جاء به الرسل أمور معتادة، وليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وهذا معنى قولهم: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. 6- كان ردّ الأنبياء على تلك الشبهات الثلاث ما يأتي: أما الشبهة الأولى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فجوابها أن التماثل في البشرية

والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأنه منصب يمنّ الله به على من يشاء من عباده. وأما الشبهة الثانية: وهي توافق السلف على ذلك الدين، مما يدل على كونه حقا، فجوابها: أن التمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية، وأن يحرم الجمع العظيم منها. وأما الشبهة الثالثة: وهي أنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية، فالجواب عنها أن الأشياء التي طلبتموها أمور زائدة، والحكم فيها لله تعالى، فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يخلقها فله العدل، ولا يطلب منه شيء بعد توافر قدر الكفاية. 7- لا سبيل أمام الأنبياء إلا الصبر على الأذى والاعتصام بالله وتفويض الأمر إليه والتوكل التام عليه، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والتوكل على الله والاعتماد على فضله محقق للنصر والفتوح. وفائدة تكرار الأمر بالتوكل: أمر أنفسهم به أولا ثم أمر أتباعهم به، فبعد أن أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أمروا أتباعهم بذلك وقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وهو يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولا.

تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة والوحي بأن العاقبة للأنبياء [سورة إبراهيم (14) الآيات 13 إلى 18] :

تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة والوحي بأن العاقبة للأنبياء [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) الإعراب: وَمِنْ وَرائِهِ الهاء: إما عائدة على الكافر، ويكون معنى مِنْ وَرائِهِ أي قدّامه، كقوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف 18/ 79] أي قدّامهم وإما عائدة على العذاب، ويكون المعنى: إن وراء هذا العذاب عذاب غليظ. مَثَلُ الَّذِينَ.. في إعرابه أربعة أوجه: الأول- أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا. الثاني- أنه مبتدأ على تقدير حذف مضاف، والخبر: كَرَمادٍ، تقديره: مثل أعمال الذين كفروا مثل رماد.

البلاغة:

الثالث- أنه مبتدأ أول، وأَعْمالُهُمْ: مبتدأ ثان، وكَرَمادٍ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول. الرابع- أنه مبتدأ، وأَعْمالُهُمْ: بدل منه، وكَرَمادٍ: خبره. فِي يَوْمٍ عاصِفٍ عاصِفٍ في تقديره وجهان: إما في يوم ذي عصوف، كقولهم: رجل نابل ورامح أي ذو نبل ورمح، وإما في يوم عاصف ريحه، كقولك: مررت برجل حسن وجهه، ثم يحذف الوجه إذا علم المعنى. البلاغة: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ استعارة لما يغشاه من كروب وشدة، فقد يوصف المغموم بأنه في حالة موت. لَنُخْرِجَنَّكُمْ.. أَوْ لَتَعُودُنَّ بينهما طباق. وَعِيدِ وعَنِيدٍ وصَدِيدٍ والْبَعِيدُ فيها سجع أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ تشبيه تمثيلي، وجه الشبه فيه: منتزع من متعدد. المفردات اللغوية: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ حلفوا على أن يكون أحد الأمرين: إما إخراجهم للرسل أو عودتهم إلى ملتهم أَوْ لَتَعُودُنَّ لتصيرن، وتستعمل عاد بمعنى صار، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه، فغلبوا الجماعة على الواحد. فِي مِلَّتِنا الملة: الشريعة والدين فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أوحى إلى الرسل لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين، على إضمار القول، أو على إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه. الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، كقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف 7/ 137] . ذلِكَ إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي وقيامي للحساب أو مقامه بين يدي وَخافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار وَاسْتَفْتَحُوا أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء أي استنصر الرسل بالله على قومهم، وقيل: واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق. وَخابَ خسر وهلك كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ كل متعاظم متكبر عن طاعة الله، معاند للحق المخالف له، مجانب له. مِنْ وَرائِهِ أي أمامه، ومن بين يديه، وبعد ذلك ينتظره جَهَنَّمُ يدخلها

المناسبة:

وَيُسْقى فيها مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ هو ما يسيل من جلود أو جوف أهل النار، مختلطا بالقيح والدم يَتَجَرَّعُهُ سقيته جرعة بعد جرعة، بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يستطيبه أو يزدرده، لقبحه وكراهته وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جانب، وتغشاه أنواع الكروب والعذاب وَمِنْ وَرائِهِ بعد ذلك العذاب عَذابٌ غَلِيظٌ قوي متصل، وشديد غير منقطع. مَثَلُ صفة أَعْمالُهُمْ الصالحات كصلة الرحم والصدقة على الفقراء في عدم الانتفاع بها كَرَمادٍ أثر النار بعد احتراقها عاصِفٍ شديد الريح، أي أعمالهم كالرماد الذي عصفت به الرياح العاتية، فجعلته هباء منثورا، لا يقدر عليه لا يَقْدِرُونَ أي الكفار مِمَّا كَسَبُوا عملوا في الدنيا عَلى شَيْءٍ لا يجدون له ثوابا، لعدم توافر شرطه: وهو الإيمان. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الهلاك الْبَعِيدُ الغاية في البعد عن الحق. المناسبة: بعد أن أرشد الله تعالى الأنبياء إلى التوكل عليه والاعتماد على حفظه وصيانته، في دفع شرور أعدائهم، ذكر موقف الكفار العصبي المبالغ في السفاهة، وهو التهديد بأحد أمرين: الإخراج والطرد من البلاد، أو العودة إلى الملة الوثنية القديمة المتوارثة، وهذا هو الشأن في كل زمان، يعتمد فيه أهل الباطل والفسق والظلم على القوة والبطش لقوتهم، ويستغلون ضعف أهل الحق لقلتهم. ولكن قدرة الله فوق كل شيء، والله غالب على أمره، فجعل العاقبة والنصر في النهاية للمتقين وأن الهزيمة للكافرين، وأعلمهم بالعذاب في الآخرة، وتلك سنة الله في خلقه مع كل الأمم والرسل. ثم ضرب الله مثلا لأعمال الكافرين، بالرماد الذي عصفت به الرياح الهوج، فجعلته هباء منثورا، لعدم توافر شرطه وهو الإيمان. التفسير والبيان: هذا تطور طبيعي للحوار والصراع بين الرسل والأمم الكافرة، فبعد أن

أفلست الأمم في مناقشتها، وهزمت حجتها أمام حجة الرسل وبيانهم، لم يجدوا سبيلا إلا تأزم الوضع والدخول في صدام وعمل عدواني، فتوعدوا رسلهم بأحد أمرين: إما الطرد والإخراج والنفي من البلاد، وإما العودة إلى ملتهم وشرعهم الموروث عن الآباء والأجداد، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف 7/ 88] وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 16/ 76] وقال سبحانه في إلجاء النبي إلى الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.. [الأنفال 8/ 30] . والسبب في هذا التهديد والوعيد: اغترار الكفار بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المؤمنين وضعف عددهم. وأما قولهم لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فلا يعني أن الرسل كانوا وثنيين، وإنما كانوا في ظاهر الأمر معهم، من غير إظهار مخالفة، فظن القوم أنهم كانوا على دينهم. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ.. أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم: لنهلكن الظالمين المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، عقوبة لهم على تهديدهم وإنذارهم بالطرد والإبعاد. وهذا تهديد ووعد من الله للمشركين في مقابل تهديدهم الرسل، وشتان بين التهديدين، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 170- 173] وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] وآيات كثيرة أخرى في المعنى.

ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي.. أي ذلك الموحى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم، أي ذلك الأمر حق، لمن خاف موقفي للحساب أو مقامه بين يدي، وخاف وعيدي بالعذاب والعقاب، فخشي لقائي، واتقاني بطاعتي، وتجنب سخطي وغضبي. وهذا هو سبب النصر والوحي المذكور. وَاسْتَفْتَحُوا.. أي واستنصرت الرسل بالله على أممهم أو أقوامهم، أي على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال 8/ 19] والمراد أنهم سألوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم، كما قال تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف 7/ 89] والضمير يعود للرسل أو الأنبياء عليهم السلام. وقيل: يعود الضمير على الكفار، أي واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق، والرسل على الباطل. وقيل: للفريقين، فإنهم كلهم سألوه أن ينصر المحق، ويهلك المبطل، كما قال تعالى في شأن استفتاح الأمم على أنفسها: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . ولكن كانت النتيجة أن النصر للمتقين والخيبة والخسارة والهلاك للمشركين، فقال سبحانه: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي وخسر وهلك كل متكبر متعاظم عن طاعة الله، معاند للحق، منحرف عنه، كقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ [ق 50/ 24- 26] . مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي أمام هذا الجبار العنيد جهنم له بالمرصاد تنتظره، كما قال تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف 18/ 79] أي أمامهم.

وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ أي ليس له في النار شراب إلا ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من ماء مختلط بالقيح والدم، كما قال تعالى: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 57- 58] وهذا أي الحميم حار في غاية الحرارة، وهذا أي الغساق بارد في غاية البرد والنتن. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي يتحساه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يزدرده، لكراهته، وسوء طعمه ولونه وريحه، مما يدل على التألم حين ابتلاعه، كما قال تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد 47/ 15] وقال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف 18/ 29] . وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ.. أي وتأتيه أسباب الموت من الشدائد وألوان العذاب من كل جهة، ولكنه لا يموت، كما قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36] . وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ، أي مؤلم صعب شديد، أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر، وهو دائم غير منقطع، كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات 38/ 64- 68] وقال عز وجل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان 44/ 43- 50] وقال: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة 56/ 41- 44] . وقال تعالى: هذا وَإِنَّ

فقه الحياة أو الأحكام:

لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ، هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 55- 58] . وبالرغم مما سيلاقيه الكفار من العذاب في نار جهنم، فإنهم يأسفون على أعمالهم الصالحة في الدنيا التي ضاعت هدرا، ولم تنفعهم في الآخرة، فضرب الله المثل لأعمالهم فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ... أي مثل أعمالهم الصالحة كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين، يوم القيامة، إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى، كمثل الرماد الذي اشتدت به الريح العاصفة، في يوم عاصف أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد، في هذا اليوم، ذلك هو الضلال البعيد، أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة، فهو مغرق في البعد عن الحق، حتى فقدوا ثوابه، لفقدهم شرط قبوله وهو الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] وقوله: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَهْلَكَتْهُ، وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران 3/ 117] . فقه الحياة أو الأحكام: دلتنا الآيات على الفوائد التالية: 1- لا قيمة لتهديد الكفار رسلهم بالطرد من البلاد أو الإكراه على العودة إلى الملة القديمة، أمام تهديد الله، فالأول يتبدد، والثاني يتحقق، وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده. 2- استحقاق النصر على الأعداء منوط بالخوف من جلال الله وهيبته

وموقفه للحساب في الآخرة، وخشيته من عذابه وبأسه ونقمته. 3- سواء استفتح الرسل أو الكفار أو الفريقان، أي طلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم، فإن النصر في النهاية للمتقين والرسل لأنهم المؤمنون حق الإيمان بالله ربهم الذي يطلبون منه النصر، وتكون الخيبة والخسارة والهلاك للكافرين المتجبرين المتعاظمين عن طاعة الله، المعاندين للحق، والمجانبين له لأنهم كفروا بالله، وتنكروا لطاعة الله، وانحازوا عن منهج الحق وسبيله. 4- وكما يكون الهلاك للكافرين في الدنيا، يكون أمامهم العذاب في نار جهنم تنتظرهم، فمن بعد الهلاك في الدنيا، يأتي أيضا العذاب في الآخرة. 5- ماء أهل جهنم هو صديد أهل النار الذي يسيل من أجسامهم من القيح والدم، والكافر يتحساه جرعة بعد جرعة، لا مرة واحدة، لمرارته وحرارته، ويؤلم إساغته، فهو لا يكاد يسيغه، ولكن تحصل الإساغة بصعوبة، لقوله تعالى: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج 22/ 20- 21] . وتأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدّامه وخلفه، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] . ومن أمامه عذاب شديد متواصل الآلام من غير فتور. هذه أوصاف عذاب الكفار، في الظاهر والباطن، أولها- مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ثانيها- وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وثالثها- وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ورابعها- وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ.

دليل وحدانية الله ووجوده وقدرته على معاد الأبدان [سورة إبراهيم (14) الآيات 19 إلى 20] :

6- لا جدوى ولا فائدة في الآخرة لأعمال الكفار الطيبة التي عملوها في الدنيا، مثل إطعام الطعام، وإغاثة الملهوف، وفعل المعروف، والصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، ولا ثواب على عمل البر في الدنيا لإحباطه بالكفر، وذلك هو الخسران الكبير. فقد ضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار، في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف: شدة الريح، وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى، فلم يتوافر فيها أساس القبول وهو الإيمان بالله وحده لا شريك له. دليل وحدانية الله ووجوده وقدرته على معاد الأبدان [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) البلاغة: يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ تنظر أي تعلم يا مخاطب، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته، وهو استفهام تقرير، والرؤية هنا: رؤية القلب لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؟ بِالْحَقِّ متعلق بخلق، أي بالحكمة والوجه الذي يحق أن يخلق عليه يُذْهِبْكُمْ يعدمكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بدلكم أي يخلق خلقا آخر مكانكم، وهو مرتب على كونه خالقا للسموات والأرض، استدلالا به عليه، فإن من خلق أصولهم، ثم كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع، قادر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع ذلك

المناسبة:

عليه، كما قال: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بممتنع أو متعسر، فإنه قادر لذاته، لا اختصاص ل بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد، رجاء لثوابه، وخوفا من عقابه يوم الجزاء. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن أعمال الكفار تصير باطلة ضائعة، بيّن أن الإبطال والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية، فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك، وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لحكمة وصواب؟! التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات، في ارتفاعها واتساعها وعظمتها، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد، وصحارى وقفار، وبحار وأشجار، ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها. أَلَمْ تَرَ.. ألم تعلم أيها المخاطب أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ومن قدر على خلقهما على هذا النحو البديع، فهو قادر على إفنائكم إذا خالفتم أوامره، والإتيان بخلق جديد سواكم على غير صفتكم، وما ذلك بممتنع أو متعذر عليه، بل هو سهل عليه. ونظير الآية كثير في القرآن منها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ومنها: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس 36/ 77- 83] . فقه الحياة أو الأحكام: الآية للاستدلال بها على قدرته تعالى، فمن خلق السموات والأرض على ما يوافق الحكمة والصواب، قادر على إعادة الخلق بعد الموت، فالله هو القادر على الإفناء، كما هو قادر على إيجاد الأشياء، فلا تعصوه، فإنكم إن عصيتموه يعدمكم، ويأت بخلق جديد أفضل وأطوع منكم، إذ لو كانوا مثل الأولين، فلا فائدة في الإبدال، وما ذلك على الله بمنيع متعذر. والمقصود أن الكفار أغرقوا في الكفر بالله، مع قيام الأدلة على قدرته وحكمته تعالى، وأنه الحقيق بالطاعة، الذي يرجى ثوابه ويخاف عقابه في دار الجزاء. الحوار بين الأشقياء يوم العذاب والمناظرة بين الشيطان وأتباعه وظفر السعداء بالجنة [سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 23] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)

الإعراب:

الإعراب: بِمُصْرِخِيَّ فتحت الياء لإدغام ياء الجمع في ياء الإضافة، بعد حذف نون الإضافة، على لغة من يفتحها، وبقيت الفتحة على حالها، أو أن فتحها لالتقاء الساكنين على لغة من أسكنها، فياء الإضافة فيها لغتان: الفتح والإسكان. وعلى قراءة كسر الياء فهو عدول إلى الأصل، وهو الكسر، ليكون مطابقا لكسر همزة: إِنِّي كَفَرْتُ ... أَنْ دَعَوْتُكُمْ أن وصلتها: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. بِما أَشْرَكْتُمُونِ ما: مصدرية أي بإشراككم. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا جملة فعلية في موضع نصب صفة جنات. خالِدِينَ حال من الَّذِينَ. وتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ وهي حال بقدرة، أو حال من الضمير في خالِدِينَ فلا تكون حالا مقدرة. أو في موضع نصب على لوصف لجنات.

البلاغة:

والهاء والميم في تَحِيَّتُهُمْ إما تأويل فاعل، أضيف المصدر إليه، أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، وإما في موضع مفعول لم يسم فاعله (نائب فاعل) أي يحيّون بالسلام، على معنى: تحيّيهم الملائكة بالسلام. البلاغة: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ طباق السلب. جَزِعْنا وصَبَرْنا بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَبَرَزُوا أي الخلائق، أي ظهروا بالبراز: وهي الأرض المتسعة، أي مجتمع الناس في ذلك اليوم، ومنه امرأة برزة أي تظهر للرجال، والتعبير فيه وفيما بعده بالماضي لتحقق وقوعه. الضُّعَفاءُ الأتباع، أي ضعاف الرأي والفكر. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا المتبوعين، وهم الرؤساء الأقوياء الذين استنفروهم. تَبَعاً جمع تابع. مُغْنُونَ دافعون. مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: للتبعيض. لَهَدَيْناكُمْ لدعوناكم إلى الهدى. ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ من: زائدة، ومحيص: ملجأ ومنجى ومهرب. الشَّيْطانُ إبليس. لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لما أحكم وفرغ منه، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وعدا من حقه أن ينجز، أو وعدا أنجزه، وهو الوعد بالبعث والجزاء، فصدقكم الوعد. وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل وهو ألا بعث ولا حساب. فَأَخْلَفْتُكُمْ قدر إبليس تبين خلف وعده كالإخلاف منه. مِنْ سُلْطانٍ من: زائدة، والسلطان: القوة والقدرة والتسلط، فألجئكم على الكفر والمعاصي، واقهركم على متابعتي. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ لكن. فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أسرعتم إجابتي. وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ على إجابتي وإطاعتي، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم، والمستصرخ: المستغيث. بِما أَشْرَكْتُمُونِ بإشراككم إياي مع الله. مِنْ قَبْلُ في الدنيا. إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين، وهو قول الله تعالى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. تَحِيَّتُهُمْ فِيها من الله ومن الملائكة وفيما بينهم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ألوان عذاب الكفار في الآخرة، ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة، ذكر هنا مدى خجلهم أمام أتباعهم وافتضاحهم

التفسير والبيان:

عندهم، وأبان هذا بصورة محاورة بين السادة والأتباع، ومناظرة بين الشيطان وأتباعه الإنس، ثم ذكر جزاء المؤمنين السعداء وظفرهم بجنان الخلد. التفسير والبيان: وبرزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار في موقف الحساب، واجتمعوا له في مكان متسع لا ساتر فيه، خلافا لحال الدنيا حيث يظن الكفار والعصاة أن الله لا يراهم. فقال الضعفاء، أي الأتباع للقادة والسادة والكبراء في العقل والتفكير، أولئك القادة الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع الرسل: إنا كنا تابعين لكم، مقلدين في الأعمال، نأتمر بأمركم ونفعل فعلكم، فكفرنا بالله، وكذبنا الرسل متابعة لكم، فهل أنتم تدفعون عنا اليوم بعض عذاب الله، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا. فأجابهم القادة المتبوعون متنصلين من الدفاع عنهم: لو هدانا الله لدينه الحق، ووفقنا لاتّباعه، وأرشدنا إلى الخير، لهديناكم وأرشدناكم إلى سلوك الطريق الأقوم، ولكنه لم يهدنا، فحقت كلمة العذاب على الكافرين. ثم أعلنوا يأسهم من النجاة فقالوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا.. أي ليس لنا خلاص ولا منجى مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه، أي أن الجزع والصبر سيّان، فلا نجاة لنا من عذاب الله تعالى. قال ابن كثير: والظاهر أن هذه المراجعة (أي الحوار) في النار، بعد دخولهم فيها «1» ، كما قال تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ.

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 528

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [غافر 40/ 47- 48] وقال تعالى: قالَ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً، قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف 7/ 38- 39] وقال تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 67- 68] . ثم ذكر الله تعالى محاورة أخرى بين الشيطان وأتباعه من الإنس، فقال: وَقالَ الشَّيْطانُ.. أي وقال إبليس لأتباعه الإنس، بعد ما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات: إن الله وعدكم بالبعث والجزاء وعد الحق على ألسنة رسله، وكان وعدا حقا وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم ألا بعث ولا جزاء، ولا جنة ولا نار، فأخلفتكم موعدي، إذ لم أقل إلا باطلا من القول وزورا، كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء 4/ 120] وقد اتبعتموني وتركتم وعد ربكم. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي وما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة، ولا قوة ولا تسلط فيما وعدتكم به. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ.. أي ولكن حينما دعوتكم استجبتم لي، بمجرد ذلك. فَلا تَلُومُونِي.. أي فلا توجهوا اللوم إلي اليوم، ولوموا أنفسكم لأنكم أسرعتم إلى إجابتي باختياركم، فإن الذنب ذنبكم لكونكم لم تستمعوا إلى دعاء ربكم، وقد دعاكم دعوة الحق بالحجج والبينات، فخالفتم البراهين الداعية لكم إلى الصواب.

ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ.. ما أنا بمغيثكم ولا نافعكم ولا منقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي ولا نافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ [البقرة 2/ 166] . إِنِّي كَفَرْتُ.. إني أنكرت أو جحدت اليوم بإشراككم إياي من قبل أي في الدنيا مع الله تعالى في الطاعة، كما قال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر 35/ 14] والمراد بذلك تبرؤه من الشرك وإنكاره له، كما قال تعالى: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة 60/ 4] وقال سبحانه. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 82] . إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذا في الأظهر من قول الله عز وجل، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس المحكي في القرآن قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة، والمعنى: إن الكافرين في إعراضهم عن الحق، واتباعهم الباطل، لهم عذاب مؤلم. والمقصود تنبيه الناس إلى تبرؤ الشيطان من وساوسه في الدنيا، وحضهم على الاستعداد ليوم الحساب، وتذكر أهوال الموقف. وبعد أن أبان الله تعالى أحوال الأشقياء، أوضح أحوال السعداء، وكلا الفريقين كانوا قد برزوا للحساب والجزاء بين يدي الله، فقال: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ... أي ويدخل الملائكة الذين صدقوا بالله ورسوله، وأقروا بوحدانيته، واتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، جنات (بساتين) فيها الأنهار الجارية في كل

فقه الحياة أو الأحكام:

مكان، وهم ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون منها، وذلك بإذن ربهم، أي بتوفيقه وفضله وأمره. تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، ويحيون بعضهم بعضا بالسلام، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر 39/ 73] وقال سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد 13/ 23- 24] وقال عز وجل: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان 25/ 75] ويحييهم ربهم بالسلام: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس 36/ 58] وتحية بعضهم كما قال تعالى: دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس 10/ 10] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- العتاب والنزاع والخصام قائم بين أهل النار، فهذه محاورة بين القادة والأتباع تدل على عجز السادة عن تحقيق أي شيء لأتباعهم الذين اتبعوهم في الدنيا، فهم لا يستطيعون تخليص أنفسهم من عذاب الله، ولا تحقيق أي نفع لذواتهم، فبالأولى لا يتمكنون من نفع غيرهم، والكل لا يجدون مهربا ولا ملجأ من عذاب الله وعقابه على الكفر والعصيان، وذلك سواء صبروا على العذاب أو جزعوا وضجروا. 2- إقرار السادة بالضلال، فدعوا أتباعهم إلى الضلال، ولو هدوا وأرشدوا لأرشدوا غيرهم، وهذا كذب منهم، كما قال تعالى حكاية عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة 58/ 18] . 3- أعقب الله المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس، بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس، وموضوع المناظرتين

واحد: وهو تبرؤ المتبوع من التابع، ولكن الشيطان كان أصدق في هذه المحاورة من الإنسان لأنه أعلن أن الله وعد الناس وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال، فوفى لهم بما وعدهم، وأما هو فوعد الناس بخلاف ذلك وأنه لا بعث ولا جزاء، فأخلف الوعد. 4- قال الرازي عن آية إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي: هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس لأن الشيطان بيّن أنه ما أتى إلا بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال، لم يكن لوسوسته تأثير البتة، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس «1» . ومن المعلوم أن الملائكة والشياطين هي أجسام لطيفة، والله تعالى ركبها تركيبا عجيبا، ولا يستبعد أن تنفذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة أي في بنية الإنسان. 5- للظالمين عذاب أليم، لا مرد له، جزاء ظلمهم، أي كفرهم، فالعصيان والكفر باختيارهم وكسبهم. 6- للمؤمنين المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار، بأمر ربهم، ومشيئته وتيسيره، يحيون فيها بالسلام من الله تعالى، ومن الملائكة، وتكون تحية بعضهم بعضا هي السلام. 7- كانت مواعيد الشيطان باطلة، ووعد الله هو الحق، واتبع الناس قول الشيطان بلا حجة ولا برهان، وتبرأ الشيطان منهم ومن عملهم، فليس لهم لوم عليه، إنما عليهم اللوم، وأيأسهم بأنه لا نصر عنده ولا عون ولا إغاثة، بل هو محتاج إلى من ينصره، وكفر بشركهم له في الدنيا، وهذا تنبيه لهم مما سيلقونه من العذاب.

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 111 [.....]

مثال الكلمة الطيبة من السعداء ومثال الكلمة الخبيثة من الأشقياء [سورة إبراهيم (14) الآيات 24 إلى 27] :

مثال الكلمة الطيبة من السعداء ومثال الكلمة الخبيثة من الأشقياء [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) الإعراب: كَلِمَةً طَيِّبَةً بدل من مَثَلًا أو تفسير له، وكَشَجَرَةٍ صفة للكلمة أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي كشجرة. البلاغة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا تعجيب من حال الفريقين: السعداء والأشقياء. كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ في كل تشبيه مرسل مجمل. أَصْلُها.. وَفَرْعُها طَيِّبَةً وخَبِيثَةٍ في كل طباق. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي ألم تنظر كيف اعتمده ووضعه، والمثل: قول يشبّه بقول

المناسبة:

بينهما مشابهة في شيء محسوس، للتوضيح والبيان كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، والكلمة الطيبة: هي لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن، والشجرة الطيبة هي النخلة ثابِتٌ في الأرض بالعروق وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي أعلاها في جهة العلو تُؤْتِي تعطي أُكُلَها ثمرها كُلَّ حِينٍ كل وقت أقّته الله تعالى لإثمارها، أي أن كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعمله يصعد إلى السماء، ويناله ثوابه كل وقت. بِإِذْنِ رَبِّها بإرادته وَيَضْرِبُ ويبين لأن في هذا التشبيه زيادة إفهام وتذكير لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يتعظون فيؤمنوا كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ هي كلمة الكفر كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظل اجْتُثَّتْ استوصلت ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزلّون إذا افتتنوا في دينهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام وَفِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في موقف الحساب وعند رؤيتهم أهوال الحشر، وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر، فحينما يسألهم الملكان عن ربهم ودينهم ونبيهم، يجيبون بالصواب، كما في حديث الشيخين. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الكفار الذين ظلموا أنفسهم، فلا يهتدون للحق والجواب الصواب، بل يقولون: لا ندري، كما جاء في الحديث. وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أحوال الأشقياء وما آل إليهم أمرهم من العذاب في نار جهنم، وأحوال السعداء وإدراكهم الفوز عند ربهم، ذكر مثلا يبين حال الفريقين، وسبب التفرقة بينهما، بتشبيه المعنويات بالحسيات، لترسيخ المعاني في الأذهان، كما هو الشأن في القرآن. التفسير والبيان: ألم تعلم أيها المخاطب كيف اعتمد الله مثلا ووضعه في موضعه المناسب له وهو تشبيه الكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد والإسلام ودعوة القرآن، بالشجرة الطيبة وهي النخلة الموصوفة بصفات أربع هي: 1- كون تلك الشجرة طيبة المنظر والشكل، وطيبة الرائحة، وطيبة الثمرة، وطيبة المنفعة أي يستلذ بأكلها ويعظم الانتفاع بها.

2- أصلها ثابت، أي راسخ باق متمكّن في الأرض لا ينقلع. 3- وفرعها في السماء، أي كاملة الحال لارتفاع أغصانها إلى الأعلى، وبعدها عن عفونات الأرض، فكانت ثمراتها نقية طيبة خالية من جميع الشوائب. 4- تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي تثمر كل وقت وقّته الله لإثمارها بإرادة ربها وإيجاده وتيسيره. ولما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة، كان ذلك في حكم الحين. روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول: «لا إله إلا الله» وأن الشجرة الطيبة هي النخلة، وكذلك روي عن ابن مسعود أنها النخلة، وهو مروي عن أنس وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وحديث ابن عمر رواه البخاري، قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم- أو كالرجل المسلم- لا يتحاتّ ورقها صيفا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي النخلة» . وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.. أي وهكذا يضرب الله الأمثال للناس فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وعظة وتصوير للمعاني لأن تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة يرسّخ المعاني، ويزيل الخفاء والشك فيها، ويجعلها كالأشياء الملموسة. وفي هذا لفت نظر يدعو الإنسان إلى التأمل في عظم هذا المثل، والتدبر فيه، وفهم المقصود منه. ثم ذكر الله تعالى مثال حال كلمة الكفر، فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ.. أي وصفة الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر أو الشرك كصفة الشجرة الخبيثة وهي شجرة الحنظل ونحوه، كما قال أنس موقوفا فيما روى أبو بكر البزار، ومرفوعا

فيما روى ابن أبي حاتم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ: هي الحنظلة ، ووصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلاث هي: 1- أنها خبيثة الطعم أو لما فيها من المضار، أو الرائحة وهي الحنظلة، وقيل: الثوم، وقيل: الشوك. 2- اجتثت من فوق الأرض، أي اقتلعت واستؤصلت، وليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة. 3- ما لها من قرار، أي ليس لها استقرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية. وهذه صفات في غاية الكمال، فالخبث وصف للمضار، والاجتثاث وعدم القرار وصف للخلو عن المنافع. وبالموازنة يتبين الفرق بين كلمتي الحق والباطل، فكلمة الحق وهي كلمة التوحيد والإيمان قوية ثابتة نافعة للناس، وكلمة الباطل وهي كلمة الشرك أو الكفر ضعيفة ضارة ليس فيها استقرار ولا ثبات. وأصحاب الكلمة الأولى هم المؤمنون، وأولو الكلمة الثانية هم الكافرون والعصاة. ثم أخبر الله تعالى عن فوز أهل الكلمة الأولى بمرادهم في الدنيا والآخرة، فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ.. أي إن كرامة الله وثوابه ثابتان للمؤمنين في الآخرة بالقول الذي كان يصدر عنهم في الدنيا، وهو الإيمان المستقر بالحجة والبرهان في قلوبهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى. أو أن المراد أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا بعدم تعرضهم للفتنة في دينهم

بالرغم من التعذيب كبلال وغيره من الصحابة، فتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم، لم يزلّوا، كما ثبّت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد. وتثبيتهم في الآخرة: أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم في موقف الحساب، لم يتلعثموا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل وهو القول المشهور: معناه الثبات عند سؤال القبر، والمراد بالحياة الدنيا: مدة الحياة، والآخرة: يوم القيامة والحساب، روى البخاري ومسلم وأحمد وبقية الجماعة كلهم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وهذا مروي أيضا عن أبي هريرة. وروى ابن أبي شيبة الحديث المتقدم نفسه عن البراء أنه قال في الآية: التثبيت في الدنيا: إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟ قال: ربي الله، وقالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وقالا: وما نبيك؟ قال: نبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» . قال الرازي: القول المشهور: أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 122

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر الله تعالى مصير الكافرين بقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي ويمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه، أو يتركهم وضلالهم لعدم توافر استعدادهم للإيمان، وانزلاقهم في الأهواء والشهوات. أو يجعلهم يترددون في الجواب ويتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم عن دينهم ومعتقدهم روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الكافر إذا حضره الموت، تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره، أقعد، فقيل له: من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا، وأنساه الله تعالى ذكر ربه، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا، فذلك قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ. ثم أبان الله تعالى مشيئته المطلقة في الفريقين فقال: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي إن شاء هدى، وإن شاء أضل. وإضلالهم في الدنيا: أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزلّ أقدامهم أول شيء، وهم في الآخرة أضل وأزلّ. والضلال لسوء الاستعداد، والميل مع أهواء النفس. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الكلمة الطيبة وهي الإيمان أو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أو المؤمن نفسه: هي الثابتة الخالدة، الطيبة النافعة. روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة: الإيمان عروقها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، التأذي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكفّ عن محارم الله ثمرتها» . والشجرة الطيبة في الأصح: هي النخلة، ذكر الغزنوي والطبراني فيما رواه ابن عمر عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن كالنخلة، كل شيء منها ينتفع به» .

2- الأمثال والتشبيهات، وبخاصة تشبيه المعقول بالمحسوس، فيها ذكرى وعظة وعبرة، وإفهام وإيقاظ للمشاعر والضمائر، ولفت الأنظار، وشد الانتباه إليها. 3- الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر لا قرار لها ولا ثبات، ولا جدوى ولا نفع، ولا تعتمد على حجة مقبولة أو برهان صحيح. والشجرة الخبيثة في الأصح: شجرة الحنظل، كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك الكافر لا حجة له، ولا ثبات، ولا خير فيه، وليس له أصل يعمل عليه. 4- المقصود من الآية الدعوة إلى الإيمان، ورفض الشرك. 5- يثبّت الله المؤمنين على الحق والإيمان في الدنيا، فلا يتراجعون عنه، ويثبّت نفوسهم، فيلهمها الصواب والنطق بالإيمان في القبر لأن الموتى ما يزالون في الدنيا إلى أن يبعثوا، وكذلك يلهمها الصواب في الآخرة عند الحساب. 6- يضلّ الله الظالمين عن حجتهم في قبورهم، كما ضلّوا في الدنيا بكفرهم، فلا يلقّنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري فيقول الملك: لا دريت ولا تليت، وعند ذلك يضرب بالمقامع (سياط من حديد، رؤوسها معوجة) على ما ثبت في الأخبار. 7- يفعل الله ما يشاء من عذاب قوم وإضلال قوم، وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت، قال عمر: يا رسول الله، أيكون معي عقلي؟ قال: نعم، قال: كفيت إذن فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..

كفران النعمة واتخاذ الأنداد وتهديد الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا وأمر المؤمنين بإقامة الصلاة والإنفاق [سورة إبراهيم (14) الآيات 28 إلى 31] :

كفران النعمة واتخاذ الأنداد وتهديد الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا وأمر المؤمنين بإقامة الصلاة والإنفاق [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) الإعراب: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قَوْمَهُمْ: مفعول أول، ودارَ الْبَوارِ: مفعول ثان. جَهَنَّمَ: بدل من دارَ الْبَوارِ وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والتأنيث. يَصْلَوْنَها: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من قَوْمَهُمْ أو من جَهَنَّمَ أو منهما. يُقِيمُوا الصَّلاةَ جواب الأمر وهو أقيموا وتقديره: قل لهم: أقيموا يقيموا. ويجوز جزمه بلام مقدرة، تقديره: ليقيموا، ثم حذف الأمر لتقدم لفظ الأمر. ويجوز كونه مجزوما على أنه جواب قُلْ وهذا ضعيف لأن الأمر للنبي بالقول ليس فيه أمر لهم بإقامة الصلاة. سِرًّا وَعَلانِيَةً منصوبان على المصدر، أي إنفاق سر وعلانية، أو على الحال، أي ذوي سر وعلانية، أو على الظرف، أي وقتي سر وعلانية. البلاغة: سِرًّا، وَعَلانِيَةً بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

الْبَوارِ.. الْقَرارُ.. النَّارِ سجع مرصّع. قُلْ: تَمَتَّعُوا تهديد ووعيد. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ تنظر الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمته كفرا، بأن وضعوه مكانه، وهم كفار قريش وَأَحَلُّوا أنزلوا قَوْمَهُمْ الذين شايعوهم في الكفر، بإضلالهم إياهم دارَ الْبَوارِ دار الهلاك بحملهم على الكفر، والقوم البور: هم الهالكون كقوله تعالى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح 48/ 12] يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرها وَبِئْسَ الْقَرارُ أي وبئس المقر جهنم أَنْداداً شركاء، جمع ندّ: وهو المثل والشريك والشبيه لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وهو التوحيد أو دين الإسلام، وليس الضلال والإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد، لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض تَمَتَّعُوا بدنياكم قليلا. مَصِيرَكُمْ مرجعكم. قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. ومقول قُلْ محذوف، دل عليه جوابه، أي قل لعبادي الذي آمنوا: أقيموا يقيموا الصلاة سِرًّا وَعَلانِيَةً أي وقت السر والعلانية أو ذوي سر وعلانية، أو إنفاق سر وعلانية لا بَيْعٌ فِيهِ لا فداء، بأن يبيع ما يفدي به نفسه وَلا خِلالٌ مخالة، أي صداقة تنفع، وذلك اليوم هو يوم القيامة. سبب النزول: نزول الآية (28) : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا.. قال ابن عباس: هؤلاء هم كفار مكة. وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا في المبدّلين: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر- أو فكفيتموهم - وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا.. وهم أهل مكة، حيث أسكنهم الله تعالى حرمة الآمن، وجعل عيشهم في السعة، وبعث فيهم محمدا

التفسير والبيان:

صلّى الله عليه وسلّم، فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وأبان أسباب وقوعهم في سوء المصير في جهنم، ثم أمرهم على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع في نعيم الدنيا، ثم أمر المؤمنين بمجاهدة النفس والهوى بالصلاة والإنفاق. التفسير والبيان: يدعو الله تعالى إلى التعجب من أمر كفار مكة وأمثالهم الذين وصفهم الله بصفتين هما السبب الأول في دخولهم نار جهنم وهي: 1- بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمة الله كفرا، فإن شكر النعمة واجب عقلا وشرعا، لكنهم خرجوا عن هذا الواجب، وجعلوا بدل الشكر كفرا وجحودا. وهم كفار أهل مكة، وهو المشهور الصحيح عن ابن عباس في هذه الآية، قال ابن كثير: وإن كان المعنى يعم جميع الكفار، فإن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها، دخل الجنة، ومن ردّها وكفرها دخل النار. 2- وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي وأنزلوا قومهم الذين شايعوهم في الكفر، واتبعوهم في الضلال، دار الهلاك الذي لا هلاك بعده. ودار البوار هي جهنم مقر العذاب التي يدخلونها ويقاسون حرها، وبئس المقر جهنم. والسبب الثاني: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي واتخذوا لله شركاء عبدوهم معه، ودعوا الناس إلى ذلك، فقالوا في الحج مثلا: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. والسبب الثالث: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي اتخذوا الأنداد أو الشركاء لتكون عاقبة أمرهم إضلال من شايعهم واتبعهم، وصرفهم عن دين الله، وإبقاءهم

في مرتع الكفر. فاللام في لِيُضِلُّوا لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ولأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم، أي أن المقصود لا يحصل إلا في آخر المراتب. ثم قال تعالى مهددا ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: تَمَتَّعُوا.. أي تمتعوا بما قدرتم عليه من نعيم الدنيا، فإن جزاءكم ومرجعكم وموئلكم إلى النار، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] وقال سبحانه: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس 10/ 70] . وسمي ذلك تمتعا لأنهم تلذذوا به، ولأنه بالنسبة إلى عقاب الآخرة تمتع ونعيم. ونظير الآية في أمر التهديد: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقوله: قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا، إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر 39/ 8] . وبعد تهديد الكفار على تمتعهم في الدنيا، أمر الله نبيه بأن يبلّغ الناس ويأمرهم بإقامة الصلاة التي هي عبادة بدنية، والإنفاق في سبيله وهو عبادة مالية، فقال: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يأمر الله تعالى عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله، بأداء الزكوات، والنفقة على القرابات، والإحسان إلى الأباعد. وإقامة الصلاة: أداؤها مستكملة أركانها وشروطها، مع المحافظة على وقتها، والخشوع لله في جميع أجزائها. ويكون الإنفاق مما رزق في السرّ (أي في الخفية) والعلانية وهي الجهر، قال البيضاوي: والأحب إعلان الواجب (أي في النفقة) وإخفاء المتطوع به (أي المتبرع أو المتصدق به) .

فقه الحياة أو الأحكام:

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ.. أي وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم، من قبل أن يأتي يوم القيامة، الذي لا بيع فيه، أي لا يقبل من أحد فيه فدية، بأن تباع نفسه، ولا تفيد فيه صداقة، للصفح والعفو والتخلص من العقاب، بل هناك العدل والقسط، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد 57/ 15] وقال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة 2/ 123] وقال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ، وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآية بيان الفرق بين فريقي الكفار والمؤمنين، أما الكافرون فاستحقوا دخول دار البوار: جهنم لأسباب ثلاثة: هي تبديلهم شكر نعمة الله عليهم كفرانا وجحودا، واتخاذ الأنداد أي الشركاء وهي الأصنام التي عبدوها، وإضلالهم الناس عن دين الله القويم، بمعنى أن عاقبتهم إلى الإضلال والضلال، ومردهم ومرجعهم إلى عذاب جهنم. وأما المؤمنون فلهم الجنة بسبب إقامة الصلوات الخمس المفروضة، والإنفاق في سبيل الله، بأداء الزكاة الواجبة، والتطوع بالصدقات المستحبة، بإعلان الواجب، وإخفاء التطوع، كما قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة 2/ 271] . ودلت الآية على أنه لا ينفع يوم القيامة فداء ولا صداقة، وأن الطاعات الأساسية ثلاث: الإيمان بالله تعالى، وشغل النفس بخدمة المعبود في الصلاة،

أدلة وجود الله والتوحيد في الكون والأنفس [سورة إبراهيم (14) الآيات 32 إلى 34] :

وصرف المال وبذله في طاعة الله تعالى، ليجد الإنسان ثواب ذلك الإنفاق في يوم لا مبايعة فيه ولا مخالّة، إلا المخالة التي يشترك فيها الأخلاء في عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] . أدلة وجود الله والتوحيد في الكون والأنفس [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) الإعراب: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مبتدأ وخبر. رِزْقاً منصوب على المصدرية أو مفعول: فَأَخْرَجَ ومِنَ الثَّمَراتِ بيان له، وحال منه. دائِبَيْنِ حال من الشمس والقمر، وذكّر تغليبا للقمر على الشمس لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث، غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث، لأن التذكير هو الأصل. مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بالإضافة، على تقدير مفعول محذوف، أي وآتاكم سؤلكم من كل ما سألتموه، مثل قوله تعالى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 27/ 16] أي أوتينا من كل شيء شيئا. ومن قرأ بالتنوين مِنْ كُلِّ كان المفعول ملفوظا به، أي وآتاكم ما سألتموه من كل شيء. وما هاهنا: نكرة موصوفة، وسَأَلْتُمُوهُ: جملة فعلية صفة لها.

البلاغة:

البلاغة: لَظَلُومٌ كَفَّارٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعّال. المفردات اللغوية: السَّماواتِ جمع سماء، ولا نعرف حقيقتها، ولكن كل ما علا الإنسان وأظله فهو سماء. رِزْقاً لَكُمْ الرزق: كل ما ينتفع به، ويشمل المطعوم والملبوس. وَسَخَّرَ ذلل أو أعد ويسّر. الْفُلْكَ السفن. بِأَمْرِهِ بإذنه أو بمشيئته إلى حيث توجهتم. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ جعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم. دائِبَيْنِ دائمين في الحركة أو السير، والإنارة والإصلاح، لا يفتران. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان، فالليل للنوم والسكن فيه والنهار للمعاش وابتغاء الفضل. وَآتاكُمْ أعطاكم. ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الحال، على حسب مصالحكم. نِعْمَتَ اللَّهِ إنعامه، وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. لا تُحْصُوها لا تطيقوا حصرها. إِنَّ الْإِنْسانَ الكافر. لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي كثير الظلم لنفسه بالمعصية وإغفال شكرها، وكثير الكفر أو الجحود لنعمة ربه. المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى أوصاف أحوال السعداء والأشقياء، أتبعه بالأدلة الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته ووحدانيته، ليدل على وجوب شكر الصانع الموجد لها، ويقرّع الكافرين الذين أعرضوا عن التفكر في تلك النعم. التفسير والبيان: يعدد الله تعالى في هذه الآيات نعمه على خلقه، ويشير إلى دلائل وجوده وقدرته، وهي عشرة أدلة: 1- خَلَقَ السَّماواتِ: الله هو الذي خلق السموات سقفا محفوظا، وزيّنها بزينة الكواكب. 2- وخلق الأرض فراشا وما فيها من المنافع الكثيرة لكم أيها الناس.

3- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ: أي السحاب مطرا أحيا به الأرض بعد موتها، وأنبت به الشجر والزرع، وأخرج به ما يحتاجه الإنسان من الأرزاق للأكل والعيش، بواسطة الثمار والزروع المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، كقوله تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه 20/ 53] . 4- وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ: أي وذلل لكم السفن، بأن ألهمكم صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجري في البحر من بلد لآخر للركوب والحمل، بإذن الله ومشيئته. 5- وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ: أي فجر لكم ينابيع الأنهار، وشقّ الأرض من مسافة إلى مسافة، للشرب وسقي الزروع والأشجار والبهائم وغيرها من المنافع. 6، 7- وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ: أي ذللهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة، لا يفتران ليلا ولا نهارا لإصلاح حياة الإنسان والنبات وغيرهما كما قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 40] . 8، 9- وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ: أي جعلهما يتعاقبان، ويتعارضان، فمرة يطول الليل كما في الشتاء، ومرة يطول النهار كما في الصيف، ويقصر الآخر، وبالعكس، والنهار للسعي والكسب والمعاش وشؤون الدنيا، والليل للنوم والسبات والسكن فيه كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ

اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 29] وقال سبحانه: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص 28/ 73] . 10- وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي أعطاكم أيها البشر سؤلكم من كل ما شأنه أن يسأل، ويحتاج إليه، وينتفع به، سواء سألتموه أو لم تسألوه، أو أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا، والخطاب لجنس البشر لأن الله خلق لكم ما في الأرض جميعا، وترك استخراجها واختراع ما يكتشف منها لعقولكم بمقتضى تطور العقل البشري، وتقدم الحياة المدنية، وبالتدريج، وقد وصل الإنسان في القرن العشرين إلى قمة الاكتشاف والابتكار في مختلف المجالات، معتمدا على طاقات البخار والهواء والنفط والكهرباء والذرة وغيرها. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إن أردتم تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تطيقوا حصرها لكثرتها. والنعمة هنا قائمة مقام المصدر، بمعنى الإنعام، كالنفقة والإنفاق، ويدل ذلك على العموم لأن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. والمقصود من الجملتين الأخيرتين: وَآتاكُمْ.. وَإِنْ تَعُدُّوا الإخبار عن عجز العباد عن تعداد النعم، فضلا عن القيام بشكرها. فبعد أن ذكر الله تعالى تلك النعم العظيمة، أبان أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع ما لا يتأتى معه الإحصاء، بقوله: وَآتاكُمْ.. ثم ختم الكلام بقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا ليبين أنه آتى العباد من كل ما احتاجوا إليه، مما لا تصلح الأحوال والمعيشة إلا به. قال طلق بن حبيب رحمه الله تعالى: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفّي، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربنا» وقال

الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها» . إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي إن الإنسان يظلم النعمة بإغفال شكرها، شديد الكفران لها، والمراد بالإنسان هنا الجنس، فلا يراد به الواحد، بل يراد به الجمع، أي توجد فيه هذه الخلال، وهي الظلم والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها. ويلاحظ أنه تعالى قال هنا: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل [18] : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ والفرق بين الخاتمتين: أن الكلام هنا مناسب لتعداد قبائح الإنسان من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، وأما في سورة النحل فيناسب ما ذكر في الآية من تعداد فضائل الله على الإنسان، ومنها اتصافه بالمغفرة والرحمة، تحريضا على الرجوع إليه «1» . وقال الرازي عن الفرق بين الآيتين: كأنه تعالى يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة، فأنت الذي أخذتها، وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها، وهما كوني غفورا رحيما. والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم، أعلم عجزك وقصورك، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء «2» .

_ (1) البحر المحيط: 5/ 428- 429 (2) تفسير الرازي: 19/ 130- 131

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي: 1- لقد أقام الله تعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته وعلمه ووحدانيته، منها هذه الأدلة العشرة التي ذكرها في الآية من خلق السموات والأرض، وإنزال المطر من السحاب.. إلخ. 2- إن نعم الله تعالى على البشر لا تعد ولا تحصى لكثرتها، ولدقة إدراكها وخفائها أحيانا، كخزائن السموات والأرض، وعجائب تكوين الإنسان، وبخاصة دماغه وحواسه من سمع وبصر وملاحظة الصور، وغير ذلك من نعمة العافية، والإمداد بالرزق منذ كونه جنينا في بطن أمه، إلى حين ولادته وطفولته، إلى شبابه وكهولته وشيخوخته، وتقلّبه في أنحاء الأرض، إلى موته فلقاء ربه. 3- إن النعم على الإنسان من الله، فلم يبدل نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعان بها على الطاعة؟! إن من شأن الإنسان ظلم النعمة بإغفال شكرها، وكفرانها وجحودها. والإنسان: جنس، أراد به العموم، وقال بعض المفسرين: وأراد به الخصوص كأبي جهل وجميع الكفار. دعاء إبراهيم عليه السلام مستقبل البيت الحرام [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

الإعراب:

الإعراب: أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي المفعول محذوف، تقديره: أسكنت ناسا من ذريتي بواد. لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ متعلق بأسكنت، وفصل بينهما بقوله: رَبَّنا لأن الفصل بالندا كثير في كلامهم. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي مقيمي الصلاة، فحذف الفعل لدلالة ما قبله عليه. البلاغة: تَبِعَنِي وعَصانِي نُخْفِي ونُعْلِنُ الْأَرْضِ والسَّماءِ بين كلّ طباق. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تهوي: فيه استعارة لأن حقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض، كالهبوط، والمراد: تسرع إليهم شوقا وحبا من مكان بعيد، بعكس «تحنّ» فهو قد يكون من المقيم بالمكان. اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ عرّف البلد هنا، ونكّر في سورة البقرة اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً لأنه في البقرة كان دعاؤه قبل بنائها، فطلب أن تجعل بلدا وآمنا، وهنا كان بعد بنائها، فطلب أن تكون بلد أمن واستقرار.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: هَذَا الْبَلَدَ بلد مكة آمِناً ذا أمن لمن فيها وَاجْنُبْنِي أبعدني. أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ عن أن نعبد. رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بعبادتهم لها، فلذلك سألت منك العصمة، واستعذت بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية. فَمَنْ تَبِعَنِي على التوحيد فَإِنَّهُ مِنِّي من أهل ديني. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن عصاني دون الشرك، فإنك تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وقوله: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه حين يؤمنوا لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر بعد إيمانه ما كان منه سابقا، لكنه عليه السلام استعمل هذه العبارة التي ظاهرها أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك، بسبب ما كان يأخذ به نفسه من القول الجميل، والنطق الحسن، وجميل الأدب. مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعضها، وهو إسماعيل مع أمه هاجر. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي مكة، فإنها حجرية لا تنبت. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرمت التعرض له والتهاون به، أو لم يزل معظما تهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان، فلم يستول عليه، ولذلك سمي عتيقا، أي أعتق منه. أَفْئِدَةً قلوبا. مِنَ النَّاسِ بعضهم. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا وحبا، قال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس، لحنّت إليه فارس والروم والناس كلهم. والمقصود من الدعاء لإقامة الصلاة: توفيقهم لها، أو الدعاء لهم بإقامة الصلاة. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي بالإنبات في الوادي مع سكناهم. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة، فأجاب الله تعالى دعوته، فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية والشتوية في يوم واحد. نُخْفِي نسرّ. مِنْ شَيْءٍ من: زائدة أو للاستغراق، وقول وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. يحتمل أن يكون من كلامه تعالى أو كلام إبراهيم. والمقصود من قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى، والرغبة في الإجابة. وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه. وَهَبَ لِي أعطاني. عَلَى الْكِبَرِ مع الكبر، ولد إسماعيل ولأبيه تسع وتسعون سنة، وولد إسحاق ولأبيه مائة واثنتا عشرة سنة. اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مواظبا عليها. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيمها، وأتى بمن لإعلام الله تعالى له أن منهم كفارا. وَلِوالِدَيَّ هذا قبل أن يتبين له عداوتهما لله عز وجل، وقيل: أسلمت أمه. وقيل: أراد بهما آدم وحواء. يَقُومُ الْحِسابُ يثبت ويتحقق ويوجد.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى بالأدلة المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى أصلا، وطلب من رسوله أن يعجب من حال قومه الذين عبدوا الأصنام، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه دعا أن يجعل مكة بلد أمان واستقرار، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكن بعض ذريته عند البيت الحرام ليعبدوه وحده بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وأنه شكر الله تعالى على منحه بعد الكبر واليأس من الولد ولدين هما إسماعيل وإسحاق، وأنه طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يوجد الحساب. والخلاصة: إن إبراهيم عليه السلام هو القدوة والنموذج لعبادة الله عز وجل، فليقتد به من ينتمون إليه. التفسير والبيان: هذا تذكير من الله تعالى واحتجاج على مشركي العرب بأن مكة البلد الحرام إنما وضعت منذ القدم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم عليه السلام تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن والاستقرار في ظلّ التوحيد، فقال: رَبِّ اجْعَلْ.. أي واذكر يا محمد لقومك حين دعا إبراهيم بقوله: ربي اجعل مكة بلدا آمنا أي ذا أمن واستقرار، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، وقد أجاب الله دعاءه، فجعله آمنا للإنسان والطير والنبات، فلا يقتل فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يعضد شجره، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [العنكبوت 29/ 67] وقال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] . وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.. أي وباعدني يا رب وبني من عبادة الأصنام، واجعل عبادتنا خالصة لك على منهج التوحيد. وهذا دليل على أنه ينبغي لكل

داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. وقد استجاب الله دعاه في بعض ذريته دون بعض. وكان هذا الدعاء حين ترك هاجر وابنه إسماعيل، وهو رضيع، في مكة، قبل بناء البيت الحرام. ثم ذكر أنه افتتن بعبادة الأصنام كثير من الناس فقال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ.. أي يا رب إن الأصنام كانت سببا في ضلال كثير من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن. وقد أضيف الإضلال إلى الأصنام لأنها كانت سببا في الضلال عند عبادتها، وذلك بطريق المجاز، فإن الأصنام جمادات لا تفعل. فَمَنْ تَبِعَنِي.. أي فمن صدقني في ديني واعتقادي، وسار على منهجي في الإيمان بك وبتوحيدك الخالص، فإنه مني، أي على سنتي وطريقتي، مثل «من غشنا فليس منا» أي ليس على سنتنا، ومن عصاني فلم يقبل ما دعوته إليه من التوحيد لك وعدم الشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة. وهذا صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة غير الكفار لأنه عليه السلام تبرأ في مقدمة هذه الآية عن الكفار بقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، ولأنه أيضا بقوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه، فإنه ليس منه، ولا يهتم بإصلاح شؤونه، ولأن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، فكان قوله: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ شفاعة في العصاة غير الكفار. عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ.. الآية، وقول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله تعالى: اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك

أعلم، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله تعالى: اذهب إلى محمد، فقال له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك. ثم دعا إبراهيم بدعاء ثان بعد بناء البيت الحرام لقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. وبعد الدعاء الأول الذي كان قبل بناء البيت، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ.. أي يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه، بواد لا زرع فيه وهو وادي مكة، عند بيتك المحرم أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إليه شوقا ومحبة، وتحن وتميل إلى رؤيته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختص به المسلمون. وارزق ذريتي من أنواع الثمار الموجودة في سائر الأقطار، ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع، فاجعل لهم ثمارا يأكلونها. وقد استجاب الله دعاءه، كما قال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص 28/ 57] وتحقق فضل الله ورحمته وكرمه، فبالرغم من أنه ليس في البلد الحرام: «مكة» شجرة مثمرة، فإنه تجبى إليها ثمرات ما حولها من البلاد، من أنواع ثمار الفصول الأربعة، استجابة لدعاء الخليل عليه السلام. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي وارزقهم من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نعمتك، أو رجاء أن يشكروك بإقامة الصلاة وكثرة العبادة. وفيه إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو للاستعانة بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ.. أي أنت تعلم قصدي في دعائي، وهو التوصل إلى رضاك والإخلاص لك، وأنت أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وتعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، فلا حاجة لنا إلى الطلب، وإنما ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك. وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. أي ولا يغيب عن الله شيء في الأرض أو في السماء، فكله مخلوق له، وهو عالم به. وهذا من كلام الله عز وجل، تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل 27/ 34] أو من كلام إبراهيم، يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة من شيء في كل مكان. ومِنْ للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما. ثم حمد إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. أي الحمد والشكر كله لله الذي أعطاني ومنحني الولد بعد الكبر والإياس من الولد، أعطاني ولدين هما إسماعيل وأمه هاجر وإسحاق وأمه سارّة. وقدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. وقيل: لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة. وقوله: عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذه السن أعظم إذ الظفر بالحاجة وقت اليأس من أعظم النعم، ولان الولادة في تلك السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم. إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي إن الله ربي سامع دعائي وقولي، ومجيب من دعاه، وعالم بالمقصود، سواء صرحت به أو لم أصرح. وقال هذا لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض، لا على وجه الإيضاح والتصريح.

ومناسبة قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي.. لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. هو لمراعاة الأدب الجم مع الله تعالى، فهو عليه السلام كان يريد أن يطلب من الله إعانة زوجه هاجر وابنه إسماعيل بعد موته، ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل ذكر أنك يا رب تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم نوّه بحال ذريته بعد موته، فكان هذا دعاء لزوجه وابنه بالخير والمعونة بعد موته، على سبيل الرمز والتعريض. وذلك- كما قال الرازي- يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة أفضل من الدعاء، قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه أنه قال فيما رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطيت السائلين» . ثم دعا بما يكون دليلا على شكر الله فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ.. أي رب اجعلني مؤديا صلاتي على أتم وجه، محافظا عليها، مقيما لحدودها. واجعل بعض ذريتي كذلك مقيمي الصّلاة لأن مِنْ للتبعيض. وخص الصلاة بالذكر لأنها عنوان الإيمان، ووسيلة تطهير النفوس من الفحشاء والمنكر. رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي اقبل يا رب دعائي، أو عبادتي في رأي ابن عباس بدليل قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم 19/ 48] . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة وغيرهم عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي.. أي ربنا استرني وتجاوز عن ذنوبي وذنوب والدي وذنوب المؤمنين كلهم يوم يثبت ويوجد الحساب فتحاسب عبادك على أعمالهم

فقه الحياة أو الأحكام:

الخيرة والشريرة. قال الحسن: إن أمه كانت مؤمنة، وأما استغفاره لأبيه فكان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين أنه عدو لله، تبرأ منه، كما قال عز وجل: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة 9/ 114] . ودعاء إبراهيم لنفسه لا يلزم منه صدور ذنب منه، وإنما المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتماد على فضله وكرمه ورحمته. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تعليمنا طلب نعمة الأمان من الله، فابتداء إبراهيم عليه السلام بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به. 2- مشروعية الدعاء للنفس والذرية والبلاد، بل ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. 3- كان دعاء إبراهيم مركّزا حول إخلاص التوحيد لله عز وجل، وتجنب عبادة الأصنام والأوثان، التي كانت سببا في إضلال كثير من الناس، فدعاؤه جمع بين طلب أن يرزق التوحيد، وبين طلب صونه عن الشرك، وتضمن أيضا طلب توفيقه لصالح الأعمال، وتخصيصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة. 4- الالتفاف حول النبي أو المصلح واجب لقول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي. 5- طلب المغفرة للعصاة غير الكفار لأن الشرك أو الكفر لا يجوز

بالإجماع طلب إسقاطه ومغفرته لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . 6- إسكان إبراهيم زوجه وابنه إسماعيل عند البيت الحرام كان لإقامة الصلاة. وقد روى البخاري عن ابن عباس ما مفاده أن إبراهيم ترك هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثّنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ. وبعد أن نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، فجعلت تسعى سعي المجهود بين الصفا والمروة، سبع مرات، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» ثم سمعت وهي على المروة صوتا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو بجناحه، حتى ظهر الماء. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تشتفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه، وهي هزمة «1» جبريل، وسقيا الله إسماعيل» .

_ (1) هزمة جبريل: أي ضربها برجله فنبع الماء.

7- لا يجوز لأحد أن يفعل فعل إبراهيم في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة، اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله تعالى، لقوله في الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى. 8- تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها لأن معنى رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. 9- كان من بركة دعاء إبراهيم عليه السلام واستجابة الله له أن التعلق بالبيت الحرام وحبه والشوق إليه والحنين إلى زيارته متمكن في قلب كل مؤمن. وقال ابن عباس في الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً: سأل أن يجعل الله الناس يهوون السّكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان، والحمد لله، وأول من سكنه جرهم. وأن مكة أصبحت ملتقى الأثمار والفواكه الآتية من كل الأنحاء والأمصار، وأنبت الله لهم بالطائف سائر الأشجار. 10- احتج أهل السنة بآية وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ على أن أفعال العبد مخلوقة الله تعالى، وهذا يشمل ترك المنهيات المنصوص عليه في هذه الآية: وَاجْنُبْنِي وفعل المأمورات المنصوص عليه في آية: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرا على أن الكل من خلق الله تعالى. 11- دلّ القرآن على أنه تعالى أعطى إبراهيم عليه السلام ولدين هما إسماعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة، ولم يتعرض القرآن لسن إبراهيم في ذلك الوقت، وإنما يؤخذ من روايات التاريخ.

ما يدل على وجود القيامة وأوصافها أو تأخير عذاب القيامة وأحوال المعذبين وتبدل السموات والأرض [سورة إبراهيم (14) الآيات 42 إلى 52] :

ما يدل على وجود القيامة وأوصافها أو تأخير عذاب القيامة وأحوال المعذبين وتبدل السموات والأرض [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الإعراب: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ حال من ضمير يُؤَخِّرُهُمْ وتقديره: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار في هاتين الحالتين.

البلاغة:

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ.. يَوْمَ: مفعول أَنْذِرِ الثاني ولا يجوز أن يكون ظرفا لأنذر لأنه يؤدي إلى أن يكون الإنذار يوم القيامة، ولا إنذار يوم القيامة. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ فعل ماض فاعله مقدر، أي تبين لكم فعلنا بهم، ولا يجوز أن يكون كَيْفَ فاعل تَبَيَّنَ لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله، ولأن كَيْفَ لا يقع مخبرا عنه، والفاعل يخبر عنه، وإنما كَيْفَ هنا منصوبة بقوله: فَعَلْنا. لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ اللام لام الجحود، والفعل منصوب بتقدير «أن» . و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، على التصغير والتحقير لمكرهم. ومن قرأ بفتح اللام وضم آخر الفعل «لتزول» كانت اللام للتأكيد، ودخلت للفرق بين «إن» المخففة من الثقيلة وبين «إن» بمعنى «ما» أي وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكان هنا تامة بمعنى وقع، والجبال: عبارة عن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لعظم شأنه. مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ أي مخلف رسله وعده. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. يوم منصوب على الظرف بالمصدر قبله، وهو انتِقامٍ. وما بعد وَالسَّماواتُ محذوف أي غير السموات، لدلالة غَيْرَ الْأَرْضِ عليه. لِيَجْزِيَ اللَّهُ.. اللام تتعلق بفعل وَتَغْشى أو بفعل وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أو بمحذوف دل عليه قوله: ذُو انتِقامٍ. وَلِيُنْذَرُوا فيه تقدير، أي هذا بلاغ للناس وللإنذار لأن «أن» المقدّرة بعد اللام مع «ينذروا» في تأويل المصدر، وهو الإنذار. أو تقديره: هذا بلاغ للناس وأنزل لينذروا به، كقوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف 7/ 2] . البلاغة: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ فيه جناس الاشتقاق. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ حذف منه: «والسموات تبدل غير السموات» لدلالة غَيْرَ الْأَرْضِ. وَبَرَزُوا عبر بالماضي محل المضارع «يبرزون» للدلالة على تحقق الوقوع، مثل أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل 16/ 1] أي فكأنه حدث ووقع، فأخبر عنه بصيغة الماضي. المفردات اللغوية: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ.. خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد تثبيته على ما هو عليه من أنه مطلع

على أحوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه خافية، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة، أو هو خطاب لكل من توهم غفلته جهلا بصفات الله واغترارا بإمهاله. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يؤخر عذابهم. أماكنها، لهول ما ترى، يقال: شخص بصر فلان، أي فتحه فلم يغمضه. مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي ومقبلين، وأصله الإقبال على الشيء. مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعيها إلى السماء ناظرة أمامها. لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم بصرهم، بل تبقى عيونهم شاخصة لا تطرف. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قلوبهم خالية من العقل والفهم لفزعهم، وفرط الحيرة والدهشة. وَأَنْذِرِ النَّاسَ خوف يا محمد الكفار. يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هو يوم القيامة، أو يوم الموت، فإنه أول أيام عذابهم. الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر أو الشرك والتكذيب. رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ أخر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك، ونجيب دعوتك بالتوحيد. وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ الذين أرسلتهم، وهذا وما قبله جواب الأمر، ونظيره: أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين 63/ 10] . أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ يقال لهم توبيخا، أي حلفتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت. مِنْ قَبْلُ في الدنيا. مِنْ زَوالٍ مِنْ: زائدة، أي زوال عن الدنيا إلى الآخرة. الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي كعاد وثمود. كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من العقوبة وما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم، فلم تنزجروا. وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ بينا لكم الأمثال في القرآن فلم تعتبروا، وأنكم مثلهم في الكفر والعذاب. وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أرادوا قتله أو تقييده أو إخراجه، وبذلوا فيه غاية جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي علمه أو جزاؤه. وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وما كان مكرهم، وإن عظم، معدّا لإزالة الجبال، أي لا يعبأ به ولا يضر إلا أنفسهم، فهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا، والمراد بالجبال هنا: حقيقتها، وقيل: شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. ومن قرأ بفتح لام لِتَزُولَ ورفع الفعل، فتكون «إن» مخففة، والمراد تعظيم مكرهم، مثل قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم 19/ 90] . مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء ذُو انتِقامٍ قادر من الانتقام لأوليائه من أعدائه وكل من عصاه. يَوْمَ تُبَدَّلُ اذكر ذلك وهو يوم القيامة، فيحشر الناس على أرض بيضاء نقية، كما في حديث الصحيحين. وَبَرَزُوا خرجوا من القبور. وَتَرَى تبصر يا محمد. الْمُجْرِمِينَ الكافرين. مُقَرَّنِينَ أي مشدودين مع بعض أو مع

المناسبة:

شياطينهم. فِي الْأَصْفادِ في القيود أو الأغلال، جمع صفد. سَرابِيلُهُمْ قمصهم، جمع سربال وهو القميص. مِنْ قَطِرانٍ لأنه أبلغ لاشتعال النار، والقطران: أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران، ووحشة لونه، ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. والقطران: دهن يتحلب من شجر العرعر والتوت، كالزفت، تدهن به الإبل حال الجرب، ويقال له: الهناء، تهنأ به الإبل الجربي، أي تطلي. وَتَغْشى تعلو وتحيط بها. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ متعلق بقوله: وَبَرَزُوا، فتجازى كل نفس مجرمة أو مطيعة بما فعلت في الدنيا من خير أو شر. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب جميع الخلق، في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث ورد بذلك. هذا القرآن. بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي أنزل لتبليغهم، وهو كفاية في العظة والتذكير. وَلِيَعْلَمُوا بما فيه من الحجج. أَنَّما هُوَ أن الله إله واحد. وَلِيَذَّكَّرَ وليتعظ. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وبعد أن حكى عن إبراهيم أنه طلب من الله أن يصونه من الشرك وأن يوفقه لصالح الأعمال، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة، ذكر ما يدل على وجود يوم القيامة بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ وما يدل على صفة يوم القيامة بقوله: تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ.. إلخ. التفسير والبيان: ولا تحسبن يا محمد أن الله إذا أنظر الناس وأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم، ويعده عليهم عدا. والمقصود من الآية إثبات وجود يوم القيامة بطريق التنبيه على أنه تعالى سينتقم للمظلوم من الظالم. وهو وإن كان خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم صورة، فالمراد به أمته، بأسلوب «إياك أعني واسمعي يا جارة» . وفيه تسلية للمؤمنين، وتهديد للظالمين بأن الله يحصي

عليهم أعمالهم ويعلم بها، وسيجزيهم على ظلمهم في الوقت المناسب، فعقابهم آت لا محالة لأن العلم بالظلم الصادر منهم موجب لعقابهم. ثم بيّن الله تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بالصفات التالية: 1- أنه تشخص فيه الأبصار، أي أنه يمهلهم ويؤخرهم ليوم شديد الهول، ومن شدة أهواله تظل الأبصار فيه مفتوحة لا تطرف ولا تغمض، من شدة الفزع والحيرة والدهشة. ثم وصف كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال: 2- مُهْطِعِينَ أي أنهم يأتون من قبورهم إلى المحشر مسرعين بالذل والمهانة، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر 54/ 8] وقال سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً إلى قوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.. [طه 20/ 108- 111] وقال عز وجل: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً.. [المعارج 70/ 43] . 3- مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم، ينظرون في ذل وخشوع، ولا يلتفتون إلى شيء. 4- لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم، بل تظل أبصارهم شاخصة مفتوحة تديم النظر، لا يطرفون ولا يغمضون، لكثرة ما هم فيه من شدة الهول والفزع، والمراد من هذه الصفة دوام الشخوص. 5- وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي وقلوبهم خاوية خالية لا شيء فيها من القوة، مضطربة، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار خالية من الخواطر لعظم الحيرة، ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب، وخالية من كل سرور لكثرة الحزن.

ووقت حصول هذه الأوصاف عند المحاسبة لأنه تعالى ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب. ثم ذكر تعالى مقالة هؤلاء المعذبين حين رؤية الهول، فقال: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ... أي وخوّف أيها النبي الناس جميعا من أهوال عذاب يوم القيامة، حين يقول الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب هلعا وجزعا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي ردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى وقت آخر قريب العودة إليك، نتدارك فيه ما فرطنا في الدنيا، من إجابة دعوتك إلى التوحيد وإخلاص العبادة لك، واتباع رسلك فيما أرسلتهم به، مثل قوله تعالى: أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون 63/ 10] وكقوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ.. [المؤمنون 23/ 99- 100] . فرد الله تعالى عليهم موبخا لهم بقوله: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.. أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة حينما كنتم في الدنيا: أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، أي كنتم تنكرون البعث والحساب، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى، كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل 16/ 38] فذوقوا هذا العذاب بذلك الإنكار. وَسَكَنْتُمْ.. أي والحال أنكم أقمتم في الظلم والفساد، وصاحبتم الظالمين لأنفسهم، وسرتم سيرتهم، بالرغم من أنه تبين لكم، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق، وعاينتم آثار عذابهم، وظهر لكم أن عاقبتهم آلت إلى الوبال والخزي والنكال، وضربنا لكم الأمثال، وهو ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة، كما قدر على الابتداء،

وقادر على التعذيب المؤجل، كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فلم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر، فكيف تطلبون العودة والتأخير للتوبة؟! وقد فات الأوان. ثم بيّن الله تعالى تشابه أحوالهم مع أحوال السابقين، فقال: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي إن هؤلاء الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم لم تتغير حالهم عن حال من سبقهم، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي وعند الله العلم بمكرهم، أو جزاؤهم، فكل شيء معلوم منهم، ومكتوب ومسجل عليهم، وسيجازيهم عليه الجزاء العادل، ويحاسبهم الحساب الشديد. ثم ذكر الله تعالى وقت انتقامه فقال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح 71/ 22] فمحال أن تزول الجبال بمكرهم، والمراد بالجبال آيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما ضر أنفسهم، وعاد وبال ذلك عليهم. والمقصود تصغير مكرهم وتحقيره وتهوينه، فليس من شأنه إزالة الآيات وإبطال النبوات الثابتة ثبوت الجبال، والجبال لا تزول، ولكن العبارة مجاز عن تعظيم الشيء ووصفه كيف يكون. وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده، بل هو منجز لهم ما وعدهم به، والمراد تثبيت أمته على الثقة بوعد ربه بنصرهم وتعذيب الظالمين، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ

عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] وآية فَلا تَحْسَبَنَّ هنا هي تقرير وتأكيد لهاتين الآيتين، أي من نصرتكم في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ أي إن الله ذو عزة وقدرة لا يعجزه ولا يمتنع عليه شيء أراده، وشاء عقوبته، وهو ذو انتقام ممن كفر به وجحده، أو أشرك معه إلها آخر. وهذه خاتمة مناسبة للآية، تؤكد الحرص على إنجاز الوعد للرسل. ثم ذكر تعالى وقت انتقامه فقال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر، وأما السموات فتتبدد كواكبها وشمسها وقمرها. جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ، ليس فيها معلم لأحد» . وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط» . واختلف العلماء في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسيّر عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت «1» ،

_ (1) الأمت: المكان المرتفع والتلال الصغار، والانخفاض والارتفاع.

قال ابن عباس: هي تلك الأرض، وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها. وقيل: يخلق بدلها أرضا وسموات أخر، عن ابن مسعود وأنس: «يحشر الناس على أرض بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئته» «1» . والعلماء يقررون أن الأرض والكواكب كانت كتلة ملتهبة في الفضاء، ثم انفصلت عنها الشمس والكواكب السيارة، ثم الأرض، ثم الأقمار. وستنحل هذه المجموعة، وتكون سموات غير هذه السموات، وأرض غير هذه الأرض. وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي وخرجت الخلائق جميعها من قبورهم انتظارا لحكم الله الوحد، الذي قهر كل شيء وغلبه، كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] وفي هذا تهويل وتخويف. ولما وصف الله تعالى نفسه بكونه قهارا، أبان عجز الناس وذلتهم أمامه، وذكر من صفاتهم: 1- كون المجرمين مقرنين في الأصفاد، أي ترى يا محمد المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود، فيجمع بين النظراء أو الأشكال، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] وقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير 81/ 7] أي تقرن نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين وقال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ [الشعراء 26/ 94] . 2- سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ أي قمصهم من القطران، والمراد أن جلود أهل النار تطلي بالقطران، حتى تصبح كالسرابيل، ليحصل بسببها أربعة أنواع

_ (1) الكشاف: 2/ 185

من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين. 3- وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحيط النار بأجسامهم، وإنما ذكرت الوجوه لأنها أشرف الأعضاء وأعزها، مثل قوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيها كالِحُونَ [المؤمنون 23/ 104] وقوله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر 39/ 24] وقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر 54/ 48] . ثم بين الله تعالى سبب الجزاء فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي أنه تعالى فعل كل ذلك ليجزي يوم القيامة كل شخص بما يليق بعمله وكسبه، من خير أو شر، فيعاقب المجرمين أو الكفار على كفرهم ومعصيتهم، ويثيب المؤمنين على إيمانهم وطاعتهم، كما قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] . ثم قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إنه تعالى يحاسب جميع العباد بسرعة وهي في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما جاء في الحديث، ولا يظلم الناس ولا يزيد في عقابهم الذي يستحقونه، وهو سريع الإنجاز لأنه يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] ، وهو سريع الإحصاء. ثم قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ وكفاية في الموعظة، كما قال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أي ليكون منذرا لهم بالعقاب ومحذرا من العذاب، وهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا ولينذروا بهذا البلاغ. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي وليستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو. وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتذكر ويتعظ به ذوو العقول أي أن لهذا البلاغ ثلاث فوائد: وهي التخويف من عذاب الله، والاستدلال به على وجود الخالق ووحدانيته، والاتعاظ به وإصلاح شؤون الإنسان. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجود يوم القيامة بنحو مؤكد مقطوع به، أما تأخير العذاب الشديد ليوم القيامة فلحكمة إلهية يعود نفعها إلى مصلحة العباد، كيلا يعجل بعقابهم وتترك الفرصة لهم لإصلاح أحوالهم، فليس تأخير العذاب للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما ساءه من إعراض المشركين عن الإيمان بدعوته، قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالمين، وتعزية للمظلوم. 2- يسيطر على يوم الحساب الحيرة والدهشة، والخوف والفزع، والاضطراب والقلق، فترى المجرمين حيارى لا تغمض أعينهم من هول ما يرونه في ذلك اليوم، ويسرعون في الخروج من القبور إلى مكان دعاء الداعي لهم بالتجمع في موقف الحساب، ناظرين من غير أن يطرفوا، ورافعي رؤوسهم ينظرون في ذل واستكانة، لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة النظر، وأفئدتهم خاوية خربة ليس فيها خير ولا عقل، ولا وعي ولا فهم من شدة

3- لا مناص من العذاب يوم القيامة ولا مفر منه، ولا أمل ولا رجاء في العودة إلى الدنيا لإصلاح الاعتقاد والأقوال والأفعال. 4- ما أكثر المواعظ والعبر وأقل الاتعاظ والاعتبار!! فقد سكن الناس في مساكن الظالمين، في بلاد ثمود ونحوها، ولم يعتبروا بمساكنهم، بعد ما تبين ما فعل الله بهم، وبعد أن ضرب الله لهم الأمثال في القرآن للعظة والعبرة. 5- لا جدوى من مكر الكافرين الشديد بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة، فعند الله العلم التام بمكرهم، وهو مجازيهم عليه. ومكرهم حقير مهين لا يؤدي إلى شيء، من إزالة جبال الأرض، وإزاحة الإسلام والقرآن الثابتين ثبوت الجبال الراسيات، وقد حفظ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ألوان مكرهم. 6- الله تعالى منجز وعده لرسله وأوليائه لا محالة، ولن يخلف الله وعده بنصر أهل الحق وعقاب المبطلين، والله تعالى قوي غالب منتقم من أعدائه، ومن أسمائه: المنتقم الجبار. 7- تتبدل الأرض والسموات يوم القيامة، وتبدل الأرض في رأي الأكثرين: عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومدّ أرضها. وتبدل السموات: انتثار كواكبها وتصدعها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها. 8- للمجرمين في النار صفات كئيبة، فهم مقيدون بالأغلال والقيود، وتطلي جلودهم بالقطران، وتضرب الناس وجوههم فتغشّيها وتحيط بها وبجميع أجسادهم. 9- إن حشر الناس يوم المعاد لإنصاف الخلائق وإقامة صرح العدل المطلق بينهم، ومجازاة كل امرئ بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

10- القرآن وما فيه من عظات تبليغ للناس وعظة، وإنذار وتخويف من عقاب الله عز وجل، ومصدر للعلم بوحدانية الله بما تضمنه من الحجج والبراهين، وموعظة يتعظ به أصحاب العقول. روى يمان بن رئاب أن هذه الآية هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ.. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم، هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم قيل: وأين هو؟ قال: قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ إلى آخرها. 11- هذه الآية الأخيرة من السورة دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله لأنه تعالى بيّن أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل لتذكير أولي الألباب. 12- أول هذه السورة مقرون بآخرها ومطابق له في المعنى، فأولها: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية، وآخر السورة: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أنه تعالى ذكر هذه المواعظ والنصائح لينتفع الخلق بها، فيصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية.

سورة الحجر:

[الجزء الرابع عشر] بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الحجر مكية، وهي تسع وتسعون آية. تسميتها: سميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام. مناسبتها لما قبلها: هناك تناسب بين هذه السورة وسورة إبراهيم في البدء والختام والمضمون، أما البداية: فكلتا السورتين افتتحتا بوصف الكتاب المبين، وأما المضمون: ففي كليهما وصف السموات والأرض، وإيراد جزء من قصة إبراهيم عليه السلام وبعض قصص الرسل السابقين، تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما تعرض له من أذى قومه بتذكيره بما تعرض له الأنبياء من قبله، ونصرة الله لهم، مع نقاش الكفار والمشركين. وأما الخاتمة: ففي سورة إبراهيم وصف تعالى أحوال الكفار يوم القيامة بقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ثم قال هنا في هذه السورة: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين والموحدين قد أخرجوا منها، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين. هذا مع اختتام آخر سورة إبراهيم بوصف الكتاب:

ما اشتملت عليه السورة:

هذا بَلاغٌ.. وافتتاح هذه به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وهذا تشابه في الأطراف بداية ونهاية «1» . ما اشتملت عليه السورة: تتفق هذه السورة مع بيان أهداف التنزيل المكي وهي إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والجزاء، والتذكير بمصارع الطغاة ومكذبي رسل الله الكرام، لذا ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد، والتهويل والتوبيخ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وتضمنت السورة ما يأتي: 1- مناقشة الكفار والمشركين الذين كذبوا بالرسل وبما أتوا به من آيات، بدءا من أبي البشر الثاني: نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [10- 11] . 2- إيراد الأدلة والبراهين على وجود الله تعالى من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان، ومشاهد الرياح اللواقح، والحياة والموت، والحشر والنشر: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ.. [16] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها.. [19] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [26] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ.. [22] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [23] وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [25] وبيان حكمة خلق الموجودات: وهي عبادة الله وإقامة العدل وإرساء دعائم النظام في الحياة.

_ (1) تناسق الدرر في تناسق السور للسيوطي، طبع دمشق: 62

3- إثبات صدق الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ.. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [8- 9] . 4- الإشارة لنظرية ظلمة السماء: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [14- 15] . 5- قصة آدم وإبليس المعبّرة عن الطاعة والرفض، بامتثال الملائكة أمر الله بالسجود لآدم وتعظيمه، وأمر إبليس بالسجود له وعصيانه الأمر: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [29- 31] . 6- وصف حال أهل الشقاوة والنار، وأهل السعادة والتقوى والجنة [42- 48] . 7- تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم منعا لليأس والقنوط بتذكيره بقصة لوط وشعيب وصالح عليهم السلام مع أقوامهم الذين دمرهم الله [قصة آل لوط: 58- 77] [أصحاب الأيكة: قوم شعيب: 78- 79] [أصحاب الحجر: ثمود: 80- 84] . 8- بيان ما أنعم الله به على نبيه من إنزال القرآن [87] وإهلاك أعدائه المستهزئين [95] وأمره بعدم الافتتان بتمتيع الآخرين بالدنيا، وأمره بالتواضع للمؤمنين [88] والجهر بالدعوة [94] والصبر والتسبيح والعبادة حتى الموت عند مضايقته باستهزاء المشركين [97- 99] . والخلاصة: تضمنت السورة دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، وبعض قصص الأنبياء، وأفضال الله على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.

وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة [سورة الحجر (15) الآيات 1 إلى 5] :

وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) الإعراب: رُبَما قرئ بالتخفيف والتشديد، فالتشديد على الأصل، والتخفيف لكثرة الاستعمال. ورُبَما فيها كافة عن العمل، وخرجت بها عن مذهب الحرف لأن «رب» حرف جر، وحرف الجر يلزم للأسماء، فلما دخلت رُبَما عليها، جاز أن يقع بعدها الفعل، وصارت بمنزلة «طالما وقلّما» . ولا يدخل بعد رُبَما إلا الماضي، وإنما جاء هاهنا المضارع بعدها، على سبيل الحكاية، ولما كان إخبار الحق تعالى متحققا، لا شك في وجوده لتحققه، نزّل المستقبل منزلة الماضي الذي وقع ووجد. ورُبَما معناها التقليل كرب، وقد يراد بها الكثرة، على خلاف الأصل. لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مفعول في موضع نصب، لأنه مفعول يَوَدُّ. يَأْكُلُوا جواب الأمر أو الطلب. وَلَها كِتابٌ كِتابٌ مبتدا مرفوع وَلَها خبره، والجملة: في موضع جرّ لأنها صفة. قَرْيَةٍ ويجوز حذف واو وَلَها نحويا لمكان الضمير، والأصل ألا تدخلها الواو مثل إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء 26/ 208] ولكن لما شابهت صورتها صورة الحال، أدخلت عليها، تأكيدا للصوقها بالموصوف. البلاغة: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ المراد أهلها، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الر إشارة لتحدي العرب بإعجاز القرآن البياني، أي هذا الكتاب كلام الله المنظوم من حروف لغتكم العربية الهجائية: ألف، ولام، وميم. تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات الْكِتابِ هو السورة، وكذا القرآن، أي هذه آيات الكتاب العظيم المتميز بالفصاحة الكاملة والبيان التام وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي وقرآن واضح تام البيان، لا خلل فيه، مظهر للحق من الباطل. والكتاب والقرآن المبين: الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وتنكير وَقُرْآنٍ للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الجامع لكونه كتابا وقرآنا، فهو كامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان. رُبَما تدل على أن ما بعدها قليل الحصول، وقد تستعمل في الكثير، كما هنا، فإنه يكثر منهم تمني الإسلام، وقيل: للتقليل، فإن الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وما: كفّت دخول «رب» عن الجر، فجاز دخوله على الفعل، و «ما» : نكرة موصوفة، أي رب شيء يَوَدُّ يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ذَرْهُمْ دعهم واتركهم يا محمد وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الْأَمَلُ بطول العمر وغيره عن الإيمان فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم، وسوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه. والغرض إقناط الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان، وأن نصحهم يعدّ اشتغالا بما لا طائل تحته. وفيه إلزام للحجة، وتحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل. مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ زائدة للتمكين قَرْيَةٍ المراد أهلها كِتابٌ أجل مَعْلُومٌ محدود لإهلاكها، أي لها أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي ما يتقدم زمان أجلها، ومِنْ زائدة. وَما يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه، وتذكير هذا الفعل العائد على أُمَّةٍ للحمل على المعنى. التفسير والبيان: الر هذه الحروف المقطعة قصد بها التنبيه وإشعار العرب بإعجاز القرآن البياني، وتحديهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، لأنه نزل بلغتهم، وتكوّن من حروفها التي تتركب منها الكلمات تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي تلك الآيات من هذه السورة هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات القرآن المبين التام الوضوح والبيان لهذه السورة وغيرها. وتنكير كلمة

قُرْآنٍ للتفخيم، وقد جمع بين الوصفين: الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ للدلالة على أنه الكتاب الجامع للكمال، والغرابة في البيان، كما ذكر الزمخشري. رُبَما يَوَدُّ.. أي ولكن الكفار سيندمون يوم القيامة على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين. وكلمة رُبَما وإن كانت للتقليل، فهي أبلغ في التهديد. ذكر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن كفار قريش لما عرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين. قال الزجاج: الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب، ورأى حالا من أحوال المسلم، ودّ لو كان مسلما. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام 6/ 27] . روى الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام، وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب، فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة، فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، فنخرج كما خرجوا» قال: ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ثم هددهم الله وأوعدهم بتهديد شديد ووعيد أكيد، فقال: ذَرْهُمْ.. أي دع يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتعهم بلذات دنياهم، يأكلون كما تأكل الأنعام، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة أو عن الآخرة والأجل، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم. كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا،

فقه الحياة أو الأحكام:

فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم 14/ 30] وقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات 77/ 46] ويلاحظ أن الآيات الثلاث عللت سبب إهمالهم في الدنيا، إذ لا حظّ لهم في الآخرة. ثم ذكر تعالى سبب تأخير عذاب الكفار إلى يوم القيامة فقال: وَما أَهْلَكْنا أي إن سنة الله تعالى في الأمم واحدة، وهي أنه لا يهلك أهل قرية إلا بعد قيام الحجة عليهم، وإبلاغهم طريق الرشد والحق، وانتهاء أجلهم المقرر والمقدر لهم في اللوح المحفوظ، وأنه لا يؤخر عذاب أمة حان هلاكهم عن وقته المحدد، ولا يتقدمون عن مدتهم: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف 7/ 34] . والمقصود بالآيات: أنه لو شاء الله لعجل العذاب للكفار، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا، فإن لكل أمة أجلا معينا، لا تأخير فيه ولا تقديم، والله تعالى يمهل ولا يهمل. وهذا تنبيه لأهل مكة وأمثالهم وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك، كما قال ابن كثير. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- القرآن الكريم جامع بين صفة الكمال في كل شيء، والوضوح والبيان، فلا نقص فيه ولا خلل، ولا غموض ولا لبس، وإنما يظهر الحق من الباطل لكل إنسان. 2- سيندم الكفار يوم القيامة على كفرهم، ويتمنون أن لو كانوا مسلمين في

أوقات كثيرة لأن رُبَما وإن كانت تستعمل في الأصل للقليل، إلا أنها قد تستعمل في الكثير، ومن عادة العرب أنهم إذا ذكروا التكثير، ذكروا لفظا وضع للتقليل، ثم إن هذا التقليل أبلغ في التهديد. 3- يهتم الكفار عادة بالماديات، فتراهم منغمسين في الشهوات والأهواء واللذات، معتمدين على الآمال المعسولة، مغتّرين بالأماني الزائفة، منشغلين بالدنيا عن الطاعة والعمل للآخرة. وقد هددهم الله بتركهم في مآكلهم ومتعهم، وحذرهم من عاقبة صنيعهم. والآية تدل على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من شأن أخلاق المؤمنين. وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الأمل مطلقا، منها ما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل» وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا» . وروى أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» . 4- لا ظلم في إهلاك الأمم الكافرة المكذّبة للرسل، وإنما هلاكها بسبب جحودها وكفرها وتكذيبها بآيات الله ورسله. 5- إن هلاك الأمم ليس عشوائيا ولا كيفيا حسب رغبات الناس، وإنما هو مقدر بتاريخ معين، ومقرر في أجل محدد، لا تأخير فيه ولا تقديم.

بعض مقالات المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم والرد القاطع عليها [سورة الحجر (15) الآيات 6 إلى 15] :

بعض مقالات المشركين في النبي صلّى الله عليه وسلّم والرد القاطع عليها [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الإعراب: لَوْ ما بمعنى هلا، وهي مركبة من «لو» التي معناها امتناع الشيء لامتناع غيره، و «ما» التي تسمى المغيّرة لأنها غيرت معنى «لو» من معنى امتناع الشيء لامتناع غيره، إلى معنى «هلا» . مثل تركيب «لولا» صارت بمعنى «هلا» في أحد وجهيها، وبمعنى امتناع الشيء لوجود غيره. إِذاً أصلها: إذ أن ومعناه: حينئذ، فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة، فحذفوها. إِنَّا نَحْنُ.. نَحْنُ في موضع نصب لأنه تأكيد للضمير الذي هو اسم «إن» في إِنَّا. ويجوز أن يكون في موضع رفع مبتدأ، ونَزَّلْنَا خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر «إن» . لا يُؤْمِنُونَ بِهِ محله النصب على الحال. ولا يجوز أن يكون نَحْنُ هنا ضمير فصل لا موضع له من الإعراب لأنه ليس بعده

البلاغة:

معرفة، ولا ما يقارب المعرفة لأن ما بعده جملة، وهي نكرة، فتكون صفة للنكرة، وشرط الفصل أن يكون بين معرفتين أو بين معرفة وما يقارب المعرفة. وَما يَأْتِيهِمْ وَما للحال، وهذا على حكاية الحال الماضية. البلاغة: الْمُجْرِمِينَ الْأَوَّلِينَ مُنْظَرِينَ بينها سجع، وكذلك بين يَعْرُجُونَ ومَسْحُورُونَ. المفردات اللغوية: وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ.. نادوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم على التهكم الذِّكْرُ القرآن إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي إنك لتقول قول المجانين، حتى تدّعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر أي القرآن لَوْ ما أي هلا، للتحضيض على فعل ما يقع بعدها مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك أو قولك: إنك نبي، وإن هذا القرآن من عند الله إِلَّا بِالْحَقِّ إلا تنزيلا ملتبسا بالحق وملازما له، أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته، ولا حكمة في أن تأتيكم بصورة تشاهدونها، فإنه لا يزيدكم إلا لبسا وخلطا، ولا في معاجلتكم بالعقوبة، فإن بعضكم وبعض ذريتكم سيؤمن، وقيل: بِالْحَقِّ أي الوحي أو العذاب إِذاً أي حين نزول الملائكة بالعذاب مُنْظَرِينَ مؤخرين. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ القرآن، وهو رد لإنكارهم واستهزائهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التبديل والتحريف، والزيادة والنقص، بأن جعلناه معجزا مباينا لكلام البشر، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل العربية، أو المراد نفي تطرق الخلل إليه أثناء بقائه بضمان الحفظ له. مِنْ قَبْلِكَ أي أرسلنا رسلا فِي شِيَعِ فرق، وهي جمع شيعة: وهي الفرقة أو الجماعة المتفقة على رأي واحد، في العقيدة أو في المذهب، أو في الرأي. إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كاستهزاء قومك بك، وهذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم. نَسْلُكُهُ ندخله، أي مثل إدخالنا التكذيب في قلوب أولئك ندخله فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي مضت سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم، وهؤلاء مثلهم. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ على هؤلاء المقترحين فَظَلُّوا فِيهِ في الباب يَعْرُجُونَ يصعدون سُكِّرَتْ أَبْصارُنا سدّت ومنعت عن الإبصار مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد بذلك، يخيل إلينا أننا مسحورون، والإضراب ببل دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.

سبب النزول:

سبب النزول: قال قتادة: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش. المناسبة: بعد أن بالغ تعالى في تهديد الكفار، ذكر شبهتهم في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإساءتهم الأدب بوصفه بالسفاهة والجنون، ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء على هذا النحو، فلك يا محمد أسوة بالأنبياء في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن بعض مقالات المشركين وشبهاتهم الصادرة عن كفرهم وعنادهم، فقالوا استهزاء وتهكما: يا أيها الذي تدعي نزول القرآن عليك، إنك متصف بالجنون، حينما تدعونا إلى اتباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا، فلا نقبل دعوتك. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ.. لو كنت ما تدعيه حقا وصدقا، فهلا تأتينا بالملائكة يشهدون لك بصدقك وصحة ما جئت به، ويؤيدونك في إنذارك، كما قال تعالى: أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان 25/ 7] وقال: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان 25/ 21] وحكى تعالى قول فرعون في شأن موسى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف 43/ 53] . فأجابهم تعالى عن المقالة الثانية بقوله: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي

لا ننزل الملائكة إلا بحق وحكمة ومصلحة نعلمها، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، وهم من غير جنسكم ولا على صورتكم فيلتبس الأمر عليكم إذ لكل جنس هاد من جنسه، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً، لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام 6/ 9] . وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي ولو نزلنا الملائكة لكان ذلك إنزالا للهلاك والعذاب، وما أخر عنهم العذاب ساعة لأن سنتنا أننا إذا أنزلنا آية كما يقترح الناس ولم يؤمنوا بها، أتبعنا ذلك بعذاب الاستئصال، فكان في إنزال الملائكة ضررا محققا لهم، لا نفعا. ثم أجابهم الله تعالى عن المقالة الأولى بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ.. أي أنه تعالى هو الذي أنزل عليه الذّكر وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل، فقولوا: إنه مجنون، ونقول: نحن منزلوا القرآن وحافظوه. وتلك خصوصية للقرآن، فإنه تعالى تكفل وحده بحفظه وصونه، على مدى الدهر، بخلاف الكتب السابقة التي أمر بحفظها الأحبار والرهبان، فعبثوا بها وغيروها وبدلوها، بل إن أصلها قد فقد وضاع، فلم يعرف لها أثر قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [المائدة 5/ 44] . ثم قال الله تعالى مسليا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب بعض كفار قريش: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ.. أي إنا أرسلنا قبلك رسلا للأمم الماضية وشيعها وطوائفها وفرقها، ولكن ما أتاهم من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به وكفروا برسالته، فقوله: وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية لأن

ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال. ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا، واستكبروا عن اتباع الهدى، فإن مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين، ندخله في قلوب المجرمين الجدد، فضمير نَسْلُكُهُ عائد إلى الشرك. ويصح عوده إلى الذكر (القرآن) أي مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن ونلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزءا به غير مقبول، حالة كونهم غير مؤمنين به أبدا. وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي مضت السنة المتبعة في الماضين، وهو أنه تعالى يهلك ويدمر كل من كذّب رسله، ويعلم بهم، وينجي الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فلك يا محمد أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة. وبعبارة أخرى: سنفعل بالمجرمين اللاحقين كما فعلنا بالسابقين، وسننصر الرسل والمؤمنين. ثم يخبر الله تعالى عن شدة عنادهم وتمكن كفرهم في نفوسهم ومكابرتهم للحق، فقال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً.. أي لو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه أو تصعد فيه الملائكة، لما صدقوا بذلك، بل قالوا: إنما منعت وسدت أبصارنا من الإبصار، وقد شبّه علينا، واختلطت الأمور في أذهاننا، وأصبحنا لا نرى إلا أخيلة، كالقوم المسحورين سحرنا محمد بآياته، نحو قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] . والمعنى: بلغ من عناد المشركين أنهم لو صعدوا في السماء حقيقة، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هذه أوهام وأخيلة، وقد سحرنا محمد، كما يفعل عالم السيمياء، أو المنوم المغناطيسي. وفي الآية دليل على وجود الظلام في الفضاء الخارجي.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الشريفة على ما يلي: 1- لقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، إلى يوم القيامة، وهو رد على اتهام المشركين زورا وبهتانا بأن محمدا الذي أنزل عليه هذا القرآن مجنون. 2- لا فائدة من إنزال الملائكة تشهد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقه في دعواه النبوة، لما فيه من اللبس عليهم، بل إلحاق الضرر بهم، وهو الهلاك أو العذاب إذا كفروا بعدئذ، ولم يمهلوا بنزوله. 3- إن تكذيب الأنبياء والاستهزاء بهم عادة قديمة وظاهرة شائعة في الأمم، فكما يفعل المشركون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكذلك فعل من قبلهم بالرسل. 4- كما أدخل أو سلك الله الضلال والكفر والاستهزاء والشرك في قلوب المجرمين من طوائف الأقدمين، كذلك يسلكه في قلوب مشركي العرب، حتى لا يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وقيل: نسلك القرآن في قلوبهم، فيكذبون به، ذكر جماعة أنه قول أكثر المفسرين. 5- مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء المشركين من الهلاك. 6- المشركون معاندون، فلو كشف لهم أن يعاينوا أبوابا من السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل، لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له.

بعض مظاهر قدرة الله تعالى من خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتة والعلم الشامل والحشر [سورة الحجر (15) الآيات 16 إلى 25] :

بعض مظاهر قدرة الله تعالى من خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتة والعلم الشامل والحشر [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) الإعراب: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ مَنِ مستثنى منصوب، ولا يجوز أن يكون بدلا من كُلِّ شَيْطانٍ لأنه استثناء من موجب. وَمَنْ لَسْتُمْ.. مَنْ إما منصوب عطفا على قوله مَعايِشَ أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد، أو بتقدير فعل، أي وأعشنا من لستم له برازقين، أو عطفا على موضع لَكُمْ المنصوب بجعلنا، وإما موضعه الرفع مبتدأ، وخبره محذوف. ولا يجوز في رأي البصريين خلافا

البلاغة:

للكوفيين عطفه على الكاف واللام في لَكُمْ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إن بمعنى «ما» ومِنْ زائدة، وشَيْءٍ في موضع رفع مبتدأ، وعِنْدَنا خبر المبتدأ، وخَزائِنُهُ مرفوع بالظرف وهو عِنْدَنا لوقوعه خبرا للمبتدأ، وتقديره: وما شيء إلا عندنا خزائنه. ودخول إِلَّا أبطل عمل إِنْ على لغة من يعملها. لَواقِحَ إما جمع لاقحة، أي حوامل بالسحاب لأنها تسوقه، وإما أصله ملاقح، لكن أتى به على حذف الزوائد. البلاغة: عِنْدَنا خَزائِنُهُ استعارة تخييلية وتمثيل لكمال قدرته، شبه قدرته تعالى على كل شيء بالخزائن المودع فيها الأشياء، ويخرج منها كل شيء على وفق حكمته. نُحْيِي وَنُمِيتُ الْمُسْتَقْدِمِينَ والْمُسْتَأْخِرِينَ بين كل طباق. خَزائِنُهُ وبِخازِنِينَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: بُرُوجاً البروج: القصور والمنازل، وأصل البروج: الظهور، يقال: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها، والمراد هنا النجوم العظام ونجوم البروج الاثني عشر المعروفة أي منازل الشمس والقمر والكواكب السيّارة الأخرى، وهي اثنا عشر برجا مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة، مع بساطة السماء، وأسماء هذه البروج: الحمل، الثور، الجوزاء، والسّرطان، والأسد، والسّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدّلو، والحوت. والعرب تعدّ معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجلّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب. وبرج المريخ: الحمل والعقرب، والزّهرة: لها الثور والميزان، وعطارد: له الجوزاء والسّنبلة، والقمر: له السرطان، والشمس لها: الأسد، والمشتري له: القوس والحوت، وزحل له: الجدي والدلو. وَزَيَّنَّاها أي السماء بالكواكب لِلنَّاظِرِينَ المفكرين المعتبرين، المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها وَحَفِظْناها منعناها بالشهب رَجِيمٍ مرجوم بالحجارة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ لكن من أخذ الشيء خفية أو خطفة، شبه خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى بالسرقة. واسترق السمع: تسمّعه بخفة وحذر فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ كوكب يضيء ويحرقه، أو شعلة ساطعة

المناسبة:

من النار. وأتبعه: لحقه. مَدَدْناها بسطناها بحسب مستوى الناظر وبالنسبة للناس القاطنين فيها رَواسِيَ جبالا ثوابت لئلا تتحرك بأهلها مَوْزُونٍ أي مقدّر بمقدار معين على وفق الحكمة والمصلحة. مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم والملابس، جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أو على محل لَكُمْ والمراد به العيال والخدم والمماليك. والقصد من الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، مشتملة على أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، على كمال قدرته، وتناهي حكمته، وتفرده بالألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحتاج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. والخزائن جمع خزانة، وهي ما تحفظ فيه الأشياء النفيسة أو المهمة. وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما نسمح بإنزاله إلا بقدر معلوم حدّه، لحكمة وعلى حسب المصالح لَواقِحَ حوامل للسحاب، أو التراب، أو للقاح الشجر، كما في قوله: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الأعراف 7/ 57] وفي قولهم: ناقة لاقح أي حامل، شبه الريح التي جاءت بخير تحمل السحاب الماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. مِنَ السَّماءِ السحاب السَّماءِ مطرا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم، يقال للماء المعد لشرب الأرض أو الماشية وسقايتها به: أسقيته، وإذا سقاه ماء أو لبنا: سقيته وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي ليست خزائنه بأيديكم الْوارِثُونَ الباقون، نرث جميع الخلق الْمُسْتَقْدِمِينَ من ماتوا من ذرية آدم الْمُسْتَأْخِرِينَ الأحياء الذين تأخروا إلى يوم القيامة، أي بقوا أحياء يَحْشُرُهُمْ يجمعهم لا محالة للجزاء وتوسيط الضمير هُوَ للدلالة على أنه القادر المتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على صحة الحكم حَكِيمٌ باهر الحكمة في صنعه متقن الأفعال عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى كفر الكافرين وعجز أصنامهم، ذكر كمال قدرته، وأدلة وحدانيته السماوية والأرضية، ففي السماء: البروج، والكواكب الساطعة، وفي الأرض الممدودة: الجبال الراسيات، والنباتات المقدرة بمقادير معلومة موزونة بميزان الحكمة والعلم، المشتملة على معايش الإنسان والحيوان، كما

التفسير والبيان:

قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات 51/ 20- 23] . والدلائل الأرضية سبعة: بسط الأرض، الجبال الثوابت، إنبات النباتات، الإمداد بالأرزاق من الخزائن، إرسال الرياح لواقح، الإحياء والإماتة للحيوانات، خلق الإنسان. التفسير والبيان: ووالله لقد أوجدنا في السماء نجوما عظاما من الكواكب الثوابت والسيارات، وزيناها لمن تأمل النظر فيها وكرره، فيما يرى من العجائب الظاهرة، والآيات الباهرة، التي يحار الناظر فيها، كقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات 37/ 6] وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان 25/ 61] . وقال جماعة: البروج: هي منازل الشمس والقمر. وَحَفِظْناها.. أي ومنعنا الاقتراب من السماء كل شيطان رجيم، كما قال في آية أخرى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات 37/ 7] والرجيم: المرجوم، أي المقذوف بالشهب، أو المرمي بالقول القبيح، أو الملعون المطرود. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ.. استثناء منقطع، أي لكن من استرق السمع، أو أراد استراق شيء من علم الغيب الذي يتحدث به الملائكة، لحقه وأتبعه بشهاب مبين، أي بجزء منفصل من الكوكب، وهو نار مشتعلة، فأحرقه. والشهاب: شعلة نار ساطع، ويسمى الكوكب شهابا، كما قال في آية أخرى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ

مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن 72/ 9] وقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 67/ 5] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها، ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة، فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع، رمي بشهاب «1» . والصحيح أن الشهاب يقتل الشياطين قبل إلقائهم الخبر، فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا بواسطة الأنبياء وملائكة الوحي. ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم أردف الله تعالى بيان الدلائل الأرضية بعد الدلائل السماوية على وحدانيته فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ... أي وجعلنا الأرض ممدودة الطول والعرض، ممهدة للانتفاع بها، في مرأى العين، وبالنسبة للإنسان الذي يعيش على سطحها، كما قال تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذاريات 51/ 48] فلا يعني ذلك نفي كروية الأرض لأن أجزاء الكرة العظيمة تظهر كالسطح المستوي لمن يقف على جزء منها. وهذا دليل واضح على كمال قدرة الله تعالى وعظمته لأن الإنسان المنتفع بها يراها منبسطة رغم تكويرها، ثابتة رغم تحركها. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت كيلا تضطرب بالإنسان، كما قال تعالى في آية أخرى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل 16/ 15]

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 169، الكشاف: 2/ 188

فدلت الآيات على خلق الله الأرض وبسطها وتوسيعها وجعل الجبال الراسيات والأودية والرمال فيها. وَأَنْبَتْنا فِيها.. أي وأنبتنا في الأرض من الزرع والثمار المتناسبة، المقدرة بميزان معلوم، وحكمة ومصلحة، ومقدار معين، فكل نبات وزنت عناصره، وقدرت بما يحتاجه. فقوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بقدر معلوم، موزون بميزان الحكمة أي على وفق الحكمة والمصلحة، كما قال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد 13/ 8] . وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ.. أي وأعددنا لكم في الأرض أسباب المعيشة والحياة الملائمة من غذاء ودواء، ولباس وماء، ونحوها. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي وجعلنا لكم فيها أيضا الخدم والمماليك والدواب والأنعام التي لستم أنتم لها رازقون، وهذا يعني أن الله يرزقكم وإياهم. والمقصود من الآيات أنه تعالى يمتن على الناس بما يسّر لهم في الأرض من أسباب المكاسب والمعيشة، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والخدم الذين يستخدمونهم، وقد تكفل الله الخالق برزقهم، فرزقهم على خالقهم، لا عليهم، فلهم المنفعة، وعلى الله التسخير والرزق. ثم أخبر الله تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل يسير عليه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الأصناف، من نبات ومعادن ومخلوقات لا حصر لها، فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.. أي وما من شيء في هذا الكون ينتفع به الناس إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم، نعلم أنه مصلحة له، فذكر الخزائن أراد به التمثيل لا الحقيقة وهو اقتداره على كل مقدور. ثم أوضح تعالى أسباب حصول النعم، فقال: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ..

أي وأرسلنا الرياح الخيرة تحمل السحب المشبعة بالرطوبة لإنزال الأمطار، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف 7/ 57] . وكذلك جعلنا الرياح واسطة لتلقيح الأشجار، بنقل طلع الذكور ولقاحها إلى الإناث، ليتكون الثمر. كما أننا جعلنا الرياح وسائل إزالة الغبار عن الأشجار، لينفذ الغذاء إلى مسامّها. قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب. فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً.. أي فأنزلنا من السحاب مطرا، فأسقيناكموه أي يمكنكم أن تشربوا منه، وأسقينا به زرعكم ومواشيكم، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة 56/ 68- 70] وقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل 16/ 10] . وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي لستم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله ينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أبقاه لكم في طول السنة، لشرب الناس والزروع والثمار والحيوان، فالتخزين يكون في السحاب وفي جوف الأرض. ثم أخبر الله تعالى عن قدرته على بدء الخلق وإعادته فقال: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.. أي ونحن نحيي الخلق من العدم، ثم نميتهم، ثم نبعثهم كلهم ليوم الجمع، ونحن نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أنبأنا الله تعالى عن تمام علمه بالمخلوقات أولهم وآخرهم، فقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ.. أي والله لقد علمنا كل من تقدم وهلك من لدن آدم عليه السلام، ومن هو حي، ومن سيأتي إلى يوم القيامة. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ.. أي وإن ربك هو الذي يجمعهم جميعا، الأولين والآخرين، من أطاع ومن عصى، ويجازي كل نفس بما كسبت، إنه تعالى حكيم باهر الحكمة في صنعه، متقن الأفعال، واسع العلم، وسع علمه كل شيء، فهو يفعل بمقتضى الحكمة والعلم الشامل. فقه الحياة أو الأحكام: ذكرت الآيات دلائل التوحيد السماوية منها والأرضية، وبدأ بذكر الأدلة السماوية، وأردفها بالأدلة الأرضية، وهي ما يأتي: 1- خلق النجوم العظام والكواكب الثابتة والسيارة، وخلق بروج ومنازل لها، وهي اثنا عشر برجا، معروفة في علم الفلك، قدمت ذكرها في بيان المفردات. 2- حفظ السماء من مقاربة الشيطان الرجيم أي المرجوم، والرجم: الرمي بالحجارة أو باللسان سبا وشتما، وهو أيضا: اللعن والطرد. قال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم. ومن حاول اختطاف شيء من علم الغيب، قذف بجزء منفصل من الكوكب، مشتعل النار، فأحرقه وقتله، قبل إلقاء ما استرقه من السمع إلى غيره. 3- الأرض مخلوقة ممهدة منبسطة تتناسب مع إمكان الحياة البشرية عليها، وهي مثبّتة بالجبال الرواسي لئلا تتحرك بأهلها، وفيها من النباتات المختلفة ذات المقادير المعلومة، على وفق الحكمة والمصلحة، وفيها أيضا أصناف المعايش من

مطاعم ومشارب يعيش الناس وغيرهم بها، وفيها كذلك الدواب والأنعام ذات المنافع المتعددة، والله هو الذي يرزقها. 4- الله مالك كل شيء، يوجده ويكوّنه وينعم به على حسب مشيئته بمقدار معلوم بحسب حاجة الخلق إليه، فما من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا وعند الله خزائنه، كالمطر المنزل من السماء، والذي به نبات كل شيء، ولكن لا ينزله إلا بمقتضى مشيئته وعلى قدر الحاجة، كما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [الشورى 42/ 27] . 5- هيأ الله في الكون أسبابا للرزق والإيجاد، منها أنه جعل الرياح لواقح للسحاب والأشجار، فأنزل بها الأمطار لشرب الناس وسقاية الزروع والثمار والأشجار والدواب، وهو تعالى يخزنها في السحاب وجوف الأرض، وهو سبحانه المحيي والمميت ووارث الكون، فلا يبقى فيه أحد. 6- الله تعالى عالم بجميع المخلوقات المتقدمة والمتأخرة إلى يوم القيامة، وإنه تعالى سيحشر الناس جميعا للحساب والجزاء. واستنبط الفقهاء من آية وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ حكمين فقهيين: الأول- فضل أول الوقت في الصلاة، وفضل الصف الأول في صلاة الجماعة، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا» . وفي الصف الأول مجاورة الإمام، لكن مجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي لكبار العقول، كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن الأربع عن أبي مسعود: «ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى» وهذا حق ثابت لهم بأمر صاحب الشرع. الثاني- فضل الصف الأول في القتال، لأن المتقدم باع نفسه لله تعالى، ولم

بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليس وعداؤه البشر [سورة الحجر (15) الآيات 26 إلى 44] :

يكن أحد يتقدم الحرب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم. بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليس وعداؤه البشر [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

الإعراب:

الإعراب: وَالْجَانَّ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وخلقنا الجانّ خلقناه، وقدّر الفعل الناصب ليعطف جملة فعلية على جملة فعلية، هي قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد للمعرفة بعد توكيد، وذهب بعض النحويين إلى أن أَجْمَعِينَ أفاد معنى الاجتماع، أي سجدوا كلهم مجتمعين، لا متفرقين، إلا أنه يلزمه على هذا أن ينصبه على الحال. ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ما مبتدأ، ولَكَ خبره، وتقديره: أي شيء كائن لك ألا تكون، أي في ألا تكون، فحذفت (في) وهي متعلقة بالخبر، فانتصب موضع (أن) . لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْهُمْ متعلق بالظرف الذي هو لِكُلِّ، مثل قولهم: كلّ يوم لك درهم، فإن كل يوم منصوب ب (لك) . وجُزْءٌ مَقْسُومٌ مرفوع بالظرف الذي هو لِكُلِّ بابٍ لأن قوله لِكُلِّ بابٍ وصف لقوله: أَبْوابٍ أي لها سبعة أبواب، كائن لكل باب منها جزء مقسوم منهم، أي من الداخلين، فحذف منها العائد إلى أَبْوابٍ التي هي الموصوف، وحذف العائد من الصفة إلى الموصوف جائز في كلامهم، كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ.. [البقرة 2/ 48، 123] أي ما تجزي فيه. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدم أو الجنس مِنْ صَلْصالٍ طين يابس، يسمع له صلصلة، أي صوت، إذا نقر. فإذا طبخ فهو فخّار حَمَإٍ طين أسود، أي تغيّر واسود من مجاورة الماء له مَسْنُونٍ متغير الرائحة، والتقدير: أي كائن من حمأ مسنون وَالْجَانَّ أبا الجن وهو إبليس، أو هذا الجنس مِنْ قَبْلُ من قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ هي نار شديدة الحرارة، لا دخان لها، تنفذ من المسام وتقتل. وَإِذْ قالَ.. واذكر حين قال بَشَراً إنسانا، وسمي بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده سَوَّيْتُهُ أتممت خلقه وهيأته لنفخ الروح فيه وَنَفَخْتُ أجريت من الفم أو غيره، والمراد: إضافة عنصر الحياة في المادة القابلة لها. مِنْ رُوحِي أي فصار حيا، وإضافة الروح إلى

الله تشريف لآدم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فاسقطوا له ساجدين سجود تحية بالانحناء. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فيه تأكيدان للمبالغة في التعميم إِلَّا إِبْلِيسَ هو أبو الجن، الذي كان بين الملائكة أَبى امتنع من أن يسجد له، والاستثناء إما منقطع متصل بقوله: أَبى أي لكن إبليس أبى، وإما متصل على أنه استئناف، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد. قالَ تعالى يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ.. أي ما منعك، أو أي غرض لك في ألا تكون مع الساجدين قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لا ينبغي لي أن أسجد، واللام لتأكيد النفي، أي لا يصح مني، وينافي حالي لِبَشَرٍ جسماني كثيف، وأنا ملك روحاني خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي وهو أخسّ العناصر، وأنا خلقتني من نار، وهي أشرف العناصر. فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السموات أو من زمرة الملائكة رَجِيمٌ مطرود من الخير والكرامة، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته اللَّعْنَةَ الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء فَأَنْظِرْنِي أمهلني وأخرني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم بعث الناس إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمى فيه أجلك عند الله، أو وقت انقراض الناس كلهم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق، كما روي عن ابن عباس. ويجوز أن يراد بالأيام الثلاثة: يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات كما قال البيضاوي، فهو يوم الجزاء، ويوم البعث، واليوم المعلوم وقوعه عند الله، والمؤكد حدوثه في علم الناس. بِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإضلال، والباء للقسم، وما: مصدرية، وجواب القسم: لَأُزَيِّنَنَّ والمعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين استخلصهم الله لطاعته وطهرهم من الشوائب، وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك العبادة من الرياء أو الفساد. هذا صِراطٌ عَلَيَّ.. أي هذا حق علي أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ أي لا انحراف فيه، ولا عدول عنه إلى غيره. والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء: وهو تخلص المخلصين من إغوائه، أو الإخلاص. إِنَّ عِبادِي المؤمنين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. تصديق لإبليس فيما استثناه، والمراد بيان نجاتهم من تأثير الشيطان عليهم. والسلطان: التسلط بالإغواء الْغاوِينَ الكافرين لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي لموعد الغاوين أو المتبعين، وأَجْمَعِينَ تأكيد للضمير، أو حال، والعامل فيها: الموعد إن جعل مصدرا على تقدير مضاف، أما إن جعل اسم مكان فإنه لا يعمل سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم، أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. ولعل تخصيص العدد

المناسبة:

ليشمل جميع المهلكات، أو لأن أهلها سبع فرق لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ نصيب أو فريق معين مفرز له. المناسبة: هذا هو النوع السابع من دلائل وجود الله وقدرته وتوحيده، فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة، أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب نفسه. والدليل هو أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، فيجب انتهاء الحوادث إلى حادث أول، فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى. وبعد أن ذكر الله تعالى خلق الإنسان الأول، ذكر مقاله للملائكة والجن بشأنه. التفسير والبيان: ولقد خلق الله الإنسان الأول آدم أبا البشر من طين أو تراب يابس، فالحمأ: هو الطين، والمسنون: الأملس، والصلصال: التراب اليابس، وقيل: إنه المنتن المتغير الرائحة في الأصل. وقد بدأ الخلق أولا من تراب، ثم من طين، ثم من صلصال، ليكون أدل على القدرة الإلهية. وخلقنا جنس الجن من نار السموم، أي نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته. قال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجانّ، ثم قرأ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ وورد عن عائشة في صحيح مسلم، وأحمد: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» .

ونظير الآية قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن 55/ 14- 15] . وفي هذا إشارة إلى برودة طبع الإنسان، وحرارة طبيعة الجن. وفي الآية تنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة محتده، وذلك كله دليل على قدرة الله تعالى. ثم أبان الله تعالى تشريفه لآدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حسدا وكفرا، وعنادا واستكبارا، وافتخارا بالباطل، فقال: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ... أي واذكر أيها الرسول لقومك حين أمرت الملائكة قبل خلق أبيكم آدم بالسجود له بعد اكتمال خلقه، وإباء إبليس عدوه من بين سائر الملائكة السجود له، قائلا: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر 15/ 33] متذرعا بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 38/ 76] وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء 17/ 62] . وقد تضمن دفاع إبليس وسبب امتناعه عن السجود لآدم: بأنه خير منه، فإنه خلق من النار، وآدم من الطين، وفي النار عنصر الارتفاع والسمو، وفي التراب عنصر الخمود والركود، فهي أشرف من الطين، والأعلى لا يعظم الأدنى. وذلك قياس فاسد لأن خيرية المادة لا تعني خيرية العنصر، بدليل أن الملائكة من نور، والنور خير من النار. ثم إنه عصيان أمر الخالق، وجهل بأن آدم امتاز باستعداد علمي وعملي لتلقي التكاليف وتقدم الكون. لذا عاقبة الله بقوله: قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ... أي فاخرج

من المنزلة التي كنت فيها من الملأ الأعلى، فإنك مرجوم، أي لعين مطرود، لعنة دائمة ملازمة له إلى يوم القيامة. وإمعانا في الكيد لآدم وحسدا له ولذريته طلب الإمهال إلى يوم البعث من القبور، وحشر الخلق لموقف الحساب، فأرجأه الله إلى يوم الوقت المعلوم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق. فلما تحقق إبليس الانتظار لذلك اليوم قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي قال إبليس عاتيا متمردا: رب بسبب إغوائك وإضلالك إياي، لأزينن في الأرض أي الدنيا لذرية آدم عليه السلام الأهواء، وأحبّب إليهم المعاصي، وأرغّبهم فيها، إلا المخلصين الذين أخلصوا لك في الطاعة والعبادة. واستثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه. فهدده تعالى وتوعده بقوله: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية أو الإخلاص طريق مستقيم، مرجعه إلي، فأجازي كل واحد بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر 89/ 14] . فقوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الإخلاص طريق علي وإلي، يؤدي إلى كرامتي وثوابي، أو هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم، أو هذا طريق عليّ تقريره وتأكيده، وهو مستقيم: حق وصدق. ومؤدى الكلام: ألا مهرب لأحد مني، كما يقال لمن يتوعده ويتهدده: طريقك علي. وقوله: مستقيم أي لا عوج فيه ولا انحراف. وهو رد لما جاء في كلام إبليس: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف 7/ 16- 17] . إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. أي إن عبادي المؤمنين

المخلصين أو غير المخلصين، أو الذين قدرت لهم الهداية، لا سلطان لك على أحد منهم، ولا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ.. استثناء منقطع، أي لكن الذين اتبعوك من الضالين المشركين باختيارهم، فلك عليهم سلطان، بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي، والدليل قوله تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل 16/ 100] . ونظير الآية: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل 16/ 99- 100] . وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] . ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ.. أي لجهنم سبعة أبواب، قد خصص لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم من أتباع إبليس، يدخلونه، لا محيد لهم عنه، وكلّ يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله. وفي تفسير الأبواب السبعة قولان: قول: إنها سبع طبقات: بعضها فوق بعض، وتسمى تلك الطبقات بالدركات، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145] والسبب: أن مراتب الكفر مختلفة بالشدة والخفة، فاختلفت مراتب العذاب. وقول آخر: إنها سبعة أقسام، ولكل قسم باب، أولها كما ذكر ابن جريج: جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. الأولى

فقه الحياة أو الأحكام:

كما ذكر الضحاك: للعصاة الموحدين، والثانية: لليهود، والثالثة: للنصارى، والرابعة: للصابئين، والخامسة: للمجوس، والسادسة: للمشركين، والسابعة: للمنافقين. فقه الحياة أو الأحكام: أفادت الآيات ما يأتي: 1- خلق الله آدم عليه السلام الإنسان الأول من طين يابس، مما يدل على القدرة الإلهية. وخلق الجانّ من قبل خلق آدم من نار جهنم أو من الريح الحارة التي تقتل، أو من نار لا دخان لها. ورد في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما صوّر الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، وينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» «1» . 2- كرم الله الأصل الإنساني، فأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، ولله أن يفضل من يريد، ففضل الأنبياء على الملائكة، وامتحنهم الله بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل. 3- سجد الملائكة له كلهم أجمعون إلا إبليس رفض وأبى، وإبليس ليس من جملة الملائكة: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف 18/ 50] . وهذا الاستثناء دليل للشافعي في جواز استثناء غير الجنس من الجنس، مثل: لفلان علي دينار إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا رطل حنطة، سواء المكيلات والموزونات والقيميات. وأجاز مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما استثناء المكيل

_ (1) أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه.

من الموزون، والموزون من المكيل، كاستثناء الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم، ولم يجيزا استثناء القيميات من المكيلات أو الموزونات، كالمثالين المذكورين في بيان مذهب الشافعي، ويلزم المقرّ جميع المبلغ. 4- سئل إبليس عن سبب امتناعه من السجود، فأجاب بأنه مخلوق من عنصر وهو النار أشرف من التراب. 5- كان عقاب إبليس الطرد من السموات أو من جنة عدن أو من جملة الملائكة، وملازمة اللعنة له إلى يوم القيامة. 6- سأل إبليس تأخير عذابه، زيادة في بلائه، كالآيس من السلامة، وأراد الإنظار إلى يوم يبعثون: ألا يموت لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده، فأجله الله تعالى إلى الوقت المعلوم: وهو النفخة الأولى، حين تموت الخلائق. 7- صمم إبليس على مدى الحياة إغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق الهدى، إلا المؤمنين سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، فلا سلطان له عليهم في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفو الله، وهم الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم. 8- قول الله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ على سبيل الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك علي، ومصيرك إلي، ومعنى الكلام: هذا أي طريق العبودية طريق مرجعه إلي، فأجازي كلا بعمله. 9- استثناء إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وإِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ دليل على جواز استثناء القليل من الكثير، والكثير من القليل، مثل: علي عشرة إلا درهما، أو عشرة إلا تسعة. وقال ابن حنبل: لا يجوز أن يستثني إلا قدر النصف فما دونه، وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح.

جزاء المتقين يوم القيامة [سورة الحجر (15) الآيات 45 إلى 48] :

10- إن جهنم موعد إبليس ومن اتبعه. ولجهنم سبعة أطباق، طبق فوق طبق، لكل طبقة حظ معلوم. وجهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. جزاء المتقين يوم القيامة [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) الإعراب: إِخْواناً حال من الْمُتَّقِينَ أو من واو ادْخُلُوها أو من الضمير في آمِنِينَ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ حال أيضا. البلاغة: ادْخُلُوها بِسَلامٍ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال لهم: ادخلوها. المفردات اللغوية: إِنَّ الْمُتَّقِينَ هم الذين اتقوا الكفر والفواحش جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ أنهار جارية بِسَلامٍ أي سالمين من المخاوف والآفات آمِنِينَ من كل فزع غِلٍّ حقد وحسد دفين في القلب سُرُرٍ جمع سرير، وهو المجلس العالي عن الأرض مُتَقابِلِينَ لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم نَصَبٌ تعب وإعياء وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أبدا.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (45) : إِنَّ الْمُتَّقِينَ: أخرج الثعلبي عن سلمان الفارسي أنه لما سمع قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فرّ ثلاثة أيام هاربا من الخوف، لا يعقل، فجيء به للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فو الذي بعثك بالحق، لقد قطّعت قلبي، فأنزل الله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. نزول الآية (47) : وَنَزَعْنا..: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قيل: وأي غل؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تميم، وبني عدي، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابّوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده، فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم، أتبعه ببيان حال السعداء من أهل النعيم المقيم الذين لا سلطان لإبليس عليهم، وهم المتقون. التفسير والبيان: إن المتقين الذين اتقوا عذاب الله ومعاصيه، وأطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، فلم يتأثروا بسلطان إبليس ووساوسه، هم في جنات أي بساتين ذات ثمار دائمة وظلال وارفة، وتتفجر من حولهم عيون هي أنهار أربعة: من ماء، ولبن، وخمر غير مسكرة، وعسل مصفى، خاصة بهم أو عامة، دون تنافس أو نزاع

عليها، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ.. [محمد 47/ 15] . ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يقال لهم: ادخلوها سالمين من الآفات، مسلّما عليكم، آمنين من كل خوف وفزع. ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.. ونزع الله كل ما في صدورهم في الدنيا من حقد وعداوة، وضغينة وحسد، حالة كونهم إخوانا متحابين متصافين، جالسين على سرر متقابلين، لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه، ولا ينظر إلى ظهره، فهم في رفعة وكرامة. والمراد: أن الله طهر قلوبهم من معكّرات الدنيا، فلا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر، ولا غيبة ولا نميمة، ولا تنازع، وألقي فيها التوادّ والتحابّ والتصافي لأن خصائص المادة زالت بالموت في الدنيا. جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقّوا، أذن لهم في دخول الجنة» . وروى ابن جرير وابن المنذر عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه، بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحّب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فقال رجلان إلى ناحية البساط: الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا؟! فقال علي رضي الله عنه: قوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هم إذن، إن لم أكن أنا وطلحة؟.

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ... أي لا يصيبهم في تلك الجنات تعب ولا مشقة ولا أذى، إذ لا حاجة لهم إلى السعي والكدح، لتيسير كل ما يشتهون أمامهم دون جهد. جاء في الصحيحين: «إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب» . وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي وهم ماكثون فيها، خالدون فيها أبدا، لا يخرجون منها ولا يحوّلون عنها. جاء في الحديث الثابت: «يقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحّوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تطغوا أبدا» . وقال الله تعالى: خالِدِينَ فِيها، لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف 18/ 108] . والخلاصة: إن مقومات النعيم والثواب والمنافع ثلاثة: الاقتران بالاطمئنان والاحترام، وهو قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ والصفاء من شوائب الضرر والمعكرات الروحية كالحقد والحسد، والجسمية كالإعياء والمشقة، وهو قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ والدوام والخلود بلا زوال، وهو قوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن جزاء المتقين الذين اتقوا الفواحش والشرك جنات أي بساتين وعيون هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. ويقال لهم: ادخلوها بسلامة من كل داء وآفة، آمنين من الموت والعذاب، والعزل والزوال، فهم في احترام

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 193

المغفرة والعذاب [سورة الحجر (15) الآيات 49 إلى 50] :

وتعظيم. والقول الحق الصحيح وهو قول جمهور الصحابة والتابعين أن المراد بالمتقين: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به. وقال المعتزلة: هم الذين اتقوا جميع المعاصي. 2- لا يتعرض أهل الجنة لشيء من الأضرار والمؤذيات، فهم في خلوص من شوائبها الروحانية كالحقد وغيره، والجسمانية كالتعب والمرض، وهم في نعمة وكرامة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، تواصلا وتحاببا. 3- إن نعيم الجنة دائم لا يزول، وإن أهلها باقون: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرعد 13/ 35] إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ [ص 38/ 54] . 4- الجنات أربع والعيون أربع، أما عدد الجنات فلقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن 55/ 46] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن 55/ 62] . وأما العيون فهي أربعة أيضا وهي المذكورة في الآية المتقدمة: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ... المغفرة والعذاب [سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50] نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) البلاغة: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ يوجد مقابلة بين العذاب والمغفرة، وبين الرحمة والعذاب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: نَبِّئْ أخبر يا محمد. الْغَفُورُ للمؤمنين. الرَّحِيمُ بهم. وَأَنَّ عَذابِي للعصاة. الْأَلِيمُ المؤلم. قال البيضاوي: وفي ذكره المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالمغفرة والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده. سبب النزول: أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: «أتضحكون، وذكر الجنة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: اطلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال: «لا أراكم تضحكون، ثم أدبر ثم رجع القهقرى، فقال: إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر، جاء جبريل، فقال: يا محمد، إن الله يقول: لم تقنط عبادي: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله: نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه» . المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية، فقال: نَبِّئْ عِبادِي وهو إخبار عن سنة الله في عباده

التفسير والبيان:

أنه غفار لذنوب التائبين المنيبين إلى ربهم، ومعذّب بعذاب مؤلم من أصروا على المعاصي ولم يتوبوا منها. التفسير والبيان: أخبر يا محمد عبادي أني ذو مغفرة ورحمة، وذو عذاب أليم. وهذا دال على مقامي الرجاء والخوف. فالله تعالى يستر ذنوب من تاب وأناب، فلا يفضحهم ولا يعاقبهم، ويرحمهم فلا يعذبهم بعد توبتهم. وهذا يشمل المؤمن الطائع والعاصي. وأخبرهم أيضا بأن عذابي لمن أصرّ على الكفر والمعاصي ولم يتب منها هو العذاب المؤلم الشديد الوجع. وهذا تهديد وتحذير من اقتراف المعاصي. ففي الآية كغيرها من الآيات الكثيرة جمع بين التبشير والتحذير، والترغيب والترهيب، ليكون الناس بين حالي الرجاء والخوف. أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله، لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله، لبخع نفسه» . وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» . ورواية مسلم هي: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية دليل على آخر على وسطية الإسلام، فينبغي للإنسان أن يذكّر نفسه وغيره، فيخوّف ويرجّي، ويكون الخوف في حال الصحة أغلب عليه منه في حال المرض، فهو في حال دائمة بين الخوف والرجاء لأن القنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوسطها. فالله تعالى وسعت رحمته كل شيء، وهو كثير المغفرة لمن تاب وأناب، ولكنه أيضا لتحقيق التوازن وقمع الفاحشة والمنكر والشرك شديد العذاب لمن أصرّ على معصيته، ومات قبل التوبة والإنابة، وذلك هو العدل المطلق. وكل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كون الله غفورا رحيما، ومن أنكر ذلك، كان مستوجبا للعقاب الأليم لأنه كما يقول الأصوليون: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم أو «تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق» . فقد وصفهم بكونهم عبادا له، ثم ذكر عقيب هذا الوصف: الحكم بكونه غفورا رحيما. قال الرازي: وفي الآية لطائف: إحداها- أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: عِبادِي وهذا تشريف عظيم. وثانيها- لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة هي: أَنِّي وأَنَا وإدخال الألف واللام على قوله: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ولما ذكر العذاب لم يقل: إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ. وثالثها- أنه أمر رسوله بأن يبلغهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.

قصة ضيف إبراهيم وإخبارهم بإهلاك قوم لوط [سورة الحجر (15) الآيات 51 إلى 77] :

ورابعها- أنه لما قال: نَبِّئْ عِبادِي كان معناه: نبئ كل من كان معترفا بعبوديتي، وهذا يدخل فيه المؤمن المطيع والمؤمن العاصي. وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى «1» . قصة ضيف إبراهيم وإخبارهم بإهلاك قوم لوط [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 77] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

_ (1) تفسير الفخر الرازي: 19/ 194- 195

الإعراب:

الإعراب: فَبِمَ هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب، أي فبأي أعجوبة تبشروني؟ تُبَشِّرُونَ فتحت النون لأنها نون الجمع، قياسا على فتحها في جمع الاسم، نحو الزيدون، كما كسرت النون بعد ضمير الفاعل إذا كان مثنى في نحو تفعلان قياسا على كسرها في تثنية الاسم، نحو «الزيدان» حملا للفرع على الأصل. وتُبَشِّرُونَ هنا فعل متعد، والمفعول محذوف. وقرئ: تُبَشِّرُونَ بنون خفيفة مكسورة، وأصله: تبشرونني، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، وهما نون الوقاية ونون الإعراب، فحذف إحداهما تخفيفا، وحذفت ياء الإضافة وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها. وقرئ تُبَشِّرُونَ بنون مشددة مكسورة، ولما استثقل اجتماع النونين المتحركتين، سكّن النون الأولى، وأدغمها في الثانية، قياسا على كل حرفين متحركين من جنس واحد في كلمة واحدة. ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها. إِلَّا آلَ لُوطٍ منصوب لأنه استثناء منقطع لأن (أتباع لوط) ليسوا من القوم المجرمين. وامْرَأَتَهُ منصوب على الاستثناء من آل لوط. وهذا الاستثناء يدل على أن الاستثناء من الإيجاب نفي ومن النفي إيجاب لأنه استثنى آل لوط من المجرمين، فلم يدخلوا في الإهلاك، ثم استثنى من آل لوط امْرَأَتَهُ فدخلت في الهلاك. إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ لما دخلت اللام علقت الفعل عن العمل، مثل: قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون 63/ 1] .

البلاغة:

أَنَّ دابِرَ.. منصوب على البدل من موضع ذلِكَ إن جعل الأمر عطف بيان، أو بدل من الْأَمْرَ إن كان الْأَمْرَ بدلا من ذلِكَ. ومُصْبِحِينَ حال من هؤُلاءِ. وعامل الحال معنى الإضافة: دابِرَ هؤُلاءِ من المضامّة والممازجة. عَنِ الْعالَمِينَ أي عن ضيافة العالمين، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ مبتدأ، والخبر محذوف، أي لعمرك قسمي. البلاغة: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أسند فعل التقدير إلى الملائكة مجازا وهو لله وحده، لما لهم من القرب. أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ كناية عن عذاب الاستئصال. عالِيَها سافِلَها بينهما طباق. الْقانِطِينَ الْغابِرِينَ أَجْمَعِينَ مُصْبِحِينَ مُشْرِقِينَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فيها سجع، وكذا في الضَّالُّونَ الْمُرْسَلُونَ لَصادِقُونَ. المفردات اللغوية: وَنَبِّئْهُمْ أخبرهم وهو معطوف على ما سبق وهو: نَبِّئْ عِبادِي وفي العطف تحقيق لهما ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة، منهم جبريل، بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط. وكلمة ضيف تستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمؤنث والمذكر. فَقالُوا: سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، أو سلمنا سلاما. وَجِلُونَ خائفون فزعون. لا تَوْجَلْ لا تخف. إِنَّا رسل ربك. نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل. بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي علم كثير إذا بلغ، هو إسحاق، لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود 11/ 71] . أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد. عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ حال، أي مع مسّه إياي. فَبِمَ فبأي شيء. تُبَشِّرُونَ استفهام تعجب. بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق الذي لا شك فيه، أي بالصدق أو باليقين. الْقانِطِينَ الآيسين من الولد للكبر. وَمَنْ يَقْنَطُ أي لا يقنط. الضَّالُّونَ الكافرون الذي لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته، أو البعيدون عن الحق. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم؟ والخطب: الأمر الخطير. مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط، وأرسلنا لإهلاكهم. لَمُنَجُّوهُمْ لمخلّصوهم مما هم فيه لإيمانهم. قَدَّرْنا قضينا وكتبنا، والتقدير:

جعل الشيء على مقدار معين، وأسند الملائكة التقدير لأنفسهم مع أنه هو فعل الله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص به. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أي بقيت امرأته في العذاب لكفرها. فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ أي لوطا. قالَ لوط لهم. مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم. بِما كانُوا فِيهِ أي قومك. يَمْتَرُونَ يشكّون، وهو العذاب. لَصادِقُونَ في قولنا. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ اذهب بهم ليلا. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بجزء أو طائفة من الليل. وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ امش خلفهم أو على إثرهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم، أو يطلع على أحوالهم، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم. حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، ففيه تعدية الفعل: وَامْضُوا إلى حيث، وتعدية: تُؤْمَرُونَ إلى ضميره المحذوف. وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط. أَنَّ دابِرَ آخر. مَقْطُوعٌ مهلك مستأصل. مُصْبِحِينَ حال، أي يتم استئصالهم في الصباح، أي عند طلوع الصبح. وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مدينة سدوم، وهي مدينة قوم لوط، أي جاء قوم لوط لما أخبروا أن في بيت لوط مردا حسانا وهم الملائكة. يَسْتَبْشِرُونَ حال، طمعا في فعل الفاحشة بهم، والاستبشار: إظهار السرور. فَلا تَفْضَحُونِ في ضيفي، والفضيحة: إظهار ما يوجب العار، فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في اقتراف الفاحشة. وَلا تُخْزُونِ ولا تذلون بسببهم، والخزي: الذل والهوان أي لا تلحقوا بي ذلا بقصدكم إياهم، بفعل الفاحشة بهم، أو لا تخجلوني فيهم، من الخزاية وهو الحياء. أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إضافتهم أو إجارة أحد منهم، أو لم تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل غريب، وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه. هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم، فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، أو هؤلاء بناتي فتزوجوهن. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قضاء الوطر. لَعَمْرُكَ يكون بفتح العين حال القسم، وهو قسم من الله تعالى بحياة المخاطب وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي وحياتك، والعمر: بفتح العين وضمها: الحياة. سَكْرَتِهِمْ غوايتهم. يَعْمَهُونَ يترددون. الصَّيْحَةُ صيحة جبريل، وهي الصاعقة، قال ابن جرير: وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة. مُشْرِقِينَ وقت شروق الشمس، أي داخلين في وقت الشروق. عالِيَها أي قراهم. سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، فصارت منقلبة بهم. سِجِّيلٍ طين متحجر، طبخ بالنار، وهو لفظ معرّب. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله. لِلْمُتَوَسِّمِينَ للناظرين المتفكرين

المناسبة:

المعتبرين. وَإِنَّها قرى قوم لوط. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك قريش إلى الشام، بنحو واضح لم تندرس آثارها، يمر بها الناس ويرون آثارها، أفلا يعتبرون بها. لَآيَةً لعبرة. لِلْمُؤْمِنِينَ بالله ورسله. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذرا عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء. وكان ذكر هذه القصص تفصيلا للوعد والوعيد، فبدأ أولا بقصة إبراهيم عليه السلام للبشارة بغلام عليم، ثم ذكر إهلاك قوم لوط، لاقترافهم جريمة فاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين. التفسير والبيان: وأخبرهم يا محمد عن ضيوف إبراهيم المكرّمين، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، فقالوا حين دخلوا عليه: سلاما، أي سلاما من الآفات والآلام والمخاوف. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى: أبا الضيفان. فقال إبراهيم للضيوف: إنا خائفون منكم لدخولهم عليه بلا إذن، أو لما رأى أيديهم لا تمتد إلى ما قربه إليهم من الضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ (المشوي بالحجارة المحماة) . وهذا يعني أنهم يبيتون شرا، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ، نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود 11/ 70] . فأجابوه بقولهم: لا تَوْجَلْ لا تخف، وفي سورة هود: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [70] فهذا تعليل النهي عن الوجل في تلك السورة، وأما هنا فعللوا ذلك بقولهم: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي أتينا لبشارتك بميلاد غلام ذي علم وفطنة وفهم لدين الله لأنه سيكون نبيا، وهو إسحاق عليه

السلام، كما تقدم في سورة هود [71] وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [112] . قالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي.. أجاب إبراهيم متعجبا من مجيء ولد حال كبره وكبر زوجته، ومتحققا من الوعد، أبشرتموني بذلك بعد أن أصابني الكبر، فبأي أعجوبة تبشروني، أو إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. فأجابوه مؤكدين لما بشروه به: قالُوا: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ.. أي قال ضيوف إبراهيم له: بشرناك بما هو حق ثابت إذ هو صنع الله ووعده الذي لا يتخلف، فلا تكن من القانطين اليائسين، فالذي أوجد الإنسان من التراب من غير أب وأم قادر على إيجاده من أي شيء، كأبوين عجوزين، أي أن إبراهيم استعظم نعمة الله عليه في وقت غير مألوف عادة، لا أنه استبعد ما هو داخل في نطاق القدرة الإلهية. فأجابهم قالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ.. أي أجاب إبراهيم الضيوف بأنه ليس يقنط، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك، ولا ييأس من رحمة الله إلا الضالون: أي المخطئون طريق الصواب، كما قال يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] . ثم بعد تأكد إبراهيم الخليل عليه السلام من هذه البشرى وعلمه أنهم ملائكة، وذهاب الروع عنه، سألهم عن أمرهم بسبب مجيئهم مختفين: قالَ: فَما خَطْبُكُمْ.. أي قال لهم: فما شأنكم وما الأمر الذي أرسلتم به غير البشرى أيها الملائكة المرسلون؟ كأنه فهم من قرائن الأحوال أن لهم مهمة أصلية غير البشرى لأن البشرى كما حدث لزكريا ومريم يكفيها واحد.

فأجابوه: قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا.. أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين مشركين هم قوم لوط، الذين يتعاطون المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء، لنهلكهم. ثم أخبروه أنهم سينجّون آل لوط جميعهم من بينهم إلا امرأته التي كانت متواطئة مع قومها، فإنها من الغابرين، أي الباقين مع الكفرة الهالكين، فإنا مخلصوهم أجمعين من ذلك العذاب: عذاب الاستئصال، إلا امرأة لوط، قضى الله عليها أن تكون مع المهلكين، لإعانتهم على مقاصدهم الخبيثة. وقد أضاف الملائكة التقدير في قولهم: قَدَّرْنا إلى أنفسهم، مع أنه لله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى، كما يقول خاصة الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا، والآمر هو الملك، وليس هم. ثم بدأت قصة الدمار والعذاب ومجيئهم إلى لوط عليه السلام فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ.. أي لما انتهت مهمة الملائكة مع إبراهيم فبشروه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين، ذهبوا بعدئذ إلى لوط وآله في صورة شباب حسان الوجوه، في بلدهم (سدوم) ولم يعرف لوط وقومه أنهم ملائكة الله، كما لم يعرفهم إبراهيم بادئ ذي بدء، فقال لهم لوط: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي إنكم قوم غير معروفين لدي، تنكركم نفسي، وأخاف أن تباغتوني بشر، فمن أي الأقوام أنتم؟! كما جاء في آية أخرى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً، سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود 11/ 77] . وقيل: أنكر حالتهم، وخاف عليهم من إساءة قومه، لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه. فأجابوه بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي قالت الملائكة له: جئناك بما يسرّك، وهو عذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم، ويكذبونك فيه قبل مجيئه.

ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق واليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه، وهو عذاب قوم لوط، وهذا مثل قوله تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر 15/ 8] . وَإِنَّا لَصادِقُونَ وهذا تأكيد آخر، أي وإنا لصادقون فيما أخبرناك به، من هلاكهم ونجاتك مع أتباعك المؤمنين. وإنما وصفوا مهمتهم بهذا الوصف، ولم يصرحوا بعذابهم، لإفادة تحقق عذابهم، وإثبات صدقه عليه السلام فيما دعاهم إليه. ثم جاءت مرحلة التنفيذ وبيان خطة النجاة للوط وأتباعه، فقالوا له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فسر بأهلك بعد مضي جزء من الليل، وأهله: ابنتاه فقط وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي وامش وراء أهلك ليكون أحفظ لهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم، فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما أصابهم من العذاب والنكال، حتى لا يرق قلبه لهم. وأكدوا النهي بقوله: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي سيروا بأمر ربكم غير ملتفتين إلى ما وراءكم، إلى الشام، كما قال ابن عباس، أو حيث يوجهكم جبريل الذي أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة، لم يعمل أهلها مثل عمل قوم لوط. وأوحى الله إليه أن التنفيذ سريع الحصول فقال: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي وأوحينا إليه أو تقدمنا إليه أن أمر هلاكهم مقضي قضاء مبرما، وأن آخر هؤلاء وأولهم مستأصل وقت الصباح، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود 11/ 81] . فقوله: دابِرَ هؤُلاءِ يعني آخرهم، أي يستأصلون عن آخرهم، حتى لا يبقى منهم أحد. ثم ذكر الله تعالى في ثنايا القصة ما عزم عليه قوم لوط من الإساءة لهؤلاء

الضيوف، فقال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ أي جاء قوم لوط أهل سدوم، حين علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، مستبشرين بهم فرحين، أملا في ارتكاب الفاحشة معهم. وهذا جرم فظيع، وأمر مستهجن، ينافي الأعراف والأذواق السليمة من إكرام الغريب والإحسان إليه. قيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن، اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: إن امرأة لوط أخبرتهم بذلك. وعلى أي حال قال القوم: نزل بلوط ثلاثة من المرد، ما رأينا قط أصبح وجها، ولا أحسن شكلا منهم، فذهبوا إلى دار لوط. فقال لهم لوط جملتين مؤثّرتين، الأولى: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي هؤلاء ضيوف، فلا تفضحوني فيهم، أي بارتكاب ما يؤدي إلى العار معهم، والضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموهم بالسوء، كان ذلك إهانة لي. والثانية مؤكدة للأولى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي وخافوا عذاب الله، ولا تخزون أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي، ولا توقعوني في الخزي (أي الهوان) والعار، بالإساءة لهم. فأجابوه: وقالُوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، ونهيناك أن تضيف أحدا. فأجابهم قالَ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال لوط لقومه مرشدا لهم: تزوجوا النساء اللاتي أباحهن الله لكم، وتجنبوا إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمري. والمراد ببناته: نساء قومه لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم، كما قال تعالى في حق نبينا النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب 33/ 6] وفي قراءة أبيّ: وهو أب لهم. وقيل: المراد بناته من صلبه، أي التزوج بهن.

وهذا كله، وهم غافلون عما يراد بهم، ويحيط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر، لهذا قال تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو قالت الملائكة للوط: لَعَمْرُكَ، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي أقسم بحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا أيها الرسول- وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع- إنهم في غوايتهم يتحيرون، فلا يلتفتون إلى نصيحتك، ولا يميزون بين الخطأ والصواب. وسَكْرَتِهِمْ ضلالتهم، ويَعْمَهُونَ يترددون أو يلعبون. قال ابن عباس: ما خلق الله وما ذرأ، وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره. ثم أخبر الله تعالى عن نوع عذابهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي فنزل فيهم صيحة جبريل عليه السلام: وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها، فقوله مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق، لذا قال أولا مُصْبِحِينَ ثم قال هنا مُشْرِقِينَ. وأخذ الصيحة: قهرها لهم وتمكنها منهم، وقد أدت بهم إلى رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم. والصيحة: صوت شديد مهلك من السماء. وهذا ما تضمنه قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي جعلنا عالي المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها أي في أعماقها، فانقلبت عليهم، وأنزل تعالى عليهم حجارة من طين متحجر طبخ بالنار. يظهر مما سبق أن الآية ذكرت أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب هي:

1- الصيحة الهائلة المنكرة. 2- أنه جعل عاليها سافلها. 3- أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل. ثم ذكر تعالى العبرة من تلك القصة، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي إن في ذلك العذاب الواقع بقوم لوط لدلالات للمتأملين المتفرّسين، الذين يتعظون بالأحداث، ويتفهمون ما يكون لأهل الكفر والفواحش من عقاب أليم. وبالمناسبة: روى البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. ثم وجّه تعالى أنظار أهل مكة وأمثالهم إلى الاعتبار بما حدث فقال: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي وإن مدينة سدوم التي أصابها هذا العذاب لبطريق واضح، لا تخفى على المسافرين المارّين بها، فآثارها ما تزال باقية إلى اليوم، في الطريق من الحجاز إلى الشام، كما قال تعالى في آية أخرى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات 37/ 137- 138] . فقوله: لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي بطريق واضح. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجاءنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله، أي إن المنتفعين حقا من مغزى القصة هم المؤمنون الذين يدركون أن العذاب انتقام من الله لأنبيائه. أما غير المؤمنين بالله، فينسبون الدمار للطبيعة والشؤون الأرضية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت القصة إلى ما يأتي: 1- تعليم أدب الضيف بالتحية والسلام حين القدوم على الآخرين. 2- وصف أحاسيس المضيف ومخاوفه حين تقديم الطعام لضيفه وامتناعهم عن الأكل. 3- كانت بشارة الملائكة لإبراهيم بولادة إسحاق سببا في طرد مخاوفه وإشعاره بالأمن والسلامة. 4- كان استفهام إبراهيم الخليل استفهام تعجب من مخالفة العادة، وحصول الولد حال الشيخوخة التامة من الأبوين معا، ولم يكن استفهامه استبعاد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر لأن إنكار قدرة الله تعالى حينئذ كفر. 5- أكد الملائكة البشارة، وأنها حق ثابت لا خلف فيه، وأن الولد لا بد منه، ثم نهوه عن القنوط واليأس. ويلاحظ أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهي عنه، كما في قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب 33/ 48] . وقد نفى إبراهيم القنوط عن نفسه قائلا وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. وهذا يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه، لا أنه قنط من رحمة الله تعالى. 6- لا خلاف في اللغة العربية في أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فقوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ استثنى آل لوط من القوم المجرمين، فهم ناجون، ثم استثنى امرأته من آل لوط، فهي هالكة.

7- لم يعرف لوط وآله أن الضيوف ملائكة، كما لم يكن إبراهيم قد عرفهم. وقيل: كانوا شبابا، ورأى جمالا، فخاف عليهم من فتنة قومه، فهذا هو الإنكار في قوله قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. 8- ليس محمودا إطالة المكث أو النظر إلى آثار القوم الذين دمرهم الله، ويسن الإسراع حين المرور في تلك الديار لأنها أماكن غضب ولعنة. 9- نهى الله تعالى لوطا وأتباعه عن الالتفات أثناء نزول العذاب بقوم لوط، حتى لا تأخذهم الشفقة عليهم، وليجدّوا في السير، ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح. 10- كان تصميم قوم لوط على ارتكاب الفاحشة مع هؤلاء الضيوف دليلا ماديا آخر على فحشهم وكفرهم وضلالهم. 11- قول لوط عليه السلام: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ سواء كنّ بناته الصلبيات أو نساء قومه: إرشاد إلى الشيء المباح غير الحرام، أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. ويكفر من فهم غير ذلك لأن الزنى حرام في كل الملل والأديان، ولا يقره نبي قط ولو للضرورة. 12- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ: قال القاضي عياض وابن العربي فيه: أجمع أهل التفسير في هذا: أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم، تشريفا له، وأن قومه من قريش في سكرتهم أي في ضلالتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون. ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوط، أنهم كانوا في سكرتهم يعمهون، وأن الملائكة قالت له لَعَمْرُكَ ... ويكره لدى كثير من العلماء أن يقول الإنسان: لعمري لأن معناه:

قصة أصحاب الأيكة (قوم شعيب) وأصحاب الحجر (ثمود) [سورة الحجر (15) الآيات 78 إلى 86] :

وحياتي، فهو حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. وقال الإمام أحمد: من أقسم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لزمته الكفارة. 13- كان عقاب قوم لوط بالصيحة وقلب بلدهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل أي طين متحجر مطبوخ بالنار عليهم. 14- إن في هذه القصة لعبرة وعظة للمؤمنين الصادقين. والآثار المادية لديار قوم لوط في طريق الشام خير شاهد وأصدق دليل للمتعظين. هذا.. ولم يجز المالكية القضاء بالتوسم والتفرس، فذلك دليل غير متيقن، فلا يترتب عليه حكم. قصة أصحاب الأيكة (قوم شعيب) وأصحاب الحجر (ثمود) [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 86] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) الإعراب: وَإِنْ كانَ إِنْ هنا: مخففة من الثقيلة، ومعنى إن ولام لَظالِمِينَ للتوكيد.

البلاغة:

البلاغة: الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة. المفردات اللغوية: أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم قوم شعيب عليه السلام، والأيكة: الغيضة: وهي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض، وهي بقرب مدين. لَظالِمِينَ بتكذيبهم شعيبا. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بأن أهلكناهم بشدة الحر. وَإِنَّهُما قرى قوم لوط والأيكة. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح. والإمام: ما يؤتم به، سمي به الطريق لأنه يؤتم ويتّبع. أَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام، كانوا يسكنونه، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرا، ومنه حجر الكعبة. الْمُرْسَلِينَ أي كذب أصحاب الحجر صالحا، وعبر بالجمع عن المفرد لأنه تكذيب لباقي الرسل، لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد. آياتِنا هي الناقة التي فيها آيات كثيرة، كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها، أو المراد آيات الكتاب المنزل على نبيهم. مُعْرِضِينَ لا يتفكرون فيها. مُصْبِحِينَ وقت الصباح. أَغْنى دفع. عَنْهُمْ العذاب. ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة والحصون وجمع الأموال. إِلَّا بِالْحَقِّ أي خلقا ملتبسا بالحق، ملازما له، لا يلائم استمرار الفساد، ودوام الشرور لَآتِيَةٌ لا محالة، فيجازي كل أحد بعمله. فَاصْفَحِ يا محمد عن قومك. الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه، أو لا تعجل بالانتقام منهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. الْخَلَّاقُ لكل شيء، خلقك وخلقهم، وبيده أمرك وأمرهم. الْعَلِيمُ بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل إليه الأمر. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة والرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، فأولها: قصة آدم وإبليس، وثانيها: قصة إبراهيم ولوط، وثالثها: هذه القصة- قصة أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب غياض (أشجار متشابكة كثيرة) فكذبوا شعيبا، فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة، أي الصيحة وقت الصباح، لشركهم بالله، ونقصهم المكاييل والموازين.

التفسير والبيان:

ورابعها: قصة صالح مع قومه، كان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها، وظهور نتاجها عند خروجها، وكثرة لبنها. والهدف من إيراد هذه القصص كما بينا الترغيب في الطاعة الموجبة للفوز بالجنان، والتحذير من المعصية المؤدية لعذاب النيران، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بها عن تكذيب قومه له. وأما مناسبة قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ.. فهو أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار، فكأنه قيل: الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم؟ فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة، فاذا تركوها وأعرضوا عنها، وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم. أو أن المراد من هذه الآية تصبير الله تعالى محمدا عليه السلام على سفاهة قومه، فإنه إذا عرف أن الأنبياء السابقين عاملتهم أممهم بمثل هذه المعاملات الفاسدة، سهل عليه تحمل السفاهات من قومه. التفسير والبيان: أي إن أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب ظالمون، بسبب شركهم بالله، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبي الزمان من قوم لوط بعدهم، ومجاورين لهم في المكان، لذا لما أنذر شعيب قومه قال: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود 11/ 89] . والأيكة: الشجر الملتف. روى ابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مدين وأصحاب الأيكة أمّتان بعث الله إليهما شعيبا» .

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ.. أي فعاقبناهم جزاء كفرهم ومعاصيهم، عاقبنا أهل الأيكة بيوم الظلة: وهو إصابتهم بحر شديد سبعة أيام، لا ظل فيه، ثم أرسلت عليهم سحابة، فجلسوا تحتها، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. وعاقبنا أهل مدين بالصيحة. وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي وإن كلا من قرى قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة لبطريق واضح يسلكه الناس في سفرهم من الحجاز إلى الشام. والإمام: ما يؤتم به، وجعل الطريق إماما لأنه يؤمّ ويتّبع حتى يصل إلى الموضع الذي يريده. ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحجر وهم ثمود، فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ.. أي ولقد كذبت ثمود صالحا نبيهم عليه السلام، ومن كذب رسولا فقد كذب بجميع المرسلين، لاتفاق أصول دعوتهم في التوحيد وعبادة الله وأمهات الفضائل، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين. وَآتَيْناهُمْ آياتِنا.. أي وآتيناهم وأعطيناهم من الآيات والدلائل ما يدلهم على صدق نبوة صالح عليه السلام، كالناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء بدعاء صالح، فأعرضوا عنها وعقروها ولم يعتبروا بها، فكانت تسرح في بلادهم، لها شرب يوم من نهر صغير ولهم شرب يوم آخر، ولبنها كثير كان يكفي القبيلة. وَكانُوا يَنْحِتُونَ.. أي وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبال وأصبحوا بها آمنين من الأعداء، من غير خوف، لقوة إحكامها، وهي ما تزال مشاهدة بوادي الحجر الذي مرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ذاهب إلى تبوك، فقنّع رأسه، وأسرع دابته، وقال لأصحابه- فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر-: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا، خشية أن يصيبكم ما أصابهم» .

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي لما عتوا وبغوا وعقروا الناقة، أخذتهم صيحة الهلاك في وقت الصباح من اليوم الرابع من موعد العذاب، كما قال تعالى: فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] . فَما أَغْنى عَنْهُمْ.. أي فما نفعتهم تلك الأموال لما جاء أمر ربك، وما دفعت عنهم ذلك العذاب، ولم يستفيدوا من مكاسبهم وهي ما كانوا ينحتونه من البيوت في الجبال، وما كانوا يستغلونه من الزروع والثمار، التي ضنوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها، لئلا تضيق عليهم في المياه، بل أصبحوا هلكى جاثمين. ولما أخبر الله تعالى عن إهلاك الكفار، فكأن شخصا تساءل، كيف يليق التعذيب والإهلاك بالرحيم الكريم؟ فأجاب تعالى عنه بقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أي وما خلقنا هذه المخلوقات في السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق، أي بالعدل والحكمة، لا ظلما، ولا باطلا ولا عبثا، ليكون الخلق مشتغلين بالعبادة والطاعة، فإذا تركوها وأعرضوا عنها، وجب في مقتضى العدل والحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم. وفي هذا إشارة إلى أن تعذيب المكذبين للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة هو حق وعدل وحكمة ومصلحة للبشر أنفسهم. وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي وإن يوم القيامة آت لا ريب فيه، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وفي هذا تهديد للعصاة، وترغيب للطائعين. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض يا محمد عن المشركين، واحتمل ما تلقى منهم من أذى إعراضا جميلا بحلم وإغضاء، وهذا مخالقة للناس بخلق حسن، فهو غير منسوخ. والشائع أن هذا الصفح قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ. قال الرازي: كون الصفح منسوخا بآية السيف بعيد لأن المقصود من ذلك

فقه الحياة أو الأحكام:

أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح، فكيف يصير منسوخا «1» ؟! إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي إن ربك كثير الخلق، خلق كل شيء، واسع العلم، عليم بكل شيء، وهذا تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تبدد من الأجساد، وتفرق في سائر أنحاء الأرض، فالجميع صائرون إليه، محاسبون بين يديه. فقه الحياة أو الأحكام: هاتان قصتان من قصص الأمم البائدة الظالمة المكذّبة لرسلها، تهزّ أعماق البشر، وتحرّك مشاعرهم، وتوقظ ضرورة الصحوة والمبادرة إلى ساحة الإيمان وصلاح الأعمال. فلقد كذب أصحاب الأيكة (قوم شعيب) رسولهم شعيبا، مع أنهم كانوا يرفلون بالنعم والخيرات الكثيرة المغدقة، فكانوا أصحاب غياض «2» ورياض وشجر مثمر. وظلت بحكمة الله تعالى آثار مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة ماثلة مشاهدة قائمة، ليعتبر بهما من يمرّ عليهما. وكذلك كذّب أصحاب الحجر (ديار ثمود بين المدينة وتبوك) نبيهم صالحا، فلم يؤمنوا برسالته، ومن كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم لأنهم على دين واحد في الأصول، فلا يجوز التفريق بينهم. وكان عقاب هؤلاء المكذبين وهو التدمير والإبادة والهلاك التام عبرة للمعتبرين، ومثار تفكير وعظة للمتفكرين، فما أغنت عنهم الأموال والحصون في

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 206 (2) الأيكة: الغيضة، وهي جماعة الشجر، والجمع: الأيك.

الجبال وقوة الأجسام. والله الخالق للسموات والأرض قادر على البعث والمعاد والقيامة لإقامة العدل بين الخلائق وحساب الناس أجمعين. وقد استنبط العلماء من الآيات في ضوء السنة ما يأتي: 1- كراهة دخول مواطن العذاب، ومثلها دخول مقابر الكفار، فإن دخل الإنسان إلى تلك المواضع والمقابر، فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم مما ذكر سابقا من الاعتبار والخوف والإسراع، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تدخلوا أرض بابل، فإنها ملعونة. وهناك روايات أخرى لحديث ابن عمر عند البخاري وهي: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنّا واستقينا، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا ذلك العجين. وفي لفظ آخر: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحجر- أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة. 2- عدم جواز الانتفاع بماء السخط، فرارا من سخط الله لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإهراق ماء بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به، وتقديمه علفا للإبل. وهذا ينطبق على الماء النجس وما يعجن به. 3- قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم إذ لا تكليف عليها. وكذلك قال في العسل النجس: إنه يعلفه النحل. 4- أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل ، ولم يأمر بطرحه،

كما أمر في لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر، فدل على أن لحم الحمير أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس. 5- يجوز للرجل حمل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها لأمره صلّى الله عليه وسلّم بعلف الإبل العجين. 6- جواز التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم لأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يستقوا من بئر الناقة. 7- منع بعض العلماء الصلاة في موضع العذاب، وقال: لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط، وبقعة غضب. فلا يجوز التيمم بترابها، ولا الوضوء من مائها، ولا الصلاة فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله» . وزاد المالكية: الدار المغصوبة، والكنيسة والبيعة، والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة، أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه إنسان، أو جدارا عليه نجاسة. لكن أجمع العلماء على جواز التيمم في الموضع الطاهر من مقبرة المشركين، وجواز الصلاة في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر. وقال مالك: لا يصلى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. والممنوع مما ذكر مستثنى من قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» . 8- لا يصلى في البستان (الحائط) الذي يلقى فيه النتن والعذرة لإصلاحه، حتى يسقى ثلاث مرات، لما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن النبي

أفضال الله تعالى على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم [سورة الحجر (15) الآيات 87 إلى 99] :

صلّى الله عليه وسلّم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن، قال: «إذا سقي ثلاث مرات فصلّ فيه» . أفضال الله تعالى على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الإعراب: كَما أَنْزَلْنا.. الكاف متعلقة بقوله: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، أو متعلقة بقوله: أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، أي أنذركم من العذاب كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الذين اقتسموا طرق مكة وعقابها، يمنعون الناس عن استماع كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم. عِضِينَ أي جعلوه أعضاء، حين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وعِضِينَ جمع عضة. فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي، وتُؤْمَرُ صلته، وعائده محذوف

البلاغة:

تقديره: فاصدع بالذي تؤمر به، كما حذف من قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه الله، ومثل: أمرتك الخير أي أمرتك بالخير، وإما أن تكون «ما» مصدرية، أي فاصدع بالأمر. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ: صفة، وقيل: مبتدأ، ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو فَسَوْفَ. البلاغة: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عطف عام وهو القرآن على خاص وهو الفاتحة. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه استعارة تبعية، شبّه خفض الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كل، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه. المفردات اللغوية: الْمَثانِي جمع مثنى، من التثنية وهو التكرير والإعادة، والسبع المثاني: هي الفاتحة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه الشيخان لأنها تثنى في كل ركعة، وآياتها سبع لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا. أَزْواجاً أصنافا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا وَاخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك، والمراد به: التواضع واللين، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه: إذا غطاه وضمه إليه. النَّذِيرُ من عذاب الله أن ينزل عليكم والنَّذِيرُ المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به. الْمُبِينُ البيّن الإنذار، أي أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا. كَما أَنْزَلْنا العذاب. عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ هم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر. وقيل: هم أهل الكتاب (اليهود والنصارى) . الْقُرْآنَ حيث قال المشركون عنادا: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين. وإذا كان المراد أهل الكتاب فالقرآن: كتبهم المنزلة عليهم، آمنوا ببعض كتبهم، وكفروا ببعض، فيكون ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. عِضِينَ أجزاء، جمع عضة بمعنى الكذب، أي جعلوه مفترى، أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ سؤال توبيخ عن التقسيم أو النسبة إلى السحر، فيجازيهم عليه، أو هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي. فليس المقصود بالسؤال سؤال استخبار واستعلام لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لم عصيتم

سبب النزول نزول الآية (95) :

القرآن، وما حجتكم فيه؟ هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة: إن القيامة مواطن، فمرة يكون هناك سؤال وكلام كما في هذه الآية، ومرة لا يكون هناك سؤال وكلام، كما في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] . فَاصْدَعْ يا محمد. بِما تُؤْمَرُ به أي اجهر وأمضه، من صدع بالحجة: إذا تكلم بها جهارا. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك، بإهلاكنا كلا منهم بآفة، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين. وَلَقَدْ للتحقيق. يَضِيقُ صَدْرُكَ أي ينقبض حسرة وحزنا. بِما يَقُولُونَ من الاستهزاء والتكذيب. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل: سبحانه وبحمده، أي التسبيح مقترنا بالحمد. السَّاجِدِينَ المصلين. الْيَقِينُ الموت. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. سبب النزول: نزول الآية (95) : إِنَّا كَفَيْناكَ: أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحا حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. المناسبة: لما صبّر الله تعالى محمدا على أذى قومه، وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بها لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز. التفسير والبيان: وتالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السبع المثاني والقرآن العظيم،

والسبع المثاني: هي سورة الفاتحة، ذات الآيات السبع، التي تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة، والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. روى البخاري حديثين في تفسير السبع المثاني، الأول عن أبي سعيد بن المعلى، والثاني عن أبي هريرة. أما حديث أبي سعيد فقال: «مرّ بي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أصلّي، فدعاني، فلم آته حتى صليت، فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الأنفال 8/ 24] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخرج، فذكّرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» . وأما حديث أبي هريرة فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أم القرآن: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم» . وقيل: السبع المثاني: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة لتكرار القصص والأحكام والحدود وتثنيتها فيها. وقيل: المراد بالسبع المثاني: جميع القرآن، ويكون العطف من باب الترادف، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر 39/ 23] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه. والراجح أن تفسير البخاري نص في أن الفاتحة: السبع المثاني. ولا مانع- كما قال ابن كثير- من وصف غيرها بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا، والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن

ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة «1» . ثم رتب تعالى على هذا العطاء العظيم قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.. أي لا تطمح أيها الرسول- والخطاب لأمته- إلى ما متعنا به الأغنياء من زينة الحياة الدنيا، فمن وراء ذلك عقاب شديد، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية. والمقصود: فاخر بما أوحي إليك، وقدّر عظمة نعمته عليك، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية، لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تتحسر عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك، وإذا كنت في نعمة عظمي، هانت أمامها بقية النعم وكانت حقيرة. وهذا دليل على أن القرآن ثروة كبري وخير وفلاح. ونظير الآية: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه 20/ 131] . قال أبو بكر رضي الله عنه: من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغّر عظيما، وعظّم صغيرا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي ولا تتأسف على المشركين إذا لم يؤمنوا، ليتقوى بهم الإسلام، ويعتز بهم المسلمون. وقيل: المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا، فلك في الآخرة أفضل منه. وبعد النهي عن الالتفات لأغنياء الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك وتواضع للمؤمنين، ولا تجافهم ولا تقس عليهم، كما قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 557 [.....]

فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.. [آل عمران 3/ 159] . ثم وجهه تعالى لوظيفته، وهي الإنذار فقال: وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ.. أي وقل يا محمد للناس: إني منذر ومخوف من عذاب أليم، بسبب التكذيب والتمادي في الغي، كما حل بالأمم المتقدمة المكذبة لرسلها، وما أحاط بهم من انتقام وعذاب. جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنّجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذّبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق» . كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ هناك رأيان في تعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا «1» . أحدهما- أن يتعلق بقوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا التوراة والإنجيل على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من قبلك، وهم المقتسمون الذين اقتسموا القرآن إلى أجزاء، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل، وكفروا ببعضه المخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل. وهذا مروي عند البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس. والثاني- أن يتعلق بقوله: وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي وأنذر

_ (1) الكشاف: 2/ 195

قريشا بالعذاب مثل ما أنزلنا من العذاب على المتسمين- يعني اليهود- وهو ما جرى على قريظة والنضير، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان. فكل من هذين الرأيين جعل المقتسمين من أهل الكتاب، والمقتسم هو القرآن. ويجوز أن يراد بالقرآن كتبهم التي يقرءونها، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال قومه عن القرآن إنه سحر، أو شعر، أو كهانة. وهناك وجه ثالث مروي أيضا عن ابن عباس، جعله الرازي هو القول الأول، حيث قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة، يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان: كانوا ستة عشر رجلا، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها: لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي للنبوة، فإنه مجنون، وكانوا ينفرون الناس عنه، بأنه ساحر، أو كاهن. أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا، فماتوا شر ميتة، والمعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين «1» . فالمقتسمون: هم القرشيون. وبعد هذا الإنذار أقسم الله تعالى بذاته العلية على وقوع الحساب على الأعمال، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.. أي فو الله لنسألن جميع الكفار سؤال توبيخ وتأنيب لهم عن أقوالهم وأعمالهم، وسنجازيهم عليها الجزاء الأوفى. فسر أبو العالية الآية فقال: يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما ذا أجابوا المرسلين.

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 211 وما بعدها.

وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ، إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، فلا ألفينّك يوم القيامة، وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» . وإذا كانت هذه مهمتك أيها النبي وهو الإنذار وأن الحساب محقق، فما عليك إلا الجهر بدعوتك، فقد انتهت مرحلة الإسرار في الدعوة، فقال: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ.. أي فاجهر بتبليغ دعوتك للجميع، وواجه بها المشركين، ولا تأبه بهم، فإن الله عاصمك وحافظك منهم، وأعرض عن المشركين، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ هذا تأمين رباني وعصمة وصون، أي إنا كفيناك شر المستهزئين بك، المجاهدين في عداوتك، الساخرين منك ومن القرآن، وهم جماعة ذو وقوة وشوكة من المشركين، وهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث. قال جبريل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقب الوليد، فتعلق بثوبه سهم، فأبى تعظما نزعه، فأصاب عرقا في عقبه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل، فمات بشوكة دخلت فيه، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فأصيب بداء، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 215، تفسير القرطبي: 10/ 62، تفسير ابن كثير: 2/ 559

وكان هؤلاء المستهزئون مشركين، لذا وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي الذين يتخذون إلها آخر مع الله، فيشركون به من لا يضر ولا ينفع. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم ومآل شركهم ونتيجة كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير، لعلهم يرتدعون ويؤمنون. ثم سلّى الله نبيه عما يصيبه من أذى المشركين فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ.. أي وإنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض، فلا يثنينك ذلك عن إبلاغ رسالة الله، وتوكل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، والجأ إليه لإزالة الانقباض والجزع. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. أي فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة، وداوم على ذلك حتى يأتيك اليقين، أي الموت، وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن، والدليل لهذا التأويل: قوله تعالى حكاية عن أهل النار: قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ [المدثر 74/ 43- 47] أي الموت. وهذا دليل على أن علاج ضيق الصدر هو التسبيح والتقديس والتحميد والإكثار من الصلاة، وأن العبادة كالصلاة واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . وهو دليل أيضا على تخطئة بعض الملاحدة القائلين بأن المراد باليقين: المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم، وهذا- كما

فقه الحياة أو الأحكام:

قال ابن كثير- كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس، وأكثرهم عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر، واشتد عليه خطب، فزع إلى الصلاة. روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- القرآن العظيم هو النعمة العظمى على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين لا يقاس بها أي شيء آخر من مال أو ثروة أو غير ذلك. 2- الفاتحة سورة من القرآن خصصت بالذكر لفضلها ومزيتها، لاشتمالها على أصول الإسلام، بل هي أفضل سور القرآن لسببين: الأول- إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من القرآن، مما يدل على مزيد الشرف والفضيلة. الثاني- أنه تعالى لما أنزلها مرتين، دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها. وإنها نزلت مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة. 3- لا يطمح بصر المؤمن إلى زخارف الدنيا، وعنده معارف المولى عز وجل، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي من لم يستغن به. 4- قال بعضهم: هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوّف إلى متاع الدنيا على

الدوام، وإقبال العبد على مولاه. والحق أنه ليس في دين محمد الرهبانية، والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية، كما كان في دين عيسى، وإنما الإسلام دين الحنيفية السمحة ودين الفطرة ودين الوسطية الذي يجمع بين الروح والمادة، والاشتغال للحياتين معا الدنيا والآخرة، واستيفاء حظوظ الجسد المباحة مع الرجوع إلى الله بقلب سليم. 5- على المؤمن أن يكون بعيدا من المشركين، ولا يحزن إن لم يؤمنوا، قريبا من المؤمنين، متواضعا لهم، محبا لهم، ولو كانوا فقراء. 6- مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مؤمن عالم بعده التبليغ لرسالة الله لجميع الخلق، والإنذار بالعذاب من الكفر والعصيان. وقد كانت دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بادئ الأمر سرّية، ثم صارت جهرية بهذه الآية: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. 7- العذاب مقرر على المقتسمين لكتاب الله، بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بالبعض الآخر، سواء أكانوا من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من مشركي قريش. 8- الآية: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ بعمومها تدل على سؤال الجميع من الناس، كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب. والظاهر أن الكافر يسأل، لقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصّافّات 37/ 24] وقوله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية 88/ 25- 26] . وأما قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص 28/ 78] وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 174] وقوله: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين 83/ 15] فذلك في أحوال خاصة بيوم القيامة لأن للقيامة مواطن،

فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام، هل عملتم كذا وكذا لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ «1» . 9- تكفلت عناية الله ورعايته بصون النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمايته من أذى المشركين بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. قال بعضهم: هذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي: وهو ضعيف لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم، فلا يكون منسوخا «2» . ثم قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.. أي اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله فان الله كافيك من آذاك، كما كفاك المستهزئين. وصفة المستهزئين: الشرك، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. 10- التسبيح والتحميد والصلاة علاج الهموم والأحزان، وطريق الخروج من الأزمات والمآزق والكروب. وغاية القرب من الله تعالى حال السجود، كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأخلصوا الدعاء» لذا خص السجود هنا بالذكر بقوله: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. 11- المسلم مطالب على سبيل الفرضية بالعبادة التي هي الصلاة على الدوام حتى يأتيه الموت، ما لم يغلب الغشيان أو فقد الذاكرة على عقله، والإسلام سمح

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 61 (2) تفسير الرازي: 19/ 215

سهل، فعليه أداء الصلاة بأي كيفية يستطيعها، ولا تسقط عنه أصلا إلا في حال لغيبوبة، ويحاسب على كل فريضة تركها أو أهملها عمدا، كما قال العبد الصالح عيسى عليه السلام: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم 19/ 31] .

سورة النحل:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة النحل مكية، وهي مائة وثمان وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة النحل، لاشتمالها في الآيتين [68- 69] : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ على قصة النحل التي ألهمها الله امتصاص الأزهار والثمار، وتكوين العسل الذي فيه شفاء للناس، وتلك قصة عجيبة مثيرة للتفكير والتأمل في عجيب صنع الله تعالى، والاستدلال بهذا الصنع على وجود الله سبحانه. وسميت أيضا سورة «النّعم» لتعداد نعم الله الكثيرة فيها على العباد «1» . ارتباطها بالسورة التي قبلها: إن آخر سورة الحجر شديد الارتباط بأول هذه السورة، فإن قوله تعالى في آخر السورة السابقة: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يدل على إثبات الحشر يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا، وكذلك قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يدل على ذكر الموت، وكل من هاتين الآيتين ظاهر المناسبة لقوله هنا في أول السورة: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إلا أنه في الحجر أتى بقوله: يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع، وهنا أَتى بلفظ الماضي لأن المراد بالماضي هنا: أنه بمنزلة الآتي الواقع، وإن كان منتظرا، لقرب وقوعه وتحقق مجيئه.

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 65

ما اشتملت عليه السورة:

وكذلك ترتبط هذه السورة بسورة إبراهيم لأنه تعالى ذكر هناك فتنة الميت، وما يحصل عندها من الثبات أو الإضلال، وذكر هنا الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [28، 32] وما يحصل عقب ذلك من النعيم أو العذاب. وذكر أيضا النعيم في سورة إبراهيم، وقال بعده: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [34] وكررت الآية نفسها هنا [18] وذكر هنا أنواع النّعم المختلفة. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة الكلام على أصول العقيدة وهي الألوهية والوحدانية، والبعث والحشر والنشور، فبدأت بإثبات الحشر والبعث واقتراب الساعة ودنوها، معبرا تعالى بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع قطعا، مثل قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] وقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وكل ذلك يدل على أن إخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء لأنه آت لا محالة. ثم أثبتت الوحي الذي كان ينكره المشركون كما أنكروا البعث، وأنهم كانوا يستعجلون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم العذاب الذي هددهم به. ثم تحدثت السورة عن أدلة القدرة الإلهية في هذا الكون الدالة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض، وما فيهما من كواكب ونجوم، وجبال وبحار، وسهول ووديان، ومياه وأنهار، ونباتات وحيوانات، وأسماك ولآلئ بحرية وبواخر تجري في البحر، ورياح لواقح ومسيرة للفلك، ودعت إلى التأمل في منافع المطر والأنعام وثمرات النخيل والأعناب، ومهمة النحل، وخلق الإنسان ثم إماتته، والمفاضلة بين الناس في الرزق، وطيران الطيور، وتهيئة المساكن، وغير ذلك. وأوضحت السورة نعم الله تعالى الكثيرة المتتابعة، وذكّرت الناس بنتيجة

الكفر بها، وعدم القيام بشكرها، وإعداد أبواب جهنم للكفار خالدين فيها، وإعداد جنات عدن للمتقين الذين أحسنوا العمل في الدنيا. وأبانت فضل الله سبحانه بإرسال الرسل في كل الأمم، وحصرت مهمتهم الموحدة بالأمر بعبادة الله واجتناب الطاغوت. وأبانت السورة مهمة خطيرة للأنبياء في عالم القيامة وهي الشهادة على الأمم بإبلاغهم الدعوة الحقة إلى دين الله، وعدم الإذن للكافرين في الكلام، ورفض قبول أعذارهم. ثم ذكر تعالى أجمع آية في القرآن وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.. [90] وأعقبها بالأمر بالوفاء بالعهود والوعود، وتحريم نقضها، وتعظيم شروطها وبنودها، وعدم اتخاذ الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق وسيلة للخداع والمكر. ثم أمر الله تعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن، والتصريح بانعدام سلطانه وتأثيره على المؤمنين المتقين المتوكلين على ربهم، وبيان أن سلطانه على المشركين. وأوضح سبحانه أن هذا القرآن نزل به روح القدس على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو كلام الله، لا كلام بشر عربي أو أعجمي. وفي السورة ضرب الأمثال لإثبات التوحيد ودحض الشرك والأنداد من دون الله والكفر بأنعم الله، ورفع الحرج عمن نطق بالكفر كرها، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإعطاء كل نفس حق الدفاع عن نفسها يوم القيامة، وجزاء كل إنسان بما عمل. وفي أواخر السورة عقب الحديث عن الأنعام بيان ما حرمه الله منها، وزجر

إثبات البعث والوحي [سورة النحل (16) الآيات 1 إلى 2] :

العلماء عن الإفتاء بالتحريم أو بالتحليل دون دليل، ومقارنة ذلك بما حرمه تعالى على اليهود بسبب ظلمهم. ثم ختمت السورة بمدح إبراهيم بسبب ثباته على التوحيد الخالص، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملته، ثم أمره بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقصره العقاب على المثل دون تجاوز ذلك، والأمر بالصبر على المصائب والأحزان، والاعتماد على عون الله للمتقين المحسنين. إثبات البعث والوحي [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) الإعراب: أَتى بمعنى يأتي، أقام الماضي مقام المستقبل، لتحقيق إثبات الأمر وصدقه. وقد يقام المستقبل مقام الماضي، مثل قول الشاعر: وإذا مررت بقبره فانحر له ... كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح أي فلقد كان. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ الضمير إما أن يعود على الله وإما أن يعود على العذاب، وكلاهما متلازم. أَنْ أَنْذِرُوا إما بدل من قوله بِالرُّوحِ وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن أنذروا، فحذف الباء، فاتصل الفعل به.

البلاغة:

البلاغة: فَاتَّقُونِ فيه التفات عن الغيبة إلى خطاب المستعجلين. المفردات اللغوية: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قرب ودنا، أي أن الأمر الموعود به بمنزلة الأتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه وإنه واقع لا محالة. ويقال في العادة لما يجب وقوعه: قد أتى، وقد وقع. وأَمْرُ اللَّهِ تعذيبه الكافرين وعقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله سُبْحانَهُ تنزيها له عن الشريك. الْمَلائِكَةَ أي جبريل بِالرُّوحِ الوحي أو القرآن، فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد مِنْ أَمْرِهِ بأمره وإرادته أَنْ مفسرة أَنْذِرُوا خوّفوا بالعذاب فَاتَّقُونِ خافوا عقابي، لمخالفة أمري وعبادة غيري. سبب النزول: كان المشركون يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قيام الساعة، أو إهلاك الله تعالى إياهم، كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا، ويقولون: إن صح ما يقوله فالأصنام نشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلت: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوايد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص قال لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قاموا، فنزلت: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. فموضوع الآية الأولى إعلان أن الأمر الموعود به وهو قيام الساعة متحقق حادث لا محالة، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد. وموضوع الآية الثانية الإخبار بأن نزول الوحي بواسطة الملائكة، والتنبيه على التوحيد الذي هو

التفسير والبيان:

منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية، وأن النبوة عطائية. والمراد من قوله: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا معرفة الحق لذاته، وأما المراد من قوله: فَاتَّقُونِ فهو معرفة الخير لأجل العمل به. التفسير والبيان: كان الكفار يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد، فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ. فلما أكثر صلّى الله عليه وسلّم من تهديد الكفار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئا، نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي قد حصل أمر الله وحكمه ووجد من الأزل إلى الأبد، وتحقق بنزول العذاب، إلا أن المأمور به والمحكوم به إنما لم يحصل ولم ينفّذ لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين، فلا تستعجلوه، ولا تطلبوا حصوله قبل مجيء ذلك الوقت، أي أن الحكم صدر مع وقف التنفيذ في أمد معين. وكذلك لما أكثر صلّى الله عليه وسلّم من تهديدهم بقيام الساعة أجيبوا بأنه قد اقتربت الساعة ودنت، معبرا عن المستقبل بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وقوله سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] أي أن أمر الله بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا، فلا تستعجلوه قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى، أي قرب ما تباعد، فلا تتعجلوا وقوعه. وهذا تهديد للكفار وإعلام لهم بقرب عذابهم وهلاكهم. سُبْحانَهُ وَتَعالى.. تبرأ الله تعالى وتنزه وتقدس عما ينسبون له من الشريك والولد وعبادتهم ما سواه من الأوثان والأنداد. وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام.

ولما كان استعجال العذاب وقيام القيامة تكذيبا للنبي واستهزاء به وبوعده، وهو كفر، قرن تعالى النهي عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والشركاء، وهو رأس الكفر. ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة تتعلق بتكذيب النبوة والنبي، فقال: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي ينزل تعالى الملائكة بالوحي على من يريد من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة. وعبر عن الوحي بالروح لأنه يحيي موات القلوب كما تحيي الروح موات الأبدان، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ، لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام 6/ 122] . واستعمال الروح بمعنى الوحي شائع في القرآن، كما في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى 42/ 52] . وقوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هم الأنبياء، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] وقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج 22/ 75] وقال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر 40/ 15] . وهذا رد لقولهم: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] . وقوله: مِنْ أَمْرِهِ يعني أن التنزيل والنزول للوحي لا يكونان إلا بأمره تعالى، كما حكى عن الملائكة: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] فلا يستطيع الملائكة فعل شيء إلا بأمر الله تعالى وإذنه. ودلت الآية على أن الوحي من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم بيّن تعالى مهمة الرسل فقال: أَنْ أَنْذِرُوا.. أي لينذروا الناس الكفرة ويعلموهم أنه لا إله إلا الله، فاتقوا عقابي لمن خالف أمري وعبد غيري. فقه الحياة أو الأحكام: أجابت الآيات عن شبهات ثلاث للمشركين: قيام الساعة ونزول العذاب، والشرك والشركاء، والنبوة والوحي. أما الموضوع الأول: فقد أعلن تعالى أن قيام الساعة ونزول العذاب والهلاك متحقق كائن لا محالة، ولكنه مرتبط بوقت معين مقدر في علم الله تعالى، وهو أمر قريب، فلا داعي للاستعجال بوقوعه، والتعجيل بحدوثه. وأما الموضوع الثاني: فقد نزه الله تعالى نفسه عن الشرك والإشراك، وعن الشريك والولد وعن الأوثان والأنداد، وعما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، لقولهم: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق. والتنزيه يتضمن إثبات القدرة المطلقة لله، والوحدانية التامة، واستحقاق العبادة المستقلة به المخلصة له، وإبطال ما زعموه من شفاعة الأصنام. وأما الموضوع الثالث: فقد أبان تعالى أنه الذي ينزل بالروح، أي بالوحي وهو النبوة، على من اختارهم الله للنبوة، من طريق الملائكة، ولا يحدث شيء من تنزل الوحي إلا بأمره وإذنه تعالى، وختمت الآية بالتحذير من عبادة الأوثان، والإنذار بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فليتقوا عقاب الله إذا خالفوا أمره وعبدوا غيره. وأفادت الآية كما لا حظنا أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بالملائكة، كما قال تعالى في آخر سورة البقرة: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ

أدلة وجود الله ووحدانيته [سورة النحل (16) الآيات 3 إلى 9] :

بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [285] فبدأ بذكر الله سبحانه، ثم أتبعه بذكر الملائكة لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، والملائكة يوصلون الوحي إلى الأنبياء والرسل، فكان الترتيب متناسبا متدرجا موضحا رتبة الملائكة والأنبياء «1» . أدلة وجود الله ووحدانيته [سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 9] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) الإعراب: بالِغِيهِ الهاء في موضع جر بالإضافة. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ هذه الأسماء كلها معطوفة بالنصب على قوله: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ وتقديره: وخلق الخيل والبغال والحمير. وَزِينَةً إما منصوب بفعل مقدر، أي وجعلها زينة، وإما منصوب على أنه مفعول لأجله، أي لزينة.

_ (1) تفسير الرازي: 19/ 220

البلاغة:

البلاغة: خَصِيمٌ مُبِينٌ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة. وَمِنْها تَأْكُلُونَ قدم الظرف مراعاة للفاصلة آخر الآيات. تُرِيحُونَ تَسْرَحُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: بِالْحَقِّ أي أوجد السموات والأرض محقا على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة، وقدّرها وخصصها بحكمته تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تعاظم عما يشركون به من الأصنام، وهذا يدل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام المادية مِنْ نُطْفَةٍ المراد مادة التلقيح التي تكون سببا للحمل خَصِيمٌ مناظر مجادل شديد الخصومة مُبِينٌ مظهر للحجة قائل: من يحيي العظام وهي رميم؟ روي أن أبيّ بن خلف أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم، وقال: يا محمد، أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فنزلت. دِفْءٌ ما تستدفئون به من الكساء والرداء من أشعارها وأصوافها وَمَنافِعُ من النسل والدر والركوب. جَمالٌ زينة في أعين الناس، والمراد جمال الصورة وتركيب الخلقة تُرِيحُونَ تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها (حظيرتها) تَسْرَحُونَ تخرجونها بالغداة (صباحا) إلى المرعى أَثْقالَكُمْ أحمالكم لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ لم تكونوا واصلين إليه على غير الإبل إلا بجهد الأنفس أو بالمشقة الزائدة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم حيث خلقها لكم. وَزِينَةً أي لتتزينوا بها زينة وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من الأشياء العجيبة الغريبة. قَصْدُ السَّبِيلِ أي بيان الطريق المستقيم جائِرٌ حائد أو مائل عن الاستقامة وَلَوْ شاءَ هدايتكم لَهَداكُمْ إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء أَجْمَعِينَ فتهتدون إليه باختيار منكم. سبب النزول: نزول الآية (4) : خَلَقَ الْإِنْسانَ: نزلت الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ ونظير

المناسبة:

الآية قوله تعالى في سورة يس: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إلى آخر السورة. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أنه منزّه عن الشريك والولد، وأنه الإله الواحد، وأمر بإخلاص العبادة له، ذكر أدلة وجود الإله الصانع الواحد وكمال قدرته وحكمته، وهي خمسة: خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وخلق الأنعام، وخلق النبات، وخلق العناصر الأربعة. والأخيران هما موضوع الآيات التالية. التفسير والبيان: خلق الله تعالى وأبدع العالم العلوي وهو السموات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وذلك مخلوق بالحق، أي على أساس من الحكمة والتقدير المحكم، لا عبثا، وانفرد بخلقه ذلك، فتنزه الله عن المعين والشريك، لعجز ما سواه عن خلق شيء، فلا يستحق العبادة إلا هو، فقوله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه نفسه عن شرك من عبد معه غيره، فهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فيستحق أن يعبد وحده لا شريك له. ثم ذكر الله تعالى خلق جنس الإنسان من نطفة، أي مهينة ضعيفة، فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ.. أي خلق الإنسان من ماء مهين ضعيف، فلما استقل وكبر، إذا هو يخاصم ربه تعالى، ويكذبه وهو إنما خلق ليكون عبدا، لا ضدا، وخلق من شيء ضعيف، فتراه يجادل ويقول: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس 36/ 78] . ونظير الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الفرقان 25/ 54- 55] . روي أن المراد بالآية أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم..

رميم، فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفي هذا أيضا نزل أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس 36/ 77] . ثم امتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، فقال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ.. أي وخلق الله لكم الأنعام ذات المصالح والمنافع المختلفة لكم، من أصواف وأوبار وأشعار للبس والأثاث (أو الفراش) ومن ألبان للشرب، ونسل للأكل. ولكم في هذه الأنعام جمال، أي زينة حين الرواح: وهو وقت رجوعها عشاء من المراعي، ووقت السّروح: وهو وقت الغدوة والذهاب من مراحها إلى مسارحها أو المرعى. وخص تعالى هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب، وفي ذلك مفاخرة بالقطيع، وقدم الرّواح على السّروح لأن الفائدة فيه أتم، لمجيئها شبعانة، فتدر الحليب، وتملأ النفس سرورا، والعين متعة، فهي عنصر للغذاء وأداة إنتاج في الاقتصاد. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة والتركيب والصورة. وكذلك هي أداة عمل وركوب وحمل أمتعة، فقال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.. أي وهي أيضا تحمل أمتعتكم الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها من بلد إلى آخر لا تبلغونه إلا بمشقة شديدة، مثل الحج والعمرة والجهاد والتجارة ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ركوبا وتحميلا، كما قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون 23/ 21- 22] وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر 40/ 79- 80] . وتظل الأنعام ثروة اقتصادية في كل زمان ومكان، ونعمة كبري، لذا ختم

تعالى الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده، فقد جعلها لهم مصدر رزق وخير كبير، وأداة منافع وجلب مصالح، كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس 36/ 71- 72] . وامتن الله تعالى على الناس بثروة حيوانية أخرى هي: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ.. وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا، وجعلها للركوب والزينة بها أي تتزينون بها، مع منافع أخرى. ثم جاء دور الامتنان بوسائل النقل والمواصلات الحديثة: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي ويخلق لكم غير هذه الحيوانات من وسائل النقل كالقطارات والسيارات والسفن والطائرات وغيرها. ثم في هذا العالم السماوي والأرضي والحيواني، يرشد تعالى إلى الطريق السوي من الطرق المعنوية الدينية والحياتية فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.. أي وعلى الله فضلا وتكرما بيان الطريق الواضح الموصل إلى الحق والخير، بإقامة الأدلة وإنزال الكتب وإرسال الرسل، كما قال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام 6/ 153] وقال سبحانه: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر 15/ 41] . وكثيرا- كما قال ابن كثير- ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كقوله تعالى في الحج: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة 2/ 197] وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف 7/ 26] . ثم قال سبحانه محذرا من متاهات الطرق: وَمِنْها جائِرٌ أي ومن

فقه الحياة أو الأحكام:

الطرق أو السبل طريق جائر حائد عن الاستقامة، مؤد إلى الضلال والزيغ عن الحق. وسبيل الاستقامة هو الإسلام، والجائر منها غيره من الأديان، لنسخها بالإسلام، ولأن الإسلام دين التوحيد والفطرة الذي ارتضاه لعباده، كما قال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم 30/ 30] . ثم أخبر الله تعالى أن الهداية بقدرته ومشيئته تعالى فقال: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قال المعتزلة: ولو شاء لهداكم جميعا جبرا وقسرا وإلجاء. وقال أهل السنة: الله قادر على هداية جميع الناس، ما في ذلك أدنى شك، وإنما المراد بالآية: أنه تعالى بيّن السبيل القاصد المستقيم والجائر، وهدى قوما يستحقون الهداية، وقد اختاروا الهدى، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. والهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] وهداية توفيق ورعاية كما في قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] وقوله هنا: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] وقوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 118- 119] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجوده ووحدانيته

لكن تعدى الإنسان طوره، وتجاوز حدوده، فناكد وجادل، وكذب ربه وخاصمه في قدرته. 2- وكذلك خلق الأنعام بما فيها من منافع امتن الله بها على الإنسان دليل آخر على قدرة الله وتوحيده. ودل قوله فِيها دِفْءٌ على مشروعية لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء قبله، كموسى وغيره. ومنافع الأنعام كثيرة لا نكاد نجد لها شبيها، ففيها منفعة الأجسام ذاتها بأكل لحومها، ومنفعة نتاجها بالدر واللبن والنسل، ومنفعة ما تستر به من أوبار وأصواف وأشعار، ومنفعة ظهورها للركوب وحمل الأثقال والنقل من بلد إلى آخر، ومنفعة قواها بالحرث، فالبقرة لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل واللبن، فحق على الإنسان شكر هذه النعمة، ومقابلتها بالعبادة لله تعالى الذي خلقها وسخرها للناس. ودلت هذه الآية على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها، ولكن بقدر المعتاد وقدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل، مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها «1» » . وهذا دليل الرفق بالحيوان. 3- كذلك الدواب الأخرى التي خلقها الله وهي الخيل والبغال والحمير دليل

_ (1) السنة: القحط ويبس نبات الأرض، والنّقي: المخ، والمعنى: أسرعوا في السير بالإبل، لتصلوا إلى المقصد، وفيها بقية من قوتها، لعدم وجود ما يقويها على السير في الأرض الجدبة

آخر على القدرة الإلهية، ومزيد فضل الله تعالى، قال العلماء: ملّكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها، رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم. واختلف العلماء فيمن اكترى دابة بأجر معلوم إلى موضع معين، فتعدي وتجاوز ذلك المكان، ثم رجع إلى المكان المأذون له فيه، فقال أبو حنيفة: لصاحبها الأجرة المسماة، ولا أجر له فيما لم يسمّ لأنه خالف فهو ضامن إذا هلكت الدابة. وقال الشافعي وفقهاء المدينة السبعة: على المستأجر الكراء المسمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمته قيمتها. وقال أحمد: عليه الكراء والضمان. وقال ابن القاسم تلميذ مالك: إذا عطبت الدابة في حال التجاوز، فلصاحبها كراؤه الأول، وله الخيار في أخذ كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. واستدل بالآية مالك وأبو حنيفة وغيرهما على تحريم لحوم الخيل لأنه تعالى قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل، ولا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة، دل على أن ما عداه بخلافه. أما في الأنعام فقال: وَمِنْها تَأْكُلُونَ فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها. ويؤيده حديث أحمد وأبي داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير. وهو لفظ الدارقطني ...

قال القرطبي المالكي: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل إذ لو دلت عليه لدلّت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر، وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرّحا به، وقد تركب ويحرث بها. وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، وثبت ذلك في السنة، روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النّسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر «1» . واستدل جمهور العلماء بالآية أيضا على أن الخيل لا زكاة فيها لأن الله سبحانه منّ علينا بما أباحه منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل. وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها، أو ذكورا وإناثا، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قوّمها، فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. واحتج بأثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في الخيل السائمة في كل فرس دينار» لكنه كما قال الدارقطني: تفرد به ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء. 4- لم ينقطع فضل الله وكرمه، فقد خلق لنا غير الأنعام والدواب فقال: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وهذا يشمل كل وسائل النقل والركوب الحديثة.

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 76- 77

أدلة أخرى لإثبات الألوهية والوحدانية [سورة النحل (16) الآيات 10 إلى 16] :

5- على الله تفضلا وكرما بيان السبيل المستقيم وهو الإسلام، وحذر من اتباع السبل الجائرة الحائدة عن الحق من الملل والأهواء الأخرى. والهداية بمشيئة الله تعالى، والتوفيق للهداية مقرون باختيار الإنسان لها. أدلة أخرى لإثبات الألوهية والوحدانية [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) الإعراب: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بالنصب عطفا على ما قبله، ومن قرأ بالرفع فهو مبتدأ، ومُسَخَّراتٌ خبره.

المفردات اللغوية:

وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ مبتدأ وخبر، ومن قرأ بالنصب فهو حال. وَما ذَرَأَ لَكُمْ معطوف بالجر على ذلِكَ في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ أي إن في ذلك وما ذرأ لكم، أو معطوف على اللَّيْلَ أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ مُخْتَلِفاً حال. أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، أي كراهة أن تميد بكم، أو لئلا تميد بكم، والوجه الأول أوجه لأن حذف المضاف أكثر من حذف «لا» . وَعَلاماتٍ منصوب بالعطف على قوله سَخَّرَ أي سخر الليل والنهار وعلامات، أو منصوب بتقدير: خلق، أي وخلق لكم علامات. المفردات اللغوية: تُسِيمُونَ أي ترعون دوابكم، والسوم: الرعي، ومنه الإبل السائمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي إن في ذلك المذكور لعلامة دالة على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنعه، فيؤمنون، ويستدلون على وجود الصانع وحكمته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض، ثم يخرج منها الزرع أو الشجر، ثم ينمو منها الأوراق والأزهار والثمار ذات الأجسام والأشكال المختلفة، مع اتحاد المواد، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدّس عن منازعة الأضداد والأنداد والشركاء. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. بأن هيأها لمنافعكم بِأَمْرِهِ بإرادته يَعْقِلُونَ يتدبرون ذَرَأَ خلق فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبات وغير ذلك أَلْوانُهُ أشكاله وأصنافه يَذَّكَّرُونَ يتعظون سَخَّرَ الْبَحْرَ ذلّله للركوب والاصطياد والغوص فيه لَحْماً طَرِيًّا هو السمك حِلْيَةً تَلْبَسُونَها هي اللؤلؤ والمرجان وَتَرَى تبصر الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ تمخر الماء، أي تشقه بجريها فيه، مقبلة مدبرة بريح واحدة وَلِتَبْتَغُوا تطلبوا، معطوف على لِتَأْكُلُوا مِنْ فَضْلِهِ تعالى بالتجارة تَشْكُرُونَ تعرفون نعم الله، فتقومون بحقها. رَواسِيَ جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تتحرك بكم، أو خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم، والميد: الحركة والاضطراب يمينا وشمالا وَسُبُلًا طرقا تَهْتَدُونَ إلى مقاصدكم. وَعَلاماتٍ أمارات ومعالم تستدلون بها على الطرق نهارا، كالجبال والسهول. وَبِالنَّجْمِ أي النجوم هُمْ يَهْتَدُونَ إلى الطرق والقبلة ليلا. المناسبة: هذه الآيات تتمة لأدلة إثبات وجود الله وتوحيده، ذكر منها هنا خلق النبات وأحواله، وأحوال العناصر الأربعة (الماء والتراب والنار والهواء) أما الماء

التفسير والبيان:

فيشمل المطر والبحر والأنهار، وأما التراب فيفهم من كلمة الأرض، وأما الحرارة فمن الشمس، وأما الهواء فهو أساس حياة الإنسان والحيوان والنبات، وكان واسطة تسيير الفلك في البحار. التفسير والبيان: تتابع الآيات التنبيه إلى أدلة أخرى لإثبات الذات الإلهية من حركة الكون وعالم النبات، والبحار، والجبال، وبدأ بعالم النبات الذي يتسبب بإنزال المطر من السماء، فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ.. أي إن الذي خلق السموات والأرض والإنسان والأنعام والدواب، هو الذي هيّأ ظروف الحياة للإنسان بإنزال المطر من السماء، فجعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه، ولم يجعله ملحا أجاجا، وأخرج به شجرا ترعون فيه أنعامكم، وأنبت به لكم زرعا وزيتونا ونخيلا وأعنابا، ومن كل الثمرات على اختلاف أصنافها وألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها، رزقا لكم تستطيعون به تحقيق قوام الحياة، والمراد بالشجر هنا: النبات مطلقا، سواء كان له ساق أم لا، كما نقل عن الزجاج، وهو حقيقة في الأول ويستعمل في الثاني بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.. أي في ذلك المذكور كله من إنزال الماء والإنبات لدلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، لقوم يتعظون ويتفكرون في تلك الأدلة لأنه لا مبدع ولا موجد لها غير الله الخالق الأحد، المستحق للتمجيد والعبادة، كما قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل 27/ 60] . ثم نبّه الله تعالى على آياته الكونية العظام، ممتنا بنعمه عليكم، فقال: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. أي وصير لكم ما ينفعكم من تعاقب الليل والنهار للنوم والاستراحة والسعي وكسب المنافع وقضاء المصالح، ودوران الشمس والقمر للإنارة وانتفاع الإنسان والحيوان والنبات بالحرارة والضوء ومعرفة عدد السنين

والشهور، وتزيين السماء بالنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات، نورا وضياء، ليهتدى بها في الظلمات، وكل منها يسير في فلكه بنظام دقيق وحركة مقدرة، لا زيادة فيها ولا نقص، وكل ذلك خاضع لسلطان الله وقهره، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 54] . إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. إن في المذكور كله دلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم، لقوم يعقلون عن الله كلامه، ويفهمون حججه. والسبب في ختم الآية السابقة بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وختم هذه الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأن دلالة الأدلة السماوية العلوية على قدرة الله ووحدانيته ظاهرة لا تحتاج إلا لمجرّد العقل دون تأمل، وأما الأدلة الأرضية من الزرع والنخيل وغيرها فتحتاج في دلالتها على إثبات وجود الله إلى تفكر وتأمل وتدبر. وبعد أن نبّه الله تعالى على معالم السماء، نبّه على ما خلق في الأرض من عجائب فقال: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ.. أي وما خلق لكم في الأرض من أشياء مختلفة الألوان والأشكال والمنافع والخواص من نباتات ومعادن وجمادات وحيوانات. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.. أي إن في المذكور جميعه لدلالات على قدرة الله، لقوم يذكّرون آلاء الله ونعمه، فيشكرونه عليها، وختمت هذه الآية الثالثة بالتذكر بعد ختم الأولى بالتفكر والثانية بالتعقل للتنبيه على أن المؤثر فيما وجد في الأرض هو الفاعل المختار الحكيم وهو الله سبحانه وتعالى. وبعد أن احتجّ تعالى على إثبات الإله أولا بأجرام السموات، وثانيا ببدن الإنسان ونفسه، وثالثا بعجائب خلقة الحيوانات، ورابعا بعجائب طبائع

النباتات، ذكر خامسا الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر، مبتدئا بعنصر الماء، فقال: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ.. أي والله تعالى يمتن على عباده أيضا بتذليله البحر لهم، وتيسيره للركوب فيه، وإباحته السّمك حيّا وميتا، في الحلّ والإحرام، وخلقه اللآلئ والجواهر النفيسة فيه، وتيسير استخراج العباد له من قراره، حلية يلبسونها، وكذا الاستفادة من المرجان الذي ينبت في قيعانه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 22] ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره، أي تشقه وتجتازه في بلد إلى آخر، ولتبتغوا من فضله، أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بالتجارة فيه، ولتشكروا نعمه وإحسانه عليكم بما يسّره لكم في البحار. وفي وصف اللحم بالطراوة بيان قدرة الله في إخراج العذب من المالح، ويدل أيضا على أنه يطلب أكله بسرعة لأنه يتسارع إليه الفساد. ثم ذكر الله تعالى بعض النعم التي خلقها في الأرض فقال: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ.. وهي نعم ثلاث: الأولى- تثبيت الأرض بالجبال الرواسي، أي الثوابت لتقرّ ولا تضطرب أثناء دورانها بما عليها من كائنات حيّة، كما قال تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات 79/ 32] . الثانية- إجراء الأنهار على وجه الأرض، ففيها حياة الأنفس والنبات والحيوان. وذكرها بعد الجبال لأن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها من الجبال. وتلك الأنهار كثيرة في العالم، منها القصير والغزير والطويل ومنها غير ذلك، وتتجه يمينا أو يسارا، أو جنوبا أو شمالا، أو شرقا أو غربا. والأودية التي تحدث أحيانا ترفد تلك الأنهار.

فقه الحياة أو الأحكام:

الثالثة- إيجاد السبل وهي الطرق والمسالك التي تسهل العبور والانتقال من أرض إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد غيره، بل ومن جبل إلى سهل، كما قال تعالى في صفة الجبال: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء 21/ 31] . لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لتهتدوا بتلك السّبل إلى مآربكم ومقاصدكم. وَعَلاماتٍ أي وأظهر في الأرض علامات مخصوصة ومعالم معينة تؤدي إلى المقصود، فالعلامات: هي معالم الطرق، وهي الأشياء التي بها يهتدى، وهي الجبال والرياح ونحوها يستدل بها المسافرون برّا وبحرا، ومن كثرت أسفاره لطلب المال أو غيره مثل قريش، كان علمه بمنافع الاهتداء بالنجوم أوفى وأتمّ. وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أي والناس يهتدون في ظلام الليل بالنّجوم. وهذا يومئ إلى علم النّجوم أو الفلك. فقه الحياة أو الأحكام: أفادتنا الآيات فوائد عديدة هي: 1- الله تعالى هو منزل المطر بقدرته وحكمته، والمطر: ماء عذب صالح للشرب، ينبت الله به أشجارا وعروشا وكروما ونباتا ومراعي للأنعام، والماء سبب الحياة البشرية: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 21/ 30] . وفي ذلك الإنزال والإنبات دلالة على قدرة الله ووجوده ووحدانيته لقوم يتأملون ويتفكرون. 2- والله سبحانه سخّر لعباده الليل والنهار للسكون والأعمال، كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ

[القصص 28/ 73] ، وسخّر أيضا الشمس والقمر والنّجوم مذللات لمعرفة الأوقات، ونضج الثمار والزروع، والاهتداء بالنجوم في الظلمات. 3- والله عزّ وجلّ سخّر ما ذرأ (خلق) في الأرض لكم، فما ذرأه الله سبحانه مسخّر مذلّل كالدّواب والأنعام والأشجار وغيرها. هذا مع العلم بأن بعض المخلوقات غير مذلل لنا، بدليل ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا، فقيل له: وما هنّ؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلّها ما علمت منها وما لم أعلم، من شرّ ما خلق وبرأ وذرأ. 4- إن في اختلاف ألوان المخلوقات لعبرة لقوم يذكّرون أي يتّعظون ويعلمون أن في تسخير هذه الكائنات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره. 5- والله سبحانه أنعم علينا بتسخير البحر لتناول اللحوم (الأسماك) واستخراج اللؤلؤ والمرجان، وللركوب، والتجارة، وللدفاع عن البلاد من أذى محتل وعدوان مستعمر. وتسخير البحر: هو تمكين البشر من التّصرف فيه وتذليله بالرّكوب والتّجارة وغير ذلك. ويلاحظ أن الحنفية لا يجيزون أكل السمك الطافي على سطح ما البحر أو النهر، لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة 5/ 3] ، ولحديث ضعيف أخرجه أبو داود وابن ماجه عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا» . وأباح الجمهور أكل الطافي، لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة 5/ 96] ، ولحديث أبي هريرة عند أحمد ومالك

وأصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن البحر «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته» . وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو حلف لا يأكل اللحم، فأكل لحم السّمك، لا يحنث لأنه ليس بلحم عرفا. وقال الجمهور: إنه يحنث لأنه تعالى نصّ على كونه لحما في هذه الآية، وليس فوق بيان الله بيان. وبما أن الله تعالى امتنّ على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرّم الله تعالى على الرّجال الذهب والحرير، روي في صحيح الشيخين عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدّنيا، لم يلبسه في الآخرة» . وجمهور العلماء على تحريم اتّخاذ الرجال خاتم الذهب، ويجوز لهم التّختم بخاتم الفضة لأنه صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضة، فاتّخذ الناس خواتيم الفضة، وقال: «إني اتّخذت خاتما من ورق، ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقشن أحد على نقشه» . وهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. ومن حلف ألا يلبس حليّا، فلبس لؤلؤا لم يحنث عند أبي حنيفة، عملا بالعرف والعادة، والأيمان تختص بالعرف. 6- والله تعالى جعل في الأرض نعما ثلاثا تستحق الشكر هي إلقاء الجبال الرواسي فيها لئلا تميد وتضطرب، وإجراء الأنهار، وجعل السّبل والطّرق منافذ عبور وانتقال بأمان. قال القرطبي: وفي هذه الآية: أدل دليل على استعمال الأسباب، وقد كان الله قادرا على تسكينها دون الجبال. وجعل تعالى في الأرض علامات، أي معالم الطرق بالنهار، وجعل النّجوم وسائل اهتداء إلى المقاصد.

خواص الألوهية الخلق وعلم السر والعلن والحياة الأبدية [سورة النحل (16) الآيات 17 إلى 23] :

خواص الألوهية الخلق وعلم السّر والعلن والحياة الأبديّة [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) الإعراب: وَهُمْ يُخْلَقُونَ مبتدأ وخبر. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ خبر ثان، أي هم مخلوقون أموات. ويجوز أن ترفع أَمْواتٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات. أَيَّانَ يُبْعَثُونَ استفهام عن الزمان بمعنى (متى) ، وأَيَّانَ: مبني لتضمنه معنى الحرف، وهو همزة الاستفهام، وبني على حركة لالتقاء الساكنين، وهي الفتحة لأنها أخف الحركات. البلاغة: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ بينهما طباق السلب. لَغَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة. تُسِرُّونَ وتُعْلِنُونَ بينهما طباق. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ولا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فيهما إطناب تأكيدا لسفاهة من عبد الأصنام.

المفردات اللغوية:

لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ بينهما جناس ناقص. المفردات اللغوية: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هو الله سبحانه وتعالى. كَمَنْ لا يَخْلُقُ كلّ ما عبد من دون الله تعالى من الملائكة وعيسى والأصنام. وغلّب فيه أولو العلم منهم، وأجريت الأصنام مجرى أولي العلم لأنهم سمّوها آلهة، ومن حقّ الإله أن يعلم. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعرفوا فساد ذلك، فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يستحضره بأدنى تذكّر والتفات. والمراد بالآية إنكار التسوية بين الخالق والمخلوق، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرة الله تعالى وتناهي حكمته وتفرده بالخلق. لا تُحْصُوها لا تضبطوها، فضلا عن أن تطيقوا شكرها. إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ حيث ينعم عليكم مع تقصيركم وعصيانكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهم الأصنام. وَهُمْ يُخْلَقُونَ ينحتون ويصورون من الحجارة وغيرها، فهي مفتقرة الوجود إلى التخليق، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود. أَمْواتٌ لا روح فيهم. غَيْرُ أَحْياءٍ تأكيد. وَما يَشْعُرُونَ لا يعلمون، أي الأصنام. أَيَّانَ وقت. يُبْعَثُونَ أي لا يشعرون بزمان بعثهم أو بعث عبدتهم الخلق، فكيف يعبدون؟ إذ لا يكون إلها إلا الخالق الحيّ العالم بالغيب، المقدّر للثواب والعقاب، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف. إِلهُكُمْ المستحقّ للعبادة منكم إِلهٌ واحِدٌ لا نظير له في ذاته ولا في صفاته، وهو الله. تعالى، وهذا تكرير للمدّعى بعد إقامة الحجج. قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للوحدانية. مُسْتَكْبِرُونَ متكبّرون عن الإيمان بها. لا جَرَمَ حقّا. أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فيجازيهم بذلك. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي يعاقبهم. المناسبة: بعد ذكر الدلائل الدّالة على وجود الإله القادر الحكيم، مع بيان أنواع نعم الله تعالى، ذكر الله تعالى خواص الألوهية: وهي الخلق والإبداع، وعلم السّرّ والعلن، والحياة الدائمة، مما يدلّ على أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، ويدلّ على إبطال عبادة غير الله تعالى، ثم ذكر تعالى أسباب الإشراك: وهي تحجر القلوب وإنكار التوحيد، فبقي أصحابه على الجهل والضّلال، علما بأن أشدّ

التفسير والبيان:

القبح عبادة تلك الأصنام الجمادات المحضة، التي ليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار. التفسير والبيان: نبّه الله تعالى في هذه الآيات على عظمته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له، دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة، فقال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. أي أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها، كمن لا يخلق، بل لا يقدر على شيء من الخلق أصلا، أفلا تذكّرون أي تعتبرون وتتعظون؟! فإن معرفة ذلك لا تحتاج إلى تدبّر وتفكّر ونظر. والاستفهام إنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير. ونظير الآية: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان 31/ 11] . ثم نبههم تعالى على كثرة نعمه وإحسانه إليهم ليرشدهم إلى أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ.. أي وإن أردتم حساب نعم الله وضبطها، لا تستطيعوا إحصاءها وضبط عددها، فنعم الله كثيرة دائمة، والعقل عاجز عن الإحاطة بها. إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ.. أي إنه تعالى كثير المغفرة يتجاوز عنكم وعن تقصيركم في الشّكر، رحيم بكم فينعم عليكم مع استحقاقكم للحرمان بسبب الإشراك والكفر، فلو طالبكم بشكر جميع نعمه، لعجزتم عن القيام بذلك، ولو عذّبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير، ومهما عمل الإنسان من الطاعات فلن يقابل نعمة واحدة من نعم الله تعالى. والخلاصة: إنه تعالى بعد أن بيّن بالآية المتقدّمة: أَفَمَنْ يَخْلُقُ.. أن

الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ، بيّن بهذه الآية: وَإِنْ تَعُدُّوا أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله وشكر نعمه على وجه أتم. وبعد أن أبطل عبادة الأصنام لعجزها عن الخلق والإنعام، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو كونها جمادات لا تعلم شيئا، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ.. أي والله يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، فهو عالم الغيب والشّهادة، والظّاهر والباطن. ثم وصف تعالى الأصنام بما يجردها عن أهلية العبادة، ليدلّ على غباء المشركين صراحة، فقال ذاكرا ثلاثة أوصاف: 1- وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ.. أي إن الأوثان والأصنام لا يخلقون شيئا، بل هي مخلوقة، كما قال تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ [الصافات 37/ 95- 96] . 2- أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي هي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فلا تفيدكم شيئا. فقوله تعالى: غَيْرُ أَحْياءٍ لبيان أنه لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها، فهي ليست كبعض المواد التي يمكن طروء الحياة عليها، كالنّطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. أما الإله فهو الحيّ الذي لا يطرأ عليه موت أصلا، فبان الفرق بينهما وهو أن الإله دائم الحياة، والأصنام دائمة الموت. 3- وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وتلك الأصنام لا يدرون متى يبعث عبدتها ومتى تقوم الساعة؟ فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما

يرجى ذلك من الذي يعلم كلّ شيء، وهو خالق كلّ شيء. وعبّر عن الأصنام كما يعبّر عن الآدميين لزعمهم أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على حسب زعمهم. وهذا إيماء إلى أن البعث من لوازم التكليف، للجزاء على العمل من خير أو شرّ، وتصريح بأن من لوازم الألوهية معرفة يوم القيامة، وهو تهكّم بالمشركين الذين لا يحسنون الفهم والتّقدير. وبعد هدم عبادة الأصنام، صرّح تعالى بالمطلوب فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي إن إلهكم أيها الناس إله واحد، لا إله إلا هو، ومعبودكم الذي يستحقّ العبادة والطاعة بحقّ هو الإله المعبود الواحد. ثم ذكر سبب شركهم وإنكارهم التوحيد، فقال تعالى: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.. أي فالذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ولا يصدّقون بها، ولا يؤمنون بالوحدانية قلوبهم منكرة للتّوحيد، وهم مستكبرون عن الإقرار بالوحدانية وعن عبادة الله، فلا يرغبون في حصول الثواب، ولا يرهبون من الوقوع في العقاب. والمعنى أن الكافرين تنكر قلوبهم الوحدانية، كما قال تعالى واصفا تعجبهم منها: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص 38/ 5] . وقال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر 39/ 45] . ثم هددهم تعالى وأوعدهم على أعمالهم، فقال: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ.. أي حقّا، إنّ ربّك يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون، ويعلم إصرارهم على كفرهم، وسيجزيهم على ذلك أتمّ الجزاء، إنه لا يحبّ المستكبرين عن التوحيد وهم

فقه الحياة أو الأحكام:

المشركون، بل وكلّ مستكبر، أي يعاقبهم ويجازيهم. وهذا الوعيد يتناول كلّ المتكبّرين. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات مناقشة حادّة مع المشركين، فيها إنكار لعبادتهم الأصنام، وتهكّم بهم، وبيان فساد تفكيرهم وسوء تقديرهم، وسوء صنيعهم، وصدودهم عن الحقّ، وإعلان تصميمهم على الكفر والشّرك. وأول فساد في تفكيرهم أن الأصنام مخلوقة وعاجزة عن خلق غيرها، فهي لا تضرّ ولا تنفع، فكيف تتخذ آلهة؟! ومن كان قادرا على خلق الأشياء، كان بالعبادة أحقّ ممن هو مخلوق لا يضرّ ولا ينفع. والفساد الثاني أنهم ينكرون نعم الله وإحسانه لهم، وأبسط مبادئ التدين والأخلاق مقابلة النعمة وشكرها، وهم لم يشكروها. والفساد الثالث أن الأصنام جمادات لا تعلم شيئا، فكيف توصف بالألوهية؟ والإله ينبغي أن يكون عالما بالسّرائر والظواهر، محيطا بأحوال العابدين، حتى يلبي مطلبهم، ويجازي مقصرهم ومسيئهم. ثم صرّح تعالى بأوصاف الأصنام الثلاثة المناقضة تماما لمن يستحقّ وصفه بالألوهية والعبادة والطاعة، وهي العجز عن خلق شيء، وكونهم أمواتا غير أحياء، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة، وكونهم- أي الأصنام- يجهلون وقت البعث وقيام الساعة للحساب والجزاء على الأعمال. والألوهية الحقّة بعد بيان استحالة الإشراك بالله تعالى هي ألوهية الله الواحد

صفات المستكبرين إنكار المشركين الوحي المنزل والنبوة وجزاؤهم [سورة النحل (16) الآيات 24 إلى 29] :

الأحد الفرد الصّمد، المعبود الواحد الذي لا ربّ غيره، ولا معبود سواه. أما المشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة فلا يقبلون الوعظ ولا التّذكير، ولو آمنوا بالآخرة حقّا لآمنوا بوحدانية الله، ولكنهم قوم متكبّرون متعظمون عن قبول الحقّ. والله حقّا يعلم ما يسرّون من القول والعمل وما يعلنون، فيجازيهم على أفعالهم، إنه لا يحبّ المستكبرين أبدا، أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم. صفات المستكبرين إنكار المشركين الوحي المنزّل والنّبوة وجزاؤهم [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

الإعراب:

الإعراب: ماذا أَنْزَلَ.. ما اسم استفهام مبتدأ، وإِذا خبره، وأَنْزَلَ رَبُّكُمْ: صلته، والعائد محذوف تقديره: أنزله، فحذف تخفيفا. ولما كان السؤال مرفوعا رفع أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ على تقدير مبتدأ محذوف، أي هو أساطير الأولين. وأما قوله الآتي: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا: خَيْراً فالجواب منصوب لأن السؤال منصوب، لأن ماذا بمنزلة كلمة واحدة، أي أيّ شيء أنزل ربّكم، وهي في موضع نصب ب أَنْزَلَ. بِغَيْرِ عِلْمٍ حال. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ حال أيضا. البلاغة: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ استعارة تمثيلية، شبّه حال الماكرين بحال قوم بنوا بنيانا ثم انهدم عليهم وأهلكهم، ووجه الشّبه أنّ ما ظنّوه سببا لحمايتهم، كان سببا في فنائهم. المفردات اللغوية: أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمد. أَساطِيرُ أكاذيب وأباطيل وترّهات. الْأَوَّلِينَ الغابرين القدماء، قالوا ذلك إضلالا للناس، وقد نزلت الآية في النّضر بن الحارث، لِيَحْمِلُوا في عاقبة أمرهم. أَوْزارَهُمْ ذنوبهم. كامِلَةً لم يكفّر منها شيء. وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. أي وبعض أوزار من يضلونهم لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتّبعوهم، فاشتركوا في الإثم لتسببهم في إضلالهم، والأصح أن مِنْ للجنس لا للتبعيض، أي فعليهم مثل أوزار تابعيهم. ساءَ بئس. ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم هذا. بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول، أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال، أو حال من الفاعل أي وهم جاهلون. لِيَحْمِلُوا اللام لام الصيرورة لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، لأجل أن يحملوا الأوزار، ولكن لمّا كان عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام. قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو نمروذ بن كنعان، بنى صرحا طويلا ببابل، سمكه خمسة آلاف ذراع، ليصعد منه إلى السماء، ليقاتل أهلها. والمكر: صرف غيرك عما يريده بحيلة، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات. والمقصود بالآية: المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار. فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أهلكه وأفناه، فأرسل عليه الريح والزلزلة، فهدمته من الأساس، كما يقال: أتى عليه الدهر، وفَأَتَى: قصد، والْقَواعِدِ: الدعائم، جمع قاعدة. فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي وهم تحته، وفَخَرَّ: سقط. وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من جهة لا تخطر ببالهم، أي من جهة لا يحتسبون ولا يتوقّعون. وقيل: هذا تمثيل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرّسل.

المناسبة:

يُخْزِيهِمْ يذلّهم أو يعذّبهم بالنار لقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران 3/ 192] . وَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ أي ويقول الله لهم على لسان الملائكة توبيخا: أين شركائي بزعمكم؟ تُشَاقُّونَ تعادون المؤمنين وتنازعون الأنبياء في شأنهم. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويقول الأنبياء والمؤمنون العلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاقونهم ويتكبرون عليهم، أو يقول الملائكة: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ الذلّة والعذاب على الكافرين، وفائدة قولهم: إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة، وإيراده بقصد وعظ من سمعه. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر. فَأَلْقَوُا السَّلَمَ: السَّلَمَ: الاستسلام والخضوع، والمعنى: انقادوا واستسلموا عند الموت، وأقرّوا لله بالرّبوبية، أو سالموا حين عاينوا الموت. ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي قائلين: ما كنّا نعمل من كفران أو شرك، وعدوان. بَلى نعم، أي فتجيبهم الملائكة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ليدخل كلّ صنف بابه المعدّ له. وقيل: أَبْوابَ جَهَنَّمَ أصناف عذابها. مَثْوَى مأوى، والمثوى: مكان الإقامة. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أدلّة التوحيد وأدلة بطلان عبادة الأصنام، أعقب ذلك ببيان شبهات منكري النّبوة، وأولها الطعن في القرآن الذي احتج النّبي صلّى الله عليه وسلّم على صحة نبوّته بأنه معجزة، فقالوا: أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات، فأهلكهم الله في الدّنيا، وسيعاقبهم في الآخرة بما فعلوا، فيقولون مستسلمين حين رؤية العذاب: ما كنّا نعمل من سوء، أي كفر وشرك وعدوان. التفسير والبيان: تذكر هذه الآيات شبهات منكري النّبوة التي هي صفات المكذّبين المستكبرين. الشّبهة الأولى «1» - طعنهم في القرآن بأنه أساطير الأولين: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ..

_ (1) الشبهة الثانية ستأتي في الآية (33) ، والشبهة الثالثة في الآية (35) ، والشبهة الرابعة في الآية (38) .

لما احتجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صحّة نبوّته بكون القرآن معجزة، طعنوا في القرآن، وقالوا: إنه أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات. ومعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء المستكبرين المكذّبين الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين: أي شيء أنزل ربّكم؟ قالوا معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئا، إنما هذا الكلام الذي يتلى علينا أساطير أي أكاذيب وخرافات مأخوذة من كتب المتقدمين، كما حكى تعالى عنهم في آية أخرى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] أي يفترون على الرّسول بأقوال متضادّة مختلفة باطلة. والسائل: إما واحد من المسلمين أو من كلام بعضهم لبعض أو النّضر بن الحارث أو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة، ينفّرون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحجيج عما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم. هذا عن القرآن، أما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يقولون: ساحر وشاعر وكاهن ومجنون، ثم استقرّ أمرهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي، الذي حكى عنه القرآن قراره: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر 74/ 18- 24] ، أي ينقل ويحكى، فتفرقوا متفقين على قوله. ثم أبان تعالى مصير قولهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً.. هذه لام العاقبة أو الصيرورة، مثل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] . والمعنى: إنما قالوا ذلك ليتحملوا أوزارهم وآثامهم كاملة يوم القيامة وأوزار الذين يتبعونهم جهلا بغير علم فلا يعلمون أنهم ضلّال، واقتداء بهم في الضّلال، أي

ليصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم، واقتدائهم بهم. والمراد بقوله تعالى: كامِلَةً أنه لا ينقص منها شيء. وقوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ على رأي الزّمخشري: حال من المفعول، أي يضلّون من لا يعلم أنهم ضلال، وعلى رأي الرّازي: حال من الفاعل، أي إن هؤلاء الرؤساء يضلّون غيرهم جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس شيئا يحملونه من الذنب ذلك الذي يفعلون. ونظير الآية: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت 29/ 13] . وأوضحت السّنة سبب تحملهم آثام من قلّدوهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السّنن الأربعة عن أبي هريرة-: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . ثم أبان الله تعالى وجود الشّبه بين الكفار القدامى والجدد في الجرم والعقاب فقال: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. أي قد كاد لدين الله ورسله من تقدّمهم من الأمم، واحتالوا بمختلف الوسائل لإطفاء نور الله فأهلكهم الله تعالى في الدّنيا، بأن دمّر مبانيهم من قواعدها، وسقط عليهم السّقف من فوقهم، وأبطل كيدهم، وأحبط أعمالهم، وأطبق عليهم العذاب من كلّ جانب، ومن حيث لا يحسّون بمجيئه ولا يتوقّعون، فاعتبروا يا أهل مكة وأمثالكم. وهذا كله تمثيل لصورة العذاب، ومضمونه إهلاكهم من الله تعالى. وسبب قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ مع أن السّقف لا يكون إلا من فوق هو

تأكيد سقوط السقف، وشدّة إطباق العذاب وسقوطه عليهم وهم تحته. ومعنى إتيان الله: إتيان أمره. وقوله تعالى: مِنَ الْقَواعِدِ أي من جهة القواعد أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم، وهذا مقابل لقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ ليفيد إحاطة العذاب من أعلى ومن أسفل. وقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من حيث لا يحتسبون ولا يتوقّعون. وأكثر المفسّرين على أن المراد بقوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ.. هو نمروذ بن كنعان، بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. هذا عذابهم في الدّنيا، وأما في الآخرة فهو ما قاله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ.. أي وفي يوم القيامة يخزيهم، أي يظهر فضائحهم وما تخبئه نفوسهم فيجعله علانية، ويذلّهم بعذاب الخزي، كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران 3/ 192] . ويقول لهم الرّبّ تبارك وتعالى بواسطة الملائكة تقريعا لهم وتوبيخا: أين شركائي في زعمكم واعتقادكم؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني؟ أين تلك الآلهة التي كنتم تشاقون أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم؟ أحضروهم ليدفعوا عنكم العذاب: هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشّعراء 26/ 93] ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطارق 86/ 10] . فلا يجيب أحد، ويسكتون عن الاعتذار، وتظهر عليهم الحجة الدامغة، ويتبين أنه لا شركاء ولا وجود لهم. ثم ذكر الله تعالى مقال الذين أوتوا العلم من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وهم سادة الدّنيا والآخرة، والمخبرون عن الحقّ: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.. أي قال العلماء المقرّون بالتوحيد: إن الذّلّ والفضيحة والعذاب والهوان محيط

فقه الحياة أو الأحكام:

اليوم بالكافرين الذين كفروا بالله، وأشركوا به ما لا يضرّهم ولا ينفعهم. وهؤلاء هم الذين بقوا على كفرهم حتى الموت، فتتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم، حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي والتعريض للعذاب. وكانت حالهم أيضا: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ.. أي فلما حضرهم الموت وعاينوا العذاب، أظهروا السمع والطاعة والانقياد، قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي ما كنّا مشركين بربّنا أحدا، كما حكى تعالى عنهم يوم المعاد: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] . فكذّبهم الله في قولهم: بَلى، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ.. أي لقد عملتم السّوء كله وأعظمه وأقبحه، والله عليم بأعمالكم، فلا فائدة في إنكاركم والله يجازيكم على أفعالكم. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ.. أي فادخلوا في جهنم، وذوقوا عذاب إشراككم بربّكم وعقاب معاصيكم، وأنتم خالدون ماكثون فيها إلى الأبد، وبئس المقرّ والمقام دار الهوان، لمن كان متكبّرا عن آيات الله تعالى واتّباع رسله. وهم في عذاب دائم دون موت كما قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36] ، وفي ديمومة من العذاب في جميع الوقت، كما قال سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر 40/ 46] . فقه الحياة أو الأحكام: تتضمن الآيات جوابا عن شبهة المشركين حول القرآن ووصفه بأنه أساطير الأولين، وليس معجزة، وليس هو من تنزيل ربّنا. ولم يكن جوابهم هنا كما تبين سابقا بالحجة الدامغة، وإنما جوابهم هو استحقاقهم العذاب الشديد، فاقتصر على

محض الوعيد ولم يجب عن شبهتهم لأنه تعالى بيّن كون القرآن الكريم معجزا بطريقين: الأول- أنه صلّى الله عليه وسلّم تحدّاهم بكل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، أو بحديث واحد، وعجزوا عن المعارضة، وذلك يدلّ على كونه معجزا. الثاني- أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي: اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وأبطلها بقوله تعالى: قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات، وهذا لا يكون إلا من العالم بأسرار السموات والأرض «1» . فهم يتحملون نتيجة آثامهم وذنوبهم تحمّلا كاملا، لا ينقص منه شيء لنكبة أصابتهم في الدّنيا بكفرهم، كما أنهم يتحمّلون مثل أوزار تابعيهم، وذلك بسبب كفرهم وإضلالهم غيرهم، جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام، إذ لو علموا لما أضلّوا، فبئس الوزر الذي يحملونه. وعقابهم في الدّنيا يشبه عقاب عمالقة الكفر الذين تقدموهم مثل النّمروذ بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السّماء وقتال أهله، فبنوا الصرح ليصعدوا منه، فخرّ عليهم، إما بزلزلة أو ريح، فخرّبته. وكان عقابهم إبطال مكرهم وتدبيرهم وإهلاكهم عن بكرة أبيهم. وعقابهم أيضا في الآخرة هو الذّلّ والهوان والفضيحة بالعذاب الأليم بسبب كفرهم، مع التقريع والتوبيخ والاستهزاء بهم، وبيان عدم وجود الشركاء لله تعالى أصلا. وكل من العقابين لاستمرارهم على الكفر إلى حين الموت، فإذا أقرّوا حينئذ

_ (1) تفسير الرّازي: 20/ 19

صفات المتقين إيمان المتقين بالوحي المنزل وجزاؤهم [سورة النحل (16) الآيات 30 إلى 32] :

بالرّبوبية لله، وانقادوا عند الموت، فلا ينفعهم ذلك، والله عليم بأعمال الكفار. وهذه الآية دليل على أنه لا يخرج كافر ولا منافق من الدّنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذلّ. ولكن لا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان، كما قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 85] . ويقال لهم عند الموت: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها.. الآية، يدخل كلّ طائفة من باب، ويستقرّ في طبقة أو درك من طبقات ودركات جهنم، فبئس مقام المتكبرين الذين تكبروا في الدّنيا دار التكليف عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، كما وصفهم ربّنا سبحانه وتعالى بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات 37/ 35] . صفات المتقين إيمان المتقين بالوحي المنزل وجزاؤهم [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

الإعراب:

الإعراب: جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل، أو مبتدأ، وخبره: يَدْخُلُونَها أو خبر مبتدأ محذوف، أو هو المخصوص بالمدح اسم: نعم. طَيِّبِينَ حال منصوب من الهاء والميم في تَتَوَفَّاهُمُ وهو العامل فيها. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ نعت لقوله الْمُتَّقِينَ. البلاغة: قالُوا: خَيْراً فيه إيجاز بالحذف، أي قالوا: أنزل خيرا. والسبب في نصب خَيْراً هنا، مع أنه رفع أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في جواب المشركين: هو كما قال الزمخشري بيان الفرق بين جواب المؤمن المقر وجواب الجاحد، يعني لما سئل المؤمنون لم يتلعثموا وأجابوا على السؤال جوابا بينا مفعولا للإنزال فقالوا: خيرا، والمشركون عدلوا عن السؤال وأعرضوا عن الجواب فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء. المفردات اللغوية: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، يعني المؤمنين. أَحْسَنُوا بالإيمان. حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا أو حياة طيبة. وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي الجنة. خَيْرٌ من الدنيا وما فيها، أو لثوابهم في الآخرة خير منها، وهو وعد للمتقين جزاء قولهم وإيمانهم. وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات. وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة. كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل هذا الجزاء يجزيهم. طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ. يَقُولُونَ يقول الملائكة لهم عند الموت: سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت، جاءه ملك، فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة. ويقال لهم في الآخرة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أحوال المكذبين بالقرآن المنزل وبالوحي من قولهم: أساطير الأولين، وتحمل أوزارهم وأوزار أتباعهم، وتوفي الملائكة لهم ظالمي أنفسهم، وإلقائهم السّلم في الآخرة والإقرار بربوبية الله، أتبعه ببيان أوصاف

التفسير والبيان:

المؤمنين الذين يؤمنون بالمنزّل، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات في جنات عدن، حتى تتم المقارنة بين وعد هؤلاء، ووعيد أولئك. روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا جاء الوافد المقتسمين طرق مكة للحيلولة بين القادمين وبين الإيمان بالنبي، قالوا له ما قالوا سابقا، وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك. روى ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: اجتمعت قريش، فقالوا: إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه، فخرج ناس في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد، ووصل إليهم، قال أحدهم: أنا فلان بن فلان، فيعرّفه نسبه، ويقول له: أنا أخبرك عن محمد: إنه رجل كذاب، لم يتّبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد، ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم، فمفارقون له، فيرجع الوافد، فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك، قال: بئس الوافد لقومي، إن كنت جئت، حتى إذا بلغت مسيرة يوم، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ما يقول، وآتي قومي ببيان أمره، فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين، فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون: خيرا. التفسير والبيان: تتميز الأشياء بأضدادها، فأخبر الله تعالى عن السعداء المؤمنين إثر الإخبار عن الأشقياء المشركين، ليتضح الفرق، وتتجلى أسس العدل. فسئل الذين اتقوا

الكفر والمعاصي وخافوا الله: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به وبرسوله. والسائل: هم الوافدون على المسلمين في أيام المواسم والأسواق، فكان الرجل يأتي مكة، فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه، فيقولون: أنزل خيرا. ثم أخبر تعالى عما وعد هؤلاء المؤمنين في مقابل وعيد المشركين السابق، فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا.. أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه، وأحسنوا العمل في الدنيا، أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة. فلهم في الدنيا مثوبة حسنة من عند الله بالنصر والفتح والعزة، وفي الآخرة بنعيم الجنة وما فيها من خير. ثم أعلمنا الله تعالى بأن دار الآخرة خير من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا. ونظير صدر الآية: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل 16/ 97] . ونظير آخر الآية: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [القصص 28/ 80] وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران 3/ 197] وقوله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى 93/ 4] وقوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 17] . ثم وصف الدار الآخرة بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي

أي لنعم دار المتقين دار الآخرة، وهي جنات عدن أي إقامة تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار، ونعيمها دائم ميسر غير ممنوع: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي للمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات، كما قال تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف 43/ 71] وقال سبحانه: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة 56/ 32- 33] . وهذا جزاء التقوى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل ذلك الجزاء الطيب، يجزي الله كل من آمن به واتقاه، وتجنب الكفر والمعاصي، وأحسن عمله. وهذا حث على ملازمة التقوى. ثم أخبر الله تعالى عن حال المتقين عند الاحتضار في موازاة أو مقابلة حال المشركين: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ أي الذين تقبض أرواحهم الملائكة طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء. وكلمة طَيِّبِينَ كما قال الرازي: كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم كل ما نهوا عنه، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، والتبرؤ عن الأخلاق المذمومة، والتوجه إلى حضرة القدس، وعدم الانهماك في الشهوات واللذات الجسدية، فيطيب للملائكة قبض أرواحهم. وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح. وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح، كقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت 41/ 30- 32] . ومضمون تحية الملائكة هو: يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، ادْخُلُوا.. أي

فقه الحياة أو الأحكام:

تقول الملائكة لهم: سلام عليكم من الله، وأمان لا خوف، وراحة لا مكروه، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم. والمراد من هذه التحية: البشارة بدخول الجنة بعد البعث. ولما بشرتهم الملائكة بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها، فقولهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي هي خاصة لكم، كأنكم فيها. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات مثل واضح لأسلوب القرآن في بيان المتقابلات المتعاكسة، فبعد أن أبان تعالى حال المشركين وجزاءهم في الدنيا والآخرة، أعقبه ببيان حال المؤمنين الأتقياء. فهم يؤمنون ويصدقون تصديقا جازما بصدق النبوة، وصحة ما أنزل الله من القرآن على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. فيكون جزاؤهم أحسن من عملهم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن 55/ 60] فلهم في الدنيا الجزاء الأفضل من النصر والفتح والغنيمة والعزة، ولهم في الآخرة الحسنة أي الجنة، فمن أطاع الله فله الجنة غدا، وما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا، لفنائها وبقاء الآخرة، ولنعم دار المتقين: الآخرة، وهي جنات عدن التي يدخلونها، وتجري في رياضها الأنهار، ولهم فيها ما يشاءون مما تمنوه وأرادوه، ومثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين، وهكذا يكون جزاء التقوى. ويطيب للملائكة قبض أرواح هؤلاء الأتقياء، ويسلمون عليهم، مبشرين لهم بالجنة لأن السلام أمان. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده، لتقرّ عينه. وتقول لهم أيضا: أبشروا بدخول الجنة بما عملتم في الدنيا من الصالحات.

تهديد المشركين على تماديهم في الباطل [سورة النحل (16) الآيات 33 إلى 34] :

والخلاصة: إنه يصدر من الملائكة سلام، وبشارة بالجنة، وبدأ بالسلام لأنه أمان واطمئنان عام، وأتبعه بأمر خاص وهو البشارة. تهديد المشركين على تماديهم في الباطل [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) المفردات اللغوية: ْ يَنْظُرُونَ؟ أي ما ينتظر الكفار المارّ ذكرهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم. وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ هو عذاب الاستئصال، أو يوم القيامة المشتمل على العذاب. لِكَ مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب فعل الذين من قبلهم من الأمم، كذبوا رسلهم، فأهلكوا. ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بإهلاكهم بغير ذنب. ظْلِمُونَ بالكفر. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي جزاؤها على حذف المضاف، أو تسمية الجزاء باسم سيئات الأعمال. وَحاقَ نزل أو أحاط بهم، وخص في الاستعمال بإحاطة الشر. يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحاط بهم جزاء استهزائهم. المناسبة: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم: أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به ووصفه بالخيرية، أردف ذلك ببيان أن أولئك الكفار لا يرتدعون عن

التفسير والبيان:

حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد بقبض أرواحهم، أو أمر الله بعذاب الاستئصال «1» . ثم نبّه تعالى إلى تشابه الكفار قديما وحديثا في الشرك والتكذيب، وتعرضهم للهلاك جزاء فعلهم والخلاصة: إن هذه الآية: لْ يَنْظُرُونَ هي الشبهة الثانية لمنكري النبوة، فإنهم طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل الله تعالى ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة، فقال تعالى: لْ يَنْظُرُونَ في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك؟ «2» . التفسير والبيان: يهدد الله تعالى المشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا، فيقول: ْ يَنْظُرُونَ.. أي ما ينتظر كفار مكة وأمثالهم في التصديق بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك، أو هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم؟ ْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي أو أن يأتيهم أمر ربك بعذاب الاستئصال في الدنيا كإرسال الصواعق أو الخسف، أو أن يأتي أمر ربك بيوم القيامة، وما يعاينونه من الأهوال، فهم لا ينزجرون عن الكفر إلا بمثل هذه الأمور. والمقصود: حثهم على الإيمان بالله ورسوله قبل أن ينزل بهم أمر لا مرد لهم فيه. لِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي هكذا تمادى الذين من قبلهم من المشركين في شركهم، حتى ذاقوا بأس الله، وحل بهم العذاب والنكال.

_ (1) البحر المحيط: 5/ 489 (2) تفسير الرازي: 20/ 26

فقه الحياة أو الأحكام:

ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ.. أي إن ما وقع بهم من العذاب لم يكن بظلم من الله لأنه تعالى أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم، بإرسال رسله وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاؤوا به، فعقبوا، وجوزوا بسوء عملهم، وأحاط بهم من العذاب الأليم ما كانوا به يستهزئون، أي يسخرون من الرسل حين توعدوهم بعقاب الله. فيقال لهم يوم القيامة: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور 52/ 14] . فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات جواب عن الشبهة الثانية لمنكري النبوة الذين طلبوا إنزال ملك من السماء يشهد على صدق محمد في ادعاء النبوة. والجواب يدل على إصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل وعزوفهم عن الحق، فهم ما ينتظرون إلا أحد مرين: أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم، أو يأتي أمر الله بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والواقع أن القوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، فاستحقوا العقاب، وكانت عاقبتهم العذاب. ولما أصروا على الكفر، أتاهم أمر الله فهلكوا، وما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، كما فعل بأسلافهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك. لقد فعل الذين من قبلهم مثلما فعلوا، فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم، وجزاء خبيث أعمالهم، وعقاب استهزائهم.

احتجاج الكفار بالقدر وإنكارهم البعث وتشابه مهمة الرسل [سورة النحل (16) الآيات 35 إلى 40] :

احتجاج الكفار بالقدر وإنكارهم البعث وتشابه مهمة الرسل [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 40] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) الإعراب: الْبَلاغُ مرتفع بالظرف، لاعتماد الظرف على حرف الاستفهام. يَهْدِي فيه ضمير يعود إلى اسم إِنْ ومَنْ منصوب بيهدي وتقديره: إن الله لا يهدي هو من يضلّ. ومن قرأ يَهْدِي كان مَنْ في موضع رفع لأنه نائب فاعل. وفي يُضِلُّ ضمير يعود على اسم إِنْ ومفعول يُضِلُّ محذوف، أي إن الله لا يهدي من يضله الله. إِنَّما قَوْلُنا.. أَنْ نَقُولَ مبتدأ وخبر.

البلاغة:

البلاغة: ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.. وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فيهما إطناب. مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ بين كل من الجملتين طباق. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من أهل مكة لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قال البيضاوي: إنما قالوا ذلك استهزاء ومنعا للبعثة والتكليف، متمسكين بأن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع. وهذا نظير آية أخرى: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام 6/ 148] وهذا احتجاج بالقدر، وهي حجة باطلة داحضة، باتفاق العقلاء والعلماء، كما قال ابن تيمية، لهذا رد الله عليهم هنا بقوله: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفي سورة الأنعام [148] بقوله: قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ والراجح أنهم لم يقولوا ذلك استهزاء، وإنما اعتراضا على الله تعالى. والرد عليهم أن الله تعالى يفعل في ملكه ما يشاء ولا يجوز الاعتراض عليه، ولبعثة الرسل فائدة: وهي الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة الطاغوت، وأما علم الله بالشيء فلا اطلاع لنا عليه. وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من البحائر والسوائب، أي فإشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله، فهو راض به ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأشركوا بالله وكذبوا رسله فيما جاؤوا به، وحرموا حلاله، وهو جواب عن الشبهتين المتقدمتين. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فما على الرسل إلا الإبلاغ البيّن، وليس عليهم الهداية، ولكنه يؤدي إلى الهدى على سبيل التوسط، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقا، بل بأسباب قدّرها له. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا كما بعثناك في هؤلاء المشركين، أي إن البعثة- كما قال البيضاوي- أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها، سببا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغداء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه، ويضر المنحرف ويفنيه. وهو دليل على أن الله تعالى آمر أبدا في جميع الأمم بالإيمان وناه عن الكفر. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي بأن اعبدوا الله، أي وحّدوه وَاجْتَنِبُوا أي اتركوا الأوثان أن تعبدوها، وهو أمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت. والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، والمراد: اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع، ويشمل الطاغوت الشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى ضلال.

سبب النزول نزول الآية (38) :

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ فآمن، بأن وفقهم للإيمان بإرشادهم وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي وجبت عليه الضلالة في علم الله فلم يؤمن، بأن لم يوفقهم ولم يرد هداهم. ووجبت أي ثبتت بالقضاء الأزلي السابق لإصراره على الكفر والعناد. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي يا معشر قريش كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ رسلهم من الهلاك، مثل عاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ وقد أضلهم الله، لا تقدر على ذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ هذا معنى من حقت عليه الضلالة، أي من يريد ضلاله، ولكنه لم يأمره به، وإنما على العكس أمره وأمر العالم كله بالإيمان وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما نعين من عذاب الله، بأن ينصرهم بدفع العذاب عنهم. جَهْدَ أَيْمانِهِمْ غاية اجتهادهم فيها بَلى يبعثهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران مؤكدان لنفسهما منصوبان بفعلهما المقدر، أي وعد ذلك وحقه حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ ذلك أي أنهم مبعوثون، إما لعدم علمهم بمقتضى الحكمة التي يراعيها الله عادة، وإما لقصر نظرهم على المألوف، فيتوهمون امتناعه. لِيُبَيِّنَ متعلق بقوله: يبعثهم المقدر، أي يبعثهم ليبين لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مع المؤمنين، من أمر الدين الحق، بتعذيبهم وإثابة المؤمنين أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في إنكار البعث المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب إِذا أَرَدْناهُ أردنا إيجاده فَيَكُونُ فهو يكون. وهذه الآية: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ.. لتقرير القدرة على البعث وبيان إمكانه لأن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته، ولا يتوقف على سبق المواد والمدد، وإلا لزم التسلسل، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة، يمكن له تكوينها مرة أخرى. سبب النزول: نزول الآية (38) : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ.. قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة:

المناسبة: في هذه الآيات شبهتان، أما آيات وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.. فهي الشبهة الثالثة لمنكري النبوة بعد إيراد الشبهتين المتقدمتين، وتقريرها: أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة، فقالوا: لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان، سواء جئت أو لم تجئ، ولو شاء الله الكفر، فإنه يحصل الكفر، سواء جئت أو لم تجئ، وإذا كان الأمر كذلك، فالكل من الله، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك، فكان القول بالنبوة باطلا. وأما آيات: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. فهي الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، ومفادها أنهم قالوا: الاعتقاد بالبعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا من وجهين: الأول- أن محمدا كان داعيا إلى التصديق بالمعاد، فإذا بطل ذلك، ثبت أنه كان داعيا إلى القول الباطل، فهو ليس رسولا صادقا. الثاني- أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته، بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته. ورد الله عليهم مقالهم كله بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم القديمة، وما على الرسل إلا التبليغ، وليس عليهم الهداية، والله تعالى لا يجبر أحدا على الهداية أو الضلالة، وإنما يختار الإنسان لنفسه ما يريد، والله سبحانه خلق للناس قدرة الاختيار بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلا يصح الاحتجاج بمشيئته تعالى، بعد أن خلق لهم من الاختيار ما يكفي.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أجاب الله تعالى في هذه الآيات عن شبهتين للكفار منكري النبوة، الأولى منهما هي الشبهة الثالثة لهم المتضمنة اغترارهم بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم الواهي محتجين بالقدر: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.. أي وقال المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان، معتذرين عن شركهم، محتجين بالقدر بقولهم: ما نعبد هذه الأصنام إلا بمشيئة الله، فلو شاء الله ما عبدناهم، ولا حرّمنا هذه المحرّمات من البحائر والسوائب والوصائل «1» ونحو ذلك مما ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، ما لم ينزّل به سلطانا، ما حرمناها إلا برضا الله، ولو كان تعالى كارها لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه. وهذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [148] . وقصدهم من ذلك- كما ذكر الشوكاني في فتح القدير- الطعن في الرسالة، أي لو كان ما قاله الرسول حقا آتيا من الله من منع عبادة غير الله، ومنع تحريم ما لم يحرمه الله، لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله منا، فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، فلما عبدنا غيره وحرمنا ما لم يحرمه، دل على أن فعلنا مطابق لمراده وموافق لمشيئته، وهم في الحقيقة لا يقرون بذلك، ولكنهم قصدوا الطعن على الرسل. ورد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي أن ذلك ليس جديدا في الاعتقاد الفاسد، فمثل قولهم حدث ممن قبلهم من الأمم

_ (1) سبق تفسيرها في آية: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [المائدة 5/ 103] . [.....]

حين كذبوا الرسل، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فهؤلاء سلكوا سبيل أسلافهم في تكذيب الرسل واتباع الضلال. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فهم مخطئون فيما يقولون، وليس الأمر كما يزعمون أنه تعالى لم ينكره عليهم، بل قد أنكره عليهم أشد الإنكار، ونهاهم عنه أشد النهي، وأرسل في كل أمة أو قرن أو طائفة من الناس رسولا يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن عبادة ما سواه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل، ومنهم من أعرض وتنكر، فحقت عليه الضلالة وكلمة العذاب لإصراره على الكفر والعصيان. وما على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم إلا إبلاغ الرسالة والوحي وإيضاح طريق الحق، ومنه أن مشيئته تعالى تتوجه بالهداية لمن تعلق بها، كما قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 8- 10] وقال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت 29/ 69] . وليس من وظيفة هؤلاء الرسل إلجاء الناس إلى الإيمان، فذلك ليس من شأنهم، ولا هو من الحكمة. أي إن الثواب والعقاب مرتبطان بأمرين: مشيئة الله تعالى، واتجاه العبد إلى تحصيل الأسباب المؤدية إلى النجاة أو الهلاك. وهداية الله نوعان: هداية إرشاد ودلالة، وهذا ما يقوم به الرسل والكتب المنزلة عليهم، وهداية توفيق وعون، وهذا متعلق بسلوك العبد أصل طريق الهداية والإيمان، فمن آمن زاده الله توفيقا إلى الخير، ومن ضل وكفر وأعرض أضله الله وأبعده عن جادة الحق والخير. ثم إن أمر الله جميع الناس بالإيمان غير إرادته ومشيئته.

ثم أبان الله تعالى عموم بعثة الرسل لكل الأمم فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا.. أي إن سنته تعالى في خلقه إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله، ونهيهم عن عبادة الطاغوت: وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام والكواكب والشيطان وغيرها، فلقد أرسل في كل أمة رسولا منذ حدث الشرك في قوم نوح، وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانت دعوته عامة للإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كان يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف 43/ 45] . فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ. والخلاصة: إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية غير مرادة لأنه تعالى نهى الناس عن الكفر على ألسنة رسله. وأما المشيئة الكونية وهي تمكين بعض الناس من الكفر وتقديره لهم على وفق اختيارهم، فلا حجة لهم فيها لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حكمة بالغة «1» . ثم إنه تعالى أنكر على الكفرة المكذبين بإنزال العقوبة عليهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ.. أي فبعض الناس هداهم الله ووفقهم لتصديق الرسل، ففازوا ونجوا، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله، فعاقبهم الله تعالى. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل،

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 569

وكذب الحق، كعاد وثمود، كيف أهلكهم الله بذنوبهم: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمد 47/ 10] فانظروا كيف كان مصير المكذبين رسلهم، لتعتبروا بعاقبتهم. ثم خصص الله الخطاب برسوله مسليا له عما يقابله قومه من جحود فقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ.. أي إن تحرص يا محمد على هداية قومك، فلا ينفعهم حرصك إذا كان الله قد أراد إضلالهم بسوء اختيارهم، كما قال سبحانه: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة 5/ 41] وقال تعالى حكاية لقول نوح لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ [هود 11/ 34] وقال عزّ وجلّ لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] . وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر الاختيار، لا الإكراه والإلجاء. ثم ذكر تعالى الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، فقالوا: اعتقاد البعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا، وذلك في قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. أي حلف المشركون، واجتهدوا في الحلف، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي أنهم استبعدوا البعث، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به لأن الميت يفنى ويزول. فرد الله تعالى عليهم بقوله: بلى سيكون ذلك، ووعد به وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل ووقعوا في الكفر. وحكمة الله في المعاد هي لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي ليبين للناس الحق فيما يختلفون فيه من كل شيء، ويقيم العدل المطلق فيميز الخبيث من

فقه الحياة أو الأحكام:

الطيب، والطائع من العاصي، والظالم من المظلوم، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي وليعلم الكافرون علم اليقين الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم: لا يبعث الله من يموت، وتقول لهم زبانية النار: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور 52/ 14- 16] . وناسب الكلام في البعث أنه تعالى أخبر عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فقال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ.. أي إنا إذا أردنا شيئا من الخلق والإعادة والبعث للأموات والمعاد، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء الله، دون عناء ولا تردد، ولا بطء ولا تكلف، كما قال سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 53/ 50] وقال: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] وقال: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] وقال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن بعثة الرسل في كل الأمم عامة شاملة، وهدفها واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الطاغوت أي ترك كل معبود دون الله، كالشيطان والكاهن والصنم، وكذا كل من دعا إلى الضلال. 2- الناس أمام دعوة الرسل فريقان: فريق أرشده الله إلى دينه وعبادته،

وفريق أضله الله في قضائه السابق حتى مات على الكفر، وكل من الفريقين اختار لنفسه ما يحلو، وعلم الله واسع محيط بكل شيء، علم الله من كل فريق ما سيختار، فكان قضاؤه السابق مطابقا لما سيحدث، وعلم الله لا يتغير. وسنة الله قديمة مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان، وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض، والكفر في البعض، حسبما علم من توجه العبد إلى منحاه. 3- العاقل من يعتبر ويتعظ بما حل بفريق الضالين المكذبين، كيف آل أمرهم إلى الدمار والخراب والعذاب والهلاك. 4- لا جدوى ولا فائدة من حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره على هداية أحد بجهده وتصميمه إن سبق في علم الله الضلالة له، فإنه تعالى لا يرشد من أضله، بعد أن ضل سواء السبيل. وليس للضالين من ناصرين ولا من شافعين ولا من رفاق ينقذونهم من العذاب الذي استحقوه على ضلالهم وكفرهم. 5- الكل يعجب من حماقة المشركين وجهلهم حينما يغلظون الأيمان ويؤكدون القسم بأن الله لا يبعث من يموت. لذا رد الله عليهم بأن البعث حق مؤكد لا شك فيه، ولا بد من وقوعه، وإن كان أكثر الناس يجهلون أنهم مبعوثون. 6- الحكمة من البعث والمعاد واضحة وهي إظهار الله الحق فيما يختلف فيه الناس من أمر البعث وكل شيء، وإعلام الكافرين بالبعث الذين أقسموا على إنكاره أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقسامهم: لا يبعث الله من يموت. 7- لله القدرة المطلقة الهائلة، فإذا أراد أن يبعث من يموت فلا تعب عليه ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما يحدثه في الكون لأنه إنما يقول له: كن فيكون.

جزاء المهاجرين وبشرية الرسل ومهمة النبي صلى الله عليه وسلم في بيان القرآن، وتهديد الكافرين [سورة النحل (16) الآيات 41 إلى 50] :

جزاء المهاجرين وبشرية الرسل ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيان القرآن، وتهديد الكافرين [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) الإعراب: حَسَنَةً صفة للمصدر، أي لنبوئنهم تبوئة حسنة. الَّذِينَ صَبَرُوا.. الذين: إما بدل مرفوع من الَّذِينَ هاجَرُوا وإما بدل منصوب من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أو منصوب بتقدير: أعني.

البلاغة:

عَلى تَخَوُّفٍ حال من الفاعل أو المفعول. سُجَّداً لِلَّهِ حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من ضمير ظِلالُهُ الذي هو في معنى الجمع يَخافُونَ رَبَّهُمْ حال. مِنْ فَوْقِهِمْ حال من: هم. البلاغة: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا استفهام بمعنى الإنكار. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. وَالْمَلائِكَةُ عطف خاص على عام لتعظيم الملائكة وتكريمهم. يَتَفَكَّرُونَ تَعْلَمُونَ يَشْعُرُونَ داخِرُونَ يَسْتَكْبِرُونَ يُؤْمَرُونَ بأسلوب السجع اللطيف. الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ هم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في صدر الإسلام فرضا، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» أي أن الهجرة أصبحت هي ترك سيئات الأعمال: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» والهجرة: ترك الوطن في سبيل الله لإقامة دينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بالأذى من أهل مكة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أن الجنة أعظم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفار، أي لو علموا أن الله يمنح المهاجرين خير الدارين لوافقوهم، أو للمهاجرين، أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، أو للمتخلفين عن الهجرة، أي لو علموا ما للمهاجرين من الكرامة لبادروا إلى الهجرة. وفي هذا ترغيب في الهجرة وفي طاعة الله تعالى لأنه بالهجرة قوي الإسلام. الَّذِينَ صَبَرُوا هم الصابرون على الشدائد من أذى المشركين، والهجرة لإظهار الدين. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي منقطعين إلى الله تعالى مفوضين إليه الأمر كله. إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، وهو رد لقول قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وفي هذا دلالة واضحة أن النبوة لا تكون إلا في الرجال، وليس في النساء نبية. أَهْلَ الذِّكْرِ العلماء بالتوراة والإنجيل، أي أهل الكتاب العالمين إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، فإنهم يعلمونه، وأنتم أقرب إلى تصديقهم من تصديق المؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بِالْبَيِّناتِ متعلق بمحذوف، أي أرسلناهم بالبينات أي الحجج الواضحة، والبينة: هي المعجزة الدالة على صدق الرسول الزُّبُرِ الكتب، أي كتب الشرائع وتكاليف العباد، جمع زبور الذِّكْرَ القرآن، وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه لِتُبَيِّنَ

لِلنَّاسِ لتوضح أسرار التشريع ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في القرآن من الحلال والحرام، والتبيين: أعم من أن ينص على المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وإرادة أن يتأملوا فيه، فيتنبهوا للحقائق، ويعتبروا. مَكَرُوا المكرات السيئات، والمكر: السعي بالفساد خفية السَّيِّئاتِ أي الأعمال التي تسوء عاقبتها، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه، كما ذكر في سورة الأنفال [30] وراموا صد أصحابه عن الإيمان يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ مثلما فعل بقارون، أي بأن يذهبهم ويغوّر بهم في أعماق الأرض. مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من جهة لا تخطر ببالهم، بأن يأتيهم العذاب بغتة من جانب السماء، كما فعل بقوم لوط، وكما أهلك المشركين في بدر، ولم يكونوا يقدرون على النجاة. فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم في البلاد للتجارة، مثل قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران 3/ 196] . فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار من العذاب تَخَوُّفٍ مع تخوف وتوقع للبلايا أو تنقص شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف: التنقص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعر أبو كبير يصف ناقته: تخوّف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السّفن «1» فقال عمر: عليكم بديوانكم، لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة مِنْ شَيْءٍ له ظل كشجرة وجبل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يميل من جانب إلى جانب، وقرئ تتفيؤا وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع، والظلال: جمع ظل: وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس وَالشَّمائِلِ جمع شمال، والمراد باليمين والشمائل: أي عن جانبي الشيء أول النهار وآخره. سُجَّداً لِلَّهِ أي خاضعين له بما يراد منهم، والسجود: الانقياد والخضوع وَهُمْ الظلال، نزلوا منزلة العقلاء داخِرُونَ صاغرون منقادون. مِنْ دابَّةٍ نسمة تدب على السماء والأرض، أي تخضع له بما يراد منها، وغلب في الإتيان بما: ما لا يعقل لكثرته لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبرون عن عبادته يَخافُونَ أي

_ (1) التامك القرد: اللحم المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسيّ.

المناسبة:

الملائكة، حال من ضمير لا يَسْتَكْبِرُونَ. مِنْ فَوْقِهِمْ حال، أي عاليا عليهم بالقهر والغلبة، كما قال تعالى: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الأعراف 7/ 127] . المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى موقف الكفار في إنكار البعث والقيامة، الدال على التمادي في الغي والجهل والضلال، أبان حكم الهجرة عن تلك الديار ورغب فيها، تخلصا مما يقدم عليه أولئك الكفار من إيذاء المسلمين وإضرارهم وعقوبتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة: صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، وعابس، وجبير، موليين لقريش، فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، أما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت لكم، لم أنفعكم، وإن كنت عليكم، لم أضركم، فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر قال: ربح البيع يا صهيب، وقال عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله، لم يعصه، وهو ثناء عظيم، يريد به: لو لم يخلق الله النار لأطاعه، فكيف ظنك به، وقد خلقها؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام، فتركوا عذابهم، ثم هاجروا، فنزلت هذه الآية «1» . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية: هؤلاء أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، بوّأهم الله المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. ثم ذكر الله تعالى الشبهة الخامسة لمنكري النبوة الذين قالوا: الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا، لكان

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 34

التفسير والبيان:

يبعث ملكا، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله تعالى وعادته أن يبعث رسولا من البشر. ثم هددهم بخسف الأرض بهم، أو بعذاب من السماء بغتة لأن لله قدرة كاملة في السماء والأرض، والمخلوقات كلها تنقاد له وتخضع لأمره. التفسير والبيان: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ.. هذه الآية تحدد جزاء المهاجرين في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان، رجاء ثواب الله وجزائه، والمعنى: والذين فارقوا ديارهم وأوطانهم، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله، وحبا في إرضائه، وذهبوا إلى ديار أخرى، بعد أن ظلموا، وأوذوا من الأعداء، لننزلنهم في الدنيا دارا أو بلدة حسنة، ومنزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب. فالحسنة: هي المنزلة الطيبة والمسكن المرضي والموطن الأصلح وهو المدينة، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد: هي الرزق الطيب، قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا لله، عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد. فالحسنة: هي المنزلة الرفيعة المادية والمعنوية. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ.. أي وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطيناهم في الدّنيا لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ: الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدّنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى

المهاجرين، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. أو لو علم المتخلفون عن الهجرة معهم ما ادّخر الله لمن أطاعه واتّبع رسوله. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربّك في الدّنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر. ثم وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ صَبَرُوا.. أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا على الأذى من قومهم والعذاب، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وهو حرم الله، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله، وعناء السفر ومتاعب الغربة، وتوكّلوا على ربّهم، أي فوّضوا أمورهم إليه، فأحسن عاقبتهم في الدّنيا والآخرة. قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون سبب نزول الآية في مهاجرة الحبشة الذين اشتدّ أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكّنوا من عبادة ربّهم. ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعفر بن أبي طالب ابن عمّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأبو سلمة بن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدّنيا والآخرة «1» ، وهذا هو الصحيح في سبب نزول هذه الآية، كما ذكر ابن عطية. ثم أجاب الله تعالى عن الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوة المذكورة في هذه السورة وهي بشريّة الرّسل، فقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا للناس رسولا من أهل السماء أي ملائكة، وإنما أرسلنا رجالا من أهل الأرض نوحي إليهم أوامرنا ونواهينا، فلم نرسل إلى قومك يا محمد إلا كما أرسلنا إلى

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 570

من قبلهم من الأمم، أي رسلا من جنسهم وطبيعتهم: قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 93] ، قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف 18/ 110] . قال ابن عباس: لما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا، أنكرت العرب ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ.. الآية. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.. أي فاسألوا أهل العلم وأهل الكتب الماضية: أبشرا كانت الرّسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.. أي أرسلناهم بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوّتهم، وبالكتب المشتملة على التّشريع الرّبّاني. والزّبر: جمع زبور أي كتاب، تقول العرب: زبرت الكتاب: إذا كتبته، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] ، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر 54/ 52] . وفي الآية: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزّبر إلا رجالا، أي غير رجال، فكلمة إِلَّا بمعنى غير، كقوله: لا إله إلا الله. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ.. أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد، أنزلنا إليك القرآن، لتبيّن للناس ما أنزل إليهم من ربّهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأمم الماضية التي أبيدت وأهلكت لتكذيبها الأنبياء، لعلمك بمعاني ما أنزل الله عليك. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ومن أجل أن يتفكّروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ، فيهتدون، ويفوزون بالنّجاة في الدّارين.

وبعد فتح باب الأمل أمامهم، حذّرهم تعالى سوء ما هم عليه من الكفر والعصيان، فقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ.. أي إنه تعالى يخبر عن حلمه وإمهاله العصاة الذين يعملون السّيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم لما هم عليه من الضلال. والمكر في اللغة: عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء. والمعنى: أفأمن الذين مكروا السيئات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أهل مكة، وحاولوا صدّ الناس عن الإيمان بدعوته، أحد أمور أربعة: الأول- أن يخسف بهم الأرض، كما فعل بقارون. الثاني- أو يأتيهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به، كما صنع بقوم لوط. الثالث- أو يأخذهم في تقلّبهم في الليل والنهار أو في أسفارهم ومتاجرهم واشتغالهم في المعايش والأشغال الملهية، فلا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه. الرابع- أو يأخذهم على تخوّف أي في حال خوفهم بأن يهلك الله قوما، فيتخوّفوا، فيأخذهم بالعذاب، وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فإن العذاب المتوقّع مع الخوف الشديد أبلغ وأشدّ من حال المفاجأة لأن العقاب في حال الإرهاب، وإنهاك الأعصاب، وإخافة النفوس أشدّ من العقاب المفاجئ. وقيل: التّخوّف: التّنقص من الأموال والأرزاق، والأنفس، على لغة هذيل كما بيّنّا. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله تعالى لم يعجل بعذابهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة لأنه رؤف رحيم بعباده، فترك لهم وقتا يتمكنون من تلافي التّقصير، واستدراك الأخطاء، والعدول عن الضّلال.

ثبت في الصحيحين: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» وثبت فيهما أيضا: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] » . ونظير الآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج 22/ 48] . والتّخويف والإنذار يناسبه التّذكير بالقدرة الإلهية الهائلة، والعظمة والجلال والكبرياء الذي خضع له كلّ شيء، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ.. أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من المخلوقات ذات الظلال كالجبال والأشجار والمباني والأجسام القائمة، تتميل ظلاله من جانب إلى جانب، ذات اليمين وهو المشرق، وذات الشمال وهو المغرب، وذلك بكرة وعشيّا أي في الغداة أول النهار، وفي المساء آخر النّهار، قال الأزهري: تفيؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعد ما انصرفت عنه الشمس، والظّل: ما يكون بالغداة: وهو ما لم تنله الشمس. والخطاب في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا لجميع الناس. وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ أراد: من شيء له ظلّ من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، بدليل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ وهو الشيء الكثيف الذي يقع له ظلّ على الأرض. وقوله تعالى: ظِلالُهُ أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه: الإضافة إلى ذوي الضلال، وإنما حسن هذا لأن الذي عاد إليه الضمير، وإن كان واحدا في اللفظ وهو قوله تعالى: إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ إلا أنه كثير في المعنى. ونظيره قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف 43/ 13] ، فأضاف الظهور- وهو

جمع- إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة، وهو قوله تعالى: ما تَرْكَبُونَ. سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ أي أن الظلال ساجدة لأمر الله وحده، والسّجود: الانقياد والاستسلام، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله، والدّخور: الصّغار والذّل، لأن الظلال تتحوّل من جهة المشرق إلى جهة المغرب، فهي في أول النهار من جهة المشرق، ثم تتقلّص، وتنتقل من حال إلى حال في آخر النهار، مائلة إلى جهة المغرب، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية. وقوله تعالى: داخِرُونَ جمع بالواو لأن الدّخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل، فغلب العقلاء. ومجمل معنى الآية: أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كلّ واحد منها وشقّيه- استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء- ترجع الظلال من جانب إلى جانب، منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التّفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله لا تمتنع «1» . وهذا في الجمادات، ثم ذكر سجود الأحياء فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. أي ولله يخضع كلّ ما في السّموات والأرض من دابة تدبّ عليها، وكذلك الملائكة، والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن عبادته وعن أي شيء كلفوا به، أو عن مراد الله فيما أراد، فهم في تذلل وخضوع لله تعالى. يَخافُونَ رَبَّهُمْ.. يخاف هؤلاء الملائكة والدّواب الأرضية الذي خلقهم،

_ (1) الكشاف: 2/ 205

فقه الحياة أو الأحكام:

وهو دائما من فوقهم بالقهر والغلبة، ويفعلون أي الملائكة كلّ ما يؤمرون به، فهم مثابرون على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره. فالمراد بالفوقية: الفوقية بالرّتبة والشّرف والقدرة والقوة. ونظير الآية كثير مثل: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرّعد 13/ 15] . والخلاصة: إن على أهل مكة الماكرين بالنّبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كلّ شيء له في السّموات والأرض، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات ما يأتي: 1- جزاء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وصبروا على الأذى، وتوكّلوا على ربّهم هو الموطن الأفضل، والمنزلة الحسنة، والعيشة الرّضية، والرّزق الطّيّب الوفير، والنّصر على الأعداء، والسّيادة على البلاد والعباد، وقد اجتمع لهم بفضل الله كل ذلك، ولأجر دار الآخرة أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده. 2- في الآية تنويه بفضيلة الصّبر والتّوكل، أما الصّبر فلما فيه من قهر النّفس، وأما التّوكل فللعزوف عن الخلق والاتّجاه إلى الحقّ، الأول هو مبدأ السّلوك إلى الله تعالى، والثاني هو نهاية هذا الطريق. 3- دلّت آية وَما أَرْسَلْنا.. على أنه تعالى ما أرسل أحدا من النّساء، ودلّت أيضا على أنه ما أرسل ملكا إلى الناس، ولكن الله يرسل الملائكة رسلا إلى

سائر الملائكة، ويرسل بعضهم بالوحي إلى الأنبياء، كما قال تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر 35/ 1] . ورسل البشر هم دائما من الرّجال. 4- على العوام سؤال أهل الذّكر فيما لم يكونوا يعلمون به، وأهل الذّكر: هم أهل العلم مطلقا، سواء بأخبار الماضين، إذ العالم بالشيء يكون ذاكرا له، أو بالكتب السماوية السابقة، أو بالقرآن. وبما أن أهل مكة كانوا مقرّين بأن اليهود والنّصارى أصحاب العلوم والكتب، فأمرهم الله بأن يرجعوا في مسألة بشرية الرّسل إليهم، ليبيّنوا لهم ضعف هذه الشّبهة وسقوطها، فهم الذين يخبرونهم بأن جميع الأنبياء كانوا بشرا. 5- احتجّ بآية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ من أجاز للمجتهد تقليد مجتهد آخر، فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما، وجب عليه الرّجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالما، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فإن لم يجب فلا أقل من الجواز. 6- احتجّ نفاة القياس بهذه الآية أيضا: فَسْئَلُوا.. فقالوا: المكلّف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم، لتمكّنه من استنباط الحكم بواسطة القياس. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من هذا الدّليل. 7- أرسل الأنبياء السابقون بالبيّنات والزّبر، أي بالدّلائل والحجج الشاهدة بصدقهم، وبالكتب المتضمنة تشريع الإله. وأنزل الذّكر أي القرآن على النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليبيّن للناس فيه ما أنزل إليهم من الأحكام والوعد والوعيد قولا وفعلا، فالرّسول مبيّن عن الله عزّ وجلّ مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزّكاة وغيرها من أنظمة الحياة مما لم يفصّله القرآن.

مناقشة عقائد المشركين وأعمالهم القبيحة [سورة النحل (16) الآيات 51 إلى 62] :

8- اشتملت آية أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي بالسّيئات على وعيد للمشركين الذين احتالوا على تقويض أركان الإسلام بخسف الأرض كما خسفها بقارون، أو بمفاجأتهم بالعذاب كما فعل بقوم لوط وغيرهم، أو بأخذهم في تقلبهم أي في أثناء أسفارهم وتصرفاتهم، وما هم بمعجزين الله، أي سابقين الله ولا فائتيه، أو بأخذهم في حال تخوّف وإرهاب، أو على تنقّص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم، أي تنقص من الأموال والأنفس والثّمرات، حتى أهلكهم كلّهم. 9- من أدلّة عظمة الله وكبريائه وقدرته سجود كلّ ما يدبّ على الأرض له، وكذا الملائكة الذين في الأرض، وخصّهم بالذّكر لشرف منزلتهم، فكلّ جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة يخضعون لله وينقادون لأمره، ولا يستكبرون عن عبادة ربّهم، ويخافون عقاب ربّهم وعذابه من فوقهم، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء، ويمتثلون كل ما يؤمرون به، وهؤلاء هم الملائكة. 10- استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من البشر لتخصيصهم بالذّكر، ولأنهم لا يستكبرون عن عبادة ربّهم، فليس في قلوبهم تكبّر وترفّع، ولأنهم يفعلون ما يؤمرون، مما يدلّ على أن أعمالهم خالية من الذّنب والمعصية، ولأنهم خلقوا قبل البشر بأزمان مديدة وهم طائعون لله طوال هذه المدة، ولا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى. مناقشة عقائد المشركين وأعمالهم القبيحة [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 62] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

الإعراب:

الإعراب: واصِباً حال من الدِّينُ، وعامله لَهُ الجار والمجرور الذي فيه معنى الظرف. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ما: شرطية، أو موصولة متضمّنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله تعالى. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ما: مبتدأ وخبره لَهُمْ مقدم عليه، أو معطوف بالنصب على الْبَناتِ. سُبْحانَهُ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ألسنة: جمع لسان، واللسان يذكّر ويؤنث، فمن ذكّر جمعه

البلاغة:

على ألسنة، ومن أنّث جمعه على ألسن، والقرآن أتى بالتّذكير. والْكَذِبَ: مفعول تَصِفُ. ومن قرأ الْكَذِبَ بثلاث ضمّات، كان مرفوعا على أنه صفة الألسنة. البلاغة: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فيه إفادة القصر، أي لا تخافوا غيري، وفيه التفات عن الغيبة إلى التّكلم، مبالغة في التّرهيب والمهابة، وتصريحا بالمقصود، فكأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غيري. ويلاحظ وجود السّجع في أواخر الآيات فَارْهَبُونِ تَتَّقُونَ تَجْئَرُونَ يُشْرِكُونَ تَفْتَرُونَ ... فَتَمَتَّعُوا.. تهديد ووعيد. يَسْتَأْخِرُونَ يَسْتَقْدِمُونَ بينهما طباق. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صيغة مبالغة. سُبْحانَهُ اعتراض لتعجيب الخلق من هذا الجهل الفاضح القبيح. وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ كلام بليغ بديع، أي ألسنتهم كاذبة، كقولهم: «عينها تصف السحر» أي ساحرة. المفردات اللغوية: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ تأكيد. إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فيه إثبات الألوهية والوحدانية. فَارْهَبُونِ خافون دون غيري، وفيه التفات عن الغيبة. والرّهبة: الخوف. وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. وَلَهُ الدِّينُ الطاعة والإخلاص. واصِباً دائما لازما، كما قال تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصافات 37/ 9] . أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي مع أنه الإله الحق ولا إله غيره، والاستفهام للإنكار والتّوبيخ. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي وأي شيء اتّصل بكم من نعمة، فهو من الله، فلا نافع غيره، ولا ضارّ سواه. مَسَّكُمُ أصابكم. الضُّرُّ كالفقر والمرض. تَجْئَرُونَ تتضرّعون لكشفه أو ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدّعاء، ولا تدعون غيره. والجؤار: رفع الصوت في الدّعاء والاستغاثة. إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ وهم كفاركم. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النّعمة، أي كأنهم قصدوا بشركهم كفران النّعمة، وإنكار كونها من الله تعالى. فَتَمَتَّعُوا باجتماعكم على عبادة الأصنام، وهو أمر تهديد. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ذلك وأغلظ وعيده. وَيَجْعَلُونَ أي المشركون. لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد، أو لما

لا يعلمون أنها تضرّ ولا تنفع، وهي الأصنام. نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الزروع والأنعام، بقولهم: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الأنعام 6/ 136] تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ، وفيه التفات عن الغيبة. تَفْتَرُونَ تكذبون على الله من أنه أمركم بذلك، وأنها آلهة حقيقة بالتّقرب إليها، وهو وعيد لهم عليه. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ بقولهم: الملائكة بنات الله، كانت خزاعة وكنانة يقولون: إن الملائكة بنات الله. سُبْحانَهُ تنزيها له عن النقائص، أو تنزيها له من قولهم أو تعجّبا منه ومما زعموا. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي يشتهونه، وهم البنون، والمعنى: يجعلون له البنات التي يكرهونها، وهو منزّه عن الولد، ويجعلون لهم الأبناء الذين يختارونهم، فيختصون بالأسنى الأرفع، كقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ، وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ [الصافات 37/ 149] . وَإِذا بُشِّرَ البشارة: إلقاء الخبر المؤثر في تغير الوجه، ويكون في السّرور والحزن، وجاءت الآية في الثاني (الحزن) ثم خصّ عرفا بالخبر السّارّ. ظَلَّ صار مُسْوَدًّا متغيّرا، وهو كناية عن الاغتمام من الكآبة والحياء من الناس. كَظِيمٌ ممتلئ غمّا وغيظا وحزنا. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي منهم أي من قومه. مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من سوء المبشر به عرفا، خوفا من التغيير، مترددا فيما يفعل به. أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أيتركه بلا قتل، بهوان وذلّ، والإمساك هنا: الحبس. أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي يواريه في التّرب أو يئده، وذكر ضمير يمسكه ويدسّه لأنه عائد على ما في قوله تعالى: ما بُشِّرَ بِهِ. ساءَ بئس. ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا، حيث نسبوا لخالقهم البنات اللاتي هنّ عندهم بهذا التقدير. لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي الكفار. مَثَلُ السَّوْءِ أي الصفة السوء بمعنى القبيحة، وهي اشتهاء الذكور استظهارا بهم، وكراهة الإناث ووأدهنّ خشية الإملاق أو الفقر والعار، مع احتياجهم إليهن للزواج. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا هو، واتّصافه بجميع صفات الجلال والكمال، فله الوجوب الذاتي، والغنى المطلق، والجود الفائق، والنزاهة عن صفات المخلوقين. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي في ملكه، المتفرد بكمال القدرة. الْحَكِيمُ المتّصف بكمال الحكمة في صنعه وخلقه. بِظُلْمِهِمْ بالمعاصي. ما تَرَكَ عَلَيْها على الأرض. مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدبّ عليها. لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، بل هلكوا وعذبوا حينئذ لا محالة، وإضافة الظلم للناس الدّال على العموم: لا يلزم أن يكونوا كلهم ظالمين، حتى الأنبياء عليهم السّلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم، وصدر عن أكثرهم. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي ينسبون لله ما هو قبيح لأنفسهم من البنات، والشريك في الرّياسة، وإهانة الرّسل، وخبائث الأموال. وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك، أي يكذبون، كما يقال: عينها تصف السحر، أي هي

المناسبة:

ساحرة، وقدّها يصف الهيف، أي هي هيفاء. وكذبهم هو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى عند الله، أي الجنة، لقوله تعالى حكاية عنهم: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت 41/ 50] . لا جَرَمَ حقّا. مُفْرَطُونَ متركون فيها أو مقدّمون إليها، معجّلون بهم إليها. وعلى قراءة كسر الراء: أي متجاوزون الحدّ. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أنّ كل ما سوى الله منقاد خاضع لجلاله وكبريائه وسلطانه، أتبع ذلك بأمور ثلاثة: أولها- النّهي عن الشّرك، وأن كلّ ما سواه فهو ملكه، وأنه غني عن الكلّ، وأن الناس مذبذبون، فإذا أصابهم الضّرّ تضرّعوا إلى الله تعالى، وإذا كشفه عنهم، عادوا إلى الكفر والشرك. ثانيها- بيان قبائح أفعال المشركين، بعد إيراد سخف أقوالهم وفسادها. ثالثها- إمهال هؤلاء الكفار، وحلم الله عليهم، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، بالرّغم من عظيم كفرهم، وقبيح أفعالهم، إظهارا للفضل والرّحمة والكرم. التفسير والبيان: بما أنه ثبت في الآيات السالفة خضوع كل ما في الكون لله تعالى، فذلك دليل قاطع على وحدانية الله، لذا أخبر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كلّ شيء وخالقه وربّه، فقال تعالى: وَقالَ اللَّهُ: لا تَتَّخِذُوا.. أي وقال الله تعالى للناس: لا تتخذوا إلهين اثنين، أي لا تتخذوا لي شريكا، ولا تعبدوا سواي، فمن عبد مع الله غيره فقد أشرك به، إنما هو الله إله واحد، ومعبود واحد، فاتّقوني وخافوا عقابي بالإشراك وعبادة سواي.

وإنما ذكر اثْنَيْنِ بعد قوله إِلهَيْنِ لتأكيد التنفير عن التعدد، والدّلالة على أن المنهي عنه هي الاثنينية. وكان ذكر واحِدٌ بعد قوله إِلهٌ للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية، أما الألوهية فلا خلاف ولا نزاع فيها. وجاء بهذه العبارة إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بعد ثبوت الإله ونفي التعدّد للدلالة على أنه لما ثبت وجود الإله وأنه لا بدّ للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصّمد. والخلاصة مما ذكر: أن لا إله إلا الله وحده، وأن العبادة لا يستحقها سواه. وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ.. أي لما كان الإله واحدا، والواجب لذاته واحدا، كان كل ما سواه حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده، فلله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهو خالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وهم عبيده ومملوكوه، وله الدّين واصبا، أي له الطاعة والانقياد والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار، فالدّين هنا: الطاعة، والواصب: الدائم. وقيل: الواصب: الواجب اللازم أبدا. أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي إنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كلّ ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه، فكيف يعقل الرغبة في غير الله أو رهبة غير الله تعالى؟ وهذا مقول على سبيل التّعجب. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ.. وإذا كان الواجب ألا يتقى غير الله، فالواجب ألا يشكر غير الله إذ ما من نعمة بكم من إيمان وسلامة جسد وعافية، ورزق ونصر ونحو ذلك إلا وهي من الله عزّ وجلّ ومن فضله وإحسانه. فدلّت الآية على أن العاقل يجب عليه ألا يخاف وألا يتقي أحدا إلا الله، وألا يشكر أحدا إلا الله تعالى، فجميع النّعم من الله تعالى.

وكذلك لا يدفع الضّرّ إلا الله بقوله: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ.. أي إذا تعرّضتم لسوء أو ضرر في أنفسكم من مرض أو خوف أو مشقة، ونحوها من الضرورات، فإليه تلجؤون وتسألون وتدعون، وتلحون في الرّغبة إليه والاستغاثة به لكشف ذلك عنكم، لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو. وهذا كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] . ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ.. أي ثم إذا كشف الضّرّ عنكم، وأزال المخاوف، ووهبكم النعمة والسلامة والعافية، وفرج البلاء عنكم، إذا أنتم تفترقون فريقين، ففريق منكم يبقى على ما كان عليه من الإيمان، فلا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منكم عند ذلك يتغيرون، فيشركون بالله غيره في العبادة، وهذا مثار عجب من فعل هؤلاء، حيث يقابلون النعمة بالنقمة، والشكر بالشرك بالله تعالى. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذه اللام إما لام التعليل، أي قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم، والمعنى: أنهم أشركوا بالله غيره في كشف الضّر عنهم، وغرضهم من الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى. وإما لام العاقبة (الصيرورة) أي أن عاقبة تلك التضرّعات ما كانت إلا هذا الكفر، كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] . ثم توعّدهم وهدّدهم قائلا: فَتَمَتَّعُوا.. أي اعملوا ما شئتم، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدّنيا، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم، وما ينزل بكم من العذاب، وتدركون سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر التهديدي مثل قوله تعالى:

فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] ، وقوله تعالى: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا [الإسراء 17/ 107] . ثم أخبر الله تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام بغير علم، وجعلوا للأنداد نصيبا مما رزقهم الله، فقال تعالى: 1- وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ.. أي ويجعل هؤلاء المشركون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها أنها جماد لا يضرّ ولا ينفع، فهم إذن جاهلون بها، يجعلون لها نصيبا مع الله تعالى، مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرها يتقرّبون به إلى الله تعالى، ونصيبا يتقرّبون به إليها، كما قال تعالى عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام 6/ 136] . ثم توعّدهم الله على أفعالهم مقسما بنفسه الكريمة فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي أقسم لأسألنكم عن ذلك الذي افتريتموه من الباطل، ولأجازينكم عليه أوفر الجزاء في نار جهنم، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] . وهذا سؤال توبيخ وتأنيب وتقريع لهم على إثمهم وجرمهم. 2- وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ.. أي ومن جهل المشركين وإفكهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرّحمن بنات الله، فعبدوها مع الله تعالى، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله، كما قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزّخرف 43/ 19] ، فأخطؤوا خطأ كبيرا، إذ نسبوا إليه تعالى الولد، ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، وإنما يرضون الذّكور، كما قال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ

الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائرة [النّجم 53/ 21- 22] ، وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات 37/ 151- 154] ، نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى، فكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات. وهنا قال تعالى: وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين، أي أنهم يختارون لأنفسهم الذّكور، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. وهو كقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور 52/ 39] . ثم عاب الله تعالى على العرب تبرمهم بالبنات فقال: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى.. أي وإذا بشّر أحد هؤلاء العرب الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى، ظلّ وجهه مسودّا أي كئيبا من الهمّ، وهو كظيم، أي ساكت من شدّة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من القوم، أي يكره أن يراه الناس، من مساءة ما بشّر به، هل يمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وفقر، أم يدفنها في التراب وهي حيّة، وذلك هو الوأد المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير 81/ 8- 9] . أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إلى الله تعالى، وهو كقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف 43/ 17] . والتبشير عرفا: مختصّ بالخبر الذي يفيد السّرور، إلا أنه بحسب الأصل في اللغة: عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، وكلّ من السّرور والحزن يوجب تغيّر البشرة. وذكر ضمير أَيُمْسِكُهُ لأنه عائد على ما.

ثم أجمل الله تعالى موقف المشركين حول هذا الأمر، فقال: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.. أي للذين لا يصدّقون بالحياة الآخرة وما فيها صفة السّوء التي هي كالمثل في القبح، أي لهم صفة النّقص بما ينسب إليهم، وهي الحاجة إلى الأولاد الذّكور، وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق، والإقرار على أنفسهم بالشّح البالغ. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي وله تعالى الصفة العليا، والكمال المطلق، فهو الواحد المنزّه عن الولد والوالد والشريك، وهو الغني عن العالمين، والمنزّه عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم، أي فله الكمال المطلق من كل وجه. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وهو القوي الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا بما تقتضيه الحكمة السديدة. وبعد أن حكى الله تعالى عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح قولهم، بيّن أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة، فضلا منه ورحمة وكرما، فقال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ.. هذا إخبار عن حلمه تعالى بخلقه، مع ظلمهم، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم فورا، ما ترك على ظهرها من دابة، أي لأهلك جميع دواب الأرض، تبعا لإهلاك بني آدم، ولكنه جلّ جلاله حليم ستّار غفور رحيم، يؤخرهم إلى أجل مسمى، فلا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا. روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل «1» يهلك في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ الآية: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ.. وهذا مروي أيضا عن أبي الأحوص. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ... أي ولكن بحلمه تعالى يؤخر هؤلاء الظلمة والعصاة، فلا يعاجلهم بالعقوبة، إلى أجل سمّاه الله لعذابهم، فإذا حان وقت هلاكهم، لا يستأخرون عن الهلاك ساعة، ولا يتقدّمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم. روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذريّة الصالحة، يرزقها الله العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر» . وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي وينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدّنيا وفي الآخرة وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث، فلنا الجنة بما نحن عليه، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي حقّا أن لهم النار، وأنهم متروكون فيها أو معجل بها إليهم. فقه الحياة أو الأحكام: أبانت الآيات الأحكام التالية:

_ (1) الجعل مفرد جعلان: دابة سوداء من دوابّ الأرض.

1- النّهي عن تعدّد الآلهة أو الشّرك، والأمر بالوحدانية والتّوحيد لأن الإله الحقّ لا يتعدّد، وأن كل من يتعدّد فليس بإله، والله تعالى واحد في ذاته المقدّسة، فقد قام الدّليل العقلي والشّرعي على وحدانيته تعالى. 2- ترتب على وحدانية الله أنه المستحق للعبادة، فلا يعبد سواه، ولا يخاف غيره. 3- وترتب على الوحدانية أن كلّ ما سوى الله في السموات والأرض فهو مملوك له، لأنه مخلوق منه، متكون موجود به، فلا يكون الدين، أي الطاعة والإخلاص لله دائما، ولا يتقى غير الله تعالى. 4- جميع النعم من الله تعالى، سواء المادية كالرّزق والسّلامة والصّحة، أو المعنوية كالأمان والجاه والمنصب ونحوها. 5- لا يجد الإنسان ملجأ لكشف الضّرّ عنه في وقت الشدائد والكروب إلا الله تعالى، فيضجّ بالدّعاء إليه، لعلمه أنه لا يقدر أحد على إزالة الكرب سواه. 6- التعجيب من حال الإنسان بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار (رفع الصوت والتضرع بالدّعاء إلى الله) فهو يعود إلى الإشراك بعد النجاة من الهلاك. وهذا المعنى مكرر في القرآن الكريم. وقد أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي، وقيل: لام العاقبة. 7- تهديد هؤلاء الكفار بالتمتع بمتاع الحياة الدّنيا، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم. 8- هناك نوع آخر من جهالات المشركين، وهو أنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه جماد يضرّ وينفع، وهي الأصنام، شيئا من أموالهم يتقرّبون به إليه. فيكون ضمير يَعْلَمُونَ عائدا للمشركين، وقيل: إنه عائد للأوثان، أي ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا.

ولكن الله عزّ وجلّ يسألهم سؤال توبيخ عن افترائهم واختلاقهم الكذب على الله أنه أمرهم بهذا. 9- ومن جهالاتهم نسبة البنات إلى الله تعالى، ونسبة البنين لأنفسهم وأنفتهم من البنات. 10- ومن جهالاتهم تغيّر وجوههم حزنا وغمّا بالبنت، واختفاء الواحد منهم وتغيبه عن مواجهة القوم من شدّة الحزن وسوء الخزي والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. وكان بعض العرب يدفنون بناتهم أحياء في التراب، مثل خزاعة وكنانة، قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدّهم في هذا تميم. زعموا خوف الفقر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهنّ. وقد حرم الإسلام الوأد، وأوجب الإحسان إلى البنات، روى مسلم في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهنّ، كنّ له سترا من النّار» ففي الصّبر عليهنّ والإحسان إليهنّ ما يقي من النّار. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضمّ أصابعه. وروى أبو يعلى الحافظ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له بنت فأدّبها، فأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، كانت له سترا أو حجابا من النّار» . 11- بئس ما حكم به أهل الجاهلية من إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم، وقد استاؤوا من البنات أشدّ الاستياء لأن الواحد منهم يسودّ وجهه بولادة البنت، ويختفي عن القوم من شدّة نفوره من البنت، ويقدم على قتلها.

12- لهؤلاء الواصفين لله البنات مثل السّوء، أي صفة السّوء من الجهل والكفر، ولله المثل الأعلى أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد، ووصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جلّ الله تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا. 13- من فضل الله ورحمته وكرمه أنه يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة، ليترك الفرصة لهم للإيمان والتوبة. قال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين، لأصاب العذاب جميع الخلق، حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء، والنبات من الأرض، فمات الدّواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة 5/ 15] ، وقال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] . 14- إن أجل موت الإنسان ومنتهى عمره لا يتقدّم ولا يتأخّر ساعة واحدة أو لحظة واحدة. وتعميم الهلاك مع أن في الناس مؤمنين ليسوا بظلمة، بجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوّضا بثواب الآخرة. جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذابا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نيّاتهم» أو «على أعمالهم» . 15- ينسب المشركون لله البنات، وتقول ألسنتهم الكذب أن لهم الجزاء الحسن، والحق أن لهم النار، وأنهم متركون منسيّون في النّار، أو معجّلون إلى النار، مقدّمون إليها.

عادة الأمم في تكذيب الرسل ومهمة النبي في تبيان القرآن وجعله هدى ورحمة [سورة النحل (16) الآيات 63 إلى 64] :

عادة الأمم في تكذيب الرسل ومهمة النبي في تبيان القرآن وجعله هدى ورحمة [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) الإعراب: وَهُدىً وَرَحْمَةً منصوبان على المفعول لأجله. المفردات اللغوية: أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ رسلا. فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ السيئة، فرأوها حسنة، فأصروا على قبائحها، وكفروا بالمرسلين. فَهُوَ وَلِيُّهُمُ متولي أمورهم، وناصرهم ومساعدهم، والضمير يعود إلى الأمم. الْيَوْمَ أي في الدنيا، وقيل: يوم القيامة، على حكاية الحال الآتية، أي لا ولي لهم غيره، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصرهم؟! وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة. الْكِتابَ القرآن. إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ للناس. الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمر الدين كالتوحيد، والقدر، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال. وَهُدىً وَرَحْمَةً معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ. المناسبة: بعد أن فنّد الله تعالى فساد عقائد المشركين وأقوالهم، وأمهلهم العذاب، سلّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يناله من أذى قومه، ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، بإخباره بإرسال الرسل إلى الأمم المتقدمة، مقسما على ذلك، ومؤكدا بالقسم، وب «قد» التي تقتضي تحقيق الأمم، فزين لهم الشيطان أعمالهم، من تماديهم على

التفسير والبيان:

الكفر، فهو وليهم اليوم، حكاية حال ماضية، أي لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو حكاية حال آتية، وهي يوم القيامة، فلا تحزن لتكذيبهم، فلست بدعا من الرسل، وليس قومك منفردين بالعتو والاستكبار. وناسب ذلك بيان مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبيان أحكام القرآن للمختلفين وهم أهل الملل والأهواء، وتوضيح ما اختلفوا فيه وهو الدين، مثل التوحيد والشرك، والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، وأحكام الدين مثل تحريمهم أشياء حلال كالبحيرة والسائبة، وتحليل أشياء حرام كالميتة. التفسير والبيان: هذه الآية تسلية من الله لرسوله عما يناله من الحزن بسبب جهالة قومه وإعراضهم عن رسالته، فقال: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا.. أي والله لقد أرسلنا رسلا إلى الأمم الخالية من قبلك، فكذبت الأمم رسلها، وحسّن لهم الشيطان أعمالهم من الكفر وعبادة الأوثان، فهو وليهم اليوم، أي هم رازحون تحت العذاب والنكال. ووليهم اليوم، أي ناصرهم في الدنيا، على زعمهم، حكاية للحال القائمة ولكن لهم عذاب مؤلم في الآخرة، فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. وقيل: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي قرينهم في النار يوم القيامة، حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أي فهو ناصرهم اليوم، لا ناصر لهم غيره، نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه، وأطلق على يوم القيامة اسم الْيَوْمَ لشهرته. وبئس الناصر المعين الذي لا يملك لهم خلاصا، ولا يستطيع إنقاذا لهم، ولهم في الآخرة عذاب شديد الألم إذ لا تنفعهم ولاية الشيطان. فلا تحزن يا محمد على تكذيب قومك لك، فلك أسوة بالمرسلين قبلك، ودع

فقه الحياة أو الأحكام:

المشركين الذين كذبوا الرسل فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه. ثم أبان الله تعالى أن الهلاك لا يكون إلا بعد بيان الحجة. فقال: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ.. أي إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات، فيعرفوا الحق من الباطل، والقرآن فاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو هدى للقلوب الحائرة أو الضالة، ورحمة لقوم يصدقون به، ويتمسكون به. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى على أن سنة الله في عباده منذ القديم إرسال الرسل بالحجة الواضحة والبيان الشافي، وما محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا كغيره من الرسل. وشأن الأمم تكذيب المرسلين، لتأثرهم بتزيين الشيطان أعمالهم، وإغوائهم، وصرفهم عن إجابة أنبيائهم. وهكذا كان موقف كفار مكة، أغواهم الشيطان، كما فعل بكفار الأمم قبلهم. ولكن سيتلقى هؤلاء الكفار جميعا جزاء أوفى وعذابا أليما في نار جهنم، ولن يكون لهم ولي ولا ناصر ولا معين ينقذهم مما هم فيه. ودلت الآية الثانية على أن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي تبيان ما جاء في القرآن، وبيان ما اختلف فيه أهل الملل والأهواء من الدين والأحكام، فتقوم الحجة عليهم ببيانه. أما الدين المختلف فيه فهو مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه. وأما الأحكام فهي مثل تحريم أشياء تحل شرعا كالبحيرة والسائبة وغيرهما، وتحليل أشياء تحرم كالميتة. والقرآن تبيان للناس وهدى أي رشد، ورحمة للمؤمنين به.

من دلائل القدرة الإلهية والتوحيد ومظاهر النعم على الناس [سورة النحل (16) الآيات 65 إلى 69] :

من دلائل القدرة الإلهية والتوحيد ومظاهر النعم على الناس [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) الإعراب: مِمَّا فِي بُطُونِهِ الهاء تعود على الْأَنْعامِ، على لغة من ذكّره، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث، كما جاء في سورة المؤمنون: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها [23/ 21] فقد ذكّر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه هنا مفردا، وأما في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع. تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الهاء تعود على موصوف محذوف، وتقديره: ما تتخذون منه. وما: مبتدأ، وتتخذون جملة فعلية صفة ل «ما» . وحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات 37/ 164] أي إلا من له مقام معلوم، وتقديره: إلا ملك له مقام.

البلاغة:

ذلِكَ حال من السبل. فِيهِ شِفاءٌ الهاء تعود إلى الشراب، أو إلى القرآن. وشِفاءٌ يرتفع بالظرف على كلا المذهبين، إذا جعل وصفا لشراب، كما ارتفع ألوانه بمختلف لأنه وصف للشراب. البلاغة: كُلِي مِنْ كُلِّ فيهما جناس ناقص. يَسْمَعُونَ يَعْقِلُونَ يَعْرِشُونَ يَتَفَكَّرُونَ فيها سجع. المفردات اللغوية: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ أي أحياها بإنبات الزرع والشجر وإخراج الثمر. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآيَةً دالة على البعث. يَسْمَعُونَ سماع تدبر وفهم. الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم. لَعِبْرَةً اعتبارا وعظة، وأصل العبرة: تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة والمشابهة. نُسْقِيكُمْ بيان للعبرة. مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي الأنعام. مِنْ بَيْنِ من للابتداء متعلقة ب نُسْقِيكُمْ. فَرْثٍ خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء. خالِصاً مصفى من الشوائب، لا يشوبه شيء من الفرث والدم من طعم أو ريح أو لون، وهو بينهما. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في الحلق، لا يغص به. تَتَّخِذُونَ أي ثمر تتخذون منه سَكَراً خمرا يسكر، سميت بالمصدر، وهذا قبل تحريمها وفي أول مراحل التحريم، لأنه وصف الرزق بالحسن، ولم يوصف السكر بذلك. وَرِزْقاً حَسَناً جميع ما يؤكل طازجا أو غير متخمر من هاتين الشجرتين كالعنب والزبيب والتمر والخل والدبس. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً دالة على قدرته تعالى. يَعْقِلُونَ يتدبرون. وَأَوْحى ألهم وعلم، كالطبيعة والغريزة في الحيوان. أَنِ اتَّخِذِي أن مفسرة أو مصدرية. بُيُوتاً تأوين إليها، أي أوكارا. وَمِنَ الشَّجَرِ بيوتا. وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي مما يبنيه الناس لك من الأماكن، أي يصنعونه من الخلايا من طين أو خشب أو غيرهما. فَاسْلُكِي ادخلي. سُبُلَ رَبِّكِ طرقه ومسالكه لامتصاص الأزهار والثمار وغيرها وتحويلها بقدرة الله عسلا طيبا. ذُلُلًا جمع ذلول أي مسخرة لك، منقادة طائعة لا تتوعر عليك ولا تلتبس، وهو حال من السبل، أي لا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضل عن العود منها وإن بعدت. شَرابٌ هو العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ من أبيض وأصفر وأحمر وأسود، بحسب نوع المرعى فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ من الأوجاع، إما بعضها بدليل تنكير كلمة شِفاءٌ كالأمراض البلغمية، وإما كلها مع ضميمة غيره إليه، كسائر الأمراض، إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه.

المناسبة:

وقيل: الضمير يعود للقرآن. يَتَفَكَّرُونَ يتأملون في صنعه تعالى، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر، علم قطعا أنه لا بد من وجود قادر حكيم يلهمها ذلك، ويحملها عليه. المناسبة: بعد بيان وعد المؤمنين بالجنان، والكافرين بالنيران، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما ناله من أذى قومه، ونسبة الشرك إلى الله، وحصر مهمته في بيان أحكام القرآن، عاد تعالى إلى إثبات قدرته ووجوده ووحدانيته بدلائل حسية مشاهدة لكل راء أمامه صباح مساء، من إنبات الزرع والشجر بالمطر، وإخراج اللبن من الأنعام، واتخاذ أصناف المآكل من الأعناب والنخيل، وإخراج العسل من بطون النحل، الذي فيه شفاء للناس. قال الإمام أبو عبد الله محمد فخر الدين بن عمر الرازي: إن المقصود الأعظم من القرآن العظيم تقرير أصول أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة: الإلهيات، فابتدأ تعالى في أول هذه السورة بذكر دلائل الإلهيات، وهي الأجرام الفلكية، ثم أردف ذلك بالإنسان، ثم الحيوان، ثم النبات، ثم أحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات، فبدأ بذكر الفلكيات، فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... «1» . التفسير والبيان: بعد أن جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك أخبر أنه يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء، فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 63

أي أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء، الذي يكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت الأرض ميتة لا حياة فيها ولا ثمر ولا نفع. إن في ذلك لآية واضحة ودليلا قاطعا على وحدانية الله تعالى وعلمه وقدرته لمن يفهمون الكلام ويدركون معناه، بسماع التدبر والإمعان، لا بمجرد سماع الآذان. فهذا دليل حسي على توحيد الإله، وتخصيصه بالعبادة، وإفراده بالألوهية. وهناك دليل آخر على قدرة الله الباهرة، وهو إخراج اللبن من الضرع، فقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ.. أي وإن لكم أيها الناس لعظة وعبرة دالة على قدرتنا ورحمتنا ولطفنا في الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، فإننا نسقيكم مما يخرج من بطونها من اللبن الخالص من الشوائب، السائغ شربه في الحلق، فلا يغص به أحد، اللذيذ طعمه، السهل هضمه، الذي يخلقه الله لبنا خالصا وسيطا بين الفرث (وهو الزبل الذي ينزل إلى الكرش) والدم المحيطين به، أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته في باطن الحيوان من بين خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء، والدم في العروق، فإذا هضم الغذاء في المعدة صرف من عصارته دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير أو يتأثر به. وذلك دليل القدرة الإلهية والحكمة البالغة. وذكّر ضمير بُطُونِهِ مراعاة للفظ الْأَنْعامِ فهو لفظ مفرد وضع لإفادة الجمع، كالرهط والقوم والبقر والغنم، فقد يراعى اللفظ فيكون ضميره التذكير، وقد يراعى المعنى فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث. وهناك دليل آخر وهو ما يتخذ من أشربة من ثمرات النخيل والأعناب وهي

بعض منافع النبات المذكورة عقب بيان بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة، فقال سبحانه: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ.. أي ولكم أيضا عبرة وعظة فيما تشربونه من أشربة متنوعة من ثمرات النخيل والأعناب كالخل والدبس والخمر أو النبيذ المسكر قبل تحريمه، وما تأكلونه من ثمار طازجة على طبيعتها. وهذا دليل على إباحة المسكر قبل تحريمه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.. أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات. وذكر العقل هنا أمر مناسب لأنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرمت المسكرات صيانة للعقول. والتفاوت في الوصف بين «السكر والرزق الحسن» بوصف الرزق بالحسن في حال أكل الثمرة غير متخمرة دون السكر يؤذن بالتفرقة بينهما وبتقبيح المسكر، ويمهد لتحريم المسكرات، وهي أول آية نزلت تعرّض بالخمر أو المسكر، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عند نزول هذه الآية: «إن ربكم ليقدم في تحريم الخمر» . وهو دليل للجمهور غير أبي حنيفة على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب، ومثله حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما أوضحت السنة. قال ابن عباس: السّكر: ما حرّم من ثمرتيهما (النخيل والعنب) والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرتيهما، كالخل والرّب (المربّة) والتمر والزبيب ونحو ذلك «1» . وفي رواية عن ابن عباس: السّكر: حرامه، والرزق الحسن: حلاله. وهذا دليل آخر على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا بعد بيان أدلة إخراج

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 575

الألبان من الأنعام، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، وهو إخراج العسل من النحل، فقال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ. أي وألهم «1» ربك النحل وجعل في غريزتها وطبعها، وقرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها عقلاء البشر، فهي تعيش جماعات في الخلية، ويرأس كل خلية أكبرها جثة وهي الملكة أو اليعسوب، ومعها جماعة الذكور، وجماعة الإناث وهي الشغّالات أو العاملات، وتعيش عيشة تعاونية في أدق نظام، وتقوم بامتصاص رحيق الأزهار، وإفرازه عسلا وشمعا. وتقوم بما يلي: 1- أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً.. أي ألهمها الله وأرشدها أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها، ومن الشجر، ومن عرائش الناس التي يصنعونها لها في البيوت والكروم، فتبني بيوتا محكمة الإتقان، سداسية الأشكال، من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض، ولا يوجد فيها خلل، تحزن في بعضها العسل، وفي بعضها الآخر الشمع لتربية صغار النحل. وجعلها سداسية لمنع الفرج الخالية الضائعة فيما بينها. وإذا نفرت نحلة من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها ردوها إلى وكرها على ألحان الموسيقى والطبول. وكل ذلك دليل على مزيد الذكاء والكياسة. 2- ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ثم امتصي من رحيق جميع الثمار

_ (1) الإلهام: ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، مثل كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.

ما تشاءين، حلوة كانت أو مرّة أو بين ذلك. وهذا إذن أمر قدري تسخيري أن تأكل من كلّ الثمرات. 3- فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا أي إذا أكلت من الثمار، فاسلكي الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها في عمل العسل، أو في طلب تلك الثمرات، والعودة بسلام إلى الخلايا. وهي في أثناء بحثها عن الغذاء تنقل على أجنحتها من حيث لا تشعر لقاحات الأزهار من الذكر إلى الأنثى. وتلك مهام أودعها الله في غرائز النحل، ليست مجرد مصادفة أو طبيعة أو غريزة، وإنما هي جزء من رسالة الكائنات الحية التي تؤدي أدوارا في الكون، يعود نفعها في النهاية على الإنسان، فسبحان الله الخالق المالك القادر القاهر الميسر لكل شيء سببا. 4- يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ.. أي يخرج من بطون النحل عسل مختلف الألوان، أبيض أو أصفر أو أحمر، فيه شفاء ونفع لكثير من أمراض الناس، ويدخل في تركيب العقاقير والأدوية. وقد وصفه الله بهذه الصفات الثلاث: الأولى- كونه شرابا، إما أن يشرب وحده، أو تتخذ منه الأشربة. الثانية- كونه مختلف الألوان من أحمر وأبيض وأصفر وغيرها. الثالثة- كونه سببا للشفاء في الجملة لكثير من الأمراض. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: «اسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا، فما زاده إلا استطلاقا، قال: «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا، ثم

جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق الله، وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا» فذهب، فسقاه عسلا، فبرئ. أوضح بعض الأطباء القدامى هذه الواقعة فقال: كان لدى هذا الرجل فضلات في المعدة، فلما سقاه عسلا، وهو حار، تحللت فأسرعت في الاندفاع والخروج، فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره، مع أنه كان مفيدا لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، ثم سقاه حتى ذهبت الفضلات الفاسدة كلها المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده وإشارته عليه الصلاة والسلام «1» . وروى البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وأنهى أمّتي عن الكيّ» . وروى ابن ماجه القزويني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن» . وذكر الأطباء المحدثون التركيب الكيماوي للعسل وهو 25- 40 غلوكوز، و30- 45 ليفيلوز، و15- 25 ماء. ويعطى مقويا ومغذيا، وضدّ التسمم من المواد السامة كالزرنيخ والزئبق والذهب والمورفين، وضدّ تسمم الأمراض كالتسمم البولي بسبب أمراض الكبد، والاضطرابات المعدية والمعوية، وتسمم الحميات كالتيفوئيد والتهاب الرئة والسحايا والحصبة، والذّبحة الصدرية، وحالات ضعف القلب واحتقان المخ والتهابات الكلى الحادة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ إن في كل ما ذكر عن النحل لدلالة

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 575

فقه الحياة أو الأحكام:

واضحة على وجود الله وقدرته لقوم يتفكرون في عجيب صنع الله وخلقه ورعايته الحكمة والمصلحة في ترتيب العالم. فالنحل يختص بتلك العلوم والمعارف الدقيقة كبناء البيوت المسدسة، ويهتدي إلى أجزاء العسل من الأزهار وأطراف الشجر والأوراق، كما أنه يهتدي إلى جمع الأجزاء النافعة في جوّ الهواء الملقاة على أطراف الأشجار والأوراق. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي من بيان كمال القدرة وتعداد النعم الإلهية: 1- أنزل الله من السحاب مطرا يكون سببا لإحياء الأرض بالنبات المختلف الأنواع بعد اليبس والجمود، وفي ذلك دلالة على البعث وعلى وحدانية الله تعالى لأن معبود المشركين كما علموا لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة مفيدة لقوم يسمعون عن الله تعالى سماع تدبر وإصغاء بالقلوب، لا بالآذان. 2- إن في الأنعام وهي أصناف أربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز لدلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته، فهو يسقي الناس من ألبانها، وحدوث اللبن يدل على أمرين: وجود الصانع المختار سبحانه، وإمكان الحشر والنشر، لمرور الطعام بعدة مراحل من التحول والقلب من نبات وعشب، إلى دم، إلى لبن، فدهن وجبن، وذلك يدل على أنه تعالى قادر على قلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك. ويخرج اللبن ويتولد مع ثلاثة أشياء في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسط، وهذا دليل القدرة العظيمة والصنع الإلهي الدقيق. واستنبط بعض العلماء من عود الضمير مذكّرا، في قوله: مِمَّا فِي بُطُونِهِ

إلى الأنعام أن لبن الفحل يفيد التحريم لأنه جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم، واللبن محسوب للذكر. 3- في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به لأنه مائع طاهر في وعاء نجس لأن ضرع الميتة نجس، واللبن طاهر، فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. وأما لبن المرأة الميتة فهو طاهر لأن الإنسان طاهر حيا وميتا، وقيل: إنه نجس لتنجسه بالموت. 4- وفي هذه الآية أيضا دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، ولكن إذا أخذ من غير سرف ولا إكثار. 5- اللبن غذاء كامل يغذي الطفل مدة من الزمن وينمي الجسد، روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقي لبنا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن» . 6- ومن منافع النبات ما يدل أيضا على القدرة الإلهية، فقد أخرج الله لنا من ثمرات النخيل والأعناب الرزق الحسن: وهو ما أحله من ثمرتيهما على الطبيعة، والسّكر هو النبيذ، وهذا قبل التحريم النهائي البات له، في رأي الجمهور، فالنبيذ (وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد) حرام عندهم، لإسكاره، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه العقيلي عن علي، والنسائي عن ابن عباس: «حرّم الله الخمر بعينها والسّكر من غيرها» والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يصل إلى حد السّكر، محتجا بهذه

بعض عجائب أحوال الناس الدالة على قدرة الله وتوحيده [سورة النحل (16) الآيات 70 إلى 74] :

الآية الدالة على أن السّكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة، ولأن الحديث السابق دلّ على أن الخمر حرام: «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السّكر شيئا غير الخمر، والمغايرة تقتضي أنه النبيذ المطبوخ. والحق أن الآية ليس فيها ما يدل على الحل إذ الكلام في الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الإنسان، ولم تنحصر المنافع في حل التناول. وختم الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دليل على قدرة الله تعالى لأن من كان عاقلا، علم بالضرورة أو البداهة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، مما يدل على وجود الإله القادر الحكيم. 7- كما أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاطعة على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا حكيما، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع على إثبات هذا المقصود. وفي النحل منافع كثيرة للأشجار والنباتات نفسها، وللإنسان أيضا، وكذلك في العسل والشمع منافع للإنسان، فالعسل شفاء من كثير من الأمراض، والشمع للإضاءة وصناعات أخرى. وذلك كله دليل على وجود الإله الصانع الملهم في اعتقاد كل من أعمل فكره، وتأمل ونظر في أعمال النحل وآثاره العجيبة. بعض عجائب أحوال الناس الدالة على قدرة الله وتوحيده [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 74] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)

الإعراب:

الإعراب: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً منصوب ب عِلْمٍ على مذهب البصريين على إعمال الثاني لأنه أقرب. وب يَعْلَمَ على مذهب الكوفيين، على إعمال الأول. فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ جملة اسمية، في موضع نصب لأنها وقعت جوابا للنفي، وقامت هذه الجملة الاسمية مقام جملة فعلية، وتقديره: فما الذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم، فيستووا. رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً شَيْئاً إما بدل منصوب من رِزْقاً كأنه قال: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئا، وإما منصوب برزق، أي أن يرزق شيئا، والوجه الأول أوجه لأن الرزق اسم، والاسم لا يعمل إلا شاذا، ولأن البدل أبلغ في المعنى. وَلا يَسْتَطِيعُونَ الواو عائد إلى ضمير «ما» حملا على المعنى. البلاغة: عَلِيمٌ قَدِيرٌ صيغة مبالغة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ولم تكونوا شيئا. ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم. أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردؤه وأخسه، بسبب الهرم والخرف، قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة. عَلِيمٌ بتدبير خلقه. قَدِيرٌ على ما يريده. وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي فاوت بين أرزاقكم، فمنكم غني وفقير ومالك ومملوك. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا الأغنياء والأسياد بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي بمعطي رزقهم من الأموال وغيرها لمماليكهم، وجاعليها شركة بينهم وبين مماليكهم. فَهُمْ أي المماليك والأسياد (الموالي) فِيهِ سَواءٌ شركاء. والمعنى: ليس لهم شركاء من مماليكهم في أموالهم، فكيف يجعلون بعض مماليك الله شركاء له. يَجْحَدُونَ يكفرون حيث يجعلون له شركاء. وقرئ تجحدون. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي جعلها لكم من جنسكم لتأنسوا بها، ولتكون أولادكم مثلكم. وَحَفَدَةً أي أولاد الأولاد جمع حفيد. مِنَ الطَّيِّباتِ من أنواع الثمار والحبوب والحيوان ونحوها من اللذائذ أو من الحلالات. ومن للتبعيض، فإن المرزوق في الدنيا أنموذج من الطيبات. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي بالأصنام. وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ حيث أضافوا نعمه إلى الأصنام، بإشراكهم، أو حرموا ما أحلّ الله لهم. وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام بها، أو للتخصيص مبالغة، أو للمحافظة على فواصل الآيات بالسجع. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ بالمطر. وَالْأَرْضِ بالنبات. وَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون على شيء، وهم الأصنام. فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تجعلوا لله أشباها أو أمثالا تشركونهم به، أو تقيسونهم عليه، فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ألا مثل له، وفساد القياس الذي تقيسونه. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، ولو علمتم لما جرأتم عليه. وهو تعليل للنهي. أو أنه يعلم كنه الأشياء، وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم دون نصه. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى عجائب أحوال الحيوانات، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس، فذكر مراتب عمر الإنسان وهي أربعة: سن النشوء والنماء (الطفولة) وسن الشباب، وسن الكهولة، وسن الشيخوخة، وذلك دليل على كمال قدرة الله ووحدانيته.

التفسير والبيان:

ثم ذكر تفاوت الناس في أرزاقهم، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف 43/ 32] وهي من قسمة الخلاق. ثم ذكر نعمة ثالثة ورابعة وهي جعل الأزواج من جنس الذكور، والرزق من الطيبات من نبات كالثمار والحبوب والأشربة، ومن حيوان مختلف الأنواع. التفسير والبيان: تستمر الآيات في تعداد مظاهر قدرة الله وعظمته وألوهيته ونعمه، وهي متعلقة هنا بالإنسان، فيذكر تعالى مراحل نشوء الإنسان، وأنه هو سبحانه الذي أنشأ الناس من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم، وهو الضعف في الخلقة، فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ... أي والله أوجدكم يا بني آدم، ولم تكونوا شيئا، ثم حدد لأعماركم آجالا معينة، فمنكم من يتوفاه عند انقضاء آجالكم، ومنكم من يهرم ويصير في أرذل العمر وأسوئه وهو حال ضعف القوى والحواس والخرف، أو فقدها، وقلة الحفظ والعلم، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم 30/ 54] وقال سبحانه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس 36/ 68] وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين 95/ 4- 5] . وروى البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات» وفي حديث سعد بن أبي وقاص: «وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر» . وروي عن علي رضي الله عنه: أرذل العمر: خمس وسبعون سنة. وهذا أمر غير مطرد، وربما كان هذا هو الغالب في الماضي.

لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً.. أي نرده إلى أرذل العمر، ليصبح غير عالم بشيء، وجاهلا كما كان وقت الطفولة، ونسّاء لضعف ذاكرته. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي إن الله عليم بكل شيء، فيجعل الإنسان في حال من القوة والضعف على وفق الحكمة، وقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء أبدا. هذا شأن تفاوت الناس في الأعمار، أردفه ببيان تفاوتهم في الأرزاق فقال: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ.. أي أن الله تعالى جعلكم متفاوتين في الأرزاق، فهناك الغني والفقير والمتوسط لحكمة اقتضتها ظروف المعيشة، والمصلحة للإنسان نفسه، وليتخذ بعضكم بعضا سخريا. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا.. أي فما الذين فضّلوا بالرزق وهم السادة الملاك أو الموالي بجاعلي أرزاقهم شركة على قدم المساواة بينهم وبين مماليكهم. وهذا مثل ضربه الله للعبرة، مفاده أنه إذا كنتم لم ترضوا بهذه المساواة بينكم وبين خدمكم، وهم أمثالكم في الإنسانية، فكيف تسوون بين الخالق والمخلوق، وبينه وبين هذه الأصنام، وتشركون به ما لا يليق به من عبيدي ومخلوقاتي؟ ويوضح المثل آية أخرى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ، تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الروم 30/ 28] . أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ؟ أي أتشركون بالله بعبادتكم الأصنام، فتجحدون بنعمة الله عليكم؟ لأن من أثبت شريكا لله، فقد نسب إليه بعض النعم والخيرات، فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى. أو أتجحدون بنعمة الله عليكم بعد تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه الدلالات على وحدانية الله، والتي يفهمها كل عاقل؟! فهذا إنكار على المشركين جحودهم نعم الله عليهم.

ومن جليل نعمه تعالى على عباده أمور أخرى منها: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي والله جعل لكم أيها العبيد المخلوقون لله أزواجا من جنسكم وشكلكم لتحقيق الأنس والانسجام والائتلاف وقضاء المصالح، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، فمن رحمته جعل الذكور والإناث من جنس واحد. ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة، أي أولاد البنين. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي ورزقكم من طيبات الرزق التي تستطيبونها في الدنيا، من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ؟ أي أيصدقون بالباطل وهو أن الأصنام شركاء لله في النفع والضرر، وأنها تشفع عنده، وأن الطيبات التي أحلها الله لهم كالبحيرة والسائبة والوصيلة هي حرام عليهم، وأن المحرمات التي حرمها الله عليهم كالميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النّصب هي حلال لهم؟ وهذا توبيخ وتأنيب لهم على تلك الأحكام الباطلة، وعلى إنعام الله في تحليل الطيبات، وتحريم الخبيثات. وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أي ويجحدون بهذه النعم الجليلة، فينسبونها إلى غير الخالق من صنم أو وثن؟! ويسترون نعم الله عليهم. جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟» . ثم أخبر الله تعالى عن المشركين الذين عبدوا معه غيره، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله ما لا يستطيع تقديم الأرزاق لهم من السماء والأرض، فلا يقدر على إنزال المطر، ولا إنبات الزرع والشجر، بل ولا يملكون ذلك لأنفسهم، فليس لهم الإمداد بالرزق لأنفسهم ولغيرهم، ولا يقدرون عليه، لو أرادوه. وفائدة قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ نفي الملك وتحصيل الملك، فمن لا يملك شيئا قد يكون مستطيعا أن يتملكه بطريق ما، فأبان تعالى أن هذه الأصنام لا تملك، وليس في استطاعتها أيضا تحصيل الملك «1» . وجمع يَسْتَطِيعُونَ بالواو والنون المختص بأولي العلم اعتبارا لما يعتقدون فيها أنها آلهة. ونتيجة ما ذكر: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا، ولا تشبهوه بخلقه، قال ابن عباس- فيما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم في هذه الآية-: أي لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره. وإن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب الشديد، بسبب عبادة هذه الأصنام، فاتركوا عبادتها، وأنتم لا تعلمون ذلك، ولو علمتموه لتركتم عبادتها. وهذا تهديد شديد على عظم جرمهم وكفرهم ومعاصيهم، وردّ على عبدة الأصنام. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- إن الله تعالى هو المتصرف في شؤون الإنسان من حياة أو موت، فهو

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 82

خلقه وهو يتوفاه في أجل معين، وهو الذي يحميه من الأمراض، أو يرده إلى أرذل العمر حال الكبر يعني أردأه وأوضعه، وهو الخرف ونقص القوة والعقل وسوء الحفظ وقلة العلم، فيصبح كالصبي الذي لا عقل له، ولا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. ودلت الآية أيضا على تفاوت الناس في الأعمار. وهذا دليل على وجود إله عالم فاعل مختار، وعلى صحة البعث والقيامة لأن الانتقال من العدم إلى الوجود كالعودة إلى الوجود مرة أخرى. 2- لله تعالى الحكمة البالغة في قسمة الأرزاق بين العباد، فجعل منهم الغني والفقير والمتوسط، ليتكامل الكون، ويتعايش الناس، ويخدم بعضهم بعضا، ويحجب عن الإنسان انزلاقه في المعاصي، كما قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] فالآية دليل على أن التفاوت في الأرزاق كالتفاوت في الأعمار. ورتّب الله على هذا التفاوت في الأرزاق نتيجة منطقية تمس الاعتقاد في مثل ضربه الله لعبدة الأصنام وهو: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ فلما لم يجيزوا لأنفسهم أن يشركهم عبيدهم في أموالهم، لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان وغيرها مما عبد، كالملائكة والأنبياء، وهم عبيده وخلقه. والتفاوت ليس مختصا بالمال، بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والقبيح. 3- من نعم الله على عباده جعل الزوجات من جنس الأزواج وشكلهم، وفي هذا ردّ على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوّج الجن وتباضعها. ومن نعمه سبحانه إنجاب الذرية من بنين وبنات وحفدة (أولاد البنين) . ومن نعمه رزق الطيبات من الثمار والحبوب والحيوان وغير ذلك.

مثلان للأصنام والأوثان [سورة النحل (16) الآيات 75 إلى 76] :

والآية تومئ إلى ضرورة التعاون بين الأزواج والبنين والحفدة لأنهم أسرة واحدة. ومن السنة النبوية أن الرجل يعين زوجته روت عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج. ومن أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان يخصف النعل، ويقمّ البيت، ويخيط الثوب. ومن قدر على نفقة خادمة واحدة أو أكثر فعل، على قدر الثروة والمنزلة. وهذا أمر متروك للعرف، فنساء الريف والأعراب والبادية يخدمن أزواجهن، ونساء المدن يعينهن الزوج، أو يستأجر لهن الخادمة إذا كان من أهل الثروة. 4- من حماقة المشركين وجهالتهم أنهم يعبدون أصناما لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، فلا تملك إمداد غيرها ولا أنفسها بالرزق من إنزال المطر وإنبات النبات، ولا يقدرون أي الأصنام على شيء، فلا تشبهوا بالله هذه الجمادات لأنه واحد قادر لا مثل له. مثلان للأصنام والأوثان [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 76] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) الإعراب: عَبْداً بدل من مَثَلًا. مَمْلُوكاً صفة قيد بها العبد للتمييز من الحر، فإنه أيضا عبد لله.

البلاغة:

وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً: رزق: فعل يتعدى إلى مفعولين، الأول منهما الهاء في رَزَقْناهُ والثاني: رِزْقاً وهذا ليس مصدرا لأنه قال: فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً والإنفاق إنما يكون من الأعيان لا الأحداث. هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير في الفعل ولم يقل: يستويان، لمكان مَنْ لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ولأنه للجنسين، فإن المعنى: هل يستوي الأحرار والعبيد؟ رَجُلَيْنِ بدل من مَثَلًا. البلاغة: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ.. فيها استعارة تمثيلية، مثّل فيها الوثن بالأبكم الذي لا ينتفع به بشيء، كما مثله في الآية المتقدمة بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا. سِرًّا وَجَهْراً بينهما طباق. المفردات اللغوية: مَمْلُوكاً صفة تميزه من الحر، فإنه أيضا عبد لله. لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرف مطلقا لعدم ملكه. وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ نكرة موصوفة أي حرا، لتطابق كلمة عَبْداً. فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً أي يتصرف به كيف يشاء، والاول: مثل الأصنام، والثاني: مثله تعالى، والمعنى: مثّل ما يشرك به: بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا، ومثّل نفسه: بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فالأول مقيد والثاني حر طليق. هَلْ يَسْتَوُونَ أي الجنسان وهما العبيد والأحرار، أي هل يستوي الأحرار والعبيد؟ لا الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له لا يستحقه غيره، فضلا عن العبادة لأنه مصدر النعم كلها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ أهل مكة. لا يَعْلَمُونَ ما يصيرون إليه من العذاب، فيشركون. أَبْكَمُ الأبكم: الذي ولد أخرس. لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع أو التدابير لأنه لا يفهم ولا يفهم. كَلٌّ ثقيل على وليه وقرابته. مَوْلاهُ ولي أمره. أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يصرفه. لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح وكفاية مهم، وهذا مثل الكافر أو الأصنام. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ الأبكم المذكور. وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي ومن هو ناطق نافع للناس حيث يأمر به ويحث عليه. صِراطٍ طريق، وهذا هو المؤمن، أو الله تعالى، أي أن هذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام، لإبطال المشاركة بينه وبينها، أو هو مثل للمؤمن والكافر.

سبب النزول:

سبب النزول: أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً قال: نزلت في رجل من قريش وعبده، وفي قوله: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قال: نزلت في عثمان ومولى له كان يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما. وفي عبارة أخرى: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد بن أبي العاص، كان يكره الإسلام، وكان عثمان ينفق عليه، ويكفله، ويكفيه المؤونة، وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف. المناسبة: بعد أن نهى الله تعالى عن ضرب الأمثال له لأن الله يعلم كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون، علّمهم كيف تضرب الأمثال، فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء. ومثلكم أيضا في الإشراك مثل من سوّى بين رجلين: أحدهما أبكم عاجز، لا يقدر على تحصيل خير، وهو عبء ثقيل على سيده، والآخر ذو فهم ومنطق وكفاية وقدرة ورشد ينفع الناس بالحث على العدل. هل من المعقول التسوية بين الاثنين؟! أي كيف يسوى الجماد بالله تعالى في الألوهية والعبادة؟! أو كيف يسوى الكافر المخذول والمؤمن الموفق؟! هذان مثلان موضحان بطلان عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تجيب.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: بعد أن نهى الله تعالى عن الإشراك، أبان بالأمثال الواقعية فساد عبادة الأصنام، فذكر مثلين: أولهما- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً.. هذا مثل ضربه الله لحالة الأصنام بالمقارنة مع ذاته تعالى، فما مثلكم أيها المشركون في إشراككم بالله الأوثان والأصنام المعبودة التي لا تنفع ولا تضر، إلا كمثل من سوّى بين عبد مملوك لمالكه، عاجز عن التصرف، لا يقدر على شيء، وبين مالك حر التصرف في ملكه، ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كيف يريد، سرا وجهرا، فالأول- مثل الصنم العاجز، والثاني- مثل الإله القادر. وبما أنه لا يعقل بداهة التسوية بين الشخصين: العبد والحر، ولا يجهل الفرق بينهما إلا كل غبي، فكيف يسوى بين الإله القادر على الرزق والإنفاق، وبين هذه الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟ وكيف يسوى بين الضار والنافع؟ لذا قال تعالى نتيجة لهذه المقارنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي الحمد التام الكامل لله، والثناء الشامل لله، والشكر الجزيل لله المنعم بمختلف النعم، فهو وحده المستحق للحمد، لا تلك الأوثان، بل أكثر أولئك الكفار التي يعبدونها لا يعلمون الحق فيتبعوه، ولا يعرفون المنعم الحقيقي بالنعم الجليلة فيخصوه بالتقديس والتنزيه، والعبادة، والحمد والشكر. وثانيهما- هو أيضا مثل الحق تعالى، ومثل الوثن. وهذا المثل يؤكد ما دل عليه المثل السابق على نحو أوضح، فقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ ... أي وضرب الله مثلا لنفسه وللوثن أو الآلهة المعبودة من دونه، مثل رجلين: أحدهما- أبكم لا ينطق ولا يتكلم بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء

فقه الحياة أو الأحكام:

يتعلق بنفسه أو بغيره، وهو مع هذا كلّ أي عيال وكلفة على مولاه الذي يعوله، حيثما أرسله أو بعثه، لا يحقق مطلبا، ولا ينجح في مسعاه، ولا يأتي بخير قط لأنه لا يفهم ما يقال له، ولا مقال لديه، فلا يفهم عنه. والثاني- رجل كامل المواهب والحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالعدل أي بالقسط، ويسير على منهج الحق والعدل، ويحكم بالعدل، فمقاله حق، وأفعاله وسيرته مستقيمة، وطريقه مستقيم ودينه قويم. هل يستوي هذان الرجلان؟ الأول عديم النفع، والثاني كامل النفع، والأول كالصنم لا يسمع ولا ينطق. والثاني وهو المتصف بصفات الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، ويأمرهم بالعدل، ويلتزم العدل في نفسه قضاء وحكما. وإذا كان هذان الرجلان لا يتساويان بداهة، فلا تساوي أصلا بين الحق تعالى، وبين ما يزعمون أنه شريك له. فقه الحياة أو الأحكام: دل هذان المثلان على ضلالة المشركين وبطلان عبادة الأصنام لأن شأن الإله المعبود أن يكون مالكا قادرا على التصرف في الأشياء، وعلى نفع غيره ممن يعبدونه، وعلى الأمر بالخير والعدل، والتزام منهج الاستقامة والقسط في سيرته وسلوكه. والأصنام في المثل الأول فاقدة الملك، عاجزة عن التصرف هي مثل العبيد المملوكين للسادة الموالي. أما الأحرار الملاك الأغنياء كثير والإنفاق سرا وجهرا، فهم القادرون على التصرف. وبما أن العقل لا يجوّز التسوية بين الحر والعبد في التعظيم والإجلال، مع تساويهما في الخلقة والصورة والبشرية، فكيف يجوز

للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟! وهناك قول آخر: وهو أن هذا مثل للمؤمن والكافر، فالمراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، فهو باعتبار حرمانه من عبودية الله وطاعته كالعبد الذليل الفقير العاجز. والمراد بقوله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً هو المؤمن، فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فأبان تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى. قال الرازي: والقول الأول أقرب لأن الآية في إثبات التوحيد، وفي الرد على المشركين. وهذا المثل منتظم مع ما ذكر قبله من بيان نعم الله على أولئك المشركين، وعدم توافر تلك النعم من آلهتهم. وقد احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا. والأصنام في المثل الثاني لا تقدر على شيء، وأما الله فهو القادر على كل شيء، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، وهل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل، وهو على الصراط المستقيم؟! والآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق، وإلا لم يكن آمرا. ويجب أن يكون قادرا لأن الأمر مشعر بعلو الرتبة، وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادرا. ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور، فدل وصفه بالعدل على وصفه بكونه قادرا عالما. أما الرجل الأول فوصفه بأربع صفات: الأبكم (الأخرس العيي) ، ولا يقدر على شيء، وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، وكلّ على مولاه (أي

علم الله الغيب وخلقه الإنسان والطير [سورة النحل (16) الآيات 77 إلى 79] :

غليظ وثقيل على سيده) ، وأينما يوجهه، أي يرسله، لا يأت بخير لأنه عاجز لا يحسن التعبير ولا يفهم الكلام، فهل الموصوف بهذه الصفات الأربع يتساوى مع الموصوف بأضدادها، وهو الآمر غير الأبكم، والقادر غير العاجز الذي لا يقدر على شيء وأنه كلّ على مولاه، والعالم غير الذي لا يأتي بخير. علم الله الغيب وخلقه الإنسان والطير [سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 79] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) لإعراب: مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرئ بضم الهمزة على الأصل، وبكسرها على الاتباع لكسرة نون بُطُونِ. لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً إما منصوب على المصدر، أي لا تعلمون علما، أو منصوب لأنه مفعول تَعْلَمُونَ الذي هو بمعنى (تعرفون) للاقتصار على مفعول واحد، والجملة حال. البلاغة: كَلَمْحِ الْبَصَرِ تشبيه مرسل مجمل.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم ما غاب فيهما، وهو يختص بعلم الغيب، لا يعلمه غيره، وهو ما غاب فيهما عن العباد، بأن لم يكن محسوسا ولم يدل عليه محسوس، وقيل: يوم القيامة، فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض. السَّاعَةِ وقت القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما، فيموت الخلق بصيحة واحدة. كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللمح: النظر بسرعة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أو أمرها أقرب منه لأنه بلفظ كُنْ فَيَكُونُ. والمعنى: ما أمر قيام القيامة في سرعته وسهولته إلا كلمح البصر السَّمْعَ أي الأسماع. وَالْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد وهي القلوب. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور، فتشكروا وتؤمنوا. مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران. فِي جَوِّ السَّماءِ الفضاء بين السماء والأرض. ما يُمْسِكُهُنَّ عند قبض أجنحتهن أو بسطها أن يقعن. إِلَّا اللَّهُ بقدرته. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي إن في تسخير الطير للطيران وتمكنها منه، وإمساكها في الهواء وخلق الجو لدلالات على الإله الواحد الخالق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بها. المناسبة: بعد أن مثّل تعالى الأصنام أو الكفار بالأبكم العاجز، ومثّل نفسه بالآمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة، أردف ذلك ببيان كمال علمه وقدرته. أما كمال العلم فهو قوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وأما كمال القدرة فهو قوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ. ومن مظاهر كمال قدرته وحكمته: خلق الإنسان في أطواره المختلفة، وتمكين الطير من الطيران في الجو، وهذا وما يأتي بعده من دلائل التوحيد. التفسير والبيان: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم الله وحده غيب السموات والأرض، والتعبير يفيد الحصر، معناه: أن العلم بالمغيبات ليس إلا لله، وهو

مختص بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك. إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء. وهذا إخبار عن كمال علم الله تعالى. ثم أخبر عن كمال قدرته وأنه إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، فقال: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي وما شأن الساعة (وهي الوقت الذي تقوم فيه القيامة) في سرعة المجيء إلا كطرف العين أو رجع البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع لأن أمره فوري الحدوث والتنفيذ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة 2/ 117 ومواضع أخرى] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] . فالله تعالى قادر على إقامة القيامة في أسرع لحظة، ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر، ذكره تقريبا للأذهان. ونظير الآية: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [54/ 50] أي فيكون ما يريد كطرف العين. وخص قيام الساعة من بين المغيبات، لكثرة الجدل حوله، وإنكاره من كثير من الناس، فهي محط الأنظار، ومحل البحث والجدل بين المنكرين والموحّدين. والمقصود من الآية: أن شرع التحليل والتحريم إنما يحسن بمن يحيط بالعواقب والمصالح، وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بذلك، فلم تتحكمون؟! ثم ذكر تعالى دليل ذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن الله قادر على كل شيء، ومن مشتملات قدرته: إقامة الساعة في أسرع من لمح البصر أو غمضة العين. ثم ذكر بعض مظاهر قدرته تعالى ومنته على عباده، فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.. أي والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، فالإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، ثم زوده الله

بالمعارف والعلوم، فرزقه عقلا يفهم به الأشياء، ويميز به بين الخير والشر، وبين النفع والضرر، وهيأ له مفاتيح المعرفة من السمع الذي يسمع به الأصوات ويدركها، والبصر الذي يبصر به الأشخاص والأشياء والفؤاد الذي يعي به الأمور، كقوله تعالى في آية أخرى: قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. قُلْ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك 67/ 23- 24] . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا نعم الله عليكم، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله، ولتتمكنوا من عبادة ربكم، وتطيعوه فيما أمركم. وذلك كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من عادى لي وليا، فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها «1» ، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن دعاني لأجيبنّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه» . أي إن العبد إذا أخلص الطاعة لله، صارت أفعاله كلها لله عز وجل، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله، أي لما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل، مستعينا بالله في ذلك كله «2» . ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته فقال: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ..

_ (1) هذا من قبيل المجاز عن عون الله وتوفيقه ورضاه. (2) تفسير ابن كثير: 2/ 579

فقه الحياة أو الأحكام:

أي ألم ينظروا إلى الطير المذلل المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحيه في جو السماء، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عز وجل، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة يمكنه معها الطيران، وخلق الهواء أو الجو خلقة يمكن معها الطيران فيه، لما أمكن ذلك، فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة، كما يفعل السباح في الماء، وأوجد له الذيل ليساعده في الهبوط، وخلق الهواء، وجعل ثقله حاملا الطير، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا. وقوله: ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ معناه أن جسم الطائر ثقيل، والجسم الثقيل لا يمكنه التحليق في الجو من غير دعامة تحته، فكان الممسك له في الجو هو الله تعالى، بواسطة الهواء. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي إن في خلق جناحي الطير، وتسخير الهواء لحملة، لدلالات على قدرة الله ووحدانيته، لا للأصنام والأوثان، لمن يؤمن بالله. وخص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بتلك الآيات، وإن كانت دلائل لكل العقلاء. ونظير الآية: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ، وَيَقْبِضْنَ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك 67/ 19] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن علم الغيب في السموات والأرض مختص بالله تعالى، لا يعلم به أحد، إلا من أطلعه الله عليه. وإذا كان الله هو المحيط بالغيب فهو الذي يشرع الحلال والحرام، لا المشركون الجاهلون، الذين لا يدركون عواقب الأمور، ولا يقدرون المصالح.

2- إن قيام الساعة (أي حدوث وقت القيامة) في أسرع من لمح البصر دليل واضح على قدرة الله التامة، فهو سبحانه القدير على كل شيء، وهو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ. قال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ. 3- إن من نعمه تعالى ومن مظاهر قدرته خلق الناس من بطون أمهاتهم، لا علم لهم بشيء، ثم تزويدهم بوسائل المعرفة والعلم، وهي السمع والأبصار والأفئدة، فبها يعلمون ويدركون. فالسمع لسماع الأوامر والنواهي، والأبصار لرؤية آثار صنع الله، والأفئدة للوصول بها إلى معرفة الله. وذلك كله لشكر نعم الله وإبصار آثار صنعته. والآية دليل على أن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، ثم تأتي المعارف والعلوم بالتعلم بواسطة الحواس التي هي السمع والبصر. 4- ومن مظاهر قدرة الله ووحدانيته جعل الطير قادرة على التحليق والطيران في الجو (وهو ما بين السماء والأرض) وهي مذللة لأمر الله تعالى، وما يمسكها في حال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله تعالى، وتلك علامات وعبر ودلالات على القدرة الإلهية، لقوم يؤمنون بالله وبما جاءت به رسله، فإنه لولا خلق الطير على وضع يمكنه الطيران، وخلق الجو على حالة يمكن الطيران فيه، لما أمكن ذلك.

بعض دلائل التوحيد وأنواع النعم والفضل الإلهي [سورة النحل (16) الآيات 80 إلى 83] :

بعض دلائل التوحيد وأنواع النعم والفضل الإلهي [سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) البلاغة: ظَعْنِكُمْ إِقامَتِكُمْ يَعْرِفُونَ يُنْكِرُونَها بين كل اثنين طباق. سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ فيه إيجاز بالحذف، أي والبرد، حذف الثاني استغناء بالأول. المفردات اللغوية: سَكَناً أي مسكنا تسكنون فيه. بُيُوتاً كالخيام. تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفيفة للحمل والنقل. ظَعْنِكُمْ سفركم، والظعن بسكون العين أو فتحها: سير أهل البادية لطلب الماء والمرعى. وَمِنْ أَصْوافِها الغنم. وَأَوْبارِها الإبل. وَأَشْعارِها المعز. أَثاثاً متاع البيوت، كالفرش والثياب وغيرها. وليس للأثاث واحد من لفظه وَمَتاعاً ما يتمتع وينتفع به، وهو ما يتّجر به. إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من البيوت والشجر والغمام. ظِلالًا جمع ظل: وهو ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها، للوقاية من حر الشمس. أَكْناناً جمع كنّ: وهو ما يستكن فيه وهو الغار في الجبل والسرب أو النفق. سَرابِيلَ جمع سربال: وهو القميص

سبب النزول نزول الآية (83) :

من القطن والكتّان والصوف وغيرها، وسرابيل الحرب: الدروع، والسربال يعم كل ما يلبس تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي والبرد. بَأْسَكُمْ المراد هنا حربكم، أي تقيكم الطعن والضرب وهي الدروع. والبأس في الأصل: الشدة. كَذلِكَ كإتمام هذه النعم التي تقدمت. يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدنيا، بخلق ما تحتاجون إليه. لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم. تُسْلِمُونَ توحدون الله، أي لعلكم تنظرون في نعم الله، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه. سبب النزول: نزول الآية (83) : يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقرأ عليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ قال: نعم: ثم قرأ عليه كل ذلك، وهو يقول: نعم، حتى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي، فأنزل الله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ. المناسبة: هذه باقة أخرى من فضائل الله ونعمه على بني آدم، ومن دلائل التوحيد، فبعد أن ذكر الله تعالى ما منّ به على الناس من خلقهم وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم، من أمور أخرى غير دوابهم، من بيوت السكن المبنية من الحجارة وغيرها، والخيام أو بيوت الشعر المصنوعة من جلود الأنعام، والأصواف والأوبار والأشعار التي تصنع منها الملابس والأثاث (المفروشات) والأمتعة التي يتجر بها ويعاش من أرباحها، والحصون والقلاع والمعاقل في الجبال، والثياب الواقية من الحر والبرد، والدروع والجواشن «1» الحامية من السلاح في الحرب.

_ (1) الجواشن: جمع جوشن وهو الدرع. [.....]

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا امتنان آخر بما أنعم الله على عبيده بالإيواء في المساكن فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ.. أي والله جعل لكم بيوتا هي سكن لكم، تأوون إليها، وتسترون بها، وتنتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ.. أي وجعل لكم أيضا من جلود الأنعام المعروفة بيوتا أي من الأدم، في السفر والحضر، تستخفون حملها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم، وهي الخيام والقباب، يخف حملها عليكم في الأسفار. وجعل من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز ما تتخذونه أثاثا لبيوتكم، تكتسون به، وتنتفعون به في الغطاء والفراش، وجعل لكم منها متاعا تتمتعون به من جملة الأموال والتجارات، إلى أجل مسمى وزمن معين في علم الله، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتّخذ مالا وتجارة، وهذا كله بحسب عرف العرب في الماضي، وإن تغير الحال اليوم. فالأثاث: متاع البيت من الفرش والأكسية. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي ومن نعمه تعالى أن جعل لكم من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس، وشدة عصف الرياح. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها، تأمنون فيها من العدو أو حر الشمس أو البرد. وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ.. أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتّان والصوف ونحوها، تقيكم شدة الحر، أي والبرد، لكن ذكر الحر لحاجة العرب في بلادهم الحارة إلى اتقاء الحر، وما يقي الحر يقي البرد.

وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي وجعل لكم دروعا من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك، تقيكم البأس والشدة في الحرب والطعن والضرب ورمي النبال، واليوم تقي شظايا القنابل. كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.. أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وحوائجكم، ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته، أو مثل ذلك الإتمام بهذه النعم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ونعمة الدنيا والآخرة. لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يا أهل مكة، أي لتدخلوا في حظيرة الإسلام، وتؤمنوا بالله وحده، وتتركوا الشرك وعبادة الأوثان، فتدخلوا جنة ربكم، وتأمنوا عذابه وعقابه. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما.. أي فإن أعرضوا بعد هذا البيان، وتعداد النعم، فليس عليك شيء، إنما عليك فقط البلاغ لرسالتك، الموضح لمهمتك، المفسر لأصول الاعتقاد ومقاصد الدين، وأسرار التشريع، وقد أديت ذلك، أي إن أعرضوا فلست بقادر على إيجاد الإيمان في نفوسهم، إن عليك إلا البلاغ فحسب. وسبب هذا الإعراض هو ما قاله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ.. أي يعرفون أن الله تعالى هو المنعم عليهم بهذه النعم، المتفضل بها عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم، ويعبدون معه غيره، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره، إذ يقولون: إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام، فلم يخصوه تعالى بالشكر والعبادة، بل شكروا غير الله تعالى. وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي وأكثرهم الجاحدون المعاندون، وأقلهم المؤمنون الصادقون. وإنما قال أَكْثَرُهُمُ لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا، بل جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على طائفة من النعم التي أنعم الله بها على الناس وهي ما يأتي: 1- الآية الأولى فيها تعداد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر بيوت المدن أولا، وهي للإقامة الطويلة، ثم ذكر بيوت البدو والأعراب والرعاة، وهي بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف. 2- وفي الآية الأولى أيضا أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، وفي آية أخرى أذن في الأعظم من ذلك وهو ذبحها وأكل لحومها. ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدّد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا بما عرفوا وألفوا. والآية بعمومها دلت على جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، حتى إن المالكية والحنفية قالوا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ. ويؤيدهم حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ، وصوفها وشعرها إذا غسل» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» . وزاد أبو حنيفة فقال: القرن والسّن والعظم مثل الشعر لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها، فلا تنجس بموت الحيوان. وقال باقي الأئمة: إن ذلك نجس كاللحم. وأجاز الزهري والليث بن سعد الانتفاع بجلود ميتة الأنعام، وإن لم تدبغ لأن قوله تعالى: مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ عام في جلد الحي والميت. وخالفهما جمهور العلماء في ذلك.

والظاهر من مذهب مالك: أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلّى عليه، ولا يؤكل فيه. وأكثر المدنيين وأكثر أهل الحجاز والعراق على إباحة ذلك وإجازته، للحديث المتقدم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» . وذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء، وإن دبغت لأنها كلحم الميتة، واحتج بحديث عبد الله بن عكيم عند أبي داود: «ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . وخالفه بقية الأئمة لحديث شاة ميمونة: الذي رواه عنها أبو داود والنسائي «لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ» . والمشهور عند المالكية أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث، ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي والأوزاعي وأبي ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. أما جلد الكلب وما لا يؤكل لحمه فغير معهود الانتفاع به، فلا يطهر. 3- دلت الآية الثانية على نعمة الظل والظلال: وهو كل ما يستظل به من البيوت والشجر، وعلى نعمة الأكنان جمع كنّ: وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهي المغاور والكهوف في الجبال، يأوي إليها الناس في البراري، ويتحصنون بها من الأمطار والسيول والأعاصير وغير ذلك. ودلت أيضا على نعمة السرابيل أي القمص، والدروع التي تقي الناس في الحرب. وفي قوله تعالى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ دليل على اتخاذ العباد عدّة الجهاد، ليستعينوا بها على قتال الأعداء. ودل آخر الآية: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ على إكمال نعم الله وأفضاله بإتمام نعمة الدين والدنيا والآخرة.

وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة بعث الشاهد عليهم وعلى المؤمنين وعدم تخفيف العذاب ومضاعفته عليهم وتكذيب المعبودات لهم [سورة النحل (16) الآيات 84 إلى 89] :

وكل هاتيك النعم لتكون سببا للانقياد والطاعة لله عزّ وجلّ، شكرا على نعمه. 4- تشير الآية الثالثة إلى أن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي التبليغ، وأما الهداية فإلى الله، فإن أعرض الناس عن النظر والاستدلال والإيمان، فعليهم تبعة إعراضهم. 5- الآية الرابعة صريحة في أن الكفار يعرفون أن النعم من عند الله، ولكنهم ينكرونها بقولهم: إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، أو بواسطة شفاعة الأصنام. ويعرفون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم يكذبونه، ويعرفون نعم الله بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم، ولا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى. وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة بعث الشاهد عليهم وعلى المؤمنين وعدم تخفيف العذاب ومضاعفته عليهم وتكذيب المعبودات لهم [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَيَوْمَ نَبْعَثُ واذكر مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جيل من الناس شَهِيداً عَلَيْهِمْ هو نبيهم يشهد لها وعليها بالإيمان والكفر يوم القيامة ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار إذ لا عذر لهم، أي إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا الْعَذابَ النار فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون ويؤخرون إذا رأوه. شُرَكاءَهُمْ من الشياطين وغيرها الذين شاركوهم في الكفر بالحث عليه، أو أوثانهم التي دعوها نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ نعبدهم أو نطيعهم، وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك، أو التماس بأن يشطر عذابهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي قالوا لهم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي أجابوهم بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم، كقوله تعالى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم 19/ 82] ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام به. وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلموا لحكمه، بعد الاستكبار في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب وضاع عنهم وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم ينصرونهم ويشفعون لهم، حين كذبوهم وتبرؤوا منهم. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ومنعوا الناس عن دين الله وهو الإسلام، والحمل على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً لصدهم فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم يُفْسِدُونَ بصدهم الناس عن الإيمان. وَيَوْمَ نَبْعَثُ واذكر شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ هو نبيهم، فإن نبي كل أمة بعث منهم وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ قومك أو أمتك الْكِتابَ القرآن تِبْياناً بيانا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الناس من أمر الشريعة وَهُدىً من الضلالة وَبُشْرى بالجنة لِلْمُسْلِمِينَ خاصة، وهم الموحدون الخاضعون لله.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى حال المشركين الذين عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأبان أن أكثرهم الكافرون، أتبعه بالوعيد، فذكر حالهم يوم القيامة وبعض مشاهدهم من شهادة نبيهم لهم أو عليهم، وعدم تخفيف العذاب عنهم ومضاعفته عليهم، وتكذيب المعبودات لهم أنهم شركاء لله، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم. ثم ذكر تعالى نوعا آخر من التهديدات المانعة من المعاصي: وهو إحضار شاهد على كل أمة، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شاهد على أمته، وأن من مزاياه بيان أحكام القرآن الذي هو هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين بالجنان. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن شأن المشركين وأحوالهم يوم القيامة، فيقول: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً. أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليهم، وهو نبيهم يشهد عليهم بما أجابوه عما بلّغهم عن الله تعالى، إما بالإيمان وإما بالكفر والعصيان، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] . ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثم لا يسمح للكفار بالاعتذار والدفاع عن أنفسهم، إذ لا حجة لهم، ولأنهم يعلمون كذبهم في الاعتذار، كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات 77/ 35] . وإيراد ثُمَّ يدل على أن منعهم من الكلام والاعتذار أشد عليهم من شهادة نبيهم عليهم.

وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم العتاب إذ لا فائدة في العتاب مع سخط الله وغضبه، فإن الرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان جازما أنه إذا عاتبه، رجع إلى صالح العمل، والآخرة دار جزاء لا دار تكليف وعمل، ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا. وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.. أي وإذا عاين الذين أشركوا وجحدوا نبوة الأنبياء العذاب، فلا ينجو منهم أحد، ولا يخفف عنهم من شدته ساعة واحدة، ولا يمهل عقابهم ولا يؤخر عنهم، بل يؤخذون بسرعة من الموقف بلا حساب لأنه فات وقت التوبة والإنابة، وحان وقت الجزاء على الأعمال. ونظير الآية قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «1» ، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان 25/ 12- 14] وقوله سبحانه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 53] . ثم أخبر تعالى عن تبري آلهة المشركين منهم في وقت أحوج ما يكونون إليها، وهذا من بقية وعيد المشركين، فقال: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ ... أي إذا شاهد المشركون بالله يوم القيامة شركاءهم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله في الدنيا، ألقوا تبعة شركهم عليها، وقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنا نعبدهم وندعوهم من دونك، قاصدين بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء، وهو شأن المتخبط في عمله، كالغريق الذي يتمسك بما تقع يده عليه. فرد الشركاء قائلين: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ.. أي قالت لهم الآلهة:

_ (1) الثبور: الهلاك.

كذبتم، ما نحن أمرناكم بعبادتنا، كقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقوله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] . وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلم العابد والمعبود، وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد، وذلوا واستسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة 32/ 12] . وقال: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم 19/ 38] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ. وقال: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه 20/ 111] أي خضعت وذلت واستسلمت. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وذهب عنهم افتراؤهم بنسبة الشركاء لله، وأنها نصراء وشفعاء لهم، كما حكى تعالى عنهم: وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] وذلك حين كذبوهم وتبرؤوا منهم. وبعد ذكر وعيد الذين كفروا الضالين، أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد غيره عن سبيل الله، من الضالين المضلين، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا.. أي الذين جحدوا النبوة وأشركوا بالله وكفروا بأنفسهم وحملوا غيرهم على الكفر، وصدوا عن سبيل الله، وهو الإيمان بالله ورسوله، يضاعف الله عقابهم، كما ضاعفوا كفرهم، فهم في الحقيقة ازدادوا كفرا على كفر، فاستحقوا عذابين: عذاب الكفر، وعذاب الإضلال والإفساد، والصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق والإسلام، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام 6/ 26] أي ينهون الناس عن اتباع محمد، ويبتعدون هم منه أيضا.

بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي هذه الزيادة من العذاب بسبب الإفساد والصد. وهذا دليل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال، فقد عظم عذابه، فكذلك إذا دعا إلى الدين الحق واليقين، فقد عظم قدره عند الله تعالى. والآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى: قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] . ثم خصص الله تعالى بالذكر شهادة محمد صلّى الله عليه وسلّم على أمته، وهو نوع آخر من التهديد المانع من المعاصي، فقال مخاطبا رسوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ.. أي واذكر أيها الرسول يوم نبعث في كل أمة (أي قرن وجماعة) نبيها يشهد عليها، قطعا للحجة والمعذرة، وجئنا بك شاهدا على هؤلاء أي أمتك، بما أجابوك به عن رسالتك، فيظهر لك الشرف الرفيع والمقام العظيم. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك» فقال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفتّ، فإذا عيناه تذرفان. ثم أبان الله تعالى بمناسبة بيان شهادة النبي على أمته أنه أزاح علتهم فيما كلفوا، فلم يبق لهم حجة ولا معذرة، فقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً.. أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانا لكل شيء من العلوم والمعارف الدينية، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم، وهدى للضالين، ورحمة لمن صدّق به، وبشرى لمن أسلم لله وجهه، فأطاعه وأناب إليه، بجنان الخلد والثواب العظيم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وبيان القرآن لأحكام التشريع حلاله وحرامه إما بالوحي نصا ومعنى مباشرة، وإما بالوحي معنى وهو السنة التي فيها بيان آخر لمجمل القرآن، كما قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 15/ 44] وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معديكرب: «إني أوتيت القرآن ومثله معه» ثم يأتي دور الاجتهاد في نطاق النصوص الشرعية، وفي ضوء مبادئ التشريع، وروح الشريعة العامة، وضمن مقاصدها وأهدافها العامة. والاجتهاد يشمل كل مصادر التشريع الأخرى غير النصية من إجماع وقياس واستصلاح واستحسان وعرف وسد ذريعة واستصحاب وغير ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- كل نبي شاهد على أمته بما أجابوه عن دعوته، وليس في الآخرة مجال للاعتذار عن التقصير والدفاع عن النفس، ولا يكلف الكفار أن يرضوا ربهم يوم القيامة لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون فيرجعوا إلى الدنيا فيتوبوا. 2- لا تخفيف لعذاب جهنم عن المشركين الظالمين، فيدخلون فيها، ولا يؤخرون ولا يمهلون، وإنما يؤخذون بسرعة من الموقف بلا نقاش في الحساب، إذ لا توبة لهم حينئذ. 3- تتبرأ الآلهة المزعومة من عبادة عابديها، وتكذبهم بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فينطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. ويستسلم العابد والمعبود لحكم الله فيهم، ويبعث الله المعبودين من أصنام وأوثان وغيرها، فيتّبعهم العابدون حتى يوردوهم النار. ورد في صحيح مسلم من حديث أنس: «من كان يعبد شيئا فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس

الشمس، ويتّبع من كان يعبد القمر القمر، ويتّبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت» ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه: «فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتّبعون ما كانوا يعبدون» . 4- للكفار الذين يصدون عن سبيل الله وهو سبيل الحق والإسلام عذاب مضاعف بسبب إفسادهم في الدنيا بالكفر والمعصية. ونوع زيادة العذاب موضح في الحديث التالي، روى الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل النار إذا جزعوا من حرّها، استغاثوا بضحضاح في النار، فإذا أتوه، تلقّاهم عقارب كأنهم البغال الدّهم، وأفاع كأنهن البخاتيّ «1» تضربهم، فذلك الزيادة» . 5- الأنبياء- كما ذكرنا- شهود على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوهم الرسالة، ودعوهم إلى الإيمان، وفي كل زمان شهيد، وإن لم يكن نبيا، وهم أئمة الهدى خلفاء الأنبياء والعلماء حفظة شرائع الأنبياء. والنبي صلّى الله عليه وسلّم شاهد على أمته والأمم الأخرى، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] وقال: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج 22/ 78] . قال القرطبي: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحّد الله، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يبعث أمة وحده» وسطيح «2» ، وورقة بن نوفل الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأيته ينغمس

_ (1) البخاتي: جمال ضخام طوال الأعناق. (2) سطيح: هو كاهن بني ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه ربيع بن ربيعة.

أجمع آية في القرآن للخير والشر والوفاء بالعهد والهداية والإضلال [سورة النحل (16) الآيات 90 إلى 96] :

في أنهار الجنة» . فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم، وشهيد عليهم «1» . 6- القرآن الكريم تبيان لكل شيء من أصول التشريع والحلال والحرام، والشرائع والأحكام، ومبادئ الحياة الإنسانية، قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] . وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن، أي إما جملة وتفصيلا، وإما جملة فقط. أما الأدلة الأخرى كالإجماع وخبر الواحد والقياس، فقد دل القرآن الكريم ذاته على حجيتها، كما هو معروف في علم أصول الفقه. وكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء، كما قال الزمخشري. أجمع آية في القرآن للخير والشر والوفاء بالعهد والهداية والإضلال [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 96] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 164

الإعراب:

الإعراب: تَوْكِيدِها مضاف إليه، وهو مصدر وكّد، ويقال: أكّد في وكّد، والواو هي الأصل، والهمزة بدل منها كما كانت في «أحد» وأصلها «وحد» . أَنْكاثاً منصوب على المصدر، وعامله نَقَضَتْ لأنه بمعنى: نكثت نكثا، أو حال. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ حال من ضمير تَكُونُوا. أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ في موضع نصب على تقدير: كراهة أن تكون أمة، أو لئلا تكون أمة. وتَكُونَ تامة، وأُمَّةٌ فاعلها. وهِيَ أَرْبى.. مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع، صفة أُمَّةٌ. وهاء بِهِ تعود على العهد، وقيل: التكاثر. البلاغة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. مقابلة حيث جمع بين الأمر بثلاثة، ونهى عن ثلاثة. وإيتاء ذي القربى خاص بعد عام للاهتمام به. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها تشبيه تمثيلي، شبّه تعالى من يعاهد ثم ينقض عهده بالمرأة التي تغزل غزلا ثم تنقضه.

المفردات اللغوية:

فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فيه استعارة القدم للرسوخ في الدين والتمكن فيه، لكون الثبات يكون عادة بالقدم، ثم شبه الانحراف عن الحق بزلل القدم، وهو تشبيه المعنوي بالانزلاق الحسي بطريق الاستعارة. يُضِلُّ وَيَهْدِي بينهما طباق، وكذا بين يَنْفَدُ وباقٍ. المفردات اللغوية: بِالْعَدْلِ قال ابن عطية: العدل: فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق. والإحسان: فعل كل مندوب إليه «1» . وذكر البيضاوي أن العدل: التوسط في الأمور اعتقادا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملا كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب، وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير. والإحسان: إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن عمر: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» . والخلاصة: إن العدل: الإنصاف، والإحسان: إتقان الأعمال والتطوع بالزائد عن الفرائض، ومقابلة الخير بأفضل منه، والشر بأقل منه. وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إعطاء القرابة حقهم من الصلة والبر، وخص ذلك بالذكر اهتماما به والْفَحْشاءِ كل قبيح قولا أو فعلا، ويشمل الزنى والسرقة وشرب المسكرات والطمع ونحو ذلك من المذموم وَالْمُنْكَرِ ما أنكره الشرع واستقبحه العقل السليم، كالكفر والمعاصي من الضرب الشديد والقتل وغمط حقوق الناس، ونحو ذلك وَالْبَغْيِ ظلم الناس، والاستعلاء عليهم وتجاوز الحد، وخصه بالذكر اهتماما، كما بدأ بالفحشاء اهتماما بها لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون. جاء في المستدرك عن ابن مسعود: وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر. وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين. بِعَهْدِ اللَّهِ العهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد والبيع والأيمان وغيرها وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ نقض اليمين: الحنث فيها، والأيمان هنا: مطلق الأيمان أو أيمان

_ (1) البحر المحيط: 5/ 529

العهد تَوْكِيدِها توثيقها كَفِيلًا شاهدا ورقيبا بالوفاء، حيث حلفتم به، والجملة حال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ في نقض الأيمان أو العهود، وهو تهديد لهم. نَقَضَتْ أفسدت أو فكت غزلها من بعد إبرام وإحكام غَزْلَها ما غزلته من صوف ونحوه، وهو مصدر بمعنى المفعول مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت، أي من بعد إحكام له وإبرام أَنْكاثاً جمع نكث: وهو ما ينكث بمعنى منكوث وهو المنقوص، أي يحل فتله وينقض بعد غزله. وهي امرأة حمقاء من مكة، كانت تغزل طول يومها، ثم تنقضه. تَتَّخِذُونَ أي لا تكونوا مثلها في اتخاذكم أيمانكم مكرا وخديعة دَخَلًا أي فسادا ومكرا وخديعة، وأصل الدّخل: ما يدخل في الشيء، وليس منه، والمراد أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض. أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أي لأن تكون جماعة هِيَ أَرْبى أكثر وأوفر عددا. والمناسبة: أنهم كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز، نقضوا حلف أولئك، وحالفوهم. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يختبركم الله بما أمر به من الوفاء بالعهد، لينظر المطيع منكم والعاصي، أو يختبركم بكون أمة أربى، لينظر: أتفون بالعهود أم لا؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا من أمر العهد وغيره، بأن يعذب الناكث ويثيب الوافي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة أُمَّةً واحِدَةً أهل دين واحد، متفقين على الإسلام وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي أنه تعالى جعل ناسا للشقاوة أو الضلال وهم من لم يأخذوا بأسباب الهدى، وكان في سابق علم الله أنهم لو تركوا وأنفسهم لما فعلوا إلا الضلال والفساد والبهتان، وجعل ناسا آخرين للسعادة وهم من اهتدوا بآيات الله، وعلى هذا النحو خلق الضلال والهدى، أما الإضلال فبالخذلان لمن اختار الكفر، عدلا، وأما الهداية فبالتوفيق لاختيار الإيمان والدوام عليه، فضلا. وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا سؤال توبيخ وتبكيت يوم القيامة، لا سؤال تفهم، فهذا منفي في آيات أخرى، مثل: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] . وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ كرره تأكيدا، وهو تصريح بالنهي عنه بعد التضمين، تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ أي أقدامكم عن محجة الإسلام، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟! بَعْدَ ثُبُوتِها استقامتها عليه السُّوءَ العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بصدودكم عن الوفاء بالعهد، أو بصدكم غيركم عنه لأنه يستن بكم وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة. وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا يسيرا من الدنيا، بأن تنقضوه لأجله. والمناسبة: أن قريشا كانوا يعدون بوسائل الإغراء ضعاف المسلمين

سبب النزول:

ويشترطون لهم على الارتداد أن يكافئوهم إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي إن ما عند الله من النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب في الآخرة هو خير لكم مما يعدونكم من عطاء في الدنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم والتمييز، وتعلمون ذلك، فلا تنقضوا. والخلاصة: إن هذه الآية تحذير من نقض أيمان مخصوصة، وهي نقض عهد رسول الله على الإيمان به، واتباع شرائعه، طمعا في خيرات الدنيا ومغرياتها. ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا وأمتعتها يَنْفَدُ يفنى أو ينقضي وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ دائم لا ينفد وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهود وأذى الكفار ومشاق التكاليف أَجْرَهُمْ ثوابهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بجزاء أحسن من أعمالهم، وقال السيوطي: أحسن بمعنى حسن هنا. سبب النزول: نزول الآية (91) : وَأَوْفُوا: أخرج ابن جرير عن بريدة قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر أن الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. الآية، فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة. نزول الآية (92) : وَلا تَكُونُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص: كانت سعيدة الأسدية حمقاء، تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها. المناسبة: بعد أن أفاض الله تعالى في وعد المتقين ووعيد الكافرين، وأكد الترغيب والترهيب، أتبعه بأوامر جامعة لأمهات الفضائل، وأصول الأخلاق الاجتماعية،

وأنواع التكاليف المفروضة والنوافل، وهي العدل والإحسان والوفاء بالعهود. أما آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فهي- كما قال ابن مسعود- أجمع آية في القرآن للخير والشر، وسأذكر الحديث كله. وقال عنها قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به، ويستحسنوه، إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. ولهذا جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وأبو نعيم والحاكم والبيهقي عن سهل بن سعد: «إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» . وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه، قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه، وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخفّ إليه، قال: فليأته من يبلّغه عني ويبلّغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالا له: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت، وما أنت؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله. قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية. قالوا: ردّد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم، فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر- أي شريفا- وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها- مساوئها-، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذنابا «1» . وقد ورد في نزولها حديث حسن طويل رواه الإمام أحمد، مفاده أنها كانت سببا في إسلام عثمان بن مظعون، وموجزه: أن عثمان بن مظعون كان جليس

_ (1) تفسير ابن كثير: 2/ 582 وما بعدها.

النبي صلّى الله عليه وسلّم وقتا، فقال له عثمان: ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة، قال: وما رأيتني فعلت؟ قال: شخص بصرك إلى السماء، ثم وضعته على يمينك، فتحرفت عني إليه، وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك، قال: أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفا، وأنت جالس، قال: فماذا قال لك؟ قال لي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. الآية قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدا صلّى الله عليه وسلّم. ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. وأكثر آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] . وأشد آية في كتاب الله رجاء: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر 39/ 53] . وعن عكرمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية، فقال له: يا ابن أخي، أعد عليّ، فأعادها عليه، فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن رضي الله عنه: أنه قرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية، ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله، والشر كله في آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله تعالى إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآيات دعائم الحياة الإسلامية وركائز المجتمع الإسلامي، فالآية الأولى يأمر الله فيها عباده بالعدل والإنصاف بصفة مطلقة في كلّ شيء، في التّعامل، والقضاء والحكم، وشؤون الدّين والدّنيا، وسلوك الإنسان مع نفسه ومع غيره، بل وفي الاعتقاد، فلا يعبد بحقّ وعدل غير الله الخالق الرّازق النافع، والآلهة المزعومة من أصنام وأوثان وكواكب وملائكة وأنبياء وأولياء وزعماء لا تستحق شيئا من العبادة والتقديس، قال ابن عباس في آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: شهادة أن لا إله إلا الله. روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل، فقلت: بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير النّاس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا، فتكون من العادين. ويندب الله تعالى إلى الإحسان، والإحسان في العبادة: هو كما في حديث عمر في الصحيحين: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والإحسان في الجزاء العقاب بالمثل واستيفاء الحق في القتل والجرح عن طريق القصاص (المعاملة بالمثل) . والإحسان في وفاء الحقّ أو الدين: أداؤه من غير مماطلة، أو مع الزيادة غير المشروطة المتبرع بها. وأفضل الإحسان وأعلاه الإحسان إلى المسيء، فقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم به: «وأحسن إلى من أساء إليك تكن مسلما» . وقال عيسى بن مريم عليه السّلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وروى البخاري في تاريخه أن علي بن أبي طالب مرّ بقوم يتحدّثون،

فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك في كتابه إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التّفضل، فما بقي بعد هذا؟ وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته. ويأمر الله في هذه الآية بإيتاء ذي القربى أي بصلة الأرحام والأقارب، بالزيارة والمودة والعطاء والتّصدق عليهم، كما قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء 17/ 26] ، وقد خصّه بالذّكر مع أنه داخل في الإحسان للاهتمام به والعناية بشأنه. وبعد أن أمر تعالى بثلاثة نهى عن ثلاثة فقال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، والفحشاء: الشيء المحرم كالزّنى والسّرقة وشرب المسكر وأخذ أموال النّاس بالباطل. والمنكر: ما قبّحه الشّرع والعقل، وظهر من الفواحش من فاعلها، كالقتل والضرب بغير حق، وازدراء الناس وغمطهم حقوقهم، قال تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف 7/ 33] . والبغي: ظلم النّاس والاعتداء عليهم جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي بكرة: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدّنيا، مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرّحم» . والخلاصة: العدل: أداء الواجب، والإحسان: الزيادة فيه، والفحشاء والمنكر والبغي: تجاوز حدود الشّرع والعقل.

يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشّر، لتتعظوا وتتذكروا وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى، فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ليس المراد منه التّرجي والتّمني، فإن ذلك محال على الله تعالى، فوجب أن يكون معناه: أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكّروا طاعته، وهو يدلّ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكلّ. وبعد أن ذكر الله تعالى كلّ المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، خصص بعضها بالذّكر، فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. أي ووفوا بالعهود والمواثيق، وحافظوا على الأيمان المؤكدة، وعهد الله: كلّ ما يجب الوفاء به، من تطبيق أحكام الإسلام، وكلّ عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، كما قال ابن عباس. ثم أكّد الله تعالى ضرورة الوفاء بالعهد بقوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها.. أي واحذروا نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله. وأكّد ووكّد لغتان فصيحتان. والمراد بالأيمان هنا: هي الدّاخلة في العهود والمواثيق، أي أيمان العهد أو الأحلاف المعقودة، لا الأيمان التي هي واردة على حثّ أو منع. روى أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدّة» يعني في نصرة الحق والقيام به، والمعنى: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التّمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. وهذا مثل حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق فقال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى تردّ عليه مظلمته. فسمّت

قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شهيدا. ثمّ جعل الله تعالى نفسه رقيبا على العهود لتأكيد احترامها: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي إنه مطّلع ومراقب كلّ ما تفعلونه في العهود، من البرّ بها أو النّقض لها، ومحص ذلك عليكم، ومجازيكم على أفعالكم، ثوابا ورضا في حال البرّ والوفاء، وعقابا وسخطا في حال النّقض والعبث والإخلال بأحكام المعاهدة. وهذا وعد للطائع، ووعيد وتهديد للمخالف الذي ينقض عهده بعد توكيده. ثم أكّد الله تعالى حرمة العهد مرّة ثالثة فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ ... أي ولا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالتي نقضت غزلها بعد إبرامه. قال عبد الله بن كثير والسّدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكّة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. واسمها: ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة. أو هو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده كما قال مجاهد وغيره، فمن نقض العهد كان كمن نقض الغزل بعد فتله وإبرامه، فهو ليس من فعل العقلاء، وإنما في زمرة الحمقى. والأنكاث: الأنقاض. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. أي تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر، من أجل أن تكون جماعة أقوى وأكثر عددا وعدّة من جماعة أخرى، بل عليكم الوفاء بالعهود والحفاظ عليها. فقوله تعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ معناه أنكم تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم، ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم، فنهى الله عن ذلك، لينبّه بالأدنى على الأعلى، أي إذا نهاكم عن الغدر في هذه الحالة، فلأن ينهى عنه مع التّمكن والقدرة بطريق الأولى. وأربى: أكثر.

والمقصود: النّهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. ومن أمثلة الوفاء بالعهد: أن معاوية كان بينه وبين ملك الروم أمد، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى، وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم، وهم غارّون- غافلون- لا يشعرون، فقال له عمرو بن عنبسة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان بينه وبين قوم أجل، فلا يحلنّ عقدة حتى يمضي أمدها» فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي إنما يعاملكم معاملة المختبر، بأمره إياكم بالوفاء بالعهد، لينظر أتغترون بالكثرة والقلّة أم تراعون العهد؟! وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ.. أي وليبينن لكم ربّكم يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه، من أمر الإيمان والكفر، والوفاء بالعهد والنّقض، فيجازي كلّ عامل بعمله من خير أو شرّ، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملّة الإسلام، التي من أهمّ أحكامها وجوب الوفاء بالعهد. والله قادر على جمعهم على الإيمان وعلى الوفاء بالعهد، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. أي ولو شاء الله لجعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد، بمقتضى الفطرة والغريزة، فتصبحون كالملائكة مخلوقين على منهج الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى، فلا اختلاف ولا تباغض ولا شحناء، وإنما وفاق بينكم. ولكن حكمة الله اقتضت خلقكم متفاوتين في الكسب، كسب الإيمان والتزام الأحكام، مختارين الاعتقاد والعمل، فيضلّ من يشاء ممن سبق في علمه أنه سيختار الضّلال، ويهدي من يشاء ممن علم في الأزل أنه سيفعل الخير ويختار الإيمان.

وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ثم يسألكم يوم القيامة سؤال حساب وجزاء، لا سؤال استفهام، عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها خيرا أو شرّا. ونظير الآية كثير في القرآن، مثل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] ، ومثل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود 11/ 118- 119] . وبعد أن حذّر الله تعالى في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان على الإطلاق، حذّر في قوله: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، وهي أيمان البيعة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام. والمعنى: يحذر الله تعالى عباده وينهاهم عن اتّخاذ الأيمان دخلا، أي خديعة ومكرا، تغرون بها الناس، لئلا تزل قدم في الضّلال بعد ثبوتها على الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى، بأيمان حانثة مشتملة على الصّدّ عن سبيل الله لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به، لم يعد يثق بالدّين، فانصدّ بسبب الغدر عن الدّخول في الإسلام. وَتَذُوقُوا السُّوءَ.. أي وتذوقوا العذاب السّيء الشديد وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب صدّكم عن سبيل الله لأن الدخول في الدّين، ثم الخروج منه، مشجع للآخرين بالبعد عن الإسلام. وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولكم عقاب شديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانضمام لفئة الأشقياء الضّالين. أي إنكم إن نقضتم العهد وقعتم في مفاسد ثلاثة:

فقه الحياة أو الأحكام:

1- البعد عن منهج الاستقامة والنّأي عن طريق الهدى، بعد الثّبات فيهما. 2- تحمّل سوء العذاب في الدّنيا بالقتل والأسر وسلب الأموال وهجر الأوطان. 3- العقاب في الآخرة جزاء الإعراض عن جادّة الحقّ والإعراض عن أهله. ثم حذّر الله تعالى عن نقض العهد بالمعاوضات فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الحياة الدّنيا وزينتها، فإنها قليلة. إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لو خيرت للإنسان الدّنيا بحذافيرها، لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وهو خير أيضا من ذلك العرض القليل في الدّنيا. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون التّفاوت بين خيرات الدّنيا وبين خيرات الآخرة. ووجه الخيرية: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ أي إن متاع الدّنيا أو نعيمها ينقضي ويفرغ ويزول، وإن طال الأمد، وما عند الله من ثواب في الجنّة باق خالد لا انقطاع ولا نفاد له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا.. أي والله لنجازي ونثيب الصابرين الذين صبروا على أذى المشركين وأحكام الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود، بأحسن أعمالهم ونتجاوز عن سيئها، وهو ثواب عظيم، ووعد حسن بمغفرة السّيئات. فقه الحياة أو الأحكام: حدّدت هذه الآيات دعائم المجتمع المسلم في الحياة الخاصة والعامة، للفرد والجماعة والدولة.

فأمرت الآية بأوامر ثلاثة، ونهت عن نواه ثلاثة، تعتبر محاسن الأخلاق. أما الأوامر: فهي التزام العدل، والإنصاف بأداء الواجبات والفرائض، وفعل الإحسان وهو الزيادة والتّفضل، أو النافلة المستحبة فوق الفرض والواجب، وإيتاء ذي القربى أي صلة الأقارب والأرحام. وإنما خصّ ذا القربى لأن حقوقهم أوكد، وصلتهم أوجب. قال ابن عطية: العدل: هو كلّ مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحقّ. والإحسان: هو فعل كلّ مندوب إليه فمن الأشياء ما هو كلّه مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أنّ حدّ الإجزاء منه داخل في العدل، والتّكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان. وقسم ابن العربي العدل ثلاثة أقسام: عدل مع الله، وعدل مع النفس، وعدل مع الناس، فقال: العدل بين العبد وبين ربّه: إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزّواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه: فمنعها مما فيه هلاكها قال الله تعالى: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى وعزوب الأطماع عن الاتّباع، ولزوم القناعة في كلّ حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق: فبذل التّضحية، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكلّ وجه ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل، لا في سرّ ولا في علن، والصّبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.

وأما النّواهي الثلاثة: فهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. والفحشاء: الفحش، وهو كلّ قبيح من قول أو فعل كالزّنى والغيبة. والمنكر: ما أنكره الشّرع بالنّهي عنه، وهو يعمّ جميع المعاصي والرّذائل والدّناءات على اختلاف أنواعها، وأخطرها الشّرك. والبغي: هو تجاوز الحدّ، كالكبر والظّلم والحقد والتّعدّي. وخصّ بالذّكر، بالرّغم من دخوله تحت المنكر، اهتماما به لشدّة ضرره. ومن معاني الحديث: «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي» «الباغي مصروع» ، وقد وعد الله من بغي عليه بالنّصر، وفي بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكّا. وتضمّنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. والآية الثانية خصصت بالذّكر الأمر بالوفاء بالعهد، لخطورة العهود والمواثيق. وعهد الله: لفظ عام يشمل جميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وأكّدت الآية حرمة العهود والمواثيق بعدّة مؤكّدات: أولها النّهي عن نقضها حتى تنتهي مدّتها، بعد تشديدها وتغليظها، وإشهاد الله عليها. وإنما قال تعالى: بَعْدَ تَوْكِيدِها للتّفرقة بين اليمين المؤكّدة بالعزم وبين لغو اليمين. ثمّ مثّل لنقضها بصورة المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها إنقاضا بعد إبرامه وفتله، ثمّ شنّع على النّاقضين باتّخاذ الأيمان خديعة ومكرا وغشّا وتغريرا، ثمّ قبّح البواعث والأهداف من الغدر ونقض العهد تأييدا لقوّة قبيلة كثيرة قوية، وتحلّلا من عهد القبيلة الضّعيفة القليلة العدد، والعدد، فقال تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالا، فتنقضون أيمانكم، إذا رأيتم الكثرة والسّعة في الدّنيا لأعدائكم المشركين.

ثم نبّه الله تعالى أن العهود ابتلاء واختبار، وأن الله تعالى سيبيّن الحقائق يوم القيامة في الاختلاف من البعث وغيره. ثم ذكر تعالى أنه قادر على جعل الناس على ملّة واحدة هي ملّة الإيمان، والاجتماع على الوفاء بالعهود. ولكنه تعالى يوفق بهدايته من يشاء فضلا منه عليهم، ويضلّ من يشاء بخذلانه إياهم لاختيارهم سبيل الضّلال، عدلا منه فيهم، وسيسأل الجميع عن أفعالهم. ثم بالغ تعالى في النّهي عن عقد الأيمان والعهود المنطوية على الخديعة والفساد، فتزلّ قدم بعد ثبوتها، أي عن الإيمان بعد المعرفة بالله، وهذا استعارة لمستقيم الحال، الذي لا يوفي بالعهد، فيقع في شرّ عظيم. ثمّ توعّد تعالى المخادعين في الأيمان والعهود بعذاب في الدّنيا، وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد الشديد فيمن نقض عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن من عاهده، ثمّ نقض عهده، خرج عن الإيمان، وذاق السّوء في الدّنيا: وهو ما يحلّ بهم من المكروه. ثم حذّر الله تعالى من المتاجرة بالأيمان والعهود، فنهى عن الرّشاوى وأخذ الأموال على نقض العهد، فقال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدّنيا، وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو إذن قليل. ثم بيّن تعالى الفرق بين حال الدّنيا وحال الآخرة، بأن كلّ ما في الدّنيا ينفد ويتحوّل، وما في الآخرة وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته لا يزول، لمن وفّى بالعهد، وثبت على العقد.

أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح [سورة النحل (16) آية 97] :

وختم ما ذكر بأن الله سبحانه يجزي الصابرين على الإسلام والطاعات ومنها الوفاء بالعهد، وعن المعاصي، أجرهم على الطاعات، ويتجاوز عن السّيئات، وهذا هو المراد من الجزاء على أحسن أعمالهم. كلّ هذه الأوامر والنّواهي والمؤكّدات والوعود والمواعيد والتّهديدات والجزاءات من أجل الحفاظ على المعاهدات والعهود والمواثيق، وعدم الإخلال بأحكامها وشروطها ومشتملاتها. أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح [سورة النحل (16) : آية 97] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) الإعراب: قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ ثم قال: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ لأن مَنْ يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى. المفردات اللغوية: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّن النوعين دفعا للتخصيص. وَهُوَ مُؤْمِنٌ قيد في قبول العمل إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما يتوقع عليها تخفيف العقاب. حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا: يعيش عيشا طيبا لا قلق فيه ولا ضجر، فهو إن كان موسرا لم يصرفه الحرص والطمع عن واجبات الدين، وإن كان معسرا طيّب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة والرزق الحلال. وقيل: ذلك في الآخرة وهي حياة الجنة. ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعة. المناسبة: هذه الآية ترغيب للرجل والمرأة في أداء الطاعات والفرائض الدينية، فبعد

التفسير والبيان:

أن رغب الله تعالى المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه من شرائع الإسلام بقوله: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا بأن يجزيهم على أحسن أعمالهم التي تشمل المباحات والمندوبات والواجبات، ويثيبهم على ما عدا المباحات، رغّب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام. التفسير والبيان: هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا، فمن عمل صالح الأعمال، من ذكر أو أنثى، وهي الأعمال المطابقة لكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فأدى الفرائض، وكان قلبه مؤمنا بالله ورسوله، فله حياة طيبة في الدنيا، وجزاء بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. والحياة الطيبة: تشمل وجوه الراحة المختلفة، وفسرها ابن عباس وجماعة بالرزق الحلال الطيب، أو السعادة، أو العمل بالطاعة والانشراح بها، أو القناعة، والصحيح- كما قال ابن كثير-: أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه» ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري. وروى الترمذي والنسائي عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قد أفلح من هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع به» . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيقول: «اللهم قنّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية بوضوح أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان. أما إفادته تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان. والحياة الطيبة ذكر فيها خمسة أقوال أصحها أنها تشمل كل مناحي السعادة في الدنيا من الصحة والرزق الحلال الطيب، والطمأنينة النفسية وراحة البال، والتوفيق إلى الطاعات، فإنها تؤدي إلى رضوان الله تعالى. ما يتعلق بالقرآن الاستعاذة والنسخ وعربية القرآن [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 105] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)

الإعراب:

الإعراب: إِنَّما سُلْطانُهُ.. هُمْ بِهِ هاء (سلطانه) تعود على الشيطان، وهاء بِهِ لله تعالى، وهو مما جاء في التنزيل من ضميرين مختلفين، مثل الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلى لَهُمْ [محمد 47/ 25] أي سول الشيطان، وأملى الله تعالى، كقوله: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران 3/ 178] وقيل: هاء بِهِ تعود على الشيطان أيضا. وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ معطوفان على محل لِيُثَبِّتَ أي تثبيتا وهداية وبشارة، فهما مفعولان لأجله. البلاغة: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ مجاز مرسل من إطلاق المسبّب على السبب، أي إذا أردت قراءة القرآن. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة اعتراضية لبيان حكمة النسخ، وفيه التفات من المتكلم إلى الغائب، وذكر اسم الله للمهابة. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ استعار اللسان للغة والكلام، والعرب تستعمل اللسان بمعنى اللغة مثل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 14/ 4] . أَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي أردت قراءته فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي ألجأ إلى الله لحمايتي من وساوس الشيطان في القراءة، وذلك في كل ركعة للمصلي لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا. سُلْطانٌ تسلط وقوة واستيلاء. يَتَوَلَّوْنَهُ بطاعته، يقال: توليته: أطعته، وتوليت عنه: أعرضت. هُمْ بِهِ بالله. بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بنسخها أو رفعها وإنزال غيرها، لمصلحة العباد. قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي قال الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما أنت كذاب، تقوله من عندك. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن وحكمة النسخ وتمييز الخطأ من الصواب. قُلْ: نَزَّلَهُ قل لهم يا محمد: نَزَّلَهُ

سبب النزول:

رُوحُ الْقُدُسِ جبريل، وسمي بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس. بِالْحَقِّ متعلق ينزل، أي نزله ملتبسا بالحكمة المقتضية له. لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأنه كلامه، وإنهم إذا سمعوا الناسخ، وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم. وَلَقَدْ للتحقيق. يُعَلِّمُهُ القرآن. بَشَرٌ هو جبر الرومي، غلام عامر بن الحضرمي النصراني، كان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان حدادا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه، ويجلس إليه إذا آذاه أهل مكة. لِسانُ لغة وكلام. الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يميلون إليه، ويشيرون أنه يعلمه. أَعْجَمِيٌّ في لسانه عجمة، سواء من العجم أو من العرب، وهو الذي لا يفصح عن مراده. وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلمه أعجمي. والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم. لا يَهْدِيهِمُ لا يخلق الإيمان في قلوبهم، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى. أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة. يَفْتَرِي يختلق. الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ القرآن بقولهم: هذا من قول البشر لأنهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه. وَأُولئِكَ إشارة إلى الذين كفروا، أو إلى قريش. هُمُ الْكاذِبُونَ أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه المزاعم أعظم الكذب، أو الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر، إنما يعلمه بشر، والتأكيد بالتكرار ردّ لقولهم المذكور. سبب النزول: نزول الآية (101) : وَإِذا بَدَّلْنا.. نزلت حين قال المشركون: إن محمدا عليه الصلاة والسلام سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدا، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتري يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها. نزول الآية (103) : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ.. الآية: أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له:

المناسبة:

يسار، والآخر جبر، وكانا صقلبيّين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمرّ بهما، فيستمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أنه يجزي المؤمنين بأحسن أعمالهم، أرشد إلى العمل الذي تخلص به أعمالهم من وساوس الشيطان. ثم ذكر بعض وساوسه إلى منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بإلقاء الشبهات ومنها شبهتان: الأولى- شبهة النسخ: وهو التبديل، أي رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية: رفعها بآية أخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها. والثانية- شبهة كون القرآن من تعليم نصراني لا من الله، وكان الردّ مفحما موضحا بطلان هذه الشبهة: وهو أن القرآن كلام عربي مبين، وهذا المعلم المزعوم أعجمي، فكيف يعلّم كلاما عربيا فصيحا؟! التفسير والبيان: يأمر الله عباده على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، فيقول: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ.. أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم الملعون المطرود من رحمة الله، حتى لا تلتبس عليك القراءة، ولتتدبر معاني القرآن. والآية متصلة بما سبق: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ. وخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته، بل هي أولى لأنه معصوم من وساوس الشيطان وإغوائه. وظاهر الآية جعل الاستعاذة عقب القراءة، ولكنها قبل القراءة، كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة 5/ 6] وقوله:

الشبهة الأولى:

وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام 6/ 152] وقوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب 33/ 53] وقوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة 58/ 12] أي إذا أردتم ذلك. ثم إن سبب الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضي تقديم الاستعاذة قبل القراءة. والاستعاذة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. والأمر بها أمر ندب بإجماع العلماء، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة. وعن الثوري وعطاء: أنها واجبة في الصلاة أو غيرها، عملا بظاهر الآية إذ الأمر للوجوب، لكن الوجوب في رأي الجمهور مصروف عنه إلى الندب لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعلمها الأعرابي، ولأنه كان يتركها أحيانا. والاستعاذة في رأي الحنفية وجماعة مطلوبة فقط في أول الصلاة لأنها عمل واحد، مفتتح بقراءة، فتكون في ابتدائها. وفي رأي الشافعية وجماعة: تتكرر في كل ركعة لأنها قد رتّبت على القراءة، وكل ركعة فيها قراءة، فتبدأ الركعة بالاستعاذة. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ.. أي إن الشيطان أي جنسه ليس له قوة ولا تسلط على المصدقين بلقاء الله، ويفوضون أمورهم إليه. إِنَّما سُلْطانُهُ.. أي إنما تسلطه بالغواية والإضلال على الذين أطاعوه واتخذوه وليا ناصرا لهم من دون الله، والذين أشركوه في عبادة الله، ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان وإغوائه لهم مشركين بربهم. ثم ذكر تعالى شبهتين من شبهات منكري النبوة بتأثير وسوسة الشيطان. الشبهة الأولى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً.. أي إذا رفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى لحكمة

وهدف، والله أعلم بما ينزله من القرآن، ورأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها، عيّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا له: إنما أنت مفتر، أي كذاب، متقول على الله، تأمر بشيء ثم تنهى عنه، بل أكثرهم لا يعلمون ما في التغيير من حكمة ومصلحة للناس، ومراعاة لظروف التغير والتطور، وأخذ بمبدإ التدرج في تنزيل الأحكام، فليس محمد بمفتر، وإنما يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، كما قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة 2/ 106] . فردّ الله عليهم شبهتهم الواهية آمرا رسوله: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ.. أي قل لهم يا محمد: نزّله، أي القرآن المتلو عليكم جبريل عليه السلام، وقد أضيف أي جبريل إلى القدس وهو الطهر من المآثم، نزّله من ربك بالحق، أي مقترنا بالصدق والعدل والحكمة، وأن النسخ من جملة الحق. لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليبلوهم بالنسخ، فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا، وتطمئن له قلوبهم، فإذا قالوا: هو الحق من ربنا، حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب. واستعمال كلمة نَزَّلَهُ الدالة على أن التنزيل شيئا فشيئا على حسب الحوادث والمصالح، فيه إشارة- كما قال الزمخشري- إلى أن التبديل من باب المصالح، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ معطوف على محل لِيُثَبِّتَ أي إن القرآن بما فيه من نسخ نزل تثبيتا لهم، وإرشادا وهاديا، وبشارة بالجنة للمسلمين الذين أسلموا وجوههم لله، وأطاعوه، وانقادوا لحكمه وأمره، وآمنوا بالله ورسله. وهذا يدل على أن المسلمين إذا رأوا النسخ، رسخت عقائدهم واطمأنت

والشبهة الثانية:

قلوبهم، وثبت الدين في نفوسهم، وتيقنوا من حكمة الله، وهدوا إلى الحق من الضلال والزيغ، وبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار. وأما المشركون فهم على الضد من هذه الصفات. والشبهة الثانية: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ.. أي ونحن نعلم تمام العلم ما يقوله المشركون من الكذب والافتراء على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهم يقولون جهلا: إنما يعلمه هذا القرآن بشر آدمي، وليس وحيا من الله، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، غلام لبعض القرشيين، وكان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليه، ويكلمه بعض الشيء. واسمه جبر، وقيل: بلعام، وقيل: يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان غلاما للفاكه بن المغيرة أو لعامر بن الحضرمي أو لعتبة بن ربيعة «1» ، وكان نصرانيا فأسلم، فإذا سمع المشركون بعض القصص القرآني، قالوا: إنما يعلمه جبر، وهو أعجمي. فردّ الله عليهم افتراءهم وكذبهم بنحو يدعو إلى العجب، فقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ.. أي لسان الذي يميلون ويشيرون إليه أعجمي لا عربي، والقرآن كلام عربي واضح مبين لكل شيء فصيح يدرك بسرعة، بل أفصح ما يكون من العربية، فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته، وبلاغته، ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي لا يحسن التعبير العربي؟! لا يعقل أن يتعلم هذا النبي كلاما من هذا النوع من مثل هذا الرجل الأعجمي.

_ (1) قال القرطبي: والكل محتمل، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم كشف الله زيفهم وتوعدهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ... أي إن الذين لا يصدّقون بالآيات المنزلة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن لهم قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، لا يهديهم ولا يوفقهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله، لفقد استعدادهم لذلك واقترافهم السيئات، ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع. وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي وأولئك المشركون من قريش هم الكاذبون المفترون، لا أنت يا محمد. وهذا تصريح بوصفهم بالكذب الذين عرفوا به عند الناس، أما الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا ويقينا، معروفا بالصدق في قومه، حتى لقبوه بالأمين محمد. ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات الرسول صلّى الله عليه وسلّم أجابه بأنه صدوق، وكان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله عز وجل. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- الاستعاذة من الشيطان الرجيم مطلوبة على سبيل الندب عند الشروع في قراءة القرآن، في الصلاة وغيرها، حتى لا يعرض الشيطان بوسوسته للقارئ، فيصده عن تدبر القرآن والعمل بما فيه. وللشيطان وسوسة في القلب، حتى في حق الأنبياء، بدليل قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج 22/ 52] .

2- ليس للشيطان بحال سلطان وقوة بالإغواء والكفر على المؤمنين المصدقين بالله ورسوله لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال إبليس: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر 15/ 39- 40] قال الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر 15/ 42] . لكن قال القرطبي: إن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك «1» ؟. 3- النسخ واقع في القرآن لحكمة هي مراعاة المصالح والحوادث وتطور الأوضاع البشرية. والنسخ: رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ أو متأخر عنه. وقد نزل جبريل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه، من كلام ربه لتثبيت المؤمنين بما فيه من الحجج والآيات، ولجعله هاديا ومرشدا ومبشرا للمسلمين بجنات النعيم، فلا يصح للمشركين الاعتراض على النسخ. وقد ذكرت في تفسير سورة البقرة أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني: أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة. وقال عن هذه الآية: إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة، مثل أنه حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون: أنت مفتر في هذا التبديل، فالآية هي الرسالة أو بعضها. وقال سائر المفسرين: النسخ واقع في هذه الشريعة، بأدلة واقعية في القرآن والسنة، سبق إيرادها.

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 176

المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعد ما فتنوا [سورة النحل (16) الآيات 106 إلى 111] :

وقال الشافعي رحمه الله: القرآن لا ينسخ بالسنة لقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى. وردّ عليه بأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى، ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية، وأيضا فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة، كما ينزل بالآية، وأيضا فالسنة قد تكون مثبتة للآية. 4- القرآن بلسان عربي مبين، فكيف يصح للمشركين الزعم بأن محمدا الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتعلمه من حداد أعجمي مقيم في مكة؟ مع أن الإنس والجن عجزوا أن يعارضوا منه سورة واحدة فأكثر. 5- لا يوفق الله للإيمان هؤلاء المشركين الذين لا يؤمنون بالقرآن، لإصرارهم على الكفر وعنادهم، وإعراضهم عن هدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع. 6- قد صرحت الآية: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ.. بوصف المشركين بالكذب والافتراء جوابا لوصفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالافتراء. وقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مبالغة في وصفهم بالكذب، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعد ما فتنوا [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)

الإعراب:

الإعراب: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ.. مَنْ بدل مرفوع من الْكاذِبُونَ في قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أو مبتدأ أو شرطية، والخبر أو الجواب: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وأحسن الوجوه أن مَنْ مبتدأ محذوف الخبر. إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثناء متصل لأن الكفر يعم القول والنية كالإيمان. مَنْ شَرَحَ: من: مبتدا مرفوع، وخبره: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. صَدْراً مفعول شَرَحَ أي ولكن من شرح بالكفر صدره وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره، فهو نكرة يراد بها المعرفة. ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ.. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ.. خبر إِنَّ الأولى دل عليه خبر إِنَّ الثانية. المفردات اللغوية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الافتراء، أو على النطق بكلمة الكفر فتلفظ به وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغير عقيدته، وثبت على ما كان عليه، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً له، أي فتحه ووسعه، والمعنى: اعتقده وطابت له نفسه فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.. هذا وعيد شديد إذ لا أعظم من جرمه، والغضب: أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة الله ذلِكَ الوعيد لهم بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا اختاروها أو آثروها وقدّموها.

سبب النزول:

لا جَرَمَ حقا الْخاسِرُونَ إذ ضيعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد، وصاروا إلى النار المؤبدة عليهم. هاجَرُوا من مكة إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا عذّبوا أو اختبروا بالعذاب، وتلفظوا بالكفر، كعمار رضي الله عنه. ومن قرأ: فُتِنُوا معناه كفروا، أو فتنوا الناس عن الإيمان، كالحضرمي أكره مولاه جبرا، حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الجهاد وما أصابهم من المشاق إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر لَغَفُورٌ لهم لما فعلوا قبل رَحِيمٌ بهم، منعم عليهم، مجازاة على ما صنعوا بعد. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ اذكر، وهو يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تحاج وتجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها، فتقول: نفسي نفسي. والنفس الأولى: الجثة والبدن، والنفس الثانية: عينها وذاتها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ تعطى جزاء ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقصون أجورهم شيئا سبب النزول: نزول الآية (106) : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يهاجر إلى المدينة، أخذ المشركون بلالا، وخبّابا، وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيّة، فلما رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حدّثه فقال: كيف كان قلبك حين قلت: أكان منشرحا بالذي قلت؟ قال: لا، فأنزل الله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم، فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية.

روايات أخرى:

روايات أخرى: في آية إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل: «أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول الله، قال له: ما وراءك؟ قال شر ما تركت، نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. وروي: «أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين، ووجئت بحربة في موضع عفتها، وقالوا: إنما أسلمت من أجل الرجال، فقتلوها وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل: يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يبكي، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه، وقال: مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت» . نزول الآية (110) : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ: أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذّب، حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي الله عنه (وكان أخا أبي جهل

المناسبة:

من الرضاعة) وأبا جندل بن سهيل، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون، وعذبوهم، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا، وجاهدوا، فنزلت فيهم هذه الآية. المناسبة: بعد أن عظّم الله تعالى تهديد الكافرين الذين تقولوا الأقاويل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوصفوه بأنه مفتر، وأن ما جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله، أردف ذلك ببيان من يكفر بلسانه لا بقلبه بسبب الخوف والإكراه، ومن يكفر بلسانه وقلبه معا. ثم ذكر بعده حال من هاجر بعد ما فتن، وهم المستضعفون في مكة. التفسير والبيان: من كفر بوجود الله وتوحيده بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به، فعليه غضب من الله ولعنته، وله عذاب شديد في الآخرة، لعلمه بالإيمان، ثم عدوله عنه، ولأنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدم على الردة، ولم يهد الله قلبه، ولم يثبته على الدين الحق، فطبع على قلبه، فهو من الغافلين عما يراد، ومن الذين لا يعقلون شيئا ينفعهم، وقد ختم على سمعه وبصره، فهو لا ينتفع بها، ولا أغنت عنه شيئا. ثم استثنى الله تعالى ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه من أكره فقال: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي إلا إذا أكره بسبب الضرب والأذى، وقلبه يأبى ما ينطق به في الظاهر، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإكراه، كما فعل عمار بن ياسر حينما عذبه مشركو مكة. وأصل الاطمئنان: سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على الإيمان، ومعنى قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً.. أي فتحه ووسعه لقبول الكفر.

ثم ذكر الله تعالى سبب سخطه على المرتد، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا.. أي ذلك الجزاء والغضب من الله والعذاب العظيم من أجل أنهم آثروا الدنيا على الآخرة. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي.. أي وأن الله لا يوفق المصرّين على الكفر، الذين أمعنوا في إنكار توحيد الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ.. أولئك الذين ارتدوا أو كفروا بعد إيمانهم هم الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فلا يؤمنون ولا يسمعون كلام الله ولا يبصرون البراهين والأدلة إبصار تبصر، وأولئك هم الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ.. أي حقا أو لا بد أنهم هم الهالكون في الآخرة، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. هؤلاء المرتدون الخاسرون حكم الله عليهم بستة أحكام هي: 1- أنهم استوجبوا غضب الله. 2- أنهم استحقوا العذاب الأليم. 3- أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. 4- أنه تعالى حرمهم من الهداية للطريق القويم. 5- أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. 6- أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة. ثم ذكر الله تعالى حكم المستضعفين في مكة، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا.. أي ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم في مكة بعد ما حاول المشركون فتنهم عن دينهم، وجاهدوا المشركين بعدئذ في المعارك، وصبروا

فقه الحياة أو الأحكام:

على جهادهم، بالعون والنصر والتأييد والمغفرة والستر لذنوبهم، والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد توبتهم وصدق إسلامهم. فهؤلاء صنف آخر من المؤمنين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، فوافقوهم على الفتنة والنطق بالكفر ظاهرا، ثم إنه أمكنهم الخلاص بالهجرة إلى المدينة، تاركين بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا على الأذى، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة، لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ.. يَوْمَ منصوب برحيم أو بإضمار فعل: اذكر، أي إنه غفور رحيم بهم يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي، كقوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 37] . ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها، كقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف 7/ 38] ، ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] ونحو ذلك. وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ.. أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب الخير، ولا يزاد على جزاء الشر، ولا يظلمون نقيرا، أي شيئا حقيرا أو صغيرا. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآيات على الأحكام التالية: 1- جزاء المرتدين يوم القيامة هو ستة أوصاف ذكرناها. وأما جزاؤهم في

الدنيا فهو القتل، لحديث ابن عباس عند الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) : «من بدل دينه فاقتلوه» . 2- الترخيص للمستكره بالنطق بالكفر ظاهرا مع اطمئنان القلب بالإيمان، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمارا أن يعود إلى مجاراة المشركين في القول إن عادوا إلى إكراهه، لكن عدم المجاراة أفضل. أ- قال العلماء: إن الأمر في الحديث للإباحة، والصارف له عن الوجوب إليها: ما روي عن خبيب بن عدي لما أراد أهل مكة أن يقتلوه أنه لم يعطهم التقية، بل صبر حتى قتل، فكان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم خيرا من عمار في إعطائه التقية. ثم إن في الصبر على المكروه إعزازا للدين والإسلام وغيظا للمشركين، فهو بمنزلة من قاتل المشركين حتى قتل، فتأثير الإكراه حينئذ إنما هو إسقاط المأثم فقط، كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني عن ثوبان، وهو صحيح: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فألحق المكره بالمخطئ والناسي، وفي رواية أخرى لابن ماجه عن أبي ذر: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان..» إلخ. وكذلك بلال الحبشي أبى على المشركين المجاراة في القول، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم، وهو يقول: أحد، أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك. ورواية القصة هي: «أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضا، فخلّاه، وقال

للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له» «1» . والخلاصة: أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل، أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة. ب- لما سمح الله عز وجل بالكفر به- وهو أصل الشريعة- عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا أكره الإنسان عليها لم يؤاخذ بما قال أو فعل، ولم يترتب عليه حكم. ج- قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل: أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن، فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، فإنه مخالف لهذه الآية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ. د- اختلف الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه، فذهب الحنفية إلى أن الطلاق ونحوه يلزمه لأن الطلاق يعتمد الاختيار، والإكراه ينفي الرضا ويحقق الاختيار. وغير الحنفية ذهبوا إلى عدم لزومه، استدلالا بالحديث المتقدم: «رفع عن أمتي» وحمله الحنفية على رفع الحكم الأخروي وهو الإثم.

_ (1) الكشاف: 2/ 219، تفسير ابن كثير: 2/ 588، تفسير القرطبي: 10/ 188 وما بعدها.

هـ- وأما بيع المكره والمضطر فله حالتان: الأولى- أن يبيع ماله في حق وجب عليه: فذلك نافذ لازم لا رجوع فيه لأنه يلزمه أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك، كان بيعه اختيارا منه، فلزمه. الثانية- بيع المكره ظلما أو قهرا: فهو بيع غير لازم، وهو أولى بمتاعه، يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم فإن تلف المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك، على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه. وللإكراه مراتب: الأولى- أن يجب الفعل المكره عليه، مثل الإكراه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة، هنا يجب الأكل لأن صون الروح عن الهلاك واجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] . الثانية- أن يصير ذلك الفعل مباحا لا واجبا، كالإكراه على التلفظ بكلمة الكفر، يباح ولا يجب. الثالثة- ألا يجب ولا يباح بل يحرم، كالإكراه على قتل إنسان أو قطع عضو آخر، يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. أما القصاص فيسقط في رأي، ويجب في رأي آخر «1» . قال القرطبي: أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة «2» .

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 122 (2) تفسير القرطبي: 10/ 183

والخلاصة: ثلاثة أمور لا تباح بحال هي الكفر والقتل والزنى. ويرخص في إجراء كلمة الكفر على اللسان فقط دون استباحة ذلك. ز- هل يحد الزاني مكرها؟ فيه رأيان: قال بعضهم: عليه الحد لأنه إنما يفعل ذلك باختياره، وقال الأكثرون: لا حد عليه، وهو الصحيح. وإذا استكرهت المرأة على الزنى، فلا حد عليها لقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولقول الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 33] يريد الفتيات. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة. ح- هل يجب الصداق (المهر) للمستكرهة؟ قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لها صداق مثلها. وقال الحنفية والثوري وأصحاب مالك: إذا أقيم الحد على الذي زنى بها، بطل الصداق. قال ابن المنذر: القول الأول صحيح. ط- إذا أكره إنسان على إسلام (تسليم) أهله (زوجته) لما لم يحلّ، أسلمها فيما ذكر القرطبي، ولم يقتل نفسه دونها، ولا احتمل أذية في تخليصها. وإن أمكنه الدفاع عن عرضه وجب ذلك. ي- يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء لأن نيته مخالفة لقوله. وقال الحنفية: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث لأن المكره له أن يورّي في يمينه كلها، فلما لم يورّ، فقد قصد إلى اليمين. ك- إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال، كأصحاب المكس (الجمارك) وظلمة السعاة وأهل الاعتداء، فقال مالك: لا تقيّة له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه، لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث، وإن درأ عن ماله، ولم يخف على بدنه.

ل- قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر، فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك، كان كافرا لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها، مثل أن يقول: أكفر باللاهي، بزيادة الياء، وكافر بالنبيّ بالتشديد، أي المكان المرتفع من الأرض، أو بالنبيء أي المخبر. م- حد الإكراه: عند مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء هو الوعيد المخوف، والسجن، والضرب، والإخافة، والإيثاق، والقيد ونحو ذلك. ونقل عن الحنفية أنهم لم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر وأكل الميتة لأنه لا يخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراها في إقرار الشخص: لفلان عندي ألف درهم. 3- المرتدون استوجبوا غضب الله وعذابه لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وحرموا من هداية الله، وطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وجعلوا من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة. 4- كتب الله المغفرة والرحمة للذين هاجروا من بعد ما فتنوا أي قبلوا فتنة مشركي مكة، ثم جاهدوا مع المؤمنين، وصبروا على الجهاد، وهؤلاء هم المستضعفون، مثل عمار بن ياسر، وجبر مولى الحضرمي الذي أكرهه سيده، فكفر، ثم أسلم مولاه، وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا، ومثل المذكورين في سبب النزول: عياش وأبي جندل وسلمة بن هشام وعبد الله بن سلمة، ومثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد ولحق بالمشركين، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان، فأجاره النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم صار واليا على مصر. وقد ذكرت قصة عمّار، وأشير للمعذبين المستضعفين بإيجاز. قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وخبّاب، وصهيب، وبلال، وعمار، وسمية.

عاقبة كفران النعم في الدنيا [سورة النحل (16) الآيات 112 إلى 113] :

أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الشمس والحديد، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم، ويشتم سمية، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة. عاقبة كفران النّعم في الدنيا [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) الإعراب: قَرْيَةً بدل من مَثَلًا. وَهُمْ ظالِمُونَ الجملة حال. البلاغة: قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً المراد أهلها على سبيل المجاز المرسل، لأجل أنها مكان الأمن وظرف له، والظروف توصف بما حل فيها. فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ استعارة مكنية في أذاقها، حذف منها المشبه به، شبه ذلك اللباس لكراهته بالطعام المرّ، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإذاقة، على طريق الاستعارة المكنية، أي أنه استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه، نظرا إلى المستعار له. المفردات اللغوية: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي وجعلها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا، فأنزل الله بهم النقمة، أو لمكة قَرْيَةً هي مكة، والمراد أهلها، وقال الرازي: والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة، وهو غير مكة. آمِنَةً من الغارات، لا تهاج. مُطْمَئِنَّةً

المناسبة:

لا يحتاج إلى الانتقال عنها لضيق أو خوف. رِزْقُها قوتها. رَغَداً واسعا. مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها. فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي بنعمه، جمع نعمة، كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس، وكفرانها بتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم. فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ فقحطوا سبع سنين. وَالْخَوْفِ بتهديدهم بسرايا النبي صلّى الله عليه وسلّم. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بصنعهم. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ محمد صلّى الله عليه وسلّم. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الجوع والخوف. وَهُمْ ظالِمُونَ حال التباسهم بالظلم. المناسبة: بعد أن هدد الله تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، هددهم أيضا بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف. التفسير والبيان: ذكر الله صفة قرية للعبرة، كانت بأهلها آمنة من العدو، مطمئنة لا يزعجها خوف، يأتيها رزقها الوافر رغدا أي هنيئا سهلا واسعا من سائر البلاد، فكفر أهلها بنعم الله، أي جحدوا بها، فعمّهم الله بالجوع والخوف، وبدلوا بأمنهم خوفا، وبغناهم جوعا وفقرا، وبسرورهم ألما وحزنا، وذاقوا مرارة العيش بعد سعته، بسبب أفعالهم المنكرة. وجاءهم رسول من جنسهم، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم، مبلّغ عن ربه بأن يعبدوه ويطيعوه ويشكروه على النعمة، وتمادوا في كفرهم وعنادهم، فعذبوا بعذاب الاستئصال الشامل، حال كونهم ظالمين أنفسهم بالكفر وتكذيب الرسل، متلبسين بالظلم: وهو الكفر والمعاصي، وما ظلمهم الله أبدا. والمثل: قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن موجودا، وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية يحتمل أن تكون شيئا مفروضا، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وهذه القرية إما مكة

أو غيرها، وأكثر المفسرين على أنها مكة وأهلها، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف، فجحدت بآلاء الله، وأعظمها بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأذاقها الله شدة الجوع والخوف، بعد الرفاه والأمن، وأبوا إلا معاندة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عليهم بقوله: «اللهم اشدد ووطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء وابتلوا بالقحط، فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة، والعلهز: وهو وبر البعير المخلوط بدمه إذا نحروه. ثم قتل رؤساؤهم في بدر. وقال الرازي: والأقرب أنها غير مكة، لأنها ضربت مثلا لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة. أي أن هذا المثل عبرة لكل قرية، وعلى التخصيص مكة إنذارا من مثل عاقبتها، وهي مثل لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. وقوله: آمِنَةً إشارة إلى الأمن، وقوله: مُطْمَئِنَّةً إشارة إلى الصحة بسبب طيب الهواء والمناخ، وقوله: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ إشارة إلى الكفاية «1» . وبعد أن وصفت القرية بهذه الصفات الثلاثة قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ والأنعام جمع نعمة، وهو جمع قلة، أي أنها كفرت بأنواع قليلة من النعم، فعذبها الله. والمقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا العذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب. وهذه الصفات، وإن وصفت بها القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها،

_ (1) قال بعضهم مبينا أهمية هذه العناصر الثلاثة للحياة: ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية

فقه الحياة أو الأحكام:

لذا قال في آخر الآية: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وسماه الله لباس الجوع والخوف لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى وجوب الإيمان بالله وبالرسل، وإلى عبادة الله وحده، وشكره على نعمه وآلائه الكثيرة، وإلى أن العذاب الإلهي لا حق بكل من كفر بالله وعصاه، وجحد نعمة الله عليه. وهذا إنذار ووعيد لأهل كل قرية اتصفوا بالظلم أي بالكفر والمعاصي إذ لا ظلم أشد من ظلم الكفر والمعصية، في حق الله تعالى. والعذاب أو العقاب من جنس العمل، فإن أهل هذه القرية لما بطروا بالنعمة، بدلوا بنقيضها، وهو محقها وسلبها، ووقعوا في شدة الجوع بعد الشبع، وفي الخوف والهلع بعد الأمن والاطمئنان، وفي انعدام موارد العيش بعد الكفاية. الحلال الطيب والحرام الخبيث من المأكولات [سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

الإعراب:

الإعراب: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: ما مع الفعل بعدها: في تأويل المصدر. الْكَذِبَ مفعول تَصِفُ. ومن قرأه بالجر كان بدلا مجرورا من لِما أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم. البلاغة: حَلالٌ حَرامٌ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَكُلُوا أيها المؤمنون، أمرهم تعالى بأكل ما أحل الله لهم، وشكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه. لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ أي لوصف ألسنتكم، والمراد: لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول من غير دليل، فمن قال: له وجه يصف الجمال، وعين تصف السحر، أراد أنه جميل، وأن عينه فتانة، وهنا جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة، وكذبهم يشرح تلك الحقيقة.. هذا حَلالٌ، وَهذا حَرامٌ لما لم يحله الله ولم يحرمه. مَتاعٌ قَلِيلٌ أي لهم متاع في الدنيا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ولهم في الآخرة عذاب مؤلم. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا أي اليهود. ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ في آية وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية [الأنعام 6/ 146] . وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب المعاصي الموجبة لذلك. السُّوءَ الشرك. ثُمَّ تابُوا رجعوا. وَأَصْلَحُوا عملهم. مِنْ بَعْدِها الجهالة أو التوبة. لَغَفُورٌ لهم. رَحِيمٌ بهم. المناسبة: بعد أن هدد الله تعالى الكفار على كفران النعم، وزجرهم عن الكفر بضرب المثل، أمر المؤمنين بأكل ما أحل الله لهم، وشكر ما أنعم عليهم، والمعنى: أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم ونحوهما، ثم أوضح لهم أن التحليل والتحريم ليسا بالهوى والشهوة

التفسير والبيان:

ومحض العقل، وإنما لا بد من دليل أو نص شرعي، وأن ما حرّم على اليهود هو ما ذكر سابقا في سورة الأنعام، وأن من يعمل السوء (وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي) بجهالة أي بطيش وعدم تدبر العواقب (وكل من عمل السوء، فإنما يفعله بالجهالة) ثم يتوب بعدئذ، فإن الله يغفر له معصيته ويرحمه. التفسير والبيان: هذا انتقال من الإنذار والتخويف إلى الاطمئنان، وتهدئة الخواطر، وتطييب النفوس المؤمنة، والإذن بمتاع الحياة الحلال، لا الخبيثة الحرام كالميتة والدم، فكلوا أيها المؤمنون من رزق الله الحلال الطيب، واشكروه على ذلك، فإنه المنعم المتفضل الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، إن كنتم تعبدونه حقا، فتطيعونه فيما أمر، وتنتهون عما نهى، والمراد بالجملة الأخيرة التحريض على العبادة والاستمرار عليها. والحلال أكثر بكثير من الحرام، ولكنه على وفق ما أذن الله به، لا على النحو الذي كان عليه عرب الجاهلية من تحريم ما أحل الله، لذا ناسب ذلك بيان المحرّمات القليلة أمام الحلال الكثير الواسع، فقال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ.. أي إنما حرّم عليكم ربكم محرّمات أربعة فقط لأن لفظة إِنَّما تفيد الحصر، وهي أكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما ذبح على النصب للأصنام، وهو داخل تحت قوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على غير اسم الله، جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس: «ملعون من ذبح لغير الله» فلا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم. وقد ذكرت هذه الأنواع الأربعة في سور ثلاث سابقة هي سورة البقرة المدنية: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ.. [الآية: 173] وسورة المائدة المدنية أيضا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.. [الآية: 3] وسورة الأنعام المكية كهذه السورة:

إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.. [الآية: 145] . وأما المذكور في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي (ذبح حيا) فهو داخل في الميتة. ثم استثنى تعالى حالة الضرورة فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ.. أي فمن دعته الضرورة وألجأته، واحتاج من غير بغي ولا عدوان إلى تناول شيء من هذه المحرّمات، لمجاعة غلب على ظنه الهلاك فيها، غير باغ على مضطر آخر، بأن ينفرد بتناوله، فيهلك الآخر، ولا عاد أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع أي قدر الضرورة، مما يدل على تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين، فإن الله غفور ستار لذنبه أو هفوته، لا يؤاخذه على ذلك، رحيم به أن يعاقبه على مثل ذلك. وفي هذا تيسير وتوسعة على هذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر. ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين بالتحليل والتحريم بآرائهم، وما ابتدعوه شرعا في جاهليتهم من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك، وتحليل الميتة والدم وغيرهما، فقال: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.. أي ولا تحللوا وتحرموا بالرأي والهوى والجهالة، دون اتباع شرع الله، ولمجرد وصف ألسنتكم الكذب دون دليل. وهذه مبالغة في تأكيد حصر المحرمات في الأربع السابقة. لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي لتصير عاقبة أمركم إسناد التحليل والتحريم إلى الله كذبا، من غير إنزال شيء فيه، فإن من حلل أو حرم شيئا برأيه دون دليل أو وحي من الله، كان من الكاذبين على الله تعالى. فيدخل في هذا النهي كل من حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وهواه، وكل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي. ثم توعد على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ...

أي إن الذين يختلقون الكذب على الله، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فلهم متاع قليل زائل وعرض زائل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم جدا، كما قال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . والآية في الأصل خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب، وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة. وبعد بيان الحلال والحرام والمباح للضرورة لهذه الأمة، ذكر تعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل نسخها، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا.. أي وقد حرمنا على اليهود ما أخبرناك به أيها الرسول في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما، إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام 6/ 146] فلا يصح لكم أيها العرب التحريم والتحليل من عند أنفسكم، ولا تقليد اليهود فيما حرمنا عليهم، فلم نحرم عليهم إلا ما ذكر. وسبب التحريم هو: وَما ظَلَمْناهُمْ.. أي وما كان التحريم بظلم منا، ولكن كان بسبب ظلم ارتكبوه، فإنهم ظلموا أنفسهم بعصيان ربهم ومعاندة رسلهم، وتجاوز حدودهم، فاستحقوا ذلك، وعوقبوا بما حرمناه عليهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ.. [النساء 4/ 160] . وهو صريح في أن التحريم كان بسبب الظلم والبغي، عقوبة وتشديدا. ثم أبان الله تعالى إمكان قبول التوبة تكرما وامتنانا على العصاة والمفترين على الله، والمنتهكين حرماته، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي إن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، فإن

فقه الحياة أو الأحكام:

ربك غفور ستار رحيم بالذين افتروا عليه بالتحليل والتحريم، وعملوا السوء: وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي، بسبب الجهالة لأن كل من عمل السوء، فإنما يفعله بالجهالة، فلا يرضى أحد بالكفر مع العلم بكونه كفرا، ولا تصدر المعصية عنه إلا إذا غلبت الشهوة على العقل والعلم. لكن المغفرة والرحمة مرتبطان بالتوبة والإنابة، والندم على ما فعلوا، وإصلاح الأعمال على وفق مراد الله ورسوله، فمن تاب من بعد ذلك، أي من بعد تلك السيئة أو الجهلة، وأصلح عمله، فآمن بالله ورسوله وأطاع الله ورسوله، فإن الله يغفر ذنبه، ويرحمه في الآخرة والدنيا. وقد أعاد قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها على سبيل التأكيد، ثم قال لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة. وهذا يدل على أن ارتكاب الذنب يكون غالبا بسبب غلبة الشهوة على ميزان العقل والعلم، أو بسبب جهالة الشاب وطيشه. ويدل أيضا على أن من أقدم على الكفر والمعاصي ولو دهرا طويلا، ثم تاب وآمن وعمل صالحا، فإن الله يقبل توبته، ويخلصه من العذاب. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- إباحة الحلال الطيب الذي لا ضرر فيه، وتحريم الخبيث الضار الذي يؤدي إلى الأذى والشر، وذلك بحق يقتضي شكر النّعمة. 2- المحرمات الأساسية في الشريعة أربعة: هي الميتة والدم ولحم الخنزير، والمذبوح لغير الله من الأصنام وغيرها.

3- يباح للضرورة التي يترتب على مخالفتها غلبة الظن بالوقوع في الهلاك تناول شيء من الأطعمة المحرمة المذكورة آنفا. 4- تحذير المؤمنين من التشبه بالكفار في تحليل الحرام وتحريم الحلال، دون دليل أو برهان من المشرع الحقيقي وهو الله، فذلك افتراء على الله الكذب، والمفترون لا يفلحون في الدنيا والآخرة. فمتاعهم في الدنيا متاع قليل، ونعيمها يزول عن قريب، ولهم استمتاع بمتاع قليل، ثم يردون إلى عذاب أليم. 5- التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يخبر الله تعالى بذلك عنه. وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول المجتهد فيه: إني أكره كذا، وهكذا كان يفعل مالك وأحمد وغيرهما من أهل الفتوى من السلف الصالح. فإذا قوي دليل التحريم فلا بأس بالقول بأنه حرام، كتحريم الربا في غير الأصناف الستة الواردة في تحريم الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة. 6- الأنعام والحرث (الزروع والثمار) حلال لهذه الأمة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء، وما ظلمهم الله بتحريم ما حرم عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم، فحرم عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم. 7- اقتضت رحمة الله وفضله وكرمه أن يقبل توبة عباده الذين يعملون السوء من الكفر والمعاصي، ثم يتوبون بعد فعلها، ويصلحون أعمالهم، فيغفر الله لهم.

إبراهيم عليه السلام واتباع ملته وتعظيم اليهود السبت [سورة النحل (16) الآيات 120 إلى 124] :

إبراهيم عليه السلام واتباع ملته وتعظيم اليهود السبت [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) الإعراب: حَنِيفاً حال من الضمير المرفوع في اتَّبِعْ ولا يحسن أن يكون حالا من إِبْراهِيمَ لأنه مضاف إليه. البلاغة: كانَ أُمَّةً أي كان رجلا جامعا للخير، كالأمة والجماعة لا تصافه بأوصاف كثيرة. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً التفات عن الغيبة إلى التكلم، زيادة في تعظيم أمره. المفردات اللغوية: أُمَّةً إماما قدوة جامعا لخصال الخير، والأصل في الأمة: الجماعة الكثيرة، وسمي إبراهيم بذلك لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرقة في أشخاص كثيرة، كما قال أبو نواس مادحا الرشيد: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ولأنه عليه السلام كان وحده مؤمنا، وكان سائر الناس كفارا. قانِتاً مطيعا لله قائما بأمره. حَنِيفاً مائلا عن الدين الباطل إلى الدين الحق القيم. وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما زعموا، فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة؟ اجْتَباهُ اصطفاه للنبوة. وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في الدعوة

المناسبة:

إلى الله. وَآتَيْناهُ فيه التفات عن الغيبة. حَسَنَةً هي الثناء الحسن ومحبة أهل الأديان جميعا له. لَمِنَ الصَّالِحِينَ الذين لهم الدرجات العلى، من أهل الجنة، كما سأله بقوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد، وثُمَّ: إما لتعظيمه والتنبيه على أن أجل ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملته، أو لتراخي أيامه. أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أن اتبع دين إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه بالرفق، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى، والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة الموحدين. وكرر ردا على زعم اليهود والنصارى أنهم كانوا على دينه. إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ فرض تعظيمه، والتخلي فيه للعبادة، وترك الصيد فيه. عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي على نبيهم، وهم اليهود، أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة، فقالوا: لا نريده، وإنما نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فشدّد الله عليهم، وألزمهم السبت. وقيل: معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، فأحلوا الصيد فيه تارة، وحرموه أخرى، واحتالوا له الحيل. وذكر ذلك هنا لتهديد المشركين كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمجازاة على الاختلاف، أو بمجازاة كل فريق من الآبين السبت والمعظمين له بما يستحقه، من إثابة الطائع، وتعذيب العاصي بانتهاك حرمته. المناسبة: بعد أن أبطل الله تعالى مذاهب المشركين من إثبات الشركاء لله، والطعن في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتحليل أشياء حرمها الله وتحريم أشياء أباحها الله، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام، مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به، بعد إبطال ذلك كله، ختم تعالى هذه السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين، وقدرة الأصوليين، ليتأسوا به إن كانوا صادقين في اتباع ملته، ولحمل المشركين على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، والاقتداء به لاتصافه بصفات تسع. وبعد وصف إبراهيم بهذه الصفات العالية، أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم- ملة التوحيد.

التفسير والبيان:

وبما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم اختار يوم الجمعة، فذلك يدل على أن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وهذا يستدعي السؤال: لم اختار اليهود يوم السبت؟ فأجاب الله تعالى بأن تعظيم السبت واتخاذه للعبادة لم يكن من شرع إبراهيم ولا دينه، وإنما كان مفروضا على اليهود الذين اختلفوا على نبيهم موسى عليه السلام في شأن تعظيمه، حيث أمرهم بالجمعة، فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم، وليس اختلافهم في أن منهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك، وهذا هو ما صححه الرازي «1» . التفسير والبيان: يمدح الله تعالى إبراهيم إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية، فيقول: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ ... أي إنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بتسع صفات هي: 1- إنه كان أمة، أي كان وحده أمة من الأمم، لكماله في صفات الخير. والمعنى: أنه الإمام الذي يقتدى به. 2- كونه قانتا لله، أي خاشعا مطيعا لله قائما بأمره. 3- كونه حنيفا، أي مائلا عن الشرك والباطل قصدا إلى التوحيد. 4- إنه ما كان من المشركين، بل كان من الموحدين في الصغر والكبر، فهو الذي قال لملك زمانه: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة 2/ 258] وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام 6/ 76] ثم كسر الأصنام حتى ألقوه في النار.

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 137

ونظير الآية قوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 3/ 67] . 5- شاكرا لأنعم الله عليه، والأنعام وإن كان جمع قلة إلا أن المراد به أنه كان شاكرا لجميع نعم الله إن كانت قليلة، فبالأولى الكثيرة، وهذا كما قال تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم 53/ 37] أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به. وهذا تعريض بكل من جحد بأنعم الله مثل قريش وغيرهم. 6- إنه اجتباه ربه، أي اختاره واصطفاه للنبوة، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ [الأنبياء 21/ 51] . 7- إنه هداه إلى صراط مستقيم، أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق، والتنفير عن الدين الباطل، كما قال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام 6/ 153] . 8- وآتاه الله في الدنيا حسنة، أي إن الله حببه إلى جميع الخلق، فكل أهل الأديان يقرّون به، سواء المسلمون واليهود والنصارى، أما كفار قريش وسائر العرب، فلا فخر لهم إلا به، وهذا إجابة لدعائه إذ قال: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] . 9- وإنه في الآخرة لمن الصالحين أي في زمرتهم، تحقيقا لدعائه رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء 26/ 83] وكونه مع الصالحين لا ينفي أن يكون من أعلى مقامات الصالحين لقوله سبحانه: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الأنعام 6/ 83] . وبعد تعداد هذه الصفات العالية لإبراهيم عليه السلام، أمر الله نبيه باتباعه، فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.. وبناء على كماله وصحة توحيده

وطريقته، أوحينا إليك أيها الرسول أن اتبع ملة إبراهيم الحنيف المائل عن كل الأديان والشرك والباطل إلى دين التوحيد، وما كان مشركا، وذكر ذلك لزيادة التأكيد، وهو يدل على أن اتباع ملة إبراهيم إنما هو في الأصول أي الدعوة إلى التوحيد وفضائل الأخلاق والأعمال. أما الفروع فقد تختلف لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] وذلك حسب تطور الأزمنة واكتمال العقل والنضج الإنساني، ومراعاة أحوال الأمم والشعوب. وذكر ثُمَّ في قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يدل على تعظيم منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدلالة على أن أشرف كرامة وأجل نعمة لإبراهيم الخليل اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملته. ومتابعة إبراهيم تقتضي كونه اختار يوم الجمعة للعبادة، كما اختاره النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة وتمت النعمة فيه على عباده، أما تعظيم السبت عند اليهود فأجاب تعالى عنه بقوله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وقد اختاروه لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات التي كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة. أي إنما جعل تعظيم السبت مفروضا على اليهود الذين اختلفوا على نبيهم موسى في شأن تعظيمه، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فكان اختلافهم في السبت اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله، وليس اختلافهم فيه في أن منهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك، كما صحح الرازي «1» . وقال الزمخشري: المعنى إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على اليهود المختلفين فيه، وهو أنهم أحلوا الصيد فيه تارة، وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، بعد أن حتم الله عليهم الصبر عن

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 137 [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

الصيد فيه وتعظيمه. والمقصود هو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره، والخالعين ربقة طاعته، فالله يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلّين تارة، ومحرّمين أخرى «1» . وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. أي وإن الله ليفصل بين الفريقين فيما اختلفوا فيه، ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب. والظاهر لدي هو التأويل الأول، قال مجاهد في قوله: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ..: اتبعوه وتركوا الجمعة. والمراد بقوله: اخْتَلَفُوا فِيهِ يوم الجمعة، اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. وظل اليهود متمسكين بتعظيم السبت حتى بعث الله عيسى ابن مريم فيقال: إنه حوّلهم إلى يوم الأحد. ويقال: إنه ظل معظما السبت، ولكن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد، مخالفة لليهود، كما تحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة. فقه الحياة أو الأحكام: 1- إن وصف إبراهيم عليه السلام بتسع صفات عالية وشريفة، يقتضي الاقتداء به، والقصد من ذلك دعوة مشركي العرب إلى ملة إبراهيم الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع الإلهية إذ كان إبراهيم أباهم الذي يفتخرون به، ويعترفون بحسن طريقته، ويقرون بوجوب الاقتداء به، وهو باني البيت الذي به عزهم. 2- أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم في عقائد الشرع وأصوله من الدعوة إلى

_ (1) تفسير الكشاف: 2/ 221

توحيد الله والتحلي بفضائل الأخلاق، لا اتباعه في الفروع لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] . 3- الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم، فقال: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 90] وقال هنا: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ. 4- لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه تعظيم السبت، وإنما كان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال، وترك التبسط في المعاش، بسبب اختلافهم فيه. 5- إن الله تعالى لم يعين يوما للتفرغ فيه للعبادة، وإنما أمر بتعظيم يوم في الأسبوع، فعينت اليهود السبت لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق، فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعيّن الله لهذه الأمة يوم الجمعة، من غير تفويض إلى اجتهادهم، فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثبت في الصحيحين، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد» . ولفظ مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضي بينهم يوم القيامة» .

أسس الدعوة إلى الدين وجعل العقاب بالمثل والصبر على المصاب [سورة النحل (16) الآيات 125 إلى 128] :

6- إن المقصود من آية السبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف فيه، فيشدّد عليهم كما شدّد على اليهود. أسس الدعوة إلى الدين وجعل العقاب بالمثل والصبر على المصاب [سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) الإعراب: فِي ضَيْقٍ قرئ بفتح الضاد وكسرها، والضّيق بالفتح: المصدر، والضّيق بالكسر: الاسم. المفردات اللغوية: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ادع يا محمد الناس إلى دين الله بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المواعظ والعبر النافعة والقول الرقيق. قال البيضاوي: والأولى- أي الحكمة- لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق، والثانية- أي الموعظة- لدعوة عوامهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار أيسر الوجوه وأقوم الأدلة وأشهر المقدمات، فإن ذلك أنفع في تسكين ثورتهم وتبيين شغبهم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. أي إنما عليك البلاغ والدعوة، وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما، فليس إليك، بل الله عالم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي لهم. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ فيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني، وليس له أن يجاوزه، وفيه أيضا الحث على العفو تعريضا بقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ وتصريحا على الوجه الآكد بقوله: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لهو، أي الصبر خير كله من الانتقام. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي واصبر يا محمد وما صبرك إلا بتوفيق الله، وتثبيته، وهذا

سبب النزول نزول الآية (126) :

تصريح بالأمر به لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه أولى الناس به، لزيادة علمه بالله، ووثوقه عليه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين إن لم يؤمنوا، لحرصك على إيمانهم، أو على المؤمنين وما فعل بهم يوم أحد وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ لا تك في ضيق صدر من مكرهم، أي لا تهتم بمكرهم، فأنا ناصرك عليهم مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم من طاعة وصبر، بالعون والنصر، والولاية والفضل. سبب النزول: نزول الآية (126) : وَإِنْ عاقَبْتُمْ: أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والبزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة، حين استشهد، وقد مثّل به فقال: لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف، بخواتيم سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة، فكفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمسك عما أراد. وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي بن كعب قال: لما كان أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، ومنهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم، فما كان فتح مكة، أنزل الله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ الآية. قال السيوطي: وظاهر هذا تأخير نزولها- أي السورة- إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد، وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولا بمكة، ثم ثانيا بأحد، وثالثا يوم الفتح، تذكيرا من الله لعباده. والخلاصة: إن هذه الآية مدنية في رأي جمهور المفسرين، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السّير.

فضيلة هذه الآيات:

فضيلة هذه الآيات: قيل لهرم بن حبّان حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية من المال، ولا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ... المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع إبراهيم عليه السلام، بيّن الشيء الذي أمره بمتابعته، وهو دعوة الناس إلى الدين بأحد طرق ثلاث: وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن. والدعوة إلى دين الله وشرعه تكون بتلطف، وهو أن يسمع المدعو الحكمة: وهو الكلام الصواب القريب، الواقع من النفس أجمل موقع. فالآية متصلة بما قبلها اتصالا حسنا، لتدرج الآيات من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ثم أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف، وجعل القصاص بالمثل، ثم صرح تعالى بالأمر بالصبر على المشاق والمصائب، والصبر بتوفيق الله ومعونته، هو مفتاح الفرج. التفسير والبيان: الدعوة إلى دين الله وتوحيده أو الاعلام بها أمر ضروري للعلم بها، لذا كانت هي المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام، فأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الناس إلى الله بالحكمة قائلا: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ.. أي ادع أيها الرسول الناس إلى شريعة ربك، وهي الإسلام بالحكمة، أي بالقول المحكم، والموعظة الحسنة، أي بالعبر والزواجر التي تؤثر بها في قلوبهم، ذكّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى. وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من

غيرها، ومن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، واصفح عمن أساء في القول، وترفّق بهم في الخطاب، وقابل السوء بالحسنى، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت، وسب الخصم أو الأذى، كما قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية [العنكبوت 29/ 46] . فهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بلين الجانب ولطف الخطاب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] فعلى كل داعية امتثال هذا الأمر الإلهي في دعوته. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي قد علم الله الشقيّ منهم والسعيد، ومن حاد عن منهج الحق، ومن اهتدى إليه، وهو مجازيهم على ضلالهم واهتدائهم حين لقاء ربهم، فله الجزاء، لا إليك يا محمد ولا إلى غيرك، وليس عليك هداهم، إنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب، كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] . والآية مشتملة على وعد ووعيد. ومن رفق النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة ما رواه أبو أمامة: أن غلاما شابا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قربوه إذن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبّه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبّه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبّونه لأخواتهم.

فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه. وبعد أن أمر سبحانه وتعالى بالرفق في الدعوة والخطاب، أمر بالعدل والإنصاف في العقاب، والمماثلة في استيفاء الحق إذ قد تكون الدعوة سببا في إغاظة الآخرين، وإقدامهم على القتل أو الضرب أو الشتم، فقال سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ... أي وإن عاقبتم المسيء أيها المؤمنون، فعاقبوه بمثل جرمه، بلا زيادة ولا تجاوز للحدود. وإن أخذ رجل منكم شيئا، فخذوا مثله، فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به. وقوله: عُوقِبْتُمْ بِهِ إنما سماه الله عقابا على سبيل المشاكلة لأن أصل العقاب المجازاة على الفعل، فالفعل في ابتداء الأمر ليس عقابا. ثم دعا تعالى إلى الترفع عن العقاب والتسامي عن المقابلة والجزاء بالمثل، فقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. أي ولئن صبرتم عن المقابلة بالمثل، وتجاوزتم عن الإساءة، وصفحتم، واحتسبتم الثواب والأجر على ما نالكم من ظلم، فالله يتولى عقابه، والصبر خير للصابرين من الانتقام لأن انتقام الله أشد. فقوله لَهُوَ يعود الضمير إلى المصدر في قوله: صَبَرْتُمْ. والمراد بالمصدر: إما الجنس أي جنس الصبر خير، وإما صبركم، أي لصبركم خير لكم، فوضع لِلصَّابِرِينَ موضع لكم ثناء عليهم. ثم أمر الله نبيه صراحة بالصبر بصفة عامة بعد أن ذكر حسن عاقبته، فقال: وَاصْبِرْ، وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي واصبر على ما أصابك من أذى في

سبيل الدعوة، وما صبرك إلا بعون الله وحسن توفيقه ومشيئته، أي لما كان الصبر شاقا، ذكر ما يعين عليه، فالجأ إلى الله في طلب الصبر، والتثبيت في الأمر. وقوله: وَاصْبِرْ.. تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته. وهو تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما ناله من أذى قومه، وتثبيت له. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي ولا تجزع على إعراض المشركين وكل من خالفك، فإن الله قدّر ذلك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فترك الحزن مما يستعان به على الصبر. وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي لا تكن في غم وضيق صدر من مكرهم وتدبيرهم الكيد لك، وإجهاد أنفسهم في عداوتك، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك، كما قال تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف 7/ 2] وقال: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ، أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود 11/ 12] . إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا.. أي إن الله مع المتقين الذين تركوا محارمه، المجتنبين معاصيه بالنصر والمعونة والتأييد، ومع المحسنين أعمالهم برعاية الفرائض، والتزام الطاعة، وأداء الحقوق. والصبر: من التقوى والإحسان. فقوله: الَّذِينَ اتَّقَوْا أي تركوا محارمه، وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي فعلوا الطاعات. وهذه معيّة خاصة، يراد بها الإعانة والتأييد والهداية، كقوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال 8/ 12] وقوله لموسى وهرون: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للصديق، وهما في الغار: لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة 9/ 40] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وهناك معيّة عامة بالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد 57/ 4] وقوله: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة 58/ 7] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- على من يدعو الناس إلى دين الله اتباع أحد هذه الطرق الثلاث: وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن. وعلى الداعية أيضا أن يكون شجاعا في الحق، فلا يهن، صارما في الصدق، فلا يضعف، مخلصا متفانيا في مبدئه، فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الناس. وأن يصبر في دعوته جاءت قريش إلى أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما شاء من مال، ويترك ما يدعو إليه، فذكر أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فبكى وقال: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه» . 2- لا يتعلق حصول الهداية بالداعية، فهو تعالى أعلم بالضالين، وأعلم بالمهتدين. 3- العقاب يكون بالمثل دون زيادة، فالمظلوم منهي عن استيفاء الزيادة من الظالم. واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في أخذ مال، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، محتجين بهذه الآية وعموم لفظها: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.

وقال مالك وجماعة معه: لا يجوز له ذلك لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الدارقطني- «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكّن الآخر من زوجة الثاني، بأن تركها عنده وسافر فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأمر، فقال له: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . 4- دلت آية: بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب. 5- سمّى الله تعالى الأذى في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك من طريق المشاكلة، ليستوي اللفظان، وتتجانس ديباجة القول، فالأول مجاز والثاني حقيقة. هذا بعكس قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران 3/ 54] وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة 2/ 15] فإن الفعل الثاني أي من الله هو المجاز هنا، والأول هو الحقيقة، كما قال ابن عطية. 6- التحلي بالصبر فضيلة أمر الله بها. قال ابن زيد عن آية: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ: هي منسوخة بآية القتال. ولكن جمهور الناس على أنها محكمة، أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عوقبوا به من المثلة. 7- إن الله نصير المتقين الذين تركوا الفواحش والمعاصي ومؤيدهم ومعينهم، وهو أيضا نصير المحسنين الذين فعلوا الطاعات. تم هذا الجزء ولله الحمد

سورة الإسراء:

[الجزء الخامس عشر] بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الإسراء مكية، وهي مائة وإحدى عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الإسراء لافتتاحها بمعجزة الإسراء للنبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليلا، كما سميت أيضا سورة بني إسرائيل، لإيرادها قصة تشردهم في الأرض مرتين بسبب فسادهم: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [4- 8] . فضلها: أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزّمر» . وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود «أنه قال في بني إسرائيل- أي هذه السورة- والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن من العتاق الأوّل، وهن من تلادي» أي فهي مشتركة في قدم النزول، وكونها مكيات، واشتمالها على القصص. مناسبتها لما قبلها: يظهر وجه ارتباطها بسورة النحل من عدة نواح: 1- إنه تعالى بعد أن قال في آخر سورة النحل: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى

ما اشتملت عليه السورة:

الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم، وذكر جميع ما شرعه لهم في التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل» . 2- بعد أن أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين في ختام سورة النحل بنسبته إلى الكذب والسحر والشعر، سلّاه هنا، وأبان شرفه وسمو منزلته عند ربه بالإسراء، وافتتح السورة بذكره تشريفا له، وتعظيما للمسجد الأقصى الذي أشير إلى قصة تخريبه. 3- في السورتين بيان نعم الله الكثيرة على الإنسان، حتى سميت سورة النحل «سورة النعم» وفصلت هنا أنواع النعم العامة والخاصة، كما في الآيات [9- 12] و [70] . 4- في سورة النحل أبان تعالى أن القرآن العظيم من عنده، لا من عند بشر، وفي هذه السورة ذكر الهدف الجوهري من ذلك القرآن. 5- في سورة النحل ذكر تعالى قواعد الاستفادة من المخلوقات الأرضية، وفي هذه السورة ذكر قواعد الحياة الاجتماعية من بر الأبوين، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم من غير تقتير ولا إسراف، وتحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، وإبطال التقليد من غير علم. ما اشتملت عليه السورة: 1- تضمنت السورة الإخبار عن حدث عظيم ومعجزة لخاتم الأنبياء والمرسلين وهي معجزة الإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل، والتي هي دليل باهر على قدرة الله عز وجل، وتكريم إلهي لهذا النبي صلّى الله عليه وسلم. 2- وأخبرت عن قصة بني إسرائيل في حالي الصلاح والفساد، بإعزازهم حال

الاستقامة وإمدادهم بالأموال والبنين، وتشردهم في الأرض مرتين بسبب عصيانهم وإفسادهم، وتخريب مسجدهم. ثم عودهم إلى الإفساد باستفزازهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وإرادتهم إخراجه من المدينة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [76] . 3- وأبانت بعض الأدلة الكونية على قدرة الله وعظمته ووحدانيته، مثل آية وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. [12] . 4- وضعت هذه السورة أصول الحياة الاجتماعية القائمة على التحلي بالأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة، وذلك في الآيات: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... [23- 39] . 5- نددت السورة بنسبة المشركين البنات إلى الله زاعمين أن البنات من الملائكة: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [40] ثم أنكرت عليهم وجود آلهة مع الله [41- 44] ثم فندت مزاعمهم بإنكار البعث والنشور [49- 52] [98- 99] وحذرت النبي صلّى الله عليه وسلم من موافقته المشركين في بعض معتقداتهم [73- 76] . 6- أوضحت السورة سبب عدم إنزال الأدلة الحسية الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم [الآية 59] ، ومدى تعنت المشركين في إنزال آيات اقترحوها غير القرآن من تفجير الأنهار، وجعل مكة حدائق وبساتين، وإسقاط قطع من السماء، والإتيان بوفود الملائكة، وإيجاد بيت من ذهب، والصعود في السماء [الآيات 89- 97] . 7- أنبأت السورة عن قدسية مهمة القرآن وسمو غاياته: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [9] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله [88] مما يدل على إعجازه.

8- أعلنت السورة مبدأ تكريم الإنسان بأمر الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس [61- 65] وتكريم بني آدم ورزقهم من الطيبات [70] . 9- عددت أنواعا جليلة من نعم الله على عباده: [12- 17] ثم لوم الإنسان على عدم الشكر: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ.. [83] ومن أخص النعم: هبة الروح والحياة [85] . 10- عقدت مقارنة بين من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [18- 21] . 11- ذكرت أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة والتهجد في الليل [78- 79] ودخوله المدينة وخروجه من مكة [80] . 12- أشارت إلى جزء من قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل [101- 104] . 13- أبانت حكمة نزول القرآن منجمّا (مفرقا بحسب الوقائع والحوادث والمناسبات) [105- 106] . 14- ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد، والناصر والمعين، واتصاف الله بالأسماء الحسنى التي أرشدنا إلى الدعاء بها [110- 111] . والخلاصة: إن السورة اهتمت بترسيخ أصول العقيدة والدين كسائر السور المكية، من إثبات التوحيد، والرسالة والبعث، وإبراز شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتأييده بالمعجزات الكافية للدلالة على صدقه، وتفنيد شبهات كثيرة للمشركين.

الإسراء وإنزال التوراة على موسى [سورة الإسراء (17) الآيات 1 إلى 3] :

الإسراء وإنزال التوراة على موسى [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) الإعراب: سُبْحانَ منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحان، ثم نزل سُبْحانَ منزلة الفعل، فسدّ مسدّه. لَيْلًا منصوب على الظرف. أَلَّا تَتَّخِذُوا أي قلنا لهم: لا تتخذوا، وحذف القول كثير في كلامهم، وتكون «أن» على هذا زائدة، ويجوز أن تجعل «أن» بمعنى «أي» فيكون تقديره: وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا، أي لا تتخذوا، فيكون أَلَّا تَتَّخِذُوا تفسيرا لهدى. ولا يمتنع أن يكون التقدير: وجعلناه هدى لبني إسرائيل بألا تتخذوا. وقرئ بالياء، ويكون المعنى: جعلناه لهم هدى، لئلا يتخذوا وكيلا من دوني. ذُرِّيَّةَ بالنصب إما بدل من وَكِيلًا أو منصوب على النداء، أو منصوب على أنه مفعول أول لتتخذوا، ووَكِيلًا: المفعول الثاني، أو منصوب بتقدير: أعني، أو على الاختصاص. ومن قرأ بالرفع فهو بدل من واو أَلَّا تَتَّخِذُوا. البلاغة: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى براعة استهلال لأنه لما كان الإسراء أمرا خارقا للعادة، بدأ السورة بما يشير إلى كمال القدرة وتنزهه تعالى عن صفات النقص. بِعَبْدِهِ إضافة تشريف وتكريم.

المفردات اللغوية:

لِنُرِيَهُ فيه التفات عن الغيبة إلى التكلم، لتعظيم تلك البركات الدينية والدنيوية والآيات. وَآتَيْنا مُوسَى التفات أيضا عن الغيبة إلى الحضور. المفردات اللغوية: سُبْحانَ اسم علم كعثمان للرجل بمعنى التسبيح (المصدر) الذي هو التنزيه عن كل صفات العجز والنقص، مما لا يليق بجلال الله وكماله أَسْرى وسرى: سار بالليل خاصة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، وحكمة الإسراء لبيت المقدس: أنه مجمع أرواح الأنبياء، وموطن نزول الوحي على الرسل والأنبياء، فشرفه الله بزيارته، وصلى بالأنبياء إماما. بِعَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلم، والعبد يشمل الروح والجسد معا، وقد وصفه الله هنا بالعبودية لأنه أشرف المقامات، كما وصفه في مقام الوحي بالوصف نفسه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم 53/ 10] وكذلك وصفه بالوصف ذاته في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن 72/ 19] . لَيْلًا فائدة ذكره: الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي مسجد مكة بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق» . أو المراد به الحرم المكي كله أي مكة، وسماه المسجد الحرام لأن كله مسجد، لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ، بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة عليها، وقال: «مثل لي النبيون، فصليت بهم» . الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيت المقدس، ووصف بالأقصى، لبعده بالنظر لمن هو في الحجاز الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي، ومتعبد الأنبياء من لدن موسى عليه السلام، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا عجائب قدرتنا، كذهابه في برهة من الليل، مسيرة شهر، ومشاهدته بيت المقدس، وتمثل الأنبياء عليهم السلام له، ووقوفه على مقاماتهم السَّمِيعُ لأقوال النبي صلّى الله عليه وسلم الْبَصِيرُ بأفعاله، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك، فاجتمع بالأنبياء، وعرج إلى السماء، ورأى عجائب الملكوت، وناجى ربه تعالى. وقال ابن عطية: هذا وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلم في أمر الإسراء، أي هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم. وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة أَلَّا تَتَّخِذُوا أي لئلا تتخذوا، أو بألا تتخذوا، أو على ألا تتخذوا، ومن قرأ بالياء فهو بمعنى: لئلا يتخذوا وَكِيلًا ربا أو كفيلا يفوضون إليه أمرهم، دون غيره مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر، يحمد الله تعالى في جميع أحواله.

سبب نزول آية الإسراء:

سبب نزول آية الإسراء: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذيبهم له، فأنزل الله ذلك تصديقا له. فبعد أن عاد النبي صلّى الله عليه وسلم من الإسراء والمعراج، خرج إلى المسجد الحرام، وأخبر به قريشا، فتعجبوا منه لاستحالة ذلك في نظرهم، وارتد ناس ممن آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: إن كان قال، لقد صدق، فقالوا: تصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي «الصديق» . واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس، فجلّي له، فطفق ينظر إليه، وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق «1» ، فخرجوا ينشدون العير إلى الثنية، فصادفوا العير، كما أخبر، ثم لم يؤمنوا، وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين. رأي العلماء في الحادث: الأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجبت قريش واستحالوه. قال أبو حيان: والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه، ولذلك كذبت قريش، وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانئ قالت: لا تحدّث الناس بها، فيكذبوك، ولو كان مناما، ما استنكر ذلك، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة «2» .

_ (1) الجمل الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحما، وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره. (2) البحر المحيط: 6/ 5.

التفسير والبيان:

وما روي عن عائشة ومعاوية: أنه كان مناما فلم تثبت صحته، ولو صح لم يكن في قولهما حجة لأنهما لم يشاهدا الحادث، لصغر عائشة، وكفر معاوية إذ ذاك، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا حدثا به عنه. ومناسبة آية وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لما قبلها: أنه لما ذكر تشريف النبي صلّى الله عليه وسلم وإكرامه بالإسراء، وإراءته الآيات، ذكر تشريف موسى وإكرامه بإيتائه التوراة من قبله. التفسير والبيان: أنزّه الله تنزيها من كل سوء، الذي أسرى بعبده محمد صلّى الله عليه وسلم في جزء من الليل، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، وعاد إلى بلده في ليلته، وأبرئه تبرئة تامة عن كل صفات العجز والنقص وعما يقوله المشركون من وجود شريك أو ولد له، وأثبت له القدرة الكاملة الفائقة، فهو القادر على تحقيق ما هو أغرب من الخيال والتصور، فلا غرابة إن أسرى بعبده تلك المسافة البعيدة في جزء من الزمن غير طويل، تشريفا لنبيه، ورفعا لقدره وإعلاء لمجده، ليكون معجزة دائمة له مع مرور الزمان. والمراد بِعَبْدِهِ بإجماع المفسرين محمد عليه الصلاة والسلام، وأتى بقوله لَيْلًا بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل لأن التنكير يدل على معنى البعضية، والمسافة من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة بحسب وسائط النقل القديمة، وذلك قبل الهجرة بسنة، كما قال مقاتل «1» ، وذكر الحربي: أنه أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة.

_ (1) وهو قول الزهري وعروة، فيكون الإسراء في شهر ربيع الأول. وأورد الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته حديثا لا يصح سنده أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب (البداية والنهاية لابن كثير: 3/ 108- 109) .

وروى ابن سعد في طبقاته أن الإسراء كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. والمكان الذي أسري به منه: هو المسجد الحرام بعينه، كما يدل عليه ظاهر لفظ القرآن، وما روي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق» . وقال الأكثرون: المراد بالمسجد الحرام: الحرم لإحاطته بالمسجد، والحرم كله مسجد، كما قال ابن عباس، وقد أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب سنة 621 م. والمسجد الأقصى بالاتفاق: هو بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة. والأكثرون من المسلمين اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. وفي رأي ضعيف: أنه ما أسري إلا بروحه، وذلك محكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية. والأصح هو الرأي الأول وأنه تعالى أسرى بروح محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وجسده، من مكة إلى بيت المقدس، لأن كلمة العبد في قوله: بِعَبْدِهِ اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح، ولأن الخبر المروي عن أنس بن مالك وهو الحديث المشهور المروي في الصحاح عن المعراج والإسراء يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات العلا. والخلاصة: أن الآية هنا دالة قطعا على إثبات الإسراء، وآية سورة النجم دالة على المعراج: وهو العروج والصعود إلى السموات، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، بعد وصوله إلى بيت المقدس. وقد وصف الله المسجد الأقصى بأنه مبارك ما حوله، والبركة تشمل بركات

الدين والدنيا، أما الأولى فهو أنه مهبط الأنبياء، وأما الثانية فهو إحاطته بخيرات الدنيا، لما اشتمل عليه من أنهار وأشجار وأثمار تكون سببا في توفير المعايش والأقوات. والهدف من الإسراء: أن يري الله عبده آياته الكبرى، وأدلته العظمى على وجوده ووحدانيته وعظم قدرته، فكانت فائدة الإسراء مختصة بالله تعالى وعائدة إليه على سبيل التعيين. ولا عجب في ذلك كله، فالله سبحانه هو السميع لكل قول، البصير بكل نفس، الذي يضع الأمور في مواضعها على وفق الحكمة، وبمقتضى الحق والعدل. ومن ذلك: سماعه أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه، واستهزاؤهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم في إسرائه من مكة إلى القدس. وبصره بما يفعل أولئك المشركون، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته «1» . وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ.. بعد أن ذكر الله إكرام محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من نسل إسماعيل بالإسراء وإمامة الأنبياء في المسجد الأقصى، ذكر في هذه الآية إكرام موسى عليه السلام قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالكتاب الذي آتاه وأعطاه إياه، وهو التوراة، الذي جعله الله هدى وهداية، ليخرج بني إسرائيل بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق، وقلنا: لا تتخذوا من دوني وكيلا، أي لا تتخذوا من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم، فقوله: وَكِيلًا معناه: ربا تكلون إليه أموركم.

_ (1) يلاحظ أن الاية انتقل فيها من الغيبية إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبية، فقوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ في ذكر الله على سبيل الغيبة، وقوله: بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا انتقال إلى الحضور، وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على الغيبة. ثم انتقل إلى الحضور بقوله: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يدل على الحضور أي الخطاب. وهذا يسمى الالتفات.

فقه الحياة أو الأحكام:

وبين الإسراء بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس، وإيتاء موسى التوراة بمسيره إلى الطور تناسب واضح. ثم أبان الله تعالى تشريفه لبني إسرائيل وإتمام نعمته عليهم، لحملهم على اتباع الرسل، فقال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ.. أي يا ذرية أو نسل وحفدة أولئك الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير، تشبّهوا بأصولكم، فأنتم أولى الناس بالتوحيد واتباع سيرة الأنبياء والمرسلين، وفي مقدمتهم أبوكم نوح عليه السلام الذي كان عبدا مبالغا في الشكر لنعم الله وعرفان قدره وعظمته، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله، فاقتفوا أثره، واتبعوا منهجه وسنته، واقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به. ووصف نوح بكونه عَبْداً ووصف نبينا محمد بأنه «عبد» دليل واضح على مرتبة الأنبياء، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لا يصح وصفها بغير حقيقتها، ولا وضع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي وهو كونه عبدا لله، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه، خلافا لما وصفت به النصارى المسيح، ووضعوه في غير موضعه الصحيح. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ثبوت حادثة الإسراء بنص القرآن الكريم بدلالة قطعية، وثبت الإسراء أيضا في جميع مصنفات الحديث، وروي عن عشرين صحابيا، فهو من المتواتر. روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أتيت بالبراق- وهو دابة، أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل،

يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء..» الحديث. وروى مسلم أيضا حديثا آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى بالأنبياء عليهم السلام وفيه: «.. فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، فسلّم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام» . 2- كان الإسراء بالروح والجسد يقظة راكبا البراق، لا في الرؤيا والمنام، بدليل نص الآية بِعَبْدِهِ وهو مجموع الروح والجسد، ولو كان مناما لقال: «بروح عبده» ولم يقل: بِعَبْدِهِ، وقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم 53/ 17] يدل على ذلك، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبته قريش فيما أخبر به، حتى ارتدّ أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر «1» . وأما المعراج أو العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش، فلا تدل هذه الآية عليه، وإنما تدل عليه أوائل سورة النجم «2» . والخلاصة: إن تلك الرؤيا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كانت رؤيا عيان، لا رؤيا منام.

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 208- 209. (2) تفسير الرازي: 20/ 153.

وتاريخ الإسراء مختلف فيه، والظاهر أنه كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة. ولا خلاف بين العلماء وأهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وذلك منصوص عليه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما «1» . وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» . وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» . 3- إن المقصود من الإسراء والمعراج أن يري الله نبيه الآيات العظمى الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته، ومن تلك الآيات: الجنة والنار وأحوال السموات والكرسي والعرش، فيصبح العالم في عينه حقيرا أمام عظمة الكون، وتقوى نفسه على احتمال المكاره والجهاد في سبيل الله. ومن تلك الآيات التي أراه الله العجائب التي أخبر بها النبي الناس، وإسراؤه في ليلة، وعروجه إلى السماء، ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره. كما أن في الإسراء من مكة إلى بيت المقدس الإشارة إلى وحدة الأنبياء في الرسالة والهدف والتوجه إلى الله تعالى وحده، وإن اختلفت القبلتان، وتمايزت الشرائع، وتمادى الزمان في فترات إرسال الأنبياء عليهم السلام، فهم من أولهم آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم دعاة إلى توحيد الله وعبادته وإلى إصلاح

_ (1) جامع الأصول: 6/ 131.

الإنسان والمجتمع، وإسعاد الفرد والجماعة، وتصحيح مسيرة الناس قاطبة على أساس من الحق والعدل والاستقامة والأخلاق السوية. 4- كرّم الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم بالإسراء والمعراج، وكرم موسى عليه السلام بالكتاب وهو التوراة الذي جعله الله هدى وهداية لبني إسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان بالله تعالى وحده، وتحريم اتخاذ ربّ سواه يتوكلون عليه في أمورهم. والوكيل: من يوكل إليه الأمر. 5- ثم نادى الله سبحانه البشرية قاطبة بأن ينضموا جميعا تحت راية واحدة هي راية الإيمان بالله تعالى وحده، قائلا: يا ذرية من حملنا مع نوح، وهم جميع من على الأرض، ومنهم موسى وقومه من بني إسرائيل: لا تشركوا مع الله إلها آخر. وذكر الله تعالى نوحا لتذكير البشرية بنعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم.. ومقصود الآية: إنكم أيها البشر من ذرية نوح، وقد كان عبدا شكورا موحدا الله تعالى، مقرا بآلائه ونعمه عليه، ولا يرى الخير إلا من عنده، فأنتم أحق بالاقتداء به، دون آبائكم الجهال. ويمكن مما ذكر تلخيص العظات والحقائق التالية: أولا- أدى حادث الإسراء والمعراج في ليلة واحدة إلى تمحيص المؤمنين، وتبيان صادق الإيمان، ومريض القلب منهم. ثانيا- كان اطلاع الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم على آيات الكون الأرضية والسماوية ذات العجائب درسا واقعيا لتعليم الرسول بالمشاهدة والنظر، ومن المعلوم أن التعليم المحسوس أوقع في النفس، وأرسخ في الذهن. ثالثا- إن بشرية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم واحتياجه إلى الهواء في طبقات الجو والسموات

أحوال بني إسرائيل في التاريخ [سورة الإسراء (17) الآيات 4 إلى 8] :

العليا والملأ الأعلى لم تمنع من إتمام تلك الرحلة، لأن قدرة الله تعالى كفيلة بتوفير حاجياته ومتطلباته، كما يزود الآن رواد الفضاء بالأكسجين. وإن في غزو الفضاء الآن لدليلا مؤكدا على صحة الإسراء والمعراج، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم هو أول رواد الفضاء، وأنه تجاوز أسرع ما توصلت إليه محطات الفضاء. رابعا- إن جمع الأنبياء في المسجد الأقصى وإمامة نبينا بهم دليل واضح على وحدة رسالاتهم وختمها برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وبلورتها وانصبابها في شريعته التي ختمت الشرائع السالفة. أحوال بني إسرائيل في التاريخ [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) الإعراب: خِلالَ الدِّيارِ ظرف مكان منصوب، وعامله فَجاسُوا وقرئ: جاسوا وداسوا وهما بمعنى واحد، وحاسوا.

البلاغة:

وَعْدُ الْآخِرَةِ أي المرة الآخرة، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه. وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا كَما: مصدرية ظرفية زمانية، أي وليتبّروا مدّة علوهم، فحذف المضاف، كقولك: أتيتك مقدم الحاج، أي زمن مقدم الحاج، فحذف المضاف. البلاغة: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا جناس اشتقاق. أَحْسَنْتُمْ أَسَأْتُمْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَقَضَيْنا أعلمناهم وأخبرناهم بذلك من طريق الوحي. فِي الْكِتابِ التوراة. لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ أرض الشّام بالمعاصي، وهو جواب قسم محذوف. مَرَّتَيْنِ من الإفساد، أولاهما- مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعيا، وثانيتهما- قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى. وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرنّ عن طاعة الله تعالى، وتبغون بغيا عظيما، وتظلمون الناس. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أولى مرّتي الفساد، ووعد عقاب أولاهما. بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة في الحرب والبطش، وهم بختنصّر وجنوده، وقيل: جالوت الخزري، وقيل: سنحاريب ملك بابل وجنوده. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ تردّدوا وسط دياركم لطلبكم وقتلكم وسببكم، فقتلوا الكبار، وسبوا الصغار، وأحرقوا التوراة، وخرّبوا المسجد الأقصى وبيت المقدس. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا وكان وعد عقابكم نافذا، لا بدّ منه. الْكَرَّةَ الدّولة والغلبة. عَلَيْهِمْ بعد مائة سنة بقتل جالوت. نَفِيراً عشيرة. إِنْ أَحْسَنْتُمْ بالطاعة. أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها. وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد. فَلَها إساءتكم، ووبالها عليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي جاء وعد المرة الآخرة. لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أي ليجعلوها بادية آثار السوء فيها، بأن يحزنوكم بالقتل والسّبي حزنا يظهر في وجوهكم وحذف بعثناهم لدلالة ما ذكر أولا عليه. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس فيخربوه، وهو متعلّق بمحذوف هو: بعثناهم. كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ كما خربوه أول مرة. وَلِيُتَبِّرُوا يهلكوا. ما عَلَوْا ما غلبوا عليه أو استولوا عليه من بلادكم، أو مدة علوهم. تَتْبِيراً هلاكا، وذلك بأن سلّط الله عليهم الفرس، مرة أخرى، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف، اسمه: جوذرز أو خردوس، وقتل منهم ألوفا، وسبى ذريّتهم، وخرّب بيت المقدس. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي وقلنا في الكتاب: عسى ربّكم، بعد المرة الثانية، إن تبتم.

المناسبة:

وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد. عُدْنا إلى العقوبة، وقد عادوا بتكذيب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فسلّط عليهم بقتل قريظة، ونفي بني النضير، وفرض الجزية عليهم. حَصِيراً محبسا وسجنا، لا يقدرون على الخروج منها أبدا، وقيل: بساطا، كما يبسط الحصير. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، لتكون لهم هدى يهتدون بها، ذكر أنهم ما اتبعوا هداها، بل أفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء وسفك الدّماء، فسلّط الله عليهم البابليين بقيادة بختنصّر، فقتلوهم ونهبوا أموالهم، وخربوا بيت المقدس، وسبوا أولادهم ونساءهم، وذلك أول الفسادين وعقابه. ثم لما تابوا، أعاد الله لهم الدولة والغلبة، وأمدّهم بالأموال والبنين، ثم عادوا إلى فسادهم وعصيانهم، فقتلوا زكريا ويحيى عليهما السّلام، فسلّط الله عليهم الفرس، فقتلوهم، وسلبوهم، وخربوا بيت المقدس مرة أخرى، ثم وعدهم الله بالنصر إن أطاعوا، وبالعقاب بنار جهنم إن عصوا وأفسدوا. التفسير والبيان: هذه الآيات بيان لتأريخ بني إسرائيل وإخبار عما يرتكبون من وقائع وأحداث دامغة، ومفاسد عظيمة، والمعنى: وأعلمنا بني إسرائيل وأخبرناهم وأوحينا إليهم وحيا مقضيّا مقطوعا بحصوله فيما أنزلناه في التوراة على موسى أنهم سيفسدون في الأرض: أرض الشام وبيت المقدس أو أرض مصر، أو في كلّ أرض يحلّون فيها مرتين، ويعصون الله، ويخالفون شرع ربّهم في التوراة مخالفتين لا مخالفة واحدة، وهما: الأولى- مخالفة التوراة وتغييرها، وقتل بعض الأنبياء، مثل شعيا عليه السّلام، وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله تعالى.

والثانية- قتل زكريا ويحيى ومحاولة قتل عيسى عليهم السّلام. ثم إنهم يتجبّرون ويطغون ويفجرون ويستعلون على الناس بغير الحق استعلاء عظيما، ويظلمونهم ظلما شديدا، فقوله تعالى: عُلُوًّا كَبِيراً أراد به التّكبر والبغي والطغيان. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما.. أي فإذا حان موعد أولى المرتين من الإفساد، وجاء وعد الفساق ووقت العقاب الموعود به على المرة الأولى، سلّطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد، أي قوة وشدّة وأصحاب عدّة في الحروب وعدد، وهم أهل بابل بقيادة بختنصّر، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه، كما قال ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: هم جند من فارس، والظاهر الرأي الأول، والمهم العبرة والعظة من تسلّط فئة على فئة باغية، ولا يهم بيان الأشخاص والجماعات. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ..، أي أوغلوا في البلاد وتملكوها، وتردّدوا فيها وفي أوساطها ذهابا وإيابا، لا يخافون أحدا، يقتلون ويسلبون وينهبون، ويقتلون العلماء والكبراء، وكان من آثارهم إحراق التوراة، وتخريب بيت المقدس، وسبي عدد كثير من بني إسرائيل، وكان ذلك وعدا منجزا نافذا، وقضاء كائنا لا خلف فيه، أو قضاء حتما جزما لا يقبل النقض والنسخ لأنهم تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء. وكان هذا الدّرس القاسي البليغ محقّقا الثّمرة والغاية، فاتّعظ بنو إسرائيل مما حدث، وثابوا لرشدهم، وعدلوا عن غيّهم وضلالهم، وتمسّكوا بمبادئ كتابهم ودينهم، فكان ذلك مؤذنا بنصر جديد كما قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.. أي ثم أعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم،

ورددنا لكم القوة، وأهلكنا أعداءكم، وجعلناكم أكثر نفيرا، أي عددا من الرجال، وأمددناكم بالأموال والأولاد والسّلاح بفضل طاعة الله والاستقامة على أمره: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران 3/ 140] ولذا قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.. أي إن أحسنتم العمل، فأطعتم الله واتّبعتم أوامره واجتنبتم نواهيه، أو إن أحسنتم بفعل الطاعات، فقد أحسنتم إلى أنفسكم لأنكم بالطاعة تنفعونها، فيفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات، ويدفع عنكم أذى أهل السوء في الدّنيا، ويثيبكم في الآخرة، وإن أسأتم بفعل المحرّمات أسأتم إلى أنفسكم لأنكم بالمعصية تضرّونها، فبشؤم تلك المعاصي يعاقبكم الله بالعقوبات المختلفة، من تسليط الأعداء في الدّنيا، وإيقاع العذاب المهين في الآخرة. وقوله تعالى: فَلَها أي فعليها، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت 41/ 46] . وهذه سنّة الله في خلقه، إن عصوا سلّط الله عليهم القتل والنّهب والسّبي، وإن تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد لهم الدولة، جَزاءً وِفاقاً [النبأ 78: 26] ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41: 46] . فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ... أي فإذا حان موعد المرة الأخيرة، وجاء وقت العقاب على الكرة الثانية من الإفساد والإقدام على قتل زكريا ويحيى عليهما السّلام، أرسلنا أعداءكم ليسوؤا وجوهكم، أي ليظهروا المساءة في وجوهكم بالإهانة والقهر، وليدخلوا المسجد، أي بيت المقدس قاهرين، كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة، وَلِيُتَبِّرُوا، أي يدمّروا ويخرّبوا، ما عَلَوْا، أي ظهروا عليه، تَتْبِيراً، أي تخريبا وهلاكا شديدا، فلا يبقون شيئا من آثار الحضارة والعمران، ويبيدون الأرض ومن عليها، ويهلكون الحرث والزرع والثمر، وقد سلّط الله عليهم في هذه المرة

الفرس، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف المسمى بيردوس أو خردوس، كما ذكر البيضاوي. والخلاصة: إن بختنصّر هو الذي أغار على بني إسرائيل أولا فخرّب بيت المقدس، وكان ذلك في زمن إرميا عليه السّلام، وهذا موافق لتأريخ اليهود، أما في المرة الثانية فإن المغير هو بيردوس ملك بابل، كما ذكر البيضاوي، وهو أسبيانوس، قيصر الروم كما ذكر اليهود في تاريخهم، وكان بين الإغارتين نحو من خمس مائة سنة. ثم فتح الله تعالى باب الأمل أمامهم مرة أخرى، فقال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي لعل ربّكم أن يرحمكم يا بني إسرائيل، ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم في المرة الثانية من تسليط الأعداء عليكم، إن تبتم وأقلعتم عن المعاصي، فيصرفهم عنكم، وقد وفى الله بوعده، فأعزّهم بعد الذّلة، وأعاد لهم الملك، وجعل منهم الأنبياء. ثم أنذرهم الله بقوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، أي وإن عدتم إلى الإفساد والمعاصي في المرة الثالثة، عدنا إلى إذلالكم، وتسليط الأعداء عليكم وعقوبتكم بأشدّ مما مضى في الدّنيا، مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنّكال، ولهذا قال تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً، أي مستقرّا وسجنا لا محيد عنه، كما قال ابن عباس، وقال الحسن البصري: فراشا ومهادا وبساطا، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] ولأن العرب تسمّي البساط الصغير حصيرا. والخلاصة: إن لبني إسرائيل بسبب عصيانهم ذلّ الدّنيا وعذاب جهنّم في الآخرة. وهذا عبرة لكلّ مخالف أوامر الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يأتي: 1- صدق إخبار الله لبني إسرائيل أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي، لما علم الله منهم في علمه السابق الأزلي أنهم أرباب انحراف وفساد وتخريب، والمراد بالفساد: مخالفة أحكام التوراة. 2- تكرر العقاب مرتين والإنقاذ من العذاب والذّل مرتين أيضا فيه رحمة من الله بعباده لأن العقاب قد يكون سبيلا للإصلاح والتّربية والتّهذيب، ولأن التّغلّب على الأزمات والتّخلّص من المهانة والإذلال فيه تجديد للنّفس، وعون على فتح باب الأمل، وطرد اليأس من النّفوس. وقد عوقب اليهود أولا على يد بختنصّر، وثانيا على يد ملك بابل: بيردوس الفارسي، أو قيصر الروم لأنهم في المرة الأولى قتلوا إرميا أو شعيا نبي الله عليه السّلام وجرحوه وحبسوه، وفي المرة الثانية قتلوا يحيى وزكريا عليهما السّلام قتلهما هيردوس أو لاخت أحد ملوك بني إسرائيل، وعزموا على قتل عيسى عليه السّلام، وكان العقاب شديدا في الحالتين، ومن أهم صنوفه إحراق التوراة وهدم بيت المقدس. وكانت النّجاة بإعادة العزّة والدّولة لبني إسرائيل كما كانت بالإمداد بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا ورجالا من عدوّهم لأنهم صاروا بعد الهزيمة الأولى أكثر التزاما للطاعة وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة. 3- إن نفع الإحسان والاستقامة على الطاعة لله عائد للإنسان نفسه، وكذلك سوء الإساءة ومخالفة أوامر الله مردود للإنسان ذاته: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ

ظُلْماً لِلْعِبادِ [غافر 40/ 31] ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 108] . 4- تشير آية إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ إلى أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه لأنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ولو لم يكن جانب الرّحمة غالبا، لما فرق بين التعبيرين «1» . أكّد تعالى ذلك بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فهو وعد من الله بكشف العذاب عنهم إن تابوا وأنابوا إليه. 5- إن عدل الله يقضي بأن من عاد إلى العصيان عاد الله إلى عقابه: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ومن عاد إلى التوبة والرّشد والهداية والاستقامة عادت رحمة الله إليه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ. 6- ليس عذاب العصاة مقصورا على الدّنيا بالإذلال والإهانة والقتل والنّهب والسّبي، وإنما هناك عذاب آخر ادّخره الله لهم في جهنّم، بإحاطة نارها بهم، وجعلها مقرّا ومحبسا وسجنا لهم، أو مهادا وفراشا وبساطا. 7- إن ذكر ما قضي إلى بني إسرائيل دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لمطابقة ما أخبر به القرآن الواقع الحادث.

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 158.

أهداف القرآن الكريم [سورة الإسراء (17) الآيات 9 إلى 11] :

أهداف القرآن الكريم [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 11] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) الإعراب: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ فيه حذف، أي ويدعو الإنسان بالشّر دعاء مثل دعائه بالخير، ثم حذف المصدر وصفته، وأقيم ما أضيفت الصفة إليه مقامه. المفردات اللغوية: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يهدي إلى الطريقة التي هي أعدل وأصوب. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ... عطفا على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أي يبشّر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم وعقاب أعدائهم، أو عطفا على يُبَشِّرُ بإضمار: ويخبر أن أَعْتَدْنا أعددنا. أَلِيماً مؤلما هو النار. وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي يدعو عند غضبه بالشّر على نفسه وأهله وماله. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه له. وَكانَ الْإِنْسانُ جنس الإنسان. عَجُولًا بالدعاء على نفسه، وعدم النّظر في عاقبته. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم وهو الإسراء وأكرم موسى عليه السّلام بالتوراة، وأنها هدى لبني إسرائيل، وما سلط عليهم بذنوبهم من عذاب الدّنيا والآخرة، مما يستدعي ردع العقلاء عن معاصي الله، ذكر ما شرّف الله به رسوله أيضا من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي، وأبان أهدافه من الهداية للطريقة أو الحالة التي هي أقوم، والتّبشير بالثواب العظيم لمن أطاعه، وإنذار الكافرين بالعذاب الأليم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: لم لا تؤمنون بالقرآن يا بني إسرائيل، والقرآن كالتوراة أنزله الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو متّصف بثلاث صفات: الصفة الأولى: أنه يرشد للسبيل التي هي أقوم، فهو يهدي لأقوم الطرق وأوضح السّبل، وإلى الطريقة المثلى التي هي الدّين القيّم، والملّة الحنيفية السمحة التي تقوم على أساس التوحيد الخالص لله، وأنه الفرد الصمد، صاحب الملك، والعزّة والجبروت، المعزّ المذلّ الّذي يحيى ويميت، وتدعو إلى فضائل الأعمال، وإلى خيري الدّنيا والآخرة. فقوله تعالى: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ معناه: الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب. الصفة الثانية: أنه يبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا يوم القيامة، جزاء عملهم. الصفة الثالثة: أنه ينذر الذين لا يصدقون بوجود الله ووحدانيته، ولا بالمعاد والثواب والعقاب، ولا يعملون الخير بأن لهم عذاب جهنم، جزاء ما قدمت أنفسهم. والمعنى أنه تعالى بشّر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، وإطلاق البشارة على البشارة بالعذاب من قبيل التهكّم، كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [ال عمران: 3/ 21] ، أو من إطلاق اسم الشيء على ضدّه، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 42/ 40] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وبعد أن بيّن الله تعالى لبني إسرائيل وغيرهم صفات الهادي وهو القرآن، بيّن حال المهدي وهو الإنسان، ليقوي الترابط بينهما، ويدل على وحدة المهديين بالكتب السماوية، فقال تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ.. أي إن صفة الإنسان العجلة، فيدعو في بعض الأحيان حين الغضب على نفسه أو ولده أو ماله بالشّر، أي بالموت أو الهلاك والدّمار واللعنة، كما يدعو ربّه بالخير، أي بالعافية والسّلامة والرزق، ولو استجيب دعاؤه لهلك، ولكن الله بفضله ورحمته لا يستجيب دعاءه، كما قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس 10/ 11] ، وروى أبو داود عن جابر أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تدعوا على أنفسهكم، ولا أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة، يستجيب فيها» . والذي يحمل الإنسان على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي يتعجل تحصيل المطلوب دون تفكير في عواقبه. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن القرآن الكريم أنزله الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم سبب اهتداء للبشرية قاطبة، يرشدها لأقوم الطرق، وأصح المناهج، وأعدل المسالك، وهي توحيد الله والإيمان برسله، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وأفضل مناهج الحياة. 2- وللقرآن هدف آخر وهو التّبشير والإنذار، تبشير المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحة بالجنّة، وإنذار أعدائهم الكفار بالعقاب في نار جهنم، والقرآن معظمة وعد ووعيد. 3- إن طبع الإنسان القلق والعجلة، فيعجل بسؤال الشرّ كما يعجل بسؤال

التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة الإلهية [سورة الإسراء (17) الآيات 12 إلى 17] :

الخير، فيدعو على نفسه وولده وماله عند الضجر بما لا ينبغي، قائلا: اللهم أهلكه ونحوه، كما يدعو ربّه أن يهب له العافية ويوسّع له في الرّزق، فلو استجاب الله تعالى دعاءه على نفسه بالشّرّ، هلك، لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. ونظير الآية آية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كما تقدّم، نزلت في النّضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة الإلهية [سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 17] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) الإعراب: مَنْشُوراً حال. بِذُنُوبِ متعلق بقوله: خَبِيراً بَصِيراً.

البلاغة:

البلاغة: آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مجاز عقلي لأن النهار لا يبصر، بل يرى فيه، فهو مجاز من إسناد الشيء إلى زمانه. طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أستعير الطائر لعمل الإنسان لأن العرب الذين كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير، سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة. اقْرَأْ كِتابَكَ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال له يوم القيامة: اقرأ كتابك، وكذلك أَمَرْنا مُتْرَفِيها فيه إيجاز بالحذف، أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا. اهْتَدى ضَلَّ بينهما طباق. تَزِرُ وازِرَةٌ جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: آيَتَيْنِ علامتين دالتين على قدرة الله تعالى، بتعاقبهما على نسق واحد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الآية التي هي الليل ممحوّة لا نور فيها، والإضافة فيها للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة أو مبصرة للناس. لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعلموا باختلافهما أو بحركتهما عدد السنوات وجنس الحساب. والفرق بين العدد والحساب: أن العدد إحصاء أمثال الشيء المكونة له، والحساب: إحصاء طائفة معينة يتكون منها الشيء، فالسنة بالنظر إلى أنها أيام (365 يوما) فقط فذلك العدد، وبالنظر إلى تكونها من اثني عشر شهرا، وكل شهر ثلاثون يوما، وكل يوم 24 ساعة، فذلك هو الحساب، كما ذكر الشوكاني في فتح القدير وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء تحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، بيّناه بيانا غير ملتبس. طائِرَهُ عمله من خير أو شر. فِي عُنُقِهِ لزوم الطوق في عنقه إذ اعتادوا التفاؤل بالطير، ويسمونه زجرا، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين، تيمنوا به، وسموه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه، وسموه بارحا، وسموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. هو صحيفة عمله. مَنْشُوراً أي غير مطوي. حَسِيباً محاسبا عادّا يعد عليه أعماله. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي أن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي أن إثمه عليها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وزر نفس أخرى، والوزر:

سبب النزول نزول الآية (15) :

الإثم. مُعَذِّبِينَ أحدا حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يبين له ما يجب عليه. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم، لإنفاذنا قضاءنا السابق. أَمَرْنا مُتْرَفِيها منعميها أي رؤساءها، بالطاعة على لسان رسلنا. فَفَسَقُوا فِيها فخرجوا عن أمرنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بالعذاب. فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أي أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. وَكَمْ أي كثيرا. الْقُرُونِ الأمم. خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنها وظواهرها. سبب النزول: نزول الآية (15) : مَنِ اهْتَدى قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به من نعم الدين على الناس وهو القرآن، أتبعه ببيان ما أنعم عليهم من نعم الدنيا، وهو في ذاته استدلال بالدلائل الواضحة على قدرة الله وحكمته. وبعد أن أبان تعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأوضح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ذكر مبدأ رفيعا ومهما جدا، وهو مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن أعمال الإنسان وأن ذلك المبدأ قد تقرر بعد إرسال الرسل وبيان معالم الهدى، فلا تكليف قبل الشرع، ولا عقاب ولا عذاب قبل البيان والإنذار وأن العقاب العام للقرى والأمم لا يكون إلا بعد الأمر بالطاعات والخيرات، ومخالفة ذلك الأمر، والفسق. التفسير والبيان: وجعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا، وفي

تعاقبهما واختلافهما تحقيق لمصالح الإنسان، ففي الليل سكنه وهدوءه وراحته، وفي النهار حركته وشغله وتقلبه في أنحاء الدنيا للمعيشة والكسب، والصناعة والعمل. وجعلنا ظرف كل من الليل والنهار مناسبا للهدف المنشود والغاية المقصودة، ففي الليل ظلام دامس ومحو للضوء يتلاءم مع راحة النفس والعين والسمع، وفي النهار ضوء ونور يناسب الحركة والعمل وإبصار الأشياء. فهذا امتنان من الله تعالى على خلقه بجعل الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء، وجعل النهار مبصرا، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان. لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي جعلنا تعاقب الليل والنهار لتتمكنوا كيف تتصرفون في أعمالكم، وتطلبون الرزق من الله ربكم الذي يربيكم ويمدكم من فضله وإحسانه شيئا فشيئا، وعلى وفق الزمان الدائر بكم صيفا وشتاء. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعرفوا بتعاقب الليل والنهار عدد الأيام والشهور والأعوام، وتعلموا بحساب الأشهر والليالي والأيام أوقات مصالحكم من الدورات الزراعية، وآجال الديون والإجارات والمعاملات، وأزمان العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، فلو لم يتغاير الليل والنهار، لما تمكن الإنسان من الراحة التامة ليلا واكتساب المعايش والأرزاق نهارا، ولو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف الحساب على نحو صحيح يسير. ونظير الآية قول الله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؟! [القصص 28/ 70- 73]

وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان 25/ 62] وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 5] . وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء لكم به حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد بيناه وشرحناه بيانا نافعا، وشرحا كاملا وافيا، كما قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] وقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل 16/ 89] . وبعد ذكر الزمان وما يقع فيه من أعمال الناس، ذكر تعالى مبدأ التبعية أي المسؤولية عن الأعمال من خير أو شر فقال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي وجعلنا عمل كل إنسان ملازما له لزوم القلادة للعنق إن كان خبيرا، ولزوم الغلّ للعنق لا يفك عنه إن كان شرّا. فالمراد بالطائر: العمل الصادر من الإنسان. والعرب تعبر عن تلازم الشيء بالشيء بما يوضع في العنق، يقال: جعلت هذا في عنقك، أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به. وجعل العمل ملازما للإنسان أمر محتوم وقضاء معلوم، على وفق علم الله الأزلي السابق بالأشياء وبما يصدر عن الناس، وهذا لا يعني الإجبار ونفي الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب، فكل إنسان مخير في اختيار ما هو خير يقتضي ثوابا حسنا وما هو شرّ يقتضي عقابا سيئا. وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ... أي سنخرج لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها. ذكر الحسن البصري حديثا قدسيا: «قال الله: يا بن آدم، بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان: أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك

فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج لك يوم القيامة» . اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ ... ويقال لك حين تلقى كتابك: اقرأ كتابك أي كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. كان الحسن إذا قرأها قال: يا بن آدم، أنصفك- والله- من جعلك حسيب نفسك. والقائل: هو الله تعالى على ألسنة الملائكة. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ... أي إذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب واتبع شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضلّ في عمله وحاد عن شرع الله وكفر به وبرسله، فإنما يضرّ نفسه لأن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، لا يتجاوزه إلى غيره، وعقاب العمل السيء ملازم صاحبه، لا يفارقه. ثم أكد تعالى معنى الشق الثاني بقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، أو لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه. وهذا ردّ واضح على الذين يحرضون غيرهم على ارتكاب المنكر، واقتراف الكفر، ويزعمون أنهم يتحملون عاقبة ذلك. روي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم. وهو ردّ أيضا على الجاهليين الذين كانوا يقولون: نحن لا نعذب في شيء، وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، ويؤكد ذلك قوله تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] . وتقرير مبدأ المسؤولية الشخصية من مفاخر الإسلام ومبادئه التي صححت

مفهوم العقاب عند الرومان والعرب وغيرهم، إذ كانوا يعاقبون غير المجرم. ويتضاعف العقاب والإثم على دعاة الضلال بسبب تأثيرهم في الآخرين، دون إعفاء من يتبعونهم في ضلالهم من الوزر والعقاب، لقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] وقوله سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] فعلى الدعاة إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم غيرهم. وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي لكن مقتضى العدل والحكمة والرحمة أننا لا نعذب أحدا في الدنيا أو الآخرة على فعل شيء أو تركه إلا بعد إنذار، ولا نعاقب الناس إلا بعد إعذار وبعث الرسل إليهم، لإقامة الحجة عليهم بالآيات المبينة للأحكام والحلال والحرام والثواب والعقاب، كما قال تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.. [الملك 67/ 8- 9] وقال عز وجل: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ودعوته إلى الخير، وتحذيره من الشرّ. وأما كيفية وقوع العذاب بعد إرسال الرسل فهي كما أخبر تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ... أي إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال أمرنا مترفيها بالطاعات والخيرات، أي الأمر بالفعل، فإذا خالفوا ذلك الأمر وفسقوا وخرجوا عن الطاعة وتمردوا، حق أو وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم، فدمرناهم تدميرا وأبدناهم إبادة تامة، شملت جميع أهل

تلك البلدة. والمترف: هو المتنعم، وهو أولى بالشكر من غيره وأوجب عليه. ودمرناها: استأصلناها بالهلاك. والإبادة الشاملة بسبب الأمر العام لجميع المكلفين، أغنياء كانوا أو فقراء، مترفين كانوا أو غير مترفين، لكن خصّ الأمر بالمترفين لأنهم القادة وغيرهم تبع لهم، وشأن العامة والأتباع تقليد الكبراء والزعماء دائما. قال ابن عباس في قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها أي سلطنا أشرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو كقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام 6/ 123] . ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ... أي وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام إلى زمانكم لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسله، كما أنتم الآن، وأنتم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى. وهذا وعيد وتهديد لمكذبي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بهم، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذا تنبيه

فقه الحياة أو الأحكام:

على أن الذنوب هي أسباب الدمار والهلاك لا غير، وأن الله عالم بها، ومعاقب عليها. وكل ما ذكر حثّ للعقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، ودفع إلى الجد وعدم الكسل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقص، وتعاقبهما، وضوء النهار وظلمة الليل، دليل على وحدانية الله تعالى ووجوده وكمال علمه وقدرته. 2- ودورة الليل والنهار تعرفنا بعدد السنوات والأشهر والأيام المتماثلة، وتعلمنا حساب المدة المكونة من طوائف ومجموعات، كالسنة المكونة من اثني عشر شهرا، والشهر من ثلاثين يوما، واليوم من أربع وعشرين ساعة. 3- النهار وقت مناسب للعمل والحركة والتقلب في الأرض لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق. 4- كل إنسان معلّق بعمله، وعمله مختص به ولازم له، خيرا أو شرا. 5- إن كتاب الإنسان وسجله الذي يلقاه أمامه يوم القيامة حافل بكل ما قدم وما أخر. وكفى بالإنسان محاسبا لنفسه. قال الحسن البصري: يقرأ الإنسان كتابه أمّيا كان أو غير أمّي. 6- كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه. 7- إقرار مبدأ المسؤولية الشخصية عدلا من الله ورحمة بعباده، فلا يحمل

أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه. قال ابن عباس عن آية: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة: اتبعوني، واكفروا بمحمد، وعليّ أوزاركم، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أن الوليد لا يحمل آثامكم، وإنما إثم كل واحد عليه. أما ما روي عن عائشة رضي الله عنها في الرد على ابن عمر حيث قال النبي في حديث رواه الشيخان: «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» فلا وجه لإنكارها وتخطئتها إذ لا معارضة بين الآية والحديث فإن الحديث محمول على ما إذا كان النّوح من وصية الميت وسنته وبسببه، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة: إذا متّ فانعيني بما أنا أهله ... وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد وقال: إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر 8- لم يترك الله الخلق سدىّ، بل أرسل الرسل، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، وهذا في رأي الجمهور، في حكم الدنيا، بمعنى أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار، ولا يهلك الله القرى قبل ابتعاث الرسل. وقالت المعتزلة بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر. 9- تدل آية وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على أن أهل الفترة (فترة انقطاع الرسل) الذين لم تصلهم رسالة، وماتوا ولم تبلغهم الدعوة وهم أهل الجاهلية وأمثالهم في الجزر النائية الذين لم يسمعوا بالإسلام في زماننا هم ناجون، من أهل الجنة. ومثلهم أولاد المشركين والكفار الذين ماتوا وهم صغار قبل التكليف، وآباؤهم كفار، وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف.

أما الناس بعد البعثة- بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم- فهم كما أبان الغزالي رحمه الله أصناف ثلاثة: الأول- من لم تبلغهم دعوته، ولم يسمعوا به أصلا، فهؤلاء في الجنة. الثاني- من بلغتهم دعوته ومعجزاته ولم يؤمنوا به كالكفار في زماننا، فهؤلاء في النار. الثالث- من بلغتهم دعوته صلّى الله عليه وآله وسلّم بأخبار مكذوبة أو بنحو مشوه، فهؤلاء يرجى لهم الجنة. 10- إن عذاب الاستئصال لا يكون إلا بشيوع المعاصي والذنوب والمنكرات، فإذا أراد الله إهلاك قرية أمر مترفيها وغيرهم بالطاعة والرجوع عن المعاصي، ففسقوا وظلموا وبغوا، أي آثروا الفسوق على الطاعة، خلافا للأمر، فحق عليها القول بالتدمير والهلاك. وعلى قراءة أمرنا بالتشديد يكون المعنى: سلطنا شرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وذكر قتادة والحسن أن معنى أَمَرْنا بكسر الميم: أكثرنا، يقال: أمر القوم- بكسر الميم-: إذا كثروا، ومنه الحديث الذي رواه أحمد والطبراني عن سويد بن هبيرة: «خير مال المرء: مهرة مأمورة، أو سكّة مأبورة «1» » أي مهرة كثيرة النتاج والنّسل، وصف من النخل مأبورة. وفي حديث هرقل- الحديث الصحيح: «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة «2» ، ليخافه ملك بني الأصفر» أي كثر.

_ (1) السّكّة: الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة: الملقحة. (2) يريد: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان المشركون يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ابن أبي كبشة» شبهوه بأبي كبشة: رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان.

جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة [سورة الإسراء (17) الآيات 18 إلى 21] :

11- كم من قوم كثيرين كفروا، فحلّ بهم الهلاك أو البوار، وهذا إنذار ووعيد وتهديد بالعقاب الشديد لكل من كفر بالله وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. 12- إن المعاصي إذا ظهرت، ولم تغيّر، كانت سببا لهلاك الجميع. 13- دلّ قوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، راء لجميع المرئيات، فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات، فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه، وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم، وهذه الصفات الثلاث (العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم) أمان لأهل الطاعة، وخوف لأهل الكفر والمعصية. جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) الإعراب: لِمَنْ نُرِيدُ بدل من الْعاجِلَةَ بدل البعض من الكل بإعادة حرف الجر، مثل قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف 7/ 75] فقوله: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال

المفردات اللغوية:

كُلًّا نُمِدُّ كلا: مفعول به ل نُمِدُّ وهؤُلاءِ بدل من كل ومعناه: إنا نرزق المؤمنين والكافرين. كَيْفَ فَضَّلْنا كَيْفَ: منصوب بفضلنا، وليس العامل فيه انْظُرْ لأن كَيْفَ معناها الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله. دَرَجاتٍ تمييز منصوب، وكذلك تَفْضِيلًا. المفردات اللغوية: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله. الْعاجِلَةَ أي الدنيا، مقصورا عليها همه، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت عن المنعوت. عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ قيد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمنّ ما يتمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة. يَصْلاها يدخلها. مَذْمُوماً ملوما. مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله تعالى. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل عملها اللائق بها، وهو الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة لام لَها اعتبار النية والخلوص. وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك فيه ولا تكذيب. فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة: إرادة الآخرة، والسعي لها بحق، والإيمان. كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند الله تعالى، أي مقبولا عنده، مثابا عليه، فإن شكر الله: الثواب على الطاعة. كُلًّا من الفريقين. نُمِدُّ نعطي مرة بعد أخرى. مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من معطاه في الدنيا. وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها. مَحْظُوراً ممنوعا عن أحد، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر، تفضلا. فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والجاه. وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ أعظم. وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا، أي إن التفاوت في الآخرة أكبر: لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، فينبغي الاعتناء بالآخرة دون الدنيا. المناسبة: الآيات مرتبطة بما قبلها بنحو واضح، فبعد أن بيّن الله تعالى ارتباط كل إنسان بعمله، قسم العباد قسمين: قسم يريد الدنيا ويعمل لها، وعاقبته النار، وقسم يريد الآخرة، ومآله إلى الجنان.

التفسير والبيان:

وكل من الفريقين يرزقهم ربهم في الدنيا لأن عطاءه ليس ممنوعا عن أحد، ولكنهم متفاضلون في الرزق، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من مراتب تفاوت الدنيا. التفسير والبيان: هذه الآيات تصنيف عام لأحوال الناس في الدنيا، فهم فريقان: فريق يعمل للدنيا، وفريق يعمل للآخرة. أما الفريق الأول فهو: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ... أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، وكانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فخصها بكل جهده وعمله، ونسي الآخرة، عجل الله فيها تحقيق أمله حسبما يشاء ويريد، من سعة الرزق وترف الحياة، فليس كل من طلب الدنيا ونعمها يحصل له مراده، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، فالعطاء الدنيوي مقيد بالإرادة والمشيئة الإلهية، والقيد يشمل أمرين: ما يشاؤه الله لا ما يحبه العبد، ولمن يشاء الله، لا لكل من أراد الدنيا، فهؤلاء الماديون لا يعطون كل ما يريدون، وإنما يعطون بعض أمانيهم، والكثير من الماديين لا يعطون شيئا أبدا، فيجمعون بين فقر الدنيا وفقر الآخرة، وبين الحرمان من الدنيا والدين. ولكل من هؤلاء الماديين، سواء أعطوا مرادهم أم لا جهنم يصلونها أي يقاسون حرها بصفة دائمة، مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين على قلة الشكر وسوء العمل والتصرف، مطرودين من رحمة الله تعالى. فهذا العقاب ذو أوصاف ثلاثة في الآية: الدوام والخلود، والإذلال والإهانة، والطرد من رحمة الله. وهذا تهديد للماديين الكفرة وزجر شديد، فإنهم يحصرون همهم في الدنيا، وربما لم ينلهم شيء منها. روى أحمد عن عائشة مرفوعا: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» .

وأما الفريق الثاني وهم المؤمنون الأتقياء فهم الذين أخبر الله تعالى عنهم: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها ... أي ومن طلب الآخرة، وكانت هي همّه ومقصده، فعمل لها ما استطاع من القرب والطاعات، وهو مؤمن مصدق بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر، فأولئك أهل الكمال المشكورون على طاعاتهم، المثابون على أعمالهم من قبل الله تعالى. فلا يثاب هؤلاء ولا ينالون هذا الجزاء الحسن إلا بشروط ثلاثة: الأول- إرادة ثواب الآخرة وما فيها من النعيم والسرور، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات» . الثاني- أن يكون العمل من القرب والطاعات ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا من الأعمال الباطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، والكواكب والملائكة وبعض البشر من الأنبياء، فقوله: وَسَعى لَها سَعْيَها أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة. الثالث- أن يكون العمل في دائرة الإيمان والتصديق بالثواب والجزاء، فلا ينفع العمل بغير الإيمان الصحيح. وهذه هي الشرائط الثلاثة في كون السعي مشكورا. قال بعض السلف: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية. هؤلاء المؤمنون الصلحاء الذين اختاروا غنى الآخرة لا يبالون بشيء بعدها، فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم، وإن حرموا منه صبروا، ورضوا لأن ما عند الله خير وأبقى. ثم أبان الله تعالى أن الرزق في الدنيا مضمون مكفول لكلا الفريقين، فقال:

كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ... أي إنه تعالى يمد الفريقين: مريدي الدنيا ومريدي الآخرة بالأموال والأرزاق والأولاد وغيرها من مظاهر العز والزينة في الدنيا، فإن عطاءه لا يمنع عن أحد، مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فاقتضى عدل الله ورحمته ألا يترك لأحد مجالا للعذر، وأبان أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع، لتوفير متطلبات الحياة ومقوماتها. ثم أوضح الله تعالى أن عطاءه لكلا الفريقين متفاوت فقال: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. أي انظر بعين الاعتبار كيف جعلنا الفريقين متفاوتين في عطاء الدنيا، وكيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا، فمنحناه مؤمنا، وحجبناه عن مؤمن آخر، وأعطيناه كافرا، ومنعناه عن كافر آخر، وذلك لحكمة بالغة نحن أعلم بها، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف 43/ 32] وفي آية أخرى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [الأنعام 6/ 165] وقال سبحانه أيضا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] . وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ... أي والتفاوت في الآخرة أكبر وأعظم، والتفاضل في درجات منافع الآخرة أكبر من التفاضل في درجات منافع الدنيا، فالدرجات أكبر، والتفاضل أعظم لأن الآخرة ثواب وأعواض وتفضل وكلها متفاوتة، فأهل النار في دركات سفلى متفاوتة، وأهل الجنة في درجات عليا متفاضلة، فإن الجنّة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض، جاء في الصحيحين: «إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين، كما ترون

فقه الحياة أو الأحكام:

الكوكب الغابر في أفق السماء» وقال بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة، وهي أكبر وأفضل» . وهذه واقعة طريفة معبرة مناسبة للآية، رواها ابن عبد البر عن الحسن البصري قال: حضر جماعة من الناس فيهم الأشراف ومن دونهم من العامة باب عمر رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (أحد أشراف مكة) وأبو سفيان بن حرب، ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذّن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا- يعني إلى الإسلام- فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكبر. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الناس في مجال العمل في الدنيا صنفان: صنف يريد الدنيا، وصنف يريد الآخرة، أما الصنف الأول: فلا يعطيه الله من الدنيا إلا ما يشاء، ولمن يشاء، ثم يؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، مدحورا مطرودا مبعدا من رحمة الله. قال القرطبي: وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 235

وأما الصنف الثاني وهو الذي يريد الدار الآخرة، ويعمل لها عملها من الطاعات، وكان مؤمنا لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن، فيكون عمله مقبولا غير مردود. 2- اقتضت حكمة الله ورحمته أن يرزق المؤمنين والكافرين، فلا يكون عطاؤه محبوسا ممنوعا عن أحد، غير أن الناس في الدنيا متفاوتون في الرزق، بين مقلّ ومكثر، ولا يرتبط التفاوت في الرزق بالإيمان والكفر، فقد يكون مؤمن غنيا وآخر فقيرا، وقد يكون كافر موسرا مترفا وآخر معسرا معدما. أما في الآخرة فدرجات تفاضل المؤمنين أكبر وأكثر، فالكافر وإن وسّع عليه في الدنيا مرة، وقتّر على المؤمن مرة، فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها. 3- إن هذه الآية: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ مقيدة لإطلاق آية هود: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [15] وآية الشورى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [20] . 4- في الآية نفسها مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ فوائد ثلاث: الأولى- العقاب مضرة مقرونة بالإهانة والذم الدائمين. الثانية- إن الرفاهية في الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها المصير إلى عذاب الله وإهانته، وهذا تنبيه للجهال الذين يغترون بالدنيا إذا أقبلت عليهم، ويظنون أن ذلك لأجل كرامتهم على الله تعالى.

أصول تنظيم المجتمع المسلم التوحيد أساس الإيمان وترابط الأسرة المسلمة دعامة المجتمع [سورة الإسراء (17) الآيات 22 إلى 30] :

الثالثة- قوله تعالى لِمَنْ نُرِيدُ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يطلبون الدنيا، ويبقون محرومين منها ومن الدين، وفي هذا زجر عظيم لهم، فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. 5- إن قبول الأعمال عند الله مشروط بشرائط ثلاث: الإيمان الصحيح، والنية الطيبة الحسنة، والعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى. 6- إن رزق الله وعطاءه مكفول لكل إنسان بشرط السعي والعمل، وليس الرزق محظورا عن أحد من المؤمنين والكفار. 7- ليس الرزق معطي بدرجة متساوية ونسبة واحدة، وإنما هناك تفاوت في الأرزاق، لا يرتبط ذلك بالإيمان والكفر، وإنما يقسمه الله تعالى بين الخلائق على وفق ما يراه من الحكمة والمصلحة. 8- إن التفاوت في الدركات للكفار والفساق في نار جهنم وفي الدرجات للمؤمنين الأخيار الأتقياء في الجنة أشد بكثير من التفاوت في الدنيا، فالجنة مثلا مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض. أصول تنظيم المجتمع المسلم التوحيد أساس الإيمان وترابط الأسرة المسلمة دعامة المجتمع [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 30] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)

الإعراب:

الإعراب: إِمَّا يَبْلُغَنَّ قرئ: يَبْلُغَنَّ: وحدّ الفعل لمجيء الفاعل بعده واحدا، فإن الفعل متى تقدم توحّد، والفاعل: أحدهما. ومن قرأ: يبلغان: فيكون أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بدلا من ألف يبلغان أو تكون الألف لمجرد التثنية ولا حظّ للاسمية فيها، فيرتفع أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بالفعل الذي قبلهما على لغة من قال: قاما أخواك، وأكلوني البراغيث. وإِمَّا: هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا. أُفٍّ اسم من أسماء الأفعال، فكانت مبنية، والبناء إما على الكسر لالتقاء الساكنين، أو على الفتح لأنه أخف الحركات، أو على الضم لأنه أتبع الضمّ الضمّ. ومن نون أُفٍّ أراد به التنكير، ومن لم ينوّن أراد التعريف. وفي أُفٍّ إحدى عشرة لغة، مثل «هيهات» . ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ابْتِغاءَ: مصدر منصوب في موضع الحال، أي: وإما تعرضن عنهم مبتغيا رحمة من ربك ترجوها. وجملة تَرْجُوها حال منصوب، أي راجيا إياها. البلاغة: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ استعارة مكنية، شبّه الذل بطائر ذي جناح، ثم حذف الطائر، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الجناح، فهذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والخدم للسادة.

المفردات اللغوية:

وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ: استعارة تمثيلية، مثّل للبخيل الذي حبس يده عن العطاء بمن شدّت يده إلى عنقه، بحيث لا يستطيع مدّها، وشبّه السرف ببسط الكف، حيث لا تمسك شيئا. فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً لف ونشر مرتب، أعاد لفظ مَلُوماً إلى البخيل، ولفظ مَحْسُوراً إلى الإسراف. يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته، أو الخطاب لكل أحد. فَتَقْعُدَ إما بمعناها الأصلي، أي فتعجز عن تحصيل الخيرات، أو بمعنى: تصير، مأخوذ من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت مثل الحربة. مَذْمُوماً يذمك الملائكة والمؤمنون. مَخْذُولًا يخذلك الله تعالى، وتصير: لا ناصر لك لأنك أشركت معه إلها آخر. وهذا بناء على المفهوم يدل على أن الموحد يكون ممدوحا منصورا. وَقَضى رَبُّكَ حكم وأمر أمرا مقطوعا به. أَلَّا تَعْبُدُوا بألا تعبدوا. إِلَّا إِيَّاهُ حصر العبادة بنفسه تعالى لأن غاية التعظيم لا يستحقها إلا لمن له غاية العظمة وغاية الإنعام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا لهما إحسانا، بأن تبروهما، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والمعيشة. ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأنه صلته وهي لا تتقدم عليه. أُفٍّ اسم صوت يدل على التضجر والاستثقال، أي تبا وقبحا. وَلا تَنْهَرْهُما تزجرهما، والنهر: الزجر بغلظة. قَوْلًا كَرِيماً جميلا لينا. جَناحَ الذُّلِّ ألن لهما جانبك الذليل، والمراد به التواضع والتذلل، أو حسن الرعاية والعناية. مِنَ الرَّحْمَةِ أي لرقتك عليهما وفرط رحمتك بهما. ارْحَمْهُما كَما رحماني حين. رَبَّيانِي صَغِيراً أو رحمة مثل رحمتهما علي. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من إضمار البر والعقوق. إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ طائعين لله، قاصدين للصلاح. لِلْأَوَّابِينَ للتوابين أو الرجاعين إلى طاعته. غَفُوراً لما صدر منهم في حق الوالدين من بادرة، وهم لا يضمرون عقوقا. وَآتِ أعط. ذَا الْقُرْبى القرابة. حَقَّهُ من البر والصلة وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التبذير: إنفاق المال في غير موضعه الموافق للشرع والحكمة. إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي قرناءهم وعلى طريقتهم كَفُوراً شديد الكفر لنعمه. فكذلك قرينه المبذر. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي وإن أعرضت عن المذكورين من ذي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الرد، فلم تعطهم.

سبب النزول:

ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي لطلب رزق تنتظره يأتيك، فتعطيهم منه قَوْلًا مَيْسُوراً لينا سهلا، بأن تعدهم بالإعطاء عند مجيء الرزق. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تمسكها عن الإنفاق تماما، والمغلولة: المقيدة بالغل: وهو القيد الذي يوضع في اليدين والعنق، وهو تمثيل لمنع الشح وكناية عن البخل. وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي تتوسع في الإنفاق، وهو تمثيل وكناية لمنع الإسراف. فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالبخل، فهو راجع للأول: البخل. مَحْسُوراً نادما، أو منقطعا لا شيء عندك، وهو راجع للثاني: الإسراف. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لمن يشاء. وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما بسرهم وعلنهم، فيرزقهم على حسب مصالحهم. سبب النزول: نزول الآية (26) : وَآتِ ذَا الْقُرْبى: أخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة، فأعطاها فدك. قال ابن كثير: هذا مشكل، فإنه يشعر بأن الآية مدنية، والمشهور خلافه. لكن ذكر في مطلع السورة أن هذه الآية مدنية. وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله. نزول الآية (28) : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ: أخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، ظنوا ذلك، من غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ الآية. والرحمة: الفيء. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت في كل من كان يسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم

نزول الآية (29) :

من المساكين. قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد. نزول الآية (29) : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ: أخرج سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بزّ (ثياب) وكان معطيا كريما، فقسمه بين الناس، فأتاه قوم، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها الآية. وأخرج ابن مردويه وغيره عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: ما عندنا شيء اليوم، قال: فتقول لك: اكسني قميصا، فخلع قميصه، فدفعه إليه، فجلس في البيت حاسرا، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ... الآية. وأخرج ابن مردويه أيضا عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة: أنفق ما على ظهر كفي، قالت: إذن لا يبقى شيء، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الآية. قال السيوطي: وظاهر ذلك أنها مدنية. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أن الناس فريقان: فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والعقاب، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل الثواب بشروط ثلاثة: هي إرادة الآخرة، والسعي بحق لطلب الآخرة، وأن يكون مؤمنا، أتبعه ببيان حقيقة الإيمان وأن جوهره التوحيد ونفي الشركاء والأضداد. وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان، أتبعه بذكر شعائر الإيمان

التفسير والبيان:

وشرائطه، ودعائم بنيان المجتمع الإسلامي، مبتدئا بأصول نظام الأسرة، وتقوية الروابط بين أفرادها. التفسير والبيان: يخاطب الله تعالى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لبيان حقيقة الإيمان وهو التوحيد ونفي الشركاء، والمراد بالخطاب: المكلفون من الأمة، إذ لم يكن له صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك الوقت أبوان. ومضمونه: لا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته، وإنما أفرد له الألوهية والربوبية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، فإن جعلت مع الله إلها آخر، صرت ملوما على إشراكك به، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يتركك إلى من عبدته معه، وهو لا يملك ضرا ولا نفعا. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» . والخلاصة: إن أول دعامة للمجتمع المسلم: توحيد الله وعدم الشرك به. وبعد بيان الركن الأعظم في العقيدة والإيمان وهو التوحيد، ذكر تعالى شعائر الإيمان ومظاهره، وهي ما يأتي: أولا- عبادة الله تعالى وحده: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر الله تعالى ألا تعبدوا غيره، وهذا يتضمن أمرين: الاشتغال بعبادة الله تعالى، والتحرز عن عبادة غير الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم، ولا يستحق ذلك غير الله عز وجل لأنه مصدر النعم والإنعام من إعطاء الوجود والحياة والقدرة والعقل.

ثانيا- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قرن الله في كثير من الآيات الأمر بعبادته بالأمر ببر الوالدين والإحسان لهما إحسانا تاما في المعاملة لأنهما بعد الله الذي هو السبب الحقيقي لوجود الإنسان، كانا السبب الظاهري في وجود الأولاد وتربيتهم في جو مشحون بالحنان واللطف والعطف والإيثار، والمعنى: وأمر بالوالدين إحسانا، أو وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبروهما، كما قال تعالى في آية أخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان 31/ 14] وذلك لشفقتهما على الولد، وإنعامهما عليه، وبذل أقصى الجهد في تربيته وصونه حتى يصبح رجلا سويا، فكان من الوفاء والمروءة رد شيء من الجميل والمعروف لهما، إما بالمعاملة الحسنة والأخلاق المرضية، وإما بالإمداد المادي إذا كانا بحاجة وكان الولد موسرا، لذا أبان تعالى بعض وجوه الإحسان إليهما، فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ.. أي إذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر، وصارا عندك في آخر العمر بحال من الضعف والعجز، كما كنت عندهما في بدء حياتك، فعليك اتباع الواجبات الخمسة التالية: الأول- فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تسمعهما قولا سيئا فيه أدنى تبرّم، حتى ولا التأفف وهو التضجر والتألم الذي هو أدنى مراتب القول السيء، وذلك في أي حال، ولا سيما حال الضعف والكبر والعجز عن الكسب، لأن الحاجة إلى الإحسان حينئذ أشد وأولى وألزم، لذا خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى البر، للضعف والكبر. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» .

الثاني- وَلا تَنْهَرْهُما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح. والفرق بين النهي عن التأفف والنهي عن الانتهار: أن الأول للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، وأن الثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول، بالرد أو التكذيب، فالتأفف: الكلام الرديء الخفي، والنهر: الزجر والغلظة. الثالث- وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي وقل لهما قولا لينا طيبا حسنا مقرونا بالتوقير والتعظيم والحياء والأدب الجم. ويلاحظ أنه تعالى قدم النهي عن المؤذي، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب لأن التخلي مقدم على التحلي، ومنع الأذى أولى من إحسان القول والفعل. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفسرا القول الكريم: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، أي لا يدعوهما بأسمائهما، ولا يرفع الصوت أمامهما، ولا يحملق بنظره فيهما، وسئل سعيد بن المسيّب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ. الرابع- وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما بفعلك، والمقصود منه المبالغة في التواضع وإلانة الجانب، فإن خفض الجناح كناية عن فعل التواضع، وتشبيه بحال الطائر إذا ضم إليه فرخه، فيخفض له جناحه. والتواضع ينبغي أن يكون رحمة بهما وشفقة عليهما، لا لأجل امتثال الأمر وخوف العار والنقد فقط. الخامس- وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي اطلب لهما الرحمة من الله في حال كبرهما وعند وفاتهما. قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال، بل أضاف إليه تعليم الأفعال، وهو أن يدعو لهما بالرحمة، فيقول: رَبِّ ارْحَمْهُما ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. وقوله كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي أحسن إليهما كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية: هي التنمية، وخصها بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.

وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صعد المنبر، ثم قال: «آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله، علام أمّنت؟ قال: أتاني جبريل، فقال: يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يسل عليك، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج، فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين» . والبر يكون في حال الحياة وبعد الموت أيضا بدليل ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرّهما به؟ قال: «نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» . فإذا كان الوالدان كافرين فللولد أن يدعو لهما حال الحياة بالهداية والإرشاد، وأن يطلب لهما الرحمة بعد حصول الإيمان. أما بعد الموت فقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات، ولو كانوا أولي قربى في الآية: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التوبة 9/ 113] . فيعامل المسلم أبويه الذميين معاملة حسنة إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر. ويكفي في العمل بمقتضى هذه الآية طلب الرحمة لهما مرة واحدة لأن ظاهر الأمر للوجوب، وظاهر الأمر لا يقتضي التكرار. سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر، أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات.

وكفى بالشريعة التي جعلت عقوق الوالدين من الكبائر، أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر حديثا: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد» . ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ... أي أن العبرة بما في القلب وما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فإن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم، بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لاختلاطها بالسهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فمن بدرت منه بادرة غير مقصودة، فلا يعاقبه الله عليها ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين، فإنه سبحانه غفور للتائبين الراجعين إلى الخير، النادمين على ما فرط منهم من غير قصد. والتائب من الذنب: هو الرجّاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله، إلى ما يحبه ويرضاه. والمقصود من الآية: التحذير من ترك الإخلاص. ثالثا- الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، والمعنى: وأعط أيها الإنسان المكلف القريب والمسكين والمسافر المنقطع في الطريق إلى بلده حقه، من صلة الرحم والود، والزيارة وحسن المعاشرة، والنفقة إن كان محتاجا إليها، وإعانة المسكين ذي الحاجة، ومساعدة ابن السبيل بالمال الذي يكفيه زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده. والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته من بعده. جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن بكر بن الحارث الأنماري: «أمك وأباك، ثم أدناك أدناك» أو «ثم الأقرب فالأقرب» وأخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» .

والأمر في رأي أبي حنيفة بالنسبة للأقارب المحارم كالأخت والأخ والوالدين للوجوب، وفي رأي الشافعي للندب، ولا تجب عند الجمهور إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب، وعند الحنابلة: تجب لكل الأقارب حتى الحواشي. أما مساعدة المساكين وأبناء السبيل فهي من الصدقات المندوبة. رابعا- منع التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً: لما أمر الله تعالى بالإنفاق والبذل نهى عن الإسراف وبيّن سياسة الإنفاق، أي لا تنفق المال إلا باعتدال وفي غير معصية وللمستحقين، بالوسط الذي لا إسراف فيه ولا تبذير، والتبذير لغة: إفساد المال وإنفاقه في السرف، والوسطية والاعتدال هي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان 25/ 67] . ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير بإضافته إلى أفعال الشياطين، فقال: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي إن المبذرين المنفقين أموالهم في معاصي الله يشبهون في هذا الفعل القبيح الشياطين، فهم قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة، وأشباههم في ذلك في الصفة والفعل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات 37/ 22] أي قرناءهم من الشياطين. قال ابن مسعود: التبذير: الإنفاق في غير حق، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق، لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق، كان مبذرا. وعن علي كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة، فذلك حظ

الشيطان. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته، فاستعمل نفسه في المعاصي والإفساد في الأرض، وإضلال الناس. قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفورا لنعمة الله لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل. وفي صفة الشيطان أنه كفور لربه دلالة على كون المبذر أيضا كفورا لربه. وقال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب، وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة، ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم. خامسا- الوعد الجميل بالعطاء أو القول الميسور: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة، بعد أن سألوك، فقل لهم قولا سهلا لطيفا لينا، وعدهم وعدا بسهولة ولين بالصلة والعطاء إذا جاء رزق الله، واعتذر بعذر مقبول. سادسا- القصد في الإنفاق: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.. لما أمر الله تعالى بالإنفاق ذكر هنا أدب الإنفاق، والاقتصاد في العيش، بذم البخل، والنهي عن السرف، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا

مفرطا، فتعطي فوق طاقتك، وتنفق أكثر من دخلك، بحيث لا يبقى في يدك شيء. والخلاصة: إن أصول الإنفاق هو الاقتصاد في العيش، والتوسط في الإنفاق، دون بخل ولا سرف، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق، وهما مذمومان، وخير الأمور أوساطها، والفضيلة وسط بين رذيلتين. روى أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» . وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» «1» . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان من السماء، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله» . وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» . ثم أبان الله تعالى ربط الرزق بمشيئته وإرادته، ليدرك الناس أن تضييق الرزق أحيانا على بعضهم ليس لسوء حالهم عند الله، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن ربك أيها الرسول هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له في ذلك

_ (1) ورواه القضاعي عن علي رضي الله عنه، وهو حديث حسن.

فقه الحياة أو الأحكام:

من الحكمة، لذا قال: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فهو خبير بصير بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح، جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في المسانيد (الجامع الكبير) : «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه» . وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا، والفقر عقوبة. والمقصود بالآية أنه تعالى عرف رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كونه ربا، والرب: هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب، فيوسع الرزق على البعض، ويضيقه على البعض. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم مما ذكر أن الآيات ترشد إلى الأحكام التالية: 1- التوحيد أساس الإيمان، والإشراك رأس الكفر والضلال. 2- الإحسان إلى الوالدين فرض لازم واجب، وقد أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. 3- من البرّ بالأبوين والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبّهما ولا لعقوقهما فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف. 4- عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برّهما موافقتهما على أغراضهما، فتجب طاعتهما في المباح المعروف غير المعصية، ولا تجب طاعتهما في المعصية.

روى الترمذي عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلّقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: «يا عبد الله بن عمر، طلّق امرأتك» . 5- لا يختص برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل يجب برهما ولو كانا كافرين، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الممتحنة 60/ 8] . وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: «قدمت أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم، إذ عاهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع أبيها، فاستفتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: إن أمي قدمت، وهي راغبة «1» ، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك» . 6- من الإحسان إلى الأبوين والبرّ بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد الولد إلا بإذنهما. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيّ والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» . أما الوالدان المشركان فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما، وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما. 7- من تمام برّ الوالدين: صلة أهل ودّهما، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن من أبرّ البرّ: صلة الرجل أهل ودّ أبيه، بعد أن يولّي» وقد ذكر حديث أبي أسيد الساعدي البدري. 8- هناك رقابة خاصة من الله تعالى على معاملة الأبوين لقوله سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء.

_ (1) أي راغبة في بري وصلتي. [.....]

9- وكما أمر الله بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقهما، أمر أيضا بصلة الرحم، وبالتصدق على المسكين وابن السبيل. 10- يحرّم الإسلام التبذير، والتبذير كما قال الشافعي رضي الله عنه: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال مالك: التبذير: هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين. 11- من أنفق ماله في الشهوات زائدا على قدر الحاجات، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذر، ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه. ومن أنفق ربح ماله في شهواته، مع المحافظة على أصل رأس المال، فليس بمبذر. 12- الأدب الرفيع هو رد ذوي القربى بلطف ووعدهم وعدا جميلا بالصلة عند اليسر، والاعتذار إليهم بما هو مقبول وفيه تطييب الخاطر، ولا يعرض الشخص عنهم إعراض مستهين، وهو في حال الغنى والقدرة، فيحرمهم حقهم. لقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد، فأحسن القول، وابسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل: إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرّة نفسه عمل المواساة. 13- الإنفاق في الإسلام: هو التوسط والاعتدال من غير بخل ولا إسراف، ولا تضييع المنفق عياله في المستقبل، أو ألا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، فإن الإسراف وإتلاف المال بغير حق يوقع المسرف في الحسرة والندامة والملامة. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه. 14- إن الله أعلم بمصالح عباده وبأحوالهم، فيرزق من يشاء، ويمنع من يشاء على وفق الحكمة والمصلحة.

أصول أخرى لنظام المجتمع الإسلامي [سورة الإسراء (17) الآيات 31 إلى 39] :

أصول أخرى لنظام المجتمع الإسلامي [سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 39] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) الإعراب: وَساءَ سَبِيلًا نصب على التمييز، التقدير: وساء سبيله سبيلا، أي لأنه يؤدي إلى النار. إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الهاء إما أن تعود على القتل أو على المقتول أو على الولي. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً منصوب على المصدر، ومن قرأ: مَرَحاً بكسر الراء كان منصوبا على الحال.

البلاغة:

وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا منصوب على المصدر في موضع الحال من الجبال أو من الفاعل. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كُلُّ: مبتدا، وذلِكَ: إشارة إلى المذكور المتقدم من قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع. وسَيِّئُهُ: اسم كانَ، ومَكْرُوهاً: خبر كانَ. وعِنْدَ رَبِّكَ ظرف حشو، أو أنه خبر كانَ أي كائنا عند ربك مكروها، ومَكْرُوهاً: حال من المضمر في الظرف. ومن قرأ: سَيِّئُهُ بالتنوين، جعل اسم كانَ ضميرا يعود إلى كُلُّ وسَيِّئُهُ: خبرها، ومَكْرُوهاً: صفة ثانية. وقال: مكروها لا مكروهة لأن تأنيث السيئة مجازي غير حقيقي، أو أنه خبر آخر لكان، وذكّره لأن ضمير كُلُّ مذكر، ويكون عِنْدَ رَبِّكَ متعلقا بقوله: مَكْرُوهاً. البلاغة: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى أبلغ من القول: لا تأتوه، أو لا تزنوا. كُلُّ أُولئِكَ عبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها مسئولة، فهي حالة من يعقل، فعبر عنها بأولئك. المفردات اللغوية: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بالوأد خَشْيَةَ إِمْلاقٍ خوف الفقر نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ قدّم هنا رزق الأبناء على رزق الآباء لأن قتل الأولاد كان خشية وقوع الفقر بسببهم، فقدم رزقهم، وفي سورة الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [151] قدم رزق الآباء على رزق الأولاد، لأن قتلهم كان بسبب فقر الآباء خِطْأً إثما كَبِيراً عظيما. فاحِشَةً فعلة قبيحة ظاهرة القبح وَساءَ سَبِيلًا بئس طريقا هو، لأنه اعتداء على الأعراض، وغصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاط الأنساب وقطعها، وتهييج الفتن لِوَلِيِّهِ لوارثه سُلْطاناً تسلطا على القاتل بمؤاخذته على القتل، بإشراف الحاكم وحكمه، أو بالقصاص من القاتل، فإن قوله تعالى: مَظْلُوماً يدل على أن القتل قتل عمد عدوان لأن الخطأ لا يسمى ظلما فَلا يُسْرِفْ يتجاوز الحد المشروع فِي الْقَتْلِ بأن يقتل غير القاتل، أو بغير ما قتل به، أو أكثر من شخص، منعا لعادة الأخذ بالثأر في الجاهلية. بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الطريق التي هي أحسن وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ عهد الله أي تكاليفه، أو عهد الناس الذي تبرمونه معهم إبراما موثقا مؤكدا مَسْؤُلًا عنه، ومطلوبا من المعاهد ألا يضيعه ويفي به وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ الميزان السوي أو العدل

المناسبة:

تَأْوِيلًا مآلا أو عاقبة وَلا تَقْفُ لا تتبع ما لا تعلم وَالْفُؤادَ القلب مَسْؤُلًا صاحبه: ماذا فعل به؟ فكل هذه الأعضاء يسأل صاحبها عما فعل بها، وأجراها مجرى العقلاء، لما كانت مسئولة عن أحوالها، شاهدة على صاحبها. مَرَحاً فخرا وتكبرا، أو ذا مرح بالكبر والخيلاء لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك أو لن تجعل فيها طرقا بشدة ووطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لا تبلغ هذا المبلغ، فكيف تختال؟! كُلُّ ذلِكَ المذكور من قوله: وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ يا محمد مِنَ الْحِكْمَةِ هي معرفة الحق سبحانه لذاته، والخير والموعظة للعمل بهما. وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، فإن من لا قصد له لا يقبل عمله، ومن قصد بفعله أو تركه غير التوحيد، ضاع سعيه، وأنه- أي التوحيد- رأس الحكمة وملاكها مَلُوماً تلام نفسك مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله. ثم رتب على الشرك نتيجته في الآخرة، وهو الإلقاء في جهنم. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا هي (التوحيد، والاشتغال بعبادة الله بإخلاص والاحتراز عن عبادة غير الله، والإحسان إلى الوالدين والتواضع لهما، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، والقول الميسور) ثم ذكر أدب الإنفاق وهو التوسط دون إسراف ولا تقتير، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي (النهي عن الزنى، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) . ثم أتبعه بأوامر ثلاثة: هي الوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل، ووزن الميزان بالقسط أو العدل. ثم نهى عن ثلاثة أشياء: اتباع ما لا علم له به، والتكبر والخيلاء، واتخاذ الشركاء آلهة مع الله. والخلاصة: أنه تعالى جمع في هذه الآيات وما قبلها خمسة وعشرين نوعا من التكاليف وهي ما يأتي، مبتدئا بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، مختتما به

أيضا، للتنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد «1» : 1- نبذ الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. 2، 3- الأمر بعبادة الله، والنهي عن عبادة غير الله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. 4- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. 5، 9- نواحي الإحسان للوالدين وهي خمسة: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما. 10، 12- إيتاء المستضعفين الثلاثة: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. 13- عدم التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. 14- القول الميسور: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً. 15- عدم البخل والتقتير: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ. 16- تحريم وأد البنات أو قتل الأولاد: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. 17- تحريم القتل إلا بالحق: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. 18- حق الولي في القصاص: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً. 19- تحريم الإسراف في القصاص: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 213

التفسير والبيان:

20- الوفاء بالعهد: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ. 21- إيفاء الكيل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ. 22- الوزن بالعدل: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. 23- عدم اتباع الظن: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. 24- تحريم التكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. 25- تحريم الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. التفسير والبيان: هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات التي تبين دعائم المجتمع الإسلامي «1» ، وهو تحريم وأد البنات، فبعد أن بيّن تعالى كيفية البر بالوالدين، بيّن كيفية البر بالأولاد. والمعنى: ولا تقتلوا بناتكم خوف الفقر أو العار، فنحن نرزقهم لا أنتم، ونرزقكم أيضا، إن قتلهم خوف الفقر أو العار كان إثما وذنبا عظيما، وخطأ جسيما. وقدم الإخبار برزق الأولاد هنا لأنه خاطب الموسرين منهم وذكر الاهتمام برزقهم، وقدم الإخبار برزق الآباء في سورة الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [151] لأنه خاطب الفقراء، ونهاهم عن قتلهم من فقر، فالأرزاق للآباء والأولاد بيد الله، وقتل الأولاد خوف الفقر من سوء الظن بالله، وإن كان خوف العار، والغيرة على البنات، فهو سعي في تخريب العالم. والآية دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث. وكان أهل الجاهلية لا يورثون

_ (1) والأنواع الأربعة السابقة: هي الأمر بالتوحيد، والاشتغال بعبادة الله تعالى دون غيره، والأمر ببر الوالدين، وإيتاء القريب والمسكين وابن السبيل حقه دون بخل ولا تبذير. وحق الوالدين خمسة أشياء: عدم التأفيف، وعدم الانتهار بكلام زاجر، والقول الكريم الطيب، والمبالغة في التواضع، والدعاء لهما بالرحمة.

البنات دائما، ويقتلون البنات أحيانا بوأدهن أحياء في التراب لعجزهن عن الكسب، وقدرة البنين عليه بالغارة والنهب والسلب، وأيضا كانوا يخافون من أن فقر البنات ينفر الأكفاء عن الرغبة فيهن، فيحتاجون إلى تزويجهن من غير الأكفاء. جاء في الصحيحين عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» . النوع السادس- تحريم الزنى: وبعد أن أمر الله تعالى بالأشياء الخمسة المتقدمة، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء هي الزنى والقتل وأكل مال اليتيم، وبدأ بتحريم الزنى، لأنه نوع من الإسراف، عقب النهي عن قتل الأولاد الذي هو مظهر من مظاهر البخل، فقال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا أي لا تقتربوا من الزنى، ولا من أسبابه ودواعيه لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه، والزنى فعلة فاحشة شديدة القبح، وذنب عظيم، وساء طريقا ومسلكا لأن فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، واقتحام الحرمات، والاعتداء على حقوق الآخرين، وتقويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة، ونشر الفوضى، وفتح باب الاضطراب، وانتشار الأمراض الفتاكة، والوقوع في الفقر والذل والهوان. قال القفال: إذا قيل للإنسان: لا تقرب هذا، فهذا آكد من أن يقول له: لا تفعله، ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. أخرج ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» .

وقد علّم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أخرجه أحمد فتى شابا درسا بليغا واقعيا في أن الزنى كما هو مبغوض مكروه في أمهات الإنسان وبناته وأخواته وعماته وخالاته، فكذلك هو مبغوض لا يحبه الناس لأمهاتهم وبناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم، ثم وضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه» فلم يكن ذلك الفتى بعد يلتفت إلى شيء. أما بلاد الشرق والغرب التي تبيح الزنى ولو علانية، فإنها لا تهتم باختلاط الأنساب، ولا بما يسمى بالعرض، فقد رفع هذا من القيم الأخلاقية عندهم، وجعلوا الاستمتاع بالمرأة كالطعام والشراب، وهذا نذير سوء، وقلب للأوضاع، ونكسة في الفطرة الإنسانية. وقد وصف الله تعالى الزنى بصفات ثلاث: كونه فاحشة، ومقتا في آية أخرى، وساء سبيلا. أما كونه فاحشة: فلاشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم، ولاشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج، وهو أيضا يوجب خراب العالم. وأما المقت: فلأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، حتى في الأوساط المتحللة، وذلك يوجب عدم السكن والازدواج، وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلا: فلأنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكور بالإناث، وأيضا يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة، من غير أن يصير مجبورا بشيء من المنافع «1» . النوع السابع- تحريم القتل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ... هذا هو ثاني الأمور المنهي عنها، وسابع أحكام المجتمع، وناسب ذكره بعد الزنى لأن الزنى يؤدي إلى عدم وجود الإنسان، ويقلل من النسل البشري، أما القتل فيهدم وجود الإنسان، وهو إعدام الناس بعد وجودهم، وهو حرام لكونه اعتداء على خلق

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 198- 199

الله، وهدم له لأن الإنسان ليس ملكا لنفسه، إنما هو ملك لخالقه، وثروة لمجتمعه ودولته، ولذلك حرّم الانتحار وحرّم قتل النفس إلا بالحق، فمن قتل نفسه فهو آثم معتد، ومن قتل غيره فهو أيضا معتد أثيم. ومعنى الآية: ولا تقتلوا النفس الإنسانية التي حرم الشرع قتلها إلا إذا كان بحق شرعي، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان (ردة) وزنى بعد إحصان، وقتل معصوم الدم عمدا، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . وثبت في السنن للترمذي والنسائي عن ابن عمرو: «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم» . فالقتل بغير حق جريمة عظمي لأنه إفساد والله تعالى لا يحب الفساد، وضرر واعتداء، وإخلال بالأمن، وإحداث للاضطراب في المجتمع، وسبيل لانقراض الإنسانية. وبعد أن استثنى الله تعالى من تحريم القتل حالة القتل بالحق بقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ أثبت الحق في تنفيذ القصاص بإشراف الدولة لولي الدم، مع تقييده بحصر القتل في القاتل نفسه دون غيره، فقال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.. أي ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله، فقد جعلنا لمن يلي أمره من وارث أو سلطان حاكم عند عدم الوارث سلطة على القاتل ومنحه الخيار بأحد أمرين: إما القصاص (القود) منه بعد حكم قضائي وبإشراف القاضي، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا كما ثبت في السنة، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة 2/ 178] وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أبو داود والنسائي عن أبي شريح الخزاعي: «من قتل له قتيل بعد مقالتي هذه، فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل- الدية- أو يقتلوا» .

وهذا السلطان لولي الدم مقيد بألا يسرف في القتل، أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به، أو يقتص من غير القاتل، كعادة أهل الجاهلية والجاهلين اليوم الذين يقتلون الجماعة في الواحد تشفيا واستعلاء، قال مهلهل بن أبي ربيعة حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب أخي، أي أنت تساوي نعل كليب، ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرّة جميعا. لا تسرف أيها الولي في استيفاء القتل، فإنك معان منصور على القاتل شرعا وقدرا، حيث وجب لك القصاص، ويعوضك الله خيرا في الدنيا والآخرة، بتكفير الخطايا، وتعذيب القاتل في النار. والمقصود بذلك: أن الأولى ألا يقدم ولي الدم على استيفاء القتل، وأن يكتفي بأخذ الدية، أو يعفو مجانا لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 178] وقوله سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] . النوع الثامن- تحريم أكل مال اليتيم: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ.. بعد أن حرم الله تعالى إتلاف الأنفس حرم إتلاف الأموال، والمعنى لا تتصرفوا في مال اليتيم ولا تقربوا منه أكلا وإتلافا إلا بما يحقق الفائدة أو المصلحة الظاهرة لليتيم، وهي الطريقة الحسنى بحفظ ماله وتثميره حتى يبلغ رشيدا، ويبلغ أشده مبلغ الرجال، ويكتمل عقله، فالمراد بالأشد: بلوغه إلى سن يتمكن فيه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند الرشد تزول ولاية غيره عنه، وهو حد البلوغ رشيدا. فإن بلغ غير عاقل أو غير رشيد، بقيت الولاية السابقة عليه. وبلوغ العقل: هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية. ونظير الآية: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا

فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء 4/ 6] . فيجوز لولي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأخذ شيئا من مال اليتيم للحاجة بقدر المعروف. ولما نزلت آية وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ شق ذلك على الصحابة، فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام ولا غيره، مما أدى إلى إهمال شؤون الأيتام، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة 2/ 220] . النوع التاسع- الوفاء بالعهد: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا: بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا، ثم نهى عن ثلاثة أشياء (الزنى، والقتل إلا بالحق، وقربان مال اليتيم) أمر بأوامر ثلاثة: أولها- الوفاء بالعهد، والمعنى: وفّوا بالعهد الذي تعاهدون عليه الناس، وبالعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد، كل منهما يسأل صاحبه عنه، ونظير الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة 5/ 1] فالعهد فضيلة وميثاق، والعقد التزام وارتباط، والإخلال بالعهد خيانة ونفاق، والتحلل من العقد إهدار للثقة وتضييع للحقوق، فيجب شرعا الوفاء بالعهد، وتنفيذ مقتضى العقد، فمن أخلف بوعده، ولم يوف بعهده، ولم ينفذ التزام عقده، وقع في الإثم والمعصية، وأخل بمقتضى الإيمان والدين، والعهد: أمر عام يشمل كل ما بين الإنسان وبين الله والنفس والناس. والعقد: كل التزام يلتزمه الإنسان، كعقد اليمين والنذر، وعقد البيع والشركة والإجارة والصلح والزواج. وكل عقد لأجل توثيق الأمر وتوكيده، فهو عهد. لذا تواردت الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والعقود، كقوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة 2/ 177] وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون 23/ 8، المعارج 70/ 32] وقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ

الْبَيْعَ [البقرة 2/ 275] وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء 4/ 29] . والوفاء بالعهد أو بالعقد: تنفيذ مقتضاه، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي، وعلى وفق التراضي الذي لا يصادم الشرع. النوع العاشر- إيفاء الكيل والوزن بالعدل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ... هذا هو الأمر الثاني من الأوامر الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهو إتمام الكيل وإتمام الوزن، أي أتموا الكيل من غير تطفيف ونقص، وأتموا الوزن بالعدل دون جور أو حيف، فإن كلتم لأنفسكم أو وزنتم فلا تزيدوا في الكيل أو الوزن، ولا مانع إن نقصتم عن حقكم. ذلِكَ خَيْرٌ.. أي فإن عاقبة الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والوزن بالعدل خير لكم في الدين والدنيا في معاشكم ومعادكم، وأحسن مآلا ومنقلبا في آخرتكم، فلا تؤاخذون أو تعاقبون يوم القيامة، ويرغب الناس في معاملتكم، ويثنون عليكم، ولا تتعرضون لإساءة السمعة، أو عقاب السلطة، فقد ثبت بالتجربة أن التاجر الثقة الصدوق هو المحبوب الرابح الذي يقبل عليه الناس، وأن التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن هو المنبوذ المبغوض الخاسر الذي يعرض الناس عنه. وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآية، منها وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن 55/ 9] ومنها: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود 11/ 85] ومنها: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [سورة المطففين 83/ 1- 3] . وكل من الوفاء بالعقود والعهود وإتمام الكيل والميزان قاعدة حضارية اجتماعية سامية، وأساس راسخ ضروري في صرح التعامل بين الناس، يؤدي إلى

توفير الثقة والطمأنينة، ويكون سببا لتنمية العلاقات وزيادة الكسب والأرباح. النوع الحادي عشر- التخمين وسوء الظن: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. أي أنه تعالى بعد بيان الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي، فنهى عن ثلاثة أشياء: أولها- القول بالحدس والتخمين وسوء الظن، فهذا عيب في السلوك، وتشوية للحقائق، وطعن في الآخرين بغير حق، وإهدار لقدسية العلم والحقيقة. والمعنى: ولا تتبع ولا تقتف مالا علم لك به من قول أو فعل، والمقصود النهي عن الحكم على الأشياء بما لا يكون معلوما علما صحيحا، ولا دليل عليه. وهذا يشمل نهي المشركين عن الاعتقاد الفاسد في القضايا الإلهية والنبوات، بسبب تقليد أسلافهم، واتباع الهوى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم 53/ 23] . ويشمل أيضا شهادة الزور وقول الزور، والقذف ورمي المحصنين والمحصنات (العفائف) بالأكاذيب، والكذب والبهتان والافتراء، والطعن في الآخرين بالظن وتتبع العورات، وتزييف الحقائق العلمية والأخبار وغير ذلك، فلا يصح لإنسان أن يقول مالا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به، أو أن يذم أحدا بما لا يعلم. وقد شاع هذا الخلق المذموم بين المسلمين، وصار التحدث بغير علم ولا معرفة ولا ثقة ظاهرة منتشرة بسبب ضعف الدين والإيمان، وتفسخ الأخلاق، وانحلال القيم، واتباع الأهواء، وضعف النفوس والانغماس في المادة، وتحلل القيم. لذا حذر القرآن من تلك الظاهرة المرضية، فقال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ... أي إن مفاتيح العلوم والمعارف من السمع والبصر وهما واسطة العلوم الحسية والتجريبية، والفؤاد وبه تتحصل العلوم العقلية، يسأل عنها صاحبها يوم القيامة، وتسأل عنه، فإذا سمع الإنسان ما لا يحل له سماعه،

وأبصر أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، وعزم على مالا يحل العزم عليه، كان مسئولا عنه، معاقبا عليه لأن أدوات المعرفة هذه ينبغي استعمالها في الطاعة لا في المعصية. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات 49/ 12] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» . بل إن هذه الأدوات تسأل عن صاحبها بأن يخلق الله فيها الحياة، ثم تشهد على الإنسان، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور 24/ 24] . قال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك. وقال قتادة: لا تقل: سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم. النوع الثاني عشر- تحريم التكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ... هذا هو الأمر الثاني المنهي عنه هنا، وهو تحريم الكبر والتجبر والتبختر في المشية، والمعنى: ولا تمش في الأرض مرحا أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين، فذلك المشي يدل على الكبرياء والعظمة، إنك لن تخرق الأرض أي تنقبها أو تقطعها بمشيك إذا سرت عليها، ولن تبلغ الجبال طولا، أي لن تصل بتطاولك وتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك إلى قمم الجبال، وهذا تهكم بالمتكبر والمختال. بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده، كما ثبت في صحيح مسلم: «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بردان يتبختر فيهما، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وأخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على

خاتمة معبرة:

قومه في زينته، فخسف الله به وبداره الأرض. وفي الحديث الحسن الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة من تواضع لله رفعه الله» فهو في نفسه حقير، وعند الله كبير. ونظير الآية قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان 25/ 63] وقوله سبحانه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان 31/ 19] . خاتمة معبرة: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كل ما تقدم من الخصال القبيحة المفهومة من الأوامر والنواهي، وهي خمس وعشرون، من قوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إلى هنا، كان سيئه أي قبيحه مكروها عند ربك، أي مبغوضا عنده، ومنهيا عنه، ومعاقبا عليه، وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية التي لا تستدعي الرضا منه سبحانه، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن» . وكلمة ذلِكَ تصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي ذلك الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، هو مما أوحينا إليك يا محمد من أصول الشريعة والدين، والحكم به، لتأمر به الناس، والمراد بالحكمة: التكاليف المذكورة. وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. لا تتخذ إلها آخر شريكا مع الله، فتعاقب بالإلقاء في جهنم ملوما: تلومك نفسك، ويلومك الله والخلق، مدحورا، أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ومن كل خير. والخطاب في هذه الآية للأمة، بواسطة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه معصوم فيكون

فقه الحياة أو الأحكام:

المراد به: كل من سمع الآية من البشر. وقد بدأ الله تعالى هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها بعين هذا المعنى. والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر وآخره يجب أن يكون مبتدئا ومقترنا بالتوحيد، وأن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والتعمق فيه. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، ثم تلا: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. أو إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وأولها: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وقد رتب الله تعالى على الإشراك وترك التوحيد في البداية كون الشخص مخذولا، وفي آخر الآيات كونه ملوما مدحورا، فثبت أن أول الأمر يصبر مخذولا، وآخره أن يصير مدحورا. والمخذول: ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، والمدحور: إهانته والاستخفاف به. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- تحريم وأد البنات خشية الفقر أو العار أو غير ذلك مطلقا. 2- تحريم الاقتراب من الزنى ودواعيه وأسبابه التي تؤدي إليه عادة. 3- تحريم قتل النفس بغير حق شرعي. وللولي الوارث سلطة استيفاء القصاص من القاتل وحده دون غيره، بغير تمثيل ولا قتل غير القاتل، فإنه معان عليه بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعها ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى.

4- تحريم قربان مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى التي تؤدي إلى الحفاظ عليه وتحقيق مصلحته الظاهرة، إلى أن يبلغ رشده. 5- وجوب الوفاء بالعهد فالإنسان مسئول عنه، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. 6- إيفاء الكيل وإتمام الوزن بالحق والعدل دون بخس ولا زيادة ولا نقص، فذلك خير للإنسان عند ربه وأبرك، وأحسن عاقبة. قال الحسن البصري: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يقدر رجل على حرام، ثم يدعه، ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» . 7- عدم اتباع مالا يعلم به الإنسان ولا يعنيه، قال مجاهد: لا تذمّ أحدا بما ليس لك به علم. لكن يجوز الحكم بالقيافة لأن الآية وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ دل على جواز مالنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه، جاز أن يحكم به. ويجوز أيضا إثبات الشيء بالقرعة، والخرص (التقدير والتخمين) لأنه نوع من غلبة الظن، فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العمل بالقيافة في إثبات نسب أسامة وكان أسود، من زيد بن حارثة وكان أبيض، ثبت في صحيح مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل عليّ مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تري أن مجززا- وكان قائفا- نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، عليهما قطيفة، قد غطّيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: «إن بعض هذه الأقدام لمن بعض» . واستدل جمهور العلماء على القيافة عند التنازع في الولد بسرور النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول هذا القائف.

ولم يأخذ الحنفية بالقيافة متمسكين بإلغاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الشبه في حديث اللعان. 8- يسأل كل واحد من السمع والبصر والفؤاد عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه الإنسان واعتقده، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع. 9- النهي عن الخيلاء وتحريمه، والأمر بالتواضع والحض عليه. وذكر القرطبي أن إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إليه داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان. 10- استدل العلماء بهذه الآية: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً على ذم الرقص وتعاطيه، قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: قد نص القرآن على النهي عن الرقص، فقال: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وذمّ المختال. والرقص أشد المرح والبطر. قال القرطبي: أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشّعر معه على الطّنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما «1» . 11- هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 263

تقريع على نسبة الولد والشريك إلى الله تعالى [سورة الإسراء (17) الآيات 40 إلى 44] :

تقريع على نسبة الولد والشريك إلى الله تعالى [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) البلاغة: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ؟ الهمزة للإنكار والتوبيخ. لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ وارد على سبيل الفرض والاحتمال. المفردات اللغوية: أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم وخصكم يا أهل مكة، والإصفاء: جعله خالصا له إِناثاً بنات لنفسه بزعمكم لَتَقُولُونَ بذلك قَوْلًا عَظِيماً عظيم الإنكار، بإضافة الأولاد إليه صَرَّفْنا بينا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا يتعظوا ويتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً وما يزيدهم ذلك إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، والنفور: البعد عن الشيء. قُلْ لهم أي للمشركين لَوْ كانَ مَعَهُ أي مع الله لَابْتَغَوْا طلبوا إِلى ذِي الْعَرْشِ أي الله سَبِيلًا طريقا، وللكلام معنيان: الأول- هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى، لغلب بعضهم بعضا، والثاني- لو كانت هذه الأصنام كما تقولون أيها الكفار من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى الله تعالى، وسبيلا إليه، وأعدت لأنفسها المراتب العالية، فلما لم تقدر على اتخاذ سبيل لأنفسها إلى الله، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله؟!

المناسبة:

سُبْحانَهُ تنزيها له وَتَعالى تعاظم عَمَّا يَقُولُونَ من الشركاء. عُلُوًّا كَبِيراً تعاليا متباعدا غاية البعد عما يقولون، فإنه في أعلى مراتب الوجود، وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته، وأما اتخاذ الولد فمن أدنى مراتبه، فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه. تُسَبِّحُ لَهُ تنزهه وَإِنْ ما مِنْ شَيْءٍ من المخلوقات إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إلا ينزهه تنزيها مقترنا بحمده، فيقول: سبحان الله وبحمده لا تَفْقَهُونَ لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ لأنه ليس بلغتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم، غفورا لمن تاب منكم. المناسبة: بعد أن حذر الله تعالى من الشرك، نبّه إلى جهل من أثبت لله شريكا، وندّد بالمشركين وقرّع الذين أثبتوا لله ولدا، وجعلوا البنين لأنفسهم، مع علمهم بعجزهم ونقصهم، ونسبوا البنات لله، مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له، مما يدل على نهاية جهلهم. ثم أبان أنه ضرب في القرآن الأمثال للناس ليتدبروا ويتأملوا فيها، وذكر أنه لو كانت هذه الأصنام تقرب إلى الله زلفى، لطلبت لنفسها القربة إلى الله، ولكنها لم تفعل ذلك، فبان خطؤهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله، وتبين إبطال تعدد الآلهة، وإثبات الوحدانية لله، والتنزيه له، لأن كل ما في الكون تدل أحواله على توحيد الله وتقديسه وعزته، ولكنكم بسبب الجهل والغفلة لا تدركون دلالة تلك الأدلة. التفسير والبيان: بعد أن فند الله تعالى زعم من نسب لله شريكا، شنع هنا على من نسب له الولد، وردّ الله تعالى في هذه الآية على المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، مقرعا لهم ومنكرا عليهم، ومبينا خطأهم العظيم قائلا: أيكرمكم ربكم فيخصكم بالذكور من الأولاد، ويختار لنفسه على

زعمكم البنات، وأنتم تئدوهن ولا ترضونهن لأنفسكم. ثم يشدد الإنكار عليهم قائلا: إنكم في زعمكم أن لله ولدا، وهو من الإناث اللاتي تأنفون أن يكن لكم، لتفترون على الله الكذب، وتقولون على الله قولا عظيما إثمه، موجبا العذاب عليكم، منافيا لأبسط مبادئ العقول بنسبة الضعيف للقوي، والقوي للضعيف. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 22] أي جائرة. ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 88- 95] . ثم نبّه الله تعالى إلى كون هذه المناقشة وذلك الكلام غاية في الوضوح بقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ... أي ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات والمواعظ، وأوضحنا الأمثال لهم، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، وهم مع ذلك ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه. ثم رد الله تعالى على المشركين الذين يتخذون شريكا لله، فقال: قُلْ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ... قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يزعمون أن لله شريكا من خلقه، ويتخذون مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون، وأن الله معه آلهة تعبد لتقرب إليه، وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون المتخذون آلهة يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة بعبادتهم، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه تعالى لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة أنبيائه ورسله، ثم نزه نفسه الكريمة عن ذلك فقال:

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً أي تنزه الله تعالى عما لا يليق به، وتعالى، أي ارتفع وعلا عما يقول هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى، تعاليا كبيرا، بل هو الله الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. وفي وصف العلو بالكبر إشارة إلى وجود التغاير المطلق بين ذاته وصفاته تعالى، وبين نسبة الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد إليه، لوجود المنافاة بين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج، منافاة لا يتصور الزيادة عليها، كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم 19/ 90- 91] . ثم أبان الله تعالى مبلغ عظمته فقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ ... أي تقدسه وتنزهه السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وما من شيء من المخلوقات (الحيوانات والجمادات والنباتات) إلا يسبح بحمد الله تعالى، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجوب وجود الله تعالى الخالق لكل الأكوان، فالتسبيح من الناس هو قولهم: سبحان الله، وهذا حقيقة، ومن الجمادات وغيرها: معناه الدلالة على تنزيه الله تعالى، وهذا مجاز. وقال بعضهم: إنه حقيقة أيضا. وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي ولكن لا تفهمون أيها البشر تسبيحهم، لأنه بخلاف لغاتكم، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح، من شجر أو غيره. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً إنه تعالى كان وما يزال حليما لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، وإنما يمهل ويؤجل، ويغفر لمن تاب منكم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن نسبة الملائكة بجعلها بنات الله افتراء كبير وقول عظيم الإثم عند الله عز وجل. وهذا تنديد بقول بعض العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله. 2- بالرغم من بيان القرآن الشافي للحجج والبينات الدالة على توحيد الله ووحدانيته المطلقة، والاتعاظ بما فيها، فإن المشركين المعاندين الظالمين لا يزدادون بعد هذا البيان إلا التباعد عن الحق، والغفلة عن النظر والاعتبار، لسوء نظرهم وخلل تفكيرهم، واعتقادهم في القرآن أنه حيلة وسحر، وكهانة وشعر. 3- لو كان هناك آلهة شفعاء مع الله كما يزعم المشركون، لكانت هذه الآلهة بحاجة إلى التقرب إلى الله، بالعبادة والتعظيم، لتجعل لنفسها مكانة عند الله، وتلتمس الزّلفة عنده، لأنهم دونه، والمشركون اعتقدوا أن الأصنام تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد بطل أنها آلهة، وكان الأحرى بعبدتها أن يعبدوا الإله الحقيقي وهو الله جل جلاله. وهذا ردّ على عباد الأصنام، كما أن الآية الأولى ردّ على الذين يجعلون الملائكة بنات الله. 4- ما من مخلوق في السموات والأرض إلا يسبح بحمد الله تعالى، وتسبيح البشر العقلاء هو حقيقة بأن يقولوا: سبحان الله أي تنزيها لله تعالى وتمجيدا وتقديسا، وتسبيح غير البشر مجاز، والمراد به تسبيح الدلالة أي دلالة هذه المخلوقات بذاتها على وجود الإله الخالق، فكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح أيضا حقيقة، وكل شيء بصفة

والخلاصة:

عامة يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، لأن الآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وثبت في السنة أنه يخفف على الأموات بالأشجار في حديث الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا المتضمن تعذيب صاحبي القبرين بسبب عدم الاستنزاه من البول والنميمة. قال القرطبي: وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن؟! فالثابت أنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. وهو رأي المذاهب الأربعة. أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء» . والخلاصة: إن الرازي وجماعة يرون أن تسبيح الجمادات مجاز وهو تسبيح الدلالة، وأن القرطبي وآخرين يرون أن كل شيء من الموجودات على الصحيح يسبح، للأخبار الدالة عليه، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود؟ كما حكى القرآن: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص 38/ 17- 18] وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح، وقد نصت السنة على ما دلّ عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه ومالك عن أبي سعيد الخدري-: «لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» . 5- من صفات الله السامية أنه حليم عن ذنوب عباده في الدنيا، غفور للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه، وحلمه أنه لا يعاجل المشركين بالعقوبة على غفلتهم وسوء نظرهم وجهلهم بالتسبيح والشرك.

حماية النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين إذا قرأ القرآن [سورة الإسراء (17) الآيات 45 إلى 48] :

حماية النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين إذا قرأ القرآن [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) الإعراب: حِجاباً مَسْتُوراً أي ذا ستر، على النّسب، مثل: امرأة حائض وطالق وطامث أي ذات حيض وطمث وطلاق، أو بمعنى ساتر، فيجيء مفعول بمعنى فاعل، كما يجيء فاعل بمعنى مفعول، مثل: سرّ كاتم، وماء دافق، أي سر مكتوم، وماء مدفوق. وَحْدَهُ مصدر وقع موقع الحال، أي واحدا. وَإِذْ هُمْ نَجْوى إما جمع نجيّ، كجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وإما مصدر، مثل قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة 58/ 7] . إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِذْ بدل من إِذْ قبله. المفردات اللغوية: حِجاباً وحجبا: أي منعا من الوصول إلى الشيء، والمراد: حاجبا. مَسْتُوراً أي ساترا لك عنهم، فلا يرونك. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ أي منعناهم أن يفهموه، أو كراهة أن يفهموه. وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن استماعه استماع تأمل في لفظه، وتدبر في معناه. وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم، قال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة، ووحده هنا: مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا وحده.

سبب النزول:

بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ بسببه من الهزء. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إلى قراءتك. نَجْوى يتناجون بينهم، أي يتحدثون. إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ في تناجيهم. إِنْ ما تتبعون. مَسْحُوراً مخبول العقل، كقولهم: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون 23/ 25] . كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والكاهن والشاعر. فَضَلُّوا جاروا عن طريق الهدى. فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إليه. سبب النزول: نزول الآية (45) : وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآية: أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا القرآن على مشركي قريش، ودعاهم إلى الكتاب قالوا يهزؤون به: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت 41/ 5] ، فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآيات. وروى ابن عباس: أن أبا سفيان، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد، غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء، وقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آيات، وهي قوله في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [57] وفي النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [108] وفي حم الجاثية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [23] إلى آخر الآية ، فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 20/ 221

نزول الآية (46) :

فهذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفّقون ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار. نزول الآية (46) : وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ: قيل: دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقرأ، ومرّ بالتوحيد، ثم قال: يا معشر قريش، قولوا: لا إله إلا الله، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولّوا، فنزلت هذه الآية. قال أبو حيان: والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته القرآن، ومروره بتوحيد الله تعالى، والمعنى: إذا جاءت مواضع التوحيد، فرّ الكفار إنكارا له، واستبشاعا لرفض آلهتهم، واطراحها «1» . المناسبة: بعد أن تكلّم الله تعالى في المسائل الإلهية، وجادل المشركين بضرب الأمثال لهم، تكلّم في هذه الآية فيما يتعلّق بتقرير النّبوة، والنّعي عليهم بعدم فهمهم للقرآن ونفورهم منه وهزئهم به، وإيذائهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتّهامهم له بأنه كاهن أو ساحر أو مجنون أو شاعر. التفسير والبيان: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، أي حائلا مانعا يمنع

_ (1) البحر المحيط: 6/ 42.

قلوبهم عن فهم معاني القرآن وتدبر آياته، وجعلنا على قلوبهم أغطية بحيث لا يتسرّب إليها فهم مدارك القرآن ومعرفة أحكامه وأسراره وغاياته، وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته. فمعنى قوله تعالى: أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموا القرآن، والوقر: هو الثقل الذي يمنع من سماع القرآن سماع انتفاع واهتداء به. ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت 41/ 5] . والحجاب المستور أي الساتر، فهو يستر البصائر عن أن تبصر حقائق الأشياء، ومعنى جعل الأكنة على القلوب: أي جعل القلوب في الأكنّة، والأكنّة جمع كنان: الذي يغشى القلب، فصار التغليف والحيلولة دون الفهم من الظاهر والباطن والأعلى والأسفل، وأوصد الله الآذان وصمّها عن السّماع سماع وعي وفهم وتدبّر، فهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، والمراد بالآية منعهم عن الإيمان، ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره، ولا يفهمون دقائقه وحقائقه، وذلك لتأصّل الشرك في نفوسهم، وعدم إعمال أفكارهم في حقائق الدّين. وقد تقدّم ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصيّ يصفّقون، ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار. وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.. أي وإذا وحّدت الله في تلاوتك وقلت: لا إله إلا الله، ولم تقل: واللّات والعزّى، ولّوا أي أدبروا راجعين على أدبارهم نافرين نفورا، تكبّرا من ذكر الله وحده، كما قال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزّمر 39/ 45] وذلك لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتّوحيد نفروا. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ.. نحن يا محمد أعلم بالنّحو الذي يستمعون به

فقه الحياة أو الأحكام:

حين يستمعون إليك هزءا وسخرية وتكذيبا، وأعرف بما يتناجى به رؤساء كفار قريش، ويتسارّون، حين جاؤوا يستمعون قراءتك سرّا قائلين: إنك رجل مسحور، أو مجنون، أو كاهن، لذا قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.. أي تأمل يا محمد كيف مثّلوا لك الأمثال، وأعطوك الأشباه، فقالوا: هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا عن سواء السّبيل، ولم يهتدوا إلى الحقّ لضلالهم، ولم يجدوا إليه مخلصا يتخلّصون من متاهة ما هم فيه من الضّياع. وهذا وعيد لهم وإيناس لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الثّابت الذي دلّ عليه القرآن والسّيرة أن الله تعالى حجب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبصار كفار قريش عند قراءة القرآن، فكانوا يمرّون به ولا يرونه. 2- حجب الله القرآن عن أبصار المشركين وعقولهم وأفهامهم، وجعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنّواهي، والحكم والمعاني، وجعل أيضا في آذانهم وقرا أي صمما وثقلا أن يسمعوه، وإذا ذكر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه عند تلاوة القرآن فقال: لا إله إلا الله وحده، ولّى المشركون نافرين نفورا من سماع كلمة الحقّ والتّوحيد. 3- الله تعالى أعلم بالنّحو الذي يستمع فيه المشركون إلى القرآن حين يقول الظالمون منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما للناس لتنفيرهم عن النّبي: ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، قد خبله السّحر، فاختلط عليه أمره، يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، بعد أن قرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التّوحيد، وقال: «قولوا: لا إله إلا الله لتطيعكم العرب، وتدين لكم العجم» فأبوا.

إنكار المشركين البعث والرد عليهم [سورة الإسراء (17) الآيات 49 إلى 52] :

7- تعجيب من الله لرسوله من صنع المشركين كيف يقولون تارة: ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، فضلوا الطريق، فأصبحوا لا يستطيعون حيلة في صدّ النّاس عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وضلّوا عن الحقّ، فلا يجدون سبيلا إلى الهدى. إنكار المشركين البعث والرّد عليهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) الإعراب: أَإِذا كُنَّا عِظاماً عامل إِذا مقدّر، أي أإذا كنّا عظاما ورفاتا بعثنا؟ ولا يجوز أن يعمل فيه لَمَبْعُوثُونَ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. أَوْ خَلْقاً مصدر أو حال أي بعثا جديدا. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ: يَوْمَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكروا يوم يدعوكم، أو نعيدكم يوم يدعوكم، دل عليه قوله تعالى: مَنْ يُعِيدُنا [الإسراء 17/ 51] فعلى التقدير الأول يكون مفعولا، وعلى التقدير الثاني يكون ظرفا، وهو أوجه الوجهين. والباء في بِحَمْدِهِ للحال أي تستجيبون حامدين له. البلاغة: أَإِذا كُنَّا عِظاماً استفهام إنكاري. أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كرر الهمزة لتأكيد الإنكار، ثم أكّده بإنّ واللام، لإفادة قوة الإنكار. قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً تعجيز وإهانة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَقالُوا أي قال المشركون منكرين للبعث. وَرُفاتاً بقايا ما تكسّر وبلي من كلّ شيء. قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أي قل لهم يا محمد: كونوا أي شيء، حجارة أو حديدا، ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر على إحيائكم، والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة، وإلى رطوبة الحي وغضاضته، بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحيّ، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فالله قادر على أن يردّها إلى حالتها الأولى. ولو كنتم أبعد شيء عن الحياة ورطوبة الحي، بأن تكونوا حجارة يابسة، أو حديدا، مع أنها تتصف بالصّلابة، لكان الله قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني: أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه، فإنه يحييه، وينفخ فيه الرّوح. مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة؟ فَطَرَكُمْ خلقكم. أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون. فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ سيحرّكون رؤوسهم تعجّبا واستهزاء. وَيَقُولُونَ استهزاء. مَتى هُوَ أي البعث. أَنْ يَكُونَ قَرِيباً خبر أو ظرف أي في زمان قريب. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل. فَتَسْتَجِيبُونَ أي تجيبون الداعي. بِحَمْدِهِ حال منهم، أي حامدين الله تعالى على كمال قدرته، أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مرّ على قرية، أو مدّة حياتكم، لما ترون من الهول. المناسبة: بعد أن تكلّم الله تعالى في الإلهيّات، ثم أتبعه بذكر شبهات المشركين في النبوّات، ذكر في هذه الآية شبهاتهم في إنكار البعث والمعاد والقيامة، وردّ عليها بما ينقضها. ومن المعلوم أن مدار القرآن على المسائل الأربعة، وهي: الإلهيّات، والنّبوّات، والمعاد، والقضاء والقدر.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وقال المشركون منكر والبعث والمعاد استفهام إنكار لذلك حين سماع القرآن وسماع أمر البعث: أإذا كنّا عظاما بالية في قبورنا، ورفاتا أي ترابا بسبب تكسر العظام وصيرورتها كالتّراب، أإنا لمبعوثون عائدون يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر خلقا صحيحا جديدا كما كنّا قبل الممات، كما أخبر عنهم القرآن في موضع آخر: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات 79/ 10- 12] . وقوله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] . فأمر الله تعالى نبيّه أن يجيبهم بقوله: قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ... أي قل يا محمد لهم: إن إعادة الميت إلى الحياة أمر يسير سهل، وهو أهون على الله من الخلق أول مرة، أي أهون في تصورنا وحكمنا على الأشياء وإلا فالخلق لأي شيء على الله يسير في أي حال لأن المادة المركبة إذا وجدت عناصرها وعرفت خواصها يسهل إحداث أشياء مماثلة لها، ولو فرض أنكم أيها المشركون كنتم أبعد شيء من الحياة، وأشدّ الأشياء صلابة من حجارة أو حديد إذ هما أشدّ امتناعا من العظام والرّفات عن قبول الحياة، أو أي خلق يعظم في تصوّركم وعقولكم كالسّماء والأرض والجبال عن قبول الحياة، فإن الله قادر على إحيائه وبعثه من جديد لأن المواد الجامدة متساوية في قبولها ما يطرأ عليها من حياة أو عقل إذ لو لم يكن هذا القبول والاحتمال قائما حاصلا، لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر، والله قادر على كل الممكنات، وعالم بجميع الجزئيات، فإعادة الحياة إلى تلك الأجزاء المادية ممكن قطعا، سواء صارت عظاما ورفاتا، أو صارت شيئا أبعد في تصور الحياة وقبولها، وهي أن تصير حجارة أو حديدا.

وهذا من قبيل المبالغة وربط الأشياء بأقصى ما يمكن تصوره في الدّلالة على قدرة الله تعالى على الإحياء والإعادة. وبعد استبعاد الإعادة استبعدوا حدوثها كما قال تعالى: فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا؟ .. أي فسيقولون لك يا محمد: من يعيدنا إلى الحياة إذا كنّا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا، فقل لهم: المعيد هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا، ثم صرتم بشرا عديدين منتشرين في الدّنيا، فإنه سبحانه وتعالى قادر على إعادتكم، ولو صرتم إلى أي حال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم 30/ 27] . والمتوقع حين سماع ذلك هو كما قال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي لتأصل إنكار البعث في نفوسهم سيحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيبا. وَيَقُولُونَ: مَتى هُوَ؟ أي يقولون: متى هذا البعث والإعادة؟ عنّا الحزن [فاطر 35/ 34] وهي رواية ضعيفة، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري: هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة. قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي إن ذلك قريب منكم سيأتيكم لا محالة، فكلّ ما هو آت قريب، كما قال سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج 70/ 6- 7] . وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. فقوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً معناه أنه هو قريب لأن عَسى واجب، نظيره: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى 42/ 17] . يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي يكون ذلك البعث يوم يدعوكم الرّب تبارك وتعالى، فتستجيبون له من قبوركم حامدين طائعين منقادين، وتقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث فقوله تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

بِحَمْدِهِ أي بأمره، كما قال تعالى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم 30/ 25] ، أي إذا أمركم بالخروج من الأرض فأمره لا يخالف. روى أنس مرفوعا: «ليس على أهل: لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم، ينفضون التراب عن رؤوسهم، يقولون: لا إله إلا الله» وفي رواية الطبراني عن ابن عمر: يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر 35/ 34] وهي رواية ضعيفة، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري: هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي وتحسبون عند البعث يوم تقومون من قبوركم أنكم ما لبثتم في الدار الدنيا إلا زمنا قليلا، كقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] ، وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه 20/ 104] ، وقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم 30/ 55] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- لم يقتصر فساد عقيدة المشركين على الشرك واتخاذ آلهة أخرى مع الله تعالى، وإنما أنكروا وقوع البعث والمعاد، وكانت هذه الآية مبيّنة غاية الإنكار منهم. 2- لا داعي للعجب من قدرة الله تعالى، فإن البشر إذا عجبوا من إعادة الحياة للعظام البالية والرّفات الفانية، فلقصور إدراكهم، وضعف قدراتهم، ونقص قواهم، وأما الله تعالى فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى لو فرض أنهم حجارة أو حديد في غاية الشدة والقوة، لأعادهم كما بدأهم، بل

مجادلة المخالفين باللين وبالتي هي أحسن [سورة الإسراء (17) الآيات 53 إلى 55] :

لو كانوا ما شاؤوا فسيعادون إلى الحياة مرة أخرى لأن القدرة التي أنشأهم بها يعيدهم بها. 3- لا يسع البشر حين دعوتهم بالخروج من قبورهم إلا الامتثال والطاعة والانقياد، وذلك يحصل بلحظة سريعة جدا، كما قال تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] . ويستجيب الناس بأمر الله وقدرته ودعائه إياهم، وبحمده، أي باستحقاقه الحمد على الإحياء. ورجح المالكية أن المراد بقوله تعالى: بِحَمْدِهِ: بدعائه إياهم. 4- يقدّر الناس بعد البعث أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا زمنا قليلا لطول لبثهم في الآخرة. مجادلة المخالفين باللين وبالتي هي أحسن [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) الإعراب: يَقُولُوا: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا: جواب «قولوا» المقدرة، أي قل لعبادي: قولوا التي هي أحسن، يقولوها.

البلاغة:

البلاغة: يَرْحَمْكُمْ ويُعَذِّبْكُمْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَقُلْ: لِعِبادِي المؤمنين. يَقُولُوا للكفار الكلمة الحسنى وباللين، ولا يخاشنوا المشركين. يَنْزَغُ يفسد بينهم بالوسوسة، ويهيج الشّر. عَدُوًّا مُبِيناً بيّن العداوة. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة والإيمان. أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ أي وإن يشأ يعذّبكم تعذيبا بالموت على الكفر، وهذه الآية: تفسير للتي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي قولوا لهم هذه الكلمة، ولا يصرحوا بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشّر، مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا أو مفوضا إليك أمرهم، تقسرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك مبشّرا ونذيرا، فدارهم، وأمر أصحابك بالاحتمال منهم. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيخصّهم بما شاء على قدر أحوالهم، ويختار منهم لنبوّته وولايته من يشاء. وهو ردّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيّا، وأن يكون العراة الجياع أصحابه. وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بتخصيص كلّ منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلّة، ومحمد بالإسراء وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً الزّبور: الكتاب الذي أنزل على داود عليه السّلام. سبب النزول: نزول الآية (53) : وَقُلْ لِعِبادِي..: روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت. وقيل: شتم عمر رجل منهم، فهمّ به، فأمره الله بالعفو. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله تعالى: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [42] ، وذكر

التفسير والبيان:

الحجة اليقينية في صحة البعث والمعاد بقوله تعالى: قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أمر تعالى بمجادلة المخالفين باللين وبالطريق الأحسن وألا يخاشن المشركون، وألا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب حتى لا يقابلوكم بمثله، وتحدث النّفرة، فيقال لهم: ربّكم العليم بكم، إن شاء عذّبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرّح لهم بأنهم من أهل النّار، فلا يحاولون الإيمان أو الإسلام. ثم بيّن تعالى مهمة رسوله وهي التّبشير والإنذار، وأنه ليس مفوضا في حمل الناس على الإسلام أو إجبارهم عليه، وأنه تعالى العليم بكلّ شيء وبمن في السّموات والأرض، فيختار للنّبوة من يراه أهلا لها. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبات الناس من المشركين وغيرهم ومحاوراتهم معهم الكلام الأحسن للإقناع، والكلمة الطيّبة، وهو ألا يكون بيان الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب والأذى، كما قال تعالى في آية أخرى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] ، وقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت 29/ 46] . وعلّة ذلك كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي إن لم يقولوا الكلام الأحسن والكلمة الطيبة، فإن الشيطان يفسد الأمور بين المؤمنين والمشركين، ويثير الفتنة والشّر، ويوقع المخاصمة والمقاتلة ويغري بعضهم لأنه عدو لآدم وذريّته عداوة ظاهرة بيّنة، ولهذا نهى الشرع أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، فربّما أصابه بها، روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يشيرنّ

أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار» . وسبب نزغ الشيطان للإنسان ما قاله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي إن الشيطان عدوّ ظاهر العداوة للإنسان، وقد أعلن عداوته منذ القدم كما حكى القرآن: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف 7/ 17] . ثم فسّر الله تعالى الطريق الأحسن الألين الذي لا مخاشنة فيه بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ.. أي ربّكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة ووفقكم للطاعة والإنابة إليه، وإن شاء عذّبكم فلا يهديكم للإيمان، فتموتوا على شرككم، فهذه هي الكلمة ونحوها التي تقال لهم، ولا يقال لهم: إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشّر. وقوله تعالى: أَعْلَمُ بمعنى عليم، نحو قولهم: «الله أكبر» بمعنى كبير، فلا مجال للمقارنة أو الموازنة بينه وبين غيره. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي وما أرسلناك يا محمد عليهم حفيظا ورقيبا ووكيلا موكولا إليك أمرهم، تحاسبهم على أعمالهم، وتقرّهم على الإسلام وتجبرهم عليه، إنما أرسلناك نذيرا وبشيرا فقط، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار، فتلطّف في دعوتهم ولا تغلظ عليهم، ودارهم، ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وربّك أعرف بكل من هو في السموات والأرض، وأعلم بأحوالهم ومقاديرهم كلّها علم إحاطة وانكشاف: أَلا

يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك 67/ 14] فهو أدرى وأعرف بما يستأهل كل واحد منهم. وفي هذا ردّ على المشركين في جعل النّبوة والرّسالة بمن اصطفاهم وتفنيد لقولهم حين قالوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزّخرف 43/ 31] وحين تضايقوا من تقريب الفقراء كصهيب وبلال وخبّاب وإبعاد السّادة وزعماء قريش. وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أي ولقد فضّلنا بعض الأنبياء والرّسل على بعض بالمزايا والكتب والخصائص، كاتّخاذ إبراهيم عليه السّلام خليلا، وموسى عليه السّلام كليما، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النّبيين، ونظير الآية: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة 2/ 253] وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم والإسراء والمعراج، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السّلام على المشهور. ولا خلاف أنّ الرّسل أفضل من بقية الأنبياء، وأنّ أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون في آيتين من القرآن هما: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ، وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ، وَمُوسى، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب 33/ 7] . شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] . وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي فضلناه بإنزال الزّبور عليه، لا بالملك والسلطان، ومما ورد في الزّبور أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النّبيين، وأن أمته خير

فقه الحياة أو الأحكام:

الأمم، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] وفيه تنبيه على فضله وشرفه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية: 1- أمر الله تعالى في الآية الأولى جميع المؤمنين فيما بينهم بخاصة بحسن الأدب، وإلانة القول، وخفض الجناح، واطراح نزعات الشيطان، وفيما بينهم وبين الكفار أثناء المحاورة والنقاش بالكلمة الطيبة، والكلام الأحسن للإقناع لأن الشيطان يفسد بين الناس، ويلقي العداوة والبغضاء بينهم لأنه شديد العداوة للإنسان. وتفويتا للفرصة عليه، وادّخارا للجهد في سبيل إبلاغ الدّعوة، ونشر الإسلام، وتوصّلا إلى الغاية المرجوة، يلزم أن يكون النقاش منطقيا عقليا هادئا، بعيدا عن السّبّ والشّتم والأذى. 2- الآية الثانية رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ.. خطاب للمشركين مضمونه: إن يشأ الله يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشّرك فيعذّبكم. وهذا قول ابن جريج. وقال الكلبي: الخطاب للمؤمنين مضمونه: إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذّبكم بتسليطهم عليكم. 3- ليس أمر المشركين موكولا إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقسرهم على الإسلام وإجبارهم عليه، ومنعهم من الكفر، وإنما مهمته محصورة في التبليغ والتّبشير والإنذار، تبشير من أطاعه بالجنّة، وإنذار من عصاه بالنّار. 4- قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بعد قوله:

تفنيد آخر لشبهات المشركين [سورة الإسراء (17) الآيات 56 إلى 60] :

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ لبيان أن الله خالقهم، وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم. 5- ليس كلّ الأنبياء في درجة واحدة متساوية، وإنما يوجد تفاضل بينهم، فقد فضل الله بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم، كما بيّنا في التّفسير. 6- أنزل الله تعالى الزّبور على داود عليه السّلام، والزّبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد، والقصد من الإشارة إليه في الآية محاجّة اليهود، وإعلامهم أنه كما آتينا داود الزّبور، فلا تنكروا أن يؤتي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن الكريم. تفنيد آخر لشبهات المشركين [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

الإعراب:

الإعراب: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ ... أُولئِكَ: مبتدأ، والَّذِينَ: صفته، ويَدْعُونَ: صلة الَّذِينَ، والعائد محذوف، أي يدعونهم. والَّذِينَ يَدْعُونَ: صفة المبتدأ. ويَبْتَغُونَ: خبر المبتدأ. وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ: مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، أي ينتظرون. ويحتمل أن تكون «أي» بمعنى الذي بدل من واو يَبْتَغُونَ فتكون «أي» مبنية. أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ ... : أَنْ الأولى: منصوبة بتقدير حذف حرف الجر، أي من أن نرسل، فلما حذف حرف الجر انتصب ب «منع» . وأَنْ الثانية: فاعل منع، أي وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها. والمعنى أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش، فكذبوها، لأهلكناهم، كما أهلكنا من تقدّمهم، وقد سبق في العلم القديم تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة، فلم نرسل بالآيات لذلك. وَالشَّجَرَةَ.. منصوبة بالعطف على الرُّؤْيَا وهي مفعول أول ل جَعَلْنَا والثاني فِتْنَةً. وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فاعل يَزِيدُهُمْ مقدر، أي التخويف، دلّ عليه نُخَوِّفُهُمْ. وطُغْياناً: مفعول ثان ل يَزِيدُهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين. البلاغة: وَلا تَحْوِيلًا فيه إيجاز بالحذف، أي ولا تحويل الضّرّ عنكم، حذف لدلالة ما سبق. يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ بينهما طباق. وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ المنع محال في حق الله تعالى إذ لا يمنعه شيء، فالمنع مجاز عن الترك، أي سبب ترك الإرسال هو التكذيب. النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مجاز عقلي علاقته السببية، أي أنه لما كانت الناقة سببا في إبصار الحقّ والهدى، نسب إليها الإبصار. المفردات اللغوية: زَعَمْتُمْ أنهم آلهة، أي كذبتم، والزعم في الأصل: القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه زعم فهو كذب «1» .

_ (1) تفسير الرّازي: 20/ 231

سبب النزول:

مِنْ دُونِهِ كالملائكة وعيسى وعزير. فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون. كَشْفَ الضُّرِّ إزالته. وَلا تَحْوِيلًا ولا تحويله عنكم إلى غيركم. يَدْعُونَ أي يدعونهم آلهة أو ينادونهم. يَبْتَغُونَ يطلبون. الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة، أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله تعالى القربة بالطاعة. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يبتغي القربة أو الوسيلة الذي هو أقرب منهم إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ أو كيف تدعونهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً مخوّفا، حقيقا بأن يحذره كلّ أحد، حتى الرّسل والملائكة. وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ما من قرية، والمراد أهلها. مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت. أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره. فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ. مَسْطُوراً مكتوبا. بِالْآياتِ التي اقترحها أهل مكة، فهي ما اقترحته قريش، مثل جعل الصّفا ذهبا. إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي لما أرسلنا الآيات وكذبوا بها أهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء، لكذبوا بها، واستحقوا الإهلاك وعذاب الاستئصال، وقد كنّا حكمنا بإمهالهم، لإتمام نشر دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. مُبْصِرَةً آية بيّنة واضحة، أو ذات إبصار لمن يتأملها ويفكر فيها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها فأهلكوا، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المعجزات أو الآيات المقترحة. إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد من نزول العذاب المستأصل، فيؤمنوا. وَإِذْ قُلْنا واذكر إذ قلنا. أَحاطَ بِالنَّاسِ علما وقدرة، والمراد أنهم في قبضته وتحت قدرته، فبلغهم الرسالة ولا تخف أحدا، فهو يعصمك منهم، ولا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا. الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ عيانا ليلة الإسراء، والرُّؤْيَا: هي ما عاينه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الإسراء من العجائب، والمراد بها هنا خلافا للغالب: الرؤية البصرية، قال ابن عباس: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به» ، ولو كانت رؤيا منام، لما كانت فتنة للناس، ولما ارتدّ بعضهم عن الإسلام. إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أهل مكة، إذ كذّبوا بها، وارتدّ بعضهم، لما أخبرهم بها. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، جعلناها فتنة لهم، إذ قالوا: النار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ وَنُخَوِّفُهُمْ بها. فَما يَزِيدُهُمْ تخويفنا. إِلَّا طُغْياناً الطغيان: تجاوز الحدّ في الفجور والضلال. سبب النزول: نزول الآية (56) : قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان

نزول الآية (59) :

ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجنّ، فأسلم الجنيّون، واستمسك الآخرون بعبادتهم، فأنزل الله: قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ الآية. وروي أنه لما أصاب القحط قريشا، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنزل الله هذه الآية. نزول الآية (59) : وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ: أخرج أحمد والنسائي والحاكم والطّبراني عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، وأن ينحّي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت نؤتهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا، كما أهلكت من قبلهم، قال: «بل أستأني بهم» فأنزل الله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. نزول الآية (60) : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا: أخرج أبو يعلى عن أم هانئ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أسري به أصبح يحدّث نفرا من قريش يستهزئون به، فطلبوا منه آية، فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وأخرج ابن المنذر عن الحسن نحوه. وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصبح يوما مهموما، فقيل له: مالك يا رسول الله؟ لا تهتم، فإنها رؤيا تنالهم، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.

نزول الآية (60) أيضا:

نزول الآية (60) أيضا: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: لما ذكر الله الزقّوم، خوّف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوفكم به محمد؟ قالوا: لا، قال: الثّريد بالزّبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقما، فأنزل الله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً، وأنزل تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان 44/ 43- 44] . المناسبة: بعد أن ندّد الله تعالى بإنكار المشركين البعث، عاد إلى الرّدّ عليهم في عبادتهم الملائكة والجنّ والمسيح وعزيرا، فهؤلاء يتوسّلون إلى الله بالطاعة والعبادة، ويخافون عذابه، فالمستحق للعبادة هو مالك هؤلاء، والقادر على النفع والضّر دونهم. وليس المراد الأصنام لأن ابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة. ثم ذكر تعالى وعيده لهم وهو أن مصير قرى الكافرين إما الإبادة والاستئصال، وإما العذاب دون ذلك، كالقتل والسّبي واغتنام الأموال. ثم ردّ تعالى على المشركين طالبي آيات حسيّة ومعجزات عظيمة قاهرة، مثل قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الآيات: 90- 93] ، بأن تلبية اقتراحهم يهددهم، فلو جاء بالآيات، ثم كذبوا بها، عذبوا بعذاب الاستئصال، على وفق سنّة الله فيمن قبلهم، مثل آية ثمود البيّنة الواضحة. وبالرغم من أن إظهار المعجزات ليس بمصلحة، فقد تجرأ أولئك الكفار بالطّعن بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين له: لو كنت رسولا حقّا من عند الله تعالى، لأتيت

التفسير والبيان:

بهذه المعجزات التي طلبناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعندئذ أبان الله تعالى أنه ناصره بقوله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ. ثم أردف ذلك بأن ليلة الإسراء كانت فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما أن شجرة الزّقوم في نار جهنم فتنة وامتحان أيضا. التفسير والبيان: قل أيّها الرّسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، وهي الأصنام والأنداد، هل يجيبونكم، وارغبوا إليهم حين وقوع الضّرّ بكم من فقر ومرض وقحط وعذاب ونحوها، وانتظروا هل يستطيعون كشف الضّرّ عنكم أو تحويله أو تبديله من مكان أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم. وإنما الذي يقدر عليه هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. قال ابن عباس: كان أهل الشّرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرا. أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربّهم، يقصدون ويطلبون التّوسل إليه والتّقرّب منه بالطاعات والقربات، ويخصونه بالعبادات، والوسيلة: هي القربة. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ أي ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ أو أن معنى يبتغون الوسيلة: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى، وذلك بالطاعة وازدياد الخير

والصلاح، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «سلوا الله الوسيلة، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: القرب من الله، ثم قرأ هذه الآية» . وأما رجاء الرّحمة وخوف العذاب، فلأن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي، وبالرجاء يكثر من الطاعات. والعلّة في الخوف من العذاب هي كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي إن عذاب ربّك كان مخوّفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذره ويخاف من وقوعه وحصوله العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فكيف أنتم؟! ثم أبان الله تعالى مصير الظالمين، فقال: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها.. أي وما من قرية في علم الله المكتوب عنده في اللوح المحفوظ، من قرى الظالمين بالكفر والمعاصي إلا سيهلكها الله، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاب استئصال، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، لا ظلما، وإنما بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 11/ 101] . كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان ذلك حكما عاما ثابتا مسجّلا في علم الله أو في اللوح المحفوظ. أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر وما هو كائن إلى يوم القيامة» . ثم أوضح الله تعالى سبب عدم تلبية طلبات أهل مكة فقال:

وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ.. أي وما صرفنا عن الإتيان بما يقترحونه من الآيات إلا تكذيب المتقدّمين الأولين بأمثالها، فإن أتينا بها وكذّب بها أهل مكة وأمثالهم، عجّلنا لهم العذاب، ولم يؤخّروا، كما هي سنّة الله في خلقه. والآيات التي اقترحها أهل مكة- كما بيّنا في سبب النزول- مثل جعل الصّفا ذهبا، وتنحية الجبال عنهم، وجعل أراضيهم صالحة للزراعة. وأما الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذّبوا بها لما أرسلت، فأهلكوا جميعا، مثل ناقة صالح لثمود، فلما عقروها أخذتهم الصيحة، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها الذاهب والعائد كما قال تعالى هنا: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجّة واضحة دالّة على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي لبى الله دعاءه فيها. وقوله تعالى: مُبْصِرَةً أي بيّنة أو ذات إبصار يدركها الناس، وإنما خصّت بالذّكر هنا دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة من بلاد العرب وفي طريقهم. وقوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي ولا نبعث بالآيات إلا تخويفا للناس من نزول العذاب العاجل لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، فإن لم يخافوا وقع عليهم. ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت (زلزلت) على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس، إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه، وروي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ، وفي الحديث المتّفق عليه بين الشيخين: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته،

ولكن الله عزّ وجلّ يخوّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ثم قال: يا أمّة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . ثم حرّض الله تعالى رسوله على إبلاغ رسالته، وأخبره بأنه قد عصمه من الناس، فقال: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر إذ أوحينا إليك أن الله هو القادر على عباده، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته، وقد عصمك من أعدائك قريش وغيرهم، وأن الله سينصرك عليهم كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] ، وقال مبشّرا بالنّصر في بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر 54/ 45] ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران 3/ 12] . ولما بيّن تعالى أن إنزال آيات القرآن تتضمن التّخويف، ذكر آية الإسراء، فقال: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي وما جعلنا ما أطلعناك عليه ليلة الإسراء إلا اختبارا وامتحانا للنّاس، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكافرين المكذّبين، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس، لا بالنّسبة إلينا، فنحن على علم سابق بكل ما سيحصل، وقد كذّب بها قوم وكفروا، وصدّق بها آخرون. ذكر البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به. ويقال في العربية: رأيته بعيني رؤية ورؤيا. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فيه تقديم وتأخير أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، أي اختبارا لهم، مثل حادث الإسراء والمعراج. وتلك الشجرة هي شجرة الزّقوم، قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدّخان 44/ 43- 44] . وقد اختلف الناس فيها، فمنهم من ازداد إيمانا، فكثير من الأشياء لا تحرقها النار، ومنهم من ازداد كفرا كأبي جهل وعبد الله بن الزّبعرى، وقالوا: وما الزّقّوم إلا التّمر والزّبد، فجعلوا يأكلون ويتزقّمون منهما. وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والنّكال في الدّنيا والآخرة، فما يزيدهم التّخويف إلا تماديا في الطّغيان وفيما هم فيه من الكفر والضّلال، فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟! فقه الحياة أو الأحكام: أفهمت الآيات المبادئ والأحكام التالية: 1- لا يملك أحد غير الله عزّ وجلّ كشف الضّر من فقر أو مرض أو بلاء أو غيره، أو تحويله وتبديله من مكان إلى مكان أو من شخص إلى آخر. وقد تحدّى الله المشركين في مكة بآية قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ.. بأن يدعوا ما يعبدون من دون الله، ويزعمون أنهم آلهة لكشف ما أحدق بهم من قحط سبع سنين. 2- لا فائدة ولا جدوى من الاستعانة بغير الله من الآلهة المزعومة، فإن تلك المخلوقات كالملائكة وعيسى وعزير يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرّعون إلى الله تعالى في طلب الجنة. والوسيلة هي القربة. وهذا إخبار من الله تعالى بأن المعبودين يبتغون القربة إلى ربّهم، فهم بأنفسهم بحاجة إلى ربّهم، فكيف يؤمل منهم الخير ودفع الضرّ والشّرّ لأتباعهم وعابديهم؟! 3- ما من قرية ظالمة إلا وسيهلكها وأهلها الله أو يعذّبها عذابا شديدا قبل

مجيء يوم القيامة، فليتّق الله المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحلّ بها العذاب، قال ابن مسعود: إذا ظهر الزّنى والرّبا في قرية أذن الله في هلاكهم. ولا يكون الإهلاك إلا بظلم من الناس، قال تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص 28/ 59] . 4- لا مانع يمنع الله سبحانه من الإرسال بالآيات التي اقترحها مشركو مكة إلا أن يكذّبوا بها، فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم، لذا أخّر الله تعالى العذاب عن كفار قريش، لعلمه أن فيهم من يؤمن، وفيهم من يولد مؤمنا. 5- كان إيتاء ثمود الناقة آية دالّة مضيئة نيّرة على صدق صالح عليه السّلام، وعلى قدرة الله تعالى. ولما ظلموا أنفسهم بتكذيبها، أو جحدوا بها، وكفروا بأنها من عند الله تعالى، استأصلهم الله بالعذاب. 6- لا يكون الإرسال بآيات الانتقام إلا تخويفا من المعاصي والكفر. 7- بشّر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأنه أحاط بالناس، أي أهل مكة، وإحاطته بهم: إهلاكه إياهم، أو أحاطت قدرته بجميع الناس، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته. 8- إن آية الإسراء وشجرة الزّقّوم اختبار للناس وامتحان لهم، ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدّق من سبق له الإيمان. والثابت والأصح أن حادث الإسراء رؤيا عين أريها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. والشجرة الملعونة هي شجرة الزّقّوم، وهي في أبعد مكان من الرّحمة. والله تعالى يخوف المشركين وغيرهم بالزّقوم، فما يزيدهم التّخويف إلا الكفر.

قصة آدم مع إبليس - أمر الملائكة بالسجود [سورة الإسراء (17) الآيات 61 إلى 65] :

قصة آدم مع إبليس- أمر الملائكة بالسّجود [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) الإعراب: لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً: طِيناً: إما تمييز منصوب، أو حال من هاء خَلَقْتَ المحذوفة، وإما منصوب بحذف حرف الجرّ (منصوب بنزع الخافض) ، وتقديره: خلقت من طين، فلما حذف حرف الجرّ، اتّصل الفعل به، فنصبه. لَئِنْ اللام: لام القسم. أَرَأَيْتَكَ هذَا الكاف لتأكيد الخطاب، لا محل له من الإعراب، وهذا مفعول به أول، والَّذِي صفته. والمفعول الثاني محذوف، لدلالة صلته عليه، أي أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسّجود له، لم كرمته علي. جَزاءً مَوْفُوراً منصوب على المصدر بإضمار فعله، أو حال موطئة لقوله تعالى: مَوْفُوراً. البلاغة: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ استعارة تمثيلية، شبّه حال الشيطان في تسلّطه على الغاوين بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء، للغلبة عليهم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذْ قُلْنا واذكر حين قلنا. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحيّة بالانحناء أَأَسْجُدُ استفهام إنكار وتعجّب. أَرَأَيْتَكَ أخبرني. كَرَّمْتَ فضّلت. عَلَيَّ بالأمر بالسّجود له، وأنا خير منه، خلقتني من نار. لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنّهم بالإغواء إلا قليلا، لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم، كأنه أصبح يملكهم. والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة. إِلَّا قَلِيلًا منهم، ممن عصمته. قالَ تعالى له. اذْهَبْ امض لشأنك، منظرا إلى وقت النّفخة الأولى، فقد خلّيتك وما سولت لك نفسك. جَزاءً مَوْفُوراً وافرا كاملا. وَاسْتَفْزِزْ واستخف وأزعج. بِصَوْتِكَ بدعائك إلى معصية الله أو الفساد. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ وصح عليهم، من الجلبة: وهي الصياح. بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وهم الفرسان الركاب، والمشاقة في المعاصي. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ المحرمة كالرّبا والغصب. وَالْأَوْلادِ من الزّنى. وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا جزاء، وغير ذلك من المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة لطول الأمل. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ بذلك. إِلَّا غُرُوراً باطلا. وهو اعتراض لبيان مواعيده، والغرور: تزيين الخطأ أو الباطل بما يوهم أنه صواب أو حقّ. إِنَّ عِبادِي المؤمنين المخلصين. سُلْطانٌ تسلّط وقوة على إغوائهم. وَكِيلًا حافظا لهم منك، ورقيبا، فهم يتوكّلون على الله في الاستعاذة منك على الحقيقة. المناسبة: مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين: أحدهما- عقد مشابهة بين محنة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومحنة آدم عليه السّلام من إبليس، فلما نازع المشركون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في النّبوة، وكذّبوه حين أخبرهم عن الإسراء وشجرة الزّقّوم، واقترحوا عليه الآيات، كبرا منهم وحسدا له على النّبوة، ناسب ذكر قصة آدم عليه السّلام وإبليس، حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود، فالحسد داء قديم. والثاني- أنه لما قال تعالى: فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً بيّن ما سبب هذا الطغيان، وهو قول إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.

التفسير والبيان:

هذا.. وقد ذكرت قصة آدم في سبع سور: البقرة، الأعراف، الحجر، الإسراء، الكهف، طه، ص. التفسير والبيان: واذكر أيّها الرسول للنّاس عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، والدليل أنه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم سجود تحيّة ومحبّة وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، فسجدوا كلّهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له، افتخارا عليه واحتقارا له، قائلا: أأسجد له وهو طين، وأنا مخلوق من النار، كما أخبر تعالى عنه: قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 38/ 76] . وقال هنا جرأة وكفرا: قالَ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته: لم كرّمته علي، وأنا خير منه؟ فإنه نسب الجور إلى ربّه في زعمه أنه أفضل من آدم بسبب عنصر الخلق، فإن عنصر النار أسمى وأرفع، وعنصر الطين أدنى وأقرب للخمول، والحقيقة أن العناصر كلها من جنس واحد، أوجدها الله، بل إن الطين أنفع من النار، فبالأول البناء والعمران، وبالثاني الخراب والهدم والدّمار. لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلنّ ذريته بالإغواء، ولأستولينّ عليهم بالإضلال جميعا، أو لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر 15/ 42] أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم. فأجابه الله إلى طلبه حين سأل التأخير وأخّره: قالَ: اذْهَبْ، فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ.. أي امض لشأنك الذي اخترته

لنفسك خذلانا وتخلية، فمن أطاعك واتّبعك منهم، فإن جهنم مقرّكم ومأواكم وجزاؤكم جميعا تجازون فيها جزاء وافرا أو موفرا أي محفوظا كاملا لا ينقص لكم منه شيء، ونظير الآية: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر 15/ 37- 38] . وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي استخف واستنفر بدعوتك إلى معصية الله، بكلّ ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة، وصوته: دعاؤه إلى معصية الله تعالى. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة، وهذا تمثيل، والمراد به: تسلّط عليهم بكلّ ما تقدر عليه، واجمع لهم كلّ مكايدك، ولا تدّخر وسعا في إغوائهم، مستخدما كلّ الأتباع والأعوان. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي بتحريضهم على كسب الأموال وإنفاقها في معاصي الله تعالى من ربا وسرقة وغصب وغش وخديعة، وعلى إنجاب الأولاد بالزّنى أو التّخلّص منهم بالقتل أو الوأد أو إدخالهم في غير الدّين الذي ارتضاه الله تعالى، وغير ذلك من تسميات غير شرعية، وتجاوز حدود الشّرع في الزّواج والطّلاق والرّضاع والنّسب والنّفقة وغيرها. وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي عدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من شفاعة الآلهة المزعومة، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، أو بالتّسويف في التوبة ومغفرة الذّنوب بدونها، والاتّكال على الرّحمة، وشفاعة الرّسول في الكبائر، وإيثار العاجل على الآجل، وألا جنّة ولا نار، ونحو ذلك، مما سيظهر بطلانه حينما يقول إبليس يوم القضاء بالحقّ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم 14/ 22] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوله تعالى هنا: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي لا يعدهم الشيطان إلا كذبا وباطلا وإظهارا للباطل في صورة الحقّ، فمواعيده كلها خدعة وتزيين كاذب، وهذه الأوامر للشيطان واردة على سبيل التّهديد والخذلان والتّخلية، كما يقال للعصاة: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] . إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي إن عبادي المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرّجيم. وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي كفى بالله حافظا ومؤيّدا ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكّلين عليه، الذين يستعينون به على التّخلّص من وساوس الشيطان. وهذا دليل على أن المعصوم من عصمه الله، وأن الإنسان بحاجة إلى عون الله جلّ جلاله. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يلي: 1- إن تمادي المشركين وعتوهم على ربّهم يذكّر بقصة إبليس حين عصى ربّه وأبى السّجود، وقال: إن آدم من طين، وهو من نار، وجوهر النار خير من جوهر الطين، مع أن الجواهر متماثلة، وقال مخاطبا ربّه: أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليّ، لم فضّلته؟ وقال أيضا متحدّيا: لأستأصلنّ ذرية آدم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنّهم ولأضلنّهم إلا القليل المعصومين منهم الذين ذكرهم الله في قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. وإنما قال إبليس ذلك ظنّا، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ

ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سبأ 34/ 20] ، أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى كلامه على قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة 2/ 30] . والظاهر أن المأمور بالسجود لآدم هم جميع الملائكة في الأرض والسماء، وسجد الملائكة لآدم من أول ما كملت حياته. 2- كان جواب الحقّ تبارك وتعالى في غاية الإهانة والتّحقير، فقال له: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ ... الآية، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك، فمن أطاعك من ذرية آدم، فجزاؤكم جميعا جهنّم. واستزلّ واستخفّ بدعوتك إلى معصية الله تعالى، واجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك، واجعل لنفسك شركة في الأموال بإنفاقها في معصية، وفي الأولاد بجعلهم أولاد الزّنى، وعدهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب. ولكن عبادي المؤمنين الصالحين لا سلطان ولا تسلّط لك عليهم. وكفى بالله عاصما من القبول من دعاوى إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره. 3- قال القرطبي: دلّت آية وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ على تحريم المزامير والغناء واللهو لأن صوته: كلّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى، وكلّ ما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التّنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ فأقول: نعم، فمضى حتى قلت له: لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع صوت زمّارة راع، فصنع مثل هذا «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 290

بعض نعم الله تعالى على الإنسان [سورة الإسراء (17) الآيات 66 إلى 70] :

بعض نعم الله تعالى على الإنسان [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) الإعراب: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ بِكُمْ حال أو صلة ليخسف. إِلَّا إِيَّاهُ الظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله: مَنْ تَدْعُونَ إذ المعنى: ضلت آلهتهم أي معبوداتهم، وهم لا يعبدون الله. البلاغة: إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تذييل كالتعليل لما سبق من تسيير السفن بقصد التجارة وطلب الرزق. وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض عن الإيمان والتوحيد. أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يُزْجِي يجري ويسيّر، والأصل فيه أنه يسوق حينا بعد حين. الْفُلْكَ السفن. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تطلبوا من فضله تعالى بالتجارة وفَضْلِهِ: هو رزقه. إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في تسخيرها لكم، وتهيئة ما تحتاجون إليه، وتسهيل ما تعسر من الأسباب. الضُّرُّ الشدة أو خوف الغرق بتقاذف الأمواج. ضَلَّ غاب عنكم وعن ذاكرتكم. مَنْ تَدْعُونَ تعبدون من الآلهة، فلا تدعونه إِلَّا إِيَّاهُ تعالى، فإنكم تدعونه وحده لأنكم في شدة لا يكشفها إلا هو. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق. أَعْرَضْتُمْ عن الإيمان والتوحيد كَفُوراً جحودا للنعم، والمراد بالإنسان الكفار. أَفَأَمِنْتُمْ أي أنجوتم فأمنتم، فأعرضتم، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق، قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي يقلبه الله وأنتم عليه، أو يقلبه بسببكم، كما فعل بقارون، والخسف: انهيار الأرض. وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل، كفروا وأعرضوا، وإن الجوانب والجهات في قدرته سواء، لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك. أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي يرميكم بالحصباء والحجارة كقوم لوط، والمراد: الريح الشديدة الحاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغيرة. وَكِيلًا حافظا منه. أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر. تارَةً أُخْرى مرة ثانية. قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته فهي تكسر الشجر وغيره. والخلاصة: إن الحاصب: الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، والقاصف: الريح التي تقصف الشجر وغيره وتكسره أو هي الريح الشديدة الصوت. بِما كَفَرْتُمْ بكفركم. تَبِيعاً ناصرا ومعينا وتابعا يطالبنا بما فعلنا بكم. كَرَّمْنا فضلنا. بَنِي آدَمَ بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة، والتمييز بالعقل والعلم، والإفهام بالنطق والإشارة، والاهتداء إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمكن من الصناعات، والطهارة بعد الموت، أي أن التكريم بالخلق في أحسن تقويم، وبالعقل أداة العلم والمعرفة والتقدم والتمدن. وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ أركبناهم في الماضي والحاضر على الدواب، وفي الحاضر على السيارات والطائرات ونحوها. وَالْبَحْرِ على السفن. الطَّيِّباتِ المستلذات. وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا كالبهائم والوحوش، ومن: بمعنى ما، أو بمعناها الأصلي وتشمل الملائكة، والمراد تفضيل الجنس، ولا يلزم منه تفضيل أفراده، إذ الملائكة أفضل من البشر غير الأنبياء. والمراد: فضلناهم بالغلبة والاستيلاء، أو بالشرف والكرامة.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم، وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته، ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضارّ، المتصرف في خلقه بما يشاء، وتلك المخلوقات هي نعم إلهية على الإنسان، سواء في البر والبحر، ودلائل القدرة الإلهية، فهو تعالى الذي يزجى الفلك في البحر، وينجي من الغرق، ومن تمام نعمته: تكريم الناس ورزقهم وتفضيلهم على جميع الخلق، مما يستوجب الإفراد بالعبادة. التفسير والبيان: ربكم اللطيف بعباده هو الذي يوفر مصالح خلقه ويسهل لهم سبل الحياة، فيجري ويسيّر لكم السفن في البحر بمختلف القوى كالريح أو الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية، لنقل الأشخاص للسياحة أو للارتزاق بين بلاد الدنيا، ونقل البضائع والسلع التجارية من إقليم إلى إقليم، وطلب الرزق من فضل الله، إنه كان بكم رحيما، أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم. ومن رحمته تعالى وفضله ما أخبر به: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ.. أي وإذا أصابكم أيها الناس ضر أو شدة وجهد في البحر، ذهب عن تصوراتكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم وتعبدونه من دون الله من صنم أو ملك أو بشر إلا إياه سبحانه، فلا تتذكرون إلا الله، ولا تلجؤون لسواه لكشف الضر عنكم. وذلك كما حدث لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارّا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين فتح مكة، وركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتها ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه:

والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤفا رحيما، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي فلما أمنتم وأنقذكم، وأوصلكم إلى شاطئ البر والسلامة، واستجاب دعاءكم، أعرضتم، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه، وعدتم إلى الإشراك به. وعلة ذلك ما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي وكانت سجية الإنسان وطبعه أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله تعالى. ثم ناقشهم تعالى محذرا من جحود النعمة فقال: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ.. أي أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقام الله وعذابه، بأن يخسف بكم جانب البر الذي تقطنون فيه بتغييبه في باطن الأرض، أو أن يرسل عليكم حاصبا، وهو المطر الذي فيه حجارة من السماء أو الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار، كما فعل بقوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي لا تجدون بعدئذ ناصرا تكلون إليه أموركم، وينقذكم منه، ومن يتوكل بصرف ذلك عنكم. وجانب البر: ناحية الأرض. والحاصب أخبر تعالى عنه في آيات، مثل: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر 54/ 34] ومثل وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر 15/ 74] . أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ ... أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا، بعد ما اعترفتم في البحر بتوحيدنا، وخرجتم إلى البر، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية، فيرسل عليكم وأنتم راكبون في السفن ريحا قاصفا تقصف السواري، وتغرق

المراكب، فالقاصف: ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها، ولها قصيف أي صوت شديد، كأنها تتقصف أي تتكسر. فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي يغرقكم بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى. ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نفعل ما نفعل بكم، ثم لا تجدوا أحدا يطالبنا بما فعلنا، انتصارا منا، ودركا للثأر من جهتنا، أي لا تجدوا أحدا يأخذ بثأركم بعدكم. وقوله تَبِيعاً أي نصيرا يأخذ بالثأر، أو يطالب بالحق. ونظير هذا قوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس 91/ 15] . وفي قوله وعيد شديد وتهديد بسوء العاقبة. ومن تمام نعمة الله وفضله ورحمته تكريم الإنسان في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ.. أي ولقد كرمنا بني آدم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا «1» ، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحناهم السمع والبصر والفؤاد للفقه والفهم، وجمّلناهم وميزناهم بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى الصناعات والزراعات والتجارات، ومعرفة اللغات، ويفكرون في اكتشاف خيرات الأرض، والإفادة من الطاقات، وتسخير ما في العالم العلوي والسفلي، وما في الكون من وسائل النقل وأسباب الحياة والمعيشة، والتمييز بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية. وحملناهم في البر على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي الوقت الحاضر على القطارات والطائرات وغيرها، وفي البحر أيضا على السفن الكبيرة والصغيرة، وهو حمل لا يصح لغير بني آدم بإرادته وقصده وتدبيره. ورزقناهم من الطيبات، أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، والخلاصة: أن

_ (1) وهذا كرم نفي النقصان، لا كرم المال.

فقه الحياة أو الأحكام:

الطيبات هي لذيذ المطاعم والمشارب، وتشمل تبعا سائر أنواع الزينة المستطابة. وفضلناهم على كثير ممن خلقنا وهو ما سوى الملائكة، أو فضلناهم على أصناف المخلوقات وسائر أنواع الحيوانات بالغلبة والاستيلاء والحفظ والتمييز والثواب والجزاء. وعلى التفسير الثاني استدل بهذه الآية الكريمة كما ذكر ابن كثير على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو، وعبد الرزاق عن زيد بن أسلم موقوفا، وابن عساكر عن أنس بن مالك مرفوعا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبّح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا، فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فيكون» . وقد عرفنا أن الحق تفضيل الملائكة على البشر. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- لله تعالى على الإنسان أفضال ونعم كثيرة غير الرزق والحياة، منها تسخير السفن في البحار، لركوب الركاب وتيسير وسائل المواصلات ونقل التجارات، مما يقتضي شكر تلك النعم، وعدم الإشراك به شيئا آخر. 2- من نعمه تعالى ورحمته إنقاذ الإنسان من مخاطر البحر وأهواله أثناء هياجه واضطرابه، فلا يجد المضطر ملجأ غير الله يلجأ إليه لكشف الضر عنه. وكل واحد يعلم بالفطرة علما يقينيا أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام. لكن الإنسان ظلوم كفار للنعم إلا من عصمه الله، والمراد بالإنسان في

وهل الإنسان أفضل أو الملائكة؟ :

قوله: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً هو الجنس الشامل للمؤمن والكافر. والله قادر على إهلاك الناس في البر، وإن سلموا من البحر، ولن يجدوا من دون الله حافظا ونصيرا يمنع من بأس الله، والله تعالى إما أن يهلك الناس بالزلزال (خسف جانب من الأرض) أو بإرسال ريح شديدة وهي التي ترمي بالحصباء. وإذا تم الإنجاء من الغرق، فربما يعود الإنسان إلى ركوب البحر، فيتم الإغراق بقاصف من الريح: وهو الريح الشديدة التي تكسر بشدة، بسبب الكفر والضلال، دون أن يجد الناس من يثأر لهم أو يوجد نصير يطلب لهم بثأر أو غيره. 3- ومن نعم الله تعالى الجليلة على الإنسان: الأشياء الأربعة التي بها فضل الإنسان على غيره: وهي تكريم بني آدم بخلقهم في أحسن تقويم وبالعقل والتفكير، والحمل في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وغيرها من الوسائل الحديثة، وفي البحر على السفن، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات، لا على الكل. والفرق بين التكريم والتفضيل: أن الأول يكون بالأمور الخلقية الطبيعية الذاتية مثل العقل والنطق والتخطيط والصورة الحسنة والقامة المديدة، والثاني يكون بتمكينه بالعقل والفهم من اكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة «1» . وهل الإنسان أفضل أو الملائكة؟ يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وليس في الآية نص على التفضيل بين الصنفين، كالآية التي تصرح بتفضيل بعض الأنبياء على بعض.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 16.

أحوال الناس مع قادتهم يوم القيامة [سورة الإسراء (17) الآيات 71 إلى 72] :

فقال بعض العلماء بتفضيل المؤمنين على الملائكة، محتجين بالحديث المتقدم عن عبد الله بن عمرو أو أنس أو زيد بن أسلم، وبما قال أبو هريرة: «المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده» . وقال آخرون بأن الملائكة أفضل من البشر على الإطلاق، عملا بهذه الآية، وهو دليل الخطاب: وهو أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد. والظاهر هو الرأي الثاني، فإن قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هو ما سوى الملائكة، قال الزمخشري: وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة ذوو المنزلة العالية عند الله «1» . أحوال الناس مع قادتهم يوم القيامة [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) الإعراب: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يَوْمَ: ظرف منصوب متعلق بفعل دل عليه: وَلا يُظْلَمُونَ فكأنه قال: لا يظلمون فتيلا يوم ندعو كل أناس بإمامهم، ولا يجوز أن يعمل فيه نَدْعُوا لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهو المضاف، ولا يجوز أن يعمل فيه «فضلنا» في الآية المتقدمة، لأن الماضي لا يعمل في المستقبل.

_ (1) الكشاف: 2/ 240.

البلاغة:

وباء بِإِمامِهِمْ متعلقة بندعو لأن كل إنسان يدعى بإمامه يوم القيامة، أو متعلقة بمحذوف في موضع الحال، أي يوم ندعو كل أناس مختلطين بإمامهم. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى هو من عمى القلب، ولو كان من عمى العين، لقال: فهو في الآخرة أشد عمى لأن عمى العين شيء ثابت كاليد والرجل، فلا يتعجب منه إلا بأشد أو نحوه من الثلاثي. وأفعل: الذي للتفضيل يجري مجرى التعجب. البلاغة: كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ استعارة، استعار الإمام الذين يتقدم الناس في الصلاة لكتاب الأعمال، لملازمته الإنسان وتقدمه يوم القيامة. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا استعارة تمثيلية، أي لا ينقصون من ثواب أجورهم ولو بمقدار خيط شق النواة، وهو مثل للقلة. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى تفصيل بعد إجمال، بعد ذكر كتاب الأعمال. المفردات اللغوية: يَوْمَ نَدْعُوا اذكر يوم ندعو، وهو يوم القيامة. بِإِمامِهِمْ بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا، وكتاب كذا، وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر، كقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس 36/ 12] فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي فمن أوتي منهم كتابه بيمينه، وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا. فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ قيل أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع، وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لشعورهم بالسعادة، فهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة 69/ 19] وأما أصحاب الشمال فكأنهم لا يقرءون كتابهم، لعجزهم عن النطق السوي والقول الصحيح، بسبب ما ينتابهم أمام العقاب من حياء وخجل وانخزال وحبس لسان وتعتعة. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء، كقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم 19/ 60] فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه 10/ 112] والفتيل: الخيط المستطيل في شقّ النواة. وهو يضرب به المثل في الشيء الحقير التافة القليل، ومثله: النقير والقطمير.

المناسبة:

وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي ومن كان في الدنيا أعمى فليس المراد بالعمى الحقيقة، وإنما المجاز هو عمى البصيرة، فقد أستعير الأعمى لأعمى القلب أو البصيرة عن حجة الله وبيناته، أو من لا يهتدي إلى طريق النجاة، وهو دليل على وقوع المجاز في القرآن. وَأَضَلُّ سَبِيلًا أبعد طريقا عنه. المناسبة: لما ذكر الله تعالى أنواعا من كرامات الإنسان وأفضاله عليه في الدنيا، ذكر من أحوال الآخرة وما فيها من تفاوت شديد بين أهل السعادة وأهل الضلال والانحراف عن معالم الهدى الإلهي وأنه تعالى يحاسب كل أمة بإمامهم، أي بنبيهم فيقال: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد أو بكتابهم الذي أنزل على نبيهم أو بكتبهم التي فيها رصد أعمالهم، وهو الأرجح. التفسير والبيان: اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة بإمامهم أي بكتاب أعمالهم، وهو القول الأرجح كما ذكر ابن كثير لقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس 36/ 12] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف 18/ 49] فالكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرّف أعمالهم. ويحتمل أن المراد بِإِمامِهِمْ أي بقائدهم الذي يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص 28/ 41] . إلا أن الراجح هو ما ذكر ابن كثير، بدليل قوله تعالى بعده: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ أي فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه، فأولئك يقرءونه بفرح وسرور بما فيه من العمل

الصالح، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة 69/ 19] . وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، والفتيل: هو الخيط المستطيل في شق النواة، ونحو الآية: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم 19/ 60] وآية فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه 20/ 112] . أخرج الترمذي والحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يدعى أحدهم، فيعطى كتابه بيمينه، ويمدّ له في جسمه، ويبيّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم أتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» . وعاقبة الحساب معروفة في الدنيا قبل الآخرة، فقال سبحانه: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي ومن كان في الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون، فهو يكون كذلك أعمى في الآخرة، لا يجد طريق النجاة، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا. وليس المراد بالأعمى عمى البصر، بل المراد منه عمى القلب. والأعمى مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيتان إلى ما يلي: 1- الحساب بين الخلائق يوم القيامة يكون مدعما بالوثائق والمستندات، فكل إنسان يدعى للحساب بكتابه الذي فيه عمله، كما قال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية 45/ 28] . والدعوة تكون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، خلافا لمن قال كمحمد بن كعب أن الدعوة تكون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم، بدليل حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» فقوله: «هذه غدرة فلان بن فلان» دليل على أن الدعوة تكون بأسماء الآباء لا بأسماء الأمهات. 2- ليس هناك فرحة بعد أهوال الحساب أشد وأغبط للنفس من فرحة تلقي الكتاب باليمين لأنه دليل النجاة والفوز والسعادة الأبدية، فاللهم اجعلنا من أهل اليمين. 3- إن الأعمى في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق والاستدلال بآيات الله في الكون الدالة على وجوده ووحدانيته هو في الآخرة أعمى، وأضل سبيلا، لا يهتدي إلى طريق النجاة، ولا يجد طريقا إلى الهداية، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه 20/ 124] وقال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء 17/ 97] .

محاولة المشركين فتنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطرده من مكة [سورة الإسراء (17) الآيات 73 إلى 77] :

محاولة المشركين فتنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطرده من مكة [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) الإعراب: وَإِنْ كادُوا إِنْ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وكذلك في قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ. سُنَّةَ مَنْ قَدْ.. سُنَّةَ: منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، والتقدير: أهلكناهم إهلاكا مثل سنة من قد أرسلنا قبلك، أو سن الله ذلك سنة، فحذف المصدر وصفته، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقامه. البلاغة: ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَإِنْ كادُوا قاربوا. لَيَفْتِنُونَكَ ليستنزلونك وليخدعونك في ظنهم، لا أنهم قاربوا ذلك، إذ هو معصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه. عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأحكام. لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ غير ما أوحينا إليك. وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ذلك، واتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم، بريئا من ولايتي.

سبب النزول:

وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ولولا تثبيتنا إياك على الحق بالعصمة. لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم اتباعا قليلا، لشدة احتيالهم وإلحاحهم، ولكن أدركتك عصمتنا، فمنعت أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح في أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يركن إليهم ولا قارب ولا همّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها، وهو دليل أيضا على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه. إِذاً لَأَذَقْناكَ أي لو قاربت لأذقناك. ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، أي مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة. نَصِيراً مانعا منه، يدفع العذاب عنك. لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ليزعجونك ويثيرونك بمعاداتهم ومكرهم لإخراجك من أرض مكة، وقال السيوطي: أرض المدينة. قال قتادة: همّ أهل مكة بإخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك، ما أمهلوا، ولكن الله تعالى منعهم من الخروج، حتى أمره بالخروج «1» . وَإِذاً لو أخرجوك. لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ لا يمكثون أو لا يبقون فيها بعدك أي بعد خروجك. إِلَّا قَلِيلًا إلا زمانا قليلا، ثم يهلكون. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، أي كسنتنا فيهم من إهلاك من أخرجهم. تَحْوِيلًا أي تبديلا وتغييرا. سبب النزول: نزول الآية (73) : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم وابن إسحاق وغيرهم عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف، وأبو جهل بن هشام، ورجال من قريش، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمد، تعال تمسّح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرقّ لهم، فأنزل الله: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله: نَصِيراً. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال: كان

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 23.

نزول الآية (76) :

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يستلم الحجر، فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا، فحدّث نفسه وقال: ما عليّ أن ألمّ بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر، والله يعلم، إني لها كاره، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية. وأخرج نحوه عن ابن شهاب الزهري. وقيل: نزلت الآية في ثقيف وقد سألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحرّم واديهم، وألحوا عليه. نزول الآية (76) : وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن غنم: أن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إن كنت نبيا فالحق بالشام، فإن الشام أرض الحشر، وأرض الأنبياء، فصدّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما قالوا، فغزا غزوة تبوك يريد الشام، فلما بلغ تبوك، أنزل الله آيات من سورة بني إسرائيل، بعد ما ختمت السورة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأل قال: قل: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الإسراء 17/ 80] فهؤلاء نزلن في رجعته من تبوك. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد، وله شاهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم، ولفظه: قالت المشركون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهم أن يشخص، فنزلت. وله طريق أخرى مرسلة عند ابن جرير: أن بعض اليهود قال له. والمراد أن هذه الروايات يقوي بعضها بعضا، فتصبح مقبولة، أي أن هذه الآية نزلت لما قال اليهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن كنت نبيا، فالحق بالشام فإنها أرض الأنبياء. روي أنه لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» .

المناسبة:

المناسبة: لما عدّد الله تعالى نعمه على بني آدم، وذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة، أتبع ذلك بما يهمّ به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سيد أهل السعادة، المقطوع له بالعصمة. وسبب هذه المساومات والخديعات: رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا، وبالعكس، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه. التفسير والبيان: المعنى وإن همّ المشركون وقاربوا بمكائدهم وخداعهم أن يصرفوك عما أوحينا إليك من الشرائع والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، لتفتري علينا غير الذي أوحيناه إليك، وتتقول علينا ما لم نقل، وتخترع غيره وتبدل فيه كما أرادوا من تبديل الوعد وعيدا، والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن تضيف إلى الله ما لم ينزل عليك. وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي وحينئذ لو اتبعت ما يريدون، وفعلت ما يطلبون لاتخذوك صديقا لهم، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على ما هم عليه من الشرك، ولكنت لهم وليا مناصرا، وخرجت من ولايتي. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي ولولا تثبيتنا لك على الحق وعصمتنا إياك، لقاربت أن تميل إلى خداعهم ومكرهم، ميلا وركونا قليلا. وهذا تهييج من الله لنبيه، وبيان فضل تثبيته له، ولطف بالمؤمنين، أي أنه ربما هادنتهم، لا لضعف إيمانك، بل لشدة مبالغتهم في المكر والحيلة

والخداع، ولكن عنايتنا منعتك من الركون إليهم. وهو تصريح بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يصدر منه همّ بمجاملتهم ومجازاتهم، بل ولم يقترب من ذلك. وهو دليل على تأييد الله لرسوله وتثبيته وعصمته وتسليمه من مكائد الكفار، وأنه تعالى هو المتولي أمره وحافظه وناصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» . وإمعانا في العصمة والصون توعده الله على ما قد يكون على سبيل الاحتمال والافتراض، وإن لم يحصل فقال: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو فعلت ذلك لعاقبناك بعقوبة مضاعفة في الدنيا والآخرة ويكون المراد بالآية ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة لأن ذنب القائد أو العظيم يستحق عقابا أشد وأعظم، لذا يعاقب العالم القدوة أشد من عقوبة العامي التابع له، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي جحيفة وواثلة بن الأسقع: «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . والضعف: أن يضم إلى الشيء مثله. وهذا وارد أيضا في عقوبة نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب 33/ 30] . ومن مكائد أهل مكة محاولة إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، كما قال تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها أي ولقد قارب أهل مكة أيضا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم، ويخرجوك من أرضهم التي أنت فيها أي أرض مكة.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإذا أخرجوك لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا، فإن الله مهلكهم، وحدث هذا الوعيد كما قال، فقد أهلكهم الله ببدر بعد إخراجه بقليل، وهو ثمانية عشر شهرا بعد الهجرة أو الإخراج. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا.. أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم أن يأتيهم العذاب، بخروج الرسول من بينهم، فكل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ولولا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم الرحمة المهداة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال 8/ 33] . وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي لا تغيير لسنة الله ونظامه وعادته، ولا خلف في وعده. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدتنا الآيات إلى العبر والعظات والأحكام التالية: 1- تعرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنواع شتى من مكائد المشركين في مكة وألوان خداعهم ومساوماتهم، ومن أخطرها محاولات افتراء تغيير الوحي وتبديله، وإخراجه وطرده من مكة موطنه الأصلي. أما محاولة تبديل الوحي وإقرارهم على شيء من قواعد شركهم وجاهليتهم فباءت بالفشل والخيبة، ولم يتم لهم ما أرادوا، لا قليلا ولا غيره بتأييد الله وعصمته. وأما محاولة الإخراج من مكة فتم لهم مرادهم حينما أمره الله بالخروج، ولكنهم بعدها تعرضوا للقتل في بدر، وإلى فتح مكة موطنهم، وإسلام بعض

زعمائهم، وانتشار الإسلام فيها وفي أنحاء الجزيرة العربية، فتداعت معاقل الشرك، وتهدمت حصون الوثنية، وحل الإسلام محلها. 2- لا يشكن أحد في أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم، وأنه لم يهادن الكفر والكفار والشرك والمشركين، بل ولم يهمّ في ذلك، وإنما كانت الآيات تهييجا له، وتهديدا على مجرد الاحتمال والافتراض. فقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ يدل على قرب وقوعه في الفتنة، لا على الوقوع في تلك الفتنة، فلو قلنا: كاد الأمير أن يضرب فلانا، لا يفهم منه أنه ضربه. وقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لا يدل على قرب ركونه إلى دينهم والميل إلى مذهبهم لأن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول: لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك معنى الآية: أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون. والوعيد الشديد في قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ.. لا يدل على سبق وجود جرم وجناية لأن التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، كما في آيات أخرى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة 69/ 44- 46] . لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] . وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ.. [الأحزاب 33/ 48] . 3- احتج أهل السنة بقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا على أنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى، فالله عاصمه وناصره ومؤيده ومثبّته. 4- منع الله أهل مكة من إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك

أوامر وتوجيهات وتعليمات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم [سورة الإسراء (17) الآيات 78 إلى 85] :

ما أمهلوا، ولكن الله منعهم من إخراجه، حتى أمره الله بالخروج، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، حتى قتلوا يوم بدر. فالأصح الذي عليه المفسرون هو قول قتادة ومجاهد: أن هذه الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ نزلت في همّ أهل مكة بإخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو أخرجوه لما أمهلوا، ولكن الله أمره بالهجرة فخرج لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة. فقوله مِنَ الْأَرْضِ يريد أرض مكة، وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد 47/ 13] يعني مكة، ومعناه: همّ أهلها بإخراجه. 5- سنة الله الثابتة الدائمة تعذيب كل قوم أخرجوا رسولهم من بلده، فإذا أخرجوه أهلكوا ودمّروا. أوامر وتوجيهات وتعليمات للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 85] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)

الإعراب:

الإعراب: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اللام لام الوقت والأجل لأن الوقت سبب الوجوب. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ معطوف منصوب على قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ أي أقم الصلاة وقرآن الفجر، أو منصوب بفعل مقدّر، أي واقرؤوا قرآن الفجر. مَقاماً مَحْمُوداً منصوب على الظرف بإضمار فعله، أي فيقيمك مقاما، أو بتضمين يبعثك معناه، أو حال أي أن يبعثك ذا مقام. وَمِنَ اللَّيْلِ الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: قم، ومِنَ للتبعيض، والمعنى قم بعض الليل. البلاغة: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، أي قراءة الفجر، وهي صلاة الفجر لأن القراءة جزء منها. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً إظهار محل الإضمار لمزيد العناية والاهتمام. بعد قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ. أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ بينهما مقابلة، وكذا بين جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ.. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فيه إسناد الخير إلى الله والشر لغيره، لتعليم الأدب مع الله تعالى. مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ: للتبيين أو للتبعيض. المفردات اللغوية: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ هو زوال الشمس عن منتصف كبد السماء نصف النهار، وتحولها من جهة المشرق إلى جهة المغرب إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ إقبال ظلمته، وقدوم سواد الليل وشدة الظلمة، وهذا يشمل أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح كانَ

مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أو شواهد القدرة من تبدل بالظلمة الضياء، وبالنوم اليقظة والحركة، وبهذا تكون الآية جامعة الصلوات الخمس. فَتَهَجَّدْ بِهِ فصل صلاة التهجد، والضمير للقرآن. والتهجد: ترك الهجود أي النوم للصلاة، أي الاستيقاظ من النوم للصلاة نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك، لاختصاص وجوبه بك، دون أمتك أَنْ يَبْعَثَكَ يقيمك رَبُّكَ في الآخرة مَقاماً مَحْمُوداً يحمدك فيه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» . أَدْخِلْنِي المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره وَأَخْرِجْنِي من مكة مُخْرَجَ صِدْقٍ إخراجا لا ألتفت بقلبي إليه سُلْطاناً نَصِيراً قوة تنصرني بها على أعدائك، والسلطان: الحجة البينة، والنصير: الناصر والمعين وَقُلْ عند دخولك مكة جاءَ الْحَقُّ الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب أو بطل وزال، أو اضمحل الشرك والكفر زَهُوقاً مضمحلا زائلا. روى الشيخان عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح، وفيها ثلاث مائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول ذلك- أي جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ- حتى سقطت، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من صفر- نحاس- فقال: يا علي، ارم به، فصعد، فرمى به وكسره. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ: لبيان الجنس وقيل: للتبعيض ما هُوَ شِفاءٌ من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ به، والمعنى على أن مِنَ للبيان فإن كله كذلك: ننزل القرآن الذي فيه تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم، كالدواء الشافي للمرضى، والمعنى على أن مِنَ للتبعيض: أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ولا يزيد الكافرين إلا خسارة، لتكذيبهم وكفرهم به. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعادة على جنس الإنسان، وقيل: الكافر أَعْرَضَ عن الشكر وعن ذكر الله وَنَأى بِجانِبِهِ لوى جانبه (عطفه) عن الطاعة وولاه ظهره متبخترا وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو شدة كانَ يَؤُساً قنوطا من رحمة الله أو شديد اليأس من روح الله. قُلْ: كُلٌّ قل يا محمد: كل منا ومنكم يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، فالشاكلة: الطبيعة والعادة والدين أَهْدى سَبِيلًا أسدّ طريقا وأقوم منهجا، فيكافئه حسبما يستحق. وَيَسْئَلُونَكَ أي اليهود عَنِ الرُّوحِ أي عن ماهيتها وحقيقتها وهي ما يحيى به

سبب النزول:

البدن، وهو اسم جنس على الظاهر قُلِ لهم مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من الإبداعات الكائنة بكن من غير مادة ولا تولد من أصل، وقيل: مما استأثره الله بعلمه، لما روي أن اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض، فهو نبي، فبين لهم القصتين، وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بالنسبة إلى علمه تعالى، وهو ما تستفيدونه بحواسكم. سبب النزول: نزول الآية (80) : وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الآية: أخرج الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ.... نزول الآية (85) : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ: أخرج البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، وهو متوكئ على عسيب، فمر بنفر من قريش، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدّثنا عن الروح، فقام ساعة، ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: علمونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لكن حديث البخاري يدل على أن الآية مدنية، مع أن السورة كلها مكية، وأن سؤال قريش يدل على أنها مكية. قال ابن كثير: يجمع بين الحديثين بتعدد النزول، أي قد تكون نزلت عليه

المناسبة:

بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي آية: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «1» . وكذا قال الحافظ ابن حجر. قال السيوطي: أو يحمل سكوته حين سؤال اليهود على توقع مزيد بيان في ذلك، وإلا فما في الصحيح أصح، ويرجح ما في الصحيح بأن رواية حاضر القصة، بخلاف ابن عباس. والحقيقة، كما سنذكر في سبب نزول قصة أصحاب الكهف أن النفر من قريش قدموا إلى المدينة، واستشاروا اليهود، كما ذكر ابن إسحاق، وتظل الآية مكية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى كيد الكفار واستفزازهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما كانوا يرومون به، أمره تعالى بالإقبال على عبادة ربه، وألا يشغل قلبه بهم. وقد تقدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان، وهي الصلاة. ثم وعده ربه في الآخرة بالمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى باتفاق المفسرين، ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بالمقام المحمود، أمره بأن يدعوه بما يشمل الأمور الدينية والأخروية بقوله: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي ... والظاهر- كما قال أبو حيان- أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية. والصدق هنا: لفظ يقتضي رفع المذامّ، واستيعاب المدح. ثم أبان الله تعالى أن ما أنزل عليه من القرآن فيه شفاء النفوس والقلوب من الداء الحسي والمعنوي وهو مرض الاعتقاد، ثم عرّض بما أنعم به، وما حواه من

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 60

التفسير والبيان:

لطائف الشرائع على الإنسان، وإعراضه عنه تكبرا، ثم رد على اليهود والمشركين المعرضين عن الإيمان، السائلين عن الروح تعنتا وتعجيزا. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآية الأولى بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها، والمعنى: أيها الرسول، أدّ الصلاة المفروضة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط، من بعد زوال الشمس إلى ظلمة الليل، وذلك يشمل الصلوات الأربعة: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. والدلوك: ميل الشمس وزوالها عن كبد السماء ووسطها وقت الظهر. وإنما وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمته أيضا لمكانة المأمور به وهو الصلاة. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي وأقم صلاة الفجر، وتلك هي الصلاة الخامسة. وقد أبانت السنة المتواترة من أقوال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله مقادير أوقات الصلاة بدءا وانتهاء، على النحو المعروف اليوم. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء في وقت تبادل المهام والوظائف. وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة لأنها ركن، كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. ويجوز أن يكون وَقُرْآنَ الْفَجْرِ حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة «1» . روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» .

_ (1) الكشاف: 2/ 243 [.....]

وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح، وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم- وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» . وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء. وقد يكون المراد بقوله مَشْهُوداً الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة، والمعنى كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة، أو شهود كمال قدرة الله تعالى، من اختلاط الظلمة بالضوء، والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، وينتقل العالم من الظلمة إلى الضوء، ومن الموت بالمنام إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن العدم إلى الوجود «1» . وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ هذا فرض آخر خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو صلاة التهجد، والمعنى: قم للصلاة في جزء من الليل وهو أول أمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقيام الليل، زيادة على الصلوات المفروضة (المكتوبة) . روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «صلاة الليل» ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد: ما كان بعد نوم. وثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتهجد بعد نومه. وقوله نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، مخصوصة بك دون الأمة، وهي فريضة عليك خاصة، دون غيرك، وأما أمتك فهي لهم مندوبة أو تطوع لهم. وهذا هو الراجح. وقيل: المراد أن قيام الليل في

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 28

حقه صلّى الله عليه وآله وسلّم نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما غيره من أمته فإن النوافل تكفّر ذنوبهم. ورد ابن جرير هذا القول لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مأمورا بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر 110/ 3] وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يزيد في الاستغفار في اليوم على مائة مرة، وكلما اشتد قرب العبد من ربه، كلما زاد خوفه منه، وإن كان السيد قد أمّنه، وذلك مقام يعرفه أهله. عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى، كما قال ابن كثير. وأجمع المفسرون- كما ذكر الواحدي- على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب. وهو- كما ذكر ابن جرير- مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة للشفاعة بالناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم. وكلمة عَسى في كلام العرب تفيد التوقع، وهي هنا للوجوب لأنها تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه، كان غارّا، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فهذه الكلمة من الكريم إطماع محقق الوقوع، وهي من الله باتفاق المفسرين واجب. والمقام المحمود: هو المكان المرموق، والمركز المعلوم المعدّ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو كما بينا مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول، أما الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول: «أنا لها أنا لها» ، فيشفع بالخلق جميعا لتقديمهم للحساب، وتخليصهم من وهج الشمس الشديد التي تدنو من الرؤوس، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار. روى مسلم بسنده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه» .

وروى النسائي والحاكم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلّم نفس إلا بإذنه، فينادي: يا محمد، فيقول: لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهديّ: من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل» . وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» . وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي بن كعب، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر» . وبمناسبة أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهجرة أنزل الله: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ... أي وقل يا محمد داعيا: ربّ أدخلني في الدنيا والآخرة إدخالا مرضيا حسنا، لا يكره فيه ما يكره، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله، وأخرجني إخراجا مرضيا حسنا، مكللا بالكرامة، آمنا من السخط، يستحق الخارج منه أن يوصف بأنه صادق. وهذا يشمل كل مدخل للنبي وكل مخرج كدخوله المدينة وخروجه من مكة، ودخوله القبر وخروجه منه للبعث، ودخوله مكة فاتحا وخروجه منها آمنا. وخصص بعضهم الآية بأنها نزلت حين أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهجرة، يريد إدخال

المدينة والإخراج من مكة، أو إدخاله مكة منتصرا فاتحا وإخراجه منها آمنا من المشركين. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي واجعل لي حجة بينة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا، ناصرا للإسلام على الكفر، ومظهرا له عليه، قال الحسن البصري: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس، وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقد أنجز له وعده، وأجيبت دعوته، فتحقق له العصمة الشخصية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] وانتشار الإسلام وتفوقه على الأديان كلها: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة 9/ 33] وانتصار الدولة والملك: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة 5/ 56] لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] . وطلبه السلطة والملك ليس لشهوة السلطة وإنما لحماية حرمات الإسلام لأنه لا بد للحق من قهر لمن عاداه وناوأه، وناصر وحام له، لذا قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ... الآية [الحديد 47/ 25] فقرن الله بين الرسالة والبيان وبين الحديد والقوة، وفي الأثر عن عثمان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع. ثم هدد كفار قريش وأوعدهم بقوله: وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ أي وقل للمشركين: جاء الحق من الله الذي لا مرية فيه، وهو الإسلام، وما بعثه الله به من القرآن والإيمان، والعلم النافع، واضمحل وهلك الباطل وهو الشرك،

فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] . إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له، غير ثابت في كل وقت. وقد تلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية حين كسر الأصنام، وهو يفتح مكة. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، وحول البيت ستون وثلاث مائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ 34/ 49] . وقال الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، وحول البيت ثلاث مائة وستون صنما تعبد من دون الله، فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأكبّت على وجوهها، وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. ثم أخبر الله عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه شفاء ورحمة، فقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء، فكل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فهو يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ والإلحاد، والجهل والضلالة، فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدقه واتبعه لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من العذاب، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» . وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله لتأصل الكفر في نفسه.

ونظير الآية: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] وأيضا قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] . قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين. ثم يخبر الله تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله فقال: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي وإذا أمددنا الإنسان بنعمة من مال وعافية ورزق ونصر ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه، وهذا تأكيد للإعراض لأن الإعراض: التولي بالوجه، والنأي بالجانب: لوي الجانب وتولية الظهر، والمراد بذلك الاستكبار والتباعد لأن ذلك عادة المتكبرين. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً أي وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. والآية مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [يونس 10/ 12] . وقوله سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود 11/ 9- 10] . قُلْ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قل يا محمد: كل أحد يعمل على مذهبه وطريقته التي تشاكل وتشبه حاله من الهدى والضلالة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي فالله ربكم الذي ربّاكم وأوجدكم وأنعم عليكم أعلم من كل أحد بمن هو أسدّ مذهبا وأوضح طريقا واتباعا للحق، وسيجزي كل عامل بعمله. وفي الآية تهديد ووعيد للمشركين. والآية مثل قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود 11/ 121- 122] . وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... أي ويسألك المشركون عن حقيقة الروح التي تحيى بها الأبدان، فقل: الروح من شأن ربي، يحدث بتكوينه وإيجاده، وقد استأثر بعلمه، فلا يعلمه إلا هو، ولا يستطيعه إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا، مصدره إحساس الحواس وملاحظة المرئيات، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه، ولا اطلاع لأحد على حقيقته. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- دلت آية أَقِمِ الصَّلاةَ ... على فرضية الصلوات الخمس المفروضة، وعلى أوقاتها في الجملة التي فصلتها وحددتها السنة النبوية. 2- في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ فوائد وهي أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة، ووجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه. وأبانت السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات، فالمقصود من قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ الحث على تطويل القراءة فيها، ووصف قرآن الفجر بأنه مشهود معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام، وهو دليل قوي على أن التغليس (الصلاة وقت الظلمة) أفضل، وهذا قول مالك والشافعي.

وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس. واجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الصبح وكذا في صلاة العصر، كما جاء في الحديث المتقدم لا يعني أن هاتين الصلاتين ليستا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار، كما فهم بعض العلماء، وإنما هما من النهار، بدليل الصيام فيه. 3- كانت صلاة التهجد (قيام الليل) مطلوبة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نافلة زيادة وكرامة له، واختلف العلماء في تخصيص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذّكر دون أمته، فقال جماعة: كانت صلاة الليل فريضة واجبة عليه لقوله نافِلَةً لَكَ أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة، ثم نسخت، فصارت نافلة، أي تطوعا وزيادة على الفرائض. وقال آخرون: صلاة الليل تطوع في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي حق أمته، فيكون الأمر بالتنفل على جهة الندب، ويكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في الدرجات، وأما غيره من الأمة فتطوعهم كفارات لذنوبهم، وتدارك الخلل الذي يقع في الفرض. 4- للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى للناس يوم القيامة، ولأجل ذلك قال فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر» قال النقّاش: لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. وقال ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا للأنبياء وللعلماء. وذكر أبو الفضل عياض خمس شفاعات: العامة، ولإدخال قوم الجنة دون حساب، ولإخراج عصاة الأمة من النار، وللحيلولة دون إدخال بعض المذنبين من

موحّدي الأمة النار، ولزيادة الدرجات في الجنة لأهلها. وقال القاضي عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات. ومع الشفاعة لواء الحمد، روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» . 5- وللنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام السامي المرضي الحسن في الدنيا والآخرة، فيشمل كل دخول وخروج كإدخاله المدينة مهاجرا، ومكة فاتحا، وفي القبر مغفورا له آمنا، وإخراجه من مكة مهاجرا، وإخراجه من القبر للبعث مطمئنا موصوفا بالصدق. 6- ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام قوة الحجة، والسلطان والقهر والقدرة والعصمة من الناس، فكانت له حجة بينة ظاهرة ينتصر بها على جميع من خالفه، ورزقه الله السلطة والتفوق والنصر على أعدائه، وأظهر دينه على الدين كله أي على الأديان والشرائع، وعصمه من أذى الناس ومكرهم. 7- أيد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بما أنزله عليه من القرآن والإيمان والحق الذي لا مرية ولا جدال فيه، فبه جاء الحق، وهو الإسلام والقرآن، واضمحل الباطل وهو الشرك والشيطان. 8- في آية جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ دليل على كسر نصب المشركين والأصنام وجميع الأوثان. قال القرطبي: ويدخل بالمعنى: كسر آلة الباطل

وما لا يصلح إلا لمعصية الله، كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى «1» . قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصّور المتخذة من المدر (الطين المتحجر) والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيّرت عما هي عليه وصارت سبيكة أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها. 9- القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد سماعه الكافرين الظالمين أنفسهم إلا خسارا لتكذيبهم وزيادتهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا. قال قتادة: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الآية. وللعلماء قولان في كونه شفاء: أحدهما- أنه شفاء للقلوب: بزوال الجهل عنها وإزالة الرّيب، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى. الثاني- شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما رواه الأئمة- الاستشفاء بالقرآن، والرقية بالفاتحة بقراءتها سبع مرات على لديغ، وإعطاء قارئها عوضا عن الرقية ثلاثين شاة. وأجاز سعيد بن المسيب ما يسمى بالنّشرة: وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله تعالى، أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثم يمسح به المريض، أو يسقيه. وقال الإمام مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عزّ وجلّ على

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 314

أعناق المرضى على وجه التبرك بها، إذا لم يرد معلّقها بتعليقها مدافعة العين، أي قبل أن ينزل به شيء من العين. ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم. وكره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال، قبل نزول البلاء وبعده. قال القرطبي: والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى. وعلى كل حال، إن الفاعل الحقيقي المؤثر هو الله تعالى، أما الأدعية المأثورة، وتلاوة آيات الشفاء، والفاتحة والمعوذات وغير ذلك فهي من وسائل الفرج والبرء بإذن الله تعالى، بشرط تعظيم القرآن في الصدور، والإيمان الصادق به، والبعد عما لا يتناسب مع تعظيم آيات الله تعالى. ولا يعني هذا الاكتفاء بالرقى عن المداواة والعلاج بالأدوية الناجعة، فذلك كله من الوسائل التي أذن الشرع بها، بل وأوجبها لصيانة حق الحياة. أما ما يفعله بعض العوام من إهمال علاج المريض المحموم أو المبتلى بداء خطير مثلا، اعتمادا على مجرد التلاوة لشيء من القرآن أو التميمة، فهذا جهل بحقائق الدين، وإهدار لقدسية العلم الذي عظمه الله، ورفع شأن علمائه وأتباعه. وأما ما روي عن ابن مسعود: «إن التمائم والرقى والتّولة من الشرك، قيل: ما التّولة؟ قال: ما تحبّبت به لزوجها» فيجوز أن يريد بما ذكره تعليق غير القرآن أشياء مأخوذة عن العرّافين والكهّان إذ الاستشفاء بالقرآن معلّقا وغير معلّق لا يكون شركا. 10- إن هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وكذلك شأن الإنسان عموما النسيان وكفران النعم إلا من عصمه الله، فتراه إذا كان منعما مترفا بعد عن القيام بحقوق الله عزّ وجلّ، وإذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط لأنه لا يثق بفضل الله تعالى. 11- إذا أفلس نداء العقل والقلب والوجدان، لتعطيل الفكر والبصر

بآيات الله كالمشركين، فلم يبق معهم إلا التهديد والوعيد، وإهمال هؤلاء المعطلين عقولهم، وتركهم يعملون على شاكلتهم من الهدى والضلال وما هو الأولى بالصواب في اعتقادهم. والله تعالى أعلم بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. 12- سأل المشركون عن الروح الذي هو سبب الحياة، فأجابهم القرآن جوابا مبهما يدل على أن خلق الروح من الله، وهو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، تاركا تفصيله، ليعرف الإنسان يقينا عجزه عن علم حقيقة نفسه، مع العلم بوجودها، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه جاهلا حقيقتها، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك ومعرفة مخلوق مجاور له، للدلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز، وبذلك ثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة للإنسان، ولكن لا يلزم من كونها مجهولة نفيها. وأما حقيقة الروح فللعلماء فيها قولان: القول الأول للرازي وابن القيم في كتاب الروح: إن الروح جوهر بسيط مجرد، وجسم نوراني مخالف بطبعه للجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ. والقول الثاني للغزالي وأبي القاسم الراغب الأصفهاني: الروح ليس بجسم ولا جسماني، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف. 13- لم يؤت العالم كله من العلم إلا القليل، ويظل الكثير مختصا بعلم الله تعالى، قال القرطبي: والصحيح أن المراد بالخطاب في قوله تعالى:

إعجاز القرآن [سورة الإسراء (17) الآيات 86 إلى 89] :

وَما أُوتِيتُمْ العالم كله، وليس المراد: السائلين فقط، أو اليهود بجملتهم، كما قال بعضهم. فالله تعالى لم يطلع الناس من علمه إلا على القليل، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والخلاصة: أن علم الناس في علم الله قليل، والذي يسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. إعجاز القرآن [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) الإعراب: وَلَئِنْ شِئْنا اللام لام القسم، أو الموطئة للقسم، ولَنَذْهَبَنَّ: جوابه النائب مناب جواب الشرط، أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور. لَئِنِ اجْتَمَعَتِ اللام لام القسم أو الموطئة للقسم، وإن: حرف شرط، وجوابه محذوف قام مقامه قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وليس هذا جوابا للشرط، لإثبات نون يَأْتُونَ وإنما هو جواب قسم مقدر هيّأته لام لَئِنْ. والتقدير: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فو الله لا يأتون بمثله. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الاستثناء منقطع، أي لكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، ويجوز أن يكون متصلا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور وَكِيلًا يتوكل ويلتزم استرداده محفوظا مسطورا، بعد الذهاب به إِلَّا رَحْمَةً استثناء متصل، أي إلا إن نالتك رحمة الله، فلعلها تسترده عليك، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا بمعنى: لكن رحمة من ربك أبقيناه، فيكون ذلك امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً عظيما، بإبقائه في حفظه، كإرساله وإنزاله، وكذلك بإعطائك المقام المحمود، وغير ذلك من الفضائل. عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وكمال المعنى لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيهم العرب العرباء، وأرباب البيان، وأهل النثر والنظم. وهو جواب قسم محذوف، دل عليه اللام الموطئة للقسم. ظَهِيراً معينا في تحقيق المراد. وهو رد لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] . صَرَّفْنا بينا، وكررنا ورددنا بوجوه مختلفة، زيادة في التقرير والبيان. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه موقعا في الأنفس أو هو صفة لمحذوف أي مثلا من جنس كل مثل، ليتعظوا أَكْثَرُ النَّاسِ أهل مكة وغيرهم إِلَّا كُفُوراً جحودا للحق. سبب النزول: نزول الآية (88) : قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.. الآية: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سلام بن مشكم في عامة من يهود سماهم، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وإن هذا الذي جئت به، لا نراه متناسقا، كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابا نعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الآية. المناسبة: بعد أن امتن الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنبوة وبإنزال وحيه عليه، وبتنزيل القرآن شفاء للناس، امتن عليه أيضا ببقاء القرآن محفوظا، رحمة بالناس، وذكّر

التفسير والبيان:

ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، مع اشتماله على أصح القواعد، وأقوم الحكم والأحكام والآداب المفيدة للدنيا والآخرة، بل إن فصحاء اللسان الذي نزل به، وبلغاءهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله، ولو تعاون الثقلان عليه. ويحتمل اندراج الملائكة تحت لفظ (الجن) لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم، كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات 37/ 158] وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس. التفسير والبيان: بعد أن ذكر الله تعالى أنه ما آتى الناس من العلم إلا قليلا، أبان أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل، وسلب هذا القرآن الذي أوحينا به إليك يا محمد من الصدور والمصاحف، ولم نترك له أثرا، فهو تعالى قادر على أن يمحو حفظه من القلوب، وكتابته من الكتب. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي ثم لا تجد بعدئذ من تتوكل عليه وتستنصر به في رد شيء منه وإعادته محفوظا. أخرج الحاكم والبيهقي والطبراني وسعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: «إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم، قيل: كيف ينزع منا، وقد أثبته الله في قلوبنا، وثبتناه في مصاحفنا؟! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة، فينزع ما في القلوب، ويذهب ما في المصاحف، ويصبح الناس منه فقراء» ثم قرأ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، ويجوز أن

يكون الاستثناء منقطعا، بمعنى: ولكن رحمة من ربك تركته ولم أذهب به، قال الرازي: وهذا امتنان من الله تعالى على جميع العلماء ببقاء القرآن بنوعين من المنة: أحدهما- تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني- إبقاء حفظه لهم «1» . إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي إن فضل الله عليك أيها الرسول عظيم وكبير بإرسالك للناس بشيرا ونذيرا، وبإنزال القرآن عليك وبحفظه في صدرك وفي المصاحف، وبحفظ أتباعك، وبسبب جعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك، وإعطائك المقام المحمود. والخلاصة: إن الله تعالى يذكر في هذه الآية نعمته وفضله على عبده ورسوله الكريم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأما بقية النعم والأفضال فهي تبع لذلك، فالقرآن الكريم مصدر العلوم والمعارف، ومنبع الحضارات والثقافات التي ظهرت في ربوع المسلمين. ثم نبه الله تعالى على شرف هذا القرآن العظيم وأهميته وخطورته، فقال: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.. قل يا محمد متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا وتعاونوا وتظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن المنزل، في بلاغته، وحسن نظمه وبيانه، ومعانيه وأحكامه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان والفصاحة، لعجزوا عن الإتيان بمثله، حتى ولو كان الجميع متعاونين متآزرين فيما بينهم لتلك الغاية، فإن هذا أمر غير مستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟! ثم أبان تعالى مضمون القرآن، فقال:

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 53- 54، وقال في الكشاف (2/ 245) : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي لقد بينا للناس، ورددنا البيان وكررناه على وجوه مختلفة، وألوان متعددة، وعبارات متنوعة، مرة بالإيجاز، وأخرى بالإطناب، وذكرنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، وأوضحنا الحق وشرحناه، وأتينا بالآيات والعبر، والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي، والحكم والتشريع، وقصص الأولين، والجنة والنار والقيامة، للعظة والعبرة. فقوله مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى، هو كالمثل في غرابته وحسنه ومع ذلك فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي فأبى أكثر الناس، أي أهل مكة وأمثالهم إلا جحودا وإنكارا للحق، وردا للصواب، وبقاء على الكفر. فقه الحياة أو الأحكام: تبين الآيات مدى فضل الله ونعمته على نبيه بإنزال القرآن عليه وحفظه في صدره وتثبيته في المصاحف، وانتفاع أمته به إلى يوم القيامة. وكما أن الله قادر على إنزاله، قادر على إذهابه حتى ينساه الخلق، ولكن لم يشأ الله ذلك رحمة منه بعباده. ومن فضل الله على نبيه أيضا أن جعله سيد ولد آدم، وأعطاه المقام المحمود، كما أعطاه الكتاب العزيز. والقرآن هو المعجزة الباقية، والحجة الدائمة التي تحدى الله بها العرب كلهم، فعجزوا عن الإتيان بمثله، وهم فرسان الفصاحة، وأئمة البلاغة والبيان، ولم تنقصهم ثقافة الحياة بدليل المأثور عنهم في الجاهلية من الحكم والمعاني والقيم الإنسانية في النثر والخطابة والشعر. فو الله لئن تعاونوا مع البشر قاطبة ومع الجن، وكان بعضهم لبعض معينا ونصيرا، كما يتعاون الشعراء على بيت شعر، لا يستطيعون الإتيان بمثل القرآن،

اقتراح المشركين إنزال إحدى آيات ست [سورة الإسراء (17) الآيات 90 إلى 93] :

وهذا تكذيب للكفار حين قالوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال 8/ 31] . فظل القرآن هو المعجزة الباقية الناطقة بأنه من عند الله تعالى، وأنه وحي منه لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة، فمن آمن به نجا، ومن كفر به خسر وهلك. وكان بيان القرآن شاملا لكل شيء من شؤون الحياة، شافيا بلسم كل معذب ومحروم، موضحا كل ما يحتاجه البشر من قضايا الدين والدنيا والآخرة، مبينا الحق الأبلج، فأبى أهل مكة وأشباههم إلا الكفر بعد بيان الحق وتمييزه من الباطل، مع قدرتهم على طلب الحق ومعرفة الصواب. اقتراح المشركين إنزال إحدى آيات ست [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) الإعراب: كِسَفاً جمع كسفة، جمع تكسير، نحو كسرة وكسر، وقطعة وقطع، وسدرة وسدر. وقرئ كسفا فهو اسم جنس كثمرة وثمر، ودرّة ودرّ، وبرّة وبرّ، ونحو ذلك مما يفرق بين واحده وجمعه التاء. قَبِيلًا مقابلا فهو حال من الله، وحال الملائكة محذوفة، لدلالتها عليها، فإن كان بمعنى جماعة فيكون حالا من الملائكة.

البلاغة:

البلاغة: تَفْجِيراً رَسُولًا سجع. المفردات اللغوية: فَتُفَجِّرَ تجريها بقوة يَنْبُوعاً عينا ينبع منها الماء دون أن ينضب جَنَّةٌ بستان تغطي أشجاره الأرض خِلالَها وسطها كِسَفاً جمع كسفة، كقطع وقطعة، لفظا ومعنى قَبِيلًا مقابلة وعيانا، والمراد رؤيتهم عيانا، أو جماعة فيكون حالا من الملائكة. زُخْرُفٍ ذهب، وأصله: الزينة تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ على السلم وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لو رقيت فيها حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا منها كِتاباً فيه تصديقك قُلْ لهم سُبْحانَ رَبِّي تعجب هَلْ ما كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل، فهم لم يكونوا يأتون بآية إلا بإذن الله تعالى. سبب النزول: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة، فقالوا: ابعثوا إلى محمد، فكلّموه وخاصموه، حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا- وكان حريصا على رشدهم- فقالوا: - يا محمد، إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا. - وإن كنت إنما تطلب الشّرف فينا، سوّدناك علينا. - وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا «1» ، بذلنا أموالنا في طلب الطّب حتى

_ (1) رئيا: أي تابعا من الجن.

المناسبة:

نبرئك منه، أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم» . فقالوا: يا محمد، إن كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أشدّ عيشا منا، فسل ربك يسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا، حتى نسألهم أحقّ ما تقول؟ وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، تغنيك عنا. فأنزل الله: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الآيات «1» . وفي لفظ: فأنزل عليه ما قال له عبد الله بن أبي أمية. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن جبير في قوله: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ: قال: نزلت في أخي أم سلمة: عبد الله بن أبي أمية، مرسل صحيح شاهد لما قبله، يجبر المبهم في إسناده. المناسبة: بعد ما تحدى الله المشركين بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، وبعد ما ألزمهم الحجة، وغلبوا على أمرهم، ببيان إعجاز القرآن، مع ظهور معجزات أخرى غيره، فتبين عجزهم عن ذلك، وإعجاز القرآن، أخذوا يتعللون، ويقترحون آيات أخرى تعنتا وحيرة، فطلبوا إحدى آيات ست.

_ (1) أسباب النزول للواحدي 168 وما بعدها، بإيجاز وتصرف، وأسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: بعد أن أثبت الله تعالى كون القرآن معجزا لأنه كلام الله، فأثبت بذلك كون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيا صادقا، وبعد أن أخرستهم الحجة، ولم يجدوا ردا مقنعا، راوغ رؤساء قريش باقتراح إنزال إحدى ستة أنواع من المعجزات فقالوا: 1- وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ.. أي وقال زعماء مكة وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وأبو البختري: لن نصدق برسالتك حتى تخرج لنا من الأرض ينبوعا يتدفق. وهو العين الجارية، فإننا في صحراء مجدبة قاحلة من أرض الحجاز، وذلك سهل على الله تعالى يسير. 2- أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ.. أو يكون لك بستان من نخيل وأعناب وغيرهما تتدفق فيه الأنهار تدفقا بقوة، حتى يسقى الزرع والشجر وتخرج الأثمار. 3- أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أو تسقط السماء علينا قطعا قطعا كما زعمت أن ربك يفعل ذلك إن شاء، ونظيره آية أخرى: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] لأنك وعدتنا أن السماء تنشق يوم القيامة، وتتساقط أطرافها، فعجّل ذلك في الدنيا، وأسقطها كسفا، أي قطعا. وهذا مشابه لما طلبه قوم شعيب إذ قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء 26/ 187] . 4- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أو تأتي بالله والملائكة معاينة ومواجهة، فيحدثونا بأنك رسول من عند الله، والمعنى: أو تأتي بالله قبيلا، وبالملائكة قبلا أي بأصناف الملائكة قبيلا قبيلا. كما في قوله تعالى: أُنْزِلَ

فقه الحياة أو الأحكام:

عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا والقبيل: الكفيل الضامن يضمنون لنا إتيانك به، أو الشاهد (الشهيد) . 5- أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أو أن يكون لك بيت من ذهب، كما في قراءة ابن مسعود، فإنك يتيم فقير. 6- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ.. أو أن تصعد في السماء على سلّم تضعها، ثم ترقى عليه، ونحن ننظر، ثم تأتي بصك معه أربعة ملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، أو تأتي بكتاب فيه تصديقك أنك رسول من عند الله، ونقرؤه كعادتنا. قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا قل يا محمد متعجبا من اقتراحاتهم: تنزه ربي وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، فهو الفعال لما يشاء، وما أنا إلا رسول بشر كسائر الرسل أبلّغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وليس للرسل أن يأتوا بشيء إلا بما يظهره الله على أيديهم على وفق الحكمة والمصلحة، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل، إن شاء أجابكم وإن شاء لم يجبكم. بل إنهم لن يؤمنوا ولو جاءت الآيات كما اقترحوا، كما ذكر تعالى في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . فقه الحياة أو الأحكام: إن ضعفاء العقول ومحدودي التفكير يظنون أن الإله يفعل لهم ما يريدون، كما يحاول زعماء البشر من استرضاء الأتباع، لتحقيق المصالح المادية وجلب المنافع، وتسيير الأمور. ثم إن طلبهم مقرون بالتحدي والمراوغة والتعجيز، لا من أجل التوصل إلى

التصديق والإيمان، ومعرفة حقيقة النبوة إذ لو أرادوا معرفتها بحق لأقنعهم القرآن المعجزة ولكفاهم آية على تصديق هذا النبي. إنهم طلبوا إحدى آيات ست: إما تفجير الينابيع (العيون الغزيرة) بكثرة من الأرض- أرض مكة، وإما تملك الرياض والبساتين والحدائق الغناء تجري الأنهار وسطها، وإما إسقاط السماء عليهم قطعا قطعا، كما زعم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعنون قول الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ 34/ 9] ، وإما الإتيان بالله والملائكة معاينة ومواجهة، كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته، وإما أن يكون لك بيت أو قصر من ذهب، وإما الصعود في معارج السماء، ولن نؤمن من أجل رقيك أو صعودك، حتى تنزل علينا كتابا من السماء فيه تصديقك، أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا كما قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر 74/ 52] . فرد الله عليهم بالجواب الحاسم: قل يا محمد: سُبْحانَ رَبِّي أي تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء، وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب من فرط كفرهم واقتراحاتهم. فما أنا إلا بشر رسول أتبع ما يوحى إليّ من ربي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات؟! والخلاصة: أن التدبير ليس إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى.

من شبهات المشركين بشرية الرسل وإنكار البعث [سورة الإسراء (17) الآيات 94 إلى 100] :

من شبهات المشركين بشرية الرسل وإنكار البعث [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 100] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) الإعراب: فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مَلائِكَةٌ: اسم كانَ المرفوع، ويَمْشُونَ: جملة فعلية صفة له. وفِي الْأَرْضِ خبر كانَ، ومُطْمَئِنِّينَ: حال. مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً جملة حالية من جَهَنَّمُ ولا يجوز أن تكون صفة لأن جَهَنَّمُ معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف

البلاغة:

بالنكرة. ويجوز ألا يكون لهذه الجملة موضع من الإعراب، وتكون الواو العاطفة مقدّرة، أي: وكلما خبت. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر وبِأَنَّهُمْ في موضع نصب لأنه يتعلق بجزاؤهم لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ أَنْتُمْ: مرفوع بفعل مقدر، يفسره تَمْلِكُونَ أي لو تملكون، فلما حذف الفعل، صار الضمير المرفوع المتصل في تَمْلِكُونَ ضميرا منفصلا، وهو أَنْتُمْ ولا يجوز أن يكون أَنْتُمْ مبتدأ لأن لو حرف يختص بالأفعال كإن الشرطية. وخَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مفعول لأجله. البلاغة: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا استفهام إنكاري. وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ التفات من الغيبة إلى التكلم، اهتماما بأمر الحشر. مَنْ يَهْدِ وَمَنْ يُضْلِلْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق إِلَّا أَنْ قالُوا إلا قولهم منكرين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا، ولم يبعث ملكا. قُلْ لهم جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي بنو آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، فلم يرسل الله إلى قوم رسولا إلا من جنسهم يمكنهم مخاطبته والفهم عنه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي وعلى أني رسول إليكم، بإظهار المعجزة على وفق دعواي إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنهم وظواهرهم. وفيه تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتهديد للكفار. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يهدونهم من دونه، والمعنى: ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدي الموفق لأن نفسه ميّالة إلى ذلك، ومن يضلله الله ويخذله، لإعراضه عن هداية ربه، فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره، ويدافعون عنه. وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون عليها تجرهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم، أو يمشون بها، روى الشيخان عن أنس أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف يمشون على

المناسبة:

وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» . وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم. عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا قال البيضاوي: لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر، وتصاموا عن استماع الحق، وأبوا أن ينطقوا بالصدق. ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار معطّلي القوى والحواس. كُلَّما خَبَتْ سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدا وتلهبا واشتعالا، بأن تبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة «ورفاتا» ما بلي من الشيء. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا فهي رؤية القلب، وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة بعد الإفناء قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإنهم ليسوا أشد خلقا منهم، وليست الإعادة أصعب عليه من الإبداء وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا للموت والبعث فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحق إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه، والمطر من أهم المصادر لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ خوف نفادها بالإنفاق قَتُوراً بخيلا. المناسبة: بعد أن أنكر المشركون الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه، بل هي أعظم، أخبر الله تعالى عن السبب الواهي الضعيف الذي منعهم من الإيمان، وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الناس واحدا بشرا منهم، ولم يكن ملكا. فهذه شبهة أخرى وهي استبعاد كون الرسل بشرا، بعد الرد عليهم بأن وظيفة الرسل إبلاغ الناس، وليس تلبية اقتراح الآيات، ثم الرد على شبهتهم بأن الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم. ثم ذكر شبهة أخرى أيضا وهي إنكار البعث، ولما أنكروا البعث، نبّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته، بخلق السموات والأرض. ولما طلب المشركون إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله، لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما أقدموا على نفع أحد.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ... أي وما منع أكثر الناس ومنهم مشركو مكة أن يؤمنوا بالله، ويتبعوا الرسل، حين مجيء الوحي المعجز الذي يستهدف الهداية والإسعاد والنجاة إلا استغرابهم وتعجبهم من بعثة البشر رسلا، غير متصورين كون الرسول من جنس البشر المرسل إليهم، وأنه كان لا بد من أن يكون من الملائكة، وهذا تحكم فاسد وتعنت باطل. والآية مثل قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس 10/ 2] وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن 64/ 6] . والآيات في هذا كثيرة. ثم أجابهم الله تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده، وعلى منطق الأمور، فقال: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ.. أي قل لهم يا محمد: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفقهوا عنه ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف لجنسه، ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معه حول أحكام التشريع وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام 6/ 9] . بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، لذا قال تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 151] وقال سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران 3/ 164] وقال عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] .

والخلاصة في معنى الآية: إنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون عليها مطمئنين فيها، كما أنتم أيها البشر فيها، لنزلّنا عليهم من عالم السماء رسولا من جنسهم، وأنتم البشر رسولكم منكم، لكن يمكن أن يكون البشر رسولا لغير البشر، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول إلى الإنس والجن لأنه يمكنهم تلقي الوحي عنه وفهم الخطاب منه. وأما تلقي النبي الوحي من جبريل عليه السلام فهذا يتطلب استعدادا خاصا لا يتهيأ لغير نبي أو رسول. ثم أرشد الحق تعالى إلى حجة أخرى هي: قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القول الفصل بيني وبينكم، وإقامة الحجة الدامغة عليكم أن الله شاهد علي وعليكم، وحكم بيني وبينكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة 69/ 44- 46] وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام 6/ 21] . إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي إن الله سبحانه عليم بأحوال عباده، يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وخبير بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الضلالة، مطلع على ما في قلوبهم، فهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن قبول الحق. وفي ذلك تهديد ووعيد، وإيناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم. ثم يخبر الله تعالى عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، فقال: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.. أي من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب. والمقصود إيناس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية،

لعلمه السابق بأنهم صائرون لذلك لميل نفوسهم إلى الحق، وجب أن يصيروا مؤمنين لأن علم الله لا يتغير، ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل، لما علم الله منهم سوء الاختيار، والإصرار على الغواية والضلال، استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال، كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف 18/ 17] . ولا يقصد بوجود العلم والحكم السابق إجبار البشر على الإيمان والكفر، فإن الإنسان مختار في حدود ما اختاره الله له، أي إن الإنسان، وهو يختار بمشيئته فإنه في الحقيقة التي لا يعلمها لا يختار إلا ما اختاره الله له، فلا مشيئة للإنسان ولا لشيء إلا ما يشاؤه الله. وهذه المشيئة الكلية والشاملة لله في كل شيء كفلت للإنسان حرية الاختيار بقين الأمرين، كفلت مشيئة الله في عدله ورحمته أن يكون له «الخيار» بين الهدى والأمن مع الله، أو الضلال والشك، كما بيّن تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3] وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] . وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي ونجمعهم يوم القيامة في موقف الحساب بعد الخروج من القبور، مسحوبين على وجوههم، كما قال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر 54/ 48] عميا لا يبصرون، بكما لا ينطقون، صمّا لا يسمعون، أي أنهم كما كانوا في الدنيا معطلين هذه الحواس عن الانتفاع الحقيقي بها، وإن كانوا في الظاهر مبصرين ناطقين سامعين، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، كما قال تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء 17/ 72] قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكما وعميا وصما عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك.

أخرج الشيخان وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «قيل: يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» . وأخرج الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف في الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم» وفي معناه أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد، قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار» . مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً أي منقلبهم ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، بأن تأكل جلودهم ولحومهم وتفنيها، فيسكن لهبها، ثم يبدلون غيرها، فترجع ملتهبة مستعرة، ويتكرر الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم بالبعث، كما قال تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ 78/ 30] . وعلة تعذيبهم ما قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.. أي إن ذلك الجزاء والعقاب الذي جازيناهم به من البعث عميا وبكما وصمّا هو جزاؤهم الذي يستحقونه على كفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم آياته أي أدلته وحجته على وجوده ووحدانيته وعلى البعث، وعلى قولهم منكرين وقوع البعث: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا بالية وترابا منتشرا، نعود خلقا جديدا آخر؟ أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في أنحاء الأرض، نعاد مرة ثانية؟ فنبههم الله على قدرته على البعث بأنه خلق السموات والأرض، فقال:

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي أبدع خلق السموات والأرض على غير مثال سبق، قادر على أن يخلق أمثالهم، ويعيد أبدانهم، وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] ، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات 79/ 27] فدل هذا على أن خلق الإنسان أو إعادته أهون وأيسر من خلق السموات والأرض، وأن الإعادة أهون عليه من الابتداء. لكن للبعث والقيامة أو الموت وقتا محددا، فقال تعالى: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي وجعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا معينا، ومدة مقدرة، لا بدّ من انقضائها، وبعد مضي تلك المدة تكون القيامة أمرا محتما لا شكّ فيه. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي وبالرغم من إقامة تلك الحجة الدامغة عليهم أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وجحودا للثابت الصحيح، وإنكارا للبعث. وسبب عدم إجابتهم لمطالبهم من القصور والجنات والعيون هو الشح، فقال الله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي.. أي قل لهم يا محمد: لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، أي الفقر، كما قال ابن عباس، أي خشية الزوال والذهاب والنفاد والفراغ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفذ أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا منوعا، كما قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء 4/ 53] . أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله تعالى، لما أعطوا أحدا شيئا، ولا مقدار نقير، وهو الخيط في

فقه الحياة أو الأحكام:

شق النواة، وقال الله تعالى أيضا: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج 70/ 19- 22] . والآية دليل واضح على شح الإنسان وكرم الله تعالى وجوده وإحسانه، جاء في الصحيحين: «يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده» . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن كفار قريش قوم متكبرون معاندون، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنت مثلنا، فلا يلزمنا الانقياد لك، وغفلوا عن القرآن المعجزة الذي يثبت صدقه في رسالته. وادعاؤهم أن الرسول لا يصلح أن يكون بشرا: ادعاء مردود عليهم لأن أداء الرسالة وما تقتضيه من إقناع ونقاش، ومراعاة لموجب الحكمة والمصلحة أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم. فالملك إنما يرسل إلى الملائكة لأنه لو أرسل الله تعالى ملكا إلى بني آدم لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على رؤيته، وخلق فيهم ما يقدرون به ليكون ذلك آية لهم ومعجزة. 2- كفى بالله شاهدا ومصدقا يشهد أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الله، يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 93] : فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.

3- لو شاء الله أن يهدي الكفار لاهتدوا، فإن لم يهتدوا، فإن لم يهتدوا بهدي الله تعالى، لا يهديهم أحد. 4- يحشر الكفار يوم القيامة على وجوههم، وفيه وجهان: أحدهما- أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، كما يقول العرب: قدم القوم على وجوههم: إذا أسرعوا. والثاني- أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم، كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لحديث أنس المتقدم. فإنهم يحشرون عميا عما يسرّهم، بكما عن التكلم بحجة مقبولة، صما عما ينفعهم، وهذا يدل على أن حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها، ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا لقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف 18/ 53] ، وتكلموا لقوله تعالى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان 25/ 13] ، وسمعوا لقوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان 25/ 12] . 5- مأوى الكفار ومستقرهم ومقامهم جهنم، كلما سكنت نارها، زادها الله نارا تلتهب، وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم. 6- ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله تعالى وحججه الدالة على وجوده وتوحيده، وجزاء جحودهم وإنكارهم البعث إنكار تعجب من إعادة ما بلي من العظام، وتفتت من الجسد، وزالت معالمه، وغفلوا عن أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، والإعادة أهون عليه من الابتداء، كما قال الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء 21/ 104] ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] .

الآيات التسع لموسى عليه السلام وصفة إنزال القرآن [سورة الإسراء (17) الآيات 101 إلى 109] :

ومع كل هذه الدلائل أبى المشركون الظالمون إلا جحودا بأجل القيامة وبآيات الله تعالى. 7- لو وسّع الله الرزق على العباد لبخلوا أيضا، فإن قوله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن الأرزاق والنعم إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ من البخل، هو جواب قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء 17/ 90] حتى نتوسع في المعيشة، والمعنى: لو توسعتم لبخلتم أيضا، وكان الإنسان قتورا أي بخيلا مضيّقا، والآية على الصحيح عامة في المشركين وغيرهم. الآيات التسع لموسى عليه السلام وصفة إنزال القرآن [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 109] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)

الإعراب:

الإعراب: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ بَيِّناتٍ إما وصف مجرور لآيات، أو وصف منصوب لتسع. وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الباء في بِالْحَقِّ في الموضعين: إما متعلقة بالفعلين على جهة التعدي، وإما أن الأولى حال من هاء أَنْزَلْناهُ والثانية حال من ضمير نَزَلَ. وَقُرْآناً إما منصوب بفعل مقدر، وتفسيره فَرَقْناهُ أي فرقنا قرآنا فرقناه، أو معطوف على قوله: مُبَشِّراً وَنَذِيراً على تقدير: وصاحب قرآن، ثم حذف المضاف، فيكون فَرَقْناهُ وصفا لقرآن. وعَلى مُكْثٍ: حال، أي متمهلا مترفّقا. البلاغة: مُبَشِّراً وَنَذِيراً بينهما طباق. مَسْحُوراً مَثْبُوراً بينهما جناس ناقص لتغير بعض الحروف. إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً بينهما مقابلة، وفيهما سجع. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي والله لقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله، وهي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وهذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فقيل: انفلاق البحر، والسنون، وقيل: انفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل، وقيل: انفلاق البحر، وحل عقدة لسان موسى. وهما مرويان عن ابن عباس، وقيل عن مجاهد وآخرين: السنون، ونقص الثمرات. وقيل بغير ذلك كما ذكرنا في سورة الأعراف. خمس منها ذكرت في سورة الأعراف: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [133] والباقي متفرقات.

المناسبة:

وقيل: المراد بالآيات: الأحكام، أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه: «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألاه عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قال: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود» قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل في الآية. فَسْئَلْ يا محمد. بَنِي إِسْرائِيلَ عنه سؤال تقرير للمشركين على صدقك، أو: فقلنا له: اسأل. مَسْحُوراً سحرت، فأصبحت متخبط العقل مخبولا. هؤُلاءِ الآيات. بَصائِرَ بينات واضحات وعبرا، ولكنك تعاند. مَثْبُوراً هالكا، أو مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشر. فَأَرادَ فرعون. أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أن يخرج موسى وقومه وينفيهم من الأرض: أرض مصر، أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال. اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها. وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة. لَفِيفاً جميعا أنتم وهم، واللفيف: الجمع العظيم المختلط من الطائعين والعصاة وغيرهم. فَرَقْناهُ نزلناه مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة. مُكْثٍ مهل وتؤدة وتأن ليفهموه. وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا شيئا بعد شيء على حسب المصالح والحوادث. قُلْ لكفار مكة. آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا تهديد لهم ووعيد. مِنْ قَبْلِهِ قبل نزوله، وهم مؤمنو أهل الكتاب. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله، وشكرا لإنجازه وعده في تلك الكتب ببعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على فترة من الرسل وإنزاله القرآن عليه. والمعنى: إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به من هو خير منكم، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة، وعرفوا حقيقة الوحي، وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والمبطل، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب. فالخرور: السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن: وهو مجتمع اللحيين. سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها له عن خلف الوعد. سُبْحانَ مخففة من الثقيلة. كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا بإنزال القرآن وبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ عطف بزيادة صفة. وَيَزِيدُهُمْ القرآن. خُشُوعاً تواضعا لله. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن قريش تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول

التفسير والبيان:

صلّى الله عليه وآله وسلّم، سلّاه تعالى وذكّره بما جرى لموسى مع فرعون، وقومه من قولهم: أرنا الله جهرة، وقول قريش: أو تأتي بالله، أو نرى ربنا، وأنه أنزل آيات تسعا على موسى مثلما اقترحوا، فلم تفد تلك الآيات فرعون وقومه بالإقبال على ساحة الإيمان، ويكفيكم ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من آيات علمية غير مادية، فإن لم يؤمنوا، كانت عاقبتكم الدمار والهلاك، كما أهلك فرعون وقومه بالغرق. وبعد أن ذكر تعالى إعجاز القرآن بقوله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء 17/ 88] عاد إلى بيان صفة نزول القرآن منجما، وأنه حق ثابت لا يزول. وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا «1» . وهدد تعالى من لم يؤمن به، وأنه قد آمن به علماء أهل الكتاب. التفسير والبيان: أجاب الله تعالى المشركين في هذه الآيات عن قولهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة، فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي لقد أمددنا موسى عليه السلام وأعطيناه تسع آيات بيّنات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به، حين أرسله إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها، كما قال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق [النمل 27/ 14] . والآيات التسع هي كما ذكر ابن عباس فيما رواه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر: «العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم آيات مفصلات» .

_ (1) البحر المحيط: 6/ 87.

لكن تخصيص التسع بالذكر لا يمنع ثبوت الزائد عليها لأن القاعدة في أصول الفقه: أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد. وقد ذكر القرآن المجيد ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام ذكرها الرازي «1» وهي: إزالة العقدة من لسانه أي إذهاب العجمة وصيرورته فصيحا، وانقلاب العصا حية، وتلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وشق البحر: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة 2/ 50] والحجر: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ [الأعراف 7/ 160] وإضلال الجبل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف 7/ 171] وإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه، والجدب، ونقص الثمرات: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف 7/ 130] والطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والنقود. وقال الرازي «2» بعد أن ذكر أن الروايات ظنية غير يقينية في بيان الآيات التسع: أجود الروايات في تفسير قوله تعالى: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ما روى صفوان بن عسّال المرادي أنه قال: إن يهوديا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألاه عنها، فقال: «هن ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت، فقام اليهوديان، فقبّلا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد إنك نبي، ولولا نخاف القتل، وإلا اتبعناك» «3» . فالمراد بالآيات: الأحكام.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 64. (2) المرجع السابق. (3) أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه.

فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاسأل أيها النبي بني إسرائيل المعاصرين لك كعبد الله بن سلام وصحبه سؤال تأكد واستيثاق واطمئنان، لتعلم ثبوت ذلك في كتابهم. إِذْ جاءَهُمْ، فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي فاسألهم حين جاءهم موسى بتلك الآيات، وبلغها فرعون، فقال فرعون: إني لأظنك يا موسى أن الناس سحروك وخبلوك، فصرت مختلط العقل. قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق الأرض والسموات إلا حججا وأدلة على صدق ما جئتك به، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق، وأنها من عند الله لا من عند غيره. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي مغلوبا هالكا مصروفا عن الخير، ميالا إلى الشر. فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر بالقتل، أو بالطرد. فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون إخراجكم منها وهي أرض مصر، أو أرض الشام التي وعدتم بها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم أنتم وعدوكم جميعا، مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم. واللفيف: الجمع

العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدني، والمطيع والعاصي، والقوي والضعيف. وبعد أن ردّ الله تعالى على الكفار بأنه لا حاجة للمعجزات لأن قوم موسى آتاهم الله تسع آيات بينات، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، ولأنه لو جاءهم بتلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها، لأنزل بهم عذاب الاستئصال، فاقتضت الحكمة عدم تلبية مطالبهم لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، ومنهم من لا يؤمن ... بعد هذا عاد الله تعالى إلى تذكيرهم بالمعجزة الخالدة وهي القرآن، وإلى تعظيم شأنه، والاكتفاء به، فقال: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ... أي إننا أنزلنا القرآن متضمنا للحق من تبيان براهين الوحدانية والوجود، وحاجة الناس إلى الرسل، والأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، والنهي عن الظلم وقبائح الأفعال والأقوال، والأحكام التشريعية والأوامر والنواهي المنظمة لحياة الفرد والجماعة والدولة وغير ذلك من أصول التشريع الرفيع. ونزل إليك يا محمد هذا القرآن محفوظا محروسا، لم يختلط بغيره، ولم يطرأ عليه زيادة فيه ولا نقص منه، بل وصل إليك مع الحق وهو جبريل عليه السلام، الشديد القوي، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى. وبعد بيان خواص القرآن أبان تعالى مهام النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين بالجنة، ونذيرا لمن عصاك من الكافرين بالنار. ثم عاد إلى بيان كيفية نزول القرآن منجما، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، فقال تعالى:

وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي وأنزلنا قرآنا مفرقا منجما في مدى ثلاث وعشرين سنة، فلم ينزل في يومين أو ثلاثة، وإنما أنزلناه بحسب الوقائع والحوادث وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدنيا والآخرة على وفق المناسبات، وقد ابتدأ نزوله في ليلة مباركة هي ليلة القدر في رمضان، وقرئ فَرَقْناهُ بالتشديد، أي أنزلناه آية آية مبينا مفسرا. وذلك لتبلغه للناس وتتلوه عليهم على مهل، ونزلناه تنزيلا أي شيئا بعد شيء، على الحد المذكور والصفة المذكورة. وفائدة قوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بعد قوله فَرَقْناهُ بيان كون التنزيل على حسب الحوادث. ثم هددهم الله محتقرا لهم غير مبال بشأنهم بقوله: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين لم يقتنعوا بكون القرآن معجزة كافية، وقالوا لك: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء 17/ 90] آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به، فهو حق في نفسه أنزله الله، وكتاب خالد إلى أبد الدهر. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ... أي إن علماء أهل الكتاب الصالحين الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولم يحرفوه، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يسجدون على وجوههم تعظيما لله عز وجل، وشكرا على ما أنعم به عليهم، وعبر عن السجود بقوله لِلْأَذْقانِ لأن الإنسان كلما ابتدأ بالخرور والإقبال على السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض: الذقن، أو هو كناية عن المبالغة في الخضوع والخشوع والخوف من الله تعالى. ويقولون في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا ... أي تنزيها لله تعالى وتعظيما وتوقيرا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد، لذا قال: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا

فقه الحياة أو الأحكام:

لَمَفْعُولًا أي منجزا واقعا آتيا لا محالة. وهؤلاء كما قال مجاهد: ناس من أهل الكتاب، حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خرّوا سجدا، منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام. وهذا السجود من هؤلاء تعريض بأهل الجاهلية والشرك، فإنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن، فإن خيرا منهم وأفضل علماء أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب، وعلموا ما الوحي، وما الشرائع، فآمنوا وصدقوا به، وثبت لديهم أنه النبي الموعود به في كتبهم، فإذا تلي عليهم خروا سجدا لله، تعظيما لأمره، ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في الآية: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي بإنزال القرآن وبعثة محمد. وصفة سجودهم ما قال تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي ويخرون ساجدين باكين خاشعين خاضعين لله عز وجل من خشية الله، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله. ويزيدهم السجود خشوعا، أي إيمانا وتسليما، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد 47/ 17] . وقد امتدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم البكاء في أحاديث كثيرة منها: ما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى التالي: 1- أيد الله نبيه موسى عليه السلام بمعجزات أو آيات تسع، كما ذكرت الآية

هنا، وهي بدلالة آيات أخرى ست عشرة معجزة، كما بينا في التفسير، واخترنا ما اختاره الرازي وغيره أنها آيات الكتاب والأحكام. ولم تكن الإحالة بالسؤال إلى بني إسرائيل عن هذه الآيات إلا من قبيل الاستفهام والإلزام، ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. وبالرغم من دعم موسى بهذه الآيات، فلم يؤمن فرعون برسالته، وإنما قال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي ساحرا بغرائب أفعالك، أو مسحورا من غيرك مختلط العقل مخبولا. والظن هنا على حقيقته المفيد رجحان الوقوع. 2- لم يجد موسى جوابا لفرعون إلا الاعتصام بربه، وإعلانه أن هذه الآيات منزلة من رب السماء والأرض بصائر، أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته وتصديقه موسى في نبوته، وقال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً والظن هنا بمعنى التحقيق والتيقن، والثبور: الهلاك والخسران. 3- لم يجد الطاغية فرعون غير استخدام السلطة والقوة، وصمم على إخراج موسى وبني إسرائيل إما بالقتل أو بالإبعاد، فأهلكه الله عز وجل، وأسكن بني إسرائيل من بعد إغراقه أرض الشام ومصر. ثم يأتي الله بالجميع يوم القيامة من قبورهم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر دون تمييز ولا تحيز، ويحاسب كل امرئ على ما قدم. 4- أنزل الله القرآن متضمنا الحق والعدل والشريعة والحكم الأمثل، والجمع بين الإنزالين لمعنيين، فقوله: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي أوجبنا إنزاله بالحق، وقوله: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ونزل وفيه الحق، أو أن الأول معناه: مع الحق، والثاني بالحق أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي نزل عليه.

دعاء الله بالأسماء الحسنى [سورة الإسراء (17) الآيات 110 إلى 111] :

5- كان إنزال القرآن منجما مقسطا على حسب الوقائع والمناسبات في مدى ثلاث وعشرين سنة، ليتمكن الناس من قراءته على مهل وتدبر وإمعان، وليعملوا به تفصيلا، فإنهم لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا. 6- هدد الله تعالى مشركي قريش وأبدى إعراضه عنهم، لا على وجه التخيير قائلا لهم: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن العلماء السابقين من أهل الكتاب وهم مؤمنوا أهل الكتاب آمنوا به عن يقين، ولم يتمالكوا أنفسهم عند سماعه إلا السجود لله خاضعين خاشعين باكين من خشية الله، قائلين: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي منجزا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. 7- قوله يَبْكُونَ دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن البكاء لا يقطعها ولا يضرها. وقيد ذلك بعض الفقهاء بألا يكون مقرونا بصوت وكلام. أما الأنين فلا يقطع الصلاة للمريض، ويكره للصحيح في رأي مالك. وكذلك التنحنح والنفخ لا يقطع الصلاة عند مالك. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. دعاء الله بالأسماء الحسنى [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

الإعراب:

الإعراب: أَيًّا ما تَدْعُوا أَيًّا: شرطية، منصوب بتدعوا، والتنوين في أَيًّا عوض عن المضاف إليه، وما: زائدة للتأكيد، وتَدْعُوا: مجزوم بأي، وفاء فَلَهُ جواب الشرط، وقوله ادْعُوا يتعدى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا. البلاغة: تَجْهَرْ وتُخافِتْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموه بأي واحد من هذين الاسمين، أو نادوه بأن تقولوا: يا الله، يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا أي هذين تدعوا فهو حسن، والدعاء هنا: التسمية فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فلله الأسماء الحسنى، وهذان منها، وكونها أسماء حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. وقوله: فَلَهُ للمسمى لأن التسمية له، لا للاسم، وكان أصل الكلام: أيّا ما تدعو فهو حسن، فوضع موضعه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل على الله تعالى. والأسماء الحسنى تسع وتسعون، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور. وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءتك فيها، فيسمعك المشركون، فيسبوك ويسبوا القرآن ومن

سبب النزول:

أنزله وَلا تُخافِتْ بِها ولا تسرّ بقراءتك، لينتفع أصحابك وَابْتَغِ اقصد بَيْنَ ذلِكَ الجهر والمخافتة سَبِيلًا طريقا وسطا. شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ متولي أمره ينصره مِنَ الذُّلِّ من أجل الذل، أي لم يذل، فيحتاج إلى ناصر، أي لم يكن له ولي يواليه من أجل مذلّة به، ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظّمه تعظيما تاما منزها عن اتخاذ الولد والشريك والذل وكل مالا يليق به. وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد، لكمال ذاته وتفرده في صفاته. وفيه تنبيه على أن العبد، وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك. روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول: «آية العز: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ إلى آخر السورة» . سبب النزول: نزول الآية: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ ... : أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ، ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فنزل: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ... الآية. وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يكتب في أول ما يوحى إليه: باسمك اللهم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضحاك: قال أهل التفسير: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك لتقلّ ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

نزول الآية ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها:

نزول الآية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها: أخرج أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مختف بمكة، وكانوا إذا سمعوا القرآن، سبّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا يسمعون وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت في قراءته، ويقول: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية، أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا. نزول الآية (111) : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس، لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله: وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ... الآية. المناسبة: بعد أن الله أثبت تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن العرب عجزوا عن معارضته، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاءهم بتوحيد الله ورفض آلهتهم، عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فرد الله تعالى عليهم بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ.. الآية.

التفسير والبيان:

ولما ذكر تعالى أنه واحد، وإن تعددت أسماؤه، أمر الله تعالى نبيه أن يحمده على ما أنعم به عليه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصف نفسه بأنه لم يتخذ ولدا، للرد على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الأصنام، وجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله، فنفى الولد أولا، ثم نفى الشريك في ملكه، ثم نفى الولي وهو الناصر، والشريك أعم من الولد، والولي الناصر أعم من نسبة الولد والشريك، فهو أعم من أن يكون ولدا، أو شريكا أو غير شريك. التفسير والبيان: هذا رد على المشركين الذين أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عز وجل، فقال: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين في مكة المنكرين صفة الرحمة لله تعالى، المانعين من تسميته بالرحمن: لا فرق في دعائكم لله باسم الله أو باسم الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى. قال في الكشاف: الله والرحمن المراد بهما الاسم، لا المسمى، وأو للتخيير، فمعنى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا، وإما هذا، والدعاء بمعنى التسمية، لا بمعنى النداء «1» . وقوله أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التقدير: أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم، فكل أسمائه حسنى، فيها تعظيمه وتقديسه، كما قال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحشر 59/ 24] فأي اسم تدعونه به فهو حسن. ثم أرشد الله إلى كيفية القراءة والدعاء، فقال: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي ولا تجهر

_ (1) الكشاف: 2/ 249.

بقراءة صلاتك، حتى لا يسمع المشركون فيسبوا القرآن، ويسبوا من أنزله، ومن جاء به، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا، فهذه هي الطريقة المثلى في القراءة، وهي الحد الوسط بين الجهر بالصوت والإسرار والإخفات فيه، ففي الجهر حتى لا يتفرقوا عنه ويأبوا أن يسمعوا منه، أو يسبوا القرآن، وفي الإسرار ليسمع من أراد السماع فينتفع به. ثم علّمنا تعالى كيفية الحمد، فقال: وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ... أي وقل: لله الحمد والشكر على ما أنعم على عباده، وهو الموصوف بالصفات الثلاث التالية لتنزيه نفسه عن النقائص: الأولى- إنه لم يتخذ ولدا: فهو غير محتاج إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث، وهو منزه عنها. وفي هذا رد على اليهود القائلين: عزيز ابن الله، والنصارى القائلين: المسيح ابن الله. الثانية- ليس له شريك في الملك والسلطان: لأنه أيضا غير محتاج إليه، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] . ولم يعرف المستحق للعبادة والحمد والشكر. الثالثة: لم يكن له ولي من الذل: أي ليس بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة، من ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بمشيئته «1» . ومجموع هذه الصفات في قوله سبحانه:

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 71.

فقه الحياة أو الأحكام:

قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1- 4] . وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا، فذلك التعظيم الذي يتناسب مع جلاله وعظمته وقدسيته، فهو الكبير المتعال في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل الوجود وفي صفاته فله صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقصان وفي أفعاله، فلا يحدث شيء في ملكه إلا بمقتضى حكمته ومشيئته وفي أحكامه، فله مطلق الأمر والنهي والعز والذل، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض لأحد على شيء من أحكامه وفي أسمائه فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية «1» . روى أحمد عن معاذ الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: «آية العز: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية» . وروى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى آخر الآية، سبع مرات» . فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات أن دعاء الله وتسميته يكون بكل اسم من أسمائه الحسنى، التي منها الله والرحمن، وليس ذلك تعددا في الآلهة كما فهم المشركون خطأ، وإنما التسمية بأسماء متعددة لمسمى واحد. والدعاء أو القراءة في الصلاة يكون بطريقة متوسطة بين الجهر والإسرار، وإذا كان السبب الداعي لذلك وهو تفادي سماء المشركين وسبهم القرآن ومن أنزله ومن جاء به، أو نفرتهم عنه وإبائهم سماعه، فإننا نحتفظ بالتزام هذه الطريقة، تذكرا لحال التشريع وظروفه الأولى التي صاحبته. وقد عبر الله تعالى بالصلاة في الآية هنا عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 72.

الصلاة في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 17/ 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها، فعبّر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز، وهو كثير. وقوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى والعرب في قولهم: عزير وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه، فهو تعالى لا والد له ولا صاحبة ولا ولد، وهو واحد لا شريك له في ملكه وعبادته، وليس له ناصر مدافع عنه يجيره من الذل، لم يحالف أحدا، ولا ابتغى نصر أحد. وهو تعالى يستحق التعظيم التام والإجلال، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر، أي أنه أكبر من كل شيء، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل في الصلاة قال: الله أكبر. وقال عمر بن الخطاب: «قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها» . وهذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ ... هي خاتمة التوراة. قال عبد الله بن كعب: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي خبر معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنها آية العز» ، كما بينا. وقال عبد الحميد بن واصل: سمعت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية، كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم 19/ 90] . وجاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم «أمر رجلا شكا إليه الدّين بأن يقرأ: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر السورة، ثم يقول: توكّلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات» .

سورة الكهف:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الكهف مكية، وهي مائة وعشر آيات. تسميتها: سميت سورة الكهف، لبيان قصة أصحاب الكهف العجيبة الغريبة فيها في الآيات [9- 26] مما هو دليل حاسم ملموس على قدرة الله الباهرة. وهي إحدى سور خمس بدئت ب الْحَمْدُ لِلَّهِ: وهي الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر. وهو استهلال يوحي بعبودية الإنسان لله تعالى، وإقراره بنعمه وأفضاله، وتمجيد الله عز وجل، والاعتراف بعظمته وجلاله وكماله. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة وضع هذه السورة بعد سورة الإسراء من نواح: هي افتتاح الإسراء بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر 15/ 98] وفي الحديث: «سبحان الله وبحمده» . كما أن الإسراء اختتمت بالتحميد أيضا، فتشابهت الأطراف أيضا. ولما أمر اليهود المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، أجاب تعالى في آخر سورة بني إسرائيل عن السؤال الأول، وقد أفرد فيها لعدم الجواب عن الروح، ثم أجاب تعالى في سورة الكهف عن السؤالين الآخرين، فناسب اتصالهما ببعضهما.

ما اشتملت عليه السورة:

ولما ذكر تعالى في الإسراء: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [85] ناسب ذكر قصة موسى مع العبد الصالح الخضر، كالدليل على ما تقدم. وقد ورد في الحديث: أنه لما نزل: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قال اليهود: قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فنزل: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ... [109] . ولما قال تعالى في الإسراء: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [104] أعقبه في سورة الكهف بالتفصيل والبيان بقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي، جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا إلى قوله: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [98- 100] «1» . والخلاصة: أنه تعالى لما قال في آخر الإسراء: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وذكر المؤمنين به أهل العلم، وأنه يزيدهم خشوعا، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج، القيم على كل الكتب، المنذر من اتخذ ولدا، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن. ثم استطرد إلى حديث كفار قريش، والتفت من الخطاب في قوله: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً إلى الغيبة في قوله: عَلى عَبْدِهِ لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه. ما اشتملت عليه السورة: استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه، وأنه جاء للتبشير والإنذار. ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى.

_ (1) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي 64 وما بعدها، طبع دار الكتاب العربي- دمشق.

وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن وهي قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين. أما قصة أصحاب الكهف [9- 26] فهي مثل عال، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني، واحتموا في غار في الجبل، فأنامهم الله ثلاث مائة وتسع سنين قمرية، ثم بعثهم ليقيم دليلا حسيا للناس على قدرته على البعث. واتبع الله تعالى تلك القصة بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. [28] . ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. [29] وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين [30- 31] . وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات [60- 78] فكانت مثلا للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء، بدليل قصة خرق السفينة، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار. وأما قصة ذي القرنين في الآيات [83- 99] فهي عبرة للحكام والسلاطين، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم، ومشرق الأرض ومغربها، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح. وتخللت هذه القصص أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى، وإنما يرتبط بالإيمان، وأول هذه الأمثلة: قصة أصحاب الجنتين [32- 44] للمقارنة بين الغني المغتر بماله، والفقير المعتز

فضل هذه السورة:

بإيمانه، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين. وثانيها: مثل الحياة الدنيا [45- 46] لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال، وحشر الناس في صعيد واحد، ومفاجأة الناس بضائف أعمالهم [47- 49] . وثالثها: قصة إبليس وإبائه السجود لآدم [50- 53] للموازنة بين التكبر والغرور، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان، وبين العبودية لله والتواضع، وما حقق من رضوان الله تعالى. وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكرى، وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار، والتحذير من الإعراض عن آيات الله [54- 57] . وأن سياسة التشريع اقتران الرحمة بالعدل، فليست الرحمة فوق العدل ولا العدل فوق الرحمة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [58- 59] . وختمت السورة بموضوعات ثلاثة: أولها- إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة [100- 106] وثانيها- تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [107- 108] وثالثها- أن علم الله تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [109- 110] . فضل هذه السورة: ورد في فضائل سورة الكهف أحاديث صحاح ثابتة، منها: ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال» . ومنها: ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي، عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم

كيفية الحمد والثناء على الله تعالى ومهام القرآن العظيم [سورة الكهف (18) الآيات 1 إلى 8] :

قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال» . وفي لفظ النسائي: «من قرأ عشر آيات من الكهف..» الحديث. ومنها: ما أخرجه النسائي في سننه عن ثوبان، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، فإنه عصمة له من الدجال» . دلت هذه الأحاديث على أن قراءة الآيات العشر الأوائل أو الأواخر أو أي عشر آيات عصمة من فتنة الدجال. والسنة أن يقرأ الشخص الكهف يوم الجمعة وليلتها، لما رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من قرأ الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وروى الدارمي والبيهقي: «من قرأها ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» . كيفية الحمد والثناء على الله تعالى ومهام القرآن العظيم [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)

الإعراب:

الإعراب: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً الواو للعطف على أَنْزَلَ. والأولى جعل الواو للحال من الكتاب، على تقدير: أنزل الكتاب على عبده غير مجعول له عوج قَيِّماً. وهو أولى من جعله معطوفا على أَنْزَلَ لما فيه من الفصل بين بعض الصلة وبعض، فلو كان للعطف، كان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه، ولذلك قيل في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: أنزل الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا. قَيِّماً قال في الكشاف: الأحسن أن ينتصب بمضمر، ولا يجعل حالا من الْكِتابَ، منعا من الفصل بين الحال وصاحبه. وقيل: حال من الْكِتابَ. لِيُنْذِرَ بَأْساً اللام متعلقة بأنزل، وبَأْساً: مفعول ثان لينذر، والمفعول الأول محذوف، تقديره: لينذركم بأسا شديدا من لدنه. مِنْ لَدُنْهُ قرئ بضم الدال على الأصل، وبإسكانها على وزن عضد وحذف الضمة فيقال: عضد ولدن، وبإشمامها بالضم للتنبيه على أن أصلها هو الضم. ماكِثِينَ فِيهِ حال من الهاء والميم في لَهُمْ. كَبُرَتْ كَلِمَةً تمييز منصوب، أي: كبرت الكلمة كلمة. وتَخْرُجُ جملة فعلية صفة كَلِمَةً. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا. وكذبا منصوب بيقولون، مثل: قلت شعرا أو خطبة. أَسَفاً منصوب على المصدر، في موضع الحال، أو مفعول لأجله. زِينَةً لَها مفعول ثان لجعلنا بمعنى صيّرنا. وإن جعل بمعنى خلقنا فهم مفعول به له. البلاغة: يُبَشِّرَ وَيُنْذِرَ بينهما طباق. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فيه إطناب بذكر الخاص بعد العام. وفي كل منهما حذف بديع، فحذف من الجملة الأولى المفعول الأول أي لينذر الكافرين بأسا، وحذف من الجملة الثانية المفعول الثاني، وهو عذابا، فحذف لدلالة الأول عليه، وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه.

المفردات اللغوية:

باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ استعارة تمثيلية، شبه حاله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المشركين بحال من فارقته الأحباب، فهمّ بإهلاك نفسه حزنا عليهم. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ استفهام إنكاري بمعنى النهي، أي لا تبخع نفسك لإعراضهم عن الإيمان أسفا. المفردات اللغوية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: الوصف بالجميل ثابت لله تعالى، وهو تعليم للعباد كيف يثنون على الله ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم الْكِتابَ القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وألفاظه. قَيِّماً مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف منعا للمشقة والحرج، ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه. وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هو التأكيد، فرب مستقيم لا يخلو من أدنى عوج عند التأمل. وقيل: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها، وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال. لِيُنْذِرَ ليخوف بالكتاب الكافرين وهو متعلق بأنزل بَأْساً عذابا في الآخرة مِنْ لَدُنْهُ من قبله أو من عنده. حذف المفعول الأول لفعل لِيُنْذِرَ- وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة- لأن المنذر به هو الغرض المسوق إليه، فاقتصر عليه، ودل عليه ذكر المنذرين في قوله: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً من غير ذكر المنذر به لتقدم ذكره، كما ذكر المبشر به في قوله: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً والأجر الحسن: الجنة. ما لَهُمْ بِهِ بهذا القول أو باتخاذ الولد وَلا لِآبائِهِمْ من قبلهم، والمعنى: أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم كَبُرَتْ كَلِمَةً عظمت، والمخصوص بالذم محذوف أي مقالتهم المذكورة إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ما يقولون في ذلك إلا مقولا كذبا. باخِعٌ مهلك نفسك أو قاتلها عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم، أي من بعد توليهم عن الإيمان الْحَدِيثِ القرآن أَسَفاً غيظا وحزنا منك، لحرصك على إيمانهم. والأسف: المبالغة في الحزن والغضب ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان والنبات والشجر والأنهار وغير ذلك لِنَبْلُوَهُمْ لنختبر الناس، ناظرين إلى نتيجة الاختبار أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تعاطيه، وهو من زهد فيه، ولم يغتر به، وصرفه على ما ينبغي من الإتقان صَعِيداً ترابا جُرُزاً يابسا لا نبات فيه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الْحَمْدُ لِلَّهِ ... يحمد الله تعالى نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه إذ أخرج الناس من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، فمعنى قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما. والحمد معناه: الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى. والله تعالى محمود على كل حال، ويحمد نفسه أحيانا عند فواتح السور وخواتمها، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، ومن أهمها نعمة الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم. قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.. أي مستقيما، وأتى بهذه الصفة بعد نفي الاعوجاج للتأكيد، فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند الفحص والاختبار. وقيل: معناه: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع. لِيُنْذِرَ أي ليخوف الذين كفروا بالكتاب عذابا شديدا، وعقوبة عاجلة في الدنيا وهو النكال، وآجلة في الآخرة وهو نار جهنم. وقوله: مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عند الله تعالى. وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ بهذا القرآن، الذين دعموا إيمانهم بالعمل الصالح، أن لهم مثوبة جميلة عند الله، وهي الجنة دار المتقين الأبرار، ودار الخلود أبدا للمحسنين الأخيار، فالأجر الحسن: الجنة.

ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً أي مستقرين في ثوابهم عند الله وهو الجنة إلى الأبد، وخالدين فيه دائما، لا زوال له ولا انقضاء. يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ... أي ويحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا، وهم مشركو العرب الذين قالوا: نحن نعبد الملائكة بنات الله، واليهود الذين اتخذوا عزيرا ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله. وإنما خصّ ذكر هؤلاء مع دخولهم في الإنذار العام المتقدم للكافرين، للدلالة على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ما لهم ولا لآبائهم أي أسلافهم علم ثابت بهذا القول الذي افتروه وهو اتخاذ الولد لله أو الوالد، وإنما هو صادر عن جهل مفرط وتقليد للآباء، ومن تسويل الشيطان. وانتفاء العلم بالشيء: إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يصلح محلا للعلم به. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي عظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم متجرئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور، ولا حقيقة له أصلا. ثم سرّى الله تعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام وواساه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه بقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ.. أي فلعلك قاتل نفسك ومهلكها لأن لم يؤمنوا بهذا القرآن، أسفا وحسرة عليهم، ولعل هنا للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى النهي، أي لا تهلك نفسك أسفا لعدم إيمانهم، ولا تقتلها غضبا

وجزعا وحزنا عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. والآثار جمع أثر أي على أثر توليهم وإعراضهم عنك. وللآية نظائر كثيرة منها: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 3] ومنها: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل 16/ 127] . ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية زائلة، وأنها دار اختبار لا دار قرار، فقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ... أي إنا جعلنا ما على الأرض من زخارف الدنيا من إنسان وحيوان ونبات ومعادن ومنازل ومباهج ومفاتن زينة زائلة لها ولأهلها، لنعاملهم معاملة المختبرين، ليعرف المحسن عمله من الفاسد، فنجازي المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب. وحسن العمل: الزهد في الدنيا، وترك الاغترار بها، وجعلها وسيلة وجسرا للآخرة. أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» . ثم ذكر الله تعالى سبب التوجيه بالإعراض عن الكفار، فقال: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي وإنا لنصير الأرض وما عليها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فقوله: صَعِيداً جُرُزاً يعني كالأرض البيضاء التي لا نبات فيها ولا ينتفع بها، بعد أن كانت خضراء معشبة. وذلك مثل قوله تعالى: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 107] . والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. والجرز في اللغة: اليابسة التي لا تنبت، أو الأرض التي لا نبات فيها.

فقه الحياة أو الأحكام:

والمقصود من الآية تسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والقول له: لا تحزن فإنا سنهلكهم ونبيدهم. فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات أن أعظم نعمة من الله على عباده إنزال القرآن الكريم، الدواء الناجع لمشكلات البشرية، والمنقذ من الظلمات إلى النور، والحق العدل المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء. ومهمته أيضا إنذار الكافرين وتخويفهم بالعذاب الشديد في نار جهنم والنكال في الدنيا، وخصوصا المشركين الذين اتخذوا لله ولدا وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله. ولا دليل لهم ولا لأسلافهم على ما يقولون، وتلك كلمة كبيرة الإثم، شديدة الشناعة، عظيمة الجرم. وللقرآن مهمة أخرى هي تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات من التصديق بما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتزام الأوامر واجتناب النواهي بالأجر الحسن وهو الجنة التي يخلد فيها أهلها، فهي دار الخلد التي لا يموتون فيها. ولا يغترن أحد بالدنيا وما فيها من زينة وزخارف ومباهج، فتلك للاختبار والامتحان، ليعرف الصالحون الأبرار من المفسدين الفجار، ثم مآلها إلى الفناء والزوال والدمار والخراب، والرجوع إلى الملك الإله الدّيّان، ليجزي كل إنسان بعمله. وإذا كان هذا هو المصير المحتوم، فلا تأس ولا تحزن أيها الرسول على ما ترى وتسمع في الدنيا، ولا حاجة لإتعاب نفسك وإهلاكها وقتلها بسبب توليهم وإعراضهم عنك، وعدم إيمانهم بالقرآن، وأسفا أي حزنا وغضبا على كفرهم.

قصة أصحاب الكهف [سورة الكهف (18) الآيات 9 إلى 26] :

قصة أصحاب الكهف [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةًيَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)

الإعراب:

الإعراب: مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) مِنْ آياتِنا حال، وعَجَباً: خبر كان، وهو وصف بالمصدر، أو على ذات عجب.

سِنِينَ عَدَداً (11) سِنِينَ: ظرف منصوب، وعَدَداً: وصف لسنين منصوب، على معنى: ذات عدد، أو منصوب على المصدر. أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) : أي: مبتدأ مرفوع، أَحْصى: فعل ماض خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر سدت مسدّ مفعولي لِنَعْلَمَ وأَمَداً: ظرف زمان منصوب، وعامله: أَحْصى، وهو الأوجه، وقيل: لَبِثُوا. ولما لبثوا: حال من أَمَداً أو مفعول لأجله. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: صفة مصدر محذوف، فهو منصوب على المصدر، أي قولا شططا، أو منصوب بقلنا، مثل: قلنا شعرا. يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ (15) : أي هلا يأتون على دعواهم بأنها آلهة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهؤلاء: مبتدأ، وقَوْمُنَا: عطف بيان، وجملة اتَّخَذُوا: خبر. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (16) : إِذِ: تتعلق بفعل مقدر، أي واذكروا إذ اعتزلتموهم. وما: إما مصدرية (أي وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، فحذف المضاف) وإما اسما موصولا (أي وإذ اعتزلتموهم والذي يعبدونه) وإما نافية (أي وإذ اعتزلتموهم غير عابدين إلا الله، فتكون الواو واو الحال) وما: في الوجهين الأوليين: في موضع نصب بالعطف على الهاء والميم في اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وفي الوجه الثالث: في موضع نصب على الحال. وقوله إِلَّا اللَّهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا لأنهم كانوا كأهل مكة يقرون بالخالق ويشركون معه، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ... (17) : الشَّمْسَ: مفعول تَرَى، وإِذا طَلَعَتْ وإِذا غَرَبَتْ: ظرفان يتعلقان بترى، وعَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ: يتعلق بترى. وتَتَزاوَرُ: جملة فعلية حال من الشَّمْسَ. وذاتَ الشِّمالِ: يتعلق بتقرضهم. وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ: جملة اسمية حال. باسِطٌ ذِراعَيْهِ.. فِراراً (18) : ذِراعَيْهِ: منصوب بباسط، وإنما أعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي لأنه أراد به حكاية الحال، مثل الإشارة للحاضر في قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص 28/ 15] ولم يكن المشار إليهما حاضرين حين قص القصة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما حكى تلك الحال. وفِراراً ورُعْباً: منصوبان على المصدر. كَمْ لَبِثْتُمْ (19) : كَمْ: هنا ظرفية في موضع نصب بلبثتم، أي كم يوما لبثتم، ويوما المحذوف: تمييز، ودليل التقدير: كم يوما: أنه قال في الجواب: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

البلاغة:

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً (19) أَيُّها: مبتدأ، وأَزْكى: خبر المبتدأ، وطَعاماً: تمييز، والجملة مفعول فَلْيَنْظُرْ. إِذْ يَتَنازَعُونَ (21) : إِذْ: ظرف زمان في موضع نصب: وعامله لِيَعْلَمُوا. سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ، رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ (22) : ثَلاثَةٌ: خبر مبتدأ أي هم ثلاثة. ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ: جملة اسمية صفة ثَلاثَةٌ. وكذلك التقدير في قوله: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وقوله سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وإنما جاء بالواو في قوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم يجئ به على الصفة كالعدد قبله لأن السبعة: أصل المبالغة في العدد، كما كانت السبعين كذلك في قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة 9/ 80] ولو جاء بالواو في ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ لكان جائزا ورَجْماً بِالْغَيْبِ: مفعول لأجله. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (24) : في موضع نصب (بفاعل) بتقدير حذف حرف الجر، أي: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بأن يشاء الله، وأن وصلتها في تأويل المصدر، وتقديره: لمشيئة الله، إلا أنه حذف حرف الجر من أَنْ فاتصل الفعل به. ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ (25) : بالتنوين تكون سِنِينَ منصوبا على البدل من ثَلاثَ أو عطف بيان على ثَلاثَ أو تكون بدلا مجرورا من مِائَةٍ لأن المائة في معنى سِنِينَ. ومن لم ينون: أضاف مِائَةٍ إلى سِنِينَ تنبيها على الأصل الذي كان يجب استعماله. وتِسْعاً: مفعول به، مثل وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف 12/ 65] وليس بظرف، أي وازدادوا لبث تسع سنين، فحذف المضاف. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ (26) : أي ما أسمعه وأبصره، وتقديره: أسمع به، إلا أنه حذف اكتفاء بالأول عنه. وموضع أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ الرفع لإرادة التعجب. البلاغة: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا استئناف مبني على سؤال من قبل المخاطب، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة. يَهْدِ ويُضْلِلْ أَيْقاظاً ورُقُودٌ ذاتَ الْيَمِينِ وذاتَ الشِّمالِ بين كل طباق. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ.. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ بينهما طباق معنوي لأن معنى الأول: أنمناهم والثاني أيقظناهم. إِذْ قامُوا فَقالُوا بينهما جناس ناقص.

المفردات اللغوية:

أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغة تعجب. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ استعارة تبعية، شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان، كما تضرب الخيمة على السكان. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة تبعية أيضا لأن الربط هو الشد، والمراد شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية. المفردات اللغوية: أَمْ حَسِبْتَ ظننت، وأَمْ: للانتقال من كلام إلى آخر، بمعنى: بل وهمزة الاستفهام، أي بل أحسبت، والخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به كل مخاطب الْكَهْفِ الغار أو النقب المتسع في الجبل وَالرَّقِيمِ لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقيل: اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً كانوا في قصتهم من جملة آياتنا محل تعجب، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات، أو أعجبها. أَوَى اتخذه مأوى الْفِتْيَةُ جمع فتى، وهو الشاب الكامل، وهم فتية من الأشراف أرادهم دقيانوس على الشرك، فأبوا وهربوا إلى الكهف، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار مِنْ لَدُنْكَ من قبلك رَحْمَةً توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو وَهَيِّئْ يسّر، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء رَشَداً هداية إلى الطريق الموصل للمطلوب، والمعنى: هيّئ لنا من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار طريقا نصير به راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون، وأصله: ضربنا على آذانهم حجابا يمنع السماع سِنِينَ عَدَداً معدودة. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ علم مشاهدة أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الفريقين المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم وهما الحزب القائل: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والحزب القائل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. أَحْصى فعل ماض، أو أفعل بمعنى أضبط لِما لَبِثُوا للبثهم أَمَداً غاية ومدة لها حد نَحْنُ نَقُصُّ نخبرك بِالْحَقِّ بالصدق الْفِتْيَةُ شبان جمع فتى وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناهم على قول الحق، والصبر على هجر الوطن والأهل والمال إِذْ قامُوا بين يدي ملكهم: دقيانوس الجبار، وقد أمرهم بالسجود للأصنام مِنْ دُونِهِ من غيره شَطَطاً أي قولا ذا شطط، أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الفرض لقول الشطط: هو الخارج عن المعقول المفرط في الظلم هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا إخبار في معنى الإنكارهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة أو ببرهان ظاهر،

فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن مالا دليل عليه من الديانات مردود، وإن التقليد فيه غير جائز فَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خاطب بعض الفتية بعضهم الآخر بذلك وَما يَعْبُدُونَ عطف على الضمير المنصوب في الفعل المتقدم، أي ولأجل أنكم اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم، ويوسع عليكم من رحمته في الدارين وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما ترتفقون به أي تنتفعون، من غداء وعشاء. وقد جزموا بذلك لقوة ثقتهم بفضل الله تعالى. تَتَزاوَرُ بتخفيف الزاي والتشديد أي تميل عنه، ولا يقع شعاعها عليهم، فيؤذيهم لأن الكهف كان جنوبيا، أو لأن الله تعالى زورها عنه ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين تَقْرِضُهُمْ تتركهم وتتجاوز عنهم، فلا تصيبهم البتة فَجْوَةٍ متسع من الكهف أي في وسطه، ينالهم برد الريح ونسيمها ذلِكَ المذكور وهو شأنهم أو تحول الشمس عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي من يهد الله بالتوفيق، فهو المهتدي الذي أصاب الفلاح، والمراد به إما الثناء عليهم، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها وَمَنْ يُضْلِلْ ومن يخذله، فلن تجد له من يليه ويرشده. وبعبارة أخرى: من اهتدى بآيات الله واختار الإيمان بالدليل، فقد هداه الله ووفقه لاختياره، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضل وانحرف، ولن تجد له من يرشده ويهديه. وَتَحْسَبُهُمْ لو رأيتهم أَيْقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة رُقُودٌ نيام، جمع راقد وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ لئلا تأكل الأرض لحومهم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ يديه واسم كلبهم: قطمير بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف، وقيل: بباب الكهف، وكان يتقلب في النوم واليقظة مثلهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم مِنْهُمْ رُعْباً منعهم الله بالرعب من دخول أحد عليهم. والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر. عن معاوية رضي الله عنه: أنه غزا الروم، فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء، فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك ذلك، وقد منع الله تعالى من هو خير منك، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فلم يسمع، وبعث ناسا، فلما دخلوا، جاءت ريح، فأحرقتهم. وَكَذلِكَ كما فعلنا بهم ما ذكرنا بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ عن حالهم ومدة لبثهم قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم دخلوا عند طلوع الشمس، وبعثوا عند غروبها، فظنوا أنه غروب يوم الدخول، فقولهم مبني على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة لبثه، لذا أحالوا العلم إلى الله تعالى، فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ويجوز أن يكون ذلك قول

بعضهم، وهذا إنكار الآخرين عليهم. ولما علموا أن الأمر ملتبس مجهول عليهم اتجهوا إلى ما يهمهم وقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ بفضتكم، الورق: الفضة، مضروبة كانت أو غيرها إِلَى الْمَدِينَةِ هي طرسوس أو أفسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فلينظر أيّ أطعمة المدينة أحل وأطيب، وأكثر وأرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إن يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير لأهل المدينة يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يصيروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن عدتم في ملتهم. وَكَذلِكَ كما بعثناهم أَعْثَرْنا أطلعنا عَلَيْهِمْ قومهم والمؤمنين لِيَعْلَمُوا أي قومهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ ثابت لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت، ثم يبعث، والقادر على إنامتهم المدة الطويلة، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء، قادر على إحياء الموتى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها لا شك فيها إِذْ معمول لأعثرنا أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون يَتَنازَعُونَ أي المؤمنين والكفار، والتنازع: التخاصم أَمْرَهُمْ أمر الفتية، في البناء حولهم فَقالُوا أي الكفار ابْنُوا عَلَيْهِمْ أي حولهم بُنْياناً يسترهم. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة إما من الله رد على المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من المتنازعين للرد إلى الله، بعد ما تذكروا أمرهم. قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ هم رؤساء البلد أهل الرأي وهم المؤمنون حين أماتهم الله ثانيا بالموت لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ حولهم مَسْجِداً معبدا يصلى فيه، وكانوا نصارى على المشهور وفعل ذلك على باب الكهف. سَيَقُولُونَ أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي يقول بعضهم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم ثلاثة وَيَقُولُونَ يقول بعضهم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ والقولان لنصارى نجران رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا ورميا بالخبر الخفي الذي لا اطلاع لهم عليه، والرحم: القول بالظن، والغيب: ما غاب عن الإنسان، والمراد هنا: القول بالظن والتخمين ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكرهم سبعة. فَلا تُمارِ تجادل إِلَّا مِراءً المراء: المحاجة فيما فيه مرية وشك وتردد وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً لا تطلب الفتيا من أحد من أهل الكتاب: اليهود، أو لا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد، فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنه لا علم لهم بها، بل ولا سؤال متعنت، تريد افتضاح المسؤول وتزييف ما عنده، فإنه مخلّ بمكارم الأخلاق.

سبب النزول:

وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً لا تقل لأجل شيء: سأفعله غدا أو فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى بأن تقول: إن شاء الله. وهذا نهي تأديب من الله تعالى لنبيه، حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه، فقال: ائتوني غدا أخبركم، ولم يقل: إن شاء الله، فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما، حتى شق عليه، وكذبته قريش، فنزلت الآية. وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي مشيئته، معلقا الأمر بها إِذا نَسِيتَ التعليق بها، ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول، ما دام في المجلس، كما قال الحسن وغيره، وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم يحنث لِأَقْرَبَ مِنْ هذا من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوتي رَشَداً هداية، وقد تم المراد، وهداه الله لأعظم من ذلك، كقصص الأنبياء الغابرين، والإخبار عن المغيبات في المستقبل إلى قيام الساعة. ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هي عند أهل الكتاب شمسية، وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين، فقال: وَازْدَادُوا تِسْعاً أي تسع سنين، فالثلاث مائة الشمسية: ثلاث مائة وتسع قمرية أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ممن اختلفوا فيه لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علمه أَبْصِرْ بِهِ بالله، وهي صيغة تعجب وَأَسْمِعْ كذلك، بمعنى: ما أبصره وما أسمعه، وهما على جهة المجاز، والمراد: أنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء ما لَهُمْ لأهل السموات والأرض وَلِيٍّ ناصر وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ولا يشرك في قضائه أحدا منهم، ولا يجعل له فيه مدخلا لأنه غني عن الشريك. سبب النزول: سبق ذكر سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء 17/ 85] . وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مفصلا موضحا، فقال: كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم أحاديث رستم وإسفنديار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.

نزول الآية (24) ولا تقولن لشيء..:

ثم إن قريشا بعثوه، وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو متقوّل، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاءوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألوه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن- لم يقل: إن شاء الله- فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، فشق عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطوّاف «1» . نزول الآية (24) : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ.. أخرج ابن جرير عن الضحاك، وابن مردويه عن ابن عباس قال: حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على يمين، فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ.. الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أنه جعل الزينة على ظهر الأرض، وفي ذلك من العجائب والإبداع ما يفوق القصص وغرائبها، أبان أن قصة أهل الكهف ليست

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 83، تفسير الألوسي: 15/ 216 [.....]

التفسير والبيان:

بالعجب وحدها من بين آياتنا، وأنها أقل عجبا من تزيين الأرض بالنبات، والحيوان والبشر، والشجر والأنهار وغير ذلك. التفسير والبيان: إجمال القصة: هذا هو الخبر اليقين عن قصة أصحاب الكهف الذين بقوا أحياء ثلاث مائة وتسع سنوات في حال سبات (نوم) وهي من العجائب التي أشارت إليها الكتب السالفة. أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ... تعجب القوم من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل الامتحان، فقال تعالى: أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط، فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها عجب، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة أعجب من حال الدنيا، فإن زينة الأرض وعجائبها أعظم وأبدع وأعجب من هذه القصة، فإن من قدر على تزيين الأرض ثم جعلها ترابا، وعلى خلق السموات والأرض، قادر على كل شيء، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس دون طعام وشراب زمانا معلوما. وبعبارة أخرى موجزة: لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم وهو اسم كلبهم أو واديهم أو كتاب بنيانهم كانوا آية عجبا من آياتنا، لا تظن ذلك فآياتنا كلها عجيبة وغريبة. والرقيم في الظاهر من الآية كما رجح ابن جرير وابن كثير: الكتاب. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.. اذكر أيها الرسول حين لجأ أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم، لئلا يفتنوهم عنه، إلى غار في جبل ليختفوا عن

تفصيل القصة:

قومهم عبدة الأصنام، فقالوا حين دخلوا سائلين الله تعالى الرحمة واللطف بهم: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي اجعل عاقبتنا رشدا، بأن توفر المصلحة لنا، وتجعلنا راشدين غير ضالين، مهتدين غير حائرين، أو اجعل أمرنا رشدا كله. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي ألقينا النوم الثقيل عليهم حين دخلوا إلى الكهف، فلم يعودوا يسمعون أي صوت، وناموا سنين كثيرة معدودة. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي ثم بعثناهم من رقدتهم تلك، وأيقظناهم من نومتهم ليظهر للناس معلومه سبحانه، أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما، فيظهر لهم عجزهم، ويعرفوا ما صنع الله بهم، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره. تفصيل القصة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق، وهذا يعني أن الأخبار المتداولة عنهم بين العرب لم تكن صحيحة. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ.. أي إنهم شباب صدقوا بتوحيد ربهم، وشهدوا أن لا إله إلا هو، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله وإيثار العمل الصالح. وفي هذا إيماء إلى أن الشباب أقبل للحق وأهدى للسبل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا- كما ذكر ابن كثير- كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم شبابا، وأما المشايخ من قريش فبقوا على دينهم، ولم

زمنهم أو عصرهم:

يؤمن منهم إلا القليل. أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب، وقرأ: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء 21/ 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف 18/ 60] إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ. واستدل بهذه الآية: وَزِدْناهُمْ هُدىً على زيادة الإيمان وتفاضله بين الناس، وأنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد 47/ 17] وقال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة 9/ 124] وقال عز وجل: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح 48/ 4] . زمنهم أو عصرهم: ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، ورجح ابن كثير أنهم كانوا قبل النصرانية، بدليل أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، كما تقدم في سبب النزول، وبدليل ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة، فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد، فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا، ولا يدري هذا علام خرج هذا، فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا، فإن اجتمعوا على شيء، وإلا كتم بعضهم بعضا، فاجتمعوا على كلمة واحدة، فقالوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: مِرفَقاً ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف، فضرب الله تعالى على آذانهم، فناموا وفقدوا في أهلهم، فجعلوا يطلبونهم، فلم يظفروا بهم، فرفع أمرهم إلى الملك، فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية

إصرارهم على توحيد الله:

ولا شيء يعرف، فدعا بلوح من رصاص، فكتب فيه أسماءهم، ثم طرح في خزانته، ثم كان من شأن قصتهم ما قصه الله سبحانه وتعالى «1» . إصرارهم على توحيد الله: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا.. أي صبرناهم على مخالفة قومهم، وثبتناهم على عقيدتهم، وألهمناهم قوة العزيمة، حتى تركوا ما كان عليه قومهم من العيش الرغيد والسعادة، وقالوا حين مثلوا أمام ملكهم الجبار الذي يدعى (دقيانوس) والذي كان يحث الناس على عبادة الأصنام والطواغيت، ويدعوهم إليها ويأمرهم بها: ربنا هو رب السموات والأرض، لن ندعو إلها من دونه مطلقا إذ لا رب سواه، ولا معبود غيره، وأن الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض. وقد أعلنوا في الجملة الأولى: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توحيد الألوهية، وذلك يقرّ به عبدة الأصنام، وفي الجملة الثانية: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً توحيد الربوبية، وذلك ما ينفيه عبدة الأصنام، بدليل ما حكى القرآن: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] وقوله: ما نَعْبُدُهُمْ- أي الأصنام- إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] . وقوله: لَنْ لنفي التأبيد، أي لا يقع منا هذا أبدا لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا، لهذا عللوا اعتقادهم بقولهم: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي إذا دعونا غير الله، لقد قلنا باطلا وكذبا وبهتانا. والشطط في اللغة: مجاوزة الحد، والبعد عن الحق. والمعنى: لقد قلنا إذن قولا شططا. وهذا يدل على أنهم دعوا لعبادة الأصنام، ولامهم الملك على ترك عبادتها.

_ (1) تفسير الألوسي: 15/ 217

تنديدهم بعبادة قومهم الأصنام:

تنديدهم بعبادة قومهم الأصنام: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. أي قال أصحاب الكهف عن قومهم الذين كانوا في زمان (دقيانوس) يعبدون الأصنام: هلا يأتون بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة؟! وهلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟! وهذا يدل على أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة صحيحة عقلا ومنطقا. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه، فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك. وكان من لطف الله بهم أن ملكهم بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة. قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما جاء في حديث البخاري وأبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع. العزلة بينهم وبين قومهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... واذكروا يا أهل الكهف ذلك الخطاب الذي صدر من بعضكم لبعض حينما صممتم على الفرار بدينكم فاعتزلتم

حالهم في الكهف وانحسار الشمس عنهم:

قومكم وفارقتموهم عزلة مادية بالمفارقة بالأبدان والمقر والمقام، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينكم واعتزالكم معبوديهم غير عبادة الله وحده. وقوله: إِلَّا اللَّهَ إما استثناء متصل أو منقطع كما ذكرنا، ويجوز أن يكون كلاما معترضا، إخبارا من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله. وفارقوا قومكم جسديا، والجؤوا إلى الكهف (الغار الواسع في الجبل) بعد فراقهم روحيا، وأخلصوا العبادة لله في مكان خال بعيد عن أهل الشرك، فإن فعلتم ذلك يبسط الله عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، ويسهل لكم من أمركم مرفقا، أي أمرا ترتفقون به وتنتفعون. حالهم في الكهف وانحسار الشمس عنهم: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ ... أي وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بأن تقلص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، وتراها عند الغروب تبتعد عنهم وتتركهم لا تقربهم وتعدل عنهم جهة الشمال، والحال أنهم في متسع من الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا، بل الإخبار بكون الكهف في مكان لا تؤثر فيه الشمس أثناء طلوعها وغروبها، أي أنهم طوال نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، لولا أن الله يحجبها عنهم. مكان الكهف: ذكر المؤرخون أقوالا في تعيين مكان الكهف، فقيل: هو واد قريب من أيلة في العقبة جنوب فلسطين، وقيل: عند نينوى في الموصل شمال العراق

قدرة الله تعالى وعنايته ولطفه:

وقيل: في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا، وكلها أقوال يعوزها الدليل. قدرة الله تعالى وعنايته ولطفه: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إن بقاء هؤلاء الفتية في الكهف سنين عديدة، وما صنعه الله بهم من تنحية الشمس عنهم عند الطلوع والغروب، بانعكاس أشعتها وتقليص وهجها عنهم، آية من آيات الله العجيبة الكثيرة الدالة على كمال قدرته وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن عبادة الأصنام والأوثان ضلال وشرك وزيغ، وأن صون أهل الكهف بلطف من الله وعناية منه، لذا قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين. والمراد من ذلك إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن السعيد من وفقه الله تعالى للتأمل بها والاستبصار بها والاهتداء بها «1» . والخلاصة: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي ومن يضلل الله بأن لم يوفقه للاهتداء بآياته، لسوء اختياره واستعداده، وتوجيه رأيه إلى جادة الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، ولا هادي له، كأمثال الكفرة منكري البعث لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.

_ (1) تفسير الألوسي: 15/ 223- 224

وتفويض الهداية والإضلال إلى الله تعالى يخفف من معاناة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قومه، ويسرّي عنه حزنه وألمه على إعراضهم عن قبول دعوته. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أي وتظنهم إذا رأيتهم أيقاظا لانفتاح أعينهم وهم نيام، لئلا يسرع إليها البلى، كأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم. وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ونقلبهم مرة في ناحية اليمين ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء. واختلفوا في مدة التقليب، فقيل: يقلّبون في العام مرتين، وقيل: مرة في العام، ولا دليل لكل من القولين، ولا يرشد إليها العقل، ولم يشر إليها القرآن، ولم يرد فيه خبر صحيح، فيبقى النص على إطلاقه. قال ابن عباس: لو لم يقلّبوا لأكلتهم الأرض. وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو بباب الكهف يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، كأنه يحرسهم، وقد أصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي لو نظرت عليهم لأدبرت عنهم فرارا وهربا، ولملئت منهم رعبا وفزعا لأن الله تعالى ألقى عليهم المهابة والوقار، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم، إلى أن انتهى أجل لبثهم راقدين، وتحققت فيهم الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة، وأقام الله فيهم الدليل المادي الحسي على قدرته على البعث والإعادة، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.

بعثتهم من نومهم صحاح الأبدان بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين:

بعثتهم من نومهم صحاح الأبدان بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين: قال تعالى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ... أي كما زدناهم هدى وأنمناهم، وحفظنا أجسادهم من البلى والفناء، وأبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان، ونقلبهم، فكذلك بعثناهم، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا في الناس، وليتبصروا في أمرهم وليتساءلوا بينهم، واللام هنا لام العاقبة أو الصيرورة: فقال قائل منهم: كم لبثتم، أي كم رقدتم في نومكم؟ لإحساسهم بطول الرقاد. قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أي أجاب بعضهم قائلا: لبثنا في تقديرنا يوما كاملا أو جزءا من اليوم لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في أخر النهار، لذا استدركوا فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أجاب بعض آخر: ربكم أعلم بأمركم، وبمقدار لبثكم، وهذا استشعار منهم وتردد بكثرة نومهم، لما رأوا حالهم متغيرة، أي فالله أعلم منكم، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وهذا أدب الإيمان اليقظ في الرد على جواب البعض الأول. الوكالة في شراء الطعام: ثم تذاكروا فيما بينهم وقرروا البحث في المهم من أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي فأرسلوا أحدكم بدراهمكم أو فضتكم هذه التي استصحبوها معهم من منازلهم، لتغطية حوائجهم، إلى المدينة وهي «طرسوس» أي مدينتكم التي خرجتم منها، كما أكد الرازي «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 103

اطلاع الناس عليهم:

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا، فليأتكم بمقدار مناسب منه. وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب وفي خروجه ودخوله المدينة، وفي شرائه، ولا يخبرن أو لا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي إن أصحاب دقيانوس الملك إن اطلعوا على مكانكم، يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يجبروكم ويكرهوكم على العودة إلى دينهم- دين الوثنية وعبادة الأصنام. وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة. اطلاع الناس عليهم: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ.. أي وكما أنمناهم ثم بعثناهم، أطلعنا الناس عليهم وعلى أحوالهم، وهم أولئك الذين كان لديهم شك في قدرة الله على إحياء الموتى، وفي البعث، وفي أمر القيامة، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك، وليدركوا ويعلموا أن وعد الله بالبعث حق وصدق وثابت، وأن حدوث الساعة أي القيامة أمر لا شك فيه، فمن شاهد حال أهل الكهف علم صحة الخبر وصدق وعد الله بالبعث لأن حالهم في نومتهم، وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. وسمى إعلام الناس بهم إعثارا لأن من غفل عن شيء ثم عثر به، نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سببا في العلم، والمعنى: أعثرنا عليهم حين يتنازعون بينهم.

آراء القوم في شأنهم بعد اطلاعهم عليهم:

إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان حين كان بعضهم يتنازع مع بعض في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، ومن مؤمن بها وكافر، فجعل اطلاعهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث، وزال أمر الخلاف في أمر القيامة. آراء القوم في شأنهم بعد اطلاعهم عليهم: فَقالُوا: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً.. أي انقسم القوم في شأن أهل الكهف حين توفاهم الله تعالى فريقين: فريق- قيل هم الكفار منهم- قالوا: نسدّ عليهم باب كهفهم، ونتركهم على حالهم فإنهم كانوا على ديننا، فنتخذ عليهم بنيانا، أي على باب كهفهم، لئلا يدخل إليهم الناس، ضنا بتربتهم، ومحافظة عليها. وقوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة، أي أعلم بشأنهم للرد على المتنازعين في عقيدتهم وبيان أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم. وفريق آخر تغلبوا على الفريق الأول بالرأي وهم المسلمون وملكهم قالوا- وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم-: لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. عددهم: سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.. أي إن الناس بعدئذ اختلفوا في عددهم، وهم من خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب والمؤمنين، إنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم وأن المصيب منهم من يقول: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. بعضهم قال: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وآخرون قالوا: هم خَمْسَةٌ

سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وهم في هذا يقولون: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قولا بلا علم، وإنما هو مجرد ظن وتخمين، لا دليل عليه، ولا يقين معه، بدليل اتباع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ. وقال جماعة آخرون: إنهم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، ولما حكى تعالى هذا القول، وسكت عليه أو قرره، دل على صحته، وأنه هو الواقع في الأمر نفسه. قل يا محمد: ربي أعلم بعددهم، ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وأكثر أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم على ظن وتخمين. وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى إذ لا داعي إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم. قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة. والمهم في الأمر ليس معرفة العدد، وإنما المهم الاعتبار بالقصة، والانتفاع بما دلت عليه من إثبات قدرة الله تعالى على البعث والإعادة. وتساءل صاحب الكشاف: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم دخلت عليها دون الجملتين الأوليين؟ ثم أجاب: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، وفائدتها تأكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، أي أن الذين قالوا: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قالوه عن ثبات وعلم، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم. فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى

إرشاد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته بتعليق الخبر بمشيئة الله:

الله إليك فحسب، ولا تزيد، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف في الرد عليهم، كما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] وقال: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت 29/ 46] . وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد لأن الله قد أرشدك، بأن أوحى إليك قصتهم. وهذا يدل على عدم جواز الرجوع إلى أهل الكتاب في شيء من العلم. إرشاد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأمته بتعليق الخبر بمشيئة الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً.. أي لا تقولن أيها الرسول لأجل شيء عزمت على فعله في المستقبل: إني سأفعل ذلك غدا إلا بأن تقرنه بمشيئة الله عز وجل، فتقول: إن شاء الله، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفهن الليلة على سبعين امرأة- وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له- وفي رواية قال له الملك-: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته» . وفي رواية: «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» . وقد عرفنا سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: «غدا أجيبكم» فتأخر الوحي خمسة عشر يوما. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي واذكر مشيئة ربك، وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء، ثم تنبهت، فتداركها بالذكر، سواء طال الفصل أو قصر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد

مدة لبثهم في الكهف:

سنة ما لم تحنث. والاستثناء بالمشيئة عند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. وأوضح ابن جرير معنى قول ابن عباس: وهو أنه إذا نسي أن يقول في كلامه أو في حلفه: إن شاء الله، وتذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك، ليكون آتيا بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث. لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة. وَقُلْ: عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي وقل يا محمد: عسى أن يوفقني ربي لشيء آخر بدل المنسي أو أقرب خيرا ومنفعة، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك. مدة لبثهم في الكهف: أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مقدار لبث أهل الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، فقال: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً أي إنهم أقاموا في الكهف مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية، وهي ثلاث مائة سنة شمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاث مائة: وَازْدَادُوا تِسْعاً. وأكد ذلك الإخبار بقوله: قُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ... أي إذا سئلت عن مدة لبثهم، وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى، فقل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، فلا تتعجل بالأخبار ما لم يكن عندك دليل عليها، والحق ما أخبرك به، لا ما يقولونه إذ له غيب السموات والأرض، وهو العالم بكل شيء، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وبما أن الله أخبر عن مدة لبثهم، فهو الحق الذي لا شك فيه. وفائدة تأخير إيراد هذه الجملة الدلالة على أنهم تنازعوا في مدة اللبث، كما تنازعوا في عددهم، وجاء هذا التذييل هنا كالتذييل المتقدم في حكاية عددهم: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ. والخلاصة: إن الخبر اليقين في بيان عدد أهل الكهف ومدة لبثهم هو من عند الله تعالى لأنه أعلم بالأشياء وبالحقائق، وأما أقوال الناس فهي ظنون لا دليل عليها، وتستند إلى الشائعات، ولله وحده علم ما غاب في شؤون السموات والأرض، وخفي من أحوال أهلها. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ هذا من صيغ التعجب والمبالغة، أي إن الله تعالى لبصير بهم، سميع لهم، وذلك في معنى المبالغة في المدح والتعجب، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، أي ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. قال قتادة في هذه الصيغة: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير. وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً أي أن الله تعالى له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا يشاركه في قضائه أحد من الناس، وليس له شريك ولا مشير. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من بيان قصة أصحاب الكهف ما يأتي: 1- ليس حال هذه القصة هي الآية العجاب من آيات الله فقط، وإنما خلق السموات والأرض وما فيهما أشد عجبا وأعظم روعة، وأدل على قدرة الله عز وجل، فلا يعظم ذلك أيها النبي بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة.

2- كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام. وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فارّا بدينه، وكذلك أصحابه، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس باتفاق العلماء مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين. وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة، روى البغوي وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم» . 3- لما فر أصحاب الكهف ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء، ولجؤوا إلى الله تعالى قائلين: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي آتنا مغفرة ورزقا، وهيّئ لنا توفيقا للرشاد والسداد والصواب. وقد اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف في مكانهم، أما الزمان الذي كانوا فيه: فقيل: إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح ثم بعثوا بعد عيسى وقبل محمد، وقيل: إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح. وأما مكان هذا الكهف فلا يعرف على وجه اليقين، ويقال: إنه في بلاد الروم أي في جنوب تركيا اليوم في طرسوس، وهو الظاهر. 4- كان من تدبير الله تعالى لأهل الكهف للمكث فيه راقدين (309) سنوات

إلقاء النوم عليهم ومنعهم من السماع لأن النائم إذا سمع انتبه، ثم بعثتهم من بعد نومهم، ثم اطلاع الناس على شأنهم. وكان إيقاظهم من أجل اختبار الناس لمعرفة مقدار مدة لبثهم، وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى معناه: لنعلم ذلك موجودا، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الفريقين أحصى الأمد. والفريقان أو الحزبان: الفتية الذين ظنوا لبثهم قليلا، وأهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. 5- إن صفات هؤلاء الفتية أو الجماعة من الشبان: أنهم آمنوا بالله، وألهم الله قلوبهم الصبر والثبات، وزاد الله في إيمانهم بالتيسير للعمل الصالح من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا. وكان من أثر شدة عزيمتهم وقوة صبرهم التي أعطاها الله لهم أنهم أعلنوا أمام الكفار: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. وكانوا يتذاكرون شأن إيمانهم، فقال بعضهم: هؤلاء أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة، فهلا يأتون بحجة على عبادتهم الصنم؟! 6- لقد قال الله لهم أو قالوا لبعضهم: إذ اعتزلتم قومكم، فأووا إلى الكهف تغمركم رحمة الله، ويهيء الله لكم ما ترتفقون وتنتفعون به من شؤون الحياة. 7- كان من رحمة الله بهم ولطفه بهم بعد الرقاد أن الشمس تتنحى عنهم وتميل جهة اليمين وجهة الشمال، أي عن يمين الكهف وعن شماله، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار، وكان الرائي يحسبهم أيقاظا لأن أعينهم كانت مفتوحة وهم نائمون، وأن كلبهم باسط ذراعيه في باب الكهف لحراستهم، وهو

نائم مثلهم. ومن لطفه تعالى بهم أيضا تقليبهم ناحية اليمين وناحية الشمال لئلا تأكل الأرض لحومهم، وكان التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فينسب إلى الله تعالى. 8- يجوز اتخاذ الكلاب للحاجة والصيد والحراسة، ورد في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان» . وكلب الماشية المباح اتخاذه عند الإمام مالك: هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السرّاق. وكلب الزرع: هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار، لا من السرّاق. وقد أجاز غير مالك اتخاذ الكلاب لسرّاق الماشية والزرع. 9- ينتفع الإنسان بصحبة الأخيار ومخالطة الصلحاء والأولياء، بدليل جعل كلب أهل الكهف مثلهم، إنه كلب أحب قوما، فذكره الله معهم. روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدّة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أعددت لها؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «فأنت مع من أحببت» . وأكثر المفسرين: على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه، أو غنمه، واسم «قطمير» كلب أنمر، والصحيح أنه زبيري. 10- ألقى الله عليهم الهيبة أو المهابة والوقار، فلو شاهدهم إنسان أشرف على الهرب منهم، وامتلأ قلبه خوفا ورعبا منهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم

آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمّ. 11- بعد الرقاد والتقليب أيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم، وليصيروا إلى التساؤل فيما بينهم عن مدة نومهم، فقال بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. 12- دل قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً.. الآية على مشروعية الوكالة، وعلى حسن السياسة والتلطف في دخول المدينة وخروجها وشراء الطعام من أهلها، حتى لا يعلم أهل المدينة بهم، فيقتلوهم بالحجارة، وهو أخبث القتل. والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام، وقد وكل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض الصحابة في تزويجه من بعض النسوة، ووكل عروة البارقي في شراء أضحية، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهما. والوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه، وقيام المصلحة في ذلك إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفّه، فيستنيب من يريحه. ودل القرآن في غير هذه الآية على جواز الوكالة، مثل قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة 9/ 60] وقوله: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا [يوسف 12/ 93] . والوكالة جائزة عند الجمهور لمن له عدر ومن لا عذر له، وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز لمن لا عذر له. ودليل الجمهور حديث البخاري عن أبي هريرة المتضمن توكيل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إعطاء بعض أنواع الإبل وفاء لدينه، وقال: «ان خيركم أحسنكم قضاء» .

13- تضمنت هذه الآية: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ.. أيضا جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم، كما تضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة 2/ 220] . 14- أطلع الله تعالى الناس على أهل الكهف للعبرة والعظة والاسترشاد وإقامة الحجة على قدرة الله على الحشر وبعث الأجساد من القبور، والحساب. 15- إن اتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها، غير جائز في شرعنا، لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج» . ويجوز الدفن في التابوت، لا سيما إذا كانت الأرض رخوة، وقد دفن دانيال ويوسف عليهما السلام في تابوت، وكان تابوت دانيال من حجر، وتابوت يوسف من زجاج. لكن يكره في شرعنا. 16- قوله تعالى: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تنبيه على أن هذا العدد هو الحق لسكوت النص على التعقيب عليه، خلافا لما قال تعالى في الجملتين المتقدمتين: رَجْماً بِالْغَيْبِ. وقوله سبحانه قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أمر دال على أن يردّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علم عدّتهم إلى الله عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. وقوله فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم، فلهذا قال: إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي ذاهبا، ودليل على أنه لم يبح له في هذه الآية المراء والجدال إلا بالتي هي أحسن، كما جاء في آية أخرى.

وفي قوله سبحانه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم. 17- السّنة والأدب الشرعيان يقتضيان تعليق الأمور المستقبلية بمشيئة الله تعالى للآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، بأن يقول: إن شاء الله. ويؤمر الإنسان بالذكر بعد النسيان، أي بذكر مشيئة الله عند التذكر ولو بعد حين، سنة أو أقل، أو أكثر. 18- أخبر تعالى في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... عن مدة لبث أهل الكهف، وهي ثلاث مائة وتسع سنوات، كانوا في هذه المدة نياما، لا أمواتا. وأمر الله تعالى برد العلم بمدتهم إلى الله عز وجل، كما أمر بذلك في معرفة عددهم لأن الله تعالى أعلم بكل شيء، وأعلم بغيب السموات والأرض وما فيها من أحوال المخلوقات، ولا شريك له ولا مشير، ولا نصير ولا معين ولا وزير. والظاهر أن أهل الكهف ماتوا موتا حقيقيا، وإن كان لا مانع شرعا من بقاء أجسادهم محفوظة، لم يطرأ عليها البلى والفناء لأن أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء الصالحين لا تفنى ولا تبلى. 19- العبرة من القصة: دلت هذه القصة على أن الله قادر على البعث والقيامة لأن إثبات البعث والقيامة يدور على أصول ثلاثة: أحدها- أنه تعالى قادر على كل الممكنات، والثاني- أنه تعالى عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، والثالث- أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.

توجيهات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين تلاوة القرآن والصبر على مجالسة الفقراء وإظهار كون الحق من عند الله [سورة الكهف (18) الآيات 27 إلى 31] :

وهذه القصة تدل على أن الله تعالى عالم قادر على كل شيء، فثبت القول بإمكان البعث والقيامة. توجيهات للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين تلاوة القرآن والصبر على مجالسة الفقراء وإظهار كون الحق من عند الله [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

الإعراب:

الإعراب: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ: الْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف، ومِنْ رَبِّكُمْ حال. يَشْوِي الْوُجُوهَ صفة ثانية لماء أو خال من المهل. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ وصلته: اسم إِنَّ، وخبرها إما أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وإما إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي لا نضيع أجرهم، فأقيم المظهر مقام المضمر، وإما أن خبرها مقدر، أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يجازيهم الله بأعمالهم، بدليل إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. البلاغة: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وفَلْيُؤْمِنْ فَلْيَكْفُرْ بينهما طباق. بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ونِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً مقابلة بين النار والجنة. بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ تشبيه مرسل مفصل لذكر أداة الشبه ووجه التشبيه. المفردات اللغوية: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ من القرآن، ولا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس 10/ 15] . لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا مغير لأحكامه، فلا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. مُلْتَحَداً ملجأ تعدل إليه إذا هممت به. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ احبسها وثبّتها مع الفقراء. بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي في طرفي النهار، وخصا بالبيان لغفلة الناس واشتغالهم بدنياهم حينئذ. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يريدون بعبادتهم رضا الله وطاعته، لا شيئا من أعراض الدنيا. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، والمراد لا تهمل شأنهم وتهتم بالأغنياء، وعبر بقوله تعالى عَيْناكَ عن صاحبهما. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تقصد مجالسة الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروة. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ جعلناه غافلا وهو حينئذ عيينة بن حصن وأصحابه مثل أمية بن خلف. عَنْ ذِكْرِنا أي القرآن. وَاتَّبَعَ هَواهُ في الشرك. فُرُطاً أي تجاوزا حد الاعتدال، وتقدما على الحق، ونبذا له. وكانوا قد دعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى طرد الفقراء عن مجلسه لصناديد قريش. وفيه تنبيه إلى أن الداعي لهذا الاستدعاء غفلة القلب عن المعقولات، والانهماك في المحسوسات حتى خفي عليهم أن الشرف بحلية النفس، لا بزينة الجسد.

سبب النزول:

وَقُلِ خطاب للنبي ولأصحابه. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الحق ومنه القرآن: ما يكون من جهة الله تعالى، لا ما يقتضيه الهوى. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ تهديد لهم ووعيد، قال البيضاوي: وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله، فإنه وإن كان بمشيئته، فمشيئته ليست إلا بمشيئة الله تعالى. أَعْتَدْنا أعددنا وهيأنا. لِلظَّالِمِينَ الكافرين. سُرادِقُها هو الفسطاط، وهو لفظ فارسي معرب، شبّه به ما يحيط بهم من لهب النار. كَالْمُهْلِ كعكر الزيت، أو كالشيء المذاب من المعادن كالنحاس والرصاص. يَشْوِي الْوُجُوهَ من حره إذا قدّم أو قرّب منها للشرب. بِئْسَ الشَّرابُ المهل هو. وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي وساءت النار متكأ، وهو لمقابلة قوله تعالى الآتي وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار. ومُرْتَفَقاً: تمييز منقول عن الفاعل، أي قبح مرتفقها. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا خبر إِنَّ الَّذِينَ وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، أي لا نضيع أجرهم، أي نثيبهم بما تضمنه. ويجوز أن يكون الخبر أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وما بينهما اعتراض. وهذا على الوجه الأول استئناف لبيان الأجر، أو خبر ثان. جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة واستقرار. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الأولى للابتداء، والثانية للبيان، صفة لأساور، وهي جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار، أي فهي جمع الجمع. وتنكير لفظها لتعظيم حسنها عن الإحاطة به. سُنْدُسٍ مارقّ من الديباج، وهو فارسي معرب. وَإِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه، وهو رومي معرّب. جاء في آية من سورة الرحمن بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [54] وجمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. الْأَرائِكِ السرر، جمع أريكة وهي السرير الذي عليه الحجلة (الناموسية في عرفنا) . نِعْمَ الثَّوابُ الجنة ونعيمها. سبب النزول: نزول الآية (28) : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ: عن سلمان الفارسي قال: جاءت المؤلفة القلوب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس، ونحّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون. سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك، وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله

نزول آية ولا تطع من أغفلنا قلبه..:

تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حتى بلغ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً يتهددهم بالنار، فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى قال: «الحمد لله الذي لم يمتني، حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات» «1» . وفي رواية أخرى: أن عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يسلم، وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سلمان الفارسي، وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقّه، ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء، ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتّبعك، أو اجعل لهم مجلسا، ولنا مجلسا، فنزلت الآية. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورجل يقرأ سورة الحجر، أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم» . نزول آية وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ..: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ.. قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت.

_ (1) أسباب النزول للواحدي 171.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف التي يجهلها كثير من الناس لكونها من المغيبات، مما يدل على أن القرآن وحي من عند الله تعالى، أمر تعالى رسوله والمؤمنين ببعض الأوامر: وهي المواظبة على تلاوة القرآن، وملازمة مجالس أصحابه الفقراء الذين يتدارسون القرآن، وإظهار أن القرآن وكلّ حق هو من عند الله تعالى. ثم ذكر تعالى جزاء الكافرين وعقابهم الأليم، وثواب المتقين ونعيمهم الدائم، جزاء كلّ بما يستحق. التفسير والبيان: وَاتْلُ ما أُوحِيَ.. يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس، قائلا له: واتل الكتاب الموحى به إليك، واتبع ما جاء فيه من أمر ونهي، فإنه لا مغيّر لكلمات ربك من وعد الطائعين ووعيد للعصاة، ولا محرف ولا مزيل لها، فإن لم تعمل به، فوقعت في الوعيد، فلن تجد ملجأ ولا وليّا ناصرا من دون الله تعالى. هذا هو التوجيه الأول: تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه، والتوجيه الثاني هو مجالسة الفقراء والمستضعفين فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. أي جالس الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) والعشي (مساء) أي في كل وقت، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، يريدون وجهه (أي طاعته) ورضاه. يقال كما بينا: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن

يجلس معهم وحده، من غير وجود أصحابه الفقراء أو الضعفاء، كبلال، وعمار، وصهيب، وخبّاب، وابن مسعود، وليفردوهم في مجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يصبر ويثبّت نفسه في الجلوس مع هؤلاء، ونظير الآية قوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام 6/ 52] . وهذا شبيه بقول قوم نوح عليه السلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ، وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء 26/ 111] . وأكد تعالى الأمر السابق بقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ.. أي ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ، والمقصود النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما نزلت هذه الآية: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه» . ثم أكد تعالى هذا النهي بقوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا.. أي وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا، وشغل عن الدين وعبادة ربّه بالدنيا، وكان مسرفا مفرطا في أعماله وأفعاله غاية الإسراف والتفريط، متبعا شهواته. وهو دليل على أن سبب البعد عنهم؟؟؟؟ لهم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها. والتوجيه الثالث: إعلان مجيء الحق واضحا ظاهرا من الله تعالى، بحيث لم يبق إلا التهديد والوعيد الشديد على كفرهم فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. أي قل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو النظام الأصلح للحياة، فمن شاء آمن به، ومن شاء كفر به، فأنا في غنى عنكم، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم يحاسبكم ربكم على أعمالكم. وفي هذا تهديد ووعيد شديد. ثم ذكر الله تعالى نوع الوعيد على الكفر، والوعد على العمل الصالح، فقال

واصفا الأول: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي إنا أرصدنا وهيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم، الذي أحدق وأحاط بهم سورها من كل جانب، حتى لا يجدوا مخلصا منها. أخرج أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «لسرادق النار أربعة جدر، كثف «1» كل جدار مسافة أربعين سنة» والسّرادق: واحد السرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار، أو السور. وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إن يطلب هؤلاء الكافرون الظالمون الإغاثة والمدد والماء وهم في النار، لإطفاء عطشهم، بسبب حرّ جهنم، يغاثوا بماء غليظ كدردي (عكر) الزيت، أو كالدم والقيح، يشوي جلود الوجوه من شدة حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه، حتى تسقط جلدة وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المهل كعكر الزيت، فإذا قرّبه إلى وجهه، سقطت فروة وجهه فيه» . بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي بئس هذا الشراب شرابهم، فما أقبحه، فهو لا يزيل عطشا، ولا يسكّن حرارة، بل يزيد فيها، وساءت جهنم مرتفقا، أي وساءت النار منزلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق والانتفاع، كما قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 66] . ثم وصف الله تعالى وعده للمؤمنين الصالحين السعداء فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل.

_ (1) الكثف: جمع كثيف، وهو الثخين الغليظ.

فقه الحياة أو الأحكام:

والعطف بين الإيمان والعمل يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة. وأوصاف نعيمهم هي: 1- أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي أولئك لهم جنان إقامة دائمة، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم. 2- يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي يلبسون فيها حلية فيها أساور من ذهب، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» . وفي آية أخرى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الحج 22/ 23] . 3- وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أي ويلبسون سندسا هو رقيق الحرير، وإستبرقا هو غليظ الديباج أو الحرير، واختير الأخضر لراحة العين عند إبصاره. 4- مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي مضطجعين فيها على السرر، شأنهم شأن الملوك والعظماء، والأرائك: جمع أريكة وهي السرير. نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما، كما قال في آية أخرى: خالِدِينَ فِيها، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 76] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات الإرشادات التالية: 1- وجوب اتباع القرآن وما جاء به: لأنه لا مغيّر لما أوعد بكلماته أهل

معاصيه والمخالفين لكتابه، ووعد أهل طاعته المتبعين ما أمر به، المبتعدين عما نهى عنه. 2- الإسلام دين المساواة: فلا فرق في نظامه بين شريف ووضيع، وغني وفقير، ورئيس ومرءوس، ولا تفرقة في أموره الاجتماعية بين الطبقات، الكل سواء في المجلس والمعاملة والحقوق والواجبات. وقد قضى القرآن بآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. على الامتيازات في المجلس والخطاب والكلام بين أشراف قريش وساداتها وبين فقراء المسلمين وضعفائهم. بل إن الإسلام مع الضعيف التقي الذي يبتغي بعمله رضوان الله وطاعته، وينفر من الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويتبعون أهواءهم، ويبلغون في إسرافهم في المعاصي حد الإفراط ومجاوزة الحد. لهذا فلا داعي لتزيين مجلس النبي والمؤمنين من بعده بمجالسة الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسه، ولم يرد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله. وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس وكان هذا من التكبر والإفراط في القول. 3- الحق من الله ربّ الناس، فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إلى أحد ولو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء، وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء، وإن كان قويا غنيا، وليس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطرد المؤمنين من مجلسه لهوى السادة الزعماء من قريش. فإن شئتم أيها السادة فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد، أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.

والدليل على كون ذلك تهديدا قوله تعالى بعدئذ مباشرة: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي إنا أعددنا للكافرين الجاحدين نارا شديد اللهب، أحاط بهم سرادقها، أي سورها، أو ما يعلو الكفار من دخان أو نار. وشراب أهل النار: هو المهل، وهو ماء غليظ مثل درديّ الزيت (وهو ما يبقى في أسفل الوعاء) ، أو النحاس المذاب، أو كالقيح والدم، كما في قوله تعالى: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم 14/ 16- 17] ، وقوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد 47/ 15] . وما أسوأ وأقبح العذاب في نار جهنم، لذا قال تعالى: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي مجتمعا ومنزلا ومقرا. 4- بعد أن ذكر تعالى ما أعد للكافرين من الهوان، ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن من المؤمنين عملا، مما يدل على أن أساس النجاة: الإيمان مع العمل الصالح. أما من أحسن عملا من غير المؤمنين، فعمله محبط. وثواب المؤمنين: جنات عدن أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها، باللؤلؤ وأساور الذهب، ويلبسون الثياب الخضر من الرقيق الرقيق والغليظ الكثيف، ويتكئون على الأرائك وهي السرر في الحجال «1» . فما أجمل وأحسن ذلك الثواب، لذا قال تعالى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا للمؤمنين الصالحين، وحسنت مقرا ومقاما ومجلسا ومجتمعا.

_ (1) الحجال: جمع الحجلة كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس.

صاحب الجنتين مثل الغني المغتر بماله والفقير المعتز بعقيدته [سورة الكهف (18) الآيات 32 إلى 44] :

صاحب الجنتين مثل الغني المغتر بماله والفقير المعتز بعقيدته [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)

الإعراب:

الإعراب: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي لكِنَّا: أصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة، وأدغمت النونان ببعضهما أو نقلت حركة الهمزة إلى النون. ومن قرأ لكن بحذف الألف فعلى الأصل في حالة الوصل. ولكن هنا هي الخفيفة التي لا يراد بها الاستدراك. وأنا: مبتدأ، وهو: مبتدأ ثان، والله: خبر المبتدأ الثاني، وربي: صفته، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: خبر المبتدأ الأول. والعائد إليه: الياء المجرور بالإضافة في رَبِّي. ما شاءَ اللَّهُ ما: إما اسم موصول، وشاءَ اللَّهُ: صلته، وهو في موضع مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، أي الذي شاءه الله كائن، فحذف الهاء التي هي العائد تخفيفا، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله، وحذف العائد تخفيفا وإما أن تكون شرطية في موضع نصب بشاء، وجوابها محذوف، أي ما شاء الله كان. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ إِنْ: شرطية، وجوابها: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ وأَنَا: ضمير فصل، لا موضع له من الإعراب لأنه وقع بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة، فالمعرفة ياء تَرَنِ والنكرة التي تقارب المعرفة: أَقَلَّ مِنْكَ قرب من المعرفة لتعلق مِنْكَ به، وهو مفعول ثان، وياء تَرَنِ: مفعول أول. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً: إما بمعنى غائر، أو فيه مضاف محذوف، أي ذا غور، مثل وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي مثل رجلين. وغَوْراً: خبر أصبح المنصوب. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ثمره: اسم جنس كخشبة وخشب، وشجرة وشجر. وقرئ بثمره بضمتين، وهو إما جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فيكون جمع الجمع، كإزار وأزر، وإما أن يكون كخشبة وخشب. وقرئ بضمة واحدة ثمره مخففا من ثمر، مثل: خشب وخشب. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ قرئ تكن بالتاء لأن الفئة مؤنثة، وقرئ بالياء لوجود الفصل. هُنالِكَ الْوَلايَةُ هُنالِكَ: يجوز أن يكون ظرف زمان وظرف مكان، والأصل فيه أن يكون للمكان، واللام للبعد، ويتعلق بقوله: مُنْتَصِراً وتكون الْوَلايَةُ لِلَّهِ مبتدأ وخبر. والْحَقِّ: بالرفع صفة للولاية، وجعله خبرا أولى من جعله صفة، لما فيه من الفصل بين الصفة والموصوف. وعلى قراءة الجر: صفة لله، فلا فصل فيه. ويجوز أن يتعلق بخبر المبتدأ الذي هو لِلَّهِ. ويجوز جعل هُنالِكَ خبر المبتدأ الذي هو الْوَلايَةُ وعامله: استقر، الذي قام هُنالِكَ مقامه، ولِلَّهِ: حال. خَيْرٌ ثَواباً خَيْرٌ عُقْباً: نصبهما على التمييز.

البلاغة:

البلاغة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً: مبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل، أي غائرا. يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها كناية عن التحسر والندم لأن النادم يضرب بيمينه على شماله. المفردات اللغوية: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا اجعل للكفار مع المؤمنين مثلا. رَجُلَيْنِ بدل، وهو وما بعده تفسير للمثل. جَعَلْنا لِأَحَدِهِما للكافر. جَنَّتَيْنِ بستانين، وسميت الجنة بذلك لا جنتان أرضها واستتارها بظل الشجر. أَعْنابٍ كروم العنب. حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ جعلنا النخل محيطة بهما. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ مبتدأ وخبر، وكِلْتَا: مفرد يدل على التثنية. أُكُلَها ثمرها. وَلَمْ تَظْلِمْ تنقص. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما شققنا وسطهما. نَهَراً أو بتسكين العين: مجرى الماء العذب. وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله. فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن. يُحاوِرُهُ يجادله ويراجعه في الكلام، من حاور: إذا راجع. وَأَعَزُّ نَفَراً النفر هنا: الخدم والحشم والولد والأعوان. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي دخل مع صاحبه بستانه يطوف به فيه، ويريه أثماره ويفاخره. وأفرد الجنة ولم يقل جنتيه، للتنبيه على أنه ما له جنة غيرها، فلا نصيب له في جنة الخلد في الآخرة التي وعد بها المؤمنون، فما ملكه في الدنيا: هو جنته لا غير، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون عادة في واحدة ثم الأخرى. وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ معجب بما أوتي، مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. تَبِيدَ تنعدم أو تفنى وتهلك. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث في الآخرة كما زعمت. خَيْراً مِنْها من جنته. مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية. وإنما أقسم هذا الخاسر على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه هذه النعم، لاستحقاقه إياها لذاته. وَهُوَ يُحاوِرُهُ يجاوبه، خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلك من تراب، وهو آدم عليه السلام. نُطْفَةٍ مني. سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وصيّرك إنسانا كامل الرجولة. وجعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى، ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن من قدر على بدء خلقه منه، قدر على أن يعيده منه.

سبب النزول:

لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي هُوَ: ضمير الشأن، تفسره الجملة بعده، والمعنى: أنا أقول: الله ربي. وَلَوْلا هلا. قُلْتَ عند إعجابك بها، أو عند دخولك. ما شاءَ اللَّهُ.. الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله كائن، على أن ما موصولة، أو أي شيء شاء الله كان، على أنها شرطيه، يعني إقرارا بأن الجنة وما فيها بمشيئة الله، إن شاء أبقاها، وإن شاء أبادها. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فهلا قلت: لا قوة إلا بالله، اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله، وإن ما تيسر من عمارتها، فبمعونته وإقداره. جاء في الحديث الذي رواه ابن السني عن أنس، وهو ضعيف. «من رأى شيئا فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم تضره العين» . وفي رواية أخرى: «من أعطي خيرا من أهل أو مال، فيقول عند ذلك: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم ير فيه مكروها» . إِنْ تَرَنِ أَنَا ضمير فصل بين المفعولين أو تأكيد للمفعول الأول. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي في الدنيا أو في الآخرة لإيماني، وهو جواب الشرط. وَيُرْسِلَ عَلَيْها على جنتك لكفرك. حُسْباناً مِنَ السَّماءِ جمع حسبانة، وهي الصواعق. فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أرضا ملساء لا يثبت عليها قدم. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا، ويصبح: عطف على يُرْسِلَ لا على: فَتُصْبِحَ لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق. طَلَباً للماء، أي عملا أو حيلة لرده. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلكت أمواله، بما فيها جنته، حسبما توقع صاحبه وأنذره منه. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ هذا كناية في اللغة عن التحسر والندم. عَلى ما أَنْفَقَ فِيها في عمارة جنته. وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها دعائمها التي كانت منصوبة للكرم، بأن سقطت عروشها على الأرض، ثم سقطت الكروم. يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً يا: للتنبيه، وكأنه تذكر موعظة أخيه. فِئَةٌ جماعة. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عند هلاكها، بدفع الإهلاك فإن الله هو القادر على نصره وحده. وَما كانَ مُنْتَصِراً بنفسه عند هلاكها، ممتنعا بقوته عن انتقام الله منه. هُنالِكَ في ذلك المقام أو تلك الحال أو يوم القيامة. الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ بفتح الواو: النصرة له وحده لا يقدر عليها غيره، وبكسر الواو: الملك والسلطان. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً من ثواب غيره لو كان يثيب. وَخَيْرٌ عُقْباً عاقبة للمؤمنين. سبب النزول: قيل: نزلت في أخوين من بني مخزوم: الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل، وكان كافرا، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود، كان مؤمنا، وهو زوج أم سلمة قبل زواج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بها.

المناسبة:

وقيل في قول ابن عباس: أخوان من بني إسرائيل، أحدهما كافر، اسمه فرطوس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو قطفير، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا، وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى ولم تثبت صحة هذه الأقوال. وعن مقاتل: هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [51] . وهما من بني إسرائيل، كما ذكر ابن عباس. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى نبيه بملازمة مجالس أصحابه الفقراء، وعدم الاستجابة لمطالب المشركين المتجبرين بطرد الضعفاء المؤمنين، حتى لا يتساووا معهم، ولا يؤذوا بمناظرهم وروائحهم، فيمتهن كبرياؤهم وتتدنى عزتهم، أردف ذلك بمثل للغني الكافر، والفقير المؤمن لأن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، فأبان تعالى أن المال ليس سبيل الافتخار، لاحتمال أن يصير الفقير غنيا، والغني فقيرا، وإنما المفاخرة تكون بطاعة الله وعبادته، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين. التفسير والبيان: هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين وأمثالهم المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا بأموالهم وأحسابهم. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... المعنى: اضرب مثلا أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين الدعاة المخلصين لله صباح مساء وفي كل وقت. ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع

مثمر مقبل في غاية الجودة، فجمع بين القوت والفاكهة. فقوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين. والرجلان أخوان أو صديقان أو شريكان من بني إسرائيل، أحدهما: كافر مغتر بدنياه، والثاني: مؤمن موحد بالله. والقصد من هذا المثل العظة والعبرة، فقد آل حال الكافر المغرور إلى الدمار والإفلاس، لكفران النعم وعصيان الله، وظل المؤمن الفقير على طاعة الله، بالرغم من معاناته الشدائد والمتاعب، فآتاه الله الخلود في الجنة. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي أخرجت الجنتان ثمرهما. وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ولم تنقص منه شيئا في كل عام. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أي وشققنا وأجرينا وسط الجنتين نهرا، تتفرع عنه عدة جداول، لسقي جميع الجوانب. وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أي وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من المال من النقدين (الذهب والفضة) بسبب التجارة وتنمية ثمار الأرض. وأدى به هذا الغنى إلى الزهو والكبرياء والاغترار بالمال، شأن كل غني مغرور. فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي فقال صاحب هاتين الجنتين لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني. وازداد به الغرور ظنه استمرار تلك الثروة وعدم فنائها لقلة عقله وضعف يقينه بالله، وهذا ما حكاه القرآن عنه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... أي ودخل هذا الثري المترف بستانه ذا

الجناحين مع صاحبه المؤمن الفقير الصالح، فقال اغترارا منه، وهو ظالم لنفسه بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد حين عاين الثمار والزروع والأنهار المتدفقة في مزرعته: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا، وما أظن أن يوم القيامة آت، كما تقول يا صاحبي، فقوله: السَّاعَةَ قائِمَةً، أي القيامة كائنة. وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه بوضعه الشيء في غير محله إذ كان يجب عليه شكر تلك النعمة، وتفكره في عالم الآخرة، وذلك لطول أمله، وشدة حرصه، وتمام غفلته، وشدة اغتراره بالدنيا. ثم أقسم على فرض لقاء ربه بقوله: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أي إن رجعت إلى ربي، على سبيل الفرض والتقدير، وكما يزعم صاحبي، لألفين في الآخرة عند ربي خيرا وأحسن من هذا الحظ في الدنيا، تمنيا على الله، وادعاء لكرامتي عنده ومكانتي لديه، وأنه لولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، ولولا استحقاقي واستئهالي ما أغناني في الدنيا، كما جاء في آية أخرى على لسان الكافر: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت 41/ 50] . فأجابه المؤمن بقوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي أجابه صاحبه المؤمن واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار: أكفرت بمن خلقك من تراب؟ أي خلق أصلك من تراب، وخلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له، وكذلك غذاؤك وغذاء الحيوان من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دما، يتحول بعضه إلى نطفة تكون وسيلة للخلق، ثم خلقك بشرا سويا تام الخلق والأعضاء، فقوله: سَوَّاكَ معناه عدّلك وكمّلك إنسانا تاما، بالغا مبلغ الرجال.

وقد وصفه صاحبه بأنه كافر بالله، جاحد لأنعمه لشكه في البعث. لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أقرّ لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له. ثم قال له مذكرا بوجوب الإيمان بالله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أي الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك دليلا على عبوديتك والاعتراف بالعجز. ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده، فليقل: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عملا بهذه الآية، وبما روي من الحديث المرفوع الذي أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فيرى فيه آفة دون الموت» . وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» . ثم أجابه عن قضية الافتخار بالمال والولد: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ.. أي إنك إذ تنظر إلي بأني أفقر منك في المال، وأقل منك أولادا وعشيرة في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى عذابا من السماء، كمطر شديد يقلع زرعها وأشجارها

أو صواعق، فيسلبك نعمته ويخرّب بستانك، وتصبح أرضا بيضاء لا نبات فيها، وترابا أملس، لا يثبت فيه قدم، وينزلق عليها لملاستها انزلاقا. وقوله: فَعَسى رَبِّي أي فلعل ربي. أو يصبح ماؤها غائرا في الأرض، فلن تتمكن من إدراكه بعد غوره، ولن تستطيع ردّ الماء الغائر بأية حيلة. وتحقق ما توقعه المؤمن فقال: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها ... أي ونزل الإهلاك والجائحة بالأموال والثمار بإرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها، وألهته عن الله عز وجل، ودمرت أمواله وثماره، فأصبح نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، فتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر، وتمنى متذكرا موعظة صاحبه أن لم يكن أشرك بربه أحدا، والخاوية على عروشها: هي التي سقطت عرائشها على الأرض، قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها، وسقط بعضها على بعض. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ولم تنصره وتفيده عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واعتز، وما كان منتصرا أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى. هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هذا تأكيد للجملة السابقة، أي أنه في هذه الحال من الشدة والمحنة تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويرجع كل أحد مؤمن أو كافر إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب. والولاية: السلطان والملك والنصرة والحكم. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي أن الله خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، ويكون ثواب الأعمال التي

فقه الحياة أو الأحكام:

تكون لله خيرا، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير لأن الله هو خير ثوابا لمن آمن به، وخير عاقبة لمن رجاه وآمن به. ونظير الآية: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر 40/ 84] . فقه الحياة أو الأحكام: في هذه القصة عبر وعظات وهي: 1- هذا مثل واضح للمؤمنين والكافرين، مثل رجل مؤمن موحد بالله، فقير صالح آثر الآخرة على الدنيا، فآتاه الله الجنة وثوابه العظيم، ومثل رجل كافر مغتر بدنياه مستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهما- كما ذكر الكلبي- أخوان مخزوميان من أهل مكة، أو أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، كما ذكر ابن عباس ومقاتل، كان للكافر بستانان فيهما الأشجار والزروع والثمار والأنهار، وأموال أخرى، فكفر بأنعم الله، وتفاخر على صاحبه بالمال والأولاد، وشك في البعث، فدمّر الله ثروته، وأتلف البستانين بحسبان من السماء، وهو السحابة ذات المطر الغزير جدا، أو الصاعقة، أو العذاب، فندم وتحسر على ما أنفق، وقال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً أي يا ليتني عرفت نعم الله علي، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به، وهذا ندم منه حيث لا ينفعه الندم. 2- لا يمنع فضل الله عن الكافر، فقد آتى الله صاحب الجنتين ثروة ومالا وولدا وأتباعا. 3- شأن الغني دائما إلا من رحم الله المفاخرة بأمواله والاغترار بالدنيا، والترفع على الآخرين بالثروة، مع أنها مال زائل، وعرض متحول، فيمكن أن ينقلب صفر اليدين بين عشية وضحاها.

4- على المؤمن ألا يستكين أمام عزة الغني الكافر، وعليه نصحه وإرشاده إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وشكر نعمه وأفضاله عليه. 5- قد يكون الاغترار بالمال سببا لإنكار البعث والقيامة والحشر والنشر لأن الغني الظالم يرى في المادة كل شيء، وقد يستبد به الغرور لغفلة منه وضعف عقل، فيزعم أن عطاء الدنيا له لاستحقاقه واستئهاله، ويقول: إن كان بعث، فكما أعطاني الله هذه النعم في الدنيا، فسيعطيني أفضل منه في الآخرة، لكرامتي عليه. 6- قال الإمام مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وهذه الكلمة كما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كنز من كنوز الجنة، وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا قالها العبد، قال الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم» . وقد وردت هذه الكلمة في القصة في وصية المؤمن للكافر وردّه عليه، حينما ظن عدم فناء جنته، وتفاخر بثروته على صاحبه. 7- إذا نزل البلاء فلا تستطيع فئة في الدنيا منعه أو رفعه، أو الالتجاء إليها لإزالته، ولن يكون المبتلى الخاسر منتصرا أي ممتنعا عن إصابة العذاب له، فلا ينصر ولا ينتصر، لمّا أصابه العذاب. 8- إن الولاية، أي السلطان والقدرة، والملك والحكم الحق لله عز وجل، فلا يردّ أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 82/ 19] .

مثل الحياة الدنيا [سورة الكهف (18) الآيات 45 إلى 46] :

مثل الحياة الدنيا [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) الإعراب: مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ مَثَلَ: مفعول أول، وكَماءٍ: مفعول ثان، وقيل: كَماءٍ: خبر مبتدأ محذوف، أي هي كماء، أي الحياة الدنيا كماء. ثَواباً وأَمَلًا منصوبان على التمييز. المفردات اللغوية: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا اذكر لهم ما تشبهه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها وصفتها الغريبة. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ امتزج الماء بسبب نزول المطر بالنبات، حتى روي وحسن. فَأَصْبَحَ هَشِيماً فصار النبات يابسا مهشوما متفرقة أجزاؤه. تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرّقه وتنثره وتطيره وتذهب به. المعنى: شبّه الدنيا بنبات حسن، فيبس فتكسر، ففرقته الرياح. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي كان الله على كل شيء من الإنشاء والإفناء قادرا: كامل القدرة. زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتجمل بهما فيها. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، زاد بعضهم «ولا حول ولا قوة إلا بالله» أو هي الأعمال الصالحة كلها، ومنها الصلوات الخمس وأعمال الحج، وصيام رمضان، وسبحان الله.. إلخ، والكلام الطيب. خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي جزاء وعائدا. وَخَيْرٌ أَمَلًا أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.

المناسبة:

المناسبة: هذا مثل آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها، والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين، فلما بيّن الله تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخار الكافر من الهلاك، بيّن في هذا المثل حال الحياة الدنيا واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك. ولما بيّن تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والزوال، بيّن أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا في عرف الناس، وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض، فيقبح بالعاقل الافتخار به أو الفرح بسببه، مما يدل على فساد قول المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد. ثم ذكر الله تعالى ما يرجح أولئك المؤمنين الفقراء على أولئك الأغنياء الكفار بما يقدمونه من أعمال صالحة، فهي زاد الآخرة الدائم الباقي، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي. وقد ورد في السنة ما يفسر الباقيات الصالحات، روى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . وروى سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . وروى الطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

التفسير والبيان:

«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول وإلا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة» . وروى النسائي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: «خذوا جنتكم، قيل: يا رسول الله، من أي عدو قد حضر، قال: بل جنّتكم من النار: قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنّبات، وهن الباقيات الصالحات» . التفسير والبيان: اضرب مثلا آخر يا محمد للناس من مشركي مكة وغيرهم الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، مثلا يبين حقارة الدنيا وقلة بقائها، وزوالها وفناءها، فهي بعد الخضرة والنضارة والبهجة تصبح بمراد الله عابسة قاتمة لا جمال فيها ولا روعة، إنها في نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال تشبه حال نبات أخضر فيه زهر ونضرة وحبّ، نبت وتكوّن بماء السماء، ثم بعد هذا كله أصبح هشيما، أي يابسا، تذروه الرياح، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي والله قادر على الإنشاء والإفناء، وعلى كل الأحوال، حال الخضرة والنضرة، وحال اليبس والهلاك والفناء، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يفخر بها أو يتكبر بسببها. وكثيرا ما يشبّه الله الحياة الدنيا بهذا المثل، كما قال تعالى في سورة يونس: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ [24] وفي سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [20] .

الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي إن الأموال والبنين هي من زينة الحياة الدنيا، وليست من زينة الآخرة الدائمة، فهي سريعة الفناء والانقراض، فلا ينبغي للعاقل الاغترار بها والتفاخر بها. والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل في المثل السابق الذي أبان سرعة انقضاء الدنيا وإشرافها على الزوال والفناء. والسبب في ذكر المال والبنين فقط لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا. وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه لأنه أهم وأخطر، وأكثر تحقيقا للحاجة والرغبة والهوى، فقد يكون البنون دون المال، ويكون البؤس والشقاء. ونظير الآية: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ، وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.. الآية [آل عمران 3/ 14] . قال الإمام علي كرم الله وجهه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعات، كالصلوات والصدقات، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة الفقراء، والأذكار أفضل ثوابا، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثرا إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملا حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا. وقال ابن عباس: الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وكذلك قال عثمان بن عفان: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: ينبغي أن يعرف الناس ولا سيما المتكبرون الذين طلبوا طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها، فهي في عدم استقرارها وعدم استمرارها على حال واحدة كالماء لا يستقر في موضع، ولا يستقيم على حالة واحدة، وهي مثله أيضا في أنها تفنى، وهو يذهب ولا يبقى، وهي كذلك لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، كما أن من دخل الماء لا بد أن يبتلّ منه، والكفاف من الدنيا ينفع وفضولها يضر، كما أن الماء إذا جاوز المقدار كان ضارّا مهلكا. ورد في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه» . والخلاصة: أن هذا المثل يدل على سرعة زوال الدنيا وفنائها. والله وحده هو الباقي المقتدر على كل شيء من الإنشاء والإفناء والإحياء. وكذلك زينة الحياة الدنيا من المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض، والباقيات الصالحات مما يأتي به فقراء المسلمين كسلمان وصهيب من الطاعات أفضل ثوابا عند الله، وأفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه مثل قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان 25/ 24] . واختلف العلماء في الباقيات الصالحات: فقال ابن عباس وآخرون: هي الصلوات الخمس، وروي عنه كما بينا أنها: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وذلك مأخوذ من حديث رواه النسائي عن أبي سعيد الخدري. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجّحه الطبري، وقال القرطبي: وهو الصحيح إن شاء الله لأن كل ما بقي ثوابه، جاز أن يقال له هذا.

تسيير الجبال والحشر وعرض صحائف الأعمال يوم القيامة [سورة الكهف (18) الآيات 47 إلى 49] :

تسيير الجبال والحشر وعرض صحائف الأعمال يوم القيامة [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الإعراب: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ يَوْمَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكر يوم. عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا فًّا : حال منصوب من واورِضُوا وهو عامله، وتقديره: عرضوا مصطفين. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا فًّا : حال منصوب من واورِضُوا وهو عامله، وتقديره: عرضوا مصطفين. أَلَّنْ نَجْعَلَ أن: مخففة من الثقيلة، أي أنه. المفردات اللغوية: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ واذكر يوم نقلع الجبال ونذهب بها عن وجه الأرض، فنجعلها هباء منبثا. بارِزَةً ظاهرة، ليس عليها شيء من جبل ولا غيره. وَحَشَرْناهُمْ جمعنا المؤمنين والكافرين إلى الموقف، والحشر: الجمع لأجل الحساب، والبعث: إحياؤهم من القبور للحشر. ومجيء هذا الفعل ماضيا بعد المضارع نُسَيِّرُ لتحقيق الحشر، أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعدوا، وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار: قد فَلَمْ نُغادِرْ نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه الغدر: وهو ترك الوفاء، والغدير: ما غادره السيل.

المناسبة:

عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، لا ليعرفهم، بل ليأمر فيهم. فًّا مصطفين، كل أمة صف، لا يحجب أحد أحدا. قَدْ جِئْتُمُونا على إضمار القول على وجه يكون حالا، أي قائلا أو عاملا في يَوْمَ نُسَيِّرُ. ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فرادى حفاة عراة، لا شيء معكم من المال والولد، لقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام 6/ 94] . ْ زَعَمْتُمْ أي ويقال لمنكري البعث ذلك، ولْ : للخروج من قصة إلى أخرى. َّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وقتا للبعث والنشور، لا نجاوز الوعد. وَوُضِعَ الْكِتابُ أي جعل كتاب كل إنسان في يده حين الحساب، في يمينه للمؤمنين وفي شماله للكافرين. مُشْفِقِينَ خائفين. وَيَقُولُونَ عند معاينتهم ما فيه من السيئات. يا وَيْلَتَنا يا: للتنبيه، ووَيْلَتَنا: هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، أي يا هلاك أقبل، فهذا أوانك. صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا. إِلَّا أَحْصاها عدّها وأثبتها، وهو تعجب منه في ذلك. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مثبتا في كتابهم، أو مسطورا في كتاب كل واحد منهم. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب، فلا يعاقب أحدا بغير جرم، ولا ينقص من ثواب مؤمن. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى خساسة الدنيا وزوالها، وشرف القيامة ودوامها، وأن التفاخر ليس بالأموال، بل بالعمل الصالح، أردفه بأحوال القيامة، وما فيها من أخطار وأهوال، وتغير معالم الأرض والحشر، والعدل المطلق في رصيد أعمال الناس جميعا بكتب وصحائف شاملة، يتبين منها أن أساس النجاة: هو اتباع ما أمر به الدين، وترك ما نهى عنه. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أهوال القيامة وما فيها من الأمور العظام وهي: 1- وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ.. أي واذكر يا محمد حين نذهب بالجبال من أماكنها، ونزيلها، ونبددها كالسحاب هباء منثورا، كما قال تعالى:

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه 20/ 105] وقال: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة 56/ 5- 6] وقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. [المعارج 70/ 8- 9] أي كالصوف المندوف المنفوش. وهذا يدل على تبدل الحال، وتغير الوضع الذي كان في الدنيا، وإزاحة الجبال من مواضعها، وجعلها هباء منتشرا كالسحاب. 2- وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي وتنظر أيها الإنسان جميع الأرض ظاهرة بادية، ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، بل الخلق كلهم في صعيد واحد، صافون أمام ربهم، لا تخفى عليه خافية. وهذا معنى قوله تعالى في آية نسف الجبال السابقة: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 106- 107] أي تصبح الأرض سطحا مستويا، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، ولا جبل ولا وادي. هذان الأمران تسيير الجبال وتسوية الأرض متعلقان بشأن الدنيا. 3- وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب وجمعناكم إلى الموقف، فلم نترك منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة 56/ 49- 50] وقال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود 11/ 103] . أخرج الإمام مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا «1» ، فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض» .

_ (1) غرلا، أي غير مختونين، والغرلة: القلفة.

وفي رواية للنسائي: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» وهذا الأمر يدل على إثبات الحشر. 4- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي ويعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، كما قال سبحانه: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر 89/ 22] . لقد أتيتم إلينا أيها الناس جميعا أحياء، كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معكم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى، كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 6/ 94] . وهذا تقريع لمنكري المعاد، وتوبيخ لهم أمام الناس، وهو إثبات لمبدأ العرض للحساب على الله تعالى، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم: ْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أنه كائن. 5- وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي ووضع كتاب الأعمال: أعمال الناس من خير أو شر، صغير أو كبير، فترى العصاة المجرمين خائفين مما فيه من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة. والمراد بالكتاب: الجنس، وهو صحف الأعمال. وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا، مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي ويقول أولئك المجرمون: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمالنا، وما لهذا الكتاب لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا، ولا شاردة ولا واردة إلا أحصاها، أي ضبطها وحفظها، فهو شامل لكل شيء، كما قال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ

عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] . وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار 82/ 10- 12] . والآية تدل على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب، وهذا متفق عليه بين المسلمين. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أي ووجد الناس ما عملوا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، وقيل: جزاء ما عملوا، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران 3/ 30] وقال سبحانه: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة 75/ 13] . وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ليس في حكم الله أي ظلم لخلقه إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهي المطلق، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إنه تعالى بمقتضى رحمته يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء من خلقه بقدرته وحكمته وعدله، فيخلّد الكفار في نار جهنم، ويعذب العصاة فيها، ثم ينجّيهم منها، وحكمه في كل حال العدل، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، فلا يكتب على إنسان ما لم يعمل، ولا يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم. ونحو الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء 4/ 40] ، وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] . وهذه الآية تبين خاتمة مراحل الحساب بين يدي الله، القائم على مبدأ: أن الجزاء من جنس العمل، وأن صحائف أعمال الناس تشمل الحسنات والسيئات.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الآيات تبين بداية القيامة ونهاية الحساب، فتبدأ في بيان تغيير معالم الدنيا من تسيير الجبال، أي إزالتها من أماكنها على وجه الأرض، وتسييرها كما يسيّر السحاب، كما جاء في آية أخرى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88] ثم تكسر فتعود إلى الأرض، كما قال تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وتصبح الأرض بارزة ظاهرة، ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان لاجتثاث ثمارها، وقلع جبالها، وهدم بنيانها. ثم تأتي مرحلة الحشر أي الجمع إلى الموقف، فلا يترك أحد ويجمع جميع المخلوقات في صعيد واحد، للحساب أمام الربّ تبارك وتعالى. إنهم يعرضون صفا بعد صف، كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفّ، لا أنهم صف واحد. أخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة وبصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله، لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين. يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم، ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم، ويسّروا جوابا، فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفا، على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» . ويأتي الخلائق من قبورهم لموقف الحساب حفاة عراة، لا مال معهم ولا ولد، كما جاؤوا من بطون أمهاتهم أثناء ولادتهم في الدنيا. وتعرض كتب أعمال العباد وصحائفهم، بما فيها من صغائر وكبائر، قال الأسدي: الصغيرة: ما دون الشرك، والكبيرة: الشرك.

قصة السجود لآدم عليه السلام [سورة الكهف (18) الآيات 50 إلى 53] :

قال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: ويحك يا كعب! حدّثنا من حديث الآخرة قال: نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة، رفع اللوح المحفوظ، فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله، ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال الناس، فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ.. الآية. ثم يدعى المؤمن، فيعطى كتابه بيمينه، فينظر فيه، فإذا حسناته باديات للناس، وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول: كانت لي حسنات، فلم تذكر، فأحب الله أن يريه عمله كلّه، حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخره ذلك كله أنه مغفور، وأنك من أهل الجنة فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة 69/ 19- 20] . ثم يدعى بالكافر، فيعطى كتابه بشماله، ثم يلف، فيجعل من وراء ظهره، ويلوى عنقه فذلك قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق 84/ 10] فينظر في كتابه، فإذا سيئاته باديات للناس، وينظر في حسناته، لكيلا يقول: أفأثاب على السيئات؟! «1» . قصة السجود لآدم عليه السلام [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)

_ (1) تفسير القرطبي: 10/ 419.

الإعراب:

الإعراب: كانَ مِنَ الْجِنِّ حال بإضمار قد، واستئناف للتعليل كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فاعل بِئْسَ: مضمر فيها، وبَدَلًا تمييز مفسّر لذلك المضمر، أي بئس البدل للظالمين ذرّية إبليس. ولِلظَّالِمِينَ فصل بين بِئْسَ وما انتصب به، واستدل به المبرّد على جواز الفصل بين فعل التعجب وما انتصب به في نحو قولهم: ما أحسن اليوم زيدا. والمقصود بالذم: ذرية إبليس، وحذف لدلالة الحال عليه. البلاغة: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ؟ الهمزة للإنكار والتعجيب. المفردات اللغوية: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أي اذكر. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود انحناء، تحية وإكراما له، اعترافا بفضله. وقد تكرر الأمر بالسجود لآدم في مواضع، لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال، وهنا لما شنع الله تعالى على المفتخرين بأموالهم واستقبح صنيعهم، قرر أن ذلك من سنن إبليس إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ إذا اعتبر الجن نوعا من الملائكة فالاستثناء متصل، وإلا فهو استثناء منقطع، وإبليس: أبو الجن، فله ذرية، والملائكة لا ذرية لهم. فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عن طاعة ربه أو عما أمره به ربه، بترك السجود. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ الخطاب لآدم وذريته، والهاء في الموضعين لإبليس، والذرية: الأولاد أو الأتباع، وسماهم ذرية مجازا. أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي تطيعونهم. عَدُوٌّ أعداء، والعدو: يطلق على الواحد والجمع. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا إبليس وذريته في إطاعتهم، بدل إطاعة الله. ما أَشْهَدْتُهُمْ أي إبليس وذريته. وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي لم أحضر بعضهم خلق بعض.

المناسبة:

وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الشياطين. عَضُداً أعوانا، والعضد في الأصل: ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين، كاليد ونحوها، وهو المراد هنا. أي لم أستعن بالشياطين في الخلق، فكيف تطيعونهم؟ وهو رد لاتخاذهم أولياء من دون الله، شركاء له في العبادة، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية. ووضع الْمُضِلِّينَ موضع الضمير ذمّا لهم، واستبعادا للاعتضاد بهم. وَيَوْمَ يَقُولُ اذكر. نادُوا شُرَكائِيَ الأوثان وغيرها. الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي. وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. فَدَعَوْهُمْ فنادوهم للاستغاثة. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم أو لم يجيبوهم. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ بين الأوثان وعابديها، أو بين الكفار وآلهتهم. مَوْبِقاً مهلكا يشتركون فيه، وهو النار، أو واد من أودية جهنم، يهلكون فيه جميعا، أو حاجزا بينهم. فَظَنُّوا فأيقنوا. أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي واقعون فيها، وداخلوها. مَصْرِفاً معدلا أو مكانا ينصرفون إليه. المناسبة: هناك تشابه بين فعل المشركين سابقا، وافتخارهم بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين، وبين فعل إبليس الذي تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه، وقال: خلقتني من نار، وخلقته من طين، فأنا أشرف منه في الأصل والنسب، فكيف أسجد وأتواضع له؟ والمشركون قالوا: كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء، مع أنّا من أنساب شريفة، وهم من أنساب نازلة، ونحن أغنياء وهم فقراء. وهذه هي طريقة إبليس، فذكرت قصته هنا تنبيها على وجود التشابه، والله تعالى حذر من هذه الطريقة ومن الاقتداء بها. وتكرار قصة إبليس في مواضع من القرآن: إنما هو لما يناسب المقصود، ولما يحقق الفائدة، ففي كل موضع تساق لفائدة مغايرة لما ذكرت في مواضع أخرى. التفسير والبيان: هذا تنبيه لبني آدم على عداوة إبليس لهم، ولأبيهم من قبلهم، وتقريع لمن اتبعه منهم، وخالف خالقه ومولاه، فقال:

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.. أي واذكر لهم يا محمد إذ أمرنا جميع الملائكة بالإلهام أن يسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام، تكريما للنوع الإنساني، كما ذكر مرارا في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها: في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [34] ، ومنها في سورة الحجر: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [28- 29] ، ومنها في سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [50] . وسبب إباء إبليس السجود لآدم: اغتراره بأصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، وخلق آدم من تراب، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» ، وبان من الآية السابقة أن إبليس من الجن، كما بان من آية أخرى أنه خلق من نار، وخلق آدم من طين، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 38/ 76] . قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر. كانَ مِنَ الْجِنِّ أي أن سبب عصيانه أنه كان من عنصر الجن، فلم يعمل مثل ما عملوا، لذا قال: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعة الله، فإن الفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من أكمامها أو قشرها، ودل هذا على أن فسقه بسبب كونه من الجن أي الشياطين، وشأن الجن التمرد والعصيان، لخبث ذواتهم. والخلاصة: أن قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف

جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين. وقوله: فَفَسَقَ.. الفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه لأنه لو كان ملكا لم يفسق عن أمر ربه لأن الملائكة معصومون، على عكس الجن والإنس. وأما ما ذكر في آية أخرى أنه من الملائكة، فلا يعارض هذه الآية لأنه قد يطلق على الملائكة أنهم جن لاستتارهم عن أعين الناس. ثم عقب الله تعالى على القصة بقوله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ أي أنه تعالى يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي، ويحذر من اتباعه بعد ما عرف موقفه من أبيهم آدم، ويوبخ ويقرع من اتّبعه وأطاعه، متخذا له ولجنده ونسله نصراء من دون الله، وبدلا عنه، لذا قال: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بئس البدل للكافرين الظالمين أنفسهم وهو اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله، وهو المنعم عليهم. ومما يدل على أن إبليس ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلا في هذه الآية، والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل، فوجب ألا يكون إبليس من الملائكة. ثم سلب الله تعالى الولاية عمن دونه من الشركاء والأبالسة، فقال: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى: ما أشهدت الذين اتخذتموهم أولياء من الشركاء خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا، ولا كانوا موجودين عند خلق السموات والأرض. وهؤلاء الشركاء هم الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم، حتى اتخذتموهم شركاء لي.

ورجح الرازي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء، لم نؤمن بك، فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين اقترحوا هذا الاقتراح الفاسد، ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم «1» . وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذ الضالين المضلين أعوانا وأنصارا، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم، فإنهم إذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟ ثم يخبر الله تعالى عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا، فيقول: وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي واذكر لهم أيها الرسول ما يحدث وقت الاجتماع في يوم الجمع في القيامة، حيث يقول الله للكافرين تأنيبا وتوبيخا: نادوا لنصرتكم من زعمتم أنهم شركائي، لينقذوكم مما أنتم فيه، فدعوهم، فلم يجيبوهم بشيء، ولم ينفعوهم في شيء، كما قال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام 6/ 94] . وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أي وجعلنا بين المشركين وآلهتهم المزعومة مكانا سحيقا ومهلكا، أي موضعا للهلاك، وهو نار جهنم أو واد في جهنم، وقال ابن عباس: الموبق: الحاجز، وقال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق. والمعنى أن الله تعالى بيّن أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 138

فقه الحياة أو الأحكام:

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا- والظن هنا بمعنى العلم واليقين- أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي إذا عاين المشركون النار، تحققوا لا محالة أنهم واقعون فيها، ومخالطوها وداخلون فيها حتما لا محالة، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا، والمعنى ليس لهم طريق ولا مكان يعدل بهم عنها، ولا بدّ لهم منها لإحاطتها بهم من كل جانب. ذكر ابن جرير عن أبي سعيد، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- كرم الله تعالى أبانا آدم عليه السلام والجنس البشري بأجمعه بأمره الملائكة أن تسجد له في بدء الخليقة سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة وتقديس. 2- أذعن الملائكة كلهم جميعا لأمر السجود فسجدوا إلا إبليس الذي كان من عنصر الجن أبي السجود وفسق عن أمر ربه وخرج عن طاعة الله تعالى. 3- تضمن رفض إبليس السجود عداوته للإنسان، لذا وبخ تعالى كل من اتخذ الشيطان وأتباعه أولياء: أعوانا ونصراء لأنهم أعداء، والعدو لا ينصر من عاداه ولا يؤتمن على نصرته. وكذلك تضمن الرفض التكبر على آدم والترفع عليه، لمّا ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم، إذ هو من نار، وآدم من طين، فوجب أن يكون هو أشرف من آدم، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم: إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم. لكل ما ذكر بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله، أو بئس إبليس بدلا عن عبادة الله تعالى.

4- قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ يدل على إثبات ذرية إبليس، وهو دليل على أن لإبليس زوجة لأن الذرية لا تكون إلا من زوجة. وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذرّيته: أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرّية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم، وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم، وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح. والذي ثبت في هذا الموضوع ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرّخ» قال القرطبي: وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله أعلم. 5- لم يستعن الله تعالى بأحد في خلق السموات والأرض، ولم يكن أحد موجودا عند الخلق، ولم يشهد المشركين وإبليس وذريته الخلق، أي لم يشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقهم على ما أراد، ولا يصلح المخلوقون اتخاذهم أولياء من دون الله تعالى. وهذا رد على طوائف من المنجّمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم وكل من يخوض في هذه الأشياء. كذلك لم يتخذ الله تعالى المضلين عضدا، أي لم يتخذ الشياطين والكفار أعوانا لأنه تعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. 6- هناك حاجز بين المؤمنين والكافرين، وبين المشركين وآلهتهم المزعومة من الأوثان وغيرها يوم القيامة، فلا ينتفع الكفار بمن أشركوا، ولا يتمكنون من منع العذاب عنهم، والكل هالكون في جهنم.

بيان القرآن ومهمة الرسل وظلم المعرض عن الإيمان وسبب تأخير العذاب لموعد معين [سورة الكهف (18) الآيات 54 إلى 59] :

7- إذا عاين المشركون النار ظنوا أي تيقنوا أنهم مجتمعون فيها وواقعون فيها، ولا يجدون عنها مصرفا، أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب. ورجح الرازي في تفسير الظن: أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد، فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها، كما قال تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان 25/ 12] بيان القرآن ومهمة الرسل وظلم المعرض عن الإيمان وسبب تأخير العذاب لموعد معين [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

الإعراب:

الإعراب: جَدَلًا تمييز منقول من اسم كانَ، والمعنى: وكان جدل الإنسان أكثر شيء فيه. قُبُلًا جمع قبيل، حال، أي ويأتيهم العذاب قبيلا قبيلا. وقيل: معناه مقابلة، وهو معنى قراءة قُبُلًا- بكسر القاف. وَما أُنْذِرُوا ما: مصدرية بمعنى إنذارهم في موضع نصب عطفا على آياتِي، أي: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزوا. وهُزُواً: مفعول ثان لاتخذوا. ويجوز أن تكون ما موصولة وعائد الصلة محذوف. وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ تِلْكَ: مبتدأ، والْقُرى: صفة لتلك، وأَهْلَكْناهُمْ: خبر المبتدأ. لِمَهْلِكِهِمْ وقرئ: مهلك، ومهلك، ومهلك، الأول مصدر أهلك مثل مكرم، والثاني مصدر هلك مثل مضرب، والثالث اسم زمان، أي لوقت مهلكهم. البلاغة: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: صَرَّفْنا بينا مع الترداد والتكرار. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ صفة لمحذوف، أي مثلا من جنس كل مثل، ليتعظوا، والمثل: الصفة الغريبة. الْإِنْسانُ جنس الإنسان، وخاصة الكافر وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا خصومة بالباطل، وشيء هنا مفرد معناه الجمع، أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال. وَما مَنَعَ النَّاسَ أي كفار مكة ونحوهم. أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول ثان لمنع. إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى القرآن. سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فاعل تأتيهم، أي سنتنا فيهم، وهي الإهلاك المقدر عليهم، وهو عذاب الاستئصال، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قُبُلًا جمع قبيل، أي أنواعا وألوانا، وقرئ قبلا أي مقابلة وعيانا، كالقتل يوم بدر. إِلَّا مُبَشِّرِينَ للمؤمنين. وَمُنْذِرِينَ مخوفين للكافرين. وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ بقولهم: أبعث الله بشرا رسولا ونحوه من اقتراح الآيات. لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ليبطلوه ويزيلوه، مأخوذ من إدحاض القدم أي إزلاقها وإزالتها عن مكانها، ويقال: دحضت حجته: بطلت وَاتَّخَذُوا آياتِي يعني القرآن. وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب. هُزُواً استهزاء وسخرية، وأصله: هزؤا. فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتذكر بها. وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ما عمل من الكفر

المناسبة:

والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتها. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم. أَنْ يَفْقَهُوهُ أن يفهموه، أي كراهة أن يفقهوه، أو من أن يفهموا القرآن، أي فلا يفهمونه. وتذكير الضمير وإفراده مراعاة للمعنى. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا في السمع، يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه، أو فلا يسمعونه. فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي بالجعل المذكور صار ميئوسا من اهتدائهم لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، ولشدة تصميمهم، وإِذاً: جزاء وجواب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وأَبَداً مدة التكليف كلها. لَوْ يُؤاخِذُهُمْ في الدنيا. لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فيها. مَوْعِدٌ هو يوم القيامة. مَوْئِلًا ملجأ ومنجى. وَتِلْكَ الْقُرى أي أهلها وهي قرى عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. لَمَّا ظَلَمُوا كفروا كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. لِمَهْلِكِهِمْ هلاكهم، ومن قرأ بضم الميم وفتح اللام فمعناه لإهلاكهم. مَوْعِداً وقتا معلوما، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليعتبروا بهم، ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الجواب على شبهات الكفار المبطلين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، أردف ذلك ببيان كثرة الأمثال في القرآن لمن تدبر فيها، ومع تلك الأمثلة الواقعية والإجابات الشافية، هؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة لأن الإنسان أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال، ثم هددهم تعالى على عدم الإيمان متسائلا: هل هناك مانع يمنعهم من الإيمان إلا نزول عذاب الاستئصال، أو مجيئه عيانا؟ وأبان أن مهمة الرسل هي الجدال في الدين من طريق تبشير المؤمنين بالجنان وإنذار العصاة بالنار، وأوضح أن أشد الناس ظلما هو المعرض عن هداية القرآن، ولله الفضل العظيم في تأخير العقاب عن الناس، وتخصيصه بموعد، لا يتجاوزه، لعلهم يثوبون إلى رشدهم. التفسير والبيان: وَلَقَدْ صَرَّفْنا.. أي ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم كل

ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، كي يعرفوا طريق الحق والهدى، ولا يضلوا عنه. وتصريف الأمثال يقتضي التكرار لمختلف وجوه البيان. وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي ومع هذا البيان الشافي والتوضيح الكافي، فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة. وهذا دليل على كثرة الجدال في الإنسان وحبه له، لسعة حيلته، وقوة ذكائه، واختلاف نزعاته وأهوائه. وبالرغم من بيان القرآن، وكثرة ما يشاهده الكفار من الآيات والدلالات الواضحات، فإنهم قوم متمردون منذ القديم، فقال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا.. أي وما منع المشركين من أهل مكة من الإيمان بالله، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود الله وتوحيده، واستغفار ربهم والتوبة إليه من ذنوبهم إلا طلبهم أحد أمرين: إما أن تأتيهم سنة الأولين القدماء من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم وهو عذاب الاستئصال، كما قال جماعة لنبيهم: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت 29/ 29] وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . وإما أن يروا العذاب عيانا مواجهة ومقابلة. والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 141

وقال في الكشاف: وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك، أو انتظار أن يأتيهم عذاب الآخرة قبلا أي عيانا «1» . ومجيء العذاب بيد الله لا من قبل الرسول، لذا قال تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي إن مهمة الرسل إما تبشير من آمن بهم بالثواب على الطاعة، وإما إنذار من كذبهم وخالفهم بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا. ومع هذه الأحوال يوجد الجدال بالباطل من الكفار لدحض الحق، فقال تعالى مخبرا عنهم: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ويجادل الكفار جدالا بالباطل لا بالحق، ليضعفوا بجدالهم الحق، الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، فهم يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون 23/ 24] . وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً أي اتخذوا آيات الله وهي القرآن والحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب هزوا أي استهزاء وسخرية، وهو أشد التكذيب، وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة. وبعد أن حكى الله تعالى عن الكفار جدالهم بالباطل، وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان، فقال:

_ (1) الكشاف: 2/ 263

الصفة الأولى:

الصفة الأولى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْها، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي لا أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله، ونسي ما قدم من الكفر والمعصية، أو لا ظلم أعظم من كفر من يشاهد الآيات والبينات الدالة على الحق والإيمان، ثم يعرض عنها، ومع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يده من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة، وعلى رأسها الكفر بالله، والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم. الصفة الثانية: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وعلة إعراضهم ونسيانهم بسبب جعل أغطية وغشاوة على قلوب هؤلاء، لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، وجعل صمم معنوي في آذانهم عن الرشاد وسماع الحق وتدبره. وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي وإن دعوت يا محمد هؤلاء إلى دعوة الحق والهداية والاستقامة، فلن تجد منهم استجابة، ولن يهتدوا بهديك هدي القرآن أبدا مهما قدمت من الدلائل وتأملت الخير منهم. وذلك كله لفقدهم الاستعداد لقبول الإيمان والرشاد، بما أصروا عليه من الكفر والعصيان، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة 2/ 7] . وهذه الآيات هي في قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركي مكة. ثم ذكر الله تعالى ما يتصف به من رحمة وحلم وإرجاء للعقاب عن العصاة، وأنه لا يعجل لهم العذاب، تاركا الفرصة لهم ليتوبوا، فقال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ أي

وربك يا محمد غفور ستّار، ذو رحمة واسعة، لو يؤاخذ الناس فورا بما كسبوا من السيئات واقترفوا من الخطيئات، لعجل لهم العذاب في الدنيا، على وفق أعمالهم. والغفور: البليغ المغفرة، فهي صيغة مبالغة، وذو الرحمة: الموصوف بالرحمة. ونظير الآية قوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد 13/ 6] . ثم استشهد تعالى بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي إن الله أراد غير ذلك من تعجيل العذاب، وجعل للعذاب موعدا حدده وهو إما يوم القيامة، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح، لن يجدوا عنه ملجأ ومنجى، وليس له محيد ولا معدل عنه، والخلاصة: أن تأخير العقاب أو العذاب إمهال لا إهمال. وشاهد آخر: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ... أي وتلك القرى، أي أهلها من الأمم الغابرة، كعاد وثمود ومدين وقوم لوط، أهلكناهم لما ظلموا بسبب كفرهم وعنادهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه، ومدة معلومة لا تزيد ولا تنقص، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم رسولكم، ولستم بأعز علينا منهم. والمهلك: الإهلاك أو وقته، والموعد: وقت أو مصدر. والمراد: إنا عجلنا هلاكهم، ومع ذلك حددنا له وقتا، رجاء أن يتوبوا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات المبادئ التالية: 1- بيان القرآن من دلائل الربوبية والوحدانية ومن العبر والقرون الخالية بيان ضاف واف محقق لغاية الاهتداء به على أكمل وجه. 2- الإنسان وبخاصة الكافر كثير الجدال والمجادلة لطمس معالم الحق، والإبقاء على ما ارتضاه لنفسه من اتباع الأهواء، وتقليد الأسلاف والآباء، واحتضان الكفر، والاحتفاظ بالزعامة الدنيوية والمكاسب المادية. 3- الإنسان قاصر النظر غالبا، فما منع الناس بعد مجيء القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام عن الإيمان واستغفار ربهم والإنابة إليه إلا معاينة أحد الأمرين: الإتيان بما هو عادة الأولين في عذاب الاستئصال، ومعاينة العذاب، كما طلب المشركون فعلا، وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . أو مجيء العذاب عيانا مواجهة. 4- إن مجيء العذاب بيد الله وحده على وفق ما يرى من الحكمة والعدل، وأما الأنبياء المرسلون فمهمتهم التبشير بالجنة لمن آمن، والتخويف بالعذاب لمن كفر، ومع كل هذه الدلائل الهادية إلى الرشاد يجادل الكفار بالباطل لدحض الحق وهو الإيمان بالله وبقرآنه، والإبقاء على مهازل الكفر وأباطيله، واتخاذ القرآن وما أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا. 5- لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها، وترك كفره ومعاصيه، فلم يتب منها، فالنسيان بمعنى الترك. 6- علم الله من قوم معينين من أهل مكة ونحوهم أنهم لم يؤمنوا، فأخبر

قصة موسى عليه السلام مع الخضر [سورة الكهف (18) الآيات 60 إلى 74] :

تعالى عنهم أنه منعهم من دخول الإيمان في قلوبهم وأسماعهم، فلن تفلح معهم بعدئذ دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الإيمان، ولن يهتدوا أبدا إليه، لإصرارهم على الكفر، وفقدهم الاستعداد لقبول الهداية. 7- من صفات الله تعالى أنه الغفور لذنوب عباده، الرحيم بهم إن آمنوا وتابوا وأنابوا إليه، بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . ومن رحمته ألا يعجل المؤاخذة أو العقاب على الكفر والمعاصي، ولكنه يمهل ويؤخر، رجاء أن يتوب العباد، ويجعل للعذاب موعدا أي أجلا مقدرا يؤخرون إليه، كما قال: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام 6/ 67] وقال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد 13/ 38] أي إذا حلّ لم يتأخر عنهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولا ملجأ ولا منجى للناس حينئذ من ذلك العذاب. 8- أهلك الله تعالى جماعة من أهل القرى الغابرة للعبرة والزجر نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط، لما ظلموا وكفروا، وجعل لهلاكهم وقتا معلوما وأجلا محددا لا يتجاوزوه. قصة موسى عليه السلام مع الخضر [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 74] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)

الإعراب:

الإعراب: سَرَباً مفعول ثان (لاتخذ) ومفعوله الأول سَبِيلَهُ. أَنْ أَذْكُرَهُ أن وصلتها في موضع نصب على البدل من هاء أَنْسانِيهُ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وهو بدل اشتمال. عَجَباً مفعول ثان لاتخذ. قَصَصاً منصوب على المصدر بفعل مقدّر، دل عليه فَارْتَدَّا أي فارتدا يقصان الأثر قصصا. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً مفعول ثان. عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ حال من كاف أَتَّبِعُكَ. مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ما: اسم موصول بمعنى الذي، وعُلِّمْتَ: جملة فعليه صلة «ما» والعائد محذوف تقديره: من الذي علّمته رشدا، فحذف الهاء وهي المفعول الثاني لعلّمت تخفيفا، ورُشْداً: المفعول الثاني لتعلّمني.

البلاغة:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً كَيْفَ: في موضع نصب على الظرف، وعامله تَصْبِرُ وخُبْراً: منصوب على المصدر بفعل دل عليه. ما لَمْ تُحِطْ بِهِ وتقديره: ما لم تخبره خبرا. البلاغة: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا تنكير. عَبْداً للتفخيم، والإضافة في عِبادِنا للتشريف. حُقُباً سَرَباً نَصَباً عَجَباً سجع يناسب أواخر الآيات. المفردات اللغوية: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ واذكر حين قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم السلام الذي كان يتبعه ويخدمه ويتعلم منه. لا أَبْرَحُ لا أزال سائرا. حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ حتى أصل ملتقى بحري فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند مصيق باب المندب) مما يلي المشرق. وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلسي عند طنجة (ملتقى البحر الأبيض المتوسط عند مضيق جبل طارق أمام طنجة) . أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً دهرا طويلا في بلوغه إن بعد، والحقب: جمع حقبة وهو زمان من الدهر غير محدود، قيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون. مَجْمَعَ بَيْنِهِما مكان الاجتماع بين البحرين. نَسِيا حُوتَهُما نسي يوشع حمله عند الرحيل، ونسي موسى تذكيره. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، مثل السرب: وهو الشق الطويل لا نفاد له، فصار الماء عليه كالقنطرة، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت، فصار كالطافي عليه. فَلَمَّا جاوَزا ذلك المكان بالسير إلى وقت الغداء من اليوم الثاني. قالَ موسى. لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا الغداء: هو ما يؤكل أول النهار، والمراد به هنا: الحوت. نَصَباً تعبا وإعياء. قالَ: أَرَأَيْتَ أي تنبّه. إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي أرأيت ما دهاني، إذ لجأنا إلى الصخرة بذلك المكان، التي رقد عندها موسى. فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فقدته أو نسيت ذكره. وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه. وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً أي اتخذ الحوت طريقا عجبا أي يتعجب منه موسى وفتاه.

قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ قال موسى: ذلك أي فقد الحوت هو الذي كنا نطلبه، فإنه علامة لنا على وجود من نطلبه. فَارْتَدَّا رجعا. عَلى آثارِهِما أي على طريقهما الذي جاءا منه. قَصَصاً أي يقصان الطريق قصصا، أي يتبعان آثارهما اتباعا، أو مقتصين، حتى أتيا الصخرة. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو في رأي الجمهور الخضر، واسمه بليا بن ملكان. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي ولاية، في رأي أكثر العلماء، وقيل: وحيا ونبوة. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً من قبلنا معلوما من المغيبات. هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ على شرط أن تعلّمني. مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي تعلمني بعض ما علمت علما ذا رشد، أو صوابا أرشد به، والرشد: إصابة الخير. ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه، فيما بعث به من أصول الدين وفروعه، لا مطلقا. وقد راعى موسى في ذلك الطلب للتعلم غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعا للعبد الصالح، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه لأن الزيادة في العلم مطلوبة. ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً علما بالشيء ومعرفة، ومنه الخبير: العالم بدقائق العلم، والمعنى: ما لم تخبر حقيقته. وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي وغير عاص لك أمرا تأمرني به، وقيد الوعد على الصبر بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهي عادة الأنبياء ألا يثقوا بأنفسهم طرفة عين. وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى. فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تنكره مني في علمك، أي فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولم تعلم وجه صحته. حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً بيانا، أي حتى أبتدئك ببيانه، وأذكره لك بعلته، فقبل موسى شرطه، رعاية لأدب المتعلم مع العالم. فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر. رَكِبا فِي السَّفِينَةِ التي مرت بهما. خَرَقَها ثقبها الخضر، بأن اقتلع لوحا أو لوحين منها من جهة البحر بفأس، حينما سارت في ثبج البحر ولججه. قالَ: أَخَرَقْتَها قال له موسى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت أمرا عظيما منكرا، من أمر الأمر، أي عظم وكثر، روي أن الماء لم يدخلها. لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ بالذي نسيته أو بشيء نسيته، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه، وهو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها. وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً لا تكلفني عسرا ومشقة، في صحبتي إياك، أي عاملني بالعفو واليسر.

المناسبة:

فَانْطَلَقا بعد خروجهما من السفينة يمشيان حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً لم يبلغ الحنث، يلعب مع الصبيان، وكان أحسنهم وجها فَقَتَلَهُ الخضر، إما بالذبح بالسكين، أو باقتلاع رأسه بيده بفتل عنقه، أو الضرب برأسه الحائط، أقوال مروية. وأتى بالفاء العاطفة هنا للدلالة على أنه لما لقيه قتله من غير تروّ واستكشاف حال قالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ أي قال موسى مستنكرا- وهو جواب إذا- كيف تقتل نفسا طاهرة من الذنوب، لم تبلغ حد التكليف، وقرئ زَكِيَّةً، بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير حق من قصاص لك عليها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي لقد ارتكبت شيئا منكرا، والمنكر: الذي تنكره العقول والنفوس. المناسبة: بعد أن ذكر الله قصة أصحاب الكهف لإثبات قدرته على البعث، وذكر أمثلة ثلاثة لتقرير حقيقة أن الحق والعزة والعلو لا ترتبط بكثرة المال والسلطان، وإنما بالعقيدة والإيمان، ليدرك تلك الحقيقة المشركون الذين افتخروا على فقراء المؤمنين، وأبوا مجالستهم، بعد هذا أردف الله تعالى بقصة ثانية هي قصة موسى مع الخضر، ليتعلم منه العلم، وذلك ليفهم المشركون أن موسى النبي كليم الله مع كثرة علمه وعمله، أمر أن يتعلم من العبد الصالح الخضر، مما يدل على أن التواضع خير من الكبر. قصة موسى والخضر في السنة النبوية: روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل، أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه، إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال موسى: يا ربّ، فكيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا، فتجعله في مكتل (قفة) فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، فانطلق موسى، ومعه فتاه- يوشع بن نون- حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما، فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً.

وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً- قال: ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به- فقال فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قال: فكان للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: رجعا يقصان آثارهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجّى بثوب، فسلّم عليه موسى، فقال الخضر، وأنى بأرضك السلام «1» ! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علّمت رشدا قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. يا موسى، إني على علم من علم الله، لا تعلمه، علّمنيه، وأنت على علم من علم الله علّمكه، لا أعلمه، فقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فقال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول- أي أجر- فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدّوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها: لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وكانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك

_ (1) أي من أين السلام في هذه الأرض التي لا سلام فيها؟

التفسير والبيان:

من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال سفيان: وهذه أشدّ من الأولى. قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فقال الخضر بيده هكذا- أي أشار بيده- فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال الخضر: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يرحم الله موسى، لوددت أنه كان صبر، حتى يقص الله علينا من أخبارهما» . التفسير والبيان: هذه هي القصة الثالثة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة بعد قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين والأموال، وهي تلتقي أيضا مع ما ذكره الله تعالى من تشبيه الحياة الدنيا بماء السماء، وتفاخر الناس بالمال والبنين، كما تلتقي معهما في نبذ الافتخار والتكبر والتعالي على الآخرين، ليكون ذلك درسا بليغا وعظة لرؤساء قريش الذين طلبوا تخصيص مجلس لهم، وطرد الفقراء والمستضعفين من الجلوس معهم في مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنفة وكبرياء واستعلاء، فقال تعالى:

وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ... أي واذكر أيها النبي حين قال موسى لفتاه لا أزال سائرا حتى أصل إلى المكان الذي فيه مجمع البحرين، ولو أني أسير حقبا أي دهرا من الزمان. والحقب: ثمانون أو سبعون سنة، والمراد: زمان غير محدود من الدهر. والمقصود بموسى في رأي أكثر العلماء هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة. وفتاه: هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان خادما لموسى، ويسمى الخادم فتى في لغة العرب. ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: هو مكان اجتماع البحرين وصيرورتهما بحرا واحدا، وهما في رأي الأكثرين بحر فارس والروم، أي ملتقى البحر الأحمر بالمحيط الهندي عند باب المندب، وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي، أي ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق عند طنجة. وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي فلما وصلا مجمع البحرين مكان اللقاء مع العبد الصالح، نسيا حوتهما، فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، وغطاه الماء، حتى صار كالقنطرة عليه، وكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا. فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي فلما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين حيث نسيا الحوت فيه، وسارا بقية اليوم والليلة، وفي اليوم التالي في ضحوة الغد أحس موسى بالجوع، فقال لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.

وذلك أن موسى كان قد أمر بحمل حوت مملّح معه، وذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، وسار هو وفتاه، حتى بلغا مجمع البحرين، وكان الحوت في مكتل (قفة) مع يوشع عليه السلام، فسقط في البحر، وجعل يسير في الماء. وعودة الحياة للحوت بعد موته كانت معجزة لموسى عليه السلام، علامة على مكان وجود الخضر. والخضر: هو لقب العبد الصالح الذي أمر موسى بالتعلم منه، واسمه بليا بن ملكان، والأصح أنه لم يكن نبيا. قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. أي قال له فتاه: أرأيت «1» أي أخبرني ما وقع لي حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من أمر الحوت، فإنه قد اضطرب وعاد حيا ووقع في البحر، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا. والمراد بالنسيان: اشتغال قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي من فعله. قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه أمارة الفوز بما نقصد. فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما،

_ (1) همزة أَرَأَيْتَ همزة الاستفهام، ورَأَيْتَ على معناه الأصلي، وإدخال الهمزة عليه للتعجب، فإن المتعارف بين الناس أنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه: أرأيت ما حدث لي؟

ويقفوان آثرهما. قال البقاعي: إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة عليها. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي وجد موسى وفتاه عند الصخرة في مجمع البحرين حين عادا إليها عبدا صالحا من عباد الله، قال الأكثرون: إن ذلك العبد هو الخضر، وكان مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟! وقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً يدل على أن تلك العلوم حصلت له من عند الله من غير وساطة. فقال: أنا موسى، قال: موسى بن إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أصحبك وأرافقك لتعلمني مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح؟ وهذا سؤال تلطف وأدب، لا إلزام فيه ولا إجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. فأجابه الخضر: قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى: إنك لن تقدر على مصاحبتي، ولن تطيق صبرا ما تراه مني لأني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علمكه لا أعلمه، وكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، فلا تقدر على صحبتي. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي وأؤكد لك أنك لن تصبر على شيء تراه مني، ولم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة وحقيقة أمره التي اطلعت أنا عليها دونك. فقوله: خُبْراً أي لم يحط به خبرك، ولم تلمّ بوجه الحكمة فيه وطريق الصواب. قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي قال موسى: ستجدني بمشيئة الله صابرا على ما أرى من أمورك، ولا أخالفك في شيء.

قصة السفينة:

قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي قال الخضر شارطا على موسى بقوله: إن سرت معي، فلا تسألني عن أمر يحدث، حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني. قصة السفينة: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها أي فانطلق موسى وصاحبه مع الخضر، انطلقا يمشيان على ساحل البحر، يطلبان سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلّما أصحابها أن يركبا فيها معهم، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير أجر، تكرمة للخضر، فلما ركبوا وسارت بهم السفينة في وسط البحر، قام الخضر بخرقها بفأس، مستخرجا لوحا من ألواحها، ثم رقعها. قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي لم يتمالك موسى عليه السلام نفسه وقال منكرا عليه: أخرقتها لتغرق «1» أهلها، أي ليصير الخرق سببا في إغراق أهلها، لقد جئت شيئا عظيما منكرا. قالَ: أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى: ألم أقل سابقا لك يا موسى: إنك لن تتمكن من الصبر معي على ما ترى مني من أفعال. قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي اعتذر موسى للخضر قائلا: لا تؤاخذني بنسياني، أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة، ولا تكلفني أمرا شاقا عسيرا علي، أي لا تعسر علي متابعتك، ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.

_ (1) اللام لام العاقبة أو الصيرورة، لا لام التعليل. [.....]

قصة الغلام:

قصة الغلام: فَانْطَلَقا، حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ أي ثم خرجا من السفينة، وسارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما- وهذا يشمل الشاب البالغ- يلعب مع الغلمان، فقتله بفتل عنقه أو بضرب رأسه بالحائط، أو بغير ذلك، فقال موسى: أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب، طيبة لم تخطئ، بغير قتل نفس أي بغير قصاص؟ وخص موسى هذه الحالة من مبيحات القتل لأنها أكثر وقوعا. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي لقد أتيت شيئا منكرا. والنكر في حال القتل أعظم قبحا من الإمر في حال خرق السفينة لأن قتل النفس أعظم جرما من خرق السفينة إذ قد لا يحصل الغرق. فقه الحياة أو الأحكام: هذه رحلة موسى بن عمران نبي بني إسرائيل مع فتاه يوشع عليهما السلام للقاء العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام، لتعليمه التواضع في العلم، وأنه وإن كان نبيا مرسلا، فقد يكون بعض العباد أعلم منه. وفي هذا من الفقه: رحلة العالم لطلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء، وإن بعدت أقطارهم، كما كان دأب السلف الصالح. ونفع هذه القصة بوجه خاص في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار: هو أن موسى عليه السلام، مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه، ذهب إلى الخضر، لطلب العلم مع التواضع له، وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر. ونفع هذه القصة مع قصة أصحاب الكهف: هو أن اليهود قالوا لكفار

مكة: إن أخبركم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن هذه القصة فهو نبي، وإلا فلا، مع أنه لا يلزم من كونه نبيا من عند الله تعالى أن يكون عالما بجميع القصص والوقائع، كذلك لم يمنع كون موسى عليه السلام نبيا صادقا من عند الله أن يأمره الله بالذهاب إلى الخضر، ليتعلم منه. ودل قوله: آتِنا غَداءَنا على تعليم الناس اتخاذ الزاد في الأسفار، ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى، فهذا موسى نبي الله وكليمه قد اتخذ الزاد، مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد. وكان انقلاب الحوت حيا معجزة لموسى عليه السلام، وعلامة على مكان وجود العبد الصالح، لذا قال موسى فرحا لما أخبره فتاه بالأمر: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى لفتاه: أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا إليه موجود هناك. والعبد الصالح على الصحيح هو الخضر، وهو نبي في رأي جماعة كثيرين بدليل ما يأتي «1» : 1- أنه تعالى قال: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي النبوة لقوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف 43/ 32] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص 28/ 86] . 2- قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 148، تفسير القرطبي: 11/ 16.

3- قال موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم. والراجح أن الخضر لم يكن نبيا وإنما هو عبد صالح كما قرر علماء الكلام (التوحيد) . والاستدلال بهذه الأدلة ضعيف، أما الدليل الأول: فلا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة، فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء. وأما الدليل الثاني: إن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله، وذلك لا يدل على النبوة. وأما الدليل الثالث: فلا مانع يمنع النبي من اتباع غير النبي في العلوم التي لا تتعلق بالنبوة. ودل قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً على أن المتعلم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه لأن الفضل لمن فضله الله، فإن كان الخضر وليا فموسى أفضل منه، وإن كان نبيا فموسى فضله الله بالرسالة. ولقد كان موسى عليه السلام محقا في إنكاره على العبد الصالح لأن الأنبياء لا يقرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير، لذا علّق صبره على ما يحدث من أمر في المستقبل على مشيئة الله، وأنه لا يدري كيف يكون حاله، لا أنه عزم الصبر على المعصية. وقد ذكر الرازي في قول موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر، ذكر منها اثني عشر نوعا، منها: أنه جعل نفسه تبعا له، واستأذن في هذه التبعية، وأقر على نفسي بالجهل بقوله تُعَلِّمَنِ وعلى أستاذه بالعلم، وصرح بأنه يطلب الإرشاد والهداية. وكان قول الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، تأديبا وإرشادا لما يقتضي دوام

الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض، فتعين الفراق. وفي خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، كأن يخاف ظالما على ما يملكه، فيخرّب بعضه. وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض. وفي قول موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، ولو نسي مرة ثانية له أن يعتذر أيضا. وقتل النفس أشد من خرق السفينة، لذا قال موسى في القتل: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً وقال في الخرق لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً والنكر أعظم قبحا من الإمر، كما تقدم. وكان عتاب الخضر في المرة الثانية أشد، لقوله أَلَمْ أَقُلْ لَكَ وزيادة لَكَ لزيادة التأنيب والتقريع على عدم الصبر في المرة الثانية. ويأتي تمام القصة وما يستنبط منها في الجزء التالي بمشيئة الله. تم هذا الجزء ولله الحمد

تتمة قصة موسى مع الخضر [سورة الكهف (18) الآيات 75 إلى 82] :

[الجزء السادس عشر] [تتمة سورة الكهف] تتمة قصة موسى مع الخضر [سورة الكهف (18) : الآيات 75 الى 82] قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الإعراب: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قرئ لَاتَّخَذْتَ بالتشديد، وبالتخفيف. لَاتَّخَذْتَ. وأدخل اللام على الفعل الذي هو جواب لَوْ. مِنْ لَدُنِّي بالتشديد والتخفيف. وكذا أَنْ يُبْدِلَهُما بالتشديد والتخفيف.

البلاغة:

هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع. والإضافة في بَيْنِكَ إضافة بين إلى غير متعدد: سوغها تكراره بالعطف بالواو. غَصْباً منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ زَكاةً رُحْماً منصوبان على التمييز. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول لأجله. البلاغة: أَمَّا السَّفِينَةُ وَأَمَّا الْغُلامُ وَأَمَّا الْجِدارُ لف ونشر مرتب بعد ذكر ركوب السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار. كُلَّ سَفِينَةٍ فيه إيجاز بالحذف، أي صالحة، لدلالة أَعِيبَها عليه، وكذا وَأَمَّا الْغُلامُ حذف منه لفظ الكافر، لدلالة قوله تعالى: فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ. أَبَواهُ أي أبوه وأمه، بطريق التغليب. يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ استعارة لأن الإرادة من صفات العقلاء، وإسنادها إلى الجدار استعارة ومجاز. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفَأَرَدْنا وفَأَرادَ رَبُّكَ: أسند ما ظاهره شر لنفسه، وأسند الخير إلى الله تعالى، على سبيل الأدب مع الله تعالى. المفردات اللغوية: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.. زاد لَكَ هنا على ما تقدم لعدم العذر بعد التنبيه، ووسما له بقلة الثبات والصبر، مع سبق التذكير أول مرة، فاحتاج إلى الإنكار عليه بما هو أشد مرة ثانية عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي إن سألت صحبتك بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي، أي لا تجعلني صاحبا قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قد وجدت عذرا من قبلي، لما خالفتك ثلاث مرات، في مفارقتك لي. أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية، كما روي عن ابن عباس، أو الأبلّة: أبلة بصرة، أو الناصرة، والواقع لا دليل يوثق به على صحة تعيين القرية. اسْتَطْعَما أَهْلَها طلبا منهم الطعام بضيافة أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي ينزلوهما أضيافا، مأخوذ من ضيّفه وقرئ: يُضَيِّفُوهُما مأخوذ من أضافه، أي أنزله ضيفا. جِداراً حائطا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ يداني أو يقرب أن يسقط لميلانه، فاستعيرت

المناسبة:

الإرادة للمشارفة، كما أستعير لها الهم والعزم فَأَقامَهُ الخضر بعمارته، أو بعمود عمده به، وقيل: مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس، وقيل: نقضه وبناه، وهو الشائع. لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً جعلا، حيث لم يضيفونا، مع حاجتنا إلى الطعام، وهو تحريض على أخذ الجعل للارتفاق والانتعاش به، وتعريض بأنه فضول واشتغال بما لا يعنيه. قالَ: هذا فِراقُ أي قال له الخضر: هذا وقت الفراق بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ قبل فراقي لك لِمَساكِينَ عشرة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يعملون بها مؤاجرة لها، طلبا للكسب وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أمامهم الآن، أو خلفهم إذا رجعوا عليه، وكان رجوعهم عليه، واسمه: جلندي بن كركر، أو منوار بن جلندي الأزدي، وهو ملك كافر يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْباً من أصحابها، منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ. أَنْ يُرْهِقَهُما أن يغشاهما طُغْياناً وَكُفْراً لنعمتهما بعقوقه، فيلحقهما شرا، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، أو يصيبهما بالعدوى فيرتدا بإضلاله، جاء في حديث مسلم: «طبع كافرا، ولو عاش لأرهقهما ذلك، لمحبتهما له، يتبعانه في ذلك» قيل: اسم المقتول: خيسور. خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وتقى وَأَقْرَبَ رُحْماً أقرب منه رحمة، وهي البر بوالديه، فأبدلهما تعالى فتاة تزوجت نبيا، فولدت نبيا، فهدى الله تعالى به أمة. وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما الكنز: المال المدفون من ذهب وفضة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً كان أبو الغلامين تقيا صالحا، فأكرمهما الله بصلاحه في أنفسهما ومالهما. قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، واسمه كاشح أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي إيناس الرشد، وكمال الرأي، قيل: اسمهما: أصرم وصريم رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي مرحومين من ربك، وهو مفعول لأجله، عامله: أراد وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي ما فعلت ما ذكر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، باختياري، بل بأمر إلهام من الله ما لَمْ تَسْطِعْ، أي تستطع، يقال: اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، فجمع بين اللغتين. المناسبة: الكلام واضح الصلة بما قبله، فهو في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى النبي، كما أنه تعالى أعطى موسى بن العلم ما لم يعلّمه الخضر. وهذا أي قتل الغلام هو الحادث الثاني بعد خرق السفينة الذي

التفسير والبيان:

اختبر فيه الخضر صبر موسى، ولم يصبر لمخالفته ظاهر شريعته لأن القتل لا يكون إلا لأجل القصاص بالنفس، مع أنه قد يكون لسبب آخر. التفسير والبيان: قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى الذي خالف الشرط: ألم أخبرك أنك لا تتمكن من احتمال ما أفعله، ولن تسكت على ما أقوم به. ويلاحظ أنه زاد هنا لفظ لَكَ على ما سبق لأن سبب العتاب أوضح وأقوى بعد التذكير المتقدم، وتكرر المخالفة من موسى للعهد أو الشرط الذي التزمه، وإن كان قتل الغلام الوضيء الجميل الحسن الذي كان يلعب مع الغلمان في قرية أعظم جرما وأقبح من خرق السفينة، لذا قال موسى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً والنكر أعظم من (الإمر) في القبح. وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن إتلاف النفس أخطر من إتلاف المال. فاعتذر موسى عليه السلام بقوله: قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قال موسى للخضر: إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل، أو هذه المرة، فلا تجعلني صاحبا لك، قد أعذرت إلي مرة بعد مرة، حيث أكون قد خالفتك إلى الآن مرتين. وهذا كلام نادم شديد الندامة. روى ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا ذكر أحدا، فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .

والحادث الثالث هو: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي فانطلق الخضر وموسى يمشيان بعد المرتين الأوليين، حتى إذا وصلا إلى قرية، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما، فرفضوا ذلك وأبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من الضيافة. وهذا إخلال بالمروءة، واتصاف بالبخل والشح، وتلك القرية هي أنطاكية. فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ أي وجد الخضر وموسى في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط، فردّه الخضر كما كان، جاء في الحديث الصحيح: أنه مسحه بيده فإذا هو قد استقام. وهذا من كراماته. وإسناد الإرادة هنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة كما تقدم، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض: هو السقوط، والأول من أفعال العقلاء والثاني من خواص الجمادات ونحوها. فعند ذلك قال موسى للخضر: قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي قال موسى للخضر: ليتك تطلب أجرة على إقامة الجدار وإصلاحه، فإنه نظرا لأنهم لم يضيفونا، كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا، فأجابه الخضر: قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي قال الخضر لموسى عليهما السلام: هذا الإنكار أو الاعتراض المتكرر سبب الفراق بيننا أو المفرّق بيننا، بحسب الشرط الذي قبلته على نفسك، فقد قلت بعد قتل الغلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي. وسأخبرك بتفسير وبيان وجه الأفعال التي أنكرتها، ولم تطق صبرا عليها، وهي خرق السفينة،

وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا عتاب ولوم على عدم الصبر. ثم ذكر الخضر سبب ما أقدم عليه من الأمور الثلاثة: 1- أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي إن السفينة التي خرقتها لأعيبها، فكانت مملوكة لضعفاء أيتام ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فأردت بخرقها ونزع لوح منها أن أعيبها لأنه كان أمامهم ملك جبار ظالم يستولي على كل سفينة صالحة غير معيبة، ويغتصبها ظلما وعدوانا دون وجه حق، فكان عملي حماية لهذه السفينة لأصحابها الضعفاء، فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين لدفع أعظمهما. روى ابن جريج عن شعيب الجبائي: «أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد» وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق. ويلاحظ أن المراد بقوله وَراءَهُمْ أمامهم، كقوله تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية 45/ 10] وقوله تعالى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر 76/ 27] . 2- وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أي وأما الولد الغلام الذي قتلته، وكان اسمه شمعون أو حيثور أو حيسون، فإنه كان كافرا، وقد أطلعني الله على مستقبله، وكان أبواه مؤمنين، فخشينا إذا صار كبيرا أن يحملهما حبه على متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان والمنكرات لأن حب الولد غريزة. وهذا من قبيل سد الذرائع وفتحها، فإن كل ما كان وسيلة إلى المصلحة فهو مصلحة. قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي

لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وصح في الحديث: «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» وقال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 2/ 216] . فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً أي قال الخضر العالم: فأردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه دينا وصلاحا وطهارة من الذنوب، وأقرب رحمة لوالديه، وعطفا عليهما، وبرا بهما وشفقة عليهما. ويلاحظ أن الغلام يشمل البالغ والصغير، ويرى الجمهور أن هذا الغلام لم يكن بالغا، لذا قال موسى: نفسا زكية أي لم تذنب. وقال الكلبي: كان بالغا. 3- وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وأما الحائط الذي أصلحته، فكان لولدين صغيرين يتيمين في قرية هي أنطاكية، وكان تحته كنز، أي مال جسيم مدفون، وكان أبوهما وهو الأب السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز (وكان مالا) مدفونا حفظا لمالهما، ولصلاح أبيهما، فأمرني ربي بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف وأخذ، وأراد الله أن يبلغ الغلامان كمالهما وتمام نموهما، ويستخرجا الكنز من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، رحمة لهما، بصلاح أبيهما. والمراد بالمدينة هي القرية المذكورة سابقا: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ وهو دليل على إطلاق القرية على المدينة. والظاهر أن الغلامين كانا صغيرين بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي: «لا يتم بعد احتلام» . ويلاحظ أنه هنا أسند الإرادة إلى الله تعالى لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله. وأما في السفينة، فأسند الفعل إلى الخضر العالم، فقال تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها كما أن الأدب يقضي إسناد الخير إلى الله، والشر إلى العباد.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي إن ما فعلته من الأمور الثلاثة لم يكن باجتهادي ورأيي، ولكنه بأمر الله وإلهامه ووحيه، فالإقدام على ذلك كله من الاعتداء على المال والنفس وإصلاح الجدار، وهو لا يكون إلا بالوحي والنص القاطع. وذلك المذكور هو تفسير ما ضاق صبرك عنه، ولم تطق السكوت عنه، ولم تصبر حتى أبيّن لك السبب والحكمة فيه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن الأحداث الثلاثة التي فعلها الخضر كانت من قبيل اختيار أهون الشرين، وأخف الضررين، وتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وهو معنى قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، فهي وإن كانت مستنكرة في الظاهر، وحقّ لموسى عليه السلام إنكارها والاعتراض عليها، فهي خير في الحقيقة والواقع، وذلك لا يتسنى لأحد ادعاؤه بغير وحي صريح، وأحكام العالم والنبي في غير حال الوحي تنبني على ظواهر الأمور، وفي حال الوحي تنبني على الأسباب الحقيقية الواقعية. والوحي لا يحصل إلا لنبي أو رسول، والجمهور كما تقدم على أن الخضر كان نبيا لأن قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يدل على نبوته لأن بواطن الأفعال لا تكون إلا بوحي ولأن الإنسان لا يتعلم ولا يتّبع إلا من فوقه، وليس فوق النبي من ليس بنبي. ويرى آخرون أن الخضر لم يكن نبيا، وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال: كان نبيا لأن إثبات النبوة

لا يجوز بأخبار الآحاد، وهذا هو المحقق في كتب العقائد، والمراد بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي الإلهام وليس الوحي. 2- إن ترك الضيافة المندوبة شرعا من المستقبح عرفا وعقلا وشرعا، وقد تصبح أمرا واجبا في حال تعرض الجائع للهلاك، ولعل موسى والخضر عليهما السلام كانا في حالة جوع شديد، وإن لم يبلغا حد الهلاك، مما سوغ الغضب الشديد لدى موسى. 3- قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها دليل على جواز سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يسد جوعه، والاستطعام: سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة لقوله تعالى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فاستحق أهل القرية لذلك أن يذمّوا، وينسبوا إلى اللوم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة. وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء. 4- إن ضرر المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة جدار أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام، وفيه ضرر شديد. وتسوية الجدار تمت بإعادة بنائه، ذكر ابن الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه «قرأ: فَوَجَدا فِيها جِداراً، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ثم قال: فهدمه ثم قعد يبنيه» وهذا الحديث صحيح السند جار مجرى التفسير للقرآن. وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه، فقام. قال القرطبي: وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء.

5- واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحت جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارّا عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مرّ أحدكم بطربال «1» مائل، فليسرع المشي» ذكره ابن الأثير في النهاية. 6- كرامات الأولياء ثابتة، بدليل الأخبار الثابتة والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد، فالآيات: مثل ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء، وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، ومثل ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وهذا على رأي من قال: إنه ليس نبيا. 7- هل يجوز أن يعلم الوليّ أنه ولي أو لا؟ قولان للعلماء: أحدهما- أنه لا يجوز، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بحذر وحيطة، لأنه لا يأمن أن يكون استدراجا له، ولأنه لو علم أنه وليّ، لزال عنه الخوف من الله، وحصل له الأمن من عذابه، ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصّلت 41/ 30] ولأن الولي: من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة، ولا يدري أحد ما يختم له به ولهذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الأصبهاني عن ابن عباس: «وإنما الأعمال بخواتيمها» . القول الثاني- أنه يجوز أن يعلم أنه ولي إذ لا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه وليّ الله تعالى، فجاز له أن يعلم ذلك، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حال العشرة المبشرين بالجنة من أصحابه: أنهم من أهل الجنة، ولم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله تعالى، وأشد خوفا وهيبة، فغيرهم مثلهم.

_ (1) الطربال: القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل.

8- لا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة (عقارات) يصون بها وجهه وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم، مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. وأما حديث الترمذي عن ابن مسعود: «لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا» فمحمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله، فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» . 9- تمّ خرق السفينة وتعييبها لحفظها لأصحابها المساكين (المحتاجين المتعيشين بها في البحر) من اغتصاب ملك ظالم عات لكل سفينة صالحة، وقد احتج الشافعي بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سمّاهم مساكين، مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة. 10- حدث قتل الغلام بسبب كفره حتى لا يتأثر به أبواه، ويميلا إلى دينه، بسبب محبتهما الفطرية له، وقد أبدلهما الله خيرا منه زكاة، أي دينا وصلاحا، وأقرب رحما، أي أقرب رحمة وعطفا وشفقة عليهما. 11- إن صلاح الآباء يفيد الأبناء حتى الجيل السابع لأن أب الغلامين كان هو الأب السابع، كما قال جعفر بن محمد. وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته، وعلى هذا يدل قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف 7/ 196] . 12- قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يقتضي أن الخضر نبي، وقال جماعة: لم يكن نبيا، وهو الأصح. واسم الخضر: إيليا بن ملكان بن قالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكنيته أبو العباس، وكان أبوه ملكا. وأمه كانت بنت فارس، واسمها ألمى، ولدته في مغارة.

وذهب الجمهور إلى أن الخضر مات لقوله عليه الصلاة والسلام: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» «1» . وقالت فرقة: إنه حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض، وأنه يحج البيت. قيل: إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني، قال: كن بسّاما ولا تكن ضحّاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران. 13- لا تثبت الأحكام الشرعية إلا بالوحي أو برؤيا الأنبياء، ولا يصح القول بأن الأحكام تثبت للأولياء بالإلهام في قلوبهم، وما يغلب عليهم من خواطر، لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، وفتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم، واستدلوا بحديث رواه البخاري في التاريخ عن وابصة: «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون» . قال أبو العباس المالكي: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب لأنه إنكار ما علم من الشرائع فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم لمبلغون عنه رسالته وكلامه، المبيّنون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج 22/ 75] وقال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124]

_ (1) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنت منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد» .

وقال تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة 2/ 213] إلى غير ذلك من الآيات. وقال القرطبي: وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك: أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو مما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي» «1» . 14- لهذه القصة فوائد أدبية رفيعة مجملها: أن يكون المرء متواضعا غير معجب بعلمه، وأن يلتزم بعهده، فلا ينقضه ويعترض على ما لم يعرف سره، وألا يتعجل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بطلب إنزال العقوبة بالمشركين الذين كذبوه وأنكروا رسالته واستهزءوا به وبكتابه، فهم معاقبون هالكون في الدنيا والآخرة. وتتكرر حوادث القصة مع مرور الزمان، فلا يعترض الإنسان على موت غلام صغير، فقد يكون موته خيرا له ولوالديه، كما أن وقائع الموت المتكررة رحمة بالمجتمع، فلو لم يمت كبار السن وغيرهم لضاقت الأرض بالمواليد المتجددة يوميا. وخرق السفينة يذكرنا بتسلط الظلمة على أموال الضعفاء، وهدم الجدار وإقامته لون من ألوان توفير الثروة المنتظرة ليتيم أو ضعيف من الإله الرحيم

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 40- 41. والرّوع: القلب أو العقل. والحديث رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة، وهو ضعيف.

قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج [سورة الكهف (18) الآيات 83 إلى 99] :

بعباده الضعفاء، وفيه مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن أهل القرية الذين أبوا الضيافة قابلهم الخضر بحسن الصنيع، وهذه سمة الأنبياء والأولياء المقربين من ربهم. وكل هذه الوقائع من فعل الله تعالى، وما الخضر وأمثاله إلا وسطاء بين الناس لتنفيذ أمر الله تعالى. قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 99] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)

الإعراب:

الإعراب: مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي كيف شاء، فحذف المفعول به. وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ: تَغْرُبُ جملة فعلية، حال من هاء وَجَدَها ووجدها: بمعنى أصابها. وليست هنا بمعنى علم، فلو كانت كذلك، لكانت الجملة مفعولا ثانيا لوجد لأن (وجد) بمعنى (علم) تتعدى إلى مفعولين. إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ ... أن وصلتها: إما في موضع نصب بفعل مقدر، كقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد 47/ 4] وإما على تقدير مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: إما العذاب واقع منك فيهم، وإما اتخاذ أمر ذي حسن واقع فيهم، فحذف الخبر لطول الكلام بالصلة. فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى جَزاءً منصوب على المصدر في موضع الحال، والعامل فيه: له، أي ثبتت الحسنى له جزاء. وقيل: تمييز منصوب. ومن قرأ بالرفع: (جزاء) جعله مبتدأ، وله: خبره، أي فله جزاء الخصال الحسنى، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. والْحُسْنى مضاف إليه مجرور. ويجوز جعله بدلا مرفوعا من جَزاءً والأصل فيه التنوين، وحذفه لالتقاء الساكنين، كما حذف التنوين من أَحَدٌ في قوله تعالى: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص 112/ 1- 2] وقرئ: (جزاء) بالنصب من غير تنوين. لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَوْلًا مفعول به. وقرئ يفقهون أي يفقهون الناس قولا، فحذف المفعول الأول، وبقي قَوْلًا المفعول الثاني، ويجوز حذف أحد المفعولين لأن هذا فعل متعد.

البلاغة:

أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً منصوب بأفرغ عند البصريين لا ب آتُونِي لأن أُفْرِغْ أقرب من آتُونِي فكان إعماله أولى لأن القرب له أثر في قوة العمل. وذهب الكوفيون إلى أن العامل فيه آتُونِي. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ بمعنى استطاعوا. قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي إنما قال: هذا، ولم يقل: هذه لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، والتأنيث غير الحقيقي يجوز فيه التذكير، ولأن الرحمة بمعنى الغفران، فذكّره حملا على المعنى، والتذكير بالحمل على المعنى كثير في كلام العرب. البلاغة: مَطْلِعَ ومَغْرِبَ بينهما طباق. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً تشبيه بليغ، أي كالنار في الحرارة وشدة الاحمرار، حذفت أداة الشبه ووجه التشبيه. يَمُوجُ فِي بَعْضٍ استعارة تبعية في الفعل يَمُوجُ شبههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعض، بموج البحر المتلاطم. أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى بينهما مقابلة. المفردات اللغوية: وَيَسْئَلُونَكَ أي اليهود أو مشركو مكة. عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قيل في رأي ضعيف: هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني، وقيل: الرومي، ملك فارس والروم، وقيل: ملك المشرق والمغرب، لكن الإسكندر كافر، والأصح أنه رجل صالح حكم الدنيا غير الإسكندر، وهو على التحقيق الملك الفارسي الصالح «قورش» ولذلك سمي ذا القرنين، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، وقيل: كان له قرنان، أي ضفيرتان، وقيل: كان لتاجه قرنان، ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته، ومع الاتفاق على إيمانه وصلاحه، لم يكن على الأصح نبيا. سَأَتْلُوا سأقص. عَلَيْكُمْ مِنْهُ من حاله. ذِكْراً خبرا مذكورا، وهو القرآن. قيل: ملك الدنيا. مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: نمروذ وبختنصر. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ سهلنا له السير فيها وجعلناه قادرا على التصرف فيها كيف شاء. مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه. سَبَباً طريقا يوصله إلى مراده من علم أو قدرة أو إرادة. فَأَتْبَعَ سَبَباً طريقا نحو الغرب، أي فأراد بلوغ المغرب، فاتبع سببا يوصله إليه. مَغْرِبَ الشَّمْسِ موضع غروبها. فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة، وهي الطين الأسود، وغروبها في

العين الحمئة هو في مجرد رأي العين، وإلا فهي أعظم من الدنيا وأكبر، كما هو معروف. وَوَجَدَ عِنْدَها عند تلك العين الحمئة. قَوْماً كافرين. قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ أي ألهمناه بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان. إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ القوم بالقتل على كفرهم. وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي أمرا ذا حسن بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيّر بين القتل والأسر. قالَ أي ذو القرنين مختارا الدعوة. أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالشرك والإصرار على الكفر. فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ نقتله. نُكْراً أي منكرا فظيعا، أو شديدا في النار. فَلَهُ في الدارين. الْحُسْنى أي الجنة، أو المثوبة وهو مبتدأ، خبره فَلَهُ وجزاء: حال أي مجزيا بها، ومن قرأ: فله جزاء الحسنى، فالإضافة للبيان أي المثوبة الحسنى. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً اليسر: السهل الميسر غير الشاق، أي نأمره بما يسهل عليه. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً نحو المشرق. مَطْلِعَ الشَّمْسِ موضع طلوعها. تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم الزنج. مِنْ دُونِها من دون الشمس. سِتْراً من اللباس أو البناء أو السقف لأن أرضهم لا تتحمل الأبنية، ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس، ويظهرون عند ارتفاعها. كَذلِكَ أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من بلوغه المشرق والمغرب. وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي وقد اطلعنا علما على ما عند ذي القرنين من الآيات والجند وغيرهما، مما يتعلق بظواهره وخفاياه، والمراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب، آخذا من الجنوب إلى الشمال. بَيْنَ السَّدَّيْنِ بين الجبلين المبني بينهما سدة، وهما جبلا أرمينية وأذربيجان، وقيل: جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع بلاد الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج. مِنْ دُونِهِما أمامهما. يَفْقَهُونَ قَوْلًا يفهمون قولا إلا بعد بطء، أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتلعثمهم. قالُوا أي مترجموهم. إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما اسمان أعجميان لقبيلتين، فهما ممنوعان من الصرف، وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح. يأجوج: هم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما من أب واحد يسمى ترك وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وتنتهي غربا ببلاد التركستان. مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالنهب والبغي والقتل والتخريب عند خروجهم إلينا، قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه. وقيل: كانوا يأكلون الناس، والأصح أن يأجوج ومأجوج قوم جبارون أشداء، يمر أوائلهم على بحيرة طبرية، يبعثهم الله في عهد نزول عيسى، كما جاء في صحيح مسلم وشرحه للنووي 18/ 68. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا من المال نتبرع به من أموالنا، وقرئ: (خراجا) والخراج: ما لزم أداؤه. سَدًّا حاجزا، فلا يصلون إلينا. ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي من المال

المناسبة:

وغيره. خَيْرٌ من الخرج الذي تجعلونه لي، فلا حاجة بي إليه، وأجعل لكم السد تبرعا. فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس التي أطلبها منكم. رَدْماً أي حاجزا حصينا، وهو أكبر من السد وأوثق. زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعه، جمع زبرة كغرفة، وهي القطعة العظيمة أو الكبيرة التي يبنى بها، فبنى بها وجعل بينها الحطب والفحم. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو، والصدفان: واحدها صدف وهو جانب الجبل. قالَ للعمال. انْفُخُوا بالكيران في زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين، فنفخوا. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي الحديد. ناراً كالنار اشتغالا وتوهجا. قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً نحاسا مذابا، أي صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمي، فالتصق بعضه ببعض، وسد فجوات الحديد، وصار جبلا صلدا وشيئا واحدا. فَمَا اسْطاعُوا أي يأجوج ومأجوج. أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته. وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً خرقا لصلابته وسمكه. قالَ: هذا قال ذو القرنين: هذا السد، أي بناؤه وتسويته. رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي أثر رحمة أو نعمة على عباده لأنه مانع من خروجهم. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقت وعده بقيام الساعة، أو وقت خروج يأجوج ومأجوج من وراء السد. جَعَلَهُ دَكَّاءَ أو دكا مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض. أطلق المصدر وأريد اسم المفعول، ودكه: بهدمه منهم أو من غيرهم. وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي وكان وعد ربي بخروجهم وغيره كائنا لا محالة. وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الضمير عائد إلى يأجوج ومأجوج. يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون مما وراء السد، يموجون، بعضهم في بعض، ويختلطون مع بعضهم لكثرتهم، مزدحمين في البلاد. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي القرن لقيام الساعة أو البعث. فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي جمعنا الخلائق في مكان واحد يوم القيامة للحساب والجزاء. المناسبة: سبق لدينا عند بيان سبب نزول قصة أصحاب الكهف، أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، وعن الروح، والمشهور أن السائلين قريش. وذو القرنين: هو الإسكندر اليوناني، كما ذكر ابن إسحاق، وقال وهب: هو رومي، وهو خطأ.

التفسير والبيان:

وهذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وردت بعد قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحبي الجنة، وقصة أمر الملائكة بالسجود لآدم وإباء إبليس. التفسير والبيان: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي ويسألك اليهود وقريش يا محمد عن خبر ذي القرنين، سؤال اختبار وتعنت، فقل لهم: سأخبركم عنه خبرا مذكورا في القرآن بطريق الوحي المتلو المنزّل علي من ربي. وقد تقدم أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف. وذو القرنين: قيل: هو إسكندر بن فيلبس المقدوني اليوناني «1» الذي ملك الدنيا بأسرها قبل الميلاد بنحو 330 سنة باني الإسكندرية، وتلميذ أرسطو الفيلسوف المعلّم الأول، حارب الفرس، واستولى على ملك دارا وتزوج ابنته، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك، ثم حكم مصر، وإنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، فغلب على أكثر البلاد شرقا وغربا، قال الشوكاني: «وهذا مشكل لأنه كان كافرا وتلميذ أرسطو» والظاهر أنه عبد صالح أعطاه الله ملكا واسعا، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي إنا أعطيناه ملكا عظيما، ومكّناه فيه من جميع ما يؤتى الملوك من السلطة المطلقة المدعمة بالجنود

_ (1) والصحيح أنه أبو كرب الحميري، واسمه أبو بكر بن إفريقش، من الدولة الحميرية (من سنة 115 ق. م- 552 ب. م) التي يسمّى ملوكها بالتبابعة جمع تبّع. والصحيح المروي عن ابن عباس أن ذا القرنين كان ملكا صالحا، انظر مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 8/ 216.

وآلات الحرب والعلم، وأقدرناه على التصرف بحيث يصل إلى جميع أنحاء المملكة، ومهّدنا له من الأسباب والوسائل التي تمكّنه من السيطرة وبسط النفوذ أين شاء وكيف شاء، فملك مشارق الأرض ومغاربها، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العرب والعجم. فقوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه أعطيناه من كل ما يتعلق بمطلوبه طريقا يتوصل بها إلى ما يريده، وهذه الطرق هي: 1- فَأَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي فاتّبع طريقا من الطرق التي تؤديه إلى مراده، حتى إذا وصل نهاية الأرض من جهة المغرب التي ليس بعدها إلا البحر المحيط، وهو بحر الظلمات أو المحيط الأطلسي، سائرا في بلاد المغرب: تونس والجزائر ومرّاكش، فوجد الشمس تغرب في عين كثيرة الحمأة، أي الطين الأسود، وهذا ما يلاحظ من غياب قرص الشمس على ساحل المحيط المختلط بالرمال والطينة السوداء. قال الرازي: إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة، وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا، فنقول: تأويل قوله تعالى: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب، ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر، إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، وهذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره «1» . ثم ذكر تأويلات أخرى بعيدة القبول.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 166

وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي وجد في أقصى المغرب عند تلك العين الحمئة قوما كفّارا وأمة عظيمة من بني آدم، فقلنا له بالإلهام: أنت مخير فيهم بين أمرين: إما أن تعذبهم بالقتل إن أصروا على الكفر، وإما أن تحسن إليهم وتصبر عليهم، بدعوتهم إلى الحق والهدى والرشاد، وتعليمهم الشرائع والأحكام. قالَ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي قال ذو القرنين لبعض حاشيته: أما من ظلم نفسه بالإصرار على الشرك، ولم يقبل دعوتي، فسنعذبه بالقتل في الدنيا، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذابا منكرا شنيعا في نار جهنم. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي وأما من آمن بالله ووحدانيته وصدّق دعوتي، وعمل عملا صالحا مما يقتضيه الإيمان، فجزاؤه الجنة، وسنطلب منه أمرا ذا يسر غير صعب ولا شاقّ، ليرغب في دين الله، ويحب فعل أوامر الله من صلاة وصيام وزكاة وخراج ونحوها، فلا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل الميسر. 2- ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أي ثم سلك طريقا آخر متجها من مغرب الشمس إلى مشرقها، حتى إذا وصل الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمور الأرض، وجدها تطلع على قوم حفاة عراة، لا شيء يسترهم من حر الشمس، لا من اللباس، ولا من البيوت والمباني والأشجار، وإنما يعيشون في مفازة لا مأوى فيها، ولا شجر، وأكثر معيشتهم من السمك. كَذلِكَ، وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من قبل من اتباع الأسباب، حتى بلغ المشرق والمغرب، وقد علمنا حين ملكناه

ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به، ونحن مطلعون على جميع أحواله، لا يخفى علينا منها شيء، كما في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [آل عمران 3/ 5] أي فهو كما وصف، مما لا يعلمه إلا عالم الغيب والشهادة. 3- ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب متجها من الشرق إلى الشمال، حتى إذا وصل بين الجبلين بين أرمينية وأذربيجان، وجد من ورائهما قوما من الناس لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ونباهتهم. هؤلاء القوم من الصقالبة (السلاف) الذين يسكنون شرقي البحر الأسود، في سد منيع بين جبلين قرب مدينة «باب الأبواب» أو «دربت» بجبل قوقاف، اكتشفه السياح في القرن الحاضر. قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي قال سكان السد بين الجبلين، وقد فهم كلامهم ذو القرنين بتيسير الله الأسباب التي أعطاها له: أو بواسطة الترجمان: إن يأجوج ومأجوج- وهما قبيلتان من الناس- يفسدون في أرضنا بالقتل والتخريب والظلم والغشم وسائر وجوه الإفساد. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي فهل توافق على أن نعطيك جعلا أو ضريبة من أموالنا، على أن تجعل بيننا وبينهم حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟ ويرى المراغي- وليس صحيحا- أنهم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما

من أب واحد يسمى «ترك» وكانوا يسكنون شمال آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وغربا إلى الباكستان. ومنهم الداهية الرحالة «تموجين» الذي لقب نفسه «جنكيز خان أي ملك العالم» الذي ظهر في أوائل القرن السابع الهجري في آسيا الوسطى، فأخضع الصين الشمالية، ثم أخضع بجبروته قطب الدين بن أرميلان من السلاجقة ملك خوارزم، ثم خلفه ابنه «أقطاي» وأغار ابن أخيه «باتو» على بلاد الروس سنة 723 هـ- ودمر بولونيا والمجر، ثم قام مقامه «جالوك» فحارب الروم، ثم خلفه ابن أخيه «منجو» فقام أخوه «كيلاي» بالاستيلاء على الصين، وأخوه «هولاكو» بالاستيلاء على البلاد الإسلامية وإسقاط بغداد مقر الخلافة العباسية في عهد الخليفة المستعصم بالله، أواسط القرن السابع الهجري 656 هـ-. وأما السد الذي أقامه ذو القرنين، وشاهده بعض المؤرخين في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي: فهو وراء جيحون في عمالة «بلخ» واسمه «باب الحديد» قرب «ترمذ» وقد اجتازه تيمور لنك، ومرّ به «شاه رخ» مع العالم الألماني «سيلد برجر» ووصفه المؤرخ الإسباني «كلافيجو» في رحلته سنة 1403 م الذي الذي كان رسولا من ملك «قشتالة» بالأندلس إلى تيمورلنك، وقال: إن سد «باب الحديد» على الطريق الموصل بين سمرقند والهند «1» . قالَ: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً قال ذو القرنين: ما مكنني فيه ربي، وآتاني من سعة الملك والقدرة ووفرة المال، خير من خرجكم ومما تجمعون، كما قال سليمان عليه السلام: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل 27/ 36] .

_ (1) تفسير المراغي: 16/ 13- 15

ولكن ساعدوني بقوة، أي بعمل الرجال وآلات البناء، أجعل بينكم وبينهم سدّا منيعا وحاجزا حصينا، ثم أوضح المراد من القوة بقوله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ: انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي قدّموا لي قطع الحديد، فلما جاؤوا بها، أخذ يبني بها بين الجبلين، فيضع بعضها على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا على هذه الزّبر (القطع) بالكيران، حتى صار كله نارا مشتعلة متوهجة، ثم صب النحاس المذاب على الحديد المحمّى، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أي ما قدر يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من أسفله، لصلابته وشدّته. وأراح الله منهم الشعوب المجاورة لفسادهم وسوئهم. وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين: قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم أو بالناس لحيلولته بين يأجوج ومأجوج وبين الفساد في الأرض، فإذا حل أجل ربي بخروجهم من وراء السد، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه وخروج يأجوج ومأجوج وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة. وتم فعلا خروج جنكيز خان وسلالته، فعاثوا في الأرض فسادا في الشرق والغرب، ودمروا معالم الحضارة الإسلامية، وأسقطوا الخلافة العباسية سنة 656 هـ-.

أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: استيقظ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نومه، وهو محمر وجهه، وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلّق، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» . وقد اتسعت الحلقة حتى كبرت في منتصف القرن السابع الهجري، بخروج التتر والمغول، واجتياح البلاد الإسلامية، وتدمير صرح الخلافة الإسلامية وإسقاطها في بغداد سنة 656 هـ-، كما حكى القرآن في قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي وتركنا بعض الناس يوم خروج يأجوج ومأجوج يضطرب ويختلط مع بعض آخر، فيكثر القتل، وتفسد الزروع، وتتلف الأموال، كما أخبر تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء 21/ 96] . وذلك كله قبل قيام القيامة وقبل النفخ في الصور بزمن غير معلوم لنا. ويرى مفسرون آخرون أن معنى الآية: أنهم يضطربون ويختلطون كموج البحر يوم القيامة، في أول أيامها. ورجح القرطبي القول بأنه تركنا يأجوج ومأجوج وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. وإذا اقترب موعد القيامة نفخ في الصور، وهي النفخة الثانية، وجمعنا الناس جمعا بأن أحييناهم بعد تلاشي أبدانهم وصيرورتها ترابا، وأحضرناهم إلى المحشر والحساب جميعا، كما في آيات أخرى، منها: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة 56/ 49- 50] ومنها: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف 18/ 47] . والصور كما جاء في الحديث الثابت: قرن ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- إن ذا القرنين أحد الملوك المؤمنين الذين ملكوا الدنيا وسيطروا على أهلها، فقد آتاه الله ملكا واسعا، ومنحه حكمة وهيبة وعلما نافعا، ونحن لا نقطع بمعرفته بالذات، ولا نؤمن إلا بالقدر الذي حكاه القرآن المجيد. روي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وإسكندر، والكافران: نمروذ وبختنصّر. قال ابن إسحاق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتي ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلّط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق. 2- هيّأ الله تعالى لذي القرنين الأسباب التي توصله إلى مراده، وأخبرنا عن وقائع ثلاث حدثت له في المغرب والمشرق والوسط. أما في مغرب الشمس فقد وجد قوما كافرين، فخيّره الله بين أمرين: إما التعذيب بالقتل والإبادة جزاء كفرهم وطغيانهم، وإما الاستبقاء والإرشاد إلى الحق والهدى وتوحيد الله، فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة إلى الله، وأقام فيهم مدة ردع فيها الظالم، ونصر المظلوم، وأقام العدل، ودعا إلى الله تعالى. وأما في المشرق فوجد قوما بدائيين يعيشون في بقعة رملية لا يستقر فيها بناء، ولا يستترون فيها بظل شجر أو سقف بيت، قال الحسن البصري: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم. وقال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، كانوا في مكان لا يستقر عليه

بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم، يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها. والقولان يدلان على ألا مدنية هناك، وربما يكون منهم من يدخل في الماء، ومنهم من يدخل في السّرب، فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة. وهذا تأريخ لحال جماعة بدائية تعيش على صيد الأسماك، دون ستر ولا مأوى، مما يستوجب على أهل المدينة شكر النعمة العظمى على العيش بأمان وارتياح تحت ظلال الأشجار وفي ردهات المنازل. وأما رحلة ذي القرنين إلى الشمال بين الشرق والغرب وبين السدين وهما جبلان بين أرمينية وأذربيجان، فكانت إنقاذا لشعب مقهور مستضعف يتعرض لغارات القبائل المتوحشة، فيفسدون في الأرض، فبنى لهم سدا منيعا حصينا حماهم من تلك الموجات الغازية، وأعلمهم أن بقاءه مرهون بإرادة الله. وهذا مثل فيه عبرة للدول القوية التي يجب عليها المحافظة على الشعوب الضعيفة، والإبقاء على ثرواتها دون أخذ شيء منها، منعا من الاسهام في إضعافها، وأخذا بيدها نحو الأفضل، وإغاثتها وإنقاذها من التخلف والضياع، فإن ذا القرنين ملك الدنيا أبى أن يأخذ شيئا من أموال أولئك الأقوام، بالرغم من بناء السد الحصين. 3- قال القرطبي: في هذه الآية (آية السد) دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون، أو يكفلون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه «1» . 4- إن أهل الصلاح والإخلاص يحرصون على إنجاز الأعمال ابتغاء وجه الله،

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 59

دون انتظار مقابل أو عوض دنيوي من الناس، فإن ذا القرنين الذي أيده الله قال: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي بالرجال وعمل الأبدان والآلة التي أبني بها السد (الردم) . وهذا بداية النجاح في العمل، فإن القوم لو جمعوا له خرجا، لم يعنه أحد، ولتركوه يبني، فكان عونهم أسرع في إنجاز العمل وإنجاح المشروع. 5- تدل الآية أيضا: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ على أن من واجب الملك أو الحاكم أن يقوم بحماية الخلق في حفظ ديارهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم، بشروط ثلاثة هي: الأول- ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني- أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم. الثالث- أن يسوّي في العطاء بينهم على قدر منازلهم. فإذا احتاج الحاكم إلى دعم رعيته، بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، ويؤخذ بقدر الحاجة من أموالهم، وتصرف بتدبير، فهذا ذو القرنين أبى أخذ شيء من أموال القوم، قائلا: إن الأموال عندي والرجال عندكم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمر: أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر «1» . 6- إن الحديد والنحاس من مرتكزات الصناعة الثقيلة قديما وحديثا، فقد كانا أداة بناء السد المنيع على يد ذي القرنين، وهما الآن المادة الأساسية في الصناعات المختلفة الحربية والسلمية.

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 60

جزاء الكفار [سورة الكهف (18) الآيات 100 إلى 106] :

جزاء الكفار [سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 106] وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) الإعراب: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ بدل من (الكافرين) . أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل فَحَسِبَ وأَنْ يَتَّخِذُوا أن وصلتها في موضع نصب، سدت مسد مفعولي فَحَسِبَ. وعِبادِي مفعول أول ليتخذوا، وأَوْلِياءَ مفعول ثان. بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا تمييز منصوب، وجمع التمييز ولم يفرد: إشارة إلى أنهم خسروا في أعمال متعددة، لا في عمل واحد. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ خبر لمحذوف، أو بدل، أو منصوب على الذم ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر، وجَهَنَّمُ عطف بيان للخبر.

البلاغة:

البلاغة: كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي استعارة تمثيلية، شبه إعراضهم عن الآيات الكونية وعدم النظر فيها، وبالتالي عدم الإيمان. بمن ألقى غطاء على عينيه، على سبيل التمثيل. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام يراد به التوبيخ والتقريع. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً جناس ناقص أو جناس التصحيف لتعير الشكل وبعض الحروف. المفردات اللغوية: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أبرزناها وأظهرناها لهم فِي غِطاءٍ أي غشاوة محيطة بها عَنْ ذِكْرِي أي القرآن، أو الآيات الموصلة إلى ذكري بتوحيدي وتمجيدي وتعظيمي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي لا يقدرون استماعا لذكري وكلامي، بغضا له، وصمما عن الحق، فلا يؤمنوا به إذ لا استطاعة بهم للسمع. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أظنوا، والاستفهام للإنكار أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي أي الملائكة والمسيح عيسى وعزير مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أربابا، المعنى: أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني، ولا أعاقبهم عليه؟ كلا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من هؤلاء وغيرهم نُزُلًا ما يقام للنزيل، أي هي معدة لهم كالمنزل المعد للضيف. وفيه تهكم. بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا جمع التمييز وهو: أَعْمالًا لتنوع أعمالهم الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ بطل وضاع عملهم لكفرهم وعجبهم وَهُمْ يَحْسَبُونَ يظنون يُحْسِنُونَ صُنْعاً عملا يجازون عليه، لعجبهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم على الحق. كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالقرآن، أو بدلائله الدالة فيه على التوحيد والنبوة وَلِقائِهِ بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، أو لقاء عذابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي لا نجعل لهم قدرا، وإنما نزدريهم. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ أي الأمر الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وغيره، هو جزاؤهم هُزُواً هزؤا، أي مهزؤا بهما. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أنه بنفخ الصور يوم القيام، يقوم الناس من قبورهم، ثم يجمعون في صعيد واحد للحساب والجزاء، ذكر أنه حينئذ يظهر

التفسير والبيان:

النار للكافرين، وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين، ويظن الكافرون أن اتخاذهم معبودات من دون الله ينجيهم من عذابه، ولكن حبطت أعمالهم وبطلت، وصارت عديمة النفع بسبب كفرهم. والحاصل: أن الله تعالى يخبر عما يفعله بالكفار يوم القيامة، من عرض جهنم عليهم، أي إبرازها وإظهارها لهم، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولهم، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، ويخبر تعالى أيضا أنه لا يقام لهم وزن أو قدر، وأن أعمالهم قد أحبطت وضاعت بسبب كفرهم. التفسير والبيان: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً أي أظهرنا جهنم وأبرزناها إبرازا واضحا للكفار بالله بعد النفخة الثانية في الصور، حتى يشاهدوا أهوالها، يوم جمعنا لهم. وأوصاف الكفار هي: 1- التعامي وإبعاد السمع عن الحق: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي إن عذاب جهنم لأولئك الذين تغافلوا وتعاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، ولم ينظروا في آيات الله ولم يتفكروا فيها، حتى يتوصلوا إلى توحيد الله وتمجيده، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] وكانوا لا يطيقون سماع ذكر الله الذي بيّنه لهم في كتابه، ولا يعقلون عن الله أمره ونهيه. والخلاصة: إنهم تعاموا عن مشاهدة آي الله بالأبصار، وأعرضوا عن الأدلة السمعية المذكورة في كتاب الله، كما قال تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] وقال سبحانه: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت 41/ 5] .

2- عبادة معبودات من دون الله: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أي أفطن أو اعتقد الذين كفروا بي، واتخذوا أولياء أي معبودات من دوني كالملائكة والمسيح والشياطين أن ذلك ينفعهم، أو يدفع عنهم العذاب؟ كلا، لا تنفعهم تلك المعبودات، وسيظهر لهم خطؤهم، كما قال تعالى: كَلَّا، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 82] لذا أخبر تعالى عن عذابهم قائلا: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي إنا أعددنا وهيأنا لهؤلاء الكافرين بالله جهنم يوم القيامة منزلا ينزلون به، كما يعدّ النزل للضيف، بسبب اتخاذهم أولياء (أي معبودين) من دوني، وهذا تهكم بهم، وتخطئة لحساباتهم. 3- الجهل والغباء: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي قل لهم يا محمد: هل نخبركم أيها الناس بأشد الناس خسرانا لأعمالهم وخطأ في حسابهم؟ هم الذين ضلوا في الحياة، فعملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مرضية مقبولة، وأتعبوا أنفسهم فيما لا نفع فيه، فهلكوا وضيعوا ثمار أعمالهم، وهم قوم مخدوعون بما هم عليه، يظنون أنهم محسنون في ذلك العمل، منتفعون بآثاره، مقبولون محبوبون. والآية توبيخ شديد لهم، مفادها الموجز: قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا، فهم الأخسرون أعمالا. وسبب خسارة أعمالهم هو ما قال الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي إن أولئك الأخسرين أعمالا هم الذين جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التكوينية والتنزيلية الدالة على توحيده، وكفروا وكذبوا بالبعث والحساب ولقاء الله وما بعده من أمور الآخرة، فحبطت وبطلت أعمالهم

فقه الحياة أو الأحكام:

التي عملوها مما يظنونه حسنا، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] فلا يقام وزن لأعمالهم ولا يكون لهم عندنا قدر، ولا نعبأ بهم، ولا ثواب على تلك الأعمال لأنها خالية من الخير. وحينئذ يكون جزاؤهم العادل على كفرهم ومعاصيهم جهنم لقوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي إن ذلك الوعيد والجزاء على أعمالهم الباطلة في نار جهنم إنما هو بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله، وسخريتهم من رسل الله ومن معجزاتهم، فإنهم استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب. والهزء: الاستخفاف والسخرية. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- إثبات البعث والحشر، بجمع الجن والإنس في ساحات القيامة بالنفخة الثانية في الصور. 2- إبراز جهنم إبرازا ظاهرا واضحا للكفار بعد الحشر بسبب عدم النظر في دلائل الله تعالى على وجوده ووحدانيته، وعدم إطاقتهم سماع كلام الله تعالى، فهم بمنزلة العمي والصمّ. وفي هذا نوع من العقاب النفساني المؤلم بسبب ما ينتابهم حينئذ من الغم والكرب العظيم. 3- يخطئ الكفار حين يظنون أن اتخاذهم معبودين من دون الله، كعيسى وعزير والملائكة ينفعهم يوم القيامة، وأن الله لا يعاقبهم على ذلك، كلا، فإن الله أعد لهم جهنم منزلا ومأوى. 4- إن أشد الناس خسارة يوم القيامة هم الذين ضل سعيهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا في عبادة من سوى الله، فهم الأخسرون أعمالا، روى

البخاري عن مصعب قال: سألت أبي: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية (أي الخوارج) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين. والحقيقة أن الآية تشمل جميع أهل الضلال سواء من أهل الكتاب أو من المشركين. 5- في هذه الآية: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ.. دلالة على أن من الناس من يعمل العمل، وهو يظن أنه محسن، وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي: إما فساد الاعتقاد أو المراءاة. 6- إن سبب خسارة أعمال أهل الضلال هو الكفر بآيات الله وبالبعث، وهذا يشمل مشركي مكة عبدة الأوثان، وأهل الكتاب أيضا لأن إيمان هؤلاء بالبعث مشوّة غير صحيح. 7- إن عقاب هؤلاء الضالين على أعمالهم الباطلة ثلاثة أنواع: إحباط الأعمال، وإهدار الكرامة والاعتبار، والعذاب في نار جهنم، فلا ثواب على أعمالهم ولا نفع فيها، ولا يقيم الله عز وجل لهم وزنا، ويصلون جهنم، قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشّروب، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. وهذا في حكم المرفوع، وقد ثبت معناه في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . والمعنى: أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار.

جزاء المؤمنين وسعة معلومات الله وتوحيده [سورة الكهف (18) الآيات 107 إلى 110] :

8- كرر الله تعالى ذكر سبب العذاب لهؤلاء الكفار للتأكيد، فأخبر بأن جزاءهم جهنم بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله وتكذيبهم رسل الله، وإنكارهم معجزات الأنبياء. جزاء المؤمنين وسعة معلومات الله وتوحيده [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) الإعراب: خالِدِينَ فِيها حال. لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا حِوَلًا مفعول لا يَبْغُونَ أي لا يطلبون ولا يتمنون عنها متحولا. وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً مَدَداً تمييز. أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أن: المكفوفة بما: باقية على مصدريتها، والمعنى: يوحى إلي وحدانية الإله. المفردات اللغوية: كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من علم الله وحكمه ووعده الْفِرْدَوْسِ أعلى درجات الجنان وأوسطها، والإضافة إليه للبيان، وأصله: البستان الذي يجمع أشجار الفاكهة نُزُلًا منزلا لا يَبْغُونَ لا يطلبون حِوَلًا تحولا إلى غيرها إذ لا يجدون أطيب منها، حتى تنازعهم إليه أنفسهم لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً أي لو كان ماء البحر ما يكتب به من الحبر، وأصله: ما يمدّ به

سبب النزول:

الشيء، كالحبر للدواة لِكَلِماتِ رَبِّي لكلمات علمه وحكمته ومعلوماته غير المتناهية، بأن تكتب به لَنَفِدَ الْبَحْرُ في كتابتها تَنْفَدَ تفرغ وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل البحر مَدَداً زيادة فيه، لنفد، ولم تفرغ هي. أَنَا بَشَرٌ آدمي يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ يأمل ويطمع حسن لقائه بالبعث والجزاء. والرجاء: تأمل شيء سارّ في المستقبل، ولِقاءَ رَبِّهِ هو البعث وتوابعه. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يرتضيه الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أي بأن يرائي في عبادته، أو يطلب منه أجرا. سبب النزول: نزول الآية (109) : قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ: أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وقالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة، فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية. نزول الآية (110) : فَمَنْ كانَ يَرْجُوا: أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئا، حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً خبر مرسل، وأخرجه الحاكم في المستدرك موصولا عن طاوس عن ابن عباس، وصححه على شرط الشيخين (البخاري ومسلم) . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان رجل من المسلمين يقاتل، وهو يحب أن يرى مكانه، فأنزل الله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية.

المناسبة:

وأخرج أبو نعيم وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس قال: قال جندب بن زهير: إذا صلى الرجل، أو صام، أو تصدق، فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس له، فنزلت في ذلك: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ما أعد للكافرين، ذكر ما أعد للمؤمنين، ثم ختم السورة ببيان سعة علم الله واتساع معلوماته وأنها غير متناهية، والاعلام ببشرية النبي ومماثلته لبقية الناس في ذلك، وأن علمه مستمد من الوحي الإلهي، والتنبيه على الوحدانية، والحض على ما فيه النجاة في الآخرة. قال البيضاوي: والآية جامعة لخلاصة العلم والعمل، وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة، بالبعد عن الرياء وهو الشرك الأصغر أو الخفي. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أصداد صفات الكافرين الذين ذكروا قبل المؤمنين، فيقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا أي إن السعداء هم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا صالح الأعمال من إقامة الفرائض والتطوعات، ابتغاء رضوان الله، لهم جنات الفردوس (وهي أعلى الجنة وأوسعها وأفضلها) منزلا معدّا لهم، مبالغة في إكرامهم. والفردوس في كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وفي اللغة الرومية: البستان. جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة» .

خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي مقيمين ساكنين فيها على الدوام، لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، ولا يريدون تحولا عنها. أخرج أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة، كل درجة منها ما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومن فوقها يكون العرش، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس» . ثم يخبر الله تعالى عن عظمة شأن القرآن وسعة علم الله، فيقول: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي قل أيها الرسول لهم: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وكان ماء البحر حبرا للقلم الذي يكتب به، والقلم يكتب، لنفد البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك، ولو جيء بمثل البحر آخر وآخر وهكذا لنفد أيضا، ولم تنفد كلمات الله. وهذا دليل على كثرة كلمات الله، وسعة علم الله وحكمته وأسراره، بحيث لا تضبطها الأقلام والكتب. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان 31/ 27] . وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ ... الآية، يقول: لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كجنة من خردل في خلال الأرض كلها.

وروي أن حييّ ين أخطب اليهودي قال: في كتابكم: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقرؤون: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي أنه يعترض بوجود التناقض، فنزلت هذه الآية، يعني أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله. وبعد بيان كمال كلام الله، أمر تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع فقال: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي قل يا محمد لهم: ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية، ليس لي صفة الملكية أو الألوهية، ولا علم لي إلا ما علمني الله، إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، فلا شريك له في ألوهيته، فمعبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو معبود واحد لا شريك له. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي فمن آمن بلقاء الله، وطمع في ثواب الله على طاعته، فليتقرب إليه بصالح الأعمال، وليخلص له العبادة، وليجتنب الشرك بعبادة الله، أحدا من مخلوقاته، سواء أكان شركا ظاهرا كعبادة الأوثان، أم شركا خفيا كفعل شيء رياء أو سمعة وشهرة، والرياء: هو الشرك الأصغر، كما في حديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟» . وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يرويه عن ربه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك» .

فقه الحياة أو الأحكام:

قال الرازي: أورد تعالى في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات: أولها- قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ. وثانيها- قوله: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. وثالثها- قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ولا بيان أقوى من ذلك «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- للمؤمنين بالله ورسله الذين يعملون صالح الأعمال جنات الفردوس التي هي أعلى الجنان، وهم خالدون دائمون فيها، لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. 2- لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يحصر كلمات الله تعالى وعلمه وحكمته وأسراره، ولو كانت البحار والمحيطات وأمثالها دون تحديد حبرا يكتب به. قال ابن عباس: قالت اليهود، لما قال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالوا: وكيف، وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً.. الآية. 3- أمر الله رسوله بالتواضع، وبإعلان صفة البشرية وأنه لا امتياز له على غيره بشيء من الصفات، وأنه لا يعلم إلا ما علّمه الله تعالى، وعلم الله لا يحصى، إلا أن الله تعالى أمره بأن يبلّغ غيره بأن لا إله إلا الله. 4- دلت الآية: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ على مطلوبين:

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 177

الأول- أن كلمة إنما تفيد الحصر، وهي قوله: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. والثاني- أن كون الإله تعالى إلها واحدا يمكن إثباته بالأدلة السمعية. 5- إن المؤمن بربه الذي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه يجب عليه أن يعمل العمل الصالح المرضي لله، وألا يشرك بالله أحدا في عبادته. قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، قال: يا رسول الله، إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد به وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطّلع عليه سرّني فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن الله طيّب، ولا يقبل إلا الطيّب، ولا يقبل ما شورك فيه» فنزلت الآية. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا..» . والآية عامة في جميع الأعمال من عبادة وجهاد وصدقة وغيرها، وموضوعها إخلاص العمل لله عزّ وجلّ. سئل الحسن البصري عن الإخلاص والرياء فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك، ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول: هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكّر قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا [المؤمنون 23/ 60] ، يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم. وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا قيل له: كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله والدار الآخرة، فهو رياء.

سورة مريم:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة مريم مكية، وهي ثمان وتسعون آية. تسميتها: سميت «سورة مريم» لاشتمالها على قصة حمل السيدة مريم، وولادتها عيسى عليه السلام، من غير أب، وأصداء ذلك الحمل، وما تبعه ورافق ولادة عيسى من أحداث عجيبة، من أهمها كلامه وهو طفل في المهد. مناسبتها لما قبلها: اشتملت السورتان على قصص عجيبة، فسورة الكهف اشتملت على قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة، بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من المثيرات، وقصة ذي القرنين. وسورة مريم فيها أعجوبتان: قصة ولادة يحيى بن زكريا عليه السلام حال كبر الوالد وعقم الوالدة أي بين شيخ فان وعجوز عاقر، وقصة ولادة عيسى عليه السلام من غير أب. ما اشتملت عليه السورة: موضوع السورة كسائر السور المكية هو إثبات وجود الله ووحدانيته، وإثبات البعث والجزاء من خلال إيراد قصص جماعة من الأنبياء، على النحو التالي:

1- افتتحت السورة بقصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام، من أب شيخ كبير وأم عاقر لا تلد، ولكن بقدرة الله القادر على كل شيء، خلافا للمعتاد، وإجابة لدعاء الوالد الصالح، وأعقبه الخبر بإيتاء يحيي النبوة في حال الصبا، الآيات [1- 15] . 2- أردف ذلك قصة ولادة عيسى من مريم العذراء، من غير أب، لتكون دليلا آخر على القدرة الربانية. وقد أثار ذلك موجة من النقد واللوم والتعنيف، خفف منها كلام عيسى وهو طفل في المهد، تبرئة لأمه، ووصف نفسه بصفات النبوة والكمال. واقترن المخاض بحدثين غريبين: هما نداء عيسى أمه حين الولادة بألا تحزن، فقد جعل الله عندها نهرا، وأمرها بهز النخل أخذا بالأسباب لإسقاط الرطب، الآيات [16- 36] . وأحدثت هذه الولادة اختلافا بين النصارى في شأن عيسى، الآيات [37- 40] . 3- انتقلت الآيات بعدئذ إلى بيان جانب من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، ومناقشته أباه في عبادة الأصنام، وإكرام الله له بهبته- وهو كبير، وامرأته سارّة عاقر- ولدا هو إسحاق ومن بعده ابنه يعقوب وجعلهما نبيين، كما حدث فعلا من ولادة إسماعيل قبل ذلك، وإبراهيم شيخ كبير بعد دخوله على زوجته هاجر، الآيات [41- 50] . 4- ثم تحدثت السورة عن قصة موسى ومناجاته ربه في الطور، وجعل أخيه هارون نبيا، الآيات [51- 53] . 5- ثم أشارت إلى قصص إسماعيل الموصوف بصدق الوعد وإقامة الصلاة

فضلها:

وإيتاء الزكاة، وإدريس الصدّيق النبي، وما أنعم الله به على أولئك الأنبياء من ذرية آدم لإثبات وحدة الرسالة بدعوة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك الآيات [54- 58] . وما سبق كله يشمل حوالي ثلثي السورة. 6- قورن الخلف بالسلف، وبان الفرق بأن الخلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وجدد الوعد بجنات عدن لمن تاب وعمل صالحا [59- 63] . 7- ناسب ذلك الكلام عن الوحي، وأن جبريل لا ينزل بالوحي إلا بإذن ربه، الآيات [64- 65] . 8- ناقش الله المشركين الذين أنكروا البعث، وأخبر بحشر الكافرين مع الشياطين، وإحضارهم جثيا حول جهنم، وبأن جميع الخلق ترد على النار [66- 72] . 9- أبان الله تعالى موقف المشركين حين سماع القرآن من المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا ومجتمعا. وهددهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم السابقة بسبب عتوهم واستكبارهم، وأنه يمدّ للظالمين ويمهلهم، ويزيد الهداية للمهتدين، وأن معبودات المشركين ستكون أعداء لهم [73- 84] وذلك كله لتنزيه الله عن الولد والشريك. 10- التمييز بين حشر وفد المتقين إلى الجنان، وسوق المجرمين إلى النيران [85- 87] . 11- التنديد بمن ادعى الولد لله، والرضا عن المؤمنين الصالحين، وأن القرآن لتبشير المتقين وإنذار الكافرين المعاندين [88- 98] . فضلها: روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن

دعاء زكريا عليه السلام طالبا الولد وبشارته بيحيى [سورة مريم (19) الآيات 1 إلى 11] :

ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. دعاء زكريا عليه السلام طالبا الولد وبشارته بيحيى [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) الإعراب: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نادى رَبَّهُ ذِكْرُ إما مبتدأ محذوف الخبر، أي فيما يملى عليكم ذكر رحمة ربك، وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هذا ذكر رحمة ربك. وذِكْرُ مصدر مضاف إلى المفعول وهو رَحْمَتِ ورحمة: مصدر مضاف إلى الفاعل، وعَبْدَهُ مفعول منصوب بالمصدر المضاف وهو رَحْمَتِ رَبِّكَ. وزَكَرِيَّا بدل من عَبْدَهُ. وإِذْ نادى إِذْ منصوب على الظرف متعلق بذكر.

البلاغة:

شَيْباً تمييز منصوب، أو منصوب لأنه مصدر، والأول أظهر. بِدُعائِكَ مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف، أي ولم أكن بدعائي إياك. يَرِثُنِي إما مجزوم على جواب الأمر، وهو في الحقيقة جواب شرط مقدر، أي هب لي إن تهب لي يرث، وإما مرفوع على أنه صفة لقوله: وَلِيًّا أي فهب لي من لدنك وليا وارثا. والوجهان هما في قوله: رِدْءاً يُصَدِّقُنِي. عِتِيًّا منصوب ببلغت، وهو مصدر «عتا» . قالَ: كَذلِكَ الكاف: خبر مبتدأ محذوف، أي قال الأمر كذلك سَوِيًّا حال من ضمير تُكَلِّمَ. أَنْ سَبِّحُوا إما مفسّرة بمعنى «أي» وإما مخففة من الثقيلة، أي أنه سبّحوا. البلاغة: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم. اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً استعارة تبعية، شبه انتشار الشيب باشتعال النار في الحطب، وأستعير الاشتعال للانتشار، وهذا من أحسن الاستعارة وأبدعها في كلام العرب. نادى نِداءً جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: كهيعص حروف مقطعة قصد بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع في أول الكلام مثل ألا ويا وغيرهما، كما قصد بها التحدي للعرب في الإتيان بمثل القرآن المكون من حروف اللغة العربية التي يتكلمون ويخطبون ويكتبون بها. زَكَرِيَّا من ولد سليمان بن داود عليهم السلام، وكان نجارا نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا أي دعاه سرا في جوف الليل لأنه أسرع للإجابة، واختلف في سنه حينئذ فقيل 60، أو 70، أو 75، أو 85، أو 99 وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف جميعه بسبب الكبر وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أي صار الشيب منتشرا في شعره، كما تنتشر النار في الحطب وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ أي وإني أريد أن أدعوك، ولم أكن بدعائي إياك شَقِيًّا خائبا غير مستجاب الدعوة فيما مضى، فلا تخيبني فيما يأتي.

قصة زكريا عليه السلام:

الْمَوالِيَ هم عصبة الرجل، الذين يلونه في النسب، كبني العم. مِنْ وَرائِي بعد موتي، وخوفي منهم على الدين أن يضيعوه، كما شاهدته في بني إسرائيل من تبديل الدين وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقرة، أي عقيمان فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ من عندك وَلِيًّا ولدا من صلبي مِنْ آلِ يَعْقُوبَ جدي في العلم والنبوة، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان، وكان زكريا زوجا لخالة مريم رَضِيًّا أي مرضيا عندك. لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي مسمى بيحيى، فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله أَنَّى كيف عِتِيًّا من عتا: أي يبس، يبست مفاصله وعظامه، قيل: كان عمره: مائة وعشرين سنة، وبلغت امرأته ثمانية وتسعين سنة، وقرئ: عسيّا بمعنى عتيا قالَ: كَذلِكَ أي الأمر كذلك من خلق غلام منكما في هذه السن هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قبل خلقك، بل كنت معدوما صرفا. وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء. آيَةً علامة أعلم بها وقوع ما بشرتني به ثَلاثَ لَيالٍ أي بأيامها، بدليل ذكر الأيام في سورة آل عمران: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. سَوِيًّا أي سوي الخلق سليم الجوارح بلا علة، ما بك من خرس ولا بكم الْمِحْرابِ المصلّى وكانوا ينتظرون فتحه، ليصلوا فيه بأمره على العادة فَأَوْحى أشار، أو أومأ سَبِّحُوا صلوا أو نزهوا ربكم، والمتفق عليه أنه أراد بالتسبيح الصلاة بُكْرَةً وَعَشِيًّا طرفي النهار، أوائل النهار وأواخره على العادة، أي صلاة الفجر وصلاة العصر، فعلم من امتناعه من الكلام حمل زوجته بيحيى. قصة زكريا عليه السلام: ذكر زكريا في القرآن الكريم ثماني مرات، في الآيتين [37، 38] من آل عمران، وفي الأنعام الآية [85] ، وفي مريم الآيتان [2، 7] ، وفي الأنبياء الآية [89] . وكان لزكريا أبي يحيى شركة في خدمة الهيكل، فهو (لاوي) وكانت مريم التي نذرتها والدتها لخدمة الهيكل من نصيب زكريا وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا. وكان زكريا زوجا لخالة مريم أو لأختها. ولما رأى زكريا إكرام الله تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، دعا أن يرزقه الله تعالى الولد: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قالَ:

التفسير والبيان:

رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ [آل عمران 3/ 38] ، فاستجاب الله دعاءه، وبشرته الملائكة بيحيى، وقد كان في سن الشيخوخة وامرأته عاقر: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَسَيِّداً، وَحَصُوراً، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران 3/ 39] فتعجب زكريا من البشرى قائلا: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ، قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وفي سورة مريم: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قالَ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [8- 9] . ووالده اسمه (برخيا) ويلاحظ أنه يوجد شخص آخر اسمه (زكريا بن برخيا) له كتاب قانوني عند النصارى، وكان في زمن (داريوس) قبل زمن المسيح عليه السلام بما يقرب من ثلاثة قرون «1» . التفسير والبيان: كهيعص تقرأ هكذا: كاف، ها، يا، عاين، صاد بإدغام نون عاين في الصاد، ويتعين في الكاف والصاد منها المدّ المطول ست حركات بثلاث ألفات، ويتعين في الهاء والياء المد الطبيعي حركة واحدة بألف واحدة، ويجوز في العين المد المطول وقصره بحركتين بمقدار ألفين. والمراد بهذه الحروف المقطعة التنبيه في أول الكلام على ما يأتي بعدها، وتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه، ما دام الكلام القرآني مركبا من حروف الهجاء العربية التي يتركب منها الكلام العربي نثرا وخطابة وشعرا. ولا يصح القول بأن هذه الأحرف مبهمات أو تشير إلى أسرار معينة أو أنها

_ (1) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 368.

علم (اسم) أو وصف لأنه كما قال الرازي: لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة، لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطنا، واللغة لا تدل على ما ذكروه، فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الملائكة أو الجنة أو النار، فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكما لا تدل عليه اللغة أصلا «1» . ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا أي هذا المتلو ذكر رحمة ربك الذي نقصه عليك عبده زكريا، الذي كان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل، وزوجته خالة عيسى عليه السلام، وأنه- كما في صحيح البخاري- كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة، حين دعا ربّه دعاء خفيّا مستترا، إخلاصا وبعدا عن الرياء، ولئلا ينسب في طلب الولد- وهو عجوز كبير- إلى الرعونة، ويكون محل اللوم والتهكم من قومه. والمراد بذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها وإجابة الله دعاء زكريا وهو: قالَ: رَبِّ، إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي قال زكريا: يا ربّ، لقد صرت فاتر العظام، ضعيف القوى، هرما كثير الشيب جدا، ولم أعهد منك إلا إجابة الدعاء، ولم تردّني قط فيما سألتك، فما كنت خائبا، بل كلما دعوتك استجبت لي، وإني خفت أقاربي العصبات من بني العم ونحوهم إهمال أمر الدين وتضييعه بعد موتي، فطلبت ولدا نبيا من بعدي يحرس بنبوته شأن الدين والوحي، وكانت امرأتي (وهي أخت حمنة أم مريم) عاقرا لا تلد. واسم امرأته: إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، أخت حمنة بنت فاقوذا، وعلى هذا يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 179.

ويلاحظ أنه ذكر مسوغات ثلاثة لدعائه، تستدعي العطف والرحمة والشفقة، وهي: 1- ضعف البدن باطنا وظاهرا، أي ضعف العظام وظهور الشيب. 2- كونه مستجاب الدعاء، فلم يكن في وقت من الأوقات خائبا، بل كان كلما دعا ربه أجابه. 3- خوفه من ورثته من ضياع الدين وما يوحى إليه بعد موته، ولم يكن خوفه من إرث المال، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من الإشفاق على ماله، ولأنه لم يكن ذا مال، وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده، ولأنه كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» وفي رواية الترمذي: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» ويكون ميراث الأنبياء هو وراثة النبوة أو العلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي فامنحني وأعطني من جنابك وواسع فضلك وليا يلي أمر الدين، يكون ولدا من صلبي يرثني النبوة، وهذا ما أراده وإن لم يصرح به، ويرث ميراث آل يعقوب وهي وراثة العلم والنبوة على الراجح لا وراثة المال، كما تقدم، فيرث ما عندهم من العلم، ويقوم برعاية أمورهم في الدين، واجعله يا رب برّا تقيا مرضيا عندك في أخلاقه وأفعاله، ترضاه وتحبه أنت ويرضاه عبادك ويحبونه، ليكون أهلا لحمل رسالة الدين وتعليمه وتبليغه وإقامة شعائره. ونظير الآية: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ [آل عمران 3/ 38] ، وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء 21/ 89] . ويعقوب: هو إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب لأنها

من ولد سليمان بن داود، وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. فأجاب الله دعاءه، كما قال تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي فاستجاب الله دعاءه وناداه من جهة الملائكة: يا زكريا إنا نبشرك بمنحتنا لك غلاما اسمه يحيى (معرّب يوحنا، وهو يوحنا المعمدان الذي كان يعمّد الناس) لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم. وقال مجاهد: لم يجعل له شبيها ولا مثلا ولا نظيرا، أخذه من معنى قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم 19/ 65] ، أي شبيها. وقال ابن عباس: «لم تلد العواقر قبله مثله» . وهذا دليل على أن زكريا وامرأته عاقران لا يولد لهما، بخلاف إبراهيم وسارّة عليهما السلام، فإنهما تعجبا من البشارة بإسحاق، لكبرهما، لا لعقرهما، فقد ولد لإبراهيم قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة. فتعجب زكريا من هذه البشارة سائلا: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا تعجب زكريا عليه السلام حين أجيب دعاؤه، وفرح فرحا شديدا، وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها وكبره، فتساءل متأثرا بالأحوال المعتادة لا مستبعدا قدرة الله تعالى: كيف يكون لي ولد، وامرأتي عاقر لا تحبل ولا تلد، وقد كبرت وضعفت؟ فقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا معناه: انتهى سنه وكبر ونحل عظمه وفقد القدرة على جماع النساء. فأجابه الله تعالى بقوله:

قالَ: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي قال الله تعالى من جهة الملك مجيبا زكريا عما تعجب منه: الأمر كما قلت، سنهب لك ولدا بالرغم من العقم والهرم، هو علي سهل ميسور، إذا أردت شيئا قلت له: كن فيكون، وقد خلقتك ابتداء وأوجدتك من العدم المحض، ولم تك شيئا قبل ذلك، فإيجاد الولد بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه. وهذا دليل على القدرة الإلهية الفائقة، فإنه تعالى يسهل عليه كل شيء، وقد قرر هنا أن الأمر سهل يسير عليه، وذكر ما هو أعجب مما سأل عنه زكريا، بحسب تقدير الناس، والحقيقة أن الأمرين على قدرة الله سواء، فسيان خلق الإنسان من العدم أو من طريق التوالد، ومن قدر على خلق الذات، فهو قادر على تبديل الصفات، فيعيد الله إليه وإلى زوجته القدرة على الإنجاب، كما قال: فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء 21/ 90] . ثم أخبر الله تعالى عن طلب آخر لزكريا هو تعرف وقت طلوع المبشر به، فقال: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي قال زكريا: يا رب اجعل لي علامة ودليلا على وقت وجود الأمر المبشر به وهو حمل امرأتي، لتستقر نفسي، ويطمئن قلبي بما وعدتني، إذ الحمل خفي في مبدئه، ولا سيما ممن انقطع حيضها في الكبر. فأجابه الله مرة أخرى إلى مطلبه قائلا: قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي قال الله بواسطة الملك: علامتك على وقوع المسؤول وحصول البشرى من الله سبحانه بحمل امرأتك بابنها يحيى أن يعتقل لسانك، ويحبس عن الكلام، فلا تقدر على تكليم الناس ومحاورتهم مدة ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي الخلق، ليس بك آفة أو مرض أو علة تمنعك من الكلام.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية: قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران 3/ 41] . فقوله تعالى سَوِيًّا صحيح الخلق سوي من غير مرض ولا علة، وقيل: متتابعات، والقول الأول عن الجمهور أصح. وهذا دليل على أنه لم يكن يكلّم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها إلا رمزا أي إشارة، ولهذا قال تعالى هنا: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي فخرج زكريا على قومه من المحراب وهو مصلاه الذي بشر فيه بالولد (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح: وهو مقصورة في مقدّم المعبد يصعد إليها بدرج بحيث يصبح المتعبد فيها محجوبا عمن في المعبد) وقد كان الناس ينتظرونه للصلاة في الغداة والعشي، فأشار إليهم إشارة خفية سريعة، ولم يستطع أن يكلّمهم بذلك، أن يقولوا: سبحان الله (أي تنزيها لله عن الشريك والولد وعن كل نقص) في الصباح والمساء في صلاتي الفجر والعصر، شكرا لله على ما أولاه، وقد كان أخبرهم بما بشّر به قبل ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن الله تعالى قص على نبيه قصة زكريا وما بشر به من الولد، في سن الكبر والشيخوخة وحال عقم امرأته منذ بداية عمرها، ليكون ذلك آية على قدرة الله العجيبة التي تستدعي الإيمان به إيمانا مطلقا. 2- الجهر والإخفاء في الدعاء عند الله سيان لقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف 7/ 55] ، ولكن زكريا

عليه السلام ناجى ربه ودعاه في محرابه في حال الخفاء وهو أولى لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ولئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة. 3- قدّم زكريا عليه السلام على السؤال أمورا ثلاثة مثل حيثيات الحكم القضائي: أحدها- كونه ضعيفا، والثاني- أن الله تعالى ما ردّ دعاءه مطلقا، والثالث- كون المطلوب بالدعاء سببا في المنفعة الدينية. 4- قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع لأن قوله تعالى: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إظهار للخضوع. وقوله: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، وعوّدتني الإجابة فيما مضى. وقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ حرص على مصلحة الدين، فإن أقاربه كانوا مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين من بعده، لا أنه سأل من يرث ماله لأن الأنبياء لا تورث للحديث المتقدم في الصحيحين: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة» ، وفي سنن أبي داود: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، ورّثوا العلم» فتكون الوراثة على لسان زكريا هي وراثة الدين، وتكون مستعارة. وقد ورث يحيى من آل يعقوب النبوة والحكمة والعلم والدين، كما أن سليمان ورث من داود الحكمة والعلم، ولم يرث منه مالا خلّفه له بعده. 5- قوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا سؤال ودعاء، ولم يصرح بولد، لشيخوخته وعقم امرأته، قال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. وقال مقاتل: خمس وتسعين سنة، قال القرطبي: وهو أشبه، فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره ولذلك قال: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا.

6- يجوز الدعاء بالولد، ويجوز التضرع إلى الله في هداية الولد، اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء، وقد دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنس خادمه فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وكان دعاء زكريا أن يجعل الولي الوارث له مرضيا في أخلاقه وأفعاله. 7- دعاء زكريا عليه السلام لم يكن بالواسطة، وإنما كان يخاطب ربه مباشرة قائلا: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، فَهَبْ لِي، رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ. كذلك قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ... نداء من الله تعالى، وإلا لفسد النظم. ويرى جماعة أن هذا نداء الملك لقوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران 3/ 39] ، وقوله سبحانه: قالَ: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله تعالى، فوجب أن يكون كلام الملك. وأجاب الرازي عن آية فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ بأنه يحتمل حصول النداءين: نداء الله ونداء الملائكة، وعن آية قالَ رَبُّكَ.. بأنه يمكن أن يكون كلام الله تعالى «1» . 8- في قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا دليل وشاهد على أن الأسامي السّنع (الجميلة) جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية، لكونها أنبه، وأنزه عن النّبز. 9- قوله تعالى: قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؟ ليس شكا في قدرة الله تعالى على ذلك، وإلا كان كفرا، وهو غير جائز على الأنبياء عليهم السلام،

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 186.

وليس إنكارا لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب والانبهار من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. 10- قوله تعالى: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ دليل على قدرة الله الباهرة، سواء في تغيير الصفات أو إبداع الذوات، فكما أن الله خلق الإنسان من العدم، ولم يك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده. 11- قوله سبحانه: قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً بعد قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ زيادة طمأنينة، كما طلب إبراهيم عليه السلام آية تدل على كيفية الخلق وإحياء الموتى، والمراد: تمم النعمة بأن تجعل لي آية وعلامة أتعرف بها وجود الحمل، بعد بشارة الملائكة إياه. 12- قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ وهو أرفع المواضع، وأشرف المجالس، دليل على أن ارتفاع الإمام على المأمومين كان مشروعا عندهم، وقد أجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع الإمام مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، خوفا من الكبر على الإمام، وعملا بما رواه أبو داود عن ثلاثة من الصحابة (حذيفة وأبو مسعود، وعمار) من نهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك: «إذا أمّ الرجل القوم، فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم» . 13- قوله سبحانه: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا دليل على جواز العمل بالإشارة المفهمة. واتفق مالك والشافعي والكوفيون على أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.

إيتاء يحيى عليه السلام النبوة والحكم صبيا [سورة مريم (19) الآيات 12 إلى 15] :

إيتاء يحيى عليه السلام النبوة والحكم صبيا [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) الإعراب: خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ الباء في موضع الحال، أي خذ الكتاب مجدّا مجتهدا. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا الْحُكْمَ مفعول ثان لآتيناه، وصَبِيًّا حال من هاء آتَيْناهُ الذي هو المفعول الأول. وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا معطوف منصوب على الْحُكْمَ. المفردات اللغوية: يا يَحْيى على تقدير القول، أي قلنا، ويحيى هو ابن خالة عيسى عليهما السلام. خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ بجدّ واجتهاد. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي أعطيناه النبوة، أو الحكمة وفهم التوراة، أو الفقه في الدين، وذلك في حال الصبا، قيل: كان ابن ثلاث سنين، وعن ابن عباس في حديث مرفوع: ابن سبع سنين. وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا رحمة وعطفا على الناس من عندنا. وَزَكاةً تطهيرا من الذنوب والآثام. وَكانَ تَقِيًّا مطيعا لما أمر به، متجنبا المعاصي وكل ما نهي عنه، فلم يفعل خطيئة ولا هم بها. وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي كثير البرّ والإحسان إليهما. جَبَّاراً متكبرا متعاليا عن الحق. عَصِيًّا عاصيا أمر ربه. وَسَلامٌ عَلَيْهِ أي أمان من الله عليه. يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ يَمُوتُ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أي أنه آمن في هذه الأيام المخوفة من عذاب النار وهول القيامة ومكدرات الحياة الدنيوية، فهو آمن حين الولادة من مؤثرات الشيطان، وحين الموت من عذاب القبر، وفي القيامة من عذاب جهنم.

قصة يحيى عليه السلام:

قصة يحيى عليه السلام: ذكر يحيى خمس مرات في القرآن الكريم، في آل عمران [39] ، وفي الأنعام [85] ، وفي مريم [7، 12] ، وفي الأنبياء [90] ، وكان يحيى تقيا صالحا منذ صباه، وكان عالما بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا في أحكامها، وصار نبيا وهو صبي: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد أخذ النصارى طريقته، ويسمونه «يوحنا المعمدان» . وكان لأحد حكام فلسطين «هيرودس» بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال، أراد عمها هذا أن يتزوجها، وكانت البنت وأمها تريدان ذلك، فلم يوافق يحيى عليه السلام على هذا الزواج لأنه محرم، فرقصت الفتاة أمام عمها فأعجب بها، وطلب إليها ما تتمناه ليعمله لها، فطلبت منه بمؤامرة أمها رأس يحيى بن زكريا، ففعل وقتل يحيى. ولما بلغ المسيح أن يحيى قتل، جهر بدعوته، وقام في الناس واعظا «1» . التفسير والبيان: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ في الكلام محذوف تقديره: أنه ولد لزكريا المولود، ووجد الغلام المبشر به، وهو يحيى عليه السلام، فخاطبه الله تعالى بعد أن بلغ المبلغ الذي يخاطب به، فقال له: يا يحيى خذ التوراة المتدارسة والتي يحكم بها النبيون، والتي هي نعمة على بني إسرائيل، بجد واجتهاد وعزيمة وحرص على العمل بها. ثم ذكر الله تعالى ما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال ذاكرا صفاته:

_ (1) قصص القرآن: المرجع السابق 369. [.....]

1- وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي وأعطيناه الحكم والفهم للكتاب والفقه في الدين والإقبال على الخير، وهو صغير حدث دون سبع سنين. وقيل: الحكمة: النبوة لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام، وهما صبيان، قال الرازي: والأقرب حمله على النبوة لوجهين: الأول- أن الله تعالى وصفه بصفات شريفة، والنبوة أشرف صفات الإنسان، فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها. الثاني- أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره، ولغيره على الإطلاق، وذلك لا يكون إلا بالنبوة. قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيي بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للّعب خلقنا، فلهذا أنزل الله: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. 2- وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمناه رحمة من عندنا. والحنان: الرحمة والشفقة والعطف والمحبة. قال ابن كثير: والظاهر من السياق أن قوله: وَحَناناً معطوف على قوله: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة، أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان: هو المحبة في شفقة وميل «1» . 3- 5: وَزَكاةً، وَكانَ تَقِيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي وجعلنا مباركا للناس، يهديهم إلى الخير، مطهرا من الدنس والرجس والآثام والذنوب، وكان تقيا، أي متجنبا لمعاصي الله، مطيعا له، وكثير البر والطاعة لوالديه، متجنبا عقوقهما قولا وفعلا، أمرا ونهيا، فهو مطيع لله ولأبويه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 113.

فقه الحياة أو الأحكام:

6- 7: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا أي لم يكن متكبرا على الناس، بل كان متواضعا لهم، ولم يكن مخالفا عاصيا ما أمره به ربه، روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا» . وبعد ذكر هذه الأوصاف الجميلة ليحيي ذكر الله تعالى جزاءه على ذلك، فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أي له الأمان من الله في هذه الثلاثة أحوال: أمان عليه من الله يوم الولادة، فقد أمن أن يناله الشيطان في ذلك اليوم كما ينال سائر بني آدم، ويوم الموت، فيأمن عذاب القبر، ويوم البعث يأمن هول يوم القيامة وعذابه. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم ولد، فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم الله يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا. فقه الحياة أو الأحكام: ذكر الله تعالى في هذه الآيات تسع صفات ليحيي بن زكريا عليهما السلام وهي: 1- الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، فليس المراد من قوله خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على النبوة. 2- إيتاؤه النبوة وهو صبي لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان، لا كما بعث موسى ومحمدا عليهما السلام، وقد بلغا الأشد وهو أربعون سنة.

3- جعله ذا حنان، أي محبة ورحمة وشفقة على الناس، كصفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه الرؤوف الرحيم. 4- جعله ذا بركة ونفع ونماء بتقديم الخير للناس وهدايتهم، كما وصف عيسى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم 19/ 31] . 5- كونه تقيا: يتقي نهي الله فيجتنبه، ويتقي أمر الله فلا يهمله، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلّم بها. 6- بارا بوالديه: فلا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين، والله تعالى جعل طاعة الوالدين بعد طاعته مباشرة، فقال: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] . 7- لم يكن جبارا متكبرا: بل كان ليّن الجانب متواضعا، وذلك من صفات المؤمنين، وقد أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر 15/ 88] وقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران 3/ 159] . 8- لم يكن عصيا لربه ولا لوالديه. 9- سلام وأمان من الله عليه يوم مولده ويوم وفاته ويوم بعثه. وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه، وحياة في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.

قصة مريم:

قصة مريم - 1- حملها بعيسى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 22] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) الإعراب: إِذِ انْتَبَذَتْ بدل من مريم بدل اشتمال. مَكاناً شَرْقِيًّا مَكاناً إما ظرف مكان منصوب، وعامله انْتَبَذَتْ وإما مفعول به، وعامله مقدر، أي وقصدت مكانا قصيا. وشَرْقِيًّا صفة له. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ الواو: إما واو عطف على قوله لِأَهَبَ لَكِ وإما زائدة. البلاغة: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع. شَرْقِيًّا سَوِيًّا تَقِيًّا بَغِيًّا مَقْضِيًّا قَصِيًّا سَرِيًّا نَبِيًّا.. إلخ سجع لطيف.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ واذكر في القرآن خبر مريم. إِذِ انْتَبَذَتْ حين اعتزلت. مَكاناً شَرْقِيًّا أي اعتزلت في مكان نحو الشرق من الدار. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أرسلت سترا تستتر به للاغتسال من الحيض، وكانت في العادة تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت، وتعود إليه إذا طهرت، فبينا هي في مغتسلها أتاها جبريل متمثلا بصورة شاب أمرد، سوي الخلق، لتستأنس بكلامه. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا جبريل. فَتَمَثَّلَ لَها بعد لبسها ثيابها. بَشَراً سَوِيًّا تام الخلق. قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ من غاية عفافها. إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا تتقي الله، وتحتفل بالاستعاذة، فتنتهي عني بتعوذي. وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فإني عائذة منك، أو فاتعظ بتعويذي، أو فلا تتعرض لي. ويجوز أن يكون للمبالغة، أي إن كنت تقيا متورعا، فإني أعوذ منك، فكيف إذا لم تكن كذلك. قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الذي استعذت به. لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في القميص (الدرع) . وزَكِيًّا طاهرا من الذنوب، أو ناميا على الخير والصلاح. وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولم يباشرني رجل بالحلال من طريق الزواج. بَغِيًّا زانية. قالَ: كَذلِكِ أي الأمر هكذا من خلق غلام منك من غير أب، أو كذلك الأمر حكم ربّك، بمجيء الغلام منك، وإن لم يكن لك زوج. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي فإن الأمر على الله يسير سهل. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ على قدرتنا، وهذا معطوف على جملة. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ التي هي في معنى العلة. وَرَحْمَةً مِنَّا أي ورحمة لهم ببعثته نبيا يهتدون بإرشاده، لمن آمن به. وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي وكان خلقه أمرا مقضيا به في الأزل وفي علم الله، فنفخ جبريل في جيب قميصها، فأحست بالحمل في بطنها مصورا، إذ دخلت النفخة في جوفها، وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل: ثمانية، أو تسعة، وقيل: ساعة، كما حملته نبذته، وسنها ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشر سنين، وقد حاضت حيضتين، والأولى أن يكون حملها في المدة المعتادة وهي تسعة أشهر، إذ لا دليل على تلك الأقوال. فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا اعتزلت، وهو في بطنها، مكانا بعيدا من أهلها وراء الجبل. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا، أردفه بذكر قصة مريم في إنجاب ولدها عيسى عليه السلام من غير أب، وبين القصتين تناسب وتشابه واضح

التفسير والبيان:

ظاهر، ولذا ذكرا معا في آل عمران وهنا وفي الأنبياء، لتقاربهما في المعنى، ليدل تعالى عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قادر. وعملا بمبدإ الانتقال في البيان والتعليم من الأسهل إلى الأصعب، بدأ تعالى بقصة يحيى عليه السلام لأن خلقه من أبوين كبيرين أقرب إلى العادة والتصديق من خلق الولد بلا أب، ثم ذكر قصة عيسى لأنها أغرب من تلك. التفسير والبيان: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا أي واذكر يا محمد الرسول للناس في هذه السورة قصة مريم البتول بنت عمران من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، حين تنحّت، واعتزلت من أهلها، وتباعدت عنهم إلى مكان شرقي بيت المقدس أو المسجد المقدس لتنقطع إلى العبادة. روى ابن جرير عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبله لقول الله تعالى: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أي استترت منهم وتوارت بساتر أو حاجز يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام، متمثلا بصورة إنسان تام كامل، لتأنس بكلامه، ولئلا تنفر من محاورته في صورته الملكية، فظنت أنه يريدها بسوء. وقوله: رُوحَنا هو جبريل، كما جاء في آية أخرى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء 26/ 193- 194] .

فكان موقفها منه كما قال تعالى: قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي قالت السيدة مريم لعذراء البتول: إني أستعيذ (أو أستجير) بالرحمن منك أن تنالني بسوء إن كنت تخاف الله، فاخرج من وراء الحجاب. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله عز وجل، والاستعاذة والتخويف لا يؤثران إلا في التقي، وهو كقوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة 2/ 278] أي إن الإيمان يقتضي ذلك ويوجبه، لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال، وهذا دليل عفتها وورعها. فأجابها جبريل عليه السلام: قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا أي قال الملك جبريل مهدئا روعها ومزيلا خوفها: لست أريد بك سوءا، ولكن أنا رسول إليك من ربك الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه السوء أو مما تظنين، بعثني الله إليك لأهب لك غلاما طاهرا من الذنوب، ينمو على النزاهة والعفة. وقد نسب الهبة لنفسه لجريانها على يده بأمر الله تعالى. فتعجبت مريم مما سمعت، وقالت: قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي قالت لجبريل: كيف يكون لي غلام؟ وعلى أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، أو لم يقربني زوج، ولا يتصور مني الفجور، فلم أك يوما ما بغيا، أي زانية، تبغي الرجال بالأجر. وجوابها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله، وإنما عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور، وإن حدث خلاف هذا في القدرة الإلهية، فإنها عرفت أنه

تعالى خلق أبا البشر من غير أب ولا أم، فهل سيكون هذا الولد مخلوقا بخلق الله ابتداء كآدم، أم عن طريق زوج تتزوجه في المستقبل؟ فأجابها بقوله: قالَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَرَحْمَةً مِنَّا، وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلاما، وإن لم يكن لك زوج (بعل) ولا من طريق الفاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، وليجعل خلقه برهانا للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوّع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى فقط، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى. ويجعل هذا الغلام أيضا رحمة من الله لعباده، يبعثه نبيا من الأنبياء، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، وكان هذا الأمر مقدرا قد قدره الله في سابق علمه، وجف به القلم، فلا يغير ولا يبدّل. ونظير آخر الآية: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 47] ونظير القسم السابق له وهو: وَرَحْمَةً مِنَّا قوله سبحانه: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران 3/ 45- 46] . ونظير قوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قوله سبحانه: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم 66/ 12] . وحدث مراد الله تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا أي لما قال جبريل لها عن الله تعالى ما قال، استسلمت لقضاء الله تعالى، فنفخ جبريل في جيب درعها (فتحة قميصها) فنزلت النفخة في جوفها، حتى ولجت فرجها، فحملت بالولد بإذن الله تعالى، فاعتزلت إلى مكان بعيد. والفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه. ولم يعيّن القرآن الكريم مدة الحمل، إذ لا حاجة لمعرفتها، لذا نرى أن حملها كان بحسب المعتاد بين النساء، وهو تسعة أشهر قمرية. وإنما اتخذت المكان البعيد لا من أجل الوضع، وإنما حياء من قومها، وبعدا عن اتهامها بالريبة. فقه الحياة أو الأحكام: هذه بداية قصة السيدة مريم العذراء، حكى فيها الحق سبحانه كيفية حملها بعيسى عليه السلام، مبينا مقدمات ضرورية لإبراز عفتها وصونها. فهي قد اعتزلت أهلها شرقي البيت المقدس للانقطاع للعبادة وللخلوة مع الله ومناجاة ربها، فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام بصورة بشر تام الخلقة لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته الحقيقية الملكية، ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر، قد خرق عليها الحجاب، ظنت أنه يريدها بسوء، فتعوذت بالله منه إن كان ممن يتقي الله. فأخبرها جبريل بأنه رسول من عند الله بعثه إليها ليهبها غلاما طاهرا نقيا من الذنوب والمعاصي، وجعل الهبة من قبله لأنه الواسطة ورسول الاعلام بالهبة من قبله. روي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمّها. فتساءلت مريم عن وسيلة إيجاد الغلام، لا استبعادا لقدرة الله تعالى، ولكن أرادت معرفة كيفية تكوّن هذا الولد، من قبل الزوج الذي تتزوجه في

المستقبل، أم يخلقه الله ابتداء؟ وهي الآن ليست ذات زوج، ولم تكن في أي وقت زانية، وذكرت هذا تأكيدا لأن قولها: لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يشمل الحلال والحرام. فأجابها جبريل: هذا أمر قدره الله وقضى به من الأزل، فهو في سابق علمه الأزلي القديم، وهو أمر هيّن يسير على قدرة الله، فهو القادر على كل شيء، وقد خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، ليكون ذلك دليلا وعلامة على قدرته العجيبة في تنوع الخلق والإبداع، ويكون عيسى بنبوته رحمة لمن آمن به، وكان أمرا مقدرا في اللوح مسطورا. فاستسلمت مريم لقضاء الله وقدره، واعتزلت بالحمل إلى مكان بعيد، حياء من قومها، وبعدا عن اتهامها بالريبة وتعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال. وقال ابن عباس أيضا: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي: وهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل «1» . وقال آخرون: كان الحمل بحسب المعتاد بين النساء لأن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً.. [المؤمنون 23/ 12- 14] . وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج 22/ 63] قال ابن كثير: فالمشهور الظاهر- والله على كل شيء قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 92- 93. (2) تفسير ابن كثير: 3/ 116.

وقال محمد بن إسحاق: فلما حملت به، وملأت قلّتها، ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب (المرض والضعف) والتوحم وتغير اللون، حتى فطر لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: إنما صاحبها يوسف النجار (وهو رجل صالح من قراباتها، كان معها في المسجد يخدم معها البيت المقدس) ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابا، فلا يراها أحد ولا تراه. ويحسن أن نذكر مقطعا من حوار بين يوسف النجار ومريم، ذكره الثعلبي في العرائس عن وهب، قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر، وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث، وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول: إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها؟ فقال يوسف: لا أقول هذا، ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون. فقالت له مريم: أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 201- 202.

- 2 - ولادة عيسى وما اقترن بها [سورة مريم (19) الآيات 23 إلى 26] :

- 2- ولادة عيسى وما اقترن بها [سورة مريم (19) : الآيات 23 الى 26] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) الإعراب: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ الباء: زائدة، أي وهزي إليك جذع النخلة. وتُساقِطْ جواب الأمر، ورُطَباً جَنِيًّا مفعول تُساقِطْ أي تساقط النخلة رطبا. وقرئ تُساقِطْ وأصله: تتساقط، فحذف إحدى التاءين تخفيفا، وقرئ تساقط وأصله: تتساقط أيضا، فأبدل من إحدى التاءين سينا، وأدغم السين في السين. ورطبا في هاتين القراءتين: تمييز أو حال، ويجوز النصب بهزّي، أي وهزي إليك رطبا جنيا متمسكة بجذع النخلة، والباء في موضع الحال، لا زائدة، وقرئ يساقط ورُطَباً مفعول به، أي يساقط جذع النخلة رطبا. وَقَرِّي عَيْناً تمييز أي من عين، مثل: طاب به نفسا، أي من نفس. فَإِمَّا تَرَيِنَّ أصله «ترأيين» فحذفت الهمزة منه، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فبقي تَرَيِنَّ وحذفت النون لأنها نون إعراب، لطروء البناء بدخول نون التوكيد الثقيلة (المشددة) وكسرت الياء لسكونها وسكون النون المشددة أي لالتقاء الساكنين. وإما: أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة. المفردات اللغوية: فَأَجاءَهَا جاء بها وألجأها واضطرها. الْمَخاضُ وجع الولادة والطّلق حين تحرك الولد للخروج من البطن. إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، فولدت

التفسير والبيان:

يا للتنبيه. قَبْلَ هذا الأمر، استحياء من الناس ومخافة لومهم. نَسْياً ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب، ككل شيء حقير من وتد وحبل. مَنْسِيًّا منسي الذكر، وهو ما لا يخطر بالبال لتفاهته، والمراد من الكلمتين: شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر. فَناداها مِنْ تَحْتِها أي عيسى، وقيل: جبريل وكان أسفل منها أي من مكانها. وقيل: ضمير تَحْتِها عائد للنخلة. أَلَّا تَحْزَنِي أي لا تحزني أو بألا تحزني. سَرِيًّا جدولا أو نهر ماء، هكذا روي مرفوعا، وقيل: السري: السيد الشريف، أي سيدا شريفا وهو عيسى. وَهُزِّي الهز: تحريك الشيء بعنف أو بدونه، أو أميليه إليك أو افعلي الهز والإمالة به. بِجِذْعِ الباء مزيدة للتأكيد. تُساقِطْ تسقط. رُطَباً تمرا طازجا ناضجا. جَنِيًّا صالحا للاجتناء. فَكُلِي من الرطب. وَاشْرَبِي من السري- النهر. وَقَرِّي عَيْناً أي لتقر عينك به، أي تسكن، فلا تطمح إلى غيره. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي إن تري آدميا، فيسألك عن الولد. فَقُولِي أشيري إليهم، قال الفراء: العرب تسمي كل ما أفهم الإنسان شيئا كلاما بأي طريق كان. نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا أو إمساكا عن الكلام في شأنه وشأن غيره من الناس، بدليل: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي أحدا من الناس بعد ذلك، أي بعد أن أخبرتكم عن نذري. التفسير والبيان: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي فاضطرها وألجأها وجع الولادة وألم الطلق إلى الاستناد إلى جذع النخلة والتعلق به، لتسهيل الولادة، فتمنت الموت قبل ذلك الحال، استحياء من الناس، وخوفا أن يظن بها السوء في دينها، أو أن تكون شيئا لا يبالي به، ولا يعتد به أحد من الناس كالوتد والحبل، أو لم تخلق ولم تك شيئا. قال ابن كثير: فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية. قال الزمخشري: أجاء منقول من جاء إلى معنى الإلجاء.

فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي فناداها جبريل من تحت الأكمة أو من تحت النخلة، وقيل: المنادي هو عيسى، وقد أنطقه الله بعد وضعه تطييبا لقلبها وإيناسا لها، قائلا: لا تحزني، فقد جعل ربك تحتك جدولا أو نهرا صغيرا، أجراه الله لها لتشرب منه. وقيل: المراد بالسريّ هنا عيسى، والسريّ: السيد العظيم الخصال من الرجال. قال ابن عباس: المراد ب مِنْ تَحْتِها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيم، وهذا هو الأصح. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا أي حرّكي جذع النخلة، تسقط عليك رطبا طريا طيبا، صالحا للاجتناء والأكل من غير حاجة إلى تخمير وصناعة. وهذه آية أخرى، قال الزمخشري، كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة، وكان الوقت شتاء. وقيل: كانت النخلة مثمرة. والمهم في الأمر: وجوب اتخاذ الأسباب لتحصيل الرزق، والاعتقاد بأن الفاعل الحقيقي في تيسير الرزق هو الله تعالى، وأنه على كل شيء قدير. وأما التفاصيل فلا يجب علينا أن نعتقد إلا بما أخبر به القرآن صراحة، وأما الروايات فتحتاج إلى تثبت ودليل وسند صحيح. وما أحسن قول الشاعر: ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أدنى الجذع من غير هزه ... إليها ولكن كل شيء له سبب فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أي فكلي من ذلك الرطب، واشربي من ذلك الماء، وطيبي نفسا ولا تحزني وقرّي عينا برؤية الولد النبي، فإن الله قدير على صون سمعتك، والإرشاد إلى حقيقة أمرك. قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة. وروى ابن أبي حاتم

فقه الحياة أو الأحكام:

عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء يلقّح غيرها» . فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً، فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي إن رأيت إنسانا يسألك عن أمرك وأمر ولدك، فأشيري له بأنك نذرت لله صوما عن الكلام، أي صمتا، بألا أكلم أحدا من الإنس، بل أكلم الملائكة، وأناجي الخالق. والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم، يحرم عليهم الطعام والكلام، قال ابن زيد والسدّي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الكلام. وليس الصوم عن الكلام مشروعا في الإسلام، روى ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان، فسلم أحدهما، ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف ألا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله بن مسعود: كلّم الناس، وسلّم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريم عليها السلام، ليكون عذرا لها إذا سئلت. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن ألم المخاض ووجع الطلق أمر معتاد في أثناء الولادة، أشبه بالموت، فتحتاج المرأة حينئذ إلى عون ورعاية، ولم تجد السيدة مريم معينا لها غير جذع النخلة، فاستندت إليه وتعلقت به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. 2- يكون تمني الموت جائزا في مثل حال السيدة مريم، فإنها تمنت الموت من جهة الدّين لسببين:

أحدهما- أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير، فيفتنها ذلك. الثاني- لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى، وذلك مهلك. فخافت صونا لسمعتها الدينية، وحماية لتدين الآخرين حتى لا يقعوا في الذنب. 3- تظاهرت الروايات بأن السيدة مريم ولدت عيسى عليه السلام لثمانية أشهر، وقد عاش، وتلك خاصة له، وقيل: ولدته لتسعة، أو لستة. ويرى ابن عباس كما تقدم أنها حملت فوضعت في الحال لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل. 4- لقد اقترنت ولادة السيدة مريم بأنواع من الألطاف الإلهية، فقد ناداها جبريل عليه السلام بأن الله جعل من تحتها نهرا صغيرا لتشرب منه، وأسقط لها رطب النخلة، ويقال: إنها أثمرت لها، وصار رطبها قابلا للأكل والاجتناء بقدرة الله، وطيب الله نفسها وأقر عينها، فأزال عن قلبها الكآبة والحزن، وأمرها على لسان جبريل بالإمساك عن كلام البشر حتى لا تتعب نفسها بالحوار والنقاش وردّ التّهم، وأحالت الأمر على ابنها الذي أنطقه الله في المهد مدافعا عنها، ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية، فيظهر عذرها. وكل هذه آيات خارقة للعادة أظهرها الله بمناسبة ميلاد عيسى عليه السلام. 5- استدل العلماء بهذه الآية على أن الرزق، وإن كان محتوما، فإن الله تعالى ربطه بالسعي، ووكل ابن آدم إلى سعي ما فيه لأنه سبحانه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية ألا تهتز النخلة لأن جذعها صلب قوي ثخين يصعب تحركه. 6- الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يتعارض مع التوكل، فإن التوكل على الله يكون بعد اتخاذ الأسباب. وقد كانت مريم قبل الولادة يأتيها رزقها من غير تكسب، تكريما خاصا لها، كما قال

تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً.. الآية [آل عمران 3/ 37] فلما ولدت أمرت بهز الجذع لأن قلبها قبل الولادة كان مشغولا بالعبادة متفرغا لها، فلم تشغل أعضاؤها بتعب التكسب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، أمرت بالكسب، وردت إلى العادة بالتعلق بالأسباب، كسائر العباد. 7- الرطب خير شيء للنفساء، وكذلك التحنيك به للمولود، فإذا عسرت الولادة لم يكن للمرأة خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل. 8- في أمر مريم بالسكوت عن الكلام دليل على أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذلّ الناس سفيه لم يجد مسافها. 9- من التزم بالنذر بألا يكلم أحدا من الآدميين، أو نذر الصمت، فذلك كان مشروعا في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، وليس في شريعتنا، فلا يجوز نذر الصمت في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس، كنذر القيام في الشمس ونحوه، مما لم يجزه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام، كما تقدم. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل: الذي نذر الصوم في الشمس، فأمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يتكلم ويتم صومه في الظل، والحديث خرّجه البخاري عن ابن عباس. قال ابن زيد والسدّي كما تقدم: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام. ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح، قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم» وقال أيضا فيما رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» .

- 3 - نبوة عيسى ونطقه وهو طفل في المهد [سورة مريم (19) الآيات 27 إلى 33] :

- 3- نبوة عيسى ونطقه وهو طفل في المهد [سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) الإعراب: تَحْمِلُهُ جملة حالية. يا أُخْتَ التاء هنا بدل عن واو، وليست للتأنيث لأنها تكتب بالتاء لا بالهاء نحو قائمة وذاهبة، مثل تاء: بنت. بَغِيًّا على وزن فعول لا فعيل لأنه هنا بمعنى فاعل، وأتى بغير تاء. وهو صفة للمؤنث. كقولهم: امرأة صبور وشكور. وقد يأتي فعول بغير هاء إذا كان بمعنى مفعول، مثل فَمِنْها رَكُوبُهُمْ [يس 36/ 72] . مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ كان: إما بمعنى (حدث ووقع) فيكون صَبِيًّا حال من ضمير كانَ، وإما بمعنى (صار) فيكون صَبِيًّا خبر (صار) وإما كانَ زائدة. وصَبِيًّا حال، وعامله فِي الْمَهْدِ. ولا يجوز جعل كانَ هنا ناقصة: لأنه لا اختصاص لعيسى بكونه في المهد، فهذا وصف لكل صبي، وإنما تعجبوا من كلام من صار في حال الصّبا في المهد.

المفردات اللغوية:

ما دُمْتُ حَيًّا ما مصدرية ظرفية زمانية، أي مدة دوامي حيا، وحَيًّا خبر ما دُمْتُ، والجملة منصوبة على الظرف، وعامله أَوْصانِي. وَبَرًّا بِوالِدَتِي معطوف على قوله مُبارَكاً ومُبارَكاً مفعول ثان لجعل. ومن قرأ وبر عطفه على (الصلاة) أي أوصاني بالصلاة وببرّ بوالدتي. المفردات اللغوية: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أتت مع ولدها قومها راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس حاملة إياه. فَرِيًّا عظيما منكرا خارقا للعادة، حيث أتيت بولد من غير أب. يا أُخْتَ هارُونَ هو أخو موسى عليه السلام، وكان بينهما ألف سنة، أو رجل صالح من بني إسرائيل، أي يا شبيهته في العفة، وشبهوها به تهكما. امْرَأَ سَوْءٍ أي زانيا. وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية، فمن أين لك هذا الولد؟! وفيه تنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أشارت لهم إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم. قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ أي وجد فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي لم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل. والْمَهْدِ فراش الصبي الرضيع الموطّأ له، جمع مهود. آتانِيَ الْكِتابَ أي الإنجيل مُبارَكاً نفّاعا للناس، معلما للخير. والتعبير بالماضي: إما باعتبار ما سبق في قضاء الله، فهو إخبار ما كتب له، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع. وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أمرني بهما أو كلفني. جَبَّاراً متعاظما لا يرى لأحد حقا عليه. شَقِيًّا عاصيا لربه. وَالسَّلامُ عَلَيَّ أي والأمان علي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث حيا، كما هو على يحيى عليه السلام، والتعريف هنا في السلام على الأظهر للجنس. التفسير والبيان: لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات، وسلمت لأمر الله عز وجل، واستسلمت لقضائه أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها، كما قال تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا: يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي لما برئت مريم من نفاسها، جاءت به قومها تحمله من المكان القصي، فلما رأوا الولد معها، حزنوا وأعظموا الأمر واستنكروه جدا، وقالوا منكرين: يا مريم، لقد فعلت أمرا عجيبا عظيما منكرا خارجا عن المألوف وهو الولادة بلا أب، وكانوا

أهل بيت صالحين: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران 3/ 33- 34] . يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي يا شبيهة هارون في العبادة، أو يا من أنت من نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت، أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة، فكيف تأتين بمثل هذا؟ ما كان أبوك بالفاجر، وما كانت أمك بالزانية البغي، فمن أين يأتيك السوء، ومن أين لك هذا الولد؟!! أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرؤون: يا أخت هرون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» . وهذا يرشد إلى أن هارون هو رجل صالح في زمان مريم وعيسى عليهما السلام. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ، قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي فأشارت مريم إلى عيسى أن يكلمهم، وقد اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، فقالوا لها متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم تهزأ: كيف نكلم طفلا ما يزال في المهد، أي فراش الرضيع؟ وهنا ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع ووصف نفسه بتسع صفات هي: 1- قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قال عيسى: إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات، الذي لا أعبد غيره، فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية لربه،

وتبرئته عن الولد، تنبيها للنصارى على خطئهم فيما ادعوه له من الربوبية. 2- آتانِيَ الْكِتابَ سينزل علي الإنجيل، وقدّر لي وحكم في الأزل أن أكون نبيا ذا كتاب، وقضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى، وإن لم يكن الكتاب منزّلا في الحال. 3- وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أي قدّر لي أن أكون نبيا، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة، لأن الله تعالى لا يجعل الأنبياء أولاد زنى، وإنما هم نخبة عالية من الطهر وصفاء السلالة والمعدن. 4- وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي صيرني الله نفّاعا للعباد، معلما للخير، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت. وعبر تعالى عن هذه الصفات بصيغة الماضي إشارة إلى تحققها وحدوثها فعلا في المستقبل. 5- وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وأمرني ربي بالصلاة التي تربط العبد بربه وتطهر النفس، وتمنعه عن اقتراف الفاحشة، وأمرني أيضا بزكاة المال التي هي طهرة للمال، وعون للفقير والمسكين، ما دمت على قيد الحياة في الدنيا. 6- وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي وجعلني بارا بوالدتي مريم، وأمرني ببرها وطاعتها والإحسان إليها بعد طاعة ربي، لأن الله كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين. وهذا أيضا دليل على نفي الزنى عنها، إذ لو كانت زانية، لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. 7- 8: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي ولم يجعلني متعظما عاصيا مستكبرا عن عبادة ربي وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك. 9- وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي

فقه الحياة أو الأحكام:

والسلامة علي من كل سوء يوم الميلاد، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت، ولا أغواني عند الموت، ولا عند البعث، فأنا في أمان لا يقدر أحد على ضري في هذه الأوقات الثلاثة. وهذا إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله الذي يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- جاءت مريم المؤمنة الواثقة بتأييد الله لها قومها مع ولدها، لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها. 2- يتأثر الناس عادة بظواهر الأمور ويتعجلون بالحكم عليها، فاتهموا مريم بأنها جاءت شيئا فريا، أي أمرا عظيما كالآتي بالشيء يفتريه، وأنكروا عليها بما عرفوا عنها من سيرة حميدة قضت شبابها في التبتل والعبادة، وبما علموا من استقامة أبويها. فقالوا لها: يا أخت هارون، بمعنى: يا من كنا نظنّها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا؟ فهي كانت من ولد أو سلالة هارون أخي موسى، وإن كان بين موسى وهارون وبين عيسى زمان مديد قدّر بألف سنة فأكثر، فنسبت إليه بالأخوة، لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي: يا أخا العرب. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان، تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا، كلهم اسمه هارون. ويؤيد ذلك الحديث الثابت المتقدم. 3- من معجزات عيسى عليه السلام نطقه وهو صغير في المهد، ونحن

المسلمون نعتقد بهذا اعتقادا جازما، لإثباته بنص القرآن القاطع، وأما اليهود والنصارى فينكرون أنه تكلم في المهد. وكان نطقه إظهارا لبراءة أمه، ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. 4- وصف عيسى عليه السلام نفسه في كلامه المبين وهو طفل رضيع بصفات تسع، جمعت بين إثبات النبوة وإنزال الإنجيل عليه في المستقبل، وتبرئة أمه من تهمة الزنى، وإثبات عبوديته لله عز وجل، فهو عبد لله لا ربّ ولا إله، كما يعتقد النصارى، واتصافه بالبركات ومنافع الدين والدعوة إليه، واستقامة سلوكه وأخلاقه، فهو برّ بوالدته، ليس متعظما متكبرا، ولا عاصيا خائبا من الخير، ملتزما تشريع الله في العبادة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعد بلوغه من التكليف. 5- قوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي جعلني برا بوالدتي يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن الآية تدل على أن كونه برا، إنما حصل بجعل الله وخلقه. 6- قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر «1» ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. 7- الإشارة بمنزلة الكلام وتدل على ما يدل عليه ويحدث بها الإفهام والفهم، كيف لا، وقد أخبر الله تعالى عن مريم، فقال: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ. وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس «بعثت أنا والساعة كهاتين» . وإجماع العقلاء على أن العيان أقوى من الخبر، دليل على أن الإشارة

_ (1) هم القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله تعالى.

- 4 - اختلاف النصارى في شأن عيسى [سورة مريم (19) الآيات 34 إلى 40] :

قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. لذا قرر المالكية والشافعية جواز الاعتماد على الإشارة في المعاملات والعقوبات، وقد نص الإمام مالك على أن شهادة الأخرس مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما إذا كان الشخص قادرا على اللفظ، فلا بد من الكلام. وذهب الحنفية وأحمد والأوزاعي وإسحاق إلى أنه لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا، ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة، قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. 8- حظي عيسى بالسلامة من الله تعالى يوم ولادته في الدنيا من همز الشيطان، ويوم الموت في القبر، ويوم البعث في الآخرة، وهذه الأحوال الثلاثة مراحل مصيرية حاسمة فاصلة، وأشق شيء على الناس. - 4- اختلاف النصارى في شأن عيسى [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)

الإعراب:

الإعراب: قَوْلَ الْحَقِّ منصوب على المصدر، أي أقول قول الحق، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ذلك قول الحق، أو هذا قول. وقيل: إن الإشارة إلى عيسى، لأن الله تعالى سماه كلمة، إذ كان بالكلمة، على ما قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. كُنْ فَيَكُونُ بالرفع بتقدير هو، وبالنصب بتقدير: أن. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي من قرأها بالكسرة جعلها مبتدأ، ومن قرأ بالفتح، جعلها معطوفة، وتقديره: وأوصاني بالصلاة والزكاة وأن الله ربي. مِنْ وَلَدٍ مِنْ زائدة، أي: ما كان لله أن يتخذ ولدا. وزيدت هنا في المفعول، وزيادتها في الفاعل أكثر، مثل: ما جاءني من أحد، أي ما جاءني أحد. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي ما أسمعهم وأبصرهم، والجار والمجرور في موضع رفع فاعل أَسْمِعْ. والأصل أن يقول: وأبصر بهم، لكنه حذف بِهِمْ اكتفاء بذكره مع أَسْمِعْ. وهي صيغة تعجب، وليس بأمر، بدليل وروده بلفظ واحد في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. يَوْمَ يَأْتُونَنا منصوب على الظرف، متعلق بفعل التعجب. إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ إِذْ بدل من اليوم أو ظرف للحسرة. إِنَّا نَحْنُ تأكيد. البلاغة: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ الظَّالِمُونَ واقع موقع الضمير، فهو من قبيل إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على ظلم أنفسهم. المفردات اللغوية: ذلِكَ عِيسَى ... أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم، لا ما يصفه النصارى، وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ قَوْلَ الْحَقِّ أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، أو أقول قول الحق، والإضافة للبيان، والضمير للكلام السابق، أو لتمام القصة يَمْتَرُونَ يشكون ويتنازعون ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، سُبْحانَهُ تكذيب للنصارى، وتنزيه لله تعالى عما بهتوه، والمعنى: ما ينبغي ولا يصح أن يجعل له ولدا. إِذا قَضى أَمْراً أراد أن يحدث أمرا

إيضاح آية وأنذرهم يوم الحسرة بحديث صحيح:

فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ تبكيت لهم بأن الله إذا أراد شيئا أوجده بكلمة كُنْ: كان تعالى منزها عن شبه الخلق والحاجة في اتخاذ الولد، بإحبال الإناث. وبعبارة أخرى: القادر على الخلق بالأمر الفوري، قادر على خلق عيسى من غير أب. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بتقدير: قل، بدليل: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة 5/ 117] وعلى الفتح بتقدير: اذكر هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ هذا المذكور طريق مستقيم مؤد إلى الجنة. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف النصارى في عيسى، أهو ابن الله، أم إله معه، أم ثالث ثلاثة؟ فالأحزاب: فرق النصارى الثلاث أو اختلف اليهود والنصارى. فَوَيْلٌ كلمة عذاب أي فشدة عذاب، أو واد في جهنم لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي ويل لهم بما ذكر وغيره مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ من شهود أو حضور يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه، وهو يوم القيامة. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي بهم، صيغة تعجب، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا في الآخرة، أو يوم القيامة، بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي لكن الكافرون في الدنيا في خطأ بيّن، به صموا عن سماع الحق، وعموا عن إبصاره، أي أعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة، بعد أن كانوا في الدنيا صميا عميا. وذكر كلمة الظَّالِمُونَ من إقامة الظاهر مقام المضمر، إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم. وَأَنْذِرْهُمْ خوّف يا محمد كفار مكة يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة، يوم يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان في الدنيا، والمحسن على قلة إحسانه إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب، وسيق الفريقان إلى الجنة والنار. وَهُمْ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ عنه وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها العقلاء وغيرهم بإهلاكهم وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فيه للجزاء. إيضاح آية وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ بحديث صحيح: روى الشيخان والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح «1» ، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون «2» وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد

_ (1) الأملح: الذي يخالط بياضه سواد. (2) يشرئبون: يمدون أعناقهم.

أضواء على قصة عيسى عليه السلام:

رأوه، ثم ينادي مناد: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، ثم قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» . أضواء على قصة عيسى عليه السلام: عيسى: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، ذكر اسمه في القرآن بلفظ المسيح وهو لقب له، وبلفظ عيسى وهو اسمه، وهو بالعبرية «يشوع» أي المخلّص، أي يخلص النصارى- في زعمهم- من الخطيئة، وذكر بلفظ ابن مريم. ذكر عيسى في القرآن في ثلاث عشرة سورة في ثلاث وثلاثين آية منه: في البقرة [87، 136، 253] ، وآل عمران [45، 52، 55، 59، 84] ، والنساء [157، 163، 171، 172] ، والمائدة [17، 46، 72، 75، 78، 110، 112، 114، 116] ، والأنعام [85] ، والتوبة [30، 31] ، ومريم [34] ، والمؤمنون [50] ، والأحزاب [7] ، والشورى [13] ، والزخرف [57، 63] ، والحديد [27] ، والصف [6، 14] ونشأ عيسى المسيح في رأي النصارى وهو ابن يوسف النجار الذي هو شاب صالح من شبان اليهود، من قوم مريم، والمسيح في العبرية: النبي والملك. وأمه مريم بنت عمران الذي كان رجلا عظيما من علماء بني إسرائيل، وقد حملت زوجه، فنذرت أن تجعل الحمل محررا لخدمة الهيكل. وتوفي عمران، وابنته صغيرة تحتاج إلى كافل يقوم بشأنها، فألقى رعاة الهيكل قرعة، فكان كافلها

زكريا أبو يحيى عليهما السلام. وكان زكريا زوجا لخالة مريم أو لأختها، فنشأت مريم على الطهارة والعبادة والبعد عن الدنس. ولما بلغت مبلغ النساء جاءها جبريل، فتعوذت منه، فأعلمها أنه مرسل من عند الله، ليهب لها غلاما زكيا، وتم حملها بنفخة منه في جيب قميصها، فدخلت في جوفها، ومرت بجميع أدوار الحمل إلى أن ولدته في بيت لحم، والراجح أن مدة حملها تسعة أشهر، بحسب الغالب. وهذا الحمل استثناء مما هو حادث عادة، ليكون دليلا على قدرة الله تعالى، بخلق إنسان بلا أب، خلافا للمعتاد، لأن الخالق الحقيقي هو الله عز وجل، سواء مع اتخاذ الأسباب أم لا. وقد ختن المسيح بعد ثمانية أيام من ولادته، كما تقرّر الشريعة اليهودية، وقد أمر الله إبراهيم بالختان. ولما أمر هيرودس حاكم فلسطين بقتل كل طفل في بيت لحم، أمر يوسف النجار في منامه بأن يذهب بالطفل وأمه إلى مصر، فقام من فوره، وأخذ الطفل وأمه، وذهب بهما إلى مصر، وأقاموا بها، إلى أن مات هيرودس. ثم عادوا إلى فلسطين، وكان الطفل قد بلغ سبع سنين من العمر، فتربى في الناصرة، ولما بلغ اثني عشر عاما، جاء مع أمه ويوسف إلى أورشليم، للصلاة بحسب شريعة موسى، وفي اليوم الثالث بعد ضياعه، وجد عيسى يحاج علماء اليهود، ثم عاد مع أمه ويوسف إلى الناصرة. ولما بلغ يسوع ثلاثين سنة من العمر، صعد إلى جبل الزيتون مع أمه ليجني زيتونا، وبينما كان يصلي في الظهيرة، تلقى الإنجيل من الملاك جبريل عليه السلام، وهذا كنبوة يحيى خلافا للغالب في أن النبوة تكون بعد الأربعين.

الأناجيل:

الأناجيل: ومعنى الإنجيل: البشارة، وهو كتاب تضمن هدى ونورا، لكن هذا الإنجيل الذي أتى به المسيح وسلمه إلى تلاميذه وأمرهم أن يبشروا به لا يوجد الآن، وإنما توجد قصص تاريخية تسرد سيرة المسيح، ألّفها التلاميذ، وفيها مواعظ وأمثال ونصائح مأخوذة عن المسيح، وهي كثيرة بلغت مائة ونيفا، تعترف الكنيسة المسيحية بأربعة منها: هي إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. ولم يكتب شيء من هذه الأناجيل في زمان المسيح. وإنجيل متى هو أول الأناجيل وأقدمها، لكنه ليس من تصنيفه يقينا، بل ضيعوه بعد ما حرفوه، باعتراف قدماء المسيحية كافة، وقد كتب بالعبرانية، ثم ترجم إلى اليونانية، ولا يعرف إسناد هذه الترجمة. وكان متّى قد كتب إنجيله سنة 39 بعد المسيح، على ما ذهب إليه القديس «إيرونيموس» . ومرقس كان يهوديا لاويا أي من خدم الهيكل، وهو تلميذ بطرس، وكان ينكر ألوهية المسيح، وكتب إنجيله سنة 61 م ومات مقتولا في سجن الإسكندرية سنة 68 م. ولوقا: كان طبيبا من أهل أنطاكية ولم ير المسيح أصلا، وقد لقن النصرانية عن بولس، وبولس هذا كان يهوديا متعصبا على المسيحية، ولم ير المسيح في حياته، وكان يسيء إلى النصارى باستمرار، ولما رأى أن اضطهاده للنصرانية لا يجدي، احتال بالدخول فيها، وأظهر الاعتقاد بالمسيح، ثم استطاع أن يجعل النصارى يتحللون من واجبات الناموس (التوراة) الذي ما جاء المسيح لإبطال أحكامه.

إنجيل برنابا:

وكتب لوقا إنجيله بعد كتابة مرقس، وبعد موت بطرس وبولس. ويوحنا أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، وهو من صيدا في الجليل، وكان عيسى يحبه جدا، وقد كتب إنجيله في سنة 96 أو سنة 98، وكان يرى أن المسيح ليس إلا إنسانا، وقد أنكر كثير من علماء النصرانية أن يكون هذا الإنجيل من تأليف يوحنا التلميذ، وإنما صنفه أحد تلاميذه في القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنا ليغتر به الناس. وقد كتب لغرض خاص هو إثبات ألوهية المسيح، والقضاء على التعاليم التي كانت تؤكد أنه إنسان. والخلاصة: إن هذه الأناجيل منقطعة السند إلى المسيح، وليست هي الإنجيل الصحيح الذي نزل على المسيح باعتراف النصارى أنفسهم. إنجيل برنابا: هو أحد الأناجيل التي ألفت في قصة المسيح، وبرنابا أحد أتباع المسيح المواظبين على نشر دعوته، ويختلف عن الأناجيل الأخرى في أمرين جوهريين: الأول- التصريح بأن عيسى إنسان وليس بإله. والثاني- التصريح والتبشير باقتراب ملكوت السموات وباسم محمد في كثير من المواضع. رسالة عيسى: تتلخص رسالة عيسى عليه السلام فيما يأتي: 1- التخفيف من تنطع اليهود، والتزامهم بالشكليات المؤدية إلى تعطيل الخير في يوم السبت، وتوجيههم إلى جوهر الدين وحقيقته، وإبعادهم عن المادية الطاغية وتهالكهم على المال وحبه وجمعه، بتحريض الناس على النذر للهيكل، لأخذ ذلك المال.

2- رد اليهود الذين يسمون بالصدوقيين إلى عقيدة الإيمان باليوم الآخر التي أنكروها، وتثبيت الإيمان في قلوبهم. 3- تصحيح مسيرة اليهود الذين يسمون بالفريسيين وهم في الأصل قوم تجردوا لطاعة الله تعالى، وتفردوا للعبادة، وزهدوا في حطام الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، ولكنهم أصبحوا في زمن المسيح يظهرون بمظهر الزهد فقط، ويتخذونه ستارا لجمع المال. وكان هناك جماعة الكتبة الذين يكتبون الشريعة لمن يطلبها، وهم كالفريسيين في اقتناص أموال الناس. وكذلك الكهنة وخدمة الهيكل صاروا متهالكين على جمع المال، يحرفون كلام الله لأغراض دنيوية. فكانت هذه العيوب كلها موجبة لصيحة المسيح المدوية بالزهد في الدنيا، وإصلاح النفوس من أمراضها، وتوجيه الناس إلى مرضاة الرب عز وجل. 4- البشارة باقتراب ملكوت السموات، أي الشريعة الإلهية التي يرسل الله تعالى بها النبي الأمي المذكور في آية [15] وما بعدها من الإصحاح 18- سفر التثنية، الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى أن يرسله من بين إخوتهم، كما بشر به أنبياء كثيرون، منهم داود في المزمور (45) والمزمور (149) و (110) وأشعيا في الإصحاحات (8، 9، 26، 35، 42، 43، 50، 51، 52، 54، 55، 60، 65) ودانيال في ص (2، 7) وزكريا في ص (3) وغيرهم. والمسيحيون يحملون البشارة على الدين المسيحي. لكن لم يجئ المسيح بغير طائفة من العظات والنصائح والحكم والأمثال، لإخلاص العبادة لله تعالى، والتخفيف من ماديات الجماهير التي غرقوا بها إلى الآذان، وترك الرياء والنفاق، والاهتمام بروح الدين الذي ورثوه عن موسى.

الحواريون:

وليس في الإنجيل سوى أحكام قليلة، مثل عدم تزوج من طلق امرأة بامرأة سواها، وعدم تزوج المطلقة بآخر، وعدم جواز الطلاق إلا بعلة الزنى، والأمر بالعفة. وفيه نهي عن الأخلاق المرذولة كالمكر والخداع وأكل الأموال بالباطل، والرياء والنفاق. الحواريون: هم أصحاب المسيح عيسى ابن مريم وخاصته الذين بادروا إلى الإيمان به وتتلمذوا له وتعلموا منه، وكانوا اثني عشر رجلا. وتعبر عنهم الأناجيل بلفظ (التلاميذ) . وقد أرسلهم المسيح في القرى اليهودية ليدعوا الكفار بدعوة المسيح الحقيقية. معجزات عيسى: صدرت عن عيسى كغيره من الأنبياء معجزات تؤيد دعواه النبوة، والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي يجريه الله تعالى على يد أحد الأنبياء مع انتفاء المعارض، منها خلق هيئة الطير من الطين والنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، والإخبار بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وقد ذكرت في سورة آل عمران [الآيات: 49- 51] . وفاة المسيح: كان افتضاح أمر الكهنة والفريسيين على يد المسيح عليه السلام سببا في كيدهم له، وشكايتهم إلى الوالي، مدّعين عنده أن عيسى يقول: إنه ملك اليهود، وهم لا يقرون بملك سوى قيصر رومية، فأرسل الوالي جندا للقبض على المسيح، فحينما جاؤوا يبحثون عنه ألقى الله شبهه على شخص آخر، هو (يهوذا

الثالوث عند النصارى:

الأسخريوطي) فألقوا القبض عليه وصلب وقتل، وهو الذي واطأ الكهنة على الدلالة عليه بأجر. وأنجى الله عيسى من اليهود، فلم يقبضوا عليه، ولم يقتل ولم يصلب، لقوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 4/ 57] . ثم توفاه الله، ورفعه إليه إلى السماء حيا بجسده وروحه، أو بروحه فقط على قولين، والأول رأي جمهور المسلمين، لقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسى، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 3/ 55] . الثالوث عند النصارى: يعتقد النصارى بوجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت هي (الأب والابن وروح القدس) وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، والشرقية، وعموم البروتستانت إلا القليل منهم، مع أن لفظة الثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، وإنما تقرر ذلك في المجمع النيقاوي سنة (325 م) ومجمع القسطنطينية سنة 381 م، وحكما بأن (الابن والروح القدس) مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن (الابن) ولد منذ الأزل من الأب، وأن (الروح القدس) منبثق من الأب. ومجمع طليطلة سنة 589 م حكم بأن (الروح القدس) منبثق من الابن أيضا. التفسير والبيان: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ذلك المتصف بالأوصاف السابقة الذي قصصناه عليك هو عيسى ابن مريم، وهذا الكلام المذكور هو قول الحق والصدق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو حقيقة عيسى، لا ما يقوله اليهود: إنه ساحر، ولا ما يقوله النصارى: إنه ابن الله أو هو الله كما يذكر في مقدمة الإنجيل الحالي: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكّين [آل عمران 3/ 59- 60] . وهؤلاء الضالون والمغضوب عليهم يشكون

ويتنازعون ويختلفون في عيسى عليه السلام: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [النساء 4/ 156] . ثم نفى الله تعالى عنه أنه ولد له، فقال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي ما صح ولا استقام ولا ينبغي ولا يليق بالله أن يتخذ ولدا إذ لا حاجة له به، وهو حيّ أبدا لا يموت، تنزه وتقدس الله عن مقالتهم هذه، وعن كل نقص من اتخاذ الولد وغيره، إنه إذا أراد شيئا أوجده فورا، فإنه يأمر به فيصير كما يشاء، فمن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ لأن ذلك من أمارات النقص والحاجة: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... [النساء 4/ 171] . وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. ثم أمرهم بعبادة الله قائلا: فَاعْبُدُوهُ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي فاعبدوا الله وحده لا شريك له، وهذا الذي جئتكم به عن الله هو الطريق القويم الذي لا اعوجاج فيه، ولا يضلّ سالكه، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضلّ وغوى. جاء في الآية (10) من الإصحاح الرابع في إنجيل متى: «قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» . وبما أنه لا يصحّ أن يقول الله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فلا بدّ وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى؟ قال أبو مسلم الأصفهاني: الواو في وَإِنَّ اللَّهَ عطف على قول عيسى عليه السلام: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ كأنه قال: إني عبد الله، وإنه ربي وربكم فاعبدوه.

وبالرغم من وضوح أمر عيسى وأنه عبد الله ورسوله، اختلفوا فيه، كما قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاليهود قالوا: إنه ولد زنى، وإنه ساحر، وكلامه هذا سحر، وإنه ابن يوسف النجار، واختلفت فرق النصارى فيه، فقالت النسطورية منهم: هو ابن الله، وقالت الملكية: هو ثالث ثلاثة، وقالت اليعقوبية «1» : هو الله تعالى. فعذاب شديد لهؤلاء الكافرين المختلفين في أمره، من شهود يوم القيامة، وما فيه من الحساب والعقاب، حيث يشهدون حينئذ ذلك اليوم العظيم الهول. وهذا تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله، وافترى وزعم أن له ولدا، ولكن الله تعالى أنظرهم إلى يوم القيامة، وأجّلهم حلما وثقة بقدرته عليهم، فإنه الذي لا يعجل على من عصاه، كما جاء في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] . وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» وقد قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج 22/ 48] وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم 14/ 42] .

_ (1) النسطورية: نسبة إلى عالم يسمى نسطور، والملكية أو الملكانية: نسبة إلى الملك قسطنطين الفيلسوف العالم، واليعقوبية: نسبة إلى عالم يسمى يعقوب.

والخلاصة في صحة الاعتقاد بعيسى عليه السلام هو ما جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» . ثم أخبر الله تعالى عن قوة سمع الكفار وحدة بصرهم يوم القيامة على الضدّ في الدنيا، فقال: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أقوى سمع الكفار وأشد بصرهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء، إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا.. [السجدة 32/ 12] أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا. لكن هؤلاء الظالمون الكافرون يعرفون الحق في الآخرة، وفي الدنيا صم بكم عمي عن الحق، لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا تقصيرهم. ثم أمر الله بإنذارهم، فقال لنبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي وأنذر أيها الرسول الخلائق من المشركين وغيرهم يوم يتحسرون جميعا، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير، حين فرغ من الحساب، وطويت الصحف، وفصل بين أهل الجنة، وأهل النار، وصار الأولون في الجنة، والآخرون في النار، وهم الآن في الدنيا غافلون عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة، غافلون عما يعمل بهم في ذلك اليوم وعما يلاقونه من أهوال، وهم لا يصدقون بالقيامة والحساب والجزاء.

فقه الحياة أو الأحكام:

روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح (أبيض وأسود) فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيؤمر به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بيده وقال: أهل الدنيا في غفلة الدنيا» . إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي وأعلمهم أيها الرسول بأن الله يرث الأرض ومن عليها، فلا يبقى بها أحد من أهلها يرث الأموات ما خلّفوه من الديار والمتاع، ثم إلى الله يردون يوم القيامة، فيجازي كلا بعمله، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الكريمات ما يأتي: 1- إن ما أخبر به القرآن عن كيفية خلق عيسى هو الحق القاطع الذي لا شك فيه، وكل ما عداه من تقولات ومزاعم اليهود والنصارى باطل ساقط لا يليق بالأنبياء والرسل، وكيف يتقبل النصارى الزعم بأن عيسى ربّ وإله، وهم يتهمونه بأنه ابن زانية بغي؟! وإن الاختلاف في شأن عيسى وانقسام أهل الكتاب فيه أحزابا لا داعي له. 2- ليس عيسى ابنا لله كما يزعم النصارى، فما ينبغي لله ولا يجوز أن يتخذ ولدا، لعدم حاجته إليه، فهو منزه عن الشريك والولد وكل نقص، وإن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له: كُنْ فَيَكُونُ فهو القادر على كل

شيء، وقول الله وكلامه قديم غير محدث، فلو كان قوله: كُنْ محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر، ولزم التسلسل، وهو محال. 3- لقد أمر عيسى عليه السلام قومه بوحدانية الله وعبادته، فالله ربه وربهم ورب كل شيء، وهو المستحق العبادة، لا أحد سواه، وهذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه. وقد دلّ قوله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى، على خلاف قول المنجمين: إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب. ودلّ أيضا على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه، فلما قال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى، دلّ ذلك على التوحيد. 4- اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام، فاليهود اتهموه بالسحر وقدحوا في نسبه، والنصارى فرق ثلاث، قالت النسطورية منهم: هو ابن الله، والملكانية: ثالث ثلاثة، وقالت اليعقوبية: هو الله، فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصّرت. 5- العذاب الشديد والهلاك لأولئك الكفار المختلفين في شأن عيسى عليه السلام عند شهود (أي حضور) يوم القيامة. 6- عرّف الله حال القوم الذين يأتونه ليعتبروا وينزجروا، فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، وما أصمهم وأعماهم في الدنيا، فهم في ضلال مبين في عالم الدنيا، وفي الآخرة يعرفون الحق، ففي الدنيا يكون الكافر أصم وأعمى، ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذاب، ولكنه لا ينفعه ذلك.

قصة إبراهيم عليه السلام أو مناقشته لأبيه في عبادة الأصنام [سورة مريم (19) الآيات 41 إلى 50] :

7- لقد أعذر من أنذر، وقد أنذر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قومه والمشركين جميعا ما سيلقونه من الحسرة والندامة يوم القيامة، ويوم الفصل في القضاء بين أهل الجنة وأهل النار، فيدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. 8- إنه تعالى الخالق المالك المتصرف، وإن الخلق كلهم يهلكون، ويبقى هو تعالى، ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا، بل هو الوارث لجميع خلقه، الباقي بعدهم، فلا تظلم نفس شيئا ولا مثقال ذرة، ويرجع الخلائق كلهم إلى ربهم، فيجازي كلّا بعمله. قصة إبراهيم عليه السلام أو مناقشته لأبيه في عبادة الأصنام [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

الإعراب:

الإعراب: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ.. إِذْ في موضع نصب على البدل من قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ أي واذكر في الكتاب قصة إبراهيم، ثم بيّن ذلك، فقال: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ أي واذكر إذ قال لأبيه. أَراغِبٌ أَنْتَ.. أَراغِبٌ مبتدأ، وابتدئ بالنكرة لاعتمادها على همزة الاستفهام. وأَنْتَ فاعل راغِبٌ، لاعتماد اسم الفاعل على همزة الاستفهام، فيجري حينئذ مجرى الفعل، والفاعل هنا يسد مسد خبر المبتدأ. سَلامٌ عَلَيْكَ سَلامٌ مبتدأ، وجاز الابتداء بالنكرة إذا كان فيها فائدة عند المخاطب، والفائدة هنا: تضمنها معنى الدعاء والمتاركة والتبرؤ. البلاغة: صِدِّيقاً نَبِيًّا الصدّيق: صيغة مبالغة، أي المبالغ في الصدق. أَراغِبٌ الهمزة للإنكار والتعجب. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا كناية عن الذكر الحسن والثناء الجميل باللسان لأن الثناء يكون باللسان. نَبِيًّا، عَلِيًّا، حَفِيًّا، سَوِيًّا، عَصِيًّا، وَلِيًّا، حَفِيًّا، شَقِيًّا سجع رصين. المفردات اللغوية: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ أي اذكر لهم واتل عليهم في هذه السورة قصة إبراهيم أو خبره. صِدِّيقاً مبالغا في الصدق، لم يكذب قط. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر. يا أَبَتِ التاء: عوض عن ياء الإضافة (أبي) فلا يجمع بينهما، وكان آزر يعبد الأصنام، فناداه: يا أَبَتِ وهو تلطف واستدعاء. لا يُغْنِي لا يكفيك. شَيْئاً من نفع أو ضرّ. صِراطاً سَوِيًّا طريقا مستقيما مؤديا للسعادة. لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إن عبادة الأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان، لأنه الآمر بها، فبإطاعتك إياه في عبادة الأصنام، تكون عابدا له. عَصِيًّا كثير العصيان. والمطاوع للعاصي عاص، والعاصي جدير بأن ينتقم منه. أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ إن لم تتب. فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ناصرا، وقرينا في اللعن، أو العذاب في النار. أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي أكاره لها، فتعيبها؟ لَئِنْ لَمْ

المناسبة:

تَنْتَهِ عن التعرض لها ومقالك فيها لَأَرْجُمَنَّكَ أي لأشتمنك بالكلام القبيح، أو لأرجمنك بالحجارة، فاحذرني. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا واتركني دهرا طويلا. سَلامٌ عَلَيْكَ مني، أي سلام توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة، أي لا أصيبك بمكروه، ولا أقول لك بعد ما يؤذيك. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي ولكن سأستغفر لك الله، لعله يوفقك للتوبة والإيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر: استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته. حَفِيًّا مبالغا في برّي وإكرامي، فيجيب دعائي. وقد وفى بوعده المذكور، فقال في سورة الشعراء: وَاغْفِرْ لِأَبِي. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ وأترككم وما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. وَأَدْعُوا رَبِّي وأعبده وحده. بِدُعاءِ رَبِّي بعبادته. شَقِيًّا خائب المسعى، مثلكم في دعاء آلهتكم. وفي تصدير الكلام بعسى: تواضع وتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل من الله غير واجب عليه. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالهجرة إلى الشام، والذهاب إلى الأرض المقدسة. وَهَبْنا لَهُ ابنا وابن ابن يأنس بهما، وهما إسحاق من سارّة التي تزوج بها، ثم ولد لإسحاق يعقوب، ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء. وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وكلّا منهما أو منهم وهبناه النبوة. وَوَهَبْنا لَهُمْ للثلاثة مِنْ رَحْمَتِنا الأموال والأولاد وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي ثناء حسنا رفيعا في جميع أهل الأديان. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة في سورة مريم، فبعد أن أبان الله تعالى ضلال النصارى، ذكر ضلال عبدة الأوثان. والفريقان، وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الفريق الثاني أعظم لأن مقصد السورة إثبات التوحيد والنبوة والبعث والحشر، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا وهم النصارى، وفريق أثبت معبودا غير الله جمادا ليس بحي ولا عاقل، وهم عبدة الأصنام، فذكر الفريق الأول، ثم الثاني، لإبطال المذهبين. والسبب في ذكر قصة إبراهيم هو أنه أبو العرب، وكانوا معترفين بملته ودينه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج 22/ 78] فنبههم تعالى إلى منهج إبراهيم من خلال حجاجه مع أبيه آزر.

إسحاق عليه السلام:

وقد ذكرنا قصة إبراهيم في سورة البقرة، ويلاحظ أن إبراهيم عليه السلام- كما ذكر السيوطي- عاش من العمر مائة وخمسا وسبعين سنة (175) وبينه وبين آدم ألفا سنة (2000) وبينه وبين نوح ألف سنة (1000) ومنه تفرعت شجرة الأنبياء. إسحاق عليه السلام: هو ابن سارّة، ولم يذكر في القرآن من قصصه إلا بشارة الملائكة به، وأنه غلام عليم، وأنه نبي من الصالحين، وأن الله بارك عليه. واليهود والنصارى يدّعون أنه الذبيح، مع تكذيب التوراة لهذه الدعوى، كما سأذكر في قصة إسماعيل قريبا. وقد عاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ودفن في حبرون، وهي مدينة الخليل اليوم، بمغارة المكفيلة. يعقوب عليه السلام: هو إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، تزوج بابنتي خاله (لابان) وهما (ليئة وراحيل) في فدان آرام، ثم تزوج بجاريتيهما: زلفا وبلها، ومنهن كان أولاده الذين ولدوا جميعا في (آرام) إلا بنيامين الذي ولد في فلسطين. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة بعد قصتي زكريا ويحيى، وعيسى ومريم، وهي قصة إبراهيم عليه السلام. ومن المعلوم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر، والمنكرون للتوحيد أثبتوا معبودا سوى الله تعالى، وهؤلاء فريقان: منهم من أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا فاهما وهم

التفسير والبيان:

النصارى، ومنهم من أثبت معبودا غير الله جمادا، ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم، وهم عبدة الأوثان. والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم، فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول، تكلم في ضلال الفريق الثاني، وهم عبدة الأوثان. التفسير والبيان: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا هذا عطف على قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ الذي هو عطف على قوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي واذكر أيها الرسول إبراهيم الصدّيق النبي، خليل الرحمن، أبا الأنبياء، واتل خبره على الناس في الكتاب المنزل عليك، فهو بالحجارة، وفي ذلك إيناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وفظاظة أبي جهل. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً اذكر إبراهيم حين قال بلطف وعقل واع وبرهان قاطع لأبيه آزر: يا أبت، لم تعبد ما لا يسمع دعاءك إياه، ولا يبصر ما تفعله من عبادته، ولا يجلب لك نفعا، ولا يدفع عنك ضررا، وهي الأصنام الجمادات. يا أَبَتِ، إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي يا أبي، وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله، على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك، فاتبعني في دعوتي أرشدك طريقا سويا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب، منجيا من كل مرهوب ومكروه.

والمراد بالهداية: بيان الدليل وشرحه وإيضاحه، وقوله: فَاتَّبِعْنِي ليس أمر إيجاب، بل أمر إرشاد، وكانت هذه المحاورة بعد أن صار إبراهيم نبيا. ويلاحظ أنه لم يصف أباه بالجهل، ولا نفسه بالعلم الكامل، لئلا ينفر منه، وإنما قال: أعطيت شيئا من العلم لم تعطه. يا أَبَتِ، لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي يا أبي، لا تطع الشيطان في عبادتك هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها، المستن لها، الراضي بها، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس 36/ 60] وقال سبحانه: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً [النساء 4/ 117] . لا تطع الشيطان، فإن عبادة الأصنام، هي من طاعة الشيطان، والشيطان عاص (كثير العصيان) مخالف مستكبر عن طاعة ربه، حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم، وتحلّ به النقم، لذا طرده ربه وأبعده من رحمته، فلا تتبعه تصر مثله، فإن عبادة الأصنام لا يتقبلها عقل، ولكنها تنشأ من وسوسة الشيطان وإغوائه، فكانت عبادتها عبادة له، وطاعة لإغوائه، والشيطان عدو آدم وذريته، لا يريد لكم إلا الشر. يا أَبَتِ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا يا أبي، إني أخشى أن يصيبك عذاب الله على شركك وعصيانك لما أطلبه منك، فتكون بذلك مواليا للشيطان، وقرينا معه في النار، بسبب موالاته. وهذا تحذير لأبيه من سوء العاقبة، وإنذار بالشر، حيث لا يكون له مولى ولا ناصر ولا مغيث إلا إبليس، وليس له ولا لغيره من الأمر شيء، بل اتباعه موجب لإحاطة العذاب به، كما قال تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ

قَبْلِكَ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النحل 16/ 63] . وبالرغم من هذا الأدب في الدعوة إلى التوحيد مع البراهين والأدلة الدالة على بطلان عبادة الأوثان، أجابه أبوه بما هو غير مأمول منه، فقال تعالى: قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أجاب أبو إبراهيم ولده إبراهيم فيما دعاه إليه قائلا: أمعرض أنت عن تلك الأصنام ومنصرف إلى غيرها؟ وإن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فامتنع عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك لأرجمنك بالحجارة أو لأشتمنك، وفارقني زمنا طويلا. ويلاحظ أن الأب قابل ابنه بالعنف، فلم يقل له: يا بني، كما قال الابن له: يا أبت، وقابل وعظه الرقيق بالتهديد والوعيد بالشتم أو بالضرب بالحجارة، وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وفظاظة أبي جهل. ومع كل هذا أجابه إبراهيم باللطف قائلا: قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك سلام توديع وترك لا سلام تحية، فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، لحرمة الأبوة، وكما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] وقال سبحانه: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 55] . ولكن سأطلب لك من الله أن يهديك ويغفر لك، بأن يوفقك للإيمان، ويرشدك للخير، إن ربي كان بي لطيفا كثير البرّ، يجيبني إذا دعوته. ونظير

الآية: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء 26/ 86] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم 14/ 41] . والمراد بكل ذلك طلب الهداية وترك الضلال. وإنما استغفر له لوعد سابق منه أن يؤمن، كما قال تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة 9/ 114] . ويرى ابن كثير أن الاستغفار للمشركين كان جائزا ثم نسخ في شرعنا، فقال: وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام، وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك، حتى أنزل الله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. الآية [الممتحنة 60/ 4] يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، واستقر التشريع بما دلّ عليه قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 9/ 113] «1» . والخلاصة: إن الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق حال الحياة لا بأس به، وأما بعد الموت على الشرك أو الكفر، فهو ممنوع، فقول بعض الناس: المرحوم فلان، وهو يعلم أنه مات كافرا، غير جائز.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 123- 124.

ثم قرر إبراهيم عليه السلام الهجرة إلى بلاد الشام، فقال تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي وأبتعد عنكم، وأهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم، حين لم تقبلوا نصحي، وأعبد ربي وحده لا شريك له، وأجتنب عبادة غيره، لعلي لا أكون بدعاء ربي خائبا، كما خبتم أنتم بعبادة تلك الأصنام التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم. وعَسى ذكر ذلك على سبيل التواضع، كقوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء 26/ 82] ويراد بها التحقق لا محالة، فهو عليه السلام أبو الأنبياء. كذلك قوله: شَقِيًّا ذكره على سبيل التواضع، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم في قوله المتقدم لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. ولما أنفذ ما نواه وعزم عليه، حقق الله رجاءه ودعاءه، فقال: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي فلما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه، وترك أرضه ووطنه، وهجر موضع عبادتهم غير الله، وهاجر في سبيل الله إلى أرض بيت المقدس حيث يقدر على إظهار دينه، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق بعد أن تزوج من سارّة، وابنه يعقوب حفيده، بدل الأهل الذين فارقهم، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقرّ الله بهم عينيه، فكل الأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحب إبراهيم وتحترمه مع إسحاق ويعقوب. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والأولاد والكتاب، وجعلنا لهم الثناء الحسن على ألسن العباد، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] . قال ابن جرير: وإنما قال: عَلِيًّا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فقه الحياة أو الأحكام:

وبما أن العرب من سلالة إبراهيم، وتدعي أنها على دين إبراهيم، فالله ذكر لهم قصته، ليعتبروا ويتعظوا. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- إن أسباب إيراد قصة إبراهيم عليه السلام ثلاثة: الأول- كان إبراهيم عليه السلام أب العرب، وكانوا مقرين بعلو شأنه وطهارة دينه، فقال الله لنبيه: اقرأ عليهم في القرآن أمر إبراهيم، فهم من ولده، وإنه كان حنيفا مسلما، لم يتخذ الأنداد، فإن كنتم مقلدين لآبائكم، فقلدوا إبراهيم في ترك عبادة الأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان، وبالجملة: فاتبعوا إبراهيم إما تقليدا وإما استدلالا، ولم تتخذون الأنداد؟! والله يقول: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة 2/ 130] . الثاني- كان كثير من الكفار في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا، فذكر الله قصة إبراهيم عليه السلام، وبيّن أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل، فكونوا مثله. الثالث- كان كثير من الكفار يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال، كما حكى الله تعالى عنهم: قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف 43/ 22] وقالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ [الأنبياء 21/ 53] فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريق الاستدلال، تنبيها على فساد هذه الطريقة. 2- وصف تعالى إبراهيم عليه السلام بأنه كان صديقا نبيا، أي مبالغا في كونه صادقا: وهو الذي يكون عادته الصدق، أو كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهورا به.

3- كان إبراهيم عليه السلام في محاورته أباه في غاية الأدب واللطف والرفق، فكان يكرر قوله استعطافا وشفقة: يا أبت، ولما يئس من استجابته لدعوته، قال: سلام عليك، سلام متاركة وتوديع، لا سلام تحية، سأستغفر لك ربي، طالبا منه هدايتك، وكان في خطابه كله له شديد الخوف عليه من الكفر والعذاب في النار. وكان الأب آزر مستعليا مترفعا يعتمد على التهديد والقطيعة والسب والشتم والرجم بالحجارة. 4- عاب إبراهيم عليه السلام الوثن من ثلاثة أوجه: أحدها- لا يسمع. الثاني- لا يبصر. الثالث- لا يغني عنك شيئا، كأنه قال له: بل الألوهية ليست إلا لربي، فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر، كما قال: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] ويقضي الحوائج: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل 27/ 62] . 5- ليحذر الإنسان طاعة الشيطان فيما يأمره به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده، والشيطان دائما عاص لربه مخالف أوامره. 6- حذر إبراهيم عليه السلام أباه آزر من الكفر وعاقبته، فقال: إني أخاف أن تموت على الكفر، فيمسّك العذاب، فتكون للشيطان قرينا في النار. 7- يرى جمهور العلماء أنه لا يبدأ الكافر بالسلام لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم فاضطروه إلى أضيقه» وربما كان هذا الحديث لواقعة معينة إثر تآمر اليهود على قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أشار بعضهم.

وجوز سفيان بن عيينة تحية الكافر وأن يبدأ بها، قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم، قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة 60/ 8] وقال: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة 60/ 4] الآية وقال إبراهيم لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ ويؤيده حديث آخر في الصحيحين عن أسامة بن زيد: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبيّ بن سلول. وقال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه، وقال: ولكن حق الصحبة. وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته، لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مرّ بكافر فسلّم عليه، فقال: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وأما الاستغفار للكافر فقد أوضحناه في تفسير الآيات هنا، وخلاصته: أنه ممنوع بعد الموت، جائز في الحياة بمعنى طلب الهداية والرشاد. والدليل على أن الاستغفار للكافر لا يجوز آيتان تقدمتاهما: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة 9/ 113] وإِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.. [الممتحنة [60/ 4] أي لا تتبعوه في ذلك. 8- قال الرازي: اعلم أنه ما خسر على الله أحد، فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزل قومه في دينهم وفي بلدهم، واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره، لم يضره ذلك دينا ودنيا، بل نفعه فعوضه أولادا أنبياء، وذلك من أعظم النعم في الدنيا والآخرة. ثم إنه تعالى وهب لهم مع النبوة ما وهب من المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة، ثم قال تعالى: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ

قصة موسى عليه السلام [سورة مريم (19) الآيات 51 إلى 53] :

عَلِيًّا أي ثناء حسنا لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم «1» . واللسان يذكّر ويؤنث. قصة موسى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) الإعراب: الْأَيْمَنِ صفة الطور أو الجانب، والظاهر أنها صفة الجانب لقوله في آية أخرى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم 19/ 52] بنصب الأيمن. نجيا حال من أحد الضميرين في نادَيْناهُ وقَرَّبْناهُ. أَخاهُ هارُونَ هارُونَ: بدل أو عطف بيان، وأَخاهُ مفعول لوهبنا. نَبِيًّا حال، هي المقصودة بالهبة، إجابة لسؤاله أن يرسل أخاه معه، وكان أسنّ منه. المفردات اللغوية: مُخْلَصاً مختارا مصطفى مخلّصا من الدنس، وقرئ بكسر اللام، أي مخلصا في عبادته عن الشرك والرياء، موحدا أسلم وجهه لله. وَنادَيْناهُ يقول: يا موسى، إني أنا الله. مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ من ناحية الجبل اليمنى، وهي التي تلي يمين موسى حين أقبل من مدين، بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة، والطور: الجبل بين مصر ومدين. وَقَرَّبْناهُ تقريب تشريف وتكريم. نَجِيًّا مناجيا، مكلما الله بلا واسطة، بأن أسمعه الله تعالى كلامه. مِنْ رَحْمَتِنا نعمتنا، أي من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا. أَخاهُ معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه 20/ 29] فإنه كان أسنّ من موسى.

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 230

المناسبة:

المناسبة: هذه هي القصة الرابعة لإخبار العرب وغيرهم أن موسى عليه السلام مثل إبراهيم عليه السلام أخلص العبادة لله عن الشرك والرياء، وأسلم وجهه لله تعالى. ومثله أيضا أخوه هارون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام، وإنما وهب الله له نبوته، لا لشخصه وأخوته، وذلك إجابة لدعائه في قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي: هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه 20/ 29- 31] ، فأجابه الله تعالى إليه بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 36] ، وقوله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص 28/ 35] . التفسير والبيان: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى لما ذكر الله تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر موسى الكليم، فقال: واذكر يا محمد في الكتاب، واتل على قومك أوصاف موسى التي سأخبرك عنها وهي خمس صفات: 1- إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً أي جعلناه مختارا مصطفى، وأخلصناه مطهرا من الآثام والذنوب، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف 7/ 144] . وقرئ بالكسر (مخلصا) ومعناه: أخلص لله في التوحيد والعبادة، والإخلاص: هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده. قال الثوري عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله، أخبرنا عن المخلص لله، قال: الذي يعمل لله، لا يحب أن يحمده الناس. 2- وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا جمع الله له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة، وهم: (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم

صلوات الله وسلامه) أرسله الله إلى عباده داعيا ومبشرا ونذيرا، فأنبأهم عن الله بشرائعه. والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وكان معه كتاب فيه شريعته كموسى عليه السلام، سواء أنزل عليه كتاب مستقل أم كتاب من سبقه. والنبي: هو من أوحي إليه بشرع يخبر به عن الله ويخبر به قومه، وليس معه كتاب، كيوشع عليه السلام. 3- وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي كلمناه من جانب الطور عن يمين موسى أو عن يمين الجبل نفسه، حين جاء من مدين متجها إلى مصر، فهو كليم الله بعدئذ، وأصبح رسولا، وواعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، وأنزلنا عليه كتاب التوراة. والمناداة عن يمين موسى أصح، فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. 4- وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي أدنيناه إدناء تشريف وتقريب منزلة، حتى كلمناه، أو حين مناجاته لنا. فقوله: نَجِيًّا من المناجاة في المخاطبة، أي أنه أصبح في العالم الروحي قريب المنزلة من الله تعالى. 5- وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا أي منحناه من فضلنا ونعمتنا، فجعلنا أخاه نبيا، حين سأل ربه قائلا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 29- 32] فحقق له مطلبه وأجاب دعاءه وسؤاله وشفاعته بقوله: قالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 36] ، وقوله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص 28/ 35] . قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة

فقه الحياة أو الأحكام:

موسى في هارون أن يكون نبيا، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا. قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين. فقه الحياة أو الأحكام: لم يبلغ رسول مرتبة أولي العزم إلا بمقومات عالية، وخصائص فريدة رفيعة، وهذه بعض خصائص موسى وصفاته، أخلصه ربه واختاره، فكان مخلصا لله في عبادته، بعيدا عن الشرك والرياء، وجعله رسولا بشرع وكتاب ونبيا من الصالحين، وكلّمه ربه من غير وحي، وناجاه من جانب الطور، في البقعة المباركة، عند الشجرة، عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر. وقربه إليه ربه تقريب تشريف وإجلال، حالة كونه مناجيا حضرة الله تعالى، مثل تقريب الملك لمناجاته، وأنعم عليه مجيبا سؤاله ودعاءه بجعل أخيه هارون الأكبر منه سنّا نبيا ورسولا، وتلك نعمة كبري على الأخوين، إذ آزرهما ببعضهما، وجعلهما متعاضدين متعاونين في تبليغ الرسالة الإلهية إلى فرعون وآله وإلى بني إسرائيل. قصة إسماعيل عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) الإعراب: مَرْضِيًّا خبر كان، وأصله «مرضويا» فأبدلوا من الضمة كسرة، ومن الواو ياء، على لغة من ثنى «الرضا» «رضوان» . ومن قال: «رضيان» كان من ذوات الياء، وأصله «مرضوي» فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن، فقلبوا الواو ياء، وأدغموا الياء في الياء، وكسروا ما قبل الياء مناسبة لها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: صادِقَ الْوَعْدِ ذكره بالمشهور به، فلم يعد شيئا إلا وفي به، وانتظر من وعد ثلاثة أيام، أو حولا، حتى رجع إليه في مكانه. وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا إلى قبيلة جرهم. وهو يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم عليه السلام كانوا على شريعته. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ قومه، اشتغالا بما هو الأهم، وهو أن يعنى الإنسان بتكميل نفسه ومن هو أقرب الناس إليه أولا، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه 20/ 132] ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] . وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم 19/ 55] لاستقامة أقواله وأفعاله، والمرضي عند الله: الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات. المناسبة: هذه هي القصة الخامسة في سورة مريم، وهي قصة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان على شريعة أبيه في توحيد الله ومحاربة الوثنية وعبادة الأصنام، وإبراهيم كما عرفنا أبو العرب يمنيها ومضريها. قال الزمخشري: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة، ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس. وقدم الله تعالى قصة موسى عليه السلام على قصة إسماعيل عليه السلام، لينسجم الكلام عن يعقوب وبنيه دون فاصل بينهما. أضواء على قصة إسماعيل الذبيح: رأى إبراهيم عليه السلام في منامه- ورؤيا الأنبياء حق- أنه يذبح ولده قربانا لله تعالى، وكان ذلك الولد على الأصح الراجح إسماعيل، فعرض الأمر على ولده، فتقبل القضاء بالرضا وقال: يا أَبَتِ، افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات 37/ 102] .

فلما بدأ بتحقيق الأمر، وأهوى بالمدية إلى ذبح ولده، ناداه الله بالكفّ، وأن هذا العمل منه يكفي تصديقا للرؤيا، ورأى إبراهيم كبشا قريبا منه، فذبحه فدية عن ولده، ولم تعين الآيات اسم ذلك الولد، ولكن سياق الآيات، وتبشير إبراهيم بإسحاق بعدها، يدل على أن الذبيح إسماعيل، وذلك في الآيات من سورة الصافات [99- 113] ، وفيها: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [101] ، ثم قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [108] ، والضمير يعود إلى الذبيح. ثم قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [112] ، فالإتيان بالبشرى بإسحاق بعد ذكر قصة الذبيح صريح في أن إسحاق غير الغلام المأمور بذبحه، وعود الضمير إلى الغلام الذبيح، وذكر اسم إسحاق معه صريحا يقتضي التغاير بين الذبيح وإسحاق. ويرى اليهود أن إسحاق هو الذبيح ليفتخروا بأن أباهم هو الذي جاد بنفسه في طاعة ربه، وهو في حالة صغره. والدليل على أن الذبيح إسماعيل من التوراة نفسها: أن الذبيح وصف بأنه ابن إبراهيم الوحيد، والإقدام على ذبح الولد الوحيد هو الإسلام بعينه، أي الطاعة والامتثال، ولم يكن إسحاق وحيدا لإبراهيم في يوم من الأيام لأن إسحاق ولد، ولإسماعيل أربع عشرة سنة، كما هو صريح التوراة، وبقي إسماعيل إلى أن مات إبراهيم، وحضر إسماعيل وفاته ودفنه. وذبح إسحاق يناقض وعد الله لإبراهيم أن سيكون له ابن هو يعقوب. ثم إن مسألة الذبح وقعت في مكة وإسماعيل هو الذي ذهب به أبوه إليها رضيعا، كما في حديث البخاري الآتي «1» ، وعند الزمخشري في الكشاف حديث: «أنا ابن الذبيحين» رواه الحاكم في المناقب.

_ (1) قصص القرآن للأستاذ عبد الوهاب النجار 101- 103

إسماعيل وأمه هاجر في مكة:

إسماعيل وأمه هاجر في مكة: لم يبن بمكة شيء بعد البيت إلا في القرن الثاني قبل الإسلام، في عهد قصي بن كلاب، فإنه بنى دار الندوة، وتبعته قريش في البناء حول المسجد. جاء في البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، حتى بلغ يَشْكُرُونَ. وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى- أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات» . قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» . فلما

بناء البيت:

أشرفت على المروة، سمعت صوتا، فقالت: صه- تريد نفسها، ثم تسمّعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه- أو قال: بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم- أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينا معينا» . وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. إلخ الحديث. بناء البيت: كان إبراهيم عليه السلام يزور ولده إسماعيل حينا بعد آخر، ففي إحدى هذه الزيارات أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، فصدعا بالأمر وبنيا الكعبة. ولما تمّ بناؤها أمره الله تعالى أن يعلم الناس بأنه بنى بيتا لعبادة الله تعالى وأن عليهم أن يحجوه، وطلب إبراهيم وإسماعيل من الله تعالى أن يريهما المناسك التي ينسكانها. والآيات التي توضح ذلك: [البقرة 2/ 125- 129] ، [إبراهيم 14/ 35- 37] ، [الحج 22/ 26- 37] . والكعبة: أول بيت وضع للناس لعبادة الله تعالى [آل عمران 3/ 96- 97] . حياة إسماعيل وأولاده: لإسماعيل اثنا عشر ولدا رؤساء قبائل، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، مات بمكة، ودفن بالحجر بجواز البيت هو وأمه. التفسير والبيان: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ واذكر أيها الرسول في القرآن خبر وصفات

إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم، وهي صفات أربع: 1- إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ مشهورا بالوفاء، مبالغا بإنجاز ما وعد، فما وعد وعدا مع الله أو مع الناس إلا وفّى به، فكان لا يخالف شيئا مما يؤمر به من طاعة ربه، وإذا وعد الناس بشيء أنجز وعده، وناهيك من صدق وعده أنه وعد أباه أن يصبر على الذبح، فوفّى بذلك، قائلا: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات 37/ 102] . وصدق الوعد من الصفات الحميدة في كل زمان ومكان، وخلفه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف 61/ 2- 3] ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» ، وإذا كانت هذه صفات المنافقين فضدها صفات المؤمنين، ومما يؤسف له أن خلف الوعد شائع بين المسلمين، وبخاصة التجار والعمال وأصحاب الحرف. 2- وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا جمع الله له بين الوصفين كأبيه وكموسى عليهم السلام، فكان رسولا إلى جرهم في مكة، لتبليغهم شريعة إبراهيم، وإخبارهم بما أنزل الله تعالى، وهذا دليل على أنه لا يشترط إنزال كتاب مستقل على الرسول. وفي هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، وأخرج الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» . 3- وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي وكان يأمر أمته وعشيرته وأهله بهاتين العبادتين الشرعيتين المهمتين جدا، فكان صابرا على طاعة ربه، كما

فقه الحياة أو الأحكام:

قال تعالى لرسوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه 20/ 132] ، وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] . وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل، فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» . وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه- واللفظ له- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» . 4- وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي رضيا زاكيا صالحا، مرضي العمل غير مقصر في طاعة ربه، فعلى المؤمن الاقتداء به. فقه الحياة أو الأحكام: هذه مجموعة خصال أخرى لرسول نبي هو إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، والأظهر أن الذبيح هو وليس إسحاق كما تقدم في سورة الصافات. خصة الله تعالى بصدق الوعد، وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما، ولأنه كان مشهورا بذلك مبالغا في الوفاء بالوعد. وهو كما تقدم صفة حميد، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الطبراني في الأوسط عن علي وابن مسعود، وهو ضعيف: «العدة دين» . وإيجاب الوفاء من محاسن المروءة وموجبات الديانة، لكن لا يلزم قضاء، فليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر بن عبد البر: أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء، أي لا يقتسم مع الدائنين العاديين الآخرين ما يوجد من أموال المدين لأن ما وعد به لا يصبح دينا.

قصة إدريس عليه السلام [سورة مريم (19) الآيات 56 إلى 57] :

لكن لا خلاف أن الوفاء بالدين يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفّى بنذره. ويرى الإمام مالك: أن الوعد ملزم إذا دخل الموعود في التزام ما، أو وعد بقضاء دين عنه، وشهد عليه اثنان، يلزمه ذلك قضاء «1» . ويرى سائر الفقهاء الآخرين: أن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم تقبض في العارية، وفي غير العارية: هي أشياء وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى جرهم في مكة ونبيا صالحا، وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضيا مقبولا وهذا في نهاية المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز بأعلى الدرجات. وإذا قرنت الزكاة بالصلاة أريد بها الصدقات الواجبة، فهي طاعة لله لازمة، تتطلب الإخلاص في أدائها، كما أن الصلاة واجبة. والأقرب- كما قال الرازي- في الأهل: أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع، فيدخل فيه كل أمته لأنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة. قصة إدريس عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) المفردات اللغوية: إِدْرِيسَ هو سبط شيث، وجد نوح لأبيه، واسمه (أخنوخ) لقب إدريس بذلك لكثرة

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 116.

المناسبة:

درسه إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وإنه أول من خط بالقلم، وخاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة، فقاتل بني قابيل، وأول مرسل بعد آدم. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا يعني شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى، وقيل: الجنة، وقيل: في السماء الرابعة أو السادسة أو السابعة، والأول أصح. المناسبة: هذه قصة إدريس هي القصة السادسة من سورة مريم، ذكرت للعبرة لأنه دعا إلى دين الله والتوحيد وعبادة الخالق، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة بالعمل الصالح في الدنيا، وحض على الزهد في الدنيا والعمل بالعدل، وأمر بالصلاة وبصيام أيام من كل شهر، وحث على جهاد الأعداء، وأمر بالزكاة معونة للضعفاء، وغلظ في الطهارة من الجنابة والكلب والحمار، وحرم المسكر من كل شيء. وهو أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام. فهو من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح. وجاء في صحيح مسلم في حديث الإسراء أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ به في السماء الرابعة. وهذا هو الصحيح، وأما ما ذكر في البخاري من أنه في السماء الثانية فهو وهم. ولد بمنف في مصر، وسموه (هرمس الهرامسة) وقيل: ولد ببابل، وأخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم، وهو جد جد أبيه. وأقام بمصر يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الله عزّ وجلّ. وكان يعلّمهم كيفية تخطيط المدن. أقام في الأرض اثنتين وثمانين سنة، وكان على فص خاتمه: «الصبر مع

التفسير والبيان:

الإيمان بالله يورث الظفر» ، وعلى المنطقة التي يلبسها: «الأعياد في حفظ الفروض، والشريعة من تمام الدين، وتمام الدين من كمال المروءة» ، وعلى المنطقة التي يلبسها وقت الصلاة على الميت: «السعيد من نظر لنفسه، وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة» ، وكانت له مواعظ وآداب. التفسير والبيان: وصف الله تعالى إدريس جد نوح الذي هو أول من خط بالقلم، وخاط الثياب، ولبس المخيط بصفات ثلاث هي: 1- إنه كان صدّيقا، أي كثير الصدق، قوي التصديق بآيات الله تعالى. 2- وكان رسولا نبيا، أي موحى إليه بشرع، مأمورا بتبليغه إلى قومه، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذرّ. 3- ورفعه الله مكانا عليا، أي أعلى قدره، وشرفه بالنبوة، وجعله ذا منزلة عالية، كما قال الله لنبيه: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح 94/ 4] ، وروى مسلم في صحيحة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ به في ليلة الإسراء، وهو في السماء الرابعة» . وجرت العادة ألا يرفع إلى السماء إلا من كان عظيم القدر والمنزلة. والأولى في رأي الرازي أن المراد بالصفة الثالثة الرفعة في المكان إلى موضع عال لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان، لا في الدرجة. والظاهر لي أن المراد الرفعة في الدرجة، إذ لا فرق في التعبير بين المكان والمكانة، فيقال: فلان ذو مكان عال عند السلطان. وسبب رفع مكانته: أنه كان كثير العبادة، يصوم النهار، ويتعبد في الليل. قال وهب بن منبّه: كان يرفع لإدريس عليه السلام كل يوم من العبادة

جملة صفات الأنبياء عليهم السلام [سورة مريم (19) آية 58] :

مثلما يرفع لأهل الأرض في زمانه. وأصحاب هذه الخصال هم قدوة يقتدي بها المؤمن، ويتحلى بها المخلص، وقد بدأ الله نبيه بالأمر بها والخطاب معه لأنه قدوة أمته، والمثل الأعلى للمؤمنين على الدوام، مشيرا إلى ذلك في الآية التالية. جملة صفات الأنبياء عليهم السلام [سورة مريم (19) : آية 58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) الإعراب: أُولئِكَ الَّذِينَ مبتدأ وخبر أو الذين: صفة، والخبر: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ..، وهو إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء. خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا منصوبان على الحال المقدرة، أي مقدّرين السجود والبكاء. وبُكِيًّا جمع باك. إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الجملة الشرطية خبر، إذا جعلنا الَّذِينَ أَنْعَمَ.. صفة لأولئك، وهي كلام مستأنف إن جعلنا الَّذِينَ خبرا، لبيان خشيتهم من الله، مع علو الدرجة وشرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز وجل. البلاغة: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الإشارة بالبعيد لعلو الرتبة. المفردات اللغوية: أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الدينية والدنيوية. مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول لأن جميع الأنبياء منعم عليهم. مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ من هنا للتبعيض، والمراد به هنا: إدريس الذي هو من ذرية آدم عليه السلام، لقربه منه لأنه جد نوح أي جد أبيه. وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة، أي إبراهيم بن سام بن نوح. وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ أي إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وَإِسْرائِيلَ هو يعقوب

المناسبة:

عليه السلام، أي من ذريته وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي ومن جملتهم، واجْتَبَيْنا اصطفينا واخترنا للنبوة والكرامة. سُجَّداً جمع ساجد. وَبُكِيًّا جمع باك، روى ابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اتلو القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» . والبكا: بالقصر مثل الحزن، لا صوت معه. المناسبة: بعد أن أثنى الله على كل رسول من رسله العشرة بما يخصه، جمعهم آخرا بصفة واحدة: هي الإنعام عليهم بالنبوة، والهداية إلى طريق الخير، والاصطفاء من سائر خلقه. قال ابن كثير: ليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس «1» . التفسير والبيان: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أي أولئك المذكورون من أول السورة إلى هنا، من لدن زكريا إلى إدريس، بل وجميع الأنبياء هم الذين أنعم الله عليهم بنعمة النبوة والقرب منه، وعظم المنزلة لديه، واختارهم واجتباهم من بين عباده، وهداهم وأرشدهم ليكونوا المثل الأعلى للبشرية، والأسوة الحسنة للناس جميعا في عبادة الله وطاعته والتأسي بطريقتهم ومنهجهم وأخلاقهم. مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ أبي البشر الأول عليه السلام. وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملنا في السفينة مع نوح أبي البشر الثاني، وهم من عدا إدريس عليه السلام الذي كان سابقا على نوح، على ما ثبت في الأخبار، جمعهم الله في كونهم من ذرية آدم، ثم خص بعضهم بأنه من ذرية المحمولين مع نوح، والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 126

وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم السلام. وَإِسْرائِيلَ أي ومن ذرية إسرائيل، أي يعقوب، وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم عليهم السلام. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي ومن جملة من هدينا إلى الإسلام الذي هو الدين الحق المشترك بين جميع الأنبياء، ومن جملة من اخترنا للنبوة والكرامة والاصطفاء. إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أي كانوا إذا سمعوا آيات الله المتضمنة حججه ودلائله وبراهينه وشرائعه المنزلة، سجدوا لربهم خضوعا لذاته واستكانة وانقيادا لأمره، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، وهم باكون خشية من الله ومن عذابه. والبكي: جمع باك. قال ابن كثير: ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء: أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ، كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ، وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 83- 90] وقال سبحانه وتعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر 40/ 78] وفي صحيح البخاري عن مجاهد: أنه سأل ابن عباس أفي ص سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم يعني داود.

صفات خلف الأنبياء وجزاؤهم وصفات التائبين ومستحقي الجنة [سورة مريم (19) الآيات 59 إلى 63] :

لهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم «1» . وعند ابن ماجه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المرّي قال: قرأت القرآن عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، فقال لي: يا صالح، هذه القراءة، فأين البكاء؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود، حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه» «2» . والذي يستنبط من هذه الآية كما فهم منها: أن جميع الأنبياء هم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة للبشرية في سلامة العقيدة، وكثرة العبادة، وصحة الدين، ونقاوة الأصل، وطهارة النسب والمعدن. واستقامة المنهج والطريق، ورفعة الشأن والخلق. صفات خلف الأنبياء وجزاؤهم وصفات التائبين ومستحقي الجنة [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)

_ (1) المرجع السابق 127. [.....] (2) تفسير الرازي: 21/ 234.

الإعراب:

الإعراب: جَنَّاتِ عَدْنٍ جَنَّاتِ بدل منصوب من قوله: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي يدخلون جنات عدن، وهو بدل الشيء من نفسه لأن الألف واللام في الجنة للجنس. إِلَّا سَلاماً إما منصوب لأنه استثناء منقطع، أو منصوب على البدل من (لغو) . بِالْغَيْبِ حال. نُورِثُ مِنْ عِبادِنا نُورِثُ مضارع أورث، وهو يتعدى إلى مفعولين، الأول منهما محذوف، وهو الهاء عائد الموصول، أي نورثها، والمفعول الثاني مَنْ كانَ تَقِيًّا. ومِنْ عِبادِنا متعلق بنورث، أي تلك الجنة التي نورثها من كان تقيا من عبادنا. البلاغة: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ جناس ناقص لتغير الحركات والشكل. بُكْرَةً وَعَشِيًّا بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَخَلَفَ بسكون اللام: عقب السوء، وبفتح اللام: عقب الخير. أَضاعُوا الصَّلاةَ تركوها بتاتا، أو أخروها عن وقتها. وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ انهمكوا في المعاصي واللذات. غَيًّا أي شرا أو واديا في جهنم، والمعنى: يقعون في نار جهنم، ويلقون جزاءهم فيها. إِلَّا بمعنى لكن، وهو يدل على أن الآية في الكفرة. وَلا يُظْلَمُونَ ينقصون. شَيْئاً من ثوابهم وجزاء أعمالهم. جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام بِالْغَيْبِ أي وهي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها. إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ موعوده. مَأْتِيًّا بمعنى آتيا لا محالة. أو أن موعوده الذي هو الجنة يأتيه أهله الذين وعدوا به. لَغْواً فضولا من الكلام لا يفيد. إِلَّا سَلاماً أي لكن يسمعون سلاما من الله أو من الملائكة عليهم، أو من بعضهم على بعض. بُكْرَةً وَعَشِيًّا على عادة المتنعمين، والتوسط، وفي قدر وقتهما في الدنيا، علما بأنه ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدا. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى أولئك الأنبياء وأتباعهم بصفات الثناء والمدح من

التفسير والبيان:

اتباع أوامر الدين وترك نواهيه، ترغيبا في التأسي بطريقتهم، ذكر صفات الخلف الذين أتوا بعدهم ممن أضاعوا واجبات الدين، وانتهبوا اللذات والشهوات، ثم ذكر ما ينالهم من العقاب في الآخرة، إلا من تاب، فإن الله يقبل توبته، ويورثه جنات النعيم التي لا يرثها إلا الأتقياء. قال الرازي: وظاهر الكلام. أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق، كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء. أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتلا هذه الآية، قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر» . التفسير والبيان: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أي فجاء خلف سوء من بعد أولئك السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم القائمون بحدود الله وأوامره، المؤدون فرائض الله، التاركون لزواجره. أولئك الخلف يدّعون الإيمان واتباع الأنبياء، ولكنهم مخالفون مقصرون كاليهود والنصارى وفسّاق المسلمين الذين تركوا الصلاة المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم من المحرّمات على طاعة الله، فاقترفوا الزنى، وشربوا الخمور، وشهدوا شهادة الزور، ولعبوا الميسر، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء جزاؤهم أنهم سيلقون غيا، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة، لارتكابهم المعاصي، وإهمال الواجبات.

والمراد بإضاعة الصلاة في الأظهر تركها بالكلام، وعدم فعلها أصلا، وجحود وجوبها. ويرى بعضهم كالشوكاني أن من أخر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضا من فروضها، أو شرطا من شروطها، أو ركنا من أركانها، فقد أضاعها. لذا ذهب جماعة من السلف والخلف والأئمة، كما الذي رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وهو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» والحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن بريدة: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» . ثم استثنى الله تعالى من الجزاء المتقدم التائبين، فقال: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لكن من تاب مما فرط منه من ترك الصلوات، واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملا صالحا، فأولئك يدخلهم ربهم الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم لأن «التوبة تجب ما قبلها» في حديث ذكره الفقهاء ، وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وأولئك أيضا لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان العمل قليلا لأن أعمالهم السابقة ذهبت هدرا، وصارت منسية، تفضلا ورحمة من الله الكريم اللطيف الحليم. وهذا الاستثناء كقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ.. ثم قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 68- 70] .

ثم وصف الله تعالى الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم وهي أوصاف ثلاثة: 1- جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي هي جنات إقامة دائمة، وعد الرحمن بها عباده الأبرار بظهر الغيب، فآمنوا بها ولم يروها لقوة إيمانهم، ولأن وعد الله آت لا يخلف، ومنها الجنة، يأتيها أهلها لا محالة. وقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي آتيا: تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل 73/ 18] أي كائنا لا محالة. 2- لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أي لا يسمع الأبرار أهل الجنة فيها كلاما ساقطا، أو تافها لا معنى له، أو هذرا لا طائل تحته، كما قد يوجد في الدنيا، ولكن يسمعون سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، بما يشعرهم بالأمان والطمأنينة، وهما منتهى الراحة والسعادة. وقوله: إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] . 3- وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب قدر وقت البكرة والعشي، أي وقت الغداء صباحا، والعشاء مساء إذ ليس هناك ليل ولا نهار، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا، وفي أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنهار، كما أخرج الإمام أحمد والشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أول زمرة تلج الجنة، صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخّطون فيها، ولا يتغوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوّة «1» ، ورشحهم

_ (1) الألوّة: بفتح الهمزة وضمها، عود يتبخر به، والمجامر جمع مجمرة: وهي الشيء الذي يوضع فيه الجمر والبخور.

فقه الحياة أو الأحكام:

المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا» . وهذا وقت طعام أهل الاعتدال، أما النهم فيأكل متى شاء. وأسباب استحقاق الجنان هي: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا أي هذه الجنة التي وصفناها بتلك الأوصاف الرائعة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله عز وجل في السرّاء والضرّاء، أي نجعلها حقا خالصا لهم كملك الميراث، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون 23/ 1- 11] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- جاء بعد الأنبياء وأتباعهم الأتقياء خلف سوء وأولاد شر. أ- تركوا أداء الصلوات المفروضة، وهذا دليل على أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يعذب بها صاحبها. روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضّبّي أنه أتى المدينة، فلقي أبا هريرة، فقال له: يا فتى، ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به قلت: بلى، قال: «إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته- وهو أعلم-: انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة، كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك» .

وأخرجه النسائي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر..» الحديث. ب- واتبعوا شهواتهم وهي عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه. جاء في الصحيح: الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أنس «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» . 2- إن جزاء خلف السوء الغي، أي الهلاك والضلال في جهنم، أو أن الغي: واد في جهنم أبعدها قعرا، وأشدها حرا، فيه بئر يسمى البهيم، كلما خبت فتح الله تعالى تلك البئر، فتسعّر بها جهنم. قال ابن عباس: «غيّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولا مرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه» أي كانت زانية به. 3- يقبل الله توبة من تاب من عباده، من تضييع الصلوات واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله، وآمن به، وعمل صالح الأعمال، فهؤلاء يدخلون الجنة مع الأبرار، ولا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء بسبب تقصيرهم الماضي، لكن يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبع مائة. 4- تلك هي جنات عدن، أي إقامة دائمة، وهي التي وعد بها الرحمن عباده، فآمنوا بها غيبيا، وإن لم يشاهدوها، ووعد الله آت لا ريب فيه، وإن الله لا يخلف الميعاد. 5- خصائص الجنة وأوصافها: هي: أولا- أن الوعد بها آت لا محالة، كما ذكر.

تنزل الوحي بأمر الله تعالى [سورة مريم (19) الآيات 64 إلى 65] :

وثانيا- لا لغو فيها: وهو المنكر من القول، والباطل من الكلام، والفحش منه، والفضول الساقط الذي لا ينتفع به: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية 88/ 11] . وثالثا- لكن يسمعون فيها سلام بعضهم على بعض، وسلام الملائكة عليهم، والسلام: اسم جامع للخير، والمعنى: أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون. ورابعا- لهم ما يشتهون فيها من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا، أي قدر هذين الوقتين، إذ لا بكرة ثم ولا عشيا. وخامسا- هذه الجنة حق خالص يرثه ويتملكه العباد الأتقياء، وهم من اتقى الله وعمل بطاعته، فقام بالأوامر، واجتنب النواهي. تنزل الوحي بأمر الله تعالى [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) الإعراب: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ على حذف: قل، أي قل: ما نتنزل إلا بأمر ربك، فحذف قل، والخطاب لجبريل، وحذف القول كثير في كلام العرب وفي القرآن. ولَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ دليل على أن الأزمنة ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل. وعطف كلام غير الله وَما نَتَنَزَّلُ على كلام الله تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ من غير فصل أمر جائز إذا كانت القرينة ظاهرة، مثل: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة 2/ 117 وآل عمران 3/ 47] الذي هو كلام الله، وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم 19/ 36] الذي هو كلام غير الله.

البلاغة:

وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبُّ السَّماواتِ إما مرفوع بدل من رَبِّكَ اسم كانَ، أو خبر مبتدأ مقدر، أي هو ربّ السموات، أو مبتدأ، وخبره فَاعْبُدْهُ عند أبي الحسن الأخفش لأنه يجوز أن تزاد الفاء في خبر المبتدأ، وإن لم يكن المبتدأ اسما موصولا، أو نكرة موصوفة، مثل: «زيد فمنطلق» والأكثرون على أن الفاء عاطفة، لا زائدة، أي هذا زيد فهو منطلق، فكل واحد منهما خبر مبتدأ محذوف. البلاغة: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا بينهما طباق. المفردات اللغوية: نَتَنَزَّلُ التنزل: النزول على مهل وقتا بعد وقت، وهو حكاية قول جبريل حين استبطأه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر ما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ المعنى: وما ننزل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله ومشيئته على ما تقتضيه حكمته. وقرئ: وما يتنزل، والضمير للوحي لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ له ما أمامنا في الزمان المستقبل، وما وراءنا من الزمان الماضي، وما بينهما من الزمان الحاضر وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا تاركا لك، بتأخير الوحي عنك، والمعنى: ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن ذلك عن ترك الله لك، وتوديعه إياك، كما زعمت الكفرة، وإنما كان لحكمة رآها فيه. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مرتب على ما سبق، أي لما عرفت ربّك بأنه لا ينبغي له أن ينساك، فأقبل على عبادته واصطبر عليها، أي اصبر على مشاقها وشدائدها، ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفرة. وإنما عدّي باللام لِعِبادَتِهِ لتضمنه معنى الثبات للعبادة، كما تقول للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له في حملاته هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا ونظيرا مسمى بذلك، أي الله؟ فإن المشركين لم يسموا الصنم الإله: (الله) قط. وإذا صح ألا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بد من التسليم لآمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها. سبب النزول: أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وآله وسلّم لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.

المناسبة:

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين يوما، فذكر نحوه. وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس: أن قريشا لما سألوه عن أصحاب الكهف، مكث خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله له في ذلك وحيا، فلما نزل جبريل، قال له: أبطأت، فذكره. وروي عن ابن عباس «أن جبريل عليه السلام احتبس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أياما، حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟ فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون: إن ربّه ودّعه وقلاه، فلما نزل، قال له عليه الصلاة والسلام: يا جبريل، احتسبت عني، حتى ساء ظني، واشتقت إليك، فقال: إني إليك لأشوق، ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية» «1» . ولا مانع من تعدد الوقائع وأسباب النزول. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء كزكريا وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس، تثبيتا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر ما أنعم الله عليهم وما أحدثه الخلف بعدهم، وجزاء الفريقين، ذكر الله سبب تأخر الوحي على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، تنبيها على قصة قريش واليهود، من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وختما لقصص أولئك المنعم عليهم بمخاطبة أشرفهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو من ذرية إبراهيم. التفسير والبيان: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا عطف الله هذه الآية التي هي كلام غير الله على آية: تِلْكَ الْجَنَّةُ..

_ (1) تفسير الرازي: 21/ 239

التي هي كلام الله من غير فصل، وهو جائز إذا كانت القرينة ظاهرة، مثل عطف آية وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم 19/ 36] التي هي كلام غير الله، على قوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة 2/ 117 وآل عمران 3/ 47] الذي هو كلام الله. ومعنى الآية: بعد أن استبطأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نزول جبريل عليه، أمر الله جبريل أن يقول: وما نتنزل نحن الملائكة بالوحي على الأنبياء والرسل إلا بأمر الله بالتنزيل على وفق الحكمة والمصلحة وخير العباد في الدنيا والآخرة. إن لله تعالى التدبير والتصرف وأمر الدنيا والآخرة وما بين ذلك من الجهات والأماكن والأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه. وقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول. والتنزل هنا: النزول على مهل، أي أن نزول الملائكة وقتا بعد وقت لا يكون إلا بأمر الله تعالى. وما نسيك ربك يا محمد، وإن تأخر عنك الوحي، ولا ينسى شيئا، ولا يغفل عن شيء، وإنما يقدّم ويؤخّر لما يراه من الحكمة، وهذه الآية كقوله تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى 93/ 1- 3] . روى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. والدليل على ذلك قوله سبحانه: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ

فقه الحياة أو الأحكام:

سَمِيًّا أي إن الله خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما، وهو المدبر والحاكم والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، فاثبت على عبادة ربك، واصطبر على العبادة والطاعة وما فيها من المتاعب والشدائد، ولا تنصرف عنها بسبب إبطاء الوحي، هل تعلم للرب مثلا أو شبيها، يكون أهلا للعبادة؟ فهو الخالق والمدبر والرازق والمنعم بأصول النعم وفروعها من خلق الأجسام والحياة والعقل وما يحتاجه الإنسان وغيره، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه. والمراد بنفي العلم نفي الشريك على أي وجه، والاستفهام للإنكار، وهل بمعنى لا، أي لا تعلم. قال ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على أمرين: الأول- إن الملائكة رسل الله بالوحي لا تنزل على أحد من الأنبياء والرسل من البشر إلا بأمر الله مدبر الكائنات في كل زمان ومكان، والذي لا يغفل عن شيء ولا ينساه، إذا شاء أن يرسل الملك أرسله. الثاني- إن الله عز وجل هو رب السموات والأرض وخالقهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك ما بينهما، فكما إليه تدبير الأزمان، كذلك إليه تدبير الأعيان، وبما أنه المالك على الإطلاق فهو الذي وجبت عبادته، ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود، الذي ليس له ولد ولا نظير أو مثيل أو شبيه يستحق مثل اسمه الذي هو الله وهو الرحمن. والعبادة: الطاعة بغاية الخضوع لله تعالى، وما على الرسول وغيره من المؤمنين إلا الاشتغال بما أمر به والاستمرار عليه، دون استبطاء شيء آخر.

شبهة المشركين في إنكار البعث [سورة مريم (19) الآيات 66 إلى 72] :

شبهة المشركين في إنكار البعث [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) الإعراب: جِثِيًّا حال إن كان جمع (جاث) ، ومنصوب على المصدر إن كان مصدرا، لا جمعا، أي (جثوا) وأصله (جثوو) فأبدلوا منعا للاستثقال من الضمة كسرة، وقلبوا الواو الأخيرة ياء. أَيُّهُمْ أَشَدُّ بالرفع، على رأي أكثر البصريين: في موضع نصب ب لَنَنْزِعَنَّ والضمة ضمة بناء. وعلى رأي الكوفيين: مبتدأ مرفوع، وأَشَدُّ خبره، والضمة ضمة إعراب، ولَنَنْزِعَنَّ ملغى لم يعمل. ومن قرأ بالنصب أيهم نصبها ب لَنَنْزِعَنَّ وجعلها معربة، وهي لغة بعض العرب. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها: إن: بمعنى (ما) أي ما أحد منكم، وأحد: مبتدأ، ومِنْكُمْ صفته، ووارِدُها خبره. ولا يجوز إعمال إِنْ هنا لدخول حرف الاستثناء الذي يبطل عمل (ما) . البلاغة: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي الكافر لأنه المنكر للبعث، فهو عام أريد به الخاص. مِتُّ وحَيًّا بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. المفردات اللغوية: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للبعث: أبيّ بن خلف أو الوليد بن المغيرة النازل فيه الآية. فإن الأول أخذ عظاما بالية، ففتّها، وقال: يزعم محمد أنّا نبعث بعد الموت. أو المراد بالإنسان: بعض الناس المعهود وهم الكفرة، أو المراد به الجنس، فإن المقول مقول فيما بينهم، وإن لم يقل كلهم، كقولك: بنو فلان قتلوا فلانا، والقاتل واحد منهم. أَإِذا ما مِتُّ، لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا من الأرض، أو من حال الموت. وتقديم الظرف لأن المنكر وقت الحياة لأمر بعد الموت، وهو منصوب بفعل دل عليه أُخْرَجُ لا به، فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها، والاستفهام بمعنى النفي، أي لا أحيا بعد الموت. وما زائدة للتأكيد، وكذا اللام في لَسَوْفَ للتأكيد. أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ عطف على يَقُولُ وهو رد على مقاله السابق. ويذكر أصله: يتذكر أي يتفكر أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فيستدل بابتداء الخلق على الإعادة. فَوَ رَبِّكَ قسم باسمه تعالى مضاف إلى نبيه، تحقيقا للأمر، وتفخيما لشأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لَنَحْشُرَنَّهُمْ لنجمعنهم أي الكفار المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ عطف أو مفعول معه. لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، كل مع شيطانه في سلسلة. وهذا وإن كان مخصوصا بالكفار، ساغ نسبته إلى الجنس البشري بأسره، فإنهم إذا حشروا، وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين، فقد حشروا جميعا معهم حَوْلَ جَهَنَّمَ من خارجها جِثِيًّا على الركب، جمع جاث: وهو البارك على ركبتيه. شِيعَةٍ أمة أو جماعة أو فرقة منهم شايعت دينا وتعاونت على الباطل أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي تكبرا وجرأة وعصيانا ومجاوزة للحد، أي من كان أعصى وأعتى منهم، فنطرحهم في جهنم. وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن كثير من أهل العصيان. ولو خص ذلك بالكفرة، فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم، ويطرحهم في النار، على الترتيب، أو يدخل كلا طبقتها التي تليق بهم. أَوْلى بِها أحق بجهنم، الأشد وغيره منهم صِلِيًّا أي أحق بالصلي، وهو الدخول فيها والاحتراق، من صلي بالنار: إذا قاس حرها. وَإِنْ مِنْكُمْ وما منكم أحد، التفات إلى الإنسان وارِدُها مارّ بها وهي خامدة، على الصراط الممدود عليها. وأما قوله: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أي عن عذابها حَتْماً واجبا مَقْضِيًّا قضي بوقوعه، فلا ينقص وعده مطلقا.

سبب النزول نزول ويقول الإنسان:

سبب النزول: نزول: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ: قال الكلبي: نزلت في أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية، يفتّها بيده، ويقول: زعم لكم محمد أنّا نبعث بعد ما نموت. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. المناسبة: بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها، ذكر أنها تنجيهم يوم الحشر الذي لا ريب فيه، فإن إعادة الإنسان أهون من بدء خلقه. وكذلك لما كان هدف السورة إثبات قدرة الله على الإحياء والإماتة، وإثبات يوم القيامة، ذكر هنا بعض شبهات الكفار المكذبين للبعث، ورد عليها بالأدلة القاطعة. وذكر أيضا ما يلقاه الكفار من الذل والعذاب، وأردف ذلك ببيان أن جميع البشر يردون على النار، فلا ينجو منها إلا من آمن واتقى وعمل صالحا. التفسير والبيان: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي ويقول الكافر المشرك منكر البعث متعجبا مستبعدا إعادته بعد موته: هل إذا مت وأصبحت ترابا، سوف أخرج حيا من القبر، وأبعث للحساب؟! وأسند الكلام لكل مشرك كافر، وإن لم يقله إلا بعضهم، لرضاهم بمقالته. ونظير الآية: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا تُراباً، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد 13/ 5] وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ

الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 77- 79] . والدليل على إمكان الإعادة: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه، فقد خلقناه من العدم، دون أن يكون شيئا موجودا، فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة. والمعنى: أنه تعالى قد خلق الإنسان، ولم يكن شيئا قبل خلقه، بل كان معدوما بالكلية، أفلا يعيده، وقد صار شيئا، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] . وجاء في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن لي كفوا أحد» . ثم هدد تعالى منكري البعث تهديدا من وجوه قائلا. 1- 2: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي أقسم الرب تبارك وتعالى بذاته الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله، بأن يخرجهم من قبورهم أحياء ويجمعهم إلى المحشر مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم. ثم ليحضرنهم حول جهنم بعد طول الوقوف، جاثين قاعدين على ركبهم، لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، كما قال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية 45/ 28] . وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم، ويكون على أذل صورة لقوله: جِثِيًّا.

3- ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي لننتزعن ونأخذن من كل فرقة دينية أو طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم وأكثرهم تكبرا وتجاوزا لحدود الله، وهم قادتهم ورؤساؤهم في الشر. فهذه وجوه التهديد: أولها- الحشر مع الشياطين، وثانيها- الإحضار قعودا حول جهنم في صورة الذليل العاجز، وثالثها- تمييز البعض من البعض، فمن كان أشدهم تمردا في كفره، خص بعذاب أعظم، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] وقال: وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 29/ 13] . ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى نار جهنم، ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال سبحانه: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] . ثم أخبر الله تعالى عن ورود الناس جميعا نار جهنم، فقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي ما منكم من أحد من الناس إلا سوف يرد إلى النار، والورود: هو المرور على الصراط، كان ذلك المرور أمرا محتوما، قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة. وقيل: الورود: الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها، وهو موضع المحاسبة، وقيل: الورود: الدخول، لحديث: «الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر، إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم» . والأصح أن الورود: المرور، للحديث التالي: روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: يرد الناس جميعا الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل

فقه الحياة أو الأحكام:

البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفّأ به الصراط، والصراط دحض مزلّة «1» ، عليه حسك كحسك القتاد «2» ، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس. وهذا المروي عن ابن مسعود سمعه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وروى ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلّم سلّم. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي بعد أن مر الخلائق كلهم على الصراط والنار، ننجي الذين اتقوا ما يوجب النار، وهو الكفر بالله ومعاصيه، ننجيهم من الوقوع في النار، فيمرون على الصراط بإيمانهم وأعمالهم. ونبقي الكافرين والعصاة في النار، جاثين على ركبهم، لا يستطيعون الخروج، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، أما العصاة من المؤمنين فيخرجون بعد العذاب على معاصيهم، فيخرج الله من النار من قال يوما من الدهر: لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرا قط. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الكريمات ما يأتي: 1- يتعجب الكافر منكر البعث ويستبعد إعادته بعد موته، ولكن لا داعي لتعجبه، فإن الله قادر على كل شيء، ولو تأمل قليلا لأدرك أن من خلق

_ (1) دحض مزلة: بمعنى واحد، وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر. (2) أي عليه شوك كشوك نبات بنجد يقال له: السعدان.

الإنسان من العدم، قادر على إعادته مرة أخرى، والإعادة أهون من ابتداء الخلق في ميزان عقل الإنسان، أما بالنسبة لله فهما سواء عليه. 2- الحشر وجمع الخلائق للحساب أمر ثابت أيضا بعد البعث من القبور، ويحشر كل كافر مقرونا مع شيطان في سلسلة. 3- يحضر الله الكفار جاثين على ركبهم حول جهنم، فهم لشدة ما هم فيه من الأهوال لا يقدرون على القيام. 4- يستخرج الله من كل أمة وأهل دين باطل أعتى الناس وأعصاهم، وهم القادة والرؤساء، لمضاعفة العذاب عليهم. 5- الله تعالى أعلم بمن هو أحق بدخول النار، من الإنس والجن، وبمن يخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب. 6- إن ورود جميع الخلائق على النار، أي المرور على الصراط، لا الدخول في النار، أمر واقع لا محالة. وقد فسر ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسّدّي والحسن البصري الورود بالمرور على الصراط. قال الحسن: ليس الورود الدخول، إنما تقول: وردت البصرة ولم أدخلها، فالورود: أن يمروا على الصراط لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء 21/ 101] قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها. وقوله سبحانه بعد هذه الآية: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها، وقوله عز وجل: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل 27/ 89] . وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، تمسّه النار إلا تحلّة القسم» أي لكن تحلة القسم لا بد منها في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس النار.

شبهة أخرى للمشركين بحسن الحال في الدنيا [سورة مريم (19) الآيات 73 إلى 76] :

7- بنجي الله المتقين، ويخلصهم من نار جهنم، ويترك الكافرين فيها قعودا مخلدين على الدوام. والمذهب المقبول: أن صاحب الكبيرة وإن دخلها، فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة: لا يدخل، وقالت الخوارج: يخلد. والقائلون بأن الورود الدخول، احتجوا بهذه الآية: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.. لأنه لم يقل: وندخل الظالمين، وإنما قال: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ. قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا: إنا نزد النار؟ فيقال: لقد وردتموها فألفيتموها رمادا. وعقب القرطبي عليه قائلا: وهذا القول يجمع شتات الأقوال، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها، فقد أبعد عنها، ونجّي منها. نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها، فدخلها سالما، وخرج منها غانما «1» . شبهة أخرى للمشركين بحسن الحال في الدنيا [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 139.

الإعراب:

الإعراب: بَيِّناتٍ حال. وَكَمْ أَهْلَكْنا.. وَرِءْياً كَمْ منصوب بأهلكنا، أي وكم قرن أهلكنا، فحذف قَرْنٍ لدلالة الكلام عليه. ورئيا يقرأ بالهمز وترك الهمز، ويقرأ: وريئا على وزن «وريعا» بتقديم الياء على الهمزة. فمن قرأ بالهمز أتى به على الأصل لأنه من «رأيت» ومن قرأ وريا بغير همز، أبدل من الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، وجاز انقلاب كل همزة ساكنة ياء إذا كان قبلها كسرة. ومن قرأ وريئا قلب اللام إلى موضع العين، واللام ياء، والعين همزة، كقولهم: قسيّ. وقرئ: وزيا، والزي معروف، وأصله: زويّ، إلا أنه قلبت منه الواو ياء، لسكونها وانكسار ما قبلها. فَلْيَمْدُدْ لفظه الأمر، ومعناه الخبر، كما يأتي لفظ الخبر ومعناه الأمر، مثل وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ.. أي ليرضعن. وجواب حَتَّى إِذا رَأَوْا.. قوله: فَسَيَعْلَمُونَ وإِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ انتصب كل منهما على البدل من ما في قوله تعالى: رَأَوْا ما يُوعَدُونَ. البلاغة: مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً لف ونشر مرتب، حيث رجع الأول إلى خَيْرٌ مَقاماً والثاني إلى وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. خَيْرٌ مَقاماً وشَرٌّ مَكاناً بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين والكافرين آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات المعاني والإعجاز أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ نحن وأنتم خَيْرٌ مَقاماً مكانا ومنزلا نَدِيًّا أي ناديا، أي مجتمعا ومجلسا وهو مجتمع القوم يتحدثون فيه، ومنه دار الندوة لتشاور المشركين. وهم يعنون: نحن، فنكون خيرا منكم. والمعنى: أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات، وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، والاستدلال بذلك على فضلهم وحسن مكانهم عند الله، لقصور نظرهم على الحال، وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي كثيرا ما أهلكنا من القرون أي الأمم الماضية، والقرن: أهل كل عصر، وهذا رد مع التهديد أَثاثاً هو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها.

المناسبة:

وَرِءْياً منظرا، والمراد نضارة وحسنا، مشتق من الرؤية، والمعنى: فكما أهلكناهم لكفرهم، نهلك هؤلاء. فَلْيَمْدُدْ معناه الإخبار، أي يمد، أي يمهله بطول العمر والتمتع به، والتمكن من التصرف في الحياة، وهو جواب شرط: مَنْ كانَ. مَدًّا أي يستدرجه في الدنيا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ هو غاية المد إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ تفصيل للموعود، فإنه إما العذاب في الدنيا كالقتل والأسر وغلبة المسلمين عليهم، وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال ودخول جهنم فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه وهو جواب الشرط وَأَضْعَفُ جُنْداً أنصارا أو أعوانا، أهم وجندهم الشياطين أم المؤمنون وجندهم الملائكة؟. وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً يزيد المهتدين بالإيمان بما ينزل عليهم من الآيات. وهي عطف على الجملة الشرطية المحكية بعد القول: قُلْ: مَنْ كانَ.. كأنه لما بيّن أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبيّن أن قصور حظ المؤمن منها، ليس لنقصه، بل لأن الله عز وجل أراد به ما هو خير، وعوضه منه. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ الطاعات التي تبقى آثارها، ومنها الصلوات الخمس، وقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً فائدة مما متّع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها وَخَيْرٌ مَرَدًّا مرجعا وعاقبة، بخلاف أعمال الكفار. والخيرية هنا في مقابلة قولهم: أي الفريقين خير مقاما. المناسبة: بعد أن أقام الله تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث، أتبعه مع الوعيد والتهديد بذكر شبهة أخرى لهم: هي أنهم قالوا: لو كنتم أنتم على الحق، ونحن على الباطل، لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل، وأعداءه المعرضين عن طاعته في العز والراحة، ولما كان الأمر بالعكس، فإنا نحن المتمتعين بالنعمة ورفاهية العيش على الحق، وأنتم الواقعون في الخوف والذل والفقر على الباطل!! فرد الله عليهم بأن الكفار السابقين كانوا أحسن منكم حالا، وأكثر مالا،

التفسير والبيان:

وقد أهلكهم الله بعذاب الاستئصال، فليس نعيم الدنيا قرينة على محبة الله، ولا سوء الدنيا علامة على غضب الله. ثم رد عليهم ردا ثانيا بقوله: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ.. ومضمونه: لا بد أن يأتيهم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وحينئذ سيعلمون أن نعم الدنيا لا تنقذهم من ذلك العذاب. روي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث وأشباهه من قريش، حينما رأوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في خشونة عيش ورثاثة ثياب، وهم في غضارة العيش ورفعة الثياب. التفسير والبيان: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا إذا تليت على الكفار آيات الله القرآنية واضحات الدلالة والبرهان، مبينات المقاصد، صدوا عن ذلك وأعرضوا وقالوا مفتخرين على المؤمنين ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل: أي الفريقين (المؤمنين والكافرين) خير منزلا ومسكنا، وأكبر جاها، وأكثر أنصارا؟ والندي: النادي والمجلس، وهو مجتمع الرجال للحديث ومجلسهم، والعرب تسمي المجلس النادي، فكيف نكون على الباطل، وأولئك الضعفاء الفقراء المختفون المستترون في دار الأرقم على الحق؟ كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ.. [الأحقاف 46/ 11] . وهذا اغترار بظاهر الحال في الدنيا، متوهمين أن من كان غنيا ثريا كان على الحق والصواب، ومن كان فقيرا كان على الباطل. فرد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً هذا هو الجواب الأول

عن شبهتهم، أي وكثيرا ما أهلكنا قبلهم من الأمم السابقة المكذبين رسلهم بكفرهم، وكانوا أحسن من هؤلاء متاعا ومنظرا. والأثاث: المال أجمع، من الإبل والغنم والبقر والمتاع، أو متاع البيت خاصة من الفرش واللباس والستائر والبسط والأرائك والسرر (الأسرّة) . والرئي: المنظر في تقدير الناس من جهة حسن اللباس أو حسن الأبدان وتنعمها. والمعنى: أن مظاهر الثراء والنفوذ والكرامة لا تدل على حسن الحال عند الله، فقد أهلك الله المترفين، ونجى الفقراء الصالحين. وهذا تهديد ووعيد لكل من يتوهم من العوام وجهلة الأغنياء من المسلمين أن حسن حالهم في الدنيا دليل على رضا الله عنهم وحسن حالهم في الآخرة. ثم أكد الله تعالى التهديد والوعيد وبالغ فيه، فقال: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا وهذا هو الجواب الثاني عن شبهة الكفار، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل: من كان في الضلالة منّا ومنكم، ومن كان يخبط في الدنيا على هواه، فإن الله تعالى جعل جزاءه أن يتركه في ضلالته، ويدعه في طغيانه، ويمهله فيما هو، ويمدّه ويستدرجه ليزداد إثما، حتى يلقى ربه، وينقضي أجله. وهذه سنة الله في استدراج الظالمين والعصاة، يتركهم الله في ضلالهم، بل ويزيدهم من نعم الدنيا وملذات الحياة، إمعانا في إبقائهم على سوء حالهم الذي اتخذوه منهجا لهم، كما قال تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 3/ 178] وقال سبحانه: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 110] . حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً أي حتى إذا شاهدوا رأي العين ما يوعدون به، إما العذاب في الدنيا الذي يصيبهم بالقتل والأسر، كما حصل يوم بدر، وإما مجيء يوم

فقه الحياة أو الأحكام:

القيامة بغتة وما يشتمل عليه من العذاب الأخروي، فحينئذ يعلمون من هو شر مكانا وأضعف جنودا، على عكس ما كانوا يظنون في الدنيا من خيرية المقام وحسن الندي (المجلس) ، ويتبين لهم حقيقة الأمر، أنهم هم شر مكانا، لا خير مكانا، وأضعف جندا، لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين. وهذا رد على قولهم السابق: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. ونظير الآية: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَما كانَ مُنْتَصِراً [الكهف 18/ 43] . ولما ذكر الله تعالى إمداد أهل الضلالة في ضلالهم، أخبر عن زيادة الهدى للمهتدين، فقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي إن الله يزيد المهتدين إلى الإيمان توفيقا وهدى للخير لأن الخير يدعو إلى الخير. وهذه مقابلة أو مقارنة واضحة بين المؤمنين والكافرين، فالله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا، كما يجعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم، كما قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] . وإن الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية، لا الأموال والأمتعة والأندية، خير جزاء، وخير مرجعا وعاقبة، وأجدى نفعا لصاحبها. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- إن معايير الدين ومفاهيمه الصحيحة تختلف عن تصورات الجهلة والعوام

من الكفار والعصاة، فهؤلاء يرون أن الغنى وحسن الحال وكثرة أهل المجلس أو النادي دليل على خيريتهم وأفضليتهم على المؤمنين. وغرضهم إدخال الشبهة على المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله فهو المحق في دينه، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا، ولم يعلموا أن الله تعالى نحّى أولياءه عن الاغترار بالدنيا، وفرط الميل إليها. 2- لقد أهلك الله تعالى كثيرا من الأمم والجماعات هم أكثر متاعا وأموالا، وأحسن منظرا لحسن لباسهم وظهور آثار النعمة على وجوههم وأجسامهم. 3- من كان والغا في الضلالة، متأصلا في الكفر، يتركه الله في طغيان جهله وكفره، حتى يطول اغتراره، فيكون ذلك أشد لعقابه، فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فمصيره إلى الموت والعقاب، وهذا غاية في التهديد والوعيد. 4- ستتكشف الحقائق والأحوال يوم القيامة، فيظهر أن الكفار شر مكانا وأسوأ منزلا، وأضعف جندا من المؤمنين، وهذا رد لقولهم الذي حكاه القرآن: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. 5- يثبّت الله المؤمنين على الهدى، ويزيدهم توفيقا ونصرة، وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم. 6- الباقيات الصالحات أي أعمال الخير والطاعة المالية والبدنية أفضل عند الله ثوابا وجزاء وأكثر منفعة لأهلها، وخير مرجعا، فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.

مقالة المشركين في البعث والحشر استهزاء وطعنا [سورة مريم (19) الآيات 77 إلى 80] :

مقالة المشركين في البعث والحشر استهزاء وطعنا [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) الإعراب: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ رأيت هنا بمعنى علمت، يتعدى إلى مفعولين، والذي مع صلته: في موضع المفعول الأول. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً في موضع المفعول الثاني. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نرث منه ما يقول، فحذف حرف الجر، فصار نَرِثُهُ. البلاغة: سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ مجاز عقلي من إسناد الشيء إلى سببه، أي نأمر الملائكة بالكتابة. عَهْداً مَدًّا فَرْداً ضِدًّا عَدًّا وَفْداً وَلَداً إِدًّا سجع رصين. المفردات اللغوية: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أي أخبر عن العاص بن وائل، والفاء جاءت لإفادة معناها وهو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، وأذكر حديثه عقيب حديث أولئك الذي قال فيه لخباب بن الأرت: لأوتين.. حينما قال له: تبعث بعد الموت، في أثناء مطالبته له بمال لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أي فإذا بعثت جئتني فأعطيك أو أقضيك مالا وولدا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي أعلمه وأن يؤتى ما قاله، واستغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل، فحذفت. من قولهم: اطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه، والمعنى: أظهر له علم الغيب أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن يؤتى

سبب النزول:

ما قاله، وقيل: عهدا: عملا صالحا، فإن وعد الله بالثواب عليه كالعهد عليه. والمعنى: أن ما ادّعى أن يؤتاه وتألى عليه، لا يتوصل إليه بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ كَلَّا كلمة زجر أو ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه، أي لا يؤتى ذلك سَنَكْتُبُ نأمر بكتب، أو سنظهر له أنا كتبنا قوله. وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا سنطيل له العذاب الذي يستحقه، أو نزيد عذابه ونضاعفه له، لكفره وافترائه واستهزائه على الله، ولذلك أكده بالمصدر وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ نرث منه ما يقول من المال والولد، أي نسلبه منه بموته، ونأخذه أخذ الوارث، والمراد بما يقول: مدلوله ومصداقه: وهو ما أوتيه من المال والولد وَيَأْتِينا فَرْداً ويأتينا يوم القيامة لا يصحبه مال ولا ولد، كان له في الدنيا، فضلا عن أن يؤتى. سبب النزول: أخرج الأئمة منهم أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي والطبراني وابن حبّان عن خبّاب بن الأرتّ قال: كنت رجلا قينا- حدادا- وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا، والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت: لا، والله، لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني، ولي ثمّ مال وولد، فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا.. الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها، أورد هنا ما قالوه على سبيل الاستهزاء، طعنا في القول بالحشر والبعث. التفسير والبيان: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا، وَقالَ: لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أي ألا أخبرك بقصة هذا الكافر الذي تجرأ على الله وقال: لأعطينّ في الآخرة مالا وولدا. وإيراد هذه القصة على سبيل التعجب للبشر.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم فنّد الله تعالى قوله بعدم اعتماده على دليل غيبي أو عهد من الله، فقال: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي إن دعواه تلك تعتمد على أحد أمرين: إما علم الغيب وإما عهد من الله، فهل اطلع على الغيب حتى يعلم أنه في الجنة، أو أخذ العهد الموثق من الله بذلك؟ والعهد عند الله للرحمة: أن يدخل المؤمن الجنة إذا قال: لا إله إلا الله، وعمل الصالحات. وقوله: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إشارة إلى أن الحصول على علم الغيب أمر صعب شاق لأن الله لا يطلع على غيبه إلا من ارتضى من رسول. ثم هدده تعالى بقوله: كَلَّا، سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً كَلَّا كلمة ردع وزجر لما قبلها، وتأكيد لما بعدها، ولم ترد في النصف الأول من القرآن. والإتيان بسين التسويف في قوله: سَنَكْتُبُ مع أنه يكتب من غير تأخير لمحض التهديد من المتوعد. أي ليس الأمر على ما قال، بل سنحفظ ما يقول، فنجازيه به في الآخرة، ونزيده عذابا فوق عذابه، ونمده بالعذاب مدا في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا، مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد، جزاء عمله، ونميته فنرثه المال والولد الذي يقول: إنه يؤتاه، ونسلبه إياه، ويأتينا يوم القيامة فردا لا مال له ولا ولد مما كان معه في الدنيا، لأنّا نسلبه منه، فكيف يطمع أن نعطيه؟! وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 6/ 94] . فقه الحياة أو الأحكام: هذه قصة رجل آخر هو العاص بن وائل، وهي من أعاجيب القصص التي

الرد على عباد الأصنام بصيرورتهم لهم أعداء واتخاذهم الشياطين أولياء [سورة مريم (19) الآيات 81 إلى 87] :

تدل على سخف الكافر، وسذاجة تفكيره، وتمنيه الأماني المعسولة، وهو سيجد نقيضها تماما في عالم الآخرة. إنه بالرغم من كفره الشديد بآيات الله، وإنكاره البعث واستهزائه به، يتأمل أن يعطى في الآخرة المال الوفير والولد الكثير، وليس لديه برهان أو وثيقة على ما يقول. ومثل هذا القول يحتاج إلى أحد أمرين: إما الاطلاع على الغيب أو اتخاذ عهد موثق عند الله. فهل علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة أم لا، أم عاهد الله تعالى بالتوحيد والعمل الصالح والوعد أن يدخله الجنة؟!! لم يكن كل ذلك، لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا، وسيحفظ الله عليه قوله، فيجازيه به في الآخرة، وسيزيده عذابا فوق عذاب، ويسلبه ما أعطاه في الدنيا من مال وولد، ويأتي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره، ثم يزج به في نار جهنم جزاء عمله المنكر وكفره الظاهر. الرد على عبّاد الأصنام بصيرورتهم لهم أعداء واتخاذهم الشياطين أولياء [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)

الإعراب:

الإعراب: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ عبادة: مصدر إما مضاف إلى الفاعل، أي سيكفر المشركون بعبادتهم الأصنام، كقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] وإما مضاف إلى المفعول، أي ستكفر الأصنام بعبادة المشركين. يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يَوْمَ منصوب على الظرف، وعامله إما: لا يَمْلِكُونَ وإما نَعُدُّ. ووَفْداً حال، أي وافدين، ووفد: واحدهم وافد كصحب وصاحب، وركب وراكب، وهو اسم جمع وليس بتكسير. إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً مَنِ إما مرفوع على البدل من واو يَمْلِكُونَ وإما منصوب على الاستثناء المنقطع. البلاغة: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً.. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً: بين المتقين الأبرار والمجرمين الأشرار مقابلة. وَفْداً وِرْداً: جناس غير تام، لتغير الحرف الثاني. المفردات اللغوية: وَاتَّخَذُوا أي كفار مكة مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان آلِهَةً يعبدونهم عِزًّا منعة وقوة، أي ليتعززوا بهم حيث يجعلونهم شفعاء عند الله بألا يعذبوا كَلَّا ردع وإنكار لتعززهم بالأصنام سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ سيجحد الآلهة عبادتهم، ويقولون: ما عبدتمونا، أي ينفون عبادتهم، كما في آية أخرى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة 2/ 166] . ضِدًّا أعداء وأعوانا عليهم. أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ سلطانهم عليهم، أو قيضنا لهم قرناء تَؤُزُّهُمْ تهيجهم إلى المعاصي وتغريهم بالتسويلات وتحبيب الشهوات. والأزّ والهز والاستفزاز: شدة الإزعاج والإغراء على المعاصي. والمراد: تعجيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أقاويل الكفر وتماديهم في الغي، وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق، على ما نطقت به الآيات المتقدمة. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ لا تطلب العجلة بهلاكهم أو تعذيبهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أيام آجالهم عدا. والمعنى: لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ

المناسبة:

بإيمانهم إِلَى الرَّحْمنِ أي إلى دار كرامته وهي الجنة وَفْداً جمع وافد، أي هم كما يفد الوافدون إلى الملوك لطلب الحوائج، مكرّمين مبجّلين وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بكفرهم وِرْداً جمع وارد أي مشاة عطاشى مهانين، يساقون باحتقار وإذلال كما تساق البهائم. لا يَمْلِكُونَ أي الناس عَهْداً هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أي التبري من الحول والقوة وعدم رجاء أحد إلا الله. المناسبة: بعد الكلام عن الحشر والنشر والبعث، ردّ الله تعالى على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة، ليعتزوا بها يوم القيامة، ويكونوا لهم شفعاء وأنصارا ينقذونهم من الهلاك، فأبان تعالى أنهم سيكونون لهم أعداء. ثم بيّن سبب الضلال وهو وسوسة الشياطين، وطلب إلى رسوله ألا يستعجل بطلب عذاب المشركين، فما هي إلا آجال أو أنفاس معدودة ثم يهلكون. ثم قارن تعالى بين وفد المتقين القادمين إلى الجنة، وورد المشركين المشاة بإهانة إلى النار. التفسير والبيان: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي عجبا لهؤلاء الكفار بآيات الله، يتمنون على الله الأماني، ويتألون على الله تعالى، مع أنهم كفروا وأشركوا بالله، واتخذوا من دون الله آلهة، ليكونوا لهم أنصارا وأعوانا، وشفعاء عند ربهم يقربونهم إليه. ولكن ليس الأمر كما زعموا ولا كما طمعوا، فقال تعالى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي ليس الأمر كما ظنوا وتأملوا في أنها تنقذهم من عذاب الله، بل ستجحد يوم القيامة هذه الأصنام المتخذة آلهة عبادة الكفار لها، يوم ينطقها الله سبحانه لأن الأصنام جمادات

لا تعلم العبادة، ويكونون أعداء لهم، وأعوانا عليهم، بخلاف ما ظنوا فيهم، فيقولون: ما عبدتمونا، كما قال تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ، إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل 16/ 86] ، وقال سبحانه: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص 28/ 63] ، وقال عزّ وجلّ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة 2/ 166] . وبعد بيان حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة، ذكر تعالى حالهم مع الشياطين في الدنيا، فإنهم يسألونهم وينقادون لهم، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي ألم تعلم أننا سلطنا الشياطين على الكفار، وخلينا بينهم وبينهم، ومكناهم من إضلالهم، فهم يحركونهم إلى فعل المعاصي، ويهيجونهم ويغرونهم ويغوونهم، كما قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء 17/ 64] . وهذا إثارة لعجب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من حال الكفار وإصرارهم على الكفر، وتسلية له عن صدودهم وإعراضهم، وتهوين الأمر على نفسه. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي فلا تعجل يا محمد على هؤلاء بأن تطلب من الله إيقاع العذاب بهم وإهلاكهم وإبادتهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم، إنما نعد لهم أوقاتا معدودة، ونؤخرهم لأجل معدود مضبوط هو انتهاء آجالهم، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، أي فليس بينك وبين عذابهم إلا أوقات محصورة معدودة، وكل آت قريب، قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم 14/ 42] الآية، وقال

سبحانه: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق 86/ 17] ، وقال عزّ وجلّ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . ثم أبان سبحانه ما سيظهر في يوم القيامة من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر، فقال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم نحشر جماعة المتقين وافدين ركبانا إلى جنة الله ودار كرامته، والوفد: هم القادمون ركبانا، مراكبهم من نور من مراكب الدار الآخرة، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم، استقبلوا بنوق بيض، لها أجنحة، عليها رحال الذهب» ثم تلا هذه الآية. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي ونحث المجرمين المكذبين على السير طردا إلى جهنم، مشاة عطاشا، كالإبل ترد الماء. لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] ، ومَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً: وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، بأن كان صالح الاعتقاد والقول والعمل، وكان في الدنيا هاديا مصلحا. أما شفاعة الآلهة المزعومة فهي أمان زائفة، وأوهام فارغة، فهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا. روى ابن أبي حاتم عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله بن مسعود هذه الآية: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ثم قال: اتخذوا عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلّمنا، قال: قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب

فقه الحياة أو الأحكام:

والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلني إلى عمل يقربني من الشر، ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا نؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. وهذا مأخوذ من معنى حديث «1» تبين منه أن المراد بالعهد كلمة الشهادة. ودلت الآية على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- اتخذ المشركون بالله آلهة عبدوها من دون الله، ليكونوا لهم أعوانا وأنصارا وشفعاء، يقربونهم من الله، ويمنعونهم من عذاب الله تعالى. 2- ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، فستجحد هذه الأصنام عبادة المشركين لها، أو ينكرون هم أنفسهم أنهم عبدوا الأصنام، وستكون هذه الأصنام أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم، ويكونون لهم أعداء، فتقول بإنطاق الله لهم: يا ربّ عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك. 3- سلط الله الشياطين على الكافرين بالإغواء والإغراء بالشر، والإخراج من الطاعة إلى المعصية. 4- لا داعي أيها الرسول أن تطلب العذاب لقومك المشركين، فما بينهم وبين العذاب إلا أوقات قصيرة معدودة. 5- يحشر الله المتقين من قبورهم ركبانا معززين مكرّمين، ويساق المجرمون الكفار المكذبون سوقا مشاة حفاة أفرادا عطاشا كالإبل التي ترد الماء، وفي هذا

_ (1) ذكره الرازي في تفسيره: 21/ 253، والقرطبي أيضا: 11/ 154، وسيأتي نصه.

مهانة وذلّ، ودليل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون في حال من التكريم، فهم آمنون من الخوف، فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال؟! 6- لا يملك أحد عند الله الشفاعة لغيره، إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فهو يملك الشفاعة «1» ، والعهد: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والقيام بحقها، فقد تظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون، فيشفّعون، قال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا؟ قيل: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فلا تكلني إلى نفسي، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير، وتقرّبني من الشر، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا، ووضعها تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الله عهد؟ فيقوم فيدخل الجنة» .

_ (1) وحينئذ يكون الاستثناء متصلا لأن مَنِ في موضع رفع على البدل من واو يَمْلِكُونَ أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، فإنه يملك. ويصح جعل الاستثناء منقطعا، بمعنى لكن، أي لا يملك هؤلاء الكفار الشفاعة لأحد، لكن المسلمون الذين اتخذوا عند الرحمن عهدا، فإنهم يملكون الشفاعة.

الرد على من نسب الولد إلى الله تعالى [سورة مريم (19) الآيات 88 إلى 95] :

الرد على من نسب الولد إلى الله تعالى [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) الإعراب: إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.. هَدًّا، أَنْ دَعَوْا 9: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ: كاد واسمها وخبرها وصف منصوب لقوله تعالى: إِدًّا. وهَدًّا: منصوب على المصدر، وأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً: في موضع نصب على المفعول لأجله، أي: وتخر الجبال هدّا لأن دعوا للرحمن ولدا. ويصح جعله مرفوعا بأنه فاعل: هَدًّا أو مجرورا بدلا من هاء مِنْهُ. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ ... كُلُّ: مبتدأ، وآتِي: خبره، ووحّده حملا على لفظ كل. وقد يحمل على المعنى مثل: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] . وعَبْداً: حال من ضمير آتِي وهو عامله، وهو اسم فاعل من آتِي يقال: أتى فهو آت. البلاغة: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا التفات إلى الخطاب للمبالغة في الذم، وتسجيل الجرأة على الله عليهم. المفردات اللغوية: وَقالُوا أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله. جِئْتُمْ فعلتم.

المناسبة:

إِدًّا منكرا عظيما. والإدّة: الشدة. يقال: أدّني الأمر وآدني: أثقلني وعظم علي. يَتَفَطَّرْنَ يتشققن مرة بعد أخرى، التفطر: التشقق. وَتَخِرُّ تسقط وتنهدم. هَدًّا أي تهدّ هدّا أو مهدودة. والمعنى: أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصوّر بصورة محسوسة، لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفتّت من شدتها. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي ما يليق به ذلك. إِنْ كُلُّ ... ما كل. عَبْداً منقادا خاضعا ذليلا يوم القيامة. لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم وأحاط بهم، فلا يخرجون عن علمه وقدرته. وَعَدَّهُمْ عَدًّا عدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم، فإن كل شيء عنده بمقدار. فَرْداً منفردا بلا مال ولا نصير. المناسبة: بعد أن ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان، عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا كاليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] ، وبعض مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وكل ذلك إفك مفترى. التفسير والبيان: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي وقال الكفار (اليهود والنصارى والمشركون من العرب الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله) : إن الله اتخذ ولدا، فردّ الله تعالى عليهم: لقد جئتم بهذا القول شيئا منكرا، وقلتم قولا عظيم الجرم والإثم. والإدّ: الداهية والأمر المنكر الشنيع الفظيع. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أي تقارب السموات أن تتشقق منه، وأن تتصدع وتخسف الأرض، وتسقط بصوت شديد، وتنهدم الجبال هدما شديدا تتضعضع منه، لشدة نكرانه، إعظاما للربّ وإجلالا، لأنهن مخلوقات على توحيده، وأنه لا شريك له ولا نظير ولا ولد

ولا صاحبة. قال ابن عباس وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال، وجميع المخلوقات إلا الثقلين (الإنس والجن) ، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم، وشاك الشجر، واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا: اتخذ الله ولدا. وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وهذا تهويل عظيم، وأنه موجب غضب الله وسخطه، ولكن لولا حكمة الله وحلمه وأنه لا يبالي بكفر الكافر، لقامت القيامة، واستؤصل الكفار. وسبب ذلك: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي لأجل أنهم نسبوا الولد إلى الله، ولا يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد، لجلاله وعظمته، فإن هذا نقص، يتعالى الله ويتنزه عنه لأن جميع الخلائق عبيد له. لهذا قال مؤكدا إنكار هذه الفرية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي كل واحد من الخلق من الملائكة والإنس والجن لا بدّ له أن يأتي إلى الله يوم القيامة مقرّا بالعبودية، خاضعا ذليلا، معلنا أنه مملوك لله، فكيف يكون أحد المخلوقات ولدا له؟! لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي قد علم الله عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة، وعدّ أشخاصهم وأحوالهم كلها، فهم تحت سلطانه وأمره وتدبيره، وكل شيء عنده بمقدار، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة، لا ناصر له ولا مال معه، ولا مجير له إلا الله وحده لا شريك له،

فقه الحياة أو الأحكام:

فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وقوله وَعَدَّهُمْ عَدًّا تأكيد لما سبق. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع هذه الآيات: تقرير التوحيد، وإثبات العبودية الخالصة لله، وإنكار اتخاذ الله ولدا: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1- 4] . ومع هذا زعم اليهود والنصارى وبعض العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله: أن لله ولدا، وحاشا لله أن يتخذ ولدا، إذ لا حاجة به إليه، وهو منزه عن النقص والشريك والنظير والولد، وتعدّ هذه المقالة منكرا عظيما، وأمرا فظيعا، وجرما شنيعا. حتى لتكاد تزول الأكوان، فتنشق السموات، وتتصدع الأرض، وتسقط الجبال بصوت شديد، رفضا لهذا القول، وإنكارا له، وغضبا لله عزّ وجلّ لأنها خلقت وأسست على الإقرار بتوحيد الله ولأن الولد يقتضي الحدوث، ولا ولد إلا من والد، والله سبحانه تعالى تنزه عن ذلك وتقدس. وما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرّا لله بالعبودية، خاضعا ذليلا، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] أي ذليلين صاغرين لأن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولدا له عزّ وجلّ؟ تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. وهذه الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد، فإن الله تعالى أبان المنافاة بين الأولاد والملك، فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات، عتق عليه

محبة المؤمنين وتيسير الذكر المبين وإهلاك المجرمين [سورة مريم (19) الآيات 96 إلى 98] :

فورا. أخرج مسلم في صحيحة: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه، فيعتقه» . ولا يخفى على الله أحد من خلقه، فإنه تعالى علم عددهم، وعدهم عدا دقيقا، وكل واحد يأتيه يوم القيامة واحدا منفردا لا ناصر له، ولا مال معه لينفعه كما قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء 26/ 88- 89] فلا ينفعه إلا ما قدّم من عمل صالح. وفي قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً إشارة إلى أنكم أيها المشركون لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم، والكل عبيده، فكيف رضيتم له ما لا ترضون لأنفسكم؟! وإذا كنتم أيضا لا ترضون لأنفسكم البنات، فكيف تنسبون البنات إلى الله؟ في قولكم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله. والخلاصة: إن هذه الآيات المقررة لنفي اتخاذ الإله ولدا، تلتقي مع موضوع سورة الإخلاص المتقدمة: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ومع الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الله تبارك وتعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن لي كفوا أحد» . محبة المؤمنين وتيسير الذكر المبين وإهلاك المجرمين [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا الودّ: المودة والمحبة، والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تودد منهم، يحبهم الناس، ويتحابون فيما بينهم، ويحبهم الله تعالى، أي يرضى عنهم. يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أنزلناه بلغتك العربية، والباء بمعنى على، أو على أصله لتضمن «يسرنا» معنى (أنزلنا) . الْمُتَّقِينَ الصائرين إلى التقوى بالإيمان والعمل الصالح. وَتُنْذِرَ تخوف لُدًّا جمع ألدّ: وهو الشديد الخصومة، المجادل بالباطل، واللد: هم كفار مكة. وَكَمْ أي كثيرا. مِنْ قَرْنٍ أي أمة من الأمم الماضية، وهو تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على إنذارهم. هَلْ تُحِسُّ تجد. رِكْزاً صوتا خفيا؟ لا، والمعنى: فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء. سبب النزول: أخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي كرم الله وجهه: «اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدر المؤمنين ودّا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية» . المناسبة: بعد أن رد الله تعالى على أصناف الكفار، وأبان أحوالهم في الدنيا والآخرة، ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وأوضح أنه سيغرس محبتهم في قلوب العباد، من غير تودد منهم، ولا تعرض لأسباب الوداد من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. ثم استأنف تعالى بيان تيسير القرآن بلسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لما تضمنه في هذه السورة من دلائل التوحيد والنبوة والحشر والنشر، وليبشر به وينذر. ثم ختم السورة بموعظة بليغة وإنذار بإهلاك المشركين كما أهلك من قبلهم من الأمم، فإنهم إذا علموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا، والموت، خافوا ذلك، وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة، فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي إن الذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا صالح الأعمال من المفروضات والتطوعات، وأحلوا الحلال وحرموا الحرام، وفعلوا ما يرضي الله، سيغرس الله محبتهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة. والصالحات: هي الأعمال التي ترضي الله عزّ وجلّ، لمتابعتها الشريعة المحمدية. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبّه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» فاتفق الحديث مع الآية في إنزال المحبة في الأرض للعباد الصالحين، وأن هذه المحبة والمودة في القلوب تكون بإحداث الله دون تعرض للأسباب المؤدية إلى إيجاد المودات من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. ثم استأنف الله تعالى كلامه لبيان موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر، والرد على الفرق الضالة المضلة، فقال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أي يسرنا القرآن لك بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، لتبشر به المتصفين بالتقوى، المستجيبين لله، المصدقين لرسوله، بأن لهم الجنة بالطاعة، وتنذر به القوم الألداء، الشديدي الخصومة والجدل، العوج عن الحق، المائلين إلى الباطل، بان لهم النار بالكفر والعصيان. ثم ختم تعالى السورة بموعظة بليغة قائلا:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي كثيرا ما أهلكنا قبل العرب المشركين من الأمم والجماعات من الناس، لكفرهم بآيات الله وتكذيب رسله، فهل ترى منهم أحدا، أو تسمع لهم صوتا؟! فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات ما يأتي: 1- إذا أحب الله عبدا لتقواه، ورضاه عنه باتباعه شرع الله ودينه، كتب له المحبة والمودة في قلوب عباده الصالحين، وعند الملائكة المقربين، وإن كان مكروها عند الظلمة والكفار والفساق. قال هرم بن حيّان: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم. والنموذج الأول لذاك هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنماذج التي بعده هم كبار صحابته، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة، لا يلقاه مؤمن إلا وقّره، ولا مشرك ولا منافق إلا عظّمه. ومن كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا، ولا يرضى إلا خالصا نقيا، جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه. 2- نزل القرآن الكريم بلسان العرب ولغتهم، ليسهل عليهم فهمه. 3- عذب الله كثيرا من الأمم والجماعات عذاب الاستئصال لكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله الكرام، وأكرم الله الأمم بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فرفع عنهم عذاب الإبادة والاستئصال.

4- في الآيتين الأخيرتين وعد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنصر والغلبة على المشركين العرب من قومه، ووعيد لأولئك الكافرين وأمثالهم بالعقاب والعذاب والذل والهوان. 5- تنحصر مهمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التبشير والإنذار، وفي الآية حث له عليهما، أي تبشير من أطاعه بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار.

سورة طه:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة طه مكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية. التسمية: سميت (سورة طه) لابتداء السورة بالنداء بها طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وهو اسم من أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي ذلك تكريم له، وتسلية عما يلقاه من إعراض قومه. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه هي: أولا- أن طه نزلت بعد سورة مريم، كما روي عن ابن عباس. ثانيا- أنه ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين (عشرة) مثل زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم، وموسى الذي ذكرت قصته موجزة مجملة، فذكرت في هذه السورة موضحة مفصلة، كما وضحت قصة آدم عليه السلام الذي لم يذكر في سورة مريم إلا مجرد اسمه فقط. ثالثا- أنه ذكر في آخر سورة مريم تيسير القرآن باللسان العربي، لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم للتبشير والإنذار، وابتدئ ذكر هذه السورة بتأكيد هذا المعنى. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كموضوعات سائر السور المكية وهو إثبات أصول الدين

من التوحيد والنبوة والبعث. وكانت بداية السورة ذات إيحاء وتأثير عجيب، من خلال الحديث عن سلطان الله وعظمته وقدرته وشمول علمه، وقد أدرك هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تلاوتها في بداية إسلامه، كما هو معروف في قصة إسلامه. وتضمنت السورة ما يأتي: 1- القرآن الكريم تذكرة لمن يخشى رب الأرض والسموات العلى، وتثبيت لشخصية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قيامه بواجب الدعوة والتبليغ، والإنذار والتبشير، وعدم الالتفات لمكائد المشركين [الآيات: 1- 8] . 2- البيان الجلي لقصة موسى وتكليم الله له، وإلقائه صغيرا في اليم في صندوق، وإرساله مع أخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار، وجداله بالحسنى لإثبات ربوبية الله وحده، ومبارزته السحرة، وتأييد الله له وانتصاره المؤزر، وإيمان السحرة بدعوته، ومعجزة انفلاق البحر وعبور بني إسرائيل فيه، وإهلاك فرعون وجنوده، وكفران بني إسرائيل بنعم الله الكثيرة عليهم، وحديث السامري وإضلاله بني إسرائيل باتخاذ العجل إلها لهم، وغضب موسى من أخيه هارون، الآيات [9- 98] . 3- الإشارة لفائدة القصص القرآني، وتوضيح جزاء من أعرض عن القرآن [99- 101] . 4- بيان حالة الحشر الرهيبة، وإبادة الجبال، وأوصاف المجرمين يوم القيامة، والحساب العادل [102- 112] . 5- عربية القرآن ووعيده وعصمة رسوله من نسيانه [113- 114] . 6- إيراد قصة آدم عليه السلام مع إبليس في الجنة [115- 122] .

القرآن سبب السعادة [سورة طه (20) الآيات 1 إلى 8] :

7- تأكيد بيان الجزاء في الدنيا والآخرة لمن أعرض عن القرآن، بالعيشة الضنك في الدنيا، والعمى في الآخرة عن الحجة المنقذة من العذاب [124- 127] . 8- العظة والاعتبار بهلاك الأمم السابقة وتأخير عذاب المشركين إلى يوم القيامة [128- 129] . 9- توجيهات ربانية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته في الصبر على الأذى، وتنزيه الله تعالى في الليل والنهار، وعدم الافتتان بزهرة الحياة الدنيا لدى الآخرين، وأمر الأهل بإقامة الصلاة ومتابعة التنفيذ [130- 132] . 10- طلب المشركين إنزال آيات مادية من الله، وإعذارهم بعد إرسال الرسول وإنزال القرآن، ثم وعيدهم بالعذاب المنتظر يوم القيامة [133- 135] . القرآن سبب السعادة [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) الإعراب: طه، ما أَنْزَلْنا.. إِلَّا تَذْكِرَةً ما أنزلنا: إما جواب القسم لأن قوله تعالى: طه جار مجرى القسم، وإما أن يكون طه بمعنى: يا رجل، أي يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن

البلاغة:

لتشقى، ولام لِتَشْقى لام النفي، أو لام الجحود. وتَذْكِرَةً منصوب على الاستثناء المنقطع. تَنْزِيلًا منصوب على المصدر. الرَّحْمنُ مبتدأ، أو مرفوع على المدح أي هو الرحمن. وعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبران للمبتدأ. يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي وأخفى من السر، كقولهم: الله أكبر، أي أكبر من كل شيء. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... اللَّهُ مبتدأ مرفوع، أو بدل من ضمير يَعْلَمُ وخبر المبتدأ: جملة: لَهُ الْأَسْماءُ. البلاغة: مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ التفات من ضمير التكلم إلى الغيبة، تفننا في الكلام، وتفخيما للمنزل من وجهين: إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، والتنبيه على أنه واجب الإيمان به. المفردات اللغوية: طه هذه الحروف المقطعة نزلت للتنبيه والتحدي بإعجاز القرآن البياني، ما دام مركبا من الحروف التي تتكون منها لغة العرب نفسها. أو هو اسم من أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو معناه: يا رجل، كما روي عن ابن عباس وكبار جماعة التابعين. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يا محمد لِتَشْقى لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل، أي خفف عن نفسك. إِلَّا تَذْكِرَةً لكن أنزلناه للتذكير والعظة لمن يخشى؟ لمن يخاف الله. الْعُلى جمع عليا، مؤنث الأعلى، كالكبرى مؤنث الأكبر. الْعَرْشِ في اللغة: سرير الملك، وهو هنا كناية عن الملك، أو هو مخلوق الله أعلم به، وهذا هو الأصح. اسْتَوى استولى عليه، بدليل قول الشاعر: استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق والأصح أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، كما قال الإمام مالك، فهو استواء يليق بجلال الله تعالى. وَما بَيْنَهُما من المخلوقات. وَما تَحْتَ الثَّرى التراب الندي، وهنا يراد مطلق التراب، والمراد: الأرضون السبع لأنها تحت التراب. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ في ذكر أو دعاء، فالله غني عن الجهر به. وَأَخْفى من السر، وهو حديث النفس والخاطر الذي يدور في الذهن، دون التفوه به، فلا تجهد نفسك بالجهر. لَهُ الْأَسْماءُ الصفات والأسماء التسعة والتسعون الوارد بها الحديث. والحسنى: مؤنث الأحسن. والذي

سبب النزول:

فضلت به أسماؤه في الحسن على سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن، كما قال الزمخشري. سبب النزول: قال مقاتل: قال أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، ومطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بل بعثت رحمة للعالمين» قالوا: بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن دين الإسلام هو سبب كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول ما أنزل الله عليه الوحي يقوم على صدور قديمه إذا صلى، فأنزل الله: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. التفسير والبيان: طه هذه الحروف المقطعة التي يبتدأ بها في أوائل السورة لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن، ما دام مركبا من حروف اللغة التي ينطقون بها ويكتبون. وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: طأ الأرض يا محمد، قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة، حتى كادت قدماه تتورمان، ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طأ الأرض، أي لا تتعب نفسك في الصلاة جدا، حتى تحتاج إلى المراوحة بين قدميك. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لم ننزل القرآن عليك لتتعب نفسك بسبب تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وفرط تحسرك على أن يؤمنوا، فإن إيمانهم ليس إليك، بل أنزلناه لتبلغ وتذكر، فحسبك التبليغ

والتذكير، ولا تلتفت بعدئذ لإعراض المعاندين، ولا ترهق نفسك وتتعبها بحملهم على قبول دعوتك. ونظير الآية قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] . فقوله: لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا. روى جويبر عن الضحاك قال، ومعه مقاتل: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم، فقد أراد به خيرا، كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» . وما أنزلناه إلا تذكرة لتذكر به من يخاف عذاب الله، وينتفع بما سمع من كتاب الله الذي جعلناه رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة، وليس عليك جبرهم على الإيمان، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى 42/ 48] ، ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 22] . وفي هذا إيناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعراض قومه عن دعوته، وضيق نفسه من تصميمهم على الكفر. روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة، إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» . وكلمة إِلَّا في الآية: إما استثناء منقطع بمعنى: لكن، أو متصل

والتقدير: ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة. وإنما خص لِمَنْ يَخْشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها، وإن كان القرآن عاما في الجميع، وهو كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] . ودليل العموم قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . ووجه التذكير بالقرآن: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعظهم به وببيانه. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد نزل عليك تنزيلا من خالق الأرض والسموات العليا، والمراد بهما جهة السفل والعلو، الأرض بانخفاضها وكثافتها، والسموات في ارتفاعها ولطافتها. والمراد بالآية: إخبار العباد عن كمال عظمة منزل القرآن، ليقدروا القرآن حق قدره. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي ومنزل القرآن هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو الذي علا وارتفع على العرش، ولا يعلم البشر كيف ذلك، بل نؤمن به على طريقة السلف الصالح الذين يؤمنون بالصفات من دون تحريف ولا تأويل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، فهو استواء يليق بجلال الله وعظمته، بلا كيف ولا انحصار، كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 48/ 10] لأن الله تعالى ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث، والعرش: شيء مخلوق، لا ندري حقيقته. ويرى الخلف تأويل الصفات، فيراد بالاستواء: الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل، والعرش: هو الملك، واليد: القدرة. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أي إن الله

منزل القرآن هو أيضا مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات، ومالك كل سيء ومدبره، ومتصرف فيه، ومالك ما تحت التراب من شيء. فله الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي إن تجهر بدعاء الله وذكره، فالله تعالى عالم بالجهر والسر، وما هو أخفى منه مما يخطر بالبال، أو يجري في حديث النفس، فالعلم بكل ذلك سواء بالنسبة لله عز وجل. والمعنى: إن تجهر بذكر الله ودعائه، فاعلم أنه غني عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر. وأما إجراء الأدعية والأذكار على اللسان، فلمساعدة القلب على ذلك، ولتصور المعنى، وشغل الحواس بالمطلوب وصرفها عن التفكر في غير ذلك، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف 7/ 205] . اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى إن صفات الكمال المتقدمة هي لله المعبود الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وله أحسن الأسماء والصفات الدالة على كل الكمال والتقديس والتمجيد، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح، والتي تقدم ذكرها في سورة الأعراف [الآية: 110] وله أيضا الأفعال الصادرة عن كمال الحكمة والصواب. وبه يتبين أن هذه الآيات وصفت منزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه خالق الأرض والسماء، وأنه الرحمن صاحب النعم، وأنه الذي استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون، وأن له الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا، وأنه العالم بكل شيء، سواء عنده السر والجهر، وأنه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال السديدة.

إسلام عمر:

فهل بعد إيراد هذه الصفات من يدعي أن القرآن من عند غير الله، وهل يصح اتخاذ صنم من حجر أو خشب أو معدن شريكا لله؟ لذلك كله بادر عمر بن الخطاب في جاهليته بعقل متفتح إلى الإسلام والإيمان، لما قرأت عليه أخته هذه الآيات. وقد نزلت سورة طه قبل إسلام عمر رضي الله عنه. إسلام عمر: روى ابن إسحاق في سيرته: أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام، وقد خرج في يوم متوشحا سيفه، يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله. فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟! فقال: وأي أهل بيني؟ قال: ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها أول سورة يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهما، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (الكلام الخفي الذي لا يفهم) الذي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على

دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما صنع، ندم وارعوى، وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال لها: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله، إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس، وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر، فقال عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه. فأسلم ورضي الله عنه. هذا ما ذكره ابن إسحاق مطولا، وروى القصة بإيجاز الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا «1» ، فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب، وكانوا يقرءون طه فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا

_ (1) يقال: صبا: خرج من دين إلى دين، وبابه «خضع» .

فقه الحياة أو الأحكام:

المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- ليس إنزال القرآن العظيم لإتعاب النفوس وإضناء الأجسام، وإنما هو كتاب تذكرة ينتفع به الذين يخشون ربهم. وفي هذا رد على كفار قريش- كما تقدم في سبب النزول- الذين قالوا: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى طه. ويوضح ذلك ما قاله الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بمكة، اجتهد في العبادة، واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية، فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه، فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل، فكان بعد هذه الآية يصلي وينام. وهكذا لم يكن إنزال القرآن لإتعاب النفس في العبادة، وإذاقتها المشقة الفادحة، وإنما القرآن كتاب يسر، وما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالحنيفية السمحة. 2- الله تعالى منزل القرآن هو خالق الأرض والسموات العليا، وهو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها الذي اعتلى عرشه، فكان مطلق التصرف في الخلق والكون، وله جميع ما في السموات وما في الأرض وما بينهما من الموجودات وما تحت الأرض من معادن وذخائر وأموال وغير ذلك، والأرضون سبع والسموات سبع أيضا، وهو العالم بكل شيء، يستوي عنده السر والجهر وما هو أخفى من السر، قال ابن عباس: السر: ما حدث به الإنسان غيره في خفاء، وأخفى منه: ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره.

قصة موسى عليه السلام:

وهو سبحانه الإله الوحيد في هذا الكون، لا إله غيره، ولا رب سواه، له الأسماء الحسنى التسع والتسعون، والصفات العليا، والأفعال الحميدة الحكيمة السديدة. وقد وحد الله نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فكبر ذلك عليهم، فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن، قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر، وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وأنزل: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء 17/ 110] وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. قصة موسى عليه السلام - 1- تكليم ربه إياه (أو مناجاة موسى) وابتداء الوحي إليه في الوادي المقدس [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)

الإعراب:

الإعراب: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِنِّي بالكسر على الابتداء لأن النداء في معنى القول، وإن: تكسر بعد القول لأنها في تقدير الابتداء. وتقرأ بالفتح أني لوقوع نُودِيَ عليها، أي نودي يا موسى بأني، فحذف الياء تخفيفا. وأَنَا تأكيد لياء المتكلم. طُوىً من قرأ بتنوين، جعله منصرفا اسما للمكان غير معدول، كجعل وصرد، ومن لم ينون جعله ممنوعا من الصرف إما للتأنيث والتعريف، أو للتعريف والعدل عن طاو كعدول عمر عن عامر. وإعرابه: بدل من الوادي في كلا الوجهين. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل مما يوحى. لِذِكْرِي إما مضاف إلى المفعول، أي لتذكرني، وإما مضاف إلى الفاعل، أي لأذكرك. أَكادُ أُخْفِيها أُخْفِيها إما أن الهمزة فيه همزة السلب، أي أريد إخفاءها، مثل: أشكيت الرجل، إذا أزلت شكايته، وإما أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف أظهرها لكم. ولام لِتُجْزى متعلقة ب أُخْفِيها. فَتَرْدى إما منصوب جوابا للنهي بالفاء، بتقدير (أن) مثل: لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ.. [طه 20/ 81] وإما مرفوع على تقدير: فإذا أنت تردى، مثل يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ [النساء 4/ 73] . البلاغة: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى؟ للتشويق والحث على الإصغاء، وهو استفهام تقرير. لِتَشْقى يَخْشى أَخْفى تَسْعى سجع حسن. المفردات اللغوية: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ تشويق لسماع قصته بقصد التأسي به، والحديث: ما يبلغ الإنسان من الكلام، سواء بالسمع أو بالوحي. وهو استفهام تقرير. إِذْ رَأى ظرف للحديث لأنه حدث، أو مفعول لفعل مقدر وهو اذكر. لِأَهْلِهِ لامرأته. امْكُثُوا هنا، والمكث: الإقامة، قال ذلك في أثناء مسيره من مدين إلى مصر. آنَسْتُ أبصرت. آتِيكُمْ أجيئكم. بِقَبَسٍ بشعلة من النار مقتبسة على رأس فتيلة أو عود وقال: لَعَلِّي لعدم الجزم بوفاء الوعد. هُدىً هاديا يدلني على الطريق، وكان أخطأها لظلمة الليل.

المناسبة:

فَلَمَّا أَتاها أتى النار، وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي للتواضع والأدب. الْمُقَدَّسِ المطهر أو المبارك، وهو تعليل للأمر باحترام البقعة. اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة من قومك. لِما يُوحى إليك مني، أو للوحي، واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين. أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي دال على أن الأمر مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم، والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لتكون ذاكرا لي، خصها بالذكر، لما فيها من تذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وقيل: لذكر صلاتي، لما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ، إن الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة. أَكادُ أُخْفِيها أبالغ في إخفائها ولا أظهرها بأن أقول: إنها آتية، أو أريد إخفاء وقتها عن الناس، ويظهر لهم قربها بعلاماتها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي لتجزى فيها كل نفس بما تسعى من خير أو شر. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها لا يصرفنك عن الإيمان بها. هَواهُ ما تهواه نفسه في إنكارها. فَتَرْدى فتهلك إن صددت عنها. المناسبة: لما عظم الله تعالى حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه به من التبليغ، أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الإبلاغ من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود 11/ 120] . وبدأ بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة، وتبليغ الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، وكان موسى أشد الناس صبرا على تحمل مكاره قومه. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة. التفسير والبيان: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه؟ وبدئ بالاستفهام لتثبيت الخبر، وتقريره في نفس المخاطب، فذلك أسلوب مؤثر في إلقاء الكلام العربي.

قال المفسرون: استأذن موسى عليه السلام شعيبا في الرجوع إلى والدته، فأذن له، فخرج، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق، فقدح موسى عليه السلام النار، فلم تور المقدحة شيئا، فبينا هو يزاول ذلك، إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق، فظن أنها نار من نيران الرعاة، من جانب جبل الطور الواقع عن يمينه «1» ، كما قال تعالى: إِذْ رَأى ناراً، فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر، والصحيح كما قال الرازي أنه رأى نارا، لا تخيل نارا، ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. فقال لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم: أقيموا مكانكم، إني رأيت نارا من بعيد، لعلني أوافيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب، أو جذوة كما في آية أخرى، لعلكم تستدفئون (أو تصطلون) بها، مما يدل على وجود البرد، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها، كما قال تعالى: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص 28/ 29] . والهدى: ما يهتدى به، وهو اسم مصدر، فكأنه قال: أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة. ومعنى الاستعلاء على النار: أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ: يا مُوسى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً أي فلما أتى النار التي آنسها، واقترب منها نودي من قبل الرب تبارك وتعالى، كما قال: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ

_ (1) تفسير الرازي 21/ 15

الشَّجَرَةِ: أَنْ يا مُوسى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [القصص 28/ 30] . وقال هاهنا: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي نودي: يا موسى، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك، فاخلع حذاءك لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم، وحسن التأدب، إنك بالوادي المطهر المسمى طُوىً من أرض سيناء. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي وأنا الله الذي اخترتك للرسالة والنبوة، فاستمع سماع قبول واستعداد ووعي لما ينزل عليك من الوحي، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف 7/ 144] أي على جميع الناس الموجودين في زمانك. ثم ذكر الموحى به فقال تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي إن الذي يناديك هو الله، وهو تأكيد لما سبق، وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ووحدني وقم بعبادتي من غير شريك لأن اختصاص الألوهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة، والمعنى: أنا الإله الحق الواحد، المستحق للعبادة دون سواي. وأد الصلاة المفروضة على النحو الذي آمرك به، مستكملة الأركان والشروط لتذكرني فيها وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخص الصلاة بالذكر، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة. أو المعنى: أقم الصلاة عند تذكرك بالواجب وذكرك لي لما رواه الإمام أحمد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» وفي الصحيحين عن أنس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» . وأخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . واقتصر الحديث على حالتي النوم أو النسيان لأن شأن المؤمن ألا يقصر في واجبه بأداء الصلاة، فإذا تركها عمدا كان قضاؤها ألزم وأوجب إذ لا كفارة لها إلا أداؤها أو قضاؤها. ثم أخبر عن الساعة أو مجيء يوم القيامة ومصير الخلائق بعد توحيد الله وعبادته، باعتبارها مقر الحساب على الأعمال، فقال: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي إن الساعة قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري، فاعمل لها الخير من عبادة الله والصلاة، ولأن مجيء الساعة أمر حتم لازم لأجزي كل عامل بعمله، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها، كما قال تعالى: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور 52/ 16] وقال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7- 8] . والله أخفى الساعة أي القيامة، وأجل الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ونشاط، ولا يؤخر التوبة، ويترقب الموت كل لحظة. وكلمة أَكادُ أي أقارب، وهي زائدة، أي إن الساعة آتية أخفيها. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها، وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى أي فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة (القيامة) والتصديق بها، والاستعداد لها من لا يصدق بها من الكفرة، واتبع أهواءه وتصوراته المغلوطة، بالانهماك في الملذات المحرمة الفانية، فإنك إن تفعل ذلك تهلك. والخطاب ليس مقصورا على موسى الرسول عليه السلام، وإنما بدئ به لتعليم غيره، فهو شامل جميع الناس البالغين العقلاء.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- ضرورة تعلم قصص الأنبياء والاطلاع عليها للعبرة والعظة، وقد حث القرآن على ذلك في مطلع الإخبار عن قصة موسى عليه السلام، بصيغة الاستفهام الذي هو استفهام إثبات وإيجاب. ولفظ الاستفهام وَهَلْ أَتاكَ وإن كان لا يجوز على الله تعالى، لأنه ليس بحاجة إليه، لكن المقصود به كما تقدم تقرير الجواب في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك، كما يقول المرء لصاحبه على سبيل التشويق ولفت النظر والانتباه: هل بلغك خبر كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر. 2- على الزوج واجب الإنفاق على الأهل (المرأة) من غذاء وكساء ومسكن ووسائل تدفئة وقت البرد، لذا بادر موسى عليه السلام إلى الذهاب في الليلة المظلمة الشاتية لإحضار شعلة نار أو جذوة (جمر من النار) للدفء، وللحاجة الشديدة إليه، وبخاصة حالة النفساء. 3- كان ذهاب موسى عليه السلام من أجل استحضار النار سببا في تكليم الله له، وابتداء الوحي عليه، وإيتائه النبوة والرسالة. 4- اقتضى أدب الخطاب الإلهي تكليفه بخلع نعليه، ففعل فورا. جاء في الخبر: أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. لذا وجب خلع النعال في أثناء الصلاة أو عند دخول المسجد إذا كان فيها نجاسة أو قذر، فإن كانت طاهرة جازت الصلاة فيها، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة في النعلين أفضل، وهو معنى قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف 7/ 31] .

وكيفية تطهير النعلين من النجاسة على التفصيل الآتي: إن تحقق فيهما نجاسة مجمعا على تنجيسها كالدم والعذرة (الغائط) من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة، فيطهرها المسح بالتراب عند الأوزاعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة: يزيل النجاسة اليابسة الحك والفرك، ولا يزيل الرطبة إلا الغسل، أما البول فلا يجزئ فيه إلا الغسل. وعند المالكية قولان، أرجحهما أن المسح يطهر، وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء. 5- حسن الاستماع واجب مطلوب في الأمور المهمة، وأهمها الوحي المنزل من عند الله. وقد مدح الله من يحسن استماع كلام الله، فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر 39/ 18] وذم من يعرض عن الاستماع فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ الآية [الإسراء 17/ 47] فمدح المنصت لاستماع كلام الله مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف 7/ 204] وقال هاهنا: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. قال وهب بن منبه: من أدب الاستماع: سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه، فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله، فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. 6- اشتمل أول الوحي على موسى على أصلين في العقيدة وهما الإقرار بتوحيد الله، والإيمان بالساعة (القيامة) وعلى أهم فريضة بعد الإيمان وهي الصلاة.

وكان إخفاء الساعة للتهويل والتخويف، وترك المماطلة والتسويف في الإقبال على التوبة والعمل الصالح، فإن الإنسان إذا جهل وقت الساعة كان منها على حذر وخوف. وهذا أيضا سبب إخفاء الله وقت الموت. وإقامة الصلاة واجب في الوقت المخصص لها، ويجب قضاؤها كما دلت الأحاديث النبوية المتقدمة في حالتي النوم والنسيان. وأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا آثما بتأخيرها عن وقتها، فالمتعمد آثم، والناسي والنائم غير آثمين. وحجة الجمهور قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة 2/ 43] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعده، وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير آثمين، فالعامد أولى. ثم إن النسيان هو الترك، قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] ونَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر 59/ 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن لأن الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى في الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي» وهو تعالى لا ينسى، فيكون ذكره بعد نسيان، وإنما معناه: علمت، فكذلك يكون معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ذكرها» أي علمها. وأيضا فإن ديون الآدميين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت، لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء، فإذا شغلت الذمة بدين وجب إبراء الذمة منه، أداء أو قضاء، وديون الله أحق بالوفاء. ثم إن ترك يوم من رمضان متعمدا بغير عذر يوجب القضاء، فكذلك الصلاة «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 178.

ومذهب المالكية: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها. وهذا هو مذهب الحنفية إلا أنهم قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر، وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة، وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. ودليل تقديم الفائتة قبل الحاضرة: ما روي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتته العصر يوم الخندق، حتى غربت الشمس، فصلى العصر بعد غروب الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وروى الترمذي عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء. واختلف العلماء إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال: - فذهب مالك والليث والزهري: إلى أنه يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة. وذهب الحسن البصري والشافعي وفقهاء الحديث والمحاسبي وابن وهب من المالكية: إلى أنه يبدأ بالحاضرة. - وقال أشهب: يتخير فيقدم أيتهما شاء.

- 2 - انقلاب عصا موسى حية (المعجزة الأولى) [سورة طه (20) الآيات 17 إلى 21] :

وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة: فإن كان وراء الإمام، فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به يقول: يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة وأحمد: يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الإمام، إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات. وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين، سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات، أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة. والفائتة بسبب النوم يبدأ عقب الصحو بصلاتها، لحديث مسلم والدارقطني عن أبي قتادة: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين يتنبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها» والصحيح ترك العمل بإعادة الصلاة في الجملة الأخيرة لحديث الدارقطني عن عمران بن حصين: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم» . - 2- انقلاب عصا موسى حية (المعجزة الأولى) [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 21] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)

الإعراب:

الإعراب: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ما: مبتدأ، وتِلْكَ: خبره، وبِيَمِينِكَ: في موضع نصب على الحال، أي ما تلك كائنة بيمينك، مثل: وَسارَ بِأَهْلِهِ أي سار غير منفرد. سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى سِيرَتَهَا منصوب ب سَنُعِيدُها بتقدير حذف حرف جر، أي: سنعيدها إلى سيرتها، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، أي منصوب بنزع الخافض. البلاغة: قالَ: هِيَ عَصايَ، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي إطناب، وكان مقتضى الجواب: هي عصاي، ولكنه استرسل في الجواب، تلذذا بالخطاب. المفردات اللغوية: وَما تِلْكَ؟ استفهام يتضمن تنبيها لما يريه فيها من العجائب يا مُوسى تكرار لزيادة الاستئناس والتنبيه أَتَوَكَّؤُا أعتمد عليها في المشي إذا عييت، أو عند الوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وأخبط ورق الشجر بها على رؤوس غنمي، ليسقط، فتأكله مَآرِبُ منافع وحاجات أخر، جمع مأربه، كحمل الزاد والسقاء وطرد الهوام. حَيَّةٌ ثعبان عظيم لآية أخرى، والحية في الأصل: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى. والثعبان: العظيم من الحيات، والجان: الصغير منها تَسْعى تمشي على بطنها سريعا خُذْها بأن يدخل يده في فمها فتعود عصا وَلا تَخَفْ لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر، خاف وهرب منها سِيرَتَهَا الْأُولى أي إلى حالتها الأولى وهي كونها عصا. المناسبة: بعد مناجاة الله لموسى، بدأ تعالى بذكر براهين نبوته، لتصديق رسالته، وأولها انقلاب العصا حية، أي انقلاب الجماد حيوانا، وبالعكس، وتلك آيات باهرات ومعجزات قاهرات أحدثها الله فيها لأجله، وليست من خواصها. التفسير والبيان: معجزة العصا لموسى هي البرهان الأول الخارق للعادة الدال على أنه لا يقدر

على مثل هذا إلا الله عزّ وجلّ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، قال تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ هذا السؤال عن العصا سؤال تقرير، سأله الله تعالى لموسى عليه السلام وهو العليم به، للتنبيه على كمال قدرة الله، والتأمل بما يحدثه من خوارق العادات، والتأكد من أنها هي عصاه الحقيقية التي يعرفها، وأنها هي التي ستتحول حية تسعى، وإلا فقد علم الله ما هي. والمعنى: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن؟! فأجابه موسى بالمطلوب وزاد عليه لأنه استمتع بخطاب الله تعالى، فقال: قالَ: هِيَ عَصايَ قال موسى: هي عصاي، وبه تم المراد، ولكن موسى عليه السلام ذكر فائدتين لها، وأجمل الكلام في الجملة الثالثة، ليسأله ربه: وما هذه المآرب. أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى هذه عصاي أعتمد عليها في حال المشي، وأخبط بها الشجر وأهزه ليسقط منه الورق لتأكله الغنم، ولي فيها مصالح ومنافع وحوائج أخرى غير ذلك، كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم، وغير ذلك، فمنافع العصا كثيرة معروفة. فأمره الله بإلقائها لتظهر المعجزة: قالَ: أَلْقِها يا مُوسى قال تعالى لموسى عليه السلام: ألق هذه العصا التي في يدك يا موسى. فَأَلْقاها، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فألقاها موسى على الأرض، فإذا هي قد صارت في الحال حية عظيمة، ثعبانا طويلا، يتحرك حركة سريعة، وفي آية أخرى: فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، قال تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل 27/ 10] لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها، فتبين أن هذه الحية في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة. وقوله تَسْعى تمشي وتضطرب.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أمره تعالى بالعودة إلى مكانه، فرجع موسى وهو شديد الخوف، فقال: قالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال له ربه: خذها بيمينك، ولا تخف منها، سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي تعرفها قبل ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى خطاب من الله تعالى لموسى وحيا لأنه قال: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. ولا بد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. 2- في جواب موسى في هذه الآية دليل على جواز كون الجواب على السؤال بأكثر مما سئل. جاء في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ماء البحر للتوضؤ به، فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وسألته صلى الله عليه وآله وسلم امرأة عن الصغير حين رفعته إليه، فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولك أجر» أخرجه مسلم عن ابن عباس. 3- قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ.. خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة، لا يلزم منه أن يكون موسى أفضل من محمد لأن الله تعالى خاطب أيضا محمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج في قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم 53/ 10] إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان سرا لم يطلع عليه أحدا من الخلق.

4- قال ابن عباس: إمساك العصا سنة للأنبياء وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال: سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم للمنافقين، وزيادة في الطاعات. ومنافع العصا كثيرة، منها اتخاذها قبلة في الصحراء، وقد كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عنزة «1» تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، وذلك ثابت في الصحيح. وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له مخصرة «2» . والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء: أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. 5- لقد تحولت العصا الملقاة من يد موسى حية كبيرة سريعة الحركة بفعل الله عز وجل القادر على خرق العوائد، فقلب الله أوصافها وأعراضها، كذلك عادت الحية عصا إلى حالتها الأولى بفعل الله تعالى، وكل ذلك كان معجزة لموسى عليه السلام وبرهانا حسيا قطعيا على نبوته. وإنما أظهر الله هذه الآية لموسى، لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. وكان خوف موسى عند انقلابها لأول مرة حية- بعد أن علم أنه مبعوث من عند الله إلى الخلق- بمقتضى الطبع الإنساني الذي يخاف من الحيات لسميتها

_ (1) العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا، وفيها سنان مثل سنان الرمح. والعنزة والحربة والنيزك والآلة بمعنى واحد. (2) المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده، فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكئ عليها.

- 3 - اليد البيضاء (المعجزة الثانية) [سورة طه (20) الآيات 22 إلى 35] :

وخطرها لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عن بعض خواصه. قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى: وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه، فلا يخافه البتة. - 3- اليد البيضاء (المعجزة الثانية) [سورة طه (20) : الآيات 22 الى 35] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) الإعراب: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى بيضاء: حال من ضمير تَخْرُجْ وآيَةً إما منصوبة على الحال بدلا من بَيْضاءَ أي تخرج مبينة عن قدرة الله تعالى، وإما منصوبة بتقدير فعل، أي آتيناك آية أخرى. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً لِي في موضع نصب ظرف ل- اجْعَلْ أو صفة ل وَزِيراً فلما تقدم صار منصوبا على الحال. هارُونَ أَخِي هارُونَ منصوب على البدل من قوله: وَزِيراً وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة، وأَخِي عطف بيان، أو بدل.

البلاغة:

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً كَثِيراً منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف، أي نسبحك تسبيحا كثيرا. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي يقرأ بوصل الهمزة وقطعها، فالوصل دعاء وطلب وهو كالأمر، والقطع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب اجْعَلْ على تقدير شرط مقدر، فهو مجزوم بجواب الطلب. البلاغة: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ استعارة، استعار جناح الطير بجنب الإنسان. بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فيه احتراس: وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، فلو اقتصر على بَيْضاءَ لأوهم أن ذلك من برص أو بهق، فاحترس بقوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ. المفردات اللغوية: وَاضْمُمْ الضم: الجمع يَدَكَ اليمنى بمعنى الكف إِلى جَناحِكَ إلى جنبك الأيسر تحت العضد، علما بأن أصل الجناح للطائر، ثم أطلق على اليد والعضد والجنب، وهذا هو المراد هنا تَخْرُجْ خلاف ما كانت عليه من الأدمة بَيْضاءَ مشعة كشعاع الشمس تعشي البصر مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير عاهة أو قبح كالبرص الذي تنفر الطباع منه آيَةً أُخْرى معجزة ثانية غير العصا. لِنُرِيَكَ أي فعلنا ذلك لنريك بها مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى هي صفة: آياتِنَا أي من آياتنا العظمى الدالة على قدرتنا وعلى رسالتك. وإذا أراد عودها إلى حالتها الأولى، ضمها إلى جناحه كما تقدم، ثم أخرجها اذْهَبْ رسولا إِلى فِرْعَوْنَ ومن معه بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة إِنَّهُ طَغى جاوز الحد في كفره، وعتوه وتجبره، حتى ادعى الألوهية اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي وسعه لتحمل أعباء الرسالة والصبر على مشاقها وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي سهل لي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي أزل تلك العقدة التي في لساني، حدثت في احتراقه بجمرة وضعها بفيه وهو صغير، لئلا ينفر مني الناس ويستخفوا بي يَفْقَهُوا قَوْلِي يفهموا قولي عند تبليغ الرسالة. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً معينا، والأزر: القوة أو الظهر، يقال: آزره: أي قواه وأعانه وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي اجعله شريكا معي في النبوة والرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً أي تسبيحا كثيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي ونذكرك ذكرا كثيرا إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا، فأنعمت بالرسالة، ولا نريد بالطاعة إلا رضاك.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر تعالى معجزة العصا الدالة على صدق رسالة موسى عليه السلام، وهي المعجزة الأولى، ذكر المعجزة الثانية وهي معجزة اليد البيضاء التي تنقلب مشعة كشعاع الشمس، تعشي البصر. وبعد هاتين الآيتين أمره الله بالذهاب إلى فرعون، لتبليغ رسالة ربه ودعوته إلى عبادة الله، فدعا موسى عليه السلام ربه بأربعة أمور: شرح صدره، وتيسير أمره، وحل عقدة لسانه، وجعل أخيه هارون نبيا وزيرا له، لتقويته، وتعاونه معه في أداء مهمة التبليغ، وذكر الله وعبادته، فصار مطلوب موسى ثمانية أمور، أربع منها وسائل، وأربع أخرى هي غايات. التفسير والبيان: هذا برهان ثان لموسى عليه السلام على نبوته، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه أو في جناحه (جنبه) معبرا عن الجنب بالجناح، فقال: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى أي واضمم يا موسى يدك اليمنى أو كفك إلى جناحك (وهو جنبك تحت العضد) واجعلها تحت الإبط الأيسر، تخرج بيضاء لامعة ذات نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر، من غير عيب كبرص أو أذى أو شين- علما بأن جلد موسى كان أسمر- معجزة أخرى غير العصا، ثم ردها فعادت كما كانت بلونها. وإذا حاول السحرة إبطال معجزة العصا، فإنه لم يحاول أحد إبطال معجزة اليد. وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، كأنها فلقة قمر. قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل.

قال الله تعالى في مكان آخر: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [القصص 28/ 32] ، وعبر تعالى عن الجناح أيضا بالجيب، فقال: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل 27/ 12] ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص 28/ 32] . لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فعلنا هذا لنريك بهاتين الآيتين بعض دلائل قدرتنا على كل شيء في السموات والأرض والمخلوقات الموجودات. وبعد أن أظهر تعالى له هذه الآية أمره بالذهاب إلى فرعون، وبين العلة في ذلك، وهي أنه طغى، فقال: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي اذهب رسولا إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه، ومعك ما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى توحيد الله وعبادته، ومره بأن يحسن إلى بني إسرائيل، فإنه كفر وتجاوز قدره والحدود كلها، فآثر الحياة الدنيا وادعى أنه الرب الأعلى. ولما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون، وكان ذلك تكليفا شاقا، سأل ربه أمورا ثمانية، ثم ختمها بعلة سؤال تلك الأشياء، فقال: 1- قالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال موسى: رب وسع لي صدري وأزل عنه الضيق فيما بعثتني به، فإنه أمر عظيم وخطب جسيم، وسبب هذا السؤال قوله: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي [الشعراء 26/ 13] ، فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، ليحتمل أذى الناس وأعباء الرسالة. 2- وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل علي القيام بما كلفتني به من تبليغ الرسالة، وقوني على مهمتي، فإن لم تكن أنت عوني ونصيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.

3- وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي أي وأطلق لساني بالنطق، وأزل ما فيه من العقدة والعي ليفهموا قولي وكلامي بتبليغ الرسالة. وقد كان في لسانه رتة (حبسة) أو لثغة حين عرض عليه وهو صغير التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، فكان فيه لكنة، وذلك حين نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير، فغضب، وتوجس منه شرا، فقالت امرأته: إنه صغير لا يدري شيئا، فأتت له بجمرة وبلحة، فوضع الجمرة على لسانه. وروي أن الحسين رضي الله عنه كان في لسانه رتة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذه ورثها من عمه موسى» . 4- وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي أي واجعل لي عونا ومساعدا لي في بعض أموري، من أهل بيتي هارون أخي، اجعله رسولا، ليتحمل معي أعباء الرسالة. ودعم الأنبياء تقتضيه حاجة نشر الدين، لذا قال عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ، قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران 3/ 52] . 5- 6: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي يا رب أحكم به قوتي، واجعله شريكي في أمر الرسالة، حتى نؤدي المطلوب على الوجه الأكمل ونحقق أفضل الغايات. والحاصل أنه شفع له كي يكون نبيا مثله ليعينه، ويشد به أزره (قوته) ويجعله ناصرا له لأنه لا اعتماد على القرابة. 7- 8: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي لكي نزهك كثيرا عما لا يليق بك من الصفات والأفعال، ونذكرك كثيرا وحدك دون أن نشرك معك غيرك. قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي إنك يا رب كنت عليما بأحوالنا وأحوال

فقه الحياة أو الأحكام:

غيرنا، في اصطفائك لنا، وإعطائك إيانا النبوة، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، فنمتثل أمرك، ولك الحمد على ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن إخراج موسى عليه السلام يده من جيبه أو جناحه بيضاء لامعة تضيء كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا: هي المعجزة الثانية بعد معجزة العصا. 2- أرسل الله موسى رسولا إلى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية، وآزرته فئته الباغية في ذلك الادعاء، وأيد الله موسى بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول. 3- دعا موسى ربه، والدعاء نوع من العبادة، لتيسير القيام بمهمته وتحقيقه أحسن الغايات، وقد أجابه ربه لكل ما طلب لقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، فشرح صدره وأزال عنه الضيق والغم، ويسر أمره وقواه، وانحل أكثر العقد من لسانه، وإن بقي منها شيء قليل، لقوله تعالى حكاية عن فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف 43/ 52] وجعل له أخاه هارون نبيا ليعاونه في أداء الرسالة، والتعاون ضروري لإنجاح المقصود، وآزره وأحكم قوته به، وشاركه في مهمته، وكانا كثيرا ما يسبحان الله وينزهانه عما لا يليق به من نقص كادعاء ولد أو شريك معه، ويذكرانه وحده لا شريك له، عملا بما دعا به موسى عليه السلام. 4- إن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، عالم بموسى وأخيه وبأحوال فرعون وغير ذلك، مدرك ما تعرض له موسى في الصغر، فأحسن إليه، ونصره على فرعون وملئه.

- 4 - نعم الله الثمان على موسى قبل النبوة [سورة طه (20) الآيات 36 إلى 41] :

- 4- نعم الله الثمان على موسى قبل النبوة [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) الإعراب: أَنِ اقْذِفِيهِ.. فَاقْذِفِيهِ أَنِ اقْذِفِيهِ في موضع نصب على البدل من ما. وهاء اقْذِفِيهِ لموسى، وهاء فَاقْذِفِيهِ للتابوت. وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فُتُوناً إما منصوب على المصدر (مفعول مطلق) مثل: ضربت ضربا، وإما منصوب بحذف حرف الجر، أي فتناك بفتون، ومعناه: وفتناك بأنواع من الفتن. البلاغة: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي استعارة تبعية، شبه اختياره للمحبة والرسالة والتكريم والتكليم بمن يختاره الملك للمهام الجليلة، لما يرى فيه من المقومات والخصال الحميدة، لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سُؤْلَكَ مسئولك، أي مطلوبك مَنَنَّا أنعمنا إِذْ للتعليل أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ألهمنا أو في المنام، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون في جملة من يولد، كما أوحى إلى مريم، وإلى النحل، وإلى الحواريين وليس وحيا على جهة النبوة ما يُوحى في أمرك اقْذِفِيهِ ألقيه واطرحيه أي ألقي موسى الصغير في التابوت فَاقْذِفِيهِ فألقي التابوت فِي الْيَمِّ البحر، والمراد هنا نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ الشاطئ، والأمر هنا بمعنى الخبر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي محبة كائنة مني، لتصبح محبوبا بين الناس، فأحبك فرعون وكل من رآك وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وتربى على رعايتي وحفظي لك بمرأى مني. إِذْ تَمْشِي إذ للتعليل أُخْتُكَ مريم، لتتعرف على خبرك، وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن يَكْفُلُهُ يضمه إلى نفسه ويصبح كافلا له، فأجيبت، فجاءت بأمه، فقبل ثديها تَقَرَّ عَيْنُها تسر بلقائك وَلا تَحْزَنَ بفراقك وأنت بفراقها وفقد شفقتها وَقَتَلْتَ نَفْساً هو القبطي بمصر الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، فاغتممت لقتله خوفا من فرعون الْغَمِّ غم قتله، خوفا من عقاب الله تعالى، والغم: الكدر الحادث من خوف شيء أو فوات مقصود وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك بأنواع من الابتلاء، فخلصناك مرة بعد أخرى. والفتون: الابتلاء والاختبار بالمحن، ثم تخليصه منها. وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، وترك الأصحاب، والمشي راجلا على حذر، وفقد الزاد، وأجر نفسه، وغير ذلك أثناء مسيره من مصر إلى مدين، ومدين: على ثماني مراحل من مصر، وهي جنوب فلسطين «1» . فَلَبِثْتَ سِنِينَ أقمت في أهل مدين عشر سنين، بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرته في علمي لأن أكلمك وأكلفك بالرسالة، وهو أربعون سنة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك بالرسالة والمحبة. وكرر: يا مُوسى للتنبيه على غاية القصة وهي التكليم. المناسبة: بعد أن سأل موسى ربه أمورا ثمانية، ذكر تعالى هنا أنه أجابه إليها، ليتمكن

_ (1) خرج موسى عليه السلام من مصر إلى أرض مدين وهو شاب، بعد قتل القبطي في مصر، وفي هذه الرحلة أقام بمدين وتزوج بابنة شعيب عليه السلام، وقضى عشر سنين فأكثر. ثم بعد بعثته عليه السلام عاد إلى مصر لإخراج بني إسرائيل من ذل العبودية ودعوة فرعون إلى دينه. [.....]

التفسير والبيان:

من تبليغ رسالته، ثم ذكره بنعمه السالفة عليه قبل النبوة، وعد له ثماني نعم عظام وهي: إلهام أمه صنع صندوق وإلقاؤه وهو رضيع في النيل: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ. وإلقاء محبة الله عليه بحيث لا يراه أحد إلا أحبه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وحفظ الله له ورعايته: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. وعودته إلى أمه للرضاع والحضانة: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها. ونجاته من القصاص بقتل القبطي: فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ. وابتلاؤه بالفتن: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. ومقاساته الفقر والغربة مع أهل مدين: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ. وتكليم الله له واختياره للنبوة والرسالة والهداية: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. التفسير والبيان: أجاب الله تعالى في هذه الآيات دعاء موسى عليه السلام، وذكره بنعمه السالفة عليه، فقال: قالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قال الله عز وجل لموسى: قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وحل العقدة، ونبوة هارون، وشد أزره به، وإشراكه في أمر الرسالة، والتمكين من التسبيح الكثير، والتذكر الكثير لله عز وجل. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى أي ولقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم سابقة كثيرة قبل النبوة وهي: 1- إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ أي مننا عليك حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون، أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تطرح هذا التابوت في البحر (اليم) وهو هنا نهر النيل، وأمرنا النيل

بإلقائك على الشط قبالة منزل فرعون، فأخذك فرعون عدو الله وسيصير عدوا لك في المستقبل. فبينا فرعون جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق، فأمر به، فأخرج، ففتح، فإذا صبي جميل صبيح الوجه، فأحبه حبا شديدا هو وزوجته، كما قال تعالى: 2- وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي ألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد، لا يراك أحد إلا أحبك، فأحبك فرعون وزوجه التي قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص 28/ 9] . 3- وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتتربى بمرأى مني وفي ظل رعايتي. 4- إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ أي خرجت أختك تمشي على الشاطئ، تسير بسير التابوت، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان له مرضعة، فقالت: هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بالأم، فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة أخرى غيرها، فرددناك إلى أمك بألطافنا، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها، بعد أن طرحته في البحر، وعظم عليها فراقه. 5- وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي قتلت القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي، وكان قتلا خطأ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله خوفا من العقوبة، بالفرار إلى مدين، فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب. 6- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك مرة بعد مرة بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة، قبل أن يصطفيك الله لرسالته، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.

فقه الحياة أو الأحكام:

7- فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي فأقمت ومكثت سنين مع أهل مدين بأرض العرب على ثماني مراحل من مصر، عانيت فيها من الفقر والغربة الشيء الكثير، حتى آجرت نفسك لشعيب لترعى غنمه مدة عشر سنين كانت مهر امرأتك. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا. 8- وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي، وجعلتك رسولا بيني وبين خلقي لتبليغ الدين، والهداية إلى التوحيد والشرع القويم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لما سأل موسى عليه السلام ربه الأمور الثمانية، أجاب سؤله، وحقق مطلوبه ومرغوبه، فضلا من الله ونعمة، ورحمة ومنة. 2- وبعد إجابة دعائه، ذكره الله بما أنعم عليه من النعم الثماني التي أنعم بها عليه، قبل سؤاله، وتتلخص في حفظه سبحانه له من شر الأعداء والقتل من ابتداء حياته، وحين شبابه. 3- كان الإيحاء من الله لأم موسى بصنع الصندوق وقذفه في البحر إلهاما أو رؤيا رأتها في المنام، فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء 21/ 7] .

وأيضا جاء في القرآن الوحي لا بمعنى النبوة، قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل 16/ 68] وقال سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [المائدة 5/ 111] . 4- من عجائب فعل الله وتدبيره وصنعه أن ينجي الله موسى الرضيع من قتل فرعون، وأن يتربى في بيت فرعون على مائدته، وأن يكون سببا في هلاك فرعون وإغراقه في البحر مع ملئه وقومه. 5- معنى محبة الله تعالى لموسى: إيصال النفع إلى عباده، بتهيئته للرسالة منذ الصغر، واستمرار ذلك حال الكبر إلى آخر عمره. 6- ومن تدبير الله الخفي أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أحد من المراضع، حتى أقبلت أخته المتجاهلة أمره، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها، فمصه وفرح به، فقالوا لها: تقيمين عندنا؟ فقالت: إنه لا لبن لي، ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون، قالوا: ومن هي؟ قالت: أمي، فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث، وقيل: بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، كما قال ابن عباس. فجاءت الأم فقبل ثديها. 7- ليس هناك في الدنيا بعد النبي أشد عاطفة من عاطفة الأم على ولدها، بخلق الله وتقديره بإفرازها الحنان على ولدها من خلايا خاصة بها، لذا حزنت أم موسى وقلقت على ابنها بعد إلقائه في البحر، ولكن الله الرحيم بعباده رد إليها ابنها، وأقر عينها، وأزال حزنها وغمها. 8- لم يكن قتل موسى قبطيا كافرا عمدا، وإنما كان خطأ، وقبل النبوة حال الصغر، قال كعب كما روى مسلم في صحيحة: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة.

9- آمن الله موسى من الخوف والقتل والحبس، واختبره اختبارا عسيرا شاقا في مراحل حياته أثناء الشباب، حتى صلح للرسالة. 10- أتم موسى عليه السلام عشر سنوات في رعي غنم شعيب الرجل الصالح مهرا لامرأته، وهو أتم الأجلين. وقال وهب: لبث موسى عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته «صفورا» ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده. 11- بعد مرور موسى بمحن كثيرة حان وقت نبوته، فجاء في وقت مقدر سابقا في علم الله وقضائه، موافقا للنبوة والرسالة لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. فاصطفاه الله واختاره لوحيه ورسالته، وأرسله إلى فرعون وملئه. وتتمة القصة في الآيات التالية. أخرج البخاري ومسلم في تفسير الاصطفاء عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني، قال: نعم، فحج آدم موسى» .

- 5 - التوجيهات لموسى وهارون في دعوة فرعون [سورة طه (20) الآيات 42 إلى 48] :

- 5- التوجيهات لموسى وهارون في دعوة فرعون [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) المفردات اللغوية: بِآياتِي بمعجزاتي التسع كالعصا واليد البيضاء، فإن فرعون لما قال لموسى: فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ. وَلا تَنِيا لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي أي لا تنسياني حيثما تقلبتما بتسبيح وغيره، واتخذا ذكري عونا ومددا وتأييدا مني إليكما. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالذكر: تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها. وأما وقت نبوة هارون: فروي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، وقيل: سمع بمقبله، وقيل: ألهم ذلك، وخوطب مع أخيه موسى لأنه كان تابعا، وموسى متبوعا. طَغى تجاوز الحد بادعائه الربوبية قَوْلًا لَيِّناً فيه تلطف وبعد عن الغلظة والشدة، نحو قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات 79/ 18- 19] . يَتَذَكَّرُ يتأمل ويتعظ فيؤمن. وقوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلق باذهبا، أو قولا، أي باشرا الأمر على رجاء وطمع منكما أنه يثمر. والفائدة في إرسالهما مع علمه تعالى بأنه- أي فرعون- لا يؤمن: إلزام الحجة وقطع المعذرة يَخْشى أي يخاف من بطش

المناسبة:

الله وعذابه. وقدم التذكر على الخشية لأن التذكر للمتحقق، والخشية للمتوهم، أي إن لم يتحقق صدقكما، ولم يتذكر، فلا أقل من أن يتوهمه، فيخشى. يَفْرُطَ يعجل بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى علينا، أي يتكبر ويزداد طغيانا إِنَّنِي مَعَكُما بالعون والحفظ والنصرة أَسْمَعُ ما يقول وَأَرى ما يفعل، بل أسمع وأرى ما يجزي بينكما من قول أو فعل، فأصرف شره عنكما. فَأْتِياهُ قابلاه مواجهة فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أطلقهم من الأسر، ودعهم يذهبون معنا إلى الشام وَلا تُعَذِّبْهُمْ ولا تبقهم عندك معذبين بالتكاليف الصعبة والأشغال الشاقة كالحفر والبناء وحمل الأثقال، وقتل الولدان، وهذا دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ أي بحجة على صدقنا بالرسالة. وهي جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة. وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها، فالمراد: جنس الآية، لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي السلامة من العذاب في الدارين، لمن صدق بآيات الله الدالة على الحق كَذَّبَ ما جئنا به وَتَوَلَّى أعرض عنه. ويلاحظ أنه قدم البشارة بالسلام للترغيب وعملا بسياسة اللين المأمور بها، ثم جاء التصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن العقاب مؤيد والتهديد مهم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى النعم الثماني على موسى في مقابل طلباته الثمانية، ذكر هنا الأوامر والنواهي أو التوجيهات التي ينفذها هو وأخوه هارون، كالتعليمات التي تعطى للرسل والسفراء والقناصل لدى الذهاب في مهمة إلى دولة أخرى، للتوصل إلى نجاح المهمة، وأداء الرسالة على أكمل وجه، والخلاصة: أنه لما قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عقبه بذكر ما لأجله اصطنعه، وهو الإبلاغ والأداء. التفسير والبيان: هذه هي الأوامر والنواهي الصادرة من الله لموسى وأخيه، فقال تعالى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بحججي وبراهيني ومعجزاتي التي جعلتها لك آية وعلامة على

النبوة، وهي التسع آيات التي أنزلت عليك، ولا تضعفا، ولا تفترا عن ذكر الله، ولا عن تبليغ الرسالة إليهم، فإن ذكر الله عون وقوة وسلطان، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمارة بن دسكرة: «إن عبدي كل عبدي: الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أي نظيره في الشجاعة والحرب. والذكر يقع على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، وذلك بأن يبينا لهم أن الله أرسلهما مبشرين ومنذرين، وأنه لا يرضى منهم بالكفر، ويذكرا لهما أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى اذهبا إلى فرعون، وأبطلا دعواه الألوهية بالحجة والبرهان لأنه جاوز الحد في الكفر والتمرد، وتجبر على الله وعصاه، حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات 79/ 24] . وبدأ بفرعون لأنه الحاكم، فإذا آمن تبعه الرعية، ثم بين الله تعالى أسلوب الدعوة، فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي فكلماه كلاما رقيقا لطيفا لا خشونة فيه، وخاطباه بالقول اللين، فذلك أدعى به وأحرى أن يفكر فيما تبلغانه، ويخشى عقاب الله الموعود به على لسانكما. والمراد تركهما التعنيف، كقولهما: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى.. [النازعات 79/ 18- 19] لأن نفس الحاكم مستعلية قاسية، لا تقبل القسر والقسوة، وتلين للمديح والاستعطاف. وكلمة «لعل» هنا لتوقع حصول ما بعدها، واحتمال تحققه، فالتوقع فيها من البشر، أي على أن تكونا راجيين لأن يتذكر أو يخشى. والخطاب وإن كان مع موسى، فإن هارون تابع له، فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون. وفي هذه الآية عبرة وعظة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا

بالملاطفة واللين، كما قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] . فأجاب موسى وهارون بقولهما: قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى أي قال موسى وهارون: يا ربنا، إننا نخاف من فرعون إن دعوناه إلى التوحيد وعبادتك، أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، ويشتط في أذيتنا ويعتدي علينا، لتجبره وعتوه وقساوته. قالَ: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي قال الله لموسى وهارون: لا تخافا من فرعون، فإنني معكما بالنصر والتأييد، والحفظ والعون عليه، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه، ولست بغافل عنكما، وأرى كل ما يقع، فأصرف شره عنكما. والمراد أنه تعالى حثهما على التبليغ بجرأة وحكمة، وتكفل لهما بالحفظ والمعونة والنصرة والوقاية من شر فرعون وغضبه. وتدل هذه الآية على أن كونه تعالى سميعا بصيرا صفتان زائدتان على العلم لأن قوله: إِنَّنِي مَعَكُما دل على العلم، وأَسْمَعُ وَأَرى على السمع والبصر. فَأْتِياهُ فَقُولا: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أي فأتياه في مجلسه وقابلاه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك. وقوله رَبِّكَ إشارة إلى أن الرب الحقيقي هو الله، وأن دعواك الربوبية لنفسك لا معنى لها. فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي أطلق سراح بني إسرائيل من الأسر، وخل عنهم، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وتكليفهم مالا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وإنما بدأ موسى وهارون بهذا الطلب لأنه أخف وأسهل من الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله تعالى.

قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي قد أتيناك بمعجزة ودلالة وعلامة من ربك على أنا مرسلون لك، والسلامة والأمن من سخط الله ومن عذابه على من اتبع هدى ربه، فآمن برسله، واسترشد بآياته الداعية إلى الحق والخير وترك الظلم والضلال. وهذا ليس بتحية. والعبارة الأخيرة كانت تكتب في مكاتبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام. مثل كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم، ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين» . ولما كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا صورته: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركتك في الأمر، فلك المدر، ولي الوبر، ولكن قريش قوم يعتدون» . فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين» . إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي إننا وجهنا لك النصح والإرشاد لأن الله أخبرنا فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم: أن العذاب متمحض خالص لمن كذب بآيات الله وبما ندعو إليه من توحيده، وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات 79/ 37- 39] ، وقال سبحانه: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل 92/ 14- 16] ، وقال

فقه الحياة أو الأحكام:

عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة 75/ 31- 32] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- ربط الله تعالى بين اصطناع موسى لنفسه، أي اختياره لوحيه ورسالته، وبين ما اختاره له، وهو إبلاغ الرسالة، وأداء الوحي إلى الناس. 2- أيد الله تعالى موسى وأخاه هارون عليهما السلام بتسع آيات أنزلت على موسى، لتكون دليلا وآية على النبوة، ومعجزة تثبت الصدق، وبرهانا لفرعون وقومه على أن موسى وأخاه هارون أرسلهما الله إليهم. 3- أمر الله تعالى موسى وهارون بالذهاب إلى دعوة فرعون إلى عبادة الله والإقرار بربوبيته وألوهيته وحده لا شريك له، وقد خاطب أولا موسى وحده تشريفا له، ثم كرر الخطاب له مع أخيه للتأكيد. 4- قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً دليل على جواز الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، فنحن أولى بذلك، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه. والقول اللين: هو القول الذي لا خشونة فيه. 5- الخوف من عدوان الظلمة العتاة الجبابرة كفرعون من طبيعة البشر، لذا لم يكن مستغربا أن يقول موسى وهارون: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى أي أن يشطط في أذيتنا أو يعتدي علينا. 6- قال العلماء: لما لحقهما- أي موسى وهارون- ما يلحق البشر من الخوف

على أنفسهما، عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية رد على من قال: إنه لا يخاف والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. لذا حكى القرآن عن موسى: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص 28/ 21] ، وقال: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص 28/ 18] ، وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه 20/ 67- 68] ، وقال في الآيات المتقدمة في هذه السورة: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى. ومنه حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد. ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. 7- العصمة للأنبياء من الله تعالى وحده، لذا قال لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي إنه معهما بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. والسماع والبصر: عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية. والآية دليل كما تقدم على العلم الإلهي، وعلى كونه تعالى سميعا وبصيرا. 8- كان أول مطلب موسى وهارون من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من الأسر، وإنقاذهم من السخرة والتعب في العمل لأن بني إسرائيل كانوا عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم، ويستخدم نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه.

- 6 - الحوار بين فرعون وموسى حول الربوبية [سورة طه (20) الآيات 49 إلى 55] :

9- كان خطاب موسى وهارون في غاية اللطف واستعمال المنطق، فقالا له: قد جئناك بآية دالة على نبوتنا ورسالتنا إليك، ومن اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه، وليس هذا بتحية، بدليل أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. وأضافا أيضا في كلامهما: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب أي الهلاك والدمار في الدنيا، والخلود في جهنم في الآخرة على من كذب أنبياء الله، وتولى، أي أعرض عن الإيمان. قال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا. - 6- الحوار بين فرعون وموسى حول الربوبية [سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) الإعراب: قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي: عِلْمُها: مبتدأ، وفِي كِتابٍ: خبره، وعِنْدَ رَبِّي: ظرف يتعلق بالخبر، وتقديره: علمها كائن في كتاب عند ربي. ويحتمل أن يكون عِنْدَ

البلاغة:

رَبِّي في موضع نصب على الحال: لأنه في الأصل صفة لكتاب وهو نكرة، فلما تقدمت صفة النكرة عليها، وجب النصب على الحال. ويحتمل أن يكون فِي كِتابٍ بدلا من قوله: عِنْدَ رَبِّي ويكون عِنْدَ رَبِّي خبر المبتدأ. ولا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يضل ربي عنه، فحذف الجار والمجرور، كما حذفا في آية فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات 79/ 41] أي المأوى له. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ خبر لمبتدأ محذوف، أو صفة لربي، أو منصوب على المدح. كُلُوا وَارْعَوْا حال من ضمير أخرجنا، أي مبيحين لكم الأكل ورعي الأغنام. البلاغة: نُعِيدُكُمْ ونُخْرِجُكُمْ بينهما طباق. فَأَخْرَجْنا التفات من الغيبة إلى التكلم. مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ مقابلة، قابل بين مِنْها وفِيها وبين الخلق والإعادة. المفردات اللغوية: قالَ: فرعون. فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ إنما خاطب الاثنين، وخص موسى بالنداء لأنه الأصل، وهارون وزيره وتابعه. أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي منح كل نوع من المخلوقات صورته وشكله الذي يطابق كماله، ويناسب خواصه ومنافعه، ومميزاته التي يتميز بها من غيره. ثُمَّ هَدى ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي له. قالَ فرعون. فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة. والبال في الأصل: الفكر، يقال: خطر ببالي كذا، ثم أطلق هنا على الحال المعني بها. والْقُرُونِ الأمم، مثل قوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان. قالَ موسى. عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ أي علم حالهم محفوظ عند ربي في اللوح المحفوظ، يجازيهم عليها يوم القيامة. والمراد أن حالهم غيب لا يعلمه إلا الله، وقصد بذلك كما علم الله الذي لا يضيع منه شيء. لا يَضِلُّ لا يخطئ مكان الشيء، والضلال: أن تخطئ الشيء في مكانه، فلم تهتد إليه. وَلا يَنْسى ربي شيئا، والنسيان: عدم تذكر الشيء بحيث لا يخطر ببالك. وهما محالان على الله العالم بالذات.

المناسبة:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أي هو الذي جعل للناس في جملة الخلق. مَهْداً وقرئ: مهادا، أي فراشا، أي جعل الأرض كالمهد تتمهدونها. والمهد: مصدر سمي به، والمهاد: اسم ما يمهد كالفراش، أو جمع مهد. وَسَلَكَ سهل. سُبُلًا طرقا، أي جعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية والبراري، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. السَّماءِ مطرا. فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا وفيه التفات من لفظ الغيبة إلى صيغة المتكلم، على الحكاية لكلام الله تعالى، للتنبيه على ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، وللإشعار بأنه تعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته. مِنْ نَباتٍ شَتَّى شتى صفة. أَزْواجاً أي مختلفة الألوان والطعوم، وشَتَّى جمع شتيت، كمريض ومرضى، من شت الأمر: تفرق. كُلُوا منها. وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ فيها، والأنعام جمع نعم: وهي الإبل والبقر والغنم. والأمر للإباحة وتذكير النعمة. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور هنا. لَآياتٍ لدلالات. لِأُولِي النُّهى أصحاب العقول، جمع نهية، كغرفة وغرف، سمي به العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح. مِنْها خَلَقْناكُمْ من الأرض، فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم. وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالموت، وتفكيك الأجزاء. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ عند البعث. تارَةً أُخْرى مرة أخرى، كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم. المناسبة: بعد مبادرة موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون امتثالا لأمر الله، ووصولهما إلى قصر فرعون، والإذن لهما بالدخول بعد انتظار طويل، وصف الله تعالى الحوار الذي دار بينه وبينهما، فسألهما سؤال إنكار للرب تكبرا وتجبرا، بعد أن أثبت نفسه ربا في قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. فاستدل موسى على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات. التفسير والبيان: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أي إذا كنتما رسولي ربكما إلي، فأخبراني: من ربكما الذي أرسلكما؟ ويلاحظ أنه أضاف الرب إليهما، ولم يضفه إلى نفسه

لعدم تصديقه لهما، ولجحده للربوبية الحقة، ثم إنه خص موسى بالنداء بعد خطابهما مراعاة لرؤوس الآي، ولما ظهر له أنه الأصل المتبوع، وهارون وزيره وأخوه وأراد أن يقول: من هذا الرب الذي بعثك يا موسى وأرسلك؟ فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري. فأجابه موسى: قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي قال موسى: ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يليق به، ويطابق المنفعة المنوطة به، كاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. ثم أرشدهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم، فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، إما اختيارا كالإنسان والحيوان، وإما طبعا كالنبات والجماد، كقوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم مشى الخلائق على ذلك، لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه. والآية لإثبات الصانع بأحوال المخلوقات. قالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى بعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، قائلا: إذا كان الأمر كذلك، فما حال وما شأن الأمم الماضية، لم يعبدوا ربك، بل عبدوا غيره من الأوثان وغيرها من المخلوقات؟ فأجاب موسى: قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى قال موسى: إن كل أعمالهم محفوظة عند الله، مثبتة عنده في اللوح المحفوظ، يجازي بها، لا يخطئ في علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، فعلم الله محيط بكل

شيء. أما علم المخلوق فيعتريه الأمران: عدم الإحاطة بالشيء، ونسيانه بعد علمه، والله منزه عن ذلك. وقصد فرعون بالسؤال عن الأمم الماضية أن يصرف موسى عن البراهين القوية، فيتبين للناس صدقه، ويشغله بالتواريخ والحكايات، لكن موسى تنبه لهذا، فأجاب عن إثبات الإله بأوجز عبارة وأحسن معنى، وفوض أمر الماضي إلى علام الغيوب. وبعد أن ذكر موسى الدليل الأول العام الذي يتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات، ذكر بعدئذ أدلة خاصة وهي ثلاثة: أولها- قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي ربي الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش، تعيشون فيها بيسر وسهولة، وقرارا تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها. ثانيها- وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي جعل لكم فيها طرقا تسلكونها وسهلها لكم، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء 21/ 31] ، وقال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف 43/ 10] ، وقال عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح 71/ 19- 20] . ثالثها- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي وأنزل من السحاب مطرا، أخرجنا به أنواعا من أصناف النبات المختلفة، من زروع وثمار حامضة وحلوة ومرة، وذات ألوان وروائح وأشكال مختلفة، بعضها صالح للإنسان، وبعضها للحيوان، لذا قال:

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي خلقنا أصناف النبات، بعضه للإنسان، وبعضه لطعام الحيوان، فكلوا وتفكهوا مما يناسبكم، وارعوا أنعامكم (الإبل والبقر والغنم) في الأخضر واليابس، إن فيما ذكرت لكم لدلالات وحججا وبراهين لذوي العقول السليمة المستقيمة، على أن الخالق لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وبعد أن ذكر الله تعالى منافع الأرض والسماء، بين أنها غير مطلوبة لذاتها، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة، فقال: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أي من الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب، والنطفة المتولدة من الغذاء مرجعها إلى الأرض، لأن الغذاء الحيواني من النبات، والنبات من امتزاج الماء والتراب. وإلى الأرض مصيركم بعد موتكم، فتدفنون فيها، وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ترابا. وسوف نخرجكم من قبوركم في الأرض مرة أخرى بالبعث والنشور، والمعنى: من الأرض أخرجناكم، ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى. والغرض من الآية هنا تنزيه الرب نفسه وتذكير فرعون بأصله وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر بدنياه وملكه، وليعلم أن أمامه يوما شديد الأهوال، يسأل فيه عن كل شيء، ويحاسب على أعماله. ونظير هذه الآية قوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ، وَفِيها تَمُوتُونَ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الأعراف 7/ 25] ، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 52] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وجاء في الحديث المروي عند أصحاب السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب، فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم؟ ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لم يؤمن فرعون بدعوة موسى وهارون، وظل على كفره، وتساءل تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا، مع كونه عارفا بالله تعالى، وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ 2- تدل الآية المذكورة على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر، لكن يجب قرن الجواب بالسؤال، لئلا يبقى الشك. 3- وتدل الآية أيضا على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل، والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى بفرعون هنا، وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 16/ 125] ، وقال سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ، فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة 9/ 6] . 4- كان جواب موسى لفرعون: إن الله تعالى يعرف بصفاته، فهو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة معينة. قال مجاهد: أعطى كل شيء صورة لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر: وله في كل شيء خلقة ... وكذاك الله ما شاء فعل

أراد بالخلقة: الصورة. 5- الله هو المختص بعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل، فلما سأل فرعون عن حال وشأن الأمم الغابرة، أجابه موسى وأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ. 6- هذه الآية: قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ.. ونظائرها تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى، فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع، فيقيده لئلا يذهب عنه. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي» . وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قيدوا العلم بالكتابة» . وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من الأنصار لا يحفظ الحديث: «استعن بيمينك» . وأما النهي عن كتابة الأحاديث، فكان ذلك متقدما، فهو منسوخ بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة، وإباحتها لأبي شاه وغيره. قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة، دون المداد «1» لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور، وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة.

_ (1) الحبر والمداد في اللغة سواء. ولعل المراد به المداد الذي لا لون له أو لونه باهت.

7- دل قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى على أن الله عالم بكل المعلومات، وهو اللفظ الأول، وعلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير، وهو اللفظ الثاني. 8- من نعم الله تعالى أن جعل الأرض رغم كرويتها الكلية ممهدة كالفراش، وقرارا للاستقرار عليها، لتصلح للعيش عليها. 9- ظاهر آية وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ.. يدل على أنه سبحانه إنما يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء، فيكون للماء فيه أثر، وهذا التأثير على تقدير أن الله تعالى هو الذي أعطى الماء هذه الخواص والطبائع، فيكون الماء المنزل سبب خروج النبات في الظاهر. 10- إن إخراج أصناف من النبات المختلفة الأنواع والألوان من الأرض دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجود الصانع. وإن جعل بعض النبات صالحا للإنسان وآخر للحيوان: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ من أجل النعم على الإنسان، ومما يقتضي التأمل والتفكير عند ذوي العقول الصحيحة. 11- ما أعظم خيرات الأرض، وما أحوج الناس إليها! فالله خلقنا منها، ويعيدنا إليها بعد الموت، ويخرجنا منها للبعث والحساب. أما كيفية الإخراج من الأرض فهو أن الله تعالى خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب، فكنا تبعا له، وأما استمرار الخلق فهو أن تولد الإنسان من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النبات، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب.

- 7 - اتهام موسى بالسحر [سورة طه (20) الآيات 56 إلى 59] :

- 7- اتهام موسى بالسحر [سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) الإعراب: مَكاناً سُوىً مَكاناً بدل منصوب من مَوْعِداً ولا يجوز نصبه بقوله مَوْعِداً لأن مَوْعِداً قد وصف بقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ والمصدر إذا وصف لا يعمل ويجوز أن يجعل مَكاناً منصوبا بنزع الخافض: في. سوى: يقرأ بكسر السين وبضمها، فمن قرأ بالكسر، فلأن «فعل» لم يأت في الوصف إلا نادرا نحو: قوم عدى، ولحم زيم. والضم أكثر لأن «فعل» في الوصف كثير، نحو: لكع وحطم. مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ.. يَوْمُ: خبر مَوْعِدُكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي موعدكم وقت يوم الزينة، ولا يجوز أن يكون يَوْمُ ظرفا لأن العرب لم تستعمله مع الظرف استعمال سائر المصادر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] بالرفع إذ يراد به هنا المصدر، ولو قلت: إن خروجكم الصبح، لم يجز فيه إلا النصب، أي وقت الصبح. وموعد مصدر بمعنى الوعد في الأظهر. والموعد: يكون مصدرا وزمانا ومكانا بلفظ واحد، وَأَنْ يُحْشَرَ معطوف بالرفع على يَوْمُ الزِّينَةِ أي موعدكم وقت يوم الزينة، وموعدكم وقت حشر الناس، فحذف المضاف أيضا. البلاغة: سُوىً ضُحًى ... سجع حسن.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها بصرنا فرعون آيات معهودة هي الآيات التسع المختصة بموسى. فَكَذَّبَ بها وزعم أنها سحر. وَأَبى امتنع أن يوحد الله تعالى أو أبي الإيمان والطاعة، لعتوه. لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر، ليصبح لك الملك فيها. بسحر مثله يعارضه. مَوْعِداً ميعادا معينا لذلك. لا نُخْلِفُهُ لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه، إذا جعل (موعد) هنا هو الزمان، وإذا جعل مصدرا أي لا نخلف ذلك الموعد. سُوىً أي وسطا، تستوي إليه مسافة الجائي من الطرفين. قالَ موسى. مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يوم عيد كان لهم، يتزينون فيه ويجتمعون، ويوم: بضم الميم، وقرأ الحسن بالنصب، فمن رفع فعلى أنه خبر المبتدأ، والمعنى: وقت موعدكم يوم الزينة، ومن نصب فعلى الظرف، معناه: موعدكم يقع يوم الزينة. والسؤال وقع عن مكان الموعد، وطابقه من حيث المعنى ذكر الزمان، وإن لم يطابق لفظا لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان. وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ يجمعون. ضُحًى وقت ارتفاع شمس النهار. المناسبة: بعد سؤال فرعون عن رب موسى، ذكر الله تعالى أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله، مثل رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً والدالة على نبوة موسى مثل العصا واليد البيضاء، فكذب بكل هذا، واتهم موسى بالسحر، وطلب المبارزة مع السحرة، وتحديد مكان اللقاء وموعد الاجتماع. التفسير والبيان: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى أي وتالله لقد بصرنا فرعون وعرفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى، كالآيات التسع «1» .

_ (1) وهي العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الحل.

وغيرها من الحجج والبراهين، فعاين ذلك وأبصره، ولكنه كذب بها، وأبى الاستجابة للإيمان والحق، كفرا وعنادا وبغيا، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] وقال سبحانه: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء 17/ 102] . ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه، فقال: قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى أي قال فرعون لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد: هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر، وهو قلب العصا حية؟ توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، وحملهم على السخط على موسى والغضب منه، والعمل على طرده وإخراجه من مصر. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه. فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي حدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما، نجتمع فيه نحن وأنت، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا. وقد فوض فرعون تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره. وليكن المكان مكانا مستويا ظاهرا لا ارتفاع فيه ولا انخفاض، ليظهر فيه الحق، أو مكانا وسطا بين الفريقين، حتى لا يكون عذر في التخلف. قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي قال موسى

فقه الحياة أو الأحكام:

عليه السلام: موعد الاجتماع يوم العيد (عيد النيروز) الذي يتزين فيه الناس، وفي وقت الضحى، ليكون الاجتماع عاما في يوم يفرغ فيه الناس من أعمالهم، ويجتمعون جميعا، ويتحدثون بنتيجة المبارزة، فتظهر الدعوة، وتعلو كلمة الحق، ويزهق الباطل، وليكون الضوء غالبا، وفي نشاط أول النهار، فلا يشكوا في المعجزة، ويشاهدوا قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية. واختيار هذا الوعد دليل على الثقة بالنصر، وسبيل لإيضاح الحجة. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- لم يبق عذر لفرعون في كفره، بعد إرسال موسى وهارون رسولين إليه، وتأييدهما بالمعجزات الدالة على نبوة موسى، وإبدائهما البراهين والدلائل والحجج على وحدانية الله وقدرته، وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا، واقتنع بها في أعماق نفسه، كما قال سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] . 2- حاول فرعون تأليب قومه وتحريضهم على معاداة موسى وطرده، باتهامه بأنه بحسب عقلية الحاكم يريد إخراج الناس من مصر، والاستيلاء على السلطة. 3- وحاول أيضا إبطال المعجزات النبوية بالسحر، ظنا منه أن ما جاء به موسى من الآيات سحر يوهم الناس به لاتباعه والإيمان به، فإذا عورض السحر بمثله، تبين للناس أن ما أتى به موسى ليس من عند الله. 4- طلب فرعون من موسى تعيين يوم معلوم ومكان معروف لا يخلف فيه أحد الطرفين الوعد، إيهاما للناس بمدى الثقة به، وبكمال اقتداره، وإنهاء دعاوى موسى في يوم مشهود للجميع.

- 8 - جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم [سورة طه (20) الآيات 60 إلى 64] :

وكان اقتراحه أن يكون المكان مكانا سوى أي مكانا مستويا متوسطا بين الطرفين، حتى لا يكون عذر في التخلف. 5- اختار موسى يوم العيد (يوم الزينة) لتعلو كلمة الله، ويظهر دينه، ويكبت الكفر، ويزهق الباطل، أمام الناس قاطبة في المجمع العام، ليشيع الخبر، ويتناقل جميع أهل المدن والقرى والحضر والأعراب قصة الأمر العجيب، ونبأ المعجزة الكبرى. ثم عين موسى عليه السلام من اليوم وقتا معينا بقوله: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي في ضحوة الناس بعد طلوع الشمس، حيث تكون الرؤية واضحة، والنفوس مستعدة نشيطة، ولأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وكان ذلك بالصدفة مناسبا للسحرة، لتسخين الحبال والأدوات المعبأة بالزئبق. - 8- جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم [سورة طه (20) : الآيات 60 الى 64] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) الإعراب: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إِنْ إما مخففة من الثقيلة لم تعمل، وإما بمعنى «ما» واللام بمعنى «إلا» أي ما هذان إلا ساحران. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين. ومن قرأ بالتشديد

المفردات اللغوية:

إِنْ أتى به على لغة بني الحارث بن كعب، فإنهم يقولون: مررت برجلان، وقبض منه درهمان، وهي لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وقيل: إن بمعنى «نعم» أي نعم هذان لساحران، لكن فيه ضعف، لدخول اللام في الخبر، وهو قليل في كلامهم. وقرئ «إن هذين لساحران» . فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرئ: أجمعوا بقطع الهمزة ووصلها، ففي قراءة القطع نصب كَيْدَكُمْ ب فَأَجْمِعُوا على تقدير حذف حرف الجر، أي فأجمعوا على كيدكم. فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، يقال: أجمع على كذا: إذا عزم عليه، فحذف الجار من الآية، كما في آية: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة 2/ 235] أي على عقدة النكاح. وعلى قراءة فاجمعوا بوصلها، لم يفتقر إلى تقدير حذف حرف الجر لأنه يتعدى بنفسه. ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصدر في موضع الحال، أي ائتوا مصطفين، أو مفعول به، أي ائتوا إلى صف، والأول أوجه. المفردات اللغوية: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أدبر وانصرف عن المجلس. فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي جمع ذوي كيده من السحرة، والكيد: ما يكاد به من السحرة وأدواتهم. ثُمَّ أَتى أي أتى بالموعد بهم. قالَ لَهُمْ مُوسى وهم اثنان وسبعون مع كل واحد حبل وعصا. وَيْلَكُمْ أي هلاك لكم. لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا، وتشركوا أحدا مع الله. والافتراء: الاختلاق والكذب. فَيُسْحِتَكُمْ يهلككم. بِعَذابٍ شديد من عنده. وَقَدْ خابَ خسر. مَنِ افْتَرى كذب على الله، كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك معه، فلم ينفعه. فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فتفاوض السحرة وتشاوروا في أمر موسى، حين سمعوا كلامه. وَأَسَرُّوا النَّجْوى بالغوا في إخفاء الكلام بينهم. قالُوا لأنفسهم. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى المثلى: مؤنث أمثل بمعنى أشرف، أي يذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبه وإعلاء دينه، لقوله تعالى حكاية لقول فرعون: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر 40/ 26] . فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمزة القطع من أجمع أي أحكموا كيدكم الذي يكاد به، وبهمزة الوصل من جمع، أي لم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز اليوم من غلب.

المناسبة:

المناسبة: بعد اتفاق موسى وفرعون على موعد المبارزة وهو يوم عيد لهم، ذكر الله تعالى ما قام به فرعون من تدبير أمره بجمع السحرة وآلاتهم، ثم ذكر ما حذرهم به موسى من عذاب شديد إن أقدموا على إبطال آيات الله، فأوقع الخلاف بينهم، وعقدوا المشاورات في خطتهم، فاتفقوا على وحدة الصف أمام موسى وهارون اللذين يريدان الغلبة والتفوق على دينهم الذي هو في زعمهم أفضل الأديان. التفسير والبيان: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ، ثُمَّ أَتى أي انصرف فرعون وشرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، فجمع ما يكيد به من سحره وحيله وآلاته وأنصاره، وقد كان السحر شائعا عندهم، ثم أقبل في الموعد المعين، وجلس في مكان خاص به مع كبار أعوانه، كجناح العروض العسكرية المخصص اليوم لرئيس الدولة، وجاء موسى مع أخيه هارون، وجاءت السحرة ووقفوا صفوفا، وبدأ فرعون يحرضهم ويستحثهم ويعدهم، فتجرءوا أن يطلبوا منه الأجر، كما قال تعالى: قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء 26/ 42] وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبي ليتفانوا في إجادة عملهم، ويتغلبوا على موسى عليه السلام. وشرع موسى في الإعلان عن رسالته، فقال: قالَ لَهُمْ مُوسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، بأن تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق، وأنه سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك من افترى على الله أي كذب كان.

فأعرضوا عن قوله: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي لما سمع السحرة كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتفاوضوا فيما بينهم في ذلك، وتناجوا فيما بينهم سرا عن موسى وأخيه، وقرروا ما يأتي: قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي قالت السحرة: إن موسى وهرون لساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر بصناعة السحر، كما يريدان التغلب للاستيلاء على جميع المناصب، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء، ومآل ذلك أن تنقضي سنتكم في الحياة، ويعصف بمنهجكم في العيش الحر العزيز الكريم، وتسلب خيراتكم، ويزول مذهبكم الأمثل الحسن. قالوا ذلك متأثرين بما قاله فرعون، ومرددين ما يشيعه، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير منهما، وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة، والكشف عن نواياهما البعيدة بطرد السكان الأصليين من أرضهم مصر، والاستيلاء على جميع المناصب والرياسات. فيجب علينا الوقوف صفا واحدا أمام هذا الخطر، فقالوا: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاعزموا على تقديم جميع خبراتكم ومهاراتكم، ولا تتركوا أقصى ما تستطيعون عليه من الكيد والحيلة، وقفوا صفا واحدا، وألقوا ما لديكم دفعة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم، وتغلبوا هذين الرجلين، فإنه قد فاز اليوم بالمطلوب من غلب منا ومنهما. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، بقصد التحريض وشد العزائم، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- بدأت استعدادات فرعون في جمع السحرة، وإعداد الحيل كما هي عادة التهيؤ للمبارزة، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. 2- لما أتى فرعون وسحرته في الموعد المعين قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لمن اختلق الكذب على الله، وأشرك به، ووصف المعجزات بأنها سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. وهذا شعار الأنبياء، وهو الصدق في الدعوة، وانتهاز الفرص المناسبة لإعلان دعوتهم. 3- تشاور السحرة سرا فيما بينهم، وقالوا: إن كان ما جاء به سحرا، فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وهذا حق وصدق لا شيء فيه. 4- ثم أعلنوا قرارهم بأن موسى وأخاه هارون ساحران عظيمان، يريدان إخراج الناس من مصر بسحرهما، وإفساد دينهم، وإزالة مذهبهم الحسن، كما قال فرعون عن موسى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر 40/ 26] . وهذا كله من دعاية فرعون وتحريضه. 5- ثم حرضوا بعضهم قائلين: اعزموا وجدوا في تجميع أنواع الكيد والحيلة، وأقصى فنون السحر، وأحكموا أمركم، وقفوا صفا واحدا، ليكون أشد لهيبتكم، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتغلبوا موسى وأخاه، وقد فاز اليوم من غلب. وهذا شأن كل من الفريقين المتبارزين، يحرص كل منهما على الفوز والانتصار، ويتأثران بالتأييد الشعبي وبحماس المتفرجين واللاعبين أنفسهم، كما هو معروف.

- 9 - المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم بالله تعالى [سورة طه (20) الآيات 65 إلى 76] :

- 9- المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم بالله تعالى [سورة طه (20) : الآيات 65 الى 76] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

الإعراب:

الإعراب: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى مُوسى فاعل أوجس، وهاء نَفْسِهِ تعود إلى موسى لأنه في تقدير التقديم، ونَفْسِهِ في تقدير التأخير. وخِيفَةً مفعول أوجس. وأصل خيفة «خوفة» لأنها من الخوف، فانقلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها. تَلْقَفْ التاء إما لتأنيث ما وهي العصا، حملا على المعنى، كأنه قال: ألق العصا تلقف ما صنعوا، وإما أن تكون التاء للمخاطب، أي تلقف أنت. وهو مجزوم بجواب الأمر، بتقدير حذف حرف الشرط. ومن قرأ بالرفع، كان حالا من ما أو من ضمير فِي يَمِينِكَ. وما في قوله إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ إما اسم موصول بمعنى الذي اسم إن، والعائد محذوف، أي إن الذي صنعوه، وكَيْدُ خبر إن، وإما أن تكون ما كافة، وكَيْدُ عند من قرأ بالنصب منصوب ب صَنَعُوا. ومن قرأ كيد سحر أي كيد ذي سحر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. «من خلاف» حال. وَالَّذِي فَطَرَنا: إما مجرور بالعطف على ما جاءَنا أي «على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا» وإما مجرور بالقسم، وجوابه محذوف، لدلالة ما تقدم عليه. وما في إِنَّما تَقْضِي إما بمعنى الذي في موضع نصب اسم «إن» والعائد محذوف، أي: إن الذي تقضيه. وهذه: خبر «إن» . وإما أن تكون «ما» كافة، وهذه: في موضع نصب على الظرف، أي إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا. والحياة الدنيا صفة هذِهِ في كلا الوجهين. وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ما إما في موضع نصب بالعطف على خَطايانا وإما مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، تقديره: ما أكرهتنا عليه مغفور لنا. ومِنَ السِّحْرِ متعلق ب أَكْرَهْتَنا. فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ.. الدَّرَجاتُ مرفوع بالظرف لأنه جرى خبرا عن المبتدأ، وهو أولئك، وجَنَّاتُ بدل مرفوع من الدَّرَجاتُ أي أولئك لهم جنات عدن. وخالِدِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ والعامل فيه: اللام، أي الاستقرار، أو معنى الإشارة. البلاغة: بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ فيه إيجاز بالحذف، أي فألقوا فإذا حبالهم. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ثم قال: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فيه إيجاز بالحذف، وهو: فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا من السحر، فألقي السحرة سجدا. وحسن الحذف في الموضعين لدلالة المعنى عليه.

المفردات اللغوية:

يَمُوتُ ويَحْيى بينهما طباق. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ووَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بينهما مقابلة: وهي أن يؤتى بمعينين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك. إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فيه مؤكدات هي: إن، وأنت، وتعريف الخبر: الْأَعْلى ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل الْأَعْلى. المفردات اللغوية: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قال السحرة ذلك مراعاة للأدب، وخيروه بين أن يلقي عصاه أو يلقوا عصيهم. وأن وما بعده: منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع بخبر محذوف، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاؤنا، أو الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا. قالَ: بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب، وعدم مبالاة بسحرهم، وليستنفدوا أقصى وسعهم، ثم يظهر الله سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ.. أي فألقوا، وكلمة فَإِذا التحقيق أنها ظرفية متعلقة بفعل المفاجأة، والجملة ابتدائية، والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إليه أنها تتحرك. وأَنَّها تَسْعى بدل اشتمال، أي أنها حيات تسعى على بطونها. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أحس بشيء من الخوف، من جهة أن سحرهم من جنس معجزته، أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به. قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى قلنا له: لا تخف ما توهمت فإنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة، وهذا الأخير تعليل للنهي وتقرير لغلبته، مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق: «إن» وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ وهي العصا، ولم يقل: عصاك، تحقيرا لها، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، أو تعظيما لها، أي لا تحتفل بكثرة هذه الأشياء وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا، فألقه. تَلْقَفْ تبتلع بقوة وسرعة وبقدرة الله تعالى، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب إِنَّما صَنَعُوا إن الذي زوروا وافتعلوا كَيْدُ ساحِرٍ أي كيد سحري لا حقيقة له، أي ذي سحر، أو إضافة قصد بها البيان مثل: علم فقه. وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس. حَيْثُ أَتى بسحره، أي أينما كان، وأينما أقبل.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً خروا ساجدين لله تعالى، أي فألقى فتلقفت، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر، وإنما هو من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله، توبة عما صنعوا وتعظيما لما رأوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قدم هارون لكبر سنه، أو لروي الآية، روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها. قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون: آمنتم لموسى، واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أنا في الإيمان له. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ إن موسى لمعلمكم أو لأستاذكم الذي علمكم السحر، وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. مِنْ خِلافٍ في موضع النصب على الحال أي لأقطعنها من حال مختلفة: اليد اليمنى والرجل اليسرى. ومن: ابتدائية. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها، شبه تمكن المصلوب بالجذوع بتمكن المظروف بالظرف، وهو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه ورب موسى لقوله: آمَنْتُمْ لَهُ. أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أدوم عذابا. وهل نفذ فيهم تهديده؟ الآيات لم تذكر ذلك، لكن ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فماتوا على الإيمان، فقال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ قال السحرة: لن نختارك. عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ على ما جاءنا موسى به من المعجزات الواضحات الدالة على صدقه. وَالَّذِي فَطَرَنا خلقنا وأوجدنا من العدم. وهذا عطف على ما جاءنا، أو قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ اصنع ما أنت قاضيه، أي صانعه، أو ما قلته أو احكم. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا، فالنصب على الاتساع، أي فيها، ثم تجزى عليه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، فهو كالتعليل لما قبله، والتمهيد لما بعده. لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر والمعاصي. وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ تعلما وعملا في معارضة موسى والمعجزة. وَاللَّهُ خَيْرٌ منك ثوابا إذا أطيع. وَأَبْقى منك عذابا إذا عصي. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً إن الأمر من يأت ربه كافرا، بأن يموت على كفره وعصيانه. لا يَمُوتُ فِيها فيستريح. وَلا يَحْيى حياة هنيئة فتنفعه. قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ الفرائض والنوافل. لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى المنازل الرفيعة، جمع عليا مؤنث أعلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات أعدت للإقامة. مِنْ تَحْتِهَا من تحت غرفها. جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهر من الذنوب والكفر. قال البيضاوي: والآيات الثلاث- أي الأخيرة- يحتمل أن تكون من كلام السحرة، وأن تكون ابتداء كلام الله.

المناسبة:

المناسبة: بعد ذكر الموعد وهو يوم الزينة وذكر مجيئهم صفا، حدثت المبارزة بين السحرة وموسى، فخيروه بين بدئه بالإلقاء، وبدئهم به، وكان ذلك أدبا منهم وتواضعا، رزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى أدبا بأدب، وقدمهم في الإلقاء لأنه الطريق إلى إزالة الشبهة، فما كان منهم إلا الإيمان، لمعرفتهم بأن فعل موسى معجزة وليس سحرا، وصمدوا على إيمانهم هازئين بتهديد فرعون بالتقطيع والصلب. التفسير والبيان: لما بدأت المبارزة، والتقى الفريقان، قالت السحرة لموسى: قالُوا: يا مُوسى، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي قالت السحرة لموسى حين تقابلوا معه: اختر أحد الأمرين: إما أن تلقي أنت أولا ما تريد، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال على الأرض. وهذا التخيير مع تقديمه في الكلام أدب حسن وتواضع له، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابل موسى عليه السلام أدبهم بأدب، فقال: قالَ: بَلْ أَلْقُوا قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوهم ما معهم، ثم إذا ألقى عصاه فتبتلع ما ألقوه كله، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم. فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. ففي بدء الكلام حذف، أي فألقوا، وقوله: فَإِذا في رأي الزمخشري أنها إذا المفاجأة، وتعقبه الرازي فقال: والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها.

وجاء في آية أخرى أنهم لما ألقوا وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء 26/ 44] ونظير الآية التي هنا: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف 7/ 116] . وذلك أنهم حشوها بالزئبق الذي يتأثر بحرارة الشمس، أو بمادة أخرى تتأثر بالحرارة، فيخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وكأن الوادي امتلأ حيات يركب بعضها بعضا. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس موسى بالخوف من أن يغلب، تأثرا بالطبيعة البشرية. وابتهج فرعون وقومه، وظنوا أنهم قد نجحوا، وأن السحرة فازوا على موسى وهارون. قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي قال الله لموسى: لا تخف، فإنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع بعد أن تصير حية جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، وسحروا بها أعين الناس، إن الذي صنعوه ليس إلا سحرا خيالا لا حقيقة له ولا بقاء، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، وأنه لا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وإنما أبهم العصا تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة. فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، وأدرك السحرة أن السحر لا يفعل هذا أبدا، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وأنه من فعل الإله خالق الكون، فآمنوا كما قال تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى أي فلما ألقى

موسى عصاه، وابتلعت عصيهم وحبالهم، علموا أن فعل موسى ليس من قبيل السحر والحيل، بل هو عن أمر الله القادر على كل شيء، فسجدوا لله وآمنوا برسالة موسى، قائلين: آمنا برب العالمين، رب هارون وموسى، مفضلين الآخرة على الدنيا، والحق على الباطل. قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا أنه قال: كانت السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجدا، رفعت لهم الجنة، حتى نظروا إليها. الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم، والفضل الكبير، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أنهم أجبروا على السجود، وإلا لما كانوا محمودين، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، قال صاحب الكشاف: ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!! وإنما قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ولم يقولوا برب العالمين فقط لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات 79/ 24] وادعى الألوهية في قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله، والدليل عليه: أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء 26/ 18] . ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته، فقال:

قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى المعجزة الباهرة، وإيمان من استنصر بهم من السحرة، وهزيمته الساحقة: هل صدقتموه أو صدقتم قوله واتبعتموه على دينه من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى، فهو معلمكم وأستاذكم، وأنتم تلاميذه، واتفقتم وتواطأتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه وتروجوا لدعوته، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ، لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 123] . أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فإنه قد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسا لهم، ولا بينه وبينهم صلة أو مواصلة. ثم لجأ فرعون إلى التهديد والتنفير عن الإيمان قائلا: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أقسم أني لأمثلن بكم، فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكسه. قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، وهذا تعطيل للمنفعة، وأيضا لأصلبنكم على جذوع النخل، زيادة في الإيلام والتشهير، وإنما اختارها لخشونتها وأذاها، ولتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟ وفي هذا تحد لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإيماء إلى ماله من سلطة وقهر واقتدار. ولما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل: - قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا أي لن

نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله تعالى، والمعجزات الظاهرة كاليد والعصا، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين، ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، فهو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت. - فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي فافعل ما شئت، واصنع ما أنت صانع، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا التي هي دار الزوال، بما تريد من أنواع القتل، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، ونحن قد رغبنا في دار القرار. - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليتجاوز ويستر ويعفو عن سيئاتنا وآثامنا وذنوبنا، خصوصا ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه، والله خير لنا منك جزاء وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عقابا. ذكر أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه. ولم تدل الآيات على تنفيذ فرعون ما هدد به السحرة، ولكن الظاهر أنه نفذ ذلك، لقول ابن عباس المتقدم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة. وتابع السحرة وعظ فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم، ويرغبونه في ثوابه الأبدي الخالد، فقالوا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي إن من يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة

مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا من قول السحرة لما آمنوا، وقيل: ابتداء كلام من الله عز وجل. ونظير الآية قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر 35/ 36] وقوله سبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى 87/ 11- 13] وقوله عز وجل: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف 43/ 77] . وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب، فأتى على هذه الآية، فقال: «أما أهلها الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها، فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر «1» على نهر، يقال له: نهر الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل» . وفي الخبر الصحيح: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أي ومن يلقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، فعمل الطاعات، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة. أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفردوس» .

_ (1) الضبر: الجماعة، جمع ضبور، وضبائر: جمع الجمع.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وفي السنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما» . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تلك الدرجات العلى في جنات إقامة تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- الأدب الحسن يفيد في الدنيا والآخرة، فلما خير السحرة موسى بين أن يلقي أولا أو يلقوهم، أفادهم ذلك في التوفيق للإيمان. ولما قدمهم موسى في الإلقاء وهم الجمع الكثير، نصره ربه، فالتقمت عصاه التي تحولت حية جميع ما ألقوه من الحبال والعصي، وكان ظهور المعجزة أوقع وأتم وأوضح. وليس أمر موسى بالإلقاء رضى منه بما هو سحر وكفر إذ لا يقصد منه ظاهر الأمر فلا يكون نفس الإلقاء كفرا ومعصية، وإنما هو وسيلة لما بعده، ليظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول موسى عليه السلام، ولأن الأمر مشروط بتقدير محذوف هو: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين. ثم إنه قدمهم في الإلقاء على نفسه، مع أن تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة غير جائز ليكون إظهار المعجزة سببا لإزالة الشبهة.

2- خاف موسى عليه السلام من الحيات، حسبما يعرض لطباع البشر، كما خاف لأول مرة حينما كلمه الله بإلقاء عصاه فصارت حية عظيمة. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. 3- أزال الله الخوف عن قلب موسى بقوله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب لهم في الدنيا، وأنت في الدرجات العلى في الجنة، للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وبقوله أيضا: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العصا التي بيمينك، فإنها بقدرة الله تلتهم كل ما ألقوا، وهي أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فإنها تبتلع بإذن الله ما معهم وتمحقه. 4- اختلف الرواة في عدد السحرة، والظاهر كما نقل عن ابن عباس وغيره كالكلبي: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا، اثنان منهم من القبط، وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك. هذا مع العلم بأن ظاهر القرآن لا يدل على شيء من العدد، والمهم أنه لا يفوز ولا ينجو الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، ولا يحصل مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية. 5- خر السحرة ساجدين لله، لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي، وكانت حمل ثلاث مائة بعير، ثم عادت عصا، لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى «1» . وفي قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً دلالة على أنه ألقى العصا، وصارت حية، وتلقفت ما صنعوه، وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته،

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 224

وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكي عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه: أحدها- ظهور حركة العصا على وجه لا يمكن بالحيلة. وثانيها- زيادة عظمها على وجه لا يتم بالحيلة. وثالثها- ظهور الأعضاء عليها من العين والمنخرين والفم وغيرها، ولا يتم ذلك بالحيلة. ورابعها- تلقف جميع ما ألقوه على كثرته، وذلك لا يتم بالحيلة. وخامسها- عودها خشبة صغيرة كما كانت، ولا يتم شيء من ذلك بالحيلة «1» . 6- قوله: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ فيه دلالة على أن ما مع موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويهات باطلة. 7- آمن السحرة بما رأوه من المعجزة، وعرفوا أن رب موسى وهارون هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة، وكان إيمانهم أرسخ من الجبال، فهان عليهم عذاب الدنيا، ولم يأبهوا بتهديد فرعون. 8- لم يملك فرعون إلا أن يعلن بأن موسى كبير السحرة ورئيسهم في التعليم، وأنه إنما غلبهم لأنه أحذق منهم ليشبه على الناس، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. 9- ولجأ أخيرا إلى التهديد بالتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف، لتعطيل المنفعة، وضم إليه التصليب للإذلال والإهانة، وزاد في غيه وكفره وعناده أنه أشد عذابا وأدوم أثرا من عذاب رب موسى. وهذا إفك شديد.

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 85

10- لم يتراجع السحرة عن إيمانهم بالرغم من شدة التهديد والوعيد وقالوا لفرعون: لن نختارك على ما جاءنا من اليقين والعلم، ولا على الذي فطرنا، أي خلقنا، فافعل ما شئت، إنما ينفذ أمرك في هذه الدنيا. إننا صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى ليغفر الله لنا خطايانا، أي الشرك الذي كانوا عليه، ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وثواب الله خير وأبقى. قال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم من الجنة فلهذا قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ. وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها: غلب موسى وهارون فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة، فإن مضت على قولها فألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسدها، وليس في جسدها روح. 11- استمر السحرة في وعظ فرعون وغيره وتحذيره من عذاب الآخرة وترغيبه في العمل للجنة، فقالوا: إن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة، والمجرم: هو الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن في الآية التالية: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً.. وصفة الكافر المكذب الجاحد أنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وإذا كان هذا كلام السحرة، فلعلهم سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل، إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم، أنطقهم بذلك لما آمنوا. وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على وعيد أصحاب الكبائر، وقالوا: صاحب الكبيرة مجرم، وكل مجرم فإن له جهنم لقوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ومن

- 10 - إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل [سورة طه (20) الآيات 77 إلى 82] :

الشرطية تفيد العموم. والجواب أن كلمة المجرم كما بينا يراد بها الكافر، بدليل مقابلتها بالمؤمن فيما بعد. وأما من يموت على الإيمان، ويلقى ربه مصدقا به وبرسله وبالبعث، ويعمل الصالحات، أي الطاعات وما أمر به وما نهي عنه، فله الدرجة الرفيعة التي عجز الوصف عن إدراكها والإحاطة بها. والدرجات العلى هي جنان الخلد والإقامة التي تجري من تحت غرفها وسررها الأنهار من الخمر والعسل واللبن والماء، ماكثين دائمين، وذلك جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي. - 10- إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) الإعراب: طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يَبَساً صفة طَرِيقاً وهو مصدر، فهو إما أن يكون بمعنى: ذا يبس، فحذف المضاف، أو جعل الطريق اليبس نفسه.

البلاغة:

لا تَخافُ دَرَكاً جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي غير خائف، مثل: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر 74/ 6] أي مستكثرا. ومن قرأ لا تخف جزمه جوابا لقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمفعول الثاني محذوف، أي فأتبعهم فرعون عقوبته بجنوده، أي معه جنوده. فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي من ماء اليم، وما غَشِيَهُمْ: في موضع رفع فاعل، وكان حق الكلام: فغشيهم من ماء اليم شدته. فعدل إلى لفظه ما لما فيها من الإبهام، تهويلا للأمر، وتعظيما للشأن لأنه أبلغ من التعيين، فيكون أبلغ تخويفا وتهديدا. وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ جانِبَ الطُّورِ مفعول ثان لواعدناكم، والتقدير: واعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن، ثم حذف المضاف. والْأَيْمَنَ صفة جانب. وَعَمِلَ صالِحاً صفة لموصوف محذوف، أي: وعمل عملا صالحا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. البلاغة: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ تهويل. وَأَضَلَّ وَما هَدى طباق بينهما. فَقَدْ هَوى استعارة، استعار لفظ الهوي: وهو السقوط من علو إلى سفل للهلاك والدمار. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ صيغة مبالغة، أي كثير المغفرة للذنوب. المفردات اللغوية: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ليلا من مصر، والسري والإسراء: السير ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ اجعل لهم بعصاك يَبَساً أي طريقا يابسا، لا ماء فيه، فامتثل ما أمر به، وأيبس الله الأرض في قاع البحر، فمروا فيها لا تَخافُ دَرَكاً أو دركا، أي إدراكا ولحوقا وَلا تَخْشى ولا تخاف غرقا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ حذف المفعول الثاني، أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده. فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ فغمرهم وعلاهم من ماء البحر ما علاهم، فأغرقهم، والضمير: له ولهم. وفيه مبالغة وتهويل وإيجاز، أي غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي أضلهم في الدين وما هداهم بدعوتهم إلى عبادته، وإيقاعهم في الهلاك، خلافا

المناسبة:

لقوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر 40/ 29] فمعنى أَضَلَّهُمُ: سلك بهم طريقا إلى الخسران في دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا. ومعنى وَما هَدى: وما أرشدهم طريقا يؤدي بهم إلى السعادة. أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون بإغراقه الْأَيْمَنَ أي عن يمين من يأتي من الشام إلى مصر، لإنزال التوراة، للعمل بها، وقرئ الأيمن بالجر على الجوار الْمَنَّ نوع من الحلوى يسمى الترنجبين وَالسَّلْوى طائر هو السماني، وكلاهما في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه أو حلالاته مما أنعمنا به عليكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بأن تكفروا النعمة به، وتخلوا بشكره، وتتعدوا لما حد الله لكم فيه، كالسرف والبطر والمنع عن المستحق فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بكسر الحاء: أي فيجب ويلزمكم عذابي، وبضمها: أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ بكسر الحاء وضمها فَقَدْ هَوى سقط من النار وهلك. لَغَفَّارٌ كثير المغفرة وستر الذنوب لِمَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وحد الله وآمن بما يجب الإيمان به وَعَمِلَ صالِحاً عمل الفرائض والنوافل ثُمَّ اهْتَدى ثم استقام على الهدى المذكور إلى موته. المناسبة: بعد بيان الانتصار الساحق لموسى عليه السلام على السحرة، أبان الله تعالى طريق الخلاص بين فرعون الطاغية وقومه وبين بني إسرائيل، فأغرق الله فرعون وجنوده في البحر، حين تبعوا موسى وقومه، لما خرج من مصر إلى الطور، وذلك بمعجزة العصا التي ضرب بها موسى البحر، فأحدث فيه بقدرة الله طريقا يبسا، بالرغم من الآيات المفصلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة حسبما ذكر في سورة الأعراف. وأنقذ الله بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بأنواع من النعم الدينية والدنيوية وأهمها إزالة المضرة، فاقتضى تذكيرهم إياها، وابتدأ بالمنفعة الدنيوية بقوله: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وهو إنزال التوراة كتاب دينهم ومنهاج شريعتهم، ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ

التفسير والبيان:

الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ثم زجرهم عن العصيان بقوله: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثم بيان قبول توبة العاصي بقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ. التفسير والبيان: أمر الله موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، وينقذهم من قبضة فرعون، فقال: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أي ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ أو يجعل لهم طريقا يابسا في وسط البحر (بحر القلزم أو البحر الأحمر) وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وأشعرناه بالأمان والنجاة، فقلنا له: أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء. والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة بِعِبادِي دليل على العناية بهم، وأنهم كانوا حينئذ قوما صالحين، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي تبعهم فرعون ومعه جنوده، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور، فغرقوا جميعا. وتكرار غَشِيَهُمْ للتعظيم والتهويل. وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى فكان بسبب أنه أمر مقدمة عسكره بالدخول، فدخلوا وما غرقوا، فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.

وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أي أضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد، وما هداهم إلى طريق النجاة حينما سلك بهم في الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في وسط البحر. ثم بدأ الله تعالى يعدد نعمه على بني إسرائيل، مقدما إزالة المضرة على جلب المنفعة، وهو ترتيب حسن معقول لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقال: 1- يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ أي قلنا لهم بعد إنجائهم: يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم: فرعون، الذي كان يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم منهم، حين أغرقتهم وأنتم تنظرون إليهم، فقد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما في آية أخرى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 2/ 50] وهو إشارة إلى إزالة الضرر. 2- وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي جعلنا لكم ميقاتا وهو موعد تكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. وكان مكان الموعد جانب جبل الطور الأيمن، وهو جبل في سيناء. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر. 3- وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي وأنزلنا عليكم المن والسلوى وأنتم في التيه، أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر. وأما السلوى: فهو طائر السماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: أنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، ولا تأخذوا من الرزق من غير حاجة، وتخالفوا ما أمرتكم به من البعد عن السرف والبطر وارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق، فينزل بكم غضبي، وعقوبتي. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أي وإني لستار وذو مغفرة شاملة لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه، ثم استقام على ذلك حتى يموت. وفي التعبير ب ثُمَّ اهْتَدى دلالة على وجوب الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل، ويموت عليه، ويؤكده قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت 41/ 30] وكلمة ثُمَّ هنا للتراخي، وليست لتباين المرتبتين، بل لتباين الوقتين، فكأنه تعالى قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، مما قد يحدث أحيانا لكل أحد، ولا صعوبة في ذلك، إنما الصعوبة في المداومة والاستمرار على المطلوب. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت هذه الآيات إلى ما يأتي: 1- تفضل الله على بني إسرائيل بإنقاذهم وإنجائهم من ظلم فرعون وقومه، فأوحى الله إليه أن يتخذ لهم طريقا يابسا في البحر لا طين فيه ولا ماء، بأن ضربه بعصاه، فانشق، وجف بما هيأ الله له من الأسباب كالرياح، فأضحى لا يخاف لحاقا من فرعون وجنوده، ولا يخشى غرقا من البحر.

2- تورط فرعون بعد أن أرسل فريقا من عسكره وراء بني إسرائيل في البحر، فلما لم يغرقوا، أمر جنوده بالمسيرة بقيادته، فتبعهم ليلحقهم مع جنوده، فأطبق عليهم البحر، ولم ينج أحد. 3- كان فرعون شؤما على نفسه وعلى قومه، فإنه أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا، وكان الماء بين الطرق قائما كالجبال، كما قال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء 26/ 63] أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقا. وأوحى الله إلى أطواد الماء بالتشبك، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات. فلما أقبل فرعون، ورأى الطرق في البحر، والماء قائما، أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه، فانطبق البحر عليهم. وهذا كله يحتاج إلى الإيمان بقدرة الله. 4- أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، ذكر منها هنا ثلاثا، وهي الإنجاء من آل فرعون، والمواعدة: إتيان جانب الطور، وإنزال المن والسلوى في التيه. 5- إن النعم تقتضي الحفظ والشكر، فقد يسر الله لهم الأكل من طيبات الرزق الحلال ولذيذه الذي لا شبهة فيه، فما عليهم إلا حفظ النعمة، فلا يؤخذ منها أكثر من الحاجة، وشكرها، فلا تؤدي إلى السرف والبطر والمعصية، وهذا هو الطغيان، أي التجاوز إلى ما لا يجوز.

- 11 - تكليم الله موسى في الميقات وفتنة السامري بصناعة العجل إلها [سورة طه (20) الآيات 83 إلى 89] :

6- إن جحود النعمة يوجب حلول غضب الله ونزوله، ومن نزل به غضب الله وعقابه ونقمته وعذابه، فقد شقي وهلك وهوى، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار. 7- الله غفور على الدوام لمن تاب من الشرك والكفر والمعصية، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال بأداء الفرائض والطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أقام على إيمانه حتى مات عليه. - 11- تكليم الله موسى في الميقات وفتنة السامري بصناعة العجل إلها [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)

الإعراب:

الإعراب: وَما أَعْجَلَكَ ... ما مبتدأ، وأَعْجَلَكَ خبره، وفيه ضمير يعود إلى ما وتقديره: أي شيء أعجلك؟. يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وَعْداً إما منصوب على المصدر، تقول: وعدته وعدا، كضربته ضربا، وإما أن يكون الوعد بمعنى الموعود، كالخلق بمعنى المخلوق، فيكون مفعولا به ثانيا ل يَعِدْكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي تمام وعد حسن. ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالفتح: هو اسم أي بإصلاح ملكنا ورعايته، ومن ضم الميم جعله مصدر «ملك» يقال: ملك بين الملك، ومن كسر الميم جعله مصدر «مالك» يقال: مالك بين الملك، والمصدر هنا مضاف إلى الفاعل. فَنَسِيَ الفاعل إما السَّامِرِيُّ أي نسي طاعتنا وتركها، والنسيان بمعنى الترك، قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] أي تركوا طاعة الله فتركهم في النار، وإما الفاعل مُوسى أي ترك موسى ذلك وأعرض عنه، والأول أوجه. أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف: أنه. المفردات اللغوية: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ لمجيء ميعاد أخذ التوراة، وهو يدل على تقدم قومه في المسير إلى المكان، وهو سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنها نقيصة في نفسها، انضم إليها إغفال القوم، وإيهام التعظم عليهم، فأجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم فقال: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي ما تقدمتهم إلا بخطي يسيرة لا يعتد بها عادة، وهم قادمون ورائي، ليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم الرفقة بها بعضهم بعضا. ثم قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى عني، أي زيادة على رضاك، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه. يقال: جاء على أثره: أي لحقه بلا تأخير. قال تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي ابتليناهم واختبرناهم بعبادة العجل، بعد فراقك لهم، وأضلهم موسى السامري: أي أوقعهم في الضلال والخسران، باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته. وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ست مائة ألف، ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. وقرئ: وأضلهم السامري، أي أشدهم ضلالة لأنه كان ضالا مضلا. والسامري: منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة.

المناسبة:

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة غَضْبانَ عليهم أَسِفاً شديد الحزن بما فعلوا وَعْداً حَسَناً أي صدقا أنه يعطيكم التوراة فيها هدى ونور أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي زمان الإنجاز، يعني زمان مفارقته لهم أَنْ يَحِلَّ يجب عليكم غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بعبادتكم العجل فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام بما أمرتكم به، وتركتم المجيء بعدي. بِمَلْكِنا مثلث الميم أي بقدرتنا واختيارنا وأمرنا، إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول علينا السامري، لما أخلفنا موعدك وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ وقرئ: وحملنا، وأَوْزاراً أثقالا، وزينة القوم أي حلي قوم فرعون، أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر، باسم العروس فَقَذَفْناها طرحناها في النار بأمر السامري فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي كما ألقينا فكذلك ألقى السامري ما كان معه منها أي من حليهم ومن التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل. فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً أي صاغ من تلك الحلي المذابة عجلا جثة لا روح فيها لَهُ خُوارٌ الخوار: صوت العجل، والمراد هنا صوت يسمع بسبب التراب الذي يكون أثره الحياة فيما يوضع فيه، وقد وضعه في فم العجل بعد صوغه. فَقالُوا أي السامري وأتباعه فَنَسِيَ أي نسي السامري وترك ما كان عليه من إظهار الإيمان، وقيل في زعم السامري: نسي موسى ربه هنا، وذهب يطلبه عند الطور. أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ألا يرد العجل لهم جوابا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدر على دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم، فكيف يتخذ إلها؟! المناسبة: بعد تعداد النعم على بني إسرائيل، أردف هذا بقصة الكلام الذي جرى بينه تعالى وبين موسى في الميقات بحسب المواعدة التي واعده بها ربه سابقا، ثم أعقبه ببيان فتنة السامري لبني إسرائيل باختراع العجل من الذهب، وجعله إلها، يصدر صوتا حينما تهب رياح معينة، فتحرك التراب الذي في فمه، فوبخهم الله بأن هذا العجل لا يجيب سائله، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا. وتجاوب بني إسرائيل في تأليه العجل وعبادته نابع من ميلهم إلى الوثنية

التفسير والبيان:

أثناء مخالطة المصريين، بدليل أنه لما نجاهم الله من طغيان فرعون، طلبوا من موسى نفسه عليه السلام أن يصنع لهم تمثالا ليعبدوه، كما قال تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف 7/ 138] . التفسير والبيان: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي ما حملك على أن تسبقهم، والقوم: هم بنو إسرائيل، والمراد بهم هنا النقباء السبعون، أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم. وذلك أن الله وعد موسى باللقاء في جبل الطور بعد هلاك فرعون، ليعطيه الألواح التي فيها الوصايا الدستورية لبني إسرائيل. فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما، ثم زيدت إلى أربعين يوما: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] . وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فاختار موسى منهم سبعين رجلا: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا [الأعراف 7/ 155] وهم النقباء السبعون الذين اختارهم، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه، أي لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله، فقال الله له: ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟. وهذا الإنكار إنكار للعجلة في ذاتها لما فيها من عدم العناية بصحبه لأن من شرط المرافقة الموافقة، وهو تعليم للأدب الحسن الرفيع في المصاحبة.

قالَ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي قال موسى مجيبا ربه: هم بالقرب مني، واصلون بعدي، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة، وسارعت إليك رب لتزداد عني رضا بمسارعتي إلى الوصول إلى مكان الموعد، امتثالا لأمرك، وشوقا إلى لقائك. فهو عليه السلام يعتذر بالخطإ في الاجتهاد. قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي قال الله تعالى: إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم، وهم الذين تركهم مع أخيه هارون، وجعلهم موسى السامري في ضلالة عن الحق، باتخاذهم عبادة العجل من ذهب. والسامري من قبيلة السامرة، أو من قوم يعبدون البقر، والأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة، قال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه وهو عشر ليال، لما صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم، وأمرهم بإلقائها في النار، وكان منها العجل، الذي يصدر منه صوت أحيانا بفعل تأثير الرياح. فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي فعاد موسى إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء الليالي الأربعين، شديد الغضب والحنق، والأسف والحزن والجزع. قالَ: يا قَوْمِ، أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أي قال موسى: يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة، من إنزال الكتاب التشريعي العظيم لتعملوا به، والنصر على عدوكم، وتملككم أرض الجبارين وديارهم، والثواب الجزيل في الآخرة بقوله المتقدم: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.

أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي هل طال عليكم الزمان في انتظار وعد الله ونسيان ما سلف من نعمه، ولم يمض على ذلك من العهد غير شهر وأيام، أَمْ (أي بل «1» ) أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم غضب ونقمة وعقوبة من ربكم؟ فأخلفتم وعدي، إذ وعدتموني أن تقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن أرجع إليكم من الطور. يعني هل طال العهد عليكم فنسيتم أو أردتم المعصية فأخلفتم؟. قالُوا: ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي أجابوه قائلين: ما أخلفنا عهدك ووعدك باختيارنا وقدرتنا، بل كنا مضطرين إلى الخطأ. وهذا إقرار منهم بالمعصية والوقوع في الفتنة بتسويل السامري وغلبته على عقولهم، كما قال تعالى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، فَقَذَفْناها، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ولكن حملنا أثقالا من زينة القوم أي القبط المصريين، حين خرجنا من مصر معك، وأوهمناهم أننا نجتمع في عيد لنا أو وليمة. وسميت أوزارا أي آثاما لأنه لا يحل لهم أخذها. وقال السامري لهم: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها، ثم أمرنا أن نحفر حفرة، ونملأها نارا، وأن نقذف الحلي فيها، فقذفناها، أي فطرحناها في النار طلبا للخلاص من إثمها، فمثل ذلك قذف السامري ما معه، وصاغ من الحلي عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول جبريل. فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أي فأخرج السامري لبني إسرائيل من الذهب الملقى في النار (الأوزار) جسد عجل لا روح ولا حياة فيه، له خوار العجول لأنه صنعه بطريقة معينة، عمل فيه خروقا، وألقى فيه رملا من أثر جبريل، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار. والخوار: صوت البقر.

_ (1) بل: للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم.. إلخ.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَقالُوا: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فَنَسِيَ أي قال السامري ومن فتن به: هذا هو إلهكم وإله موسى، فاعبدوه، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم. فرد الله تعالى عليهم مقرعا لهم ومسفها عقولهم، فقال: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرد عليهم جوابا، ولا يكلمهم إذا كلموه، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا، أو يجلب لهم نفعا، فكيف يتوهمون أنه إله؟!. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- تعجل موسى عليه السلام سابقا قومه النقباء السبعين شوقا للقاء ربه وسماع كلامه، باجتهاد منه، ولكنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، فاستوجب العتاب. ثم إن العجلة وإن كانت في الجملة مذمومة، فهي ممدوحة في الدين، قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران 3/ 133] . وكنى موسى عن ذكر الشوق وصدقه بابتغاء الرضا، قائلا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. 2- اختبر الله بني إسرائيل في غيبة موسى عليه السلام، ليتبين القائمين على أمر الله عز وجل، واعتقاد توحيده، والتزام شريعته، تبين انكشاف وظهور لأن الله عالم بالجميع. 3- لقد أضلهم السامري، أي دعاهم إلى الضلالة، أو هو سببها.

4- حق لموسى عليه السلام أن يعود إلى قومه شديد الغضب والأسى بسبب ما أحدثوا بعده من عبادة العجل. 5- بادر موسى إلى عتاب قومه بتذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، ومنها إنجاؤهم من فرعون وجنوده، ووعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم. وقوله: أَلَمْ يَعِدْكُمْ يدل على أنهم كانوا معترفين بالإله، لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام. 6- لا عذر لهم في نقض العهد الذي لم يطل أمره، ولكنهم أرادوا العصيان وإحداث الأعمال التي تكون سبب حلول غضب الله بهم، وأخلفوا الوعد مع موسى أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. 7- اعتذروا لموسى عليه السلام بأنهم كانوا مضطرين إلى خلف الموعد، ونقض العهد، وذلك للتخلص من آثام الحلي التي كانوا قد أخذوها من القبط المصريين، حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة، فألقوها في النار لتذوب. 8- لما ذابت الحلي في النار، أخذها السامري، وصاغ لهم منها عجلا، ثم ألقى عليه قبضته من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار. 9- زيف السامري الحقائق، ودلس على بني إسرائيل، وقال لهم مع أتباعه الذين كانوا ميالين إلى التجسيم والتشبيه إذ قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف 7/ 138] : هذا إلهكم وإله موسى الذي نسي أن يذكر لكم أنه إلهه. 10- سفه الحق تعالى أحلامهم وعاب تفكيرهم، وقال لهم: أفلا يعتبرون

- 12 - معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل وإلقائه في البحر وتوحيد الإله الحق [سورة طه (20) الآيات 90 إلى 98] :

ويتفكرون في أن هذا العجل لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم ولا نفعا يجلبه لهم، فكيف يكون إلها؟!. أما الذي يعبده موسى عليه السلام فهو يضر وينفع ويعطي ويمنع. 11- دل قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ.. على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، كما في آية أخرى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف 7/ 148] . وهو قريب في المعنى من قوله تعالى في ذم عبدة الأصنام: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف 7/ 195] . - 12- معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل وإلقائه في البحر وتوحيد الإله الحق [سورة طه (20) : الآيات 90 الى 98] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)

الإعراب:

الإعراب: بْنَ أُمَ بالفتح أراد يا بن أمي بفتح الياء، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذف الألف تخفيفا لأن الفتحة تدل عليها. ومن قرأ بالكسرا بْنَ أُمَ أراد يا بن أمي إلا أنه حذف الياء لأن الكسرة قبلها تدل عليها، والأصل إثباتها لأن الياء إنما تحذف من المنادي المضاف، نحو: يا قوم، ويا عباد، والأم ليست بمناداة هنا، وإنما المنادي هو «الابن» . لَنْ تُخْلَفَهُ فعل مبني للمجهول، وضمير المخاطب نائب الفاعل، وهاء تُخْلَفَهُ مفعول ثان منصوب. ومن قرأ بكسر اللام لَنْ تُخْلَفَهُ كان مضارع (أخلفت الموعد) والمفعول الثاني حينئذ محذوف، أي لَنْ تُخْلَفَهُ أي الموعد لأن أخلف: يتعدى إلى مفعولين. وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تمييز محول عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء. البلاغة: أَمْرِي وْلِي نَفْسِي وكذا نَفْعاً نَسْفاً عِلْماً سجع حسن غير متكلف. المفردات اللغوية: مِنْ قَبْلُ من قبل رجوع موسى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ إنما وقعتم في الفتنة والضلال بالعجل فَاتَّبِعُونِي في الثبات على الحق وعبادة الرحمن وَأَطِيعُوا أَمْرِي في تلك العبادة لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ لن نزال على العجل وعبادته عاكِفِينَ مقيمين قالَ: يا هارُونُ قال موسى بعد رجوعه ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ لا: زائدة، أي أن تتبعني في الغضب لله ومقاتلة من كفر بالله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين، والمحاماة عنه، وعصيانك بإقامتك بين قوم لا يعبدون الله تعالى. لَ: يَا بْنَ أُمَ أراد أمي، وخص الأم استعطافا لقلبه تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي لا تأخذ بشعر لحيتي ولا بشعر رأسي، وكان أخذ بلحيته بشماله، وبشعره بيمينه، يجره إليه، من شدة

المناسبة:

غضبه لله، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام كان حديدا خشنا متصلبا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، ففعل ما فعل. شِيتُ خفت لو اتبعتك لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ولم تراع قولي فيما رأيته في ذلك. قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ثم أقبل عليه وقال منكرا: ما شأنك الداعي إلى ما صنعت، وما الذي حملك على هذا الأمر الخطير؟ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي علمت بما لم يعلموه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فقبضت قبضة من تربة موطئ جبريل عليه السلام، فهو الرسول، وقيل: موسى عليه السلام، والقبضة: الأخذ بجميع الكف فَنَبَذْتُها ألقيتها وطرحتها في صورة العجل المصاغ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي ومثل ذلك زينت وحسنت لي نفسي. قالَ: فَاذْهَبْ قال موسى له: فَاذْهَبْ من بيننا فِي الْحَياةِ مده حياتك أَنْ تَقُولَ لمن رأيته، عقوبة على ما فعلت لا مِساسَ أي لا تقربني، ولا مخالطة، فلا يقربه ولا يخالطه أحد، ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، وإذا حدث مساس مع أحد، أخذته الحمى وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً في الآخرة لعذابك لَنْ تُخْلَفَهُ أي سيأتيك الله به حتما، وتبعث إليه، وبكسر اللام: لن تغيب عنه ظَلْتَ أصله: ظلت، فحذفت الأولى تخفيفا، أي دمت عاكِفاً مقيما تعبده لَنُحَرِّقَنَّهُ أي بالنار لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرينه فِي الْيَمِّ في البحر نَسْفاً نذرا، فلا يصادف منه شيء، وقام موسى فعلا بإلقاء العجل في البحر. وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً وسع علمه كل شيء وأحاط به. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى مخالفة عبادة العجل لأبسط مبادئ العقل لأنه لا يجيب سائله ولا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، ذكر أن بني إسرائيل أيضا عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطأ فعلهم، ثم أوضح معاتبة موسى لأخيه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل، ثم أردف به مناقشة موسى للسامري وعقابه من الله في الدنيا والآخرة، وإلقاء موسى العجل في البحر، وإعلان موسى صراحة: من هو الإله الحق، وهو الذي وسع علمه السموات والأرض، لا الجماد الذي لا يضر ولا ينفع.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام قومه عن عبادتهم العجل وتحذيرهم منه، وإخباره إياهم بأنه فتنة، فيقول: وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي لقد قال هارون عليه السلام لقومه عبدة العجل من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم: إنما وقعتم في الفتنة والاختبار لإيمانكم وحفظكم دينكم بسبب العجل، وضللتم عن طريق الحق لأجله، ليعرف صحيح الإيمان من عليله. وإن ربكم الله الذي خلقكم وخلق كل شيء فقدره تقديرا، لا العجل، فاتبعوني في عبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل، وأطيعوا أمري لا أمره، واتركوا ما أنهاكم عنه. ويلاحظ أن هارون عليه السلام وعظهم بأحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي. وقوله إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ تذكير لهم بربوبية الله وقدرته التي أنجتهم من فرعون وجنوده، وتذكير برحمة الله التي تدل على أنهم متى تابوا، قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته تخليصهم من آفات فرعون وعذابه. ولكنهم قابلوا الوعظ والنصح بالتقليد والجحود، فقالوا: قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أي قالوا: لا نقبل حجتك، ولكن نقبل قول موسى، فلا نترك عبادة العجل، حتى نسمع

كلام موسى فيه. وكادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام. وما قصدهم إلا التسويف. قالَ: يا هارُونُ، ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أي قال موسى لهارون حين رجع إلى قومه بعد تكليم ربه في الميقات: ما الذي منعك من اتباعي إلى جبل الطور، واللحوق بي مع من بقي مؤمنا، فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع، حين وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟ ففي مفارقتهم زجر لهم، ودليل على الغضب والإنكار عليهم. وأَلَّا في قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ زائدة، أي أن تتبع أمري ووصيتي. أفعصيت أمري؟ أي كيف خالفت أمري لك بالقيام لله، ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ ألم أقل لك: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] . فقال هارون معتذرا عن تأخره عنه وإخباره بما حدث، مستعطفا إياه: لَ: يَا بْنَ أُمَّ، لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي أي قال هارون لموسى: يا ابن أم، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو: ، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي إني خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يقتتلوا ويتفرقوا، فتقول: إني فرقت جماعتهم لأنه لو خرج لتبعه جماعة منهم، وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، وحينئذ تقول: لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، وهي قوله المتقدم: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ولم تراع ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم، واعتذر إليه أيضا بقوله في آية أخرى:

إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف 7/ 150] . ثم كلم موسى كبير الفتنة وهو السامري قائلا: قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي قال موسى للسامري: ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ سأله ليتخذ من جوابه وإقراره حجة للناس ببطلان فعله وقوله. قالَ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها أي قال السامري: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرس، فأخذت قبضة من أثر فرسه- والقبضة: ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، وذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا- فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل، فصنعت لهم تمثال إله، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كآلهة المصريين عبدة الأصنام. قال مجاهد: نبذ السامري، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدا له خوار: وهو حفيف الريح فيه. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي كما زينت لي نفسي السوء، زينت لي أيضا وحسنت هذا الفعل بمحض الهوى، أو حدثتني نفسي، لا بإلهام إلهي أو ببرهان نقلي أو عقلي. فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة، فقال: قالَ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ: لا مِساسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أي قال موسى للسامري: فعقوبتك في الدنيا أن تذهب من بيننا وتخرج عنا، وأن تقول ما دمت حيا: لا يمسك أحد، ولا تمس أحدا، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له، وهذه هي عقوبة النبذ من المجتمع أو العزل المدني.

وعقوبتك في الآخرة: أن لك موعدا فيها للعذاب لا يخلفه الله، بل سينجزه، وهو يوم القيامة، وهو آت لا ريب فيه ولا مفر منه. وأما إلهك المزعوم فمصيره كما قال تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً أي وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته، يعني العجل لنحرقنه تحريقا بالنار، ثم لنذرينه في البحر لتذهب به الريح. قال قتادة: فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر. وهذا موقف حازم من موسى عليه السلام أحد الأنبياء أولي العزم لأن مثل هذا المعبود في زعم السامري ومن اتبعه يجب استئصال آثاره، حفاظا على توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، لذا أتبعه بقوله: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي قال موسى: إن هذا العجل الذي فتنكم به السامري ليس بإله، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، أي فهو المستحق للعبادة، ولا تنبغي العبادة إلا له، فكل شيء فقير إليه، عبد له. وهو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين. وهكذا بدأت قصة موسى بالتوحيد الخالص: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي.. وختمت به: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ.. شأن رسالة كل نبي.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- أنكر هارون عليه السلام على السامري وتابعيه عبادة العجل إنكارا شديدا قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم، فعصوه وكادوا أن يقتلوه، وسوفوا وما طلوا حتى يرجع موسى عليه السلام، لينظروا هل يقرهم على ما فعلوا أم لا. 2- لقد توهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون مع اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى سمع الصياح والضجيج، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة. 3- قوله تعالى: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دليل على أن السكوت على المنكر ضلال، والمعنى: حين رأيتهم أخطئوا الطريق وكفروا، ما منعك عن اتباعي والإنكار عليهم، إن مقامك بينهم- وقد عبدوا غير الله- عصيان منك لي. قال القرطبي: وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وهم جماعة يجتمعون، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب

السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل وأما القضيب: فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق «1» . 4- أجاب هارون معتذرا مبينا وجهة اجتهاده: وهي أنه خشي إذا خرج وتركهم- وقد أمره موسى بالبقاء معهم- أن تقع الفرقة بين بني إسرائيل، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء، وخشي إن زجرهم أن يقع قتال، فيلومه موسى عليه، وقد أوضح ذلك هنا بقوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وفي الأعراف قال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ لأنك أمرتني أن أكون معهم. 5- بعد عتاب هارون اتجه موسى للسامري سائلا: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي ما أمرك وما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ وقصده من سؤاله: انتزاع اعتراف منه بباطله. قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها «سامرة» ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكفون على أصنام لهم قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فاغتنمها السامري، وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل، فاتخذ العجل.

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 237- 238.

فقال السامري مجيبا لموسى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ يعني رأيت ما لم يروا رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضته، فما ألقيته على شيء، إلا صار له روح ولحم ودم فلما سألوك أن تجعل لهم إلها، زينت لي نفسي ذلك. 6- عاقب موسى عليه السلام ذلك السامري الذي اعترف بأنه صنع العجل لهوى في نفسه، فنفاه عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الحسن البصري: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه، عقوبة له ولما كان منه إلى يوم القيامة وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا، ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: لما قال له موسى: فاذهب، فإن لك في الحياة أن تقول: لا مِساسَ خاف فهرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه، حتى صار كالقائل: لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه. 7- قال القرطبي: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكعب بن مالك وصاحبيه الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، ليضطر إلى الخروج. ومن هذا القبيل: التغريب في حد الزنى. 8- وهناك عقاب آخر للسامري يوم القيامة، وموعد لعذابه لا بد من مجيئه، والصيرورة إليه، ولا خلف فيه. 9- حرق موسى عليه السلام بالنار العجل الذي اتخذه السامري. ثم ألقى

رماده في البحر، وهذا هو الواجب المتعين في استئصال المنكر وتصفية جميع آثاره. 10- طوى موسى عليه السلام من تاريخ بني إسرائيل واقعة عبادة العجل التي طرأت في فترة زمنية قصيرة الأمد، وقرر إلى الأبد مبدأ التوحيد، وأوجب عبادة الله الذي لا إله إلا هو، العليم بكل شيء، وسع كل شيء علمه، الخبير بأحوال المخلوقات الظاهرة والباطنة، وهذه هي صفات الإله الحق المستحق للعبادة دون سواه. 11- لم يكن أخذ موسى برأس أخيه وبلحيته معصية قادحة بعصمة الأنبياء عليهم السلام، كما زعم بعض الطاغين، وإنما كان هذا تعبيرا قويا عن إنكاره، وغضبا لله لا لنفسه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت محارم الله. والغضب في هذا الموضع محمود غير مذموم، ولا يستنكر ولا يستغرب ظهور أمارات الغضب على النفس، وقد أجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه، ويفتل أصابعه، ويقبض لحيته «1» . والدليل على ذلك أن هارون عليه السلام عذر أخاه موسى عليه السلام فيما فعل، وكل ما في الأمر أنه استمهله وهدأ أعصابه، ليبين له وجهة نظره، ووجه اجتهاده.

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 108.

العبرة من القصص القرآني وجزاء المعرض عن القرآن [سورة طه (20) الآيات 99 إلى 104] :

العبرة من القصص القرآني وجزاء المعرض عن القرآن [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) الإعراب: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً، خالِدِينَ فِيهِ أفرد ضمير أَعْرَضَ حملا على لفظ مَنْ، وجمع الضمير في قوله خالِدِينَ حملا على معناه. وخالِدِينَ حال من ضمير يَحْمِلُ. وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا تمييز مفسر للضمير في ساءَ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وزرهم. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَوْمَ: بدل من يوم القيامة السابق. البلاغة: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ تشبيه مرسل مجمل. وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا استعارة تصريحية، شبه الوزر بالحمل الثقيل، مصرحا بلفظ المشبه به. المفردات اللغوية: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي مثل ذلك الاقتصاص- اقتصاص موسى والسامري- نقص عليك يا محمد من أخبار الأمم الماضية. وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً وقد أعطيناك من عندنا قرآنا، فالذكر: القرآن، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وسمي بذلك لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه الناس في الدين والدنيا، والقصص والأخبار، والتنكير فيه للتعظيم.

المناسبة:

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عن الذكر الذي هو القرآن الجامع لأسباب السعادة والنجاة، فلم يؤمن به. وِزْراً حملا ثقيلا من الإثم، والمراد به: العقوبة الشديدة التي تثقل صاحبها. خالِدِينَ فِيهِ في عذاب الوزر. وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي ساء أو بئس وزرهم، واللام للبيان، كما في هَيْتَ لَكَ. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يوم ينفخ في القرن النفخة الثانية. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ نجمع الكافرين. زُرْقاً أي زرق الأبدان والعيون، مع سواد وجوههم، لاشتماله على الشدائد والأهوال. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتسارون ويخفضون أصواتهم، لشدة الرعب والهول. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا من الليالي بأيامها، يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في ذلك أي في مدة لبثهم. أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أعدلهم رأيا أو عملا. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي يستقلون لبثهم في الدنيا جدا، لما يشاهدونه من أهوال الآخرة. وحكاية اختلافهم في مدة اللبث: عَشْراً أو يَوْماً أو (ساعة) ليس على سبيل الحقيقة أو الشك في التعيين، بل المراد تقرير سرعة زواله. المناسبة: بعد بيان قصص موسى والسامري، أبان الله تعالى لنبيه إيناسا له أن إعلامك بأخبار الأمم الماضية وأحوالهم كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، هو زيادة في معجزاتك، وحث على الاعتبار والاتعاظ من قبل المكلفين في الدين. وناسب بعده أن يذكر جزاء المعرضين عن أحكام القرآن، ذلك الجزاء الرهيب الذي تشيب منه الولدان. التفسير والبيان: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي كما قصصنا عليك أيها الرسول خبر موسى مع فرعون وجنوده وخبره مع بني إسرائيل في الحقيقة والواقع، كذلك نقص عليك أخبار الحوادث التي جرت مع الأمم الماضية، كما وقعت من

غير زيادة ولا نقص، لتكون سلوة لك عما تكره، وبيانا لسيرة الأنبياء السابقين في مكابدتهم الشدائد مع أقوامهم لتتأس بهم، ودلالة على صدقك ونبوتك، مما يجعل في القصص عبرة وعظة، ودرسا وفائدة. وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي هذا.. وقد أعطيناك من عندنا ذكرا، وهو القرآن العظيم، للتذكر به على الدوام لأنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولأنه لم يعط نبي من الأنبياء قبلك مثله، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وفيه حكم الفصل بين الناس، وكل ما هو صلاح للبشر في الدين والدنيا والآخرة، وجميع مكارم الأخلاق، ومناهج الحياة الفاضلة. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي كل من كذب به، وأعرض عن اتباعه، فلم يؤمن به، ولا عمل بما فيه، وابتغى الهدى في غيره، يحمل إثما عظيما، وعقوبة ثقيلة يوم القيامة بسبب إعراضه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] . وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى في بيان مهمة رسوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] ، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له، وداع للإيمان به، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه، ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة. خالِدِينَ فِيهِ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي ماكثين مقيمين على الدوام في جزائه ووزره، وهو النار، لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، وبئس الحمل حملهم الذي حملوه من الأوزار، جزاء إعراضهم. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً أي إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ فيه في الصور النفخة الثانية، نفخة البعث التي يحشر الناس

فقه الحياة أو الأحكام:

بعدها للحساب، وفي هذا اليوم بالذات يحشر المجرمون أيضا وهم المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، زرق العيون والوجوه من شدة ما هم فيه من الأهوال، والغيظ والندامة. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي يتسارون بينهم، فيقول بعضهم لبعض سرا: ما لبثتم في الدنيا إلا قليلا بمقدار عشرة أيام أو نحوها أو عشر ليال، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا أو في القبور، بمقارنتها بأيام الآخرة الطويلة الأمد وبأعمار الآخرة. وإنما خص العشرة واليوم الواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي نحن أعلم بما يتناجون وبما يقولون في مدة لبثهم، حين يقول أعدلهم قولا، وأكملهم رأيا وعقلا، وأعلمهم عند نفسه: ما لبثتم إلا يوما واحدا لأن دار الدنيا كلها، وإن طالت في أنظار الناس، كأنها يوم واحد، وغرضهم من ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم 30/ 55] وقال سبحانه: قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون 23/ 112- 113] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن في قصص القرآن من أخبار الأمم وأحوالهم عبرة وعظة، يستعبر بها أو يتعظ العقلاء المكلفون، وسلوة للنبي، ودليلا على صدقه، وزيادة في معجزاته.

2- والقرآن العظيم كله تذكير ومواعظ للأمم والشعوب والأفراد، وشرف وفخر للإنسانية وللعرب خاصة، ونعمة عظمي لكل إنسان. 3- وكما أن القرآن نعمة، ففيه أيضا وعيد شديد لمن أعرض عنه، ولم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه، فهو- أي المعرض- يتحمل الإثم العظيم والحمل الثقيل يوم القيامة، حيث يقيم في جزائه، وجزاؤه جهنم، وبئس الحمل الذي حملوه يوم القيامة. والوزر: هو العقوبة الثقيلة، سميت وزرا، تشبيها في ثقلها على المعاقب بثقل حمل الحامل، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. وصفة ذلك الوزر كما تبين شيئان: أحدهما- أنه مخلد مؤبد، وثانيهما- أنه ما أسوأ هذا الوزر حملا، أي محمولا. 4- إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ في الصور النفخة الثانية للبعث والحشر والحساب. والصور: قرن ينفخ فيه يدعى به الناس إلى الحشر. 5- يكون النفخ في الصور سببا لحشر المجرمين، أي المشركين، زرق العيون والأبدان من شدة العطش وشدة الأهوال التي يكابدونها. 6- يتسار المجرمون يوم القيامة قائلين: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة، ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا، وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه: أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا يوما واحدا أي مثل يوم أو أقل.

أحوال الأرض والجبال والناس يوم القيامة [سورة طه (20) الآيات 105 إلى 112] :

أحوال الأرض والجبال والناس يوم القيامة [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 112] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) البلاغة: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ كناية عن أمر الدنيا والآخرة. عِلْماً ظُلْماً هَضْماً سجع مؤثر غير متكلف. المفردات اللغوية: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ عن حال أمرها وكيف تكون يوم القيامة، وقد سأل عنها رجل من ثقيف. فَقُلْ لهم. يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يفتتها ذرأت ويجعلها كالرمل السائل، ثم يطيرها كالريح. فَيَذَرُها فيتركها ويذر مقارها أو يذر الأرض. قاعاً أرضا منبسطة لا بناء ولا نبات. صَفْصَفاً أرضا ملساء مستوية. عِوَجاً انخفاضا. وَلا أَمْتاً ارتفاعا. يَوْمَئِذٍ يوم نسف الجبال، على إضافة اليوم إلى وقت النسف، ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة. يَتَّبِعُونَ يتبع الناس بعد القيام من القبور. الدَّاعِيَ داعي الله إلى المحشر، بصوته، وهو إسرافيل يقول: هلموا إلى عرض الرحمن. لا عِوَجَ لَهُ لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، أي لا يقدر ألا يتبع، أو لا عوج لدعائه، فلا يميل إلى ناس دون ناس.

سبب النزول نزول الآية (105) :

وَخَشَعَتِ سكنت وذلت. إِلَّا هَمْساً الهمس: الصوت الخفي، أو صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر. إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الاستثناء من الشفاعة، أي إلا شفاعة من أذن له، فمن: مرفوع على البدلية بتقدير حذف المضاف إليه، أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن، وهذا هو المتبادر إلى الذهن، أو أن الاستثناء من أعم المفاعيل، أي إلا من أذن في أن يشفع له، فإن الشفاعة تنفعه، فتكون مَنْ: منصوبا على المفعولية، ورجح الرازي الاحتمال الثاني، أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شخصا مرضيا. وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة، أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. والخلاصة: أن الإذن إما أن يكون للشافع دون تعيين، وإما أن يكون للشافع من أجل المشفوع له، ورضي قوله لأجله، أي رضي للمشفوع له قولا. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعلم كل أمر من أمور الآخرة والدنيا، أو يعلم كل شؤون عباده في الدنيا والآخرة. فالمراد من قوله: وَما خَلْفَهُمْ إما أمور الدنيا على رأي، وإما أمور الآخرة وما يستقبلونه، على رأي الأكثرين. وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي لا يحيط علمهم بمعلوماته. وَعَنَتِ خضعت وانقادت، ومنه العاني: الأسير. الْقَيُّومِ القائم بتدبير عباده ومجازاتهم. خابَ خسر. مَنْ حَمَلَ ظُلْماً شركا. الصَّالِحاتِ الطاعات. فَلا يَخافُ ظُلْماً منع الثواب عن المستحق بالوعد. وَلا هَضْماً ولا نقصا من حسناته. سبب النزول: نزول الآية (105) : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الآية. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى أهوال يوم القيامة، حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر عن مصير الجبال، ثم ضم إليه بيان حالة الأرض حينئذ، وحالة الناس الذين

التفسير والبيان:

يسرعون إلى إجابة الداعي إلى المحشر مع خشوع وخضوع، دون أن تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي للشافع قولا لمكانه عند الله، أو رضي للمشفوع له قولا. التفسير والبيان: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن حال الجبال يوم القيامة، هل تبقى أو تزول؟ فقل: يزيلها الله ويذهبها عن أماكنها، ويدكها دكا، ويجعلها هباء منثورا. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً أي فيترك مواضعها بعد نسفها أرضا ملساء مستوية، بلا نبات ولا بناء، ولا انخفاض ولا ارتفاع، فلا تجد مكانا منخفضا ولا مرتفعا، ولا واديا ولا تلة أو رابية. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ أي حينئذ يتبع الناس داعي الله إلى المحشر، مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، لا معدل لهم عن دعائه، فلا يقدرون أن يميلوا عنه أو ينحرفوا منه، بل يسرعون إليه، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر 54/ 8] . وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي سكتت الأصوات رهبة وخشية وإنصاتا لسماع قول الله تعالى، فلا تسمع إلا همسا، أي صوتا خفيا. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي في ذلك اليوم لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضي قوله في الشفاعة لأن الله تعالى هو المالك المتصرف في الخلق جميعا في الدنيا والآخرة. ونظير الآية قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ

[البقرة 2/ 255] ، وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] ، وقوله عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء 21/ 28] ، وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] . وعلة تقييد الشفاعة بالإذن والرضا هي: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي يعلم ما بين أيدي عباده من أمر القيامة وأحوالها، وما خلفهم من أمور الدنيا، وقيل بالعكس: يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا والأعمال، وما خلفهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب، والمراد أنه تعالى يحيط علما بالخلائق كلهم، ولا تحيط علوم الخلائق بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته. ورجح الرازي معنى أن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وهو ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ولأنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى «1» . وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي ذلت وخضعت واستسلمت جميع النفوس والخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، أي قائم بتدبير شؤون خلقه وتصريف أمورهم، وقد خسر من حمل شيئا من الظلم والشرك. وخص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر. جاء في الحديث الصحيح: «إياكم

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 119

فقه الحياة أو الأحكام:

والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والخيبة كل الخيبة من لقي الله، وهو به مشرك، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] » . وبعد ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً أي ومن يعمل الأعمال الصالحة (أي الفرائض) مقرونا عمله بالإيمان بربه ورسله وكتبه واليوم الآخر، فلا يظلم ولا يهضم حقه، أي لا يزاد في سيئاته بأن يعاقب بغير ذنب، ولا ينقص من ثواب حسناته. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- تتبدد الجبال يوم القيامة بأمر الله تعالى، فتقلع قلعا من أصولها، ثم تصير كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ويذر مواضعها أرضا ملساء بلا نبات ولا بناء، لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا، وعليه فإنه تعالى وصف الأرض بصفات ثلاث: كونها قاعا أي مستوية ملساء، وصفصفا أي لا نبات عليها، ولا عوج فيها ولا أمتا، أي لا منخفض ولا مرتفع. 2- يسير الناس يوم القيامة وراء قائد المحشر، ويتبعون إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور، لا معدل لهم عن دعائه، لا يزيغون ولا ينحرفون، بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه. وتذل الأصوات وتسكن من أجل الرحمن، فلا تسمع إلا صوتا خفيا، أو حسا خفيا. 3- لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن، ورضي قوله في الشفاعة.

عربية القرآن ووعيده وعدم التعجل بقراءته قبل إتمام الوحي [سورة طه (20) الآيات 113 إلى 114] :

4- يعلم الله جميع أمور الخلائق وما يتعرضون له من أمر الساعة (القيامة) ومن أمر الدنيا، ولا أحد يحيط علما بذات الله وصفاته ومعلوماته. والخلاصة: وصف الله تعالى يوم القيامة بست صفات هي: نسف الجبال نسفا تاما، واتباع الناس داعي الله إلى المحشر وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وخشوع الأصوات من شدة الفزع وخضوعها فلا تسمع إلا الصوت الخفي، وعدم قبول الشفاعة من الملائكة والأنبياء وغيرهم عند الله إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضي قوله في الشفاعة، وإحاطة علم الله بجميع أحوال الخلائق وأمورهم في الدنيا والآخرة، فيعلم تعالى ما بين أيدي العباد وما خلفهم، ولا يحيطون بالله علما، وتذل الوجوه أي النفوس ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره. عربية القرآن ووعيده وعدم التعجل بقراءته قبل إتمام الوحي [سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) المفردات اللغوية: وَكَذلِكَ معطوف على كَذلِكَ نَقُصُّ أي مثل إنزال ما ذكر، أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد. أَنْزَلْناهُ أي القرآن. قُرْآناً عَرَبِيًّا كله على هذه الوتيرة. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كررنا وفصلنا فيه آيات الوعيد ويشمل بيان الفرائض والمحارم. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي ومنها الشرك، فتصير التقوى لهم ملكة. والتقوى: اتقاء المحارم وترك الواجبات. أَوْ يُحْدِثُ القرآن لَهُمْ ذِكْراً عظة وعبرة حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذا أسند التقوى إليهم، والإحداث إلى القرآن. فَتَعالَى اللَّهُ تعاظم وتنزه وتقدس في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين، فلا يماثل كلامه كلامهم، كما لا يماثل ذاته ذاتهم. الْمَلِكُ النافذ أمره ونهيه. الْحَقُّ الثابت في ذاته وصفاته.

سبب النزول نزول الآية (114) :

وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي لا تستعجل في قراءة القرآن حتى يتم وحيه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي حتى يفرغ جبريل من إبلاغه لك. وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحى إليك يثبت في قلبك لا محالة. سبب النزول: نزول الآية (114) : وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل، ولم يحفظه، فأنزل الله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الآية. وثبت في الصحيح عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية. يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه. المناسبة: كما أنزل الله آيات الوعيد من أهوال يوم القيامة، أنزل القرآن كله بلغة عربية مبينة، ليفهمه العرب، ثم أبان تعالى نفع هذا القرآن للناس بالتحصن بالتقوى والاتعاظ والاعتبار بهلاك الأمم المتقدمة، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقصان، وأنه ضامن غرس القرآن في صدر نبيه، وصونه عن النسيان والسهو. التفسير والبيان: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي ومثل ذلك الإنزال لآيات الوعد

والوعيد وأحوال يوم القيامة، أنزلنا القرآن كله بلغة العرب ليفهموه، فهو بلسان عربي مبين فصيح، لا ليس فيه ولا عي. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي وبينا فيه أنواع الوعيد تخويفا وتهديدا، كي يخافوا الله، فيتجنبوا معاصيه، ويحذروا عقابه، أو يحدث لهم في قلوبهم عبرة وعظة يعتبرون بها ويتعظون، ويقبلون على فعل الطاعات. وبعد تعظيم القرآن عظم تعالى نفسه، فقال: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تقدس وتنزه الله الملك المتصرف بالأمر والنهي، الثابت الذي لا يزول ولا يتغير عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون، فإنه الملك حقا الذي بيده الثواب والعقاب، وحقه وعدله: ألا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه، لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي ولا تتعجل أو تبادر إلى قراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه، بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده. ومثله قوله تبارك وتعالى في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [16- 19] أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا. وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل ربك زيادة العلم، روى الترمذي وابن ماجه والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- نزل القرآن بلغة العرب، فهو فخر وشرف لهم إلى الأبد، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] . 2- اشتمل القرآن على ما فيه كفاية لجميع مستويات البشر، الأخيار والأشرار، من التخويف والتهديد، والثواب والعقاب، والعبرة والعظة، حتى يخاف الناس ربهم، فيجتنبوا معاصيه، ويحذروا عقابه. 3- عظم الله القرآن وعظم ذاته، فلما عرف تعالى العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن، نزه نفسه عن الأولاد والأنداد، جل الله عن ذلك، فهو الملك المتصرف في الأكوان، الحق، أي ذو الحق، وتقدس لأنه هو حق ثابت دائم لا يتغير، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، وكل شيء منه حق. 4- علم الله نبيه كيف يتلقى القرآن، قال ابن عباس: كان صلى الله عليه وآله وسلم يبادر جبريل، فيقرأ قبر أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك، وأنزل: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. وهذا كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة 75/ 16] . 5- أمر الله نبيه بأن يدعو بقوله: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي فهما. قال الحسن البصري: نزلت في رجل لطم وجه امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها القصاص، فنزل الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء 4/ 34] ولهذا قال: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي فهما ومعرفة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم حكم بالقصاص وأبى الله ذلك، لكن قال الرازي: وهذا

قصة آدم في الجنة وإخراجه منها وإلزامه بالهداية الربانية [سورة طه (20) الآيات 115 إلى 127] :

بعيد، أما قوله تعالى: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه. وفي الآية: الترغيب في تحصيل العلم والترقي فيه إلى ما شاء الله لأن رتبة العلم أعلى الرتب، وبحره واسع لا يحيط به إنسان. قصة آدم في الجنة وإخراجه منها وإلزامه بالهداية الربانية [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)

الإعراب:

الإعراب: أَلَّا تَجُوعَ فِيها الجملة في موضع نصب لأنها اسم إن. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إما موضعها النصب بالعطف على أَلَّا تَجُوعَ أي: إن لك عدم الجوع وعدم الظمأ في الجنة، وإما موضعها الرفع بالعطف على الموضع، مثل: إن زيدا قائم، وعمرو، بالعطف على موضع إن. ومن كسر وإنك فعلى الابتداء والاستئناف، مثل إن الأولى. البلاغة: أَعْمى وبَصِيراً بينهما طباق. فَتَشْقى، تَعْرى، تَضْحى سجع حسن غير متكلف. أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فيه ما يسمى قطع النظير عن النظير، ففصل بين الظمأ والجوع، وبين الضحو والكسوة بقصد تحقيق تعداد هذه النعم، ومراعاة فواصل الآيات. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي وصيناه وأمرناه ألا يأكل من هذه الشجرة، يقال: عهد إليه: إذا أمره وأوصاه به، ولام وَلَقَدْ جواب قسم محذوف، وإنما عطف قصة آدم على قوله: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وأنهم متأصلون في النسيان. مِنْ قَبْلُ من قبل هذا الزمان وقبل أكله من الشجرة وقبل وجود هؤلاء المخالفين. فَنَسِيَ العهد وتركه ولم يعن به حتى غفل عنه. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ولم نعلم له تصميما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده. ونجد من الوجود بمعنى العلم، له مفعولان، والعزم: التصميم على الشيء والثبات عليه. وَإِذْ قُلْنا أي اذكر حاله في مثل ذلك الوقت، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. إِبْلِيسَ هو أبو الجن، كان يصحب الملائكة، ويعبد الله معهم. أَبى امتنع عن السجود لآدم، قائلا: أنا خير منه، وهي جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، وهو الاستكبار.

فَتَشْقى تتعب بمتاعب الدنيا الكثيرة. واقتصر على نسبة الشقاء لآدم لأن الرجل هو المسؤول عن كفاية زوجته، وهو الذي يسعى. تَظْمَؤُا تعطش. تَضْحى تصيبك الشمس، يقال: ضحا وضحي: إذا أصابته الشمس بحرها، والمراد: لا يحصل لك شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة. والمقصود من الآية: أَلَّا تَجُوعَ.. بيان وتذكير لما في الجنة من أسباب الكفاية، وأساسيات الكفاية هي الشبع والري والكسوة والسكنى. شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي التي يخلد من يأكل منها، فلا يموت أصلا. لا يَبْلى لا يفنى ولا يضعف، وهو لازم الخلد. فَأَكَلا مِنْها أي آدم وحواء. فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت لهما عوراتهما من القبل والدبر، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي شرعا وأخذا يلزقان ورق التين على سوآتهما ليستترا به. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بالأكل من الشجرة. فَغَوى فضل عن الرشد حيث اغتر بقول عدوه. ثُمَّ اجْتَباهُ اصطفاه وقربه إليه بالتوفيق للتوبة. فَتابَ عَلَيْهِ فقبل توبته لما تاب. وَهَدى إلى الثبات على التوبة والأخذ بأسباب العصمة. اهْبِطا مِنْها أي آدم وحواء من الجنة. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي بعض الذرية عدو للبعض الآخر بالظلم والتحارب والتنافس الشديد على أمر المعاش. فَإِمَّا فيه إدغام نون (إن) الشرطية في (ما) المزيدة. هَدى كتاب ورسول. هُدايَ هدى الوحي الإلهي. فَلا يَضِلُّ في الدنيا. وَلا يَشْقى في الآخرة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي الهداية بكتبي السماوية المذكرة بي والداعية إلى عبادتي. وأعرض: أي امتنع فلم يؤمن بالذكر. ضَنْكاً مصدر وهو الضيق الشديد، والمعنى هنا: ضيقة. وَنَحْشُرُهُ أي المعرض عن الذكر الإلهي ومنه القرآن. أَعْمى أي أعمى البصر أو القلب فلم ينظر في البراهين الإلهية، ويؤيد الأول: قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا وعند البعث. قالَ أي الأمر كَذلِكَ مثل ذلك فعلت، ثم فسره بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها تركتها ولم تؤمن بها. وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي ومثل تركك إياها- أي الآيات- تترك اليوم في العمى والعذاب. والآيات: الأدلة والبراهين الإلهية. وَكَذلِكَ أي ومثل جزائنا من أعرض عن الذكر. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ نعاقب من أشرك وأسرف في الانهماك في الشهوات، والإعراض عن الآيات. وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وخالفها. أَشَدُّ من عذاب الدنيا وعذاب القبر وضنك العيش والعمى. وَأَبْقى أدوم. وذلك كقوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ [الرعد 13/ 34] .

المناسبة:

المناسبة: هذه هي المرة السادسة لذكر قصة آدم في القرآن، بعد البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف. ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أنه بعد أن عظم أمر القرآن، وأبان ما فيه من الوعيد لتربية التقوى والعظة والعبرة، أردفه بقصة آدم، للدلالة على أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأنهم ينسون الأوامر الإلهية، كما نسي أبوهم آدم. ثم ذكر إباء إبليس السجود لآدم للتحذير من هذا العدو الذي أخرج بوساوسه آدم من الجنة، ثم بين جزاء المطيع للهدي الإلهي، وجزاء المعرض عنه، وأنه سيحشر أعمى عن الحجة التي تنقذه من العذاب، بسبب إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد. التفسير والبيان: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي وو الله لقد وصينا آدم بألا يأكل من الشجرة، فنسي ما عهد الله به إليه، وترك العمل بمقتضى العهد، فأكل من تلك الشجرة، ولم يكن عنده قبل ذلك عزم وتصميم على ذلك إذ كان قد صمم على ترك الأكل، ثم فتر عزمه، عند ما وسوس إليه إبليس بالأكل، فلم يصبر عن أكل الشجرة. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه، فنسي. والمراد بالعهد: أمر من الله تعالى أو نهي منه، والمراد هنا: عهدنا إليه ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها. والآية دليل على أن النسيان وعدم العزم هما سبب العصيان، وأن التذكر وقوة العزم هما سبب الخير والرشد. ثم ذكر الله تعالى خلق آدم وتكريمه وتشريفه، فقال:

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي واذكر أيها النبي لقومك حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تشريف وتكريم وتفضيل على كثير من خلق الله، فسجدوا إلا إبليس امتنع واستكبر ورفض المشاركة في السجود لأنه كان حسودا، فلما رأى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده، فصار عدوا له، كما قال تعالى: فَقُلْنا: يا آدَمُ، إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى أي فقلنا له عقب إبائه السجود: يا آدم، إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلم يسجد لك وعصاني، فلا تطيعاه، ولا يكوننّ سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، بلا كلفة ولا مشقة، كما قال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش، وتنعما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فلا تجوع ولا تعرى، ولا تعطش في الجنة، ولا يؤذيك الحرّ، كما يكون لسكان الأرض، فإن أصول المتاعب في الدنيا: هي تحصيل الشبع (ضد الجوع) والكسوة (ضد العري) والريّ (ضد الظمأ) والسكن (ضد العيش في العراء أو تحت حرّ الشمس) . ويلاحظ أن نعم الجنة كما جاء في الآية لا عناء فيها في هذه الأصول الأربعة، فلا جوع فيها ولا عري ولا ظمأ ولا إصابة بحرّ الشمس. فأيهما يفضل العقلاء: ما فيه تعب وعناء أو ما ليس فيه تعب؟! وبعد بيان مدى تكريم آدم وتعظيمه وتحذيره من عدوه، أبان تعالى تورطه في وسوسة الشيطان، فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ

وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي قال الشيطان لآدم بنوع من الخفية: ألا أرشدك إلى شجرة الخلد: وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا، وإلى ملك دائم لا يزول ولا ينقضي. وكان ذلك كذبا من إبليس ليستدرجهما إلى معصية الله تعالى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف 7/ 21] فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الأعراف 7/ 22] . جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ما يقطعها، وهي شجرة الخلد» . فَأَكَلا مِنْها، فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعا من الأكل منها، فانكشفت عورتهما وسقط عنهما لباسهما، فشرعا يلصقان عليهما ويلزقان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما، وعصى آدم ربه أو خالف أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عن الآكل منها، فضلّ عن الصواب، وفسد عليه عيشه. ولا شك بأن مخالفة الأمر الواجب معصية، وأن الجزاء حق وعدل بسبب المعصية، لكنها معصية من نوع خاص بترتيب وتدبير وإرادة الله عز وجل، وفي حال نسيان آدم عهد الله إليه بألا يأكل من الشجرة، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ، قبل أن يخلقني، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فحجّ آدم موسى» .

لهذا تاب الله تعالى على آدم من معصيته، فقال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي ثم اصطفاه ربه وقرّبه إليه، بعد أن تاب من المعصية واستغفر ربه منها، وأنه قد ظلم نفسه، فتاب الله عليه من معصيته، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل، كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 2/ 37] وقال هو وزوجه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف 7/ 23] . قالَ: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي قال الله تعالى لآدم وحواء: انزلا من الجنة إلى الأرض معا، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض في أمر المعاش ونحوه، مما يؤدي ذلك إلى وقوع الخصام والنزاع والاقتتال. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أي فإن يأتكم أيها البشر مني هدى بواسطة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب، فمن اتبع الهدى، فلا يضل عن الصواب في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس: «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية» . وقال أيضا: «من قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية» . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ومن أدبر عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه، فإن له في هذه الدنيا عيشا ضيقا، ومعيشة شديدة منغصة، إما بشح المادة وإما بالقلق والهموم والأمراض. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أي ونحشره ونبعثه في الآخرة مسلوب البصر، أو أعمى عن الجنة وطريق النجاة، أو أعمى البصر والبصيرة، كما قال

تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء 17/ 97] . قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ أي قال المعرض عن دين الله: يا ربّ، لم حشرتني أعمى، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟ فأجابه الله تعالى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا، فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي مثل ذلك فعلت أنت، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها، تترك في العمى والعذاب في النار، ونعاملك معاملة المنسي، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف 7/ 51] فإن الجزاء من جنس العمل. قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. أخرج الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من رجل قرأ القرآن، فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم» «1» . وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أي وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، ولعذاب الآخرة في النار أشد ألما من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه. قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ [الرعد 13/ 34] .

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 169.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت قصة آدم عليه السلام على ما يلي: 1- قد يرتكب الإنسان معصية مخالفا أمر الله في حال النسيان والسهو عن عهد الله بطاعته، والنسيان مرفوع عنا الحرج والإثم فيه. قال ابن زيد: نسي آدم ما عهد الله إليه في ذلك اليوم، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. 2- أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتشريف وتكريم، لا سجود عبادة، وأبى إبليس السجود مع الملائكة تكبرا واستعلاء وحسدا. 3- لا شك بأن الجنة ذات نعيم مطلق، فلا تعب ولا عناء في الحصول على الملذات والرغبات، ومن أهمها الشبع والكساء والري والسكن أو المأوى، على عكس حال الدنيا التي ترتبط أصول المعايش هذه فيها بالجهد والمشقة. 4- كانت وسوسة الشيطان لآدم بالأكل من الشجرة سببا في المخالفة والإخراج من الجنة والهبوط إلى الأرض. 5- لا يجوز الحديث عن ذنوب الأنبياء إلا بالقدر المذكور في القرآن الكريم أو السنة النبوية الثابتة، قال بعض العلماء من المالكية: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم (أي بعض الأنبياء) ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم، وتنصّلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة.

ولقد أحسن الجنيد حين قال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فهم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله على نبينا وعليهم وسلامه «1» . 6- أما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول: تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدّر الله علي ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه «2» . 7- لقد اجتبى الله تعالى آدم وهداه بعد العصيان، فإن وقع هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، وإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه، لم يضر ما سلف منهم من الذنوب. 8- أمر الله تعالى آدم وزوجه حواء بالهبوط إلى دار الدنيا، والدنيا دار تكليف وتنافس وتزاحم ومعاداة، وسبيل التقويم والتميز: الالتزام بهداية الله، فمن اهتدى بهداية الرسل والكتب الإلهية فقد رشد، ولا يضل عن الصواب، ولا يشقى في الآخرة. ومن أعرض عن دين الله، وتلاوة كتابه، والعمل بما فيه، كان له عيش ضيق مشحون بالعذاب النفسي والجسدي والعقلي، ويحشر يوم القيامة أعمى البصر والبصيرة، لا يدرك طريق النجاة، ويزج به في عذاب جهنم.

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 255. (2) المصدر السابق: 11/ 257.

الاعتبار بهلاك الأمم الماضية والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم وأمر الأهل بالصلاة [سورة طه (20) الآيات 128 إلى 132] :

9- لا عذر للكافر يوم القيامة بعد أن أتته الآيات والدلائل على إثبات وحدانية الله وقدرته ووجوب العمل بشرعه، فإذا ما تركها ولم ينظر فيها، ترك في العذاب في جهنم. وهكذا يعاقب كل من أعرض عن القرآن، وعن النظر في مصنوعات الله، والتفكر فيها، وجاوز الحد في المعصية، ولم يصدق بآيات ربه، علما بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا حال الحياة أو في القبر، وأدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي. الاعتبار بهلاك الأمم الماضية والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم وأمر الأهل بالصلاة [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 132] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) الإعراب: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ فاعل يَهْدِ مقدر، وهو المصدر، أي: أفلم يهد لهم الهدى أو الأمر. وكَمْ في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وهو مفعول مقدم، أي كم قرية. وكَمْ خبرية. ويَمْشُونَ جملة حال من ضمير لَهُمْ

البلاغة:

وَأَجَلٌ معطوف بالرفع على كَلِمَةٌ أي: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان العذاب لزاما، أي لازما لهم، ففصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجواب لولا: وهو كان واسمها وخبرها. وَأَطْرافَ النَّهارِ معطوف على محل مِنْ آناءِ. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا منصوب لثلاثة أوجه: الأول- بتقدير فعل دل عليه مَتَّعْنا الذي هو بمنزلة جعلنا فكأنه قال: وجعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا. والثاني- النصب على الحال، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، مثل قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص 112/ 1- 2] والْحَياةِ بدل من ما في قوله إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أي: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة، أي في حال زهرتها. والثالث- النصب على البدل من هاء بِهِ على الموضع، كما يقال: مررت به أباك. البلاغة: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا تشبيه تمثيلي، شبه متاع الحياة الدنيا ونعيمها بالزهر الجميل الذي يذبل وييبس. المفردات اللغوية: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي أفلم يتبين لهم- لكفار مكة- العبر. كَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا إهلاكنا. الْقُرُونِ الأمم الماضية، لتكذيب الرسل. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يسيرون فيها، ويشاهدون آثار إهلاكهم أثناء سفرهم إلى الشام وغيرها، فيعتبروا لَآياتٍ لعبرا. لِأُولِي النُّهى لذوي العقول. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة. لَكانَ لِزاماً لكان الإهلاك لازما لهم في الدنيا، لا يتأخر عنهم. وَأَجَلٌ مُسَمًّى معطوف على كَلِمَةٌ أي ولولا الوعد بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم القتل في المعركة في الدنيا كبدر، لكان العذاب لازما. ويجوز عطف وَأَجَلٌ على ضمير لَكانَ المستتر، أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه مقترنا بحمده، أو: صلّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الصبح. وَقَبْلَ غُرُوبِها صلاة الظهر والعصر أو العصر وحده. وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ساعاته، جمع إنى وإنو. فَسَبِّحْ صل المغرب والعشاء. وَأَطْرافَ النَّهارِ أي صل الظهر لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف

المناسبة:

النصف الأول وطرف النصف الثاني. لَعَلَّكَ تَرْضى متعلق بسبح، أي سبّح في هذه الأوقات، طمعا أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطيلن نظر عينيك رغبة واستحسانا إلى ما في أيدي الآخرين من متع الدنيا، وتتمنى أن يكون لك مثله. أَزْواجاً أصنافا وأشكالا. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا زينتها وبهجتها. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم ونختبرهم فيه. وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ما ادّخره لك في الآخرة، أو ما رزقك من الهدى والنبوة. خَيْرٌ مما منحهم في الدنيا. وَأَبْقى أدوم لا ينقطع. وَاصْطَبِرْ اصبر وداوم عليه. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرغ بالك لأمر الآخرة. وَالْعاقِبَةُ المحمودة وهي الجنة. لِلتَّقْوى لأهل التقوى أو لذويها. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى حال من أعرض عن ذكر الله، في الآخرة، أتبعه بما هو عبرة للناس من أحوال المكذبين بالرسل في الدنيا، كقوم عاد وثمود، ثم أبان فضله تعالى بتأخير العذاب عن الكافرين والعصاة إلى الآخرة، ثم أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين، وبمداومة الصلاة والتسبيح ليلا نهارا، ونهاه عن تمني ما عند الكفار من متع الدنيا، ثم أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة، روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أصاب أهله ضر، أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية. التفسير والبيان: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي أفلم يتبين لهؤلاء المكذبين أهل مكة بما جئتهم به يا محمد إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا ولم يبق لهم أثر، كعاد وثمود وأصحاب الحجر وقرى قوم لوط الذين يتقلبون في ديارهم أو يمشون في مساكنهم، ويشاهدون آثارهم المدمرة، فإن في ذلك لعبرا وعظات

توجب الاعتبار لذوي العقول الصحيحة التي تنهى أصحابها عن القبيح، وتدرك احتمال أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك. ونظير الآية قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة 32/ 26] . ثم بيّن الله تعالى سبب تأخير العذاب عنهم، فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً، وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي ولولا الكلمة السابقة النافذة من الله في الأزل، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الدار الآخرة، لكان عقاب ذنوبهم لازما لهم، لا ينفك عنهم بحال، ولا يتأخر، ولولا الأجل المسمى عندنا لكان الأخذ العاجل. لهذا قال الله لنبيه مسليا له وآمرا له بالصبر: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله، من أنك ساحر كذاب، أو مجنون، أو شاعر، ونحو ذلك من أباطيلهم ومطاعنهم، لا تأبه بهم، فإن لعذابهم وقتا معينا لا يتقدم، واشتغل بتنزيه ربك وحمده وشكره وأداء الصلوات الخمس المفروضة قبل طلوع الشمس، أي صلاة الفجر، وقبل غروبها، أي صلاة العصر والظهر، ومن ساعات الليل أي صلاة العشاء والمغرب والتهجد أواخر الليل، وفي أطراف النهار، أي صلاة الفجر والمغرب تأكيدا لهاتين الصلاتين الواقعتين في طرفي النهار، كالتأكيد على (الصلاة الوسطى) وهي العصر، سبّحه رجاء أن

تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك من الثواب، كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى 93/ 5] . أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عمارة بن رؤيبة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» . وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا، وقرأ هذه الآية» . وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربّنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» . دلت الآية على أن سبيل التغلب على تكذيب المكذبين الكافرين المعاندين هو الصبر لما فيه من قوة الإرادة، ثم التسبيح والتحميد والصلاة والتكبير باعتبارها مقوية للروح والصلة بالله تعالى، فنزول عن النفس والجسد المتاعب والآلام والهموم. والاستعلاء بالروح يستتبع الانصراف عن متع الحياة الدنيا، لذا قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ولا تنظر أو لا تطل النظر إلى ما عند هؤلاء المترفين من النعيم ومتع الدنيا من زينة وبهجة من مال وبناء ورياش ومراكب، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك، ونتعرف على من يؤدي

واجب شكر النعمة، واجعل همتك فيما عند الله، فقد آتاك ربك خيرا مما آتاهم، فقد يسر لك رزقك في الدنيا، وثواب الله وما ادخر لك في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر 15/ 87- 88] وليس المقصود بالآيتين التكاسل عن طلب الرزق، ولكن النهي عن تمني مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا، والانشغال بها، وترك العمل للآخرة، بل إننا نعمل للآخرة والدنيا معا. ثم أمره الله بأن يأمر أهله بالصلاة، فقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي وأمر أيها الرسول أهل بيتك واستنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها وحافظ عليها، لا نطلب منك رزقا ترزق نفسك وأهلك ولا نكلفك الطلب، بل تفرغ للعبادة والتقوى، فنحن نرزقك ونرزقهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] ، والعاقبة المحمودة، وهي الجنة لأهل التقوى والطاعة. فإذا أقمت الصلاة مع أهلك، أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] . وأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهله بالصلاة أمر للأمة قاطبة. أخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن

فقه الحياة أو الأحكام:

عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق، أمرهم بالصلاة وتلا: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ. وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك» . وروى ابن ماجه عن ابن مسعود، سمعت نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك» . وروى أيضا عن زيد بن ثابت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- يعظ الله تعالى الكفار بأن يعتبروا بأحوال الأمم الماضية الذين أهلكهم لتكذيبهم الرسل، فلربما حل بهم من العذاب مثلما حل بالكفار قبلهم. 2- لولا الحكم السابق من الله في الأزل بتأخير عذاب أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم القيامة، لكان العذاب لازما في الحال لمن كفر وأعرض عن آيات الله تعالى. 3- الصبر علاج حاسم على أذى الكفار المناوئين دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لذا أمر الله تعالى نبيه بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كذاب، ونحو ذلك، وألا يحفل بهم فإن لعذابهم وقتا محددا معينا لا يتقدم ولا يتأخر.

4- قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... يراد به في رأي الأكثرين الصلوات الخمس المفروضة، فصلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر قبل الغروب، ومعها الظهر لأنها تجمع معها، وصلاة العشاء في ساعات الليل، وكذا صلاة المغرب. ويرى آخرون أن قوله تعالى: وَأَطْرافَ النَّهارِ إشارة إلى المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث: غروب الشمس وهو وقت المغرب. 5- إن أداء الصلوات في أوقاتها من رضوان الله، وسبب للثواب العظيم، وقد جعل تعالى الثواب واسعا غير محدود على فعل الصلوات، فقال مخاطبا نبيه، وأمته مثله: لَعَلَّكَ تَرْضى أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. 6- إن همّ المؤمن أصالة هو العمل للآخرة، وأما الدنيا فهي تبع لهذا المقصد الأصلي، على عكس الحال بالنسبة للكفار، فلا همّ لهم إلا الدنيا، لذا نهى الله نبيه عن تمني مثل ما لدى الكفار من زهرة الحياة الدنيا من المال والمباني والأثاث والمراكب وغيرها، فهذا ابتلاء واختبار لهم، ليكون جحودهم ونكرانهم نعم الله سببا لعذابهم في الآخرة. ويلاحظ التسلسل المنطقي في هذه الأحكام والآيات الدالة عليها، فقد وبخ الله تعالى الكفار على ترك الاعتبار بالأمم السابقة، ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه باحتقار شأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك زائل عنهم، صائر إلى خزي. وختم ذلك بتسلية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى لأنه يبقى والدنيا تفنى. 7- أمر الله نبيه بأن يأمر أهله بالصلاة وبالمحافظة عليها وملازمتها،

اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أو إرسال رسول وتهديدهم بمآل المستقبل [سورة طه (20) الآيات 133 إلى 135] :

ويدخل في عموم خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جميع أمته وأهل بيته على التخصيص. وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول: «الصلاة» . وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئا من أحوال السلاطين بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.. الآية، ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله. 8- نهى الله تعالى نبيه أن يشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل تكفل له برزقه ورزق أهله، فكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل بأهله ضيق، أمرهم بالصلاة، وقد قال الله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 56- 58] . 9- إن العاقبة الجميلة المحمودة وهي الجنة لأهل التقوى. وأما عاقبة غيرهم فهي مذمومة كالمعدومة. اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أو إرسال رسول وتهديدهم بمآل المستقبل [سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135] وَقالُوايَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) الإعراب: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ بغير تنوين مضاف إلى ما. ومن قرأ بتنوين، جعل ما في موضع نصب بدلا من بَيِّنَةُ.

البلاغة:

مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ مَنْ استفهامية مبتدأ، وأَصْحابُ الصِّراطِ خبره. ولا يجوز أن تكون مَنْ اسما موصولا بمعنى الذي لأنه ليس في الكلام الذي بعدها عائد يعود إليه، والجملة في موضع نصب ب فَسَتَعْلَمُونَ. البلاغة: فَتَرَبَّصُوا وعيد وتهديد. أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَقالُوا أي المشركون. هلا. يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ بمعجزة يقترحونها تدل على صدقه في ادعاء النبوة، كناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص، فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأتقنها لأن حقيقة المعجزة: اختصاص مدّعي النبوة بنوع من العلم أو العمل، على وجه خارق للعادة، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرا، وأبقى أثرا، والقرآن محقق لذلك. ونبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجاز القرآن: وهو الإخبار عن الأمم السابقة، فقال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، فإن اشتماله على خلاصة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية، مع أن الآتي بها أمي، لم يرها ولم يتعلم من علمائها، إعجاز بين وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته، برهان لما تقدمه من الكتب، من حيث إنه معجز، وهي ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد بصحتها. فقوله: بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي بيان ما اشتملت عليه، وأخبار الأمم الماضية التي أهلكت بتكذيب الرسل، في القرآن. مِنْ قَبْلِهِ قبل محمد الرسول. لَقالُوا يوم القيامة. هلا. آياتِكَ المرسل بها. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ نهان في الدنيا بالقتل والسبي. أو في القيامة. وَنَخْزى نفتضح بدخول النار جهنم يوم القيامة. قُلْ: كُلٌّ قل لهم: كل واحد منا ومنكم. مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر. فَسَتَعْلَمُونَ في القيامة. الصِّراطِ السَّوِيِّ الطريق المستقيم. وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، أنحن أم أنتم؟ !

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر على ما يقوله المشركون، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح والتحميد، وأتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متع به القوم، ذكر هنا بعض أقاويلهم الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أوضح لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بيّنة، وأنه لو أهلكناهم لطلبوا إرسال، ثم هددهم وأوعدهم بما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، ويتميز المحق من المبطل. التفسير والبيان: كان المشركون يكثرون من اقتراح الآيات على النبي للتعجيز والعناد والمضايقة بسبب عدم إيمانهم، وعدم الاكتفاء بالمعجزات التي يرونها، فقال تعالى واصفا تعنتهم: وَقالُوا: يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي وقال الكفار المشركون: هلا يأتينا محمد بآية من ربه دالة على صدقه في أنه رسول الله، كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء، من الآيات التي اقترحناها عليه؟ مثل ناقة صالح وعصا موسى، وإحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فأجابهم الله: ألم يأتهم القرآن المعجزة الباقية الخالدة، وهو البينة والشاهد على صحة ما في الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة المشتملة على العقيدة والأحكام التشريعية، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم؟! ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت 29/ 50- 51] . وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . وقد ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو القرآن وإلا فله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر. وسيعترف المشركون يوم القيامة بأن القرآن آية بينة كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، لَقالُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى أي ولو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل بعثة هذا الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنزال هذا الكتاب العظيم، لقالوا يوم القيامة: يا ربنا هلا كنت أرسلت إلينا رسولا في الدنيا، حتى نتبع آياتك التي يأتي بها الرسول من قبل أن نذل بالعذاب في الدنيا ونخزى بدخول النار؟ والآية دليل على أن التكليف والعقاب لا يكون قبل مجيء الشرع. والحق أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون، لا يؤمنون ولو جاءتهم الآيات تترى، كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 109- 110] . قُلْ: كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ، فَتَرَبَّصُوا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى أي قل يا محمد لهؤلاء الذين كذبوك وخالفوك واستمروا على كفرهم وعنادهم: كل واحد منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه الأمر، فانتظروا أنتم، فستعلمون عن قريب في عاقبة الأمر، من هو على الطريق الحق المستقيم، أنحن

فقه الحياة أو الأحكام:

أم أنتم؟ وستعلمون من المهتدي من الضلالة، البعيد عن الغواية، السائر على منهج الحق والرشاد؟ وهذا كقوله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 42] وقوله سبحانه: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر 54/ 26] . والآية التي ختمت بها السورة مشتملة على وعيد وتهديد وزجر للكفار، وهي مناسبة لبدء السورة المتضمن قيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتبليغ رسالته حتى أتعب نفسه، وما على أهل البلاغ إلا الطاعة، فإن أطاعوا نجوا، وإن أعرضوا هلكوا، وسيتبين لهم الحق من الباطل، وقد تبين لجماعات كثيرة من الكفار في التاريخ خطؤهم وسوء حالهم وعاقبة كفرهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- تكاثرت اقتراحات الكافرين من أهل مكة بأن يأتيهم محمد بآية تدل عيانا على الإيمان، أو علامة ظاهرة حسا كالناقة والعصا، أو آيات يقترحونها هم كما أتى الأنبياء من قبله. 2- كان الرد القرآني الحاسم عليهم أنه يكفيهم هذا القرآن العظيم المعجزة الخالدة، وهو المهيمن على الكتب السماوية السابقة، والمعبر عما كان فيها من عقائد وحكم وأحكام وآداب. بل إن تلك الكتب الماضية تضمنت العلامة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة. 3- لو أهلك الله الكفار قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزول القرآن، لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا، حتى نتبع آياتك من قبل هذا الذل

بالعذاب في الدنيا والخزي بدخول النار؟! وكون القول يوم القيامة لأن الهالك لا يصح أن يقول، ولذلك قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى وهو لا يليق إلا بعذاب الآخرة. والآية دليل على أنه لا عقاب قبل الشرع. 4- هدد الله الكفار بما ينتظرهم من العذاب وما يؤول إليه أمرهم، فإن كان كل فريق من المؤمنين والكافرين منتظرا دوائر الزمان ولمن يكون النصر، فسيعلم الكفار أن النصر سيكون لمن اهتدى إلى دين الحق.

سورة الأنبياء:

[الجزء السابع عشر] بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الأنبياء مكية، وهي مائة واثنتا عشرة آية تسميتها: سميت سورة الأنبياء لتضمنها الحديث عن جهاد الأنبياء المرسلين مع أقوامهم الوثنيين، بدءا من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بإسهاب وتفصيل، ثم إسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون: يونس، وزكريا، وعيسى، إلى خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذلك بإيجاز يدل على مدى ما تعرضوا له من أهوال وشدائد، فصبروا عليها، وضحوا في سبيل الله، لإسعاد البشرية. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من ناحيتين: الأولى: الإشارة إلى قرب الأجل المسمى للعذاب، ودنو الأمل المنتظر، فقال تعالى في آخر سورة طه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ثم قال: قُلْ: كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا وقال تعالى في مطلع هذه السورة: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.

والثانية:

والثانية: التحذير من الاغترار بالدنيا، والعمل للآخرة، فقال تعالى في آخر سورة طه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا.. فإن قرب الساعة يقتض الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا لدنوها من الزوال والفناء، وختمت سورة الأنبياء بمثل ما بدئت به السورة المتقدمة، فأبان الله تعالى أنه بالرغم من قرب الساعة والحساب، فإن الناس غافلون عنها، ولاهون عن القرآن والاستماع إليه. فضلها ومزيتها: ورد في فضل هذه السورة أحاديث صحاح منها: ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: «بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن من العتاق الأول، وهن من تلادي» أي من قديم ما حفظ من القرآن، كالمال التّلاد. ولما نزلت هذه السورة قيل لعامر بن ربيعة رضي الله عنه: هلا سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا» . مشتملاتها: موضوع السورة بيان أصول العقيدة الإسلامية ومبادئها وهي التوحيد، والرسالة النبوية، والبعث والجزاء، وقد بدأت بوصف أهوال القيامة، ثم ذكرت قصص جملة من الأنبياء الكرام عليهم السلام، كما تقدم. كانت البداية مرهبة مرعبة، منذرة محذّرة بقرب قيام الساعة، والناس لاهون غافلون عنها وعن خطورة الحساب والعقاب، معرضون عن سماع القرآن، مفتونون بلذائذ الحياة الدنيا.

ثم أوضحت السبب في إنكار المشركين في مكة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وهو أنه بشر مثلهم، وعجزه عن الإتيان بآيات فذة ومعجزات باهرة مادية، كما أتى بها الأنبياء السابقون مثل موسى وعيسى، فرد القرآن عليهم بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ثم أنذرهم بالإهلاك، كما أهلك بعض الأمم المتقدمة لتكذيبهم رسلهم، ولفت أنظارهم إلى عظمة خلق السموات والأرض، وإلى أن الملائكة طائعون لله، منقادون لأمره، ينفّذون ما أمروا به من التعذيب بسرعة لا تعرف التردد والانتظار، ونعى على من ادعى أنهم بنات الله تعالى. ثم ناقشهم القرآن في اتخاذهم آلهة من دون الله، وطالبهم بالدليل على ادعائهم، وأقام البرهان على وحدانية الله إذ لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، ووصف النشأة الأولى للسموات والأرض، وأنهما كانتا رتقا ففصلتا، وأبان أن الجبال أوتاد للأرض حتى لا تميد بأهلها، وأن الله تعالى خالق الليل والنهار والشمس والقمر، ثم تكون النهاية الموت والفناء لكل شيء، حتى للملائكة والأنبياء، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأوضح أن استعجال الكافرين العذاب غباء وطلب في غير محله فإن العذاب قريب، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنها تأتيهم بغتة فتبهتهم، وأن موازين الحساب دقيقة وفي أتم عدل، فلا يبخس أحد شيئا من حقه، ولا يظلم إنسان مثقال حبة من خردل. وتحقيقا لهاتيك الغايات وتأكيدا عليها، جاءت الأمثال الواقعية تنذر وتذكّر، من خلال إيراد قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون، وإبراهيم ولوط، وإسحاق ويعقوب، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب وإسماعيل، وإدريس وذي الكفل، ويونس وزكريا ويحيى، وعيسى عليهم السلام. وأثبت القرآن عقب ذلك وحدة مهام الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة الله، وتطمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن، وأن الأمم المعذبة في الدنيا سترجع حتما إلى الله في الدار الآخرة لعذاب آخر.

غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة ودليل ذلك [سورة الأنبياء (21) الآيات 1 إلى 6] :

ومن علائم الساعة انفتاح سد يأجوج ومأجوج. وفي القيامة عذاب شديد، وأهوال شديدة يلقاها الكفار، وأنهم مع أصنامهم حطب جهنم، وفيها تتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السموات كطي الكتب، ويحظى الصالحون بالنعيم الأبدي، ويرث الأرض من هو أصلح لعمارتها. وختمت السورة ببيان كون النبي صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأنه أوحي إليه بأن الإله واحد لا شريك له، وأنه يجب الانقياد لحكمه، وأنه ينذر الناس بعذاب قريب وأن مجيء الساعة واقع محتم، وأن الإمهال به وتأخير العقوبة امتحان واختبار، وأن الله يحكم بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين أعدائه المشركين، وأنه المستعان على افتراءاتهم واتهاماتهم. غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة ودليل ذلك [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)

الإعراب:

الإعراب: مُحْدَثٍ صفة ذِكْرٍ وأجاز الفرّاء رفعه على النعت حملا على موضع مِنْ ذِكْرٍ ومِنْ: زائدة، مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف 7/ 59 وغيرها] وأجاز الكسائي نصبه على الحال. وَهُمْ يَلْعَبُونَ جملة اسمية في موضع حال من واو اسْتَمَعُوهُ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ لاهِيَةً: حال من ضمير يَلْعَبُونَ وقُلُوبُهُمْ: فاعله، مثل وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الأنعام 6/ 141] لأن اسم الفاعل إذا وقع حالا ارتفع الاسم به كالفعل. وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ إما مرفوع أو منصوب أو مجرور، والرفع إما على أنه بدل من واو أَسَرُّوا وإما أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين ظلموا، وإما أنه مبتدأ خبره محذوف أي يقولون: ما هذا إلا بشر، وإما فاعل أسروا على لغة «أكلوني البراغيث» والنصب بتقدير: أعني، والجر على أنه نعت ل «الناس» . هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الكلام كله في محل نصب بدلا من النجوى، أي وأسروا هذا الحديث، ويجوز أن يتعلق بقالوا بمعنى اعتقدوا. البلاغة: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ التنكير للتعظيم والتهويل. السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة. بَلْ قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ فيه إضراب ترقي، يدل على أن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وذلك كله دليل الاضطراب والتردد والتحرير في وصف القرآن، وتزييف الحقائق. المفردات اللغوية: اقْتَرَبَ قرب أي اقترب زمان الحساب، والمراد اقتراب الساعة، وأصله: اقترب حساب الناس، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. لِلنَّاسِ أي جميع المكلفين من الناس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المراد بالناس: المشركون، وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه، بدليل الوصف التالي: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

سبب النزول نزول الآية (6) :

مُعْرِضُونَ وصفهم بالغفلة مع الإعراض، والغفلة في الأصل: عدم تذكر الشيء، والمراد هنا: الترك إهمالا وإعراضا. والإعراض: الإضراب والتولي عن الشيء، والمراد هنا الإعراض عن التأهب للحساب بالإيمان. مِنْ ذِكْرٍ أي قرآن ينبّه من الغفلة والجهالة مُحْدَثٍ أي جديد إنزاله، منزّل شيئا فشيئا، أتى به لتكرير التنبيه لأسماعهم كي يتعظوا يَلْعَبُونَ يستهزئون ويسخرون لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ غافلة ساهية متشاغلة عن التأمل وتفهم معناه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي أسروا التناجي والكلام، والمراد: أنهم أخفوا التناجي وبالغوا في الإخفاء هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي أسروا هذا الحديث، أو قالوا بمعنى اعتقدوا، والمراد: هل هذا أي محمد إلا بشر مثل الناس، وكل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحر، ولذلك قالوا: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أتتبعون السحر، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟! قالَ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي قال لهم محمد: الله يعلم القول كائنا في السماء والأرض، جهرا كان أو سرا، فضلا عما أسرّوا به وَهُوَ السَّمِيعُ لما أسروه الْعَلِيمُ بما قالوا، فلا يخفى عليه ما تسرون، ولا ما تضمرون. بَلْ للانتقال من غرض إلى آخر، ولا تذكر في القرآن إلا على هذا النحو قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي إنهم قالوا: إن ما أتى به من القرآن تخاليط أحلام رآها في النوم، فهم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه أخلاط أحلام بَلِ افْتَراهُ أي اختلقه من عنده، فهم أضربوا ثانية إلى أنه كلام افتراء بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي ثم أضربوا إلى أنه قول شاعر، فما أتى به هو شعر، والانتقال في المواضع الثلاثة للدلالة على التردد والتحير في وصف القرآن فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ.. أي كناقة صالح، وعصا موسى ويده، ومعجزات عيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي ما آمن أهل قرية أهلكناها بتكذيب ما أتاها من الآيات التي جاءتهم لما اقترحوها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لو جئتهم بها، وهم أعتى منهم؟ لا. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به، ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم. سبب النزول: نزول الآية (6) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كان ما تقول حقا، ويسرّك أن تؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل عليه

التفسير والبيان:

السلام، فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثمّ لم يؤمنوا، لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بل أستأني بقومي، فأنزل الله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ. التفسير والبيان: ينبه الله تعالى على اقتراب الساعة ودنوها فيقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.. أي قرب زمان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا، وهو اقتراب الساعة، ولكن الناس في حياتهم ساهون غافلون، لاهون معرضون عن التأهب للحساب، والتفكر بالآخرة، بالمبادرة إلى الإيمان. والمراد بالناس في رأي ابن عباس المشركون منكرو البعث، بدليل قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ إلى قوله: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وذلك للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه. والظاهر أن لفظ الآية يتناول عموم الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، بدليل ما بعد ذلك من الآيات، فتكون الآية لوقف الأطماع، والحث على الإقبال على الإيمان، فمن علم اقتراب الساعة، بادر إلى التوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. قال الرازي: يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون، دون من لا مدخل له. روي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبني جدارا، فمرّ به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ

مُعْرِضُونَ فنفض يده من البنيان، وقال: والله، لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. وفي الآية دليل على قرب القيامة، لذا قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس: «بعثت أنا والساعة كهاتين» . ثم استدل الله تعالى على غفلة الناس، فقال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ما يأتي أولئك الكفار من قريش وأشباههم من قرآن جديد إنزاله، ينزل سورة سورة، وآية آية، على وفق المناسبات والوقائع، إلا استمعوه وهم لاهون ساخرون مستهزءون، متشاغلة قلوبهم عن التأمل وتفهم معناه. وهذا ذم صريح للكفار، وزجر لأمثالهم عن تعطيل الانتفاع بما يحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة. وقوله مُحْدَثٍ لا يوهم كون القرآن مخلوقا، فإن الحروف المنطوق بها، والصوت المسموع حادث بلا شك، وأما أصل القرآن الذي هو كلام الله تعالى النفسي فهو قديم بقدم الله تعالى وصفاته القدسية. ثم وصف الله تعالى موقف الكفار عند نزول القرآن فقال: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي وأخفوا التناجي والكلام فيما بينهم، بل وبالغوا في الإخفاء حتى لا يطلع أحد على تناجيهم، قائلين: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟ أي هل محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بشر كغيره من الناس، أمثالكم في تكوينه وعقله وتفكيره، فكيف يختص بالرسالة دونكم؟ وهذا ناشئ من اعتقادهم أن الرسول النبي لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من

البشر، وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أي أفتتبعونه، فتكونون كمن يأتي السحر، وهو يعلم أنه سحر، أو أتصدقون بالسحر، وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر؟! فهم يستبعدون كون رسول الله صلّى الله عليه وسلم نبيا لأنه بشر مثلهم، والرسول لا يكون إلا ملكا، وأما ما أتى به من القرآن فهو سحر. وإنما أسروا الحديث بينهم في ذلك للتشاور في المخلص، والتوصل إلى أنجع الطرق لهدم دينه. فأجابهم تعالى عما افتروه واختلقوه من الكذب بقوله: قالَ: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي قال لهم الرسول بأمر من الله مفتضحا أسرارهم: لا تخفوا ما تقولون، فإن الله ربي وربكم يعلم ذلك، لا يخفى عليه خافية من أمر السماء والأرض وما يحدث فيهما من أقوال وأفعال، وهو الذي أنزل القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم. وفي هذا تهديد لهم ووعيد. وإنما قال: يَعْلَمُ الْقَوْلَ ولم يقل: يعلم السر لقوله المتقدم: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى لأن القول عام يشمل السر والجهر، وعلمه بالأمرين على سواء، لا تفاوت فيه، خلافا لمعلومات الناس، فكان التعبير شاملا للعلم بالسر وزيادة، وكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ. ثم أخبر الله تعالى عن تخبط الكفار، وتعنتهم وإلحادهم، وحيرتهم وضلالهم،

وترددهم في وصف القرآن، واختلافهم في ذلك، فقال: بَلْ قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي إنهم وصفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولا بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر، ثم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في المنام، ثم إلى أنه كلام مفترى مختلق من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر. وهذا الاضطراب والتردد والتحير دليل على أن قولهم باطل، يشوه الحق، ويزيف الحقائق، فهم إما جاهلون بحقيقة ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم، أو عارفون الحقيقة، ولكنهم مكابرون يائسون يأس المهزوم المغلوب، فقالوا: إنه سحر وكذب. ولما فرغوا من تعداد هذه الاحتمالات، وترداد هذه المزاعم قالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي إن كان محمد صادقا في أنه رسول من عند الله، وأن القرآن الموحى به إليه كلام الله، فليأتنا بآية جلية غير القرآن، لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات، كالآيات المنقولة عن الأنبياء السابقين، مثل ناقة صالح، وآيات موسى كالعصا واليد، وعيسى كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ونحو ذلك من المعجزات الحسية التي تثبت النبوة والرسالة. وقوله: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ يدل على أن تلك الآيات مسلّم بها عندهم، وتحقّق المقصود. ثم أجابهم تعالى عن هذا السؤال الأخير مفندا كذبهم، ومشيرا إلى عدم إفادة الآيات المنزلة، بسبب إمعانهم في الكفر، فقال: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟ أي ما أتينا أهل

فقه الحياة أو الأحكام:

قرية من القرى الذين بعث إليهم الرسل آية على يدي نبيهم، فآمنوا بها، بل كذبوا، فأهلكناهم بذلك، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ والمعنى: أنهم أشد عتوا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات، ووعدوا أنهم يؤمنون عند مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد، وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . والخلاصة: أن عدم تلبية اقتراحاتهم هو في صالحهم، إذ لو أجابهم تعالى لما طلبوا، ثم بقوا على كفرهم وعنادهم، لنزل بهم عذاب الاستئصال، إلا أن حكمة الله اقتضت تأخير العذاب عنهم إلى الآخرة. وأما سؤالهم فهو سؤال تعنت، والله يعلم أنهم لا يؤمنون. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن قيام الساعة أمر محتم لا ريب فيه، وهو قريب الحصول، وأما مرور القرون السالفة من عهد البعثة إلى يومنا هذا وإلى ما شاءالله من أزمان، فلا يدل على طول المدة لأن هذه القرون قصيرة جدا في عمر الدهر والتاريخ، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. 2- الناس مع الأسف وبالرغم من قرب القيامة في غفلة وإعراض، أما الغفلة: فهي السهو عن الحساب وعن التفكر في العاقبة المحتومة، مع أن عقولهم تقتضي أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء.

وأما الإعراض: فهو الإمعان في البعد عن القرآن وترك آياته وعدم الإيمان بالله، بالرغم من الانتباه من الغفلة والجهالة. 3- لقد عطل كفار قريش مفاتيح الهداية والانتفاع بنور القرآن، وهزؤوا وسخروا من آيات الله التي تأخذ بيدهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية. 4- احتج المعتزلة على حدوث القرآن بقوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.. فقالوا: القرآن ذكر، والذكر محدث، فالقرآن محدث. وأجابهم أهل السنة بأن المقصود بالإحداث: هو ما يسمع من حروف القرآن وأصواته، فهذا حادث لا شك. أما القرآن الذي هو كلام الله تعالى فهو قديم بقدم الله سبحانه وصفاته الحسنى. 5- طعن كفار قريش في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بأمرين: أحدهما- أنه بشر مثلهم. والثاني- أن الذي أتى به سحر. وكلا الطعنين مردود لأن النبوة تثبت بالمعجزات والدلائل، لا بالصور، فكونه بشرا لا يمنع نبوته، ولو بعث إليهم الملك لما علم كونه نبيا لمجرد صورته، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا لأن الإنسان يأنس بأمثاله، وهو أقرب إلى قبول الشيء من أشباهه. ثم إن ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلم من القرآن وغيره لا تمويه فيه ولا تلبيس، وليس فيه شيء من ظواهر السحر، فقد تحداهم صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، فلو قدروا على المعارضة لأتوا بما يشبه القرآن، فلما لم يأتوا بمثله، دل ذلك على كونه معجزة في نفسه. 6- الحق أن قلوب الكفار ساهية معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل

والتفهم لمعاني القرآن، وقد تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، وتشاوروا، فما صدر عن مشاوراتهم أعجب من موقفهم، فوصفوا محمدا صلّى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وبأن ما أتى به سحر، وقالوا: فكيف تجيئون إليه وتتبعونه، وأنتم تشاهدون أنه إنسان مثلكم؟! 7- أطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلم على ما تناجوا به، وأعلمهم بأن الله لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض، فسواء أسروا القول أم جهروا به، فإن الله به عليم. 8- صور القرآن الكريم اضطراب كفار قريش وترددهم وحيرتهم في وصف النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وفي وصف القرآن بأشد أنواع الاستهجان، فقالوا: إنه ساحر وما أتى به سحر، ثم قالوا: إن ما أتى به أخلاط كالأحلام المختلطة، رآها في المنام، ثم قالوا: إنه افتراء، ثم قالوا: إنه شاعر، فهم متحيرون لا يستقرون على شيء، قالوا مرة: سحر ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراء، ومرة شاعر. ثم عدلوا عن ذلك إلى المطالبة بالآيات على صدق نبوته كالآيات التي ظهرت على يد موسى كالعصا واليد، ومثل ناقة صالح، ومثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بوساطة عيسى، وإنما كان سؤالهم تعنتا، فقد أعطاهم الله ما فيه الكفاية. 9- اقتضت حكمة الله ورحمته تأخير العذاب عن الكفار المنكرين للبعث ولبعثة محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ لو أجابهم تعالى إلى مطلبهم، لعجل لهم عذاب الاستئصال، كما فعل بأهل القرى المتقدمين مثل قوم صالح وقوم فرعون، فإنهم ما آمنوا بالآيات، فاستؤصلوا، فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا لما سبق من القضاء في علم الله بأنهم لا يؤمنون أيضا وإنما تأخر عقابهم لعلمه تعالى بأن في أصلابهم من يؤمن.

بشرية الرسل وإنجاز الوعد لهم وجعل القرآن عظة [سورة الأنبياء (21) الآيات 7 إلى 10] :

بشرية الرسل وإنجاز الوعد لهم وجعل القرآن عظة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) الإعراب: فِيهِ ذِكْرُكُمْ ذِكْرُكُمْ: مرفوع بالظرف، ويجوز كونه مبتدأ، وفِيهِ خبره، والجملة في موضع نصب لأنها وصف كتاب. جَسَداً على حذف مضاف أي ذوي جسد، فتوحيد الجسد على حذف مضاف، أو لإرادة الجنس أو لأنه مصدر في الأصل. لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسدا. البلاغة: أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ إنكار توبيخي. المفردات اللغوية: أَهْلَ الذِّكْرِ هم هنا أهل الكتاب العلماء بالتوراة والإنجيل جَسَداً الجسد هو الجسم، إلا أنه لا يطلق على غير الإنسان خالِدِينَ باقين دائمين في الحياة الدنيا صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي نصرناهم على أعدائهم وأنجيناهم، والمراد: صدقناهم في الوعد فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني المؤمنين المصدقين لهم، ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته، ولذلك حمى الله العرب من عذاب الاستئصال وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ في الكفر والمعاصي، المكذبين.

المناسبة:

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا قريش كِتاباً يعني القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه سمعتكم وصيتكم، لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] أو فيه موعظتكم أَفَلا تَعْقِلُونَ تتدبرون ما فيه من المواعظ والعبر، فتؤمنوا به. المناسبة: هذه الآيات جواب لقول كفار قريش: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو أن سنة الله تعالى في الرسل قبل محمد صلّى الله عليه وسلم إرسال رجال من البشر أنبياء، فلا يكون الرسول إلا بشرا، خلافا لما ينكرون، فلا يصح اعتراضهم في كون محمد بشرا. التفسير والبيان: يرد الله تعالى على من أنكر بعثة الرسل من البشر بقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ ... أي إن جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر، ولم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال تعالى في آية أخرى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف 12/ 109] وقوله سبحانه: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 9] وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم الذين قالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن 64/ 6] . فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم في شك من كون جميع الرسل بشرا، فاسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ فالله يأمرهم أن يسألوا علماء الكتب السابقة عن حال الرسل المتقدمة، لتزول عنهم الشبهة، وليعلموا أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا. وإنما أحالهم على أولئك لأن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، ويثقون بقولهم، ويلتقون معهم في معاداته قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران 3/ 186] . وإنما كانوا بشرا ليتمكن الناس من تلقي الوحي عنهم، والأخذ بيسر بما نزل عليهم. وهذا نص صريح في بشرية الرسل وفي كونهم رجالا لا نساء. وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَما كانُوا خالِدِينَ أي وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين كالملائكة، بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام، وما كانوا مخلّدين باقين في الدنيا، ونظير الآية: وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان 25/ 7] وقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان 25/ 20] . وهذا نفي لما اعتقدوا أن من صفات الرسل الترفع عن الحاجة إلى الطعام، فهم كانوا بشرا يأكلون الطعام، ويتصفون بكل الصفات الإنسانية، ويطرأ عليهم الحزن والسرور، والمرض، والنوم واليقظة، والحياة والموت، فلا خلود لهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء 21/ 34] . ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ ... أي إننا نصون حياة الرسل وكراماتهم، ونصدقهم في الوعد الذي نعدهم به من النصر على أعدائهم، وإهلاك الظالمين، وننجيهم ومن نشاء من أتباعهم المؤمنين بهم، ونهلك المكذبين لهم، المسرفين على أنفسهم بالكفر والمعاصي، المكذبين بما جاءت به الرسل. وبعد إثبات بشرية الرسل للرد على المشركين الذين اعتقدوا بأن الرسالة من خواص الملائكة، نبّه تعالى على شرف القرآن وفضله ونفعه للناس، وحرض على معرفة قدره، فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي لقد أعطيناكم هذا القرآن العظيم

فقه الحياة أو الأحكام:

المشتمل على دستور الحياة الإنسانية الفاضلة، فيه شرفكم وصيتكم وسمعتكم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] أو فيه عظتكم وتذكيركم بمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم، والأخذ بأيديكم إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون أمركم، وتقدرون هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، وتتفكرون بما اشتمل عليه هذا القرآن من العظات والعبر، فتأخذوا بما فيه، وتتجنبوا ما حذره وما نهى عنه. وفي هذا حث شديد على تدبر أحكام القرآن وتعقل ما جاء فيه من أمور الدنيا والدين والحياة. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآيات على ما يأتي: 1- الأنبياء والرسل من جنس البشر، وليسوا من الملائكة، ليسهل الأخذ عنهم، ومناقشتهم وتفهم الموحى به إليهم، فقد ثبت بالتواتر والاستقراء والتتبع أن الرسل كانوا من البشر. 2- إن سؤال أهل العلم واجب، وعلى العامة تقليد العلماء، وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن الأعمى لا بدّ له من تقليد غيره ممن يثق به في الاتجاه إلى القبلة إذا أشكلت عليه، وكذلك كل من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به، لا بد له من تقليد أحد العلماء. ولا يجوز للعامة الفتيا في الدين، للجهل بالمعاني التي يرتكز عليها التحليل والتحريم. 3- لم يجعل الله تعالى الرسل بصفات منافية لطباع البشر، لا يحتاجون إلى طعام وشراب، بل هم كغيرهم من البشر يأكلون الطعام، ويشربون الماء، ويمشون في الأسواق، ويتعاطون شؤون الحياة والمكاسب المتعددة.

الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق [سورة الأنبياء (21) الآيات 11 إلى 20] :

4- يصون الله تعالى حياة الأنبياء ويعصمهم من الناس، وينجز لهم وعده بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم، وينجي معهم المؤمنين المصدقين برسالاتهم، ويهلك الله المشركين المكذبين لهم. 5- إن القرآن الكريم سبب لرفعة شأن العرب لأنه نزل بلغتهم، وفيه أحكام الشرع، وبيان مصير الناس في الآخرة، وما يلقونه من ثواب وعقاب. وهو أيضا عظة وعبرة، يرغب ويبشر، ويحذر وينفر، ويأمر وينهى، ويرشد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويوضح ما فيه سعادة الدارين، ويرشد البشرية كافة إلى اتباع النظام الأصلح. 6- يحث القرآن الكريم دائما على تدبر ما جاء فيه من أحكام، وتفهم ما تضمنه من نظام سديد في الدين والدنيا والآخرة. الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 20] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)

الإعراب:

الإعراب: فَما زالَتْ تِلْكَ تِلْكَ مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا، وكذلك دَعْواهُمْ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ.. مَنْ: مبتدأ، وَلَهُ: خبره. وذهب الأخفش إلى أنه في موضع رفع بالظرف. وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ.. مبتدأ وخبر، وليس معطوفا على مَنْ فِي السَّماواتِ. فإن جعل معطوفا كان قوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ في موضع الحال، أي غير مستكبرين، وكذلك لا يَسْتَحْسِرُونَ أي غير مستحسرين. البلاغة: حَصِيداً خامِدِينَ تشبيه بليغ، أي جعلناهم كالزرع المحصود، وكالنار الخامدة. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ في قوله: نَقْذِفُ استعارة تمثيلية، شبّه الحق بشيء صلب جامد، والباطل بشيء رخو، وأستعير لفظ القذف لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل، كما يرمي الإنسان شيئا فيتلفه. المفردات اللغوية: وَكَمْ خبرية تفيد كثرة وقوع ما بعدها، فهي صيغة تكثير قَصَمْنا أهلكنا وأصل القصم: كسر بتفريق الأجزاء وإبانة تلاؤمها، وهو يدل على غضب عظيم. أما الفصم فلا يدل على تفريق الأجزاء، فهو كسر من غير إبانة مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً كافرة، وهي صفة لأهلها، ووصف بها القرية لأنها أقيمت مقام أهلها وَأَنْشَأْنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ مكانهم. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس، والضمير عائد لأهل القرية المحذوف، أي شعر أهل القرية بالإهلاك. والإحساس: الإدراك بالحاسة، وهو هنا الإدراك بحاسة البصر، والبأس: الشدة يَرْكُضُونَ يهربون مسرعين، والركض: الفرار والهرب بسرعة،

المناسبة:

وأصله: ضرب الدابة وكدّها بالرجل، ومنه قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص 38/ 42] . أُتْرِفْتُمْ أي نعمتم، والإتراف: التنعم والتلذذ، أو إبطار النعمة. وَمَساكِنِكُمْ التي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أي لتسألوا غدا عن أعمالكم أو تعذبون، فإن السؤال من مقدمات العذاب يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه ظالِمِينَ بالكفر فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمات دَعْواهُمْ أي دعوتهم التي يردّدونها، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة حَصِيداً محصودين، كما يحصد الزرع بالمناجل، بأن قتلوا بالسيف خامِدِينَ ميتين، كخمود النار إذا طفئت. لاعِبِينَ عابثين، بل دالين على قدرتنا ومرشدين عبادنا لَهْواً ما يلهى به من زوجة أو ولد. والفرق بين اللعب واللهو: أن الأول لا يقصد به هدف صحيح، والثاني يقصد به الترويح عن النفس مِنْ لَدُنَّا من عندنا من الحور العين والملائكة إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ذلك، لكنا لم نفعله فلم نرده. نَقْذِفُ نرمي رميا بعيدا بِالْحَقِّ الإيمان عَلَى الْباطِلِ الكفر فَيَدْمَغُهُ يذهبه ويقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو، وإصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ذاهب وهالك وزائل وَلَكُمُ يا كفار مكة الْوَيْلُ العذاب الشديد مِمَّا تَصِفُونَ الله به من الزوجة أو الولد. وَلَهُ لله تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لا يتعظمون وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يكلون ولا يعيون ولا يتعبون يُسَبِّحُونَ ينزهونه ويعظمونه دائما لا يَفْتُرُونَ لا يضعفون. المناسبة: هذه الآيات مبالغة في زجر الكفار عن عصيانهم وكفرهم، فبعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك المسرفين في تكذيبهم وكفرهم بالله، ونصر الأنبياء المرسلين عليهم، وأسقط اعتراضاتهم التي أظهرت إعجاز القرآن، وأوضحت أن إيراد تلك الاعتراضات كان لحب الدنيا وحب الرياسة فيها، بالغ تعالى في زجرهم عن ذلك، فقال: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أي كثيرا ما أهلكنا من أهل القرى الذين كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب

الرسل، وأوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم قوما آخرين مكانهم، كما قال تعالى في آية أخرى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء 17/ 17] وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج 22/ 45] . والمراد بالقرية: مدائن كانت باليمن، وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور، وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له: ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين لأن قصة «حضور» قبل زمن عيسى عليه السلام، وبعد مئات من السنين من زمن سليمان عليه السلام، لكنهم قتلوا نبيهم، وكانت «حضور» بأرض الحجاز من ناحية الشام «1» . فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، كما وعدهم نبيهم، إذا هم يفرون هاربين منهزمين من قريتهم، لما أدركتهم مقدمة العذاب. لا تَرْكُضُوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ... أي يقال لهم تهكما واستهزاء: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم والسرور، والمعيشة الرغيدة، والمساكن الطيبة، لعلكم تسألون عما كنتم فيه، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو يسألكم الناس: لماذا نزل هذا العذاب؟! وقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ، فأجابوا: قالُوا: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إنهم اعترفوا بذنوبهم حين

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 274

لا ينفعهم ذلك، فقالوا: يا هلاكنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بربنا. وهذا اعتراف صريح منهم بالكفر الموجب للعذاب. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ أي فما زالوا يرددون تلك المقالة، وهي الاعتراف بالظلم، حتى حصدناهم حصدا، وخمدت حركاتهم، وسكنت أصواتهم خمودا كالنار التي أصبحت خامدة لا حياة فيها. فقوله: تِلْكَ إشارة إلى قولهم: يا وَيْلَنا.. إلخ لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم. والدعوى هنا بمعنى الدعوة أي المطلب، قال تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس 10/ 10] وسميت دعوى لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا: يا وَيْلَنا والمولول كأنه يدعو الويل، فيقول: تعال يا ويل، فهذا وقتك. والحصيد: الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، تشبيها لهم به في استئصالهم، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي مثل الرماد، فهم يشبهون الحصيد والخمود. وعقابهم هذا حق وعدل جزاء إنكار هم النبوة، وجعلهم معجزات النبي عبثا ولعبا، لذا أبان تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالعدل فقال: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي وما أوجدنا السموات والأرضين إلا بالحق، أي بالعدل والقسط، لا للهو واللعب، فإنا خلقناها لفائدة دينية هي أن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ولمنافع أخرى دنيوية وغيرها، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولعبا. ونظير الآية قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص 38/ 27] ثم أكد تعالى نفي اللعب فقال:

لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ أي لو شئنا أن نتخذ ما يلهو كما يتخذ العباد من الزوج والولد، لاتخذناه مما لدينا من الملائكة والحور العين، إن كنا نقصد اللهو ونفعل اللعب. واللهو: المرأة بلسان أهل اليمن، والولد أيضا لأنه ملازم للمرأة. وهو كقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر 39/ 4] . وهذا رد على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله تعالى. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي بل إننا نبين الحق، فيدحض الباطل ويزيله، فإذا هو زائل مبدّد، ذاهب مضمحل. وبَلْ هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، فليس من صفاتنا وحكمتنا اللعب، وإنما تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، بل من عادتنا تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق. وقد استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة التي ترسخ في الأذهان، وتدل على قوة الحق، وضعف الباطل، حتى لكأنه غير موجود. وإذا كان هذا من شأننا فكيف لا نبين الحق وننذر الناس، وإلا كنا لاهين لاعبين. فقوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ معناه: ما كنا فاعلين، مثل إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر 35/ 23] أي ما أنت إلا نذير. وأَنْ بمعنى الجحد، وقيل: إنها بمعنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي ولكم أيها القائلون: لله ولد، أو أيها

فقه الحياة أو الأحكام:

المشركون الظالمون الهلاك والدمار والعذاب الشديد لوصفكم ربكم بما ليس من صفته، وتقولكم وافترائكم عليه أنه اتخذ صاحبة أو زوجة، وولدا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وكيف يكون لله شريك خاص، وهو مالك جميع من في السموات والأرض، وكيف تتنكرون لطاعته، وله تعالى جميع المخلوقات ملكا وخلقا وعبيدا؟! الكل ومنهم الملائكة طائعون خاضعون له، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا، لذا قال: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي وجميع من عنده من الملائكة لا يترفعون عن عبادته، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون. والعندية هنا ليست مكانية، وإنما هي عندية مكانة وتشريف. وتخصيص الملائكة بالذكر هنا لإبانة رفعة شأنهم. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لا يَفْتُرُونَ أي يعبدون الله وينزهونه في الليل والنهار، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه، لا ينقطعون عن الطاعة ولا يفترون ساعة عنها، كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الإنذار الشديد الأكيد لأهل الكفر والعصيان الذين أنكروا النبوات بحال أهل القرى الظالمة الكافرة، حيث دمرها الله تعالى تدميرا شديدا بمن فيها، لظلمهم، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان. 2- عند دنوّ العذاب تقع الحيرة والاضطراب، وتحدث محاولات الفرار من

القرية، فيركض أهلها هاربين منها، والركض: العدو بشدة الوطء، فتناديهم الملائكة استهزاء: لا تركضوا ولا تفرّوا، وارجعوا إلى مواطن الترف والنعم التي كانت سبب بطركم، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم. ولما قالت لهم الملائكة: لا تَرْكُضُوا ونادت: يا لثارات الأنباء! ولم يروا شخصا يكلمهم، عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم، بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وهذا اعتراف منهم بأنهم ظلموا، حين لا ينفع الاعتراف. وما زالوا يقولون: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ حتى أصبحوا أثرا بعد عين، وجثثا هامدة لا حراك فيها، وتم استئصالهم، وحصدوا بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، وصاروا خامدين ميتين. 3- لما بيّن الله تعالى إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم، أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه، ومجازاة على ما فعلوا، وهو خلق السموات والأرض بالعدل والقسط: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان 44/ 39] فهو تعالى خلقها لفوائد دينية ودنيوية، أما الدينية: فليتفكر المتفكرون فيها، كما قال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران 3/ 191] وأما الدنيوية: فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعدّ ولا تحصى. وبما أن خلق السموات والأرض حق لا لعب فيه، فإن المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلّى الله عليه وسلم هي حق أيضا لا لعب فيها، تقرر صحة نبوته، وترد على منكريها. 4- إن خلق السموات والأرض للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء والمحسن، وليس خلقها ليظلم بعض الناس بعضا،

ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا ولا يجازوا، فذلك هو اللعب بعينه. 5- تعالى الله وتقدس وتنزه عن اتخاذ الزوجة والولد، فذلك من اللهو، ولو أراد الله أن يتخذ لهوا من زوجة أو ولد لاتخذه من عنده لا من عند الناس. وهذا رد واضح على من قال: المسيح أو عزير ابن الله، والأصنام أو الملائكة بنات الله تعالى. 6- يبين الله تعالى الحق ومنهجه لدحر الباطل وزخارفه، والحق هنا: القرآن، والباطل: الشيطان وكذب الكفار ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وللكفار الويل، أي العذاب في الآخرة بسبب وصفهم الرب بما لا يجوز وصفه وهو اتخاذه سبحانه الولد. 7- إذا كان كل من في السموات والأرض لله خلقا وملكا، فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه؟! وأما الملائكة الذين ذكر المشركون أنهم بنات الله فلا يأنفون عن عبادة الله والتذلل له، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون، وهم دائما في الليل والنهار يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما، لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النّفس. سئل كعب عن تسبيح الملائكة: أما لهم شغل عن التسبيح، أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: يا بان أخي، هل يشغلك شيء عن النّفس؟ إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم «1» . وهذا دليل على استغناء الله تعالى عن طاعة الكفار لأنه هو المالك لجميع

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 278 [.....]

توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية [سورة الأنبياء (21) الآيات 21 إلى 29] :

المخلوقات، وإنما فائدة الطاعة تعود على الطائعين أنفسهم، فأجدر بهم أن يطيعوه، وأولى بهم أن يعبدوه، بل يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه لأن كل المكلفين في السماء والأرض عبيده، وهو الخالق لهم، والمنعم عليهم بأصناف النعم. توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 29] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الإعراب: مِنَ الْأَرْضِ صفة لآلهة، أو متعلقة بالفعل، على معنى الابتداء، وفائدتها التحقير لا التخصيص.

البلاغة:

لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ: إِلَّا: في موضع (غير) وهي وصف ل آلِهَةٌ وتقديره: غير الله، ولهذا أعربت إعراب الاسم الواقع بعد إِلَّا وهو الرفع. ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل لأن البدل إنما يكون في النفي لا في الإثبات، وهذا في حكم الإثبات. وذهب الفراء إلى أن إِلَّا بمعنى «سوى» . ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ذكر غير منون: مضاف إلى مِنْ الذي هو مضاف إليه. ويقرأ بتنوين على تقدير محذوف، أي ذكر ذكر من معي. لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ منصوب بيعلمون. وقرأ الحسن الْحَقَّ بالرفع بتقدير مبتدأ محذوف، أي هو الحق. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عِبادٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: بل هم عباد مكرمون. وأجاز الفراء: بل عبادا مكرمين على تقدير: بل خلقهم عبادا مكرمين. البلاغة: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ طباق السلب. قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ تبكيت للخصم. أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ فيهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: أَمِ اتَّخَذُوا أي بل اتخذوا، للانتقال، والهمزة لإنكار اتخاذهم آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ أي آلهة كائنة من الأرض، كحجر وذهب وفضة هُمْ يُنْشِرُونَ أي الآلهة يحيون الموتى من قبورهم، من أنشره: أي أحياه؟ لا، فلا يكون إلها إلا من يحيي الموتى، فالنشر: إحياء الموتى من قبورهم، والحشر: سوقهم إلى أرض المحشر. لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض إِلَّا اللَّهُ غيره لَفَسَدَتا لبطلتا وخربتا وخرجتا عن نظامهما المشاهد لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع، على وفق العادة، فإنه عند تعدد الحاكم والاتفاق في المراد، يحدث التنافر في القدرات، إذ بأي قدرة لهما سيوجد؟! وعند الاختلاف يحدث التمانع في الشيء وعدم وجوده، مثلا لو اختلفا في تحريك زيد وتسكينه، فلا يمكن حدوث المرادين لاستحالة الجمع بين الضدين، ولا يمكن حدوث أحد المرادين لمعارضة الآخر، وإذا حدث كان أحد الإلهين قادرا والآخر عاجزا، والعجز نقص، وهو على الله محال.

فَسُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله عما وصفوه به رَبِّ الْعَرْشِ خالق الكرسي عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها لله عما يصف الكفار الله به من الشريك له، وغير ذلك. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية وَهُمْ يُسْئَلُونَ عن أفعالهم لأنهم مملوكون مستعبدون، والضمير للآلهة المزعومة أو للعباد. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل اتخذوا من دون الله تعالى أي سواه آلهة، وفيه استفهام توبيخ، وكرره استعظاما لكفرهم، وتبكيتا، وإظهارا لجهلهم، والمعنى: أوجدوا آلهة ينشرون الموتى، فاتخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم، فاتخذوهم تنفيذا للأمر، ثم أبان فساد الأول عقلا، والثاني نقلا، فقال: قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أحضروا برهانكم على ذلك من العقل أو النقل، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي هذا هو القرآن المنزل على من معي أي على أمتي أي عظة لهم وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي والكتب السماوية المنزلة على الأمم قبلي وهي عظة لهم، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، ليس في واحد منها أن مع الله إلها، مما قالوا. وإنما فيها الأمر بالتوحيد، والنهي عن الإشراك. وإضافة الذكر إليهم لأنه عظتهم. لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي توحيد الله، ولا يميزون بين الحق والباطل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك، وعن النظر الموصل إليه. فَاعْبُدُونِ أي وحدوني وَلَداً من الملائكة سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي بل هم عِبادٌ مخلوقون، عنده مُكْرَمُونَ: مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، فليسوا بأولاد. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون حتى يأمرهم، ولا يأتون بقولهم إلا بعد قوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون قط ما لم يأمرهم به، ويعملون بعد أمره يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، وهو كالعلة لما قبله، والتمهيد لما بعده، وبذلك يضبطون أنفسهم، ويراقبون أحوالهم. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أن يشفع له، مهابة منه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي من عظمته ومهابته تعالى مُشْفِقُونَ خائفون مرتعدون. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة أو من الخلائق إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي غير الله وهو إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ هذا تهديد للمشركين بتهديد مدعي الربوبية كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المشركين أي من أظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.

المناسبة:

المناسبة: ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات، وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد، ونفي الشريك. التفسير والبيان: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ أي بل اتخذ المشركون آلهة من الأرض من دون الله يحيون الموتى من قبورهم، أي لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! قال الزمخشري: وأَمِ هنا- أي مع الاستفهام- هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» الإضرابية، والهمزة قد آذنت بالإضراب عما قبلها، والإنكار لما بعدها، وهو اتخاذهم آلهة ينشرون الموتى. والمراد بالآية التذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم، فإن المشركين وإن لم يصرحوا بذلك، فإنهم بادعائهم الألوهية لها يثبتون تلك الصفة لها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض. وهذا تهكم بهم وتوبيخ وتجهيل لهم. ثم أثبت الله تعالى التوحيد ونفي وجود إله غير الله، فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أي لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامها لأنهما إذا اختلفا وقع الاضطراب والخلل والفساد، وإن اتفقا في التصرف في الكون، فلا داعي للتعدد لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدور من خالقين قادرين على مخلوق واحد، وهذا محال لأنه يجعل وقوع المقدور والمراد للاثنين، لا لواحد منهما، وهذا لا يصح لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين. وبناء عليه يكون جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل وحدانية الله تعالى، لذا قال:

فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله تعالى وتقدس عن الذي يفترون ويقولون: إن له ولدا أو شريكا، وتعالى عما يأفكون علوا كبيرا، فهو رب العرش المحيط بهذا الكون. ونظير الآية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون 23/ 91] . وتأكيدا لهذا التنزيه قال تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي لا يسأل تعالى عن أفعاله، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم، ما عملوا وما سيعملون، وهذا كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] وقوله سبحانه: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون 23/ 88] . ثم كرر تعالى الإنكار على المشركين استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة دون الله، ويصفوا الله بأن له شريكا؟ فإن وصفتم الله تعالى بأن له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك، إما من العقل وإما من الوحي، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل إلا وفيه تقرير توحيد الله وتنزيهه عن الشركاء، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين، وأشار فيما يأتي إلى الدليل النقلي فقال: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي هذا الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، ورد علي، كما ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر

أي عظة للذين معي أي أمتي، وعظة للذين من قبلي أي أمم الأنبياء السابقين عليهم السلام. وبذلك اتفق القرآن وجميع الكتب السماوية السابقة على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وهذا تبكيت للمشركين يتضمن نقيض مدّعاهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق، ويعرضون عنه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع فيهم الأدلة والبراهين. فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم هو أصل الشر والفساد كله، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه. وتأكيدا لمضمون الكتب والرسالات السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.. أي لم نرسل رسولا سابقا من عهد آدم عليه السلام إلى قومه إلا أوحينا إليه ألا معبود إلا الله، فاعبدوه مخلصين له العبادة، وخصوه بالألوهية، فرسالات جميع الأنبياء قائمة على التوحيد، وكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. ونظير الآية قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف 43/ 45] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . والخلاصة: أنه لا دليل للمشركين على ما زعموا، فلا برهان لهم، وحجتهم داحضة لأن الفطرة تشهد بتوحيد الله، وكذلك العقل السليم، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد. وبعد التنزيه عن الشريك، نفى تعالى اتخاذ الولد فقال:

وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي وقال بعض العرب وهم بطون من خزاعة وجهينة وبني سلمة: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم بقوله: سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن الولد، فإن الولد يشبه أباه في شيء، ويخالفه في أشياء، فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، وخالفه من وجوه أخرى، فيقع التركيب في ذات الله تعالى، والله سبحانه منزه عن مشابهة الحوادث، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق. ولما نزه سبحانه نفسه عن الولد، أخبر عن الملائكة بقوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي ليس الملائكة بنات الله، بل هم عباد مخلوقون له، مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، إلا أنهم مفضلون على سائر العباد. ومن خصائصهم أنهم: 1- لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى عالم محيط علمه بهم، فلا يخفى عليه منهم خافية، كما قال: 2- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما تقدم منهم من عمل، وما هم عاملون في المستقبل، أي كما أن قولهم تابع لقول الله، فعملهم أيضا مبني على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجميع ما يأتون ويذرون في علم الله واطلاعه، وهو مجازيهم عليه، فلا يزالون يراقبونه في جميع أحوالهم، ويضبطون أنفسهم عن أي مخالفة لأمره. 3- وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله، وأهّله للشفاعة، فلا تعلقوا الآمال على شفاعتهم بغير رضا الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

4- وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي إنهم مع هذا كله من خوف الله ورهبته خائفون حذرون مراقبون ربهم. وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، ووصفهم بتلك الأفعال السنية، فاجأ من أشرك منهم بالوعيد الشديد، وأنذرهم بعذاب جهنم، فقال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ أي ومن يدّعي منهم على سبيل الافتراض أنه إله من دون الله، أي مع الله، كإبليس حيث ادعى الألوهية، ودعا إلى عبادة نفسه، فجزاؤه جهنم على ما ادّعى. وأما الملائكة فلم يقل أحد منهم: إني إله غير الله. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من ظلم نفسه، وقال ذلك، وهم المشركون. قال ابن كثير: وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف 43/ 81] . وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر 39/ 65] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة أخرى مع الله، وتوبيخ المشركين على اتخاذهم آلهة ليس لها خواص الألوهية، ومنها الإحياء بعد الإماتة وهو النشر. 2- إن تعدد الآلهة سبب مؤد لفساد نظام العالم والكون من السموات والأرض، وتخريبها وهلاك من فيهما بوقوع التنازع والاختلاف الواقع بين الشركاء عادة، لذا نزّه الله تعالى نفسه، وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.

وقد استدل الرازي بأدلة أخرى عقلية ونقلية على وحدانية الله تعالى، وهي اثنان وعشرون دليلا، أربعة عشر منها عقلية، وثمانية نقلية سمعية، وأقوى الأدلة العقلية: أنه لو فرضنا وجود إلهين، لافتقر أحدهما إلى الآخر لأنه يصبح مركبا من ذاته ومما يشاركه به الآخر، وكل مركب هو مفتقر إلى جزئه، وكل مفتقر إلى غيره ممكن، والإله واجب الوجود لذاته غير ممكن لذاته، فإذن ليس واجب الوجود إلا الواحد، وكل ما عداه مفتقر إليه، وكل مفتقر إلى غيره فهو محدث، فكل ما سوى الله تعالى محدث. ومن الأدلة النقلية هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وهو كقوله: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون 23/ 91] وقد صرح الله تعالى بكلمة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن، وصرح بالوحدانية في موضعين فقط، وهما قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة 2/ 163] وقوله: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1] «1» . 3- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أي لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه، وهو يسأل الخلق عن عملهم لأنهم عبيد. وهذا يدل على أن من يسأل غدا عن أعماله، كالمسيح والملائكة لا يصلح للألوهية، وعلى كون المكلفين مسئولون عن أفعالهم. روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربّنا قهرا؟ قال- أي الرجل-: أرأيت إن منعني الهدى، ومنحني الردى أأحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله، فهو فضله يؤتيه من يشاء، ثم تلا: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ.

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 152- 154

وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلّمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا ربّ؟ فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون. 4- أعاد الله تعالى في الآيات التعجب من اتخاذ الآلهة من دون الله، مبالغة في التوبيخ، على وصفهم المتقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون أَمِ بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من دون الله؟ فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: إن التعجب الأول: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ احتجاج من حيث المعقول لأنه قال: هُمْ يُنْشِرُونَ أي يحيون الموتى. والثاني أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من الكتب السماوية، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟! 5- إن الجهل هو المصدر الأصيل في فساد عقائد المشركين: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ. 6- جميع الرسل والأنبياء أوحى الله إليهم أنه لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. قال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد. أي إن دعوة الرسل جميعا جاءت لبيان التوحيد. 7- ردّ الله تعالى على بعض العرب الذين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله بتنزيه نفسه عن اتخاذ الولد، قيل: نزلت آية وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً

سُبْحانَهُ في خزاعة، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وبعد التنزيه ذكر الله خمس صفات للملائكة تدل على العبودية ونفي الولادة وهي: أ- المبالغة في طاعة الله، فهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بأمر الله، وهذه صفات العبيد، لا صفات الأولاد. ب- إن الله تعالى يعلم أسرارهم، وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة، لا هم. ج- إنهم لا يشفعون إلا بإذن الله ورضاه، ومن كان إلها لا يحتاج لإذن أحد. د- إنهم أشد الخلق خوفا من الله، وذلك من صفات العبيد. هـ- الملائكة وإن أكرموا بالعصمة، فهم كسائر المكلفين مسئولون موجه لهم الوعد والوعيد، فلا يتصور كونهم آلهة. وهذه الآية تدل على كون الملائكة مكلفين، وعلى أنهم معصومون، وعلى أنهم متوعدون. 8- كما يجزي الله تعالى بالنار كل من ادعى الشركة مع الله، ودعا إلى عبادة نفسه كإبليس، فكذلك يجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.

توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبر آيات الكون الدالة على وجود الإله الواحد [سورة الأنبياء (21) الآيات 30 إلى 33] :

توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبر آيات الكون الدالة على وجود الإله الواحد [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) الإعراب: رَتْقاً قال ذلك، ولم يقل: رتقين لأنه مصدر، وتقديره: كانتا ذواتي رتق. سُبُلًا بدل. يَسْبَحُونَ أتى بالواو والنون، وهي إنما تكون لمن يعقل لأنه أخبر عنها بفعل من يعقل، فأجراها مجرى من يعقل، كقوله تعالى: أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وكُلٌّ: مبتدأ، وجملة: يَسْبَحُونَ: خبره، والجملة منهما حال من الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. البلاغة: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام معناه التعجب والإنكار. كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما بين الرتق والفتق طباق. يَهْتَدُونَ، يَسْبَحُونَ بينهما سجع لطيف.

المفردات اللغوية:

كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ التنكير للتعميم. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ التفات من المتكلم إلى الغائب بعد قوله: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ للفت النظر إلى النعم الجليلة والاعتناء بها. المفردات اللغوية: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أولم يعلموا. رَتْقاً الرتق: السد والضم والالتحام، والمراد: ذات رتق، أي ملتزقتين. والمعنى: كانتا شيئا واحدا، أو حقيقة متحدة. فَفَتَقْناهُما أي فصلناهما بالتنويع والتمييز، فجعلنا السماء سبعا والأرض سبعا. والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ أي وخلقنا من الماء كل حيوان سواء النازل من السماء والنابع من الأرض. كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء، لا يحيا دونه، سواء النبات وغيره، فالماء سبب لحياته. أَفَلا يُؤْمِنُونَ بتوحيدي، مع ظهور الآيات. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت. أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تتحرك بهم، أو كراهة أن تميل بهم وتضطرب. وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي. فِجاجاً سُبُلًا أي مسالك وطرقا نافذة واسعة. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي ليهتدوا بها إلى مصالحهم ومقاصدهم في الأسفار والزراعة. سَقْفاً مَحْفُوظاً أي سقفا للأرض، مثل سقف البيت، محفوظا من الوقوع بقدرته، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته. وَهُمْ عَنْ آياتِها أي عن أحوالها الدالة على وجود الله ووحدته وكمال قدرته وروعة حكمته، بما اشتملت عليه من الشمس والقمر والنجوم. مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيها، فيعلمون أن خالقها لا شريك له. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بيان لبعض تلك الآيات. كُلٌّ فِي فَلَكٍ أي كل واحد منهما له مدار مستدير، والتنوين: بدل من المضاف إليه، أي كل من الشمس والقمر وتابعهما وهو النجوم. والمراد بالفلك: الجنس، وهو مدار الشمس والقمر والنجوم. يَسْبَحُونَ يسيرون على سطح الفلك بسرعة، كالسابح في الماء، وللتشبيه به، وإنما جمع الفعل باعتبار جنس الطوالع المتكاثرة كل يوم وليلة، وهو سبب جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد. وعوملوا معاملة العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة. المناسبة: بعد أن وبخ الله تعالى المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، والذين قالوا: اتخذ الله ولدا من الملائكة، وبخهم على عدم تدبر الآيات الكونية الدالة

التفسير والبيان:

على وجود الله، وعلى التوحيد وتنزيهه من الشرك، وأنه لا يصح لعاقل عبادة الأصنام والأوثان لعجزها وعدم الجدوى من عبادتها. التفسير والبيان: أورد الله تعالى في هذه الآيات ستة أدلة تدل على وجود الإله الواحد القادر ذي القدرة التامة والسلطان العظيم في خلق الأشياء وقهر جميع المخلوقات، وهي ما يلي: 1- فتق السموات عن الأرض: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أي أو لم يعلم الجاحدون لألوهية الله، العابدون معه غيره أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه، ألم يعلموا أن السموات والأرض كانتا متصلتين ببعضهما، تلاصقت أجزاؤهما، وتراكم بعضها فوق بعض، ثم فصلناهما، وجعلنا بين السماء الدنيا والأرض طبقة من الهواء؟! وهذه هي نظرية السديم عند علماء الفلك الذين يثبتون أن الشمس والكواكب والأرض كانت قطعة واحدة، وأن الشمس كانت كرة نارية، وفي أثناء سيرها السريع انفصلت عنها أرضنا والكواكب السيارة الأخرى، وهي تسعة مرتبة بحسب قربها من الشمس: عطارد، والزّهرة، والأرض، والمرّيخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتوه. ولكل منها مدار بحسب تأثير الجاذبية، وهي تجري في الفلك، وهي تسعة أفلاك دون السموات المطبقة التي يعيش فيها الملائكة. والفلك: استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء، أو هو مجراها وسرعة سيرها. وهذا السبق العلمي الذي أعلنه القرآن دليل واضح قاطع على أن القرآن

3 - جعل الجبال رواسي الأرض:

كلام الله ووحيه المنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي يستحيل أن يكون عالما بمثل ذلك لولا الوحي الإلهي. 2- جعل الماء أساس الحياة: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي وخلقنا من الماء كل حيوان، أي فيه حياة، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور 24/ 45] فكل حيوان من النطفة التي هي ماء، ولا ينبت النبات إلا بالماء. وهذا موافق لما يراه بعض العلماء: أن كل حيوان خلق أولا في البحر، ثم انتقل بعض الحيوان إلى البر، وتطبع بطباع البر مع مرور الزمن. أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي ألا يتدبرون هذه الأدلة، وهم يشاهدون عيانا حدوث المخلوقات شيئا فشيئا، فيؤمنون بالخالق، ويتركون منهج الشرك؟! وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد 3- جعل الجبال رواسي الأرض: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي وخلقنا في الأرض جبالا لإرساء الأرض بها وتثبيتها، لئلا تضطرب بالناس وتتحرك، فلا يحصل لهم قرار عليها، والرواسي: الجبال، والراسي: هو الداخل في الأرض. والأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وقد أثبت العلماء أن الأرض كانت نارا ملتهبة، ثم بردت قشرتها، وصارت صوّانية صلبة، وذلك منذ حوالي ثلاث مائة مليون سنة بل حوالي خمسة مليارات سنة كما يرى المعاصرون. ويؤكد ذلك وجود حمم النيران التي تخرجها البراكين. ونسبة الجبال إلى الأرض هي بنسبة مليمتر ونصف من المتر. وهذا دليل ثالث على أن القرآن وحي من عند الله، لا من عند بشر.

4 - إيجاد الطرق مسالك بين الجبال:

4- إيجاد الطرق مسالك بين الجبال: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي وخلقنا في الأرض بين الجبال طرقا واسعة نافذة، يسلكها الناس بسهولة من مكان إلى آخر، أو من قطر أو إقليم إلى آخر، ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ومصالحهم المعيشية في البلاد، وقيل: ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال. والفج: الطريق الواسع، والسبيل: الطريق السالك. وقدمت الفجاج وهي صفة على السبل، ولم تؤخر، كما في قوله تعالى: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح 71/ 20] لتجعل حالا، والفرق من جهة المعنى أن قوله: سُبُلًا فِجاجاً إعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة، وأما قوله: فِجاجاً سُبُلًا فهو إعلام بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى. وقوله: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ معناه: لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى. والضمير في قوله: فِيها عائد إلى الجبال، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجا سبلا، أي طرقا واسعة، وقيل: إنه عائد إلى الأرض، أي وجعلنا في الأرض فجاجا وهي المسالك والطرق. - جعل السماء سقفا للأرض: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي وجعلنا السماء كالسقف على الأرض وكالقبة عليها، وذلك السقف محفوظ من الوقوع والاضطراب، ومن الشياطين التي تسترق السمع، كما قال تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج 22/ 65] وقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر 35/ 41] . وحفظها من الشياطين إما بالملائكة وإما بالنجوم.

6 - خلق الليل والنهار والشمس والقمر:

وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أي لا يتفكر المشركون وغيرهم فيما خلق الله في السموات من الأدلة والعبر الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته، من الشمس والقمر وسائر الكواكب الثابتة والسيارة، ليتعاقب الليل والنهار، وتظهر المنافع بالحر والبرد، وللإرشاد إلى الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة. وذلك كقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف 12/ 105] . 6- خلق الليل والنهار والشمس والقمر: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي والله خلق الليل والنهار، نعمة منه، ودليلا على عظمة سلطانه، بواسطة دوران الأرض حول نفسها، لتتحقق الفائدة المرجوة من كليهما بالظلام والسكون، والضياء والأنس، والتفاوت في الطول والقصر أو التساوي بينهما في مدار السنة، وخلق أيضا الشمس والقمر، للإضاءة وإمداد الأحياء بحرارة الشمس، وإفادة بعض المزروعات والثمار بضوء القمر، وكل من الشمس والقمر والنجوم والأرض يدور في فلكه، دوران المغزل في الفلكة، فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك الشمس والقمر والنجوم لا تدور إلا بالفلك، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام 6/ 96] . وقوله: يَسْبَحُونَ بالجمع يشمل النجوم، فهي وإن لم تكن مذكورة نصا فهي مذكورة ضمنا. ودوران الشمس والقمر والأرض في الفضاء اللانهائي يثبته أيضا العلم الحديث، مما يدل على أن هذا القرآن معجز للأبد، دال على كونه وحيا صادرا منه، وأنه النعمة الكبرى لبني الإنسان.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: الآيات كما لاحظنا تتضمن أدلة كافية على وجود الإله الصانع الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، وهي أدلة تثير الإعجاب، وتوحي باتصاف الموجد الخالق بالقدرة التامة، والسلطان العظيم. وقد عرفنا أنها أدلة ستة هي: أولا- فتق السموات عن الأرض، وجعل طبيعة خاصة لكل منهما، فالأرض بهوائها ومائها تتناسب مع وجود الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، ومع ما يتطلبه الاستقرار والثبات عليها، والسموات تتلاءم مع وجود المجرّات والكواكب والنجوم والشمس والقمر، لنشر الحرارة، وإلقاء الضوء، والسموات سبع، وكذا الأرض سبع. وثانيا- جعل الماء سببا للحياة، فالله تعالى خلق كل شيء من الماء، وحفظ حياة كل شيء بالماء، وأوجد الإنسان من ماء الصلب. روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي، وقرّت عيني، أنبئني عن كل شيء قال: «كل شيء خلق من الماء» . وما أروع لفت النظر بعد هذه الآية حين قال تعالى: أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكوّن كوّنه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكوّن محدثا، بل لا بدّ من أن يكون أزليا قديما لأن صفة الألوهية تقتضي عقلا عدم المشابهة للحوادث. وثالثا- خلق الله الجبال رواسي أي جبالا ثوابت، لتكون مثبتة للأرض، حتى لا تتحرك بمن عليها، وليتم القرار والاطمئنان عليها، أو كراهية أن تميد، والميد: التحرك والدوران.

ورابعا- أوجد الله في الأرض وبين هامات الجبال مسالك وطرقا واسعة، لتكون منافذ يسهل على الناس اختراقها وتجاوزها من مكان لآخر، ومن قطر إلى قطر أو إقليم إلى إقليم. والفجاج جمع فجّ: وهو الطريق الواسع بين الجبلين، ثم فسر تلك الفجاج بالسبل، أي الطرق النافذة السالكة لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا، وقد لا يكون، ووجود الطرقات للاهتداء بها إلى السير في الأرض نعمة عظمي، وندرك هذه النعمة إذا لاحظنا ما تنفقه الدولة الحديثة من النفقات الباهظة على تعبيد الطرق وشقها، لربط الأقاليم والأمصار وأجزاء البلاد بشبكة من الطرق، تسهل الانتقال بينها والاتصال معها. وخامسا- جعل السماء سقفا للأرض، محفوظا من الوقوع والسقوط على الأرض، فلا تمكن الحياة في الأرض بدون هذا السقف، كما لا يمكن العيش في بيت أو دار بدون سقف، ولأن حفظ طبقة الهواء بهذا السقف أمر ضروري محتم لحياة الإنسان، كما أن الحفاظ على هذا السقف من التداعي والسقوط على الأرض أمر أساسي لصون الحياة الإنسانية، ومنع الضرر عن الناس، فإذا سقط على الناس بعض الكتل النارية أو الأجرام السماوية، كان الدمار والهلاك الجزئي، فكيف إذا سقطت السماء كلها؟! ومما يدعو إلى الأسف والعجب أن الكفار معرضون عن آيات السماء من الشمس والقمر والنجوم وغيرها. وقد أضاف الله تعالى الآيات في قوله: وَهُمْ عَنْ آياتِها ... إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وفي مواضع أخرى أضاف تعالى الآيات إلى نفسه لأنه الفاعل لها. وهذا دليل على أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى إذ لو نظروا واعتبروا، لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا، فيستحيل أن يكون له شريك.

موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة [سورة الأنبياء (21) الآيات 34 إلى 41] :

وسادسا- خلق الليل والنهار، وهذا تذكير بنعمة أخرى على الناس، فالله جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه وينطلقوا لمعايشهم، وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، لتعلم الشهور والسنون والحساب، وكل من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة في فلك خاص، كالسابح في الماء. موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 41] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) الإعراب: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ حقّ همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف الشرط كما هنا: أن

البلاغة:

تكون رتبتها قبل جواب الشرط. وفي هذه الآية دليل على أنّ إن إذا دخلت عليها همزة الاستفهام، لا تبطل عملها، كقولك: إن تأتني آتك لدخول الفاء في فهم وفاء فَهُمُ لتعلق الشرط بما قبله، والهمزة لإنكاره، بعد ما تقرر ذلك. فِتْنَةً مفعول لأجله. أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فيه محذوف تقديره: قائلين: أهذا الذي يذكر آلهتكم، وهو في موضع الحال، وحذف القول كثير في كلامهم. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الجملة في موضع الحال، أي يتخذونك هزوا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية، وهي الكفر بالله تعالى. البلاغة: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ التنكير للتعميم. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً يوجد طباق بين الشر والخير. خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مبالغة في وصف الإنسان، جعل لفرط استعجاله، كأنه مخلوق من العجل نفسه، كقول العرب لمن لازم اللعب: هو من لعب. الْخالِدُونَ كافِرُونَ تَسْتَعْجِلُونِ يُنْصَرُونَ يُنْظَرُونَ يَسْتَهْزِؤُنَ بينها سجع لطيف. المفردات اللغوية: الْخُلْدَ الخلود والبقاء في الدنيا. فَهُمُ الْخالِدُونَ في الدنيا؟ لا، وهذه الجملة محل الاستفهام الإنكاري. ذائِقَةُ الْمَوْتِ في الدنيا، والذوق هنا: الإدراك، والمراد من الموت: مقدماته من الآلام الشديدة، والمدرك: هي النفس المفارقة للبدن. وجملة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ برهان على ما أنكره من الخلود للنفوس في الدنيا. وَنَبْلُوكُمْ نختبركم أي نعاملكم معاملة المختبر. بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ بالبلايا والنعم، أو المحبوب والمكروه، كفقر وغنى، وسقم وصحة، وذلّ وعزّ. فِتْنَةً أي ابتلاء، وهو مصدر من غير لفظ الفعل المتقدم، أي لننظر: أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم حسبما يوجد منكم من الصبر والشكر. وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء. إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به، مسخورا منه. أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟ أي يقولون: أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي إذا ذكر الإله

سبب النزول:

الرحمن الواحد. هُمْ الثانية تأكيد كفرهم. كافِرُونَ به، إذ قالوا: ما نعرفه، أي لا يصدقون به أصلا، فهم أحق منك بأن يتخذوا هزوا، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل: معنى بذكر الرحمن: قولهم ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة. وقيل: بذكر الرحمن: معناه بما أنزل عليك من القرآن. خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي أنه لكثرة عجله في أحواله، كأنه خلق منه، ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر. سَأُرِيكُمْ آياتِي أي مواعيدي بالعذاب، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عذاب النار. فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فيه أو بالإتيان به. مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ أي بالقيامة. صادِقِينَ فيه، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه. لا يَكُفُّونَ يدفعون. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون منها في القيامة. وجواب لَوْ: ما قالوا ذلك. بَلْ تَأْتِيهِمْ القيامة أو النار. بَغْتَةً فجأة. فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم، أو تغلبهم. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فَحاقَ نزل أو أحاط. بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب، وهو وعد للنبي صلّى الله عليه وسلم بأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا أي جزاءه. سبب النزول: نزول الآية (34) : وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ.. نزلت هذه الآية، لما قال الكفار: إن محمدا سيموت، قائلين: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه، فقال: يا رب، فمن لأمتي؟ فنزلت: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية. نزول الآية (36) : وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان،

نزول الآية (37) :

وقال: أتنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل، فوقع به، وخوّفه، وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة، فنزلت الآية: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً. نزول الآية (37) : خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ نزلت هذه الآية في استعجالهم العذاب، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . المناسبة: بعد أن أقام الله تعالى أدلة ستة على وجود الخالق المتصف بالوحدانية، أبان أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق جميعا إلى الله تعالى للحساب والجزاء، ثم ذكر أن مجيء القيامة أو العذاب بالنار آت بغتة لا محالة، فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير. التفسير والبيان: ينفي الحق تعالى الخلود في الدنيا لأحد من المخلوقات، فيقول: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي قضى الله تعالى ألا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت يا محمد ولا أحد ممن سبقك أو عصاك أو يأتي بعدك إلا عرضة للموت، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك.

أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ أي هل إذا متّ أنت أيبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا، بل الكل ميتون، فلا يؤملون أن يعيشوا بعدك. وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا. ونظير الآية قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 26- 27] . أخرج البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد مات، فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية. واستدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن لأنه بشر، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا. وتأكيدا لبيان موت جميع البشر، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت قبل مفارقتها الجسد، جاء في الحديث: «إن للموت لسكرات» «1» فلا يفرح أحد بموت أحد، ولا يشمت أو يتشفى لوفاته، فالكل متجرع كأس المنون. والذوق هنا: مجاز عن الإدراك. والمراد بالموت هنا: مقدماته من الآلام العظيمة. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أي نبتليكم ونختبركم بالبلايا والنعم، أو بالمحبوب والمكروه، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، اختبارا وامتحانا، لنعلم أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وقوله فِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه

_ (1) روى ابن ماجه في معناه: «اللهم أعني على سكرات الموت» .

والمراد من ذلك: أنا نعاملكم معاملة من يختبركم، لنعرف الصابر في الشدائد، والشاكر في الرخاء. وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلينا، أي إلى حكمنا ومحاسبتنا ومجازاتنا، فنجازيكم بأعمالكم. وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب. والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، والتكليف لا يكون إلا بعد البلوغ والعقل، فالآية دالة على حصول التكليف، والتكليف لا يقتصر بالمكلف على ما أمر به ونهي عنه، بل ابتلاه بأمرين: أحدهما- ما سماه خيرا: وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور. والثاني- ما سماه شرا: وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين. وإنما سمي ذلك ابتلاء، والله عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار. وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي وإذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشباهه، ما كان همهم إلا السخرية منك، وما يتخذونك إلا مهزوءا به، فيستهزءون بك وينتقصونك، وكان جديرا بهم التفكير في سلوكك وأخلاقك، وفيما ينزل عليك من وحي فيه عظة وذكرى للعقلاء، وهم الذين حمى الله نبيهم منهم بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر 15/ 95] . وهم القائلون: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقولون تعجبا واستنكارا: أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم

وأنعم عليهم، وإليه مرجعهم، وهُمْ الثانية توكيد كفرهم أي فهم الكافرون، مبالغة في وصفهم بالكفر. والمراد أنهم كيف يعجبون منك ومن صنيعك بنبذ آلهتهم ووصفها بالسوء، وهم أشد عجبا، إذ يكفرون بالله، ويستهزئون برسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا، أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 41- 42] . والخلاصة: أنهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت، ولا فعل أقبح من ذلك، فالهزء والذم يعود عليهم من حيث لا يشعرون، وهم أحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه. وبالرغم من هذا فهم أناس حمقى طائشون متهورون يستعجلون بمجيء العذاب الذي تهددهم به يا محمد، فقال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجولا، أو فطر الإنسان على العجلة، والمراد نوع الإنسان، وقيل: إنه شخص معين، حتى لكأن التعجل جزء من تكوينه وفطرته، وسجيته وطبعه كما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا في الأمور [الإسراء 17/ 11] ، فاستعجل هؤلاء المشركون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، فالمراد بالآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول، أو الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها، ثم حكى الله تعالى قولهم: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنهم يستعجلون أيضا

بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا، وكفرا وعنادا، واستبعادا لحدوثه، فيقولون على سبيل الاستهزاء للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين لجهلهم وغفلتهم: متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! فقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يا معشر المؤمنين. أراد تعالى نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدّم أولا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم عن استبطاء الموعود به بقصد إنكار وقوعه وعدم تصوره أصلا، ثم بيّن مدى حماقتهم بهذا الطلب فقال: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ.. أي لو تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، لما استعجلوا، ولو علموا أحوال عذاب النار التي تحيط بهم من الأمام والخلف وجميع الجهات، وحين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فلا يستطيعون ردّ النار عن وجوههم، ولا دفعها عن ظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينصرهم ويمنعهم من العذاب وينقذهم منه كما قال تعالى: وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ [الرعد 13/ 34] ، وجواب لَوْ محذوف، أي لو علموا وقت الوعيد، لما أصروا في البقاء على كفرهم، ولما استعجلوا هذا العذاب الشديد. والعلم في قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ بمعنى المعرفة، فلا يقتضي مفعولا ثانيا، مثل لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال 8/ 60] . وإنما خص الوجوه والظهور لأن شدة تأثرها بالعذاب أكثر. ونظير الآية: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] ، وقوله أيضا: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] ، وقوله كذلك: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم 14/ 50] فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أبان الله تعالى كما هو المعتاد في قرآنه أن وقت مجيء العذاب مجهول فقال: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي بل إن الساعة تأتيهم فجأة، فتحيرهم وتغلبهم، فلا يجدون حيلة لردها، ولا هم يمهلون ويؤجلون لتوبة أو معذرة، لفوات الوقت. وهذا تذكير بإمهاله إياهم، وإعطائهم فرصة واسعة للتذكر والإيمان، والعدول عن الكفر والضلال، فلا يمهلون بعد طول الإمهال. والسبب في عدم العلم بمجيء الساعة هو جعل العبد أشد حذرا، وأقرب إلى تدارك الأخطاء، فلا يتكل ولا يتوانى لحين حدوث العذاب. ورجوع الضمير المؤنث في قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً هو إلى النار، أو إلى الوعد لأنه في معنى النار، أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة (القيامة) . ثم سلا رسوله صلّى الله عليه وسلم عن استهزائهم به وتكذيبهم له، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ.. أي إن لك في الأنبياء عليهم السلام أسوة، فقد استهزئ برسل كثيرين من قبلك، فنزل بالساخرين المستهزئين العذاب جزاء ما فعلوا، وسينزل أيضا بمن استهزأ بك العذاب والبلاء جزاء استهزائهم، كما حدث بأسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، ذلك العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا، وَأُوذُوا، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الإنعام 6/ 34] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لا خلود لأحد من المخلوقات في دار الدنيا، وكل من عليها فان، وكل

نفس ذائقة الموت، فإن مات النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أفهم الخالدون إن مات؟! 2- الدنيا دار ابتلاء واختبار، والاختبار كما يكون بالشر يكون بالخير، فيختبر الناس بالشدة والرخاء، والحلال والحرام، وينظر كيف شكرهم وصبرهم، ثم يكون المرجع والمآل إلى الله تعالى للجزاء بالأعمال. والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، فتدل الآية على حصول التكليف، ولا يقتصر الابتلاء على المأمور به والمنهي عنه، وإنما يشمل ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، وما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، والعبد يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح والنعم، ويصبر في المحن. 3- العموم في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ من قبيل العموم المخصوص، فإنه تعالى نفس لقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة 5/ 116] مع أن الموت لا يجوز عليه، وكذا الجمادات لها نفوس، وهي لا تموت. والعام المخصوص حجة، فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء. 4- الكفار المستهزئون بالنبي صلّى الله عليه وسلم الذي يعيب اتخاذ الأصنام آلهة أحق وأجدر بالاستهزاء والسخرية لكفرهم بالإله الحق الخالق المنعم المتفضل على الناس بأصناف النعم الكثيرة. 5- ركّب الإنسان على العجلة، فخلق عجولا، وصار طبع الإنسان العجلة، ولكن في العجلة أحيانا حماقة وطيش وجهل وغفلة، كما في حال استعجال المشركين نزول العذاب الموعود. 6- إن مجيء الساعة أو وقت العذاب بالنار محقق، ولكنه يأتي فجأة، فلا يبقى مجال لتوبة واعتذار.

حراسة الله وحفظه للإنسان وعدل الحساب [سورة الأنبياء (21) الآيات 42 إلى 47] :

7- إن الاستهزاء بالرسل ديدن الكفار قديما وحديثا، فلا بد من الصبر، وسيلقى المستهزئون جزاء استهزائهم. حراسة الله وحفظه للإنسان وعدل الحساب [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 47] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) الإعراب: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ: خبر كانَ الناقصة، واسمها مضمر فيها، وتقديره: وإن كان الظلم مثقال حبة. وقرئ بالرفع على أن تجعل كانَ التامّة، فيكون مرفوعا على أنه فاعل. البلاغة: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ استعارة، استعار الصمّ للكفار، لأنهم كالبهائم لا يسمعون النداء إلى الإيمان سماع تدبر وتفهم.

المفردات اللغوية:

حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ كناية عن العمل القليل. المفردات اللغوية: يَكْلَؤُكُمْ يحرسكم ويحفظكم، والفعل الماضي: كلأ: حفظ، والمصدر: الكلاءة: الحراسة والحفظ. مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه إن أراده بكم. وفي لفظ الرَّحْمنِ تنبيه على ألا كالئ غير رحمته العامة. ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي القرآن. مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيه. مِنْ دُونِنا من غيرنا ومن عذابنا. يُصْحَبُونَ يجأرون من عذابنا، يقال: صحبك الله أي حفظك. أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ من الله، لا من قبل نفسي. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ إنما سماهم الصم لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار كالصم. نَفْحَةٌ نصيب قليل أو أدنى شيء، وأصل النفح: هبوب رائحة الشيء. يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بالإشراك وتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلم. وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل، توزن بها صحائف الأعمال. لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه أو لجزاء يوم القيامة. فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً من نقص حسنة أو زيادة سيئة. وَإِنْ كانَ مِثْقالَ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة، وحبة الخردل مثل في الصغر. أَتَيْنا بِها أحضرناها وأتينا بموزونها. حاسِبِينَ محصين كل شيء إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أن الكفار لا يستطيعون أن يكفوا النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم، أتبعه ببيان أنهم في الدنيا أيضا، فلولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا سالمين. ثم أردفه ببيان أنهم معرضون لا يتفكرون بالأدلة التي ترشدهم إلى الإيمان وترك عبادة الأصنام، كما أنهم لا يرون آثار قدرة الله في إتيان الأرض من جوانبها، بأخذ الواحد بعد الواحد، وفتح البلاد والقرى حول مكة، وفي ذلك عبرة، فيؤمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم.

التفسير والبيان:

ثم ذكر وظيفة الرسل التي هي التبليغ والإنذار، لا الإلزام والقبول، لكفاية أدلة القرآن على الإيمان. ثم بيّن سبحانه أن جميع ما يتعرض له الكفار في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة، فموازين الحساب قائمة على العدل والقسط. التفسير والبيان: قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ.. أي قل أيها الرسول لأولئك الذين يسخرون منك ويستهزئون: من يحفظكم ويحرسكم ليلا في نومكم ونهارا في عملكم من بأس الله وعذابه إن أتاكم أو أراد إنزاله بكم؟! وفي تعبير الرَّحْمنِ إشارة إلى أن تأخير العذاب عن الكفار والعصاة هو من رحمة الله ونعمته وفضله، كي يعود الإنسان إلى ربه من نفسه. بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي بل إن هؤلاء المشركين، بالرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمذكورة في القرآن الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ والكلاءة، معرضون عن تلك الأدلة، ولا يتفكرون فيها، ولا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم. وفي ذكر الرب دلالة على أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم يعيشون في رعايته وتربيته وإمداده بالنعم الوفيرة. ثم بعد بيان اتصافهم بالإعراض، وبخهم الله تعالى على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع فقال: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ أي هل لهؤلاء المستهزئين المعرضين عن بيان الله آلهة قادرة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي إن تلك الآلهة

المزعومة لا تتمكن من نصر أنفسهم، ولا دفع الضر والبلاء عنهم، ولا هم منا يجأرون أو يمنعون لأنهم في غاية العجز والضعف، فكيف ينصرون غيرهم، ويدفعون الضر عنهم، أو يجلبون النفع لهم؟! ثم أخبر تعالى عن مزيد فضله عليهم فقال: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي إن الذي غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنّهم متّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا بها، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، والحقيقة أنهم مع طول الزمان في غفلة، حتى اغتروا بنعمتنا، ونسوا شكرها. والخلاصة: أنه ما حملهم على الإعراض عن آيات الله إلا الاغترار بطول المهلة. ثم قال تعالى واعظا لهم: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة، والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين، وفتح البلاد حول مكة، وتناقص رقعة بلاد أهل الشرك؟! وبعبارة أخرى: أفلا يرون أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف جوانبها وأطرافها بتسليط المسلمين عليها، وتغلبهم على أهلها، وضمّها إلى دار الإسلام. والفائدة في قوله: نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها تصوير ما كان يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تفتح أرض المشركين المعتدين، وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها. ومعنى نقص أطرافها: دخول المسلمين فيها، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا، وانحسار أرض الكفار،

بدليل قوله بعدئذ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أي هل نحن الغالبون أم هم؟ فكيف يتوهمون غلبتهم؟ فهم المغلوبون الأخسرون، وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع. ويرى بعض علماء العصر أن في الآية دلالة واضحة على نقص أطراف الكرة الأرضية في الشمال والجنوب، وأنها غير كاملة التكوير والاستدارة، وذات تفلطح، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليلجي في القطب الشمالي والجنوبي، مما يدل على قدرة الله تعالى، وقوة سلطانه، وتحكمه في الأرض أثناء دورانها. وبعد أن كرر تعالى إيراد الأدلة في القرآن على وجود الله وقدرته وتوحيده، وبالغ في التنبيه عليها، أتبعه بقوله: قُلْ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي قل أيها النبي: إني إنما أنذركم بالقرآن الذي هو كلام ربكم، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي، بل الله آتيكم به، وأمرني بإنذاركم، وعملي هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول، فإن لم تجيبوا دعوتي، فعليكم الوبال والنكال، لا عليّ. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ أي لا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، وما مثلهم حين لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، على كثرته وتتابعه، إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا أصلا إذ ليس الغرض من الإنذار مجرد السماع، بل العمل بما يسمع، والتمسك به، بالإقدام على فعل الواجب، والتحرز عن المحرّم، ومعرفة الحق، فإذا لم يتحقق هذا الغرض فلا فائدة في السماع. ثم بيّن تعالى أن حالهم سيتغير، فيصبحون سريعي التأثر بما ينذرون، ويعترفون بما لا ينتفعون، فقال: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أى ولئن مس أو أصاب هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله يوم القيامة،

ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا، ويظهرون الندامة على ما فرط منهم، ويتنادون بالويل والهلاك، ولا فائدة من ذلك. قال الزمخشري في الكشاف: وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات: لفظ المس، وما في النفح من معنى القلة والنزارة، ولفظ المرة. ثم بيّن الله تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فقال: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي ونضع الموازين العدل التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة، أو لأهل يوم القيامة، فلا يلحق نفسا أي ظلم، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا، فلن يظلموا في الآخرة، وقوله: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً تأكيد عدالة الميزان، وأنه لا ينقص ثواب أي نفس ما تستحقه. والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. ووصفت الموازين بأنها عادلة، لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه. والمراد بوضع الموازين: إرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والإنصاف، من غير أن يظلم أحد مثقال ذرة، أي أن المقصود من الوزن العدل بين الخلائق، وقد مثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. وفي قول آخر هو الأرجح: المراد أنه تعالى يضع الموازين الحقيقة، ويزن بها الأعمال. قال الحسن البصري: هو ميزان له كفتان ولسان. فمن رجحت حسناته على سيئاته، كان من الناجين، ومن غلبت سيئاته على حسناته، كان من الهالكين. والقسط: العدل أي ليس في الموازين بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار

فقه الحياة أو الأحكام:

زنة حبة الخردل، فنجازي عليه الجزاء الأوفى، حسنا أو سيئا. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أي وكفى بنا محصين لأعمال العباد، فلا أحد أعلم بأعمالهم منا، ولا أحد أضبط ولا أعدل في تقويم الأعمال منا. وفي هذا تحذير شديد، ووعيد أكيد للكفار والعصاة على تفريطهم أو تقصيرهم فيما يجب عليهم نحو الله تعالى لأن العالم الذي لا يشتبه عليه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء، جدير بأن يكون الناس في أشد الخوف منه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن من فضل الله ورحمته الكلاءة: الحراسة والحفظ للناس من عذاب الله تعالى بالليل حال النوم، وفي النهار حال التصرف في الأمور، ولكن الناس لاهون غافلون عن موعظة القرآن ومواعظ ربهم ومعرفته حق عليهم. 2- إن الآلهة الذين زعم الكفار أنهم ينصرونهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم؟! وكيف يمنعون ويجأرون من عذاب الله تعالى؟! 3- إن تقلب أهل مكة وأمثالهم في نعيم الدنيا، وظنهم أن النعمة لا تزول عنهم هو سبب اغترارهم وإعراضهم عن تدبر حجج الله عز وجل، وكان عليهم التأمل في متابعة انتصارات النبي صلّى الله عليه وسلم وغلبته عليهم، وتمكين الله له من فتح البلاد بلدا بعد بلد، مما حول مكة. 4- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم إنذار الكفار وتحذير هم بالقرآن الموحى إليه من عند الله، لا من قبله، ولكنهم إذا لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، صاروا كالصم الذين لا يسمعون أصلا، وسيتغير خالهم إذا مسّهم أدنى شيء من عذاب الله،

القصة الأولى - قصة موسى عليه السلام مقارنة بين خصائص التوراة وخصائص القرآن [سورة الأنبياء (21) الآيات 48 إلى 50] :

فعندئذ يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون، أي يعترفون بظلم أنفسهم وبكفرهم حين لا ينفعهم الاعتراف. 5- لا عدل أدق وأضبط وأحكم فوق عدل الله، فموازينه لأهل يوم القيامة أو في يوم القيامة غاية العدل، فلا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة مسيء، وإن كان العمل أو الشيء الذي قدمه المحسن مثقال حبة الخردل، ومثقال الشيء: ميزانه من مثله، وكفى بالله مجازيا على ما قدم الناس من خير أو شر، وكفى به محصيا عادا لأعمال عباده، وألا أحد أسرع حسابا منه، والحساب: العد، والغرض من ذلك التحذير. والغرض من قوله: حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ المبالغة في أن الشيء مهما صغر أو كبر غير ضائع عند الله تعالى. 6- الذي وردت به الأخبار وعليه أكثر العلماء هو أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة. قال حذيفة رضي الله عنه: «صاحب الميزان يوم القيامة: جبريل عليه السلام» . وقيل عن مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل، وليس ثمّ ميزان، وإنما هو العدل. القصة الأولى- قصة موسى عليه السلام مقارنة بين خصائص التوراة وخصائص القرآن [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

الإعراب:

الإعراب: وَضِياءً فيه محذوف تقديره: ذا ضياء، فحذف المضاف، وأدخل واو العطف على ضِياءً وإن كان في المعنى وصفا دون اللفظ، كما يدخل على الوصف إذا كان لفظا، كقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال 8/ 49] وكقولهم: مررت بزيد وصاحبك أي مررت بزيد صاحبك، فدل هذا وغيره على أن الواو تدخل على الوصف إذا كان لفظا أو كان وصفا في المعنى. وقرئ ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة لِلْمُتَّقِينَ أو مدح لهم. بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول. المفردات اللغوية: الْفُرْقانَ التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام، وهي أيضا ضياء تنير طرق الهدى، والذكر، أي الموعظة التي يوعظ بها، لما فيها من عبرة. يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي يخافون عذابه. بِالْغَيْبِ في حال الخفاء عن الناس. وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي من أهوالها. مُشْفِقُونَ خائفون. وَهذا ذِكْرٌ أي وهذا القرآن أيضا ذكر أي تذكير وعظة. مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أفتنكرونه، وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ والاستفهام فيه للتوبيخ. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أتبعه ببيان أن هذه سنة الله تعالى في أنبيائه، فقد أنزل الوحي عليهم ليكون ما تضمنه من الشريعة والأحكام سببا لهداية البشر. وبعد أن أبان تعالى أدلة التوحيد والنبوة والمعاد شرع في التذكير بقصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه، وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر عليها، وهذه هي القصة الأولى- قصة موسى وهارون عليهما السلام.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الحديث عن موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وبين كتابيهما، ليبين امتداد صلة النبوة وصلة الوحي، وليشير إلى وجود الشبه الكثير بين التوراة في أصلها الصحيح وبين القرآن الكريم في كمال الشريعة الشاملة للدين والدنيا، والعقيدة والعبادة، فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي وو الله لقد أعطينا موسى وهارون كتابا شاملا لأحكام الشريعة، وهو التوراة الذي هو كتاب فرق الله فيه بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وهو أيضا منار يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة للتوصل إلى طريق الهداية والنجاة، وهو كذلك عظة وتذكير يتعظ به المتقون ربهم وهم ذوو الأوصاف التالية: 1- خشية الله في السر: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي الذين يخافون عذاب ربهم، فيأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، في حال الخفاء والسر والخلوات حيث لا يطلع عليهم أحد من الناس، قال الرازي: وهذا هو أقرب المعاني. وقد تكرر في القرآن الكريم التركيز على هذا المعنى، كما في قوله تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق 50/ 33] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك 67/ 12] . 2- الخوف من يوم القيامة: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي وهم من القيامة وأهوالها وسائر ما يحدث فيها من الحساب والسؤال خائفون وجلون. وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض.

فقه الحياة أو الأحكام:

وكما أن هذه خصائص التوراة، فكذلك خصائص القرآن مثلها فقال تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي وهذا القرآن العظيم المنزل عليك تذكير وعظة، ومبارك فيه بكثرة منافعه وغزارة خيره. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟ أي فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره؟ وكيف تنكرونه وهو في غاية الجلاء والوضوح؟ وهو أيضا معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البعيدة، والأدلة العقلية، وبيان الشرائع، فكيف تنكرون إنزاله من عند الله، وأنتم خير من يقدّر روعة الكلام وفصاحة اللسان وإحكام البيان؟! فقه الحياة أو الأحكام: اقتصر البيان في قصة موسى وهارون عليهما السلام على كتاب التوراة ليقرن الكلام عنه مع الكلام عن القرآن الكريم. وقد تبين من الآيات أن التوراة فرقان بين الحق والباطل والحلال والحرام والغي والرشاد، وضياء يستضاء بها لسلوك طريق الهداية والنجاة، مثل قوله عنها في آية أخرى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة 5/ 44] وعظة وتذكير للمتقين. وهي أيضا أوصاف القرآن في آيات أخرى، فقال تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران 3/ 4] . تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . وقال سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 5/ 15] وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف 7/ 157] . وقال جل جلاله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل 16/ 44] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ

القصة الثانية - قصة إبراهيم عليه السلام:

وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف 43/ 44] وقال تعالى هنا: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ... فإن رأى العرب تمسك اليهود بفرقان موسى، فهم أجدر بالتمسك بكتابهم فرقان محمد صلّى الله عليه وسلم. أما أوصاف المتقين فهي واحدة قديما وحديثا، ذكر تعالى منها هنا وصفين: خشية الله تعالى في السر أي وفي العلن، والخوف من يوم القيامة وأهوالها، وما يجري فيها من الحساب والسؤال قبل التوبة. وختمت الآيات ببيان الهدف الجوهري منها: وهو التعجب من إنكار العرب للقرآن، وهو كلام الله تعالى، بدليل أنه معجز لا يقدرون على الإتيان بمثله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام - 1- إنكار عبادة الأصنام والدعوة إلى توحيد الله تعالى [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

الإعراب:

الإعراب: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِذْ: ظرف في موضع نصب يتعلق بآتينا وتقديره: آتينا إبراهيم رشده في وقت قال لأبيه. عَلى ذلِكُمْ متعلق بمحذوف مقدر، يدل عليه مِنَ الشَّاهِدِينَ ويفسره. ولا يجوز تعلقه به لأنه لا يجوز تقديم الصلة ومعمولها على الموصول. المفردات اللغوية: رُشْدَهُ الرشد: الاهتداء لوجوه الخير والصلاح في الدين والدنيا، قال الله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء 4/ 6] وقرئ أيضا رُشْدَهُ. ومعنى إضافة الرشد لإبراهيم: أنه رشد مثله، وأنه رشد له شأن. مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون عليهما السلام. وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي علمنا منه أنه أهل لما آتيناه، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال. وفيه إشارة إلى أن فعله تعالى باختيار وحكمة، وأنه عالم بالجزئيات. التَّماثِيلُ الأصنام، جمع تمثال: وهو الصنم، والتمثال: اسم للشيء المصنوع المضاهي خلق الله تعالى، كإنسان أو حيوان أو شجر، سمى الأصنام بالتماثيل تحقيرا لشأنها وتصغيرا لها، مع علم إبراهيم بتعظيمهم وإجلالهم لها. وفرق بعضهم بين الصنم والوثن بأن الصنم: المصنوع من المعدن القابل للتمدد بالنار، والوثن: المصنوع من الخشب أو غيره. عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها. وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم. كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بعبادتها. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بيّن. أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالشيء الثابت في الواقع. اللَّاعِبِينَ الهازلين. بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ربكم المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض. فَطَرَهُنَّ خلقهن

المناسبة:

وأبدعهن على غير مثال سبق. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي قلته. مِنَ الشَّاهِدِينَ به المتحققين صحته، والمبرهنين عليه، فإن الشاهد: من تحقق الشيء وحققه. لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأجتهدن في كسرها. والكيد في الأصل: الاحتيال في الإضرار، والمراد هنا: المبالغة في إلحاق الأذى بها. فَجَعَلَهُمْ بعد ذهابهم إلى مجتمعهم في يوم عيد لهم. جُذاذاً قطعا أو فتاتا، من الجذ، أي القطع. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ للأصنام، كسر غيره، واستبقاه، وجعل الفأس على عنقه. لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى الكبير. يَرْجِعُونَ فيروا ما فعل بغيره. المناسبة: هذه هي القصة الثانية من قصص الأنبياء في هذه السورة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم، ليتأسى بهم في الصبر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الدين الحق ومعاداة المشركين. التفسير والبيان: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ.. أي والله لقد آتينا إبراهيم رشده، أي هديناه إلى ما فيه الخير والصلاح، من قبل موسى وهارون أو من قبل النبوة، ووفقناه إلى توحيد الله، ومعاداة عبادة الأصنام لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، وما هي إلا حجر أو معدن أو خشب صنعها أبوه أمامه بالقدوم، وكنا عالمين بأنه أهل للنبوة، وجامع لمحاسن الأخلاق. والرشد: إما النبوة وإما الأهلية للخير والصلاح في الدين والدنيا. قال القرطبي: وعلى الأول أكثر أهل التفسير. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ..؟ إِذْ: إما أن يتعلق بآياتنا أو برشده، أو بمحذوف، أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. أي آتيناه الرشد حين أنكر على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال: ما هذه التماثيل أي الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها وتعظيمها؟

وفي هذا القول تنبيه إلى ضرورة التأمل في شأنها، وأنها لا تغني عنهم شيئا، لكنهم لم يفعلوا، وأصروا على تقليد الأسلاف دون برهان، فقالوا: قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي لا حجة لنا سوى تقليد الآباء واتباع الأسلاف، وكفى بذلك ضعفا وسذاجة، فوبخهم إبراهيم عليه السلام على ما يفعلون: قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قال إبراهيم لأبيه وقومه: لا فرق بينكم وبين آبائكم، فأنتم وهم في ضلال بيّن واضح، على غير منهج الحق والطريق المستقيم. وهذا تنبيه إلى أن سوء الرأي لا يغيره تقادم الزمن، ومضي الأيام. فتعجبوا من قوله وسألوه: قالُوا: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي ما هذا الكلام الصادر عنك، أتقوله لاعبا هازلا مازحا أم محقا جادّا فيه، فإنا لم نسمع به قبلك؟ فأجابهم إبراهيم بعد إنكاره عبادة الأصنام بما يبين الحق، ويرشد إلى الإله المستحق للعبادة: قالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي قال إبراهيم: إني أتكلم بالجد والحق، لا بالهزل واللعب، فإن الرب المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض الذي خلقها وكونها وأنشأها من العدم، على غير مثال سابق، وهو الخالق لجميع الأشياء، وهو الرب الذي لا إله غيره. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه. والخلاصة: أنه أظهر لهم أنه مجدّ في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولا وهو ما قاله، ثم بالفعل ثانيا. لذا أقسم إبراهيم الخليل قسما أسمعه بعض قومه:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي وو الله لأجتهدن في كسر أصنامكم، وفي إلحاق الأذى بها، بعد أن تذهبوا إلى عيدكم، وكان لهم مجمع عيد يخرجون إليه كل سنة، ثم يعودون، فيسجدون للأصنام. وقوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين ذاهبين. وسمع هذا القول رجل منهم، فحفظه، ثم أخبر عنه، وشاع ذلك في جماعة، وعليه قال تعالى: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء 21/ 60] . ولم يخرج إبراهيم معهم معتذرا بأنه سقيم، وصمم على تنفيذ خطته عمليا، لعلهم يتركون عبادة الأصنام، حينما يتأملون أنها لا تستطيع دفع الأذى عن نفسها، والبرهان العملي أوقع في النفس، وأدعى إلى التأمل، وأشد صدمة للذهن. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل، فجعلهم قطعا فتاتا وحطاما، كسرها كلها إلا الصنم الكبير عندهم لم يكسره كما قال تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات 37/ 93] لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة، وقد علق إبراهيم الفأس على عنقه، أو في يده، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورون جاهلون. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- لا تأتي النبوة لأحد إلا بعد إعداد وصقل وتوافر مقومات ومؤهلات تؤهل لها، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام وفّقه الله لهدايته وللنظر والاستدلال على توحيد الله بآيات الكون من قبل النبوة على الرأي الراجح، أو من قبل

موسى وهارون كما قيل، وكان الله عالما بأنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة. 2- كان لإبراهيم موقف جريء رائع من الأصنام وعبدتها، فقال لأبيه آزر وقومه أي النمروذ ومن اتبعه: ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون على عبادتها؟. فأجابوه بأنهم يعبدونها تقليدا للأسلاف، فيرد عليهم بأنهم وآباءهم في خسران مبين بعبادتها إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. وكأنهم لم يصدقوا قوله، فسألوه: هل جئتنا بحق فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ فكان إبراهيم صارما مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد قولا وفعلا، أما القول فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وأبدعهن. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي إنني شاهد على أنه رب السموات والأرض، والشاهد يبين الحكم، وأنا أبين بالدليل ما أقول. وأما الفعل: فإنه كسر الأصنام وكان عددها سبعين، فعل واثق بالله تعالى، موطّن نفسه على تحمل المكروه في سبيل رفع لواء الدين الحق، وإعلاء راية التوحيد لله. وترك كبير الأصنام وعظيم الآلهة في الخلق، فإنه لم يكسره. قال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر، وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتج به عليهم. وهذا هو معنى قوله: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، كما يرجع إلى العالم أو الزعيم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة، ومالك صحيحا، والفأس على عاتقك؟. وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، ويظهر لهم أنهم في عبادته على جهل عظيم. وذكر القرطبي والرازي وجها آخر في تفسير ذلك: وهو لعلهم إلى إبراهيم

- 2 - النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثة تكسير الأصنام [سورة الأنبياء (21) الآيات 59 إلى 65] :

ودينه يرجعون إذا قامت الحجة عليهم، أو يرجعون إلى توحيد الله عند تحققهم عجز آلهتهم. - 2- النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثة تكسير الأصنام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 65] قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) الإعراب: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ مَنْ: مبتدأ، ولَمِنَ الظَّالِمِينَ: خبره. يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ الفعلان هنا صفتان لفتى، أو أن يَذْكُرُهُمْ: ثاني مفعولي سمع. ويُقالُ: فعل مبني للمجهول، وإِبْراهِيمُ: قيل: هو خبر مبتدأ محذوف (أي هو إبراهيم) أو منادى مفرد (أي يا إبراهيم) قال الزمخشري: والصحيح أنه فاعل (أي نائب فاعل) يقال لأن المراد الاسم، لا المسمى. عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محل الحال بمعنى معاينا مشاهدا، أي بمرأى منهم ومنظر، أو هو على حذف مضاف، تقديره: على رؤية أعين الناس، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. والاستعلاء في عَلى في الرأي الأول وارد على طريق المثل، أي يثبت إتيانه في الأعين، ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه.

البلاغة:

كَبِيرُهُمْ هذا مبتدأ وخبر. البلاغة: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ استعارة، شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة. المفردات اللغوية: قالُوا أي بعد رجوعهم من مجتمعهم في يوم العيد، ورؤيتهم ما فعل. قالُوا الثانية: أي بعضهم لبعض. يَذْكُرُهُمْ أي يعيبهم ويسبهم. عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي معاينا ظاهرا بمرأى منهم، بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بفعله أو قوله، أو يحضرون عقوبتنا له. قالُوا بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا حين أحضروه. قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أسند الفعل إليه تجوّزا وتعريضا لهم بأن الصنم المعلوم عجزه عن الفعل لا يكون إلها، وإنما هو متسبب لما حصل، والقصد تبكيتهم وإلزامهم الحجة وحملهم على ترك الوثنية، أو للاستهزاء بهم، ولهذا قال: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي اسألوا هذه الأصنام عن الفاعل الذي كسرها إن كانوا يقدرون على النطق. وما روي في الصحيحين وعند أحمد عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا، لما شابهت صورتها صورته. وجملة فَسْئَلُوهُمْ ... فيه تقديم جواب الشرط. فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي راجعوا عقولهم، وفكروا وتدبروا فَقالُوا لأنفسهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتكم من لا ينطق. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا، وعادوا إلى جهلهم، وردوا إلى كفرهم، وقالوا لإبراهيم: والله لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقوله: ثُمَّ نُكِسُوا.. شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الثاني من قصة إبراهيم، الذي يصور مرحلة الغليان والغيظ والحقد عند عبدة الأصنام بعد تكسيرها وتحطيمها، وهي كارثة بالنسبة إليهم تتطلب معرفة الفاعل للثأر منه، وحكاية ذلك:

قالُوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟ أي قال عبدة الأوثان قوم إبراهيم، النمروذ وأتباعه، على سبيل الوعيد والتوبيخ، حين رجعوا وشاهدوا تحطيم آلهتهم: من الذي كسر هذه الآلهة؟ وتعبيرهم بالآلهة تشنيع وتهويل، ومبالغة في التعنيف. إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن هذا الفاعل في صنيعه هذا لمن الذين ظلموا أنفسهم وعرّض نفسه للإهانة والعقاب، إما لجرأته على الآلهة، وإما لإفراطه في كسرها وتماديه في الاستهانة بها. قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ قال بعضهم الذي سمع قوله المتقدم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ: سمعنا شابا يعيبهم ويتوعدهم يسمى إبراهيم، فهو الذي فعل بهم هذا. قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى ... وظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فقد كان يناقشهم ويقول: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فغلب على أذهانهم أنه الفاعل. قالُوا: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي قال نمروذ وأشراف قومه: إذن فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر، بحضرة الناس كلهم، حتى يروه ويشهدوا عليه، فلا يأخذوه بغير بينة، أو حتى يبصروا ما يصنع به فيكون عبرة. وكان هذا هو مقصود إبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم، وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تمنع عن نفسها ضرا ولا تنصر أحدا. قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ أي فلما أتوا به- وهذا كلام محذوف مفهوم- قالوا له: أأنت الذي كسرت هذه الأصنام؟ فأجابهم:

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أي بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر، الذي لم يكسره. وقد نسب الفعل إلى هذا الصنم الأكبر، لما رأى شدة تعظيمهم له، باعتباره المتسبب أو الباعث على الفعل، أي الاستهانة والتحطيم، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى المتسبب فيه. أو أنه أقرّ بفعله بأسلوب تعريضي لإلزامهم الحجة وتبكيتهم، كما يقول الصانع الحاذق الشهير أو الخطاط المشهور لمن يسأله عن هذه الصنعة الرائعة أو الخط الجميل: بل أنت صنعت ذلك أو بل أنت كتبت ذلك، والقصد بهذا الجواب تقرير السائل على سؤاله مع الاستهزاء به، لا نفيه عن صاحبه وإثباته للسائل. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي فاسألوا هذه الأصنام عمن كسرها إن كانوا آلهة ينطقون. وفي ذلك الجواب لفت أنظارهم وتنبيه أذهانهم إلى عقم عبادة الأصنام، فيبادروا من تلقاء أنفسهم للاعتراف بعدم جدواها وأنها أحجار صماء لا تنطق، وجمادات لا تتكلم، فكيف تستحق العبادة؟! وقد أثر الجواب في أفكار هم بدليل قوله الآتي: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي فرجع قوم إبراهيم حينئذ على أنفسهم بالملامة، ونسبوا إلى أنفسهم التقصير في عدم الاحتراز وعدم حراسة آلهتهم، ما داموا لا ينطقون، وقالوا: فَقالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي قال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها. أو أنتم الظالمون أنفسكم بعبادة ما لا ينطق. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي ثم أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير، أو عادوا إلى المجادلة بالباطل لإبراهيم وانقلبوا عن حال الاستقامة، واحتجوا على إبراهيم حينما أدركتهم الحيرة بقولهم: إنك تعلم ونحن

فقه الحياة أو الأحكام:

نعلم أن هؤلاء لا ينطقون، فكيف تطلب منا سؤالهم إن كانوا ينطقون؟! أي أنهم احتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم بسبب الحيرة التي أدركتهم. فقه الحياة أو الأحكام: لقد طاشت سهام قوم إبراهيم حينما رأوا أصنامهم مكسّرة، بعد أن رجعوا من عيدهم، فقالوا على جهة البحث والإنكار: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وهذا أمر متوقع، قدّره إبراهيم عليه السلام. كما أنه قدر أنهم سيعرفون أنه هو المتهم بالتكسير، لحملته السابقة بالقول والنكير، وتسفيه الأحلام والعقول، وانتقاده اللاذع لعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ودعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي يمنح ويمنع، ويضر وينفع. ولما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، أرادوا إثبات التهمة عليه بالبينة، فقالوا: ائتوا به على مرأى ومسمع من الناس، ليشهدوا عليه بما يقول، ليكون ذلك حجة عليه. وفي هذا دليل على أنه ما كان يؤخذ أحد بدعوى أحد، وهكذا الأمر في شرعنا، وكل الشرائع. ولكنهم ما أدركوا أن تلك المواجهة مع إبراهيم عليه السلام أمام الناس في غير صالحهم، فقد كان إبراهيم قوي الحجة، وأراد تنبيه الأفكار إلى عبث عبادتهم، وقلة عقلهم، وكثرة جهلهم، فسألوه عمن فعل تلك الفعلة، فأجابهم بأن الفاعل هو كبيرهم، تعريضا بأن عبادتهم له وتعظيمهم إياه سبب للغيظ والغضب، مما حمله على تكسيرها، وتنبيها لهم بأن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد، وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، قال صلّى الله عليه وسلم فيما

- 3 - الانتصار الساحق لإبراهيم - نجاته من النار [سورة الأنبياء (21) الآيات 66 إلى 70] :

رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين وهو ضعيف: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ. وواحدة في شأن سارة إذ قال: لسارة أختي، وذلك ليدفع بقوله مكروها» . ثم قال إبراهيم: سلوهم إن نطقوا، فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. ويتضمن هذا الكلام اعترافا بأنه هو الفاعل. فقد احتج عليهم بأمرين: الأول: قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وشأن الكبير حماية الأتباع والصغار، أو لأنه غضب أن تعبد معه هذه الصغار، فكسرها. والثاني: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ليقولوا: إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم: فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم. ولما ألزمهم بحجته أقروا بأنهم هم الظالمون بعبادة من لا ينطق بكلمة، ولا يملك لنفسه شيئا، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس، ثم عادوا لجهلهم وعنادهم، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. - 3- الانتصار الساحق لإبراهيم- نجاته من النار [سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 70] قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

البلاغة:

البلاغة: يَنْفَعُكُمْ يَضُرُّكُمْ بينهما طباق. كُونِي بَرْداً مجاز مرسل، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، أي باردة أو ذات برد. المفردات اللغوية: مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بدله. ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من رزق وغيره. ولا يضركم شيئا إذا لم تعبدوه. أُفٍّ هو صوت المتضجر، ومعناه: نتنا وقبحا، ويستعمل للدلالة على أن القائل متضجر، والمراد هنا أن إبراهيم تضجر على إصرارهم على الباطل البيّن. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنعكم، وأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، ولا تصلح لها، وإنما يستحقها الله تعالى. قالُوا: حَرِّقُوهُ أخذوا في المضارّة لما عجزوا عن المحاجة، أي حرقوا إبراهيم، فإن النار أهول ما يعاقب به. وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقه والانتقام لها. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا. والقائل منهم: رجل من أكراد فارس، اسمه (هينون) خسف به الأرض، وقيل: نمروذ. فجمعوا له الحطب الكثير، وأضرموا فيه النار، وأوثقوا إبراهيم، ورموه في منجنيق في النار. قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني ذات برد وسلام، أي ابردي بردا غير ضار، فلم تحرق منه غير وثاقه، وذهبت حرارتها، وبقيت إضاءتها، وسلم من الموت ببردها. كَيْداً أي تحريقا ومكرا في إضراره، والكيد: المكر الخديعة. الْأَخْسَرِينَ في مرادهم، أي أخسر من كل خاسر، لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجبا لمزيد درجته، واستحقاقهم أشد العذاب. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الثالث والخاتمة المدهشة من قصة إبراهيم مع قومه عبدة الأصنام، فإنه لما أقروا على أنفسهم بأن لا جدوى من عبادة آلهتهم، وألزمهم إبراهيم الحجة، اندفع كالسيل الهادر يعلن ضرورة إنها هذه العبادة الخرافية، التي تقوم على الأوهام، والتي يترفع عنها العقلاء، فقال:

قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟ أي قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بأن تلك الآلهة لا تنطق: أتعبدون بدلا عن الله أشياء لا تنفعكم شيئا إذا علّقتم الأمل بها، ولا تضركم شيئا إذا عاديتموها أو خفتم منها. أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تبّا لكم وقبحا لآلهتكم، وهذا التأفف والتضجر لكم ولها لعبادتكم إياها غير الله تعالى. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يدين به إلا كل جاهل ظالم فاجر. ولما تفوق إبراهيم بحجته عليهم، وظهر الحق واندحر الباطل، لم يجدوا مناصا إلا اللجوء للأذى والمضارّة: قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال بعضهم لبعض، والمشهور أن القائل: نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح، وقيل: إنه رجل من الكرد من أعراب فارس: احرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا، فجمعوا حطبا كثيرا جدا، ورموا إبراهيم من كفة منجنيق. قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي قال الله تعالى المتكفل بحفظ أنبيائه وعصمتهم من أذى الناس: يا نار كوني بردا، وسلاما على إبراهيم، أي ابردي بردا غير ضار، فكانت وسطا لا حامية ولا باردة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقال أبو العالية: ولو لم يقل بَرْداً وَسَلاماً لكان بردها أشد عليه من حرّها. وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق، مع بقائها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير.

فقه الحياة أو الأحكام:

روى البخاري عن ابن عباس أن إبراهيم لما ألقوه في النار قال: «حسبي الله ونعم الوكيل، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» [آل عمران 3/ 173] . وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك» . وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن إبراهيم حين قيدوه وألقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك» قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم؟ ألك حاجة؟ قال: «أما إليك فلا» فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ «1» . وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين، ونجاه الله من النار. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، إنها تمثل موقف المجاهد الصابر في سبيل دعوته إلى التوحيد والحق والفضيلة، وموقف المعادي الجاهل المناصر للباطل والشرك والوثنية. لقد دبّر قوم إبراهيم له طريقا للخلاص منه، وأرادوا إحراقه وتعذيبه بأشد أهوال العذاب، ومعاقبته بالنار لأنها أشد العقوبات، وجمعوا الحطب وأوقدوا

_ (1) تفسير القرطبي: 11/ 303

النار، واشتعلت واشتدت، ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. وهذا من أشد وأعتى ما يفعله البشر، ولكن أين الله؟! لقد كانت النتيجة مروعة مذهلة مدعاة للعجب والاستغراب، وفوق حدود التصورات البشرية، فسلخ الله تعالى من النار خاصية الإحراق، ونجا إبراهيم وخرج من النار كأنه يخرج من حمام أمام الجموع الغفيرة المشاهدة، ولم تحرق النار إلا وثاقه في أول ملامستها له، وتلك معجزة تدعو إلى الإيمان بحق، وتستدعي التأمل في تدبير البشر ومكرهم، وفي تدبير الله الأعظم الذي يبدد كل تدبير، ويحبط كل مسعى شرير، فنجاه الله من النار، وجعلهم الأخسرين المغلوبين الأسفلين لأنهم أرادوا به التحريق، فخاب مرادهم. روى ابن أبي حاتم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ «1» ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم» . وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة، فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة. آمنت بالله وحده لا شريك له، فهو صاحب القدرة المطلقة، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.

_ (1) الوزغ: دويبة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة.

- 4 - نعم أخرى على إبراهيم وإنجاؤه مع لوط إلى الأرض المباركة [سورة الأنبياء (21) الآيات 71 إلى 73] :

- 4- نعم أخرى على إبراهيم وإنجاؤه مع لوط إلى الأرض المباركة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 73] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) البلاغة: فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ عطف الصلاة والزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام للتفضيل فإنهما من فعل الخيرات، وخصهما بالذكر لفضلهما ورفعة مرتبتهما. العالمين الصالحين العابدين سجع لطيف. المفردات اللغوية: وَلُوطاً ابن أخي إبراهيم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي من العراق إلى أرض فلسطين في الشام، التي بارك الله فيها بكثرة الأنهار والأشجار، أو لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. روي أن إبراهيم نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما مسافة يوم وليلة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم، وكان قد سأل ولدا، كما جاء في سورة الصافات نافِلَةً عطية ومنحة، وهي حال من إسحاق ويعقوب، أو المراد: زيادة على ما سأل وهو إسحاق، فتختص كلمة نافِلَةً بيعقوب، ولا بأس به للقرينة، كما قال البيضاوي. وَكُلًّا أي الأربعة: هو وولداه ولوط جَعَلْنا صالِحِينَ أنبياء، ووفقناهم للصلاح،

المناسبة:

فصاروا كاملين وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً رؤساء يقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ الناس إلى ديننا بِأَمْرِنا أي بأمرنا لهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أن يحثوا الناس على فعل الخير، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم. وأصل الكلام: أن تفعل الخيرات. وحذفت تاء إِقامَ تخفيفا، وهي الإقامة لقيام المضاف إليه مقامها عابِدِينَ موحدين مخلصين في العبادة، ولذلك قدم الصلة وهي لنا ليفيد الإخلاص في العبادة. المناسبة: بعد إنجاء إبراهيم من النار، ذكر الله تعالى نعما أخرى عليه وعلى لوط ابن أخيه، وقد قرن مع إبراهيم لما كان بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ومن تلك النعم: إخراجهما من العراق إلى بلاد الشام الأرض المباركة، ومنها: جعلهما أئمة يقتدى بهم، وإنزال الوحي عليهما لفعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن النعم على إبراهيم هبته من الذرية إسحاق ويعقوب. التفسير والبيان: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي ومن نعم الله تعالى على إبراهيم: أنه ولوط عليهما السلام نجاهما إلى الأرض المباركة، بالهجرة من العراق إلى بلاد الشام الأرض المقدسة، والتي بارك الله فيها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء، وانتشرت شرائعهم بين العالمين، كما بارك فيها بخصوبة أراضيها وكثرة أشجارها وأنهارها، فاجتمع فيها خير الدنيا والآخرة. ويقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال. وكانت هجرة إبراهيم من كوثى من بلدة «فدان آرام» بالعراق، ومعه لوط وسارّة، فرارا من الشرك والوثنية، والتماسا لمقر التوحيد وعبادة الله، فنزل حرّان، ثم رحل إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، فنزل بفلسطين، وأقام لوط في قرى المؤتفكة التي تبعد عن فلسطين مسيرة يوم وليلة.

ثم ذكر تعالى نعما أخرى على إبراهيم بعد نعمتي النجاة من النار والهجرة إلى الأرض المباركة فقال: 1- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي ومنحنا إبراهيم من الذرية المباركة إسحاق ويعقوب، أو أعطيناه إسحاق إجابة لدعائه، إذ قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات 37/ 100] وزدناه يعقوب نافلة زائدة على ما سأل، كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض. وعلى التفسير الأول: تكون النافلة (أي العطية والمنحة) إسحاق ويعقوب، وعلى التفسير الثاني: النافلة يعقوب خاصة. 2- وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أي وكلا من الأربعة: لوط وإبراهيم وولديه، أو: وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا الجميع أهل خير وصلاح، يطيعون ربهم، ويتجنبون محارمه، أو جعلناهم أنبياء مرسلين، والأول أقرب لشموله الكل. ووصفهم بالصلاح يدل على أن الأنبياء معصومون. 3- وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي وصيرناهم قادة وأئمة يقتدى بهم، يدعون إلى دين الله بإذنه، وإلى الخيرات بأمره. وفيه دلالة على أن من صلح للقدوة في دين الله موفق مهدي للدين الحق وطريق الاستقامة، وليس له أن يخل بمقتضى الهداية ويتثاقل عنها. 4- وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي وأنزلنا عليهم أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل الطاعات وترك المحرّمات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة، وذلك من أعظم النعم على الأب إبراهيم عليه السلام. 5، 6- وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي وأوحينا إليهم أن يقيموا الصلاة

فقه الحياة أو الأحكام:

ويؤتوا الزكاة المفروضتين، وهذا من عطف الخاص على العام لأن الصلاة والزكاة من الخيرات، وخصهما بالذكر من سائر العبادات لسمو مرتبتهما وخطورتهما لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية، وشرعت لدفع حاجة الفقراء، وفي كلتا العبادتين تعظيم أمر الله تعالى. وبعد تعداد هذه النعم ووصفهم بالصلاح أولا، ثم بالإمامة، ثم بالنبوة والوحي، أبان اشتغالهم بالعبودية والعبادة لله تعالى، فقال: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أي وكانوا لجناب الله خاشعين خاضعين، طائعين فاعلين ما يأمرون به الناس. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا أوفياء لإحسان الله ونعمه عليهم، فلما أكرمهم الله بالإنعام وتفضل عليهم بالإحسان، كانوا أوفياء له بالعبودية وهو الطاعة والعبادة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى بيان ما تفضل الله به من النعم الوفيرة على إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النار، وهي ما يلي: 1- النجاة من أرض الكفر والوثنية إلى أرض الإيمان والتوحيد، وذلك بهجرة إبراهيم الخليل مع ابن أخيه لوط من بلاد العراق إلى أرض الشام المباركة ببعثة أكثر الأنبياء فيها، وبكثرة الخيرات الزراعية، فهي معادن الأنبياء، وكثيرة الخصب والنمو، ووافرة الثمار والأنهار العذبة. 2- هبة الذرية الطيبة له، فقد وهبه الله إسحاق إجابة لدعائه، وزاده يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة، أي زيادة على ما سأل. 3- جعل الله كلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحا عاملا بطاعة الله،

القصة الثالثة - قصة لوط عليه السلام [سورة الأنبياء (21) الآيات 74 إلى 75] :

ورأى البيضاوي إضافة رابع وهو لوط. قال القرطبي: وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد، فهو مخلوق لله تعالى. 4- جعلهم رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات، يعملون بأمر الله وبما أنزله عليهم من الوحي والأمر والنهي، ويهدون الناس إلى دين الله الحق بأمر الله لهم، ويدعونهم إلى التوحيد. 5- الإيحاء لهم بأن يفعلوا الطاعات. 6- أمرهم بإقامة الصلاة المفروضة التي هي أشرف العبادات البدنية. 7- الوحي لهم أيضا بإيتاء الزكاة الواجبة التي هي أشرف العبادات المالية. وكانوا مشتغلين بالعبودية، مطيعين لأوامر الله تعالى، كأنه سبحانه وتعالى لما وفي بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام، فهم أيضا وفّوا بعهد العبودية، وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة. القصة الثالثة- قصة لوط عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) الإعراب: وَلُوطاً منصوب بفعل مقدر، تقديره: وآتينا لوطا آتيناه، وقيل: تقديره: واذكر لوطا.

البلاغة:

البلاغة: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا مجاز مرسل علاقته المحلية، أي أدخلناه في الجنة لأنها مكان تنزل الرحمات. المفردات اللغوية: وَلُوطاً هو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، كما عرفنا حُكْماً حكمة، أو نبوة، أو فصلا بين الخصوم وَعِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ هي قرية سدوم التي بعث إليها لوط عليه السلام الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ أي يعمل أهلها، وصفها بصفة أهلها الْخَبائِثَ أي الأعمال الخبيثة من اللواط وغيره كالرمي بالبندق واللعب بالطيور قَوْمَ سَوْءٍ مصدر ساء نقيض سرّ، وقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ كالتعليل لما سبق وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا بأن أنجيناه من قومه، وجعلناه في أهل رحمتنا أو في جنتنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى. المناسبة: بعد بيان ما أنعم الله تعالى به على إبراهيم عليه السلام، ذكر نعمه على لوط عليه السلام، لما بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ولوط: هو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت 29/ 26] . التفسير والبيان: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي آتى الله لوطا النبوة والحكمة (وهي ما يجب فعله) والحكم: وهو حسن الفصل في الخصومات بين الناس، وكذلك آتاه علما بما ينبغي للأنبياء وهو كل ما يتعلق بالعقيدة والعبادة وطاعة الله تعالى، وبعثه إلى «سدوم» وتوابعها وهي سبع قرى، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله، ودمر عليهم، كما أخبر في مواضع من القرآن العزيز. وهاتان نعمتان على لوط، والنعمة الثالثة هي:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ أي ونجاه الله من عذابه الذي عذّب به أهل القرية «سدوم» الذين كانوا يرتكبون خبائث الأعمال، وأخطرها اللواط. وسبب ذلك أنهم كما قال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أي إنهم كانوا جماعة سوء وقبح، خارجين عن طاعة الله، مرتكبين معاصيه، والفسوق: الخروج. والنعمة الرابعة هي: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي وجعلناه من أهل رحمتنا أو في جنتنا، كما جاء في الحديث الصحيح: «قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي» وقيل: الرحمة: هي النبوة، أو الثواب. والسبب هو كما قال: إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الذين يعملون الصالحات، ويؤدون الطاعات، بفعل الأوامر، واجتناب النواهي. فقه الحياة أو الأحكام: أنعم الله تعالى على لوط عليه السلام بأربع نعم وهي: 1- إيتاؤه الحكم: أي النبوة، والحكمة: وهي ما يجب فعله. 2- تعليمه العلم النافع: وهو المعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم بين الخصوم. 3- إنجاؤه من العذاب الذي حل بالقرى التي أرسل إليها، لارتكاب أهلها خبائث الأعمال، وأهمها اللواط، ولأنهم قوم سوء فاسقين، أي خارجين عن طاعة الله تعالى. 4- إدخاله في جنان الخلد التي هي متنزل الرحمات الإلهية لأنه من القوم الصالحين الذين آمنوا بالله، وأطاعوا ربهم، وائتمروا بأمره، وانتهوا عن نهيه.

القصة الرابعة - قصة نوح عليه السلام [سورة الأنبياء (21) الآيات 76 إلى 77] :

القصة الرابعة- قصة نوح عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77] وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) المفردات اللغوية: وَنُوحاً أي واذكر نوحا إِذْ نادى إذ دعا على قومه بالهلاك، بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] وهو بدل مما قبله. مِنْ قَبْلُ من قبل المذكورين: إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ في السفينة مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الطوفان والغرق، وأذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَنَصَرْناهُ جعلناه منتصرا كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على رسالته فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ لاجتماع الأمرين: تكذيب الحق، والانهماك في الشر، ولم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله. المناسبة: بعد بيان قصة إبراهيم أبي الأنبياء ولوط قريبه، ذكر الله تعالى قصة نوح أب البشر الثاني لأن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام. وكل من إبراهيم ونوح من الرسل أولي العزم. التفسير والبيان: وَنُوحاً.. أي واذكر أيها النبي وقت أن نادى نوح ربه بأن دعا على قومه لما كذبوه: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] وذلك من قبلك وقبل إبراهيم ولوط، فاستجبنا له دعاءه ونجيناه والذين آمنوا به من أهله، كما قال

فقه الحياة أو الأحكام:

تعالى: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود 11/ 40] نجيناهم من الغرق والشدة والأذى. فقوله مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين. والكرب: الطوفان والغم الشديد والعذاب النازل بالكفار، وتكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى. وذلك بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي وجعلناه منتصرا على القوم الذين كذبوا بأدلتنا الدالة على رسالته. وفي لغة هذيل: اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن سبب إهلاكهم أنهم قوم سوء لأجل تكذيبهم لنبيهم، فكان جزاؤهم أن أهلكهم الله جميعا صغارا وكبارا، ولم يبق منهم أحد، كما دعا عليهم نبيهم، بعد أن أصروا على كفرهم، وتصدوا لإيذائه، وتواصوا قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل على مخالفته وعصيان أمره. فقه الحياة أو الأحكام: إن في عذاب الاستئصال للأمة أو القوم جميعا عبرة وعظة بالغة، فهؤلاء قوم نوح الذين عكفوا على عبادة الأوثان، وأصروا على الكفر، وتمردوا على دعوة نوح ورسالته، قد أهلكهم الله عامة بالطوفان الذي عمّ السهول والجبال. والسبب هو تكذيبهم لنبيهم وإيذاؤهم له، بالرغم من الصبر عليهم قرابة عشرة قرون (950) عاما، وهي مدة طويلة جدا. وكان النصر حليف نوح عليه السلام، فنجاه الله والمؤمنين الذين آمنوا به، وعددهم قليل.

القصة الخامسة - قصة داود وسليمان عليهما السلام [سورة الأنبياء (21) الآيات 78 إلى 82] :

فلله الأمر والحكمة، وبيده مقاليد السموات والأرض، ولا يصدر عنه إلا الخير والعدل، ولا يظلم أحدا من عباده، فلو علم الله فيهم خيرا لما عذبهم وأهلكهم، وسيلقون أيضا في الآخرة عذاب النار. وقد أجمع المحققون- كما ذكر الرازي- على أن دعاء نوح على قومه كان بأمر الله تعالى، وإلا كان ذلك مبالغة في الإضرار، وسببا لنقصان حال الأنبياء. القصة الخامسة- قصة داود وسليمان عليهما السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) الإعراب: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر داود وسليمان. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ الضمير في لِحُكْمِهِمْ راجع إلى داود وسليمان، على طريقة إقامة الجمع مقام التثنية. أو أن المراد بالضمير الحاكمان والمتحاكمان وهم جماعة.

المفردات اللغوية:

يُسَبِّحْنَ الجملة حال، أو استئناف لبيان وجه التسخير معه متعلق بيسبحن أو بسخرنا. وَالطَّيْرَ منصوب معطوف على الْجِبالَ، أو لأنه مفعول معه. لِتُحْصِنَكُمْ أي الصنعة، وقرئ بالياء أي ليحصنكم الله وقرئ بالنون، أي: لنحصنكم نحن. المفردات اللغوية: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر قصتهما إِذْ يَحْكُمانِ بدل مما قبله الْحَرْثِ الزرع، وقيل: كرم تدلت عناقيده نَفَشَتْ رعت ليلا بلا راع، بأن انفلتت من حظيرتها، والنفش: الرعي ليلا. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي حاضرين، وفيه استعمال ضمير الجمع لاثنين أو كنا شاهدين عالمين حكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما. وكان حكم داود: أن يتملك صاحب الزرع الأغنام، وحكم سليمان: تبادل المتحاكمين الشيء المملوك لمدة سنة، فينتفع صاحب الزرع بدرّ الغنم ونسلها وصوفها إلى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحب الغنم، ثم يردها إلى صاحبها. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ الضمير يعود للفتوى الصادرة. وكان حكم داود وسليمان باجتهاد، ثم رجع داود إلى حكم سليمان وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي آتينا كلا منهما حكما أي نبوة، وعلما بأمور الدين. يُسَبِّحْنَ يقدسن الله معه، إما بلسان الحال، أو بصوت يتمثل له، أو بخلق الله فيها صوتا بلغة معينة. وَالطَّيْرَ أي وكذلك سخرنا الطير له للتسبيح معه، بأمره به في وقت الراحة وَكُنَّا فاعِلِينَ أي تسخير التسبيح معه، فكنا فاعلين لأمثاله، فليس ببدع منا، وإن كان عجبا عندكم أي مجاوبة الجبال والطير لسيدها داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ المراد هنا الدروع لأنها تلبس، وهو أول من صنعها، وكان قبلها صفائح. واللبوس في الأصل: السلاح بأنواعه لَكُمْ متعلق بقوله وَعَلَّمْناهُ أو متعلق بصفة للبوس. لِتُحْصِنَكُمْ لتحميكم وتمنعكم وتصونكم الصنعة مِنْ بَأْسِكُمْ بدل اشتمال بإعادة الجار، وبأسكم: حربكم مع أعدائكم، البأس: الحرب فَهَلْ أَنْتُمْ يا أهل مكة شاكِرُونَ نعمتي، بتصديق الرسول، فإن شكركم لي يكون بذلك. وقوله فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟ أمر في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع. وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ عاصِفَةً الريح العاصف: هي الشديدة الهبوب. وكانت رخاء أي لينة خفيفة في نفسها طيبة، كما جاء في آية أخرى، فقد جمعت بين الوصفين، فهي لينة طيبة، وتسرع في جريها كالعاصف إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها هي الشام

المناسبة:

وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي نعلم بكل شيء، فنجزيه على ما تقتضيه الحكمة، وقد علم الله تعالى بأن ما يعطيه سليمان يدعوه للخضوع لربه. وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر لسليمان، والغوص: النزول إلى أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ. وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي سوى الغوص أو غيره، كبناء المدن والقصور واختراع الصائع الغريبة، كقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ 34/ 13] . وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يفسدوا ما عملوا لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره. المناسبة: هذه القصة كسابقاتها أيضا فيها تعداد النعم العظمى على داود وسليمان عليهما السلام، فذكر فيها أولا النعمة المشتركة بينهما وهي تزيينهما بالعلم والفهم كما قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً مما يدل على شرف العلم، لتقديم ذكره على سائر النعم الأخرى. ثم ذكر ما اختص به كل منهما من النعم، أما داود فخص بنعمة تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وبصناعة الدروع. وأما سليمان فاختص بنعمة تسخير الريح، وتسخير الشياطين للغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، ولأعمال أخرى كبناء المدن والقصور وصناعة الأشياء الغريبة من قدور ومحاريب وتماثيل. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى قصة الحكم بين المزارع والراعي، ثم ذكر النعم الجليلة المختصة بكل من داود وسليمان. أما قصة الحكم كما قال أكثر المفسرين وكما ذكر الرازي: فهي أن راعي غنم رعت غنمه زرع فلاح ليلا، فاحتكما إلى داود عليه السلام، فحكم بالغنم لصاحب الحرث (الزرع) فقال سليمان- وهو ابن إحدى عشرة سنة-: غير هذا أرفق بهما، وأمر بتسليم الغنم إلى أهل الحرث، فينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتسليم

الحرث إلى أرباب الغنم، يتعهدونه بالمطلوب، حتى يعود إلى ما كان، ثم يترادّان. وكان حكمهما باجتهاد. والحكم في شرعنا في رأي الإمام الشافعي: وجوب ضمان المتلف بالليل، إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا، وكذلك قضى النبي صلّى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا (بستانا) وأفسدته، فقال: «على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل» «1» . وفي رأي الإمام أبي حنيفة: لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ حارس لقوله صلّى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار» «2» أي أن ما تتلفه البهيمة هدر لا ضمان فيه. أما النص القرآني في هذا الحكم فهو: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ.. أي واذكر أيها الرسول قصة داود وسليمان حينما حكما في زرع رعته ليلا غنم لآخرين، وكان الله عليما شاهدا بما حكم به داود وسليمان، لا تخفى عليه خافية. ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكومة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب، مع أنه سبحانه آتى كلا من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور، مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة، وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه، وإن كان الصواب واحدا، وهو ما قضى به سليمان، ودل قوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره.

_ (1) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن حرام بن سعد بن محيّصة. (2) نص الحديث «العجماء جرحها جبار» رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن العربي: لم يرد إذ جمعها في القول اجتماعهما في الحكم، فإن حاكمين على حكم واحد لا يجوز، وإنما حكم كل واحد منهما على انفراد بحكم، وكان سليمان هو الفاهم لها «1» . أما نعم الله على داود عليه السلام فهي: 1- وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ أي وسخر أي ذلل الله الجبال والطيور مسبحات مقدّسات الله مع داود لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تسبيحا، فيكون ذلك أكثر تأثيرا في مشاعره وعواطفه، فيستديم في التسبيح، وقد وصف النبي صلّى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري حين استمع لقراءته القرآن فقال فيما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة، والنسائي عن عائشة: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود» . وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة الإلهية، وأروع في الإعجاز لأنها جماد، والطير حيوان إلا أنه غير ناطق. ونطق الجبال والطير بأن يخلق الله فيها الكلام، كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى عليه السلام، فإذا ذكر داود ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه، لذا قال تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبا عندكم. ونظير الآية: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1154

2- وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي وعلمنا داود صناعة الدروع لباسا لكم، وكانت الدروع قبله صفائح وهو أول من جعلها حلقا، كما قال تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ 34/ 11] أي لا توسع الحلقة ولا تغلظ المسمار. وذلك لتحميكم وتمنعكم وتحرسكم من شدة الحرب في القتال من جرح وقتل وضرب، فهل أنتم شاكرون نعم الله عليكم بتعليمه داود ذلك من أجلكم؟ وهذا استفهام معناه الأمر للمبالغة والتقريع، أي اشكروا الله على هذه الصنعة. والبأس: الحرب. وفيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود عليه السلام، ثم تعلم الناس منه، وتوارثوا الصنعة عنه، فعمّت النعمة كل المحاربين إلى آخر الدهر. وأما نعم الله على سليمان عليه السلام فهي كما قال قتادة: ورّث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته، وزاده أمرين: سخر له الريح والشياطين، فقال. 1- وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً.. أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديد السرعة والهبوب، وجعلناها طائعة منقادة له، مع كونها في نفسها رخاء أيضا أي لطيفة لينة، فهي تجري بأمره، وتخضع لحكمه، وتنقله إلى أجزاء الأرض المقدسة المباركة، وهي أرض الشام، فيخرج مع صحبه في الغداة حيث شاؤوا، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله، أي أن تلك الريح كانت جامعة بين الأمرين: رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي وكان الله عالما بكل شيء وعالما بتدبيره، فما آتاه الملك والنبوة، وما سخر له الريح بأمره إلا لعلمه بما فيه الحكمة والمصلحة

والاستحقاق، فيشكر هو وقومه المنعم عليهم، ويعرفوا هذه المعجزات الظاهرة. روي أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاجه من أمور المملكة، كالخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه، وتسير به وتظله الطير، لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته، كما قال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص 38/ 36] وقال: غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ 34/ 12] «1» . 2- وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي وسخرنا له فئة من الشياطين تغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها، والغوص: النزول تحت الماء. وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي ويؤدون له عملا غير ذلك كبناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ونحوها، كما قال تعالى: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص 38/ 38] وقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ [سبأ 34/ 13] وأما الصناعات فهي مثل الطواحين والقوارير والصابون. وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي حافظين لأعمالهم، نحرسه من أن يناله أحدهم بسوء، وقد جعلنا له سلطة مطلقة عليهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال في الآية السابقة: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ.

_ (1) تفسير ابن كثير 3/ 187

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام: 1- الحق والصواب واحد لا يتعدد، فإن حكم سليمان كان هو الأصوب، ولكن لا مانع من الخطأ في الاجتهاد، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ولكن لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع، وعلى المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع الحادثة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم، لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» وفي السنن الصحاح: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار» . وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن: ما رواه الإمام أحمد في مسنده والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقّه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله، هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصغرى» . وأما حكم مسألة رعي الزرع ليلا في شرعنا، فقال الجصاص: ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ وذلك لأن داود

عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم، ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلم «1» . وأما آراء فقهائنا فهي كما يلي «2» : قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار. وقال الليث: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار. وأما ما تتلفه المواشي بالليل فللعلماء فيه رأيان مشهوران: رأي الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : وهو ضمان ما تتلفه البهائم ليلا، عملا بما قضى به النبي صلّى الله عليه وسلم في ناقة البراء، وهو أن حفظ البهائم بالليل على أرباب المواشي، وهذا حديث خاص، وأما حديث «العجماء جرحها جبار» أي أن فعل البهائم هدر، فهو عام، ولا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص، أي أنه يقدم الخاص على العام، ولأنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان، ويكون الضمان بالقيمة، وإن زادت على قيمة المواشي. ورأي أبي حنيفة: ألا ضمان لما تتلفه المواشي، ليلا أو نهارا، للحديث المتقدم: «العجماء جرحها جبار» . 2- قال ابن العربي: من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه، مثل النحل والحمام والإوز والدجاج، وذلك كالماشية. وأما انتفاعه بما

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 223 (2) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1256 وما بعدها، تفسير الرازي: 22/ 199، تفسير القرطبي: 11/ 315.

يتخذه بإضراره بأحد، فلا سبيل إليه، قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار» «1» . 3- إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضى من السلف لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. فأما من لم يكن محلا للاجتهاد، فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، بدليل الحديث المتقدم: «القضاة ثلاثة» قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب، لا على الخطأ، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. 4- أكثر الفقهاء قالوا: إن الحق واحد من أقوال المجتهدين، وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فخص سليمان بالفهم، ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة. 5- هل للأنبياء الاجتهاد؟ اختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون الأكثرون لأنه ليس فيه استحالة عقلية لأنه دليل شرعي، فلا مانع أن يستدل به الأنبياء، والله تعالى قال: فَاعْتَبِرُوا [الحشر 59/ 2] وهو أمر للكل بالاعتبار، وذلك يشمل الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولأنه إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل بمعنى، ثم وجد ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن الفرع كالأصل في الحكم، ثم إنه لو جاز الاجتهاد للعلماء وهو أرفع درجات العلم، لثبت لأحد من أمة النبي صلّى الله عليه وسلم من الفضيلة ما لا يثبت له. 6- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به، إذا تبين له أن

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1258، تفسير القرطبي: 11/ 318

الحق في غيره، فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام، وهذا ثابت أيضا في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. 7- كان ترتيل داود عليه السلام لكتابه الزبور وتسبيحه تتردد أصداؤه في الجبال والطيور، وكانت هذه تتجاوب معه بالتسبيح، وتذكر الله معه بلغة خاصة بها، قال مقاتل: إذا ذكر داود عليه السلام ربه، ذكرت الجبال والطير ربها معه. وقيل: كان داود إذا وجد فترة أي راحة أمر الجبال، فسبّحت حتى يشتاق، ولهذا قال: وَسَخَّرْنا أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة بدليل قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ 34/ 10] . قال الرازي: والقول الأول (أي قول مقاتل) أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وتسبيح الجبال والطير فيه دلالة على قدرة الله تعالى، وعلى تنزهه عما لا يجوز. 8- كان داود أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، لحماية الناس وحراستهم من السلاح في أثناء القتال، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة. وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر به. والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة. 9- هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا

يصنع الخوص، وأخبر نبينا صلّى الله عليه وسلم عن داود عليه السلام أنه كان يأكل من عمل يده، وذلك أفضل الكسب. وكان آدم حراثا، وكان نوح يصنع السفن وكان نجارا، وكان إدريس ولقمان خياطين، وطالوت دباغا، أو سقّاء، وكل ذلك يدل على أن العمل كان منهج الأنبياء والصالحين، وطريق المؤمنين الأقوياء. والإسلام دين يحب العمل ويوجبه، ويكره البطالة والكسل، ويحارب العاطلين والخاملين إذا كانوا قادرين على العمل، جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلة، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» . وبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر والبأس عن نفسه. جاء في حديث آخر رواه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف» . 10- كان من إكرام الله تعالى لسليمان تسخير الريح التي تجري بأمره إلى حيث شاء، ثم تردّه إلى بلاد الشام المباركة. يروى أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم تردّه إلى الشام. ومن إنعام الله عليه تسخير الشياطين له يعملون بصفة غواصين لاستخراج الجواهر من البحر، كما يعملون له أعمالا أخرى غير الغوص، من بناء المدن والقصور، ونحت المحاريب والتماثيل، وصناعة القدور الراسيات والجفان الواسعة والطواحين والقوارير والصابون، وغير ذلك مما يسخّرهم فيه، ويحفظ الله له أعمالهم من أن يفسدوها، أو أن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان، أو أن يهربوا أو يمتنعوا من أمره، فقد كانوا رهن إشارته، وطوع إرادته، لا يجرأ أحد منهم على الاقتراب منه.

القصة السادسة - قصة أيوب عليه السلام [سورة الأنبياء (21) الآيات 83 إلى 84] :

القصة السادسة- قصة أيوب عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) الإعراب: رَحْمَةً مفعول لأجله مِنْ عِنْدِنا صفة. البلاغة: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألطف في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب. أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيهما جناس الاشتقاق. المفردات اللغوية: وَأَيُّوبَ أي واذكر أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ لما ابتلي به من المرض، وهو بدل مما قبله أَنِّي أي بأني الضُّرُّ بالضم: الضرر والشدة في النفس من مرض وهزال. وأما الضّرر بالفتح: فهو الأذى في كل شيء، فالضّر خاص بما في النفس من مرض وهزال، والضرر: شائع في كل ضرر. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وصف ربه بغاية الرحمة، بعد ما ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب، لطفا في السؤال. فَاسْتَجَبْنا لَهُ أجبنا له نداءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أزلنا ورفعنا ضره بالشفاء من مرضه وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وأعطيناه مثل أهله عددا، وزيادة مثل آخر، بأن ولد له ضعف ما كان عنده من زوجته وزيد في شبابها رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي رحمة على أيوب، وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصص خمسة من الأنبياء: إبراهيم، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وما تعرضوا له من الابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاءه له بأنواع المحن في نفسه وأهله، والكل قد صبروا على المحن والبلايا، وشكروا الله على ما أنعم عليهم من رفع البلاء، والنصر على أقوامهم. أضواء على قصة أيوب عليه السلام: ورد اسم أيوب عليه السلام في القرآن الكريم اربع مرات في سور النساء والأنعام والأنبياء وص. وهو أيوب بن أنوص، وأمه من ولد لوط عليه السلام، وكان عليه السلام روميا من ولد يعقوب بن إسحاق عليهما السلام. كان موطنه أرض عوص من جبل سعير أو بلاد أدوم، قيل: إنه كان قبل موسى، أو قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء، إلا أن اسم أبيه: أموص. آتاه الله النبوة، وبسط عليه الدنيا، وكثّر أهله وماله، فكان له سبعة بنين، وسبع بنات، وذلك تعويضا عما ابتلاه الله من محنة في نفسه إذ مرض مدة طويلة هي ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبع سنوات ونيف، على حسب الروايات، ولكنه مرض غير منفر للناس لأن الأنبياء متصفون بالسلامة عن الأمراض المنفرة طبعا. وابتلاه الله أيضا في أهله بذهاب ولده، انهدم عليهم البيت، فهلكوا. وابتلاه كذلك في ماله بذهابه وفنائه، وكان رحيما بالمساكين، ويكفل اليتامى والأرامل، ويكرم الضعيف. وقد أكرمه الله تعالى بكفارة يمينه، كما ذكر في سورة ص، بأن يأخذ بيده ضغثا، فيضرب به زوجته، حتى لا يكون حانثا. وزوجته: هي رحمة بنت أفرايم بن يوسف، أو ماخر بنت ميشا (منسا) بن يوسف، أو ليا بنت يعقوب، على اختلاف الروايات، ذهبت لحاجة، فأبطأت، أو بلغت أيوب

التفسير والبيان:

عن الشيطان أن يقول كلمة محظورة فيبرأ، وأشارت عليه بذلك، فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟ فحلف إن برئ ليضربنها مائة ضربة، فحلل الله له يمينه وأمره بأن يأخذ ضغثا (وهو حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان) ويضربها به، وذلك رحمة به وبها، لحسن خدمتها إياه، ورضاه عنها. وهي رخصة مقررة في عقوبات الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا في حالات الضرورة كالمرض والحمل. التفسير والبيان: أيوب عليه السلام مثل أعلى ومشهور في الصبر على المحنة والبلاء، حتى صار يضرب به المثل، فيقال: كصبر أيوب، وها هي قصته: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ.. أي واذكر أيها الرسول للعبرة والعظة والتأسي خبر أيوب الذي أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، حين دعا ربه، وقد مسّه الضر فقال: رب إني مسني الضر والعناء، وأنت أرحم الرحماء. وصف نفسه بما يقتضي الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بمطلوبه بطريق التلطف في السؤال، وإيمانه بأن ربه عليم به. والنداء: الدعاء. وكان مرضه طويل الأمد، إلا أنه غير منفر للناس ولا مشوه للجسد لأن الأنبياء معصومون، سالمون عن الأمراض المنفرة طبعا. وقد لازمته زوجته، وظلت تحنو عليه وتقوم بأمره. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه» . قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات. قال ابن العربي: وهذا ممكن، ولكنه لم يصح في مدة إقامته خبر ولا في هذه القصة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أجبنا دعاءه، ورفعنا عنه ضره، وعافيناه. وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وعوضناه عما فقد في الدنيا، فأعطيناه مثل أهله وزيادة مثل آخر، فقد ولد له من زوجته من الأولاد ضعف ما كان عنده. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي أعطيناه التعويض عن المال والأهل والولد، وعافينا جسده، رحمة منا به، وتذكيرا للعابدين بالاقتداء به، والصبر كما صبر، ليثابوا كما أثيب، وحتى لا ييأس مؤمن من عفو الله ورحمته وفضله، ولا يطمع مؤمن في أنه لا يصاب بسوء أو مكروه، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان. وقال الزمخشري: أي لرحمتنا العابدين، وأنا نذكرهم بالإحسان، لا ننساهم، أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: ذكر القرطبي سبعة عشر قولا في بيان الضر الذي مس أيوب، والحق الاقتصار على ظاهر النص القرآني، وهو أنه أصيب بضرر في نفسه وبدنه وأهله وماله، فصبر، ثم عافاه الله تعالى، وأعطاه خيرا مما فقد، وأثنى عليه بالصبر: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص 38/ 44] . والثابت المؤكد أن مرضه لم يكن منفرا. والهدف أن قصته عبرة، وتعريف أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على الإنسان أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى، وألا يضجر من شيء، وألا يتسخط ولا يتبرم، وإنما يصبر على حالتي الضراء والسراء. وقد أجمل الله تعالى هذه العبرة بقوله: رَحْمَةً

القصة السابعة - قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام [سورة الأنبياء (21) الآيات 85 إلى 86] :

مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا، وتذكيرا للعبّاد لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب، وصبره عليه ومحنته له، وهو أفضل أهل زمانه، صبروا صبر أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. وأما مدة إقامته في البلاء ففيها روايات، قال القرطبي: الأصح منها- والله أعلم- ثماني عشرة سنة رواه ابن شهاب الزهري عن النبي صلّى الله عليه وسلم، كما ذكر ابن المبارك. القصة السابعة- قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) البلاغة: الصَّابِرِينَ الصَّالِحِينَ بينهما جناس ناقص. المفردات اللغوية: وَإِسْماعِيلَ أي واذكر وَذَا الْكِفْلِ يعني إلياس وقيل: يوشع بن نون، وقيل: زكريا، سمي بذلك لأنه كان ذا حظ من الله، أو تكفل منه، أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم. والكفل في اللغة بمعنى النصيب، والكفالة، والضعف. قيل: لم يكن نبيا، والأكثرون أنه نبي وهو ابن أيوب عليه السلام، وهذا ما صرح به الرازي والزمخشري، خلافا للقرطبي. قيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح، يونس وذو النون، محمد وأحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

المناسبة:

كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي كل هؤلاء من الصابرين على مشاق التكاليف وشدائد النوائب، أو على طاعة الله وعن معاصيه وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعني في النبوة، أو في نعمة الآخرة إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى صبر أيوب عليه السلام ودعاءه ربه، أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء، فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة. أما إسماعيل عليه السلام: فلأنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على الإقامة ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت، فأكرمه الله بجعل خاتم النبيين من صلبه. وأما إدريس فكما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى، فأبوا، فأهلكهم الله تعالى، ورفع إدريس إلى السماء الرابعة» وهو أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة للحرب. وأما ذو الكفل: فإنه صبر على صلاة الليل حتى يصبح، وعلى صيام النهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، ووفى بذلك وبما ضمن على نفسه. قيل: إنه كان عبدا صالحا، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة، والأكثرون كما ذكرت أنه من الأنبياء عليهم السلام، بدليل اقترانه مع الأنبياء. التفسير والبيان: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي واذكر أيها النبي نبأ إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس بعد شيث وآدم، وذي الكفل أي الحظ الكثير، الذي هو إلياس ومن بني إسرائيل، وقد عاش في بلاد الشام، كل

فقه الحياة أو الأحكام:

واحد من هؤلاء من الصابرين المحتسبين الذين صبروا على البلاء والمحن، وعلى طاعة الله وعن معاصيه. وقد عرفنا أحوال صبر كل منهم. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي وجعلناهم من أهل رحمتنا بالنبوة، ودخول الجنة، والظفر برضانا وثوابنا لأنهم من فئة الكاملي الصلاح لأنهم أنبياء معصومون، وصلاحهم لا يعكره فساد. فقه الحياة أو الأحكام: هؤلاء الأنبياء الثلاثة: إسماعيل، وإدريس، وذو الكفل من الذين صبروا على أمر الله تعالى، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه، فكافأهم الله تعالى بنيل رضاه، ودخول جنته لأنهم قوم صالحون، كاملوا الصلاح والتقوى، بعيدون عن الفساد بمظاهره المختلفة. والمراد هو التأسي والاقتداء بهم، فإنه لم يقصّ الله في قرآنه على الناس نبأ أحد من الأنبياء إلا وكان في ذلك الخير والفائدة، والعبرة والعظة، وضرب الأمثال العملية الواقعية للالتزام بأمر الله، والاستقامة في الدين والحياة. القصة الثامنة- قصة يونس عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

الإعراب:

الإعراب: وَذَا النُّونِ منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر ذا النون مُغاضِباً منصوب على الحال من ضمير ذَهَبَ وهو العامل في الحال. وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وقرئ: نجي المؤمنين قال أكثر النحويين: إن هذه القراءة محمولة على إخفاء النون من نُنْجِي فتوهمه الراوي إدغاما. وأجازه آخرون على أنه فعل مبني للمجهول، على تقدير المصدر، لدلالة الفعل عليه، وإقامته مقام الفاعل، أي: نجّي النجاء المؤمنين، كقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني: ليجزي قوما أي ليجزي الجزاء قوما. المفردات اللغوية: وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، وإِذْ: بدل مما قبله، أي ذهب غضبان من قومه، مما قاسى منهم، لطول دعوتهم، وإصرارهم على الكفر، ذهب قبل أن يؤمر أو يؤذن له في الذهاب. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي فظن أن لن نضيق عليه، كما في قوله تعالى: وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26 وغيرها] أي ويضيق، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق 65/ 7] أي ضيق أو ظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، من التقدير أي القضاء والحكم. أو أن يكون ذلك من باب التمثيل بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. هذه تأويلات. ويجوز أن يكون ذلك مجرد وسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، فسمي ظنا للمبالغة، كما قال تعالى مخاطبا المؤمنين: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب 33/ 10] . والخلاصة: أن الظن هنا ليس حاصلا من يونس عليه السلام لأن من ظن عجز الله تعالى فهو كافر. فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة، أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه لا إله إلا أنت سُبْحانَكَ تنزيها لك من أن يعجزك شيء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة من غير إذن. جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» . فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي أجبنا له دعاءه بتلك الكلمات، بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات مكث فيها في بطنه، وقيل: ثلاثة أيام. مِنَ الْغَمِّ: أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت، وبسبب خطيئته وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذا دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا.

المناسبة:

المناسبة: هذه قصة يونس عليه السلام، تبين مدى فضل الله وإنعامه عليه، كما أنعم على الأنبياء المتقدمين الذين ذكر قصصهم، وأجاب دعاءهم بعد الكرب والشدة، ومقاساة الأهوال، والصبر على العناء. التفسير والبيان: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي واذكر أيها الرسول قصة يونس بن متى عليه السلام حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى (من أرض الموصل) وكان اسم ملكها «حزقيا» فدعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بينهم مغاضبا لهم، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، كما قال تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَمَّا آمَنُوا، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 10/ 98] . وأما يونس عليه السلام: فإنه ذهب، فركب مع قوم في سفينة، فاضطربت بهم وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم في البحر، للتخفيف، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها، فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا، كما قال تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات 37/ 141] أي وقعت عليه القرعة. فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر،

فأرسل الله سبحانه إليه من البحر حوتا يشق البحار، فالتقمه «1» . وقوله: ذَا النُّونِ أي الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: مُغاضِباً أي غضبان من قومه، لتكذيبهم إياه، وكراهيته خلف ما أوعدهم به من العذاب بعد ثلاث، لكنه لم يأتهم، لتوبتهم التي لم يعلم بها، لا كراهية لحكم الله، أو مغاضبا ربه، وإلا كان مرتكبا كبيرة لا تليق بالشخص العادي فضلا عن النبي، فهو مغاضب من أجل ربه، بدليل وصف نفسه أنه من الظالمين، وهذا رأي أكثر المفسرين. أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي نضيق عليه في بطن الحوت، ونقضي عليه بالعقوبة، من القدر والتقدير أي القضاء والحكم، كما في قوله تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر 54/ 12] أي قدّر، وكان خروجه يشبه حالة الآبق. فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ أي فدعا ربه في أعماق الظلمات المتكاثفة أو من تحت الظلمات الثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل: تنزيها لك يا رب، أنت الإله وحدك لا شريك لك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ نفسي بالخروج دون أمر أو إذن منك، وهذا خلاف الأولى للأنبياء، بدليل قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم 68/ 48] . فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي فأجبنا له دعاءه الذي أظهر به الندم والتوبة. وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي وأخرجناه من بطن

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 191

فقه الحياة أو الأحكام:

الحوت وتلك الظلمات، وكما أنجيناه من الكرب والشدة، ننجي أيضا المؤمنين الصادقين إذا استغاثوا بنا، وطلبوا رحمتنا. روى البيهقي وغيره عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له» فهو قد بدأ بالتوحيد، ثم بالتنزيه والتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والإقرار على نفسه بالظلم أي الذنب. وروى ابن أبي حاتم عن أنس يرفع الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت قال: اللهم، لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا، يا رب، ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل، ودعوة مجابة، قالوا: يا رب، أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء، فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى، فأمر الحوت، فطرحه في العراء. فقه الحياة أو الأحكام: أحوال الأنبياء عجائب وغرائب ومعجزات خاصة يظهرها الله على أيديهم، لا تقاس عليها إطلاقا أحوال البشر العاديين. وقصة يونس من هذه العجائب الفريدة. فقد ذهب يونس عليه السلام مغاضبا من أجل الله، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي، وكانت هذه المغاضبة صغيرة في رأي القرطبي، ولم يغضب على الله، ولكن غضب لله، إذ رفع العذاب عنهم.

فلا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه لأن ذلك صفة الجاهل كون الله مالكا للأمر والنهي، والجاهل بالله لا يكون مؤمنا، فضلا على أن يكون نبيا، وإنما خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه. لكن كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في الهجرة عن قومه، لهذا قال تعالى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم 68/ 48] كأن الله تعالى أراد لمحمد صلّى الله عليه وسلم أفضل المنازل وأعلاها. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه (أي يونس) وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم فإنه كره رفع العذاب عنهم. وظن يونس عليه السلام عند ذهابه أن لا يضيق الله عليه بالحبس، أو ألا يقضي عليه بالعقوبة، من القدر الذي هو القضاء والحكم، وورد القدر بمعنى التضييق كما في الآيتين المتقدمتين: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26] أي يضيق، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق 65/ 7] . وورد بمعنى التقدير وهو الحكم، وليس القدرة والاستطاعة، كما في قوله تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر 54/ 12] . ثم أدرك يونس وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت أنه ظلم نفسه في الخروج من غير أن يؤذن له، أو في ترك الصبر على قومه، وليس في ذلك من الله عقوبة لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا وتعليما، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، فتضرع إلى الله وجأر إليه بالدعاء المتقدم: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ.. فأكرمه الله تعالى، وحماه من أن يهضم الحوت جسده، وإنما جعله له سجنا فقط، ثم أمر الحوت بإلقائه، فطرحه على ساحل البحر.

القصة التاسعة والعاشرة - قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم [سورة الأنبياء (21) الآيات 89 إلى 91] :

جاء في الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه، كما أجابه، وينجّيه كما أنجاه. ومن فضل الله ورحمته أن هذا الإنجاء لمن استغاث بالله واستعان به ليس خاصا بيونس عليه السلام، وإنما هو شامل لكل المؤمنين إذا استغاثوا بالله، وطلبوا رحمته، فإن الله تعالى يخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات 37/ 144] . وهذا من حفظ الله لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ له ما أسلف من الطاعة. والله يجيب دعاء الداعين في أي مكان، لذا قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإني لم أكن، وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت» «1» . وهذا دليل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة معينة. القصة التاسعة والعاشرة- قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 91] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)

_ (1) روى البخارى ومسلم وابو داود عن ابن عباس الحديث بلفظ آخر.

الإعراب:

الإعراب: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها وَالَّتِي: منصوب بفعل مقدر، أي: واذكر التي أحصنت. آيَةً منصوب مفعول ثان بجعل. وقال: آيَةً، ولم يقل: آيتين لوجهين: أحدهما- لأن التقدير: وجعلناها آية، وجعلنا ابنها آية، إلا أنه اكتفى بذكر الثاني عن ذكر الأول. والثاني- أن يكون آيَةً في تقدير التقديم، أي وجعلناها آية للعالمين وابنها، والوجه الأول أوجه. البلاغة: رَغَباً وَرَهَباً بينهما طباق. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا نسب الروح إليه تعالى تشريفا وتكريما، مثل ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف 7/ 73 ومواضع أخرى] . المفردات اللغوية: وَزَكَرِيَّا أي واذكر زكريا. إِذْ نادى بدل منه، أي دعا ربه بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي لا تتركني وحيدا بلا ولد يرثني. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي. فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي نداءه. وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للولادة، فأتت بالولد بعد عقمها. إِنَّهُمْ أي المذكورين من الأنبياء عليهم السلام. يُسارِعُونَ يبادرون. فِي الْخَيْراتِ أي الطاعات. رَغَباً في رحمتنا. وَرَهَباً من عذابنا. خاشِعِينَ متواضعين في عبادتهم. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ أي واذكر مريم التي حفظت فرجها من أن ينال بالحلال أو الحرام. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أحيينا عيسى وأوجدناه في جوفها، ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، حيث نفخ في جيب درعها (قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ هم الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير رجل. ولم يقل: آيتين، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء 17/ 12] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان النعم الخاصة بكل نبي، أبان الله تعالى ما أنعم به على زكريا عليه السلام بمنحه الولد، في حال الكبر هو وزوجته، وبعد أن مسّه الضر بتفرده، فدعا ربه أن يرزقه الولد، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته. وكان دعاؤه دعاء مخلص عارف بأن الله تعالى قادر على ذلك، وإن بلغ هو وزوجته سن اليأس من الولد، بحسب العادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سنّه مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين. ثم ذكر تعالى قصة مريم وولادتها عيسى، لما بين ولادته وولادة يحيى من الغرابة وتشابه المعجزة. وتقدمت القصتان في سورتي آل عمران ومريم. التفسير والبيان: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ ... أي واذكر أيها الرسول خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا، يكون من بعده نبيا، فدعا ربه خفية عن قومه قائلا: ربّ لا تتركني وحيدا، لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في دعوة الناس إليك، وأنت الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنك خير وارث. وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ دعاء وثناء. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي فأجبنا نداءه ومطلبه، ووهبناه ولدا اسمه يحيى، وأصلحنا له امرأته بإزالة موانع الولادة، فولدت بعد العقم وفي حال الكبر. إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي إن المذكورين من الأنبياء عليهم السلام، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى طاعتنا والتقرب إلينا، أو إلى

فعل الطاعات، وعمل القربات، والمراد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم في تحصيلها، كما يفعل الراغبون في الأمور الجادة. وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي ويدعوننا رغبة في رحمتنا وفضلنا، وخوفا من عذابنا وعقابنا، وكانوا لنا متواضعين متذللين. والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين: أحدهما- الفزع إلى الله تعالى، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه. والثاني- الخشوع: وهو المخافة الثابتة في القلب، أو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدا. روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه، ثم قال: «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» . ثم يذكر الله تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، كما هو المعتاد في كلامه تعالى، فيذكر أولا قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير طاعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر، لم تكن تلد في حال شبابها. أما قصة مريم فهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر. حدث هذا الاقتران بين القصتين في سورتي آل عمران ومريم، وهاهنا في سورة الأنبياء.

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي واذكر نبأ مريم التي منعت نفسها من الرجال، سواء في الحلال أو الحرام، كما حكى تعالى عنها: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم 19/ 20] وكما قال في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [12] . فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي نفخنا الروح في عيسى في بطنها، أي أحييناه في جوفها. ويلاحظ أن الضمير هنا عائد إلى مريم، وليس المقصود كما هو الظاهر إحياء مريم، وإنما إحياء عيسى في جوفها. وأما في سورة التحريم فالضمير عائد إلى فرجها، أي فنفخنا في فرجها، وقرئ: فيها أي في مريم أو الحمل. وقوله: مِنْ رُوحِنا في السورتين أي من روح خلقناه بلا توسط أصل. وأضيف إلى الله تعالى تشريفا. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي وجعلنا أمر مريم وعيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة، دالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ. ونظير الآية قوله سبحانه: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم 19/ 21] ولم يقل: آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين، أو أن الآية واحدة وهي الولادة من غير رجل، وقوله: لِلْعالَمِينَ أي الجن والإنس والملائكة. وهناك آيات أخرى لكل من مريم وعيسى، مثل إتيان الملائكة لها برزقها: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران 3/ 37] . وأما آيات عيسى فمثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله كما جاء في [آل عمران: الآية 49] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن في كلّ من قصتي زكريا وابنه يحيى ومريم وابنها عيسى آية خارقة للعادة، ومعجزة غير معتادة دالة على قدرة الله تعالى الفائقة، والشاملة لكل شيء. أما قصة زكريا فقد أكرمه الله تعالى بولادة يحيى بعد دعاء ومناجاة، وتضرع وإخلاص، وأدب وتفويض لله تعالى، وذلك في سن الكبر هو وامرأته، التي كانت عاقرا لا تلد في وقت الشباب. ووجه الآية الفريدة أن الكبير عادة لا ينجب، وأن العاقر العقيم لا يلد، فأزال الله موانع الولادة، وهيأ القدرة على الإنجاب والإخصاب عند الأب زكريا عليه السلام. وسبب هذه الإجابة لدعاء زكريا أنه كان كغيره من الأنبياء يبادر إلى فعل الطاعات، وعمل القربات، وأنه كان يدعو في حال الرخاء وحال الشدة، وحال الرجاء والرهبة، وأملا في رحمة الله وفضله، وخوفا من عذابه وعقابه لأن الرغبة والرهبة متلازمتان. وأما قصة مريم الطاهرة البتول فقد أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا، ولم يقربها رجل، وتمّ نفخ الروح في جوفها، وإيجاد عيسى بواسطة جبريل الروح القدس من غير أصل ذكر. فقوله: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا معناه أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها أي قميصها، فأحدثنا بذلك النفخ (المسيح) في بطنها، ووصل النفخ إلى جوفها، وسرت الروح إلى فرجها، وكان ذلك آية أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء. وآيات مريم كثيرة كما تقدم:

وحدة الرسالات السماوية والسنة الإلهية [سورة الأنبياء (21) الآيات 92 إلى 97] :

أحدها- ظهور الحمل فيها من غير ذكر. وثانيها- أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة. وثالثها ورابعها- قال الحسن البصري: إنها لم تلتقم ثديا يوما قط، وتكلمت هي أيضا في صباها، كما تكلم عيسى عليه السلام «1» . وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها في سورة آل عمران. وكل تلك الآيات بإذن الله وأمره، وليس للبشر فيها قدرة مع قدرة الله تعالى وتدبيره وحكمته. وحدة الرسالات السماوية والسنّة الإلهية [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 218 [.....]

الإعراب:

الإعراب: أُمَّةً واحِدَةً حال لازمة. لا يَرْجِعُونَ: إما زائدة، أي وحرام أنهم يرجعون، أي إلى الدنيا، وأن واسمها وخبرها خبر المبتدأ: حَرامٌ. وإما غير زائدة، ويكون حَرامٌ مبتدأ، وخبره مقدر، أي: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون كائن أو محكوم عليه، فحذف الخبر، وحذف الخبر أكثر من زيادة «لا» وهو الأوجه عند أبي علي الفارسي والزجاج. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ.. جواب إِذا إما مقدر، تقديره: قالوا: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، وإما أن يكون الجواب قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ والواو زائدة، وهذا مذهب الكوفيين، وإما أن يكون الجواب قوله: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. البلاغة: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ التفات من الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين للتقبيح، واستعارة تمثيلية، مثل اختلافهم في الدين وتفرقهم أحزابا بالجماعة التي تتوزع الشيء أنصباء. فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ استعارة، أستعير الكفران لمنع الثواب، كما أستعير الشكر لإعطائه. يا وَيْلَنا فيه إيجاز بالحذف، أي: ويقولون: يا ويلنا. فَاعْبُدُونِ، راجِعُونَ، كاتِبُونَ سجع لطيف. المفردات اللغوية: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الأمة لغة: القوم المجتمعون على أمر، ثم شاع استعمالها في الدين أو الملة، أي إن ملة التوحيد أو الإسلام ملتكم ودينكم أيها المخاطبون، التي يجب عليكم أن تكونوا عليها. أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي أنا الله لا إله غيري، فوحدوني واعبدوني لا غير. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعل بعض المخاطبين أمر دينهم فيما بينهم قطعا، بمعنى أنهم تفرقوا في الدين، وتخالفوا فيه، وجعلوا أمره قطعا موزّعة بقبيح فعلهم، وهم طوائف اليهود والنصارى. كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي كل من الفرق المتجزئة راجعون إلينا فنجازيهم بأعمالهم. فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا جحود ولا إنكار لعمله، ولا تضييع لثوابه. وَإِنَّا لَهُ

التفسير والبيان:

كاتِبُونَ أي وإنا لسعيه مثبتون في صحيفة عمله، لا نضيع شيئا منه بوجه ما، ونأمر الحفظة بكتبه، فنجازيه عليه. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي ممتنع على أهلها، غير متصور منهم. أَهْلَكْناها أي حكمنا بإهلاكها أو قدرنا هلاكها، أو وجدناها هالكة. أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ لا: زائدة، أي ممنوع عليهم رجوعهم إلى التوبة أو إلى الدنيا. حَتَّى غاية لامتناع رجوعهم، أي يستمر عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج. إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أي إذا فتح سدهما، وذلك قرب يوم القيامة، وهما اسمان أعجميان لقبيلتين. وَهُمْ يعني يأجوج ومأجوج، أو الناس كلهم. مِنْ كُلِّ حَدَبٍ مرتفع من الأرض. يَنْسِلُونَ يسرعون أو يخرجون مسرعين، مأخوذ من نسلان الذئب، أي إسراعه. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي قرب يوم القيامة. فَإِذا هِيَ أي القصة، وإذا: للمفاجاة، كقوله: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم 30/ 36] وهي جواب الشرط السابق وهو حَتَّى إِذا.... شاخِصَةٌ مرتفعة أجفانها لا تكاد تنظر، من شدة الهول. يا وَيْلَنا أي يقولون: يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. قَدْ كُنَّا في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، لم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتكذيبنا الرسل، وإخلال النظر. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أن دين الإنسانية دين واحد، فيقول: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ... أي إن ملة التوحيد أو ملة الإسلام هي ملة واحدة وشريعة واحدة، متفق عليها بين جميع الأنبياء والشرائع، وهي التي يجب أن تكونوا عليها، فكونوا عليها أمة واحدة غير مختلفة فيما بين الأنبياء، وأنا الله الذي لا إله غيري فاعبدوني وحدي، ولا تشركوا معي شيئا آخر، من ملك أو بشر أو حجر أو شجر أو صنم. وقال في آية أخرى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون 23/ 52] . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد:

«نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات «1» ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له، بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] فليس الاختلاف في أصول العقيدة والأخلاق والفضيلة والعبادة، وإنما الاختلاف في الفروع والجزئيات والأشكال بحسب الاختلاف في الأزمنة والعصور. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي إن الأمم اختلفت على رسلها، بين مصدق لهم ومكذب، وفرقوا أمر دينهم بينهم فرقا شتى، وهذا بطريق الالتفات إلى الغيبة للتقبيح، والأصل: وتقطعتم، كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبّح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه، فيصير لهذا نصيب، ولهذا نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. وهذا التفرق في أمر الدين الواحد معيب شنيع، ولهذا قال تعالى متوعدا على فعلهم: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي كل فرقة منهم سيرجعون إلينا يوم القيامة، فنجازي كل واحد بحسب عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وطريق الجزاء ومنهاجه هو: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ من: للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات كلها، فرضها ونفلها، والمعنى: ومن يعمل عملا صالحا موافقا لمنهاج الله تعالى، وهو بقلبه ولسانه مصدق بربه ورسله، أو من يعمل شيئا من الطاعات وهو موحد مسلم، فلا تضييع لسعيه، ولا بطلان لثواب عمله، ولا جحود لعمله،

_ (1) أولاد العلّات: أولاد الرجل من نسوة شتى.

أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطى، بل يشكر أي يثاب عليه، ونوفيه الجزاء الأوفى، ولا يظلم مثقال ذرة، وإنا له مثبتون حافظون جميع عمله في صحيفته، لنجازي عليه، فلا يضيع عليه منه شيء، مهما صغر، كما قال في آيات أخرى منها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف 18/ 30] ومنها: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 19] . والآية دليل على أن أساس القبول والنجاة الجمع بين أن يكون الشخص مؤمنا، وبين أن يعمل الصالحات، والإيمان: يشمل العلم والتصديق بالله ورسوله، والعمل الصالح هو فعل الواجبات وترك المحظورات. والكفران: مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه، والمراد من الآية فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ المراد نفي للجنس، وفيه ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي وممتنع على أهل قرية حكمنا بإهلاكها رجوعهم إلى التوبة أو الحياة الدنيا قبل يوم القيامة. وتكون لا زائدة للتأكيد، وهو كقوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس 36/ 50] . وقوله: حَرامٌ مستعار لمنع الوجود بحال، مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [الأعراف 7/ 50] أي منعهما. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي يستمر عدم رجوع القوم المهلكين إلى قيام الساعة وظهور أماراتها وهو فتح سد يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان أو الناس جميعا، وإتيان الناس مسرعين من كل مرتفع من الأرض. ويكون المقصود من الآية الردّ على المشركين الذين ينكرون البعث والجزاء.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وقرب يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلايا، وإذا حدث ذلك أو وقع ترى أبصار الكافرين مرتفعة الأجفان، مثبتة الحدق، جامدة لا تتحرك، لا تكاد تنظر من هول وشدة ما يشاهدونه من الأمور العظام. يا وَيْلَنا، قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي يقولون: يا هلاكنا، والويل: الهلاك، قد كنا في الدنيا غافلين لاهين، لم نعلم أن هذا هو الحق، وأن البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء ثابت قائم، بل إننا في الواقع ظالمون لأنفسنا بتعريضها للعذاب، وهذا اعتراف صريح بظلمهم لأنفسهم، حيث لا ينفعهم ذلك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على وحدة الرسالات السماوية في أصولها، وعلى تفرق الناس في أمر الدين، وعلى وحدة السنن الإلهية في إثابة المؤمن الصالح العمل، وتعذيب الكافر المسيء، وعلى إثبات البعث والجزاء وما يشتمل عليه من شدائد وأهوال. أما وحدة الرسالات السماوية: فالأنبياء كلهم متفقون على التوحيد، لذا وجب اتفاق البشر قاطبة على أن الإله واحد لا شريك له، وعلى وجوب إفراده بالعبادة. أما المشركون فقد خالفوا كل الأنبياء. وأما الاختلاف في الدين بين مصدق ومكذب: فهو ظاهرة شائعة، لذا نعى الله تعالى التفرق في أمر الدين، سواء المسلمين أو اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وذمهم لمخالفتهم الحق، وندد بغير المسلمين اتخاذهم آلهة من دون الله، فيكون المراد بقوله: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ جميع الخلق، بأن جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا، وتقسموه بينهم، فمن موحّد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. والكل من هؤلاء الفرق المختلفة راجع إلى حكم الله فيجازيهم.

روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، فهلكت سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، فتهلك إحدى وسبعون فرقة، وتخلص فرقة واحدة، قالوا: يا رسول الله، من تلك الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة، الجماعة، الجماعة» فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن في قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في الناجية: إنها الجماعة، إشارة إلى أمة الإيمان. ولكن المراد بقوله: «ستفترق أمتي» أي في حال ما، وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال، لا يجوز أن يزيد أو ينقص «1» . والقاعدة الثابتة أن من يعمل شيئا من الطاعات، فرضا أو نفلا، وهو موحد مسلم، مصدق بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فلا جحود ولا كفران لعمله، ولا يضيع جزاؤه، والكفر ضدّ الإيمان، وهو أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر، والله حافظ لعمله، كما قال تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران 3/ 196] أي كل ذلك محفوظ ليجازى به. وفي هذا ترغيب الناس بطاعة الله تعالى. ومن القواعد والسنن الثابتة الجارية على منهاج واحد أنه ممتنع على أهل قرية أهلكهم الله أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، وهذا على أن لا زائدة. والراجح عند أبي علي الفارسي والزجاج أن لا غير زائدة، إذ لا فائدة في أن المراد: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا، وإنما في الكلام إضمار، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون. وهذا هو الأولى عندي.

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 219، والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، ولفظه: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .

أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها [سورة الأنبياء (21) الآيات 98 إلى 106] :

ويظل المنع من رجوعهم إلى فتح سد يأجوج ومأجوج، وهم الناس جميعا، أو هم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر في رأي القرطبي، وإلى خروج الناس من قبورهم مقبلين من كل حدب (مرتفع من الأرض) ، وذلك يحصل عند قيام الساعة (القيامة) وهذا دليل على إثبات النشر والحشر. ثم أثبت الله تعالى البعث والجزاء بقوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وما يتعرض له الكفار من أهوال وشدائد تشخص منها أبصارهم، أي ترتفع من هول القيامة لا تكاد تطرف، ويقولون: يا ويلنا ويا هلاكنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا، ووضعنا العبادة في غير موضعها. أحوال الكافرين والمؤمنين في الآخرة وحال السماء فيها [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 106] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)

الإعراب:

الإعراب: كَطَيِّ السِّجِلِّ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف، أي نطوي السماء طيّا كطي السجل، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه، والمصدر مضاف إلى المفعول إذا كان بمعنى المكتوب فيه وهو الصحيفة، أي كما يطوى السجل. وللكتاب: أي للكتابة، كقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران 3/ 48] . وَعْداً عَلَيْنا منصوب بوعدنا المقدر قبله، وهو مؤكد لمضمون ما قبله. البلاغة: نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي نطوي السماء طيا مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها. المفردات اللغوية: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنكم أيها الكفار والمشركون وما تعبدونه من الأوثان من غير الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ما يرمى به إليها من حطب ووقود. وارِدُونَ داخلون فيها. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً لو كان هؤلاء الأوثان آلهة كما زعمتم. ما وَرَدُوها دخلوها لأن المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها. وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ كل من العابدين والمعبودين خالدون دائمون في جهنم. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي للعابدين في جهنم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف. لا يَسْمَعُونَ شيئا لشدة غليانها. الْحُسْنى المنزلة الحسنى أو الكلمة الحسنى التي تبشر بثوابهم الحسن على أعمالهم. حَسِيسَها صوتها الذي يحس من حركتها. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم. خالِدُونَ دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ النفخة الثانية أو الأخيرة لقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل 27/ 87] وقيل: هو الانصراف إلى النار وهو أن يؤمر بالعبد إلى النار، وقيل: حين يطبق على النار، أو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تستقبلهم الملائكة مهنئين عند خروجهم من القبور. هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي ويقولون لهم: هذا اليوم الذي كنتم توعدون به في الدنيا. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ أي اذكر يوم الطي: وهو ضد النشر. السِّجِلِّ الصحيفة المكتوب فيها. لِلْكُتُبِ للكتابة فيها. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ أي من عدم. نُعِيدُهُ بعد إعدامه. وَعْداً منصوب ب نُعِيدُهُ، أو بفعل مقدر تأكيدا ل نُعِيدُهُ أي وعدناه وعدا. عَلَيْنا أي علينا إنجازه. إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ما وعدنا ذلك لا محالة.

سبب النزول نزول الآية (101) :

الزَّبُورِ كتاب داود. الذِّكْرِ أي التوراة، أو جنس الكتب المنزلة، أو اللوح المحفوظ. أَنَّ الْأَرْضَ أرض الجنة. عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أي عامة المؤمنين أو كل صالح. إِنَّ فِي هذا القرآن أو ما ذكرناه من الأخبار والمواعظ والمواعيد. لَبَلاغاً كفاية في دخول الجنة. لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي همهم العبادة دون العادة. سبب النزول: نزول الآية (101) : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى: أخرج الحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ قال ابن الزّبعرى: عبد الشمس والقمر والملائكة وعزير، فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ونزلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف 43/ 57- 58] . المناسبة: بعد بيان أحوال أهل النار وأهل الجنة، واقتراب الساعة، ذكر الله تعالى حال العابدين والمعبودين من دون الله، وأنهم سيكونون وقود جهنم، باستثناء أهل السعادة أو البشرى بالثواب. التفسير والبيان: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ.. إنكم أيها المشركون بالله من عبدة الأصنام والأوثان وما تعبدون من غير الله، وقود جهنم، أنتم جميعا داخلون فيها، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة 2/ 24] . ويشمل ما يعبدون من دون الله الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم

لهم، واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ولا تشمل هذه الآية عزيرا والمسيح والملائكة لأن قوله: إِنَّكُمْ خطاب مشافهة مع مشركي قريش، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط، ولأنه تعالى لم يقل: (ومن تعبدون) بل قال: وَما تَعْبُدُونَ وكلمة ما لا تتناول العقلاء، فسقط سؤال ابن الزبعرى، كما أبان الرازي «1» . وأما قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس 91/ 5] وقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون 109/ 2] فهو محمول على الشيء، ونظيره هاهنا أن يقال: إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم، فلا يرد سؤال ابن الزبعرى. ويتضح سبب النزول المتقدم ودخول الشياطين في المعبودين بما يأتي: روى محمد بن إسحاق في سيرته: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد، وصناديد قريش في الحطيم «2» ، وحول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فأقبل عبد الله بن الزّبعرى، فرآهم يتهامسون، فقال فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله، فقال عبد الله: أما والله، لو وجدته لخصمته، فدعوه، فقال ابن الزّبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، يعني عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام.

_ (1) تفسير الرازي: 22/ 223 (2) الحطيم: جدار حجر الكعبة أي حجر إسماعيل من ناحية الشمال.

وأما سبب إدخال المعبودين في النار: فهو كما أبان الزمخشري «1» ليزداد العابدون بهم غمّا وحسرة، وليكونوا أبغض شيء لديهم بعد أن اتخذوهم في الدنيا شفعاء لهم في الآخرة. ثم ذكر تعالى دليل كون المعبودين غير آلهة فقال: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها أي لو كان هؤلاء الأصنام وأشباههم آلهة صحيحة تنفع وتضر كما يظن العابدون ما دخلوا النار، إذ لو كانت تنفع وتضر لأبعدت الضر عن نفسها، فهي جديرة بالهجرة والإهانة. وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي وكل من هؤلاء الآلهة المعبودين دائمون في عذاب النار، لا مخرج لهم منها. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي ولهم في النار من شدة العذاب وشدة الكرب والغم أنين وتنفس شديد يخرج من أقصى الجوف، كما قال تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود 10/ 106] وهم لا يسمعون فيها ما يسرهم أو ينفعهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية. وبعد بيان أحوال أهل النار، ذكر الله تعالى أحوال السعداء من المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ أي إن الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، فهم مبعدون عن دخول النار، وهم في الجملة: أهل السعادة أو البشرى بالثواب، أو التوفيق للطاعة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] . يروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر،

_ (1) الكشاف: 2/ 338

وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة، فقام يجرّ رداءه، وهو يقول: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها. وأوضاع نعيمهم هي: 1- لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي لا يسمعون صوت النار، وحريقها في الأجساد، ولا يصيبهم شررها. 2- وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ أي وهم ماكثون أبدا فيما يشتهونه من نعيم الجنة ولذائذها. والشهوة: طلب النفس اللذة. 3- لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ لا يخيفهم هول النفخة الثانية أو الأخيرة بعد قيامهم من قبورهم للحساب، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل 27/ 87] . وقيل بغير ذلك كما تقدم في بيان المفردات. والأصح: أنه أهوال يوم القيامة والبعث. 4- وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي وتستقبلهم الملائكة تقول لهم وتبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: هذا يومكم الذي وعدتم به في الدنيا، يوم المسرة والكرامة والمثوبة والحسنى. وذلك التلقي والاستقبال هو كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء، أو تتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء يوم القيامة كما يطوى السجل، أي الصحيفة للكتابة فيه، وهذا موقف آخر فيه روع وخوف وحيرة، كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 39/ 67] . كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي أن هذا الطي

كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق بالبعث خلقا جديدا، كما بدأهم في المرة الأولى، وهو القادر على إعادتهم، وذلك وعد الله الذي لا يخلف، والله تعالى فاعله حتما، فهو واجب الوقوع، ولا بدّ من تحققه لأنه قادر عليه. وقوله: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل ذلك. ونظير الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 6/ 94] ، وقوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 18/ 48] . ثم أخبر الله تعالى عما قضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، فقال: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ.. أي ولقد قضينا قضاء محتما في كتاب الزبور بعد التوراة أو القرآن أن وراثة الأرض في الدنيا والآخرة لا تكون إلا للعباد الصالحين وهم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى. والذّكر: التوراة، وقال ابن عباس: القرآن، وقيل: إنه أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ، فهو اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. والأرض: إما أرض الجنة، كما قال تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر 39/ 74] . وإما أرض الدنيا، وأهلها الصالحون لعمارتها، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] ، وقال سبحانه: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] . وإما الأرض المقدسة يرثها الصالحون، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] .

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي إن في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة البلاغ أي الكفاية والمنفعة لقوم عابدين: وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبّه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن المشركين بالله والآلهة التي عبدوها من دون الله من الأصنام والأوثان والشياطين وقود جهنم، هم جميعا داخلون فيها، إظهارا لعدم فائدة عبادتها، وزيادة لعابديها في الغم والحسرة، وإيجاد الكراهية الشديدة لها، وإمعانا في السخرية منهم ومن عبادتهم، وإقامة الحجة القاطعة على قدرة الله الشاملة لكل شيء. وقد استدل الأصوليون بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ على القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة بدليل الاستثناء منها. 2- الدليل على إبطال صفة الألوهية لتلك الآلهة المزعومة أنه لو كانت الأصنام وأمثالها آلهة لما ورد عابدوها النار، ولما خلدوا هم والمعبودون فيها. 3- أحوال المعذبين النفسية في النار غريبة وشديدة، فلهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين زفير: وهو صوت المغموم الذي يخرج من القلب، ولا يسمعون ما يسرهم، بل ما يسوؤهم من أصوات الزبانية الذين يتولون تعذيبهم. 4- إن أهل السعادة والتوفيق للطاعة والبشرى بالثواب مبعدون عن دخول النار.

وأحوالهم سارة، فهم لا يسمعون حسّ النار وحركة لهبها وحريقها الأجساد، ويتمتعون بنحو دائم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ [فصلت 41/ 31] . ولا يحزنهم الفزع الأكبر الذي يصيب غيرهم وهو أهوال يوم القيامة والبعث، وتستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فما أجمل هذا الاستقبال والترحاب الحار الصادق، وما أحسنه اطمئنانا وإسعادا للنفس!! 5- الثابت في هذه الآية: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وغيرها على أن السموات والأرض تتبدل يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم 14/ 48] . 6- والثابت أيضا أن الله تعالى سيحشر الناس من قبورهم ويعيدهم خلقا جديدا أحياء، كما خلقهم في المرة الأولى يوم بدئوا بالخلق في البطون. روى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا- غير مختونين- أوّل الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» . وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام» . 7- المقرر في جميع الكتب السماوية المنزلة أن أرض الجنة في الآخرة، وكذا الأرض في الدنيا- كما يفهم من إطلاق الآية- يرثها عباد الله الصالحون. والصالحون للآخرة هم المؤمنون العاملون بطاعة الله، والصالحون للدنيا: من يصلح لعمارتها والقيام بحقها.

نبي الرحمة المهداة [سورة الأنبياء (21) الآيات 107 إلى 112] :

8- إن في هذا القرآن الذي أنزله الله على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم لبلاغا لقوم عابدين أي لمنفعة وكفاية للذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعته على كل شيء. نبي الرحمة المهداة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 107 الى 112] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) الإعراب: عَلى سَواءٍ إما منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، وتقديره: آذنتكم إيذانا على سواء، وإما في موضع نصب على الحال من الفاعل والمفعول في آذَنْتُكُمْ وهما التاء والكاف والميم، مثل قول الشاعر: «فلئن لقيتك خاليين لتعلمن» فنصب خاليين على الحال من ضمير الفاعل والمفعول في «لقيتك» . البلاغة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استفهام يراد به الأمر، أي أسلموا كما في الآية المتقدمة: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي فاشكروا [الأنبياء 21/ 80] .

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي وما أرسلناك يا محمد إلا للرحمة بالعالمين: الإنس والجن لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم. قُلْ: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ما يوحى إلى في أمر الإله إلا وحدانيته، فهو الإله الواحد لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، فكلمة إِنَّما الأولى لقصر الحكم على الشيء، والثانية على العكس. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون خاضعون لما يوحى إلي من وحدانية الإله. والاستفهام بمعنى الأمر، أي أسلموا وأخلصوا العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي. فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن ذلك. آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ما أمرت به، وكثر استعماله في الإنذار، كما قال تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة 2/ 279] . عَلى سَواءٍ أي مستوين في علمه، أي أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في الحرب والمعاداة. وَإِنْ أَدْرِي أي ما أدري. ما تُوعَدُونَ من العذاب أو من غلبة المسلمين عليكم أو من القيامة والحشر، فذلك كائن لا محالة، وإنما يعلمه الله. إِنَّهُ يَعْلَمُ إنه تعالى. الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ومن الفعل، منكم ومن غيركم من الطعن في الإسلام. وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي وما أدري لعل تأخير عذابكم استدراج لكم، وزيادة في الامتحان والاختبار. لَكُمْ ليرى كيف صنعكم. وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته. رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي اقض بيني وبين مكذبيّ كأهل مكة بالعدل، أي بتعجيل العذاب لهم أو النصر عليهم، فعذبوا ببدر وأحد وحنين والأحزاب أو الخندق، ونصره الله عليهم. تَصِفُونَ أي أن الله هو كثير الرحمة على خلقه، المطلوب منه المعونة على ما تصفون من الحال بأن الشوكة تكون لهم، وبكذبكم على الله باتخاذه ولدا، وعلي بأني ساحر، وعلى القرآن بأنه شعر. المناسبة: بعد بيان قصص الأنبياء المتقدمين عليهم، وبعد الاعلام بأن القرآن بلاغ ومنفعة وكفاية للعابدين، أخبر الله تعالى عن سبب بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم وهو أنه رحمة للعالمين في الدين والدنيا، أما في الدين فبتخليصهم من الجاهلية والضلالة، وأما في الدنيا فبالتخليص من كثير من الذل والقتال والحروب، والنصر والعلو ببركة دينه. وأما مجيئه بالسيف أيضا فهو لتأديب من استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، كما أن الله رحمن رحيم، وهو أيضا منتقم من العصاة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَما أَرْسَلْناكَ.. أي وما أرسلناك يا محمد بشريعة القرآن وهديه وأحكامه إلا لرحمة جميع العالم من الإنس والجن في الدنيا والآخرة، فمن قبل هذه الرحمة، وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها وجحدها، خسر الدنيا والآخرة. وقيل: كونه رحمة للكفار: أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال. قال تعالى مبينا خسارة الجاحدين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم 14/ 28- 29] . وقال سبحانه في صفة القرآن: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت 41/ 44] . وقال صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة» ورواه الحاكم بلفظ: «إنما أنا رحمة مهداة» . ثم أمر الله رسوله أن يقول للمشركين بما يكون إعذارا وإنذارا في مجاهدتهم: قُلْ: إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي قل يا محمد لمشركي مكة ولكل إنسان: ما يوحى إلي شيء في شأن الإله إلا أنه إله واحد لا شريك له، فاعبدوه وحده، وأسلموا له وانقادوا، وأطيعوني واتبعوني على ذلك. فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَقُلْ: آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي فإن أعرضوا وتركوا ما دعوتهم إليه، فقل: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، وأنا بريء منكم، كما أنتم برآء مني، كقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] ، وقوله سبحانه: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال 8/ 58] أي ليكن

علمك وعلمهم بنبذ العهد على السواء، وهذا معنى الآية هنا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني، لعلمي بذلك، وقد استوينا في هذا العلم. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ أي إن ما توعدون من العذاب وغلبة المسلمين عليكم واقع كائن لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم ما تجهرون به من الطعن في الإسلام، وما تضمرونه من الحقد والكيد على المسلمين، وسيجزيكم على قليل ذلك وكثيره. وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ابتلاء واختبار لكم، وتمتع بلذات الدنيا إلى أجل مسمى، لينظر كيف تعملون. قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي قال النبي: ربنا افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق والعدل، فقولك الحق، وأنت الحق، ووعدك الحق، وحكمك بالحق، ولا تحب إلا الحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف 7/ 89] وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول ذلك. وروى مالك عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ. وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي والله ربنا هو المطلوب منه العون على ما تصفون من الشرك والكفر، والكذب والباطل، وهو القول: بأن لله ولدا، وأني ساحر شاعر، وأن القرآن شعر، وعلى ما تطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لكم.

فقه الحياة أو الأحكام:

والاحتكام إلى الله إنذار وإظهار للحق، وتوعد للكفار، وتهديد بالهزيمة والاندحار أمام جند الإيمان وأنصار الحق. فقه الحياة أو الأحكام: في اختتام سورة الأنبياء بهذه الآيات دلالات ظاهرة وحجة بينة على الحق الأبلج وهي: 1- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي توج الله برسالته رسالات الأنبياء المتقدمين رحمة لجميع الناس، فمن آمن به، وصدّق بدعوته، سعد، ومن لم يؤمن به سلم في الدنيا مما لحق الأمم من الخسف والمسخ والغرق وعذاب الاستئصال، وخسر الآخرة خسرانا مبينا. 2- جميع رسالات الأنبياء ورسالة خاتمهم أيضا لا يوحى فيها شيء في شأن الإله إلا التوحيد والوحدانية، فلا يجوز الإشراك به، فهل أنتم أيها البشر قاطبة منقادون لتوحيد الله تعالى، أي فأسلموا تسلموا. 3- إن أعرض المشركون والكفار عن رسالة الإسلام فقد تمّ إنذارهم وإعذارهم، وتمّ إعلامهم ألّا لقاء بين الإيمان والكفر، وألّا صلح بين المسلمين والكفار، وأن الحرب والعداوة مستمرة بين الفريقين، ولكن لا يشترط أن تكون حربا مستعرة وقتالا دائرا، وإنما ذلك إعلان قاطع عما يكنّ في أصائل قلوب المؤمنين من إنكار قلبي لمختلف ألوان الكفر، دون مهادنة ولا رضا، ولا إقرار لأي شيء من أوضاع الكفر الفاسدة. 4- إن أجل العذاب ويوم القيامة لا يدريه أحد، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرّب. 5- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، والسر والجهر، والباطن والظاهر

يعلم مطاعن الكفار بالإسلام، ومكائدهم وأحقادهم على المسلمين وشركهم وكفرهم، وسيجزيهم على ما يصدر منهم من صغير أو كبير. وربما كان الإمهال بالعذاب اختبارا ليرى ما يصنعون، والله أعلم بما يفعلون، وربما كان عدلا وفضلا تأخير العذاب ليتمتع الكفار بلذائذ وشهوات الدنيا، ثم يحرموا منها في الآخرة. 6- عقيدة المؤمن الصادق الإيمان لها محوران في أزمات الاحتكاك مع الكفار، المحور الأول- هو تفويض الأمر إلى الله وتوقع الفرج من عنده، وهذا ما أمر به الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله: قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. والمحور الثاني- هو الاستعانة بالله القوي الغالب، وهذا ما ختمت به السورة: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي ما تصفونه من الكفر والتكذيب، والطمع في الغلبة على أهل الإيمان. 7- يقوم شرع الله ودينه على عقيدة التوحيد الخالص من شوائب الشرك، وعلى العدل والقسط، فالله سبحانه يقضي بالحق، وينصر أهل الحق والإيمان بالله، ويخذل الظلمة والكفار، ويدحر الظلم وأهله، ويعين المظلوم، وينصر الضعيف، وينتصف للفقير من الغني، ويسوي بين الخصمين، ولو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، ويدعو إلى الرحمة والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه هي أصول الحضارة الصحيحة، ونواة (الديمقراطية) السديدة، فلا تعصب فيه، ولا ظلم، ولا جهل، ولا فوضى، وإنما العلم والمعرفة والوعي منهاج الحياة الإسلامية، وطريق الدعوة القرآنية، ومصباح العالم كله.

سورة الحج:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الحج مدنية، وهي ثمان وسبعون آية. تسميتها: سميت سورة الحج لإعلان فريضة الحج فيها على الناس، على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ بعد بناء البيت العتيق، فأذن، فبلغ صوته أنحاء الأرض، وأسمع النطف في الأصلاب والأجنة في الأرحام، وأجابوا النداء: «لبيك اللهم لبيك» . صلتها بما قبلها: هناك تناسب وارتباط بين بداية هذه السورة، وخاتمة السورة السابقة، فقد ختم الله سورة الأنبياء ببيان اقتراب الساعة ووصف أهوالها في قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وافتتح هذه السورة بقوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ. وفي السورة المتقدمة بيان قصص أكثر من عشرة من الأنبياء تدور على ما قاموا به من إثبات توحيد الله، ونبذ الشرك، والإيمان بالبعث، وفي هذه السورة استدلال بخلق الإنسان بأطواره المتعددة وبإبداع السموات والأرض على قدرة الله على إحياء البشر للبعث، وعلى وجوده تعالى ووحدانيته، ثم تنبيه الأفكار على الالتفات لأحوال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله، والاتعاظ بها بسبب تكذيبهم الرسل.

مشتملاتها:

مشتملاتها: بالرغم من أن هذه السورة مدنية تضمنت الكلام عن فرضية الحج ومناسكه، وعن مشروعية القتال ومقومات النصر، فإنها تحدثت عن أمور مشابهة لموضوعات السور المكية من الإيمان بالله عزّ وجلّ وتوحيده، والبعث والاستدلال عليه، والجزاء على الأعمال. افتتحت السورة بما يهز المشاعر، وينشر الرعب والخوف من أهوال الساعة، وشدائد يوم القيامة. ثم انتقلت إلى بيان أدلة البعث، وإتيان القيامة، وبيان بعض مشاهدها من جعل الأبرار في دار النعيم، وزجّ الكفار في نار الجحيم، وإعلان خسارة المنافقين المضطربين الذين لا يعرف لهم قرار ولا اتجاه. ثم أبانت حرمة المسجد الحرام، وفرضية الحج ومنافعه، وحرماته وشعائره، ومناسكه وذبائحه، وأردفت ذلك بالحديث المقنع عن أسباب فرضية القتال، ومقومات النصر على الأعداء، مع تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما ناله من أذى قومه، وتكذيبهم له، والتعريف بحال أهل القرى الظالمة التي أهلكها الله، وجعل العاقبة للمتقين، وتحديد مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وهي الإنذار مكذبي القرآن بالنار، وتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة والنعيم، وإظهار مدى فضل الله على المهاجرين وإثابتهم. واقتضت الحكمة بعدئذ الكلام عن أدلة القدرة الإلهية من خلق الليل والنهار، والسماء والأرض، والإحياء والإماتة، والعلم الشامل لجميع مكنونات الكون، وتفرد الله تعالى بالحساب والفصل والحكم بين الناس. ثم بيان مدى تبرم الكفار بآيات الله، وإظهار الغضب على وجوههم، وتحديهم بأن معبوداتهم من الأصنام وغيرها لا تستطيع خلق ذبابة، فضلا عن خلق الإنسان، وأن منشأ

فضلها:

شركهم إقفار قلوبهم من تقدير الله حق قدره، علما بأن الله يرسل رسلا من الملائكة ومن البشر لتبليغ الرسالة الإلهية على أتم وجه. ثم عاد الكلام إلى بيان أحكام التشريع من أمر المؤمنين بفرائض جوهرية ثلاث: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والجهاد في سبيل الله حق الجهاد، وأردف ذلك بالتذكير بسماحة الإسلام، وأن الدين يسر لا عسر، ثم أمرهم بالاعتصام بدين الله والقرآن والإسلام، وبيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة، وأن أمته تشهد على الأمم المتقدمة بتبليغ أنبيائهم لهم دعوة الله وتشريعه، وتلك مزية سامية لهذه الأمة. فضلها: قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، محكما ومتشابها. الأمر بتقوى الله تعالى [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)

الإعراب:

الإعراب: يَوْمَ تَرَوْنَها يَوْمَ منصوب بتذهل. عَمَّا أَرْضَعَتْ ما: موصولة أو مصدرية. أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ في موضع رفع على أنه نائب فاعل، وهاء أَنَّهُ ضمير الشأن. والحديث. ومَنْ: إما بمعنى الذي، وتَوَلَّاهُ: صلته، وهو وصلته مبتدأ، وقوله: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ خبره، ودخلت الفاء لأن الموصول يتضمن معنى الشرط والجزاء. ومن وصلته وخبره: خبر «أن» الأولى. وإما أن تكون مَنْ شرطية، وتَوَلَّاهُ: مجزوم بها، وجواب الشرط: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ. ومن الشرطية وجوابها خبر «أن» الأولى. وأما فتح «أن» الثانية فهو على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فشأنه أنه يضله، أي فشأنه الإضلال. البلاغة: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى تشبيه بليغ، حذف فيه أداة التشبيه والشبه، أي كالسكارى من شدة الهول. شَيْطانٍ مَرِيدٍ استعارة، استعار لفظ الشيطان لكل طاغية عات متمرد على الله. يُضِلُّهُ ويَهْدِيهِ بينهما طباق. وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أسلوب تهكم. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة وغيركم. اتَّقُوا رَبَّكُمْ احذروا عقابه، بأن تطيعوه. زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ تحريكها للأشياء، على الإسناد المجازي، والزلزلة: الحركة الشديدة للأرض، وقيل: تكون هذه الزلزلة حقيقة، ثم يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها. شَيْءٌ عَظِيمٌ هائل، مزعج للناس، وهو نوع من العقاب. وقد علل أمر الناس بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوروها بعقولهم، ويعلموا أن الأمان منها بالتدرع بلباس التقوى. يَوْمَ تَرَوْنَها الضمير للزلزلة. تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي تذهل كل مرضعة (وهي الأنثى حال الإرضاع) عن رضيعها وتنساه، أي تذهلها الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة بسبب ما يطرأ من هم أو وجع أو غيره، والمقصود تصوير هولها والدلالة على ترك التعلق بأحب الأشياء. حَمْلَها جنينها. سُكارى كأنهم سكارى من شدة الخوف. وَما هُمْ بِسُكارى على الحقيقة. وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أي يرهقهم هوله ويذهب عقولهم وتمييزهم، فهم يخافونه.

نزول الآيتين (1 - 2) :

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيقولون: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وينكرون البعث وإحياء من صار ترابا. وَيَتَّبِعُ في جداله وعامة أحواله. كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ متمرد عات، متجرد للفساد. كُتِبَ عَلَيْهِ قضي على الشيطان. أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اتبعه. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أي كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه. وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي يدعوه إلى النار، ويحمله على ما يؤدي إليه. نزول الآيتين (1- 2) : روي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق، فقرأهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الناس، فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة، وأصبح الناس بين باك وجالس حزين متفكر. نزول الآية (3) : وَمِنَ النَّاسِ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ قال: نزلت في النضر بن الحارث. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده بتقواه، ويخبرهم عما يستقبلون من أهوال القيامة وزلازلها وأحوال الآخرة، فيقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ أي يا أيها البشر قاطبة، احذروا عقاب ربكم، بطاعته وعدم عصيانه، فإن زلزلة القيامة أو حركتها الشديدة حين قيامها قبل قيام الناس من قبورهم شيء عظيم الهول، خطير الوقع. وذلك بدليل قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة 99/ 2- 1] وقوله: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة: 69/ 14- 15]

وقوله: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة 56/ 4- 6] . وأوصاف ذلك اليوم هي: 1- يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ يوم تذهل الزلزلة كل مرضعة عن وليدها الرضيع. والذهول: الغفلة عن الشيء مع دهشة، والمرضعة: التي هي في حال الإرضاع، ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: المستعدة للإرضاع أو التي من شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع، في حال وصفها به، وقوله: عَمَّا أَرْضَعَتْ أي إرضاعها أو عن الطفل الذي ترضعه. 2- وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها أي وتسقط الحامل جنينها من بطنها من شدة الهول والخوف والفزع. قال الحسن البصري: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. 3- وَتَرَى النَّاسَ سُكارى.. أي وترى الناس كالسكارى من الخوف، وهم في الحقيقة والواقع غير سكارى من الشراب، ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وتمييزهم. ومع هذا التحذير الشديد ينكر بعض الناس البعث ويجادل في المغيبات بغير علم، فيقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي وبعض الناس من يجادل في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث وغيره بغير علم صحيح، ولا عقل رشيد، ويتبع في جداله بالباطل خطوات كل شيطان متمرد عات، فهو لا يجادل بالحق، وإنما يجادل بالباطل.

فقه الحياة أو الأحكام:

قيل كما بينا: نزلت في النضر بن الحارث، وكان جدلا، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. والآية كما قال في الكشاف عامة في كل من تعاطى الجدال، فيما لا يجوز على الله، وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم، ولا يتّبع حجة ولا برهانا صحيحا، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل. والآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، وهي المجادلة مع العلم، المرادة بقوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] . أما المجادلة الباطلة فهي المراد من قوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف 43/ 58] . كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ.. أي قضي على من اتبع الشيطان، وجعله وليا ناصرا له أن يوقعه في الضلال، وأن ولايته له لم تثمر إلا الإضلال عن طريق الجنة، والهداية إلى النار، وإيصاله إلى جهنم. والمقصود أن اتباع الشيطان يؤدي إلى الضلال في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة، وكأنه تعالى قال: قضي على من يتبع الشيطان أن الشيطان يضله عن الجنة، ويهديه إلى النار، وهذا وعيد لمتبع الشيطان. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- وجوب التحلي بالتقوى وهي التزام الأوامر الإلهية، واجتناب النواهي، لاتقاء أهوال يوم القيامة ذات الخطر الشديد. 2- إن وقع الساعة وتأثير القيامة على النفس شديد الأثر، حتى لتكون زلزلتها مذهلة (شاغلة) الأم الحنون عن طفلها الرضيع، ومسقطة الجنين من

الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث [سورة الحج (22) الآيات 5 إلى 7] :

بطن أمه، وجاعلة الناس كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم في الحقيقة سكارى من الشراب. 3- إن المشرك بالله هو الذي يجادل بالباطل وبغير علم صحيح في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث، والإحياء بعد الإماتة، وهو في جداله يتبع كل شيطان متمرد، ومن يتبع الشياطين ويتولاهم فإنهم يوقعونه في الحيرة والضلال في النار، ويأخذون بيده إلى عذاب جهنم في الآخرة. وهذا يدل على تحريم المجادلة الباطلة القائمة على الجهل، وعلى الزجر من الله تعالى على اتباع خطوات الشيطان. أما المجادلة بالحق وهي القائمة على العلم، فهي جائزة غير ممنوعة. الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

الإعراب:

الإعراب: بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً: منصوب بالمصدر قبله، على قول البصريين لأنه الأقرب، وب يَعْلَمَ على قول الكوفيين لأنه الأول. ذلِكَ بِأَنَّ.. ذا: إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، وإما منصوب على تقدير فعل، تقديره: فعل الله ذلك بأنه الحق. وقال البيضاوي: وهو مبتدأ، وخبره: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. البلاغة: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ بينهما طباق السلب. اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ استعارة تبعية، شبه الأرض بنائم، ثم يتحرك بنزول المطر عليه. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة وأمثالكم. رَيْبٍ شك. مِنَ الْبَعْثِ من إمكانه وكونه مقدورا. فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي فانظروا في بدء خلقكم وأصلكم آدم، فإنه يزيح ريبكم. مِنْ تُرابٍ أي خلق آدم منه، وخلق الأغذية التي يتكون منها المني. نُطْفَةٍ مني: وهو ما يخرج عند اللذة من صلب الرجل، سمي نطفة لقلته، مأخوذ من النّطف: أي الصب أو القطر. عَلَقَةٍ قطعة من دم جامد. مُضْغَةٍ قطعة من اللحم، قدر ما يمضغ. مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مصوّرة معالم الخلقة أو غير مصوّرة، أو مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب، أي تامة الخلق، وغير مسوّاة. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدرج في الخلقة كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته. وَنُقِرُّ أي نبقي، وهو كلام مستأنف. ما نَشاءُ أن نقرّه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع، وأدناه بعد ستة أشهر، وغالبة تسعة أشهر، وأقصاه في رأي أهل الخبرة سنة. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا عطفا على لِنُبَيِّنَ، أي نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا. وطِفْلًا: حال أجريت على تأويل كل واحد، أو الدلالة على اسم الجنس فيكون للواحد والجمع. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي ثم نعمركم لتبلغوا الكمال في القوة والعقل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين سنة، والأشد: كمال القوة والعقل والتمييز، وهو جمع شدة، كالأنعام جمع نعمة، وقال الزمخشري: هو من ألفاظ المجموع التي لم يستعمل لها واحد، كالأسدة والقتود والأباطيل وغير ذلك. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يموت قبل بلوغ الأشد. أَرْذَلِ الْعُمُرِ أدناه وأردؤه من الهرم والخرف. لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر من عرفه. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.

المناسبة:

والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أطواره من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره. هامِدَةً يابسة ميتة لا نبات فيها. اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات. وَرَبَتْ ارتفعت وزادت وانتفخت بالماء والنبات. وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي أنبتت من كل صنف حسن رائق. ومِنَ: زائدة ذلِكَ أي المذكور من بدء خلق الإنسان إلى آخر إحياء الأرض. بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أن الله. هُوَ الْحَقُّ الثابت في نفسه، الدائم الذي يحق ثبوته، أي لأن الله هو الحق. وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي أنه يقدر على إحيائها، وإلا لما أحيى النطفة والأرض الميتة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن قدرته لذاته، فمن قدر على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها. لا رَيْبَ فِيها لا شك. وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن المشركين الجدل بغير علم في قضية البعث والحشر والنشر، وذمّهم على ذلك، أورد تعالى الأدلة على إثبات البعث بخلق الإنسان، وخلق النبات، فقال هنا عن الأول: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الآية، وقال في آيات أخرى: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس 36/ 79] . فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء 17/ 51] وقال عن الثاني: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ... التفسير والبيان: بعد أن ذكر الله تعالى موقف المنكر للبعث، ذكر الدليل على قدرته على المعاد بما يشاهد من بدئه الخلق، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي يا أيها البشر المنكرون للبعث، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، يوم القيامة، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة بدليل المراحل والأدوار السبعة التي يمر بها الإنسان وهي:

1- فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا أصلكم آدم من التراب، وخلقنا الأغذية التي يتكون منها المني من النبات المتولد من الماء والتراب. 2- ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم صار التوالد المعتاد بواسطة المني المتولد من الغذاء الناشئ من التراب. 3- ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي ثم تتحول بإذن الله النطفة بعد أربعين يوما إلى قطعة دم مكثف أو جامد، أو علقة حمراء. 4- ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ثم تصبح العلقة قطعة لحم، وتلك القطعة إما أن تتم منها أحوال الخلق، فتصير تامة الصورة والحواس والتخطيط لمعالم الجسد، وإما ألا تتم، وتسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط أو بعده، أو تبقى ناقصة الصور والحواس والتخطيطات وتتم ولادتها، قال الرازي: فيجب أن تحمل مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على من سيصير إنسانا لأنه تعالى قال في أول الآية: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ وذلك يبعد حمل قوله: غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على السقط. والخلاصة: أن المخلقة هي القطعة المسوّاة التي لا نقص فيها ولا عيب أي التامة الخلقة، وغير المخلقة: هي القطعة غير المسوّاة التي فيها عيب. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها على إمكان البعث، فإن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا- ولا تناسب بين الماء والتراب- وقدر على أن يجعل النطفة علقة- وبينهما تباين ظاهر- ثم يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، قدر على إعادة ما بدأه، بل هذا أهون، كما قال الزمخشري رحمه الله تعالى.

5- ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ضعافا في البدن والعقل والحواس، ثم ينمو كل طفل ويعطيه الله القوة شيئا فشيئا. 6- ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثم تتكامل قواكم البدنية والعقلية، حتى تصلوا إلى حد الكمال في عنفوان الشباب. 7- وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ... أي ومنكم من يموت قبل بلوغ الأشد أو في حال الشباب والقوة، ومنكم من يعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم، وضعف القوة والعقل والفهم، والخرف، حتى يعود إلى ما كان عليه حال الطفولة، ضعيفا، سخيف العقل، قليل الفهم، ينسى ما كان يعلمه، كما قال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس 36/ 68] . والخلاصة: أن تدرج الخلق في مراحله المذكورة، وطروء الموت وعوارض الأحوال على الإنسان دليل قاطع على وجود الخالق القادر المهيمن، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه في القياس والعقل، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم 30/ 54] . ثم ذكر الله تعالى الدليل الثاني على إمكان البعث بخلق النبات المشابه لخلق الإنسان فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ... أي وإذا تأملت أيها الإنسان ترى الأرض «1» ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزلنا عليها ماء المطر أو غيره، تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، وازدادت وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم

_ (1) خاطب تعالى الناس أولا بصيغة الجمع، فقال: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ثم خاطب بصيغة الواحد، للتنويع فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل، للاحتجاج به على منكري البعث.

أنبتت من كل صنف من النبات والزرع، ذي منظر حسن وبهاء ورونق وطيب ريح، لاختلاف ألوان الثمار والزروع، وطعومها، وروائحها، وأشكالها، ومنافعها، فمن قدر على إحياء الأرض الميتة الهامدة التي لا ينبت فيها شيء، قادر على إحياء الموتى. ونتائج ما ذكر هي الأمور الخمسة التالية: 1- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك المذكور الذي بينته لكم من خلق الإنسان والحيوان والنبات، وانتقال كل مخلوق من حال إلى حال، بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه، ولا يحول ولا يزول، الخالق المدبر الفعال لما يشاء. وأما ما عداه من جميع المخلوقات فضعيف عاجز لا يقدر على فعل شيء مما ذكر. وهذا دال على وجود الصانع المتفرد بالخلق. 2- وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي وبأنه الإله القادر على إحياء الموتى، كما أحيى الإنسان والحيوان والنبات، فأنبت من الأرض الميتة ما فيه الحياة، وهذا تنبيه على أن من لم يعجزه إيجاد هذه الأشياء، فكيف يعجزه إعادة الأموات؟! إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت 41/ 39] . 3- وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي وبأنه تعالى القادر على كل شيء، فمن كان قادرا على ما ذكر وعلى جميع الممكنات، فهو قادر على إعادة الأجساد بعد الفناء، وعالم بكل المعلومات: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 79] . 4- وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى أو إعادتهم أحياء قادر على الإتيان بيوم القيامة، فالساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية، كما وعدكم بها. فقوله: وَأَنَّ السَّاعَةَ معطوف على قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، فلا بد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية.

فقه الحياة أو الأحكام:

5- وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي ولتتيقنوا أن الله سيبعث أهل القبور، أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما، ويوجدهم مرة أخرى أحياء، ليوم المحشر والحساب، والثواب والعقاب. والخلاصة: أن بيان مراتب خلق الإنسان والحيوان، والنبات، دليل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات، وعالم بكل المعلومات، مما يثبت كون الإعادة ممكنة، وأن المعاد مقدور عليه. فقه الحياة أو الأحكام: الغاية من التنزيل القراني إثبات ثلاثة أمور أساسية في العقيدة، وهي توحيد الله، واتصافه بصفات الكمال، وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات البعث والحياة الأخروية، وما فيها من ثواب وعقاب، وإثبات الوحي والنبوة ورسالات الأنبياء بالمعجزة الخارقة للعادة، لذا تكرر في القرآن التركيز على هذه الأصول، وجاءت الآيات هنا للاستدلال على الأمر الثاني. 1- استدل الله سبحانه وتعالى على إمكان حدوث البعث والقيامة وإحياء الموتى بإحياء الإنسان والحيوان والنبات بعد الموت والعدم، فمن خلق أصل الإنسان من تراب، ثم من ماء منشؤه الغذاء الناتج من التراب، ثم رعاه حتى خلقه في أحسن تقويم، ثم أعاده إلى الضعف، قادر على إعادة خلقه وإيجاده وتكوينه كما قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . ولقد أوضحت السنة أطوار الخلق، جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه

وأجله وعمله وشقي أو سعيد» وفي رواية: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يبعث الملك، فينفخ فيه الروح» أي إن أطوار الجنين الأولى أربعة أشهر، قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر. ويلاحظ أن الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن النفخ سبب يخلق الله به الروح والحياة، وأن الخلق بقدرة الله واختراعه لقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف 7/ 11] . وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر 40/ 64] وللآية هنا: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ... وتكون الحياة في المادة المنوية عند التقائها ببويضة المرأة حياة نباتية خلوية. ولم يختلف العلماء أن نفخ الروح الحركية في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما، أي بعد تمام أربعة أشهر، ودخول الشهر الخامس. لذا ليست النطفة بشيء يقينا، كما قال القرطبي، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته علقة، فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال وجود الولد، فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدّة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك وأصحابه. وقال الشافعي: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، أي بإلقاء المضغة المخلقة دون الأربعة أشهر «1» . قال ابن زيد: المخلّقة: التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين.

_ (1) تفسير القرطبي: 12/ 8

وقال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرّة «1» . وقال الشافعي رضي الله عنه: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء. وقال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهلّ صارخا ففيه الغرّة. فإذا استهل صارخا فقال هو والشافعي فيه الدية كاملة. وذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع لأنه حمل، والله تعالى يقول: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 4] . وقال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من الأحكام، إلا أن يكون مخلّقا لقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ «2» . 2- إن في مراحل خلق الإنسان المذكورة لدليلا واضحا وبيانا قاطعا يدل على كمال قدرة الله تعالى. وفي رعاية الله للإنسان بولادته طفلا، ثم اكتمال جسده وعقله وقوته في سن الشباب نعمة تستحق الشكر والتقدير وعرفان حق الخالق. ثم في الرد إلى الشيخوخة والهرم دون خرف أو مع الخرف عبرة وعظة تدل على إطلاق تصرف الله في خلقه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه النسائي عن سعد- يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» . 3- وهناك دليل أقوى على البعث وهو خلق النبات من الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها الماء، فتخرج منه الزروع والثمار ذات المنظر أو اللون الحسن، وذات الرائحة العبقة، والطعم الشهي.

_ (1) الغرة: دية الجنين، وهي ما بلغ عوضه نصف عشر الدية، أي خمسين دينارا. (2) أحكام القرآن: 3/ 1261

أحوال الناس الجدال بالباطل والإيمان المضطرب وجزاء المؤمنين الصالحين [سورة الحج (22) الآيات 8 إلى 14] :

4- إن خلق الإنسان والنبات حاصل بالله، وهو السبب في حصوله، ولو لاه لم يتصور وجوده، فإن الله هو الحق، أي الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بد أن يفي بما وعد، وأنه عالم بكل شيء، وقادر على جمع ذرأت الإنسان المتفرقة في أنحاء الأرض أو قيعان البحار أو أجواف الحيوانات، أو في أي مكان. أحوال الناس الجدال بالباطل والإيمان المضطرب وجزاء المؤمنين الصالحين [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 14] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)

الإعراب:

الإعراب: ثانِيَ عِطْفِهِ حال من ضمير. يُجادِلُ عائد على مِنَ والإضافة في تقدير أو نية الانفصال، أي ثانيا عطفه، ولذلك لم يكتسب التعريف بالإضافة. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ من: فيه أربعة أوجه: الأول- أنه منصوب ب يَدْعُوا واللام في غير موضعها، أي يدعو من لضرّه أقرب من نفعه، فقدمت اللام إلى (من) وضَرُّهُ: مبتدأ، وأَقْرَبُ: خبره. وهذا قول الكوفيين. والثاني- أن مفعول يَدْعُوا محذوف، واللام في موضعها، أي يدعو إليها أي لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فمن: مبتدأ، وخبره: أَقْرَبُ والجملة صلة (من) . ولَبِئْسَ الْمَوْلى: خبر ثان ل: (من) . وهو قول المبرّد. والثالث- أن يَدْعُوا بمعنى يقول، وما بعده: مبتدأ وخبر، أي يقول لمن ضرّه عندكم أقرب من نفعه هو إلهي، فخبر المبتدأ محذوف، أي يقول الكافر: الصنم الذي تعدونه من جملة الضرر: إلهي. والرابع- أن يَدْعُوا تكرار للأول، لطول الكلام، مثل لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ... فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران 3/ 188] . البلاغة: ثانِيَ عِطْفِهِ كناية عن التكبر والخيلاء. بِما قَدَّمَتْ يَداكَ مجاز مرسل، علاقته السببية لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر. مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ استعارة تمثيلية، شبه المنافقين وما هم فيه من اضطراب في دينهم بمن يقف على طرف هاوية يريد العبادة. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ مقابلة بديعة. يَضُرُّهُ ويَنْفَعُهُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: هُدىً هو النظر الصحيح الموصل إلى المعرفة. كِتابٍ مُنِيرٍ الوحي المظهر للحق.

سبب النزول:

ثانِيَ عِطْفِهِ متكبرا عن الإيمان، معرضا عن القرآن كفرا وتعظما، ولاويا عنقه، والعطف: الجانب عن يمين أو شمال. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه، وليضل: علة للجدال. لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ عذاب وهوان وذل، فقتل يوم بدر أي أبو جهل المجادل. عَذابَ الْحَرِيقِ أي الإحراق بالنار. بِما قَدَّمَتْ يَداكَ عبر بهما دون غيرهما لأن أكثر الأفعال تزاول بهما، وهو وارد بطريق الالتفات، أو إرادة القول، أي يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ليس بذي ظلم لأحد، فيعذبهم بغير ذنب، وإنما هو مجازيهم على أعمالهم، والمبالغة في (ظلام) لكثرة العبيد. عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا ثبات له فيه، وهذا تشبيه حال المنافقين بحال من يقف على حرف جبل في عدم ثباته، أو كالذي يكون على طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرّ، وإلا فرّ، فهو على شك وضعف في العبادة. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ صحة وسلامة في نفسه وماله. فِتْنَةٌ محنة، وسقم في نفسه وماله. انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى الكفر وارتد. خَسِرَ الدُّنْيا ضيعها بفوات ما أمله منها، وبذهاب عصمته لارتداده. وَالْآخِرَةَ بالكفر وحبوط عمله. الْخُسْرانُ الْمُبِينُ البيّن، إذ لا خسران مثله. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أي يقول، واللام زائدة: إن من ضرره بعبادته أقرب من نفعه، إن نفع بتخيله، هو إلهي. والضرر: هو استحقاق القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة، والنفع: هو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. لَبِئْسَ الْمَوْلى الناصر أي لبئس هو الناصر. وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ الصاحب هو والمعاشر. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفروض والنوافل. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحد الصالح، وإكرام من يطيعه، وعقاب المشرك، وإهانة من يعصيه. سبب النزول: نزول الآية (8) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نزلت في أبي جهل، أنذره الله بالخزي (الذل والهوان) في الدنيا، فقتل يوم بدر، أو نزلت في النضر بن الحارث الذي قتل أيضا يوم بدر، ومعظم المفسرين على هذا كالآية الأولى.

نزول الآية (11) :

نزول الآية (11) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدم المدينة، فيسلم، فإن ولدت امرأته غلاما، ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولدا ذكرا، ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء، فأنزل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ. وأخرج ابن مردويه من طريق عطية عن ابن مسعود قال: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي، ومات ولدي، فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [3] حال الأتباع الجهال المقلّدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي والشياطين، ذكر هنا حال المتبوعين، الدعاة إلى الكفر والضلال، رؤساء الشر والابتداع. وبعد بيان حال هؤلاء المجادلين في توحيد الله بلا حجة ولا برهان صحيح، أبان تعالى حال المنافقين مضطربي الإيمان، الذين لم تستقر عقيدتهم، من جماعة الأعراب القادمين إلى المدينة بقصد المنفعة المادية. وبعد كشف حال عبادة المنافقين وحال معبوديهم من الأصنام والأوثان، أوضح الله تعالى صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم، فعبادة الأولين خطأ غير صواب، ومعبودهم لا يضر ولا ينفع، أما عبادة المؤمنين فهي حق وحقيقة، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: تضمنت هذه الآيات أحوال ثلاث فئات من الناس، بعد بيان حال فئة هم الضلّال الجهال المقلدون في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ. أما الفئة الأولى هنا فهم الدعاة إلى الضلال رؤساء الكفر والبدع، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي وبعض الناس من يجادل في توحيد الله وأفعاله وصفاته، بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الرأي والهوى. ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أنه يجادل وهو مستكبر عن الحق وقبوله إذا دعي إليه، كما قال تعالى حكاية عن قول لقمان لابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان 31/ 18] أي تميله عنهم استكبارا عليهم، وهدفه أو عاقبته صدّ الناس المؤمنين عن دين الله الذي فيه خيرهم. واللام في قوله: لِيُضِلَّ إما لام العاقبة لأنه لا يقصد ذلك، أي ليصير مآله ممن يضل عن سبيل الله، وإما لام التعليل، قال الزمخشري: تعليل للمجادلة، ولما أدّى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه. ثم ذكر تعالى عقابه، فقال: لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي أن عقابه في الدنيا هو الخزي أي الهوان والذل، وقد قتل يوم بدر، وعقابه في الآخرة الزجّ به في عذاب النار المحرقة أو الإحراق في النار. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي والسبب فيما مني به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة هو ما قدّم من الكفر والمعاصي، وقد فعل

الله به ذلك عدلا في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين لأن الله لا يظلم عباده. أو يقال له هذا تقريعا وتوبيخا، كقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان 44/ 47- 50] . ونظير آية العدل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] . والخلاصة: أن هذا العقاب حق وعدل بسبب جرم الكفر والإثم الفاحش. وأما الفئة الثانية أهل الضلالة الأشقياء: فهم أهل الشك والنفاق والمصلحة والمنفعة المادية، وهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.. أي وبعض الناس يعبد الله على شك وطرف من الدين لا في القلب، كمن يقف على حافة واد، أو على طرف الجيش ليفر عند الإحساس بالهزيمة، فهو مضطرب الإيمان، غير مطمئن القلب، غير واثق بهذا الدين، ولا صادق النية، ولا مخلص في العبادة، وهم صنف من المنافقين. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.. أي فإن أصابه خير مادي من غنيمة ومال، وزيادة نتاج في الولد ونسل الحيوان، رضي عن هذا الدين. واطمأن إليه. وإن أصابه مرض أو لم تلد امرأته، ولا ماشيته، أي أحس بنقص في المال أو الأنفس، أو هلاك أو جدب في الثمرات والغلات، ارتد ورجع كافرا، وهذا هو النفاق بعينه. خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي ضيع الدنيا والآخرة، فلا هو حصل من الدنيا على شيء من عز وكرامة وغنيمة، ولا استفاد من ثواب الآخرة، لأنه كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، وذلك هو الخسران البيّن الذي لا خسران مثله، أو هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.

وتأكيدا لعظم تلك الخسارة قال تعالى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ أي يعبد من غير الله آلهة من الأصنام والأنداد، يستغيث بها، ويستنصرها، ويسترزقها، وهي لا تضره إن لم يعبدها، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي ذلك الارتداد، وعبادة تلك الأصنام، هو الضلال الموغل في الضلالة، البعيد جدا عن طريق الصواب. ثم زاد الأمر تأكيدا فقال: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي يدعو (تكرارا للأول) لمن ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن، لبئس الناصر هو، ولبئس الصاحب هو. أو يقول الكافر حينما يتحقق من تضرره بعبادته هذا المعبود الخاسر الذي أدخله النار: لبئس هذا المولى والناصر، ولبئس هذا العشير والصاحب. وأما الفئة الثالثة: وهم الأبرار السعداء فهم الذين آمنوا بقلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله تعالى يكافئ المؤمنين الصادقي الإيمان، الذين عملوا الصالحات، أي الطاعات والقربات، وتركوا المنكرات، بإدخالهم روضات الجنات التي تجري من تحت أشجارها الأنهار. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ بإكرام أهل الطاعة وإثابتهم، وإهانة أهل المعصية وحرمانهم من فضله، يفعل وفق مراده ومشيئته المطلقة، فلا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، يدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- تكرر نزول الآيات في النضر بن الحارث، فهو في جداله في الآية المتقدمة [3] يريد إنكار البعث، وفي هذه الآية [8] يريد إنكار النبوة وإنكار نزول القرآن من جهة الله. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. وكان من قوله: إن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى. ووصف هنا بأنه أعرض عن القرآن والحق، ولوى عنقه مرحا وتعظما وتكبرا، وكانت عاقبته أنه يجادل فيضل عن دين الله تعالى. وعقابه في الدنيا الهوان والذل مما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة، وقتل يوم بدر، ويغشى في الآخرة نار جهنم، جزاء وفاقا للكفر والمعصية، ولا يظلم ربك أحدا. وفيه دليل على أن الله لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم. ودليل أيضا على أن العقاب بسبب عمل الإنسان وفعله، فإذا عاقبه بغير فعله كان ذلك محض الظلم. وهو على خلاف النص. 2- يجب أن يكون الإيمان في القلب كالجبال الراسيات، لا يتأثر بحدوث ضرر، ولا بزوال نفع، أما المنافقون الماديون الذين ينتظرون حدوث النفع المادي من مال أو غنيمة، ويستاءون بما يتعرضون له من نقص في المال والثمرات، فهم الذين خسروا الدنيا، فلا حظ لهم في غنيمة ولا ثناء، وخسروا الآخرة بأن لا ثواب لهم فيها، بل لهم العقاب الدائم بسبب ردتهم ورجوعهم إلى الكفر. والراجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر، ويدعو من ضرره أدنى من نفعه في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا. أو

حال اليائس من نصرة الرسول وإنزال الآيات البينات [سورة الحج (22) الآيات 15 إلى 16] :

يقول الكافر: لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين: هو معبودي وإلهي، لبئس المولى في التناصر، ولبئس المعاشر والصاحب والخليل. 3- يثيب الله من يشاء، ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبد. 4- ما أروع هذه المقارنة والموازنة في الآيات بين حال المشركين وحال المنافقين، وحال المؤمنين في الآخرة! فالعاقل هو الذي ينحاز آليا لصف الإيمان ليبرأ في عالم الآخرة، والجاهل الغبي أو المعاند أو المتلاعب هو الذي يبقى في عكر العقيدة ومفاسدها وخبائثها، فيتلقى جزاءه عدلا، ولا ظلم في الحساب. حال اليائس من نصرة الرسول وإنزال الآيات البينات [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) الإعراب: آياتٍ بَيِّناتٍ حال منصوب، وبَيِّناتٍ صفة، أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات واضحات. وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي.. معطوف على هاء: أَنْزَلْناهُ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي فليمدد حبلا إلى سقف بيته يشده فيه وفي عنقه، ثم ليختنق به، بأن يقطع أنفاسه من الأرض، والمراد: فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غضبا أو غيظا، حتى يمد حبلا إلى سماء بيته، فيختنق. وليس هذا دعوة إلى الانتحار، وإنما كما يقول المثل العامي: اشرب البحر، للدلالة على عدم الفائدة من الفعل. فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ أي فليتصور في نفسه، هل يذهبن كيده في عدم نصرة النبي صلّى الله عليه وسلم غيظه، والمعنى: فليختنق غيظا منها، فلا بد منها. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي مثل إنزالنا الآية السابقة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الباقي آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهرات واضحات وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هداه، أي ولأن الله يهدي به أو يثبّت على الهدى من يريد هدايته أو ثباته، أنزله كذلك مبينا. المناسبة: بعد بيان حال المشركين المجادلين بالباطل، والمنافقين، والمؤمنين، بيّن الله تعالى حال أمرين: هما نصرته رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لييأس المجادلون، وإنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب. التفسير والبيان: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فليمدد بحبل إلى سقف بيته، ثم ليختنق به، ثم ليتأمل ويتصور في نفسه: هل يذهب فعله الذي فعله غيظه من نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ كلا. وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته، وسمي فعله وهو نصب المشنقة كيدا استهزاء لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه، أو لأنه كالكيد، حيث لم يقدر على غيره.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، ثم ليقطع النصر إن تهيأ له، ثم لينظر هل يذهبن كيده وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلّى الله عليه وسلم؟. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا، لم يصل إلى قطع النصر. وعلى كلا المعنيين، إن الله ناصر دينه وكتابه ورسوله لا محالة، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أي ومثل ذلك الإنزال للآية المتقدمة أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها، ليتعظ بها المعتبر. وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أي ولأن الله يهدي به ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون، ومستعدون للإيمان بما أنزل، ويريد الله هدايتهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى على حسم الموقف بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين معاديه، فالله تعالى لا محالة ناصر رسوله، ومؤيد دينه وكتابه ودعوته، ومحبط مكائد الأعادي، وقاطع أطماعهم، ورادّ كيدهم في نحورهم، فلا أمل لهم بعدئذ في إحباط دعوة الإسلام، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف 61/ 9] وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] . والله تعالى أيضا مؤيد رسوله صلّى الله عليه وسلم بوحيه، وبما أنزله عليه من الآيات البينات الواضحات، ليفهمها الناس، أي القرآن، وكذلك أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ قال القرطبي: علق وجود الهداية بإرادته، فهو الهادي لا هادي سواه.

الفصل الإلهي بين الأمم وخضوع كل ما في الكون لعزة الله [سورة الحج (22) الآيات 17 إلى 18] :

وقال الزمخشري والبيضاوي: ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم مؤمنون، أو يثبّت الذين آمنوا على الهدى. الفصل الإلهي بين الأمم وخضوع كل ما في الكون لعزة الله [سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 18] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) الإعراب: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الخبر: إما محذوف، وإما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ لأنها فيها معنى الجزاء، فحمل الخبر على المعنى. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إما معطوف على مَنْ في قوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ لأن السجود بمعنى الانقياد، وكل مخلوق منقاد تحت قدرة الله تعالى، وإما مبتدأ وخبره: إما مِنَ النَّاسِ أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون المتقون، وإما محذوف، وهو مثاب، أي وكثير من الناس ثبت له الثواب، دل عليه خبر مقابله وهو قوله: حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ. البلاغة: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالصَّابِئِينَ هم فرقة بين اليهود والنصارى، أو قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور وَالْمَجُوسَ أتباع المتنبئ، قوم يعبدون الشمس والقمر والنار ويقولون: إن هناك إلهين اثنين للخير والشر وهما النور والظلمة. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عبدة الأصنام والأوثان يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم لإظهار المحق من المبطل، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل غيرهم النار عَلى كُلِّ شَيْءٍ من عملهم شَهِيدٌ عالم به علم مشاهدة، مراقب لما يتعلق به. يَسْجُدُ لَهُ يخضع له بما يراد منه، وهو السجود بالتسخير والانقياد لإرادته تعالى، وهناك سجود بالاختيار خاص بالإنسان. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة، فهو فاعل فعل مضمر، أو هو مبتدأ دل عليه قسيمه المقابل له بعده، وخبره: حق له الثواب، وهم المؤمنون بما هو أكثر من الخضوع في سجود الصلاة وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي وكثير منهم ثبت له العذاب، وهم الكافرون لأنهم أبوا السجود والخضوع لله بشرط الإيمان وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي ومن يجعله شقيا لما علم منه من اكتساب الشقاوة فما له أحد يكرمه ويسعده إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإهانة والإكرام. المناسبة: هناك ارتباط عام وارتباط خاص بين هذه الآيات وما قبلها، أما الارتباط العام: فبعد أن ذكر تعالى أحوال المشركين والمنافقين والمؤمنين، أبان هنا أن الله يقضي بينهم جميعا ليبين المحق من المبطل، وأما الارتباط الخاص، فبعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أتبعه في الآية الأولى ببيان من يهديه ومن لا يهديه. ثم أردفه في الآية الثانية ببيان أنه ما كان ينبغي لأهل الأديان المختلفة أن يختلفوا لأن جميع العوالم خاضعة لسلطانه وقدرته، وساجدة لعظمته طوعا أو كرها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... إن الله تعالى يقضي بين أهل الأديان المختلفة من المؤمنين بالله ورسله، واليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركين الذين يعبدون مع الله غيره، ويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تكنّ ضمائرهم. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ... أي ألم تعلم أن الله تعالى يخضع ويسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء بما يختص به، فيسجد له من في السموات: وهو الملائكة، ومن في الأرض وهم الإنس والجن، والشمس والقمر والنجوم من العوالم العلوية، والشجر والدوابّ (الحيوانات كلها) من العالم السفلي، وكثير من الناس حقّ له الثواب أو يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك، أي ثبت وتقرر، وكثير حق عليه العقاب، ممن امتنع وأبى واستكبر. وقد نص على هذه الأشياء لأنها قد عبدت من دون الله، فأبان تعالى أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة منقادة لله تعالى. ومن يهنه الله فيشقيه، أو من يهنه بالشقاء والكفر لسوء استعداده للإيمان، لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، ولا يسعده أحد لأن الأمر بيده تعالى، يوفق من يشاء ويخذل من يريد. إن الله تعالى يفعل في عباده ما يشاء من الإهانة والإكرام، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه. ونظير الآية كثير، مثل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ [النحل 16/ 48] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ومثل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] . وأما إطلاق المشيئة لله تعالى فيوضحه ما رواه ابن أبي حاتم عن علي: أنه قيل لعلي: «إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء، أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله، لو قلت غير ذلك، لضربت الذي فيه عيناك بالسيف» «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى على أن الله تعالى يقضي بالعدل بين أهل الأديان المختلفة، وهم المؤمنون بالله وبرسوله صلّى الله عليه وسلم، واليهود: وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام، والصابئون: وهم قوم يعبدون النجوم، والنصارى: وهم المنتسبون إلى ملة عيسى، والمجوس: وهم عبدة النيران القائلون بأن للعالم أصلين: نور وظلمة، والمشركون: وهم العرب ونحوهم عبدة الأوثان. هذه الفرق الست: خمسة منها للشيطان، وواحدة منها للرحمن. وإنه تعالى يقضي ويحكم بينهم، فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة، إن الله تعالى شهيد على أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم. ودلت الآية الثانية على أن القلب والعقل يرى أن جميع ما في العوالم العلوية والسفلية من الكواكب والجمادات والنباتات والإنسان والحيوان يسجد لله تعالى سجود تذلل وانقياد لتدبير الله عز وجل في جميع الأحوال من ضعف وقوة، وصحة وسقم، وحسن وقبح، وسجود خضوع لعظمته وسلطانه وجبروته.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 211

جزاء الكافرين والمؤمنين [سورة الحج (22) الآيات 19 إلى 24] :

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار» . ومن أهانه الله بالشقاء والكفر لسوء استعداده لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، والذين حق عليهم العذاب، ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم، فيكون مكرما لهم. وإن الله تعالى هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. والمراد من بيان إطلاق المشيئة لله أن مصير الكافرين إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. جزاء الكافرين والمؤمنين [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)

الإعراب:

الإعراب: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ: حال من ضمير لَهُمْ أو خبر ثان. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ: ما: نائب فاعل، وَالْجُلُودُ: معطوف عليه، وهاء بِهِ عائدة على الْحَمِيمُ. والجملة: حال من الْحَمِيمُ أو من ضمير «هم» . مِنْ غَمٍّ في موضع نصب لأنه بدل من قوله: مِنْها أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها. وَذُوقُوا عَذابَ على حذف القول، أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهذا كثير في كلام العرب. مِنْ أَساوِرَ صفة مفعول محذوف. وَلُؤْلُؤاً إما منصوب بتقدير فعل، أي ويعطون لؤلؤا، لدلالة يُحَلَّوْنَ عليه في أول الكلام. وإما معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله: مِنْ أَساوِرَ كأن يقال: مررت بزيد وعمرا. وعلى قراءة الجر يكون معطوفا على أَساوِرَ أو على الذهب بأن يرصع اللؤلؤ بالذهب. البلاغة: اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دين ربهم، فهو على حذف مضاف. وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا للمعنى. قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ استعارة عن إحاطة النار بهم كإحاطة الثوب بلابسه. المفردات اللغوية: هذانِ خَصْمانِ الخصم: من يعارض غيره في الرأي. وقد وصف به الفريق أو الفوج، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان متنازعان، وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا للمعنى، والمراد بهما: المؤمنون والكافرون. والخصم: يطلق على الواحد والجماعة. اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه أو في ذاته وصفاته قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي قدّرت لهم ثياب يلبسونها، والمراد: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب الْحَمِيمُ الماء البالغ نهاية الحرارة يُصْهَرُ بِهِ يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فيذاب به

سبب النزول نزول الآية (19) :

أحشاؤهم، كما يذاب أو يشوى به جلودهم مَقامِعُ مضارب أو سياط حديد يجلدون بها، جمع مقمعة. أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ حزن شديد يلحقهم بها أُعِيدُوا فِيها ردوا إليها بالمقامع ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ويقال لهم: ذوقوا العذاب البالغ نهاية الإحراق، أو العذاب المحرق. مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهي جمع سوار، أي فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف حَرِيرٌ هو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا. وَهُدُوا أرشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أو هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر 39/ 74] أو كلام أهل الجنة مع بعضهم بعضا صِراطِ الْحَمِيدِ أي الطريق المحمود، وهو الإسلام أو طريق الجنة، أو آداب المعاشرة والاجتماع. والأصح أنه طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة. سبب النزول: نزول الآية (19) : هذانِ خَصْمانِ: أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة. أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة في بداية معركة بدر. وأخرج الحاكم عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إلى قوله: الْحَرِيقِ. وأخرج الحاكم من وجه آخر عن علي قال: نزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب قالوا

المناسبة:

للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب. المناسبة: بعد بيان أهل الفرق الستة وقضاء الله بينهم بالعدل، ذكر هنا تصنيفهم إلى فريقين: فريق الإيمان، وفريق الكفر، ثم محاورتهم فيما بينهم في الأهدى طريقا، ومآل كل من الفريقين إلى الجحيم أو إلى النعيم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن خصومة فريقين اختصموا في دين الله وذاته وصفاته فيقول: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي إن أهل الأديان المختلفة الستة المتقدم بيانهم هم فريقان متميزان: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين الذين هم أتباع الديانات الخمس المتقدمة، تنازعوا وتجادلوا في شأن ربهم وفي دينه، وكل منهم يعتقد أنه على حق، وأن خصمه على الباطل ويبني على أساس ذلك جهاده وسلوكه وفكره. والحق أن مصير الفريقين واضح، أما الفريق الأول وهم الكافرون فجزاؤهم: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فالكافرون تحيط بهم النار إحاطة شاملة، وقد مثّل ذلك بأنه فصلت لهم مقطعات من نار تحيط بهم كإحاطة الثوب بلابسه، مما يومئ بشدة عذابهم واحتقار شأنهم، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] وقال سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم 14/ 50] . يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يصب على رؤوسهم الماء البالغ درجة الغليان الذي يذيب ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم، فيحرق الباطن والظاهر.

روى ابن جرير والترمذي وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يبلغ قدميه، وهو الصّهر، ثم يعاد كما كان» . وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي لهم مضارب أو سياط من حديد، يضربون بها على وجوههم ورؤوسهم وأعضائهم وأجسادهم. أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان، ما أقاموه من الأرض» . وأخرج عن أبي سعيد أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت، ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ ... أي كلما حاولوا الهرب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم: ذوقوا العذاب المحرق، وعذاب هذه النار المحرقة. قال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها. وقوله: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ كقوله: وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة 32/ 20] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا. وبعد بيان سوء حال الكافرين وما هم فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال، ذكر تعالى حسن أهل الجنة، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات

فقه الحياة أو الأحكام:

جنات عالية رفيعة تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها، يوجهونها حيث أرادوا. يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي وحليتهم التي يلبسونها أساور الذهب في أيديهم أو تكون مرصعة باللؤلؤ، ويؤتون لؤلؤا يزينون به هاماتهم ورؤوسهم، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» واللؤلؤ كما تقدم: هو ما يستخرج من البحر من جوف الصّدف. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي ويرتدون الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، ويؤكدها آية أخرى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر 35/ 33] . وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أي أرشدوا إلى القول الطيب، وهو كلمة التوحيد أو قوله تعالى حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر 39/ 74] . أو إلى تحية الملائكة لهم بالسلام، وهذا في مقابل أهل النار الذين يقرعون ويوبخون ويقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي وأرشدوا إلى الطريق المحمود أو إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على نعمه وأفضاله، أو إلى السلوك الحسن المرضي ربهم في أقوالهم وأفعالهم، والأصح: إلى طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة. فقه الحياة أو الأحكام: هذه حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة، أما الكافرون من الفرق الخمس الذين تقدم ذكرهم، فخيطت وسويت لهم ثياب شاملة من نار، أي أنها

تحيط بهم إحاطة كاملة، ويصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم، يذيب أحشاء بطونهم وشحومها، ويشوي الجلود أو يحرقها، فإن الجلود لا تذاب، فيضم في كل شيء ما يليق به، ويضربون ويدفعون بمضارب ثقيلة من حديد. وإذا حاولوا الخروج من النار حين تفور بهم، فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فتعيدهم خزنة النار إليها بالمقامع، ويقولون لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق. والذوق: مماسّة يحصل معها إدراك الطعم، والمراد به إدراكهم الألم. وأما المؤمنون فلهم ألوان عديدة من النعم، منها أنهم يحلون بأساور الذهب، ويحلون لؤلؤا يزينون به تيجانهم، قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت، أي الذي لا يخالطه غيره. قال القرطبي: وهو ظاهر القرآن ونصه. وجميع ما يلبسونه وينتفعون به من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وأرشدوا إلى طيب القول، قال ابن عباس يريد لا إله إلا الله، والحمد لله، كما أرشدوا إلى صراط الله وهو في الدنيا دينه وهو الإسلام، وفي الآخرة الطيب من القول: وهو الحمد لله لأنهم يقولون غدا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف 7/ 43] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر 35/ 34] فليس في الجنة لغو ولا كذب، فما يقولونه فهو طيّب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله وهو الإسلام أو إلى طريق الجنة، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله وقيل: الطيب من القول: ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. أما في الدنيا فالحرير والذهب محرم استعمالهما حلية على الرجال، حلال للنساء، أما الانتفاع بآنية الذهب والفضة كالأكل والشرب فهو حرام مطلقا على

المنع من المسجد الحرام [سورة الحج (22) آية 25] :

الرجال والنساء. روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة، لم يشرب فيها في الآخرة» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة» . والحرمان من ذلك: إنما هو في حال عدم وجود التوبة، بدليل حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» . فإذا لم تحدث التوبة، فيحرم مما ذكر عملا بظاهر الحديث، وإن دخل الجنة، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو» . وكذلك «من شرب الخمر ولم يتب» و «من استعمل آنية الذهب والفضة» وليس ذلك بعقوبة لأن الجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه «1» . المنع من المسجد الحرام [سورة الحج (22) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)

_ (1) تفسير القرطبي: 12/ 30

الإعراب:

الإعراب: وَيَصُدُّونَ الواو: إما واو عطف أو واو حال، فإن كانت للعطف عطف المضارع على الماضي حملا على المعنى، على تقدير: إن الكافرين والصادّين. وإن كانت للحال، كان تقديره: إن الذين كفروا صادّين عن سبيل الله. وخبر إِنَّ مقدّر، أي معذّبون. والأصح هو الأول، قال البيضاوي: لا يريد به حالا ولا استقبالا، وإنما يريد استمرار الصدّ منهم، كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ولذلك حسن عطفه على الماضي. وهذا مثل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد 13/ 28] . سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ الْعاكِفُ: مبتدأ، وَالْبادِ: عطف عليه، وسواء على قراءة الرفع: خبر مقدم. وعلى قراءة النصب: منصوب على المصدر، على تقدير: سوّينا، أو على الحال من هاء جَعَلْناهُ وهو عامل فيه، ورفع الْعاكِفُ به. بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفان، ومفعول يُرِدْ: متروك ليتناول كل متناول كما قال الزمخشري، وهو الأولى كما قال الرازي. البلاغة: الْعاكِفُ والْبادِ بينهما طباق، إذ العاكف: المقيم في المدينة، والباد: المقيم في البادية. المفردات اللغوية: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون عن دين الله وطاعته. والصد: المنع، والفعل يفيد استمرار المنع الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة الَّذِي جَعَلْناهُ منسكا ومعبدا سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي تساوى فيه المقيم الملازم والطارئ من البادية بِإِلْحادٍ عدول عن القصد والاستقامة، والباء زائدة للتأكيد، أي إلحادا مثل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون 23/ 20] بِظُلْمٍ بغير حق، أي بسببه، بأن ارتكب منهيا، ولو شتم الخادم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يتلقى بعض العذاب المؤلم، وهو جواب الشرط لمن يرد، ويفهم خبر إِنَّ من قوله نُذِقْهُ أي نذيقهم من عذاب أليم. سبب النزول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب

المناسبة:

وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل. وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس مع رجلين: أحدهما مهاجر، والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، وهرب إلى مكة، فنزلت فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ الآية. المناسبة: بعد بيان مآل الكفار والمؤمنين، عظم الله تعالى حرمة البيت الحرام، وعظم كفر المشركين الصادين عن الدخول إليه لأداء المناسك، مع ادعائهم أنهم حماته. التفسير والبيان: إن الذين كفروا بالله ورسوله، وهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في الأمر نفسه، فهم يمنعونهم من الدخول إليه، مع أن الله تعالى جعله للناس جميعا لصلاتهم وعبادتهم، وطوافهم وأداء مناسكهم، يستوي في شأنه المقيم منهم فيه والطارئ عليه النائي عنه، من أهل البوادي وغيرهم. ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد والاستقامة، ظالما، أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، عامدا قاصدا أنه ظلم غير متأول، وهو التعمد، نذقه يوم القيامة من العذاب المؤلم. قال مجاهد: بِظُلْمٍ: يعمل فيه عملا سيئا. وقال ابن أبي حاتم: وهذا

فقه الحياة أو الأحكام:

من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي في الشر إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه. وروى ابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام بمكة إلحاد» . وهذا بعض أمثلة الظلم، فإن هذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة، ولم يعملها، لم يحاسب عليها إلا في مكة. والخلاصة: أن الآية عامة تشمل كل أنواع المعصية، ويختص الحرم بعقوبة من همّ فيه بسيئة وإن لم يعملها، كما أن الله تعالى جعل الحرم مفتوحا ومنسكا لكل الناس، أي الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد، ومقيم وطارئ، ومكي وآفاقي. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- حرية العبادة في الحرم المكي لجميع الناس، من أهل مكة وغيرهم، وهذا يومئ إلى أن من يمنع الناس من حج بيت الله الحرام، يكون من الذين كفروا لأن الله تعالى ذكر فريضة الحج عقب هذه الآية. 2- كل من يرتكب معصية في مكة عدوانا وظلما، أو يعزم فيه على الشر، وإن لم يفعله، له يوم القيامة عذاب مؤلم شديد الألم أي فيعاقب الإنسان على ما ينويه من المعاصي بمكة، وإن لم يعمله. قال الإمام أحمد: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم الله، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت» . وقد استدل الحنفية بالآية على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها، قائلين بأن المراد بالمسجد الحرام مكة، ومستدلين بما رواه ابن ماجه والدارقطني

عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. وقال عبد الله بن عمرو- فيما رواه عنه عبد الرزاق: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها، وقال: «من أكل من أجر بيوت مكة شيئا، فإنما يأكل نارا» . وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، لحديث أسامة بن زيد في الصحيحين قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» ؟ وقال فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أسامة: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» وثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم. وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث، ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة. ومنشأ الخلاف: كيفية فتح مكة، هل كان فتحها عنوة؟ فتكون مغنومة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها، ولمن جاء بعدهم كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض سواد العراق، فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو هل كان فتحها صلحا؟ وإليه ذهب الشافعي، فتبقى ديارهم بأيديهم، ويتصرفون في أملاكهم كيف شاؤوا، واستدل بقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الحج 22/ 40] فأضافها إليهم. وقال صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن» . ويلاحظ أنه لم يؤاخذ الله تعالى أحدا على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ لأنه مكان تطهير النفس والتوبة والنقاء والتخلص من الذنوب بالكلية لله عز وجل.

تعيين مكان البيت الحرام والأمر بالحج إليه [سورة الحج (22) الآيات 26 إلى 29] :

تعيين مكان البيت الحرام والأمر بالحج إليه [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الإعراب: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ اللام: إما زائدة لأن بَوَّأْنا يتعدى إلى مفعولين، فإبراهيم هو المفعول الأول، ومَكانَ: هو المفعول الثاني، وإما ألا تكون زائدة، ويكون بَوَّأْنا محمولا على معنى (جعلنا) فكأنه قال: جعلنا لإبراهيم مكان البيت: ظرف، والمفعول محذوف، تقديره: بوأنا لإبراهيم مكان البيت منزلا. أَنْ لا تُشْرِكْ بِي أن: إما مخففة من الثقيلة في موضع نصب، أي بأنه لا تشرك بي، وإما مفسّرة بمعنى «أي» وإما زائدة. يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ رِجالًا: حال منصوب من واو يَأْتُوكَ. وعَلى كُلِّ ضامِرٍ: جارّ ومجرور في موضع نصب على الحال، أي يأتوك رجالا وركبانا. ويَأْتِينَ: يعود إلى معنى كُلِّ وفعل غير العقلاء كفعل المؤنث، ودلت كُلِّ على العموم، فأتى الخبر على المعنى. ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ ذلِكَ: إما مجرور صفة للبيت العتيق، وإما مرفوع خبر مبتدأ

البلاغة:

محذوف، أي الأمر ذلك، مثل قوله تعالى: ذلِكَ، وَمَنْ عاقَبَ [الحج 22/ 60] أي الأمر ذلك. البلاغة: عميق عتيق سحيق أي في الآية التالية سجع مستحسن في علم البديع. المفردات اللغوية: وَإِذْ بَوَّأْنا أي واذكر إذ عيناه وبيناه مَكانَ الْبَيْتِ أي الكعبة ليبنيه، وكان قد رفع من زمن الطوفان في عهد نوح وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه وَالْقائِمِينَ المقيمين به وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ المصلين، جمع راكع وساجد. وَأَذِّنْ ناد بالحج، أي بالدعوة إليه، فنادى على جبل أبي قبيس: يا أيها الناس، إن ربكم بنى بيتا، وأوجب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم. والتفت بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك. يَأْتُوكَ رِجالًا أي راجلين ماشين على الأقدام، جمع راجل، كتاجر وتجار وقائم وقيام، ويَأْتُوكَ: جواب الأمر وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا على كل بعير مهزول، بأن أتعبه بعد السفر فهزل. والضامر: يطلق على الذكر والأنثى يَأْتِينَ اي الضوامر، أتى به جمعا حملا على المعنى مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق بعيد. لِيَشْهَدُوا ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ منافع دينية في الآخرة، ودنيوية بالتجارة فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ هي عشر ذي الحجة، أو يوم عرفة أو يوم النحر إلى آخر أيام التشريق- أيام عيد الأضحى بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا فَكُلُوا مِنْها من لحومها، أباح ذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه، وهذا في المتطوع به، المستحب، دون الواجب الْبائِسَ الْفَقِيرَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، والفقير: المحتاج، والأمر فيه للوجوب. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي يزيلوا أو ساخهم وشعثهم كطول الظفر والشعر، ونتف الإبط، والمراد هنا: قص الأشعار وتقليم الأظفار. وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما ينذرون به من البر في حجهم، ومن الهدايا والضحايا. والنذر: كل ما لزم الإنسان أو التزمه. وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي يطوفوا طواف الركن الذي به تمام التحلل أي طواف الإفاضة، فإنه قرينة قضاء التفث، وقيل: طواف الوداع. والعتيق: القديم لأنه أول بيت وضع للناس.

سبب النزول نزول الآية (27) :

سبب النزول: نزول الآية (27) : وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ: أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فأمرهم بالزاد، ورخص لهم في الركوب والمتجر. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى موقف المشركين من الصد عن المسجد الحرام، أراد تعالى بيان مكانة البيت الحرام وتوبيخ أولئك المشركين على فعلهم، فإن أباهم إبراهيم عليه السلام هو الذي بناه، وأمر بتطهيره للطائفين والمصلين، وأن يدعو الناس إلى الحج، للحصول على المنافع الدينية والدنيوية. التفسير والبيان: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ.. أي واذكر يا محمد للناس وقت أن جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعا يرجع إليه للعبادة، وأرشده إليه وأذن له في بنائه. والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حادث عظيم، ليتذكر المشركون، ويقلعوا عن عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان. وفي هذا تقريع وتوبيخ لمن أشرك بالله في بقعة أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. وفيه دليل على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله بعد رفعه وطمس معالمه في أثناء طوفان نوح عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذرّ قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي؟ قال: «بيت المقدس» قلت: كم بينهما؟

قال: «أربعون سنة» . وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً الآيتين [آل عمران 3/ 96- 97] وقال تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة 2/ 125] . أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ.. أي وقلنا له: ابنه على اسمي وحدي، ولا تشرك بي شيئا من خلقي في العبادة، وطهّر بيتي من الشرك والأوثان والأصنام والأقذار أن تطرح حوله، واجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به يخص العبادة بالله تعالى، لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، والقائم في الصلاة أو الدعاء لله، والراكع الساجد لله تعالى فيها. وقد قرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه، فالقائمون: هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ.. أي ناد في الناس بالحج، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، يأتوك راجلين ماشين، وراكبين على كل بعير ضامر مهزول، من كل طريق بعيد. والأذان والتأذين: الاعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا: النداء في الناس بأن الله قد كتب عليهم الحج ودعاهم إلى أدائه. روي أنه لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان للحج قال: يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت، ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحجّوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، لبّيك اللهم لبّيك «1» . وهذا معجزة خارقة للعادة، فهو سبحانه قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أنحاء الأرض والسماء.

_ (1) تفسير القرطبي: 12/ 38، وسيأتي تخريج الرواية.

وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم 14/ 37] . فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار. وقد يستدل بقوله: رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ على أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا لأنه قدّمهم في الذّكر، فدل على الاهتمام بهم، وقوة هممهم، وشدة عزمهم. قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني، إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا «1» . والذي عليه أكثر العلماء أن الحج راكبا أفضل، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه حجّ راكبا، مع كمال قوته صلّى الله عليه وسلم. وإنما قال: يَأْتُوكَ مع أن الإتيان للبيت الحرام، إشارة إلى أنه الداعي والقدوة لهم بعد، وفيه تشريف إبراهيم. ثم أبان تعالى سبب النداء إلى الحج وحكمته فقال: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ.. أي أدعهم إلى الحج ليحضروا منافع لهم دينية بأن يحظوا برضوان الله، ودنيوية بما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات، وما يكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف. وهذا دليل على جواز الاتجار في الحج. وليذكروا اسم الله أي حمده وشكره والثناء عليه بالتكبير والتسبيح، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وذلك في أيام معلومات هي أيام النحر الثلاثة أو الأربعة وهو قول الصاحبين ومالك، وقيل: عشر ذي

_ (1) رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة عنه.

الحجة وهو رأي أبي حنيفة والشافعي. وإذا كان ذكر اسم الله بمعنى الحمد والشكر فتكون عَلى للتعليل، ورأى الزمخشري أن ذكر اسم الله كناية عن الذبح والنحر لأن أهل الإسلام لا ينفكّون عن ذكر اسمه إذا ذبحوا أو نحروا، وتكون عَلى للاستعلاء. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه. واختير هذا الأسلوب ليشير إلى أن ذكر الله وحده دون شرك هو المقصود الأعظم وتوسيط الرزق للحث على الشكر والتقرب بتلك القربة والتهوين عليهم في الإنفاق. ثم أمر الله تعالى بالأكل من تلك الذبائح أمر إباحة فقال: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ أي فاذكروا اسم الله على الذبائح، وكلوا من لحومها، وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس أي شدة، الفقير المحتاج. والأمر بالأكل من الذبائح كما ذكر لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ندبا، لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم وإظهار التواضع، ومن هنا استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث. وثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نحر هديه، أمر من كل بدنة ببضعة (قطعة من اللحم) فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها. ومذهب الشافعي أن الأكل مستحب، والإطعام واجب، فإن أطعمها جميعها جاز وأجزأ. وقوله: فَكُلُوا التفات إليهم بالخطاب ليؤكد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح. ثم أمر تعالى بالنظافة وإيفاء النذر والطواف، فقال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذه أوامر بواجبات ثلاثة على سبيل الإيجاب، أي ليزيلوا الأوساخ من على أجسادهم بقص الأظفار وحلق الأشعار ونحوه من الأغسال، وليوفوا نذورهم التي نذروها

فقه الحياة أو الأحكام:

تقربا إلى الله تعالى من أعمال البر، والنذر: كل ما لزم الإنسان أو التزمه، وليطوفوا طواف الركن أو الإفاضة، وقيل: طواف الوداع، بالبيت العتيق أي القديم، فهو أقدم بيت للعبادة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن بناء الكعبة المشرفة أو البيت الحرام على يد إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر من الله تعالى له هدفان: الأول- إعلان وحدانية الله تعالى وإظهار التوحيد الخالص من شوائب الشرك. الثاني- تطهير البيت من جميع الأصنام والأوثان والأقذار وكل مظاهر الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء، كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] . والأصح أن الخطاب في ذلك وما يأتي لإبراهيم، وليس لمحمد عليهما الصلاة والسلام. 2- قوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ إعلام بفريضة الحج. وهذا يدل على أن الحج كان مفروضا في زمن إبراهيم عليه السلام، فإن كانت الفرضية باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده، كانت الأوامر به في شريعتنا مؤكدة لتلك الفرضية. وإن نسخت تلك الفرضية، كان وجوب الحج علينا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 3/ 97] . وذلك في عام الوفود في السنة التاسعة. وأما آية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة 2/ 196] النازلة في السنة

السادسة، فليست صريحة في الإيجاب إذ يحتمل أن المراد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، فيكون الشروع فيهما ليس واجبا. وأما إن النبي صلّى الله عليه وسلم حج حجتين قبل الهجرة فهما نافلتان على ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، ثم حج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة، وهي حجة الإسلام. وأما إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبادر بالحج سنة تسع عام الفرضية لأن الوقت حينئذ كان زمن النسيء (تأخير أزمان الشهور) ولم يكن الزمن الحقيقي قد استقر حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الصحيح من السنة، وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي في السنة العاشرة، فتأخر إليها كي يقع حجة في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس الحج فيه. وليس على أبي بكر الذي حج في السنة التاسعة ولا على غيره حرج في حجهم ما دام أمر الزمان مختلطا. ونداء إبراهيم بالحج على جبل أبي قبيس وإسماع صوته إلى الآفاق معجزة، فالله قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أي مكان. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: ربّ قد فرغت، فقال: أذّن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: تعال أذّن، وعلي البلاغ، قال: ربّ كيف أقول؟ قال: قل: «يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق» فسمعه أهل السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد، يلبّون. 3- قوله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ وعد بإجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب. وفيه دليل على جواز كل من المشي والركوب إلى الحج، ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل منهما:

فرأى بعض المالكية أن المشي أفضل، لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: حجّ النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة ، ولقول ابن عباس المتقدم. وذهب جمهور الفقهاء منهم الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة، ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وأما مجرد تقديم رِجالًا على الركبان فلا يدل على الأفضلية، لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، ولجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان، للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب. وترفع الأيدي عند رؤية البيت الحرام في مذهب أحمد وجماعة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ترفع الأيدي في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصّفا والمروة، والموقفين «1» ، والجمرتين» . 4- دلّ قوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ على جواز التجارة في الحج قال مجاهد: المنافع: التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. ونص الفقهاء على جواز التجارة للحجاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر، بدليل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة 2/ 198] والفضل: التجارة بلا خلاف. وكلمة مَنافِعَ تدل على حكمة الحج، وأنه شرع لما فيه من منافع عظيمة في الدين والدنيا، فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة، وهي تدل على التجرد من مفاتن الدنيا وزينتها، وتبعث على عدم التعلق بشهواتها وزخارفها. كما أنها بواعث على الرحمة والإحسان، والعدل

_ (1) موقف عرفات والمشعر الحرام. [.....]

والمساواة، والتعاون، إذ يتعاون الناس في أسفارهم، ويتراحمون، ويتعارفون في هذا المؤتمر الأكبر، ويكونون متساوين لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين غني وفقير. ثم إنه كان وما يزال الحج محققا لمنافع معيشية لأهل الحجاز. 5- يرى المالكية أن ذبح الهدي لا يجوز ليلا، للآية: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ لأن الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي. والحق أن اليوم يطلق على النهار، وعلى مجموع النهار والليل. وغير المالكية يرون كراهة الذبح ليلا، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة. والأيام المعلومة في رأي الإمام مالك وأبي يوسف ومحمد: هي أيام النحر، وهي العيد واليومان بعده. وفي رأي أبي حنيفة والشافعي: هي عشر ذي الحجة، وهي معلومات لأن شأن المسلمين الحرص على معرفتها. وأيام النحر عند الحنفية والمالكية ثلاثة أيام: العاشر ويومان بعده، وعند الشافعي: إنها أربعة: العاشر وما بعده. والرأي الأول مروي عن جمع من الصحابة. والثاني بدليل ما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «وكلّ أيام التشريق ذبح» وهي ثلاثة بعد يوم النحر، لكن الإمام أحمد ضعّف هذا الحديث. ووقت الذبح بعد النحر في رأي مالك: بعد صلاة الإمام وذبحه، وعند أبي حنيفة: بعد الفراغ من الصلاة دون ذبح، وفي رأي الشافعي: بعد دخول وقت الصلاة ومقدار خطبتين. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء في أن من ذبح قبل الصلاة، وكان من أهل المصر أنه غير مضحّ، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب: «من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم» . وأما أهل البوادي ومن لا إمام له: فمشهور مذهب مالك أنه يتحرى ذبح الإمام أو أقرب الأئمة إليه. وقال الحنيفة: يجزيهم من بعد الفجر.

6- قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها يراد منه الإباحة، مثل قوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة 5/ 2] وقوله: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة 62/ 10] أو يراد منه الندب والاستحباب، فيستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويز الصدقة بالكل وأكل الكل عند المالكية. وذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا، فأباح النص الأكل منها أو ندب إليه لقصد مواساة الفقراء. لكن جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي، فإن دم الجزاء لا يجوز لصاحبه الأكل منه اتفاقا، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا. أما دم التمتع والقران: فقال الشافعية: إنه دم جبر، فلا يجوز لصاحبه الأكل منه. ورأى الحنفية أنه دم شكر، فأباحوا لصاحبه الأكل منه، عملا بظاهر الآية، فإنها رتبت قضاء التفث على الذبح والطواف، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران، فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها، فدل ذلك على أن المراد في الآية دم المتعة والقران. وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع، وقد كان قارنا على الراجح عندهم. وإذا كان يجوز إطعام الأغنياء منها، جاز لصاحب الذبيحة أن يأكل منها، ولو كان غنيا. ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أن صاحب الذبيحة لا يأكل من ثلاث من دماء الكفارات: جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محلّه، واجبا كان أو تطوعا. وإذا أكل مما منع منه، يغرم في قول راجح للمالكية قدر ما أكل لأن التعدي إنما وقع على اللحم، وفي قول آخر: يغرم هديا كاملا. 7- قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ظاهره وجوب إطعام الفقراء

من الهدايا، وبه أخذ الشافعي، وقال أبو حنيفة: إنه مندوب لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو مندوب. ويستحب عند أكثر العلماء أن يتصدق من أضحيته وهديه بالثلث، ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. ولم يثبت هذا التقسيم عند مالك. والمسافر في رأي الجمهور يطالب بالأضحية كما يطالب بها الحاضر، لعموم الخطاب بها. ولا يطالب بها عند أبي حنيفة. كما لا يطالب عند مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية. 8- لا يجوز بيع شيء من الهدايا، لاقتصار النص على الأكل والطعام، ولما رواه البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: «أمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، فقال: اقسم جلودها وجلالها، ولا تعط الجازر منها شيئا» فلا يجوز بيع شيء منها بالأولى. 9- قوله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ دليل على وجوب التحلل الأصغر، وذلك بالحلق أو التقصير. 10- قوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يدل على وجوب الوفاء بالنذر وإخراجه إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر. وكذلك جزاء الصيد، وفدية الأذى لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك، كان عليه هدي كامل. ولا وفاء بنذر المعصية لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن جابر: «لا وفاء لنذر في معصية الله» وقوله فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عائشة: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . 11- قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ يدل على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك.

تعظيم حرمات الله وشعائره [سورة الحج (22) الآيات 30 إلى 35] :

أما القول بأنه طواف الوداع (الصّدر) فهو بعيد لأن الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة، فلا مناسبة هنا لطواف الوداع. وللحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. أما طواف القدوم فهو سنة عند الجمهور، واجب على الأصح عند المالكية، وعكسه طواف الوداع: مستحب عند المالكية، واجب عند الجمهور، وأما طواف الإفاضة فهو فرض وركن لا يتم الحج إلا به بالاتفاق، لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. تعظيم حرمات الله وشعائره [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 35] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

الإعراب:

الإعراب: ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر والشأن ذلك المذكور. مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ: لتبيين الجنس لأنه أعم في النهي. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حُنَفاءَ: حال من ضمير فَاجْتَنِبُوا وهو عامله، وكذلك غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ القراءة المشهورة جرّ الْقُلُوبِ بالإضافة، وتقرأ برفع الْقُلُوبِ بالمصدر لأن «التقوى» مصدر كالدعوى، فيرتفع به ما بعده. البلاغة: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تأكيد بإعادة الفصل بالفعل، ويسمى الإطناب، للعناية بشأن كل منهما على حدة. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وكذا قوله: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ تشبيه تمثيلي. والعطف فيه إما على قوله: خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على «تخطفه الطير» . وَجَبَتْ جُنُوبُها جناس ناقص. المفردات اللغوية: ذلِكَ أي الأمر هكذا، ويستعمل للفصل بين كلامين، كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص 38/ 55] وَمَنْ يُعَظِّمْ التعظيم: العلم بوجوب تكاليف الشرع والعمل بموجبه. حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة، والحرمة: الأحكام وسائر ما لا يحل انتهاكه، عن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال المتكلمون: ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي فالتعظيم خير ثوابا في الآخرة، للعلم بأنه يجب القيام بمراعاة الحرمات وحفظها. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أحل أكلها بعد الذبح. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا المتلو عليكم تحريمه في آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة 5/ 3] وهو ما حرّم منها لعارض كالموت وغيره، فلا تحرموا منها غير ما حرّمه الله كالبحيرة والسائبة، والاستثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ للبيان، أي الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها، والتنفير عن عبادتها. والرجس: القذر، أي اجتنبوا عبادة الأوثان.

والأوثان جمع وثن، وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيى بها. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الشرك بالله في تلبيتكم، أو شهادة الزور، قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك: «عدّت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاث مرات، وتلا هذه الآية. والزور: الكذب والانحراف. وهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان والافتراء على الله بأنه حكم بذلك. حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين لله، مسلمين، عادلين عن كل دين سوى دينه، جمع حنيف: وهو المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ تأكيد لما قبله. خَرَّ سقط. فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي تأخذه بسرعة، والخطف: الاختلاس بسرعة. تَهْوِي تسقط. سَحِيقٍ بعيد، أي فهو لا يرجى خلاصه، فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة. وأو: للتخيير، كما في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة 2/ 19] أو للتنويع، فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة، ولكن على بعد. ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك المذكور. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه، أو الهدايا لأنها من معالم الحج، والشعائر: جمع شعيرة أي علامة، ويراد بها الهدايا، وتعظيمها أن تختار من النوع الحسن السمين الغالي الثمن. وسميت شعائر لتعليمها بأنها هدي كالزينة أو الجرح البسيط. فَإِنَّها أي فإن تعظيم البدن التي تهدى للحرم بأن تستحسن وتستسمن. مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور. لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كركوبها والحمل عليها ما لا يضرها. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت نحرها. مَحِلُّها أي مكان حل نحرها. إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي عنده، والمراد: الحرم جميعه. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أي ولكل أهل دين تقدموا مَنْسَكاً المراد هنا متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله تعالى وهو الذبح تقربا إلى الله، فهو اسم مكان، والأصل في النسك والمنسك: العبادة مطلقا، وشاع استعماله في أعمال الحج. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها. فَلَهُ أَسْلِمُوا انقادوا. الْمُخْبِتِينَ المطيعين الخاشعين المتواضعين. وَجِلَتْ خافت. ما أَصابَهُمْ من البلايا. وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها. يُنْفِقُونَ يتصدقون.

المناسبة:

المناسبة: الكلام مرتبط بما قبله بنحو واضح، فبعد أن أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالنداء للحج، أبان ثواب تعظيم أحكام الله وشرعه ومنها مناسك الحج، وإباحة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني تحريمه، ثم أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان، والافتراء على الله، والكذب في أداء الشهادات، وهلاك من يشرك بالله، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي، كما أن لكل أمة أو جماعة مؤمنة ذبائح يتقربون بها إلى الله تعالى. التفسير والبيان: ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ ... أي ذلك هو المأمور به من الطاعات في أداء المناسك وثوابها الجزيل، ومن يعظم أحكام الله بالعلم بوجوبها والعمل بموجبها، بأن يجتنب المعاصي والمحارم، ويلتزم بالأوامر، فله على ذلك ثواب جزيل، والثواب يكون على الأمرين معا: فعل الطاعات، واجتناب المحظورات أو ترك المحرّمات. والحرمات: جمع حرمة وهي بمعنى ما حرم الله من كل منهي عنه في الحج من الجدال والجماع والفسوق والصيد، وتعظيمها يكون باجتنابها. وقيل: الحرمات: جميع التكاليف الشرعية في الحج وغيره، وقيل: هي مناسك الحج خاصة، وقيل: إنها حرمات خمس: المسجد الحرام (الكعبة) والبيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام. وتعظيمها باجتناب المعاصي، ومنها الاعتداءات فيها. وضمير فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ راجع إلى التعظيم المفهوم من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء سبب للمثوبة المضمونة عند الله تعالى، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل.

وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي وأبيح لكم أيها الناس ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني وتلي عليكم في آية المائدة وغيرها، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.. إلخ ولم يحرم عليكم ما حرمه أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. فلا يراد من قوله يُتْلى ما ينزل في المستقبل، كما هو ظاهر الفعل المضارع، بل المراد: ما سبق نزوله، ويكون التعبير بالمضارع للتنبيه على أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه. والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى: المحرم من خصوص الأنعام، وهو منقطع إن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير وغيرهما، والراجح الأول والجملة معترضة لدفع الإيهام بأن تعظيم الحرمات يقضي باجتناب الأنعام، كما قضي باجتناب الصيد في الحرم وفي أداء المناسك في الحج والعمرة. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي تجنبوا القذر من الأصنام، وسميت رجسا تقبيحا لها وتنفيرا منها، وابتعدوا عن عبادة الأوثان، فذلك رجس، والمراد من اجتنابها: اجتناب عبادتها وتعظيمها، وتأكيدا للأمر أوقع الاجتناب على ذاتها. والجملة مرتبطة بقوله: وَمَنْ يُعَظِّمْ.. أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير ورضا الله تعالى، وكان من تعظيمها اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي وابتعدوا عن الكذب والباطل وشهادة الزور، فذلك كله يدخل تحت عبارة قَوْلَ الزُّورِ والأحسن التعميم، حتى يشمل شهادة الزور، أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاثا، وتلا هذه الآية.

وتمسكوا بهذه الأمور حنفاء لله، أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، قصدا إلى الحق، دون إشراك بالله أحدا. والحنيف: المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق. ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى بجملة مستأنفة مقررة لوجوب اجتناب الشرك، فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ ... أي ومن أشرك مع الله إلها آخر، وعبد غيره، فقد خسر خسرانا عظيما وهلك هلاكا مبينا، وهو في شركه شبيه بمن سقط من جو السماء، فتخاطفته الطيور، أي قطعته ومزقته في الهواء، وأخذ كل منها بقطعة منه، فتم هلاكه أي هو كمن عصفت به الريح، فهوت به في مكان بعيد مهلك، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة. والغرض من هذين التشبيهين التمثيليين تقبيح حال الشرك والتنفير منه. ثم ذكر الله تعالى سبب تعظيم الشعائر فقال: ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي الأمر ذلك المذكور، ومن يعظم الهدايا (المواشي التي تذبح هدية للحرم) لأنها من معالم الحج، بأن يختارها جسيمة سمينة غالية الثمن، أو من يعظم أوامر الله ومناسك الحج، ومنها تعظيم الهدايا والبدن باستسمانها واستحسانها، كما قال ابن عباس، فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، كما ذكر في الكشاف. فقوله: فَإِنَّها عائد إلى حالة المعظم التي يدل عليها فعل وَمَنْ يُعَظِّمْ أو التعظيمة الواحدة. قال ابن العربي عن الشعائر: والصحيح أنها البدن. روي أنه صلّى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب، أي حلقة من ذهب. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيبا، فأعطي بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:

يا رسول الله، إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: «لا، أنحرها إياها» . وكان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي- ثياب مصرية غالية الثمن- فيتصدق بلحومها وجلالها. لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي لكم في البدن منافع دنيوية من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها، إلى أجل مسمى أي إلى أن تنحر، ويتصدق بلحومها، ويؤكل منها. ويجوز ركوبها، حتى بعد أن تسمى بدنا أو هديا لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال: «اركبها» قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة. ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي ثم مكان حل نحر الهدي، وانتهاؤه عند البيت العتيق وهو الكعبة، أي الحرم جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام، كما قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة 5/ 95] وقال: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح 48/ 25] . وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين. وسبب تسميته بالبيت العتيق هو كما أخرج البخاري في تاريخه، والترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما سماه الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط» . ثم أخبر الله تعالى عن مشروعية ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله في جميع الملل فقال: ووَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي جعلنا لأهل كل دين سلف ذبحا

يذبحونه تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وإنما هو في كل الملل. والصحيح كما قال ابن العربي أن المنسك: هو ما يرجع إلى العبادة والتقرب. لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي شرعنا لهم سنة ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي عند الشروع فيه، ويشكروه على نعمه التي أنعم بها عليهم. ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما. وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال: قلت يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قال: فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» . فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَلَهُ أَسْلِمُوا، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أي فإن معبودكم واحد، وإن تنوعت شرائع الأنبياء، ونسخ بعضها بعضا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] . وقوله: فَإِلهُكُمْ.. بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر لأن تفرده تعالى بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه. وإنما قال: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل: «فإلهكم واحد» لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته وفي ألوهيته. ومتى كان الإله واحدا فله أسلموا أي فيجب تخصيصه بالعبادة، والاستسلام له والانقياد له في جميع الأحكام. وقوله فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله. وبشر أيها النبي بالثواب الجزيل المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين لله، من

فقه الحياة أو الأحكام:

الخبت وهو المطمئن المنخفض من الأرض. وسر تحول الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم هو إظهار عظمة الألوهية وقهرها في مقام الأمر والنهي للعباد، فلما انتهى أمر التكليف، وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم لتبليغه الناس وعد الله للعاملين المخلصين. وأوصافهم أربعة هي ما يأتي: 1- الخوف والخشوع عند ذكر الله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إذا ذكر الله خافت منه قلوبهم. 2- الصبر على المصائب: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي الذين يصبرون على الآلام والمشقات في طاعة الله تعالى. 3- إقامة الصلاة: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشرائط، مع الخشوع لله تعالى. 4- الإنفاق مما رزقهم الله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق، مع محافظتهم على حدود الله تعالى. وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله. ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] . فقه الحياة أو الأحكام: أفادت الآيات الأحكام التالية: 1- إن تعظيم حرمات الله أي أفعال الحج وغيرها من امتثال الأوامر

واجتناب النواهي خير عند الله من التهاون بشيء منها، وسبب للمثوبة والتكريم عند الله تعالى، فإن للأوامر حرمة المبادرة إلى الامتثال، وللنواهي حرمة الانكفاف والانزجار. 2- إباحة الأكل من لحوم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، إلا المذكور في القرآن من المحرّمات، وهي الميتة والموقوذة وأخواتها. 3- يجب اجتناب عبادة الأصنام والأوثان، فإنها رجس أي شيء قذر، وهي نجسة نجاسة حكمية. والوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه، فهو كالتمثال أيضا. 4- ويجب أيضا اجتناب قول الزور، والزور: الباطل والكذب، وهو يشمل خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم وقولهم فيها: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، ويشمل أيضا قولهم في البحائر والسوائب: إنها حرام، وإن تحريمها من الله، وكذلك يشمل شهادة الزور الباطلة. ففي الآية وعيد على شهادة الزور، ولكن ليس في الآية ما يدل على تعزير شاهد الزور لأنها اقتصرت على تحريم شهادة الزور. وإنما يعزر من قبيل المصلحة والسياسة الشرعية، التي للحاكم أن يسير على نهجها لحفظ الحقوق العامة، وردع أهل الفساد. وهذا رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد، جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وقول الزور» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متكئا، فجلس، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت. 5- يلزم الإخلاص في العبادة لله، والاستقامة على أمره، فقوله: حُنَفاءَ لِلَّهِ معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق، تاركين الدين الباطل.

6- المشرك هالك حتما، خاسر الآخرة، فهو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا، فهو بمنزلة من خرّ من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع شيئا عن نفسه، ونهايته الهلاك إما بأن تقطعه الطيور بمخالبها، أو تعصف به الريح، وتسقطه في مكان قفر بعيد لا نجاة له فيه. 7- إن تعظيم شعائر الله (وهي الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، أو هي جميع مناسك الحج، والصحيح أنها البدن كما قال ابن العربي) من علائم التقوى ودعائمها. وتعظيمها يكون باختيارها سمينة حسنة غالية الأثمان. والتقوى: هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي. والإخلاص والتقوى والخشية غاية ما يتمنى المرء أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة. وفي الآية حث على التقوى، وبعث للهمم على الاهتمام بأمرها. 8- يجوز الانتفاع بالبدن بالركوب والحلب وأخذ الصوف وغيرها، إلى وقت الذبح، فقد فسر الشافعية الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي. وقالوا: إنما يجوز الانتفاع للحاجة، ولو لم يكن هناك اضطرار. ولا يجوز لغير حاجة، والأولى أن يتصدق بمنافعها، ولكن لا يضمن شيئا من منافع الهدي إلا إذا أدى الركوب إلى الإنقاص البين لقيمتها، ودليلهم حديث أنس المتقدم المتفق عليه بين أحمد والشيخين: «اركبها ولو كانت بدنة» وحديث جابر فيما رواه أبو داود: «اركبوا الهدي المعروف حتى تجدوا ظهرا» . وفسر الحنفية الأجل المسمى في الآية بوقت تعيينها وتسميتها هديا. ولا يجوز الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار، ودليلهم ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر أنه سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» فالجواز خاص بحالة الضرورة، فهو مقيد والمقيد يقضي على المطلق في حديث

أنس، فإن لم تكن ضرورة وجب ضمان ما ينتفع به لأنه ضار حقا للفقراء، فعليه أن يعوضهم مقدار قيمته. والمشهور من مذهب المالكية أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها. وهذا قريب من مذهب الحنفية. وذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اركبها» . وقد أخذ أحمد وإسحاق وأهل الظاهر بظاهر هذا الحديث. وهذا يغاير فعل النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يركب هديه ولم يركبه غيره. 9- إن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. وأما ذبح البدن والهدي فلا يصح إلا في الحرم لأنه تعالى جعل محلها إلى البيت العتيق، قال عطاء: ينتهي إلى مكة. 10- الإخبار بجعل نسك الذبح لكل الأمم فيه تحريك النفوس إلى المسارعة إلى هذا البر، والاهتمام بهذه القربة، وفيه إشعار بأن أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، ويخلطون في التسمية على ذبائحهم، إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإن شرائع الله كلها قد اتفقت على أن التقرب إنما يكون لله وحده، وباسمه وحده إذ ليس للناس إلا إله واحد. 11- الإله الواحد هو الرازق والمشرع والمكلّف بالتكاليف الدينية، فتجب إطاعته، والانقياد لحكمه، وأن يكون الذبح له، وأن يذكر اسمه عند الذبح، وأن يخلص الذبح له لا لغيره أو مع غيره لأنه رازق ذلك. وظاهر الآية: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة، ووجوب اعتقاد أن الله واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.

التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها [سورة الحج (22) الآيات 36 إلى 37] :

12- للمخبتين المتواضعين الخاشعين من المؤمنين البشارة بالثواب الجزيل. وأوصافهم في الآية أربعة كما تقدم: وهي الخوف والخشوع عند ذكر الله لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم وكأنهم بين يديه، والصبر على المصائب ومشاق الطاعات، وإقامة الصلاة أهم التكاليف البدنية، والإنفاق مما رزقهم الله من فضله، وهذا يشمل الزكاة المفروضة التي هي أهم التكاليف المالية، وصدقة التطوع. والخوف عند ذكر الله يحصل عند استحضار وعيد الله وعذابه، وفي حال أخرى يطمئن المؤمن الصادق بوعد الله، كما قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد 13/ 28] فإذا ذكر وعد الله واستحضر رحمته وسعة عفوه، اطمأن قلبه، وسكن روعه، فلا يكون هناك تعارض بين الآيتين. ويؤخذ من الآية أن التقوى والخشية والصبر على المكاره، والمحافظة على الصلاة، والرحمة بالفقراء والإحسان إليهم من أعظم موجبات نيل رضا الله تعالى. التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

الإعراب:

الإعراب: وَالْبُدْنَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وجعلنا البدن، جعلناها لكم فيها خير. وخَيْرٌ مرفوع بالظرف ارتفاع الفاعل بفعله، تقديره: كائنا لكم فيها خير. وصَوافَّ حال من هاء وألف عَلَيْها وهو ممنوع من الصرف لأنه جمع بعد ألفه حرفان، أي مصطفّة. لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها قرئ ينال بالياء والتاء، فمن قرأ بالتذكير أراد معنى الجمع، ومن قرأ بالتاء بالتأنيث أراد معنى الجماعة، والفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول يقوي التذكير ويزيده حسنا. البلاغة: الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ بينهما طباق لأن القانع: المتعفف، والمعتر: السائل. الْمُحْسِنِينَ الْمُخْبِتِينَ- في الآية السابقة- سجع مستحسن. المفردات اللغوية: وَالْبُدْنَ جمع بدنة، وهي الإبل خاصة، ذكرا أو أنثى، لعظم بدنها، مثل ثمرة وثمر وثمر، ويشاركها البقرة في الحكم لا في الاسم لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الجماعة عن جابر: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» . شَعائِرِ اللَّهِ أعلام دينه. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ نفع في الدنيا، وأجر في العقبى، أي لكم فيها منافع دينية ودنيوية. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عند نحرها أو ذبحها، بأن تقولوا: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك. صَوافَّ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، جمع صافّة وقرئ صوافن من صفن الفرس: إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث وقرئ أيضا صوافيا بالتنوين وصوافي أي خوالص لوجه الله. وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت على الأرض بعد النحر، وهو وقت الأكل منها، وهو كناية عن الموت. فَكُلُوا مِنْها إن شئتم. وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ أي المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرض، والمعتر: السائل أو المتعرض. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي مثل ما وصفنا من نحرها قياما، سخرناها لكم مع عظمها وقوتها، بأن تنحر وتأخذوها منقادة. لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لا يرفعان إليه. وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له، مع الإيمان. هَداكُمْ أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه. الْمُحْسِنِينَ الموحدين المخلصين لله.

سبب النزول نزول الآية (37) :

سبب النزول: نزول الآية (37) : لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن نضمخ، فأنزل الله: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها الآية. المناسبة: بعد الترغيب والحث على التقرب إلى الله بالأنعام كلها، خص الله تعالى الإبل، لعظمها وكثرة منافعها. التفسير والبيان: يمتن الله تعالى على عباده بأن جعل البدن قربة عظيمة تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى إليه، فقال: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله، وأدلة طاعته، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في الآخرة، ونفع عظيم بلحومها للفقراء في الدنيا، وبالركوب عليها، وأخذ لبنها. والبدن تطلق في رأي أبي حنيفة وآخرين من التابعين والصحابة على الإبل والبقر، روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلا من البدن. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر. ومذهب الشافعية: أنه لا تطلق البدن في الحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر مجاز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبدليل قوله تعالى: صَوافَّ ووَجَبَتْ جُنُوبُها فنحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصة، ويؤيده

ما رواه أبو داود وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» فإن العطف يقتضي المغايرة. وأما قول جابر وابن عمر المتقدم فيحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما. وهذا هو الظاهر والأصح لغة. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أي فاذكروا اسم الله على البدن عند نحرها وكونها قائمات صافات الأيدي والأرجل، بأن تقولوا: بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ أي إذا سقطت على الأرض وزهقت روحها أو ماتت، فيباح لكم الأكل منها، وعليكم الإطعام منها للفقراء، سواء المتعفف عن السؤال، والسائل المتعرض، أي كلوا وأطعموا، وقوله: فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة، وقال مالك: يستحب ذلك، وقال بعض العلماء: يجب، والظاهر أنه لا يجب الأكل منها، فإن السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا، وإنما ذلك لرفع التحرج عن الأكل من الهدايا الذي كان عليه أهل الجاهلية، فالمراد: إباحة الأكل أو الندب. وأما قوله: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فظاهره كما تقدم وجوب إطعام الفقراء من الهدي، وبه أخذ الشافعي، فأوجب إطعام الفقراء منها، وذهب أبو حنيفة إلى أن الإطعام مندوب لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة منها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء أو مثل هذا التسخير، ذللناها لكم، مع عظمتها وقوتها، وجعلناها منقادة لكم، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح، لكي تشكروا الله على نعمه، بالتقرب إليه، والإخلاص في

العمل. والخلاصة: أنها نعمة جليلة تستحق الشكر والحمد، فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله. وكلمة «لعل» ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب لأنه مستحيل على الله تعالى لأنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور، فتكون للتعليل بمعنى «كي» . ونظير الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس 36/ 71- 73] . ثم ذكر الله تعالى الهدف من ذبح الأنعام فقال: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها.. أي إنما شرع الله لكم نحر هذه الهدايا والضحايا، لتذكروه عند ذبحها، ولن يصل إلى الله شيء من لحومها ولا من دمائها، ولكن يصله التقوى والإخلاص، وترفع إليه الأعمال الصالحة. وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوها لآلهتهم، وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها، وأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم، فنزلت الآية: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها.. ثم كرر تعالى ذكر تسخير الأنعام وتذليلها للناس لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة، الذي يبعث على شكرها، والثناء على الله من أجلها، والقيام بما يجب لعظمته وكبريائه، فقال: كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي من أجل هذا سخر لكم البدن وذللها، أو هكذا سخرها، لتعظموا الله وتشكروه على ما أرشدكم إليه لدينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه، ونهاكم عما يكره، ويأبى مما هو ضارّ غير نافع. ثم وعد المهديين الراشدين بقوله:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي وبشر يا محمد بالجنة المحسنين في عملهم، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شرع لهم، الطائعين أوامره، المصدقين رسوله فيما أبلغهم، وجاءهم به من عند ربه عز وجل. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- يدل الاقتصار على البدن مع جواز نحر الهدي من بقية الأنعام على أن البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم، ولقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، وَلَا الْهَدْيَ، وَلَا الْقَلائِدَ، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة 5/ 2] . وأما إطلاق البدنة على البعير، فمتفق عليه، وأما إطلاقها على البقرة ففيه قولان تقدما: قول لأبي حنيفة أنها تطلق، وقول للشافعي أنها لا تطلق، والأصح أنها لا تطلق عليها لغة، وإنما تطلق عليها شرعا، بدليل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي: البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» . 2- يندب نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم لقوله تعالى: صَوافَّ ولا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة. 3- قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أمر، ومقتضاه الوجوب، وقد أخذ بظاهره بعض الأئمة، فأوجبوا التسمية على الذبيحة، والأصح أنها مندوبة، والأمر مؤول على الندب، أو على الشكر والثناء. ولا يجوز نحر الهدايا والأضاحي قبل الفجر من يوم النحر بالإجماع، فإذا طلع الفجر حلّ النحر بمنى، وليس على الحجاج انتظار نحر إمامهم بخلاف

الأضحية في سائر البلاد. والمنحر: منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر، ولو نحر الحاج بمكة، والمعتمر بمنى لم يكن به بأس. 4- فَكُلُوا مِنْها أمر معناه الندب، قال القرطبي: وكل العلماء قالوا: يستحب أن يأكل الإنسان من هديه، وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، كما تقدم. وقال الشافعي: الأكل مستحب، والإطعام واجب في دماء التطوع، أما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا، كما تقدم. وعلى هذا يكون ظاهر الأمر في الأكل إما الندب وإما الإباحة. وأما ظاهر الأمر في الإطعام فهو إما الوجوب كما قال الشافعي، وإما الندب كما قال أبو حنيفة. 5- يجمع عند الذبح أو النحر بين التسمية، لقوله تعالى في الآية المتقدمة: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها وبين التكبير، لقوله هنا: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه، فيقول: بسم الله والله أكبر، وفي الحديث الصحيح عن أنس قال: ضحّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين «1» أقرنين، ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما «2» ، وسمّى وكبّر. وقد أوجب أبو ثور التسمية، واستحب بقية العلماء ذلك. وكره المالكية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجازها الشافعي عند الذبح.

_ (1) الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده. (2) الصفاح: الجوانب، والمراد: الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثني إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما.

وذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني، جائز، وكره ذلك أبو حنيفة، ويرد عليه الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: «ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحّى به. وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من المالكية والحسن البصري، بدليل ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: أنه صلّى الله عليه وسلم قال عند الذبح: «اللهم منك ولك عن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر» ثم ذبح. فلعل الإمام مالك لم يبلغه الخبر. 6- لن يصل إلى الله لحوم الذبائح ولا دماؤها، وإنما يصل التقوى من عباده، فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه. وقد امتن الله علينا بتذليل الإبل، وتمكيننا من تصريفها، وهي أعظم منا أبدانا، وأقوى أعضاء، ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير. وإنما هي بحسب ما يدبرها العزيز القدير، وليعلم الخلق أن الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده. 7- في الآية: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ دلالة على أن التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل لله جل شأنه من أهم المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها. ويحسن ذكر حكم الأضحية بإيجاز، ذهب أبو حنيفة والثوري، ومالك في قول ضعيف عنه إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا، وكان في رأي أبي حنيفة مقيما غير مسافر لما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: «من وجد سعة، فلم يضحّ، فلا يقربنّ مصلّانا» «1» ، وروى الترمذي عن ابن عمر قال: «أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي» . وقال الجمهور، وذلك على المشهور عند المالكية لغير الحاج بمنى: لا تجب

_ (1) لكن فيه غرابة، واستنكره أحمد بن حنبل.

دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال [سورة الحج (22) الآيات 38 إلى 41] :

الأضحية، بل هي سنة مستحبة لما جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «1» ولأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، فأسقط ذلك وجوبها عنهم، وقال: «إنها سنة أبيكم إبراهيم» وقال أبو سريحة: كنت جارا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما. وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب. وروى أحمد والحاكم والدارقطني عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هنّ علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى» «2» . وروى الترمذي: «أمرت بالنحر، وهو لكم سنة» . دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

_ (1) رواه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس، وهو ضعيف. (2) سكت عنه الحاكم، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني.

الإعراب:

الإعراب: الَّذِينَ أُخْرِجُوا في موضع جر صفة لقوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين أخرجوا. ويكون قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فصلا بين الصفة والموصوف، مثل: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ، عَظِيمٌ [الواقعة 56/ 76] أي: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون. إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، أي لكن لقولهم: ربنا الله. بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بدل بعض من الناس. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ.. إما في موضع جر، صفة أخرى لقوله: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وإما منصوب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي هم. وقوله: إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ شرط وجزاء، وهما صلة الموصول. البلاغة: خَوَّانٍ كَفُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه حذف لدلالة السياق عليه، أي أذن بالقتال للذين يقاتلون. إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، أي لا ذنب لهم إلا هذا، على طريقة قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب المفردات اللغوية: يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، وقرئ: يدفع أي غائلة المشركين خَوَّانٍ في أمانته وأمانة الله أي كثير الخيانة كَفُورٍ لنعمته، وهم المشركون، والمعنى: أنه يعاقبهم، وصيغة المبالغة لبيان واقع المشركين. أُذِنَ رخّص لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من قبل المشركين وهم المؤمنون، أي للمؤمنين أن يقاتلوا، والمأذون فيه وهو القتال محذوف لدلالته عليه، وقرئ بالبناء للمعلوم يُقاتَلُونَ أي

سبب النزول:

عدوهم المشركين. ذكر جماعة من المفسرين: أن هذه أول آية نزلت في الجهاد بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا بظلم الكافرين إياهم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر كما وعدهم بدفع أذى الكفار عنهم. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني مكة بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير موجب في الإخراج استحقوا به إِلَّا أَنْ يَقُولُوا أي بقولهم رَبُّنَا اللَّهُ وحده، وهذا القول حق، فالإخراج به إخراج بغير حق، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين لَهُدِّمَتْ لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، والقراءة بالتشديد للتكثير، وقرئ بالتخفيف صَوامِعُ للرهبان وهي الأديرة، جمع صومعة وَبِيَعٌ كنائس للنصارى، جمع بيعة وَصَلَواتٌ كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: أصلها: صلوتا بالعبرانية، فعرّبت وَمَساجِدُ معابد للمسلمين، جمع مسجد، والأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلم مسجدا، وتربتها طهورا. يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يذكر في المواضع الأربعة المذكورة، وتنقطع العبادة بخرابها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه، وقد أنجز وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ القوي: القادر على كل شيء، ومنه نصرهم، والعزيز: المنيع في سلطانه وقدرته، لا يغلبه غالب. إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بنصرهم على عدوهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إليه مرجعها في الآخرة. سبب النزول: نزول الآية (38) : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ: روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية. نزول الآية (39) : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية: أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه وابن سعد عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فقال

المناسبة:

أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنّ، فأنزل الله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، ثم بيّن مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أردف ذلك ببيان ما يزيل الصدّ، ويؤمن معه التمكن من الحج، وهو دفع الله غائلة المشركين، والإذن بالقتال مع إيضاح الحكمة منه وأسباب مشروعيته، كالدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى. التفسير والبيان: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، شر الأشرار، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق 65/ 3] وقوله: يُدافِعُ صيغة مفاعلة إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط لأن صيغة المفاعلة تدل على تكرر الفعل. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي إنه تعالى لا يحب خائن العهد والميثاق والأمانة، جاحد النعم الذي لا يعترف بها، والمراد أن المؤمنين هم أحباء الله، وأن الله سيعاقب أعداءهم، فهو تعليل للوعد وللوعيد لأن نفي المحبة كناية عن البغض الموجب للعقاب. وخيانة الأمانة إما جميع الأمانات، وإما أمانة الله وهي أوامره ونواهيه. وهذه الآية إما وعيد ضمنا، وبيان عاقبة الصادين عن المسجد الحرام الذين

ذكرهم الله قبل آيات الحج، فتكون كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... وإما وعد للمؤمنين الذين تعطشوا إلى رؤية الحرم المقدس بعد منع المشركين لهم، فتكون كلاما متصلا بما قبله مباشرة، فإنهم أخرجوا رسول الله من وطنه الذي تعلق قبله به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» . والظاهر أن الآية وعد من الله عز وجل وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم وتمكينهم من عدوهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي رخّص للمؤمنين المعتدى عليهم بالقتال بسبب ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وإيذاء بعضهم بالضرب والشج، فكانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج في رأسه، ويشتكون إليه، فيأمرهم بالصبر، ويقول لهم: «إني لم أومر بقتالهم» حتى هاجر فنزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة. وهي في رأي كثير من السلف كابن عباس وعائشة ومجاهد والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة والزهري: أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وهو الظاهر، ويؤيده سبب النزول المتقدم ذكره، وذكرت الآية بعد الوعد بالمدافعة والنصر. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت في القتال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. [البقرة 2/ 190] . وفي الإكليل للحاكم: إن أول آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. [التوبة 9/ 111] .

فعلى القول الأول للأكثرين: يكون المقصود بالآية: أُذِنَ.. إباحة القتال ومشروعيته، والمأذون فيه هو القتال حقيقة، وحذف لدلالة السياق عليه، والمراد بهم المهاجرون، بدليل وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق. وعلى القول الثاني لبعضهم: يكون المراد حكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية. وعلى قراءة المبني للمجهول يُقاتَلُونَ يكون وصفهم بالقتال الواقع عليهم فعلا على حقيقته، سواء قيل: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا لأن قتال المشركين واضطهادهم لهم، كان حاصلا على كل حال. وعلى قراءة المبني للمعلوم يقاتلون إذا قيل: إنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون وصفهم بالقتال على حقيقته أيضا، وأما إذا قيل: إنها أول آية نزلت في الجهاد فيكون وصفهم بالقتال إما على معنى أو على تقدير: إرادة القتال، أي يريدون قتال المشركين ويحرصون عليه، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، أي ما سيعدون أنفسهم عليه من لقاء المشركين. وعلى كل حال يكون المراد بالآية بيان سبب الإذن في القتال وهو دفع الظلم والإيذاء، فإن المشركين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأشد أنواع الإيذاء الأدبية والجسدية، فإنهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ووضعوا التراب على رأسه، وألقوا سلا جزور على كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه، وأغرت ثقيف سفهاءهم حتى رموه بالحجارة وأدموه واختضب نعلاه بالدم. وآذوا أيضا أتباعه وأنصاره فعذبوهم بالضرب والجلد، والقتل، والإلقاء في حر الشمس في بطحاء مكة، ووضعوا الحجارة على صدورهم، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، فلم يزدهم التعذيب إلا إصرارا على التمسك بعقيدتهم، فلا يصدر عنهم إلا القول: أحد أحد. ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي

ثم وعد الله تعالى هؤلاء المعذبين المستضعفين بالنصر فقال: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي إن الله وحده هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، وهو حينئذ معهم يؤيدهم بنصره، وقد فعل، فأعزهم وأهلك أعداءهم. هذا رأي ابن كثير «1» . ويكون المقصود تنبيه المسلمين إلى أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنهم مدعوون للجهاد والكفاح، وإثبات الكفاءة والذات، وأن الجزاء مرتبط بالعمل. وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا وعد بالنصر، وتأكيد للوعد في الآية المتقدمة بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأن الوعد السابق لا يراد منه مجرد تخليصهم من أيدي أعدائهم، بل نصرهم عليهم. وإنما تأخر تشريع القتال إلى ما بعد الهجرة وإلى الوقت المناسب لأن المؤمنين في مكة كانوا قلة، وكان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم أقل من العشر- بقتال المشركين، لشق عليهم. ثم وصف الله تعالى حال هؤلاء المؤمنين بقوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ أي إن هؤلاء المؤمنين المعتدى عليهم هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق، وهم محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كان لهم من إساءة إلى قومهم، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة 60/ 1] وقال سبحانه في قصة أصحاب الأخدود: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 8] . هذا أول أسباب المشروعية وهو الطرد من الأوطان بغير حق، ثم ذكر تعالى

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 225

سببا آخر وهو الدفاع عن حرية العبادة في الأرض، وحماية الأماكن المقدسة، فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ.. هذه هي سنة التدافع من أجل الحفاظ على التوازن بين البشر، والقتال مشروع لحماية أماكن العبادة، وإقرار مبدأ حرية العبادة. والمعنى: لولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكفّ شرور أناس من غيرهم، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود والحرمات، لهدّمت مواطن العبادة، سواء كانت معابد للرهبان أو للنصارى أو لليهود أو للمسلمين، التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا. ويلاحظ وجود التنقل في بيان مواضع العبادة من الأقل إلى الأكثر، ومن الأضيق إلى الأوسع، فإن المساجد أكثر ارتيادا، وأصح عبادة وأسلم قصدا. وكذلك قدمت الصوامع والبيع في الكلام على المساجد لأنها أقدم وجودا. قال بعض العلماء: هذا ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا، وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح «1» . وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي وليؤيّدنّ الله بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ورفع لواء دينه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد 47/ 7- 8] . وهذا إخبار من الله عز وجل عن مغيبات المستقبل وعما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض، وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين «2» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 226 (2) الكشاف: 2/ 350

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إن الله هو القوي القادر على نصر أهل طاعته المجاهدين في سبيله، وهو المنيع الذي لا يقهر، ولا يغلبه غالب، كقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات 37/ 171- 173] . وقوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] . ثم وصف الله تعالى المهاجرين المؤمنين الجديرين بالنصر فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ.. أي إن هؤلاء المهاجرين الذين بوأهم الله السلطة على الناس، وأعطاهم النفوذ بين العالم إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطة، فإنهم يأتون بالأمور الأربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو ما أمر به شرعا وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو ما حظر شرعا وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله. وهذه الآية كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور 24/ 55] . وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إن مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره في الثواب والعقاب على ما عملوا، كقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] وفيه تأكيد لما وعد تعالى من نصر أوليائه وإعلاء كلمتهم. فمن تأمل النصر على الأعداء من اليهود وغيرهم، فليعمل بهذه الأوصاف الأربعة التي التزمها المهاجرون والمجاهدون الأولون. ومجمل الآيات أنه إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب مع الناس إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إذا ظهروا في الأرض أقاموا الصلاة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى غرر الأحكام التالية: 1- وعد الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى بالمدافعة عن المؤمنين، وبحفظهم وصونهم من شر الأشرار وكيد الفجار، وبنصرهم على أعدائهم، ثم نهى نهيا صريحا عن الخيانة والغدر وكفران النعم. 2- أباح الله تعالى القتال لمن يصلح له لدفع أذى الكفار واعتدائهم، ودفاعا عن النفس وحق الحياة العزيزة الكريمة. قال الضحّاك: استأذن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، فلما هاجر نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وهذا- كما يقول العلماء القدامى- ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح، وهي أول آية نزلت في القتال. وكانت قريش قد اضطهدت المسلمين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم عن بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذّب، وبين هارب في البلاد مغرّب، فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى» . والخلاصة: لقد أذنوا بالقتال بسبب كونهم مظلومين، وكان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا، فإني لم أومر بقتال، حتى هاجر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية «2» . وفي هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة لأن قوله: أُذِنَ معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1285 (2) تفسير الرازي: 23/ 39

3- إن من مظاهر ظلم المشركين للمؤمنين هو إخراجهم من أوطانهم، لا لشيء، لكن لقولهم: ربنا الله وحده، فإن أهل الأوثان أخرجوهم من ديارهم بتوحيدهم. وفي هذه الآية دليل على جواز نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، كما في آية: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة 9/ 40] . 4- ومن أسباب مشروعية القتال: الدفاع عن الحرمات وأماكن العبادات، فلولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك على نواصي الأمور، وأشاعوا الفوضى، ودمروا مواضع العبادات، وتغلبوا على الحق في كل أمة. وهذا يدل على أن الجهاد أمر قديم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، وارتفعت به راية التوحيد، وظهرت بوادر الصلاح، ونواة التقدم والحضارة، وأرسيت معالم حرية الدين، وبرزت معالم الأخلاق القويمة والتهذيب البشري. 5- تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، لكن لا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وجاز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه وقد فعله عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلم. 6- إن الله تعالى القوي القادر، العزيز المنيع الجليل الشريف ينصر في حكمه وشرعه من ينصر دينه ونبيه، والله لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور، وعدوه هو المقهور. 7- إن المسلمين في جهادهم دعاة بناء ومجد وحضارة، وإصلاح وتقويم، فهم

الاعتبار بهلاك الأمم السابقة [سورة الحج (22) الآيات 42 إلى 48] :

إن كانت السلطة لهم في الدنيا لازموا أوصافا أربعة: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف الذي هو خير، والنهي عن المنكر الذي هو شر محض. قال سهيل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له، واجب عليه، ولا يأمروا العلماء، فإن الحجة قد وجبت عليهم. 8- في قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة، وأن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة، فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدا. الاعتبار بهلاك الأمم السابقة [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

الإعراب:

الإعراب: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر يفسره الظاهر، وتقديره: وكأين من قرية أهلكتها، وهذا إذا جعلت أهلكتها خبرا. فإن جعلتها صفة ل قَرْيَةٍ لم يجز أن تكون مفسرة لفعل مقدر لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ معطوف بالجر على قوله قَرْيَةٍ وتقديره: وكم من بئر معطلة، وقيل: هو معطوف على عُرُوشِها. المفردات اللغوية: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ.. تسلية له صلّى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس وحده منفردا في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم باعتبار المعنى. وَعادٌ قوم هود. وَثَمُودُ قوم صالح. وَأَصْحابُ مَدْيَنَ قوم شعيب. وَكُذِّبَ مُوسى كذبه القبط، لا قومه بنو إسرائيل، لذا غيّر فيه النظم، وبني الفعل للمفعول لأن قومه لم يكذبوه، وإنما كذبه القبط، ولأن تكذيبه كان أشنع. فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أمهلتهم بتأخير العقاب لهم. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب أي أهلكتهم. نَكِيرِ إنكاري عليهم، بتغيير النعمة محنة، والحياة هلاكا، والعمارة خرابا. والاستفهام ب فَكَيْفَ للتقرير، أي هو واقع موقعه، ويراد به التعجب. فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كم من قرية أهلكتها، أي بإهلاك أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها بكفرهم. خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها سقوفها، أي ساقطة حيطانها على سقوفها أو خالية. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر معطلة، أي متروكة بموت أهلها عطفا على قَرْيَةٍ. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع أي مرفوع حال، بموت أهله، أو مجصص مبني بالشّيد أي الجصّ، أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي كفار مكة، وهو حثّ لهم أن يسافروا، ليروا مصارع المهلكين، فيعتبروا. يَعْقِلُونَ بِها أي يدركون ما يجب أن يعقل، وما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال بما نزل بالمكذبين قبلهم. أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحي، والتذكير بحال من يشاهد آثارهم. فَإِنَّها الضمير عائد للقصة أو مبهم يفسره الإبصار، أي أن الضمير ضمير الشأن والقصة، وهو يجيء مذكرا ومؤنثا. وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي تعمى عن الاعتبار، أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما في سوء استعمال عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد. وذكر الصدور للتأكيد.

المناسبة:

قال ابن عباس ومقاتل: لما نزلت: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ بإنزال العذاب، لامتناع الخلف في خبره، فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين، ولكنه صبور لا يعجل بالعقوبة. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ من أيام الآخرة بسبب العذاب. كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، وهو بيان لتناهي صبره وتأنيه. نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، لقوله: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف 7/ 70] وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، لقوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] . وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. أَمْلَيْتُ لَها أمهلتها كما أمهلتكم. وَهِيَ ظالِمَةٌ مثلكم. ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب أي أخذت أهلها. الْمَصِيرُ المرجع، أي وإلى حكمي مرجع الجميع. المناسبة: بعد أن بين الله تعالى أن المشركين الكفار أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم، وضمن للرسول والمؤمنين النصرة عليهم، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من إيذائه وإيذاء المؤمنين بالتكذيب وغيره، ممن خالفه من قومه. التفسير والبيان: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ.. نَكِيرِ أي إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون، فلست فريدا في هذا ولا بدعا من الرسل، وإنما هي سنة الأمم الغابرة، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم إبراهيم ولوط، وأصحاب مدين قوم شعيب، وكذب القبط الذين أرسل إليهم موسى، مع ما جاءهم به أنبياؤهم من الآيات البينات والدلائل الواضحات، فأنظرت

العذاب عن الكافرين وأخرتهم إلى الوقت المعلوم عندي، ثم أخذتهم بالعذاب والعقوبة وأهلكتهم، فانظر كيف كان إنكاري عليهم بتدميرهم ومعاقبتي لهم؟! ويلاحظ أنه لم يقل: وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط، وفرعون وقومه. وما جرى على المثيل يجري على مثيله، فإني سأفعل بالمكذبين من قومك مثلما فعلت بأمثالهم، وإن أمهلتهم، فإني منجز وعدي فيهم: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج 85/ 12] فلا تتعجل العذاب. ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى، وبين إهلاك الله أربعون سنة. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. هذه هي سنة التكذيب، وأما العقاب فهو كما قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ... قَصْرٍ مَشِيدٍ أي كم من قرية أهلكتها، وهي ظالمة أي مكذبة لرسلها، والمراد أهلها، فأصبحت ديارهم ساقطة حيطانها على سقوفها، أي قد قربت منازلها، وتعطلت حواضرها، أو أصبحت خالية من أهلها مع بقاء عروشها على حالها وسلامتها. وكم من بئر معطلة أي لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها، وكم من قصر مشيد دمّر أو بقي بعد فناء أهله؟! والمشيد: المجصص: المبيض بالجص، أو المرفوع البنيان. والمعنى الإجمالي للآية: كم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك، لدلالة مُعَطَّلَةٍ عليه؟!

وذلك كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الأنبياء 21/ 11] . ثم لفت أنظارهم إلى ضرورة العبرة بما حدث وشاهدوا فقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها هذا حثّ على السفر، والاتعاظ بالفكر، والتأمل بالبصيرة، أي هلا يسافر هؤلاء في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، وينظروا بأعينهم ما وقع، ويشاهدوا آثارهم، ويفكروا بعقولهم في النتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليقفوا على الحقائق ويطلعوا على الأسباب، ويدركوا الأسرار، فيعتبروا بما شاهدوا ورأوا، ويقلعوا عما هم فيه من شرك وتكذيب لرسول الله، وينيبوا إلى ربهم الذي خلقهم، وأقام لهم الأدلة والبراهين في الكون على وجوده ووحدانيته. فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ولكنهم لم يفكروا ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا لأنهم قوم عمي البصر، وإنما هم عمي البصائر، فليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت أبصارهم سليمة، فإنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم، فلم يتفحصوا حقائق الأمور، ولم ينفذوا إلى العبر. ذكر الرازي أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب لأن المقصود من قوله: قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها العلم، وقوله: يَعْقِلُونَ بِها كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل «1» . وأضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن. وبعد أن أبان تعالى ما هم عليه من التكذيب، ذكر أنهم قوم طائشون، حمقى، يستهزئون بحلول العذاب، فقال:

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 45

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي يتعجل وقوع العذاب الذي تنذرهم به هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال تعالى: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] وقال سبحانه: وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] . وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي والعذاب آت حالّ لا بد منه، فإن الله لا يخلف وعده الذي وعدهم به، وهو إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه، وما وعده إياهم ليصيبنهم ولو بعد حين. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي إن الله تعالى حليم لا يعجل، ومن حلمه واستقصاره المدد الطوال أن يوما واحدا عنده كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب عند ربك، التي تحل بهم في الآخرة يعادل لشدة عذابه ألف سنة من أيام الدنيا، فأين هم من عذاب ربك؟ وإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجّل وأنظر وأملى. وهذه الآية كقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة 32/ 5] . والخلاصة: أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، فاقتضت حكمته الإمهال. وتأكيدا للإنظار والإمهال، وإن طال الأمد، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وكثيرا من القرى أملى الله لها، وأخّر عنها العذاب وإهلاكها، مع أنها مستمرة في

فقه الحياة أو الأحكام:

ظلمها وهو الكفر والمعصية، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذتها بأن أنزلت العذاب بها، أي بأهلها، فتأخير العذاب من باب الإمهال، لا الإهمال، كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن نجاح النبي محمد صلّى الله عليه وسلم في رسالته متوقف أولا على الصبر على أذى قومه، لذا علمه ربه دروس الصبر، فكانت هذه الآيات تسلية له وتعزية، فقد كان قبله أنبياء كذّبوا، ذكر الله سبعة منهم، فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فما عليه إلا أن يقتدي بهم ويصبر. 2- من حكمته تعالى وحلمه أنه كان يؤخر العقوبة عن أولئك الكفار المكذبين رسلهم، الملحدين الجاحدين ربهم، ثم يعاقبهم، فتكون عقوبتهم عبرة للمعتبر، مدعاة للنظر والتأمل: كيف كان تغييره ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك. وكذلك يفعل بالمكذبين من قريش إذ ما جرى على النظير يجري على نظيره عقلا وعادة وعدلا. 3- تدل هذه الآية فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ على أنه سبحانه يفعل بقوم النبي صلّى الله عليه وسلم كل ما فعل بالأقوام الآخرين الغابرين إلا عذاب الاستئصال، فإنه لا يفعله بقوم محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كان قد مكّنهم من قتل أعدائهم وثبّتهم. قال الحسن البصري: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين:

أحدهما- أن عند الله حدا من الكفر من بلغه عذّبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه. والثاني- أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن. فأما إذا حصل الشرطان: وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر، ويعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء، فيدعون على أممهم، فيستجيب الله دعاءهم، فيعذبهم بعذاب الاستئصال، وهو المراد من قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وإذا عذبهم فإنه ينجي المؤمنين لقوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي بالعذاب، نجينا هودا «1» . 4- كثير من أهل القرى أهلكهم الله، حال استمرارهم على الظلم وهو الكفر، فتصبح بيوتهم خاوية على عروشها، أي ساقطة أو خالية من أهلها، كما تصبح آبارهم معطلة عن وارديها وسقاتها، وقصورهم المرفوعة البنيان خربة أو خالية من سكانها، فتحل الوحشة محل الأنس، والإقفار بعد العمران. وفي ذلك موعظة وعبرة وتذكرة، وتحذير من مغبّة المعصية، وسوء عاقبة المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه. 5- قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حثّ واضح على الاعتبار بآثار الأمم البائدة التي أهلكها الله بكفرها وظلمها، فإذا اعتبر الناس بذلك كانوا منتفعين بحق بحواسهم وإدراكاتهم وعقولهم، وإن لم يعتبروا كانوا معطلين لتلك الطاقات والنعم، فاستحقوا العقاب. ومن كان في الدنيا أعمى بقلبه عن الإسلام، فهو في الآخرة في النار.

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 43

تحديد مهمة النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الحج (22) الآيات 49 إلى 51] :

6- لو عرف الناس حال عذاب الآخرة، وأن يوم العذاب فيه لشدته كألف سنة من سني الدنيا، لما استعجلوه، فإن الله لا يخلف وعده في إنزال العذاب، قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شيء، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر. وقال عكرمة: أعلمهم الله إذا استعجلوا بالعذاب في أيام قصيرة، أنه يأتيهم به في أيام طويلة. وقال الفرّاء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة. والخلاصة: أن الآية ردّ على المشركين الذين استعجلوا العذاب تكذيبا واستهزاء، لعدم إيمانهم بيوم القيامة، وإعلام قاطع بوقوع العذاب. 7- كثير من أهل القرى أمهلهم الله تعالى مع عتوهم، ثم أخذهم بالعذاب، وإلى الله المصير، أي إليه المرجع والمآب في الحكم والقضاء. تحديد مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) البلاغة: يوجد مقابلة بين فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... وبين وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ.... المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة وغيرهم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار: وهو التخويف، وأنا

المناسبة:

أيضا بشير المؤمنين، واقتصر على الإنذار مع عموم الخطاب بقوله: لَكُمْ ومع ذكر الفريقين: المؤمنين والكافرين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين. وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظ أعدائهم المشركين. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما بدر منهم من الذنوب. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو الجنة، والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا القرآن بالرد والإبطال والطعن بأنها سحر وشعر وأساطير. مُعاجِزِينَ أي مسابقين مغالبين لنا أي يظنون أن يفوتونا بإنكار البعث والعقاب، وقرئ معجزين أي مثبطين غيرهم عن الإيمان. الْجَحِيمِ النار الموقدة. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى استعجال المشركين العذاب تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، أردف ذلك بإيضاح وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتخويف، وأنه بعث للإنذار، فاستهزاؤهم بذلك لا يمنعه منه. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بأن يقول للكفار حين طلبوا منه وقوع العذاب واستعجلوه به: يا أيها المشركون المستعجلون مجيء العذاب إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم شيء، بل أمركم إلى الله: إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، كما قال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد 13/ 41] . ومهمتي كما تشمل الإنذار تتضمن التبشير، وهذا مضمون الأمرين: 1- فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي فالذين آمنت قلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب حسن ولو على القليل من حسناتهم، وجنة عرضها السموات والأرض، فالرزق الكريم هو الجنة التي وصفها الله سبحانه بقوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ

فقه الحياة أو الأحكام:

الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف 43/ 71] ووصفها الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . 2- وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين جهدوا في إبطال آياتنا، وردّ دعوة الدين، والتكذيب بها، وثبطوا الناس عن متابعة النبي صلّى الله عليه وسلم، ظنا منهم أنهم يعجزوننا ويتفلتون من أمرنا وبعثنا لهم وأننا لا نقدر عليهم، فهم أهل النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، المقيمون فيها على الدوام، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] . وقد شبههم بالصاحب من حيث الدوام. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- إن وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم هي الإنذار والتبشير، إنذار من عصاه بالنار وتبشير من أطاعه بالجنة. 2- للمؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات الجنة والمغفرة للذنوب والرضوان. 3- للكافرين المعاندين الظانين ألا بعث وأن الله لا يقدر عليهم النار المستعرة التي يخلدون فيها على الدوام.

إحكام الوحي وصونه عن الشياطين قصة الغرانيق [سورة الحج (22) الآيات 52 إلى 57] :

إحكام الوحي وصونه عن الشياطين قصة الغرانيق [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) الإعراب: وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ: الضمير في قُلُوبِهِمْ يعود إلى الآلف واللام في قوله: الْقاسِيَةِ. وهذا يدل على أن الألف واللام في حكم الأسماء لأن الحروف لا حظّ لها في الضمير البتة، وتقديره: فويل للذين قست قلوبهم، ولهذا التقدير عاد الضمير. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي كائن مستقر لله، وهو ناصب للظرف. البلاغة: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية:

فَيَنْسَخُ يُحْكِمُ بينهما طباق. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل وإنهم قضاء عليهم بالظلم والمعاداة. أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ في قوله عَقِيمٍ استعارة، شبه يوم القيامة الذي لا ليل بعده ولا نهار بالمرأة العقيم التي لا تلد، لانقضاء الزمان، بعكس ما قبله من الأيام التي تعقبها الليالي، فهي بمنزلة الولدان لليالي. المفردات اللغوية: رَسُولٍ هو نبي أمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي: أعم من الرسول، فهو من لم يؤمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، ولذلك شبه النبي صلّى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا. تَمَنَّى قرأ أُمْنِيَّتِهِ قراءته، وألقى الشيطان أي ما ليس من المقروء الموحى به مما يرضاه المرسل إليهم فَيَنْسَخُ اللَّهُ يبطل ويزيل يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس وبإلقاء الشيطان ما ذكر حَكِيمٌ فيما يفعله بهم، فإنه يفعل ما يشاء. فِتْنَةً أي محنة وابتلاء واختبارا مَرَضٌ شك ونفاق الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هم الكفار الذي قست قلوبهم عن قبول الحق وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عداوة شديدة وبعد عن الحق، وخلاف طويل مع النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين. الْعِلْمَ التوحيد والقرآن أو أهل العلم المجردون عن التعصب والعناد أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أن القرآن هو الحق النازل من عند الله فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أو بالله فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ تطمئن أو تنقاد وتخشى وتخضع صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الطريق القويم وهو دين الإسلام، أو النظر الصحيح الذي يوصلهم إلى الحق. مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي القرآن السَّاعَةُ القيامة أو الموت، أو أشراط الساعة بَغْتَةً فجأة يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم منفرد عن سائر الأيام لشدته، والمراد به يوم حرب يقتلون فيه، كيوم بدر لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم، أو لأنه لا خير فيه كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، أو هو يوم القيامة لا ليل بعده. الْمُلْكُ السلطان والتصرف يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، والتنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية، أي يوم تزول مريتهم لِلَّهِ وحده يَحْكُمُ يقضي بين الكافرين

سبب النزول:

والمؤمنين مُهِينٌ شديد مذل بسبب كفرهم. ويلاحظ أن إدخال الفاء في خبر الذين الثاني: فَأُولئِكَ دون الأول: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكفار مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: لَهُمْ عَذابٌ ولم يقل: في عذاب. سبب النزول: ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ورجوع كثير من مهاجرة الحبشة إلى مكة، ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. وذكروا روايات مختلفة، كلها من طرق مرسلة، وليست مسندة من وجه صحيح كما قال ابن كثير «1» . منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير: أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه يومئذ، فأنزل الله عليه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقرأ، حتى إذا بلغ إلى قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق «2» العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. فتكلم بها، ثم مضى بقراءة السورة كلها، ثم سجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية. ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا، فلما أمسى النبي صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين قال: ما جئتك بهاتين، فأوحى الله إليه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 229 (2) تلك الغرانيق إما الأصنام وإما إشارة إلى الملائكة أي هم الشفعاء، لا الأصنام لأن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم. [.....]

تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً فما زال مغموما حتى نزلت: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ. قال ابن العربي وعياض: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها «1» . وقال الرازي «2» : أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه منها قوله تعالى: قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس 10/ 15] وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم 53/ 4- 3] وقوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة 69/ 44- 46] فلو أنه قرأ عقيب آية النجم المذكورة: تلك الغرانيق العلا، لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. وأما السنة: فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا وضع من الزنادقة. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وأيضا: فقد روى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون، والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه: منها: أن من جوز على الرسول صلّى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

_ (1) انظر أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1288- 1290، تفسير القرطبي: 12/ 82 (2) تفسير الرازي: 23/ 50

التفسير والبيان:

قال الرازي: وأقوى الوجوه: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه، أي شرع الله، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. التفسير والبيان: تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، لكن المقطوع به أن النبي صلّى الله عليه وسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته، كما روى الثقات عنه، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلّى الله عليه وسلم، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنّوها من قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلّى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه «1» . وعلى هذا يكون معنى الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله، ألقى الشيطان في قراءته

_ (1) تفسير القرطبي: 12/ 82- 83

وتلاوته بعض الأقاويل والأباطيل. وقوله مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ دليل على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما كما في الكشاف: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. وقد ذكرت في المفردات التعريف المشهور والأصح للرسول والنبي وعدد الرسل والأنبياء. فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي فيزيل الله ما وسوس به الشيطان من الكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، ثم يجعل آياته محكمة محصّنة مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف أو الزيادة أو النقصان. وهذا يشبه محاولات بعض القساوسة اليوم دسّ بعض الأكاذيب والشبهات في مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقلب الحقائق، وتزييف الوقائع، وتأويل بعض الآيات على وجه غير صحيح، ثم تتبدد تلك المساعي الخبيثة، وتدحض تلك المفتريات على يد بعض العلماء الأثبات من المسلمين أو من غيرهم، وتدفن تلك الآراء المدسوسة في النشرات والكتب المدرسية وغيرها. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، وبما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وخلقه وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين، وتتبدد الظلمة في نفوس المنافقين، وهذا ما أبانه الله تعالى في موقف الفريقين، فقال: 1- لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي ليجعل ما يوسوس به الشيطان فتنة أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك وكفر ونفاق، وللمشركين أو اليهود المعاندين قساة

القلوب، حين فرحوا بإلقاء الشيطان بعض الكلمات، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم من المنافقين والكفار لفي مخالفة وعصيان، ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، وعناد بعيد من الحق والصواب. 2- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي ولكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه أن يختلط به غيره، فيصدقوا به وينقادوا له، وتخضع له قلوبهم، وتذل وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وآدابه وشريعته، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] . وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإن الله لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه بتأويل سليم للمتشابه في الدين، وتفصيل واضح للمجمل منه، وفي الآخرة يهديهم الطريق الصحيح الموصل إلى درجات الجنان، ويصرفهم عن دركات النيران. ومصير الفريق الأول ما قال تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ... عَقِيمٍ أي ولا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن أو من الرسول، فضمير مِنْهُ راجع إلى القرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لا يزال الكفار في ريب منه أي مما ألقى الشيطان في قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة أو مقدماتها أو

الموت، بغتة أي فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم القيامة أو يوم حرب مدمرة كيوم بدر. وجعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وإنما وصف يوم القيامة بالعقيم لأنه لا يأتي بعده ليل، ووصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم: أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم، على سبيل المجاز. قال ابن كثير: القول الأول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. والمراد بالآية أن الكفار ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون حتى يهلكوا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي السلطان والتصرف يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار، يقضي بينهم بالحق، وهو الحكم العدل جل شأنه، كما قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة 1/ 4] وقال عز وجل: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان 25/ 26] . ونتيجة الحكم تظهر ببيان جزاء كل من الفريقين، فقال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي فالذين آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا بمقتضى ما علموا من الأعمال الصالحة بإطاعة أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فأولئك لهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل

فقه الحياة أو الأحكام:

استكبارهم عن الحق، وإبائهم النظر في آيات القرآن، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] أي صاغرين. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- هذه تسلية أخرى من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم بعد قوله المتقدم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي فلا تحزن ولا تتألم لما يردده الكفار على لسان الشيطان، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء. 2- الآية تدل على إحكام الوحي وحفظ كتاب الله تعالى وحراسته من أقاويل الشيطان وأباطيله وخرافاته، فإنه إذا ألقى شيئا من الكلام في ثنايا آيات القرآن الكريم أو حديث النبي صلّى الله عليه وسلم في نفسه، فيبطل الله ما ألقى الشيطان، ويحكم آياته ويثبتها. فقوله تعالى تَمَنَّى وأُمْنِيَّتِهِ أي قرأ وتلا، وقراءته. وروى البخاري عن ابن عباس في ذلك: إذا حدّث- أي النبي- ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان. والمعنى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا حدّث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنّمك ليتسع المسلمون ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقي الشيطان، أي أن المراد حديث النفس. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. 3- إن في إلقاء الشيطان حكمة وهو أن يجعل فتنة أي ابتلاء واختبارا لفئتين هما المنافقون والمشركون، وهم الظالمون أنفسهم، والظالمون أي الكافرون لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلم.

4- قال الثعلبي في آية لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً..: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والغلط بوسواس الشيطان، أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبّه ويرجع إلى الصحيح وهو معنى قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ. ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما ينسب إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلّى الله عليه وسلم لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن، ثم ينشد شعرا، ويقول: غلطت وظننته قرآنا. 5- وحكمة أخرى لإلقاء الشيطان هي أن يعلم المؤمنون أن الذي أحكم من آيات القرآن هو الحق الصحيح الثابت من الله، فيؤمنوا به، وتخشع وتسكن قلوبهم، وإن الله يهدي المؤمنين إلى صراط مستقيم، أي يثبّتهم على الهداية. 6- سيظل الكفار في شك من القرآن أو من الدين وهو الصراط المستقيم، أو من الرسول، أو مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو لم يقله، فيقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير، ثم ارتدّ عنها؟ ويستمر الشك إلى وقت مجيء زمن الإيمان القسري أو الملجئ فجأة وهو إما يوم القيامة وإما الموت، وإما يوم الحرب كبدر، وذلك يوم عقيم. وقد تبين لدينا أن الراجح في تفسير اليوم العقيم هو يوم القيامة، قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له، وهو يوم القيامة. قال الرازي: وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ ويكون المراد يوم بدر لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر. ولا يكون هناك تكرار بينه وبين قوله السَّاعَةُ لأن الساعة من مقدمات القيامة، واليوم العقيم هو ذلك اليوم نفسه، كما أن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم. ويحتمل أن يكون المراد

وعده الكريم بالنصر والجنة للمهاجرين المقاتلين دفاعا عن النفس [سورة الحج (22) الآيات 58 إلى 60] :

بالساعة: وقت موت كل أحد، وبعذاب يوم عقيم: القيامة «1» . 7- الملك والسلطان لله وحده يوم القيامة، دون منازع، فهو الذي يقضي بالمجازاة بين العباد، ويكون قرار حكمه أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات في جنات النعيم، وأن الكافرين المكذبين بآيات القرآن في عذاب مهين. وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو يوم القيامة. وعده الكريم بالنصر والجنة للمهاجرين المقاتلين دفاعا عن النفس [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 60] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) الإعراب: وَمَنْ عاقَبَ: مبتدأ مرفوع، بمعنى الذي، وصلته: عاقَبَ وخبره: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. وليست مَنْ هاهنا شرطية لأنه لا لام فيها، كما في قوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف 7/ 18] . المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي تركوا أوطانهم في طاعة الله من مكة إلى المدينة. ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد. رِزْقاً حَسَناً هو الجنة. خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل المعطين، فإنه يرزق بغير حساب.

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 56

سبب النزول نزول الآية (60) :

مُدْخَلًا أي إدخالا، أو موضعا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة. لَعَلِيمٌ بنياتهم وبأحوالهم. حَلِيمٌ عن عقابهم، فلا يعاجلهم في العقوبة. ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو ذلك الذي قصصناه عليك. وَمَنْ عاقَبَ جازى من المؤمنين. أي جازى الظالم بمثل ظلمه. بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ظلما من المشركين، أي قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام، ولم يزد في الاقتصاص. وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو الجزاء عقابا للازدواج والمشاكلة، أو لأنه سببه. ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ منهم، أي ظلم بإخراجه من منزله. لَعَفُوٌّ عن المؤمنين. غَفُورٌ لهم عن قتالهم في الشهر الحرام. وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة، فإنه تعالى مع كمال قدرته يعفو ويغفر، فغيره بذلك أولى، وفيه أيضا تنبيه على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده. سبب النزول: نزول الآية (60) : ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ..: أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مقاتل أنها نزلت في سرية بعثها النبي صلّى الله عليه وسلم، فلقوا المشركين لليلتين من المحرم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة، وذكروهم بالله أن لا يتعرضوا لقتالهم، فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، ونصروا عليهم، فنزلت هذه الآية. وروى مجاهد أيضا أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة، فتبعهم المشركون فقاتلوهم. وظاهر الكلام للعموم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين الجنات، أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين

التفسير والبيان:

المجاهدين، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم. ثم ذكر وعدا كريما آخر لمن قاتل مبغيا عليه دفاعا عن نفسه، بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن، وابتدئ بالقتال. التفسير والبيان: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي والذين خرجوا مهاجرين في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وديارهم ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لما عنده، ثم قتلوا في الجهاد، أو ماتوا حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، وليمنحنهم الله الجنة، وليرزقنهم من فضله منها، إن الله خير المعطين الرازقين، يعطي من يشاء بغير حساب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء 4/ 100] . وهذا الرزق الحسن كما قال تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ أي ليدخلن هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيله موضعا كريما يرضونه وهو الجنة، كما قال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة 56/ 88- 89] أي يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم. وإن الله لعليم بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، فهو عليم بالنيات والمقاصد والأحوال، وحليم أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، ولا يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة، ليترك لهم الفرصة للتوبة والإنابة والإيمان بالله تعالى. ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ.. لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا، ومن قوتل ظلما، وجازى من المؤمنين من اعتدى عليه من المشركين، ثم بغي عليه بإلجائه إلى الهجرة ومفارقة

فقه الحياة أو الأحكام:

الوطن، وابتدائه بالقتال، لينصرنه الله نصرا مؤزرا، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي إن الله ليصفح عن المؤمنين ويغفر لهم خطأهم إذا تركوا ما هو الأجدر بهم وهو العفو والمغفرة عن المسيء. وفيه حث على العفو عن الجاني، كما قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى 42/ 43] وقال: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى 42/ 40] وقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] وفيه دلالة على أنه سبحانه بذكر العفو والمغفرة قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده، كما بينا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على مزية صنفين من الناس: المهاجرين، والمقاتلين دفاعا عن أنفسهم. أما المهاجرون: فهم الذين تركوا ديارهم وأوطانهم وأموالهم، وفارقوا مكة إلى المدينة، حبا في طاعة الله تعالى، وابتغاء رضوانه، فلهم من الله الفضل العظيم، والعطاء العميم، والرزق الحسن وهو الجنة، سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا من غير قتال. وأكد تعالى ذلك بقوله: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ أي الجنان. والله عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم. أما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه شهيد حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران 3/ 169] . وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه. روي عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقتول في سبيل الله، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل، هما في الأجر شريكان» «1» .

_ (1) روى النسائي حديثا في معناه عن العرباض بن سارية.

من دلائل قدرة الله تعالى [سورة الحج (22) الآيات 61 إلى 66] :

وأما المقاتلون المدافعون عن أنفسهم: فإن الله وعدهم بالنصر في الدنيا، لبغي الكفار عليهم، وإن الله عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام، وستر ذلك عليهم. وسمي جزاء العقوبة عقوبة في قوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ لاستواء الفعلين في الصورة، مثل: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] ومثل: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] . من دلائل قدرة الله تعالى [سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 66] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)

الإعراب:

الإعراب: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ تصبح: مرفوع لا منصوب، محمول على معنى أَلَمْ تَرَ ومعناه: انتبه يا ابن آدم! أنزل الله من السماء ماء، ولو صرح بقوله: انتبه، لم يجز فيه إلا الرفع، فكذلك ما هو بمعناه. البلاغة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ.. الآية: امتنان بتعداد النعم، والاستفهام للتقرير. يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بينهما طباق. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ صيغة مبالغة أي مبالغ في الجحود. المفردات اللغوية: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ أي ذلك النصر بسبب أنه قادر على أن يدخل كلا من الليل والنهار في الآخر، بأن يزيد به، وقادر على تغليب بعض الأمور على بعض. سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع أقوال عباده المؤمنين والكفار، بصير بما يصدر عنهم من أفعال. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الوصف بكمال القدرة والعلم، والنصر أيضا، بسبب أن الله هو الثابت في نفسه، الواجب لذاته وحده، فإن وجوب وجوده، ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه، عالما بذاته وبما عداه، أو الثابت الألوهية، ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما. مِنْ دُونِهِ إلها من الأصنام. هُوَ الْباطِلُ الزائل، المعدوم في حد ذاته، أو باطل الألوهية. الْعَلِيُّ العالي على الأشياء بقدرته. الْكَبِيرُ عن أن يكون له شريك، ولا شيء أعلى منه شأنا، وأكبر منه سلطانا، وهو الذي يصغر كل شيء سواه. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي ألم تعلم أن الله أنزل مطرا من السماء وهو استفهام تقرير، ولذلك رفع فَتُصْبِحُ.. عطف على أَنْزَلَ إذ لو نصب جوابا للاستفهام، لدل على نفي الاخضرار، كما في قولك: ألم تر أني جئتك فتكرمني، فإن نصبت فأنت ناف لتكريمه، وإن رفعته فأنت مثبت للتكريم، والمقصود إثباته. وإنما عدل ب فَتُصْبِحُ المضارع عن صيغة الماضي، للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. لَطِيفٌ بعباده يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق ومنه إخراج النبات. خَبِيرٌ بالتدابير الظاهرة والباطنة، وبما في قلوب العباد، ومنه قلقهم عند تأخير المطر. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا. الْغَنِيُّ في ذاته عن كل شيء. الْحَمِيدُ المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.

المناسبة:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ألم تعلم أن الله جعل جميع ما في الأرض مذللة لكم، معدّة لمنافعكم. وَالْفُلْكَ السفن. عطف على ما أو على اسم أَنَّ. تَجْرِي فِي الْبَحْرِ للركوب والحمل، والجملة: حال من الْفُلْكَ، أو خبر. الْفُلْكَ على قراءة الرفع على الابتداء. بِأَمْرِهِ بإذنه. أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ من أن تقع أو لئلا تقع، يأن خلقها على صورة متينة مستمسكة. إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد على القول باستمساكها بذاتها. رَحِيمٌ بتسخير ما في الأرض، وإمساك السماء، والتهيئة لعباده أسباب الاستدلال، وفتح أبواب المنافع عليهم، ودفع أنواع المضارّ عنهم. أَحْياكُمْ بالإنشاء بعد أن كنتم جمادا: عناصر ونطفا. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة عند البعث. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لجحود للنعم مع ظهورها، تارك توحيد الله تعالى. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى عظيم قدرته على تحقيق النصر للمؤمنين، أتى بأنواع من الدلائل على قدرته البالغة، من إيلاج الليل في النهار وبالعكس وخلقه لهما وتصرفه فيهما وعلمه بما يجري فيهما، وإنزال المطر لإنبات النبات، وخلقه السموات والأرض وملكه لهما، وتسخيره ما في الأرض والفلك، وإمساك السماء من الوقوع على الأرض، والإحياء والإماتة ثم الإحياء. التفسير والبيان: أورد الله تعالى في هذه الآيات أنواعا من الدلائل على قدرته البالغة وعلمه الشامل، ومن كان قادرا على كل شيء، عالما بكل شيء، كان قادرا على النصر، فقال: 1- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ذلك النصر المذكور بسبب أنه قادر على كل شيء، فهو يولج ويدخل الليل في النهار ويولج ويدخل النهار في الليل، بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر، فيزيد في أحدهما من الساعات ما ينقص من الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر

النهار كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف، فالقادر على ذلك قادر قطعا على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع، ومجازاة العاصي. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء أو قول، بصير بكل عمل أو حال، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا يعني أن الله تعالى هو الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، كما قال: قُلِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمران 3/ 26- 27] . وعلة هذه القدرة الفائقة ما قال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ أي ذلك الوصف المتقدم من القدرة الكاملة والعلم التام لله تعالى لأجل أن الله هو الحق، أي الموجود الثابت الواجب لذاته، بلا مثيل ولا شريك، بمعنى أنه هو مصدر الوجود، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له لأنه ذو السلطان العظيم، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، وأن ما يعبدون من دونه من الآلهة من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من غير الله هو باطل، لا يقدر على صنع شيء، ولا يملك ضرا ولا نفعا لأنه عاجز ضعيف، ومصنوع مخلوق لربه القادر. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ولأن الله تعالى المتعالي على كل شيء بقدرته وعظمته، الكبير عن أن يكون له شريك، إذ هو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه، ولا أعز ولا

أكبر منه سلطانا، كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة 2/ 255] وقال: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد 13/ 9] . والمقصود: كيف يصح لعبدة الأصنام وأمثالها عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ويتركون عبادة من بيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء؟! 2- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة، فتصبح زاهية نضرة، مخضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة، والأشكال الرائعة، بعد يبسها وجمودها، قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا. وقوله: مُخْضَرَّةً أي ذات خضرة، على وزن مفعلة كمبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي إن الله رحيم لطيف بعباده، يدبر لهم أمر المعاش، وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء، عليم بما في أنحاء الأرض من الحب مهما صغر، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم، لا يخفى عليه خافية، فيحقق لهم المصلحة بتدبيره، كما قال تعالى حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] وقال سبحانه: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] . 3- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ جميع ما في السموات وما في الأرض لله سبحانه خلقا وملكا وعبيدا، أي جميع الأشياء هي

مخلوقة له، مملوكة له، عبيد له، منقادة خاضعة لأمره، متصرف فيها كيف يشاء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه. وهذا دليل آخر على القدرة الإلهية الشاملة. 4- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي ألم تعلم أن الله ذلل لكم أيها البشر جميع ما في ظاهر الأرض وباطنها، من حيوان وجماد ومعدن وزروع وثمار، لينتفع بها الإنسان في مصالحه المختلفة، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية 45/ 13] أي من إحسانه وفضله وامتنانه. وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي وسخر لكم السفن، جارية في البحار، لنقل الركاب والبضائع، بتسخيره وتسييره، متنقلة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، فيتم تبادل الحوائج والمنافع، ويتعايش الناس متعاونين، يحققون بها ما يحتاجون إليه ويريدون. وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي ويحفظ السماء بما فيها من كواكب ونجوم بالجاذبية، وبتخصيص مدار ثابت خاص لكل منها، بمشيئته وإرادته، ولو شاء لأذن للسماء، فسقطت على الأرض، فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء من أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأمره، وذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب وتتصدع السموات، كما قال تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 1- 2] ولولا هذا النظام الدقيق لا لاصطدمت الكواكب ببعضها، ودمرت الأرض بما عليها، لذا قال: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم، فمتعهم بجمال السماء والأرض، وأرشدهم إلى الاستدلال بآيات الكون على وجوده ووحدانيته.

فقه الحياة أو الأحكام:

5- وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي وهو الذي أحياكم من العدم، وخلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم وأعماركم، والموت ستر ونعمة، ثم يحييكم بالبعث يوم القيامة. ويلاحظ اختيار الصيغ المناسبة للتعبير، فهو أولا عبر بالماضي لأنه تم وحدث، ثم أشار إلى المرحلة المرتقبة وهو الموت، ثم الحياة الجديدة في عالم الآخرة. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي إن الإنسان جحود نعم الله تعالى، فلم يقدر تلك النعم، ويهتدي بها إلى عبادة الله وتوحيده، وهجر كل ما عداه من الآلهة المزعومة، وهو مثل قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] . ونظير الآية قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة 2/ 28] وقوله: قُلِ: اللَّهُ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية 45/ 26] . فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات الاستدلال على كمال قدرته تعالى وكمال علمه، وتلك الأدلة هي ما يأتي: 1- من آيات قدرة الله البالغة كونه خالقا لليل والنهار، ومتصرفا فيهما، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما، وإذا كان قادرا عليما، كان قادرا على نصر من شاء من عباده، يفعل ما يلائم الحكمة والمصلحة، فهو يسمع الأقوال، ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة، ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها. 2- ذلك الوصف المتقدم من قدرة الله على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق أي الموجود الواجب لذاته، الذي يمتنع عليه التغير والزوال، فيأتي بالوعد

والوعيد. أو أنه ذو الحق، فدينه الحق، وعبادته حق، والمؤمنون بحق يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق. وأما الأصنام فلا استحقاق لها في العبادات، والله هو العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. وهو الكبير المتعال أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن، الكبير عن أن يكون له شريك. 3- ومن الأدلة على كمال قدرته إنزال المطر وإنبات النبات ذي الخضرة البديعة، السارّة لكل عين وقلب، ومن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت كما قال الله عز وجل: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج 22/ 5] . وقوله فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قال ابن عباس: خبير بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. وهو لطيف بأرزاق عباده. 4- لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وعبيدا، وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه، وإن الله لهو الغني الحميد، فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود على كل حال، والكل منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه، وهو غني عن الأشياء كلها، وعن حمد الحامدين أيضا لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور. 5- هناك نعم كثيرة من الله على عباده تدل أيضا على قدرته ورحمته

ولطفه، منها أنه سخر (ذلل) لعباده كل ما في الأرض مما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 2/ 29] . وسخر لكم الفلك في حال جريها، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان 31/ 31] وتسخير الفلك: بتسخير الماء والرياح لجريها. وهو تعالى يمسك السماء لئلا تقع على الأرض، فيهلك الناس، إلا بإذن الله لها بالوقوع أو السقوط، فتقع بإرادته وتخليته، إن الله بالناس لرؤوف رحيم في هذه الأشياء التي سخرها لهم. 6- ومن دلائل القدرة الإلهية: الإحياء والإماتة، فالله هو الذي خلقنا بعد أن كنا نطفا، ثم يميتنا عند انقضاء آجالنا، ثم يحيينا للحساب والثواب والعقاب، ولكن الإنسان لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته تعالى. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام، وجماعة من المشركين. والأولى- كما ذكر الرازي- تعميمه في كل المنكرين، وإنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفران النعم، كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ زجر للإنسان عن الكفران، وبعث له على الشكر.

لكل أمة شريعة ومنهاج ملائمان [سورة الحج (22) الآيات 67 إلى 70] :

لكل أمة شريعة ومنهاج ملائمان [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) البلاغة: فَلا يُنازِعُنَّكَ نهي يراد به النفي، أي لا ينبغي لهم منازعتك، فقد ظهر الحق وقامت أدلته. المفردات اللغوية: مَنْسَكاً شريعة ومنهاجا ومتعبدا ناسِكُوهُ عاملون به فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي لا ينبغي لهم أن ينازعوك في أمر الدين، ومنه أمر الذبيحة، إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم لأنهم إما جهال وأهل عناد، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى دينه وتوحيده وعبادته هُدىً مُسْتَقِيمٍ طريق إلى الحق سويّ أو دين قويم. وَإِنْ جادَلُوكَ في أمر الدين، وقد ظهر الحق، ولزمت الحجة فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من المجادلة الباطلة وغيرها، فمجازيكم عليها، وهو وعيد فيه رفق. يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب يوم القيامة، كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، بأن يقول كل فريق خلاف قول الآخر. أَلَمْ تَعْلَمْ استفهام تقرير يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء إِنَّ

سبب النزول:

ذلِكَ فِي كِتابٍ أي إن ما ذكر هو في اللوح المحفوظ مسجل فيه قبل حدوثه، فلا يهمنك أمرهم، مع علمنا به، وحفظنا له. إِنَّ ذلِكَ إن علم ما ذكر والإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء. سبب النزول: قيل نزلت هذه الآية بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وهم كفار خزاعة، قالوا للمسلمين: تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، أو مالكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟! فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. المناسبة: بعد أن عدد الله تعالى نعمه، وأبان أنه رؤف رحيم بعباده، وإن كان منهم من يكفر بالله ولا يشكر النعمة، أتبعه بذكر نعمه بما كلّف، فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ أي لكل أمة شريعة خاصة، وفيه زجر من نازع النبي صلّى الله عليه وسلم، بتمسكهم بما شرعوا من الشرائع، ثم أمره بالثبات على دينه الحق، فالله يحكم بين العباد يوم المعاد. التفسير والبيان: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا هم عاملون به، أي شريعة، ومتعبّدا، ومنهاجا صالحا، يتلاءم مع مقتضيات الزمان والمكان، ومع سنة التدريج والتطور ونضوج العقل البشري، فأنزل التوراة على موسى بنحو من الشدة، لعلاج التمسك بالمادة، ثم أنزل الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وإشاعة المحبة، والعناية بجوهر الدين، لا بمجرد المظاهر والشكليات والطقوس، ثم أنزل القرآن حينما نضج العقل البشري، لإرساء معالم دستور الحق، والجمع بين العناية بالمادة والروح، والتركيز على معايير

العلم، واستخدام العقل، فكان أول دين يضع أسس الحضارة الإنسانية الشاملة، وكان تشريعه وسطا بين الشرائع، وكانت هذه الأديان صالحة للزمان الذي جاءت فيه. فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي إذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع، فلا ينبغي لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين، فلكل أمة شريعة خاصة تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ثم جاء هذا القرآن ناسخا تلك الشرائع التي لم تعد صالحة للعمل بها، وأدت دورها، وكانت مقصورة على أتباعها المتقدمين. فلا تتأثر يا محمد بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق، واثبت على دينك ثباتا لا يتزعزع ولا يلين. والمراد بذلك تهييج حمية الرسول صلّى الله عليه وسلم، والمبالغة في تثبيته على دينه. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي وادع هؤلاء المنازعين وغيرهم، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق، فإنك على طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود، وهو سعادة الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص 28/ 87] . وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى طريقة المراء والجدال بالباطل، بعد أن ظهر الحق، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ومجاز كل واحد بعمله، وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] وقوله سبحانه: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأحقاف 46/ 8] لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا اللون من الوعيد والتحذير، لذا قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي الله يقضي بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما اختلفتم فيه من أمر العقيدة والدين، بالجزاء الحاسم المتردد بين الجنة والنار، والثواب والعقاب، الأول لمن قبل، والثاني لمن رفض، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل، والمحق من المبطل. والخلاصة: إن الآيات آمرة باستمرار الدعوة إلى شرع الله ودينه، وعدم التمييز بين الناس، دون مبالاة بجدل المرائين وعرقلة المتخلفين، فإن الداعي على حق أبلج، كما قال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى 42/ 15] . ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بخلقه وعلمه بالكائنات كلها قبل خلقها وبما يستحقه كل من المسيء والمحسن، فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لقد علمت أيها الرسول- والخطاب وإن كان معه، فالمراد سائر الناس- أن علم الله محيط بما في السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. وكتابة كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعلمه الشامل، وفصله بين عباده يوم القيامة يسير سهل عليه. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- لكل أمة من الأمم المتقدمة شريعة خاصة بها، صالحة لزمانها، أي أنه

كانت الشرائع في كل عصر، ومن الخطأ البيّن التمسك بما كان للأولين من شريعة التوراة والإنجيل لأن القرآن نسخ ما قبله من الشرائع. 2- إن خاصم الناس بالباطل، كمخاصمة مشركي مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم، فليقل المؤمن: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب، وهذا أمر من الله تعالى لنبيه بالإعراض عن مماراة قومه، صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد، فإنهم إن أبوا إلا المجادلة بعد الاجتهاد بتسوية النزاع، فليدفعوا بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها، وبما تستحقون عليها من الجزاء، فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين. 3- الله تعالى هو الذي يحكم بين النبي صلّى الله عليه وسلم وقومه، وبين المؤمنين والكافرين فيما يختلفون فيه من أمر الدين، فيعرف حينئذ الحق من الباطل. قال القرطبي: في هذه الآية أدب حسن علّمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم. 4- على النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده الدعوة إلى دين الله الحق، فإن هذا الدين طريق واضح مستقيم مؤد إلى المقصود، وعلى كل داعية إلى الله وتوحيده وعبادته ألا يعبأ بالعثرات، وألا يهتم بمراء المجادلين، ومحاولاتهم الوقوف في وجه الدعوة. 5- الله عليم بأحوال الناس وبما هم مختلفون فيه، وإن كل ما يجري في العالم هو مكتوب عند الله في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وإن العلم الشامل بما في السماء والأرض، والفصل بين المختلفين يسير جدا على الله تعالى. ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»

بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة [سورة الحج (22) الآيات 71 إلى 76] :

وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما اكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . فما العباد عاملون قد علمه الله تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علما، وهو سهل عليه. بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة [سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 76] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

الإعراب:

الإعراب: قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ النَّارُ: إما خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي النار، ووَعَدَهَا اللَّهُ: استئناف كلام، وإما أن يكون مبتدأ، والجملة الفعلية: وَعَدَهَا اللَّهُ خبره. وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ منصوب على الحال بَيِّناتٍ حال. البلاغة: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ فيه استعارة، أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح، مثل: عرفت في وجه فلان الشر. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً تمثيل، أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة. وقد سمي الذي جاء به مثلا تشبيها للصفة ببعض الأمثال. المفردات اللغوية: وَيَعْبُدُونَ أي المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبرهانا سمعيا يدل على جواز عبادته وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي حجة عقلية أنها آلهة، سواء أكان العلم من ضرورة العقل أو استدلاله وَما لِلظَّالِمِينَ بالإشراك مِنْ نَصِيرٍ أي ناصر ومعين يقرر مذهبهم أو يدفع عنهم العذاب. آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الإلهية الْمُنْكَرَ المستنكر من التجهم والانتفاخ، أو الإنكار لها، كالمكرم بمعنى الإكرام، أي أثره من الكراهة والعبوس ودلالة الغيظ والغضب، لفرط نكيرهم للحق، وهذا منتهى الجهالة. وإشعارا بذلك وضع الَّذِينَ كَفَرُوا موضع الضمير يَسْطُونَ أي يبطشون بهم من شدة الغيظ. بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين، وبأكره إليكم من القرآن المتلو عليهم النَّارُ هو النار، كأنه جواب سائل قال: ما هو؟ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بأن مصيرهم إليها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هي النار. يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة وغيرهم ضُرِبَ مَثَلٌ بيّن لكم حال مستغربة أو قصة رائعة أو جعل، ولذلك سماها مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال، والمثل: الشبه. فَاسْتَمِعُوا لَهُ للمثل أو

المناسبة:

لبيانه استماع تدبر وتفكر إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدون غيره وهم الأصنام ذُباباً اسم جنس، يقع على المذكر والمؤنث، واحده: ذبابة وجمعه أذبّة وذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان، وسمي به لكثرة حركته. وقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على المنافاة بين المنفي والمنفي عنه وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟!. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً من الطيب والزعفران الملطخين به لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لا يستردوه منه لعجزهم، فكيف يعبدون شركاء لله تعالى؟ هذا أمر مستغرب، عبر عنه بضرب المثل ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ العابد والمعبود. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظموه حق عظمته، إذ أشركوا به العاجز عن دفع الذباب عنه والانتصاف منه لَقَوِيٌّ قادر على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ غالب يَصْطَفِي يختار إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي إن الله سميع لمقالتهم، مدرك للأشياء كلها، بصير بمن يتخذه رسولا كجبريل وميكائيل وإبراهيم ومحمد وغيرهم عليهم السلام. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما قدموا وما أخروا وما عملوا وما هم عاملون بعد وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مرجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات، لا يسأل عما يفعل من اصطفاء الرسل وغيره، وهم يسألون. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بكل شيء، بيّن أن عبادة المشركين لغير الله تعالى لا تعتمد على دليل نقلي أو عقلي، وهم مع جهلهم وغباوتهم إذا أرشدوا إلى الحق ودليله، وتلي عليهم القرآن، ظهر في وجوههم الغيظ والغضب، وهموا أن يبطشوا بمن يتلو ويذكّرهم، ولكن ما ينالهم من النار أعظم مما يحصل لهم من الغم حين تلاوة الآيات. ولما بين أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم، ذكر ما يدل على إبطال قولهم وجهلهم بعظمة الإله، ثم انتقل من الإلهيات إلى النبوات، وأبان أنه يختار الرسل من الملائكة والناس ممن يعلم أنه الأكفاء والأوفق: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه بعض أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخافتهم فيقول تعالى: 1- وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي ويعبد هؤلاء المشركون آلهة من غير الله، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على عبادتها، فهو تعالى لم ينزل من السماء بجواز عبادتها حجة ولا برهانا، وهو المقصود بالدليل النقلي السمعي، والمراد من قوله: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وليس لهم دليل عقلي وهو المراد بقوله: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وإذا لم يكن هناك دليل مقبول، فهو عن تقليد للآباء والأسلاف، أو عن جهل وشبهه، وكل ذلك باطل. ونظير الآية قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون 23/ 117] . وفي الآية إشارة إلى أن الكافر قد يكون كافرا، وإن لم يعلم كونه كافرا، ودلالة على فساد التقليد القائم على الجهل. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي ليس للكافرين الظالمي أنفسهم من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العقاب أو العذاب. 2- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي وإذا ذكرت للمشركين آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأن لا إله إلا الله، وأن رسله الكرام حق وصدق، ظهرت على وجوههم دلالة الغيظ والغضب، وامتلأت قلوبهم حقدا ونفورا. يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يكادون أو يقاربون

يبطشون بالذين يحتجون عليهم بدلائل القرآن الصحيحة، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء. وهذا يدل على غليان قلوبهم بالكفر، وسيطرة الجهالة والعناد والكفر عليها، حتى أصبحوا ميئوسا من علاجهم، وصاروا متمردين على الأنبياء والمؤمنين. قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مقابلة لوعيدهم: ألا أخبركم بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ هو النار التي وعدها الله للكافرين، فعذابها ونكالها أشد وأشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، بل هو أعظم مما تنالون منهم فعلا، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم، وبئس المصير، أي وبئس النار موئلا ومقاما لكم، كما قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان 25/ 66] . ثم نبه الله تعالى على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها، وبيان حال هذه الأشباه والأمثال لله في زعمهم، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا أي يا أيها البشر قاطبة جعل مثل أي شبه لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، فأنصتوا وتفهموا حال تلك المعبودات، وإذا فهم حالها يكون حال عابديها أسوأ، فهم كالأصنام وأسوأ منها، وحالها هو: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد لن يقدروا على خلق ذبابة واحدة، حتى ولو تعاون واجتمع لهذه المهمة جميع تلك المعبودات. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة» ورواه الشيخان بلفظ آخر: «قال الله عز وجل: من أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة» .

وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي كما أنهم عاجزون عن خلق ذبابة واحدة، هناك ما هو أبلغ من ذلك عاجزون من مقاومته والانتصار منه، فلو سلبوا شيئا مما عليها من الطيب، لا تقدر أن تستنقذوه منه، علما بأن الذباب أضعف مخلوقات الله، لذا قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي عجز الطالب وهو الإله المعبود من استنقاذ الشيء المسلوب من الذباب المطلوب، أو ضعف عابد الصنم، والصنم المعبود. وهذا يدل على جهالتهم وغباوتهم لأن العابد يتأمل عادة النفع أو دفع الضّرّ من المعبود، وعابد الصنم لا يحقق لنفسه شيئا، مما يدل على حقارة الصنم وضعفه، وغباء عابده، فكيف يصح جعله مثلا لله في العبادة. ثم قال تعالى مؤكدا عبثهم وجهلهم وعدم معرفتهم حق الله تعالى: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي ما عرفوا قدر الله وعظمته، وما عظموه حق التعظيم، حين عبدوا معه غيره، كهذه المخلوقات الجمادات التي لا تقاوم الذباب لضعفها. والله هو القوي القادر الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، العزيز الذي عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يغالب ولا يمانع، لعزته وعظمته وسلطانه، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم. ونظائر الآية كثير منها: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج 85/ 12- 13] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] . ثم انتقل بيان الله تعالى من الإلهيات إلى النبوات فقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ أي أن الله يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء، ومن الناس لإبلاغ الرسالة إلى العباد،

فقه الحياة أو الأحكام:

حسبما يشاء وعلى وفق ما يريد. قيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي سميع لأقوال عباده، بصير بهم، عليم بمن يستحق اختياره للرسالة. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، ما مضى منها، وما يأتي فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إلى قوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن 72/ 26- 28] . وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه وهذا إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالألوهية والحكم. وقوله يَعْلَمُ.. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يتضمن مجموعها الزجر عن الإقدام على المعصية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن عبدة الأوثان مثل كفار قريش يعبدون من غير الله آلهة، ليس لهم دليل سمعي نقلي أو عقلي، لذا توعدهم ربهم بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي ناصر ومعين. 2- إن تأصل الكفر والعناد والاستكبار في نفوس أولئك الكفرة، جعلهم في أشد حالات الغضب والعبوس والحقد إذا تليت عليهم آيات القرآن، ويكادون

يبادرون إلى البطش الشديد بمن يحتج عليهم بدلائل القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء. 3- أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يقابل وعيدهم بقوله: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع وأكره من تخويفكم المؤمنين وبطشكم بهم ومن هذا القرآن الذي تسمعون؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها، وعدها الله الذين كفروا يوم القيامة، وبئس المصير، أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار. فهذا وعيد لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. 4- ضرب الله مثلا لحال الكفار وأصنامهم لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم، وهو في الحقيقة ليس مثلا، وإنما هو لما في صفتهم وحالهم من الاستغراب والتعجب سمي مثلا، تشبيها لتلك الصفة ببعض الأمثال السائرة. والمعنى: ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره فكأنه قال: جعلوا لي شبيها في عبادتي، فاستمعوا خبر هذا التشبيه. فالكفار هم ضاربو المثل. أو أن المعنى: يا أيها الناس، هذا مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا، وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه، أي أن الله هو ضارب المثل. والأدق في المعنى: ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، أي بيّن الله لكم شبها ولمعبودكم، فالمثل يشمل العابد والمعبود. 5- المثل: هو أن الذين تعبدون من دون الله وهي الأوثان التي كانت حول الكعبة، وعددها ثلاث مائة وستون صنما، لن يقدروا أن يخلقوا ذبابة واحدة،

ولن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم أمام ذبابة إذا أراد أن يأخذ شيئا مما عليها- على الأوثان- من الطيب والزعفران الذي كانوا يطلون به أصنامهم. لقد ضعف وعجز الطالب وهو الآلهة، والمطلوب: وهو الذباب، أو عابد الصنم والصنم المعبود، فالطالب: يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم: المطلوب إليه. 6- ما عظّم هؤلاء المشركون الله حق عظمته، حيث جعلوا هذه الأصنام العاجزة شركاء له، وهو القادر القهار، القوي العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، ومن يجرأ على مغالبته؟!. 7- الاختيار المطلق لله عز وجل في اصطفاء الملائكة يتوسطون لإبلاغ الوحي إلى الأنبياء، وفي اصطفاء الرسل من البشر لتبليغ الرسالة إلى الناس. والمراد بالآية: إن الله اصطفى محمدا صلّى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة فليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بمن يختاره من خلقه لرسالته. وهو سبحانه عليم بكل ما قدموا وما خلفوا، وإليه وحده مرجع الأمور كلها، فيجازي العباد على أعمالهم.

أوامر التشريع والأحكام [سورة الحج (22) الآيات 77 إلى 78] :

أوامر التشريع والأحكام [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الإعراب: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ مِلَّةَ: إما منصوب بفعل مقدر، أي اتبعوا ملة أبيكم، وإما منصوب على البدل من موضع الجار والمجرور، وهو قوله: فِي الدِّينِ لأنه منصوب بجعل. وإما منصوب بنزع الخافض وهو الكاف، أي كملة أبيكم إبراهيم، أي وسع عليكم في الدين كملة إبراهيم، وهذا بعيد. ويجوز نصبه على الإغراء أو على الاختصاص. وإِبْراهِيمَ: عطف بيان. هُوَ سَمَّاكُمُ ... وَفِي هذا هُوَ: يراد به الله تعالى، أو يراد به إبراهيم. وَفِي هذا: أي سماكم المسلمين في هذا القرآن، وفاعل سَمَّاكُمُ ضمير يعود على الله أو على إبراهيم. البلاغة: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، أي صلوا باعتبار الركوع والسجود من أهم أركان الصلاة. ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه ذكر العام بعد الخاص للعناية بشأن الخاص، ثم ذكر الأعم. المفردات اللغوية: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي صلوا. وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وحّدوه وتعبّدوه بسائر ما تعبدكم به. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أي افعلوا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون، كنوافل الطاعات، وصلة

الأرحام، ومكارم الأخلاق. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا هذه كلها، وأنتم راجون الفلاح، غير متيقنين له. والآية آية سجدة عند الشافعية، لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فضلت سورة الحج بسجدتين، من لم يسجدهما، فلا يقرأهما» . وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في سبيله ومن أجله أعداء دينه. حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا حقا خالصا لوجهه، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم. وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه مختص بالله. والجهاد: استفراغ الوسع في مجاهدة العدو، وهو ثلاثة أنواع: مجاهدة العدو الظاهر كالكفار، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس والهوى، وهذه أعظمها، فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: «قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» . وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه رجع من غزوة تبوك، فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «1» . هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه ولنصرته، وفيه تنبيه على مقتضي الجهاد والداعي إليه. حَرَجٍ ضيق وعسر ومشقة، بتكليفكم ما يشق عليكم، بأن سهله عند الضرورات، كقصر الصلاة الرباعية، والتيمم، وأكل الميتة، والفطر للمريض والمسافر. وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لأحد في ترك التكليف، فهو إما عزيمة، وإما رخصة، قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» . مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي شريعته، وإنما جعل أبا للمسلمين لأنه أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو كالأب لأمته، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته، فغلّبوا على غيرهم. مِنْ قَبْلُ أي من قبل القرآن في الكتب المتقدمة. وَفِي هذا أي القرآن. هُوَ سَمَّاكُمُ الضمير يعود إلى الله، بدليل قراءة: الله سماكم أو لإبراهيم، لقوله المتقدم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بسماكم. شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة بأنه بلّغكم، فيدل على قبول شهادته لنفسه، اعتمادا على عصمته. وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل إليهم، أي تكونوا أنتم شهداء على الناس أن رسلهم بلّغوهم. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات، لما خصكم بأنواع الفضل والشرف. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي وثقوا به في مجامع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه. هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم. فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هو إذ لا مثل له في الولاية والنصرة، بل لا مولى ولا ناصر سواه في الحقيقة.

_ (1) انظر تخريج الحديث ودرجة ضعفه في كشف الخفا.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن تكلم الله تعالى في الإلهيات، ثم في النبوات، أتبعه بالكلام في الشرائع والأحكام من نواح أربع هي: 1- تعيين المأمور: وهم المكلفون: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. 2- وأقسام المأمور به: وهي أربعة: الصلاة، وعبادة الله وحده، وفعل الخير، والجهاد. 3- وما يوجب قبول تلك الأوامر: وهو ثلاثة: الاجتباء، وكون التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتكم مسلمين في القرآن وسائر الكتب المتقدمة عليه. 4- تأكيد ذلك التكليف بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله تعالى، أي الاستعانة به. التفسير والبيان: هذه أوامر تكليفية إلهية يراد بها توثيق الصلة بالله تعالى، وتهذيب النفس، وجهاد الأعداء، وإقامة صرح العدالة الاجتماعية في شرع الله ودينه، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تُفْلِحُونَ أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، وآمنوا باليوم الآخر صلوا صلاتكم المفروضة المشتملة على الركوع (الانحناء لله عز وجل) والسجود (الخضوع بأشرف أجزاء الإنسان وهو الوجه لله تعالى) واعبدوه بسائر ما تعبدكم به كمناسك الحج والصيام ونحوها، وتحروا فعل الخير الذي يرضي ربكم ويقربكم منه من أداء نوافل الطاعات، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق، وهذا يشمل كل فضيلة في الإسلام، وفعل الخيرات عام للتكاليف جميعها، يشمل

ما يصلح علاقة العبد بالرب، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض. لذا جمعت الآية أسمى درجات التهذيب النفسي والاجتماعي، فكل ما أمر الله به خير، لذا قال معللا ذلك الأمر بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا أو افعلوا هذا راجين الفوز والفلاح بما عند الله من الثواب والرضوان. والفلاح: الظفر بنعيم الآخرة. وتأكيدا لإعداد الذات المؤمنة وتهذيبها، وصونا للجماعة المؤمنة من كيد أعدائها أمر الله بالجهاد، فقال: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي وجاهدوا في سبيل نصرة دين الله، ومن أجل إرضاء الله، جهادا حقا خالصا لوجهه الكريم، لا يشوبه رياء، ولا يثني عنه لوم لائم، فالجهاد في الله: معناه الجهاد في سبيله ومن أجل دينه، والأولى أن يحمل الجهاد على المعنى العام الذي يشمل جميع أنواعه. والجهاد أنواع ثلاثة كما بينا: جهاد النفس والهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار المعتدين والمنافقين المرجفين. ويكون الجهاد الأخير بالأموال والألسن والأنفس، أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» وجهاد اللسان يكون بالحجة والبيان والاعلام، والجهاد بالنفس بحمل السلاح يكون للمعتدين، وهو فرض كفاية على المسلمين، يجزئ فيه قيام بعضهم به متى حققوا المطلوب، وإلا فعلى حسب رأي الحاكم ولو بالنفير العام. وجهاد النفس أصل لجهاد العدو الظاهر، فهو الجهاد الأكبر كما وصفه الرسول صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، ولهذا كان فرض عين على كل مسلم. وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع فريضة على كل مكلف على قدر طاقته، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله

عنه-: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . ونظير الآية: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان 25/ 51- 52] . والآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 64/ 16] فليس المقصود بقوله: حَقَّ جِهادِهِ الغاية القصوى التي تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة، وإنما المراد الإخلاص لإعلاء دين الله، وتأييد شرعه، والتدرع بالقوة والعزيمة والصبر، والترفع عن المطامع المادية كالغنيمة أو غيرها من شهوات الدنيا. وإضافة حَقَّ إلى «جهاد» في قوله تعالى: حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة للموصوف، كما بينا، وإضافة «جهاد» للضمير في قوله: جِهادِهِ يراد بها اختصاص المضاف بالمضاف إليه، وهو جعل الجهاد مطلوبا لله ومن أجل دينه. ثم ذكر الله تعالى علة الأمر بالجهاد وهي ثلاثة أنواع: 1- هُوَ اجْتَباكُمْ أي لأن الله أيتها الأمة اختاركم من بين سائر الأمم للقيام بهذه المهمة، وفضلكم وشرفكم، وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع، ولكنه غير شاق، لذا قال: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي لم يجعل الدين ضيقا حرجا شاقا، وإنما جعله سهلا يسيرا، فلم يكلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم، وهذا تأكيد لوجوب الجهاد، والحفاظ على الدين الذي اختاركم لحمايته. والآية كالجواب عن سؤال يذكر، وهو أن التكليف والاجتباء تشريف من الله

للعبد، لكنه شديد شاق على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. لكن المشقة المرفوعة في التكاليف الشرعية: هي المشقة الزائدة غير المعتادة التي تصل إلى حد الحرج. أما المشقة المعتادة المألوفة فهي غير مرفوعة من التكاليف، بل لا يتحقق التكليف إلا بها لأن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة، ولا يخلو عنها أي تكليف، لكنه سهل يسير على النفس، تطيق تحمله دون انزعاج. ومظاهر التيسير ودفع الحرج والمشقة عامة شاملة العبادات والمطعومات والمعاملات. ففي العبادات: يجوز قصر الصلاة الرباعية في السفر، فتصلي ثنتين، والصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتصلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا النافلة في السفر تصلى إلى القبلة وغيرها. ويسقط القيام في الصلاة لعذر المرض، فيصلي المريض جالسا أو مضطجعا أو على جنب أو بالإيماء. ويجوز في صيام رمضان الإفطار لعذر لكل من المسافر والمريض والشيخ الهرم، والحامل والمرضع. وفي المطعومات: يجوز الأكل والشرب من المحرّمات المحظورات للضرورة، كالميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك. وفي المعاملات: يجوز بعض التصرفات للحاجة أو للضرورة. وهكذا تشرع الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، لهذا قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن جابر: «بعثت بالحنيفية السّمحة» وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن فيما أخرجه البخاري ومسلم: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا» .

والآيات في هذا المعنى كثيرة، مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 2/ 185] وقوله سبحانه: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة 2/ 286] وقوله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 64/ 16] . 2- مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي اتبعوا أو الزموا ملتكم التي هي كملة أبيكم إبراهيم عليه السلام في حنيفيتها وسماحتها وبعدها عن الشرك. والمراد بالملة: الأحكام الأصلية الاعتقادية، فهي واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه السلام، بل هي واحدة في جميع الشرائع قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد: «الأنبياء أولاد علّات» أي أن إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة. وسبب تخصيص إبراهيم عليه السلام بالذكر هو التشابه في السماحة والتوحيد بين الملتين، وكون أكثر العرب من نسل إبراهيم عليه السلام، فهم يحبونه، والحب مدعاة التمسك بشريعته وشريعة محمد صلّى الله عليه وسلم التي هي شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وبما أن إبراهيم هو أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده. ونظير الآية قوله عز وجل: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الأنعام 6/ 161] . 3- هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا أي إن الله- وقيل: إبراهيم-، هو الذي سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي القرآن. قال ابن كثير

مرجحا المعنى الأول بعود الضمير إلى الله: وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال: هُوَ اجْتَباكُمْ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وفي قراءة: الله سماكم. واما دليل من قال بعود الضمير إلى إبراهيم عليه السلام: فهو قوله تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا، أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة 2/ 128] . لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم، ليكون الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بتبليغه ما أرسل به إليكم أي أنه قد بلغكم، ولتكونوا شهداء على الناس في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم. واللام في قوله: لِيَكُونَ إما لام العاقبة، وهي متعلقة بقوله: سَمَّاكُمُ وإما لام التعليل، وتكون عَلَى في قوله: عَلَيْكُمْ بمعنى اللام، مثل قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة 5/ 3] وتكون شهادة الرسول لهم: أن يزكيهم عند الله يوم القيامة، ويشهد بعدالتكم إذا شهدوا على الأمم السابقة. والراجح أنه لا داعي لوصف اللام بما ذكر، ويكون قبول شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم على الأمة علة في الحكم وهو تسميتها أمة مسلمة. وقبول شهادة النبي صلّى الله عليه وسلم وشهادة أمته يوم القيامة فيه تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلم وتشريف لأمته، فإن الله تعالى يصدّق قوله على أمته في دعوى تبليغه إياها، ويجعل أمته أهلا للشهادة على سائر الأمم. وإنما قبلت شهادتهم على الأمم لأنهم لم يفرقوا بين أحد من الرسل، وعلموا أخبارهم من القرآن الكريم، ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم، فيقال للأنبياء: هل

فقه الحياة أو الأحكام:

بلّغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغناهم، فينكرون، فيؤتى بهذه الأمة، فيشهدون أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم؟ فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق. ومقابلة لهذه النعمة العظيمة على الأمة ووجوب شكرها، طلب الله منها دوام عبادته والاعتصام به، فقال: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي فقابلوا هذه النعمة الجليلة بالقيام بشكرها، فأدّوا حقّ الله عليكم بطاعته فيما افترض وأوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة أي أداؤها تامة الأركان والشروط بخشوع كامل وخضوع تام لله، فهي صلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال، وإحسان واجب إلى خلق الله المستحقين، وهي دليل التعاون والتضامن والإخاء، واستعينوا بالله والجؤوا إليه في جميع أموركم. والاعتصام بالله: هو الثقة به، والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كل مكروه، وهو ناصركم على من يعاديكم. والمولى: هو الحافظ والناصر والمالك والخالق. فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي نعم المولى المتولي أموركم، ونعم الناصر، العظيم النصرة، الكامل المعونة، هو أي الله تعالى. وهو المخصوص بالمدح. فقه الحياة أو الأحكام: ظاهر هذه الآيات التي ختمت بها سورة الحج أنها جمعت أنواع التكاليف الدينية والاعتقادية والاجتماعية، وأحاطت بفروع الشريعة، وعنيت بأمر الصلاة لأنها عماد الدين، ولم تكتف بطلبها في عموم العبادات. ودلت على ما يأتي:

1- وجوب أربعة أمور: هي الصلاة المشتملة على أهم أركانها وهو الركوع والسجود، وعبادة الله دون غيره، وفعل الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة، وفعل الخير كصلة الرحم ومكارم الأخلاق. وقد اختلف العلماء في قوله: وَاسْجُدُوا أهو سجود الصلاة أم سجود التلاوة؟ فقال الشافعية والحنابلة: هذه سجدة تلاوة لأنه يمكن حمل اللفظ على حقيقته مع عدم صارف يصرفه إلى معنى آخر، ومعنى السجود: وضع الجبهة على الأرض، ولما أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «فضّلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» . وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصّل، وفي الحج سجدتان. وذهب الحنفية والمالكية إلى أن هذه الآية ليست آية سجدة لأن اقتران السجود بالركوع دليل على أن المراد به سجود الصلاة، كما في قوله تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران 3/ 43] . ولما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعدّ في الحج سجدة واحدة. وأما حديثا عقبة وعمرو فضعيفان. ويكون المراد بالآية على هذا الرأي الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة، وهو ما سرت عليه في التفسير والاستنباط. 2- وجوب عبادة الرب تعالى، أي امتثال أوامره. 3- الندب إلى فعل الخير فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها شرعا. 4- وجوب الجهاد بأنواعه الثلاثة: جهاد الهوى والنفس وجهاد الشيطان ومطاردة وساوسه، وجهاد أهل الظلم والبدع، وهي كلها فرض عين على كل فرد

مسلم. روى الترمذي وابن حبان عن فضالة بن عبيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المجاهد: من جاهد نفسه لله عز وجل» . وروى أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» وقد ذكرت حديث: «من رأى منكم منكرا ... » . وجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وبالسيف والسنان واجب أيضا، وهو فرض كفاية على جماعة المسلمين، يجزي فيه قيام بعضهم إذا تحقق المقصود، وطرد العدو، وتم دفعه عن بقية المسلمين وأموالهم وأعراضهم وبلادهم، فإن لم يتحقق ذلك كان فرض عين على كل واحد من القادرين على القتال. وهذا حينما كان الاعتماد على العنصر البشري في الحروب أمرا ضروريا وأساسيا، أما اليوم حيث تطورت وسائل القتال، فلا يصح حشد المسلمين في جبهة واحدة مثلا لحصادهم بقنبلة واحدة أو بغيرها من الوسائل الحربية الفتاكة الحديثة، وإنما ينظر الحاكم فيما يحقق المصلحة، وتقتضيه الحاجة، بعد الأخذ بوسائل الإعداد الحديثة المكافئة لما هو موجود عند الأعداء. 5- علة التكليف بالتكاليف السابقة ثلاثة أمور: أ- الاجتباء أي الاصطفاء والاختيار للدفاع عن الدين والتزام أمره، وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له. وزيادة في التأكيد والترغيب رفع الله الحرج، أي الضيق والعسر عن الناس في المطالب الشرعية، وهذا عام في كثير من الأحكام، وهو مما خص الله به هذه الأمة. قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي: اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة 2/ 143] . ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة:

ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 40/ 60] . فرفع الحرج من الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي، قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، واما السلابة والسّرّاق وأصحاب الحدود، فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين. ب- كون ملتنا كملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهو أبو العرب قاطبة. ج- تسمية الله لنا بالمسلمين في الكتب المتقدمة وفي القرآن. 6- تقبل شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم على الأمة بتبليغه إياهم أحكام شرع الله، وقبول شهادته علة لعدالة الحكم وهو التسمية بالمسلمين، وكذلك قبول شهادة أمته على الأمم الأخرى ان رسلهم قد بلغتهم علة في تسميتها مسلمة كذلك، وقبول الشهادتين تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته. 7- إن قبول شهادة الأمة المسلمة على الأمم الأخرى نعمة عظمي تستوجب الشكر بأداء الفرائض واجتناب النواهي المحظورات، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله، أي الثقة به، والاستعانة بقوته الجبارة على دفع السوء لأنه مالكنا وخالقنا، وحافظنا وحامينا، وناصرنا على أعدائنا. آمنت بالله انتهى الجزء السابع عشر

سورة المؤمنون:

[الجزء الثامن عشر] بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المؤمنون مكية، وهي مائة وثمان عشرة آية. تسميتها وفضلها: سميت سورة المؤمنون لافتتاحها بقول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم ذكر أوصاف المؤمنين السبعة وجزاءهم العظيم في الآخرة وهو ميراث الفردوس. روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوحي، يسمع عند وجهه كدويّ النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن «1» دخل الجنة ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم العشر» . وروى النسائي في تفسيره عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن، فقرأت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- حتى انتهت إلى- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

_ (1) من أقامهن: أي من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن كما تقول: فلان يقوم بعمله.

مناسبة السورة لما قبلها:

مناسبة السورة لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بسورة الحج من نواح هي: 1- ختمت سورة الحج بجملة من الأوامر الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، منها قوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو مجمل فصّل في فاتحة هذه السورة، فذكر تعالى خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح، فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الآيات العشر. 2- ذكر في أول سورة الحج قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الآية لإثبات البعث والنشور، ثم زاد هنا بيانا ضافيا في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ الآيات. فما أجمل أو أوجز هناك، فصل وأطنب هنا. 3- في كل من السورتين أدلة على وجود الخالق ووحدانيته. 4- في السورتين أيضا ذكرت قصص بعض الأنبياء المتقدمين للعبرة والعظة، في كل زمن وعصر ولكل فرد وجيل. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت السورة الكلام عن أصول الدين من وجود الخالق وتوحيده وإثبات الرسالة والبعث. وابتدأت بالإشادة بخصال المؤمنين المصدقين بالله ورسوله التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في الجنان. ثم أبانت الأدلة على وجود الله تعالى والقدرة الإلهية والوحدانية من خلق الإنسان مرورا بأطواره المتعددة، وخلق السموات البديعة، وإنزال الماء منها

لإنبات الجنات أو البساتين التي تزهو بالنخيل والأعناب، والزيتون والرمان، والفواكه الكثيرة، وإيجاد الأنعام ذات المنافع العديدة للإنسان، وتسخير السفن لحمل الركاب والبضائع. ثم أوردت قصص بعض الأنبياء والمرسلين كنوح وهود وموسى وهارون وعيسى وأمه مريم، لتكون نماذج للعبرة والعظة عبر الأجيال، وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين من قريش، مع توبيخهم ووعيدهم على استكبارهم عن الحق، ووصفهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالجنون وغيره، وعدم إيمانهم برسالته، وإخبارهم بما يلقونه من العذاب والنكال يوم القيامة، وإقناعهم بالأدلة والبراهين على حدوث البعث والنشور. وفي خلال ذلك أوضحت بعض الآيات يسر التكليف وسماحته وعدم المطالبة إلا بما فيه الوسع والقدرة، والتذكير بما أنعم الله به على الإنسان من نعم الحواس والمشاعر، والإنكار الشديد على نسبة الولد والشريك لله تعالى. ثم طمأنت الآيات النبي صلّى الله عليه وسلم عن نجاته من القوم الظالمين، ووضعت له أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وعرفته طريق الاعتصام بالله من همزات الشياطين. وعرضت السورة في خاتمتها لموقف الحساب الرهيب وأهواله وشدائده، وما فيه من معايير النجاة والخسران، من ثقل الموازين وخفتها، وقسمة الناس إلى فريقين: سعداء وأشقياء، وعدم إفادة الأنساب في شيء، وتمني الكفار العودة لدار الدنيا ليعملوا صالحا، وتذكيرهم بسخريتهم وضحكهم من المؤمنين، وسؤالهم عن مدة لبثهم في الدنيا، وتوبيخهم على إنكار البعث، وإعلان تفرد الإله الملك القاهر بالحساب ومحاورته أهل النار، وبيان خسارة من عبد مع الله إلها آخر، ونجاة أهل الإيمان والعمل الصالح، وإفاضة رحمة الله عليهم ومغفرته لهم.

خصال المؤمنين [سورة المؤمنون (23) الآيات 1 إلى 11] :

خصال المؤمنين [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) الإعراب: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ انتظمت الجملة أقسام الكلم الثلاثة التي هي الاسم والفعل والحرف، فإن قَدْ حرف، وأَفْلَحَ فعل، والْمُؤْمِنُونَ اسم. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ جملة معطوفة على ما قبلها، أي يؤدون الزكاة. وقيل: أي الذين لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وتفسير القرآن بعضه ببعض أولى، لكن الظاهر الأول لأن الغالب في القرآن اقتران الزكاة بالصلاة. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ.. إنما جمع (أمانات) جمع (أمانة) مع أنها مصدر، والمصادر لا تجمع لأنها تدل على الجنس لأنها مختلفة الأنواع، وحينئذ يجوز تثنيتها وجمعها، والأمانة هنا مختلفة، لاشتمالها على سائر العبادات وغيرها من المأمورات. البلاغة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ: لإفادة التحقيق، والإخبار بصيغة الماضي لإفادة الثبوت والتحقق.

المفردات اللغوية:

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.. الآيات، تفصيل بعد إجمال. الْمُؤْمِنُونَ خاشِعُونَ مُعْرِضُونَ فاعِلُونَ حافِظُونَ العادُونَ سجع لطيف غير متكلف. الْوارِثُونَ استعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم. المفردات اللغوية: قَدْ للتحقيق وهي تثبت المتوقع، كما أن (لما) تنفيه، وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي، فتقرّبه من الحال أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فازوا بأمانيهم، وأَفْلَحَ: فاز وظفر بالمراد، والْمُؤْمِنُونَ: جمع مؤمن: وهو المصدّق بالله وبما أنزل على رسوله من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء. خاشِعُونَ متواضعون خاضعون متذللون لله خائفون منه اللَّغْوِ ما لا خير فيه من الكلام، وما لا يعني من قول أو فعل مُعْرِضُونَ أقام الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا، مباشرة وتسببا وميلا وحضورا وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة، ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام بالطاعات البدنية والمالية وتجنب المحرّمات وما يخل بالمروءة. والمراد بالزكاة هنا المعنى وهو التزكية، فجعل المزكين فاعلين له، لأن التزكية مصدر، ويقال لمحدثه فاعل، فهو فاعل الحدث، كالضارب فاعل الضرب، والقاتل فاعل القتل. ويجوز أن يراد بالزكاة العين، أي القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير، بتقدير مضاف محذوف وهو الأداء لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ أي يحفظون فروجهم عن الحرام، والفرج: سوأة الرجل والمرأة وحفظه: التعفف عن الحرام إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي من زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي السراري حينما كان الرق شائعا، أما اليوم فقد انتهى من العالم غَيْرُ مَلُومِينَ في إتيانهن، والضمير يعود لحافظون أو لمن دل عليه الاستثناء. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي طلب غير ذلك من الزوجات والسراري كالاستمناء باليد (العادة السرية) في إتيانهن العادُونَ المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم، أو المتناهون في العدوان وتجاوز الحدود الشرعية. لِأَماناتِهِمْ جمع أمانة: وهي كل ما يؤتمن الإنسان عليه من الله كالتكاليف الشرعية، أو من الناس كودائع الأموال وَعَهْدِهِمْ العهد: كل ما التزمه الإنسان نحو ربه وأمره به كالصلاة والنذر وغيرهما، ونحو الناس من قول وفعل كالعقود والوعود والعطاء. وكلمة عَهْدِهِمْ مفرد

سبب النزول نزول الآية (2) :

مضاف فيعم راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها، والرعي: الحفظ، والراعي: الذي يحفظ الشيء ويصلحه. صَلَواتِهِمْ جمع صلاة، وهي مثل لِأَماناتِهِمْ تشمل المفرد والجمع يُحافِظُونَ يواظبون عليها، ويؤدونها في أوقاتها أُولئِكَ الجامعون لهذه الصفات الْوارِثُونَ لا غيرهم، أي هم الأحقّاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ بيان لما يرثونه، وتقييد الوراثة بعد إطلاقها تفخيم لها وتأكيد، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم. والْفِرْدَوْسَ: أعلى الجنة هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا. وأنث الضمير لأنه اسم للجنة، أو لطبقتها العليا. وفيه إشارة إلى المعاد، ويناسبه ذكر المبدأ بعده. سبب النزول: نزول الآية (2) : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ: روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده، وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته، فقال: «لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه» «1» . أخرج الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه. وأخرج ابن مردويه بلفظ: كان يلتفت في الصلاة. وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن سيرين مرسلا بلفظ: كان يقلب بصره، فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا: كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فنزلت. التفسير والبيان: يبشر الله تعالى بالفلاح والفوز المؤمنين المتصفين بسبع صفات، ويحكم لهم بذلك، فيقول:

_ (1) تفسير البيضاوي: ص 451

1- قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي قد فازوا وسعدوا، لاتصافهم بصفة الإيمان أي التصديق بالله ورسله واليوم الآخر. 2- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي خائفون ساكنون، والخشوع: خشوع القلب، وهو الخضوع والتذلل مع الخوف وسكون الجوارح. قال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح. والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس: «حبّب إليّ الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» . وروى الإمام أحمد أيضا عن رجل من أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا بلال، أرحنا بالصلاة» . والخشوع واجب ضروري لتعقل معاني الصلاة، ومناجاة الرب تعالى، وتذكر الله والخوف من وعيده، وتدبر آيات القرآن وتفهم معانيها، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] وحينئذ يتخلص غالبا من وساوس الشيطان ومحاولة شغل الفكر وصرف المصلي عن صلاته، كما قال تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف 7/ 205] . لكن جمهور العلماء لم يشترطوا الخشوع في الصلاة للخروج من عهدة التكليف، وإنما هو شرط لتحصيل الثواب عند الله تعالى. 3- وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أي الذين يتركون رأسا كل ما كان حراما أو مكروها، أو مباحا لا خير فيه، ولا يعني الإنسان ولا حاجة له فيه. وذلك يشمل الكذب والهزل والسب وجميع المعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان 25/ 72] . ومع الأسف الشديد استبد اللهو في عصرنا في أفعال وأقوال كثير من الناس

برؤية التلفاز، وقراءة المجلات غير النافعة واللعب بالأوراق، واللهو، والبعث، وضياع الوقت فيما لا يجدي، مع أن الوقت من ذهب، لذا وصفت أمتنا بالتخلف لإهدار قيمة الوقت بين أفراد شعبها. 4- وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ قال ابن كثير: الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [141] . وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] وكقوله: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت 41/ 6- 7] على أحد القولين في تفسيرهما. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل: هو الذي يفعل هذا، والله أعلم. وقال الرازي: وقول الأكثرين إنه الحق الواجب في الأموال خاصة، وهذا هو الأقرب لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى «1» . 5- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ... مَلُومِينَ أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنى ولواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم بالعقد، أو بملك اليمين، أي ما ملكت أيمانهم من السراري- في الماضي حيث كان الرق قائما- فمن اقتصر على الحلال، فلا لوم عليه ولا حرج. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي فمن طلب غير ذلك من

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 238، وما بعدها، تفسير الرازي: 23/ 80

الزوجات والإماء، فأولئك هم المتناهون في العدوان، المتجاوزون حدود الله. وهذا يدل على تحريم المتعة والاستمناء باليد. 6- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي والذين يحفظون حرمة الأمانة وقدسية العهد، فإذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، فأداء الأمانة والوفاء بالعهد صفة أهل الإيمان، أما الخيانة والغدر وخلف الوعد وعدم الوفاء بمقتضى العقد بيعا أو إجارة أو شركة أو غيرها، فهي صفة أهل النفاق الذين قال فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال 8/ 27] . والأمانة والعهد يشملان جميع ما ائتمن الإنسان عليه من ربه أو من الناس، كالتكاليف الشرعية، والودائع، وتنفيذ العقود. 7- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي والذين يواظبون على الصلاة ويؤدونها في أوقاتها، مع استكمال أركانها وشروطها. جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: برّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» . وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ثوبان: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن» . أي الزموا الاستقامة بالمحافظة على إيفاء الحقوق ورعاية الحدود، والرضى بالقضاء، ولن تحصوا ثواب الاستقامة. ثم رتب الله تعالى الجزاء الحسن على هذه الأفعال، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي أولئك البعيدون في درجات الكمال المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم المستحقون النزول في جنات الفردوس، الماكثون فيها أبدا على الدوام، ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» . وقيل: الفردوس هي الجنة، وهي رومية أو فارسية عرّبت. ونظير الآية قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم 19/ 63] وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف 43/ 72] . وهذا قانون الله من حيث العدل أن الجنة جزاء العمل الحسن في الدنيا، ومجموع الأخذ بهذه الصفات السبع محقق لهذا الفوز في عالم الآخرة. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والصوم والحج، فدخل معهن. والآية عامة في الرجال والنساء. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدتنا الآيات إلى وجوب الاتصاف بالصفات السبع التالية، والقيام بالأفعال الآتية المستوجبة الخلود في الفردوس الأعلى من الجنان وهي: 1- الإيمان: وهو التصديق بالله ورسله واليوم الآخر. 2- الخشوع في الصلاة: وهو الخضوع والتذلل لله والخوف من الله تعالى، ومحله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه، إذ هو ملكها. روى الترمذي عن أبي ذرّ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الرحمة تواجهه، فلا يحركن الحصى» . فالسكون دليل الاطمئنان، واستيقاظ الذهن، والاتجاه نحو الله تعالى، وبه يحصل جوهر الصلاة، وتتحقق غايتها المنشودة الصحيحة.

وهو من فرائض الصلاة على الصحيح، وأساس قبولها، والظفر بثواب الله تعالى. 3- الإعراض عن اللغو: أي الباطل، وهو الشرك والمعاصي كلها، وكل ما لا حاجة فيه وما لا يعني الإنسان، وإن كان مباحا. 4- أداء الزكاة المالية المفروضة، وتزكية النفس من الدنس والمعصية، وتطهيرها من أمراض القلب كالحقد والحسد والكراهية والبغضاء ونحوها. 5- حفظ الفرج، والتعفف من الحرام كالزنى واللواط، والإعراض عن الشهوات. وذلك يدل على تحريم المتعة (الزواج المؤقت بمدة زمنية محدودة، قصيرة أو طويلة) لأن المرأة المستمتع بها ليست زوجة بالفعل، بدليل أنهما لا يتوارثان بالإجماع، فلا تحل للرجل، لكن يدرأ الحد للشبهة. ويدل أيضا على تحريم الاستمناء، ويستأنس له بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العاملين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» «1» . وتحريم الاستمناء هو مذهب جماهير العلماء، لظاهر الآية التي حصرت إباحة الاستمتاع بالنساء بالزواج وملك اليمين. ونقل عن الإمام أحمد جوازه للضرورة أو الحاجة الملحة، أي لمرة واحدة مثلا دون تكرار، إذا استبدت به الشهوة، وطغت عليه، بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنى، وألا يملك مهر امرأة حرة، وأن يكون بيده، لا بيد امرأة أجنبية، ولا بيد ذكر مثله.

_ (1) حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف لجهالته.

من أدلة وجود الله وقدرته:

ومن تجاوز الحلال ووقع في الحرام كالزنى واللواط فهو معتد متجاوز حدود الله، ويجب عليه الحد لعدوانه، إلا أن يكون جاهلا التحريم كمن أسلم حديثا، أو متأولا، كما قال القرطبي. 6- أداء الأمانة ورعاية العهد والعقد: ومعنى الأمانة أو العهد يجمع كل ما يحمّله الإنسان من أمر دينه ودنياه، قولا وفعلا، وهذا يشمل معاشرة الناس والوعود وغير ذلك. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما فيه قول أو فعل أو معتقد. 7- المحافظة على الصلاة: بإقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها. فمن عمل بما ذكر في هذه الآيات، فهم الوارثون الذين يرثون فراديس الجنان، وينزلون فيها منزلا كريما، ويخلدون فيها على الدوام والبقاء. ويدخل في الأمانات جميع الواجبات من الأفعال والتروك، فصارت الآيات شاملة العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة. من أدلة وجود الله وقدرته - 1- خلق الإنسان [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

الإعراب:

الإعراب: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً النطفة وعلقة: مفعولا خَلَقْنَا المتعدي هنا إلى مفعولين لأنه بمعنى: صيرنا، ولو كان بمعنى: أحدث لتعدى إلى مفعول واحد. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أحسن إما بدل من اللَّهُ ولا يجوز أن يكون وصفا لأن إضافته إلى ما بعده في نية الانفصال لا الاتصال لأنه في تقدير: أحسن من الخالقين، كما تقول: زيد أفضل القوم، أي منهم، فلا يستفيد المضاف من المضاف إليه تعريفا، فوجب أن يكون بدلا، لا وصفا. وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هو أحسن الخالقين، وقوّى هذا التقدير أنه موضع مدح وثناء. البلاغة: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ نزلوا منزلة المنكرين، فهم لا ينكرون الموت، ولكن غفلتهم عنه، وفقدهم العمل الصالح من علامات الإنكار، وأكد الخبر بمؤكدين (إن واللام) . طِينٍ مَكِينٍ الْخالِقِينَ سجع سائغ مقبول لا تكلف فيه. المفردات اللغوية: الْإِنْسانَ أصل الإنسان وهو آدم أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا مِنْ سُلالَةٍ خلاصة سلت من بين التراب، من سللت الشيء من الشيء، أي استخرجته منه مِنْ طِينٍ من: بيانية، أو متعلق بمحذوف لأنه صفة لسلالة ثُمَّ جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله- نسل آدم، فحذف المضاف نُطْفَةً منيا، أي بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ مستقر حصين أو متمكن، يعني الرحم. عَلَقَةً هي الدم الجامد مُضْغَةً أي صيرناها مضغة وهي قطعة لحم، قدر ما يمضغ. وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى: صيرنا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بنفخ الروح فيه فَتَبارَكَ اللَّهُ تعالى شأنه في قدرته وحكمته وتقدس أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المقدرين تقديرا، فحذف مميز أَحْسَنُ وهو خلقا، لدلالة الْخالِقِينَ عليه. لَمَيِّتُونَ لصائرون إلى الموت لا محالة تُبْعَثُونَ للحساب والجزاء.

سبب النزول نزول الآية (12) :

سبب النزول: نزول الآية (12) : أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: وافقت ربي في أربع، نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآية، فقلت أنا: «فتبارك الله أحسن الخالقين» . المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بالعبادات، أورد ما يدل على معرفة الإله الخالق المعبود، وذكر أربعة أنواع من دلائل وجوده وقدرته تعالى، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية. وتلك الأدلة: هي خلق الإنسان، وخلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء، وخلق الحيوانات لمنافع. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون، ويبين تقلبه في أدوار تسعة للخلقة وهي: 1- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أي لقد خلقنا أي أوجدنا الإنسان، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة، والمراد به جنس الإنسان وأصله من خلاصة سلت من طين لا كدر فيه، أو أول أفراده وهو آدم عليه السلام. وهذا دليل كاف على قدرة الله تعالى ووحدانيته واتصافه بكل صفات الكمال. والراجح أن المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام لأنه استل من الطين، وخلق منه، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم 30/ 20] .

2- ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي ثم جعلنا نسله أو جنس الإنسان نطفة من مني في أصلاب الذكور، ثم قذفت إلى أرحام الإناث، فصار في حرز مستقر متمكن حصين، ابتداء من الحمل إلى الولادة. وذلك كقوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة 32/ 7- 8] أي من ماء ضعيف، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات 77/ 20- 24] . 3- ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي ثم حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفة العلقة: وهي الدم الجامد. أو صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل (وهو ظهره) وترائب المرأة (وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السّرّة) صيرناها علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة. 4- فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي ثم صيرنا الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم، بمقدار ما يمضغ، وهي قطعة كبضعة لحم، لا شكل فيها ولا تخطيط. وسمي التحويل خلقا لأنه سبحانه يفني بعض الصفات، ويخلق صفات أخرى، وكأنه تعالى يخلق فيها أجزاء زائدة. 5- فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي صيرناها عظاما يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها. 6- فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي غطينا العظام بما يستره ويشده ويقويه وهو اللحم لأن اللحم يستر العظم، فجعل كالكسوة لها. 7- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي خلقا مباينا للخلق الأول، بأن نفخنا فيه الروح، فتحرك، وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب.

فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي تعالى شأنه في قدرته وحكمته، وتنزه وتقدس الله أحسن المقدّرين المصورين. روى ابن أبي حاتم والطيالسي عن أنس قال: قال عمر: «وافقت ربي في أربع: قلت: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة 2/ 125] . وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر، فأنزل الله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب 33/ 53] . وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم: لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فنزلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآية [التحريم 66/ 5] . ونزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.. الآية فقلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. 8- ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ «1» أي ثم إنكم بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت. 9- ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي ثم تبعثون من قبوركم للنشأة الآخرة للحساب والجزاء ثوابا وعقابا، كما قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت 29/ 20] يعني يوم المعاد. وفي هاتين الآيتين جعل الله سبحانه الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة الحياة بعد الإفناء والإعدام دليلين على قدرته بعد الإنشاء والاختراع.

_ (1) وقرئ «لمائتون» والفرق بين الميت والمائت: أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد ميت الآن، ومائت غدا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على خلق الإنسان، وخلقه ومروره في المراحل التسع المذكورة دليل واضح على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته العظمى. فقد بدأ الله تعالى خلق آدم عليه السلام من طين أو تراب، ثم جعل ابن آدم مخلوقا من نطفة (مني) يلتقي مع مني المرأة، فيبدأ تخلق الجنين، ثم تتحول النطفة إلى علقة (دم متخثر) ثم تصبح مضغة (قطعة لحم) ثم تصير عظاما، ثم تكسى العظام باللحم الذي تظهر فيه ملامح الإنسان، ثم يصير خلقا جديدا مباينا للخلق الأول بنفخ الروح الحركية فيه بعد أن كان جمادا. فتبارك وتعالى الله أحسن الخالقين وأتقن الصانعين، لهذا الإبداع والإنشاء العظيم: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] . وبعد هذه المراحل السبع، وولادة الإنسان، وتمتعه بالحياة المقدرة له، أي بعد الخلق والحياة تحدث نهاية الإنسان بالموت، ثم يأتي البعث بعد الموت، وكل من الخلق الأول (النشأة الأولى) ثم الإماتة (إعدام الحياة) ثم البعث (إعادة ما أفني وأعدم) دليل قاطع على قدرة الله تعالى. والآيات صريحة في أن الله وحده هو الخالق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الباعث، والله هو الحق، ووعده بالبعث حق، والجنة حق، والنار حق. وذلك كله لإثبات البعث الذي ينكره المشركون والملحدون الماديون الذين يرون أن الدنيا هي نهاية المطاف، وألا حياة أخرى بعدئذ، وإنكارهم الحياة الآخرة وإنكار وجود الله أو وحدانيته هو مذهب المادية، وعقيدة الجاهلية، وأسّ الكفر وعماده. أما أهل الإيمان فهم الذين يشكرون ربهم الخالق الذي أنعم عليهم بنعمة

- 2 - خلق السموات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام [سورة المؤمنون (23) الآيات 17 إلى 22] :

الإيجاد والإحياء والرزق، وهم الذين يبادرون إلى أداء التكاليف التي كلف الله بها عباده بعد أن أصبحوا قادرين على تحمل التكليف، ثم لا بد من مجيء يوم القيامة والبعث بعد الموت لتسلم الجائزة الكبرى على العمل الصالح، ومجازاة المؤمنين بالجنة، وعقوبة الكافرين بالنار. روى ابن أبي شيبة في مسنده أن ابن عباس استنبط شيئا من هذه الآية، فقال لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر، فقالوا: الله أعلم فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى خلق السموات سبعا، والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما آتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه. أراد ابن عباس بقوله: «خلق ابن آدم من سبع» مراحل خلق الإنسان المفهومة من هذه الآية، وبقوله: «وجعل رزقه في سبع» قوله: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا السبع منها لابن آدم، والأب: العشب للأنعام، والقضب: البقول، وقيل هو للأنعام. - 2- خلق السموات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

الإعراب:

الإعراب: وَشَجَرَةً معطوف بالنصب على جَنَّاتٍ أي فأنشأنا لكم به جنات وشجرة تخرج من طور سيناء. وسَيْناءَ ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه، أي للعلمية والتأنيث، أي تأنيث البقعة. وتَنْبُتُ بِالدُّهْنِ من قرأ بفتح التاء جعل الباء للتعدية، ومن قرأ بالضم جعله من أنبت وفي الباء ثلاثة أوجه: التعدية، وتكون أنبت بمعنى نبت، أو تكون زائدة لأن الفعل متعد بالهمزة، أو تكون للحال، ومفعوله محذوف، أي تنبت ما تنبت ومعه الدهن. البلاغة: سَبْعَ طَرائِقَ استعارة، شبهت السموات بطبقات النعل لأنه طورق بعضها فوق بعض، كمطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ في تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به. المفردات اللغوية: سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات، والطرائق: جمع طريقة سميت بذلك لأنه طورق بعضها فوق بعض، مطارقة النعل، وكل ما فوقه مثله فهو طريقة، أو لأنها طرق الملائكة. وقيل: المراد بالطرائق: الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها. والأول أصح، قال الخليل والزجاج: وهذا كقوله: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح 71/ 15] وقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.. [الطلاق 65/ 12] الآية، أي فالطرائق والطباق بمعنى واحد.

المناسبة:

وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي المخلوقات التي منها السموات السبع غافِلِينَ مهملين أمرها، بل نحفظها من الزوال والاختلال، وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدّر لها من الكمال، بحسب الحكمة والمشيئة الإلهية، وهذا كقوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج 22/ 65] . وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً السماء هنا: السحاب بِقَدَرٍ أي بمقدار معلوم، وهو مقدار كفايتهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا مستقرا فيها ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته، إما بتغويره في الأرض بحيث يتعذر إخراجه، أو بتغيير صفة المائية إلى عنصر آخر لَقادِرُونَ أي كما كنا قادرين على إنزاله، وحينئذ يموتون مع دوابهم عطشا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هما أكثر فواكه العرب لَكُمْ فِيها في الجنات وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي ومن الجنات تأكلون ثمارها وزروعها، صيفا وشتاء. وَشَجَرَةً أي وأنشأنا شجرة هي شجرة الزيتون طُورِ سَيْناءَ جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: إنه بفلسطين، فهو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه، ويسمى طور سينين أيضا وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، أي إدام يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام، وهو زيت الزيتون. الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم لَعِبْرَةً عظة تعتبرون بها مِمَّا فِي بُطُونِها أي اللبن مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من الأصواف والأوبار والأشعار وغير ذلك وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي من الأنعام تأكلون، فتنتفعون بأعيانها عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي في البر والبحر. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى النوع الأول من دلائل قدرته وهو خلق الإنسان، أتبعه بذكر أنواع ثلاثة أخرى من تلك الدلائل وهي خلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء وتأثيره في إنبات النبات، ومنافع الحيوانات وهي هنا أربعة أنواع: الانتفاع بالألبان، وبالصوف، وباللحوم، وبالركوب، وذلك كله مما يحتاج إليه الإنسان في بقائه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: خلق السموات: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي تالله لقد خلقنا فوقكم يا بني آدم سبع سموات طباقا، بعضها فوق بعض، وهي أيضا مسارات الكواكب. وكثيرا ما يقرن الله تعالى خلق السموات والأرض، مع خلق الإنسان، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] وهكذا في أول سورة السجدة الم التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها في صبيحة يوم الجمعة، في أولها خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ثم بيان خلق الإنسان، وفيها أمر المعاد والجزاء. ونظير الآية كما تقدم: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح 71/ 15] وقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق 65/ 12] . وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أي وما كنا مهملين أمر جميع المخلوقات التي منها السموات، بل نحفظها لكفالة بقائها واستمرارها، ونحن نعلم كل ما يحدث فيها من صغير أو كبير، كما قال تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد 57/ 4] وقال سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] . المطر والنبات: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي وأنزلنا من

السحاب مطرا بقدر الحاجة والكفاية للشرب والسقي، لا كثيرا يفسد الأرض والعمران، ولا قليلا لا يكفي الزرع والثمار، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا لزرعها، ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها، يساق الماء إليها من بلاد أخرى، كأرض مصر التي يقال لها: الأرض الجرز، يأتي حاملا معه الطين الأحمر «الغرين» من بلاد الحبشة، فيستقر الطين فيها للزراعة فيه، فتغطي الرمال به، وهي ما يغلب في تلك الأرض. وجعلنا الماء إذا نزل من السحاب يستقر في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له، فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى، ومنه تنبع الأنهار والآبار. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي ولو شئنا إزالته وتصريفه عنكم وتغويره لفعلنا، كما أنا قادرون على إنزاله. وكذلك لو شئنا لجعلناه ملحا أجاجا لا ينتفع به في الشرب والسقي، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا أن يبقى على سطح الأرض لفعلنا، ولكن لرحمتنا ولطفنا بكم أسكناه في الأرض بمثابة خزانات، لتأخذوا منه عند الحاجة، وتسقوا به زرعكم وثماركم وأنفسكم ودوابكم، وتنتفعوا به بسائر وجوه الانتفاع من غسل وتطهر وتنظيف وتبرد ونحو ذلك. فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق ذات بهجة أي ذات منظر حسن، وفيها النخيل والأعناب، وهذا أغلب فواكه العرب. لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي لكم في الجنات فواكه متنوعة كثيرة، من جميع الثمار، عدا النخيل والأعناب، وتأكلون من ثمار الجنات وتنتفعون بها، وترزقون وتتعيشون. وقوله: وَمِنْها تَأْكُلُونَ كأنه معطوف على شيء مقدر، تقديره:

أحوال الأنعام:

تنظرون إلى حسنه ونضجه، ومنه تأكلون. وَشَجَرَةً تَخْرُجُ.. أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في جبل الطور، وتأتي بالدهن وهو الزيت، وتتخذ إداما ينتفع به الآكلون بالدهن والاصطباغ. روى الإمام أحمد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» ورواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه. أحوال الأنعام: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي وإن لكم أيها الناس في خلق الإبل والبقرة والغنم وما فيها من المنافع لعظة تعتبرون بها ونعمة تستحق الشكر والتقدير والاستدلال على قدرة الله تعالى، بتحويل الدم المتولد من الغداء في الغدد إلى لبن طيب سائغ شرابه، كامل التغذية. وتلك المنافع كثيرة ذكر منها هنا أربعة أنواع هي: 1- نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم، وتتخذون منها السمن والجبن وغير ذلك، وتنتج لكم الحملان. 2- وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ أي وتستفيدون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، وتتخذون منها الملابس والفرش. 3- وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي وتأكلون من لحومها بعد ذبحها، فتنتفعون بها حية وبعد الذبح. 4- عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي وتركبون ظهورها وتحملون عليها الأحمال الثقال إلى البلاد والبقاع النائية، كما تنتفعون بالسفن، كما قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل 16/ 7] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ، وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس 36/ 71- 73] . والامتنان بهذه النعم الجليلة بقصد الإرشاد إلى الخالق، والتعرف على قدرة الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- استنبط الإمام الرازي من الآية الأولى في خلق السموات ستة أحكام هي: أ- أنها دالة على وجود الإله الصانع، فإن تحول الأجسام من صفة إلى صفة أخرى مغايرة للأولى يدل على أنه لا بد من محول ومغير. ب- أنها تدل على فساد القول بالطبيعة لأن الطبيعة تقضي ببقاء الأشياء على حالها وعدم تغيرها، فإذا تغيرت تلك الصفات، دل على احتياج الطبيعة إلى خالق وموجد. ج- تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة. د- تدل على أنه تعالى عالم بكل المعلومات، قادر على كل الممكنات. هـ- تدل على جواز الحشر والنشر لأنه لما كان تعالى قادرا عالما، وجب أن يكون قادرا على إعادة تركيب الأجزاء كما كانت.

وأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية، وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا «1» . 2- دلت الآية الثانية في إنزال المطر على نعمة عظمي تستحق التقدير هي الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان، فالماء في نفسه نعمة، وهو أيضا سبب لحصول النعم من إنبات النبات، وسقي الإنسان والحيوان. والمراد بماء السماء المنزل المختزن وغير المختزن: هو الماء العذب غير الأجاج المالح. وإنزال الماء بقدر، أي على قدر مصلح موافق للحكمة والحاجة لأنه لو كثر أهلك، كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر 15/ 21] . وقوله: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي الماء المختزن في الأرض: تهديد ووعيد، أي في قدرة الله إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، كقوله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك 67/ 30] وغورا: أي غائرا. وكل ما نزل من ماء السماء مختزنا أو غير مختزن هو طاهر مطهر، يغتسل به ويتوضأ منه. 3- من آثار الماء جعله سبب النبات، فهو ينبت أشرف الثمار، وهي الرطب والأعناب، وينبت غير ذلك من الفواكه، ولا فرق في الفاكهة بين الطري واليابس. وبالماء تنبت الأشجار، ومن أبرك الأشجار ما ذكر في الآية وهو شجرة

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 88

القصة الأولى - قصة نوح عليه السلام [سورة المؤمنون (23) الآيات 23 إلى 30] :

الزيتون التي أنبتها الله في الأصل من جبل الطور في سيناء الذي بارك الله فيه، وطور سيناء: من أرض الشام، هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام. وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان المشهوران عند العرب كثيرا. وزيت الزيتون يصلح للادهان به وللائتدام به، لذا كان المراد بالآية: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ تعداد نعمة الزيت على الإنسان، وبيان وجوه الانتفاع به، ففي الزيت شفاء لكثير من الأمراض الجلدية الظاهرة، والباطنية الداخلية، فيدهن به الجلد فتتقوى بصلة الشعر، ويؤكل مع الخبز إداما، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ. 4- ذكر الله تعالى للأنعام (الإبل والبقر والغنم) أربع منافع: هي الانتفاع بالألبان، والانتفاع بالأصواف للباس والأثاث والفرش، وللبيع والاستفادة من الأثمان، والانتفاع من اللحوم بالأكل بعد الذبح، كالانتفاع بها حية، والانتفاع بالركوب على الإبل في البر والحمل عليها كالانتفاع بالفلك (السفن) في البحر، وهذا دليل على أن الركوب راجع إلى بعض الأنعام. روي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول، فأنطقها الله تعالى معه، فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث (أي العمل الزراعي) . القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

الإعراب:

الإعراب: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: اسم ما، وما قبله: الخبر، ومِنْ: زائدة. مُنْزَلًا مصدر لفعل رباعي وهو (أنزل) وتقديره: أنزلني إنزالا مباركا، ويجوز أن يكون اسم مكان. وقرئ بفتح الميم (منزلا) وهو مصدر لفعل ثلاثي وهو (نزل) ويجوز أن يكون أيضا اسم مكان. وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ: إِنَّ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنه كنا لمبتلين. وذهب الكوفيون إلى أنّ إِنَّ بمعنى (ما) واللام بمعنى (إلا) وتقديره: ما كنا مبتلين. البلاغة: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا استعارة، عبر عن الحفظ والرعاية أو الحراسة بالصنع على الأعين لأن الحافظ للشيء يديم مراعاته في الأغلب بعينيه. وَفارَ التَّنُّورُ كناية عن الشدة، مثل: حمي الوطيس. وقيل: المراد بالتنور وجه الأرض مجازا. أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اعْبُدُوا اللَّهَ أطيعوا الله ووحدوه. تَتَّقُونَ تخافون عقوبته بعبادتكم غيره. الْمَلَأُ أشراف القوم، قالوا للعوام. يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يطلب الفضل والسيادة عليكم، بأن يكون متبوعا وأنتم أتباعه. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لوشاء أن يعبد غيره وأن يرسل رسولا لأنزل ملائكة بذلك، لا بشرا. ما سَمِعْنا بِهذا الذي دعا إليه نوح من التوحيد. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ الأمم الماضية. إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل به حالة جنون وضعف عقل. فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروه واحتملوه. حَتَّى حِينٍ أي إلى زمن لعله يفيق من جنونه، أو إلى زمن موته. قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي أي قال نوح بعد يأسه من إيمانهم: ربّ انصرني عليهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي، بأن تهلكهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أمرناه إجابة لدعائه. أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ السفينة. بِأَعْيُنِنا بحفظنا ورعايتنا. وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب أو نزول العذاب والإهلاك. وَفارَ نبع. التَّنُّورُ أي مكان خبز الخباز أو وجه الأرض، وكان نبع الماء منه علامة لنوح عليه السلام. فَاسْلُكْ فِيها أي أدخل في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين: ذكر وأنثى من أنواع الحيوان الموجود وقتئذ. اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى، أي خذ معك على السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان صنفا من الذكور وصنفا من الإناث، كالجمال والنوق، مزدوجين. وقراءة حفص مِنْ كُلٍّ أي من كلّ نوع زوجين. واثْنَيْنِ: تأكيد وزيادة تأكيد. وَأَهْلَكَ أهل بيتك، أو من آمن معك. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي إلا من قضي عليه القول من الله بهلاكه لكفره وهو زوجته وولده كنعان، بخلاف سام وحام ويافث، فأخذهم مع زوجاتهم الثلاثة. قيل: كانوا ستة رجال مع نسائهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقد عبّر بعلى في قوله: مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ لأن المقضي به ضارّ، كما عبّر باللام حيث كان المقضي به نافعا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ... وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة، لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن كان هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه. اسْتَوَيْتَ اعتدلت وعلوت. مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين، والنجاة: هي من إهلاكهم. وَقُلْ عند نزولك من الفلك. رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أي اجعل إنزالي أو مكانه إنزالا أو مكانا مباركا، أي فيه الخير والبركة. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ثناء مطابق لدعائه، أمره به توسلا إلى الإجابة. وإنما أفرده بالأمر مع شموله من آمن معه إظهارا لفضله والاكتفاء بدعائه عن دعائهم. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من فعل نوح والسفينة، وفعل قومه وإهلاكهم. لَآياتٍ

المناسبة:

دلالات على قدرة الله تعالى. لَمُبْتَلِينَ مختبرين ممتحنين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه، أي معاملتهم معاملة من يختبر. المناسبة: الارتباط بين هذه الآيات وبين ما قبلها جار على وفق العادة في سائر الآيات، بذكر قصص الأنبياء بعد بيان أدلة التوحيد، والقصد هو بيان كفران الناس بعد تعداد النعم المتلاحقة عليهم، وما حاق بهم من زوالها. فبعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد من خلق الإنسان، والحيوان، والنبات، وخلق السموات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا الحالات المماثلة لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة، فذكر خمس قصص: هي قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح ولوط وشعيب، وقصة موسى وهارون وفرعون، وقصة عيسى وأمه. التفسير والبيان: يبين الله تعالى موقف نوح عليه السلام مع قومه حينما أنذرهم عذاب الله، وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به، وخالف أمره، وكذب رسله، فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ... تَتَّقُونَ: أي ولقد بعثنا نوحا إلى قومه، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وقال لهم: ألا تتقون، أي ألا تخافون من الله في إشراككم به؟ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي فقال السادة والأكابر منهم: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وليس له ميزة في علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟!

وموانع نبوته هي: 1- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي ولو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، فإن إنزال الملك أدعى للإيمان، وأدل على الصدق. وهذا ناشئ من تصورهم سموا الرسالة التي تقتضي جعلها في عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة، وأنه لا يمكن تكليف البشر بالرسالة الإلهية. 2- ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي ما سمعنا ببعثة البشر في عهد الأسلاف والأجداد في الدهور الماضية. وهذا ناشئ من اعتمادهم في العقيدة على التقليد، وإصرارهم على الكفر والعناد. 3- إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي وما نوح إلا رجل مجنون فيما يزعمه أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي. فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه، أو ييأس فيرجع إلى دينكم، أو يفيق من جنونه. وهذا مجرد مكابرة، فهم عرفوا نوحا برجحان عقله، واتزان قوله، واستقامة سيرته. ولما يئس نوح من إجابة دعوته، وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم فقال: قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي قال نوح: ربّ انصرني على هؤلاء القوم، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] ، وقوله أيضا: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] . فأجاب الله دعاءه وأمره بصنع السفينة فقال:

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أي فأمرناه بأن يصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا، وتعليمنا وإرشادنا كيفية الصنع. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا، وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي فإذا حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من وجه الأرض أو من التنور المخصص للخبز، فاحمل في السفينة فردين مزدوجين ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، أو كل من آمن معك، وهذا المعنى هو الأرجح، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه. روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور، فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور، أخبرته امرأته، فركب. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي ولا تسألني ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا تأخذنك رأفة في قومك، فإني قد قضيت أنهم مغرقون، بسبب ما هم عليه من الكفر والطغيان، أي أن الغرق نازل بهم لا محالة. ثم أمره الله أن يحمده ويثني عليه بعد ركوب السفينة: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ.. أي فإذا استقر بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل أنت وهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة. ثم أمره أيضا أن يدعوه بعد خروجه من السفينة دعاء مقرونا بالثناء فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، بحسب ما تقتضيه الحكمة. وهذا وما قبله تعليم لذكر الله عند ابتداء السير وانتهائه، قال قتادة: علّمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود 11/ 41] ، وعند ركوب الدابة: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف 43/ 13] أي مطيقين، وعند النزول: وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين لدلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإنا لمختبرون بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويتذكر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 15] . وقيل: أي نعاملهم معاملة المختبرين. وتقدمت القصة بتفصيل أكثر في سورة هود عليه السلام. فقه الحياة أو الأحكام: هذه القصة واضحة الدلالة كغيرها من القصص القرآني على أن نزول العذاب: عذاب الاستئصال والهلاك كان بسبب العناد والإصرار على الكفر، وملازمة الشرك والوثنية. فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم لعبادة الله وحده لا شريك له، وينذرهم بأس الله وانتقامه ممن أشرك به، وكذب رسله،

قائلا لهم: أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عذاب الله، وتتقون عقابه؟ وهو زجر ووعيد ليقلعوا عما هم عليه. فما كان منهم إلا إنكار نبوته معتمدين على شبهات خمس هي: الأولى- إنكار كون النبي أو الرسول بشرا مماثلا لغيره في البشرية، ومساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى، ومتصفا بصفات تجعل له منزلة عليا ودرجة رفيعة وعزة سامية. واتهموه بناء عليه بطلب الزعامة والرئاسة والترفع والسيادة عليهم. الثانية- طلب أن يكون النبي ملكا، فلو شاء الله إرشاد البشر، لوجب إرسال ملك من الملائكة يحقق المقصود بنحو أفضل وأسرع وأنجع من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ينقاد الناس إليهم. الثالثة- الخروج عن سنة الآباء والأسلاف، فهم لا يعرفون غير التقليد واتباع سلوك الآباء، فلما وجدوا في طريقة نوح عليه السلام خروجا عن المألوف، حكموا ببطلان نبوته. الرابعة- اتهامه من قبل الرؤساء بالجنون، للترويج على العوام، بسبب فعله أفعالا على خلاف عاداتهم، ومن كان مجنونا لا يصلح أن يكون رسولا. الخامسة- الصبر عليه وتركه لعاديات الزمان، فإنه إن كان نبيا حقا، فالله ينصره ويقوي أمره، وحينئذ يتبعونه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه. ولم يجب الله تعالى عن هذه الشبه لسخافتها وسطحيتها، فإن جعل الرسول من جملة البشر أولى، لما بينه وبين غيره من الألفة والمؤانسة وإن قصد الزعامة

والسيادة يتنافى مع سمو الأنبياء، فهم منزهون عن هذه المقاصد الدنيوية الزائلة وأما التقليد فهو دليل القصور العقلي، وتعطيل موهبة الفكر والرأي الحر وأما اتهامه بالجنون فيناقضه أنهم كانوا يعلمون بداهة كمال عقله ورجاحة رأيه وأما التربص به إلى حين ففي غير صالحهم لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته بالمعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، وإن لم يأت بمعجزة فلا يقبل قوله. ولما تهاوت حججهم، وأصروا على كفرهم، أمر الله نوحا بالدعاء عليهم والانتقام ممن لم يطعه، ولم يسمع رسالته، وأرسل له رسولا يوحي إليه بصناعة السفينة، فإذا تم صنعها فليأخذ من كل الأصناف زوجين: ذكرا وأنثى، حفاظا على أصول المخلوقات. ثم أمره الله أولا بأن يحمد الله هو ومن معه على النجاة وتخليصه من القوم الظالمين ومما أحاط بهم من الغرق، والحمد الله: كلمة كل شاكر لله. وثانيا بأن ينزله مع المؤمنين إنزالا مباركا أو موضعا طيبا مباركا، يهيئ الله به خير الدارين. وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا: أن يقولوا هذا: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً.. وكذلك إذا دخلوا بيوتهم وسلّموا على أهليهم، أو على الملائكة إذا لم يوجد الأهل. والخلاصة وعبرة القصة: أن في أمر نوح والسفينة وإهلاك الكافرين لدلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه، ويهلك أعداءهم، وأنه تعالى يختبر الأمم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي.

القصة الثانية - قصة هود عليه السلام [سورة المؤمنون (23) الآيات 31 إلى 41] :

القصة الثانية- قصة هود عليه السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) الإعراب: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ ما: خبرية. أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أَنَّكُمْ: إما بدل من الأولى، والتقدير: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما، وإما تأكيد للأولى، وإما في موضع رفع بالظرف، وهو إِذا على قول الأخفش، وعامل إِذا مقدر، تقديره: أيعدكم وقت موتكم وكنتم ترابا إخراجكم، فيكون الظرف وما رفع به خبر (أن) . ومُخْرَجُونَ: خبر أنكم الأولى. هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم لبعد، وهو فعل ماض، فكان مبنيا، وفاعله مقدر، تقديره: هيهات إخراجكم، هيهات إخراجكم. عَمَّا قَلِيلٍ أي عن قليل، وما: زائدة، وعن: تتعلق بفعل مقدر يفسره قوله: لَيُصْبِحُنَّ.

البلاغة:

البلاغة: نَمُوتُ وَنَحْيا بينهما طباق. فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً تشبيه بليغ، أي كالغثاء في سرعة زواله، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه. الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ، وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أسلوب إطناب للذم وبيان أنواع القبائح. تَتَّقُونَ، تَشْرَبُونَ، لَخاسِرُونَ، مُخْرَجُونَ، تُوعَدُونَ سجع لطيف. المفردات اللغوية: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ قَرْناً: قوما أو أمة أو جماعة مجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لتقدمهم على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان. والمراد بهم قوم هود، لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف 7/ 69] . فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي بأن اعبدوا الله، أو قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله. أَفَلا تَتَّقُونَ عقابه فتؤمنوا. وَقالَ الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم. وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بالمصير إليها، أو لقاء ما فيها من الثواب والعقاب. وَأَتْرَفْناهُمْ نعمناهم، أي وسّعنا عليهم وجعلناهم في ترف ونعيم. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد. ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة والحال. يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم، أي والله لئن أطعتم، فيه قسم وشرط، وجواب أولهما، وهو مغن عن جواب الثاني هو: إِنَّكُمْ إِذاً أي إذا أطعتموه لَخاسِرُونَ مغبونون في آرائكم، حيث أذللتم أنفسكم لأمثالكم. وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي مجردة عن اللحوم والأعصاب. أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود، وأنكم هذه تأكيد الأولى لما طال الفصل. هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي بعد بعد التصديق أو الصحة. لِما تُوعَدُونَ من الإخراج من القبور والبعث والحساب، واللام زائدة للبيان. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. وَنَحْيا بحياة آبائنا، يموت

المناسبة:

بعضنا ويولد بعض. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. إِنْ هُوَ أي ما الرسول. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من الرسالة. بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين بالبعث بعد الموت. رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم. بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياي. عَمَّا قَلِيلٍ أي بعد زمان قليل. لَيُصْبِحُنَّ ليصيرن. نادِمِينَ على كفرهم وتكذيبهم. الصَّيْحَةُ: الصوت الشديد، وهي صيحة العذاب والهلاك، وهي صيحة جبريل، صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا. بِالْحَقِّ بالوجه الثابت الذي لا دافع له. غُثاءً شبههم في دمارهم بغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والعيدان اليابسة، وأصل الغثاء: نبت يبس، أي صيرناهم مثله في اليبس. فَبُعْداً من الرحمة وهلاكا. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ المكذبين. المناسبة: هذه هي القصة الثانية في هذه السورة، وهي قصة هود عليه السلام، في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين لقوله تعالى في سورة الأعراف حكاية لقول هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. وقال بعضهم: المراد بهم صالح وثمود لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، والعقاب المذكور هنا هو الصيحة، فالقصة هي قصة صالح عليه السلام. التفسير والبيان: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ... تَتَّقُونَ أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح الهلكى قوما آخرين، هم عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل: المراد ثمود، لقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ. فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشرا مثلهم، فقال لهم: أفلا تتقون وتخافون عقاب الله بعبادتكم غيره من وثن أو صنم، فإن العبادة لا تنبغي إلا له، ولا يستحقها غيره؟!

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ... تَشْرَبُونَ أي قال أشراف قومه المتصفون بصفات ثلاث هي شر الصفات: أولها- الكفر بالخالق وجحود وحدانية. ثانيها- الكفر بيوم القيامة والتكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والمعاد الجثماني. ثالثها- الانغماس في الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، حتى بطروا وجحدوا النعمة، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدعي الفضل عليكم، ويزعم الرسالة من الله إليكم؟ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي وأقسموا لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم، واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم. وبشرية الرسول هي الشبهة الأولى لإنكار هؤلاء القوم. ثم ذكروا شبهة ثانية وهي الطعن في صحة الحشر والنشر، والطعن في نبوته القائمة على إثبات ذلك، فقالوا: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أي أيعدكم أنكم تخرجون وتبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟! ثم قرنوا بالإنكار استبعادهم الشديد وقوع ما يدعيه بقولهم: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم من حدوث البعث الجثماني وعودة الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء. ثم أكدوا إنكار البعث بقولهم:

إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي ما الحياة إلا واحدة وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر ولا بعث. وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود، فقالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أي ما هود الذي يدعي النبوة ويثبت البعث إلا مجرد رجل اختلق الكذب على الله، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار والإخبار بالمعاد، وما نحن له بمصدقين فيما يدّعي ويزعم. ولم يجب الله تعالى عما أوردوه من الشبهتين المتقدمتين، أما كون الرسول بشرا فهو أدعى وألزم للمؤانسة، وتيسر الأخذ عنه، ومناقشته، وتكوين القناعة من أمثالهم عقلا وفكرا ومحاكمة، فليست القضية مجرد إلزام بالقول. وأما استبعاد الحشر فلضعف عقولهم، وقصور ميزانهم لأن العاقل يدرك أنه سبحانه لما كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر، ولأن الإعادة أمر ضروري لإقامة صرح العدالة بين الناس، فلولا الإعادة لكان تسليط القوي على الضعيف في الدنيا ظلما، ولا رادع له، ولا عقاب عليه، وهو غير لائق بالحكيم، لذا قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه 20/ 15] . ولما يئس هود من إيمان قومه بقولهم: وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ فزع إلى ربه: قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي رب انصرني على قومي نصرا مؤزرا بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك وتوحيدك وإثبات لقائك. فأجاب الله دعاءه:

فقه الحياة أو الأحكام:

قالَ: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرن قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وذلك حين ظهور علامات الهلاك لهم، فيحصل منهم الحسرة والندامة على ترك قبول دعوتك لهم إلى الإيمان بالله والتوحيد، وعلى مخالفتك وتكذيبك ومعاندتهم إياك. ثم كان الجزاء والعذاب، فقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي أهلكوا وماتوا بصيحة جبريل الرهيبة بهم، وهي صوت شديد مرعب أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه، قال ابن كثير: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة. فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وطغيانهم وعصيان رسولهم، كقوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف 43/ 76] . وفي هذا غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم من تكذيب رسولهم بأن يصيبهم من العذاب مثل ما أصابهم. فقه الحياة أو الأحكام: العبرة واضحة من هذه القصة، فهي إنذار مخالفي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وبيان عاقبة الكافرين الظالمين الذين ينكرون وحدانية الله، ولا يصدقون بيوم القيامة، ويعاندون رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وواضح من الآيات أن هودا عليه السلام أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له إذ لا يستحق العبادة سواه، وحذرهم من الكفر، وخوفهم من عقاب الله وعذابه.

القصة الثالثة - قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام [سورة المؤمنون (23) الآيات 42 إلى 44] :

أما القوم فكانوا أغبياء إذ صدقوا رؤساءهم وزعماءهم الذين كفروا بربهم وكذبوا بالبعث ولقاء الله، وانغمسوا في نعم الحياة المادية التي أنعم الله بها عليهم، وصدوهم عن الإيمان، معتمدين على شبهتين: الأولى- بشرية الرسل وعدم تميزهم عن سائر البشر بميزة تقتضي اتباعهم. الثانية- إنكار البعث والحشر والنشر والحساب والجزاء. ورتبوا على ذلك إنكار نبوة هود عليه السلام، وبالغوا في إنكار البعث، وأعلنوا كبقية الماديين الملحدين أن الحياة في الدنيا هي الحياة الوحيدة، أو لا حياة إلا هذه الحياة، وأن البشر سلسلة يموت بعضهم، ويحيا بعضهم، وأن رسولهم هود رجل مفتر كذاب فيما يدعيه من الرسالة وما يزعمه من البعث والجزاء. وكانت النتيجة الحتمية المطابقة للعدل هي هلاك القوم وتدميرهم بصيحة جبريل عليه السلام مع الريح الصرصر العاتية، صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها، فماتوا عن آخرهم، وجعلوا هلكى هامدين كغثاء السيل: وهو ما يحمله من بالي الشجر من الأعشاب والقصب مما يبس وتفتّت، فبعدا أي هلاكا لهم، وبعدا لهم عن رحمة الله، بظلمهم وكفرهم وعنادهم وطغيانهم. القصة الثالثة- قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)

الإعراب:

الإعراب: وَما يَسْتَأْخِرُونَ لم يقل: تستأخر، مثل: تسبق، وإنما ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى. تَتْرا في موضع نصب على الحال من (الرسل) أي أرسلنا رسلنا متواترين. وتَتْرا أصلها وترى من المواترة، فأبدل من الواو تاء، كتراث وتهمة وتخمة، ويقرأ بتنوين وغير تنوين، فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر، وألف الإلحاق قليلة في المصادر، فجعلها بعضهم بدلا عن التنوين. ومن لم ينون، جعل ألفها للتأنيث كالدّعوى والعدوى، وهو ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه. المفردات اللغوية: قُرُوناً قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بأن تموت قبله. وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه. تَتْرا متواترين، واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة، أي جعلناهم متتابعين، بين كل اثنين زمان طويل. أَرْسَلْنا رَسُولُها هذا مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ [المائدة 5/ 32] وقوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [الأعراف 7/ 101] فمرة يضيف الرسل إليه تعالى، ومرة إلى أممهم لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول ملابس المرسل، والمرسل إليهم جميعا، وأضاف الرسول عند الإرسال إلى المرسل في قوله: أَرْسَلْنا وعند المجيء إلى المرسل إليهم في قوله: رَسُولُها لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى، والمجيء الذي هو منتهاه إلى القوم. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك. وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لم يبق منهم إلا حكايات يسمر بها، أي جعلناهم أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. والأحاديث: اسم جمع للحديث في رأي الزمخشري، أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا وتعجبا، كالأضحوكة والألعوبة والأعجوبة، وهو المراد هنا. والجمهور على أن الأحاديث في غير هذا الموضع جمع حديث، ومنه أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، وهي مجموع قصص ذات هدف واحد، والله تعالى يقص القصص في القرآن تارة مفصلة، كالقصتين السابقتين،

التفسير والبيان:

وأخرى مجملة كما هنا، والمراد بهذه القصص قصة لوط وصالح وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام. التفسير والبيان: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ أي ثم أوجدنا من بعد هلاك قوم عاد أمما وخلائق وأقواما آخرين، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها، وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي ما تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا، ولا يتأخرون عنه. والمعنى أن وقت الهلاك محدد لا يتقدم ولا يتأخر، فلا تتعجلوا العذاب، فكل شيء عنده تعالى بمقدار، وهذا مرتبط بأجل الإنسان، كما قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] . ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أي ثم بعثنا رسلا آخرين في كل أمة، يتبع بعضهم بعضا، كقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 16/ 36] . كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ أي كلما جاء الرسول أمة بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذبه جمهورهم وأكثرهم، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، كقوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس 36/ 30] . فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك، والمعنى: أتبعنا بعضهم بالهلاك إثر

فقه الحياة أو الأحكام:

بعض، حين كذبوا رسلهم، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء 17/ 17] . وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي وجعلناهم أخبارا وأحاديث للناس، جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به، يتحدثون بها تلهيا وتعجبا، كقوله تعالى: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ 34/ 19] . فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله لقوم لا يصدقون به ولا برسوله. وهذا وارد على سبيل الدعاء، والذم، والتوبيخ، والوعيد الشديد لكل كافر. وهو دليل على أنهم كما أهلكوا عاجلا، فهلاكهم بالتعذيب آجلا على التأبيد مترقب. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات واضحة الدلالة على المقصود منها، وهي أن أجل الهلاك والعذاب محدد بميقات معين، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. وأن رحمة الله وحكمته وعدله اقتضت إرسال الرسل في كل الأمم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء 4/ 165] . ولكن أكثر الناس وجمهورهم يكذبون الرسل ويخالفونهم فيما جاؤوا به، فتكون النتيجة إهلاك بعضهم إثر بعض، وجعلهم أحدوثة (وهي ما يتحدث به) يقص الناس أخبارهم في مجالس السمر، لأنها مدعاة للتعجب. ثم ختمت الآيات بالإنذار والوعيد الشديد بالهلاك والدمار لكل قوم لا يصدقون بوجود الله وتوحيده وإرسال رسله، فإن الكافرين كما أهلكوا في الدنيا، يكون هلاكهم بالتعذيب في الآخرة أمرا منتظرا مؤكدا حصوله.

القصة الرابعة - قصة موسى وهارون عليهما السلام [سورة المؤمنون (23) الآيات 45 إلى 49] :

القصة الرابعة- قصة موسى وهارون عليهما السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) البلاغة: عالِينَ، الْمُهْلَكِينَ سجع لطيف. المفردات اللغوية: بِآياتِنا بالآيات التسع كاليد والعصا، وهي المذكورة في سورة الأعراف وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة بينة واضحة ملزمة للخصم، والمراد بالسلطان المبين: إما الآيات أنفسها، أي هي آيات وحجة بينة، وإما العصا لأنها كانت أمّ الآيات وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر، بضربها بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا، ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعض الآيات، لخصائصها ومزاياها وفضلها، فلذلك عطف عليها، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة 2/ 98] عطفا على الملائكة، مع أنهما منهم. ومثل وغير: يوصف بهما الاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء 4/ 140] وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق 65/ 12] . ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف 7/ 194] . فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بالله وبالآيات، والمتابعة عالِينَ متكبرين قاهرين بني إسرائيل بالظلم أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ «1» مِثْلِنا ثنّى البشر لأنه يطلق للواحد، كقوله تعالى:

_ (1) لفظ البشر يطلق على الواحد والجمع، كما قال تعالى في إطلاقه على الواحد: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم 19/ 17] أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون 23/ 47] . ومثال إطلاقه على الجمع قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم 19/ 26] وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر 74/ 31]

المناسبة:

بَشَراً سَوِيًّا [مريم 19/ 17] كما يطلق للجمع، كقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم 19/ 26] ولم يثنّ المثل لأنه في حكم المصدر، فيوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. وَقَوْمُهُما يعني بني إسرائيل عابِدُونَ خادمون مطيعون، خاضعون منقادون مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في البحر الأحمر الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لعل بني إسرائيل يهتدون إلى المعارف والأحكام. ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم. المناسبة: هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة، ويلاحظ فيها وحدة الموضوع والهدف وشبهة إنكار النبوة، فموضوعها: وصف حال المتكبرين السادة الأشراف الملأ من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف، وفرعون وملئه، وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالحق وبالبينات والمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم. والهدف: هو العبرة والعظة حتى لا يستبد الكفار بآرائهم، ويمعنوا في العناد والكفر، فيستحقوا مثل عقاب من تقدمهم. وأما شبهة إنكار النبوة من المنكرين في هذه القصص فهي واحدة وهي وحدة البشرية أو قياس حال الأنبياء على أحوالهم، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة، وهي شبهة زائفة باطلة لأن النفوس البشرية، وإن اشتركت في أصل القوى والإدراك، فإنها متباينة فيهما، فالناس يتفاوتون في طاقات المواهب والأفكار والمدارك، وفي الاستعدادات الفطرية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف 18/ 110] . التفسير والبيان: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ.. قَوْماً عالِينَ أي ثم أرسلنا بعد الرسل

المتقدمين موسى وأخاه هارون إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من الأقباط بالآيات والحجج الدامغة والبراهين القاطعة، ولكن هؤلاء القوم استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين، كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، وكانوا قوما متكبرين، كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات 79/ 17- 19] وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص 28/ 4] . والآيات كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الآيات التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنون، ونقص الثمرات. ودلت الآية على أن النبوة كانت مشتركة بين موسى وهارون، وكذلك كانت المعجزات واحدة، فمعجزات موسى عليه السلام هي معجزات هارون عليه السلام. وكانت صفة فرعون وقومه أمرين: أحدهما- الاستكبار والأنفة، والثاني- أنهم كانوا قوما عالين، أي رفيعي الحال في أمور الدنيا أو في الكثرة والقوة، أي على جانب من الحضارة والعلم، والعز والسلطان، بدليل الواقع التاريخي. وكانت شبهتهم هي قولهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا، وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ أي قال فرعون وملؤه (أشراف قومه) : كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا وعبيدنا المنقادون لأوامرنا؟! أي أن الرسالة تتنافى مع البشرية، وأن قوم موسى وهارون أتباع أذلة لفرعون وقومه، وهكذا شأن الماديين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله على الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والمال.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا المعنى ذاته شبيه بما قالته قريش: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] . ولم يتنبهوا إلى أن معيار الاصطفاء للنبوة أو الرسالة إنما هو السمو في الفضائل والصفات التي ينعم الله بها عليهم ويؤهلهم لتلقي الوحي وتبليغه إلى البشر. وكان مآل غطرسة فرعون وقومه أمرين: التكذيب بنبوة موسى، وإنزال التوراة على موسى، أما الأول فهو قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ أي كذب فرعون وقومه موسى وهارون، فأهلكهم الله بالغرق في يوم واحد أجمعين في بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم بتكذيبهم رسلهم. وأما الثاني فهو قوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لقد أنزلنا على موسى التوراة المشتملة على الأحكام والأوامر والنواهي، بعد إغراق فرعون وقومه، رجاء أن يهتدي بها بنو إسرائيل إلى الحق، بامتثال ما فيها من المعارف والأحكام، وذلك كقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص 28/ 43] . قال ابن كثير: وبعد أن أنزل الله التوراة، لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين «1» . فقه الحياة أو الأحكام: في قصة موسى وهارون مع فرعون عبرة بالغة وعظة مؤثرة، فلقد بعث الله

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 245 [.....]

القصة الخامسة - قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام [سورة المؤمنون (23) آية 50] :

تعالى موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه، مؤيدين بالمعجزات والأدلة الواضحة القاطعة الدالة على صدقهما، فدعواه وملأه إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده، فاستكبروا وتعالوا عن اتباعهما والانقياد لدعوتهما، لكونهما بشرين. فكان حصاد التكذيب أمرين: إهلاك فرعون وقومه بالغرق في يوم واحد أجمعين في البحر الأحمر، وإنزال التوراة على موسى في الطور، فيها هدى ونور، وتشريع وأحكام، وخص موسى بالذكر هنا لأن هارون كان خليفة في قومه، وإيتاء التوراة كان لكليهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الأنبياء 21/ 48] . القصة الخامسة- قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام [سورة المؤمنون (23) : آية 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) البلاغة: مَعِينٍ مع فواصل الآيات السابقة، عالِينَ، الْمُهْلَكِينَ سجع مستحسن. المفردات اللغوية: ابْنَ مَرْيَمَ عيسى عليه السلام آيَةً حجة وبرهانا على قدرة الله تعالى، ولم يقل: آيتين لأن الآية فيهما واحدة، وهي ولادتها إياه من غير مسيس رجل وَآوَيْناهُما جعلنا مأواهما ومنزلهما إِلى رَبْوَةٍ هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أرض بيت المقدس أو فلسطين أو الرملة، أو دمشق، فإن قراها على الرّبى ذاتِ قَرارٍ أي ذات استقرار فيها، يستقر عليها ساكنوها لأجل ما فيها من الثمار والزروع وَمَعِينٍ ماء جار ظاهر للناس.

المناسبة:

المناسبة: سبق إيراد قصة عيسى وأمه مفصلة في سورتي آل عمران ومريم، ووردت هنا بإيجاز يقتضيه المقام، وهو الاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى، وانتهى بذلك عصر المعجزات لانتهاء النبوة. التفسير والبيان: وجعلنا عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرتنا إذ خلقناه من غير أب. وقد جعلهما الله تعالى آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير رجل، لاشتراكهما في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة. وهو دليل على القدرة الإلهية القادرة على كل شيء، كقوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 91] . وجعلنا مأواهما في مكان مرتفع من الأرض، صالح لاستقرار السكان، ذي ثمار وزروع وخصب، وماء جار ظاهر للعيون لا ينضب، وهو- كما قال قتادة- بيت المقدس، وهو الظاهر، وقيل: هو الرملة من فلسطين، كما روي عن أبي هريرة، وقال مقاتل والضحاك: هي غوطة دمشق إذ هي ذات الثمار والمياه. قال ابن كثير: وأقرب الأقوال في ذلك: ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: المعين: الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى عنه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم 19/ 24] وكذا قال قتادة والضحاك: إلى ربوة ذات قرار ومعين: هو بيت المقدس، فهذا- والله أعلم- هو الأظهر لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وهذا أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار «1»

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 246

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن خلق عيسى عليه السلام من غير أب هو معجزة، وآية دالة على عظمة القدرة الإلهية. وهو إعداد له ليكون نبيا، وقد ظهرت علائم نبوته بالنطق وهو في المهد طفل رضيع. ومقتضى الإعداد للنبوة أن يكفله الله ويحميه، وينعم عليه بالنعم التي تعينه على تحمل أعباء النبوة، ومن تلك النعم الوفيرة: الإيواء في مكان صحي، ومنزل مريح، محاط بالخيرات من كل جوانبه، يفيض بالثمار والزروع والمياه الغزيرة المتدفقة، لتوفير سبل الحياة الكريمة. وسبب الإيواء أن مريم أم عيسى فرت بابنها عيسى إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة. وقد ذهب بهما ابن عمها يوسف النجار، ثم رجعت إلى أهلها، بعد أن مات ملكهم. مبادئ التشريع في الحياة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)

الإعراب:

الإعراب: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً: إِنَّ بالكسر على الابتداء والاستئناف. وتقرأ بالفتح على النصب أو الجر، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر، أي وبأن هذه، أو بفعل مقدر تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. والجر: بالعطف على (ما) في قوله: بِما تَعْمَلُونَ. وأُمَّةً: منصوب على الحال، أي هذه أمتكم مجتمعة، ويقرأ بالرفع: إما بدل من أُمَّتُكُمْ التي هي خبر إِنَّ، وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي أمة واحدة. زُبُراً حال من فاعل فَتَقَطَّعُوا. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما أَنَّما: بمعنى الذي في موضع نصب لأنها اسم (أن) وخبرها نُسارِعُ لَهُمْ به، فحذف (به) وهو حذف وقع في الصلة وفي الخبر. البلاغة: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ استعارة، شبه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإنسان برمته. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ استفهام إنكاري. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ حذف (به) أي نسارع لهم به في الخيرات، وحذف لطول الكلام. فَاتَّقُونِ فَرِحُونَ حِينٍ بَنِينَ سجع مقبول لا تكلف فيه. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نداء وخطاب لجميع الأنبياء، ولكن ليس دفعة واحدة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على معنى أن كلّا منهم خوطب به في زمانه، فيشمل الخطاب عيسى عليه السلام، للتنبيه على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وإنما إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم، وللاحتجاج على الرهبانية في رفض الطيبات. الطَّيِّباتِ ما يستطاب ويستلذ من المباحات في المآكل والفواكه. وَاعْمَلُوا صالِحاً من فرض ونفل. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فأجازيكم عليه. وَإِنَّ هذِهِ ملة الإسلام. أُمَّتُكُمْ ملتكم ودينكم وشريعتكم أيها المخاطبون، يجب ان تكونوا عليها. فَاتَّقُونِ فاحذرون. فَتَقَطَّعُوا أي الأتباع أي قطعوا ومزقوا. أَمْرَهُمْ دينهم. زُبُراً قطعا وأحزابا متخالفين، كاليهود والنصارى وغيرهم، جمع زبور. حِزْبٍ جماعة وأمة. بِما لَدَيْهِمْ عندهم من الدين. فَرِحُونَ مسرورون، معجبون، معتقدون أنهم

المناسبة:

على الحق. فَذَرْهُمْ اترك كفار مكة، ودعهم. فِي غَمْرَتِهِمْ في ضلالتهم وجهالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها. حَتَّى حِينٍ إلى حين موتهم أو قتلهم. أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أن ما نعطيهم ونجعله مددا لهم. مِنْ مالٍ وَبَنِينَ في الدنيا. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ نعجل لهم به، وهو خبر أن، والراجع ضمير محذوف، والمعنى: أيحسبون أن الذي نمدهم به نسارع لهم به فيما فيه خيرهم وإكرامهم. بَلْ لا يَشْعُرُونَ أن ذلك استدراج لهم، وإنما هم كالبهائم، لا فطنة عندهم ولا شعور ليتأملوا، فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج، لا مسارعة في الخير. المناسبة: بعد بيان قصص بعض الأنبياء المتقدمين، أوصى الله تعالى بجملة من المبادئ في الحياة هي الأكل من الحلال، والعمل بصالح الأعمال، وإدراك أن الملة واحدة وأن الدين الحق واحد، ولكن الأمم فرقت دينها شيعا، وهم في حيرة وعمى يظنون أن إفاضة النعم عليهم، لرضا الله عليهم، ولكنها في الحقيقة استدراج، لا مسارعة في الخيرات. التفسير والبيان: 1- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا أمر من الله تعالى عباده المرسلين عليهم السلام بالأكل من الحلال، والقيام بصالح الأعمال، شكرا للنعمة. وهذا دليل على أن الحلال عون على العمل الصالح وسابق عليه، ثم ذكر تعالى علة هذا الأمر، فقال: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي إني مطلع على جميع أعمالكم، لا يخفى علي شيء منها، وأنا مجازيكم عليها. ومن أمثلة الحلال أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وأن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده، كما ثبت في الصحيح، فيعمل الدروع المسردة (أي ذات الحلق من الحديد) بيده معجزة له وأمرا خارقا للعادة، وفي

صحيح مسلم: «وما من نبي إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» . أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ، وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة 2/ 172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء، يا ربّ، يا ربّ، فأنى يستجاب له» . وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله عنها أنها بعثت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بقدح لبن حين فطره، وهو صائم، فرد إليها رسولها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم ردّه وقال: ومن أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها بمالي، فأخذه، فلما كان من الغد جاءته وقالت: يا رسول الله، لم رددته؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «أمرت الرّسل ألا يأكلوا إلا طيبا، ولا يعملوا إلا صالحا» . 2- وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أي وإن دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا يدل على أن الأديان متحدة في أصولها المتعلقة بتوحيد الله ومعرفته. أما اختلاف الفروع من شرائع وأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، فلا بأس به ولا يسمى اختلافا في الدين. ومرجع أعمال الأنبياء جميعا إلى الله تعالى، فأنا ربكم المتفرد بالربوبية، فاحذروا عقابي، ولا تخالفوا أمري، أي والحال أني أنا ربكم.

3- فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي إن أتباع الأنبياء فرقوا أمر دينهم وقطعوه ومزقوه، وجعلوه قطعا، وصاروا فرقا وأحزابا وجماعات، كل حزب يفرحون بما هم فيه من الضلال، ويعجبون بما هم عليه، معتقدين أنه الحق الصراح، ويحسبون أنهم مهتدون. وهذا ذم واضح للتفرق والتشتت، وتوبيخ ووعيد، لذا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أي دعهم واتركهم في جهالتهم وضلالهم إلى حين موتهم أو قتلهم ورؤيتهم مقدمات العذاب وبوادره، كما قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق 86/ 17] ، وقال سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر 15/ 3] . 4- أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، لكرامتهم علينا، ومعزتهم عندنا؟ كلا، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ 34/ 35] . لقد أخطئوا في ذلك، وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء لهم، لهذا قال تعالى: بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يحسون أنما نفعل ذلك بهم استدراجا وأخذا بأيديهم إلى العذاب إذا لم يتوبوا، كما قال تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 9/ 55] ، وقال سبحانه: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 3/ 178] ، وقال عزّ وجلّ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم 68/ 44- 45] . قال قتادة في قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ.. الآية: مكر والله

فقه الحياة أو الأحكام:

بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدّين فقد أحبّه، والذي نفس محمد بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به، فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن الأنبياء كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة، فكذلك هم متفقون على التوحيد، وعلى اتقاء معصية الله تعالى. والدين الذي لا خلاف فيه: معرفة ذات الله تعالى وصفاته، أي إثبات وجود الله وتوحيده، أما الاختلاف في الشرائع والأحكام العملية الفرعية، فلا يسمى اختلافا في الدين. 2- سوّى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وإذا كان هذا مع الأنبياء، فما ظنّ كل الناس بأنفسهم؟!

3- الطيبات هي الحلالات، وإن لأكل الحلال أثرا ملموسا في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، ففي الدنيا يبارك الله تعالى لمن أكل الحلال في جسده وصحته ورزقه وأولاده وأمواله. وفي الآخرة يمتعه الله بالجنان. أما آكل الحرام أو السحت فإنما يأكل ما يؤدي به إلى نار جهنم. 4- اتفقت الرسل جميعا على الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد، وكان أصل الدين واحدا بالدعوة إلى التوحيد وفضائل الأعمال، وما نشاهد من اختلاف وخصام بين أتباع الأديان، فإنما هو من اختلاف الأمم والجماعات فيما بينهم بحسب أهوائهم وعقولهم، وهو خروج عن أصل وحدة الدين الحق. فمن تمسك بالحق المتمثل بالقرآن، ولم يصر على ما توارثه من عقائد محرفة ومشوهة، وسار على نهج خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم، كان من الفائزين الناجين. 5- إن الافتراق المحذر منه في الآية إنما هو في أصول الدين وقواعده، لا في الفروع والجزئيات العملية، فذلك لا يوجب النار لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] ، ويؤيد الآية حديث خرّجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» . 6- إن الكرامة والمكانة للعبد عند الله ليست بالمال والولد، ولكن بالتقوى والعمل الصالح. 7- لقد أخطأ أصحاب الأموال والثروات في الجاهلية وغيرها حينما ظنوا أن الإمداد بالمال والولد دليل على رضا الله تعالى، وإنما هو على العكس استدراج (أخذ قليلا قليلا) إلى مهاوي النار، أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد

صفات المسارعين في الخيرات [سورة المؤمنون (23) الآيات 57 إلى 62] :

من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج» . لهذا شبّه الله تعالى حالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء، فقال: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي فذر هؤلاء الجاهلين يتيهون في جهالتهم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء وقت معلوم. والخلاصة: أن هذا الإمداد للكفار ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات إكراما لهم، وتعجيلا للثواب قبل وقته. صفات المسارعين في الخيرات [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) الإعراب: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ.. خبر إِنَّ في قوله تعالى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وأُولئِكَ: مبتدأ، ويُسارِعُونَ: جملة فعلية: خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره: في موضع رفع لأنه خبر إِنَّ. البلاغة: يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ استعارة، شبه الكتاب بمن له لسان ينطق، مبالغة في وصفه بإظهار البيان وإعلان الأحكام. يُؤْتُونَ ما آتَوْا جناس اشتقاق. مُشْفِقُونَ يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ سابِقُونَ سجع محكم. المفردات اللغوية: خَشْيَةِ رَبِّهِمْ خوف من عقابه أو عذابه. مُشْفِقُونَ حذرون، والإشفاق: نهاية الخوف، وليس هذا هو المراد، وإنما المراد لازمه وأثره وهو دوام الطاعة. بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة، أي الآيات الكونية في الأنفس والسموات والأرض، والآيات المنزلة وهي القرآن. يُؤْمِنُونَ يصدقون. لا يُشْرِكُونَ شركا جليا ولا خفيا. يُؤْتُونَ يعطون. ما آتَوْا ما أعطوا من الصدقات والأعمال الصالحة. وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة ألا تقبل منهم. أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي بأنهم راجعون إلى الله لأن مرجعهم إليه. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها. وَهُمْ لَها سابِقُونَ فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها. وُسْعَها ما يسع الإنسان فعله دون مشقة ولا حرج. كِتابٌ هو صحيفة الأعمال. بِالْحَقِّ بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع. المناسبة: بعد أن ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم بقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أردف بعده صفات من يسارع حقيقة في الخيرات، وهي أربع صفات: خشية الله، والإيمان بآيات ربهم، ونفي الشريك لله تعالى، ويؤدون حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة، وحقوق الآدميين كالودائع والديون، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه صفات المسارعين في الخيرات: 1- إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائمون في طاعته، فالمراد من الإشفاق أثره وهو الدوام في الطاعة. أو أن المراد خائفون من الله، ويكون الجمع بين الخشية والإشفاق للتأكيد. 2- وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي والذين هم بآيات الله الكونية والقرآنية المنزلة يصدقون تصديقا تاما لا شك فيه. والآيات الكونية: هي آيات الله المخلوقة الدالة على وجوده بالنظر والفكر، كإبداع السموات والأرض وخلق النفس الإنسانية. والآيات المنزلة في القرآن، مثل الإخبار عن مريم: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم 66/ 12] ، أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه، ومثل ما شرعه الله، فهو إن كان أمرا فهو مما يحبه ويرضاه، وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرا فهو حق. 3- وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه لا نظير له ولا كفؤ له. ويلاحظ أن الصفة الثانية: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هي الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى، وهو توحيد الربوبية، والصفة الثالثة هي توحيد الألوهية والعبادة ونفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصا في العبادة، بأن تكون لوجه الله تعالى وطلب رضوانه. ولم يقتصر على الصفة الثانية لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد

الربوبية، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] ، ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، فعبدوا الأصنام والأوثان ومعبودات أخرى. 4- وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي والذين يعطون العطاء، وهم وجلون خائفون ألا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط روى الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عزّ وجلّ؟ قال: «لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصدّيق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عزّ وجلّ» . وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي لأنهم أو من أجل أنهم. والإيتاء لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه، سواء كان ذلك من حقوق الله تعالى، كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين، كالودائع والديون والعدل بين الناس لأن من يؤدي الواجب من عبادة أو غيرها، وهو وجل من التقصير والإخلال بنقصان أو غيره، فإنه يكون مجتهدا في أن يوفّيها حقها في الأداء. وترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والصفة الثانية دلت على أصل الإيمان والتعمق فيه، والصفة الثالثة دلت على ترك الرياء في الطاعات، والصفة الرابعة دلت على الإتيان بالطاعات مع الخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين.

أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي أولئك الذين يبادرون في الطاعات لئلا تفوتهم، ويتعجلون في الدنيا وجوه النفع والإكرام كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران 3/ 148] ، وقال: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت 29/ 27] ، وهم لأجل الطاعات سابقون الناس إلى الثواب، وينالون الثمرة في الدنيا قبل الآخرة، لا أولئك الكفار الذين أمددناهم بالمال والبنين، فظنوا خطأ أن ذلك إكرام لهم. والخلاصة: أن السعادة ليست هي سعادة الدنيا، وإنما سعادة الآخرة بالعمل الطيب، وإيتاء الصدقات، مع الخوف والخشية. وبعد بيان كيفية أعمال المؤمنين المخلصين، ذكر الله تعالى حكمين من أحكام أعمال العباد: الأول- وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي إن منهاج شرعنا ألا نكلف نفسا إلا قدر طاقتها، وهذا إخبار عن عدله في شرعه، ورحمته بالعباد، وهو أيضا يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس. والثاني- وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي ولدينا كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال، وقيل: اللوح المحفوظ، يبين بدقة وصدق لا يخالف الواقع أعمال الناس في الدنيا، كما قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية 45/ 29] ، وقال سبحانه: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف 18/ 49] ، فالأظهر أن المراد بالكتاب كتاب إحصاء الأعمال. ثم بيّن الله تعالى فضله على عباده في الحساب بعد بيان يسر التكليف فقال: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي وهم لا يبخسون في الجزاء من الخير شيئا، بل يثابون على

فقه الحياة أو الأحكام:

ما قدموا من الأعمال القليلة والكثيرة، ولا يزاد في عقابهم، فهم لا يظلمون بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، بل يعفو الله عن كثير من السيئات. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن ميزان قبول الأعمال يعتمد على الصفات الأربع، وهي: الخوف من عذاب الله، والإيمان بآيات الله، وإخلاص العبادة لله ونفي الشرك الخفي، وأداء الواجبات مع الاجتهاد في إيفائها حقها. 2- نبهت الآيات على خاتمة الإنسان وهي الرجوع إلى لقاء الله تعالى، جاء في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم» . 3- إن المؤمنين المتصفين بالصفات المتقدمة هم الذين يبادرون في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وأما قوله تعالى: وَهُمْ لَها سابِقُونَ فقال القرطبي: أحسن ما قيل فيه: إنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وقته. فاللام في لَها على هذا القول بمعنى إلى، كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة 99/ 5] ، أي أوحى إليها «1» . وقال الزمخشري والرازي: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون. وهذا ما جرينا عليه في التفسير. ويجوز أن يكون معنى وَهُمْ لَها بمعنى: أنت لها وهي لك. 4- إن الذي وصف الله به الصالحين غير خارج عن حد الوسع والطاقة. وهذا ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف لا يطاق. والآية تقرر مبدءا عاما في التكليف وهو التيسير ودفع الحرج، كما في آية البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [286] .

_ (1) تفسير القرطبي: 12/ 133

إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها [سورة المؤمنون (23) الآيات 63 إلى 77] :

5- أظهر ما قيل في قوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة. وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق. وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم. 6- إن الجزاء على الأعمال لا ظلم فيه بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، فلا يظلم ربك أحدا من حقه، ولا يحطه عن درجته، بل إن فضل الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، فإنه يعفو ويصفح عن كثير من السيئات لعباده المؤمنين. إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 77] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

الإعراب:

الإعراب: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ مُسْتَكْبِرِينَ وسامِراً منصوبان على الحال. وبِهِ من صلة (سامر) . وقال سامِراً بصيغة الإفراد بعد قوله مُسْتَكْبِرِينَ لأن سامِراً في معنى (سمّار) فهو اسم جمع، كالجامل والباقر: اسم لجماعة الجمال والبقر. وتَهْجُرُونَ من هجر يهجر هجرا وهجرانا، والمراد: تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي. وقرئ بضم التاء تَهْجُرُونَ: من (أهجر) : إذا هذى، والهجر: الهذيان فيما لا خير فيه من الكلام. اسْتَكانُوا أصله: استكونوا بوزن استفعلوا، من الكون، فنقلت فتحة الواو إلى الكاف، فتحركت في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا. البلاغة: أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ جناس اشتقاق. فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ استعارة تمثيلية، شبه إعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف. المفردات اللغوية: بَلْ قُلُوبُهُمْ أي الكفار فِي غَمْرَةٍ في غفلة غامرة لها وجهالة مِنْ هذا من كتاب الحفظة، أو مما وصف به هؤلاء، أو من القرآن وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي أعمال خبيثة متجاوزة لما وصفوا به أو أدنى مما هم عليه من الشرك أو غير ذلك هُمْ لَها عامِلُونَ معتادون فعلها، فيعذبون عليها. حَتَّى ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام، وهو الجملة الشرطية هنا مُتْرَفِيهِمْ متنعميهم وهم أغنياؤهم ورؤساؤهم بِالْعَذابِ يعني القتل يوم بدر، أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحترقة يَجْأَرُونَ يصيحون ويضجون، وقد فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة، وهو جواب الشرط. لا تُنْصَرُونَ لا تمنعون منا، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا ولا ينصركم أحد،

وقوله: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي، أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم آياتِي القرآن تَنْكِصُونَ ترجعون وراءكم، والمراد: تعرضون مدبرين عن سماع الآيات وتصديقها والعمل بها مُسْتَكْبِرِينَ عن الإيمان بِهِ أي بالتكذيب أو بالبيت الحرام بأنهم أهله وقوامه، وأنهم في أمن بخلاف سائر الناس في مواطنهم، والباء على هذا المعنى متعلقة بمستكبرين لأنه بمعنى مكذبين سامِراً أي جماعة سمّارا، وهم الذين يتحدثون بالليل حول البيت، يسمرون بذكر القرآن والطعن فيه تَهْجُرُونَ إذا كان من الثلاثي (هجر) أي بفتح التاء: أي تتركون القرآن من الهجر وهو القطيعة، وإذا كان من الرباعي (أهجر) أي بضم التاء: أي تقولون غير الحق في النبي والقرآن، من الهجر: وهو الهذيان والفحش. أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي يتدبروا القرآن الدال على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، ليعلموا أنه الحق من ربهم، بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من الرسول والكتاب، أو من الأمن من عذاب الله، فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقومون كإسماعيل وأعقابه، فآمنوا به وكتبه ورسله وأطاعوه أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالأمانة والصدق، وحسن الخلق، وكمال العلم، مع عدم التعلم، إلى غير ذلك من صفات الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعواه. أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، فلا يبالون بقوله، وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا، وأتقنهم نظرا. والاستفهام للتقرير بالحق، من صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، ومجيء الرسل للأمم الماضية، ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة، وأن لا جنون به بَلْ للانتقال جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم، فلذلك أنكروه، وإنما قيد الحكم بالأكثر لوجود أناس منهم تركوا الإيمان خشية توبيخ قومه، لا لكراهته للحق. وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أي لو اتبع القرآن ما يستهوون، بأن كان في الواقع آلهة شتى، أو ما يهوونه من الشريك والولد لله لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي خرجت عن نظامها المشاهد بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم وفخرهم ووعظهم. خَرْجاً أجرا أو جعلا على أداء الرسالة فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي أجره وثوابه ورزقه خير وأبقى وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل من أعطى وآجر. صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق قويم لا عوج فيه وهو دين الإسلام لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بالبعث والثواب والعقاب عَنِ الصِّراطِ الطريق لَناكِبُونَ عادلون عن طريق الرشاد، فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه. ضُرٍّ جوع أصابهم بمكة سبع سنين لَلَجُّوا تمادوا فِي طُغْيانِهِمْ ضلالتهم

سبب النزول:

يَعْمَهُونَ يترددون وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعني القتل يوم بدر أو الجوع فَمَا اسْتَكانُوا تواضعوا وخضعوا وذلوا وَما يَتَضَرَّعُونَ لا يرغبون إلى الله بالدعاء، بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم حَتَّى ابتدائية ذا عَذابٍ شَدِيدٍ صاحب عذاب، هو يوم بدر بالقتل مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير. سبب النزول: نزول الآية (67) : مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ..: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تسمر حول البيت، ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ. نزول الآية (76) : وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ..: أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أنشدك بالله والرحم، قد أكلنا العلهز، يعني الوبر والدم، فأنزل الله: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ. وأخرج البيهقي في الدلائل بلفظ أن ثمامة بن أثال الحنفي، لما أتي به للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أسير، خلّى سبيله، وأسلم، فلحق بمكة، ثم رجع، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة، حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال: فقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فنزلت. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن الدين يسر لا عسر، فلا تكليف إلا بقدر الطاقة،

التفسير والبيان:

أردف ذلك بالإنكار على الكفار والمشركين من قريش، ووصفهم بأنهم في غمرة من هذا الذي بيّن في القرآن، أو من وصف المشفقين، وأن لهم أعمالا أخرى أسوأ في الكفر والعصيان، كالشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وإيذاء المؤمنين. وبعد أن بين أنه لا ينصر أولئك الكفار، أتبعه بعلة ذلك، وهي أنه متى تليت عليهم آيات القرآن، أتوا بأمور ثلاثة: هي النفور والإعراض عن تلك الآيات وعن تاليها، والاستكبار بالبيت العتيق أو الحرم قائلين: «لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم» والسمر بذكر القرآن والطعن فيه. ولما زيّف طريقة القوم، أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ولكن الكفار تنكبوا عن هذا الطريق وعدلوا عنه، وقد أنذرهم ربهم بإحلال العذاب عليهم بالقتل يوم بدر، والجوع وغير ذلك، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم، وتمادوا في ضلالهم، وهم متحيرون. التفسير والبيان: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي بل قلوب الكفار والمشركين في غفلة وضلالة من هذا البيان الشافي في القرآن، ومن هدايته لأقوم الطرق، وإسعاده للناس في دنياهم وآخرتهم. وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ، هُمْ لَها عامِلُونَ أي ولهم أعمال سيئة منكرة غير ذلك أي غير الغفلة والجهل وهو الشرك والطعن في القرآن وإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين، هم لها عاملون قطعا في المستقبل. وإنما قال ذلك لأن تلك الأعمال مثبتة في علم الله وفي اللوح المحفوظ ومكتوبة مسجلة عليهم سلفا، لإحاطة علم الله بها، وعلم الله لا يتغير.

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي حتى إذا أوقعنا مترفيهم (وهم المتنعمون البطرون في الدنيا) في العذاب الشديد والبأس والنقمة بهم، صرخوا واستغاثوا، كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [المزمل 73/ 11- 12] وقال سبحانه: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص 38/ 3] . لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ، إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي لا فائدة ولا جدوى من الصراخ، فلا يدفع عنكم ما يراد إنزاله بكم، وقد لزم الأمر ووجب العذاب، ولن تجدوا ناصرا ينصركم، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم. وأسباب حجب نصر الله لهم وإيقاع هذا الجزاء ثلاثة هي: 1- قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي إنه متى تليت عليكم آيات القرآن نفرتم منها وأعرضتم عن سماعها وعمن يتلوها، كما يذهب الناكص (الراجع) على عقبيه، بالرجوع إلى ورائه. والمراد: أنهم يعرضون عن الحق، فإذا دعوا أبوا، وإن طلبوا امتنعوا. 2- مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي إنهم حال نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه يكونون مستكبرين استكبارا عليه (أي على الحق) واحتقارا له ولأهله. وضمير بِهِ عائد إلى البيت العتيق أو الحرم، فإنهم كانوا يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه، وليسوا به، أو أنه عائد إلى القرآن أو إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يصفون القرآن بأنه سحر أو شعر أو كهانة، ويقولون عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو كذاب أو مجنون، وكل ذلك باطل، فالقرآن حق، ومحمد نبي الحق، وليس الاستكبار من الحق. 3- سامِراً تَهْجُرُونَ أي سمّارا حول البيت، تتركون القرآن، أو تأتون

بالهذيان، فتسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه. وعلى هذا تتعلق كلمة بِهِ ب: سامِراً. وبعد أن وصف حالهم، أبان أن إقدامهم على هذه الأمور، لا بد من أن يكون لأحد أسباب أربعة هي: 1- أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي أفلا يتفهم المشركون هذا القرآن العظيم؟ مع أنهم خصوا به، وهو معروف لهم بيانا وفصاحة وبلاغة ومضمونا ساميا، ولم ينزل على رسول أكمل ولا أشرف منه، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا نعمة الله عليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها، والعمل بمقتضاها. 2- أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أي أم اعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة، مع أنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل تتالت على الأمم، مؤيدة بالمعجزات، أفلا يدعوهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول؟ 3- أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ، فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي ربما لم يكونوا عارفين رسولهم بخصاله العالية قبل النبوة؟ مع أنهم عرفوا أنه الصادق الأمين، وأنه يفر من الكذب والأخلاق الذميمة، فكيف كذبوه بعد أن اتفقوا على تسميته بالأمين؟ لهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك، إن الله بعث فينا رسولا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وقال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم مثل ذلك. وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلّى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفارا لم يسلموا، فاعترفوا باتصافه بالصدق. 4- أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي بل إنهم يقولون عن الرسول: إن به جنونا لا يدري ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا ورأيا.

ثم بيّن الله تعالى السبب الحقيقي في عدم إيمانهم فقال: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي بل جاءهم الرسول الصادق الأمين بالحق الثابت الذي لا محيد عنه، وهو توحيد الله والتشريع المحقق للسعادة، لكن أكثرهم كارهون لهذا الحق، لتأصل الشرك في قلوبهم، وتمسكهم بتقليد الآباء والأجداد، وحفاظهم على المناصب ومراكز الزعامة والرياسة. وإنما قال أَكْثَرُهُمْ لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم، لا كراهة للحق، كما حكي عن أبي طالب. وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ والحق: كل ما قابل الباطل، فهو الشيء الثابت والصواب والطريق المستقيم، فلو اتبع أهواء الناس لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم، وقيل الحق: الإسلام لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم، وعن قتادة: أن الحق هو الله ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها، ولكان شيطانا. والمعنى العام: أن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على الإنسان ترك الهوى واتباع الحق، فإن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم، فلو جاء القرآن مؤيدا الشرك بالله والوثنية، شارعا ما فيه الفوضى والانحراف كإباحة الظلم وترك العدل، وإقرار النهب والسلب والسرقة، وإباحة الزنى والقتل، وإهمال القيم الخلقية، لاختل نظام العالم ووقع التناقض، وتأخرت المدنية، وفسدت السموات والأرض ومن فيهن، لفساد أهوائهم واختلافها، ولو أبيح العدوان لافتقد الأمن، ولو أبيح الظلم لدمرت المدنية، ولو أبيح الزنى لاختلطت الأنساب وتهدمت الأسر، وهكذا. ومن أفكارهم وأقوالهم ما حكاه القرآن: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ

مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ [الزخرف 43/ 32] قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الإسراء 17/ 100] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء 4/ 53] . وضمير وَمَنْ فِيهِنَّ إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنّها. وأما ما لا يعقل فهو تابع لما يعقل. ثم شنع الله تعالى عليهم لإعراضهم عن معالم الحق والهدى والخير فقال: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي بل جئناهم بالقرآن الذي هو وعظهم أو فيه شرفهم وفخرهم وإعلاء سمعتهم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] ولكنهم معرضون عن هذا الذكر الذي سطر لهم الخلود والمجد. ثم أوضح إخلاص النبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته، وأنه لا يطمع فيهم، حتى يكون ذلك سببا للنفرة فقال: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً، فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي أتسألهم أجرا على تبليغ الرسالة والدعوة إلى الهداية ورفع الشأن حتى لا يؤمنوا بك، ويملّوك ويبغضوك؟ والمراد أن هذه التهمة بعيدة عنه، وأنه صلّى الله عليه وسلم لا يطلب عوضا عن القيام بمهمته، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله. وإن ما عند الله من ثواب خير من ثواب الدنيا، والله أفضل من أعطى وآجر. ونظير الآية كثير في القرآن مثل: قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ 34/ 47] قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص 38/ 86] قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى 42/ 23] .

والخلاصة: أنهم غير معذورين في عدم الاستجابة لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أيده الله بدستور رفيع للحياة البشرية، وليس له مطمع مادي في ملك ولا مال ولا جاه. ثم أبان الله تعالى صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم فقال: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإنك يا محمد لتدعو الناس قاطبة ومنهم هؤلاء المشركون من قريش إلى الطريق المستقيم، والدين القيم الصحيح، وسبيل العزة والكرامة، والخير والسداد والوسط، وهو الإسلام العلاج الشافي لأدواء البشرية، وحل المشكلات الدينية والدنيوية، كما شهدت بذلك العقول السليمة، والدراسات الحيادية المجردة من أعداء الإسلام وعباقرة العلم والمعرفة. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أي وإن المكذبين بالآخرة الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت لعادلون جائرون منحرفون عن هذا الطريق لأن طريق الاستقامة واحدة، وما يخالفه فكثير. وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي إن هؤلاء الكفار لو أسبغنا عليهم واسع رحمتنا، وأزحنا عنهم الضر، وأفهمناهم القرآن، لما آمنوا به ولما انقادوا له، ولتمادوا في ضلالهم، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، وظلوا متحيرين مترددين، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 8/ 23] . وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، وَما يَتَضَرَّعُونَ أي ولقد ابتليناهم بالمصائب والشدائد، فما ردّهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة، بل استمروا على غيهم وضلالهم، وما خشعوا وما خضعوا لربّهم، وما دعوا ولا تذللوا، كما قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام 6/ 43] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ، إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، فنالهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير ومن كل راحة، وانقطعت آمالهم، وخاب رجاؤهم. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن للكفار أعمالا قبيحة جدا في ميزان شرع الله ودينه، أسوأها الشرك، وهم في غفلة وعماية عن القرآن وهديه، وهم عاملون تلك الأعمال لا محالة لأنها مثبّتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ، ولكن دون إجبار ولا إكراه، وإنما باختيار منهم. 2- يعتاد الكافر إذا أصابه العذاب والبلاء في الدنيا أن يجأر بالشكوى ويضج ويستغيث، ولكن إذا داهمه العذاب في الآخرة لم ينفعه التضرع والجزع، ولا يجد ناصرا ينصره من بأس الله تعالى. ومثال ذلك أن مترفي مكة تعرضوا للقتل يوم بدر، وللجوع الشديد، حين قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» فابتلاهم الله بالقحط والجوع، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف، وهلكت الأموال والأولاد، كما تقدم بيانه. 3- كانت أسباب تعذيب الكفار والمشركين ثلاثة: هي النفور عن القرآن والإعراض عن سماعه، والاستكبار بهذا التباعد عن الحق والافتخار بالبيت الحرام وأنهم أولياؤه، فكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله تعالى، وما هم كذلك، والسمر

بذكر القرآن وبالطعن فيه. وضمير مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ كما قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يذكر سابقا لشهرته في الأمر. 4- روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما كره السّمر حين نزلت هذه الآية: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، سامِراً تَهْجُرُونَ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هذيان، وإما في إذاية. وروى مسلم عن أبي برزة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها» . أما كراهية النوم قبلها فلئلا يعرّضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها، وهذا مذهب مالك والشافعي. وأما كراهية الحديث بعدها، فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه، فينام على سلامة، وقد ختم الكتّاب صحيفته بالعبادة، فإن سمر وتحدث، فيجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين. وأيضا السمر في الحديث والسهر يفوت عليه غالبا قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح. روى أحمد حديثا: «لا سمر بعد الصلاة» أي العشاء الآخرة. روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والسّمر بعد هدأة الرجل، فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه، أغلقوا الأبواب، وأوكوا السّقاء، وخمّروا الإناء، وأطفئوا المصابيح» . وهذه الكراهية إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبه. 5- إن إقدام الكفار على الأمور الثلاثة المتقدمة لأسباب أربعة: هي عدم تدبرهم القرآن أي عدم تفهمهم له، واعتقادهم أن مجيء الرسل على خلاف العادة، وتجاهلهم وإنكارهم خصال الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة، فإنهم عرفوه وعرفوا أنه من

أهل الصدق والأمانة، فكان في اتباعه النجاة والخير لولا العنت، ووصفهم له بأنه مجنون للاحتجاج في ترك الإيمان به. مع أنه عليه الصلاة والسلام جاءهم بالحق، أي القرآن والتوحيد الحق والدّين الحق، وأكثرهم كارهون للحق حسدا وبغيا وتقليدا. 6- الحق فوق الأهواء والشهوات، ولو وافق الحق أهواء الكفار، لاختل نظام العالم لأن شهوات الناس متخالفة متعارضة متضادة، لذا وجب اتباع سبيل الحق، والانقياد للحق، والتخلي عن الأهواء. 7- القرآن الكريم شرف وفخر ومجد وعز للعرب، ومع ذلك فهم معرضون عنه وعن تعاليمه، وتلك هي الحماقة بعينها، والمكابرة. 8- ليس للنبي صلّى الله عليه وسلم مطمع في أجر أو جعل على تبليغ ما جاء به قومه من الرسالة، بل هو أسمى من طلب ذلك، لأنه يطلب رضا الله وفضله، وما يؤتيه الله له من الأجر على الطاعة والدعاء إلى دين الله خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليه فعلا أموالهم حتى يصبح أغناهم، فأبى ذلك أيما إباء ولم يجبهم إلى ذلك. 9- إن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم دعوة إلى الاستقامة، وإلى الدين القويم، والمنهج الأعدل والأفضل، لكن الذين لا يصدقون بالبعث لعادلون عن الحق، جائرون منحرفون، حتى يصيروا إلى النار. 10- لو ردّ الله الكفار إلى الدنيا رحمة بهم، ولم يدخلهم النار وامتحنهم مرة أخرى، لتمادوا في طغيانهم، أي في معصيتهم، وظلوا يترددون في ضلالتهم. ولو كشف الله ما بالكفار من ضرّ، أي من قحط وجوع، لتمادوا في ضلالتهم أيضا وتجاوزهم الحد، واستمروا يخبطون في طغيانهم.

نعم الله العظمى على عباده [سورة المؤمنون (23) الآيات 78 إلى 80] :

11- لقد مرّ الكفار في تجربة واضحة، فحينما جاءهم العذاب بالجوع والأمراض والحاجة، ما خضعوا لربهم وما خشعوا له، وما تضرعوا بالدعاء لله عز وجل في الشدائد التي تصيبهم. 12- إن عاقبة أمر الكفار واضحة، فهم إذا تعرضوا لعذاب الله الشديد في الآخرة، أيسوا من كل خير، وتحيروا لا يدرون ما يصنعون، كالآيس من الفرج ومن كل خير، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام 6/ 27- 29] . والخلاصة: يصرّ المشركون على إشراكهم بالرغم من الإنذارات المتكررة وتوافر الأدلة على عظمة الله وقدرته وتحذيره من بأسه الشديد. نعم الله العظمى على عباده [سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) البلاغة: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ امتنان، وأفرد السمع وجمع الأبصار تفننا. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ التنكير للتقليل، وما لتأكيد القلة، والمعنى: شكرا قليلا، وهو كناية عن عدم الشكر.

المفردات اللغوية:

أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ استفهام بقصد التوبيخ والإنكار. يُحْيِي وَيُمِيتُ طباق. المفردات اللغوية: أَنْشَأَ خلق السَّمْعَ الأسماع الْأَفْئِدَةَ لتتفكروا فيها وتستدلوا بها، وتحققوا منافع أخرى دينية ودنيوية قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرونها شكرا قليلا لأن الشكر الحقيقي استعمال الحواس فيما خلقت لأجله، والإذعان لمانحها من غير إشراك، وما لتأكيد القلة ذَرَأَكُمْ خلقكم وبثكم تُحْشَرُونَ تبعثون وتجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم يُحْيِي ينفخ الروح وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما بالسواد والبياض، والزيادة والنقصان، وذلك مختص بالله تعالى لا يقدر عليه غيره، كما يقال: يختلف إلى فلان، أي يتردد عليه، أَفَلا تَعْقِلُونَ صنعه تعالى بالنظر والتأمل أن كل شيء منا، وأن قدرتنا تعم كل الممكنات وأن البعث من جملتها، فتعتبروا. وقرئ بالياء (يعقلون) على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى إعراض المشركين عن تدبر القرآن وفهم أدلة وجود الله ووحدانيته وقدرته، أعقبه ببيان أوجه النعم العظمى على عباده، ليسترشدوا بها على وجود الله وقدرته. وتلك النعم هي الأسماع والأبصار والأفئدة وهي العقول والأفهام التي يذكرون بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله، وأنه الفاعل المختار لما يشاء. التفسير والبيان: امتن الله تعالى على عباده بنعم عظيمة دالة على قدرته وحكمته وعلمه وهي أربعة: 1- وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي والله الذي خلق

لكم الأسماع لسماع الأصوات، والأبصار لرؤية الأشياء، والعقول لفهم الأمور، وإدراك الحقائق المؤدية إلى تحقيق منافع الدنيا والآخرة. وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال على وجود الله وقدرته متوقف عليها. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أن الشاكرين منهم قليل، فما أقل شكرهم لله على ما أنعم به عليهم، والمعنى أنهم لم يشكروا الله على نعمه العظيمة، كما يقال لجحود النعمة: ما أقل شكر فلان! وذلك كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] . 2- وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي والله الذي خلقكم وبثّكم بالتناسل في الأرض، لعمارتها وتحضرها، ووزعكم في أقطارها مع اختلاف الأجناس والألوان واللغات والصفات، ثم يوم القيامة تجمعون جميعا لميقات يوم معلوم، فلا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا أعاده كما بدأه، وله الحكم وحده. 3- وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي وهو الذي وهبكم نعمة الحياة، لكن تلك النعمة غير خالدة، وإنما المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب، وذلك بالإماتة بعد الإحياء، ثم بالإعادة أحياء مرة أخرى للجزاء. 4- وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي ولله وحده تسخير الليل والنهار، وجعل كل منهما يطلب الآخر، يتعاقبان، لا يفتران ولا يفترقان بنظام دقيق وزمان محدد كما قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 40] . ثم حذر الله تعالى من ترك النظر في كل هذا فقال: أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتفكرون في هذه الأشياء، أفلا تعقلون كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأ لا تدلكم عقولكم على العزيز العليم الذي قهر كل

فقه الحياة أو الأحكام:

شيء، وخضع له كل شيء، لتعلموا أن الله حي موجود قادر؟! وفيه دلالة على الزجر والتهديد. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات تعريف عام بكثرة نعم الله عز وجل على عباده، فهو الذي وهبهم مفاتيح العلم والمعرفة، وأمدهم بالحواس التي تمكنهم من الاستدلال بها على كمال قدرته، وهو الذي أنشأهم وبثهم وخلقهم في الأرض لمهمة سامية هي الإعمار والتنمية، ثم يجمعون يوم القيامة للجزاء العادل، وهو الذي منحهم حق الحياة التي يعقبها الموت، حتى لا يطغى الإنسان ويستبد، فالموت يكون نعمة وراحة كالحياة نفسها، وهو الذي أوجد بيئة الحياة السلمية بخلق الليل والنهار وجعلهما متعاقبين بنظام دقيق متلائم مع مرور الفصول الأربعة. وشأن البصير العاقل أن يتعظ ويعتبر ويفهم ويفكر في بدائع الخلق، وعظم القدرة والربوبية والوحدانية، دون أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث. إنكار المشركين البعث وإثباته بالأدلة القاطعة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 90] بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

الإعراب:

الإعراب: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ ... جوابه: قراءة من قرأ: سيقولون الله وأما قراءة سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فليس بجواب قوله تعالى: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ.. وإنما هو جوابه من جهة المعنى لأن معنى قوله: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ: لمن السموات؟ فقيل في جوابه: لِلَّهِ. ونظيره ما بعده وهو قوله تعالى: قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فقال: لله، حملا على المعنى. وهذا كثير في كلام العرب. البلاغة: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه، حذف جواب الشرط لدلالة اللفظ عليه. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ استفهام بغرض الإنكار والتوبيخ. وَهُوَ يُجِيرُ، وَلا يُجارُ عَلَيْهِ طباق السلب. المفردات اللغوية: بَلْ قالُوا أي كفار مكة الْأَوَّلُونَ آباؤهم ومن تبعهم قالُوا أي الأولون أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا، فخلقوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة، كأحدوثة وأعجوبة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خالقها ومالكها، أي إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك. وهذا استهانة بهم، وتقرير لفرط جهالتهم، وإلزام بما لا يمكن إنكاره ممن له شيء من العلم. سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي أن العقل الصريح المجرد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها قُلْ بعد ما قالوه أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعلموا أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإحياء بعد الموت؟!

المناسبة:

قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الكرسي، فإنها أعظم من ذلك أَفَلا تَتَّقُونَ تحذرون عقابه، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ملك كل شيء يُجِيرُ يغيث من يشاء ويحرسه ويمنعه من الغير وَلا يُجارُ عَلَيْهِ لا يغاث أحد ولا يمنع منه، ومعنى الجملتين: يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يحمي ولا يحمى عليه، يقال: أجرت فلانا على فلان: أي أغثته ومنعته منه سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جواب السؤال من جهة المعنى، وهو: من له ما ذكر؟ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ تخدعون، فتصرفون عن الرشد وطاعة الله وتوحيده، مع ظهور الأمر، وتظاهر الأدلة، أي كيف تخيل لكم أنه باطل؟! بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في نفيه. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أدلة التوحيد في الكون والأنفس، أعقبها ببيان إنكار المشركين (عبدة الأوثان) البعث والحشر مع وضوح الأدلة، وتقليدهم الأولين في الاستبعاد والتكذيب. ثم رد عليهم بأدلة ثلاثة تثبت البعث من غير شك. التفسير والبيان: بالرغم من زجر المشركين وتهديدهم في الآيات السابقة على تعطيل عقولهم التي ترشدهم إلى الإقرار بتوحيد الله وقدرته على البعث، فإنهم رددوا مقالة السابقين البدائيين وهي: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي مع كل ما سبق، فإن هؤلاء المشركين أنكروا البعث واستبعدوه، وأعادوا مقالة أسلافهم الذين كذبوا رسلهم، تقليدا أعمى لهم دون برهان، وهذا تعيير بقولهم. وتفصيل تلك المقالة من وجهين: الأول: قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي هل إذا متنا، وصرنا ترابا وعظاما بالية، نعود إلى البعث والحياة؟ فهم يستبعدون وقوع ذلك

والثاني:

بعد البلى، كما قال تعالى: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 10- 14] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 77- 78] . والثاني: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي إن هذا الوعد بالبعث الذي يخبر به محمد صلّى الله عليه وسلم قد وعد به قديما الأنبياء السابقون، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد، وكأنهم لغباوتهم يظنون أن الإعادة تكون في دار الدنيا. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب المتقدمين وأباطيلهم وترهاتهم، قد توارثناها دون وعي، ودون دليل مثبت لصحتها، كما يزعمون. ثم رد الله تعالى عليهم لإثبات البعث ببراهين ثلاثة هي: 1- قُلْ: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي قل أيها النبي لمنكري الآخرة: من مالك الأرض الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وغير ذلك من المخلوقات إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك؟ وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ استهانة بهم وتأكيد لجهلهم. سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون بما دل عليه العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا، فإذا كان ذلك: قُلْ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي قل لهم أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق

هذا ابتداء قادر على إعادته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره؟! وقوله هذا معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه. وهذا البرهان القاطع يصلح للرد على منكري الإعادة وعلى عبدة الأوثان المشركين العابدين مع الله غيره، المعترفين له بالربوبية، ولكنهم أشركوا معه في الألوهية، فعبدوا غيره، مع اعترافهم أن معبوداتهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا، وإنما اعتقدوا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر 39/ 3] . 2- قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي قل لهم أيضا: من خالق السموات وما فيها من الكواكب والملائكة، ومن خالق العرش العظيم الكبير الذي هو سقف المخلوقات، كما قال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة 2/ 255] وكما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة ، وفي الحديث الآخر: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» . فالعرش يجمع بين الصفتين: العظمة والكبر في الاتساع والعلو: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ والحسن والبهاء في الجمال، كما قال في آخر السورة: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن البهي. سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي إنهم سيعترفون فورا بأنه لله وحده، ولا جواب سواه. قُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ أي إذا كنتم تعترفون بذلك، أفلا تخافون عقاب الله وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟!

وكما أن العالمين السفلي والعلوي ملك لله تعالى، فله أيضا تدبير شؤونهما، كما قال: 3- قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي بيده الملك والتصريف والتدبير، كما قال: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود 11/ 56] أي متصرف فيها. وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وهو السيد الأعظم الذي يغيث من يشاء ويحمي من يشاء، ولا يغيث ولا يحمي أحد منه أحدا، فلا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، إن كنتم من أهل العلم بذلك. سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون أن المالك المدبر هو الله لا غيره، فلا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه. وقرئ الله في هذا وما قبله، ولا فرق في المعنى لأن قولك: من ربه، ولمن هو؟ في معنى واحد. قُلْ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟ أي قل لهم مستغربا وموبخا: فأنى تخدعون عن توحيده وطاعته، والخادع: هو الشيطان والهوى، أو فكيف تتقبل عقولكم عبادتكم مع الله غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك وتصريحكم بأنه الخالق المالك المدبر؟. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي بل جئناهم بالقول الحق، والدليل الصدق، والاعلام الثابت بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة القاطعة على ذلك، وإنهم مع ذلك لكاذبون في إنكار الحق، وفي عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم عليها، كما قال في آخر السورة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فهؤلاء المشركون لا يفعلون ذلك عن دليل، وإنما اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي هذا توعد وتهديد على ادعائهم أن لله ولدا وأن معه شريكا، فنسبة الولد إليه محال، والشرك باطل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- ليس للمشركين ومنكري الآخرة دليل عقلي مقبول، وكل ما لديهم من بضاعة هو ترداد أقوال المتقدمين، وتقليد الآباء والأسلاف. 2- إنهم اعترفوا صراحة بأن الله تعالى هو مالك الأرض (العالم السفلي) ومالك السماء (العالم العلوي) ومدبر كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، وهو المتصرف في كل شيء، والقادر على كل شيء. ومن كان هذا شأنه، ألا يكون هو المستحق وحده للعبادة، والقادر على الإحياء والبعث والإعادة؟! ويكون ما أتى به القرآن من الأدلة المثبتة للوحدانية والقدرة والبعث هو الحق الثابت الذي لا مرية ولا شك فيه، وهو القول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك، ونفي البعث. 3- دلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار، وإقامة الحجة عليهم، ونبّهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع، والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة. 4- إن تذييل الآيات بقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ يعد حملة شديدة على المشركين للإقلاع عما هم عليه من الشرك، فقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ معناه

نفي الولد والشريك لله تعالى [سورة المؤمنون (23) الآيات 91 إلى 92] :

الترغيب في التدبر، ليعلموا بطلان ما هم عليه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معناه الاستهانة بهم وتأكيد لفرط جهلهم، وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ معناه التنبيه على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة، وقوله: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ إثبات تناقضهم، إذ كيف تتقبل عقولهم عبادة أحد مع الله، مع اعترافهم الصريح بأن الله هو المالك الخالق المدبر. نفي الولد والشريك لله تعالى [سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) الإعراب: عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالجر بدل من اللَّهُ في قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ ... ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب والشهادة. البلاغة: مِنْ وَلَدٍ مِنْ إِلهٍ ذكر حرف الجر الزائد تأكيد لنفي الولد والإله في الجملتين. المفردات اللغوية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدسه عن مماثلة أحد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يساهم أو يشاركه في الألوهية إِذاً لَذَهَبَ جواب شرط حذف لدلالة ما قبله عليه، أي لو كان معه آلهة، كما يقولون، لذهب كل واحد منهم بما خلقه، واستبدّ واستقل به، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، ووقع بينهم التحارب والتنازع، كما هو حال ملوك الدنيا، فدل الإجماع والاستقراء وبرهان العقل على إسناد جميع الممكنات إلى واحد واجب الوجود. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لغالب بعضهم

المناسبة:

بعضا، كفعل ملوك الدنيا سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عَمَّا يَصِفُونَ أي يصفونه به من الولد والشريك لما سبق من دليل فساده. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم بما غاب وبما شوهد، وهو دليل آخر على نفي الشريك لإجماع العقلاء على أنه تعالى هو المتفرد بذلك فَتَعالى تعاظم عَمَّا يُشْرِكُونَ يشركونه معه. المناسبة: بعد إثبات البعث والجزاء بالأدلة القاطعة، والرد على منكري البعث وعبدة الأوثان أبان الله تعالى أن المشركين كاذبون مفترون في نسبة الولد لله، واتخاذ شريك له. التفسير والبيان: ينفي الله تعالى وينزه نفسه عن أمرين: هما اتخاذ الولد واتخاذ الشريك فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ أي ما جعل لنفسه ولدا، كما يزعم بعض المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أي وما وجد معه إله آخر يشاركه في الألوهية، لا قبل خلق العالم ولا بعد خلقه، كما يتصور الوثنيون باتخاذ الأصنام آلهة. إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لو قدّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما خلق، واستقل بما أوجد، وتميز ملك كل واحد منهم عن ملك الآخر لأن استمرار الشركة مستحيل، ولكان همّ كل واحد منهم أن يغلب الآخر، ويطلب قهره والتسلط عليه، لتظهر قوة القوي على الضعيف، كما هو حال ملوك الدنيا، ولو حدث هذا التغالب والانقسام لاختل نظام الوجود، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن. إلا أن المشاهد أن الوجود منتظم متسق، وفي غاية النظام والكمال وارتباط

فقه الحياة أو الأحكام:

كل من العالم السفلي بالعالم العلوي دون تصادم ولا اضطراب، كما قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك 67/ 3] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. [آل عمران 3/ 190] . ولما ثبت كون التعدد في الآلهة مستحيلا، وبطل قول الكفار في الأمرين معا، قال تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله الحق الواحد الأحد عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة، أي بعلم ما غاب عن إدراك الخلق من الأشياء، ويعلم ما يشاهدونه وما يرونه ويبصرونه، فهو يعلم الأمرين معا على حد سواء، وهذا دليل آخر على نفي الشريك لأن غير الله وإن علم الشهادة أي الموجودات المرئيات أمامه، فلن يعلم معها الغيبيات غير المرئيات، وهذا دليل النقص، والله تعالى متصف بالكمال، فلا يكتمل النفع بعلم الشهادة وحدها، دون العلم بالغيب. فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تقدس وتنزه عما يقول الجاحدون الظالمون الذين يشركون معه إلها آخر. فقه الحياة أو الأحكام: هذا دليل عقلي لا يقبل الإنكار والطعن من أحد، فالله لم يتخذ ولدا كما زعم بعض الكفار، ولا كان معه إله فيما خلق، فلو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه، كما هو مقتضى العادة، ولغالب بعضهم بعضا، وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وحينئذ لا يستحق الضعيف المغلوب الألوهية. وهذا كما يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا لأن الولد ينازع عادة الأب في الملك منازعة الشريك.

إرشادات إلى النبي صلى الله عليه وسلم [سورة المؤمنون (23) الآيات 93 إلى 98] :

فتنزه الله عن أوصاف المشركين من الولد والشريك، وتقدس عما يقوله هؤلاء الظالمون والجاحدون. وقد ذكر علماء الكلام هذا الدليل وسموه دليل التمانع: وهو أنه لو فرض صانعان خالقان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم، والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما، كانا عاجزين، والإله الواجب الوجود لا يكون عاجزا، ويمتنع اجتماع مراديهما وتحقيق رغبتهما في آن واحد للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا. فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب الوجود المستحق الألوهية، والآخر المغلوب يكون ممكنا لأنه لا يليق بصفة الواجب الوجود أن يكون مقهورا. إرشادات إلى النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) الإعراب: قُلْ: رَبِّ أي يا ربّ، وهو اعتراض بين الشرط وجوابه بالنداء. البلاغة: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ تأكيد بإن واللام لإنكار المخاطبين وقوع العذاب الأخروي والدنيوي.

المفردات اللغوية:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ طباق معنوي لأن المعنى: ادفع بالحسنة السيئة. المفردات اللغوية: رَبِّ إِمَّا أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة، أي إذا كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا والآخرة فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم، فأهلك بهلاكهم لأن شؤم الظلمة قد يحيق بما وراءهم، كقوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] . وإن تكرار كلمة رَبِّ في بدء الجملتين لزيادة التضرع وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أي بقدرتنا تعجيل العذاب، لكنا نؤخره لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمنون، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهو الصفح والإحسان والإعراض عنهم السَّيِّئَةَ أذاهم إياك بِما يَصِفُونَ يصفونك به أو يقولون ويكذبون، فإنا سنجازيهم عليه أَعُوذُ أعتصم هَمَزاتِ الشَّياطِينِ نزغاتهم ووساوسهم بالشر أَنْ يَحْضُرُونِ في أموري لأنهم إنما يحضرون بسوء، أو يحومون حولي في بعض الأحوال. المناسبة: بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين مزاعمهم من اتخاذ الولد والشريك وأبطل سوء اعتقادهم كإنكار البعث والجزاء، وجّه رسوله صلّى الله عليه وسلم إلى الدعاء والتضرع بالنجاة من عذابهم، ثم أرشده إلى مقابلة السيئة بالحسنة لأن الإحسان يفيد أحيانا، ثم أمره أن يستعيذ من وساوس الشياطين في مختلف الأعمال. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى نبيه ببعض الأدعية عند حلول النقم، فيقول: قُلْ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، فلا

تجعلني فيهم، ونجني منهم ولا تعذبني بعذابهم لأن العذاب قد يصيب غير أهله، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] روى الإمام أحمد والترمذي وصححه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون» . وعن الحسن: أنه تعالى أخبر نبيه أن له في أمته نقمة، ولم يطلعه على وقتها، فأمره بهذا الدعاء. والإرشاد إلى هذا الدعاء ليعظم أجره، وليكون دائما ذاكرا ربّه، ولتعليمنا ذلك. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أي لو شئنا لأريناك ما نوقعه بهم من النقم والبلاء والمحن، ولكنا نؤخره لوقت معلوم لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمن. ثم علمه أسلوب الدعوة حتى يتحقق لها النجاح فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي قابل السيئة بالحسنة، وتحمل ما تتعرض له من أنواع أذى الكفار وتكذيبهم، وادفع بالخصلة التي هي أحسن، بالصفح والعفو، والصبر على الأذى، والكلام الجميل كالسلام، نحن على علم بحالهم وبما يصفوننا به من الشرك والتكذيب. ونظير الآية قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت 41/ 34- 35] أي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة إلا الذين صبروا على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل في مقابلة القبيح، وما يلهمها إلا صاحب الحظ العظيم في الدنيا والآخرة. وقيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة لأن المداراة مرغوب فيها، ما لم تتعارض مع الدين والمروءة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم علمه الثبات على هذا الخط فقال: وَقُلْ: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي وقل: إني أعتصم بك وألتجئ إليك من وساوس الشياطين المغرية بالسوء والمعصية ومخالفة أوامرنا، وألتجئ إليك من حضورهم في شيء من أموري، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور، فإنهم إذا حضروا الإنسان حدث الهمز، وإذا لم يكن حضور، فلا همز. روى أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون» . فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلّقها في عنقه. فقه الحياة أو الأحكام: هذه باقة من الأدعية أمر الله بها نبيه ليدعو بها، ولتعليمنا إياها، وهي: أولا- دعاء النجاة من العذاب الذي يقع بالكفار، ومعناه: يا ربّ، إن أريتني ما يوعدون من العذاب، فلا تجعلني معهم في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم.

تمني الإنسان عند الموت الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا [سورة المؤمنون (23) الآيات 99 إلى 100] :

وكان صلّى الله عليه وسلم يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره بهذا الدعاء، ليعظم أجره، وليكون في كل الأوقات ذاكرا ربّه تعالى. والله قادر على إنزال العذاب بهم، وأراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف في يوم بدر وفتح مكة، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك. وثانيا- دعاء الاعتصام من الشيطان، والمعنى: يا ربّ إني ألتجئ إليك من نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، وفي حالات الغضب. وبين الدعاءين تعليم لأسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وهو مقابلة السيئة بالحسنة، أي بالصفح ومكارم الأخلاق، لتنقلب العداوة صداقة، والبغض محبة، قال الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسانه تمني الإنسان عند الموت الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 100] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) الإعراب: قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ: إنما جاءت المخاطبة بلفظ الجمع، ولم يقل: ارجعني تعظيما لله تعالى، أو على معنى التكرار، كأنه قال: ارجعني ارجعني، فجمع، كما ثنّى في قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي ألق ألق.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، إذ أنه أطلق الكلمة على الجملة. المفردات اللغوية: حَتَّى ابتدائية. جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي الكافر، وهو متعلق بقوله: يَصِفُونَ في الآيات المتقدمة، وما بينهما اعتراض، وقد يسأل المؤمن الرجعة أيضا، فإذا رأى الكافر مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن، طلب العودة إلى الدنيا، وكذلك المؤمن يسأل الرجعة، كما جاء في آخر سورة المنافقين: فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [10] . ارْجِعُونِ الواو لتعظيم المخاطب، أي ردوني إلى الدنيا. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً بأن أشهد أن لا إله إلا الله. فِيما تَرَكْتُ ضيعت من عمري. كَلَّا كلمة ردع وزجر عن حصول ما يطلب، أي لا رجوع. إِنَّها أي قوله: رب ارجعون كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا فائدة له فيها. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي من أمامهم. بَرْزَخٌ حائل أو حاجز بينهم وبين الرجعة. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إلى يوم القيامة، ولا رجوع بعده، فهو تيئيس وإقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة. المناسبة: بعد أن كشف الله حال المشركين وما يصفون من الشرك والتكذيب، ذكر الله حال الكافرين عند مجيء الموت، فإنهم يتمنون أن يعودوا إلى دار الدنيا ليعملوا صالحا، لكن لا يسمع لقولهم ودعائهم. والمراد أن الكفار ما يزالون على سوء الحال والاعتقاد إلى الموت، فهذه الآية متعلقة بقوله: يَصِفُونَ وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم وإهمالهم، بالاستعانة بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم، ويزحزحه عن الأناة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو العصاة المفرطين في أمر الله تعالى وماذا يقولون حينئذ، فقال تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي إذا دنا الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله من الموت، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، وقال: ربّ ارجعني لكي أتدارك ما قصرت فيه، وأعمل العمل الصالح الذي ترضى عنه من الطاعات والخيرات وأداء حقوق الناس. وقوله: لَعَلِّي ليس المراد بها الشك، وإنما يعني كونه جازما بأنه سيتدارك. وذلك كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم 14/ 44] وقال سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف 7/ 53] . وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة 32/ 12] وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الأنعام 6/ 27] ، وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى 42/ 44] ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر 35/ 37] .

وهذا كله يدل على أن تمني العودة إلى الدنيا يحدث حال المعاينة للعذاب عند الاحتضار، وحين النشور، وحين الحساب، وحين العرض على النار، وبعد دخولهم النار. وليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر، وإنما يشمل ذلك المؤمن المقصر في الطاعات وأداء حقوق الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون 63/ 10] . كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يجيبهم الله تعالى بقوله: كلا وهي كلمة ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى طلبه، وتلك كلمة لا بدّ من أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لما عمل صالحا، وكذب في مقالته هذه كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] . ثم إنه بين الظلمة حال الاحتضار وبين الرجوع إلى الدنيا وأمامهم حاجز ومانع من الرجوع. فالبرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة، فمن مات دخل في البرزخ، أو حياة المقابر. وهذا تهديد بعذاب البرزخ، وتيئيس إلى يوم القيامة لهؤلاء المحتضرين من الظلمة من الرجوع أبدا لأنهم إذا لم يرجعوا حال وجود بقية من الحياة فلا يرجعون بعدئذ مطلقا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة، وتلقي عذابها كما قال تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية 45/ 10] وقال سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم 14/ 17] . والخلاصة: أن المراد من قوله: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أن العذاب يستمر بهؤلاء إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث: «فلا يزال معذبا فيها» أي في الأرض وهم في القبور.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يلي: 1- يتمنى الإنسان الكافر والمؤمن المقصر الرجعة إلى دار الدنيا ليتدارك ما فاته فيها إما من الإيمان أو العمل الصالح، ولا يطلب الرجعة إلا بعد أن يستيقن العذاب. 2- لا رجعة بعد البعث أو دنو الموت إلا إلى الآخرة. 3- يستمر الكافرون والعصاة في عذاب القبور أو البرزخ إلى يوم القيامة، قالت عائشة رضي الله عنها: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم، حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. موازين النجاة في حساب الآخرة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 111] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)

الإعراب:

الإعراب: فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خالِدُونَ بدل من صلة الَّذِينَ أو خبر ثان لأولئك فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا بكسر السين وقرئ بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد، وهما من سخر يسخر: من الهزء واللعب. بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ما: مصدرية، وأَنَّهُمْ في موضع نصب ب جَزَيْتُهُمُ لأنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: جزيتهم بصبرهم لأنهم الفائزون. وجَزَيْتُهُمُ ضمير فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين. البلاغة: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ.. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.. بين الآيتين مقابلة. أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ فيها قصر. يَتَساءَلُونَ، الْمُفْلِحُونَ، خالِدُونَ، كالِحُونَ، تُكَذِّبُونَ، ظالِمُونَ، تُكَلِّمُونِ، تَضْحَكُونَ، الْفائِزُونَ سجع غير متكلف. المفردات اللغوية: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ الصُّورِ بوق ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى لتموت المخلوقات، والثانية لتحيا المخلوقات من القبور لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر 39/ 68] والمراد هنا النفخة الثانية لقيام الساعة. وقيل: الصور جمع صورة كبسر وبسرة، والمراد: نفخ الروح في الأجساد. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبينه، وقيل: لا أنساب يفتخرون بها

المناسبة:

وَلا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه، وهو لا يناقص قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور 52/ 25] لأن الآية هنا عند النفخة، وذلك بعد المحاسبة ودخول أهل الجنة وأهل النار النار. أو لا يتساءلون عن الأنساب. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزوناته بالحسنات من عقائد وأعمال، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله وقدر. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والدرجات. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ موزوناته بالسيئات، أي ومن لم يكن له وزن وهم الكفار، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف 18/ 105] . خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا. كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان، وهذا هو الكلوح. أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي من القرآن، وهذا على إضمار القول أي يقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ. فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله. شِقْوَتُنا وشقاوتنا بمعنى واحد: ضد السعادة، أي صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، والمراد: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، وسميت شقوة لأنهما يؤديان إليها. ضالِّينَ تائهين عن الحق والهداية. فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب. فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا. قالَ مالك خازن النار اخْسَؤُا فِيها اسكتوا سكوت ذلة وهوان، أو اقعدوا في النار أذلاء وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب عنكم. إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي أي المؤمنون. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا هزءا، مثل بلال وصهيب وعمار وسلمان. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي خوف عقابي، من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم. تَضْحَكُونَ استهزاء بهم. جَزَيْتُهُمُ النعيم المقيم. بِما صَبَرُوا بصبرهم على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم. الْفائِزُونَ الظافرون بمطلوبهم. المناسبة: بعد أن قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إن هناك حاجزا إلى يوم القيامة، ذكر أحوال ذلك اليوم، من عدم الاعتداد بالأنساب، وجعل الحسنات أساس الفوز في الآخرة، والسيئات سبب دخول جهنم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ أي إذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والقرابات بالرغم من وجود التعاطف والتراحم لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، وانشغال كل إنسان بنفسه، ولا يسأل القريب قريبه، لاشتغاله بنفسه، كما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] وقوله سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج 70/ 10- 11] أي لا يسأل القريب قريبه، وهو يبصره. هذا عند النفخة، أما بعد القرار في الجنة أو النار، فيسأل أهل الجنة بعضهم عن بعض، كما في قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات 37/ 27] . وجاء في السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني، يغيظني ما يغيظها، وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري» . وأصل هذا الحديث في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما آذاها» . وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: «ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط «1» لكم إذا جئتم» .

_ (1) أنا فرطكم: أي متقدمكم، يقال: فارط وفرط: إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء.

وروى الطبراني والبزار والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله، ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» . ثم شرح أحوال السعداء والأشقياء فقال: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من رجحت حسناته على سيئاته، ولو بواحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي ثقلت سيئاته على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة، بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وهذه هي الصفة الأولى لأهل النار، ثم أتبعها بصفات ثلاث أخرى، فصارت أربعا: 1- فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي ماكثون في جهنم على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وفيه دلالة بيّنة على خلود الكفار في النار. 2- تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم كما قال تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم 14/ 50] وقال سبحانه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ، وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء 21/ 39] . وإنما خص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء. أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.

3- وَهُمْ فِيها كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان. فالكلوح: أن تتقلص الشفتان وتتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشوية. ثم ذكر الله تعالى ما يقال لأهل النار تقريعا وتوبيخا على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم فقال: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي ألم تكن آياتي من القرآن تتلى عليكم للتذكير والموعظة وإزالة الشّبه، فتكذبون بها، وتعرضون عنها. وهذا كما قال تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك 67/ 8- 9] وقال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] . وهذا من المخطط العام لرسالات الأنبياء وإنزال الكتب، كما جاء في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] وقوله عز وجل: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء 4/ 165] . فأجابوا عن السؤال هنا: قالُوا: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي غلبت علينا شهوات نفوسنا وملذاتنا، بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، كما قال تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر 40/ 11] . رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي يا ربنا أخرجنا من

النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة. فأجابهم الله تعالى بقوله: قالَ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أي قال الله للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى الدنيا: امكثوا فيها- أي في النار- أذلاء صاغرين مهانين، واسكتوا ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي، ولا رجعة إلى الدنيا. ثم ذكر سبب عذابهم فقال: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي إنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربنا صدقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير من يرحم. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ أي فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم على نسيان ذكري، وعدم الاهتمام بشأني، ولم تخافوا عقابي، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين 83/ 29- 30] أي يلمزونهم استهزاء. ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين فقال: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي إني جازيتهم في يوم القيامة بصبرهم على أذاكم لهم واستهزائكم بهم بالفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم

فقه الحياة أو الأحكام:

المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين 83/ 34- 36] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إذا حدثت النفخة الثانية ليوم القيامة شغل كل امرئ بنفسه، ولم يلتفت إلى أحد من أقربائه، ولو كانوا من الوالدين والأولاد والزوجات، ولا تنفع أحدا روابط الدم والنسب التي كانت تربط الأسر فيما بينهم في الدنيا. لكن جاء في الحديث الثابت كما تقدم استثناء صلة النسب والقرابة بالنبي صلّى الله عليه وسلم. 2- إن ميزان النجاة من النار والفوز بالجنة هو رجحان الحسنات على السيئات، ولو بواحدة. وإن سبب اقتحام النار هو العكس أي رجحان السيئات على الحسنات. 3- لأهل النار أثناء العذاب صفات أربع: هي خسارة أنفسهم أي غبنها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وخلودهم في نار جهنم، وإضرام النار في أجسادهم حتى تأكل لحومهم وجلودهم، وظهور أمارات العذاب على الأوجه بالكلوح: وهو تقلص الشفاه عن الأسنان، كالرءوس المشوية. 4- اعترف أهل النار حين اقتحام العذاب بالأسباب التي أدت بهم إلى العقاب: وهي غلبة أهوائهم وشهواتهم على نفوسهم، حتى ساءت أحوالهم، وصاروا إلى سوء العاقبة، وضلالهم عن الحق والهداية، وظلمهم أنفسهم، وتكذيبهم بآيات ربهم، واستهزاؤهم من المؤمنين، ونسيانهم ذكر الله والخوف من عقابه.

التنبيه على قصر مدة اللبث في الدنيا وعقاب المشركين ورحمة المؤمنين [سورة المؤمنون (23) الآيات 112 إلى 118] :

5- لقد طلب الكفار الرجعة إلى الدنيا وهم في النار، كما طلبوها عند الموت لتدارك ما فاتهم من الأعمال الصالحة والإيمان الصحيح، ولكن لا رجعة لأحد إلى دار الدنيا بعد البعث والحساب. 6- اقتضى العدل مجازاة المؤمنين الذين صبروا على الأذى والسخرية جزاء عادلا وهو الفوز بالجنة يوم القيامة، والنجاة من النار. 7- على المؤمن إكثار الدعاء بقوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. التنبيه على قصر مدة اللبث في الدنيا وعقاب المشركين ورحمة المؤمنين [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) الإعراب: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ كَمْ: منصوبة ب لَبِثْتُمْ. وعَدَدَ سِنِينَ: تمييز، وسِنِينَ: جمع سنة، وأصل سنة: سنهة أو سنوه، فلما حذفت اللام، جمع جمع التصحيح، أي جمع المذكر السالم، عوضا عما دخلها من الحذف.

البلاغة:

فَسْئَلِ الْعادِّينَ جمع العادّ من العدّ. ومن قرأه بالتخفيف جعله جمع (عادي) من قولهم: بئر عاديّة، أي قديمة، فلما جمع جمع المذكر السالم (أي بالواو والنون) حذف منه ياء النسب، وصارت ياء الجمع عوضا عن ذلك، كالأعجمين والأشعرين، جمع أعجمي وأشعري، وقيل في قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أنه جمع إلياسيّ، منسوب إلى إلياس. عَبَثاً حال بمعنى عابثين، أو مفعول لأجله. البلاغة: وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: قالَ أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أحياء في الدنيا وأمواتا في قبوركم، واللبث: الإقامة. لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصروا مدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار وما هم فيه من العذاب. فَسْئَلِ الْعادِّينَ الذين يتمكنون من عدّ أيامها، أو الملائكة الذين يعدّون أعمار الناس ويحصون أعمالهم. قالَ تعالى بلسان مالك خازن النار. إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم. لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مدة لبثكم بالنسبة إلى لبثكم في النار. عَبَثاً ما خلا من الفائدة، أو لا لحكمة، توبيخ على تغافلهم. والمراد: إنا لم نخلقكم تلهيا بكم، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم، وهو كالدليل على وجود البعث. وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ أو عَبَثاً، وقرئ بفتح التاء. والمراد أننا خلقناكم لنتعبدكم بالأمر والنهي وترجعون إلينا، ونجازي على ذلك. فَتَعالَى اللَّهُ تنزه الله عن العبث وغيره مما لا يليق به. الْمَلِكُ الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يزول. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ الكرسي الحسن، وهو مركز تدبير العالم، ووصف بالكريم لشرفه. يَدْعُ أي يعبد. لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ لا دليل له عليه، وهو صفة كاشفة لا مفهوم لها. حِسابُهُ جزاؤه. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا يسعدون، والضمير في إِنَّهُ للشأن والأمر. ويلاحظ أنه تعالى بدأ السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين، وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين. اغْفِرْ وَارْحَمْ المؤمنين، وطلب الرحمة زيادة عن المغفرة.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان إنكار الكفار للبعث، وأنه لا رجعة إلى الدنيا بعده، ذكر تعالى أنهم يسألون في النار سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، دون أن يكون القصد مجرد السؤال. ثم ذكر تعالى ما هو كالدليل على وجود البعث، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه، تعليما وإرشادا للأمة، حتى لا يكونوا مثل أولئك الكفار. التفسير والبيان: ينبه الله تعالى الكفار على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صبروا لفازوا كالمؤمنين، فيقول: قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم: كم كانت مدة إقامتكم في الدنيا؟ والغرض من السؤال التبكيت والتقريع والتوبيخ، تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا، فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه من البعث، فتحصل لهم الحسرة على سوء اعتقادهم في الدنيا. قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ نسوا مدة لبثهم في الدنيا، لعظم ما هم فيه من الأهوال والعذاب، حتى ظنوا أن المدة يوم أو بعض يوم، أو المراد تحقير مدة لبثهم بالنسبة إلى ما وقعوا فيه من أليم العذاب. فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي فاسأل الحاسبين، أو الملائكة الحفظة الذين يحصون أعمال العباد وأعمارهم. قالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال لهم الملك: ما لبثتم إلا

زمنا يسيرا، على كل تقدير، ولو كنتم تعملون شيئا من العلم لآثرتم الباقي على الفاني، ولعملتم بما يرضي ربكم، ولو صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا. روى ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي الذي خطب الناس فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين!! ثم قال: يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين» . ثم شدد الله تعالى في توبيخهم على غفلتهم فقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا، أي لعبا وباطلا بلا قصد ولا حكمة لنا، بل خلقناكم للعبادة والتهذيب والتعليم وإقامة أوامر الله تعالى. وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الدار الآخرة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا [القيامة 75/ 36] . فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي تنزه وتقدس الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم الحسن البهي الذي يدبر فيه نظام الكون بحكمة ومقصد سام.

ثم ردّ الله تعالى على من نسب إليه ولدا أو شريكا فقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ومن يعبد إلها آخر مع الله الذي لا يستحق العبادة سواه، دون أن يكون له دليل على صحة معتقده وعبادته، فجزاؤه محقق شديد عند ربه وخالقه، وذلك توبيخ وتقريع وتهديد بما لا يوصف، فمن ادعى إلها آخر فقد ادعى باطلا من حيث لا برهان له فيه، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم، وإنما مصيرهم إلى الجحيم، وهذا يقابل افتتاح السورة، فإنه بشر بفلاح المؤمنين، وختم هنا بخيبة الكافرين. وَقُلْ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي قل أيها النبي: يا رب اغفر لي ذنوبي، واستر عيوبي، وارحمني بقبول توبتي، ونجاتي من العذاب، فأنت خير من رحم عباده. أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبّان عن أبي بكر أنه قال: «يا رسول الله، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» . والآيتان الأخيرتان من آيات الشفاء، أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه مرّ برجل مصاب، فقرأ في أذنه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً.. حتى ختم السورة، فبرأ، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له: «بماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره، فقال: «والذي نفسي بيده، لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» . وواضح من ذلك أن المعول عليه هو إيمان القارئ ويقينه وصفاؤه، واستعداد المريض وقابليته للتداوي بالقرآن.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- التنبيه على قصر مدة المكث في الدنيا، والاستفادة من تلك المدة بأقصى قدر ممكن للقيام بالطاعات والتقرب بالقربات، واجتناب المحظورات والمنهيات. 2- إن شدة العذاب التي يرتع بها الكفار في نار جهنم أنستهم مدة مكثهم في الدنيا أحياء، وفي القبور أمواتا. لذا أحالوا الجواب على الحاسبين العارفين بذلك، أو على الملائكة الذين كانوا معهم في الدنيا. 3- قرر الله تعالى أن مدة المكث أو اللبث في الدنيا قليلة لتناهيها بالنسبة إلى المكث في النار، لأنه لا نهاية له، لو علم الناس بذلك، فيكون المراد من قوله تعالى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن زمن الدنيا قليل لو علمتم البعث والحشر، لكنكم لما أنكرتم ذلك صرتم تعدونه طويلا. 4- إن للمخلوقات رسالة سامية في الحياة، وهي إطاعة الله تعالى فيما أمر، وعبادته بحق، واجتناب ما نهى عنه، فإنه تعالى لم يخلق الناس عبثا أي لعبا باطلا، دون قصد ولا حكمة، وإنما خلقهم لأداء مهمة خطيرة معينة، هي إظهار العبودية لله، قال الحكيم الترمذي أبو عبد الله محمد بن علي: إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رقّ الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية، فهم اليوم عبيد أبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النار. وروى ابن أبي حاتم عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة

خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيكم للحكم بينكم، والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم، وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان. ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردوا إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأحباب، وباشر التراب، وواجه الحساب، مرتهن بعلمه، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم. ثم جعل طرف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى من حوله. 5- من قصر النظر وجهالة الإنسان وغبائه أن يظن كما يظن الماديون أن الدنيا هي كل شيء، وألا رجعة إلى الله والدار الآخرة، ليجازى الناس على أعمالهم. 6- تقدس الله وتنزه عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها لأنه الحكيم، والملك الحق الثابت المبين الذي لا يزول ولا يبيد ملكه وقدرته، ويحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، وهو الثابت الذي لا يزول، وذو العرش العظيم الكريم، لا إله غيره، ولا رب سواه، فما عداه

مصيره إلى الفناء، وما يفنى لا يكون إلها. والمراد بالعرش: العرش حقيقة، ووصفه بالكريم لتنزل الرحمة والخير والبركة منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين. 7- إن من يعبد مع الله إلها آخر لا بينة ولا حجة ولا دليل له عليه، فإن الله هو الذي يعاقبه ويحاسبه، وإنه لا يفلح الكافرون، ولا يفوزون بالنعيم والسعادة الأبدية، فمن ادعى إلها آخر، فقد ادعى باطلا إذ لا برهان له فيه، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته، وهذا دليل على وجوب التأمل والنظر في إثبات العقيدة، وبطلان التقليد. 8- إن المؤمن الحق هو الذي يديم النظر والتأمل في بديع خلق الله وقدرته، ليتوصل بذلك إلى إثبات البعث وإمكانه، ويستمر في عبادته ربه حتى الموت، ويكثر من دعاء الله تعالى قائلا: رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين لأن الانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته عاصمان عن كل الآفات والمخاوف. 9- من براهين البعث أنه: لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق، والرجوع إلى الله تعالى معناه الرجوع إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه، لا أنه رجوع من مكان إلى مكان، لاستحالة ذلك على الله تعالى. 10- شتان بين فاتحة السورة وخاتمتها، فقال في الفاتحة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وفي الخاتمة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ.

سورة النور:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة النور مدنية، وهي أربع وستون آية. تسميتها: سميت سورة النور لتنويرها طريق الحياة الاجتماعية للناس، ببيان الآداب والفضائل، وتشريع الأحكام والقواعد، ولتضمنها الآية المشرقة وهي قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [35] أي منورهما، فبنوره أضاءت السموات والأرض، وبنوره اهتدى الحيارى والضالون إلى طريقهم. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لسورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ من وجهين: الأول- أنه تعالى لما قال في مطلع سورة المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزناة، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنى، والاستئذان الذي جعل من أجل النظر، وأمر بالتزويج حفظا للفروج، وأمر من عجز عن مؤن الزواج بالاستعفاف وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنى.

فضلها:

الثاني- بعد أن ذكر الله تعالى في سورة المؤمنين المبدأ العام في مسألة الخلق، وهو أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل للتكليف بالأمر والنهي، ذكر هنا طائفة من الأوامر والنواهي في أشياء تعد مزلقة للعصيان والانحراف والضلال. فضلها: في هذه السورة أنس وشعور بالطمأنينة لأن المؤمن يرتاح للعفة والطهر، ويشمئز من الفحش وسوء الظن والاتهام، ذكر مجاهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور» وقال حارث بن مضرّب رضي الله عنه: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلّموا سورة النساء والأحزاب والنور. وتعليم هذه السورة للنساء مروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها. مشتملاتها: اشتملت هذه السورة على أحكام مهمة تتعلق بالأسرة، من أجل بنائها على أرسخ الدعائم، وصونها من المخاطر والعواصف، والتركيز على تماسكها وتنظيمها، وحمايتها من الانهيار والدمار. فكان مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والسّتر. لقد بدأت ببيان حد الزنى، وحد قذف المحصنات، وحكم اللعان عند الاتهام بالفاحشة أو لنفي نسب الولد، من أجل تطهير المجتمع من الانحلال والفساد واختلاط الأنساب، وبعدا عن هدم حرمة الأعراض، وصون الأمة من التردي في حمأة الإباحية والفوضى. ثم ذكرت قصة الإفك المبنية على سوء الظن والتسرع بالاتهام لتبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومحاربة شيوع الفاحشة، وترديد الإشاعات

المغرضة التي تهدم صرح الأمة، وتقوّض بنيتها التي ينبغي أن تقوم على الثقة والمحبة، والابتعاد عن وساوس الشيطان. ثم تحدثت السورة عن باقة من الآداب الاجتماعية في الحياة الخاصة والعامة، وهي الاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وإبداء النساء زينتهن لغير المحارم مما يدل على تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم، وتزويج الأيامى (غير المتزوجين) من الرجال والنساء، والاستعفاف لمن لم يجد مؤن الزواج، من أجل تحقيق الاستقامة على شريعة الله، وصون الأسرة المسلمة، ورعاية حال الشباب والفتيات، والبعد عن الفتنة. ثم أبانت مزية تشريع الأحكام وأنه نور وهدى، وفضل آيات القرآن، ومزية بيوت الله وهي المساجد، وعدم جدوى أعمال الكفار وتشبيهها بالسراب الخادع أو ظلمات البحار. وأعقب ذلك تنبيه الناس إلى أدلة وجود الله ووحدانيته في صفحة الكون الأعلى والأسفل من تقليب الليل والنهار وإنزال المطر وخلق السموات والأرض، وخضوع جميع الكائنات الحية لله عز وجل، وطيران الطيور، وخلق الدواب ذات الأنواع العجيبة. ثم انتقل إلى وصف مواقف المنافقين والمؤمنين الصادقين من حكم الله والرسول بإعراض الأولين وإطاعة الآخرين، ووعده تعالى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض. ثم عادت الآيات لبيان حكم استئذان الموالي والأطفال في البيوت في أوقات ثلاثة، وحكم رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد، وعن الأقارب والأصدقاء في الأكل من بيوت أقاربهم بلا إذن، واستئذان المؤمنين الرسول صلّى الله عليه وسلم عند

ميزة سورة النور [سورة النور (24) آية 1] :

الانصراف، وتفويضه بالإذن لمن شاء، وتعظيم مجلسه ومناداته بأدب جم وحياء وتبجيل يليق به وبرسالته. ميزة سورة النور [سورة النور (24) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الإعراب: سُورَةٌ أَنْزَلْناها سُورَةٌ: خبر مبتدأ محذوف، وأَنْزَلْناها: صفة ل سُورَةٌ وتقديره: هذه سورة منزلة. وقرئ (سورة) بالنصب على تقدير فعل، وأَنْزَلْناها: مفسر له، وتقديره: أنزلنا سورة أنزلناها، أو اتبعوا سورة، أو اتل سورة. وهذا على رأي الجمهور القائلين: الابتداء بالنكرة لا يجوز، وقال الأخفش: لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة: مبتدأ، وأنزلنا: خبره. البلاغة: سُورَةٌ.. التنكير للتفخيم، أي هذه سورة عظيمة الشأن أنزلها الله. وفيه تنبيه على الاعتناء بها، ولا ينفي الاعتناء بما عداها. أَنْزَلْناها ... وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إطناب لتأكيد العناية بها، وهو ذكر للخاص بعد العام للاهتمام به. المفردات اللغوية: سُورَةٌ السورة: طائفة من آيات القرآن، محددة البدء والنهاية شرعا بالتوقيف أي النقل الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم والوحي الإلهي بوساطة جبريل عليه السلام. أَنْزَلْناها أعطيناها الرسول وأوحينا بها إليه، والتعبير بالإنزال الذي هو صعود إلى نزول وإشارة إلى العلو، للدلالة على أن هذا القرآن من عند الله المتعالي على كل شيء، وكل من دونه نازل عنه في المرتبة، فلا يفهم من ذلك أنه تعالى في جهة.

التفسير والبيان:

وَفَرَضْناها الفرض: التقدير، أو قطع الشيء الصلب، والمراد هنا الإيجاب أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. وقرئ وَفَرَضْناها بالتشديد لكثرة المفروض فيها آياتٍ جمع آية، وهي العلامة، والمراد هنا جملة من القرآن الكريم متصلة الكلام تحقق غرضا معينا. بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون وتتعظون وتتقون المحارم، ولعل هنا يراد بها الإعداد والتهيئة. التفسير والبيان: هذه السورة أوحيناها وأعطيناها الرسول صلّى الله عليه وسلم وفرضنا ما فيها من أحكام كأحكام الزنى والقذف واللعان والحلف على ترك الخير والاستئذان، وغض البصر، وإبداء الزينة للمحارم وغيرهم، وإنكاح الأيامى، واستعفاف من لم يجد نكاحا، ومكاتبة الأرقاء، وإكراه الفتيات على البغاء، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، والسلام على المؤمنين. وأنزلنا فيها دلائل واضحة، وعلامات بينة على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته تعالى. وتكرار وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لكمال العناية بشأنها، كما هي الحال في ذكر الخاص بعد العام. فقه الحياة أو الأحكام: إن سورة النور متضمنة آيات بينات ترشد إلى النظام الأقوم والسلوك الأمثل في الأسرة والمجتمع، يقصد بها تحقيق العفاف والصون وحماية العرض، واتقاء المحرّمات، وتوفير السكينة والطمأنينة القلبية البعيدة عن الشواغل والهواجس الشيطانية الداعية إلى المعصية والرذيلة. كما أن في هذه الأحكام تذكيرا وعظة للمؤمنين، وتربية للنفوس، وتحقيقا للتقوى التي يستشعر بها المؤمن التقي جلال الله وعظمته، وعلمه وقدرته،

الحكم الأول والثاني حد الزنى وحكم الزناة [سورة النور (24) الآيات 2 إلى 3] :

وحسابه على كل صغيرة وكبيرة، لهذا افتتحت السورة بما ينبه على العناية بها، والاهتمام بأحكامها وهي ما يأتي: الحكم الأول والثاني حد الزنى وحكم الزناة [سورة النور (24) : الآيات 2 الى 3] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) الإعراب: الزَّانِيَةُ.. مبتدأ، خبره مقدم محذوف، أي فيما يتلى عليكم الزانية والزاني. أو خبره: فَاجْلِدُوا والفاء زائدة، فاء الفصيحة، أفصحت عن جواب سائل سمع حكم الزاني، فقال: فكيف الحكم؟ وصلح هذا الفعل أن يكون خبرا للمبتدأ، وإن كان أمرا، بتقدير: أقول: فاجلدوا، أو يجعله محمولا على المعنى، كأنه يقول: الزانية والزاني كل واحد منهما مستحق للجلد. وأل في الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي موصولة، ونظرا لشبه كل منهما بالشرط دخلت الفاء في الخبر. البلاغة: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحريض وإغراء. المفردات اللغوية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أي غير المحصنين، والزنى: مقصور في اللغة الفصحى، وهي لغة الحجازيين، وقد يمدّ في لغة أهل نجد، والزنى من الرجل: وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك. والزنى من المرأة: تمكينها الرجل أن يزني بها. وإنما قدم الزانية لأن الزنى في الأغلب

سبب النزول نزول الآية (3) :

يكون بتعرض المرأة للرجل وعرض نفسها عليه بأساليب متنوعة، ولأن مفسدة الزنى وعاره يصيبها أكثر من الرجل، فهي المادة الأصلية في الزنى. فَاجْلِدُوا الجلد: ضرب الجلد، وهو حكم البكر غير المحصن، لما ثبت في السنة أن حدّ المحصن هو الرجم. والإحصان: بالحرية والبلوغ والعقل والدخول في نكاح صحيح، وبالإسلام عند الحنفية. رَأْفَةٌ شفقة وعطف. فِي دِينِ اللَّهِ في حكمه وطاعته. وَلْيَشْهَدْ يحضر عَذابَهُما الجلد. طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة: تطلق على الواحد فأكثر، والمراد هنا جمع يحصل به التشهير، وأقلها ثلاثة. وحضور الطائفة: زيادة في العقاب لأن التشهير قد يؤثر أكثر مما يؤثر التعذيب. لا يَنْكِحُ يتزوج، أي أن الغالب المناسب لكل من الزانية والزاني نكاح أمثاله، فإن التشابه علة الألفة والتضام، والمخالفة سبب النفرة. وقدم الزاني هنا لأن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة في الزواج بالنساء لأن الرجل أصل فيه لأنه الراغب والطالب. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي حرم نكاح الزواني على المؤمنين الأخيار لأنه تشبه بالفساق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة. سبب النزول: نزول الآية (3) : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً: أخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول (أو أم مهدون) وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنزل الله: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد، يحمل من الأنبار إلى مكة حتى يأتيهم، وكانت امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق، فاستأذن النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينكحها، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ

التفسير والبيان:

مُشْرِكَةً الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا مرثد: «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة» الآية، فلا تنكحها. وقال المفسرون: الآية إما أنها نزلت في مرثد بن أبي مرثد المذكور، وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبي صلّى الله عليه وسلم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء اللائي كن بالمدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وظاهر الآية تحريم العفيفة على الزاني، والزانية على العفيف. التفسير والبيان: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ: هذه الآية شروع في بيان الأحكام التي أشير إليها في الآية السابقة: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها، وهي تبين حد الزناة. والمعنى أن عقوبة الزانية والزاني الحرين البالغين العاقلين البكرين غير المحصنين بالزواج هي الجلد لكل منهما مائة جلدة. والحكمة في البدء في حد الزنى بالمرأة وفي حد السرقة بالرجل لأن دواعي الزنى تحدث غالبا من المرأة، وعاره عليها أشد، وأثره فيها أدوم، وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال، وهم عليها أجرأ من النساء وأخطر، فقدموا عليهن. وظاهر الآية أن حد الزناة مطلقا هو الجلد مائة، لكن ثبت في السنة القطعية المتواترة التفريق بين حد المحصن وغير المحصن، أما حد المحصن فهو الرجم بالحجارة حتى الموت، بالسنة القولية والفعلية أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» . وأخرج أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه، ومالك في الموطإ وأحمد في مسنده عن أبي هريرة

وزيد بن خالد الجهني أن أعرابيين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا- أجيرا- على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمئة شاة ووليدة- أمة- فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا: الرجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة، وتغريب عام، واغد يا أنيس- رجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها. وروى جماعة من الصحابة في الصحاح وغيرها بالنقل المتواتر أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنى أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو في المسجد أربع مرات، فأمر الرسول برجمه. وروى مسلم وأحمد وأبو داود عن بريدة أن امرأة من بني غامد أقرت بالزنى، فرجمها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وضعت. وأنكر الخوارج مشروعية حد الرجم لأنه لا يتنصف، فلا يصح أن يكون حدا للمحصنات من الحرائر، والله تعالى جعل حد الإماء نصف حد المحصنات الحرائر في قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء 4/ 25] ، ولأن الرجم لم يذكر في القرآن في حد الزنى، ولأن آية الجلد عامة لكل الزناة، فلا تخصص بخبر الواحد المروي في حد الرجم. ورد الجمهور على تلك الأدلة بأن التنصيف وارد في الجلد، فبقي ما عداه وهو الرجم على عمومه، وبأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح، فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول آية الجلد، وأما تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهو جائز عندنا، بل إن أحاديث الرجم ثابتة بالتواتر المعنوي، والآحاد في تفاصيل الصور والخصوصيات.

وشروط الإحصان: البلوغ والعقل والحرية والدخول في زواج صحيح، وأضاف أبو حنيفة ومالك شرط الإسلام، فلا يرجم الذمي، ورد عليهما بأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر برجم يهوديين. وأما حد غير المحسن وهو البكر: فليس الجلد مائة جلدة فقط، وإنما يضم إليه تغريب (نفي) سنة، بدليل ما ثبت في السنة، ومنها قصة العسيف المتقدمة: «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» ومنها ما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرّجم» إلا أن جلد الثيب لم يستقر عليه التشريع المعمول به في السنة النبوية، وأصبح المطبق هو الرجم فقط، كما تقدم. والقول بالتغريب هو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: ليس التغريب من الحد، وإنما هو تعزير مفوض إلى رأي الإمام وحكمه. وما يزال الظاهرية يقولون بوجوب جلد الثيب ورجمه، أخذا بحديث عبادة السابق. وعموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يشمل المسلم والكافر، غير أن الحربي لا يحد حد الزنى لأنه لم يلتزم أحكامنا، وأما الذمي فيجلد في رأي الجمهور، وروي عن مالك رحمه الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ أي لا يحملنكم العطف والشفقة على ترك حد الزناة، فهو حكم الله تعالى، ولا يجوز تعطيل حدود الله، والواجب التزام النص، والغيرة على حرمات الله، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها: «والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» . إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي فأقيموا الحدود على من زنى،

وشددوا عليه الضرب غير المبرح ليرتدع هو وأمثاله، إن كنتم تصدقون بالله وبالآخرة التي يجري فيها الحساب والجزاء. وهذا ترغيب شديد وحض أكيد وإلهاب على تطبيق وتنفيذ حدود الله. وفي ذكر اليوم الآخر تذكير للمؤمنين بما فيه من العقاب تأثرا بعاطفة اللين في استيفاء الحد، جاء في الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا، فيقال له: لم فعلت ذلك؟ فيقول: يا ربّ رحمة بعبادك فيقول له: أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به في النار» . وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولتكن إقامة الحد علانية، أمام فئة من المسلمين، زيادة في التنكيل للزانيين، فإنهما إذا جلدا بحضرة الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، وأكثر تقريعا وتوبيخا وتأنيبا لهما. والطائفة: أقلها واحد، وقيل: اثنان فأكثر، وقيل: ثلاثة نفر فصاعدا، وقيل: أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي في شهادة الزنى إلا أربعة فأكثر، وقيل: خمسة، وقيل: عشرة فصاعدا. وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي نفر من المسلمين، ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا. وهذا أولى الآراء في تقديري. ويثبت الزنى بأحد أمور ثلاثة: 1- الإقرار أو الاعتراف: وهذا هو الواقع فعلا في عهود الإسلام. 2- البينة أو الشهادة: أي شهادة أربعة رجال أحرار عدول مسلمين على التلبس بالزنى فعلا، ورؤية ذلك بالعين المجردة، وهذا نادر جدا لم يحصل إلا قليلا. 3- الحبل عند المرأة بلا زوج معروف لها.

وحكمة حد الزنى:

وحكمة حد الزنى: الحفاظ على الأعراض والحقوق، ومنع اختلاط الأنساب، وتحقيق العفاف والصون، وطهر المجتمع، والحيلولة دون ظهور اللقطاء في الشوارع، وانتشار الأمراض الجنسية الخطيرة، كالزّهري والسيلان، وتكريم المرأة نفسها، وعدم إهدار مستقبلها. روي عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» . الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.. الآية: هذا خبر خرج مخرج الغالب فلا يقصد به التحريم الاصطلاحي، وإنما التنزه والابتعاد والترفع، والمعنى: أن الشأن في الزاني الفاسق الفاجر ألا يرغب إلا في نكاح أمثاله من النساء الزانيات الفاسقات، فهو عادة لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يميل إلى الزواج بالفاسقة الخبيثة أو المشركة مثلها التي لا تهتم عادة لحرمة العرض، ولا تأبه بشأن التعفف. وكذلك الشأن في الزانية الخبيثة لا يرغب فيها غالبا إلا زان خبيث مثلها أو مشرك لا يتعفف عادة. وبدئ بالزاني هنا، وبالزانية في الآية السابقة لأن هذه الآية تتحدث عن النكاح وإبداء الرغبة فيه بالخطبة، والعادة أن ذلك يكون من الرجل، لا من المرأة، أما أكثر دواعي الزنى فتكون من المرأة فبدئ بها كما بينا، فهي المادة في الزنى، وأما في النكاح فالرجل هو الأصل لأنه الراغب والطالب عادة.

وليس معنى الجملتين في الآية هنا واحدا، فإن الجملة الأولى تصف الزاني بأنه لا يرغب في العفيفات المؤمنات، وإنما يميل إلى الزانية والمشركة، والجملة الثانية تصف الزانية بأنه لا يرغب فيها المؤمنون الأعفاء، وإنما يميل إليها الفجار والمشركون، فكان المعنى مختلفا إذ لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في مثله أن الزانية لا يرغب فيها غير أمثالها، وكانت الآية موضحة وجود التلاؤم والانسجام والتفاهم والاقتران من كلا الطرفين: الرجل والمرأة. وقد سمعنا كثيرا اليوم أن الممثلين والممثّلات ونحوهم من أهل الفن لا يتزوج الواحد منهم أو الواحدة إلا بمحترف فنا مماثلا لأن عنصر الغيرة في زعمهم يجب أن يرتفع، ليستمر الفريقان في عملهما، وإلا تعرض الزواج للهدم والفسخ والزوال، فكما لا يألف العفيف ولا يقبل غير العفائف، كذلك لا تقبل العفيفة الشريفة بحال إسفاف زوجها وتبذّله، واختراقه حدود الصون والعفة، ولربما كانت المرأة أشد غيظا وغضبا وتحرقا من الرجل في هذا، وقد يكون العكس، والمعول عليه وجود الدين والخلق والإحساس المرهف وتوافر الغيرة الدينية على الحرمات والأعراض، والبعد عن جعل العلاقة بين الرجل والمرأة مجرد علاقة مادية شهوانية، كما هو الشائع اليوم لدى الماديين الملحدين الذين رفعوا مسألة العرض من قاموس الأخلاق والقيم، سواء في الشرق أو الغرب. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي حرّم التزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار على المؤمنين الأتقياء، والمراد بالتحريم التنزه والتعفف مبالغة في التنفير لأنه تشبّه بالفسّاق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد. وهذا رأي الجمهور كأبي بكر وعمر وجماعة من التابعين وفقهاء الأمصار جميعا، فيجوز نكاح الزانية، والزنى لا يوجب تحريمها على الزوج، ولا يوجب الفرقة بينهما، ويؤيدهم ما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة

قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة، وأراد أن يتزوجها، فقال: أوله سفاح، وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال» . وما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا تمنع يد لامس! قال صلّى الله عليه وسلم: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال: فاستمتع بها. وهو دليل على جواز نكاح الزانية، وعلى أن الزوجة إذا زنت لا ينفسخ نكاحها. وقوله: «لا تمنع يد لامس» معناه الزانية، وأنها مطاوعة من راودها، لا ترد يده. وقوله: «غرّبها» أي أبعدها بالطلاق، وهذا دليل آخر على جواز نكاح الفاجرة. وقوله: «فاستمتع بها» أن لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها، والاستمتاع بالشيء: الانتفاع به إلى مدة، ومنه سمي نكاح المتعة، ومنه آية: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ [غافر 40/ 39] . وأما حكم الحرمة في الآية فمخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخ بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور 24/ 32] فإنه يتناول المسافحات. وقال جماعة من السلف (علي وعائشة والبراء، وابن مسعود في رواية عنه) : إن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها ، وقال علي: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته وكذلك هي إذا زنت. ودليلهم أن الحرمة في الآية على ظاهرها، والخبر في قوله الزَّانِي لا يَنْكِحُ.. بمعنى النهي، وأحاديث منها ما رواه أبو داود عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ديّوث» ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والدّيّوث، وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنّان بما أعطى» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك، حتى تستتاب، فإن تابت، صح العقد عليها، وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهذه الآية كقوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء 4/ 25] وقوله سبحانه: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ [المائدة 5/ 5] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على الأحكام التالية: 1- تحريم الزنى: الزنى من الكبائر لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الفرقان 25/ 68] . ولأن الله سبحانه أوجب الحد فيه وهو مائة جلدة، وشرع فيه الرجم. ونهى المؤمنين عن الرأفة، وأمر بإشهاد الطائفة المؤمنة للتشهير، ولحديث حذيفة المتقدم: «يا معشر الناس، اتقوا الزنى، فإن فيه ست خصال..» والزنى: وطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها، أو هو إيلاج (إدخال) فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا. فإذا كان ذلك وجب الحد. أما اللواط: فحكمه عند الشافعي في الأصح ومالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد حكم الزنى، فيكون اللائط زانيا، فيدخل في عموم الآية، ويحد حد الزنى عند الشافعي بدليل ما روى البيهقي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال:

2 - وجوب الحد في الزنى:

«إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان» وحده عند المالكية والحنابلة: الرجم، ويرى بعض الحنابلة أن الحد في اللواط القتل، إما برميه من شاهق، وإما بهدم حائط عليه، وإما برميه بالحجارة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يعزر اللوطي فقط، ولا يحد إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنى، ولا يتعلق به المهر، فلا يتعلق به الحد، ولأنه صلّى الله عليه وسلم أباح قتل المسلم بإحدى ثلاث: زنى المحصن، وقتل النفس بغير حق، والردة. ولم يذكر فاعل اللواط لأنه لا يسمى زانيا، ولم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء. واتفق الفقهاء على أن السحاق والاستمناء باليد يشرع فيه التعزير والتأديب والتوبيخ. وأما إتيان البهائم: فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على تعزير فاعله بما يراه الحاكم رادعا له لأن الطبع السليم يأبى ذلك، وفي سنن النسائي عن ابن عباس: «ليس على الذي يأتي البهيمة حد» وهذا موقوف له حكم المرفوع. وأما إتيان الميتة: ففيه عند الجمهور غير المالكية التعزير لأن هذا ينفر الطبع منه، فلا يحتاج إلى حد زاجر، وإنما يكفي فيه التأديب. وأوجب المالكية فيه الحد لأنه وطء في فرج آدمية، فأشبه وطء المرأة الحية. والخلاصة: أن كل فعل من هذه الأفعال حرام منكر، يجب اجتنابه. 2- وجوب الحد في الزنى: وهذا هو الذي استقر عليه التشريع، وكانت عقوبته في مبدأ الإسلام حبس المرأة، وتعيير الرجل وإيذاءه بالقول: لقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ

سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء 4/ 15- 16] . ثم نسخ ذلك، بدليل ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه من الحديث المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيّب بالثيب جلد مائة والرجم» . وحد الزنى نوعان: حد الثيب (المتزوج) وحد البكر (غير المتزوج) . أ- أما حد الثيب: فهو باتفاق جماهير العلماء الرجم فقط، للأحاديث المتقدمة القولية والفعلية الدالة على مشروعيته، والتي بلغت مبلغ التواتر، فيخصص بها عموم القرآن، كما أنه في رأي الجمهور يخصص القرآن بخبر الواحد. وفي رأي الظاهرية وإسحاق وأحمد في رواية عنه: الجلد والرجم، عملا بظاهر حديث عبادة المتقدم. ويرى الخوارج أن حد الثيب هو جلد مائة فقط، وأما الرجم فهو غير مشروع، للأدلة السابقة الثلاثة، والتي أجيب عنها. واتفق الفقهاء على أن حد الثيب من الأرقاء هو الجلد فقط كحد البكر، وأنه لا رجم في الأرقاء. ب- وأما حد البكر: فهو في رأي الحنفية الجلد مائة فقط، دون تغريب، عملا بصريح الآية، ولا يزاد عليها شيء بخبر الواحد، وأما التغريب فهو مفوض إلى رأي الإمام حسبما يرى من المصلحة في ذلك. وهو في رأي الجمهور: الجلد مائة ونفي عام، فيغرب في رأي الشافعية والحنابلة إلى بلد آخر بعيد عن بلده بمقدار مسافة القصر (89 كم) لحديث عبادة

3 - صاحب الولاية في إقامة الحد:

المتقدم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» . ويسجن الرجل عند المالكية في البلد التي غرب إليها. ولا تغرب المرأة باتفاق هؤلاء خشية الزنى بها مرة أخرى. وأما الذمي المحصن: فحده في رأي الحنفية والمالكية الجلد لا الرجم، لما رواه إسحاق بن راهويه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن» وهذا قول يرجح على الفعل الثابت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين، وبالقياس على إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع، فيكون إحصان الرجم مثله، لكمال النعمة في الحالين. وحده في رأي الشافعي وأحمد وأبي يوسف: الرجم إذا ترافع إلينا لما ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا، فأمر برجمهما، ولأن الكافر كالمسلم يحتاج إذا زنى إلى الردع، ولأن الكفار الذميين ملتزمون بأحكام شريعتنا. أما حديث «من أشرك بالله فليس بمحصن» فلا ينطبق على الذمي لأنه في مصطلحنا لا يسمى مشركا. وأما القياس على حد القذف وأنه لا حد على من قذف كافرا فهو قياس مع الفارق لأن الشرع أوجب هذا الحد تكريما للمسلم ورفعا للعار عنه، وغير المسلم لا حاجة له لذلك، لتساهله عادة. 3- صاحب الولاية في إقامة الحد: إن المطالب بتطبيق الحد هو الإمام الحاكم أو نائبه باتفاق العلماء لأن الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأولياء الأمر من الحكام لأن هذا حكم يتعلق بإصلاح الناس جميعا، وذلك منوط بالإمام، وإقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، والإمام ينوب عنهم فيها إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود، ومنعا للفوضى، والعودة إلى عادة الجاهلية في الأخذ بالثأر. وأضاف الإمامان مالك والشافعي: السادة في شأن العبيد، لكن عند مالك

4 - أداة الجلد:

في الجلد دون القطع، وعند الشافعي في قول: في كل جلد وقطع. ودليلهما ما أخرجه الستة غير السنائي من قوله صلّى الله عليه وسلم في الأمة: «إن زنت فاجلدوها» . وما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم، من أحصن ومن لم يحصن» . وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه. وقال الحنفية: لا يملك السيد أن يقيم حدا ما، للآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ... والخطاب بلا شك للأئمة دون سائر الناس، ولم يفرق في المحدودين بين الأحرار والعبيد. وأما الأحاديث فيراد بها رفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليقيموا الحد عليهم، وفعل ابن عمر رأي له لا يعارض الآية. والجلاد يكون من خيار الناس وفضلائهم، حسبما يختار الإمام. 4- أداة الجلد: أجمع العلماء على أن الجلد يجب بالسوط الذي لا ثمرة له، وهو الوسط بين السوطين، لا شديد ولا ليّن، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال مالك والشافعي: الضرب في الحدود كلها سواء، ضرب غير مبرّح (غير شديد) . ضرب بين ضربين لأنه لم يرد شيء في تخفيف الضرب ولا تثقيله. وقال الحنفية: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف، احتجاجا بفعل عمر الذي خفف في ضرب الشارب. 5- صفة الجلد وطريقة الضرب ومكانه عند الجمهور: أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يقطع (يبضع) ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، عملا بقول عمر الذي أتى بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، ولأن قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ معناه النهي عن التخفيف في الجلد.

6 - الشفاعة في الحدود:

ومواضع الضرب في الحدود والتعزير: ظهر الإنسان في رأي مالك لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: «البينة وإلا حدّ في ظهرك» وسائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج والرأس في رأي الجمهور. وكيفية ضرب الرجال والنساء مختلف فيها، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يجزي عنده إلا في الظهر، وقال الحنفية والشافعية: يجلد الرجل وهو واقف، والمرأة وهي قاعدة، عملا بقول علي رضي الله عنه. وتجريد المجلود في الزنى مختلف فيه أيضا، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرّد ما عدا ما بين السرة والركبة لأن الأمر بالجلد يقتضي مباشرة جسمه، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الإمام مخير، إن شاء جرّد وإن شاء ترك. وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه لا يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو والحشو، فإنه ينزع عنه، فإنه لو ترك عليه ذلك، لم يبال بالضرب، عملا بقول ابن مسعود: «ليس في هذه الأمة مدّ ولا تجريد» . 6- الشفاعة في الحدود: يراد بآية وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه، وهو دليل على تحريم الشفاعة في إسقاط حد الزنى لأنها تعطيل لإقامة حد الله تعالى، وكذلك تحرم الشفاعة في سائر الحدود، لما أخرجه الخمسة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد حين تشفع في فاطمة بنت الأسود المخزومية التي سرقت قطيفة وحليا: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .

7 - الترغيب في إقامة الحدود:

وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادّ الله عز وجل» . كذلك يحرم على الإمام الحاكم قبول الشفاعة في الحدود، لما أخرجه مالك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: «أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا بلغ السلطان، لعن الشافع والمشفع» . 7- الترغيب في إقامة الحدود: دل قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الحث على إقامة الحد، وامتثال أمر الله تعالى وتنفيذ أحكامه على النحو الذي شرعها. 8- حضور إقامة الحد: دل ظاهر قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين، للتنكيل والعبرة والعظة، لكن الفقهاء اختلفوا في ذلك: فقال الحنفية والحنابلة: ينبغي أن تقام الحدود كلها في ملأ من الناس لأن المقصود من الحد هو زجر الناس. والطائفة في قول أحمد والنخعي: واحد. وقال المالكية والشافعية: يستحب حضور جماعة، وهما اثنان في القول المشهور لمالك، وأربعة على الأقل في رأي الشافعية وفي قول مالك والليث. 9- حكمة الحد: إن الحد عقوبة تجمع بين الإيلام الخفيف والاستصلاح، أما الإيلام فلقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما فسميت العقوبة عذابا، ويراد من هذه العقوبة أيضا الزجر والإصلاح لأنه يمكن أن يراد من العذاب: ما يمنع المعاودة كالنكال، فيكون الغرض منه الاستصلاح.

10 - هل الآية منسوخة؟ :

10- هل الآية منسوخة؟ إن آية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ... منسوخة في رأي أكثر العلماء بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور 24/ 32] لذا قال الحنفية: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وقال غير الحنفية أيضا: إن التزوج بالزانية صحيح، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته. وروي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه، فجلدهما مائة جلدة، ثم زوّج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة، وهذا ما يحدث الآن في المحاكم الشرعية. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط (بستان) ثمرة، ثم أتى صاحب البستان، فاشترى منه ثمره، فما سرق حرام، وما اشترى حلال. وقال بعض العلماء المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وبناء عليه قالوا من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال بعض هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية، ولا من الزاني، بل إذا ظهرت التوبة يجوز النكاح حينئذ. وأدلتهم تقدم ذكرها. 11- عموم التحريم: حرم الله تعالى الزنى في كتابه، سواء في أي مكان في العالم، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد، وهذا قول الجمهور (مالك والشافعي وأبي ثور وأحمد) قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحدّ، على ظاهر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. وقال الحنفية في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك، ثم

الحكم الثالث حد القذف [سورة النور (24) الآيات 4 إلى 5] :

خرج إلى دار الإسلام، لم يحدّ لأن الزنى وقع في مكان لا سلطان للإمام المسلم عليه، لكن يكون زناه حراما وإن لم يجب عليه الحد، وعليه التوبة من الحرام. الحكم الثالث حد القذف [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الإعراب: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ثَمانِينَ منصوب على المصدر، وجَلْدَةٍ تمييز منصوب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا الَّذِينَ إما منصوب على الاستثناء، كأنه قال: إلا التائبين، وإما مرفوع على الابتداء، وخبره فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإما مجرور على البدل من الهاء والميم في لَهُمْ. البلاغة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ استعارة، أستعير لفظ الرمي (وهو الإلقاء بالحجارة ونحوها) لشيء معنوي وهو القذف باللسان، بجامع الأذى في كل منهما. غَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل. المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقذفون العفائف الحرائر البالغات العاقلات المسلمات، ولا فرق بين الذكر والأنثى، وتخصيص المحصنات مراعاة للواقعة، أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع، والرمي: الإلقاء بشيء يضر أو يؤذي، أستعير للسب بالزنى لما فيه من الأذى والضرر، أما القذف بغير الزنى مثل يا فاسق، يا شارب الخمر فيوجب التعزير ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لإثبات زناهن برؤيتهم، وهو جمع شهيد، وهو الشاهد، وسمي بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم وأمانة.

المناسبة:

ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة عند الشافعية، وتعتبر عند أبي حنيفة فَاجْلِدُوهُمْ اجلدوا كل واحد منهم وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي تسقط عدالتهم، فلا تقبل لهم أي شهادة كانت بعدئذ لأنه مفتر. ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد عند الشافعية لترتب الجزاءين على القذف على السواء جوابا للشرط، دون ترتيب بينهما، فيحصلان دفعة واحدة، ويتوقف عدم قبول شهادته عند أبي حنيفة على استيفاء الحد. وقوله: أَبَداً أي ما لم يتب، وعند أبي حنيفة: إلى آخر عمره وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ المحكوم بفسقهم لإتيانهم كبيرة. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عن القذف وَأَصْلَحُوا أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد، أو طلب العفو (الاستحلال) من المقذوف. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم قذفهم رَحِيمٌ بهم بإلهامهم التوبة. وبالتوبة ينتهي فسقهم وتقبل شهادتهم عند الشافعية، ولا تقبل عند الحنفية لأن الاستثناء يكون راجعا إلى الجملة الثالثة وهي: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في رأيهم، وإلى أصل الحكم وجميع الجمل في رأي الشافعية، لكن تستثنى الجملة الأولى، فلا يسقط الحد بالتوبة بالاتفاق، حفاظا على حق العبد، ويبقى الاستثناء في ظاهره عائدا إلى رد الشهادة والتفسيق. المناسبة: بعد التنفير من نكاح الزانيات وإنكاح الزناة، نهى الله تعالى عن القذف وهو الرمي بالزنى، وذكر حده في الدنيا وهو الجلد ثمانين، وعقوبته في الآخرة وهو العذاب المؤلم ما لم يتب القاذف. ودلت القرائن على أن المراد الرمي بالزنى بإجماع العلماء لتقدم الكلام عن الزنى، ووصف النساء بالمحصنات وهن العفائف عن الزنى، ولاشتراط إثبات التهمة بأربعة شهود، ولا يطلب هذا العدد إلا في الزنى، ولانعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنى، كالرمي بالسرقة وشرب الخمر والكفر، فمجموع هذه القرائن الأربع يجعل المراد هو الرمي بالزنى. التفسير والبيان: هذه الآية تبين حكم قذف المحصنة وهي الحرة البالغة العاقلة العفيفة، يجلد قاذفها ثمانين جلدة، وكذلك يجلد قاذف الرجل العفيف اتفاقا، وقذف الرجل

داخل في حكم الآية بالمعنى، كدخول تحريم شحم الخنزير في تحريم لحمه. وذكر النساء، لأن رميهن بالفاحشة أشنع، والزنى منهن أقبح، أما السرقة فالرجل عليها أجرأ وأقدر، فبدأ به في آية حد السرقة. وفي التعبير بالإحصان إشارة إلى أن قذف العفيف رجلا أو امرأة موجب لحد القذف، أما المعروف بفجوره فلا حد على قاذفه، إذ لا كرامة للفاسق. والمعنى: إن الذين يسبّون النساء العفيفات الحرائر المسلمات برميهن بالزنى، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة بأربعة شهود رأوهن متلبّسات بالزنى، أي لم يقيموا البينة على صحة القذف الذي قالوه، لهم ثلاثة أحكام: الأول- أن يجلد القاذف ثمانين جلدة. والجلد: الضرب. الثاني- أن ترد شهادته أبدا، فلا تقبل في أي أمر مدة العمر. الثالث- أن يصير فاسقا ليس بعدل، لا عند الله ولا عند الناس، سواء كان كاذبا في قذفه أو صادقا. والفسق: الخروج عن طاعة الله تعالى، وهذا دليل على أن القذف كبيرة من الكبائر، لما يترتب عليه من التشنيع وهتك حرمة المؤمنات. لكن شرط القاذف الذي نصت عليه الآية: عجزه عن الإتيان بأربعة شهود، وتقضي قواعد الشرع أن يكون من أهل التكليف: وهو البالغ العاقل المختار، العالم بالتحريم حقيقة، أو حكما كمن أسلم حديثا ومضت عليه مدة يتمكن فيها من معرفة أحكام الشرع. وشرط المقذوف المرمي بنص الآية: أن يكون محصنا: وهو المكلف (البالغ العاقل) الحر، المسلم، العفيف عن الزنى. فشرائط إحصان القذف خمسة: هي البلوغ والعقل باعتبارهما من لوازم العفة عن الزنى، والحرية لأنها من معاني الإحصان، والإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: «من

أشرك بالله فليس بمحصن» والعفة عن الزنى، فلا يعتبر كل من المجنون والصبي والعبد والكافر والزاني محصنا، فلا يحد قاذفهم، لكن يعزر للإيذاء. ويلاحظ أن ظاهر الآية يتناول جميع العفائف، سواء كانت مسلمة أو كافرة، وسواء كانت حرة أو رقيقة، إلا أن الفقهاء قالوا شرائط الإحصان في القذف خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة عن الزنى. وإنما اعتبرنا الإسلام للحديث المتقدم، واعتبرنا العقل والبلوغ لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة: «رفع القلم عن ثلاثة» ومنهم الصبي والمجنون، واعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة، فلا يعظم عليه التعيير بالزنى، واعتبرنا العفة عن الزنى لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانيا، فالقاذف صادق في القذف، فلا يحد، وكذلك إذا كان المقذوف وطئ امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لأن فيه شبهة الزنى. وإذا كان العبد أو الكافر عفيفا عن الزنى، فيصبح محصنا من وجه، وغير محصن من وجه آخر، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه. وكان ينبغي جعل التزوج من صفات الإحصان، إلا أن العلماء أجمعوا على عدم اعتباره هنا، وهو كون المرمي زوجة أو زوجا، بدليل الآيات التالية في اللعان، فتكون آية اللعان مخصصة لعموم الموصول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ. وظاهر الآية: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يدل على أنه يشترط لتحقق القذف الموجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، وتاء بِأَرْبَعَةِ تفيد في ظاهرها اعتبار كونهم من الرجال، ويؤكد ذلك أنه لا تعتبر شهادة النساء في الحدود اتفاقا. ولم تشترط الآية أكثر من كون الرجال الأربعة أهلا للشهادة، لكن العلماء

اختلفوا في اشتراط كون الشاهد عدلا، فقال الشافعية: تشترط عدالة الشاهد، وقال الحنفية: لا تشترط عدالة الشاهد. فإذا شهد أربعة فساق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كالقاذف، ولا يحدون عند الحنفية، ويدرأ الحد عن القاذف لأنه تثبت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذا عن المقذوف. وظاهر عموم الآية أنه يكفي أن يكون زوج المقذوفة أحد الشهود الأربعة، وقد أخذ الحنفية بهذا الظاهر، وقال مالك والشافعي: لا يعتبر الزوج أحد الشهود، ويلاعن الزوج ويحد الشهود الثلاثة الآخرون لأن الشهادة بالزنى قذف، ولم يكتمل نصاب الشهادة المطلوب. وظاهر إطلاق الآية أنه يصح مجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين، وبه أخذ المالكية والشافعية، وذلك كالشهادة في سائر الأحكام. وقال أبو حنفية: لا تقبل شهادتهم إلا إذا كانوا مجتمعين غير متفرقين، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا، ولم يأت بأربعة شهداء، فوجب عليه الحد، ولم يعد صالحا للشهادة. ونقل ذلك أيضا عن مالك. وظاهر الآية أيضا أن القاذف يجلد إذا أتى بشاهدين أو ثلاثة فقط، وكذلك يجلد هؤلاء الشهود إذا لم يكملوا النصاب، بدليل فعل عمر الذي أمر بجلد ثلاثة شهود وهم شبل بن معبد وأبو بكرة (نفيع بن الحارث) وأخوه نافع شهدوا بالزنى على المغيرة بن شعبة، وأما رابعهم زياد فلم يجزم بحدوث حقيقة الزنى. والخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً هم أولياء الأمر الحكام، وظاهر هذا العموم يشمل الحر والرقيق، فحدهما ثمانون جلدة، وبه أخذ ابن مسعود والأوزاعي والشيعة، وأجمع بقية الفقهاء على أن حد الرقيق في القذف النصف وهو أربعون جلدة. ودل هذا الظاهر أيضا أن الحاكم يقيم الحد ولو من غير طلب المقذوف، وبه أخذ ابن أبي ليلى، وقال الجمهور: لا يحد إلا بمطالبة

المقذوف، وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف، حدّه ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول. والخلاصة: أن الإمام لا يقيم حد القذف إلا بمطالبة المقذوف في المذاهب الأربعة. وفي إقامة حد القذف: مراعاة لحق الله تعالى في حماية الأعراض، ولحق العبد الذي انتهكت حرمته، لكن اختلف الفقهاء في المغلّب في هذا الحد: فقال الشافعية: يغلّب حق العبد باعتبار حاجته، وغنى الله عز وجل. وذهب الحنفية إلى تغليب حق الله تعالى لأن استيفاءه يحقق مصلحة العبد أيضا. وتظهر ثمرة الخلاف في أمثلة منها: أ- إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فيسقط عند الحنفية تغليبا لحق الله تعالى، وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يتولى ورثته المطالبة به تغليبا لحق العبد. ب- وإذا قذف شخص جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، فالحنفية يقولون بتداخل الحد، ويكفي للجميع حد واحد، تغليبا لحق الله تعالى كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر، ولا يتداخل الحد عند الشافعية، وعليه لكل واحد حد تغليبا لحق العباد. ج- وإذا عفا المقذوف عن الحد، يسقط عند الشافعية تغليبا لحق العبد، ولا يسقط عند الحنفية بعد طلب إقامته. وبما أن مجموع العقوبات الثلاث مرتب على القذف بالعطف بالواو، فترد شهادة القاذف ولو قبل جلده في رأي الشافعي، ولا ترد شهادته إلا بعد جلده في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب، لكن المراد الترتيب لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو مرفوعا: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في فرية» أي قذف، ورواه الدارقطني عن عمر في كتابه إلى أبي موسى.

ورد شهادة القاذف عام يشمل ما إذا كانت الشهادة واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، ويشمل شهادة من قذف وهو كافر ثم أسلم، إلا أن الحنفية استثنوا الكافر إذا حد في القذف ثم أسلم، فإن شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة، لاستفادته بالإسلام عدالة جديدة. ورد شهادة القاذف هي من تمام الحد في رأي الحنفية، عملا بظاهر الآية التي رتب الله فيها على القذف عقوبتين، فكان الظاهر أن مجموعهما حد القذف. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد لأن الحد عقوبة بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، ولأن قول النبي صلّى الله عليه وسلم لهلال بن أمية فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: «البينة أو حد في ظهرك» يدل على أن الجلد هو تمام الحد. ويلزم على قول الحنفية أن الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، أما الآخرون فلا يرون توقف رد الشهادة على طلب المقذوف. ثم استثنى الله تعالى حال التوبة فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إلا الذين رجعوا عن قولهم وندموا على فعلهم، وأصلحوا حالهم وأعمالهم، فلم يعودوا إلى قذف المحصنات، قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة، فإن الله غفور ستار لذنوبهم، رحيم بهم، فيقبل توبتهم، ويرفع عنهم صفة الفسق التي وسموا بها. قال الشافعي: توبة القاذف: إكذابه نفسه، والمعنى كما فسره الاصطخري من أصحاب الشافعي: أن يقول: كذبت فيما قلت، فلا أعود لمثله، وفسره أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا يقول: كذبت لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: (كذبت) كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على

ما قلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه. ورجح أبو الحسن اللخمي أن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف. وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، تكون بينه وبين ربه، ومضمونها الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود. وقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائما، وإن تاب وأصلح، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة أو إلى الكل؟ يلاحظ كما ذكرنا أن الآية ذكرت ثلاثة أحكام بثلاث جمل متعاطفة بالواو، معقبة بالاستثناء، فاتفق العلماء على أن الاستثناء لا يرجع هنا إلى الجملة الأولى، فلا يسقط الحد بتوبة القاذف، للمحافظة على حق العبد وهو المقذوف. وانحصر الخلاف في عود الاستثناء إلى الجملتين الثانية والثالثة، أي رد الشهادة والفسق، فقال الحنفية: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدا لأن قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، لدفع توهم أن القذف لا يكون سببا لثبوت صفة الفسق بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة، توجه الاستثناء إليها وحدها. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : يعود الاستثناء إلى كلتا الجملتين الثانية والثالثة لأن جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عما قبلها لأنها ليست من تتمة الحد، وجملة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تبين علة رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق الذي هو علة بالتوبة، ارتفع المعلول الذي هو رد الشهادة، فهذه الجملة تعليل، لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟.

فقه الحياة أو الأحكام:

ولا يثور هذا الخلاف بين الفريقين إذا قامت قرينة أو دليل على أن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل كلها، كما في المثالين الآتين: الأول- قوله تعالى في دية القتل الخطأ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء 4/ 92] فيه قرينة تدل على أن الاستثناء عائد إلى الدية لا إلى تحرير الرقبة لأن التحرير حق الله تعالى، وتصدق الولي لا يسقط حق الله تعالى. الثاني- قوله تعالى في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة 5/ 34] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإن التقييد في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، وهي قوله سبحانه: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لأن التوبة تسقط العذاب الأخروي، سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن لهذا التقييد فائدة إلا سقوط الحد، فهذا الاستثناء راجع إلى الجميع بالاتفاق. فقه الحياة أو الأحكام: 1- أرشدت الآية إلى وجوب حد القاذف ثمانين جلدة إذا عجز عن إثبات تهمته بأربعة شهود، وإلى الحكم برد شهادته، وصيرورته فاسقا، إلا إذا تاب فتقبل شهادته وترتفع صفة الفسق عنه في رأي الجمهور، وتزول عنه صفة الفسق فقط بالتوبة في مذهب الحنفية، ويظل مردود الشهادة أبدا وإن تاب. 2- وللقذف شروط تسعة عند العلماء: شرطان في القاذف: وهما العقل والبلوغ لأنهما أصلا التكليف. وشرطان في المقذوف به: وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد: وهو عند الجمهور غير الحنفية: الزنى واللواط، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي.

وخمسة شروط في المقذوف: وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها. 3- واتفق العلماء على أن القذف بصريح الزنى يوجب الحد، أما القذف بالتعريض والكناية، مثل ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فقال مالك: هو قذف. وقال الشافعي: هو قذف إن نوى وفسره به فقال: أردت به القذف. وقال أبو حنيفة: ليس ذلك قذفا، لما فيه من شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. 4- وذهب الجمهور إلى أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم، ولكنه يعزر، وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم. 5- وإذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك وقال الآخرون من الأئمة: ليس بقذف لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزّر. 6- وأما شرط أداء الشهادة وهو كون ذلك في مجلس واحد ففيه رأيان للعلماء كما تقدم: رأي يشترط اجتماع الشهود في مجلس واحد، ورأي لا يشترط ذلك، ويصح أداؤهم الشهادة متفرقين. 7- إن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقال الجمهور: يغرم ربع الدية، ولا شيء على الآخرين. وقال الشافعي: إن قال: تعمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار: إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا، وأخذوا ربع الدية، وعليه الحدّ. 8- صفة حد القذف فيها رأيان أيضا: قال أبو حنيفة: هو من حقوق الله تعالى والمغلب فيه حق الله، وقال الجمهور: هو من حقوق الآدميين. وفائدة الخلاف: أنه على الرأي الأول تنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى،

ولا يورث الحد ولا يسقط بالعفو، وعلى الرأي الثاني: لا تنفع القاذف التوبة حتى يسامحه المقذوف، ويورث الحد، ويسقط بالعفو. وقد ذكر سابقا آثار أخرى للخلاف. قال ابن العربي: والصحيح أنه حق الآدميين، والدليل أنه يتوقف على مطالبة المقذوف، وأنه يصح له الرجوع عنه. 9- الشهادة تكون على معاينة الزنى، يرون ذلك كالمرود في المكحلة، وفي موضع واحد في رأي مالك، فإن لم يتحقق ذلك جلد الشهود، كما بينا. 10- إذا تاب القاذف قبلت شهادته في رأي الجمهور لأن ردها كان لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة، قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده. ولا تقبل شهادته مدة العمر وإن تاب في رأي الحنفية. ويترجح الرأي الأول بأن التوبة تمحو الكفر، فما دونه أولى، وبقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وإذا قبل الله التوبة من العبد، كان قبول العباد أولى. 11- تسقط شهادة القاذف في رأي الشافعي وابن الماجشون بنفس قذفه، ولا تسقط في رأي مالك وأبي حنيفة حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم تردّ شهادته. 12- تجوز شهادة المحدود بحد القذف بعد التوبة في كل شيء مطلقا في رأي الأكثرين. وقال ابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى، فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان، وإن كان عدلا. 13- إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة لأن النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد.

الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته [سورة النور (24) الآيات 6 إلى 10] :

وقد بينا أن الشافعي ومثله الليث والأوزاعي قالوا: ترد شهادة القاذف بالقذف نفسه، وإن لم يحد لأنه بالقذف يفسق لأنه من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه. ويرى أبو حنيفة ومالك أنه لا ترد شهادة القاذف إلا بعد جلده وصيرورته محدودا في القذف، للحديث المتقدم الذي رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف» . 14- لا تكفي التوبة الشخصية أو القلبية لإعادة اعتبار القاذف وقبول شهادته لأن الأمر متعلق بحق الغير وهو المقذوف، بل لا بد من إعلانها، لذا قال تعالى: وَأَصْلَحُوا أي بإظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل، لكن هذا لا يناسب هنا. الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

الإعراب:

الإعراب: إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل مرفوع من شُهَداءُ وهم: اسم كان، ولَهُمْ خبرها. فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ شهادة: إما مبتدأ وخبره إما أربع أو محذوف تقديره: فعليهم شهادة أحدهم، وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالحكم شهادة أحدهم أربع شهادات. وأَرْبَعُ خبر المبتدأ: فَشَهادَةُ ويكون بِاللَّهِ متعلقا ب شَهاداتٍ. وعلى قراءة النصب يكون منصوبا على المصدر، والعامل فيه شهادة لأنها في تقدير (أن) والفعل، أي أن يشهد أربع شهادات بالله. وَالْخامِسَةُ إما مبتدأ وما بعده خبر، وإما معطوف بالرفع على أَرْبَعُ. وعلى قراءة النصب إما صفة مصدر مقدر أي أن تشهد الشهادة الخامسة، أو معطوف على أَرْبَعُ شَهاداتٍ. وأَنَّ لَعْنَتَ: منصوب بتقدير حذف حرف جر، أي وتشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه. أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ أن وصلتها في موضع رفع، أي ويدرأ عنها العذاب شهادتها. وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في موضع نصب ب تَشْهَدَ. وَالْخامِسَةُ معطوف على أَرْبَعُ وبالرفع: مبتدأ وما بعده خبر. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: لم يذكر جوابإيجازا واختصارا لدلالة الكلام عليه، أي لعاجلكم بالعقوبة، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة. البلاغة: تَوَّابٌ حَكِيمٌ صيغة مبالغة على وزن: فعّال، وفعيل. الصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بينهما طباق. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ.. حذف الجواب للتهويل والزجر، ليكون أبلغ في البيان. المفردات اللغوية: يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يقذفونهن بتهمة الزنى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وقع ذلك لجماعة من الصحابة، وهو هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رمى به زوجته من الزنى لَعْنَتَ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله، وهذا لعان الرجل، وحكمه: سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينه وبين زوجته بنفس اللعان فرقة فسخ عند الشافعية لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن ابن عمر: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة،

سبب النزول:

ومن أحكامه أيضا: نفي الولد إن تعرّض له فيه، وثبوت حد الزنى على المرأة لقوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي ويدفع عنها الحد: حد الزنى الذي ثبت بشهادته. لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنى غَضَبَ اللَّهِ سخطه وتعذيبه فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالستر في ذلك تَوَّابٌ يقبل التوبة في ذلك وغيره حَكِيمٌ فيما حكم به في ذلك وغيره. وجوابتقديره: لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها. سبب النزول: أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء «1» ، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق، يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك» . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزل الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، فأنزل الله عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وأخرجه أحمد بلفظ: لما نزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط، فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا «2» مع رجل لم يكن لي أن أنحيّه ولا أحركه، حتى

_ (1) نسبة إلى أمه السحماء. (2) امرأة لكاع: لئيمة وقيل: ذليلة النفس.

آتي بأربعة شهداء، فو الله لا آتي بهم، حتى يقضي حاجته. قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه، فوجد عند اهله رجلا، فرأى بعينه، وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال له: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه. واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلا أن يضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في الناس. فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يضربه، فأنزل الله عليه الوحي، فأمسكوا عنه، حتى فرغ من الوحي، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية. وأخرج أبو يعلى مثل هذه الرواية من حديث أنس. وفي رواية: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات، وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة! والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني» ؟! وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: اسأل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، فقتله، أيقتل به، أم كيف يصنع به؟ فسأله عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم السائل، فلقيه عويمر «1» ، فقال: ما صنعت؟ قال: ما صنعت؟ إنك لم تأتني بخبر، سألت

_ (1) هو عويمر بن زيد بن الجدّ بن العجلاني.

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب السائل، فقال عويمر: فو الله لآتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلأسألنه، فسأله، فقال: إنه أنزل فيك وفي صاحبك.. الحديث. أي فيمن وقع له مثل ما وقع لك. قال الحافظ ابن حجر: اختلف الأئمة في هذه المواضيع، فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما. وإلى هذا جنح النووي، وتبعه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب. وقال القرطبي: والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية. وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة. قال السهيلي: وهو الصحيح. وقال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني لكثرة ما روي ان النبي صلّى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته. والمهم أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور: أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها. وثانيها: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أنها تشمل الأجنبية والزوجة على السواء. وثالثها: أن هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير الزوجات بالزنى، بيّن الله تعالى حكم قذف الزوجات الذي هو في حكم الاستثناء من الآية المتقدمة، تخفيفا عن الزوج لأن العار يلحقه، ومن الصعب أن يجد بيّنة، وفي تكليفه إحضار الشهود إحراج له، ويعذر بالغيرة على أهله، وأيضا فإن الغالب أن الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا صادقا، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه. التفسير والبيان: فرّج الله تعالى بهذه الآية عن الأزواج وأوجد لهم المخرج إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البينة، وهو أن يحضرها إلى الحاكم، فيدعي عليها بما رماها به، فيلاعنها كما أمر الله عز وجل، بأن يحلفه الحاكم أربع شهادات بالله، في مقابلة أربعة شهداء، إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنى، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود يشهدون بصحة قذفهم، وإنما كانوا هم الشهود فقط، فالواجب عليهم أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن: الطرد من رحمة الله. فإذا قال ذلك بانت منه بهذا اللعان نفسه عند جمهور العلماء غير الحنفية، وحرمت عليه أبدا، ويعطيها مهرها، ويسقط عنه حد القذف، وينفي الولد عنه إن وجد، ويتوجه عليها حد الزنى. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي ويدفع عنها حد الزنى أن تحلف بالله أربعة أيمان: إن زوجها كاذب فيما رماها به

فقه الحياة أو الأحكام:

من الفاحشة، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما يقول. وسبب التفرقة بينهما بتخصيصه باللعنة، وتخصيصها بالغضب هو التغليظ عليها لأنها سبب الفجور ومنبعه، بإطماعها الرجل في نفسها. ثم بيّن الله تعالى ما تفضل به على عباده من الفضل والنعمة والرحمة بهذا التشريع إذ جعل اللعان للزوج طريقا لتحقيق مراده. وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها، فقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي ولولا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته وإحسانه ورحمته ولطفه ورأفته من تشريع ما به فرج ومخرج من الشدة والضيق، وتمكين من قبول التوبة، لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من أموركم، ولفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم، وأنقذكم من الورطة باللعان، فمن صفاته الذاتية أنه كتب الرحمة على نفسه، وأنه التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة، وأنه حكيم فيما يشرعه، ويأمر به، وينهى عنه، فإنه بالرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه، يدرأ عنه العقاب الدنيوي وهو الحد، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبر بقوله: حَكِيمٌ لا رحيم مع أن الرحمة تناسب التوبة لأن الله أراد الستر على عباده بتشريع اللعان بين الزوجين. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على مشروعية حكم اللعان بين الزوجين، وكيفية اللعان، ولا بدّ من توضيح الأحكام التالية التي أصّلها الفقهاء بنحو جلي:

1 - آيات اللعان وآية القذف:

1- آيات اللعان وآية القذف: جاء ذكر آيات اللعان بعد آية قذف المحصنات غير الزوجات، فرأى علماء الأصول من الحنفية أن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها، فيكون قذف الزوجة منسوخا إلى بدل وهو اللعان. وذهب الأئمة الآخرون إلى أن آيات اللعان مخصصة لعموم آية القذف، فتكون هذه الآية مختصة بالمحصنات غير الزوجات، وآيات اللعان خاصة بالزوجات، ويكون موجب قذف المحصنة الحدّ فقط، ثم استثني من ذلك الزوجة، فيكون موجب قذفها الحد أو اللعان. 2- وحكمة اللعان: كما بينا التخفيف على الأزواج الذين لا يتيسر لهم إثبات زنى زوجاتهم بأربعة شهود. 3- هل ألفاظ اللعان شهادات أم أيمان؟: يرى الحنفية أن ألفاظ اللعان شهادات لظاهر الآيات التي ذكر فيها لفظ الشهادة خمس مرات وهي: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي ليس لهم بينة، ثم قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي بينته المشروعة في حقه، ثم قال: أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ ثم قال: أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وهذه المواضع الثلاثة هي أخبار مؤكدة بالشهادة، ورتبوا على ذلك أنه يشترط في المتلاعنين أهلية الشهادة. وذهب الجمهور إلى أن ألفاظ اللعان أيمان، لا شهادات لأن قوله تعالى: أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ قسم أو أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة، كما قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون 63/ 1] ثم قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ [2] . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» «1» . ورتبوا على ذلك أنه لا يشترط في المتلاعنين إلا أهلية اليمين.

_ (1) رواه ابو داود بإسناد لا بأس به.

4 - شروط المتلاعنين:

قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره، هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر «1» . والحكمة في تكرار الشهادات التغليظ والتشدد في أمر خطير يترتب عليه الحد والتشنيع وفسخ الزواج ونفي الولد إن وجد والتحريم المؤبد. 4- شروط المتلاعنين: ترتب عند العلماء على الخلاف في ألفاظ اللعان: شهادات أو أيمان اختلافهم في أوصاف المتلاعنين أو شروطهم، فاشترط الحنفية والأوزاعي والثوري في الزوج الملاعن أن يكون أهلا للشهادة على المسلم، وفي الزوجة أيضا أن تكون أهلا للشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين لأن اللعان عندهم شهادة، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا أو حرية ورقا. وأدلتهم قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وأن كلمات اللعان من الزوج شهادات مؤكدات بأيمان، وهي بدل من الشهود، ولأن لعان الزوجة معارضة للعان الزوج. وأما كونها ممن يحد قاذفها فلأن اللعان بدل عن الحد في قذف الأجنبية. وروى ابن عبد البر عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين» . وروى الدارقطني عن ابن عمرو أيضا مرفوعا: «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان» . وذهب الجمهور إلى أن اللعان يصح من كل زوجين: مسلمين أو كافرين، عدلين أو فاسقين، محدودين في قذف أو غير محدودين، حرين أو عبدين

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1332

5 - وترتب على الخلاف السابق أيضا الاختلاف في ملاعنة الأخرس:

لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم سمى اللعان يمينا، فقال لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولد شبيه بشريك بن سحماء: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . 5- وترتب على الخلاف السابق أيضا الاختلاف في ملاعنة الأخرس ، فقال الجمهور: يلاعن لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة. 6- إذا قذف الرجل زوجته بعد الطلاق ، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه، لاعن، وإلا لم يلاعن. ولا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا، فتأتي امرأته بولد في مغيبه، وهو لا يعلم، فيطلّقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه، فله أن يلاعنها بعد العدة، ولو بعد وفاتها، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. ولو مات الزوج قبل اللعان ترث عند الحنفية. وإذا كانت المرأة حاملا لاعن عند الجمهور قبل الوضع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لا عن قبل الوضع، وقال: «إن جاءت به كذا فهو لأبيه، وإن جاءت به كذا فهو لفلان» . وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لاحتمال كون الانتفاخ بسبب ريح أو داء. وإذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن عند الجمهور لأنه دخل تحت عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأن اللواط عنده لا يوجب الحد. 7- إذا قذف زوجته ثم زنت وثبت الزنى قبل التعانه، فلا حدّ على القاذف ولا لعان في رأي أكثر أهل العلم، لظهور أمر قبل استيفاء الحد واللعان

8 - إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى، أحدهم زوجها:

يمنع وجوب الحد وصحة اللعان. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحدّ عن القاذف لأن المقذوف كان محصنا في حال القذف، ويعتبر الإحصان والعفة حال القذف لا بعده. ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، فالزوج يلاعن لدفع الحد عنه، والزوجة لدرء العقاب وهو حد الزنى. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدرء الحد، ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء. 8- إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى، أحدهم زوجها ، فإن الزوج في رأي المالكية يلاعن وتحدّ الشهود الثلاثة إذ لا يصح أن يكون أحد الشهود. وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة، قبلت شهادتهم، وحدّت المرأة. 9- إذا أبى الزوج اللعان ، فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر. وقال الجمهور: إن لم يلاعن الزوج حدّ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهود حدّ، فكذلك الزوج إن لم يلاعن. وإذا امتنعت الزوجة من اللعان ترجم في رأي الجمهور. ولا ترجم عند الحنفية. 10- كيفية اللعان: بعد نزول آيات اللعان أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدعوة عويمر العجلاني وزوجته وشريك بن سحماء، وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله، أقسم بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنها حبلى من غيري. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت: يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور، وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي، ويتحدث، فحملته الغيرة على ما قال.

فنودي «الصلاة جامعة» فصلى العصر، ثم قال لعويمر: قم وقل: أشهد بالله، إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها حبلى من غيري، وإني من الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها زانية، وإني ما قربتها منذ أربعة شهور، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: لعنة الله على عويمر (أي نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال: اقعد. وقال لخولة: قومي، فقامت، وقالت: أشهد بالله، ما أنا بزانية، وإن عويمرا زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: إني حبلى منه، وقالت في الرابعة: أشهد بالله، إنه ما رآني على فاحشة قط، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما. وفي رواية أخرى لابن عباس عند الإمام أحمد: «فلما كانت الخامسة، قيل له: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى

ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحد، وقضى ألا بيت لها عليه، ولا قوت لها، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها. وقال: «إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فهو الذي رميت به» فجاءت به على النعت المكروه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . يفهم من الآية وهذه الحادثة كيفية اللعان، وهو أن يقول الحاكم للملاعن: قل أربع مرات: أشهد بالله، إني لمن الصادقين، وفي المرة الخامسة، قل: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وتشهد المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ويكتفى بدلالة الحال والقرائن عن ذكر متعلق الصدق والكذب، أي فيما رماها به من الزنى ونفي الولد، وفيما اتهمها به. ولا بد من الحلف خمس مرات من كل منهما، ولا يقبل من الزوج إبدال اللعنة بالغضب، ولا يقبل من الزوجة إبدال الغضب باللعنة. وظاهر الآية وهو مذهب الجمهور البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد عنه، ونفي النسب منه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة وإلا حدّ في ظهرك» ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى. وقال أبو حنيفة: يجزئ إن بدأت هي بلعانها. وسبب الخلاف: أن الجمهور يرون أن لعان الزوج موجب للحد على الزوجة، ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من المعقول أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها، فلا حاجة لأن يتأخر لعانها عن لعانه.

11 - آثار اللعان وما يترتب عليه يترتب على اللعان:

وإذا كانت المرأة حاملا، وأراد الزوج نفي الحمل عنه قال: وأن هذا الحمل ليس مني، وهذا رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا لعان لنفي الحمل، وينتظر حتى تضع، فيلاعن لنفيه. وإذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه، تعرض له في اللعان. ويقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد. ويعظهما القاضي أو نائبه عند ابتداء اللعان وقبل الخامسة من الشهادات، بأن يذكرهما ويخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا. ويحضر اللعان جمع من عدول المسلمين. 11- آثار اللعان وما يترتب عليه: يترتب على اللعان: أولا- إسقاط حد القذف عن الزوج، وإيجاب حد الزنى على الزوجة لأن الله تعالى قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ والشهادة من الأجنبي تسقط حد القذف عن القاذف، وتوجب حد الزنى على المقذوف، والله تعالى أقام شهادة الزوج مقام شهادة الأجنبي. ثم قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ والمراد منه عذاب الدنيا لأن (أل) للعهد المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي عذاب حد الزنى، ولا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة لأن لعان الزوجة إن كانت كاذبة لا يزيدها إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا. ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلم لخولة بنت قيس: «الرجم أهون عليك من غضب الله» فقد فسر صلّى الله عليه وسلم العذاب المدروء عنها بالرجم. وأصرح من ذلك قوله لخولة قبل الشهادة الخامسة: «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» أي الحد، لا الحبس. وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته،

ثانيا -:

ولكن لعانه لا يوجب حد الزنى على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود، أو بالإقرار أربع مرات. ويترتب على هذا الخلاف: حكم الممتنع عن اللعان من الزوجين، فعلى رأي الجمهور كما تقدم: إن امتنع الزوج من اللعان يحد لأن اللعان رخصة له، فلما أبى أن يلاعن، فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فصار حكمه وحكم غير الزوج سواء. وإن امتنعت الزوجة يقام عليها حد الزنى وهو الرجم إن كانت محصنة. وعلى رأي الحنفية: إذا امتنع الزوج من اللعان، حبس حتى يلاعن، كما بينا لأن اللعان حق توجه عليه، يستوفيه الحاكم منه بالقهر والتعزير، فيكون له حبسه حتى يلاعن أو يكذب نفسه في القذف، فيقام عليه حده. ورأي الجمهور هو الصواب عملا بظاهر الآية. ثانيا- يترتب على اللعان أيضا نفي الولد، كما ثبت في حادثة هلال بن أمية. ثالثا- الفرقة بين المتلاعنين: قال مالك وأحمد: بتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل الزواج من زوج آخر ولا بعده، كما ثبت في السنة الصحيحة، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . ورأى الشافعي أن الفرقة تحصل بمجرد لعان الزوج لأنها فرقة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوج إلا في دفع العذاب (حد الزنى) عن نفسها. واتفق الشافعي ومالك وأحمد على وقوع التحريم المؤبد بين المتلاعنين. وهذا هو الظاهر من الآيات. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقع الفرقة باللعان حتى يفرق الحاكم بينهما

12 - ما يحتاج إليه اللعان:

لقول ابن عمر وابن عباس: «فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المتلاعنين» فأضاف الفرقة إليه، وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا سبيل لك عليها» . وإن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب لقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء 4/ 3] وقوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء 4/ 24] . 12- ما يحتاج إليه اللعان: يحتاج اللعان إلى أربعة أشياء: الأول- عدد الألفاظ وهو أربع شهادات، كما تقدم. الثاني- المكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان: إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها. الثالث- الوقت: وذلك بعد صلاة العصر. الرابع- جمع الناس: بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا. فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان. 13- إذا قذف الرجل مع زوجته أجنبيا: فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحد للأجنبي. وقال أحمد: عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء ذكر المقذوف في لعانه أم لا. وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه، سقط الحدّ له، كما يسقط للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حدّ له. ودليل أحمد والشافعي أنه صلّى الله عليه وسلم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سماه صريحا، وأن الزوج مضطر إلى قذف الزاني.

14 - استدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين،:

14- استدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين، لقول الزوج: «لعنة الله عليه» مما يدل على جواز لعن الشخص المقطوع بكذبه. واستدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر لأن الزوج إن كان صادقا فزوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان. 15- قال العلماء: لا يحل للرجل قذف زوجته إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا، والأولى به تطليقها، سترا عليها، ما لم يترتب على فراقها مفسدة. فإن أتت بولد علم أنه ليس منه، وجب عليه نفيه، وإلا كان بسكوته مستلحقا ما ليس منه، وهو حرام، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي، وإن استبرأها بحيضة، حلّ النفي، على رأي القائلين بأن الحامل لا تحيض «1» . الحكم الخامس قصة الإفك [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

_ (1) انظر مذكرات تفسيرات الأحكام للأستاذ المرحوم محمد علي السايس: 3/ 133- 144

الإعراب:

الإعراب: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ: خبر إِنَّ ويجوز أن ينصب، ويكون خبر إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ.

البلاغة:

البلاغة: في المواضع المختلفة، أي هلا للحض بقصد التوبيخ على التقصير والتسرع في الاتهام. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ طباق بين الشر والخير. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ طباق بين الهيّن والعظيم. ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الأصل أن يقال: ظننتم، لكن استعمل بطريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، مبالغة في التوبيخ، ولفت نظر إلى أن الإيمان يقتضي حسن الظن. سُبْحانَكَ معناه تنزيه الله تعالى عند رؤية عجائب صنعه، للإشارة إلى أن مثل ذلك لا يخرج عن قدرته، ثم استعمل في كل متعجب منه. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه تهييج وتقريع. لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة، شبه سلوك طريق الشيطان بمن يتبع خطوات غيره خطوة خطوة. أَنْ يُؤْتُوا فيه إيجاز بالحذف، أي ألا يؤتوا، حذفت منه (لا) لدلالة المعنى. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ المراد أبو بكر الصدّيق، وخاطبه بصيغة الجمع للتعظيم. المفردات اللغوية: بِالْإِفْكِ أبلغ الكذب وأسوأ الافتراء على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين بقذفها. عُصْبَةٌ جماعة، وكثر إطلاقها على العشرة إلى الأربعين، وهم عبد الله بن أبيّ، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين وزوجة طلحة بن عبيد الله، ومن ساعدهم. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ لا تظنوه شرا أيها المؤمنون غير العصبة، وهو خطاب مستأنف، والشر: ما غلب ضرره على نفعه. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يأجركم الله به، ويظهر براءة عائشة وكرامتكم على الله، بإنزال ثماني عشرة آية «1» في براءتكم، وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن أساء الظن بكم، كما ذكر البيضاوي. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه من السوء، مختصا به. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ أي تولى معظمه من الخائضين، وهو عبد الله بن

_ (1) الظاهر أن هذه الآيات هي (11- 28) المختتمة بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. والأصح ما رواه الطبراني عن الحكم بن عتبة أن الله أنزل فيها خمس عشرة آية، أي إلى الآية (26) .

أبيّ، فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، أو في الدنيا، بأن جلدوا، وصار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق، وحسان أعمى وأشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر. هلا. ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ ظن بعضهم ببعض. إِفْكٌ مُبِينٌ كذب بيّن واضح، وفيه التفات أي ظننتم أيها العصبة وقلتمهلا، للحث على فعل ما بعدها. جاؤُ العصبة. بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ شاهدوه. عِنْدَ اللَّهِ في حكمه. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ لولا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره، أي لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة، المقرران لكم. لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ لمسّكم عاجلا أيها العصبة فيما خضتم فيه عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، يستحقر دونه اللوم والجلد. إِذْ ظرف لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ. تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي يرويه بعضكم عن بعض، وأصله: تتلقونه، وهو بمعنى تتلقفونه، فحذف منه إحدى التاءين. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً تظنونه امرأ يسيرا لا إثم فيه، أو لا تبعة فيه. وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي وهو في حكم الله عظيم في الوزر والإثم، والمعنى: هذه ثلاثة آثام مترتبة، علّق بها استحقاق العذاب العظيم وهي تلقي الإفك بألسنتهم، والتحدث به من غير تحقق، واستصغارهم شأنه، وهو عظيم عند الله وفي حكمه. ما يَكُونُ لَنا ما ينبغي لنا وما يصح. سُبْحانَكَ تعجب ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب، تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله، ثم كثر استعماله في كل متعجب. بُهْتانٌ كذب مختلق يبهت السامع، لعدم علمه به. يَعِظُكُمُ ينصحكم وينهاكم. أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا لمثله، أو في أن تعودوا لمثله. أَبَداً ما دمتم أحياء مكلفين. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فتتعظون بذلك، فإن الإيمان يمنع عنه. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالأحوال كلها، وبما يأمر به وينهى عنه. حَكِيمٌ في تدبيره. يُحِبُّونَ يريدون أي العصبة. أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر وتظهر. الْفاحِشَةُ الفعل القبيح المفرط القبح، وهو الزنى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا مؤلم وهو حد القذف. وَالْآخِرَةِ بدخول النار أو السعير، رعاية لحق الله تعالى. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في الضمائر، ويعلم انتفاء الفاحشة عن المؤمنين. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أنتم أيها العصبة بما قلتم من الإفك لا تعلمون وجودها فيهم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تكرار لبيان المنة بترك تعجيل العقاب، للدلالة على

سبب النزول أو قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة:

عظم الجريمة. وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم، وجواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة. خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق تزيينه ونزغاته ووساوسه، بإشاعة الفاحشة. فَإِنَّهُ أي المتّبع. يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي القبيح المفرط في القبح. وَالْمُنْكَرِ ما تنكره النفوس وتنفر منه وينكره الشرع. وهو بيان لعلة النهي عن اتباعه. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق إلى التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها. ما زَكى ما طهر من دنس الذنوب. مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أيها العصبة بما قلتم من الإفك. أَبَداً آخر الدهر، أي ما طهر من هذا الذنب بالتوبة أحدا مطلقا. يُزَكِّي يطهر من الذنب. مَنْ يَشاءُ بقبول توبته منه. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهم. عَلِيمٌ بنياتهم. وَلا يَأْتَلِ لا يحلف، من الألية وهي الحلف. أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين. وَالسَّعَةِ في المال أي أصحاب الغنى والثراء، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه. أَنْ يُؤْتُوا على ألا يؤتوا. وَلْيَعْفُوا لما فرط منهم أي يمحوا الذنوب. وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته، فتخلقوا بأخلاقه. سبب النزول أو قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة: روى الأئمة منهم أحمد، والبخاري تعليقا، ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت «1» : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر، أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها «2» ، فخرج فيها سهمي (نصيبي) وخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني،

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 268 وما بعدها. (2) هي غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع.

أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار «1» قد انقطع. فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على البعير الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني، فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمي ثم الذّكواني قد عرّس «2» من وراء الجيش، فأدلج «3» ، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه «4» حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظّهيرة «5» .

_ (1) الجزع: خرز معروف في سواده بياض كالعروق، وظفار: مدينة باليمن. (2) التعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة في بقعة، ثم يرتحلون. [.....] (3) أدلج: سار من أول الليل. (4) الاسترجاع: أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. (5) وسط النهار عند الظهر أي وقت الظهيرة.

فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت «1» حين قدمناها شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني «2» في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم؟» - تي: إشارة إلى المؤنث- فذلك الذي يريبني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت «3» ، وخرجت معي أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف «4» قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح- وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب- فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي، حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها «5» ، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت، تسبّين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه «6» ، ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي،

_ (1) اشتكى عضوا من أعضائه: مرض وأحس بألم فيه. (2) يريبني: يوقعني في الريبة والشك. (3) نقه من المرض: صحّ. (4) المتبرّز: موضع التبرز، والكنف: جمع كنيف: المكان المخصص لقضاء الحاجة. (5) المرط: واحد المروط: وهي أكسية من صوف أو خزّ كان يؤتزر بها. (6) هنتاه: الهنة: هي الشيء الذي يستقبح، والمراد هنا الندبة المشوبة بالتعجب من الفعلة القبيحة لمسطح.

دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال: نعم ، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه، لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنية، هوّني عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي. قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر. قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريرة فقال: «هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن- أي ما- رأيت منها أمرا قطّ أغمصه «1» عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي- يعني عبد الله بن أبي- فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا

_ (1) غمصه: استصغره ولم يره شيئا.

رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا، ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة، كذبت، لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان: الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء. فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، وتاب، تاب الله عليه» . فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله، فقال: والله ما أدري ما أقول

لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت- وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن-: والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدّقنّي، إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف 12/ 18] . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا- والله أعلم حينئذ أني بريئة- وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن والله، ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1» عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه. فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أمّا الله عزّ وجلّ فقد برّأك» فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات العشر كلها. فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على

_ (1) البرحاء: الشدة والانتفاضة من الجهد أو الألم.

المناسبة:

مسطح بن أثاثة، لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلم عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك. وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، المبرّأة من السماء. المناسبة: بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير المحارم، وحكم قذف الزوجات، أبان الله تعالى في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك من المنافقين، وذكر فيها جملة من الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها، والزواجر التي كان ينبغي عدم التعرض لها، وهي تسعة كما سيأتي بيانه. التفسير والبيان: هذه الآيات العشر التي برأ الله فيها عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، غيرة من الله تعالى لها، وصونا لعرض نبيه صلّى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي إن الذين أتوا بالإفك وهو أبلغ الكذب والافتراء جماعة منكم، لا واحد ولا اثنان، أي ما أفك به على عائشة، بزعامة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق هذا الكذب، وتواطأ مع جماعة صغيرة، فأصبحوا يروجونه ويذيعونه بين الناس، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وبقي شيوع الخبر قريبا من شهر، حتى نزل القرآن. وفي التعبير بعصبة إشارة إلى أنهم فئة قليلة. وقوله تعالى: مِنْكُمْ أي منكم أيها المؤمنون لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لا تظنوا- يا آل أبي بكر وكل من تأذى بذلك الكذب واغتم، بدليل قوله تعالى مِنْكُمْ- أن ذلك هو شر لكم وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لاكتسابكم به الثواب العظيم، وإظهار عناية الله بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم. يتلى إلى يوم القيامة، وتهويل الوعيد لمن تكلم في حقكم. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكل واحد تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة نصيب من عذاب عظيم بقدر ما خاض فيه، أو عقاب ما اكتسب. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي والذي تحمل معظم ذلك الإثم منهم، وهو في رأي الأكثرين عبد الله بن أبي، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، فإنه أول من اختلق هذا الخبر، أو أنه كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه، فمعظم الشر كان منه، أما عذابه في الدنيا فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع، وأما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار.

وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، قال ابن كثير: وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هاجهم وجبريل معك» «1» . ثم أدب الله تعالى المؤمنين الذين خاض بعضهم في ذلك الكلام السوء في قصة عائشة رضي الله عنها، وزجرهم بتسعة أمور: 1-إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي هلا حين سمعتم كلام الأفاكين في عائشة ظننتم بها خيرا، عملا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن، وقلتم صراحة معلنين البراءة: هذا إفك مبين، أي كذب مختلق واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها فإن الذي وقع لم يكن ريبة، لمجيئها راكبة على راحلة صفوان بن المعطّل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم يكشف كل سوء وينفي كل شك، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة، بل كان يحدث- لو قدّر- خفية مستورا. وهذا أدب جم، وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن المؤمن لا يظن بالمسلمين إلا خيرا. 2-جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أي هلا جاؤوا على ما قالوه بشهود أربعة يشهدون على ثبوت ما جاؤوا به، وصحة ما قالوا، ومعاينتهم ما رموها به، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون. وهذا من الزواجر.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 272

3- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ورحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وهذا من الزواجر أيضا. ولَوْلا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره. 4- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي لولا تفضل الله عليكم ورحمته لمسّكم العذاب حين تلقيكم أي تلقفكم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك يسيرا سهلا، وهو في شرع الله وحكمه أمر خطير عظيم، من عظائم الأمور وكبائرها، لما فيه من تدنيس بيت النبوة بأقبح الفواحش، ورد في الصحيحين: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يدري ما تبلغ، يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض» وفي رواية: «لا يلقي لها بالا» . وهذا أيضا من الزواجر، فقد وصفهم الله بارتكاب ثلاثة آثام، وعلّق مسّ العذاب العظيم بها، وهي: الأول- تلقي الإفك بألسنتهم، أي الاهتمام بالسؤال عنه وبإشاعته، لا مجرد السماع عفوا، وإنما يأخذه بعضهم من بعض، ويذيعه. الثاني- التكلم بما لا علم لهم به ولا دليل عليه، وهذا منهي عنه في قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء 17/ 36] ، وهو شبيه بقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 167] . الثالث- استصغار ذلك، وهو عند الله تعالى عظيم الإثم، موجب لشديد العقاب.

وهذا يدل على أمور ثلاثة: هي أن القذف من الكبائر، لقوله تعالى: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وأن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها، وإنما بالواقع، فربما كان جاهلا لعظمها، لقوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وأن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، فربما كان من الكبائر. 5- وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ هذا من الآداب، فهو تأديب آخر بعد الأمر الأول بظن الخير، والمعنى: هلا حين سمعتم ما لا يليق من خبيث الكلام قلتم: ما ينبغي لنا وما يصح، ولا يحل لنا أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا نذكره لأحد إذ لا دليل عليه، سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي إنا نعجب من عظم الأمر، وننزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه صلّى الله عليه وسلم فاجرة، فهذا بهتان عظيم واختلاق أثيم، وإيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلم، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب 33/ 57] . وإذا جاز أن تكون امرأة نبي كافرة، كامرأة نوح ولوط لأن الكفر لم يكن مما ينفر عندهم، فلا يجوز أن تكون امرأة أي نبي فاجرة لأن ذلك من أعظم المنفّرات. والخلاصة: أن العقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، لما فيه من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، كما يمنعان ألا يعاقب هؤلاء القاذفين الأفاكين على عظيم ما اقترفوه وخاضوا فيه من الافتراء، وهو مدعاة للتعجب منه. 6- يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هذا من الزواجر يحذر الله تعالى فيه المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا، أي في المستقبل ما دمتم أحياء مكلفين، ويعظكم بهذه المواعظ

والإنذارات، كيلا تعودوا لمثل هذا الفعل، إن كنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه وتعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلم، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ويوضح لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله عليم بما يصلح عباده، مطّلع على أحوالهم، فيجازي كل امرئ بما كسب، حكيم في شرعه وقدره، وتدبير شؤون خلقه، وتكليفه بما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة. 7- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هذا أدب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء، معناه: إن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة ومحبة لها، وإن الذين يرغبون في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنى في أوساط المؤمنين، لهم عذاب مؤلم في الدنيا وهو حد القذف، وفي الآخرة بعذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور، ولا يخفى عليه شيء، ويعلم ما في القلوب من الأسرار، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص العلم والإحاطة بالأشياء والاعتماد على القرائن والأمارات لا تعملون تلك الحقائق. أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» . ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وهذا التأديب التربوي له مغزاه العميق، فإن شيوع الفاحشة في مجتمع يجرئ الناس على الإقدام عليها، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها. والآية تدل على أن مجرد حب إشاعة الفاحشة كاف في إلحاق العذاب، فالذين يشيعونها فعلا أشد جرما وإثما وتعرضا للعقاب. ومنشأ حب إشاعة الفاحشة هو الحقد والكراهية،

والاستعلاء على الناس وحسدهم على ما يتمتعون به من تماسك واستقرار ومحبة ووئام، فيعمل الحاقد الكاره الحاسد كابن أبي على تقويض أركان هذا المجتمع، والغض من كرامته، والنيل من عرضه وسمعته، ظنا منه أن هذا شرف له. 8- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي لولا الفضل الإلهي والرحمة لكان أمر آخر، والجواب المحذوف هو: لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق الأقوم، وحذّر من مغبّة الاستمرار في وجهة الانحراف، وبيّن خطر هذا الفعل الشنيع وهو الطعن بعرض بيت النبوة، فله الحمد والمنة، لذا حذر في الآية التالية من اتباع وساوس الشيطان فقال: 9- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله لا تسيروا في طرائق الشيطان ومسالكه، ولا تسمعوا لوساوسه وتأثيراته وما يأمر به، في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن من يتبع وساوس الشيطان ويقتفي آثاره خاب وخسر لأنه- أي الشيطان- لا يأمر إلا بالفحشاء (ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبّحه العقل ونفّر منه) فلا يصح لمؤمن طاعته، وهذا تنفير وتحذير صريح. والله تعالى، وإن خص المؤمنين في هذه الآية بالنهي عن اتباع وساوس الشيطان، فهو نهي لكل المكلفين، بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فكل المكلفين ممنوعون من ذلك. وحكمة تخصيص المؤمنين بالذكر هي أن يتشددوا في ترك المعصية، لئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ هذا التكرار لتأكيد المنة والنعمة على العباد، والمعنى: ولولا تفضل الله عليكم بالنعم، ورحمته السابغة، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، ما طهر أحدا من ذنبه، ولا خلصه من أمراض الشرك والفجور والأخلاق الرديئة، وإنما عاجله بالعقوبة، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل 16/ 61] ، قال الرازي: إذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى، سمّي زكيا. وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي والله تعالى القدير الحكيم يطهر من يشاء من خلقه، بقبول توبتهم، وتوفيقهم إلى ما يرضيه، مثل قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من قصة الإفك، والله سميع لأقوال عباده، ولا سيما في حالتي الوقوع في المعصية والإخلاص في التخلص منها، والبراءة من آثامها، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبالأقوال والأفعال، وبمن أصر على إشاعة الفاحشة ومن تاب منها، ومجاز كل إنسان بما قدّم. وهذا حث واضح على التطهر من الذنوب، والإقبال على التوبة بإخلاص. وبعد تأديب أهل الإفك ومن سمع كلامهم، أدب الله تعالى أبا بكر لما حلف ألا ينفق على مسطح أبدا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف ألا ينفق على مسطح، وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فقال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، والسعة في المال والثروة ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا. وفيه دليل على

فقه الحياة أو الأحكام:

فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه، وحث على صلة الرحم، فهذا في غاية الترفق والعطف في صلة الأرحام. وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أي ليعفوا عن المسيء، ويصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، وليعودوا إلى صلتهم الأولى، فإن من أخطأ مرة يجب ألا يتشدد في العقاب عليه، وقد عوقب مسطح بالحد والضرب، وكفى ذلك، وزلق زلقة تاب الله عليه منها. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ألا تريدون أن يستر الله عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك: «من لا يرحم لا يرحم» «1» والله غفور لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم فلا يعذبهم بزلّة حدثت ثم تابوا عنها، فتخلقوا بأخلاق الله تعالى. وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصدّيق إلى القول: «بلى، والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربّنا» ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: «والله لا أنزعها منه أبدا» . فقه الحياة أو الأحكام: هذه جملة من الآداب والزواجر، أرشدت إليها قصة الإفك، وهي تربية عالية للمجتمع، وصون لأخلاقه من التردي والانحدار، ونبذ للعادات السيئة في إشاعة الأخبار دون علم ولا تثبت، وقد دلت الآيات على ما يلي: 1- إن داء الأمة ينبع من داخلها، وأخطر داء فيها زعزعة الثقة بقادتها ومصلحيها، وتوجيه النقد الهدام لهم، ومحاولة النيل من عرضهم وسمعتهم

_ (1) هذا حديث صحيح أخرجه الطبراني عن جرير بلفظ: «من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب عليه» .

وكرامتهم، فأهل الإفك ليسوا من الأعداء الخارجين، وإنما هم- في الظاهر- عصبة من المؤمنين. 2- ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض، وإنما ما غلب نفعه على ضرره فهو خير، وما غلب ضرره على نفعه فهو شر، فحقيقة الخير: ما زاد نفعه على ضره، والشرّ: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيرا لا شرّ فيه هو الجنة، وشرّا لا خير فيه هو جهنم. أما البلاء النازل على الأولياء فهو خير لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الآخرة. لذا كان حديث الإفك خيرا على عائشة وأهلها آل أبي بكر، وعلى صفوان بن المعطّل المتهم البريء، فقال تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لرجحان النفع والخير على جانب الشر. وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة رضوان الله عليهم. وقيل كما ذكر ابن إسحاق: كان حصورا لا يأتي النساء. وقال: والله ما كشفت كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع وعشرين في زمان عمر. وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية. 3- للذين خاضوا في إثم الإفك جزاء وعقاب في الدنيا والآخرة، وهم الذين أصروا على التهمة، أما الذين تابوا وهم حسان ومسطح وحمنة، فقد غفر الله لهم. 4- إن زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ هو الذي تولى كبر حديث الإفك، واختلاق معظم القصة، والترويج لها وإشاعتها بين المسلمين. وهل جلد هو وغيره؟ روى الترمذي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانا وحمنة. وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أبيّ ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار.

وقال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلّى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على قولين: أحدهما- أنه لم يحدّ أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبّده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. وعقب القرطبي على ذلك قائلا: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن فإن الله عزّ وجلّ يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أي لم يأتوا بشهود أربعة على صدق قولهم. والقول الثاني- أن النبي صلّى الله عليه وسلم حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ: حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي. وهذا- أي تعيين الذين حدّوا- رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حدّ في الدنيا، لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف، حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلّى الله عليه وسلم في الحدود من حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه مسلم بلفظ: «ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له» أي أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه. 5- على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا ببعضهم خيرا، لذا عاتبهم الله تعالى بقوله: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي ببعضهم أو

بإخوانهم، فالواجب على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن، وحلّة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا. 6- إن إثبات تهمة الزنى إما بالإقرار أو بأربعة شهود، فقوله تعالى: جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ توبيخ لأهل الإفك على تقصيرهم في الإثبات، أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا إحالة على المذكور في آية القذف السابقة. وإذ لم يأتوا بالشهداء فهم في حكم الله كاذبون. 7- إن أحكام الدنيا في الإثبات ونحوه تجري على الظاهر، والسرائر إلى الله عزّ وجلّ، أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة. 8- تكرّر الامتنان من الله تعالى على عباده في قصة القذف مرتين في قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لولا فضله ورحمته لمسّكم بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا. 9- وصف الله الخائضين في قصة الإفك بارتكاب آثام ثلاثة: تلقي الإفك بألسنتهم وإشاعته بينهم، والتكلم بما لا علم لهم به، واستصغارهم ذلك وهو عظيم الوزر، ومن العظائم والكبائر. وهذا يدل أن القذف من الكبائر، وأن عظم

المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، وأنه يجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرّم. 10- عاتب الله جميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار خبر الإفك، وألا يحكيه أو ينقله بعضهم عن بعض، وأن ينزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه صلّى الله عليه وسلم، وأن يحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه. والغيبة: أن يقال في الإنسان ما فيه. وإن وصف الإيمان يجب أن يكون باعثا لهم على هذا التخلق والأدب. 11- دلّ قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي في عائشة، قال الإمام مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب، ومن سبّ عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. وقال ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وهذا ردّ على ما قال ابن العربي: «قال أصحاب الشافعي: من سبّ عائشة رضي الله عنها أدّب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة: «والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» أي لا يكمل إيمانه، لا أنه سلب الإيمان. وبوائقه: شروره وآثامه ودواهيه. 12- إن الذين يحبون إشاعة الفاحشة (الفعل القبيح المفرط القبح) في المؤمنين المحصنين والمحصنات كعائشة وصفوان رضي الله عنهما لهم عذاب أليم في الدنيا بالحدّ، وفي الآخرة بعذاب النار أي للمنافقين، أما الحدّ للمؤمنين فهو كفارة. والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء، والناس لا يعلمون بذلك.

13- نهى الله المؤمنين وغيرهم عن اتباع مسالك الشيطان ومذاهبه لأنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر. 14- لله تعالى وحده الفضل في تزكية المؤمنين وتطهيرهم وهدايتهم، لا بأعمالهم. 15- على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، وقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن جرير: «من لا يرحم لا يرحم» . 16- في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان معصية كبيرة لا يحبط الأعمال لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان وكذلك سائر الكبائر ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 39/ 65] . 17- من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه. 18- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. 19- دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه

جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك [سورة النور (24) الآيات 23 إلى 26] :

رضي الله عنه، كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق. ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لا الخصوص، على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خاليا عن المعصية «1» . 20- قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برّأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برّأها الله تعالى بالقرآن فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برّأها الله بكلامه من القذف والبهتان «2» . جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 26] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) الإعراب: يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الْحَقَّ بالنصب: صفة ل دِينَهُمُ ومن قرأ بالرفع جعله صفة اللَّهُ وفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول الذي هو دِينَهُمُ.

_ (1) انظر تفسير الرازي: 23/ 187- 190 [.....] (2) تفسير القرطبي: 12/ 212

البلاغة:

أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أُولئِكَ مبتدأ، ومُبَرَّؤُنَ خبر المبتدأ. ومِمَّا يَقُولُونَ جار ومجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب مُبَرَّؤُنَ. ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ جملة في موضع خبر آخر ل أُولئِكَ. البلاغة: يَعْمَلُونَ ويَعْلَمُونَ جناس ناقص. الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ مقابلة. المفردات اللغوية: الْمُحْصَناتِ العفيفات. الْغافِلاتِ البعيدات عن المعاصي والفواحش، السليمات الصدور، والنقيات القلوب. الْمُؤْمِناتِ بالله ورسوله. لُعِنُوا طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بحد القذف. دِينَهُمُ جزاءهم. الْحَقَّ الثابت الذي يستحقونه. هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته، الظاهر الألوهية، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البيّن، أي العادل الظاهر عدله، وقد حقق لهم جزاءه الذي كانوا يشكّون فيه. أو أن وعد الله ووعيده هو العدل الذي لا جور فيه. الْخَبِيثاتُ من النساء. لِلْخَبِيثِينَ من الرجال. وَالطَّيِّباتُ من النساء. لِلطَّيِّبِينَ من الناس، أي اللائق بالخبيث مثله، وبالطيب مثله. أُولئِكَ الطيبون من الرجال والطيبات من النساء ومنهم عائشة أم المؤمنين وصفوان الصحابي التقي الورع المجاهد المتهم زورا وبهتانا. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي يقول الخبيثون والخبيثات من الرجال والنساء فيهم لَهُمْ للطيبين والطيبات. مَغْفِرَةٌ ستر. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة، وقد افتخرت عائشة بأشياء منها: أنها خلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقا كريما. قال البيضاوي: ولقد برّأ الله أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات، مع هذه المبالغات، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته. سبب النزول: أخرج الطبراني عن الضحّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي

المناسبة:

صلّى الله عليه وسلم خاصة: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة. وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رميت بما رميت به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندي إذ أوحي إليه، ثم استوى جالسا، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ حتى بلغ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ. وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية ، وهو مرسل صحيح الإسناد. المناسبة: بعد بيان خبر الإفك وعقاب الأفاكين، وتأديب الخائضين، ذكر الله تعالى براءة عائشة صراحة، وذكر مع ذلك حكما عاما وهو أن كل من قذف مؤمنة عفيفة بالزنى، فهو مطرود من رحمة الله، وله عذاب عظيم. وهذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصدّيق رضي الله عنهما.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يتهمون بالفاحشة والفجور النساء المؤمنات بالله ورسوله العفائف البعيدات عن تلك التهمة، ومثلهم الرجال، هم مطردون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وعليهم غضب الله وسخطه، ولهم في الآخرة عذاب شديد كبير، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر، أخرج الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . وأخرج أبو القاسم الطبراني عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة» . يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن عذابهم يوم القيامة يوم تشهد عليهم أعضاؤهم الألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل إذ إن الله ينطقها بقدرته، كما ذكر في آية أخرى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت 41/ 21] . روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار» . يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي في

ذلك اليوم يوفيهم الله حسابهم أو جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه. قال الزمخشري رحمه الله وجزاه عن تفسيره الدقيق جدا للقرآن الكريم خير الجزاء: ولو فلّيت «1» القرآن كله، وفتّشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله تعالى قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث، لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين «2» . يفهم من هذا الكلام ومن كلام الفخر الرازي أن الله تعالى عاقب هؤلاء القذفة بثلاثة أشياء: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة، وهو وعيد شديد، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على أعمالهم، وإيفاؤهم جزاء عملهم. والدين بمعنى الجزاء مثل قولهم: «كما تدين تدان» وقيل: بمعنى الحساب كقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح، والحق: هو أن الجزاء الموفى هو القدر المستحق لأنه الحق، وما زاد عليه هو الباطل. ثم أورد الله تعالى دليلا ماديا حسيا على براءة عائشة فقال: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ..

_ (1) جعلها بعضهم: قلبت. (2) تفسير الكشاف: 2/ 380 وما بعدها.

أي النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثون الزناة من الرجال للخبيثات من النساء لأن اللائق بكل واحد ما يشابهه في الأقوال والأفعال، ولأن التشابه في الأخلاق والتجانس في الطبائع من مقومات الألفة ودوام العشرة. وذلك كقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور 24/ 3] . وعلى هذا يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء، أي شأن الخبائث يتزوجن الخباث، أي الخبائث، وشأن أهل الطيب يتزوجن الطيبات. ويجوز أن يكون المراد من الخبيثات الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، والمعنى: الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس: والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس. وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درة الطيبين وخيرة الأولين والآخرين، فالصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات، فيبطل ما أشاعه أهل الإفك. ويكون الكلام جاريا مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. والرأي الأول هو الظاهر. أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي أولئك الطيبون والطيبات كصفوان وعائشة بعداء مبرؤون مما يقوله أهل الإفك والبهتان الخبيثون والخبيثات. وأولئك المبرؤون لهم مغفرة عن ذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب ورزق كريم عند الله في جنات النعيم، كما في قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب 33/ 31] . عن عائشة رضي الله عنها: «لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجني

فقه الحياة أو الأحكام:

ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ولقد توفّي وإن رأسه لفي حجري ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّته الملائكة في بيتي وإن الوحي لينزل عليه في أهله، فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه وإني لابنة خليفته وصدّيقه ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيّبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» تعني قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو الجنة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام: 1- إن الذين يرمون بالزنى أو الفاحشة النساء المحصنات العفائف، أو الرجال المحصنين قياسا واستدلالا أو يقذفون غيرهم، ومن هؤلاء عائشة وسائر زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم، لعنوا في الدنيا والآخرة، واللعنة في الدنيا: الإبعاد وضرب الحد وهجر المؤمنين لهم، وإساءة سمعتهم، وإسقاط عدالتهم، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله بالعذاب في جهنم. والأصح كما رجح المفسرون أن بقية أمهات المؤمنين في هذا الحكم وغيره كعائشة رضوان الله عليهن، فقاذفهن ملعون في الدنيا والآخرة، ومن سبّهن فهو كافر، كما ذكر ابن كثير. وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى. ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون إلا أنه غلّب المذكر على المؤنث، أي أن الرمي أو القذف بالزنى كبيرة وحرام من أي مكلف، وعلى أي مكلف: ذكر أو أنثى.

الحكم السادس الاستئذان لدخول البيوت وآدابه [سورة النور (24) الآيات 27 إلى 29] :

2- ولهم حكم آخر غير اللعنة وهو شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وتكلمهم يوم القيامة عند الحساب بما تكلموا به وبما عملوا في الدنيا. 3- وحكم ثالث أيضا هو أن حسابهم وجزاءهم ثابت مستحق لهم بالقدر المستحق المناسب لعملهم أو قولهم لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل. 4- النساء الخبيثات للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ما اختاره النحاس، وهو الظاهر. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. 5- دل قوله تعالى صراحة: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ على براءة عائشة وصفوان رضي الله عنهما مما يقول الخبيثون والخبيثات. الحكم السادس الاستئذان لدخول البيوت وآدابه [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)

الإعراب:

الإعراب: فِيها مَتاعٌ مرفوع بالظرف على مذهب سيبويه، كما يرتفع على مذهب الأخفش والكوفيين لأن الظرف جرى وصفا للنكرة. المفردات اللغوية: بُيُوتاً جمع بيت وهو المسكن. تَسْتَأْنِسُوا تستأذنوا إذ بالاستئذان يحصل الأنس للزائر وأهل البيت. وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فيقول الواحد: السلام عليكم أأدخل، كما ورد في الحديث. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغير استئذان. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون، أو تتذكرون خيريته، فتعملوا به. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ بعد الاستئذان. هُوَ الرجوع. أَزْكى خير وأطهر. لَكُمْ من القعود على الباب. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول بإذن وغير إذن. عَلِيمٌ مطلع على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فيجازي كل إنسان بعمله. جُناحٌ حرج وإثم بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالخانات والحوانيت والفنادق. فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي حق تمتع وانتفاع، كالاستظلال من الحر والإيواء من البرد وتحزين الأمتعة والجلوس للمعاملة من شراء أو بيع. تُبْدُونَ تظهرون. تَكْتُمُونَ تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره. وهذا وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات. سبب النزول: نزول الآية (27) : أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية.

نزول الآية (29) :

نزول الآية (29) : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ الآية. المناسبة: بعد بيان حكم قذف المحصنات وقصة أهل الإفك، ذكر الله تعالى ما يليق بذلك، وهو آداب الدخول إلى البيوت من الاستئذان والسلام، منعا من الوقوع في التهمة، باقتحام البيوت دون إذن والتسلل إليها، أو حدوث الخلوة التي هي مظنة التهمة أو طريق التهمة التي تذرع بها أهل الإفك للوصول إلى بهتانهم وافترائهم، ومراعاة لأحوال الناس رجالا ونساء الذين لا يريدون لأحد الاطلاع عليها ولأن النظر والاطلاع على العورات طريق الزنى. التفسير والبيان: هذه آداب اجتماعية شرعية ذات مدلول حضاري، وتمدن رفيع لما فيها من تنظيم لحياة المجتمع وأحوال الأسر في البيوتات، حفظا لروابط الود والمحبة، وإبقاء على حسن العشرة وتبادل الزيارات بين المؤمنين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم، وحتى تسلموا على أهل البيت، حتى لا تنظروا إلى عورات غيركم، ولا

تطلعوا إلى ما لا يحل لكم الاطلاع عليه، ولا تفاجئوا الساكنين الوادعين، فتحرجوهم أو تزعجوهم، فيحدث الاشمئزاز، والتضايق، والكراهية. فلا بد إذن من الاستئذان قبل الدخول والسلام خارج الباب لمعرفة الداخل، وكان السلام هو المألوف في الماضي حيث لم تكن أبواب الدور محكمة الإغلاق والستر بنحو كاف كاليوم إذ لم يكن للدور حينئذ ستور. والاستئناس: الاستعلام (طلب العلم) والاستكشاف، من آنس الشيء: إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، فمن أراد دخول بيت غيره عليه أن يستأنس، أي يتعرف من أهله ما يريدون من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان، بدليل قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور 24/ 59] . وكان ابن عباس على الأصح فيما روي عنه يفسر الاستئناس بالاستئذان، ولا يحصل الاستئناس إلا بعد حصول الإذن بعد الاستئذان. ويكون الاستئذان ندبا ثلاث مرات، فإن أذن للزائر وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح لدى مالك وأحمد والشيخين وأبي داود عن أبي موسى وأبي سعيد معا أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا، فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فلينصرف» الحديث. وظاهر الآية أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، إلا أن الأول مطلوب على سبيل الوجوب، والثاني على سبيل الندب كما هو حكم السلام في كل موضع. لكن الواجب في الاستئذان هو مرة واحدة، وأما الثلاث فهو مندوب، كما تقدم.

والظاهر أن الاستئذان متقدم على السلام لأن الأصل في الترتيب الذّكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبه قال بعض العلماء، والجمهور على تقديم السلام على الاستئذان، بدليل ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه: «السلام قبل الكلام» وما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم، وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «السلام على رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟» . والسلام يكون أيضا ثلاثا كما أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلّى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا. والحكمة من الاستئذان والسلام تحاشي الاطلاع على العورات، بدليل ما رواه أبو داود عن هزيل قال: جاء رجل (قال عثمان: سعد) فوقف على باب النبي صلّى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب،- قال عثمان: مستقبل الباب- فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم «هكذا عنك- أو هكذا- فإنما الاستئذان من النظر» وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» . والمراد من هذين الحديثين أن من أدب الاستئذان ألا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يجعله عن يمينه أو شماله، وألا ينظر إلى داخل البيت، روي أن أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب» وذلك سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا فإن الطارق قد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.

والاستئذان واجب ولو كان الطارق أعمى لأن من عورات البيوت ما يدرك بالسمع، وقد يتأذى أهل البيت بدخول الأعمى، وأما الحديث المتقدم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» فهو بحسب الغالب المعتاد. ولا فرق في وجوب الاستئذان بين الرجال والنساء، والمحارم وغير المحارم لأن الحكم عام، ولو كان الزائر والدا أو ولدا، قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار-: أأستأذن يا رسول الله على أمي؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت عليها؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا، قال: «فاستأذن عليها» . وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود قال: «عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم» . وروى الطبري عن طاوس قال: «ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم» وعلى هذا يكون الاستئذان على المحارم واجبا وتركه غير جائز، واستدل ابن عباس عن ذلك بقوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولم يفرق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم محرم. وقوله تعالى: بُيُوتاً نكرة في سياق النهي فتفيد العموم الشامل للبيوت المسكونة وغير المسكونة، لكن الآية التالية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يقتضي حمل الآية الأولى على المسكونة فقط، ويصير المعنى: أيها المخاطبون لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا. ثم ذكر تعالى حكمة الأمر بالاستئذان والسلام فقال: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني الاستئذان والسلام خير وأفضل للطرفين: المستأذن وأهل البيت، من الدخول بغتة، ومن تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال: حييتم صباحا، وحييتم مساء،

ودخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ متعلق بمحذوف، أي أنزل عليكم أو أرشدكم ربكم لتتذكروا وتتعظوا، وتعملوا بما هو أصلح لكم. وكلمة خَيْرٌ هنا أفعل تفضيل، وكلمة «لعل» للتعليل، والحكم المعلل بها مفهوم مما سبق، أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب وبيّنه لكم، ليكون متذكرا منكم دائما، فتعملوا بموجبه. ثم ذكر تعالى حكم حالة أخرى هي حالة فراغ البيوت من أهلها فقال: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً، فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فلا يحل الدخول في هذه الحالة لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولأن للبيوت حرمة، وفيها خبيئات لا يريد أحد الاطلاع عليها، فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة. وإذن الصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت الخالية من أصحابها، فإن كان صاحب الدار موجودا فيها، اعتبر إذن الصبي والخادم إذا كان رسولا من صاحب الدار، وإلا لم يجز الدخول. وقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً المدار فيه على ظن الطارق، فإن كان يظن أنه ليس بها أحد، فلا يحل له أن يدخلها. لكن يستثني بداهة وشرعا حالة الضرورة، كمداهمة البيت لحرق أو غرق أو مقاومة منكر أو منع جريمة ونحو ذلك. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ: ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي إن طلب منكم صاحب البيت الرجوع، فارجعوا فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، والوقوف على

الأبواب، أو القعود أمامها بعد أن تردوا، ففي ذلك ذل ومهانة وعيب، وإحراج لصاحب البيت. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي أن الله عليم بنياتكم وأقوالكم وأفعالكم، فيجازيكم عليها. وهذا وعيد لمن يخالف ما أرشد الله إليه، فإن القصد من هذا الإخبار هنا تقرير الجزاء على هذه الأعمال. ثم بيّن الله تعالى حكم البيوت غير المسكونة، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي لا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كالفنادق وحوانيت التجار والحمامات العامة ونحوها من الأماكن العامة، إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وإيواء الأمتعة، والمعاملة بيعا وشراء وغيرهما، والاغتسال، ونحو ذلك. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي إن الله تعالى عليم بما تظهرونه من استئذان عند الدخول، وما تضمرونه من قصد سيء من حب الاطلاع على عورات الناس. وهذا وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون البيوت للاطلاع على عوراتها، وهو شبيه بالوعيد الذي ختمت به الآية السابقة. وهذه الآية الكريمة أخص من سابقتها، ومخصصة لعموم الآية المتقدمة المانعة مطلقا من دخول بيوت الآخرين، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، بغير إذن، كالبيت المستقل المعد للضيف بعد الإذن له فيه أول مرة، ولم يكن مجرد غرفة ضمن غرف أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- تحريم دخول بيت الآخرين من غير استئذان وجوبا، وسلام وتحية ندبا، ويكون السلام قبل الاستئذان، كما دلت السنة. والسنة في الاستئذان كما تقدم أن يكون ثلاث مرات لا يزاد عليها. وصورة الاستئذان أن يقول الشخص رجلا كان أو امرأة، بصيرا أو أعمى: السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن لم يجبه أحد استأذن ثلاثا ثم ينصرف من بعد الثلاث. قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وقال المالكية: إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا، سمع وفهم، ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم، سلم عليهم ثلاثا، وإذا كان الغالب هذا فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث، ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه، فخرج مستعجلا فقال: «لعلنا أعجلناك..» الحديث. أما اليوم حيث اتخذ الناس الأبواب والأجراس، فصار الاستئذان بقرع الباب أو بدق الجرس، فإن طلب من الطارق التعريف بنفسه وجب عليه ذلك، منعا من الإزعاج والتخويف أو الإحراج والمضايقة.

ولا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يقف يمينا وشمالا، بحيث إذا فتح الباب لا يقع النظر فجأة على ما يكره صاحب البيت. وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أبواب النبي صلّى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير «1» . ودليل التعريف بشخص الداخل ما روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استأذنت على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «من هذا» ؟ فقلت: أنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنا أنا» كأنه كره ذلك لأن قوله: «أنا» لا يحصل بها تعريف، وإنما أن يذكر اسمه، كما فعل عمر وأبو موسى رضي الله عنهما. ولكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، وكان الناس في الماضي يسلمون، ثم تركوا السلام لاتخاذ الأبواب التامة الستر، المحكمة الإغلاق. وهذا في بيت الآخرين. أما في بيت الإنسان الخاص، فلا حاجة فيه للإذن إن كان فيه الأهل (الزوجة) . والسنة السلام إذا دخل. قال قتادة: إذا دخلت على بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه مع الأهل أمك أو أختك، فقال العلماء: تنحنح واضرب برجلك حتى تنتبها لدخولك لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها، وأما الأم والأخت فقد تكونان على حالة لا تحب أن تراهما فيه. وإذا دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، كما قال قتادة. والملائكة ترد عليه. وإذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب الباب، فطعن أحدهم عينه

_ (1) ذكره أبو بكر علي بن ثابت الخطيب في جامعه.

فقلعها، فقال الشافعي وأحمد: لا شيء عليه، لما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم، ففقئوا عينه، فقد هدرت عينه» وعبارة مسلم: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم، حلّ لهم أن يفقؤوا عينه» . وروى سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمن اطلع في إحدى حجراته، وكانت في يده مدرى يحك بها رأسه: «لو كنت أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك» . وقال أبو حنيفة ومالك: إن فقأ عينه فعليه الضمان من قصاص أو أرش (تعويض أو دية) لعموم قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة 5/ 45] . ثم إن الاعتداء جناية، يستوجب الأرش أو القصاص. أما الأحاديث السابقة فهي منسوخة، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل 16/ 126] . ويحتمل أن يكون ذلك على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر، وهو يريد شيئا آخر كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: «قم فاقطع لسانه» وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يراد بفقء العين أن يعمل به عملا حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره. 2- تحريم الدخول إلى بيت الآخرين إذا لم يوجد فيه صاحبه حتى يؤذن له، وهذا مستفاد من الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها، التقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا، وإلا فارجعوا، فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا.

الحكم السابع حكم النظر والحجاب [سورة النور (24) الآيات 30 إلى 31] :

ولا فرق في وجوب الاستئذان وتحريم الدخول بغير إذن بين أن يكون الباب مغلقا أو مفتوحا. ويجوز الإذن من الصغير والكبير، وقد كان أنس بن مالك يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم. 3- قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لأهل التجسس على البيوت، وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز. 4- إباحة الدخول في البيوت غير المسكونة والأماكن العامة كالفنادق والحوانيت والحمامات العامة ونحوها، إذا كان الدخول لمصلحة أو حق انتفاع كالمبيت والمعاملة والاغتسال وإيداع الأمتعة ونحو ذلك. وعلى هذا تكون آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. لرفع حكم الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل الاطلاع على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم. الحكم السابع حكم النظر والحجاب [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

الإعراب:

الإعراب: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ يَغُضُّوا مجزوم بجواب قل، ومِنْ هنا لبيان الجنس. وقال الزمخشري: للتبعيض. وزعم الأخفش أنها زائدة، أي قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، والأكثرون على خلافه لأن من لا تزاد في حال الإيجاب، وإنما تزاد حال النفي. غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غَيْرِ بالجر: صفة ل التَّابِعِينَ أو بدل منهم لأنه ليس بمعرفة صحيحة لأنه ليس بمعهود. وقرئ بالنصب غير على الحال أو الاستثناء. قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع. البلاغة: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فيه إيجاز بالحذف، أي عما حرّم الله، لا عن كل شيء. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ مجاز مرسل، والمراد مواقع الزينة، من إطلاق الحال وإرادة المحل، مبالغة في الأمر بالتستر والتصون. المفردات اللغوية: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي يكفّوا البصر عما لا يحل لهم النظر إليه. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عما لا يحل لهم فعله بها. وسبب التفرقة بين غض البصر بذكر مِنْ وبين حفظ الفروج دون ذكر من: أن غض البصر فيه توسع إذ يجوز النظر إلى المحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وإلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها، وقدميها في إحدى الروايتين، وأما أمر الفروج فمضيق، كما ذكر

في الكشاف، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، أي فالأصل في الفروج الحظر، وفي النظر الإباحة. وتقديم الغض على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنى. أَزْكى خير وأطهر. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ بالأبصار والفروج، فيجازيهم عليه. يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتستر أو التحفظ عن الزنى، أي بحفظ فروجهن عما لا يحل لهن فعله بها. يُبْدِينَ يظهرن. زِينَتَهُنَّ كالحلي والثياب والأصباغ، أو لا يظهرن مواضع الزينة لمن لا يحل أن تبدي له. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم، فإن في سترها حرجا. وقيل: المراد هو الوجه والكفان، فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين لأنها ليست بعورة، والوجه الثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة. قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم القريب النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة والتعليم والمعاملة وتحمل الشهادة. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب: جمع جيب: وهو فتحة في أعلى الجلباب (أو الثوب) يبدو منها بعض الصدر. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي الخفية، أو مواضع الزينة، وهي ما عدا الوجه والكفين، وكرر ذلك لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له. إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أزواجهن، جمع بعل: أي زوج، فإنهم هم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدن الزوجة، حتى الفرج مع الكراهة. أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ.. إلى قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ رفعا للحرج بسبب كثرة المعاشرة والمخالطة والمداخلة، وقلة توقع الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسة الأقارب، فيجوز لهم نظره إلا ما بين السرة والركبة، فيحرم نظره لغير الأزواج. وخرج بقوله: نِسائِهِنَّ الكافرات، فلا يجوز في رأي الجمهور للمسلمات الكشف أمامهن لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال. وأجاز الحنابلة ذلك لأن المراد جنس النساء أو كلهن. وما ملكت أيمانهن: هم العبيد والجواري (الإماء) . أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الْإِرْبَةِ الحاجة إلى النساء، أي غير أولي الحاجة إلى النساء، وهم الشيوخ الهرمى الذين لا يحدث لهم انتشار ذكر، وقيل: البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم، ولا يعرفون شيئا من أمور النساء، وفي المجبوب والخصي خلاف. أَوِ الطِّفْلِ الأطفال، لعدم تمييزهم. لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا على عورات النساء للجماع، ولم يعرفوا ذلك لعدم بلوغهم حد الشهوة أو لصغرهم، فيجوز الإبداء لهم ما عدا ما بين السرة والركبة. والطِّفْلِ جنس وضع موضع الجمع، اكتفاء بدلالة الوصف، أو أنه يطلق على الواحد والجمع.

سبب النزول:

وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي الخلخال الذي يتقعقع فإن ذلك يلفت النظر ويورث الميل عند الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة، وأدل على المنع من رفع الصوت. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مما وقع لكم من النظر الممنوع. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي بسعادة الدارين، وتنجون من الإثم لقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلا مرّ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الآية. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت برتين «1» من فضة، واتخذت جزعا (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع، فصوّت، فأنزل الله وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية.

_ (1) برتين من فضة: مفرد برة، والبرة: الخلخال، وكل حلقة من سوار وقرط.

المناسبة:

المناسبة: الآية واضحة الاتصال بما قبلها، فإن الدخول إلى البيوت مظنة الاطلاع على العورات، لذا أمر المؤمنون والمؤمنات بغض البصر بصورة حكم عام يشمل المستأذن للدخول إلى البيوت وغيره، فيجب على المستأذن التحلي به عند الاستئذان والدخول، منعا من انتهاك الحرمات المنهي عنها، كما يجب على النساء عدم إبداء الزينة لأحد إلا للمحارم، لما في ذلك من الفتنة الداعية إلى الوقوع في الحرام، كالنظر الذي هو أيضا بريد الزنى، فالجامع بين حكم النظر والحجاب سد الذرائع إلى الفساد. التفسير والبيان: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي قل يا محمد لعبادنا المؤمنين: كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، فلا تنظروا إلا إلى ما أباح لكم النظر إليه. والتعبير بالمؤمنين: إشارة إلى أن من شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر. وليس المراد بغض البصر إغماض العين وإطباق أجفانها، بل المراد جعلها خافضة الطرف من الحياء، ومِنْ للتبعيض أي يغضوا بعض أبصارهم، فلا يحملقوا بأعينهم في محرم، ويكون المراد حينئذ توبيخ من يكثر التأمل في المحرم، كما حدث في سبب النزول الذي أخرجه ابن مردويه، وللتفرقة في الأمر بين غض البصر وحفظ الفروج، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما استثني، وأما النظر فالأصل فيه الإباحة إلا ما استثني كما بينا. فإن وقع البصر على محرّم من غير قصد، وجب إغضاء الطرف وصرف النظر عنه سريعا لما رواه مسلم في صحيحة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن نظر

الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري» . وروى أبو داود عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة» . وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله، لا بدّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقّه، قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» . وسبب الأمر بغض البصر هو سدّ الذرائع إلى الفساد، ومنع الوصول إلى الإثم والذنب، فإن النظر بريد الزنى، وقال بعض السلف: النظر سهم سمّ إلى القلب، ولذلك جمع الله في الآية بين الأمر بحفظ الفروج، والأمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى المحظور الأصلي وهو الزنى، فقال: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي من ارتكاب الفاحشة كالزنى واللواط ومن نظر أحد إليها، كما روى أحمد وأصحاب السنن: «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك» . وقال تعالى مبينا حكمة الأمر بالحكمين: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي إن غض البصر وحفظ الفرج خير وأطهر لقلوبهم، وأنقى لدينهم، كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته، أو في قلبه. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغض بصره، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» . وأزكى الذي هو أفعل التفضيل للمبالغة في أن

غض البصر وحفظ الفرج يطهران النفوس من دنس الرذائل. والمفاضلة على سبيل الفرض والتقدير، أو باعتبار ظنهم أن في النظر نفعا. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ أي إن الله عليم علما تاما بكل ما يصدر عنهم من أفعال، لا تخفى عليه خافية، وهذا تهديد ووعيد، كما قال تعالى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] فهو يعلم استراق النظر وسائر الحواس، والخبرة: العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء. أخرج البخاري في صحيحة تعليقا ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرّجلين الخطا، والنفس تمنّي وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه» . وخلافا لما عليه غالب الخطابات التشريعية من دخول النساء في الحكم بخطاب الرجال تغليبا، أمر الله تعالى المؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج كما أمر الرجال، تأكيدا للمأمور به، وبيان بعض الأحكام التي تخصهن وهي النهي عن إبداء الزينة، والحجاب، والامتناع عن كل ما يلفت النظر إلى زينتهن، فقال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي وقل أيها الرسول أيضا للنساء المؤمنات: اغضضن أبصاركن عما حرم الله عليكن من النظر إلى غير أزواجكن، واحفظن فروجكن عن الزنى ونحوه كالسحاق، فلا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا، في رأي كثير من العلماء، بدليل ما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة: «أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما

أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو عمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟» . وفي الموطأ عن عائشة أنها احتجبت عن أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: لكنني أنظر إليه. وأجاز جماعة آخرون من العلماء نظر النساء إلى الرجال الأجانب بغير شهوة فيما عدا ما بين السرة والركبة، بدليل ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة، وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت. وهذا الرأي أيسر في عصرنا. وأصحاب الرأي الثاني وهو جواز النظر بغير شهوة يحملون الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي الله عنها من الأعمى كان ورعا منها، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار متنقبات، حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة في الحكم بين الرجال والنساء. ثم ذكر الله تعالى الأحكام الخاصة بالنساء وهي ما يلي: 1- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب حين التحلي بها وهي كل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها، فيكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه بالأولى، أو لا يظهرن مواضع الزينة بإطلاق الزينة وإرادة مواقعها، بدليل قوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها والثاني هو الأولى لأن الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي، وعلى كل حال هناك تلازم بين الزينة وموضعها، والغاية هي النهي عن أجزاء الجسد التي تكون

محلا للزينة، كالصدر والأذن والعنق والساعد والعضد والساق. وأما ما ظهر منها فهو الوجه والكفان والخاتم، كما نقل عن ابن عباس وجماعة، وهو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفيه. وهو حديث مرسل. وبناء عليه قال الحنفية والمالكية، والشافعي في قول له: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، فيكون المراد بقوله: ما ظَهَرَ مِنْها ما جرت العادة بظهوره. وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا لأن الحرج في سترهما أشد منه في ستر الكفين، لا سيما أهل الريف. وعن أبي يوسف: أن الذراعين ليستا بعورة، لما في سترهما من الحرج. وذهب الإمام أحمد، والشافعي في أصح قوليه إلى أن بدن الحرة كله عورة، للأحاديث المتقدمة في نظر الفجأة، وتحريم متابعة النظر، ولما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، فطفق الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة خثعمية حين سألته، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلم بذقن الفضل، فحول وجهه عن النظر إليها. ويكون المراد بقوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ما ظهر بنفسه من غير قصد. والراجح فقها وشرعا أن الوجه والكفين ليسا بعورة إذا لم تحصل فتنة، فإن خيفت الفتنة وحصلت المضايقة وكثر الفساق وجب ستر الوجه. وأما أدلة الفريق الثاني فمحمولة على الورع والاحتياط ومخافة الفتنة والاسترسال في مزالق الشيطان.

ويجوز شرعا استثناء وللضرورة النظر إلى الأجنبية كحال الخطوبة والشهادة والقضاء والمعاملة والمعالجة والتعليم، ففي كل هذه الأحوال يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط، ويجوز للطبيب إذا لم توجد طبيبة النظر إلى موضع العلة أو الداء للعلاج. 2- وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي ليسدلن ويرخين أغطية الرؤوس على أعلى أجزاء الصدر لستر الشعور والأعناق والصدور. والضرب هنا: السدل والإلقاء والإرخاء، والخمر: جمع خمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب: جمع جيب: وهو فتحة في أعلى الثوب يبدو منها بعض النحر. وهذا أمر إرشاد لستر بعض مواضع الزينة الباطنة عند النساء، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن (أزرهن) فاختمرن بها. 3- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أي لا يظهرن زينتهن الخفية إلا لأزواجهن فهم المقصودون بالمتعة والنظر، أو آباء النساء والأجداد، أو آباء الأزواج أو أبناء النساء أو أبناء الأزواج أو الإخوة والأخوات وبني الإخوة أو بني الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم، فكل هؤلاء محارم يجوز للمرأة أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج، وهؤلاء هم الأقارب من النسب وهم خمسة أنواع، وفيهم نوعان من الأقارب لأجل المصاهرة وهما آباء الأزواج وأبناء الأزواج، ولكن لم تذكر الآية من المحارم النسبية الأعمام والأخوال لأن العمومة والخؤولة بمنزلة الأبوة. كذلك لم تذكر المحارم من الرضاع ولكن نصت السنة عليهم فيما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .

أَوْ نِسائِهِنَّ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ هؤلاء بقية الأنواع الذين يجوز للمرأة إظهار الزينة فيما عدا ما بين السرة والركبة، وهم النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الحاجة إلى النساء وهم الأجراء والأتباع الذين لا شهوة عندهم إلى النساء، كالخصيان والمجبوبين والمعتوهين، والأطفال الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن لصغرهم وعدم اطلاعهم على القضايا الجنسية. لكن وقع خلاف بين العلماء في النساء والمماليك والتابعين والأطفال، أما النساء: فقال الجمهور: المراد النساء المسلمات أي نسائهن في الدين، دون نساء أهل الذمة، فلا يجوز للمسلمة إظهار شيء من جسمها ما عدا الوجه والكفين أمام المرأة الكافرة، لئلا تصفها لزوجها أو غيره، فهي كالرجل الأجنبي بالنسبة لها. أما المسلمة فتعلم أن ذلك حرام، فتنزجر عنه، أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها، كأنه ينظر إليها» . روى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها» . وقال جماعة منهم الحنابلة: إن المراد بهن عموم النساء المسلمات والكافرات، فتكون الإضافة في قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ للمشاكلة والمشابهة أي من جنسهن، وتكون عورة المرأة بالنسبة للمرأة مطلقا ما بين السرة والركبة فقط. وأما ما ملكت أيمانهن: فقال الأكثرون: يشمل الرجال والنساء، فيجوز أن

تظهر المرأة على رقيقها من الرجال والنساء ما عدا ما بين السرة والركبة لما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك» . وذهبت طائفة إلى أن ذلك مخصوص بالإماء فقط لأن العبد رجل كالحر الأجنبي في التحريم. وأما التابعون غير أولي الإربة أي الحاجة إلى النساء: فهم الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم من غير أن تكون لهم حاجة في النساء ولا ميل إليهن، واختلف العلماء في المراد بهم فقيل: إنه الشيخ الفاني الذي فنيت شهوته، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا، أو المجبوب، أو الخصي أو الممسوح أو خادم القوم للعيش أو المخنث. والمعتمد أن المراد به: كل من ليس له حاجة إلى النساء، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب، أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مخنّث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو ينعت امرأة يقول: إذا أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلن عليكن» فأخرجه من المنزل. وأما الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء: فهم الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن، ولم يظهر عندهم الميل الجنسي القوي لصغر سنهم، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، أما المراهق أو القريب من المراهقة قبل البلوغ الذي يحكي ما يرى، ويفرّق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء، بدليل وجوب استئذان الطفل عند

دخول البيوت، في أوقات ثلاثة، بيّنها الله تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.. الآية [النور 24/ 59] . وقال جماعة آخرون: لا يحرم على المرأة إبداء زينتها للطفل إلا إذا كان فيه تشوق إلى النساء، سواء أكان مراهقا أم غير مراهق، والإباحة هنا أوسع مما قرره أصحاب الرأي الأول. ثم نهى الله تعالى عما يكون وسيلة أو ذريعة إلى الفتنة فقال: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يجوز للمرأة أن تدق برجليها في مشيتها، ليعلم الناس صوت خلاخلها لأنه مظنة الفتنة والفساد، ولفت الأنظار، وإثارة مشاعر الشهوة، وإساءة الظن بأنها من أهل الفسوق، فإسماع صوت الزينة كإبدائها وأشد، والغرض التستر. وهذا يشمل كل ما يؤدي إلى الفتنة والفساد كتحريك الأيدي بالأساور، وتحريك الجلاجل (المقصات) في الشعر، والتعطر والتطيب والزخرفة عند الخروج من البيت، فيشم الرجال طيبها، ويفتتنون بزخارفها روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا» يعني زانية. وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل من الجنابة» . واللام في قوله: لِيُعْلَمَ لام العاقبة أو الصيرورة، فهي منهية عن الضرب بالأرجل أمام الرجال الأجانب مطلقا، سواء قصدت إعلامهم أم لم تقصد، فإن عاقبة الضرب بالأرجل ذات الخلاخل، ومثلها (الأحذية الحالية ذات الكعاب العالية) أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة، فتقع الفتنة بها.

فقه الحياة أو الأحكام:

واستدل الحنفية بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة، فإنها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى. والظاهر أن صوت المرأة ليس بعورة إن أمنت الفتنة، بدليل أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال الأجانب. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي ارجعوا إلى طاعة الله والإنابة إليه أيها المؤمنون جميعا، وافعلوا ما أمركم به من هذه الصفات والأخلاق الحميدة، واتركوا ما نهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج والدخول إلى بيوت الآخرين بلا استئذان وما كان عليه الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وخوطبوا بصفة الإيمان للتنبيه على أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال وعلى التوبة والاستغفار من الهفوات والزلات، فإن التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- وجوب غض البصر من الرجال والنساء عما لا يحل من جميع المحرّمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله لأن البصر مفتاح الوقوع في المنكرات، وشغل القلب بالهواجس، وتحريك النفس بالوساوس، وبريد السقوط في الفتنة أو الزنى، ومنشأ الفساد والفجور. 2- وجوب حفظ الفروج أي سترها عن أن يراها من لا يحل، وحفظها من التلوث بالفاحشة كالزنى واللواط، واللمس والمفاخذة والسحاق. 3- تحريم الدخول إلى الحمام بغير مئزر، قال ابن عمر: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمّام في خلوة، أي في وقت لا يوجد فيه الناس أو قلة الناس.

وذكر الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا بيتا يقال له الحمّام، قيل: يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار، فقال: إن كنتم لا بد فاعلين فأدخلوه مستترين» . 4- إن غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين، وأبعد من دنس الذنوب، والله مطّلع عالم بأفعال العباد ونيات القلوب وهمسات الألسن، واستراق السمع والبصر، وبكل شيء، لا تخفى عليه خافية، ويجازي على ذلك كله. 5- العورات أربعة أقسام: أ- عورة الرجل مع الرجل: يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة، وهما ليستا بعورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الركبة عورة. وقال مالك: الفخذ ليست بعورة أي في الصلاة لا في النظر، والدليل على أنها عورة ما روي عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ به في المسجد، وهو كاشف عن فخذه، فقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم عن محمد بن عبد الله بن جحش: غطّ فخذك، فإن الفخذ عورة» وقال لعلي رضي الله عنه فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن علي: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» . أما الأمرد فلا يحل النظر إليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لما روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» . وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة لما روى أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا» ، قال: أيلتزمه ويقبّله؟ قال: «لا» ، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم» .

ب- وعورة المرأة مع المرأة: كعورة الرجل مع الرجل، لها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، وعند خوف الفتنة لا يجوز، ولا تجوز المضاجعة. والأصح أن المرأة الذمية (غير المسلمة) لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين، والله تعالى يقول: أَوْ نِسائِهِنَّ وليست الذمية من نسائنا. ج- وعورة المرأة مع الرجل: إن كانت أجنبية عنه فجميع بدنها عورة، ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لحاجتها لذلك في البيع والشراء. ولا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض، وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره، للآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ. وأجاز أبو حنيفة النظر مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة. ولا يجوز أن يكرر النظر إليها، للحديث المتقدم: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة» . ويجوز النظر للخطبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان والطبراني عن أبي حميد الساعدي: «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم» ويجوز النظر عند البيع ليعرفها عند الحاجة، وكذلك يجوز عند تحمل الشهادة النظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. أما النظر للشهوة فهو محظور لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد والطبراني عن ابن مسعود: «العينان تزنيان» . كذلك يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمرأة للمعالجة، ويجوز للختّان أن ينظر إلى فرج المختون لأنه موضع ضرورة، ويجوز تعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنى، وإلى فرج المرأة لتحمل شهادة الولادة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. ويصح النظر لبدن المرأة للإنقاذ من غرق أو حرق وتخليصها منه.

وأما إذا كانت المرأة ذات محرم من الرجل بنسب أو رضاع أو مصاهرة فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وقال جماعة منهم أبو حنيفة: بل عورتها معه: ما لا يبدو عند المهنة. وأما إذا كانت المرأة زوجة: فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها، حتى إلى فرجها، غير أنه يكره النظر إلى الفرج. د- وعورة الرجل مع المرأة: إن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل: جمع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه، والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل لأن بدن المرأة في ذاته عورة، بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرار النظر إلى وجهه، للحديث السابق: «احتجبا منه» أي عن ابن أم مكتوم، وإن كان أعمى. وإن كان زوجا فلها أن تنظر إلى جميع بدنه، غير أنه يكره النظر إلى الفرج، كما يكره له أيضا. ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال، وله ما يستر عورته لأنه روي أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عنه، فقال فيما رواه البخاري والترمذي وابن ماجه: «الله أحق أن يستحيي منه» وقال فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر: «إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله» «1» . 6- أمر الله تعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا الوجه والكفين حذرا من الافتتان، والزينة نوعان: ظاهر وباطن، أما الظاهر فمباح لكل الناس من المحارم والأجانب. وأما الباطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سمّاهم الله تعالى في هذه الآية.

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 202- 204

أما السّوار: فقالت عائشة: هو من الزينة الظاهرة لأنه في اليدين. وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة لأنه خارج عن الكفين، وإنما يكون في الذراع. وأما الخضاب فهو- في رأي ابن العربي- من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين. 7- يجب على المرأة ستر شعرها وعنقها ومقدم صدرها، لقوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها. روى البخاري عن عائشة قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن أزرهن فاختمرن بها. 8- استثنى الله تعالى من الرجال الذين لا يجوز للمرأة إبداء زينتها لهم المحارم ومن في حكمهم وهم الأزواج، وآباءهن وكذا الأجداد، سواء من جهة الأب أو الأم، وأبناء الأزواج ذكورا وإناثا، والإخوة الأشقاء أو لأب أو لأم، وأبناء الإخوة كذلك. ويلحق بهم الأعمام والأخوال، وهؤلاء هم الأقارب من جهة النسب، ومثلهم الأقارب من جهة الرضاع، وجميع هؤلاء يسمون المحارم. ومن الاستثناء: النساء والمماليك العبيد والإماء المسلمات والكتابيات، في رأي الأكثرين، وقيل: الإماء فقط، والتابعون غير أولي الإربة وهم المسنون الضّعفة أو البله، أو العنّين أو الممسوح، وهم في المعنى متقاربون، والأطفال الذين لم يفهموا شيئا عن عورات النساء، ولم يظهر فيهم الميل الجنسي لصغر سنهم. 9- يحرم على المرأة فعل ما شأنه الإيقاع في الفتنة والفساد والتبرج والتعرض للرجال، كالضرب بالنعال، والتعطر والتزين عند الخروج من البيت. فإن ضربت المرأة بنعلها فرحا بحليها فهو مكروه كما ذكر القرطبي. 10- التوبة على المؤمنين والمؤمنات واجبة وفرض متعين بلا خلاف بين

الحكم الثامن والتاسع والعاشر زواج الأحرار ومكاتبة الأرقاء والإكراه على الزنى [سورة النور (24) الآيات 32 إلى 34] :

الأمة، فإن كل إنسان محتاج إلى التوبة لأنه لا يخلو من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تترك التوبة في كل حال، ويلزم تجديد التوبة كلما تذكر الإنسان ذنبه لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه. أخرج أحمد والبخاري والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» . وشروط التوبة أربعة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها. الحكم الثامن والتاسع والعاشر زواج الأحرار ومكاتبة الأرقاء والإكراه على الزنى [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

الإعراب:

الإعراب: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الَّذِينَ مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب. أو فَكاتِبُوهُمْ هو الخبر، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط. المفردات اللغوية: الْأَيامى جمع أيّم: وهي من الحرائر كل من ليس لها زوج، بكرا كانت أو ثيبا، وكل من ليس له زوج من الأحرار وَالصَّالِحِينَ للزواج والقيام بحقوقه مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ عباد: جمع عبد، وإماء: جمع أمة وهي الرقيقة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي غني ذو سعة لا تنفذ نعمته إذ لا تنتهي قدرته عَلِيمٌ بخلقه يبسط الرزق ويقدر على مقتضى حكمته. لْيَسْتَعْفِفِ ليجتهد في العفة لا يَجِدُونَ نِكاحاً لا يتمكنون من مؤن النكاح وأسبابه المالية من مهر ونفقة، ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يوسع عليهم من فضله، فيجدون ما يتزوجون به الْكِتابَ المكاتبة: وهي أن يقول السيد لمملوكه: كاتبتك على كذا من الأقساط، فإن أديتها فأنت حر، فهي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدي مالا لسيده، فيعتق، أو هي إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال مقسطا فَكاتِبُوهُمْ الأمر فيه للندب عند أكثر العلماء إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي أمانة وقدرة على الكسب والاحتراف لأداء مال الكتابة، وقيل: صلاحا في الدين وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أمر للسادة بإعطاء المكاتبين شيئا من المال للاستعانة به في أداء ما التزموه لكم، أو حط شيء من مال الكتابة، وهو للوجوب عند الأكثر، ويكفي أقل ما يتمول. وقيل: ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وقيل: أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهما من الزكاة، ويحل للمولى السيد وإن كان غنيا لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري. وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ لا تكرهوا إماءكم على الزنى إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً تعففا عنه، وهذا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطا للنهي بقوله: وَلا تُكْرِهُوا فلا مفهوم للشرط، أي لا يلزم من عدم إرادة التحصن جواز الإكراه، فهو حرام مطلقا. نزلت في عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لهن رحيم بهن، والإكراه لا ينافي المؤاخذة، فلا يقال: إن المكرهة غير آثمة، فلا حاجة إلى المغفرة، ولذا حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص عند جماعة كالشافعية. لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتطلبوا بالإكراه الكسب.

سبب النزول:

مُبَيِّناتٍ مفصّلات ما تحتاجون إلى بيانه من الأحكام والحدود والآداب. وعلى قراءة فتح الباء يكون المعنى: مبيّن فيها ما ذكر وَمَثَلًا أي قصة عجيبة وهي قصة عائشة ويوسف ومريم مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي ومثلا من أمثال من قبلكم، أي من جنس أمثالهم وأخبارهم العجيبة، كقصة يوسف ومريم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي عظة يوعظ بها المتقون، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالعظة. سبب النزول: نزول الآية (33) : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحو يطب بن عبد العزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حو يطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب. نزول آية: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ: أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مسيكة وأميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية. وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنى، فأتتا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشكتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن نهى الله تعالى عما لا يحل مما يفضي إلى السفاح أو الزنى المؤدي إلى اختلاط الأنساب كغض البصر وحفظ الفروج، أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج الحافظ للأنساب وبقاء النوع الإنساني وترابط الأسرة ودوام الألفة وحسن تربية الأولاد، فقال: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والخطاب للأولياء والسادة. التفسير والبيان: موضوع الآيات بيان طائفة من الأحكام والأوامر، أولها الأمر بالتزويج. الحكم الثامن- ما يتعلق بالزواج: قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ أي زوجوا أيها الأولياء والسادة أو أيتها الأمة جميعا بالتعاون وإزالة العوائق من لا زوج له من الرجال والنساء الأحرار والحرائر، ومن فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم وقدرة على القيام بحقوق الزوجية وساعدوهم على الزواج بالإمداد بالمال، وعدم الإعاقة من التزويج، وتسهيل الوسائل المؤدية إليه. والصحيح أن الخطاب للأولياء، وقيل: للأزواج. وظاهر الأمر في رأي الجمهور للندب والاستحباب والاستحسان لأنه كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر أحد عليهم، ولأنه ليس للولي إجبار الأيم الثيب لو أبت التزوج، ولاتفاق العلماء على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته. وذهبت طائفة من العلماء كالرازي إلى أن ظاهر الأمر هنا للوجوب على كل من قدر عليه، لخبر الصحيحين عن ابن مسعود: «يا معشر الشباب من استطاع

منكم الباءة- مؤن الزواج- فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» . ولما جاء في السنن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فيما رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» . ورتبوا على القول بالوجوب ألا يجوز النكاح إلا بولي. والمراد بالصلاح: معناه الشرعي وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه. وقيل: المراد به المعنى اللغوي وهو أهلية النكاح والقيام بحقوقه. والعباد كالعبيد: جمع عبد وهو الذكر من الأرقاء. والإماء جمع أمة، وهي الأنثى الرقيقة. وقوله وَالصَّالِحِينَ بتغليب الذكور على الإناث، واعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى الأحرار والحرائر لأنه عنصر مشجع على التغاضي من قبل السيد عن منافع العبيد والإماء، فلا يدفعهم إلى التزويج إلا استقامة هؤلاء المماليك وصلاحهم أو ظن قيامهم بحقوق الزوجية. واستدل الإمام الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على جواز تزويج الولي البكر البالغة بدون رضاها لأن الخطاب في الآية للأولياء، فهم المأمورون بالتزويج لمن لهم الولاية عليهم، سواء كانت المولية كبيرة أم صغيرة، وسواء رضيت أم لم ترض. ولولا وجود أدلة أخرى من السنة على أنه لا يزوج الولي الثيب الكبيرة بغير رضاها، لكان حكمها حكم البكر الكبيرة، لعموم الآية. لكن قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: «البكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» يدل على وجوب استئذانها واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية. واستدل الشافعية بالآية على أن المرأة لا تلي عقد الزواج لأن المأمور بتزويجها وليها، لكن الأولى حمل الخطاب في الآية على أنه خطاب للناس جميعا بندبهم إلى المساعدة في التزويج، فيؤخذ حكم مباشرة العقد من غير هذه الآية. واستدل بعض الحنفية بظاهر الآية: وَأَنْكِحُوا على أنه يجوز للحر أن

يتزوج بالأمة، ولو كان مستطيعا مهر الحرة. ورد الشافعية بأن قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا- مهرا- أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء 4/ 25] أخص من هذه الآية، والخاص مقدم على العام. كما أن العلماء أجمعوا على أن عموم الأيامى في الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مقيد بشروط: ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة كالجمع بين الأختين ونحوهما كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت. واستدل العلماء بقوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ على أمرين: الأول- أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما. والثاني- أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد، منعا من تفويت استعمال حقه، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه، فهو زان» . ثم أزال الله تعالى التعلل بعدم وجدان المال فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ هذا وعد بالغنى للمتزوج، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، سواء فقر الخاطب أو المخطوبة، ففي فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ولا حد لقدرته، عليم بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على وفق الحكمة والمصلحة. روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» . وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. إلا أن إغناء المتزوج مشروط بالمشيئة لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة 9/ 28] وقوله هنا: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي يعلم المصلحة فيعطي بالحكمة.

وضمير إِنْ يَكُونُوا راجع إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء، فيكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة. وقيل: إنه يرجع إلى الأيامى الأحرار والحرائر فقط لأن المراد بالإغناء في قوله تعالى: يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هو تمليك ما يحصل به الغنى، والأرقاء لا يملكون. واستدل بعض العلماء بالآية على عدم جواز فسخ الزواج بالعجز عن النفقة لأن الله تعالى لم يجعل الفقر مانعا من التزويج في ابتداء الأمر، فلا يمنع استدامة الزواج بالأولى. وعلى كل حال فإن المقصود بالآية أنه يندب ألا يرد الخاطب الفقير ثقة بما عند الله، كذلك يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر. ويفهم من الآية أنه يندب للفقير أن يتزوج ولو لم يجد مؤن الزواج لأنه إذا ندب الولي إلى تزويج الفقير، ندب الفقير نفسه إلى الزواج. وبعد الأمر بتزويج الحرائر والإماء أغنياء أو فقراء، وضع القرآن العلاج لحال العاجز عن وسائل الزواج، ولم يجد أحدا يزوجه، فقال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من نفقات الزواج، ويكون المراد بالنكاح حقيقته الشرعية، وبالوجدان التمكن منه، ويجوز أن يراد بالنكاح هنا ما ينكح به، كركاب الذي هو اسم آلة لما يركب به. والمراد بالآية توجيه العاجزين عما يتزوجون به أن يجتهدوا في التزام جانب العفة عن إتيان ما حرم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون، فالتعفف عن الحرام واجب المؤمن، وفي الآية وعد كريم من الله بالتفضل عليهم بالغنى، فلا ييأسوا ولا يقلقوا. جاء في الحديث الصحيح المتقدم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه

الحكم التاسع - مكاتبة الأرقاء:

بالصوم، فإنه له وجاء» والباءة: مؤن الزواج من مهر ونفقة وغيرها. واستدل بعض العلماء بالآية على أنه يندب ترك الزواج لمن لا يملك أهبته مع التوقان، وحينئذ يكون هناك تعارض مع الآية السابقة التي تندب إلى الزواج، فقال الشافعية: هذه الآية مخصصة للآية السابقة، أي أن تلك الآية في الفقراء الذين يملكون أهبة الزواج، وهذه الآية في الفقراء العاجزين عن أهبة الزواج. ويرى الحنفية تأويل هذه الآية، وأن النكاح أي المنكوحة ككتاب بمعنى مكتوب، ويكون الأمر بالاستعفاف هنا محمولا على من لم يجد زوجة له، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين، لكن قوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يجعل هذا التأويل بعيدا. الحكم التاسع- مكاتبة الأرقاء: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم المكاتبة على أداء مال معين في مدة معينة، فاعقدوا معهم عقد الكتابة إذا كانوا من أهل الصلاح والتقوى، والأمانة، والقدرة على الكسب وأداء المال المشروط لسيده. وقد فسر الخير بتفسيرات قيل: إنه الأمانة والقدرة على الكسب، وهو تفسير ابن عباس والشافعي. وقيل: إنه الحرفة، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي في السنن: «إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلّا على الناس» ، وقيل: إنه المال، وهو مروي عن علي وجماعة، وقيل: إنه الصلاح والإيمان وهو تفسير الحسن البصري، وهذا يقتضي ألا يكاتب غير المسلم، وفيه تشدد. والجمهور على أن الأمر في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ للإرشاد والندب والاستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» وكما لا يجب عليه بيعه

ممن يعتقه في الكفارة ولا يجبر، لا تجب عليه الكتابة ولا يجبر عليها، فالعقود كلها تقوم على التراضي. وقال داود الظاهري وجماعة من التابعين: الأمر للوجوب، لما رواه البخاري تعليقا وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة، فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقبل علي بالدّرّة، وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ فكاتبه. ويجوز عملا بظاهر إطلاق الآية فَكاتِبُوهُمْ أن يكون البدل حالا أو مؤجلا بقسط واحد أو أكثر، وهو مذهب الحنفية وأصحاب مالك. ومنع الشافعية الكتابة على بدل حال لأن الكتابة تشعر بالتنجيم (التقسيط) ولأن المكاتب عاجز عن الأداء في الحال، فيرد إلى الرق، ولا يحصل مقصود الكتابة. كذلك منعوا الكتابة على أقل من نجمين (قسطين) لأنه عقد إرفاق وتعاون، ومن تمام الإرفاق التنجيم. وهذا خلاف ظاهر الآية. والكتابة مشروطة في الآية بظن الخير في المكاتب، فإن لم يعلم فيه الخير، لم تجب ولم تندب، بل ربما تكون الكتابة محرمة، كما إذا علمنا أن المكاتب يكتسب بطريق الفسق، أو الموت جوعا. كما تحرم الصدقة والقرض لمن يصرفهما في محرّم. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي أعطوهم أيها السادة شيئا من مال الكتابة كالربع أو الثلث أو السبع أو العشر، وكل ذلك مروي عن التابعين، أو أقل متمول كما قال الشافعي. وحط شيء من مال الكتابة أولى من الإيتاء لأنه المأثور عن الصحابة. والإيتاء عند الجمهور مندوب للمساعدة والخلاص، وذهب الشافعي إلى أن الإيتاء واجب، وفي معناه الحط، عملا بظاهر الآية. وقال جماعة من العلماء: إن الأمر متوجه إلى الناس كافة من سهم الزكاة في قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ أي في تحرير الرقاب، وهو مذهب الحنفية،

الحكم العاشر - الإكراه على البغاء:

والأمر حينئذ للوجوب. ويؤيده الحديث المتقدم عن أبي هريرة: «ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» . قال ابن كثير: والقول الأول أشهر، أي جعل الخطاب للسادة، لا لجماعة المسلمين لأن الخطاب في الزكاة فرض متعين، والآية هنا تضيف على الزكاة مطلبا آخر على السادة. الحكم العاشر- الإكراه على البغاء: نهى الله تعالى المؤمنين عن جمع المال من طرق حرام فقال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى، سواء أردن التعفف عنه أو لا، طلبا لعروض الدنيا المادية من مال وولد وغيرهما. وقوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً شرط لحدوث الإكراه وقيد لبيان الواقع الذي بسببه نزلت الآية، بدليل ما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية، وكذلك بينا في سبب النزول أن عبد الله بن أبي كان له جوار يكرههن على الزنى كسبا للمال. فالتقييد بقيدي إرادة التحصن وابتغاء عرض الحياة الدنيا لا مفهوم له، ويحرم الإكراه مطلقا سواء وجد هذان القيدان أم لا، وإنما جاء ذلك بقصد النص على عادة أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فنص على ذلك للتشنيع، ثم إن قيد إرادة التحصن شرط في تصور الإكراه وتحققه وليس شرطا للنهي، لكن في الحقيقة ذكر الإكراه مغن عن هذا القيد، فيتصور بإكراه غير التي تريد الزنى، ثم حدث الإجماع على تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن أو إرادة التحصن والتعفف. والتعبير بإن في قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بدل «إذا» للإشعار

بوجوب الانتهاء عن الإكراه في حال التردد والشك بإرادة التحصن، فيكون تحريم الإكراه عند تحقق الوقوع أشد وأقبح وأولى. وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن يحدث منه الإجبار على البغاء للإماء فإن الله غفور لهن، رحيم بهن من بعد إكراههن. وهذا يشعر أنه ولو حدث الزنى بالإكراه فهو ذنب وإثم، بدليل المغفرة، ولأن مثل هذا الفعل لا يخلو من مطاوعة. وواضح أن المغفرة عائدة إلى المكرهات، وهو رأي أكثر العلماء، ويؤيده قراءة ابن مسعود: «من بعد إكراههن لهن غفور رحيم» . وقال بعضهم: المغفرة عائدة إلى المكرهين بشرط التوبة، وهو فتح باب الأمل أمامهم، وهو تأويل ضعيف بعيد لأن فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى، والحال حال تهويل وتشنيع على من أقدم على الإكراه. وبعد تفصيل هذه الأحكام وبيانها ذكر الله تعالى فضائل هذه السورة، أو وصف القرآن بصفات ثلاث هي: 1- وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي أنزلنا في هذه السورة وغيرها آيات مفصّلات الأحكام والحدود والشرائع التي أنتم بحاجة إليها. 2- وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي وأنزلنا أيضا قصة عجيبة من مثل أخبار الأمم المتقدمة وهي قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف ومريم عليهما السلام. فقوله: وَمَثَلًا أي ومثلا من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم، يعني قصة عائشة رضي الله عنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام. 3- وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي وأنزلنا مواعظ وزواجر لمن اتقى الله وخاف

فقه الحياة أو الأحكام:

عذابه، مثل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور 24/ 2] وقوله عز وجل: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور 24/ 12] . أي أن هذه الأوصاف إما لما في هذه السورة من أحكام ومواعظ وأمثال، وإما لجميع ما في القرآن من الآيات البينات والأمثال والمواعظ، والأول رأي الزمخشري، والثاني رأي الرازي وابن كثير. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات أحكاما رئيسة كبري ثلاثة هي ما يتعلق بالزواج، ومكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى. 1- أما ما يتعلق بالزواج: فقد ذكر الله تعالى حكم زواج القادرين على تكاليفه، والعاجزين عن أهبته. أ- فإن كان الشخص قادرا على الزواج صحيا وماليا، فالله تعالى يأمر الأولياء بالتزويج، تحقيقا للعفة والستر والصلاح، فإن الزواج طريق التعفف. والصحيح أن الخطاب للأولياء، لذا قال أكثر العلماء: في الآية دليل على أن المرأة ليس لها أن تزوج نفسها بغير ولي. وقال أبو حنيفة: إذا زوجت المرأة نفسها ثيبا كانت أو بكرا بغير ولي من كفء لها جاز. وحكم الزواج يختلف باختلاف حال الإنسان من خوف الوقوع في الزنى ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية الزنى، فإن خاف الهلاك في الدّين أو الدنيا أو فيهما فالزواج حتم فرض، وإن لم يخش شيئا وكانت الحال معتدلة، فقال الشافعي: الزواج مباح، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: هو مستحب. دليل الرأي الأول: أن الزواج قضاء لذة، فكان مباحا كالأكل

والشرب، ودليل الرأي الثاني الحديث الصحيح المتفق عليه بين الشيخين وأحمد عن أنس: «من رغب عن سنتي فليس مني» . ونهى الحق تعالى عن الامتناع عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة، ووعد بالغنى للمتزوجين الطالبين رضا الله والاعتصام من معاصيه، في قوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فإن وجد متزوج لا يستغني، فلا يخل بمعنى الآية، إذ لا يلزم من هذا دوام الغنى واستمراره، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد، فالمال غاد ورائح، أو أن الغنى مرتبط بمشيئة الله تعالى، ويكون معنى الآية: يغنيهم الله من فضله إن شاء كقوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد 13/ 26] . وهذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ دليل على تزويج الفقير، ولا يقول: كيف أتزوج وليس لي مال فإن رزقه على الله. وقد زوّج النبي صلّى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ الزواج بالإعسار لأنها دخلت عليه. وليس في الآية دلالة على منع التفريق بسبب الإعسار بعد أن تزوجت المرأة موسرا، وإنما يفرّق بينهما لقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء 4/ 130] . كل ما في الأمر أن الآية وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا. ب- وأما إن كان الشخص عاجزا عن تكاليف الزواج، فالله يأمره بالاجتهاد في التعفف، فقال: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ ... الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره، فإنه يقوده إلى ما يراه، كالمحجور عليه. والاستعفاف: طلب أن يكون عفيفا، والله يأمر بهذه الآية كل من تعذّر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه أن يستعفف. ولما كان أغلب الموانع عن الزواج عدم المال وعد تعالى بالإغناء من فضله،

فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء. وقوله تعالى: لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي طول (مؤن) نكاح، فحذف المضاف. أو يراد به ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللّحاف: اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، فعلى هذا لا حذف في الآية. وعلى هذا من تاقت نفسه إلى الزواج إن وجد التكاليف المالية فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجدها فعليه بالاستعفاف، فإن أمكن ولو بالصوم، فإن الصوم له وجاء، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى. 2- وأما مكاتبة الأرقاء من عبيد وإماء فهي أمر مستحب شرعا لأن الشرع يتشوف إلى تحرير الأنفس البشرية، وإذا تحرر الإنسان ملك نفسه، واستقل واكتسب وتزوج إذا أراد، فيكون الزواج أعف له. والكتابة: عقد بين السيد وعبده، وهي في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجّما عليه (مقسطا) فإذا أدّاه فهو حرّ. وتطلب الكتابة إن علم السيد في المكاتب خيرا، أي دينا وصدقا وصلاحا، ووفاء بالمعاملة، وأمانة وقدرة على الاكتساب، وإلا لم تطلب. واختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له، فكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق، ورخص فيه مالك وأبو حنيفة والشافعي. وتكون الكتابة بقليل المال وكثيره، وعلى أنجم (أقساط) ولا خلاف في ذلك بين العلماء. وقال الشافعي: لا بدّ فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم، وقال الجمهور: تجوز ولو على نجم (قسط) واحد. ولا تجوز حالّة البتة عند الشافعي وتجوز عند الحنفية وأصحاب مالك.

والمكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» . وهو متفق عليه بين المذاهب. وإذا عجز المكاتب عن قسط، ولم يطالبه السيد، لا تنفسخ الكتابة ما داما على ذلك ثابتين. وإذا أدى المكاتب ما التزم به عتق، ولا يحتاج إلى إعتاق السيد، ويعتق معه أولاده الذين ولدوا أثناء الكتابة، ولا يعتق الولد قبل الكتابة إلا بشرط. وقد أمر الله السادة بإعانة المكاتبين في مال الكتابة إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم، أو يحطّوا عنهم شيئا من مال الكتابة. 3- وأما الإكراه على الزنى أو الإجارة على الزنى: فهو حرام قطعا، سواء أرادت الفتاة ذلك أو امتنعت عنه، فلا فرق في حرمة هذا الإكراه بين حال إرادة التحصن (التعفف) أو حال عدم إرادته، كما لا فرق بين قصد الكسب الدنيوي والأولاد أو عدم قصده. وبالرغم من حرمة فعل المستكرهة فإن الله غفور للمكرهات رحيم بهن فإن الإكراه أزال العقوبة الدنيوية، وهو عذر للمكرهة، أما المكره فلا عذر له فيما فعل. وما أشبه الأمس باليوم فإن المرأة أصبحت في عصرنا أداة للسياحة واستقطاب الزبائن والدعاية. 4- عدد الله تعالى في قوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ.. على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات الواضحات، وفيها من أمثال الماضين للتحفظ عما وقعوا فيه، وهي أيضا موعظة وعبرة لمن اتقى الله وخاف عقابه.

الله منور السموات والأرض بدلائل الإيمان وغيرها [سورة النور (24) آية 35] :

الله منوّر السموات والأرض بدلائل الإيمان وغيرها [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) الإعراب: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ مَثَلُ مبتدأ، وكَمِشْكاةٍ خبره، وهاء نُورِهِ إما عائدة على الله تعالى، أو على المؤمن، أو الإيمان في قلب المؤمن. دُرِّيٌّ صفة: كَوْكَبٌ، وهو منسوب إلى الدّر، أو أصله (درّيء) بالهمز من الدرء، فقلبت الهمزة ياء، وأدغمت في الياء قبلها، والدرء: الدفع، ومعناه أنه يدفع الظلمة لتلألئه. زَيْتُونَةٍ بدل أو عطف بيان. البلاغة: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ نُورُ من إطلاق المصدر على اسم الفاعل للمبالغة، أي منوّر كل شيء، كأنه عين نوره. ومن فسر ذلك بأنه هادي أهل السموات والأرض ببراهينه وبيانه، فهو استعارة. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ تشبيه تمثيلي، شبه نور الله الذي جعله في قلب المؤمن بالمصباح في كوة (طاقة) داخل زجاجة، تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن، سمي تمثيليا لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. المفردات اللغوية: اللَّهُ نُورُ أي ذو نور يهدي به أهل السموات والأرض، أو منور السموات والأرض، من

المناسبة.:

طريق المجاز. وأصل النور: ما به الإضاءة الحسية التي بها تبصر العين، ويطلق شرعا على ما به الاهتداء والإدراك، فأهل السموات والأرض أي العالم كله يهتدون بنوره. مَثَلُ نُورِهِ أي صفة نوره العجيبة الشأن في قلب المؤمن كَمِشْكاةٍ أي كوّة أو طاقة مسدودة غير نافذة من الخلف. مِصْباحٌ سراج. زُجاجَةٍ قنديل. كَأَنَّها أي الزجاجة والنور فيها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ نجم مضيء. والدري: منسوب إلى الدر اللؤلؤ، أو من الدرء: أي الدفع لدفعه الظلام بسبب تلألئه. مِنْ شَجَرَةٍ أي من زيت. لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي لا شرقية فقط تقع عليها الشمس أحيانا، ولا غربية فقط تتعرض للشمس أحيانا أخرى، وإنما هي موقع وسط تقع عليها الشمس طول النهار، وتتعرض للهواء المعتدل دون حرّ أو برد، فتكون ثمرتها أنضج وأطيب، وزينها أجود الزيوت وأصفاها. يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه وتلألئه وفرط وبيصه. نُورٌ عَلى نُورٍ نور متضاعف، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، فهو نور فوق نور، اجتمع فيه نور السراج (المصباح) وبهاء الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل الإشعاع. ومعنى تشبيه نور الله بنور هذا المصباح لتقريب الأمر إلى الأذهان: هو تمثيل الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها، وظهور مضمونها بالمشكاة المنعوتة بالأوصاف المذكورة. أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث من مصباحها. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يهدي الله لهذا النور الثاقب وهو دلالة الآيات أو دين الإسلام أو إيمان المؤمن من يشاء من عباده. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يبين الله الأمثلة للناس، تقريبا لأفهامهم، وتصويرا للمعقول بالمحسوس توضيحا وبيانا، ليعتبروا فيؤمنوا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا كان أو خفيا، وفيه وعد ووعيد، لمن تدبرها، ولمن لم يكترث بها. المناسبة. بعد بيان الشرائع والأحكام الجزئية العملية (أحكام الفقه) والأخلاق والآداب (علم الأخلاق) انتقل البيان الرباني إلى دائرة العقيدة والإيمان وهي الإلهيات، فذكر الله تعالى مثلين: أحدهما: بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، فتنوير العالم كله بالآيات الكونية والآيات المنزلة على رسوله دليل واضح قاطع على وجود الله تعالى ووحدانيته

الثاني:

وقدرته وعلمه وسائر صفاته العليا، وهو أيضا هاد إلى صلاح الدنيا والآخرة. الثاني: بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وهو موضوع الآيات التالية بعدئذ. التفسير والبيان: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله منور العالم كله وهاديه بما أقام فيه من أدلة في الكون على وجوده وتوحيده، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات الواضحات، فمن اهتدى بذلك النور واستنار قلبه بهداية الله فاز بسعادة الدنيا والآخرة. وهذا هو النور المعنوي. أما النور الحسي فواضح أيضا أن الله هو مصدر النور، وخالق النور، وما حي الظلام، ومدبر الكون بنظام دقيق ثابت، وله عليه الهيمنة التامة والشاملة والمستمرة في كل لحظة وزمان. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي شبيه هذا النور وهو نور الله القائم في صفحة الكون وبيان القرآن وما أودعه في قلب المؤمن من الإيمان كنور مصباح في قنديل زجاجي صاف مزهر، موضوع في مشكاة (كوّة أو طاقة) لينبعث النور في اتجاه معين تقتضيه الحاجة، وكأن زجاج هذا المصباح (السراج أو القنديل) في إضاءته كوكب عظيم ونجم ضخم من الكواكب السيارة مثل الزّهرة وعطارد والمشتري. والظاهر أن الضمير في نُورِهِ عائد إلى الله عز وجل، في تنويره الكون، وهدايته قلب المؤمن. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي أن زيت المصباح يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة كثيرة المنافع، زرعت في جبل

عال أو في صحراء، ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها فقط، أو غروبها فقط، بسبب ظل حاجت للشمس فيما عدا ذلك، بل هي في مكان وسط تتعرض للشمس حالتي الطلوع والغروب ومن أول النهار إلى آخره، فهي شرقية غربية تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا. يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي أن زيتها لصفائه وبريقه وإشراقه كأنه يضيء بنفسه، قبل إضاءته ومسّ النار له لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا، ثم رئي من بعيد، يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء، كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم، ازداد نورا على نور، وهدى على هدى. قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له، لموافقته له، وهو المراد من قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي سعيد الخدري: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» «1» . نُورٌ عَلى نُورٍ أي هو نور مترادف متضاعف، قد اجتمعت فيه المشكاة (الطاقة) والزجاجة والمصباح والزيت، لجعل النور قويا مشعا لا مجال لأي تقوية أخرى فيه، فالمشكاة تحصر النور في اتجاه واحد غير مشتت ولا موزع، وبهاء الزجاجة يزيد الإنارة والتلألؤ وانعكاس الضوء، والقنديل مصدر الطاقة الإشعاعية الكافية التي لا تتوافر فيما سواه، وصفاء الزيت ونقاؤه من أهم عوامل الاحتراق الكامل وتوافر الإضاءة الكاملة. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يرشد الله إلى هدايته ويوفق من يختاره من عباده، بالنظر وإعمال الفكر وتدبر آي الكون. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أي يبين الله تعالى للمكلفين من الناس دلائل الإيمان ووسائل الهداية، ويبصرهم بما خفي عليهم من أمور الحق في صور

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 237

فقه الحياة أو الأحكام:

مختلفة، بضرب الأمثال، وعقد التشبيهات، وتصوير المعاني بصور المحسوسات المألوفة، لترسيخها في الأذهان، وتثبيتها في أعماق الفؤاد والنفس، فيصير الإيمان راسخا في القلب كالجبال الراسيات. وهذا من مزايا القرآن البلاغية الرائعة أنه يصور المعقولات والمعاني بصور الماديات والمحسوسات. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي والله عالم علما تاما شاملا بجميع الأشياء المعقولة والحسية، الباطنة والظاهرة، يمنح الهداية لمن كان أهلا لها، مستعدا لتلقيها. وهذا وعد لمن أعمل فكره ووعى وسائل الهداية، ووعيد لمن أعرض، فلم يتدبر ولم يتفكر فيها، ولم يكترث بها. والخلاصة: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسّته ازداد ضوءا على ضوء، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء ازداد هدى على هدى، ونورا على نور. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية لا يراد بها ظاهرها وإنما هي مؤولة، وتأويلها مختلف فيه، وأصح التأويلات ما ذكره جمهور المتكلمين وابن عباس وأنس «1» : وهو أن الله هادي أهل السموات والأرض، وهداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وتلك الهداية هي الآيات البينات القائمة في الكون والمنزلة على الرسل بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بالغ النهاية في الصفاء. ومثل نور الله أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، مثل المصباح الذي تكاملت فيه وسائل الإنارة وهي المشكاة (الكوّة في الحائط غير النافذة)

_ (1) تفسير الرازي: 23/ 231 وما بعدها.

وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، والزجاجة لأنها جسم شفّاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج، فصارت الزجاجة في الإنارة والضوء كالكوكب الدرّي المتلألئ، والزيت الصافي النقي النابع من زيتون شجرة كثيرة المنافع، تتعرض للشمس والهواء طوال النهار، فهي ليست شرقية فحسب وهي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها لوجود الساتر الحاجب إذا غربت، وليست غربية فحسب عكس الشرقية: وهي التي تصيبها الشمس إذا غربت ولا تصيبها وقت الشروق، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية، في صحراء واسعة من الأرض، لا يواريها عن الشمس شيء، وهو أجود لزيتها. والأنوار مترادفة متضاعفة مجتمعة مع بعضها، كذلك قلب المؤمن يزداد إيمانا وهداية بأضواء القرآن وهداية الله تعالى. والله تعالى يبين الأشياء بالأمثال الحسية وغيرها تقريبا إلى الأفهام، وهو عليم بكل شيء يحقق المراد، وبمن هو أهل للهداية والضلال. فهذا مثل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار: معناه تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ. ونُورٌ عَلى نُورٍ: معناه أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور، وهذا النور عزيز لا يناله إلا من أراد الله هداه، والله أعلم بالمهديّ والضالّ. وأما ما لا تعلق له بالآية: فيجوز أن يقال: لله تعالى نور، من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء: منه ابتداؤها، وعنه صدورها.

المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى [سورة النور (24) الآيات 36 إلى 38] :

وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة، جلّ وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا «1» وهو تعالى خالق النور الحسي في السموات والأرض، ومدبّرهما على أحسن نظام وأتمه وأدقه، ونوّر السماء بالملائكة وبالكواكب، والأرض بالأنبياء وبالشرائع وبالفطرة السليمة والعقل النيّر المرشد إلى الخير، فلو تفكر إنسان بعقل حرّ بريء متجرد من التأثر باتجاه معين أو عقيدة سابقة، لآمن بالله تعالى ربا وإلها واحدا إيمانا كاملا. يتزايد وينمو ويتبلور بهداية القرآن وآياته البينات، والله أعلم. المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) الإعراب: فِي بُيُوتٍ إما صفة كَمِشْكاةٍ في قوله تعالى: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ وتقديره: كمشكاة كائنة في بيوت، أو متعلق بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها. يُسَبِّحُ فعل مضارع، وفاعله رِجالٌ ومن قرأ بضم الياء وفتح الباء يُسَبِّحُ كان رِجالٌ مرفوعا بفعل مقدر دلّ عليه يُسَبِّحُ كأنه قيل: من يسبحه؟ فقال: رجال، أي يسبحه رجال. وعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مصدر مضاف إلى المفعول، أي عن ذكرهم الله. وَإِقامِ الصَّلاةِ: الأصل أن تقول:

_ (1) تفسير القرطبي: 12/ 256- 264

البلاغة:

وإقامة الصلاة، إلا أنه حذفت التاء تخفيفا لأن المضاف إليه صار عوضا عنها، كما صار عوضا عن التنوين، كما صارت (ها) في يا أيها عوضا عن المضاف إليه. البلاغة: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ إطناب بذكر الخاص بعد العام لأن الصلاة من ذكر الله. تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: فِي بُيُوتٍ متعلق بما قبله، أي كمشكاة في بعض بيوت أو توقد في بعض بيوت. أو متعلق ب يُسَبِّحُ الآتي. والبيوت هنا: المساجد المخصصة لذكر الله لأن الصفة تلائمها. أَذِنَ أمر وقضى. أَنْ تُرْفَعَ بالتعظيم أي تعظم وتطهر عن الأدناس والأنجاس وعن لغو الأقوال، أو ترفع بالبناء. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بتوحيده. يُسَبِّحُ يصلي أو ينزه ويقدس. بِالْغُدُوِّ مصدر بمعنى الغداة أو الغدوات، أي أول النهار. وَالْآصالِ جمع أصيل، وهو العشي أو العشايا، أي آخر النهار من بعد الزوال. رِجالٌ أي ينزهونه ويسبحونه رجال، أي يصلون له فيها بالغدوات والعشايا. لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ أي لا تشغلهم معاملة رابحة، سواء بالتجارة أو الصناعة أو غيرهما. وَلا بَيْعٌ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعاوضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة، فإن الربح يتحقق بالبيع، ويتوقع بالشراء، والثاني هو الأولى. إِقامِ الصَّلاةِ إقامتها لوقتها. وَإِيتاءِ الزَّكاةِ ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. تَتَقَلَّبُ تضطرب وتتغير من الهول والخوف في يوم القيامة، فهو اليوم المراد. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق ب يُسَبِّحُ أو لا تُلْهِيهِمْ أو يَخافُونَ. أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي أحسن جزاء أو ثواب عملهم، وأَحْسَنَ بمعنى حسن. المناسبة: بعد أن بين الله تعالى كون نوره سبيلا لهداية عباده، بما أقام لهم من الآيات البينات، ذكر هنا حال المنتفعين بذلك النور.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هذا متعلق بما قبله أي كمشكاة كائنة في مساجد أمر الله أن ترفع بالبناء أو التعظيم بتطهيرها من الأنجاس الحسية، والمعنوية مثل الشرك والوثنية ولغو الحديث، ويخصص الدعاء والعبادة فيها لله، ويذكر فيها اسم الله بتوحيده، أو بتلاوة كتابه. قال قتادة: هي هذه المساجد، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. وقال ابن عباس: «المساجد: بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض» . وقال عمرو بن ميمون: «أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها» . وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا لله يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة» . والسبب في جعل المشكاة في مساجد: أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم، فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل، كما قال الرازي. يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي ينزه الله ويقدسه ويصلي في تلك المساجد في أوائل النهار بكرة وغدوة، وأواخره في الآصال والعشايا رجال لا تشغلهم الدنيا والمعاملات الرابحة عن ذكر الله وحده، وإقامة الصلاة لوقتها، وأداء الزكاة المفروضة عليهم للمستحقين. وقوله: رِجالٌ فيه إشعار بهمتهم العالية، وعزيمتهم الصادقة، التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه، وشكره وتوحيده وتنزيهه،

كما قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب 33/ 23] . والمراد بقوله: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ غير الصلاة، منعا من التكرار. وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة. وشبيه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون 63/ 9] . ويستدل بكلمة رِجالٌ على أن صلاة الجماعة مطلوبة من الرجال، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» . وروى الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» . وتخصيص المساجد بالذكر لأنها مصدر إشعاع عقدي وفكري وتنظيمي وسلوكي وعلمي وسياسي في حياة المسلمين. وسبب انصراف الرجال إلى العبادة الخوف من عذاب الله كما قال: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أي إن الرجال الذين يؤدون الصلاة جماعة في المساجد يخافون عقاب يوم القيامة الذي تضطرب فيه القلوب والأبصار من شدة الفزع والهول، كقوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم 14/ 42] وقوله عز وجل: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الدهر 76/ 10] . وعاقبة أمرهم ما قال الله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يذكرون الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ليثيبهم الله ثوابا يكافئ حسن عملهم، فهم الذين

فقه الحياة أو الأحكام:

يتقبل حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويضاعف لهم الجزاء الحسن، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 6/ 160] وقوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] وقوله عز وجل: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 261] . وقال الله تعالى في الحديث القدسي فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إن الله تعالى واسع الفضل والإحسان يرزق من يريد ويعطي من يشاء، بغير عدّ ولا إحصاء، والله على كل شيء قدير. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن أول موضع تظهر فيه هداية الله ونوره هو في المساجد التي يشيد بناءها المؤمنون، ويعمرونها بالصلاة والأذكار في أوائل النهار وأواخره، والمساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن. روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ الله عز وجل فليحبني، ومن أحبّني فليحبّ أصحابي، ومن أحب أصحابي، فليحبّ القرآن، ومن أحبّ القرآن فليحبّ المساجد، فإنها أفنية الله أبنيته، أذن الله في رفعها، وبارك فيها، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم، والله عز وجل في حوائجهم، هم في مساجدهم والله من ورائهم» . 2- يأمر الله بعمارة المساجد عمارة حسية بالبناء، وعمارة معنوية بالصلاة

وتلاوة القرآن والأذكار وحلقات التعليم، كما قال تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 18] وقال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن ماجه عن عليّ: «من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة» وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من أخرج أذى من المسجد، بنى الله له بيتا في الجنة» وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، إن الله تعالى يقول: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أما زخرفة المساجد فبعضهم أباحها لأن فيها تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي تعظّم. وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالسّاج «1» وحسّنه. قال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، ونقش عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، زمن ولايته على المدينة قبل خلافته، ولم ينكر عليه أحد ذلك. وكرهه قوم لما أخرجه أبو داود عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» . وتصان المساجد وتنزه عن الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغيرها، وذلك من تعظيمها، جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن جابر: «من أكل ثوما أو بصلا فلا يغشانا في مساجدنا» أو «فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» . والمساجد فيما ذكر كلها سواء، للحديث المتقدم ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال في غزوة تبوك فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة- يعني الثّوم- شيئا فلا يقربنا في المسجد» .

_ (1) أحسن أنواع الخشب المأخوذ من شجر معروف في الهند.

وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الأشغال الدنيوية لما أخرجه مسلم عن بريدة من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي نادى على الجمل الأحمر: «لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له» . وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة. ولكن روي في حديث آخر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رخص في إنشاد الشعر في المسجد. ويكره رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره في رأي مالك وجماعة، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» . وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت في الخصومة (التقاضي) والعلم لأنه لا بد لهم من ذلك. ويجوز عند المالكية النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء، ومن لا بيت له، فقد أنزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صفّة المسجد رهطا من عكل. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب، لا أهل له، في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ويكره عند الشافعية النوم في المساجد. ويسن الدعاء عند دخول المسجد روى مسلم عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» . وبعد الدخول يسن صلاة ركعتين تحية المسجد لما روى مسلم أيضا عن أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» . 3- وصف الله تعالى المسبّحين في المساجد بأنهم المراقبون أمر الله، الطالبون

حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة [سورة النور (24) الآيات 39 إلى 40] :

رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. قال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة، تركوا كل شغل وبادروا. وهم أيضا في مبادرتهم إلى صلاة الجماعة في المساجد يخافون عذاب يوم القيامة. 4- يكافئ الله ويجازي على الحسنات ويضاعف الثواب إلى عشر أمثاله. والله يرزق من يشاء من عباده من غير أن يحاسبه على ما أعطاه إذ لا نهاية لعطائه. حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) الإعراب: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ: كَسَرابٍ: جار ومجرور في موضع رفع خبر المبتدأ وهو أعمالهم. وبِقِيعَةٍ في موضع جر صفة سراب أي كسراب كائن بقيعة، وقيعة: جمع قاع كجيرة جمع جار، ويَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً جملة فعلية في موضع جرّ صفة ل كَسَرابٍ أيضا. وشَيْئاً منصوب على المصدر، أي لا شيء هناك. يَغْشاهُ مَوْجٌ جملة فعلية في موضع جر صفة ل بَحْرٍ. ومِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ وكذا مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ يرتفع موج وسحاب بالظرف عند سيبويه، وعند الأخفش لجريه صفة على المذكور المرفوع بأنه فاعل. وكَظُلُماتٍ إما مرفوع بدلا من سَحابٌ أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي هي ظلمات، وإما مجرور بدلا من كَظُلُماتٍ الأولى.

البلاغة:

البلاغة: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وكذلك أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ كل منهما تشبيه تمثيلي رائع وبديع. المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي حالهم على ضدّ حال المؤمنين، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها في الآخرة لاغية مخيبة للآمال. كَسَرابٍ هو ما يرى في عين الإنسان أثناء سيره في الفلاة من لمعان الشمس وقت الظهيرة في شدة الحر، فيظن أنه ماء جار أو راكد على وجه الأرض. بِقِيعَةٍ جمع قاع، أي فلاة، وهو ما انبسط من الأرض. يَحْسَبُهُ يظنه. الظَّمْآنُ العطشان، وخص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند ما تمسّ الحاجة إلى الظفر بثمرة عمله. حَتَّى إِذا جاءَهُ جاء ما تو همه ماء أو جاء موضعه. لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مما ظنه أو حسبه، وكذلك الكافر يحسب أن عمله كالصدقة ينفعه، حتى إذا مات وقدم على ربه، يجد عمله لم ينفعه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي عند عمله. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ جازاه عليه في الدنيا. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب. أَوْ كَظُلُماتٍ أي والذين كفروا أعمالهم السيئة في الدنيا كالظلمات المتراكمة وأَوْ إما للتخيير فإن أعمال الكفار لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة في لج البحر والأمواج والسحاب، وإما للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن كانت قبيحة فكالظلمات، وإما للتقسيم باعتبار وقتين وهو الظاهر، فإنها كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة. فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق، أو ذي لجّ وهو معظم الماء، والمقصود: بحر عميق الماء كثيره ذو طبقات. يَغْشاهُ يغطيه. مِنْ فَوْقِهِ الظلمة الأولى أي الموج. مِنْ فَوْقِهِ والظلمة الثانية أي الموج الثاني، والمراد بظلمات البحر: أمواج متراكمة مترادفة، والمراد بالسحاب: سحاب غطى النجوم وحجب أنوارها. والسحاب: غيم. كَظُلُماتٍ أي هذه ظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول وظلمة الثاني، وظلمة السحاب. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أخرج الناظر يده في هذه الظلمات وهي أقرب شيء إليه. لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله لم يهتد، والمراد من لم يوفقه لأسباب الهداية لم يكن مهتديا.

سبب النزول نزول الآية (39) :

سبب النزول: نزول الآية (39) : وَالَّذِينَ كَفَرُوا: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدّين، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافرا. المناسبة: بعد بيان حال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبسببه يتمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان حال الكافرين، فإنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل من الحالين مثلا، أما المثل الأول الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وأما المثل الثاني لأعمالهم في الدنيا فهو أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي أن أعمالهم في الدنيا كظلمات في بحر. التفسير والبيان: هذان مثلان ضربهما الله تعالى لحالي الكفار في الآخرة والدنيا، أو لنوعي الكفار: الداعي لكفره، والمقلد لأئمة الكفر، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: ناريا ومائيا، وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائيا وناريا أيضا. أما المثل الأول هنا فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي إن الأعمال الصالحة التي يعملها الكفار الذين جحدوا توحيد

الله وكذبوا بالقرآن وبالرسول المنزل عليه، أو الدعاة إلى كفرهم، الذين يظنون أنها تنفعهم عند الله، وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب آمالهم في الآخرة ويلقون خلاف ما قدّروا، شبيهة بسراب يراه الإنسان العطشان في فلاة أو منبسط من الأرض، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه. وأعمالهم الصالحة: مثل صلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء وإقامة المشاريع الخيرية. وهكذا حال الكافرين في الآخرة يحسبون أعمالهم نافعة لهم، منجّية من عذاب الله، فإذا جاء يوم القيامة وقوبلوا بالعذاب، فوجئوا أن أعمالهم لم تنفعهم، وإنما يجدون زبانية الله تأخذهم إلى جهنم، التي يسقون فيها الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.. الآيات [الكهف 18/ 102- 106] . وقال تعالى هنا: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي ووجد عقاب الله وعذابه الذي توعد به الكافرين، فجازاه الله الجزاء الأوفى على عمله في الدنيا، والله سريع المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . هذا حالهم في الآخرة، أو حال الكفار الدعاة إلى الكفر. والخلاصة: أن الكفار سيصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم. أما المثل الثاني لحالهم في الدنيا أو حال الكفار الجهلة المقلدين لأئمة الكفر فهو كما قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أي إن مثل أعمال الكفار التي يعملونها في الدنيا على غير هدى،

أو مثل الذين يقلدون غيرهم، مثل ظلمات متراكمة في بحر عميق كثير الماء، تغمره الأمواج المتلاطمة، ويحجب نور الكواكب السماوية غيم كثيف، فهي ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وكذا الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وهذه الظلمات حجبت عنه رؤية الحق وإدراك ما في الكون من عظات وآيات ترشد إلى الطريق الأقوم. قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل. وقال ابن عباس: شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث. والمقصود من هذا المثل بيان أن الكافر تراكمت عليه أنواع الضلالات في الدنيا، فصار قلبه وبصره وسمعه في ظلمة شديدة كثيفة، لم يعد بعدها قادرا على تمييز طرق الصواب ومعرفة نور الحق. لذا قال تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي إن تلك الظلمات الثلاث ظلمات متراكمة مترادفة، بعضها يعلو البعض الآخر، حتى إنه إذا مدّ الإنسان يده، وهي أقرب شيء إليه، لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها، ومعنى «لم يكد» : لم يقارب الوقوع، والذي لم يقارب الوقوع لم يقع. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله ولم يوفقه إلى الهداية، فهو هالك جاهل خاسر، في ظلمة الباطل لا نور له، ولا هادي له، كقوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف 7/ 186] . وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد 13/ 33] ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم 14/ 27] . وهذا مقابل لما قال في مثل المؤمنين يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات مثلين لأعمال الكفار فهي إما كسراب خادع في فلاة أو صحراء، وإما كظلمات، والمثل الأول كما اختار الرازي دال على خيبة الكافر في الآخرة، والثاني دال على كون أعمالهم في متاهات وضلالات وظلمات يصعب اختراقها وتجاوزها، لكون قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم في ظلمة حالكة، يتخبط فيها، فلا يدري ما هو الصواب، وهو أيضا جاهل لا يدري أنه لا يدري. ويستفاد من الآيات أن شرع الله ونظامه هو النور الصحيح المرشد لخيري الدنيا والآخرة، وأما التشريع المخالف لشرع الله فهو كالسراب الخادع، والظلمات المتراكمة. وهذا كله في مجال العقيدة. أما في مجال التحضر الدنيوي فقد يكون الكافر مبدعا فيها، متفوقا في إدراك غوامض الحياة، مبتكرا وسائل التقدم والمدينة، ولكنه عن الآخرة والنجاة فيها غافل جاهل. قال ابن عباس في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يجعل الله له دينا فماله من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة، لم يهتد إلى الجنة كقوله تعالى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد 57/ 28] . والسبب في إحباط أعمال الكافر وإهدارها: أنها لا تعتمد على أصل صحيح وهو الإيمان بالله تعالى، والله لا يقبل عملا إلا من مؤمن معترف بالله وبصفاته، موحد له توحيدا تاما كاملا لتصح نية عمله. والخلاصة: أن المثلين المذكورين في الآيتين هما تحذير وتنبيه للكفار، فمن عقل كلام الله وتدبر فيه، صحح اعتقاده، فيصلح له عمله ويستقيم في الدنيا، ومن ظل مصرا على كفره، معرضا عن التأمل في آيات ربه، لقي جزاء عسيرا، وعقابا أليما، ولم ينفعه أي عمل صالح، ينجّيه من عذاب الله يوم القيامة.

الأدلة الكونية على وجود الله وتوحيده [سورة النور (24) الآيات 41 إلى 46] :

الأدلة الكونية على وجود الله وتوحيده [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) الإعراب صَافَّاتٍ حال. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ، مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى للابتداء لأن السماء ابتداء الإنزال، والثانية: للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، وهي مع المجرور في موضع المفعول، والثالثة: لبيان الجنس لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، وتقديره: فيها شيء من برد، وهو مرفوع بالظرف لأن الظرف صفة الجبال. يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ من قرأ بفتح الياء تكون باء في بِالْأَبْصارِ للتعدية، ومن قرأ بضم الياء كانت الباء زائدة.

البلاغة:

البلاغة: فَيُصِيبُ بِهِ وَيَصْرِفُهُ بينهما طباق. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ استعارة، شبه تعاقب الليل والنهار بتقليب الأشياء المادية. يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ لِأُولِي الْأَبْصارِ بينهما جناس تام لأن المراد بالأولى العيون وبالثانية العقول والقلوب. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والثقة بالوحي أو بالدليل. يُسَبِّحُ ينزّه ويقدّس ذاته عن كل نقص، والصلاة من التسبيح. مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ: لتغليب العقلاء. وَالطَّيْرُ جمع طائر، وهو تخصيص لما فيها من الدليل الباهر على وجود الخالق وقدرته، بجعل الأشياء الثقيلة تقف في الجو. صَافَّاتٍ باسطات أجنحتها في الهواء بعملية القبض والبسط. كُلٌّ كل واحد مما ذكر، أو من الطير. قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ تعميم بعد تخصيص، أي أن الله عالم بكل شيء من أفعالهم ومجازيهم عليها. وقوله: يَفْعَلُونَ فيه تغليب العقلاء. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله مالك السموات والأرض وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات، حاكم متصرف فيهما إيجادا وإعداما، لأنه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات والأفعال. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي وإليه المرجع والمآب. يُزْجِي يسوق برفق وسهولة، ومنه البضاعة المزجاة يزجيها كل أحد أي يزهد فيها بسهولة. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يضم بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة. ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم، جمع خلل، كجبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ من الغمام، وكل ما علاك فهو سماء. مِنْ جِبالٍ فِيها من قطع عظام في السماء، وهو بدل بإعادة الجارّ. مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال، ومفعول يُنَزِّلُ محذوف، أي ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من جنس البرد، مأخوذ من برد بردا، والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت، ولم تحلّلها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحابا، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا، وإن اشتد البرد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا، وإلا نزل بردا، وكل ذلك لا بد وأن يستند إلى إرادة الله الحكيم، وإليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير للبرد. يَكادُ يقرب. سَنا بَرْقِهِ ضوء البرق الذي في السحاب، والبرق: جمع برقة.

المناسبة:

يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة، وذلك أقوى دليل على كمال القدرة من حيث توليد الضدّ من الضدّ، أي النار من البارد. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، فيأتي بكل منهما بدل الآخر، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك وهو الأولى. إِنَّ فِي ذلِكَ التقليب، وفيما تقدم ذكره. لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ للدلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عن الحاجة، لمن يتأمل ذلك من أهل العقول والبصائر. دَابَّةٍ حيوان يدب على الأرض، وتستعمل عرفا للدواب ذوات الأربع. مِنْ ماءٍ هو جزء مادته، أو ماء مخصوص وهو النطفة، تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما لا يتولد عن النطفة. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والهوام من الحشرات، وإنما سمي الزحف مشيا بطريق الاستعارة أو المشاكلة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والأنعام، ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب، فإنها تعتمد في المشي على أربع. وتذكير الضمير في قوله: فَمِنْهُمْ والتعبير بمن لتغليب العقلاء، والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة. والترتيب في إيراد هذه المخلوقات لتقديم ما هو أدل على القدرة. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر، على اختلاف الصور في الأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى ما استنارت به قلوب المؤمنين بالهداية، وما أظلمت به قلوب الكافرين بالضلالة، أتبع ذلك ببيان أدلة التوحيد والقدرة، فذكر منها أربعة: الأول- تسبيح المخلوقات، والثاني- إنزال الأمطار، والثالث- اختلاف الليل والنهار، والرابع- أنواع الحيوانات. التفسير والبيان: النوع الأول- تسبيح المخلوقات: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي ألم تعلم بالدليل أيها النبي وكل مخاطب أن الله سبحانه ينزّهه ويقدّسه كل من في

السموات والأرض من العقلاء وغيرهم من الملائكة والإنس والجن والجمادات، ومنها الطير الباسطات القابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء لكيلا تسقط، تنزيها يدركه المتأمل بعقله السليم إذ تكوينها بخصائصها المتفاوتة يدل بذاته على وجود الخالق لها. والتنزيه يدل على اتصاف الخالق بجميع صفات الكمال، ويبطل قول الكفار الذين جعلوا الجمادات شركاء لله، ونسبوا إليه الولد، وهي من مخلوقاته وإيجاده. قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق. وذكر الطير مع دخولها بما سبق لما فيها من دلالة خاصة على بديع الصنع الإلهي، وكمال القدرة الإلهية، ولطف التدبير لمبدعها لأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجة واضحة على كمال قدرة الخالق المبدع. والافتتاح بقوله أَلَمْ تَرَ يشير إلى أن تسبيح الكائنات لله عزّ وجلّ أمر واضح يصل إلى حد العلم الذي لا شك فيه. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أي كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزّ وجلّ. والله عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، سواء في حال الطاعة أو المعصية، ومجازيهم عليها. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي إن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما خلقا وإماتة، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا معقّب لحكمه، وإليه وحده مصيرهم ومعادهم يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء، ويجازي بما أراد، كقوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] .

النوع الثاني - إنزال المطر:

والخلاصة: إن عظمة الكون، وإبداع السموات والأرض، وما بثّ الله فيهما من كائنات حية وجامدة، وروعة ما نشاهده من تركيب الإنسان، وتنوع عالم الحيوان في البر والبحر والجو، وما يقوم به أضخم الحيوان وأصغره، وتفنّن النحل في بناء البيوت وتكوين العسل، وحيل العناكب الضعيفة في اصطياد الحشرات، وعجائب أعمال الطيور، وتصرف الرّب في المخلوقات إيجادا وإعداما، بدءا وإعادة، كل ذلك دليل قاطع محسوس على وجود الإله الخالق المبدع، والرّب الواحد المتصرف، الذي لا ربّ سواه، ولا معبود بحق غيره. هذا أول دليل كوني على وجود الله وقدرته ووحدانيته، وهو شامل لعدة أدلة، كل دليل منها كاف وحده في تكوين القناعة، ويمكن تصنيف ما ذكر في الآيتين الأوليين في دليلين إجماليين: دليل العبودية في العالمين العلوي والسفلي، ودليل الملك المطلق ووحدة مصير الخلائق إلى الله تعالى. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وهذان دليلان آخران في الآيتين التاليتين على قدرة الله وتوحيده: النوع الثاني- إنزال المطر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. إلى قوله: يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب كيفية تكوين المطر وإنزاله، إنه تعالى يسوق بقدرته السحاب أول ما ينشئه بعضه إلى بعض، بعد أن يتكون من بخار الماء الصاعد من البحار التي هي أربعة أخماس المعمورة، ثم يجمع ما تفرق من أجزائه في وحدة متضامة، ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، حتى يتكون منه سحاب عال في طبقات الجو الباردة، ثم يسوق ذلك السحاب بالرياح اللواقح إلى المكان الذي يريد إنزال المطر فيه، ثم ينزل المطر من خلال السحاب، أي من نتوقه وشقوقه التي تتكون بين أجزائه.

النوع الثالث - اختلاف الليل والنهار:

وهكذا ينزل الله المطر من طبقات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال، كما ينزل الثلج والبرد بحسب نسبة تأثير البرودة في الأبخرة المتصاعدة. وكل ما علا الإنسان فهو سماء، فالسماء هي الغيم المرتفع على رؤوس الناس. وتكون الجبال كناية عن السحاب المشاهد الآن لكل راكب في الطائرة التي ترتفع عادة أكثر من ثلاثين ألف قدم في الجو فوق السحب البيضاء المتجمعة كالجبال الشاهقة «1» ويرى مفسرون آخرون أن جبال البرد قائمة فعلا في السماء، وينزل الله منها البرد، وهذا المعنى تؤيده بعض النظريات الحديثة التي تثبت أن في طبقات الجو ما يشبه الجبال مكونة من برد، وقد تنزل زيادة على ما يصعد من بخار البحار. وتتحكم إرادة الله وقدرته وتصريفه في كيفية إنزال المطر، فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد من يشاء من عباده رحمة لهم، ويحجبه عمن يشاء، ويؤخر الغيث عمن يريد، إما نقمة وإما رحمة من إسقاط الثمار والأزهار وإتلاف الزروع والأشجار. وأعجب من ذلك كله خلق الضد من الضد وهو النار من البارد، حتى ليكاد أو يقرب ضوء برق اصطدام الغيوم من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته. النوع الثالث- اختلاف الليل والنهار: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي إن الله عزّ وجلّ يتصرف في الليل والنهار بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وتغير أحوالهما

_ (1) قال بعض النحاة في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، كما قدمنا في الإعراب، وهذا إنما يجيء على قول بعض المفسرين إلى أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال هاهنا كناية عن السحاب، فإن مِنْ الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بدل من الأولى، والله أعلم (تفسير ابن كثير: 3/ 297) .

النوع الرابع - أنواع المخلوقات:

بالحرارة والبرودة، وتعاقبهما بنظام ثابت دقيق، إن في ذلك لدليلا على عظمته تعالى، وعظة لمن تأمل فيه من ذوي العقول، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران 3/ 190] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» . النوع الرابع- أنواع المخلوقات: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد أن استدل الله تعالى على وحدانيته وقدرته بعالم السماء والأرض وبالآثار العلوية، استدل بأحوال الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها ومهماتها، فذكر أنه سبحانه خلق كل أنواع الحيوانات التي تدب على الأرض من ماء واحد هو جزء مادتها وأساس تكوينها، أو هو النطفة التي يحملها المني الحيواني الذي تلقح به بويضة الأنثى في منيها. وسبب تخصيص الماء بالذكر أنه أصل الخلقة الأول، ولأنه لا بقاء للحيوان بدونه، ولأن آثار التراب تمتزج فيه. وأنواع الحيوان كثيرة، فمنها من يمشي زحفا على بطنه بانقباض عضلات البطن وانبساطها كالحيات والأسماك وسائر الزواحف. وسمي زحفها مشيا إشارة إلى كمال القدرة وتحقيقها هدف المشاة وهو الانتقال والحركة للبحث عن الرزق وتحقيق الغايات. ومنها من يمشي على رجلين كالإنسان والطير. ومنها من يمشي على أربع كالأنعام وسائر وحوش البر. والله سبحانه يخلق بقدرته ما يشاء، وهذا تعبير إجمالي يدخل آلاف أنواع

فقه الحياة أو الأحكام:

الحيوانات الأخرى من حشرات وغيرها مما يمشي على أكثر من أربع، وتختلف صوره وطبائعه وقواه. إن الله قادر على خلق كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ثم ختم الله تعالى إيراد أدلة التوحيد ببيان جامع شامل يجمع تلك الأدلة فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أنزل الله في هذا القرآن آيات مفصلات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون، ومرشدة إلى طريق الحق والسداد بما فيها من حكم وأحكام وأمثال بينة محكمة، وأنه تعالى يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والوعي والعقل، ويرشد من يشاء إلى الطريق القويم الذي لا عوج فيه. فقه الحياة أو الأحكام: هذه دلائل التوحيد وإثبات الذات الإلهية، الدالة دلالة حسية على أن لتلك المصنوعات المتغيرة صانعا قادرا على الكمال. وأول هذه الأدلة أن جميع المخلوقات تسبح الله، أي تنزهه عن جميع النقائص، وتصفه بصفات الجلال والكمال، والله عليم بتسبيحها وبدعائها وعبادتها، يعلم صلاة المصلي وتسبيح المسبّح، ولا يخفى عليه طاعتهم وتسبيحهم. والله تعالى مالك الملك في السموات والأرض، وهو الحاكم المدبر المتصرف بجميع المخلوقات، وإليه مصير الخلائق يوم القيامة. وكل مملوك عبد لله، وكل محاسب ضعيف ذليل أمام القاضي.

وثاني الأدلة- إنزال المطر بكيفية عجيبة تبدأ بتصاعد أبخرة الماء وتحمل بقدرة الله إلى طبقات الجو العالية، وتتجمع حينئذ بها السحب والغيوم، وتقودها الرياح، وتلقحها وتؤثر فيها بالبرودة، ثم تتساقط الأمطار العذبة بعد أن كانت عند تبخرها من البحار مالحة، فتروي الأرض، وتحقق الخير، وتوفر الرزق، وتحيي جميع الكائنات الحية، فإن الرطوبة أهم عناصر الحياة، وهي الفارق المميز بين الشتاء والصيف. وثالث الأدلة- تقليب الليل والنهار بالزيادة والنقص، والحرارة والبرودة، والتعاقب المستمر، ولكل من الليل والنهار طبيعة تناسب الإنسان، فالليل للراحة والهدوء، والنهار للحركة والكسب. ورابع الأدلة- تنوع المخلوقات بأشكال شتى، وطبائع مختلفة، ومنافع متعددة، مع أن منشأها واحد وهو الماء، وتركيبها مختلف، ويخلق الله من الماء ما يشاء وما لا نعلم به إلى الآن، بالرغم من تعدد الاكتشافات العلمية إذ أول ما خلق الله من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء، وقدرة الله فوق الحصر والعد، وأغرب من السمع والبصر. وما أجمل وأبدع ما ختمت به تلك الأدلة من قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ... فهي تشمل كل الأدلة والعبر، ومنها بيان القرآن العظيم الذي اشتمل على أدلة الإيمان والاعتقاد، وأحكام العبادة والتشريع، وأصول الفضائل والآداب والأخلاق. والله يهدي بتلك الأدلة من يريد إلى طريق الحق والصواب، والسداد والاستقامة، دون انحراف أو اعوجاج، فماذا بعد بيان الحق إلا الضلال؟!

البقاء على الضلال والنفاق بالرغم من البيان الشافي [سورة النور (24) الآيات 47 إلى 50] :

البقاء على الضلال والنفاق بالرغم من البيان الشافي [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 50] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) المفردات اللغوية: وَيَقُولُونَ أي المنافقون. آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صدقنا بتوحيد الله وبالرسول محمد. وَأَطَعْنا رضينا فيما حكما به. يَتَوَلَّى يعرض ويمتنع عن قبول حكمه. وَما أُولئِكَ المعرضون. بِالْمُؤْمِنِينَ الصادقي الإيمان التي توافق قلوبهم ألسنتهم. وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليحكم بينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه الحاكم الدنيوي ظاهرا، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم الله. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ فريق بالإعراض عن المجيء إليك إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ لهم الحكم لا عليهم إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ طائعين منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، وتقديم إِلَيْهِ للاختصاص. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر أو ميل إلى الظلم. ارْتابُوا شكوا في نبوتك، فزالت ثقتهم بك. يَحِيفَ يجور ويظلم في الحكم. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لا، بل هم الذين يريدون ظلم الناس وإنكار حقوقهم بالإعراض عنك. سبب النزول: قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.

المناسبة:

وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو محق، أذعن، وعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلّى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم «1» . المناسبة: بعد بيان أدلة التوحيد، ذمّ الله تعالى قوما وهم المنافقون اعترفوا بالدين بألسنتهم، ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم، فيقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ ثم يفعلون نقيض ذلك. التفسير والبيان: هذه صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فقال تعالى: وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ

_ (1) وهذا الحكم حق وعدل لأنهم في الواقع كفار استباحوا معارضة النبي صلى الله عليه وسلم في أحكامه، وشهروا بحكمه، وأحدثوا البلبلة والاضطراب في عدله ونبوته، وكل ذلك يختلف عن الكافر العادي.

أي ويقول المنافقون أمام الناس: صدقنا بالله ربا وبمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولا، وأطعنا الله فيما قضى، والرسول صلّى الله عليه وسلم فيما حكم به، ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكمه، فيخالفون أقوالهم بأعمالهم، ويقولون ما لا يفعلون، ويرجعون بعدئذ إلى الباقين منهم، فيظهرون الرجوع عما أعلنوه، والحقيقة أن أولئك المنافقين ليسوا بالفعل من أهل الإيمان، وإنما مردوا على النفاق. وهذا دليل واضح على أن الإيمان لا يكون بالقول، إذ لو كان به، لما صح أن ينفي عنهم كونهم مؤمنين. ومن مظاهر نفاقهم وذبذبتهم: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي وإذا طلبوا إلى تحكيم كتاب الله واتباع هداه، وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهم في خصوماتهم، أعرضوا عن قبول حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، واستكبروا عن اتباع حكمه. وهذا ترك للرضا بحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء 4/ 60- 61] . وفي الآية دلالة على أن حكم الرسول صلّى الله عليه وسلم هو حكم الله القائم على الحق والعدل. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي إذا كان الحكم في صالحهم جاؤوا إليه سامعين مطيعين لعلمهم بأنه لا يحكم إلا بالحق. وهذا دليل واضح على انتهازيتهم وإرادتهم النفع المعجل، فهم يعرضون عن حكم النبي صلّى الله عليه وسلم متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكّوا، فأما إذا عرفوه لأنفسهم أسرعوا إلى قبول الحكم النبوي والرضا به.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم حلّل القرآن الكريم نفسيتهم فقال تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ «1» أي أن ترددهم وذبذبتهم بين قبول حكم النبي صلّى الله عليه وسلم تارة والإعراض عنه تارة أخرى لأحد الأسباب التالية: وهي إما أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق، والمرض ملازم لهم، وإما أنهم شكوا في الدين وفي نبوته صلّى الله عليه وسلم، وإما أنهم يخافون أن يجور الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم عليهم في الحكم. وأيا كان هو السبب فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم وبصفاتهم. لذا قال تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي بل هم الظالمون الفاجرون، يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، لا أنهم يخافون أن يحيف الرسول صلّى الله عليه وسلم عليهم لمعرفتهم بأمانته وعدله في حكمه وصونه عن الجور. فقه الحياة أو الأحكام: الإيمان بالمبدأ أو الاعتقاد لا يعرف إلا واجهة واحدة هي واجهة الصراحة في القول، والحزم والجزم بالعقيدة، ومطابقة القول العمل. أما أولئك المنافقون في صدر الإسلام وفي كل عصر الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فهم كفرة جبناء يطعنون في الإسلام من الخلف، ويريدون في الواقع هدمه، والتنصل من أحكامه وقواعده. وهذه صورة مخزية لهم عرضها القرآن الكريم، تراهم إذا أحسوا بأن الحق في جانبهم قبلوا بحكم النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه كما أثبت الواقع لا يحكم إلا بالحق. وإن عرفوا

_ (1) كلمة أم للاستفهام، وهو غير جائز على الله تعالى، والمراد به الإخبار عنهم، كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ومعناه إثبات أنهم كذلك، ولو كان الاستفهام على حقيقته لكان ذما لهم، وإنما أتى بالاستفهام في الآية لأنه أبلغ في التوبيخ والذم.

الطاعة والامتثال عند المؤمنين [سورة النور (24) الآيات 51 إلى 54] :

الحق مع غيرهم وأرادوا جحوده، طلبوا التحاكم إلى غير هذا النبي من أعدائه الذين يحكمون بأهوائهم. ففي قلوبهم مرض الكفر والنفاق، والشك والريب في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدله، وهم في الواقع الظالمون، أي المعاندون الكافرون الذين يريدون جحود الحقوق لإعراضهم عن حكم الله تعالى، وليس هناك أدنى جور في حكم الله والرسول. هذه عادة الذين يتاجرون بالإسلام وتملق أهله ما دامت لهم مصلحة، فإن زالت المصلحة أو تغيرت ابتعدوا عن الإسلام وركبه. وهذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. فواجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بينه وبين المدّعي أو المدّعى عليه. ومن المعلوم أن القضاء يكون للمسلمين في الحكم بين المعاهد والمسلم، ولا حق لأهل الذمة فيه. أما القضاء بين الذميين فذلك راجع إليهما، فإن تراضيا وجاءا قاضي الإسلام، فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض. الطاعة والامتثال عند المؤمنين [سورة النور (24) : الآيات 51 الى 54] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)

الإعراب:

الإعراب: وَيَتَّقْهِ بكسر القاف على الأصل، وقرئ بسكونها على التخفيف، مثل كتف وكتف. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ طاعَةٌ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمرنا طاعة، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أمثل من غيرها. البلاغة: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ استعارة، شبّه الأيمان المبالغ فيها والمؤكدة بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه. عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ مشاكلة، أي عليه التبليغ، وعليكم إثم التكذيب. المفردات اللغوية: إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي دعوا إلى حكم الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي القول اللائق بهم أن يعلنوا الإطاعة بالإجابة الْمُفْلِحُونَ الناجون وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمرانه، أو في الفرائض والسنن وَيَخْشَ اللَّهَ أي يخف الله على ما صدر عنه من الذنوب في الماضي. وَيَتَّقْهِ بأن يطيعه فيما بقي من عمره الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم في جنان الله. جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قدر طاقتهم وأقصى غاية الأيمان لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالجهاد أو الخروج عن ديارهم وأموالهم لَيَخْرُجُنَ جواب أقسموا، على الحكاية أي قائلين: لنخرجن قُلْ: لا تُقْسِمُوا على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أي المطلوب منكم طاعة معروفة، لا اليمين والطاعة النفاقية المنكرة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سرائركم قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به، على الحكاية، مبالغة في تبكيتهم تَوَلَّوْا أى تتولوا وتعرضوا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي على محمد صلّى الله عليه وسلم ما حمّل من مهمه التبليغ، وعليكم ما حملتم من الامتثال والطاعة ووزر التكذيب وَإِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحق الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلفتم به.

المناسبة:

المناسبة: جريا على عادة الله تعالى في إتباع ذكر المحق المبطل، والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره ما لا ينبغي، فبعد حكاية قول المنافقين وفعلهم وبقائهم على النفاق ونفي الإيمان الحق، ذكر الله تعالى ما هو شأن أهل الإيمان في الطاعة والامتثال، وصفات المؤمن الكامل وما يجب أن يسلكه المؤمنون. التفسير والبيان: هذه صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الممتثلين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فقال تعالى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي إن شأن المؤمنين الصادقي الإيمان وعادتهم أنهم إذا طلبهم أحد إلى حكم الله ورسوله في خصوماتهم أن يقولوا: سمعا وطاعة، لذا وصفهم تعالى بالفلاح، فأولئك هم الفائزون بنيل المطلوب، والسلامة من المرهوب، والنجاة من المخوف. والسمع والطاعة هو محور الميثاق الأول مع المسلمين الأوائل، ففي بيعة العقبة الأولى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا من الأنصار على السمع والطاعة في المعروف، كما روى عبادة بن الصامت. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعظ الصحابة فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة..» وأوصى عبادة بن الصامت ابن أخيه جنادة بن أبي أمية لما حضره الموت فقال ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.

وقال أبو الدرداء: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة. ثم أبان الله تعالى أن كل طاعة لله ورسوله محققة الفوز، فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به، وترك ما نهياه عنه، وخاف الله فيما مضى من ذنوبه، واتقاه فيما يستقبل من أيامه، فأولئك هم الذين فازوا بكل خير، وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة. ثم قارن الله تعالى موقف هؤلاء بموقف أولئك المنافقين، وهم كثيرون في كل زمان، فعاد إلى كشف موقفهم من الطاعة بعد بيان كراهيتهم لحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ أي كان أهل النفاق يحلفون للرسول صلّى الله عليه وسلم مغلّظين الأيمان، مبالغين فيها إلى غايتها: لئن أمرتهم بالجهاد والخروج مع المجاهدين، ليخرجن كما طلبت، فقالوا: والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. فرد الله تعالى عليهم مبينا أكاذيبهم بقوله: قُلْ: لا تُقْسِمُوا، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ قل يا محمد لهم: لا تحلفوا، فإن المطلوب منكم طاعة معروفة، صدق باللسان، وتصديق بالقلب والأفعال. وقيل: معناه طاعتكم طاعة معروفة لنا، فهي مجرد طاعة باللسان فحسب من غير تصديق قلبي، وقول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة 9/ 96] وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة 58/ 16] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا نهي عن القسم القبيح الكاذب إذ لو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه، فتبين أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي أن الله مطلع على أعمالكم الظاهرة والباطنة، خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، يعلم بأيمانكم الكاذبة وبكل ما في ضمائر عباده من الكفر والنفاق وخداع المؤمنين، فيجازيكم على كل عمل سيء. وهذا تهديد ووعيد. ثم رغبهم الله ورهبهم فقال: قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قل لهم أيها الرسول: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا دليل على أنهم لم يطيعوا ما فيهما. فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي فإن تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم أو إن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فإن الذي عليه أي الرسول إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، وعليكم بقبول ذلك وبطاعته فيما أمر، وتعظيمه، فما حملتم هو الطاعة. وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اي وإن تطيعوا هذا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق لأنه يدعو إلى صراط مستقيم، وما على الرسول إلا التبليغ البين والواضح والموضح لما تحتاجون إليه، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . فقه الحياة أو الأحكام: قارن الله تعالى في هذه الآيات بين المؤمنين والمنافقين في شأن الطاعة:

طاعة الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، فإن المؤمنين الصادقين وهم عند نزول الآيات المهاجرون والأنصار كانوا إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وحكم رسوله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: سمعا وطاعة، دون تمهل ولا تردد. وهم في هذا القول لم يخسروا، وإنما حققوا لأنفسهم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن يطع أوامر الله تعالى ويلتزم بحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمره، ويخف عذاب الله على ذنوبه الماضية، ويتق الله في مستقبل عمره، فهو من الفائزين بكل خير، البعيدين عن كل شر. ذكر أسلم أن عمر رضي الله عنه بينما هو قائم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله، قال: هل لهذا سبب؟ قال: نعم! إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت، قال: ما هذه الآية؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَرَسُولَهُ في السنن وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من عمره وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ والفائز: من نجا من النار، وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي: «أوتيت جوامع الكلم» . وأما المنافقون فيقسمون بالله تعالى أغلظ الأيمان، وطاقة ما قدروا أن يحلفوا على أنهم يجاهدون مع النبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل ويطيعونه فيما أمر، ولكن أيمانهم كاذبة، لذا نهاهم الله تعالى عن هذا القسم القبيح الكاذب، وأمرهم بالطاعة المعروفة المعتادة لدى المؤمنين، وهي النابعة من إخلاص القلب، ولا حاجة بعدئذ إلى اليمين، فإن الله خبير بما يعملون من الطاعة بالقول، والمخالفة بالفعل.

أصول دولة الإيمان [سورة النور (24) الآيات 55 إلى 57] :

ثم أكد الله تعالى الأمر بطاعة أوامر الله تعالى وحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم بإخلاص لا نفاق فيه، فإن تولوا عن الطاعة، فما على النبي صلّى الله عليه وسلم إلا تبليغ الرسالة، وما عليهم إلا الطاعة له، فإن أطاعوه اهتدوا إلى الحق، فجعل الاهتداء مقرونا بطاعته، ثم أكد أنه ما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا التبليغ الواضح الذي لا شائبة فيه لكل ما كلف فيه الناس، فهو لا يحمل أحدا على الإيمان الحق، ولا يكره إنسانا على الدين القويم. قال بعض السلف: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. أصول دولة الإيمان [سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) الإعراب: وَعَدَ: وعد في الأصل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، ولهذا اقتصر في هذه الآية على مفعول واحد، وفسّر العدة بقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. وهو جواب قسم مضمر تقديره: وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم.

البلاغة:

يَعْبُدُونَنِي جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ أو استئناف كلام جديد. لا يُشْرِكُونَ حال من واو يَعْبُدُونَنِي. البلاغة: مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً طباق بين الخوف والأمن. المفردات اللغوية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم والأمة لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في ممالكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ مبني للمعلوم، وقرئ مبنيا للمجهول الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من بني إسرائيل في مصر وفلسطين بدلا عن الجبابرة: فرعون وأمثاله وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت وإظهاره على جميع الأديان، فالتمكين: هو جعل هذا الدين ممكّنا في الأرض بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليجعلنهم بعد الخوف من الكفار في حالة أمن وسلام، وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقوا مستنفرين في السلاح صباح مساء، حتى أنجز الله وعده، فغلّبهم على العرب كلهم، وفتح لهم بلاد الشرق والغرب. وفيه دليل على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به، وعلى صحة خلافة الراشدين. يَعْبُدُونَنِي حال من الَّذِينَ لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من واو يَعْبُدُونَنِي أي يعبدونني غير مشركين وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي ومن ارتد، أو كفر هذه النعمة بعد الوعد أو حصول الخلافة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة. وأول من كفر به قتلة عثمان رضي الله عنه، فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.. معطوف على قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ والفاصل وإن طال وعد على المأمور به، فيكون تكرارا للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لتأكيد وجوبها، وتعليق الرحمة بها، أي بالطاعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي راجين الرحمة. لا تَحْسَبَنَّ الخطاب للرسول مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا تلحقهم قدرة الله على

سبب النزول:

الإهلاك، بأن يفوتوا منها، أي لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في الأرض وَمَأْواهُمُ النَّارُ ومرجعهم النار، وذلك معطوف من حيث المعنى على قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار، والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم. وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي، أو المأوى الذي يصيرون إليه. سبب النزول: أخرج الحاكم وصححه، والطبراني عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: فينا نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد. المناسبة: بعد الكلام عن الطاعة وثمرتها: وهي أن من أطاع الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة، وعد الله سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض، وتأييدهم بالنصر والإعزاز، وإظهار دينهم على الدين كله، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون. ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم. التفسير والبيان: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وعد الله الذين تحقق فيهم وصفان معا هما الإيمان

بالله ورسوله والعمل الصالح الطيب الذي يقرب من الله تعالى ويرضيه بأن يجعل أمة النبي صلّى الله عليه وسلم خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، كما استخلف داود وسليمان عليهما السلام على الأرض، وكما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وقوله مِنْكُمْ من للبيان كالتي في آخر سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [29] . وبما أن وعد الله صادق ومنجز، كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ [الزمر 39/ 20] فقد أنجز الله وعده، وأظهر المسلمين على جزيرة العرب، وافتتحوا بعدئذ بلاد المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة (حكام فارس) وملكوا خزائنهم، وفتحوا بلاد القياصرة (بلاد الروم) واستولوا على الدنيا، وظلت دولة الإسلام قوية منيعة في ظل خلافات متعاقبة: الخلافة الراشدية، ثم الخلافة الأموية في الشام والأندلس، ثم الخلافة العباسية، ثم الخلافة العثمانية إلى انتهاء الربع الأول من القرن العشرين (1924) حيث ألغى أتاتورك الخلافة. ففي عهده صلّى الله عليه وسلم فتحت مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن كلها. وأخذت الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وملك عمان. وفي عهد الخلفاء الراشدين افتتحت بلاد كثيرة في الشرق والغرب وهي أكثر بلاد فارس والروم في العراق والشام ومصر وبعض بلاد شمال إفريقيا، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل كثير من الترك. وفي العهد الأموي استمرت الفتوح الواسعة حتى شملت بلاد الأندلس والهند. واستقر الحكم الإسلامي في العهد العباسي في مختلف أجزاء بلاد الإسلام.

وفي عهد الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس، وقبرص والقسطنطينية، وبلاد القيروان وسبتة مما يلي المحيط الأطلسي، وامتد الفتح إلى أقصى بلاد الصين. وصدق قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد: «إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . ونظير الآية قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال 8/ 26] ، وقوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص 28/ 5- 6] . وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي وليجعلن دين الإسلام مكينا ثابتا في الأرض، عزيزا قويا منيعا، مرهوب الجانب في نظر أعدائه، منصورا على ملة الكفر. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة- المرأة في الهودج- من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد» . قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في

غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قالها. وتحققت الثالثة في عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بشّر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب» . ثم بيّن حال هذه الأمة أثناء تمكنها في الأرض أو علة تمكينها في الأرض فقال: يَعْبُدُونَنِي «1» لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أي إن هذه الأمة تعبد الله وحده لا شريك له، ولا يتغيرون من عبادة الله تعالى إلى الشرك، ووعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم. روى الإمام أحمد والشيخان عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذبهم» . وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي ومن ارتد أو كفر النعمة، كقوله تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل 16/ 112] ، أو خرج عن طاعة ربه وأمره، فأولئك هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة، وتناسوا فضل الله عليهم، وهذا ربما يصدر من بعض الأمة بدليل حديث الصحيحين وغيرهما من الأئمة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة» .

_ (1) يعبدونني كما تقدم: هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

وبعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا للنعمة، وإحسانا إلى عباد الله الفقراء، مكررا للتأكيد الأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وأدوا الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، واعبدوا الله وحده لا شريك له، وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم لما فيها من الإحسان إلى الضعفاء والفقراء، وأطيعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أمركم به أو نهاكم عنه أو زجركم عنه، لعل الله يرحمكم بذلك، وينجيكم من عذاب أليم. ولا شك أن من فعل هذا سيرحمه الله، كما قال: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة 9/ 71] . وأما المتنكرون لطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم فهم كما قال تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي لا تظنن أيها الرسول أن الذين خالفوك وكذبوك وكفروا برسالتك يعجزون الله ويفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب في الدنيا بألوان مختلفة فردية كالمرض والهم والقلق والانتحار، أو جماعية كالقتل في الحروب والزلازل والبراكين والحرق والغرق، ومأواهم في الآخرة نار جهنم، وبئس المآل مآل الكافرين، وبئس المرجع والقرار والمهاد. ومعجزين: معناه فائتين، والمصير: المرجع، كما بيّنا. فقه الحياة أو الأحكام: هذه هي أصول دولة الإيمان، تنبئ عن قواعد ومبادئ أهمها الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، وثمرتها أولا- إنجاز وعد الله بالعزة والسيادة في الأرض في الدنيا، ونصرة الإسلام على الكفر، وتمكين هذا الدين المرتضى وهو دين

الإسلام في الأرض، أي تثبيته وتوطيده وتأمينه وتأمين أهله وإزالة الخوف الذي كانوا عليه، وثانيا- الظفر برحمة الله في الآخرة. ودلت الآيات على ما يلي «1» : 1- إثبات صفة الكلام لله عزّ وجلّ وأنه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام، ومن وصف بالنوع وصف بالجنس. 2- الله تعالى حيّ قادر على جميع الممكنات لأنه قال: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وقد فعل ذلك كما بيّنا في التفسير السابق، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات. 3- الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لقوله: يَعْبُدُونَنِي. 4- إنه سبحانه منزه عن الشريك لقوله: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وذلك يدل على نفي الإله الآخر، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى، سواء كان كوكبا كما يقول الصابئة، أو صنما كما يقول عبدة الأوثان. 5- صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب في قوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. الآية، وقد تحقق الخبر المعجز، فدل على صدق المخبر وهو محمد صلّى الله عليه وسلم. 6- العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان. 7- إثبات خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، فالآية وَعَدَ اللَّهُ.. أوضح دليل وأبينه لأنهم المستخلفون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين

_ (1) انظر تفسير الرازي: 24/ 24

وعدهم الله بالاستخلاف بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، والاستخلاف: الإمامة فقط، وأما الذين من قبلهم فهم الخلفاء إما بالنبوة وإما بالإمامة والخلافة. ولكن لا تختص الخلافة بهم، بل تشمل غيرهم ممن استخلفوا على المسلمين. 8- إن من أتم النعم على الصحابة وتابعيهم بعد نصرة الإسلام هو تبديل خوفهم أمنا، كما وعد تعالى، وأكده رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا، ليس عليه حديدة» وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحة: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» فالآية معجزة النبوة لأنها إخبار عما سيكون، فكان، كما بيّنا. 9- إن أساس العمل الإسلامي عبادة الله بالإخلاص، دون أن يشوبها شرك ظاهر أو خفي وهو الرياء. 10- المراد بالكفران في قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ في رأي أكثر المفسرين كفران النعمة لأنه قال تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أما الكافر الحقيقي فهو فاسق بعد هذا الإنعام وقبله. 11- إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه سبب للرحمة الشاملة من الله تعالى. 12- لن يعجز الله هربا في الأرض أحد من الكفار، وإنما قدرة الله تطولهم في أي مكان، وهم المقهورون، ومأواهم النار. قال صاحب الكشاف: النظم في قوله تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ لا يحتمل أن يكون متصلا بقوله: لا تَحْسَبَنَّ لأن ذلك نفي، وهذا إيجاب، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره: لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض، بل هم مقهورون، ومأواهم النار.

الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر حالات الاستئذان في داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز [سورة النور (24) الآيات 58 إلى 60] :

الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر حالات الاستئذان في داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) الإعراب: ثَلاثُ عَوْراتٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه ثلاث عورات، أي هذه ثلاثة أوقات عورات، وحذف المضاف اتساعا. ويقرأ بالنصب على أنه بدل من قوله: ثَلاثَ مَرَّاتٍ وهذا ظرف زمان أي ثلاثة أوقات، وأخبر عن هذه الأوقات بالعورات لظهورها فيها، مثل ليلك نائم، ونهارك صائم. وتسكين واو عَوْراتٍ لأنه حرف العلة، والحركة تستثقل على حرف العلة. وقرئ بفتح الواو على قياس جمع التصحيح، نحو ضربة ضربات. طَوَّافُونَ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون، أي أنتم طوافون، وبَعْضُكُمْ بدل من ضمير طَوَّافُونَ أي يطوف بعضكم على بعض. وَالْقَواعِدُ جمع قاعد: وهي التي قعدت عن الزواج للكبر، ولم يدخلها الهاء لأن المراد

البلاغة:

به النسب، أي ذات قعود، كقولهم: حامل وحائض وطاهر وطالق، أي ذات حمل وطمث وطهر وطلاق. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ دخول الفاء في فَلَيْسَ يدل على أن اللَّاتِي في موضع رفع لأنه صفة للقواعد لا للنساء لأنك لو جعلته صفة للنساء، لم يكن لدخول الفاء وجه لأن الموصول هي التي يدخل الفاء في خبرها، فإذا جعلت اللَّاتِي صفة للقواعد، فالصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من ضمير (هن) في ثيابهن، أو من ضمير يَضَعْنَ. البلاغة: عَلِيمٌ حَكِيمٌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صيغة مبالغة. المفردات اللغوية: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد والإماء. وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار، والحلم من حلم: وقت البلوغ: إما بالاحتلام وإما ببلوغ خمس عشرة سنة. ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي في ثلاثة أوقات. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي تخلعون ثيابكم وقت الظهر، وقوله: من الظهيرة: بيان للحين. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. ثَلاثُ عَوْراتٍ أي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم وتبدو فيها العورات لإلقاء الثياب، والعورة: الخلل، والأعور: المختل العين، وسميت كل حالة عورة لأن الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ أي لا على المماليك والصبيان. جُناحٌ إثم وذنب في الدخول عليكم بغير استئذان. بَعْدَهُنَّ بعد الأوقات الثلاثة. طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي هم طوافون عليكم للخدمة والمخالطة وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام. بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض، أو يطوف بعضكم على بعض، والجملة مؤكدة لما قبلها. كَذلِكَ مثل ذلك التبيين لما ذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الأحكام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمور خلقه وأحوالهم. حَكِيمٌ بما دبره لهم وشرع. ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها الأحرار، ولا يدخل فيهم المماليك. فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات. كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الأحرار الكبار الذين بلغوا من قبلهم.

سبب النزول:

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل والولد لكبرهن. لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبرهن. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أن يتخففن بإلقاء الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء، والقناع فوق الخمار. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال. وأصل التبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، مأخوذ من قولهم: سفينة بارجة أي لا غطاء عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي يرتدين أكمل الثياب خير لهن من الوضع لأنه أبعد من التهمة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهن للرجال وقولكم. عَلِيمٌ بمقصودهن وبما في قلوبكم. سبب النزول: قال ابن عباس: وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية. وفي رواية: ثم انطلق- أي عمر- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرّ ساجدا، شكرا لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا

التفسير والبيان:

عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية. فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للرجال والنساء بطريق التغليب لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول. التفسير والبيان: هذه الآيات عود إلى تتمة الأحكام السالفة في هذه السورة، بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها، والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها. وموضوع هذه الآيات استئذان الأقارب بعضهم على بعض، والتخفيف عن العجائز بإلقاء الثياب الظاهرة. أما ما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. وتفسير الآيات ما يأتي: الحكم الحادي عشر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ أي أيها المؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله يطلب من خدمكم مما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، وأطفالكم الصغار أن يستأذنوكم في ثلاثة أحوال أو أوقات: الأول- من قبل صلاة الفجر لأنه وقت النوم في الفراش واليقظة من المضاجع وتغيير ثياب النوم وارتداء ثياب اليقظة، ويحتمل انكشاف العورة. الثاني- حين تخلعون ثياب العمل وتستعدون للنوم وقت الظهيرة أو وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.

الثالث- من بعد صلاة العشاء لأنه وقت خلع ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم. فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من انكشاف العورات ونحو ذلك من مقدمات النوم والراحة، فهي ساعات الخلوة والانفراد ووضع الملابس. والأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ظاهر في الوجوب، لكن قال الجمهور: إنه مصروف إلى الندب والاستحباب، والتعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، مثل قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» . فلو حدث دخول بغير استئذان لم يكن ذلك معصية، وإنما خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. فإن علم الخادم أن في دخوله على سيده إيذاء له، حرم الدخول بسبب الأذى لغيره. وزعم البعض أن حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة منسوخ لجريان عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول على خلافه، أو أنه كان يعمل بها عند عدم وجود ستور للبيوت. والأصح أن حكم الاستئذان في هذه الأوقات محكم غير منسوخ، وهو قول أكثر أهل العلم. قال أبو حنيفة رحمه الله: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ. والجمهور على أن الخطاب في الآية عام في الذكور والإناث من الأرقاء، الكبار منهم والصغار. وروي عن ابن عباس أنه خاص بالصغار، كما روي عن السّلمي أنه خاص بالإناث، وكلا الرأيين غير معقول. والمراد بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ هم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم. وهم المراهقون لقوله تعالى:

أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور 24/ 31] . وعلة طلب الاستئذان ما قال الله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي إن هذه الأوقات المذكورة هي ثلاثة أوقات عورات يختل فيها التستر عادة، والعورة لا يجوز النظر إليها. وما عدا ذلك فهو مباح كما قال سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، وإنما الأمر مباح على أصل الإباحة في الأشياء. وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر، فيدخل في وقت المنع قبل صلاة الفجر، من باب أولى، وإنما سكت عنه النص لندرة الدخول فيه بسبب النوم، ولأن المعمول به عادة حصول الاستئذان فيه، منعا من التهمة وسوء الظن. وعلة الإباحة كما ذكر تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي إن هؤلاء الخدم والأطفال الصغار يطوفون عليكم في الخدمة وغير ذلك، ويترددون على مجالسكم أنسا بكم ومعاشرة ومداخلة، وقضاء حاجات، وبعضكم طائف عادة على بعض، وكرر الله تعالى ذلك للتأكيد، فالتعبير الأول تسلية للمماليك والخدم، والتعبير الثاني مراعاة لجانب السادة المخدومين وإشعار بحاجتهم إلى خدمات الخدم. وفيه دلالة على تعليل الأحكام لأن الله تعالى نبّه على علة طلب الاستئذان بقوله: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ كما نبّه على أن التطواف علة الإباحة في غير الأوقات الثلاثة، ويغتفر في الطوافين دفعا للحرج والمشقة ما لا يغتفر في غيرهم. لهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الهزة: «إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات» .

الحكم الثاني عشر:

وفي الآية دلالة أيضا على أن المميز غير البالغ يعوّد على الأدب والنظام والانضباط والإعداد لتحمل المسؤولية والتكاليف الشرعية، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم 66/ 6] أي أدبوهم وعلموهم. وهذا التأديب والتعليم والبيان والتشريع بفضل الله تعالى، لذا قال: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي مثل ذلك التبيين لما ذكر من الأحكام يبين الله لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على معانيها ومقاصدها، والله عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما لا يصلحهم، حكيم في تدبير أمورهم وتشريع الأصلح الأنسب لهم في الدنيا والآخرة. الحكم الثاني عشر: انتقل البيان لمعرفة حكم استئذان البالغين الأحرار، فقال تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إذا بلغ الحلم الأطفال الذين كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، فيجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، مع الأجانب والأقارب، كما استأذن الكبار الذين سبقوهم من ولد الرجل وأقاربه. فهذه الآية مبينة لآية: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور 24/ 31] أي أن الطفل الذي لم يظهر على العورات مستثنى، فإذا ظهر على العورات، وذلك بالبلوغ، فيستأذن. وأفرد «الطفل» في الآية لأنه يراد به الجنس. ولم يذكر المماليك هنا، وإنما بقي الحكم السابق مقررا عليهم وهو الاستئذان في أوقات ثلاثة لأن حكم كبارهم وصغارهم واحد. وبلوغ الحلم إما بالاحتلام أو ببلوغ خمس عشرة سنة في رأي أكثر العلماء لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق، وله خمس عشرة سنة فأجازه.

الحكم الثالث عشر:

وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها، والفتاة حتى تبلغ سبع عشرة سنة لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام 6/ 152] وأقل حد لبلوغ الأشد ثماني عشرة سنة، فيبنى الحكم عليها للتيقن، أما الإناث فيكون إدراكهن ونشوؤهن أسرع، فنقص في حقهن سنة «1» . ويرى جماعة من العلماء منهم الشافعي أن الإنبات (إنبات الشعر) من أمارات البلوغ لما روى عطية القرظي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إلي فلم أكن أنبتّ، فاستبقاني صلّى الله عليه وسلم. ولا يعتبر الإنبات عند الحنفية بلوغا لظاهر قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فإنه ينفي كون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم، كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا. ثم عاد البيان القرآني لتأكيد نعمة الله بتشريع هذه الأحكام فقال تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي كما بين لكم ما ذكر بيانا كافيا شافيا، يبيّن لكم أحكاما أخرى تحقق الاستقرار والاطمئنان وسعادة الدنيا والآخرة، والله عليم بأحوال عباده، حكيم في معالجة أمورهم. الحكم الثالث عشر: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ هذا بيان حكم النساء العجائز، والمعنى: إن النساء اللواتي كبرن، وانقطع الحيض عنهن، ويئسن من الولد، ولم يبق لهن رغبة في التزوج، فلا إثم عليهن ولا حرج أن يخففن في ملابسهن ويخلعن ثيابهن الظاهرة

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 331 وما بعدها.

فقه الحياة أو الأحكام:

كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار (غطاء الرأس) إذا لم يقصدن إظهار ما عليهن من الزينة الخفية كشعر ونحر وساق، ولم يكن فيهن جمال ظاهر، فإن وجد حرم خلع الثياب الظاهرة، ولم يؤد إلى كشف شيء من العورة. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي أن التعفف والاحتياط بالستر، وإبقاء ثيابهن المعتادة، وإن كان جائزا، خير وأفضل لهن، والله سميع لأحاديثهن وكلامهن مع الرجال وكلام الرجال معهن، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن وغير ذلك، فإياكم ووساوس الشيطان. فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآيات على أحكام ثلاثة هي: 1- يندب ندبا مؤكدا للمماليك العبيد والإماء والأطفال غير البالغين الاستئذان عند الدخول على الأبوين (عماد الأسرة) في أوقات ثلاثة: هي ما قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة ظهرا، وما بعد صلاة العشاء. قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحبّ السّتر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال «1» ، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل، والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك. وسبب تخصيص هذه الأوقات أنها أوقات تقتضي عادة الناس كشف شيء من عوراتهم فيها، فطلب فيها الاستئذان منعا من الاطلاع على العورات. وهذه الآية خاصة، وأما التي سبق ذكرها فهي عامة، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها.

_ (1) الحجال جمع حجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب، ويكون له أزرار كبار كبيت الشّعر اليوم.

2- يجب على البالغين الأحرار الاستئذان في كل وقت عند الدخول على الآخرين أجانب أو أقارب. 3- يباح للعجائز القاعدات في البيوت اللواتي لا يشتهين عادة من الرجال خلع الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، دون أن يؤدي ذلك إلى كشف شيء من العورة، ودون قصد التبرج أو إظهار الزينة لينظر إليهن، وإن كن لسن بمحل لذلك عادة، والاستعفاف خير وأفضل من فعل المباح. وإنما خص الله تعالى القواعد من النساء بهذا الحكم دون غيرهن لانصراف النفوس عنهن عادة. ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصف جسدها، وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة: «ربّ نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها» جعلن كاسيات لأن الثياب عليهن، ووصفن بعاريات لأن الثوب إذا رقّ يكشفهن، وذلك حرام «1» . 4- قال أبو بكر الرازي الجصاص: دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل، يؤمر بفعل الشرائع، وينهى عن ارتكاب القبائح، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «مروهم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نعلّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وكان زين العابدين علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، فقيل له: يصلون الصلاة لغير وقتها، فقال: هذا خير من أن يتناهوا عنها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، حتى يحتلم.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1389

إباحة الأكل من بيوت معينة دون إذن [سورة النور (24) آية 61] :

وإنما يؤمر بذلك على وجه التعليم، وليعتاده ويتمرن عليه، فيكون أسهل عليه بعد البلوغ، وأقل نفورا منه، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير، وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر، لصعب عليه الامتناع بعد الكبر، وقال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً قيل في التفسير: أدبوهم وعلّموهم «1» . 5- الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبّه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين: أحدهما- بقوله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وهي علة طلب الاستئذان. والثاني- بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين ما عداها، وهو علة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وما عداها يختلف عنها، كما تقدم بيانه. إباحة الأكل من بيوت معينة دون إذن [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 333

الإعراب:

الإعراب: جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً حال من واو تَأْكُلُوا. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ منصوب على المصدر لأن قوله: فَسَلِّمُوا معناه: فحيّوا. البلاغة: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ: إطناب بتكرار لفظ الحرج، تأكيدا للحكم شرعا. المفردات اللغوية: حَرَجٌ الحرج لغة: الضيق، ويراد به شرعا الإثم أو الذنب. ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي ما كنتم فيه وكلاء عن غيركم أو حفظة له. أَوْ صَدِيقِكُمْ الصديق: يطلق على الواحد والجمع، كالخليط والعدو، وهو من صدقكم في مودته. ومعنى الآية: يجوز الأكل من بيوت المذكورين، وإن لم يحضروا، إذا علم رضاهم به. جَمِيعاً أي مجتمعين. أَشْتاتاً متفرقين، جمع شتّ، أي متفرق، وشتى: جمع شتيت. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا أهل بها أو من هذه البيوت فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي على أهل البيوت، أو قولوا: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فإن الملائكة تردّ عليكم، وإن كان بها أهل فسلموا عليهم. تَحِيَّةً مصدر حيّا. مُبارَكَةً كثيرة الخير. طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ذلك البيان يبين لكم معالم دينكم، كرره مرة ثالثة لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام السابقة المختتمة به. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا ذلك، وتعقلوا الحق والخير في الأمور. سبب النزول: اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية، أذكر ثلاث روايات منها.

الأولى - في نفي الحرج عن الأكل من بيوت معينة:

الأولى- في نفي الحرج عن الأكل من بيوت معينة: قال سعيد بن المسيّب: أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. وهذا ما اختاره ابن جرير. والآية وإن نزلت في تحرج أصحاب الأعذار هؤلاء من الأكل في بيوت من خلفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عاما لكل الناس. ومعنى نفي الحرج من أكل الناس في بيوتهم إظهار التسوية بين أكلهم من بيوتهم وأكلهم من بيوت أقاربهم وموكليهم وأصدقائهم. الثانية- رفع الإثم عن المعذورين في التخلف عن الجهاد: قال الحسن البصري: نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد، وكان أعمى. وقال أبو حيان: إن الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله. والجمع بينهما في مقام الإفتاء والبيان مقبول غير مستغرب. ووجه اتصال الآية حينئذ بما قبلها أنه تعالى بعد أن ذكر حكم الاستئذان، بيّن أن تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد لا يحتاج إلى إذن النبي صلّى الله عليه وسلم. الثالثة- نفي الحرج عن الناس في مؤاكلة المرضى قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أنزل الله تبارك وتعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعرج،

سبب نزول آية ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا:

وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال سعيد بن جبير والضحاك: كان العرجان والعميان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يتقذرونهم، ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأيا ما كان سبب نزول الآية فإنها تبيح الأكل من هذه البيوت، بشرط أن يعلم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، وخصصت هذه البيوت بالذكر لتبسط الناس فيما بينهم عادة في الأكل من بيوت أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم. سبب نزول آية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً: قال قتادة والضحاك: نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم: بنو ليث بن عمرو، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل، والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، تحرّجا من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا متحلقين أو أشتاتا متفرقين. والكلام متصل بما قبله، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل نفسه، أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل، فلا جناح في الأكل من هذه البيوت، سواء

المناسبة:

مع أصحابها أو بدونهم. وقيل: الكلام مستقل عما قبله لبيان حكم آخر، مماثل له، وهو أن الأكل كما يجوز منفردا، يجوز مع الضيف. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى حكم دخول المماليك والصبيان إلى البيوت في غير العورات الثلاث دون استئذان، ذكر هنا حكم تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد من غير استئذان، وحكم الأكل من البيوت المذكورة في الآية من غير إذن صريح إذا علم رضا أصحابها. التفسير والبيان: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم ولا ذنب في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم، كما نقل عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكما قال تعالى في سورة براءة: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [91- 92] . وذكر الفخر الرازي أن الأكثرين قالوا: المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل، فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله. والظاهر لي أن الآية في أمر يتعلق بنظام الحياة في الأسرة، كالآيات السابقة في الاستئذان وتخفيف العجائز من الألبسة الظاهرة، وأنها تريد أن تجمع بين أفراد الأسرة الأصحاء وأصحاب الأعذار في تناول الطعام على مائدة واحدة، وترفع الكلفة والمشقة في الأكل من البيوت الخاصة أو بيوت الأقارب والأصدقاء،

دون إذن صريح، وأن الحكم في البيت الخاص كبيت القريب والصديق على حدّ سواء، وذكر الأكل من البيوت ليساوي ما بعده في الحكم ويعطفه عليه، فهو أدب اجتماعي من أدب الإسلام الرفيع. وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم الخاصة، ويشمل ذلك بيوت الأولاد لأنه وإن لم ينص عليهم، فهم كبيت الإنسان لأن بيت الولد كبيت الوالد، ومال الولد بمنزلة مال أبيه. روى الإمام أحمد في المسند وأصحاب السنن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنت ومالك لأبيك» وقال أيضا فيما أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» . وقوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ للإشارة إلى أن الأكل مع أصحاب الأعذار لا يخل بقدر الأصحاء أهل الشأن، وأن التواضع مطلوب، والترفع عن مؤاكلتهم منبوذ ممجوج شرعا ودينا، وفي ذلك توسعة على الناس، وبيان ما تقتضيه أواصر المحبة والصلة والود بين الأفراد. أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أي أن الله تعالى أباح لنا الأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن صريح، حيث علمنا رضاه وسروره، وأنه لا يبخل ولا يتألم، فإن كان يتضجر أو يتألف أو يتألم فلا نأكل من طعامه في غيبته، ويطلب التعفف حينئذ. وتلك المواضع هي: الأكل من بيوتنا ومنها بيوت أولادنا كما بينا، وبيوت آبائنا وأجدادنا، وبيوت أمهاتنا وجداتنا، وبيوت إخواننا، وبيوت أخواتنا، وبيوت أعمامنا، وبيوت عماتنا، وبيوت أخوالنا، وبيوت خالاتنا، وما ملكنا مفاتحه بالوكالة عن أصحاب البيوت، وبيوت أصدقائنا إذا عرفنا أنه راض ومسرور بما نفعل،

وإلا فلا يجوز لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» وحديث الشيخين عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» . وهؤلاء المذكورون من الأقارب تطيب نفوسهم عادة وطبعا بأكل أحد من قراباتهم عندهم. أما المقصود بقوله: ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فيراد به كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح: كونها في يده وحفظه. وهذا مأذون به ضمنا من الموكل، ولكن يأكل ولا يحمل ولا يدّخر، إذا لم يكن له أجر على عمله، فإن كان مستأجرا بأجر فلا يأكل. وأما بيوت الأصدقاء الذين ترتفع الكلفة بينهم، ويصفو الودّ معهم، فيؤكل منها إذا علم رضاهم صراحة أو بالقرائن. روي عن الحسن البصري أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه، وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبّون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك، وقال: هكذا وجدناهم، أي أكابر الصحابة. وكذلك يقال في دخول بيوت الأصدقاء لا بدّ فيه من إذن صريح أو قرينة. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم، فلا يكون ماله محرزا منهم، أي بسبب وجود شبهة الإذن. والحقيقة أنه لا بدّ من الإذن الصريح، أو الضمني الذي يعرف بالقرائن. ثم ذكر الله تعالى حكم الأكل الجماعي والانفرادي فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أي يباح ولا إثم عليكم أن

تأكلوا كيف شئتم مجتمعين أو متفرقين. وهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة، لكن الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال: «لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» . وروى ابن ماجه أيضا عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كلوا جميعا، ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة» . ثم ذكر الله تعالى حكم تحية الداخل على بيته فقال: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي فليسلّم بعضكم على بعض، أو فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا فابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. وعبر بقوله: أَنْفُسِكُمْ للدلالة على أنهم منكم بمنزلة أنفسكم، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً أي حيوا تحية ثابتة بأمر الله، مشروعة من لدنه، يرجى منها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع لأن معنى التحية والتسليم طلب السلامة والحياة للمسلّم عليه، ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن ترجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق، وتستجلب فيها مودة المسلم. قال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك. وكذلك قال مجاهد وابن عباس رضي الله عنهم. وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا الحكم وهو التحية على الأهل، وإن كان معلوما من الآية المتقدمة: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لطلبه بين الأقارب، حتى لا يظن أن علاقة القرابة لا تحتاج إلى تبادل السلام والتحية، فذلك من الآداب العامة والحقوق الإسلامية التي لا يصح إهمالها. قال الضحاك: في السلام عشر حسنات، ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وكما بيّن لكم ما في هذه السورة أيضا من أحكام وشرائع بيانا شافيا، لكي تتدبروها وتتفهموا عن الله أمره ونهيه وآدابه، فتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- لا إثم ولا حرج على أصحاب الأعذار في التخلف عن الجهاد، وهم الأعمى والأعرج والمريض، أي أن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي للتكليف به، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك. ولا مانع من مؤاكلة هؤلاء ذوي الأعذار، وترك عادة تخصيصهم بطعام خاص حذرا من استقذارهم والترفع عن مجالستهم. 2- أباح الله للناس الأكل من مواضع أحد عشر دون استئذان صريح إذا علم رضا صاحب الطعام لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم في الأغلب بأكل من يدخل عليهم، والعادة كالإذن في ذلك، لذا خصهم الله تعالى بالذكر،

وافتتحها تعالى بالأكل من البيوت الخاصة بأصحابها للإشارة إلى التسوية بينها وبين تلك المواضع العشرة الباقية. وأسباب رفع الحرج في الأكل من هذه المواضع إذن: إما الملك الخاص وإما القرابة وإما الوكالة والاستئجار، وإما الصداقة. والقرابة، وكذا الملك الخاص للبيوت: تشمل بيوت الأبناء والآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات. والوكالة مفهومة من قوله: أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فإنه يشمل عند جمهور المفسرين الوكلاء والعبيد والأجراء. والصداقة تبيح الأكل والشرب من بيوت الأصدقاء بغير إذن إذا علم أن نفس صاحب الشيء تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة. والصديق: من يصدقك في مودّته وتصدقه في مودتك، ولكن لا يجوز الادخار والحمل، واتخاذ ذلك وقاية لماله، ولو كان المتناول تافها يسيرا. وكان صلّى الله عليه وسلم يدخل حائط (بستان) أبي طلحة المسمى ب (بيرحا) ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه. وبناء عليه، لا تجوز في رأي المالكية شهادة الصديق لصديقه، ولا شهادة القريب لقريبه. 3- يباح الأكل منفردا أو جماعة، وإن اختلفت أحوال الجماعة في الأكل كمّا وكيفا، فللإنسان أن يأكل وحده، أو مع القريب أو الصديق أو الجار أو أي شخص مسلم أو كافر. وقد نزلت الآية كما عرفنا في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده، ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا، فإني لست آكله وحدي أو أنها نزلت في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه، أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطباع في القزازة.

قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عند العرب عن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت الآية مبينة سنّة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرّما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد. 4- يسن السلام عند الدخول على الأهل والأقارب في البيوت المسكونة، وكذا غير المسكونة، فيسلّم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وكذا المساجد، فيسلّم على من كان فيها، فإن لم يكن في المساجد أحد، فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال إبراهيم النخعي والحسن البصري عن آية: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أراد المساجد. قال ابن العربي: «القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص» وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان لغيره أو لنفسه، فإذا دخل الإنسان بيتا لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلّم، كما ورد في الخبر المتقدم عن ابن عمر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال القشيري في قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً: والأوجه أن يقال: إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال: السلام على من اتّبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

الاستئذان عند الخروج وأدب خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمره [سورة النور (24) الآيات 62 إلى 64] :

5- كرر الله تعالى ثلاث مرات في آيات متعاقبة [58، 59، 61] قوله سبحانه: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [58، 61] لكن في الآية [59] لفظ: «آياته» للتأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به، والمعنى: كما بيّن لكم سنة دينكم في هذه الأشياء، يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم. الاستئذان عند الخروج وأدب خطاب النبي صلّى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمره [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) الإعراب: كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً الكاف في موضع نصب لأنه مفعول لفعل تَجْعَلُوا. لِواذاً: منصوب على المصدر في موضع الحال من واو يَتَسَلَّلُونَ أي يتسللون ملاوذين، وهو مصدر (لاوذ) كقاوم قواما لأن المصدر يتبع الفعل في الصحة والاعتلال، ولو كان مصدر (لاذ) لكان (لياذا) معتلا لاعتلال الفعل، كقام قياما.

البلاغة:

البلاغة: غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلِيمٌ عَلِيمٌ: صيغة مبالغة وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ التفات عن الخطاب إلى الغيبة. المفردات اللغوية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون في الإيمان. مَعَهُ مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أمر عام مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور، كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة، وقرئ «أمر جميع» . لَمْ يَذْهَبُوا لطروء عذر لهم. حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيأذن لهم، والمطالبة بالإذن واعتباره في كمال الإيمان لأنه دليل مصدق لصحته، ومميز للمخلص فيه من المنافق، ومبين تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلم بغير إذنه، ولذلك أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة، وإن الذاهب بغير إذن ليس مؤمنا. لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أمرهم أو ما يعرض لهم من المهام، وفيه مبالغة وتضييق للأمر. فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ بالانصراف. دُعاءَ الرَّسُولِ طلب اجتماع الرسول صلّى الله عليه وسلم بهم. كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً بأن تقولوا: يا محمد، بل قولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لين وتواضع وخفض صوت، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض، والمساهلة في الجواب، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والخروج بغير إذنه محرّم. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي ينسلون أو يخرجون من المسجد خفية مستترين بشيء، فالتسلل: الخروج خفية، واللواذ: تستر بعضهم ببعض. وقد: للتحقيق. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي عن أمر الله تعالى أو أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم، فإن الأمر لله في الحقيقة، ويصح عود الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه المقصود بالذكر. والمخالفة: اتخاذ طريق مخالف في القول أو الفعل. فِتْنَةٌ بلاء ومحنة وامتحان في الدنيا. أَلِيمٌ عذاب مؤلم موجع في الآخرة. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من الإيمان والنفاق والمخالفة والوفاق. وأكد علمه بقد: لتأكيد الوعيد. وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بما عملوا من خير أو شر، فيجازي على سوء الأعمال بالتوبيخ وغيره. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي الله عالم بكل شيء من أعمالهم، لا تخفى عليه خافية.

سبب النزول:

سبب النزول: أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة- بئر بالمدينة- قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه، وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إلى قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وقال الكلبي: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يمينا وشمالا، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا، فنزلت هذه الآية، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته، حتى يستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن. نزول الآية (63) : لا تَجْعَلُوا الآية: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.

المناسبة:

المناسبة: بعد الأمر بالاستئذان عند الدخول، أمر الله تعالى بالاستئذان حين الخروج، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلم من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر مهم، ثم أمر المؤمنين بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلم ورعاية الأدب في مخاطبته، وحذرهم من مخالفة أمره وسنته وشريعته. التفسير والبيان: هذه آداب اجتماعية دينية إلزامية، وهي ثلاثة: الأول- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته وصحة رسالة رسوله من عنده، وإذا كانوا معه في أمر اجتماعي مهم، كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد، أو مشاركة في مقاتلة عدو، أو تشاور في أمر خطير قد حدث، لم ينصرفوا عن المجلس حتى يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيأذن لهم. وهذا الأدب مكمل لما سبقه، فلما أمر الله بالاستئذان حين الدخول، أمر بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلم. والأمر الجامع: هو الأمر الموجب للاجتماع عليه، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز. روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة» . ثم أعاد الله تعالى طلب الإذن على سبيل التأكيد بأسلوب أبلغ من طريق جعله دليلا على كمال الإيمان، ومميزا المخلص من غيره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ

يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إن الذين يستأذنون الرسول صلّى الله عليه وسلم في الانصراف، ويشاورونه في الخروج، هم من المؤمنين الكاملين المصدقين الله ورسوله، الذين يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه. وبعد الاستئذان تعظيما للنبي ورعاية للأدب، تكون حرية الإذن له، فقال تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أي إذا استأذنك أحد منهم في بعض ما يطرأ له من مهمة، فأذن لمن تشاء منهم على وفق الحكمة والمصلحة، فقد استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وقال له: «انطلق فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا، فو الله ما نراه يعدل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له، ثم قال: يا أبا حفص، لا تنسنا من صالح دعائك. والآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم بعض أمر الدين، ليجتهد فيه برأيه. وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي واطلب من الله أن يغفر لهم ما قد يصدر عنهم من زلات أو هفوات، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد التوبة. وهذا مشعر بأن الاستئذان، وإن كان لعذر مقبول، فيه ترك للأولى، لما فيه من تقديم مصالح الدنيا على مصالح الآخرة، فالاستئذان مهما كانت أسبابه مما يقتضي الاستغفار، لترك الأهم.

ثم أمر الله تعالى أن يهاب نبيه صلّى الله عليه وسلم وأن يبجّل وأن يعظم وأن يسود، فقال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تدعوا رسول الله باسمه بأن تقولوا: يا محمد أو يا ابن عبد الله، ولكن عظموه، فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض والتواضع، فهذا نهي من الله عز وجل عن مناداة النبي باسمه أو نسبه، وهو الظاهر من السياق، فلا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه. وفي تفسير آخر: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والتساهل في الإجابة والانصراف من مجلسه بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والرجوع عن مجلسه بغير إذن محرّم. ثم حذر الله تعالى وأوعد المخالفين تلك الآداب فقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قد: للتحقيق، أي إنه تعالى يعلم يقينا أولئك الذين ينسلون من المسجد في الخطبة أو من مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم خفية، واحدا بعد الآخر، دون استئذان، يتستر بعضهم ببعض أو بشيء آخر، فالله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم البواعث والدواعي، والخفايا والأسرار، والظواهر والأفعال والأقوال. روى أبو داود أن بعض المنافقين كان يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه، يستتر به، فأنزل الله الآية. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي فليخش من خالف شريعة الرسول صلّى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وصدّ وخرج عن أمره وطاعته، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، وهم

المنافقون، أن يتعرضوا لمحنة أو بلاء وامتحان في الدنيا من كفر أو نفاق، أو يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة. وضمير أَمْرِهِ إما عائد إلى أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم. والاية تدل على ان ظاهر الأمر للوجوب لان تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، ومخالف الأمر مستحق للعقاب، فتارك المأمور به مستحق للعقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك. والآية أيضا تعم كل من خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم، وليس المنافقين فقط. ثم ختم تعالى السورة ببيان نطاق المخلوقات، وأنهم تحت سلطان الله وعلمه، فقال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَدْ للتحقيق أيضا كما هو حال ما قبلها، أي إن جميع ما في السموات والأرض مختص بالله عز وجل خلقا، وملكا، وعلما، وتصرفا وإيجادا وإعداما، يعلم كل ما لدى العباد من سر وجهر، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في سترها عن العيون وإخفائها. فقوله: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ معناه أنه عالم به، مشاهد إياه، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] . وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله تعالى سينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم، وسيجازيهم حق الجزاء: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة 75/ 13] ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] والله ذو علم شامل محيط بكل شيء، يوفره لهم، ويفاجئهم به يوم الحساب والعرض عليه. وهذا دليل على فصل القضاء الذي يتفرد به الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب استئذان النبي صلّى الله عليه وسلم عند الانصراف من مجلسه، وأما غير النبي فيطلب الاستئذان من صاحب البيت وجوبا أيضا حتى لا يطلع الضيف على العورات كوجوب الاستئذان عند الدخول، كما تقدم، ويطلب الاستئذان من الإمام أيضا. وقد أوجبت الآية الاستئذان في الأمر الجامع وهو ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنّة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب، قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] . فللإمام أن يجمع أهل الرأي والمشورة أو الناس لأمر فيه نفع أو ضرر. 2- وقوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دليل على التفويض إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أو الإمام المجتهد بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه النابع من أصول الشريعة وروح التشريع، والمنسجم مع المبادئ الشرعية. 3- الآية كما قدمنا دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب. 4- كان المنافقون يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر الله جميع المسلمين بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليتبين إيمانه ولأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة. 5- قيل: إن قوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ وقوله: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دالان على أن ذلك مخصوص في الحرب. أما في أثناء الخطبة، فليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه. والأصح القول بالعموم، فهو أولى وأحسن، ويشمل ذلك كل مجلس للنبي صلّى الله عليه وسلم. 6- إن تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم واجب، فلا ينادى كما ينادي الناس بعضهم

بعضا، فيقال: يا محمد أو يا أبا القاسم، وإنما يقال: يا رسول الله، في رفق ولين، وبتشريف وتفخيم، كما قال تعالى في سورة الحجرات: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [3] . 7- تكرر في الآيات التأكيد على إحاطة علم الله بكل شيء، ومنه نوايا المنافقين وأفعالهم وأقوالهم: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وبيان علم الله في هذه الأحوال للتحذير والوعيد والزجر عن مخالفة أمره. 8- احتج الفقهاء بقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ على أن الأمر للوجوب وعلى وجوب طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره. ومخالفة أمره توجب أحد أمرين: العقوبة في الدنيا كالقتل والزلازل والأهوال وتسلط السلطان الجائر، والطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم، والعذاب الشديد المؤلم في الآخرة. وقوله: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ معناه: يعرضون عن أمره، أو يخالفون بعد أمره. 9- لله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعلما، ومنه العلم بأحوال المنافقين، فهو يجازيهم به، ويخبرهم بأعمالهم يوم القيامة، ويجازيهم بها، والله علام بكل شيء من أعمالهم وأحوالهم. وهذا دليل على القدرة الفائقة لله تعالى، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من مجازاة بثواب أو بعقاب، وعلمه بما يخفيه ويعلنه، وأن له تعالى فصل القضاء. آمنت بالله

سورة الفرقان:

[الجزء التاسع عشر] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفرقان مكية، وهي سبع وسبعون آية. تسميتها: سميت سورة الفرقان لافتتاحها بالثناء على الله عزّ وجلّ الذي نزل الفرقان، هذا الكتاب المجيد على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فهو النعمة العظمى، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وجعله نذيرا للعالمين: الجن والإنس، من بأس الله تعالى. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة سورة الفرقان لسورة النور من وجوه: أهمها: أن سورة النور ختمت بأن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وبدئت سورة الفرقان بتعظيم الله الذي له ملك السموات والأرض من غير ولد ولا شريك في الملك. وأوجب الله تعالى في أواخر سورة النور إطاعة أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبان مطلع الفرقان وصف دستور الطاعة، وهو هذا القرآن العظيم الذي يرشد العالم لأقوم طريق. وتضمنت سورة النور القول في الإلهيات، وأبانت ثلاثة أنواع من دلائل التوحيد: أحوال السماء والأرض، والآثار العلوية من إنزال المطر وكيفية تكون الثلج والبرد، وأحوال الحيوانات، وذكر في الفرقان جملة من المخلوقات الدالة على توحيد الله، كمدّ الظل، والليل والنهار، والرياح والماء، والأنعام،

ما اشتملت عليه السورة:

والأناسي، ومرج البحرين، وخلق الإنسان والنسب والصهر، وخلق السموات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسراج والقمر ونحو ذلك مما هو تفصيل لقوله سبحانه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال في النور: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [43] ، وقال في الفرقان: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً [48] وقال في النور: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [45] وقال في الفرقان: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [54] . وفي كلتا السورتين وصف أعمال الكافرين والمنافقين يوم القيامة وأنها تكون مهدرة باطلة، فقال في النور: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [39] وقال في الفرقان: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [23] . وشمل آخر سورة النور الكلام على فصل القضاء: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [64] وافتتحت سورة الفرقان بالثناء على الله عزّ وجلّ مالك الملك، وصاحب السلطان المطلق. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة كسائر السور المكية اهتمت بأصول العقيدة من التوحيد والنبوة وأحوال القيامة. فبدأت بإثبات الوحدانية لله عزّ وجلّ، وصدق القرآن، وصحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم، ووقوع البعث والجزاء يوم القيامة لا محالة، وفندت أضداد هذه العقائد، ونعت على المشركين عبادة الأصنام والأوثان ونسبة الولد لله عزّ وجلّ، وتكذيبهم بالبعث والقيامة، وهددتهم بما سيلقون من ألوان العذاب والنكال في نار جهنم، ومفاجأتهم بما في جنان الخلد من أصناف النعيم المقيم.

إنزال القرآن ووحدانية الله تعالى [سورة الفرقان (25) الآيات 1 إلى 3] :

ثم أبانت شؤم مصير بعض المشركين كعقبة بن أبي معيط الذي عرف الحق ثم ارتدّ عنه، فسمّاه القرآن بالظالم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ متأثرا بصديقه الذي سمي بالشيطان وهو أبيّ بن خلف. ثم ذكرت قصص بعض الأنبياء السابقين وتكذيب أقوامهم لهم، وما حلّ بهم من نكال ودمار وهلاك بسبب تكذيبهم رسل الله، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرّس، وقوم لوط، وأمثالهم من الكافرين الطغاة. وأوردت السورة أدلة على قدرة الله ووحدانيته، مما في الكون البديع من عجائب صنعه، وما في الأرض من آثار خلقه في الإنسان، والبحر، وخلق السموات والأرض في ستة أيام، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح مبشرات بالمطر، وجعل البروج في السماء، وتعاقب الليل والنهار. ثم ختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن المخلصين الموقنين، وما يتحلون به من أخلاق سامية وآداب رضية، تجعلهم يستحقون بها إكرام الله تعالى وثوابه الجزيل في جنات النعيم. إنزال القرآن ووحدانية الله تعالى [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)

الإعراب:

الإعراب: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ.. بدل من الَّذِي الاول، أو مدح مرفوع أو منصوب. البلاغة: عَلى عَبْدِهِ إضافة عبد إلى الله للتشريف والتكريم، دون ذكر اسم النبي. لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي وبشيرا، واكتفى بأحد الوصفين لبيان حال المعاندين ومناسبة الكلام مع الكفار. يَخْلُقُونَ ويَخْلُقُونَ جناس ناقص لتغاير الشكل فقط. ضَرًّا ونَفْعاً مَوْتاً وحَياةً بين كلّ منهما طباق. المفردات اللغوية: تَبارَكَ تعالى وتعاظم وتكاثر خيره، من البركة: وهي كثرة الخير، ففي إنزال القرآن خير كثير من الله لعباده، ودلالة على تعاليه عنه وعلى كل شيء في صفاته وأفعاله. الْفُرْقانَ القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل، وبين المحق والمبطل بإعجازه، أو لأنه فرّق وفصل بعضه عن بعض في الإنزال كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء 17/ 106] . عَبْدِهِ أي رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، ووصف بأنه عبد تشريفا له بكونه في أكمل مراتب العبودية، وتنبيها إلى أن الرسول عبد للمرسل، وهو ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام. لِيَكُونَ العبد أو الفرقان. لِلْعالَمِينَ للجن والأنس دون الملائكة. نَذِيراً منذرا مخوفا من عذاب الله تعالى. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كزعم النصارى. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كقول الثنوية والمشركين. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي خلق كل ما من شأنه أن يخلق. ويلاحظ أنه تعالى في أول الآية أثبت الملك له مطلقا، ثم نفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه، ثم نبّه بقوله: وَخَلَقَ على ما يدل عليه، والخلق: إحداث مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور أشكال معينة. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً سواه تسوية، وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير، واستخراج الصنائع المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة وغير ذلك.

التفسير والبيان:

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً بعد أن أثبت التوحيد والنبوة، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ لأن عبدتهم ينحتونهم ويصوّرونهم، ومن دونه أي غير الله، وآلهة: هي الأصنام. وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي دفع ضر ولا جلب نفع وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً أي إماتة أحد أو إحياء أحد وَلا نُشُوراً ولا بعث أحد من الأموات، فالنشور: الإحياء بعد الموت للحساب. التفسير والبيان: افتتح الله تعالى سورة الفرقان بالكلام عن إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال، وتنزهه عن النقصان والمحال، فقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي أن الله تعالى يحمد نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله صلّى الله عليه وسلم من القرآن العظيم، لينذر به الثقلين: الجن والإنس ويخوفه من بأسه أو عذابه وعقابه. وهذا دليل قاطع على عموم الرسالة الإسلامية للناس قاطبة وللجن أيضا. ومعنى: تَبارَكَ: تعالى وتعاظم وكثر خيره، ولا خير، أكثر ولا أفضل من إنزال القرآن المجيد دستور الحياة الإنسانية، المشتمل على التبشير والإنذار، تبشير الطائعين بالجنة، والمخالفين المعاندين المعارضين بالنار. وإنما ذكر الإنذار فقط ولم يذكر التبشير، مع أن مهمة الرسول تشملهما، لمناسبة الكلام مع الكفار المعارضين الذين اتخذوا لله ولدا، وجعلوا معه شريكا. والعبد: هو محمد رسول الله، والْفُرْقانَ: القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، وفرّقه في الإنزال منجما حسب المناسبات. ونظير الآية قوله تعالى في فاتحة سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [1- 2] وتكرار كلمة عَبْدِهِ في الآيتين مدح للنبي صلّى الله عليه وسلم وثناء عليه للإشارة إلى كمال عبوديته في

منزلة الخلق والسلطان، كما وصفه بذلك في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ووصفه بذلك أيضا في مقام الدعوة إليه في قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن 72/ 19] ووصفه هنا عند إنزال الكتاب عليه وتكليفه بتبليغ الرسالة. ثم وصف الله تعالى ذاته بأربع صفات من صفات الكبرياء، فقال: 1- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن المالك الحقيقي لجميع ما في السموات والأرض هو الله تعالى، والمالك: له السلطان المطلق في التصرف في ملكه كما يشاء، وله القدرة التامة على ما في ملكه إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وأمرا ونهيا على وفق الحكمة والمصلحة. وهذا دليل على وجود الله تعالى، لأنه لا طريق إلى إثباته إلا ببيان احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه في أصل وجودها، وزمان حدوثها، وأثناء بقائها، وتصرفه تعالى فيها كيف يشاء، والحاجة إلى الموجد المتصرف يوجب وجوده، لذا قدمت هذه الصفة على سائر الصفات. 2- وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم يكن له ولد إطلاقا، خلافا لما زعم اليهود والنصارى ومشركو العرب من جعل عزير والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله، كما حكى القرآن عنهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟! [الصافات 37/ 149- 153] . 3- وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي ليس لله في ملكه وسلطانه شريك، فهو المتفرد بالألوهية، المستحق وحده للعبادة والعبودية، وإذا عرف

العبد ذلك وجّه رجاءه إلى الله تعالى ولم يخف إلا منه، ولم يشغل قلبه إلا برحمته وإحسانه. وهذا ردّ على الثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم: وهما النور والظلمة، وعلى عبدة النجوم والكواكب من الصابئة، وعلى عبدة الأوثان من مشركي العرب الذين كانوا يقولون في تلبية الحج: «لبّيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» . والصفتان المتقدمتان نزّه الله تعالى نفسه فيهما عن الولد وعن الشريك. 4- وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي أوجد كل شيء مما سواه، وأحدثه إحداثا راعى فيه التقدير بقدر معين والتسوية بشكل محدد، وهيأه لما يصلح له من الخصائص والأفعال اللائقة به، فالإنسان مثلا خلقه الله بشكل مقدر مسوّى في أحسن تقويم، وأوجد فيه من الحواس والطاقات والإمكانات للإدراك والفهم، والنظر والتدبير، واستنباط الصنائع، ومزاولة الأعمال المختلفة، وكذلك الحيوان والجماد جاء به على خلقة مستوية مقدرة، مطابقة لما يراه من الحكمة والمصلحة والتدبير، ولما قدر له غير منافر أو متجاف عنه. والخلاصة: أنه قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد. وفسّر ابن كثير الجملة الأخيرة بأن كل شيء مخلوق مربوب لله، والله هو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره. وبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو، أردف ذلك بتزييف مزاعم عبدة الأوثان فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. إلى قوله: وَلا نُشُوراً والمعنى أن تلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لنقصانها من وجوه أربعة هي.

فقه الحياة أو الأحكام:

أ- أنها لا تخلق شيئا، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد. ب- أنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا عن غيره. ولما اعتقد المشركون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع عبّر عنها بقوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ كما يعبر عن العقلاء. ج- أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا، أي لا دفع ضرر ولا جلب نفع، فلا تملك ذلك لغيرها، ومن لا يملك لنفسه ولا لغيره النفع ودفع الضرر لا فائدة في عبادته. د- أنها لا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا، أي لا تقدر على الإماتة والإحياء المبتدأ والمعاد في زماني التكليف والجزاء، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها؟ بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزّ وجلّ الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] . والخلاصة: أن الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له، لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأما عبدة الأصنام والمشركون فقد عبدوا غير الخالق، الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا، ولا يقبل بهذا عاقل متزن، أو عالم متأمل. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- الله تعالى هو الإله الموجود الواحد الأحد، الخالق المالك لكل شيء. 2- الله تعالى مصدر الخير الكثير الفياض على عباده، ومن أتمّ فضائله

وخيراته ونعمه إنزاله القرآن الكريم على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم. 3- إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وتحديد مهمته في الإنذار والتبشير، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. 4- الرسالة الإسلامية رسالة شاملة للثقلين: الجن والإنس، عالمية الهدف، موجهة لكل أبناء البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، لأنها التي تمثل الدين الحق، وخاتمة الرسالات الإلهية كما قال صلّى الله عليه وسلم فيما ورد في الصحيحين والنسائي عن جابر: «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال فيما رواه أحمد عن علي: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» وذكر منها: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى الناس عامة» فالنبي صلّى الله عليه وسلم قد كان رسولا إلى العالمين: الإنس والجن، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح عليه السلام، فإنه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، بحكم الواقع لأنه بدأ به الخلق. 5- عظم الله تعالى نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء وهي أنه مالك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، فنزّه نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله أي بناته، وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله، وأنه لا شريك له في الملك لا كما قال عبدة الأوثان وخلق كل الأشياء لا كما قال المجوس والثّنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء. 6- دلّ قوله سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ على أنه تعالى خالق لأعمال العباد. 7- بالرغم من هذه الأدلة على وحدانية الله وقدرته اتخذ المشركون آلهة لا تتصف بأي صفة من صفات الله تعالى، بل إنها أعجز من البشر الذين عبدوها مع الله، فهي مخلوقة غير خالقة، ولا تدفع ضررا ولا تجلب نفعا لنفسها ولمن

مطاعن المشركين في القرآن [سورة الفرقان (25) الآيات 4 إلى 6] :

يعبدها، لأنها جمادات، ولا تقدر على التصرف في شيء بالإحياء، والإماتة، والنشور: الإحياء بعد الموت، فهل بعد هذا يقبل عاقل اتخاذها آلهة معبودة؟! لقد احتقر الإنسان نفسه إذ يسجد لصنم أو وثن، أو يستوعب مثل هذه الخرافات والأباطيل. مطاعن المشركين في القرآن [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) الإعراب: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أساطير: خبر مبتدأ محذوف، أي هذه أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، أو أسطار: وهو ما سطره المتقدمون. المفردات اللغوية: إِنْ هَذا ما القرآن. إِلَّا إِفْكٌ كذب واختلاق. افْتَراهُ اختلقه محمد. قَوْمٌ آخَرُونَ جماعة من اليهود، فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم، وهو يعبر عنه بعبارته، وقيل: هم جبر ويسار وعدّاس. ظُلْماً الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهو هنا جعل الكلام المعجز إفكا مختلفا متلقفا من اليهود. وَزُوراً الزور: الكذب والقول الباطل البعيد عن الحق، وهو هنا نسبة ما هو بريء منه إليه. والمعنى: جاؤوا بالأمرين: الظلم والزور، أي الكفر والكذب. وَقالُوا أيضا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب المتقدمين التي سطروها وهو جمع أسطورة أو أسطار. اكْتَتَبَها انتسخها من ذلك القوم، بأن كتبها بنفسه أو استكتبها وأمر بكتابتها. تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه ليحفظها. بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشية، أو صباحا ومساء، والمراد: دائما.

سبب النزول:

قُلْ: أَنْزَلَهُ رد عليهم. السِّرَّ الغيب، أي أعجزكم جميعا بفصاحته وتضمنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة، وأشياء خفية لا يعلمها إلا عالم الأسرار، فكيف تجعلونه أساطير الأولين؟! إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي إنه تعالى كان وما يزال غفورا للمؤمنين رحيما بهم، ولا يعجّل أيضا في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته على العقاب، واستحقاقكم إنزال العذاب. سبب النزول: قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ عدّاس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر أو أبو فكيهة الرومي، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وكانوا يقرءون التوراة ويحدثون أحاديث منها، فلما أسلموا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعهدهم، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. المناسبة: بعد أن تكلم سبحانه أولا في التوحيد، وثانيا في الرد على عبدة الأوثان، تكلم ثالثا في النبوة، وذكر مطاعن المشركين: طعنهم في القرآن، وطعنهم في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى في هذه الآيات شبهتين من شبهات المشركين الواهية التي تدل على سخافة عقولهم وجهلهم، فقال: الشبهة الأولى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي وقال هؤلاء الجهلة من الكفار: ما هذا القرآن إلا كذب واختلاق، اختلقه

الشبهة الثانية:

محمد صلّى الله عليه وسلم، واستعان على جمعه بقوم آخرين من أهل الكتاب الذين أسلموا فيما بعد، كما ذكر في سبب النزول. فأجابهم تعالى عن هذه الشبهة بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي فقد افتروا هم قولا باطلا، وهم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه، فكان قولهم كفرا وظلما بيّنا في غير موضعه، وكذبا مفترى على ربهم، إذ جعلوا الكلام المعجز وهو هذا القرآن إفكا مفترى من قبل البشر. وهذه غاية حجة الضعيف، فإنه إذا لم يجد جوابا مقنعا، بادر إلى الإنكار الذي لا دليل عليه، والتكذيب الذي لا مستند له، فلو صح ما قالوا فلم لم يأتوا بمثله، واستعانوا كما استعان محمد صلّى الله عليه وسلم بغيره على وفق زعمهم، فإعجاز القرآن دليل كاف وحده للرد عليهم وإبطال مفترياتهم، وهم أهل الفصاحة والبيان. الشبهة الثانية: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي وقال الكفار المشركون أيضا: إن هذا القرآن أساطير الأولين أي أكاذيب المتقدمين، وأحاديث السابقين الذين سطروها في كتبهم كأحاديث رستم واسفنديار، انتسخها محمد صلّى الله عليه وسلم بوساطة أهل الكتاب يعني عامرا ويسارا، وجبرا أو أبا فكيهة مولى ابن الحضرمي، فهي تقرأ عليه صباح مساء، أي دائما، وخفية ليحفظها، إذ هو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وهذا محض افتراء آخر، وتضليل وبعد عن الحق ومكابرة، فقد عرفوا صدق محمد صلّى الله عليه وسلم، وأمانته وسلوكه، وبعده عن الكذب، مدة أربعين عاما قبل البعثة، حتى لقّبوه بالأمين، لما يعلمون من صدقه واستقامته، وكان أميا لا يعرف شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، فلما أكرمه الله بالرسالة عادوه واتهموه بما هو بريء منه، ووصفوا القرآن

المنزل عليه بالأساطير، مع أنه دستور الحكمة والمدنية والحضارة والعلم والتشريع الأمثل للحياة الإنسانية. ثم أجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قل لهم يا محمد النبي: أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين بصدق مطابق للواقع الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي إن هذا القرآن إنما نزل رحمة بالعباد، فلا يكون سببا لتعجيل العقاب، لذا لم يعاجلكم بالعقوبة رحمة بكم لأنه تعالى غفور رحيم، يمهل ولا يعجل، لتتوبوا وتقلعوا عن الكفر والشرك. فهذه دعوة لهم إلى التوبة والإنابة والإقبال على ساحة الإسلام والهدى، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، فمن تاب تاب الله عليه، بالرغم مما صدر منهم من افتراء وكذب، وكفر وعناد، كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة 5/ 73- 74] وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج 85/ 10] قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة. وهذا دليل على أن التوبة الصادقة تسقط الإثم والذنب وتجبّ ما قبلها من الذنوب، فهي مغفورة كرما من الله تعالى، وفضلا ورحمة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات حكاية شبهتين للمشركين وجوابين عنهما، أما الشبهتان فهما: أن القرآن كذب مختلق اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلم وأعانه عليه قوم من اليهود وأن القرآن أساطير أي أكاذيب وحكايات المتقدمين، فهي تلقى على محمد، وتقرأ في أول النهار وآخره، أي دائما، حتى تحفظ. والرد على الشبهة الأولى: أنهم هم الذين افتروا هذا القول الباطل وهم يعلمون بطلانه، لا أن القرآن مفترى. والرد على الشبهة الثانية أن منزل القرآن هو الله الذي يعلم السر والغيب والجهر، فلا يحتاج إلى معلّم، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها، وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء، لتمكّن المشركون منه أيضا، كما تمكن محمد صلّى الله عليه وسلم، فهلا عارضوه؟ فبطل اعتراضهم من كل وجه. وبيان هذا الجواب: إن الله تحداهم بالمعارضة، وظهر عجزهم عنها ولو كان صلّى الله عليه وسلم أتى بالقرآن مستعينا بأحد، لسهل عليهم الاستعانة بآخرين، فيأتون بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه، ثبت أنه وحي الله وكلامه، لهذا قال: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي أن تلك الفصاحة القرآنية لا تتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، وأن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات، وذلك لا يتأتى إلا من كامل العلم، وأن القرآن مبرأ عن النقص والتعارض، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، كما قال سبحانه: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] والقرآن مشتمل على أحكام منسجمة مع مصالح العالم ونظام الناس، وهو لا يكون إلا من العالم الواسع العلم، وكذلك القرآن مشتمل على أنواع العلوم، وهو لا يتأتى إلا من العليم الخبير.

طعن المشركين في النبي المنزل عليه القرآن [سورة الفرقان (25) الآيات 7 إلى 10] :

طعن المشركين في النبي المنزل عليه القرآن [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 10] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِأُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) الإعراب: فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً فَيَكُونَ منصوب لأنه جواب التحضيض بالفاء، بتقدير «أن» . أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ معطوف على يُلْقى وكلاهما داخل في التحضيض، وليس بجواب له. وَيَجْعَلْ معطوف على جواب الشرط وهو «جعل» وموضعه الجزم، وحسن أن يعطف المستقبل على الماضي لفظا لأنه في معنى المستقبل لأن «إن» الشرطية تنقل الفعل الماضي إلى الاستقبال. وقرئ بالرفع على أنه مستأنف، تقديره: وهو يجعل لك. البلاغة: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ استفهام يراد به التهكم والتحقير. وَقالَ الظَّالِمُونَ وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم ظلم ما قالوه. المفردات اللغوية: مالِ هذَا الرَّسُولِ أي ما لهذا يزعم الرسالة؟ وفيه استهانة وتهكم. يَأْكُلُ الطَّعامَ كما

سبب النزول:

نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى: إن صح ادعاؤه، فما باله يخالف حاله حالنا، وذلك لقصور نظرهم على المحسوسات، فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما بالأمور المعنوية، كما أشار تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف 18/ 110، وفصلت 41/ 6] . هلا. أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدقه، فنعلم صدقه بتصديق الملك. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء ينفقه ويستغني به عن طلب المعاش. أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان، أي إن لم يلق إليه كنز، فلا أقل من أن يكون له بستان، كما للدهاقين والمياسير، فيعيش من ريعه وغلته، وهذا منهم على سبيل التنزل. يَأْكُلُ مِنْها أي من أثمارها، فيكتفي بها ويتميز علينا بها. وقرئ نأكل أي نحن، وهذا كله تفكير الماديين. وَقالَ الظَّالِمُونَ الكافرون. إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون. إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فغلب على عقله واختل تفكيره. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا فيك الأقوال العجيبة الشاذة التي جرت مجرى الأمثال، واخترعوا لك الأحوال النادرة، كالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه، وإلى ملك يعاونه في الأمر. فَضَلُّوا بذلك عن الهدى وعن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي صلّى الله عليه وسلم، والمميز بينه وبين المتنبئ، فخبطوا خبط عشواء وقوله: ضلوا: أي بقوا متحيرين في ضلالهم. فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إلى الرشد والهدى، أو إلى القدح في نبوتك. قُصُوراً جمع قصر وهو كل بيت مشيد بالحجارة ونحوها، أما ما يتخذ من الصوف أو الشعر فهو البيت في عرف العرب. سبب النزول: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة، وإن شئت جمعتهما لك في الآخرة، فقال: لا، بل اجمعها لي في الآخرة، فنزلت: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى، والسيادة والجاه، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد، وكلّموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف، فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلّغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فسل لربك، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان شبهتي المشركين في القرآن، أبان الله تعالى شبهة ثالثة في النبي المنزل عليه القرآن، وهو الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم أبطل تعالى تلك الشبه، وكشف سخفها وزيفها وعدم صلاحيتها للطعن في النبي صلّى الله عليه وسلم، فهي في غاية السخافة والسقوط، ولا دليل عليها، وإنما هي تعللات تشير إلى تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة. التفسير والبيان: ذكر المشركون خمس صفات للنبي صلّى الله عليه وسلم تتعارض مع النبوة في زعمهم وهي: 1- وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أي قال المشركون: لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة، فهو يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويحتاج إلى ذلك كما نحتاج إليه، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. 2- وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يتردد فيها وإليها، طلبا للتكسب والتجارة وابتغاء للرزق والمعيشة، فمن أين له الفضل علينا، وهو مثلنا في هذه الأمور؟ وهذا منهم تصور مادي محض، وموازنة ساذجة، فإن الرسل لم يمتازوا بصفات حسية مادية، فهم في هذا كغيرهم من البشر، وإنما امتازوا بقيم معنوية، ومكاسب أدبية، وطهارة نفسية، لذا قال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف 18/ 110] . 3-أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي هلا أنزل إليه ملك من عند الله، فيكون له شاهدا على صدق ما يدعيه، ويرد على من خالفه، كما

قال فرعون عن موسى عليه السلام: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف 43/ 53] . 4- أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي وهلا ألقي عليه كنز من السماء، فينفق منه، فلا يحتاج إلى التردد في الأسواق لطلب المعاش. 5- أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي إن لم يكن له كنز فلا أقل من أن يكون كأحد الدهاقين أو المياسير، له بستان يأكل منه، ويعيش من غلته وثمرته. قال الزمخشري: إنهم يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق. «1» وهذا تصور مادي محض، وقياس على أحوال أصحاب السلطة والنفوذ الدنيوي، وتقدير منهم أن الرسالة أمر آخر فوق البشرية، وما فهموا ولا أدركوا أن الرسول بشر أوحي إليه من عند ربه. وبعد أن انتقصوا الرسول صلّى الله عليه وسلم بصفات أهل الدنيا، وعيروه بها، نفوا عنه صفة العقل، وهي شبهة أخرى أو صفة سادسة، فقالوا: 6- وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي وقال الكافرون: ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختل عقله، فهو لا يدرك ما يقول، فكيف يطاع فيما يأمر؟.

_ (1) الكشاف: 2/ 400

فقه الحياة أو الأحكام:

فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، فَضَلُّوا، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي انظر متعجبا أيها الرسول، كيف قالوا فيك تلك الأقوال، واخترعوا لك تلك الصفات، والأحوال النادرة، وقذفوك وافتروا عليك بقولهم: ساحر مسحور، مجنون، كذاب، شاعر، وكلها أقوال باطلة، وأوصاف مفتراة، لا يصدق بها من له أدنى فهم وعقل، فصاروا متحيرين ضلّالا عن طريق الهدى والحق، فلا يجدون طريقا إليه. وهذا جواب إجمالي، أردفه بجواب خاص عن طلب البستان والكنز، فقال: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي تكاثر خير ربك، فهو إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا أو طلبوا، وهو أن يعجل لك مثلما وعدك به في الآخرة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والقصور الشامخة النادرة، وأن يؤتيك خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن. ولكن الله تعالى ادخر لك العطاء في دار الآخرة الخالدة، لا في الدنيا الزائلة، حتى لا تشتغل بالدنيا عن الدين، وأداء مهمة تبليغ الرسالة، ولأن ما عند الله خير وأبقى. قال خيثمة: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها، ما لم نعطه نبيا قبلك، ولا نعطي أحدا من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة» فأنزل الله عز وجل في ذلك: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- المقارنة البناءة المثمرة بين التفكير المادي الذي يؤثر الدنيا، والتفكير

الديني الذي يتخذ الدنيا وسيلة للحياة، وجسرا إلى الآخرة، وأن الدنيا ليست هي كل هدف الإنسان العاقل، فأمامه عالم آخر، عليه الاستعداد له، والإعداد للظفر بخيراته بالإيمان والعمل الصالح. 2- إن دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب العيش، وكان صلّى الله عليه وسلم يدخلها لحاجته، ولتذكير الناس بأمر الله ودعوته، وعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وقد تاجر الصحابة وبخاصة المهاجرون في الأسواق، كما خرّج البخاري عن أبي هريرة: «وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق «1» في الأسواق» . 3- من لم يتأثر بعقل مجرد وقلب طاهر بأقوال النبي صلّى الله عليه وسلم وبرسالته لذاتها، لما فيها من هداية إلى الحق والخير والتوحيد، لم تنفعه إنذارات الملائكة، فما وراء الإنذار إلا العذاب. 4- إن الاتهامات الرخيصة والأوصاف المرذولة زائفة باطلة عند أهل الحكمة والاتزان، والحصافة والعقل. فمن يصدّق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي عرف بالفطنة ورجاحة الرأي والعقل وسداد التفكير ساحر مسحور، وشاعر مأفون، ومجنون مختل العقل؟ إن الواقع خير شاهد على تكذيب تلك المزاعم والافتراءات. ولا تحتاج إلى جواب إلا كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ. 5- إن فضل الله وخيره ونعمه كثيرة لا تعد ولا تحصى، وقدرته شاملة لكل شيء، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ لكنه تعالى لا يريد لأنبيائه وأوليائه أن يكونوا أهل غنى وثروة ودنيا، فأهل الغنى والثروة تنتهي سمعتهم بموتهم، ولا يبقى لهم ذكر أو شهرة، وإنما أراد الله تعالى لأنبيائه تخليد آثارهم

_ (1) الصفق: التبايع.

وذكراهم في الحياة الإنسانية بالقيم الخالدة، والمعاني السامية، وبما قدموه للبشرية من عطاء تذكره لهم الأجيال، ويحتكم إلى أصالته الحكماء، ويظل أثرهم الخالد مضرب الأمثال، وقدوة لكل إنسان، وأمل الحيارى، وحلم المعذبين في الأرض، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى. [الأعلى 87/ 16- 17] . يروى أن هذه الآية: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم «1» وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلّم على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد، ربّ العزة يقرئك السلام، وهذا سفط «2» - فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له فضرب جبريل بيده الأرض، يشير أن تواضع، فقال: يا رضوان، لا حاجة لي فيها، الفقر أحب إليّ، وأن أكون عبدا صابرا شكورا، فقال رضوان: أصبت، الله لك. 6- دل قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ.. على أنه سبحانه يعطي العباد على حسب المصالح، فيرزق بعضهم نعمة المال، وآخر نعمة العلم، وغيرهم نعمة العقل والفهم، وهو فعال لما يريد.

_ (1) كان رضوان في هذا مع جبريل عليهما السلام أمين الوحي بدليل بقية الخبر. (2) السفط: المحفظة أو الوعاء المخصص لوضع الطيب ونحوه من أدوات النساء.

إنكار المشركين يوم القيامة وحالهم فيه ومقارنتهم بأهل الجنة [سورة الفرقان (25) الآيات 11 إلى 16] :

إنكار المشركين يوم القيامة وحالهم فيه ومقارنتهم بأهل الجنة [سورة الفرقان (25) : الآيات 11 الى 16] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) الإعراب: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، تقديره: سمعوا لها صوت تغيظ وزفير. أُلْقُوا مِنْها مَكاناً مِنْها حال من مَكاناً لأنه في الأصل صفة له. قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ؟ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من السعير، وجاء التفضيل بينهما على حد قولهم: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وأفعل التفضيل يقتضي الاشتراك بين الشيئين في الأصل، وإن اختلفا في الوصف، فلا يجوز القول: العسل أحلى من الخلّ، لعدم الاشتراك في أصل الحلاوة، وأجازه الكوفيون. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ خالِدِينَ حال من ضمير. لَهُمْ أو من ضمير يَشاؤُنَ. البلاغة: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً استعارة تمثيلية، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره، لما فيهما من هياج واضطرام، وهو صوت يسمع من جوفه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ القيامة، والمعنى: ليس ما ذكروه من الشبهة في وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم بما زعموا من الأوصاف الخمسة أو الستة يصلح أن يكون شبهة ذات بال أو أهمية، بل الذي حملهم على تقولهم وافترائهم تكذيبهم بالساعة، وبما فيها من ثواب وعقاب لان من يخاف الآخرة ينظر ويفكر، ولا يتورط بالتكذيب والافتراء وَأَعْتَدْنا هيأنا. سَعِيراً نارا مسعّرة شديدة الاشتعال. رَأَتْهُمْ إذا كانت بمرأى منهم، كقوله صلّى الله عليه وسلم عن المسلمين والمشركين فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير: «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى عن الأخرى، على سبيل المجاز. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي سمعوا لها صوت تغيظ وزفير، والتغيظ: شدة الغضب، والزفير: هو النّفس الخارج من الإنسان، ضد الشهيق. مِنْها مَكاناً أي في مكان، ومنها: بيان تقدم، فصار حالا. ضَيِّقاً بأن يضيق عليهم، ووصف بالضيق لزيادة العذاب، فإن الكرب مع الضيق، والانشراح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض مُقَرَّنِينَ مصفدين، قد قرنت (جمعت) أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل. هُنالِكَ في ذلك المكان. ثُبُوراً أي هلاكا، والمعنى: أنهم يتمنون الهلاك ويطلبونه قائلين: يا ثبوراه تعال. فهذا حينك. وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي اطلبوا أنواعا من الهلاك لأن عذابكم أنواع كثيرة، كل نوع منها ثبور، لشدته، أو لأنه يتجدد، كقوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء 4/ 56] . أَذلِكَ المذكور من الوعيد والعذاب وصفة النار. والاستفهام والتفضيل والترديد في قوله: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ للتقريع مع التهكم. وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح، أو الدلالة على خلودها، وتمييزها عن جنات الدنيا. وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وعدها المتقون وهم الذين يتقون الكفر والتكذيب كانَتْ لَهُمْ في علم الله أو في اللوح المحفوظ. جَزاءً ثوابا على أعمالهم بوعد جازم من الله. وَمَصِيراً مرجعا ينقلبون إليه. ما يَشاؤُنَ ما يشاءونه من النعيم، وفيه تنبيه على ان كل المرادات والرغبات لا تحصل إلا في الجنة. وَعْداً مَسْؤُلًا أي كان ذلك موعودا، حقيقا بأن يسأل ويطلب، ويسأله الذين وعدوا به، كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران 3/ 194] أو تسأله الملائكة لهم، كما قال سبحانه: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر 40/ 8] .

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان الشبهات الثلاث المتقدمة للمشركين وهي: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ الآية، وبعد الجواب عن الشبهة الثالثة بجوابين: أولهما- انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ وثانيهما- تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ بعد ما ذكر، أجاب الله تعالى بجواب ثالث عن تلك الشبهة بقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ.. أي إن تقولهم عليك أيها الرسول مصدره تكذيبهم بالبعث، وعدم تصديقهم بالثواب والعقاب. أو أنه عطف على ما حكي عنهم، ثم قال: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. التفسير والبيان: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي إن موقف هؤلاء المشركين منك أيها الرسول بالتكذيب والعناد، لا بالتبصر والاسترشاد، والتقول عليك بالأباطيل، ناشئ من تكذيبهم بيوم القيامة، فذلك هو الذي يحملهم على ما يقولونه من تلك الأقوال الساقطة لأن من لا يوقن بالقيامة، ولا بالحساب والجزاء يتورط بسرعة في الاتهام دون تقدير للمسؤولية، ولا تأمل في عواقب الأمور، ولا انتفاع بالأدلة التي ترشده إلى التعقل والتبصر بما يقول، فهذا أعجب من كل ما صدر منهم. وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي هيأنا وأرصدنا لمن كذب بالقيامة وما فيها من حساب وجزاء، نارا مستعرة شديدة الالتهاب، وعذابا أليما حارا في نار جهنم. والسعير: مذكر، ولكن جاء هنا مؤنثا لعود الضمير بالتأنيث في قوله تعالى: رَأَتْهُمْ وقوله سَمِعُوا لَها وإنما جاء مؤنثا على معنى النار. ودلت الآية على أن النار مخلوقة لأن أَعْتَدْنا أعددنا إخبار عن فعل

الصفة الأولى:

وقع في الماضي، مثل قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران 3/ 131] وكذلك الجنة مخلوقة لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 133] . ثم وصف الله تعالى أهوال النار بصفتين فقال: الصفة الأولى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي إذا كانت النار بمرأى من الناظر من بعيد، سمعوا صوت غليانها، الذي يشبه صوت المتغيظ، لشدة التهابها، وصوت الزافر الحزين الذي يخرج النّفس من جوفه. أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال: «إن جهنم لتزفر زفرة، لا يبقى ملك مقرّب، ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه، ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه، ويقول: ربّ، لا أسألك اليوم إلا نفسي» . الصفة الثانية: إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي بعد أن وصف الله حال الكفار، وهم في بعد من جهنم، وصف حالهم عند إلقائهم فيها، فإذا ألقوا فيها في مكان ضيق مكتّفين، أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، صاحوا واستغاثوا وقالوا: يا ثبوراه، أي يا هلاكنا احضر، فهذا وقتك، فيقال لهم: لا تنادوا هلاكا واحدا، ونادوا هلاكا كثيرا، أي أنكم وقعتم ليس في هلاك واحد، وإنما في ثبور كثير، إما لتنوع ألوان العذاب، فكل نوع منها عذاب لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدّلوا غيرها. والمقصود تيئيسهم من الخلاص من العذاب بالهلاك، والتنبيه إلى أن عذابهم أبدي لا خلاص منه.

ووصف المكان بالضيق لأن الكرب مع الضيق، كما أن الرّوح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث «أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» ولقد جمع الله على أهل النار أنواع الإرهاق والتضييق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما ذكر صاحب الكشاف، وكما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزّج- الحديدة التي في أسفل الرمح- على الرمح» وسئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده، إنهم يستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط» . وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أول من يكسى حلّة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فيقول: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا، وادعوا ويلا كثيرا. قال ابن كثير: الأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء 17/ 102] . أي هالكا. وبعد أن وصف الله عقاب المكذبين بالساعة قارن بينه وبين ثواب المؤمنين المتقين، بما يؤكد الحسرة والندامة، فقال لرسوله صلّى الله عليه وسلم: قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم: أهذا العذاب الذي وصفت لكم أفضل أم نعيم جنة الخلد الذي يدوم إلى الأبد، وقد وعدها المتقون الأبرار الذين أطاعوا الله فيما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه، وجعلها لهم جزاء طاعتهم في الدنيا، ومآلهم الحسن إليها. وجنة الخلد: هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور.

فقه الحياة أو الأحكام:

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ للمتقين في جنة الخلد ما يشتهون من الملاذ في الأكل والشرب والملبس والمسكن والمركب والمنظر، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم في النعيم خالدون أبدا دائما، بلا انقطاع ولا زوال، ولا يبغون عنها حولا. وهذا دليل على تحقيق جميع الرغبات، ووعد من الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، لهذا قال: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي لا بد أن يقع، وأن يكون وعدا واجبا، وموعودا به، جديرا بأن يسأل ويطلب، وينجز، كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران 3/ 194] وقال سبحانه: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة 2/ 201] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن منشأ إنكار المشركين لوحدانية الله، وتكذيبهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم، وطعنهم بالقرآن وبالنبوة، هو إنكار يوم القيامة وعدم الإيمان باليوم الآخر: لأن من آمن به تبصر وتدبر، ولم يكن متهورا في سوء الاعتقاد. 2- دل قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً على أن النار مخلوقة الآن وموجودة، كما أن الجنة مخلوقة وموجودة لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران 3/ 133] . والسعير: النار الشديدة الاستعار. 3- وصف الله تعالى النار بصفتين: الأولى- شدة الاستعار والالتهاب، يرى لها تغيظ، ويسمع لها زفير من مكان بعيد. والثانية- إذا ألقي فيها المعذّبون تضيق عليهم، وتشتد في المضايقة لأن جو العذاب مضايق.

أحوال الكفار مع معبوداتهم يوم القيامة [سورة الفرقان (25) الآيات 17 إلى 19] :

4- يتمنى المعذّبون في جهنم الموت والهلاك، للخلاص من شدة العذاب، ولكن لا يتحقق لهم ذلك، ويبقون فيها معذّبين، لا أمل لهم في النجاة أو الخلاص مما هم فيه. 5- لا مجال أصلا للمقارنة بين عذاب النار ونعيم الجنة، فلا خير في النار، وإنما يقال للكفار: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ للتنبيه على التفاوت بين المنزلتين، وللتهكم بهم والتحسير لهم، وتفادي ما يؤدي بهم إلى النار، وهذا رحمة من الله عز وجل بهم، وإنذار مسبق، ولقد أعذر من أنذر. 6- في الجنة تحقيق كل الرغبات والمطالب، ففيها ما لا تتصوره العقول في الدنيا. 7- وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، ووعده حق وصدق ومنجز لا محالة، فسألوه ذلك الوعد، وقالوا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أو أن الملائكة تسأل لهم الجنة، كما قال تعالى: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. قال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا، ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. أحوال الكفار مع معبوداتهم يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء، وقرئ: نحشرهم. وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير الله، ويشمل كل معبود من الملائكة والجن وعيسى وعزير، والأصنام، واستعمال ما لأنه أعم، أو لتغليب الأصنام تحقيرا. والأصنام ينطقها الله، أو تتكلم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. فَيَقُولُ تعالى للمعبودين، إثباتا للحجة على العابدين، وقرئ: فنقول: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ: هل أنتم أوقعتموهم في الضلال، بأمركم إياهم بعبادتكم. أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي أم أخطئوا طريق الحق بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح. وهو استفهام تقريع وتبكيت للعابدين. وضلّ السبيل: فقده وخرج عنه. سُبْحانَكَ تنزيها لك عما لا يليق بك، وكان جوابهم تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون أو جمادات لا تقدر على شيء. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ما كان يصح أو يستقيم لنا. مِنْ دُونِكَ غيرك، ومرادهم أنه لا يتصور منا دعوة أحد إلى عبادتنا، للعصمة أو للعجز، فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ من قبلهم بإطالة العمر وسعة الرزق وأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات. حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن، وغفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك ونعمك والتدبر في آياتك، والذِّكْرَ: ما ذكّر به الناس بواسطة أنبيائهم، وهو هنا القرآن والشرائع، أو ذكر الله والإيمان به. بُوراً هلكى أو هالكين، من البوار، أي الهلاك. كَذَّبُوكُمْ كذب المعبودون العابدين، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب للتنويع في الأسلوب ولفت الأنظار. بِما تَقُولُونَ أنهم آلهة. فما يستطيعون أي هم، وقرئ بالتاء: أي أنتم. صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم. وَلا نَصْراً منعا لكم منه. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يشرك أو يكفر منكم أيها المخاطبون. عَذاباً كَبِيراً شديدا في الآخرة، وهو النار، وقوله: وَمَنْ يَظْلِمْ شرط، وإن عمّ كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم التوبة من العبد، والعفو من الله تعالى. المناسبة: بعد بيان ما أعد الله للكافرين من شدة العذاب يوم القيامة، ومقارنته بنعيم أهل الجنة، ذكر الله تعالى مشهدا من مشاهد القيامة وهو حال العابدين مع المعبودين من غير الله الذين يحشرهم الله تعالى، ويسألهم: أهم الذين أوقعوا عابديهم في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله كالملائكة وغيرهم فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي واذكر أيها الرسول لأولئك المشركين يوم يجمعهم مع معبوديهم من الملائكة والمسيح وعزير والأصنام التي ينطقها الله وغيرهم من الناس كفرعون، الذين عبدوا من دون الله، فيقال لأولئك المعبودين على سبيل التقرير والتثبيت: أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق، أو هل دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم أو عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 5/ 116] . واستعمال ما في قوله تعالى: وَما يَعْبُدُونَ لأنها موضوعة للعقلاء وغيرهم: على العموم، وفائدة أَنْتُمْ ويَحْشُرُهُمْ لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه وفاعله، فلا بد من ذكره، ليعلم أنه المسؤول عنه. والسؤال ليس لإخبار الله، فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، ففائدته أن يجيبوا بما أجابوا به لتقريع عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك كشفا وافتضاحا لعبدة الأصنام والأوثان وغيرهم، ومسوغا لإلحاق غضب الله وعذابه، كما أبان الزمخشري. وظاهر السؤال في قوله: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ.. من الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى.

ثم أخبر الله تعالى عما يجيب به المعبودون يوم القيامة فقال: قالُوا: سُبْحانَكَ، ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي قال المعبودون بلسان المقال أو الحال على طريق التعجب مما قيل لهم: تنزيها لك يا ربّ مما نسبه إليك المشركون، ما كان يصح لنا بحال أن نتخذ أنصارا من دونك، فنحن الفقراء إليك، وليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، فنحن ما دعوناهم إلى عبادتنا، بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا، ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، وإذا كنا لا نرى من دونك أولياء، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ ولكن طال عليهم العمر، وشغلوا بما أنعمت عليهم من صنوف الخيرات، واستغرقوا في اللذات والشهوات، ونسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك، وكانوا قوما لا خير فيهم، وهلكى في نهاية الأمر. ونظير الآية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ، قالُوا: سُبْحانَكَ [سبأ 34/ 40- 41] . فيقال للعابدين: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ، فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً أي فقد كذّبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء مناصرون، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، فلا يقدرون، أي الآلهة المزعومة، على صرف العذاب عنهم، ولا الانتصار لأنفسهم بأي حال أبدا، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] . ثم أعلن الله تعالى حكم كل ظالم، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً أي ومن يشرك بالله أو يكفر، أو يفسق نذقه يوم القيامة عذابا شديدا لا يعرف قدره. والظلم هنا هو الإشراك ونحوه كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] وقال سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات 49/ 11] . فقه الحياة أو الأحكام: هذه صورة مسبقة من الحوار، معروضة في الدنيا، للعظة والعبرة بين المعبودين الذين اتخذوا آلهة من غير رضا منهم، وبين العابدين الذين ضلوا عن الحق، فعبدوا من لا يستحق العبادة، يبيّن فيها سلفا مصير الكافرين. وهذا غير مألوف في أحكام الدنيا التي لا تعرف إلا بإعلان القاضي لها. وكانت نتيجة الجواب والسؤال بيان حصر المسؤولية عن الضلال في العابدين دون المعبودين، وجعل تبرؤ المعبودين عن العابدين سببا واضحا في حسرتهم وحيرتهم. ويقول الله تعالى عند تبرّي المعبودين: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أي كذبتكم تلك الآلهة المزعومة في نظركم في قولكم: إنهم آلهة، وحينئذ لا يستطيع هؤلاء الكفار لما كذّبهم المعبودون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصر أنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. ونوع العذاب الذي سيوقع عليهم وعلى أمثالهم هو كما قال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً أي ومن يشرك منكم ثم يموت عليه من غير توبة، نذقه في الآخرة عذابا كبيرا أي شديدا، كما قال تعالى: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً [الإسراء 17/ 4] أي شديدا.

بشرية الرسل [سورة الفرقان (25) آية 20] :

بشرية الرسل [سورة الفرقان (25) : آية 20] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) البلاغة: أَرْسَلْنا الْمُرْسَلِينَ جناس اشتقاق. تَصْبِرُونَ بَصِيراً جناس ناقص، لتقديم بعض الحروف، وتأخير بعضها. المفردات اللغوية: إِلَّا إِنَّهُمْ أي إلا رسلا إنهم، فحذف الموصوف لدلالة الْمُرْسَلِينَ عليه، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات 37/ 164] . وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي فأنت مثلهم في ذلك، وقد قيل لهم مثل ما قيل لك. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي وجعلنا بعضكم أيها الناس لبعض ابتلاء، ومن ذلك ابتلاء الغني بالفقير، والصحيح بالمريض، والشريف بالوضيع، لمعرفة مدى قيامه بواجبه نحوه أو إيذاء أحدهم لغيره. وفيه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قاله المشركون في حقه، بعد نقضه والرد عليه، وفيه دليل على القضاء والقدر لأنه تعالى هو الذي جعل البعض فتنة للبعض. أَتَصْبِرُونَ على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم؟ وهو استفهام بمعنى الأمر، بمعنى: اصبروا، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة 5/ 91] أي انتهوا، فهو حث على الصبر على الابتداء وأمر به للنبي صلّى الله عليه وسلم وغيره، أو علة لقوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ.. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، لنعلم أيكم يصبر، كقوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف 18/ 7] . وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي عالما بمن يصبر وبمن يجزع. سبب النزول: أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال: لما عيّر المشركون رسول الله

المناسبة:

صلّى الله عليه وسلم بالفاقة، وقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ. المناسبة: هذه الآية إذن جواب عن قول المشركين: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ. فيها أبان الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله، فلا وجه للطعن. التفسير والبيان: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي إن جميع الرسل المتقدمين كانوا بشرا يأكلون الطعام، للتغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك منافيا لحالهم ومنصبهم، أو يغضّ من شأنهم، وإنما امتيازهم في اتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وقيامهم بالأعمال الكاملة، وتأييدهم بخوارق العادات أو بالمعجزات التي تدل كل عاقل على صدق رسالتهم وما جاؤوا به من عند ربهم، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كغيره من الرسل في هذا. ونظير الآية قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف 12/ 109] وقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء 21/ 8] . والمعنى: أن الرسول يكون من جنس المرسل إليهم، وليس الفقر عيبا، وليس العمل منقصا من قدر الشخص واعتباره، وإنما قيم الرجال بالآداب والأعمال. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم

ببعض، لنعلم من يطيع ممن يعصي، فالناس طبقات في الغنى والفقر، والعلم والجهل، والفهم والغباء، والصحة والمرض، وصاحب النعمة مسئول عمن حرم منها، والله قادر على منح الدنيا رسله الكرام، ولكنه أراد تساميهم عن الدنيا، وحشد طاقاتهم وأعمالهم للآخرة، ليقتدى بهم، كما أراد سبحانه ابتلاء العباد بهم وابتلاءهم بالعباد، ليعرف المطيع من العاصي، والمسالم من المؤذي. أَتَصْبِرُونَ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي اصبروا على ما أراده الله لكم، وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع، وبمن يستقيم وبمن يتنكر لطريق الحق، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب. روى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، وويل للمالك من المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية، أسنده الثعلبي رحمه الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتلي بك» وفي مسند أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» . وفي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم خيّر بين أن يكون نبيا ملكا، أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا. وقال مقاتل: إن الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمارا، وبلالا، وصهيبا، وسالما مولى أبي حذيفة، قالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟! فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: أَتَصْبِرُونَ؟ أي على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر والجهد

فقه الحياة أو الأحكام:

والإيذاء، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا «1» [المؤمنون 23/ 111] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على أن الرسل عليهم السلام كباقي البشر فيما عدا إنزال الوحي عليهم، وتخلقهم بالأخلاق العالية، وقيامهم بالأعمال الطيبة بدرجة تفوق غيرهم، فهم يأكلون ويشربون ويتاجرون في الأسواق. والآية أصل في وجوب اتخاذ الأسباب، وإباحة طلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن في غير موضع. ودل قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً على أن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض الناس امتحانا واختبارا لبعض على العموم الذي يشمل كل مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فعلى الغني مواساة الفقير وألا يسخر منه، وعلى الفقير ألا يحسد الغني ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق. والله سبحانه يأمر بالصبر على كل حال، حتى لا يهتز إيمان أحد، ويفوض الأمر في كل شيء إلى الله تعالى. والله تعالى بصير بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدّي.

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 18- 19

طلب المشركين إنزال الملائكة عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم [سورة الفرقان (25) الآيات 21 إلى 24] :

طلب المشركين إنزال الملائكة عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَناأُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) الإعراب: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا اللام جواب قسم محذوف. يَوْمَ يَرَوْنَ يَوْمَ منصوب على الظرف، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اذكر، أي اذكر يوم يرون الملائكة. ولا يجوز أن يعمل فيه لا بُشْرى لأن ما في حيّز النفي لا يعمل فيما قبله. وأجاز الزمخشري نصب يَوْمَ بما دل عليه لا بُشْرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويَوْمَئِذٍ للتكرار. ولا بُشْرى: إن جعلت بُشْرى مبنية مع لا كان يَوْمَئِذٍ خبرا لها لأنه ظرف زمان، وظروف الزمان تكون أخبارا عن المصادر. ولِلْمُجْرِمِينَ صفة للبشرى. وإن جعلت بُشْرى غير مبنية مع لا أعملت بُشْرى في يَوْمَئِذٍ لأن الظروف يعمل فيها معاني الأفعال، وللمجرمين خبر لا. البلاغة: أُنْزِلَهنا بمعنى هلا للترجي. عَتَوْا عُتُوًّا وحِجْراً مَحْجُوراً جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية:

لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ مبالغة بنفي الجنس، والمعنى: لا يبشر يومئذ المجرمون، وعدل عنه إلى ذلك للمبالغة. هَباءً مَنْثُوراً تشبيه بليغ، حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، أي كالغبار المنثور في الجو في حقارته وعدم نفعه. المفردات اللغوية: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يأملون لقاءنا بالخير لكفرهم بالبعث، أو لا يخافون لقاءنا بالشر، أي لا يخافون البعث، على لغة تهامة، أي أن الرجاء في بعض لغات العرب: الخوف، مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وأصل اللقاء: الوصول إلى الشيء، ومنه الرؤية، فإنه وصول إلى المرئي، والمراد به: الوصول إلى جزائه، أي لقاء جزائنا. هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي أرسلوا إلينا، فيخبروننا بصدق محمد صلّى الله عليه وسلم أَوْ نَرى رَبَّنا فيأمرنا بتصديقه واتباعه لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي لقد تكبروا في شأن أنفسهم، حتى أرادوا لها ان تكون أنبياء أو ما هو أعظم من ذلك وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً تجاوزوا الحد في الظلم حتى بلغوا أقصى الغاية، بطلبهم رؤية الله تعالى في الدنيا، وكذبوا الرسول الذي جاء بالوحي، ولم يأبهوا بمعجزاته. وعَتَوْا بالواو على أصله، بخلاف «عتي» بالإبدال في سورة مريم في قوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [8] . يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ في جملة الخلائق، وهو يوم القيامة، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره: اذكر لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين، والمعنى: يمنعون البشرى، بخلاف المؤمنين، فلهم البشرى بالجنة وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً أي ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، وهي كلمة تقال عند حصول شدة كلقاء عدو أو حدث خطير، يقصد بها العرب: الاستعاذة من وقوع الخطر، والطلب من الله أن يمنع ذلك الحادث منعا. والحجر لغة: المنع، ومنه الحجر على القاصر أي منعه من التصرف، وسمي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من بعض الأعمال. وَقَدِمْنا عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا في كفرهم في الدنيا من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، فأحبطناه لعدم الإيمان فَجَعَلْناهُ هَباءً هو ما يرى في الهواء أثناء ضوء الشمس الداخل من الكوى أو النوافذ، أي جعلناه كالغبار المفرق في عدم النفع فيه مُسْتَقَرًّا أي مكانا يستقرون فيه أكثر الوقت للجلوس والمحادثة، والمعنى: أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرا من الكافرين في الدنيا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يؤوي إليه للقيلولة والراحة: وهي الاستراحة نصف النهار في الحر تشبيها بمكان القيلولة في الدنيا إذ لا نوم في الجنة. وأخذ من ذلك انقضاء

المناسبة:

الحساب في نصف نهار، كما ورد في الحديث: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. المناسبة: هذا هو موضوع الشبهة الرابعة للمشركين منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ومكذبي القرآن، ومفادها: لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محقّ في دعواه، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا. والشبهات الثلاث المتقدمة لهم: هي قولهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وما حكي عنهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها وذكرهم خمس صفات للرسول، زعموا أنها تخل بالرسالة، منها قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ إلخ. التفسير والبيان: هذا موقف عجيب من مواقف تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم، صوره القرآن بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا أي وقال المشركون الذين ينكرون البعث والثواب والعقاب: هلا أنزل علينا الملائكة كما تنزل على الأنبياء فنراهم عيانا، فيخبرونا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق في دعواه النبوة، أو نرى ربنا جهارا نهارا، فيخبرنا بأنه أرسله إلينا، ويأمرنا بتصديقه واتباعه، كقولهم في آية أخرى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 92] والحقيقة أنهم لا يرومون من كلامهم هذا إلا المكابرة والتمادي في الإنكار والعناد، لذا قال تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي والله لقد تكبروا وأضمروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال سبحانه: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر 40/ 56] وتجاوزوا

الحد في الظلم والكفر تجاوزا بلغ أقصى الغاية، فهم لم يجسروا على هذا القول الشنيع إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو. ولن يؤمنوا في الحقيقة والواقع، كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام 6/ 111] . ثم أخبر الله تعالى مهددا عن حال رؤيتهم الملائكة، فقال: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً أي هم لا يرون الملائكة في حال خير، وإنما في حال شر وسوء، فإنهم سيرونهم عند الموت أو يوم القيامة قائلين لهم: لا بشرى لهم بخير، ولا مرحبا بهم، وتبشرهم الملائكة بالنار وغضب الجبار، وتقول لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام 6/ 93] . ويقول الكفار: حجرا محجورا، أي استعاذة وطلبا من الله أن يمنع عنهم الخطر والضرر، والمقصود أنهم يتعوذون من الملائكة. قال ابن كثير: وهذا القول، وإن كان له مأخذ ووجه، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه. وإنما هذا من قول الملائكة لهم، يراد به: حرام محرم عليكم البشرى بالمغفرة والجنة، وبما يبشر به المتقون، وحرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وهذا بخلاف حال المؤمنين وقت احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها

ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت 41/ 30- 32] وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: «إن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب، إن كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، وربّ غير غضبان» . ثم أخبر الله تعالى عن إحباط أعمال الكفار الخيرية التي كانوا يعتزون بها في الدنيا كالإكرام والصدقة وفك الأسير وإنقاذ الملهوف وحماية المستجير وخدمة البيت الحرام والحجيج، فقال: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي قصدنا يوم القيامة إلى محاسن أعمال هؤلاء الكفار في الدنيا، حين حساب العباد على ما عملوه من الخير والشر، تلك الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم، كالتي ذكرت، فجعلناها مبددة لا نفع فيها ولا خير كالغبار المتناثر الذي لا جدوى فيه ولا فائدة، لفقد الشرط الشرعي لقبولها وهو إما الإخلاص فيها لله، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا لوجه الله الكريم، وليس على منهج الشريعة المرضية لله، فهو باطل، وأعمال الكفار تفقد أحد الشرطين أو كليهما، فتكون أبعد عن القبول. ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء الكفار بحال المؤمنين فقال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي إن حال أهل الجنة خير مأوى ومنزلا، وأتم استقرارا، وأفضل راحة من حال المشركين في النار. والمستقر: مكان الاستقرار، والمقيل: زمان القيلولة. وهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان. وبما أنه لا خير في النار، فيكون المراد من قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا.. هو ما أريد من قوله: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ وهو التقريع والتوبيخ، كما إذا أعطى السيد خادمه

فقه الحياة أو الأحكام:

مالا، فتمرد وأبى واستكبر، فيضربه ضربا وجيعا، ويقول له موبخا: هذا أطيب أم ذاك. وهذا يدل على انتهاء حساب الخلائق في نصف يوم، كما ورد في الحديث: «إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» . ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس 36/ 55- 56] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- إن عدم الخوف من البعث ولقاء الله، أي عدم الإيمان بذلك هو سبب التمادي في إنكار صدق القرآن والنبي المنزل عليه، والعناد والإصرار على الكفر. ثم إن التستر على الكفر والدفاع عنه يجعل الكفرة يطالبون بما فيه تعجيز وشطط وخروج عن المألوف، مثل المطالبة بإنزال الملائكة عليهم لإخبارهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق، أو رؤية الله عيانا لإخبارهم برسالته، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم في آيات أخرى: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء 17/ 90- 92] . لذا قال الله تعالى في الآيات المفسرة هنا: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً حيث سألوا الله الشطط لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت، والله تعالى لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، فلا عين تراه. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين.

2- إذا رؤيت الملائكة عند الموت، فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم، وتقول الملائكة لهم: حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وأقام شرائعها، وذلك القول يحصل عند الموت، كما روي عن ابن عباس وغيره. وقيل: إن ذلك يوم القيامة. 3- إن جميع أعمال الكفار لا سيما التي اعتقدوا أنها برّ وخير، وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى تكون يوم القيامة مهدرة باطلة لا جدوى فيها ولا نفع منها بسبب الكفر، ولأن قبولها يفقد الشرط الشرعي لها وهو الإيمان بالله وإخلاص العمل له. وقوله سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ تنبيه على عظم قدر يوم القيامة، ومعناه كما بينا: قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل برّ عند أنفسهم. 4- أصحاب الجنة في مكان مستقر ومأوى ثابت، ومنزل حسن مريح طيب الإقامة، على النقيض من حال أهل النار. فقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا، وَأَحْسَنُ مَقِيلًا كقوله: قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ التقريع والتوبيخ، وإنما قال: خَيْرٌ ولا خير في النار والعذاب: بالنظر إلى التفاوت بين منزلتي الجنة والنار، وهما من المنازل. أما من حيث الواقع فإن خَيْرٌ هنا ليس للمفاضلة التي تفهم من صيغة أفعل التفضيل، وإنما لتقرير أن الجنة هي الخير المحض والحسن المطلق، ولا خير أصلا في ضدها وهي النار.

رهبة يوم القيامة وهوله [سورة الفرقان (25) الآيات 25 إلى 29] :

رهبة يوم القيامة وهوله [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) الإعراب: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الباء في قوله بِالْغَمامِ للحال، والتقدير: يوم تشقق السماء، وعليها الغمام، كقولك: خرج زيد بسلاحه، أي وعليه سلاحه. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ: الْمُلْكُ مبتدأ، والْحَقُّ صفة له، ولِلرَّحْمنِ الخبر، ويَوْمَئِذٍ: ظرف للملك. البلاغة: يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والحسرة، وكذلك كلمة «فلان» كناية عن الصديق الضال المضل. المفردات اللغوية: يَوْمَ تَشَقَّقُ الأصل: تتشقق والمراد يوم القيامة السَّماءُ كل سماء بِالْغَمامِ هو غيم أبيض، أي مع الغمام، مثل قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 73/ 18] والمعنى أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، أو عن الغمام وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا أي تنزل الملائكة من كل سماء، وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الثابت يوم القيامة لله تعالى وحده، لا يشركه فيه أحد وَكانَ يَوْماً أي وكان اليوم يوما عسيرا أي شديدا على الكافرين، بخلاف المؤمنين.

سبب النزول:

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والتحسر يوم القيامة، والمراد بالظالم: الجنس، أو المشرك عقبة بن أبي معيط الذي كان نطق بالشهادتين، ثم رجع إرضاء لأبي بن خلف اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا محمد صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى الهدى والنجاة يا وَيْلَتى ألفه عوض عن ياء الإضافة، أي ويلتي، ومعناه: هلكتي. وقرئ: يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالي فهذا أوانك: وإنما قلبت الياء ألفا كما في صحارى ومداري. أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ذكر الله أو القرآن أو موعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم بَعْدَ إِذْ جاءَنِي بأن ردني عن الإيمان به وَكانَ الشَّيْطانُ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم لِلْإِنْسانِ الكافر خَذُولًا بأن يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ويتبرأ منه عند البلاء، ولا ينفعه. سبب النزول: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أبيّ بن خلف يحضر النبي صلّى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي معيط، فنزل: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله: خَذُولًا. وفي رواية: كان عقبة بن أبي معيط يكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال: صبأت؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر، فأمر عليا فقتله ، وطعن أبيا بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان طلب المشركين إنزال الملائكة، أخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وعن نزول الملائكة حينئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، فيعض الظالم على يديه ألما وحسرة على ما فات، ويتمنى أن لو كان أطاع الرسول فيما أمر ونهى، ولم يكن ممن أطاع الشيطان من الإنس والجن، ثم يفصل الله تعالى القضاء بين الخلائق. التفسير والبيان: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي اذكر أيها النبي الرسول يوم تتشقق السماء عن الغمام، وتتفتح عنه، ويتبدل نظام العالم، وتنتهي الدنيا، وتصبح الشمس والكواكب أشبه بالغمام، لتفرقها وتحللها وتناثرها في الجو، كما قال تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 1- 2] وقال سبحانه: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 19- 20] . وقال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة 69/ 15- 16] . وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ أي وتنزل الملائكة وفي أيديهم صحائف أعمال العباد، لتكون حجة وشاهدا عليهم. ونظير الآية قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة 2/ 210] . وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي وكان يوم القيامة على الكافرين يوما شديدا صعبا لأنه يوم عدل وقضاء فصل (محاكمة) كما في آية أخرى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر 74/ 9- 10] .

أما المؤمنون فكما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء 21/ 103] روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله: يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنه ليخفّف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا» . وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي واذكر أيها الرسول يوم القيامة الذي يعض المشرك وكل ظالم على يديه ندما وحسرة وأسفا على ما فرّط في حياته، وعلى إعراضه عن طريق الحق والهدى الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى النجاة والسلامة. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني خليلا أي صديقا حميما، أرداني اتباعه، وصرفني عن الهدى، وعدل بي إلى طريق الضلال، سواء في ذلك أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو غيرهما. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي هذا من قول الناس، أي لقد ضللني وحرفني عن ذكر الله والإيمان والقرآن بعد بلوغه إلي. وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا هذا من قول الله، لا من قول الظالم أي إن من شأن الشيطان أن يخذل الإنسان عن الحق، ويصرفه عنه، ويدعوه إلى الباطل ويستعمله فيه، ثم يتركه ويتبرأ منه عند المحنة، ولا ينفعه في العاقبة. والشيطان: إشارة إلى خليله سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو أراد إبليس وأنه هو الذي حمله على مصادقة أو مخالّة المضل ومخالفة

فقه الحياة أو الأحكام:

الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم خذله، أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس. والمعنى الأخير هو الأولى. فقه الحياة أو الأحكام: طلب المشركون إنزال الملائكة، فأبان سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له أربع صفات هي: 1- إن في ذلك اليوم تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام، لأن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس، روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، فتنشق السماء عنه، وهو الذي قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة 2/ 210] . وقوله: تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ جامع لمعنى الآيتين: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار 82/ 1] وآية فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ المذكورة. وفي ذلك اليوم تنزل الملائكة من السموات إلى الأرض لحساب الثقلين. ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول، ودلالة على إسراعهم فيه. 2- يكون الملك الثابت الدائم في ذلك اليوم لله الرحمن الرحيم، وهذا دليل الألوهية لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده. 3- يكون هذا اليوم شديدا صعبا على الكافرين لما ينالهم من الأهوال، ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، كما دل الحديث المتقدم، وهذه الآية لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا، فهو على المؤمنين يسير. 4- إنه يوم يعض فيه الظالم الكافر وكل مكذب وطاغ على يديه، حسرة

وألما على ما فرط في دنياه، فلم يؤمن بربه وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، فكلمة الظَّالِمُ للعموم، يعم جميع الظلمة، ويشمل عقبة بن أبي معيط الذي همّ بالإسلام، فمنعه منه صديقه أمية بن خلف الجمحيّ، ويروى: أبي بن خلف أخ أمية. وعضّه يديه: فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله، وعدم اتخاذه في الدنيا طريقا إلى الجنة، فيدعو على نفسه بالويل والهلاك على محالفة الكافر ومتابعته، ويقول: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا عنى أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه، لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به، ولا مقصورا عليه، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. فهذه العبارات الثلاث: الظالم، وفلان، والشيطان عامة. والخليل الصاحب قد يضل صاحبه عن ذكر الله والإيمان به والقرآن وموعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم. والشيطان يوسوس ويغري بالكفر والشرك والمعصية، ثم يخذل أتباعه، والخذل: الترك من الإعانة، والتبرؤ من فعله. وكل من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله، فهو شيطان للإنسان، خذول عند نزول العذاب والبلاء، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر 59/ 16] . وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك «1» ، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة» «2» . وذكر أبو بكر البزّار

_ (1) أحذاه: أعطاه. (2) وأخرجه أبو داود من حديث أنس.

هجر الكفار القرآن ومطالبتهم بإنزاله جملة واحدة [سورة الفرقان (25) الآيات 30 إلى 34] :

عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله، أيّ جلسائنا خير؟ قال: «من ذكّركم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكّركم بالآخرة عمله» . هجر الكفار القرآن ومطالبتهم بإنزاله جملة واحدة [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوانُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) الإعراب: في لام لِنُثَبِّتَ وجهان: أن تتعلق بفعل مقدر، أي نزلناه لنثبت به فؤادك لقولهم: نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أو أن تكون اللام لام القسم، وتقدر النون مع الفعل، وتظهر النون إذا فتحت اللام فيقال: «والله لنثبتن» وتسقط إذا كسرت. وكاف كَذلِكَ صفة لمصدر محذوف دل عليه نزلناه. البلاغة: شَرٌّ مَكاناً إسناد مجازي، لأن الضلال لا ينسب إلى المكان، ولكن إلى أهله. المفردات اللغوية: وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلم مشتكيا إلى ربه في الدنيا إِنَّ قَوْمِي قريشا مَهْجُوراً متروكا وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا عدوا من مشركي قومك، جعلنا

سبب النزول نزول الآية (32) :

لكل نبي قبلك عدوا من المشركين، فاصبر كما صبروا، وفيه دليل على أن الله خالق الشر. والعدو: يطلق على الواحد والجمع هادِياً لك إلى طريق قهرهم وَنَصِيراً ناصرا لك على أعدائك. هلا جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه كذلك مفرّقا لتقوية قلبك بتفريقه على حفظه وفهمه لأنه صلّى الله عليه وسلم بخلاف حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام كان أميا، وكانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة، عانى التعب والإجهاد في حفظه، ولأن نزوله بحسب الوقائع يزيد الأمر تبصرا، وتعمقا في فهم المعنى. وكلمة كَذلِكَ صفة مصدر محذوف يشير إلى إنزاله مفرقا وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أتينا به شيئا بعد شيء، أو قرأناه عليك شيئا بعد شيء، بتمهل وتؤدة، لتيسير فهمه وحفظه، في مدى ثلاث وعشرين سنة. وأصله الترتيل في الأسنان: وهو تفليجها. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بحال وصفة غريبة ونوع من الكلام يشبه المثل في تنميقه وتحسينه ورصف لفظه، بقصد القدح في نبوتك وإبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ الدافع له، أو الدامغ له في جوابه وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي بما هو أحسن بيانا لهم، وأصح معنى من سؤالهم العجيب الذي كأنه مثل في البطلان. الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يساقون ويسحبون على وجوههم، أي مقلوبين شَرٌّ مَكاناً هو جهنم وَأَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا من غيرهم، وهو كفرهم سبب النزول: نزول الآية (32) : أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلّى الله عليه وسلم، كما يزعم نبيا، فلم يعذبه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. المناسبة: بعد بيان اعتراضات المشركين وأقاويلهم الباطلة، وأوجه تعنتهم، كطلب إنزال الملائكة أو رؤية الله، وتكذيب القرآن ووصفه بالأساطير، أوضح الله

التفسير والبيان:

تعالى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم ضاق صدره واشتكاهم إلى ربه بأن قومه هجروا القرآن. التفسير والبيان: وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي شكى الرسول إلى ربه سوء أفعال المشركين وأقوالهم الساقطة قائلا: يا ربّ، إن قومي قريشا تركوا الإصغاء لهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، وأعرضوا عن استماعه واتباعه، فكانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما حكى تعالى عنهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت 41/ 26] فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعونه، فهذا من هجرانه، وكذلك ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو من هجرانه، كما قال ابن كثير «1» . وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ هذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما يلقى من قومه من الأذى والصدود والإعراض، أي لا تحزن يا محمد، فتلك سنة الله في خلقه، فكما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك الأباطيل، ويهجرون القرآن، جعلنا لكل نبي من أنبياء الأمم الماضين أعداء من المشركين الظالمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام 6/ 112] فاصبر كما صبروا، وامض في تبليغ رسالتك. قال ابن عباس: كان عدو النبي صلّى الله عليه وسلم أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى. لكن النصر والغلبة للرسول صلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:

_ (1) تفسير القرآن العظيم: 3/ 317

الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً أي وكفى بالله ربك هاديا لك إلى الحق، وهاديا من اتبعك وآمن بكتابك وصدقك إلى مصالح الدين والدنيا، وناصرك على أعدائك في الدنيا والآخرة. وقد قرن الله تعالى بين الهداية والنصر لأن الأولى سبيل لتحقيق نصر المؤمنين على الكافرين، وكان المشركون يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد بالرسول صلّى الله عليه وسلم، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن، وللحفاظ على قوة التفوق والغلبة، وإبقاء ميزان القوى راجحا في صالحهم. الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: بعد بيان شكوى الرسول صلّى الله عليه وسلم قومه إلى ربه، حكى الله تعالى شبهة أخرى للمشركين أهل مكة فقال: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوانُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي أضاف المشركون أهل مكة لطعنهم السابق في القرآن بأنه إفك مفترى وأنه أساطير الأولين، أضافوا شبهة أخرى هي قولهم: إذا كنت تزعم أنك رسول من عند الله، أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة، كما أنزلت التوراة جملة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؟ ومعنى الآية: لو كان القرآن من عند الله حقا، فهلا أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم جملة واحدة، كما نزلت الكتب الإلهية المتقدمة. فأجابهم الله تعالى عن ذلك بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي أنزلناه كذلك مفرقا، وأتينا به شيئا بعد شيء وقرأناه على لسان جبريل في مدى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام.

والحكمة أو الفائدة من ذلك متنوعة وكثيرة أهمها ما يأتي «1» : أ- تثبيت قلب النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بشريعة الله، والعون على حفظ القرآن وفهمه، وتطبيق أحكامه بنحو دقيق وشامل لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان أميا، وكانت أمته أمية، لا يعرفون القراءة والكتابة، فلو نزل القرآن جملة واحدة، لصعب عليهم ضبطه، وجاز عليهم السهو والغلط. ثم إن مشاهدة النبي صلّى الله عليه وسلم جبريل وقتا بعد وقت مما يقوي عزيمته، ويحمله على الصبر في تبليغ الرسالة وتصحيح المسيرة، والصمود في وجه التحديات واحتمال أذى قومه، ومتابعة جهاده. ب- دفع الحرج عن المكلفين بتكليفهم بأحكام كثيرة مرة واحدة: فلو طولب المؤمنون بتحمل أعباء الشريعة دفعة واحدة، فربما وقعوا في الحرج والمشقة، وصار التنفيذ أمرا صعبا غير سهل ولا يسير. ج- مراعاة مبدأ التدرج في التشريع: فقد كانت العادات والتقاليد الموروثة، والأعراف العامة مسيطرة في بيئة العرب وغيرهم من الأمم، فلو طولبوا بالإقلاع عما تحكمت فيهم العادات، لنفروا وأعرضوا وقالوا جميعا: لا نترك هذا الأمر، فكان من الحكمة والمصلحة والنجاح في التربية، وتغيير تلك العادات المستحكمة أو المألوفة أن ينزل القرآن منجّما، ويتدرج في الأحكام من مرحلة إلى أخرى، تتهيأ بها النفوس لقبول الحكم النهائي. د- معالجة الوقائع والطوارئ والأحداث وإجابة الأسئلة بما هو الأنسب والأوفق: فلو كان التشريع دفعة واحدة، سواء فيما يتعلق بحالة السلم أو حالة الحرب، لانكشفت الخطة، ودبر الأعداء المكايد لتحقيق الغلبة على المسلمين، وهان على أهل الحيلة والمكر التشكيك في مدى صلاحية حكم تشريعي ما. ثم أبان تعالى تأييد نبيه بالوحي وإبطال حجج المشركين فقال:

_ (1) انظر وقارن تفسير الرازي: 24/ 79 [.....]

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي لا يأتيك هؤلاء المشركون المعاندون بحجة أو شبهة، ولا يقولون قولا يعارضون به الحق، والتشكيك في نبوتك إلا أجبناهم بما هو الحق الثابت الذي يدحض قولهم، ويبطل حجتهم، ويكون أصدق في الواقع، وأبين وأوضح وأفصح مما يقولون، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] . وبعد وصف القوم المتعنتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأوصاف كاذبة، أورد الله تعالى وصفهم يوم القيامة بما يدل على سوء حالهم في معادهم وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات، فقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ، أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي إن أولئك المشركين المفترين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذين يسحبون على وجوههم إلى جهنم إذلالا وخزيا وهوانا، ويساقون إليها بالسلاسل والأغلال، هم شر مكانا وهو جهنم من أهل الجنة، وأضل سبيلا وطريقا عن الحق. والمقصود منه الزجر عن طريقهم، كما في قوله تعالى المتقدم: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فلا يراد من ذلك المفاضلة، وإنما بيان سوء حال أهل النار، وحسن حال أهل الجنة، ولفت نظر الكفار إلى أن مكانهم شر من مكان المؤمنين، وسبيلهم أضل من سبيل المسلمين. جاء في صحيح البخاري عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: «إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم،

فقه الحياة أو الأحكام:

قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ترك المشركون والكفار القرآن في أوضاع متعددة، إما بعدم الاستماع والإصغاء إليه، وإما بترك تدبره وتفهمه، وإما بترك الإيمان به وعدم تصديقه، وإما بترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإما بالعدول عنه إلى غيره من أنظمة الجاهلية والكفار أمثالهم. روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من تعلّم القرآن، وعلّق مصحفه، لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، إن عبدك هذا اتخذني مهجورا، فاقض بيني وبينه» . وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع: أحدها- هجر سماعه والإيمان به، والثاني- هجر العمل به وإن قرأه وآمن به، والثالث- هجر تحكيمه والتحاكم إليه، والرابع- هجر تدبره وتفهم معانيه، والخامس- هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وكل هذا داخل في قوله تعالى: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. 2- ما من حق إلا ويقابله باطل، وما من مصلح صادق إلا وله أعداء، وكما جعل الله لنبيه محمد عدوا من مشركي قومه كأبي جهل وأمثاله، جعل لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فما على المحق والمصلح إلا الصبر كما صبر الأنبياء المتقدمون، والله هاد أهل الحق والصلاح، وناصرهم على كل من ناوأهم.

3- استدل أهل السنة بآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ... على أنه تعالى خالق الخير والشر لأن ذلك القول يدل على أن تلك العداوة من جعل الله، وتلك العداوة كفر. 4- طلب كفار قريش أو اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا أن ينزل على محمد جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود. والتغاير في طريقة الإنزال له معنى وحكمة. 5- إن نزول القرآن مفرقا لتقوية قلب النبي صلّى الله عليه وسلم في تحمله ووعيه لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، فتفريقه ليكون أوعى للنبي صلّى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب. وقد ذكرت تلك الفوائد والحكم في أثناء التفسير للآية. وقوله تعالى: كَذلِكَ إما من قول المشركين أي كالتوراة والإنجيل، فيوقف على كَذلِكَ ثم يبتدأ بقوله: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ويجوز الوقف على قوله: جُمْلَةً واحِدَةً ثم يبتدأ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير. وقال النحاس: والأولى أن يكون التمام جُمْلَةً واحِدَةً لأنه إذا وقف على كَذلِكَ صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور، ولم يتقدم لها ذكر. وهذا موافق لرسم القرآن. 6- نزل القرآن مرتلا مرسلا، أي شيئا بعد شيء. 7- إن الله تعالى مؤيد رسوله وهاديه وناصره، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة، ثم سألوه عن أمر، لم يكن عنده ما يجيب به، فإذا كان مفرقا ثم سألوه أجاب بوحي من عند الله. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة لأنهم

قصص بعض الأنبياء وعقوبات مكذبيهم [سورة الفرقان (25) الآيات 35 إلى 40] :

لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم. ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى تنبيه الناس إلى ما فيه الخير والحكمة والصواب. 8- أهل النار وهم الكفار يحشرون إليها على وجوههم إما حقيقة كما تقدم، وإما أن القصد الذل والخزي والهوان، وإما الدلالة على الحيرة في طريق الذهاب. وهم في شر مكان لأنهم في جهنم، وأضل دينا وطريقا. قصص بعض الأنبياء وعقوبات مكذبيهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) الإعراب: وَقَوْمَ نُوحٍ قَوْمَ منصوب عطفا على الهاء والميم في فَدَمَّرْناهُمْ أو بتقدير فعل يفسره أَغْرَقْناهُمْ أي أغرقنا قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم، أو بتقدير فعل «اذكر» . وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بالعطف على قَوْمَ نُوحٍ إذا نصب بتقدير «اذكر» أو بالعطف على فَدَمَّرْناهُمْ. ولا يجوز العطف على وَجَعَلْناهُمْ.

المفردات اللغوية:

وَكُلًّا ضَرَبْنا كُلًّا منصوب بفعل تقديره: أنذرنا كلا لأن ضرب الأمثال في معنى الإنذار، فجاز أن يكون تفسيرا ل «أنذرنا» . وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً كُلًّا منصوب بتبرنا، وتَتْبِيراً مصدر مؤكد. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَزِيراً معينا يؤازره في الدعوة إلى الله وإعلاء كلمته، ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، لتآزرهما في الأمر. والوزير: من يستعان برأيه ويستشار في الأمور، يقال: وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره ويعينه في أعباء الملك أو الرئاسة إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هم فرعون وقومه القبط فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أهلكناهم إهلاكا، وفيه محذوف تقديره: فذهبا إليهم فكذبوهما. وَقَوْمَ نُوحٍ أي واذكر لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا وغيره، أو نوحا وحده لأن تكذيبه تكذيب لباقي الرسل لاشتراكهم في الدعوة إلى التوحيد أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وهو جواب لمّا وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ بعدهم أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم للناس آيَةً عبرة وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أعددنا في الآخرة للكافرين عذابا مؤلما، سوى ما يحل بهم في الدنيا. والجملة إما للتعميم، وإما للتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع الضمير. وَعاداً أي واذكر عادا قوم هود وثمود أو: وثمودا: قوم صالح، فهو إما ممنوع من الصرف على أنه اسم قبيلة، وإما مصروف على أنه الحي أو اسم الأب الأكبر وَأَصْحابَ الرَّسِّ هم قوم كانوا يعبدون الأصنام ولهم آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا، وقيل: غيره، فكذبوه، فبينا هم حول الرّس: وهي البئر غير المطوية (غير المبنية) قعودا، انهارت بهم وبمنازلهم، جمع رساس. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ أقواما بين ذلك المذكور، بين عاد وأصحاب الرس. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ في إقامة الحجة عليهم، فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أهلكنا إهلاكا بتكذيبهم أنبياءهم. وَلَقَدْ أَتَوْا أي مرّ كفار مكة أثناء تجارتهم إلى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ هي سدوم عظمي قرى قوم لوط، فأهلك الله أهلها لفعلهم الفاحشة، بمطر مصحوب بالحجارة. والسوء: مصدر ساء أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في أثناء سفرهم إلى الشام، فيعتبروا ويتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله. والاستفهام للتقرير. بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي بل كانوا كفرة لا يخافون بعثا، فلا يؤمنون ولا يتعظون.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان شبهات المشركين حول القرآن والنبوة والبعث، ذكر الله تعالى قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وما نزل بهم من عذاب بسبب تكذيبهم الرسل، ليعتبر هؤلاء المشركون، ويحذروا ما حلّ بمن سبقهم من الأمم الماضية من أليم العقاب، إذا بقوا على كفرهم وعنادهم، وذكر تعالى أربعة قصص هي ما يأتي: القصة الأولى- قصة موسى وهارون عليهما السلام: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً بدأ تعالى بذكر موسى، فقال: وتالله لقد آتينا موسى التوراة، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له، أي نبيا مؤازرا ومعينا وناصرا. ونبوة هارون ثابتة في آية أخرى هي قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم 19/ 53] لكنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام، وهو تابع له فيها، لذا أمر الاثنان بتبليغ رسالتهما في قوله تعالى: فَقُلْنَا: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي فقال الله تعالى آمرا موسى وهارون: اذهبا إلى فرعون وقومه لتبليغ الرسالة وهي إعلان الوحدانية والربوبية لله عز وجلّ، فلا إله غيره، ولا معبود سواه، فلما ذهبا كذبهما فرعون وجنوده، كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى [النازعات 79/ 17- 21] وقال سبحانه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي، وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي، اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى، قالَ: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 42- 46] . فلما كذب فرعون وقومه برسالة موسى وأخيه هارون، ولم يعترفوا بوحدانية

القصة الثانية - قصة نوح عليه السلام:

الله تعالى، أهلكهم الله إهلاكا، كما قال: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمّد 47/ 10] . فانظروا يا كفار مكة عاقبة الكفر وتكذيب الرسل. القصة الثانية- قصة نوح عليه السلام: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي واذكر يا محمد لقومك ما فعله قوم نوح حين كذبوا رسولهم نوحا عليه السلام الذي مكث فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من عقابه ونقمته ألف سنة إلا خمسين، فما آمن به إلا قليل، فأغرقناهم بالطوفان، وجعلناهم عبرة وعظة للناس يعتبرون بها، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] . وقوله كَذَّبُوا الرُّسُلَ قصد به تكذيب نوح عليه السلام، على أساس أن من كذب رسولا واحدا، فقد كذب بجميع الرسل إذ لا فرق بين رسول ورسول، فدعوتهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام واحدة، ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول، فإنهم كانوا يكذبون. ثم عمّم تعالى الحكم فقال: وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي وأعددنا وهيأنا عذابا مؤلما في الآخرة لكل ظالم كفر بالله، ولم يؤمن برسله، وسلك سبيلهم في تكذيب الرسل. وفي هذا تهديد لكفار قريش أنه سيصيبهم من العذاب مثلما أصاب قوم نوح. القصة الثالثة- قصة عاد وثمود وأصحاب الرّس: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ أي واذكر أيها الرسول أيضا لقومك قصة عاد الذين كذبوا رسولهم هودا، وقصة قبيلة ثمود الذين كذبوا رسولهم صالحا، وقصة أصحاب الرس أي البئر وهم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية،

القصة الرابعة - قصة لوط عليه السلام:

بعث الله لهم شعيبا وقيل غيره، فدعاهم إلى توحيد الله والإيمان به وبرسالته، فكذّبوه، فبينا هم حول البئر قعود، خسف الله بهم وبمنازلهم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرسّ: هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي واذكر لهم أمما كثيرة بين قوم نوح وعاد وأصحاب الرس، لما كذبوا الرسل، أهلكناهم جميعا. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ، وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي وكل واحد من هؤلاء الأقوام بيّنا لهم الحجج، وأوضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، فلم يؤمنوا وإنما كذّبوا، بالرغم من الرد على كل الشبهات والاعتراضات، فأهلكناهم إهلاكا شديدا، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء 17/ 17] . والقرن في الأظهر: هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهو قرن آخر، كما ثبت في الصحيحين: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» . والتتبير: التفتيت والتكسير. القصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي ذكّر مشركي مكة بعبرة أخرى، وهي أنهم والله لقد مروا أثناء تجارتهم إلى الشام في رحلة الصيف على سدوم أعظم قرى قوم لوط التي أهلكها الله بالقلب (جعل عاليها سافلها) وبالمطر المصحوب بالحجارة من سجّيل، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء 26/ 173] لارتكابهم الفاحشة. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي أفلم يروا ما حلّ بتلك القرية من عذاب الله ونكاله، بسبب تكذيبهم بالرسول، وبمخالفتهم أوامر الله، إنهم فعلا يرون ذلك، ولكنهم لم يعتبروا، ومنشأ عدم العظة والعبرة

فقه الحياة أو الأحكام:

وتكذيب النبي محمد صلّى الله عليه وسلم أنهم قوم لا يخافون أو لا يتوقعون نشورا، أي معادا يوم القيامة. وهذا تأكيد لما قال تعالى سابقا في هذه السورة نفسها: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [11] فإن عدم الخوف من اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب هو السبب الجوهري في الإعراض عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ورجح الرازي أن الرجاء في قوله تعالى لا يَرْجُونَ نُشُوراً على حقيقته لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف إلا لرجاء ثواب الآخرة، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها، فلا يتحمل تلك المتاعب. فقه الحياة أو الأحكام: الغرض من إيراد هذه القصص هنا واضح، وهو تحذير المشركين من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلم، فيحل بهم من العذاب، كما حلّ بالأمم الماضية المكذبين رسل الله. فالقصة الأولى- قصة موسى وأخيه هارون عليهما السلام، كان معهما التوراة، وأمرا بالذهاب إلى فرعون وقومه من أقباط مصر لدعوتهم إلى الإيمان بوجود الله، والإقرار بوحدانيته، فكذبوا بآيات الله الدالة على صدق النبوة والتوحيد، فدمرهم الله تدميرا، وأهلكهم إهلاكا شديدا بالإغراق في البحر. والقصة الثانية- قصة نوح عليه السلام مع قومه الذي مكث يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام زمنا هو ألف سنة إلا خمسين، مما لم يمكث فيه نبي مع قومه مثل هذا، فبعد أن كذبوه ويئس من إيمانهم، أغرقهم الله جميعا بالطوفان، وجعلهم للناس آية أي علامة ظاهرة على قدرته، وأعدّ لهؤلاء المشركين من قوم نوح ولكل ظالم عذابا شديد الألم في الآخرة، ونجّى الله الذين آمنوا مع نوح في السفينة.

وقوله: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ذكر الجنس، وأراد به نوحا وحده لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده، فنوح إنما بعث ب «لا إله إلا الله» وبالإيمان بما ينزل الله تعالى، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. والقصة الثالثة- قصة عاد وثمود وأصحاب الرس وأقوام آخرين مما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، أنذروا جميعا، وضربت لهم الأمثال الحقة، وبيّنت لهم الحجة، فأبوا الإيمان، وكذبوا الرسل، فأهلكهم الله بالعذاب ودمرهم تدميرا. والرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية. وأصحاب الرسّ كما عرفنا كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام، فدعاهم إلى الإسلام، فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه، فبينما هم حول الرس، خسف الله بهم وبدارهم. وقيل: الرس: قرية باليمامة قتلوا نبيهم، فهلكوا، وهم بقية ثمود. والقصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام مع قومه في قرية سدوم إحدى قرى قوم لوط الخمس، دعاهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام، والتطهر من الفاحشة، فأصروا على ما هم عليه لأنهم لا يصدقون بالبعث، أو لا يرجون ثواب الآخرة، فأهلكهم الله بمطر السوء، أي بالحجارة من السماء، وكان مشركو مكة يمرون في أسفارهم بتلك المدائن، ومع ذلك لم يعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط، كما قال الله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ [الصافات 37/ 137] وقال: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر 15/ 79] . وقد أهلك الله تعالى أربعا من قرى قوم لوط بأهلها، وبقيت واحدة.

استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم وتسمية دعوته إضلالا [سورة الفرقان (25) الآيات 41 إلى 44] :

استهزاء المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلم وتسمية دعوته إضلالا [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) الإعراب: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً إِنْ بمعنى «ما» أي ما يتخذونك إلا ذا هزء أو موضع هزء أو مهزوءا به، مثل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي ما الكافرون إلا في غرور. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكي بعد قول مضمر تقديره: قائلين: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. وأَ هذَا مبتدأ، والَّذِي خبره، ورَسُولًا إما منصوب على الحال وهو الأولى، أو على المصدر، بجعل رَسُولًا بمعنى «رسالة» مثل قول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول أي برسالة. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا إِنْ هنا عند البصريين مخففة من الثقيلة، تقديره: ما كاد إلا يضلّنا. البلاغة: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا الاستفهام للاستهزاء والتهكم، والإشارة للاستحقار. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب، وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به، والأصل: اتخذ هواه إلها له، بأن أطاعه وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا هناك محذوف تقديره: يقولون، أو قائلين: أهذا الذي بعث الله رسولا في دعواه، والاستفهام للاستهزاء والتقدير، والإشارة للاستحقار وعدم تأهله للرسالة في زعمهم. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا ... يصرفنا وإِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي إنه قارب إضلالنا، وصرفنا عن آلهتنا بفرط اجتهاده في الدعوة إلى التوحيد، لولا أننا ثبتنا على عبادة آلهتنا. وهذا اعتراف صريح من المشركين بأن محمدا بلغ الغاية في الدعوة إلى ربه. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ عيانا في الآخرة، وهذا كالجواب عن قولهم: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا فإنهم نسبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الضلال، وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه، وإن طالت مدة الإمهال، ولا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير، وسينزل بهم العقاب ويعرفون حينئذ من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون؟! أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أخبرني عمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا وَكِيلًا حافظا تحفظه عن اتباع هواه أي مهويه، وتمنعه عن الشرك والمعاصي، وحاله هذا؟ لا، فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني للإنكار. أَمْ تَحْسَبُ بل أتحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع تفهم أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقول لهم، فتجديهم الآيات أو الحجج، فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي ما هم إلا كالسوائم في عدم انتفاعهم بقرع الآيات بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا منها لأنها تنقاد لمن يتعهدها بالرعاية، وهم لا يطيعون مولاهم وخالقهم المنعم عليهم بنعم كثيرة، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار. سبب النزول: نزول الآية (41) : روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان مواقف المشركين في إنكار نزول القرآن من الله، والطعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعدم الإيمان برسالته، وإيراد الشبهات الواهية حول ذلك، أبان الله تعالى إسرافهم في الشطط والغلو والاستعلاء، وإساءتهم لهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم بالاستهزاء به، والاستهانة بشخصه، والحط من قدره، متهكمين على اختياره للبعثة النبوية، ومغالين في ذلك حتى سموا دعوته إضلالا، ولجؤوا إلى التحذير من تأثير تلك الدعوة القوية والآيات والحجج البالغة التي شارفت أن تجرفهم إلى الإيمان، وترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا ثباتهم على الوثنية، واستمساكهم بعبادة آلهتهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلّى الله عليه وسلم وتعييره بالعيب والنقص، فيقول: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي إذا رآك أيها النبي المشركون الذين كفروا بالله ورسوله، ما يتخذونك إلا موضع هزء وسخرية، أو مهزوءا به، مقارنة بما هم عليه من العزة والسيادة والغنى، وما أنت عليه من الفقر واليتم والمسكنة. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ويقولون على سبيل التنقص والازدراء: أهذا المبعوث من عند الله رسولا إلينا؟ كما قال تعالى في شأن غيره: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام 6/ 10] . قبحهم الله، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا المثل الأعلى للأنبياء وللبشر قاطبة في مشيه وسلوكه وتصرفاته وأخلاقه وفكره ومنطقه العذب، ولكنه العناد في

الأول:

الكفر الذي يصر أهله على تدليس الحقائق وطمس الفضائل، وهم في أصائل قلوبهم يرون الحقيقة ويظهرون غيرها، بدليل قولهم الآتي: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي قارب محمد أن يثنيهم عن عبادة الأصنام، ويحملهم على ترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على ما هم عليه، وتمسكوا بالوثنية والأسطورة والخرافة التي لا يقبل بها عاقل رشيد. وفي هذا دلالة واضحة على تناقضهم وإظهارهم خلاف ما يعتقدون من الحقيقة لأنهم عرفوا محمدا الصادق الأمين الراجح العقل في غضون أربعين عاما من العمر قبل النبوة، ولم يوجهوا له يوما ما أي طعن أو نقد، وإنما على العكس كان محل احترام وإجلال من جميع قومه، كما هو معروف. ثم إن في هذا القول اعترافا ضمنيا بقوة تأثير محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم، بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام بحجج بالغة وأدلة دامغة، حتى إنهم شارفوا مفارقة دينهم إلى الإسلام، لولا المكابرة والعناد والاستكبار والغلو، فراحوا يقولون بأن صنيعه إضلال. وبعد أن حكى الله تعالى كلامهم زيّف طريقتهم وسفه آراءهم من وجوه ثلاثة: الأول: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا هذا وعيد شديد لهم وتهديد على التعامي عن الحق والإعراض عن الاستدلال والنظر، وعلى وصفهم له بالإضلال، فإنهم حين يشاهدون العذاب الذي لا مفرّ لهم منه يدركون من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون وهو صلّى الله عليه وسلم قائدهم، ومن الضّال ومن المضلّ؟ الثاني: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وهذا تنبيه على

الثالث:

عدم الفائدة من دعوة من سيطرت عليه الأهواء إلى الدين الحق، فانظر فيمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، واستولى عليه التقليد، وصمّ أذنه عن سماع الدليل المقنع والبرهان الساطع، فكل ما زين له الهوى شيئا انقاد له، وحينئذ لن تستطيع منعه من الشرك والمعاصي، ولن تكون مستطيعا دعوته إلى الهدى ولا وليا حافظا على شؤونه لتقمعه عن الضلال، وترشده إلى الهدى والصواب فما استحسنه بهواه جعله دينه ومذهبه، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ الآية [فاطر 35/ 8] . قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني، وترك الأول. وهذا دليل على ألا حجة لهم في عبادة الأصنام إلا التقليد واتباع الأهواء، ولا يرشد إلى طريقهم فكر ولا عقل سليم. ونظير الآية قوله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 22] ، وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق 50/ 45] ، وقوله عزّ وجلّ: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة 2/ 256] . الثالث: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وهذا ذمّ أشد مما سبق، لذا عبر عنه بقوله أَمْ أي بل للإضراب عما سبق إليه، والمعنى بل أتظن أن أكثرهم يسمعون سماع تدبر وفهم، أو يتعقلون ويفكرون فيما تتلو عليهم، وترشدهم إليه من الفضائل والأخلاق الحميدة، فتجهد نفسك في إقناعهم بدعوتك، ونقلهم إلى العقيدة الصحيحة، فما حالهم إلا كالأنعام السائمة، بل هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة، وأخطأ طريقا منها، فإن تلك البهائم تفعل ما هو خير لها ونفع، وتتجنب ما هو ضارّ

فقه الحياة أو الأحكام:

بها وخطر عليها، أما هؤلاء فلا يقدّرون مصلحتهم حق التقدير، فتراهم متهورين في المعاصي، قاذفين أنفسهم في المهالك، لا يشكرون نعمة الخالق عليهم ولا يعرفون إحسانه، وإساءة الشيطان لهم، ولا يفعلون ما يحقق لهم الثواب الأخروي، ولا يتجنبون ما يؤدي بهم إلى العقاب والعذاب. والسبب في قوله أَكْثَرَهُمْ لا الكل أن بعضهم عرف الله تعالى وعلم أن الإسلام حق، لكنه لم يعلن إسلامه لمجرد حب الرياسة. وهذا دليل على فقدهم الإدراك الصحيح والوعي السليم، وتعطيلهم طاقات الحواس والمواهب الإلهية التي لو فكروا بموجبها دون تأثر بعصبية، أو تقليد موروث، أو هوى متبع كحب الزعامة والسيطرة، لانقادوا إلى رسالة الحق والتوحيد، وآمنوا بدعوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- اتّخذ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم موضع استهزاء وسخرية، فهل بعد هذا من جرم أفظع منه وأشنع؟ 2- دلّ قوله تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا.. على أمور: هي أنهم سمّوا ذلك إضلالا، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم بلغ أقصى الجهد والاجتهاد في صرفهم عن عبادة الأوثان، وأنهم لم يعترضوا على دلائل النبوة إلا بمحض الجحود والتقليد، وأن القوم أقروا بقوة حجته صلّى الله عليه وسلم وكمال عقله، لكنهم طاشوا كالمجانين، فاستهزؤوا به، وذلك فعل الجاهل العاجز المتحير في أمره. 3- كان الرد الحاسم من الله على قبائح المشركين هذه من وجوه ثلاثة:

أولها:

أولها: أنهم حين مشاهدة العذاب يدركون من أضل دينا أهم أم محمد؟ ثانيها: أنهم لجهالتهم وإعراضهم عن آيات الله اتخذوا أهواءهم آلهة، فأصروا على الشرك، وقلدوا آباءهم، مع إقرارهم بأن الله خالقهم ورازقهم، وعبدوا الأحجار من غير حجة. ثالثها: أن أكثرهم لا يسمعون سماع قبول أو يفكرون فيما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيعقلونه، أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع، وما هم إلا كالأنعام لا يفكرون في الآخرة، بل هم أضل إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام. 4- دلّ قوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، على أن الهداية والضلالة ليستا موكولتين إلى مشيئة النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما عليه التبليغ. والآية تسلية له عن تركهم الإيمان وإعراضهم عن دعوته. أدلة خمسة على وجود الله وتوحيده [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)

الإعراب:

الإعراب: وَأَناسِيَّ معطوف على أَنْعاماً وواحده (أنسي) أو (إنسان) . قال الفراء والزجاج: الأنسي والأناسي كالكرسي والكراسي. وقال الزمخشري: الأناسي: جمع أنسي أو إنسان. البلاغة: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تشبيه بليغ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه، أي كاللباس الساتر. جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً مقابلة بين الليل والنهار، والنوم والتقلب في المعاش. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة، استعار اليدين لما هو أمام الشيء وقدّامه. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ التفات من الغيبة: أَرْسَلَ الرِّياحَ إلى التكلم للتعظيم والامتنان. هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ بينهما مقابلة، أي في نهاية العذوبة ونهاية الملوحة. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ ألم تنظر. إِلى رَبِّكَ إلى صنعه وفعله. مَدَّ الظِّلَّ بسطه، والظل: خيال الأشياء المادية ذات الجسم كجبل أو بناء أو شجر من حين طلوع الشمس حتى غروبها. وهو دليل الحدوث وتصرف الله فيه على الوجه النافع، مما يدل على أن ذلك فعل الصانع الحكيم. وَلَوْ

شاءَ ربك. ساكِناً ثابتا مقيما على حاله في القدر، فلا يزول ولا تذهبه الشمس بأن يجعل الشمس قائمة على وضع واحد. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي جعلنا الشمس علامة على الظل، فلولا الشمس ما عرف الظل. ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي أزلنا الظل ومحوناه بإيقاع الشعاع عليه تدريجيا قليلا قليلا شيئا فشيئا بمعدل سير الشمس في فلكها وبمقدار ارتفاعها. لِباساً جعل ظلام الليل ساترا كاللباس. سُباتاً راحة لأبدانكم بقطع الأعمال والمشاغل، من السبت وهو القطع. نُشُوراً ذا نشور، أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش وابتغاء الرزق، أو بعثا من النوم بعث الأموات. بُشْراً مبشرات. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدّام المطر، وقرئ: نشرا أي متفرقة قدّام المطر، جمع نشور كرسول ورسل. طَهُوراً مطهرا يتطهر به، لقوله تعالى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال 8/ 11] وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما يوقد به. وتطهير الظواهر دليل على تطهير البواطن. بَلْدَةً مَيْتاً أي لا نبات فيها، والميت يستوي فيه المذكر والمؤنث، وذكّر ميتا باعتبار المكان، أي لأن البلدة في معنى البلد. والفرق بين الميت بالتخفيف، والميّت بالتشديد أن الأول لمن مات حقيقة، والثاني لمن سيموت. وَنُسْقِيَهُ أي الماء. أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم. وَأَناسِيَّ كَثِيراً هم الناس، جمع أنسي. والمراد: أنعاما كثيرة وبشرا كثيرين لأن فعيل يراد به الكثرة. صَرَّفْناهُ أي الماء بمعنى فرقناه وحولناه من جهة إلى أخرى، ومنه: تصريف الأمور. لِيَذَّكَّرُوا أي يتذكروا نعمة الله به ويعتبروا. كُفُوراً كفران النعمة وإنكارها وقلة الاكتراث بها، حيث قالوا: مطرنا بنوء كذا أي سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما، ما عدا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع لأنه في سلطانه، وجمعه أنواء. نَذِيراً نبيا ينذر أهلها ويخوفهم، ولكن بعثناك إلى أهل القرى كلها نذيرا، ليعظم أجرك. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ في هواهم وفيما يريدون منك وهو تهييج له وللمؤمنين. وَجاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن أو بترك طاعتهم الذي يدل عليه. فَلا تُطِعِ والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. جِهاداً كَبِيراً لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان. فُراتٌ مفرط العذوبة. مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة. بَرْزَخاً حاجزا. وَحِجْراً مَحْجُوراً تنافرا بليغا شديدا أو حدا محدودا. نَسَباً وَصِهْراً أي ذوي نسب وهم الذكور الذين ينسب إليهم، والصهر: أي ذوي صهر وهم الإناث اللائي يصاهر بهن.

المناسبة:

المناسبة: لما بيّن الله تعالى جهل المعرضين عن أدلة التوحيد ومناقشتهم وفساد تفكيرهم في ذلك، ذكر خمسة أدلة دالة بنحو قاطع حسا وعقلا على وجود الصانع الحكيم، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة. التفسير والبيان: أورد الحق تعالى أدلة خمسة على وجوده وقدرته من الظواهر الكونية التي يدركها ويشاهدها عيانا كل مخلوق وهي خلق الظل، والليل والنهار، والرياح والأمطار، والبحار المالحة والعذبة، والإنسان من الماء، وهي ما يلي: 1- أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ألم تنظر أيها الرسول وكل سامع إلى صنع ربك الذي يدل على كمال قدرته ومنتهى رحمته كيف بسط الظل، يتفيأ به الناس طوال النهار، وينعمون فيه بالوقاية من شدة حر الشمس، من طلوع الشمس إلى غروبها. ولو شاء لجعله ثابتا دائما على حال واحدة لا يتغير طولا وقصرا، وإنما جعله متفاوتا في ساعات النهار والفصول المختلفة، وفي ذلك فوائد كثيرة للإنسان والنبات والحيوان، ومن فوائده: اتخاذه مقياسا للزمن، حتى إن الفقهاء جعلوه علامة على بعض أوقات الصلاة، كالظهر عند الزوال، أي تحول الظل نحو المشرق وميل الشمس نحو المغرب، والعصر إذا بلغ ظل كل شيء مثله في رأي الجمهور، وعند أبي حنيفة: إذا بلغ ظل كل شيء مثليه. وهذا على تفسير أَلَمْ تَرَ برؤية العين، والأولى في رأي الرازي حمله على رؤية القلب، والمعنى: ألم تعلم لأن الظل من المبصرات ولكن تأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي.

ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي ثم جعلنا طلوع الشمس علامة على الظل، فلولا طلوعها لما عرف الظل فإن كل شيء يتميز بضده. وهذا يعني أن الله تعالى خلق الظل أولا، ثم جعل الشمس دليلا عليه. ثم أزلنا الظل وحولناه وغيرنا اتجاهه بضوء الشمس قليلا قليلا وشيئا فشيئا على مهل غير فجأة بحسب سير الشمس وارتفاعها، حتى لا يبقى على الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة، وقد أظلت الشمس ما فوقه. وفي إيجاد الظل وتغيره بعد شروق الشمس إلى غروبها، وانتقاله من حال إلى حال، وقبضه وبسطه، والتصرف فيه على وفق الحكمة دليل واضح على وجود الإله القادر، الخبير البصير، العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم. 2- وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، وَالنَّوْمَ سُباتاً، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي والله هو الذي جعل ظلام الليل ساترا كاللباس، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل 92/ 1] وجعل النوم كالموت قاطعا للحركة، توفيرا لراحة الأبدان والحواس والأعضاء، بعد إجهاد النهار، وعناء العمل، فبالنوم تسكن الحركات وتستريح الأعصاب والأعضاء والبدن والروح معا. وجعل تعالى النهار مجالا للانتشار في الأرض، ينتشر فيه الناس لابتغاء الرزق وغيره، ويتوزعون فيه لمعايشهم ومكاسبهم. وكما أن النوم يشبه الموت، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر 39/ 42] فإن الانتشار واليقظة يشبه البعث، قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر. ونظير الآية قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص 28/ 73] .

وفي الليل وسكونه، والنوم وراحته، والنهار وحركته دليل واضح على وجود الإله الخالق القادر المتصرف في الكون، ففي ضوء النهار الحياة والبهجة والحركة والعمل، وفي الليل الهدوء والسكون وإعداد النفس للكد والكدح والجهاد، والله تعالى جعل لكل ظرف ما يناسبه تماما ويحقق المقصود على أكمل وجه. وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق، فيها إظهار لنعمته على خلقه لأن في ستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي تشبيه النوم واليقظة بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر. 3- وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي والله تعالى الذي يرسل الرياح مبشّرات بمجيء السحاب وهطول الأمطار. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً أي وأنزلنا مطرا من السماء، أي السحاب وجعلناه طاهرا مطهّرا، أي وسيلة يتطهر بها في تنظيف الأجسام والملابس والأشياء المختلفة، والانتفاع به في الطعام والشراب وسقي النباتات والحيوانات. والطهور: اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما يوقد به. روى الشافعي وأحمد وصححه، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الماء طهور لا ينجّسه شيء» . وروى أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لما سئل عن التوضؤ بماء البحر: «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته» . وقال سعيد بن المسيّب في هذه الآية: أنزله الله طهورا، لا ينجسه شيء. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي وأنزلناه لإحياء الأرض التي لا نبات فيها، وطال انتظارها للغيث، فتصبح بعد ريها مزدهرة بأنواع النبات والزهر والشجر، كما قال تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج 22/ 5] .

وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي وليشرب منه الحيوان والإنسان المحتاجان إليه أشد الحاجة لبقاء الحياة وسقي الزروع والأشجار، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى 42/ 28] . والخلاصة: ذكر الله تعالى لمنافع الماء أمرين: إحياء النبات، لقوله: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وإحياء الحيوان والإنسان لقوله: أَنْعاماً وَأَناسِيَّ. والسبب في تخصيص الإنسان والأنعام هنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء هو شدة الحاجة، فالطير والوحش تبعد في طلب الماء، وتصبر على فقده أكثر من الناس والحيوان الأهلي، فلا يعوزها الشرب غالبا. وتنكير الأنعام والأناسي، ووصفهما بالكثرة، لملاحظة أحوال الماشية البعيدة عن منابع الماء، وأهل البوادي الذين يعيشون بالمطر، أما أهل المدن والقرى فيقيمون عادة بقرب الأنهار ومنابع الماء، فهم في غنية عن المطر بشرب المياه المجاورة لهم. وقدم الأنعام وأخر الإنسان عن النبات والحيوان لشدة حاجة الحيوان وكونه عاجزا عن التعبير عن مراده، أما الإنسان فيتفنن في استخراج الماء بوسائل عديدة، ولأن الناس إذا ظفروا بما يسقي أرضهم ومواشيهم، فقد ظفروا أيضا بسقياهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم. وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي ولقد فرقنا المطر وحولناه من جهة إلى أخرى، فأمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب من مكان إلى آخر ليتذكروا نعمة الله ويعتبروا، فإن الحرمان من الشيء ثم الإفاضة به يذكّر بفضل الله ونعمته، فيوجب الشكر، ويدفع الإنسان إلى العظة والعبرة، ولكن أكثر الناس يأبون شكر النعمة، ويكفرون بها

ويجحدونها، وينسبون ذلك لغير الخالق الحقيقي، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، أي من النجوم الساقطة أو الطالعة، كما ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل: «أتدرون ماذا قال ربّكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب» . وفسر بعضهم قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ أي تصريف القرآن وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال، ليذكر الناس ويتعظوا، ومع ذلك كفر به كثيرون. وفي إنزال المطر والتحكم فيه من قبل الله دليل على وجوده وقدرته وحكمته، فإذا ما أحيا الله الأرض الميتة به، تذكر الناس أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات، وإذا ما حرم قوم المطر تذكروا أنما أصيبوا بالحرمان بذنب حدث منهم، فيقلعون عما هم عليه، ليتعرضوا إلى رحمة الله. وكما أن المطر نعمة ينبغي أن تذكر فتشكر، هناك نعمة عظمي على الإنسانية وهي إرسال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، فقال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية رسولا منذرا يخوف الناس من عذاب أليم لفعلنا، ولكنا بعثناك يا محمد إلى الثقلين: الجن والإنس، وإلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى 42/ 7] وقال: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وجاء في الصحيحين: «بعثت إلى الأحمر والأسود» أي إلى العجم والعرب. وفيهما أيضا: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وعموم البعثة لندّخر

لك أيها الرسول عظيم الثواب، وواسع الجزاء، فما عليك إلا الجهاد والصبر، ولا تأبه بإعراضهم عن دعوتك. لهذا قال: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً أي فلا تتبع الكفار فيما يدعونك إليه من مجاملة أو موافقة لآرائهم ومذاهبهم، وجاهدهم بكل سلاح مادي أو عقلي وهو القرآن جهادا شاملا لا هوادة فيه، متناسبا مع كل فرصة تنتهزها، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 73] . والجهاد الكبير: هو الذي لا يخالطه فتور. 4- وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أي والله الذي جعل البحرين المتضادين متجاورين متلاصقين لا يمتزجان، هذا ماء زلال عذب شديد العذوبة، وهذا مالح شديد الملوحة، ولكن لا يختلط أحدهما بالآخر، كأن بينهما حاجزا منيعا، وكأنهما ضدان مفترقان متنافران لا يجتمعان، ولا يصل أحدهما إلى الآخر، فهما في مرأى العين واحد، ولكنهما في الحقيقة والواقع منفصلان، كما قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 19- 21] وقال: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل 27/ 61] . أي دليل آخر يدل على قدرة الله الباهرة غير مثل هذا الدليل؟ إن الماء ماء واحد، ولكن الماء العذب لا يختلط بالماء المالح، والله خلق الماءين: الحلو والملح، وجعل الأنهار والعيون والآبار حلوة، وهي البحر الحلو الفرات الزلال، وجعل البحار في المشارق والمغارب والمحيطات الخمس مالحة، وملوحتها سبب لنقاوتها وعدم فسادها، ويتجدد هواء البحر بالمد والجزر، فتستطيع الأسماك في قيعانه العيش بسلام.

فقه الحياة أو الأحكام:

5- وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أي والله سبحانه الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسواه وعدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكرا وأنثى كما يشاء، فقسمه قسمين: ذكورا تنسب إليهم الأنساب، وإناثا يصاهر بهن، كما قال: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة 75/ 39] وكان الله قديرا بالغ القدرة على كل شيء من هذا وغيره، يخلق ما يريد، وقد أبدع كل شيء خلقه، وأتقن كل ما في الوجود، وهو ما يزال كامل القدرة على الإبداع والخلق والتكوين. وختم الآية بإثبات القدرة هو مسك الختام. قال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه لأنه جمعه معه نسب وصهر. وقال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. وهذا دليل آخر على قدرة الله تعالى إذ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوده بطاقات الحس والعقل، والمعرفة والتفكير، وأقدره على مخلوقات الدنيا، وجعلها مذلّلة مسخرة لخدمته ونفعه، فسبحانه من إله بديع الخلق، عجيب الصنع، واهب الوجود، ومبدع الكون العجيب. فقه الحياة أو الأحكام: في هذه الآيات أدلة خمسة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وهي: أولا- خلق الظل المقابل للشمس وتمديده طوال النهار وانعدامه عند الظهيرة ما عدا سقف البيت والشجر، حكى أبو عبيدة عن رؤبة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. والظل نعمة عظمي للأحياء والعقلاء في كل مكان، لا سيما في البلاد الحارة، ففيه الراحة والهدوء، وتوقي الحر، أو الوقاية من ضربات الشمس الحادّة، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ [النحل 16/ 48] .

وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم، أي من رؤية القلب. والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلّى الله عليه وسلم فهو عام في المعنى. والشمس دليل على الظل لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، فالشمس دليل، أي حجة وبرهان. ويتفاوت طول الظل وقصره أثناء النهار تفاوتا سهلا يسيرا، شيئا فشيئا، والله هو الذي يقبضه بيسر وسهولة، وكل أمر ربنا عليه يسير. ثانيا- الليل ستر للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن، والنوم راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال، والنهار ذو نشور، أي انتشار للمعاش، فهو سبب الإحياء للانتشار. والنوم ليلا يشبه الإماتة، واليقظة نهارا تشبه البعث، وكان صلّى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» . ثالثا- الرياح مبشّرات بهطول المطر، تقود السحب من مكان إلى آخر، والأمطار الهاطلة حياة الأبدان والنباتات والحيوانات، وهي ماء طهور أي ما يتطهر به، والمراد أنه مطهر. وأجمعت الأمة على أن وصف (طهور) يختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات، وهي طاهرة. والمياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة، على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. والمخالط للماء ثلاثة أنواع: نوع يوافقه في صفتيه جميعا وهو التراب طاهر مطهر، ونوع يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيّره سلبه صلاحية التطهير وهو ماء الورد وسائر المائعات الطاهرات، ونوع يخالفه في الصفتين جميعا، وهو النجس. ويرى الجمهور أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، والكثير لا يفسده إلا

ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه من النجاسات. ويرى أبو حنيفة أنه إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته، كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت النجاسة فيه، فإن وقعت نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس. وميّز الشافعية بين القليل والكثير بمقدار القلتين (15 صفيحة) فإذا بلغ الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة، ولم تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فهو طاهر مطهر، وإذا غيرت أحد أوصافه، ولو تغيرا يسيرا فنجس لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر: «إذا بلغ الماء قلّتين، لم يحمل الخبث» أو «لم ينجس» قال الحاكم: على شرط الشيخين: البخاري ومسلم. ولا حدّ عند المالكية بين القليل والكثير، والمرجع فيه إلى العرف والعادة، فما هو قدر آنية الوضوء والغسل قليل يسير، وما يزيد عن ذلك كثير. ولا يضر تغير الماء بما في مقره وممره كزرنيخ وطحلب وورق شجر ينبت عليه. وكذلك لا يضر ما مات في الماء مما لا دم له، أو له دم سائل من دواب الماء، كالحوت والضفدع إن لم يغيّر ريحه. والماء المستعمل القليل في رفع حدث أو إزالة نجس طاهر مطهر عند المالكية، وطاهر غير مطهر عند الجمهور. ودليل المالكية: الآية التي وصفت الماء بالطهور والمطهر، والأصل في الثابت بقاؤه، والسنة وهو أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده، وأنه توضأ فأخذ من بلل لحيته، فمسح به رأسه، والقياس: وهو أنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا، فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا. ودليل الجمهور قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم «1» وهو جنب» ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى.

_ (1) الماء الدائم: هو الراكد الساكن.

والقياس وهو أن الصحابة كانوا يتوضئون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه، مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة. «1» والماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات: هو الماء الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كماء الورد، ولا يضره لون أرضه، كما بينا. ولا بأس في مذهب الجمهور أن يتوضأ الرجل بفضل ماء وضوء المرأة وتتوضأ المرأة من فضل ماء وضوء الرجل، سواء انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم أيضا. رابعا- أرسل الله البحرين: العذب والمالح، وجعلهما متجاورين متلاصقين لا يمتزجان ولا يختلطان، وجعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، وسترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ: الحاجز، والحجر: المانع. خامسا- خلق الله تعالى من النطفة إنسانا، وجعل من الإنسان صنفين: الذكر والأنثى، وجعل الذكر موضع نسبة النسب، والأنثى سببا للمصاهرة، وإيجاد قرابات جديدة، فكل من النسب والصهر قرابة ويعمان كل قربى بين آدميين. وتضمنت الآيات أيضا بالإضافة إلى الاستدلال بها على قدرة الله تعداد النعم على بني الإنسان من إيجاد الظل، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال الأمطار،

_ (1) تفسير الرازي: 24/ 92

جهل المشركين في عبادة الأوثان وتوجيه النبي وسبب جعل العبادة للرحمن [سورة الفرقان (25) الآيات 55 إلى 62] :

وخلق الماءين: الحلو والمالح، وتسخير البحار والأنهار لسير المراكب وتنقل الناس، وإيجاد الإنسان بعد العدم، والتنبيه على العبرة في كل ذلك. كما تضمنت الآيات بيان فضله تعالى في إنزال القرآن على تفسير التصريف بتصريف آيات القرآن وترداد الحجج والبينات فيه، وفي بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم لجميع العالم في الشرق والغرب، فهاتان هما النعمتان العظيمتان على بني الإنسان، وعلى التخصيص المسلمين. وإذا لم يكن النسب ثابتا شرعا لم تثبت حرمة المصاهرة، وعليه قال الجمهور: إذا لم يكن نسب شرعا، فلا صهر شرعا، فلا يحرّم الزنى بنت أم ولا أمّ بنت، ولا بنتا من الزنى، وما يحرّم من الحلال لا يحرّم من الحرام لأن الله امتنّ بالنسب والصهر على عباده، ورفع قدرهما، وعلّق الأحكام في الحل والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما. وقال الحنفية: تحرم البنت من الزنى أو الأخت أو بنت الابن من الزنى بسبب التولد من ماء الرجل. جهل المشركين في عبادة الأوثان وتوجيه النبي وسبب جعل العبادة للرحمن [سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 62] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)

الإعراب:

الإعراب: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ... أي على معصية ربه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ مِنْ في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وإِلى رَبِّهِ أي إلى قربة ربه، فحذف المضاف. وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفاك الله، فحذف المفعول الذي هو الكاف، والباء: زائدة، وخَبِيراً تمييز أو حال. الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الرَّحْمنُ: إما خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن، أو مبتدأ، وفَسْئَلْ بِهِ خبره، أو الخبر الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أو بدل من ضمير اسْتَوى. ويجوز النصب على المدح، والجر على البدل من الْحَيِّ وخَبِيراً: مفعول اسأل، وهو وصف لموصوف محذوف، تقديره: فاسأل به إنسانا خبيرا، والباء بمعنى (عن) مثل: فإن تسألوني بالنساء أي عن النساء. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ما: إما اسم موصول، والتقدير: للذي تأمرنا به، فحذف حرف الجر ثم الهاء العائدة إلى الاسم الموصول. وإما مصدرية، فلا يكون هناك شيء محذوف. المفردات اللغوية: وَيَعْبُدُونَ أي الكفار. ما لا يَنْفَعُهُمْ بعبادته. وَلا يَضُرُّهُمْ بتركها، وهو الأصنام. ظَهِيراً معينا للشيطان بالعداوة والشرك. مُبَشِّراً بالجنة. وَنَذِيراً مخوّفا من النار. أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ ما أرسلت به. إِلَّا مَنْ شاءَ أي لكن فعل من أراد. سَبِيلًا طريقا بإنفاق ماله في مرضاته تعالى، فلا أمنعه من ذلك، أو إلا من أراد أن يتقرب

إلى ربه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة. وفيه إشعار بأن الطاعة تعود على صاحبها بالثواب. وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ نزّهه عن صفات النقصان وصفه بصفات الكمال، قائلا: سبحان الله والحمد لله. خَبِيراً عالما بالظاهر والباطن. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي قدر ستة أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهن في لمحة واحدة، ولكنه عدل إلى ذلك لتعليم خلقه التثبت والتأني في الأمر والتدرّج. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استوى استواء يليق به على العرش الذي هو أعظم من خلق السموات والأرض وأعظم المخلوقات، وليس خلق العرش بعد خلق السموات لقوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود 11/ 7] . فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي اسأل بالرحمن أي عن الرحمن خبيرا يخبرك بصفاته. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ لكفار مكة أي قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، فهو الآمر بالسجود. لِما تَأْمُرُنا للذي تأمرنا به أي تأمرنا بسجوده. وَزادَهُمْ هذا القول نُفُوراً إعراضا عن الإيمان. تَبارَكَ تعاظم. بُرُوجاً منازل الكواكب السيارة الاثني عشر المعروفة وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، المجموعة في قول الشاعر: حمل الثور جوزة السّرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان ورمى عقرب بقوس لجدي ... نزح الدلو بركة الحيتان وهي منازل الكواكب السيارة السبعة وهي المرّيخ: وله الحمل والعقرب، والزّهرة: ولها الثور والميزان، وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة، والقمر: وله السرطان، والشمس: ولها الأسد والمشتري: وله القوس والحوت، وزحل: وله الجدي والدلو. ونظم الشاعر هذه الكواكب بقوله: زحل شرى مرّيخه من شمه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار وسميت بالبروج وهي لغة: القصور العالية للتشبيه بها، فهي للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها. سِراجاً هو الشمس، وقرئ: سرجا بالجمع وهي الشمس والكواكب الكبار فيها. وَقَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل، وقرئ: قمر جمع قمراء، وخص الشمس والقمر بالذكر لفضيلتهما. خِلْفَةً أي يخلف كل منهما الآخر بأن يأتي بعده ويقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه. أَنْ يَذَّكَّرَ أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه، فيعلم أنه لا بدّ له من صانع حكيم واجب الذات رحيم بالعباد، ويتذكر أيضا ما فاته في أحدهما من خير فيفعله في الآخر. أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر الله على ما فيه من النعم.

المناسبة:

المناسبة: بالرغم مما أبان الله تعالى من أدلة التوحيد في ظواهر الكون، فإن المشركين ظلوا يعكفون على عبادة الأصنام، فأخبر تعالى عن جهلهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، بلا دليل ولا حجة في ذلك، بل بمجرد التقليد والهوى والتشهي، تاركين اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي جاء يبشرهم بالخير إن أطاعوا، وينذرهم بالعذاب إن عصوا وأعرضوا، وهو لا يبتغي على ذلك أجرا. ثم وجه الله تعالى رسوله بأن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت، العالم بجميع المعلومات، القادر على كل الممكنات، فلا يرهب جانب المشركين ولا يخشى بأسهم، وأمره أيضا بأن ينزه ربه عن كل صفات النقص كالشريك والولد، ويصفه بجميع صفات الكمال، وأبان له أن وجوب السجود والعبادة لا يكون إلا للرحمن الذي خلق الكواكب السيارة وجعل لها منازل، وجعل الليل والنهار في تعاقب دائم للتذكر وتوجيه الشكر لله تعالى. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن ضلال المشركين عن عبادة الله وجهلهم وكفرهم بربهم فيقول: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ أي ويعبد المشركون آلهة من غير الله لا تنفعهم عبادتها، ولا يضرهم هجرها وتركها، ولا دليل لهم على ذلك إلا مجرد الهوى والتشهي، ويتركون عبادة من أنعم عليهم بالنعم السابق ذكرها في الآيات من مدّ الظل وغيره. وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي وكان الكافر على معصية ربه معينا للشيطان بالعداوة والشرك أو يعينه على معصية الله. والمراد: جنس الكافر وهو عام في كل كافر.

قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام. لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأولى حمل لفظ الْكافِرُ على العموم، ولأنه أوفق لظاهر قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي أن المشركين قوم حمقى جهال، فكيف يعينون الشيطان على معصية الله ورسوله، مع أن الله أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم ليبشر من أطاعه بالجنة، وينذر من عصاه بالنار؟ وأما أنت أيها الرسول فلا تأبه بعنادهم وكفرهم، فما أنت إلا نذير وبشير، وعلى الله الحساب والعقاب، فلا تحزن على عدم إيمانهم. وهل من جهل أعظم من الإمعان في إيذاء من يريد نفعهم في الدنيا والآخرة؟! ونظير الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . وهو يريد نفعهم بمحض الإخلاص دون أن يبغي لنفسه نفعا من أجر أو غيره، لذا قال تعالى: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب على هذا البلاغ وهذا الإنذار أجرة من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. ومِنْ للتأكيد. إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي لم أسألكم أجرا أبدا، لكن من أراد أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد والتطوعات وغيرها، ويتخذ إلى ربه طريقا يؤدي به إلى رحمته ونيل ثوابه، بالعمل الصالح، فليفعل ولا يتردد. والمراد: لا تصنعوا معي إحسانا بأجر تدفعونه لي، ولكن اطلبوا الأجر لأنفسكم بفعل الخير وعبادة الله وشكره. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ بعد أن بيّن سبحانه

لرسوله أن الكفار متظاهرون على إيذائه، مع أنه لا يطلب منهم أجرا مطلقا، أمره بأن يتوكل عليه في أموره كلها لدفع جميع المضار، وجلب جميع المنافع، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر، وناصره، ثم أمره بأن ينزهه عن كل نقص كالشريك والولد، تنزيها مقترنا بحمده وشكره، فيقرن بين الحمد والتسبيح، قائلا: سبحان الله وبحمده، ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك» أي أخلص له العبادة والتوكل. ومعنى التوكل: تفويض الأمر كله لله بعد اتخاذ الأسباب والوسائط المطلوبة شرعا وعقلا. وللآية نظائر كثيرة مثل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمّل 73/ 9] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 11/ 123] قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك 67/ 29] . وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفاك الله عالما علما تاما بمعاصي عباده، لا تخفى عليه خافية، يعلم ما ظهر منها وما بطن، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد 57/ 3] . وفي هذا سلوة لرسوله، ووعيد للكفار إن لم يؤمنوا على كفرهم ومعاصيهم. الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي أن الله الخبير العليم بكل شيء هو الذي أوجد السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام بقدرته وسلطانه، ثم استوى على العرش أعظم المخلوقات استواء يليق بعظمته، كما يقول السلف، وهو الأصح، واستولى على العرش كما يقول الخلف، يدبر الأمر، ويقضي بالحق، وهو خير الفاصلين. وكلمة ثُمَّ للترتيب الإخباري، لا للترتيب الزمني لأنها ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات.

الرَّحْمنُ، فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي إن ذلك الخالق هو العظيم الرحمة بكم، فلا تتكلوا إلا عليه، واستعلم أيها السامع من هو خبير به، عالم بعظمته، فاتبعه واقتد به. ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فما قاله فهو الحق، وما أخبر به فهو الصدق، وهو الإمام المحكم فيما يتنازع فيه البشر: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم 53/ 4] . تبين مما ذكر أن الله سبحانه لما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يتوكل عليه، وصف نفسه بأمور ثلاثة هي: الأول- أنه حي لا يموت، وهو قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ. الثاني- أنه عالم بجميع المعلومات، وهو قوله: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً. الثالث- أنه قادر على جميع الممكنات، وهو المراد من قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لأنه لما كان هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ولا خالق سواه، ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضارّ، وأن النعم كلها من جهته، فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه. أما الكفار فقابلوا الشكر والتوكل بالكفر والاعتماد على النفس، فقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ أي وإذا طلب منهم السجود لله الرحمن الرحيم، وعبادته وحده دون سواه، قالوا: لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسم الرَّحْمنُ وإذا كنا لا نعرف الرحمن فكيف نسجد له. وهذا شبيه بقول موسى لفرعون: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 104] فقال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء 26/ 23] .

أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً أي أنسجد للذي أمرتنا بالسجود له، لمجرد قولك، من غير أن نعرفه، وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وإعراضا، وبعدا عن الحق والصواب، ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول. وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان يشرع السجود عندها لقارئها ومستمعها. وهذا شأن المؤمنين الذين يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويفردونه بالألوهية، ويسجدون له. روى الضحاك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فهذا هو المراد من قوله: وَزادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفورا. وبعد أن حكى سبحانه عن الكفار مزيد النفرة عن السجود، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن، فقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً يمجّد الله تعالى نفسه ويعظمها على جميل ما خلق في السموات، فيذكر أنه تعاظم وتقدس الله الذي جعل في السماء كواكب عظاما ومنازل لتلك الكواكب السيارة وغيرها، التي عدها المتقومون ألفا، ورصدتها الآلات الحديثة أكثر من مائتي ألف ألف، وجعل في السماء سراجا وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود، كما قال: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً [النبأ 78/ 13] وجعل في السماء أيضا قمرا منيرا، أي مشرقا مضيئا، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس 10/ 5] . وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي والله هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ويأتي بعده، توقيتا لعبادة عباده له عز وجل. فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار،

فقه الحياة أو الأحكام:

ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل، فيكون في ذلك عظة لمن أراد أن يتذكر ما يجب عليه، ويتفكر في آلاء الله وعجائب صنعه، ويشكر ربه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. جاء في الحديث الصحيح لدى الشيخين: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» . وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، وقد فاتته قراءة القرآن بالليل: «يا ابن الخطاب، لقد أنزل الله فيك آية وتلا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً. ما فاتك من النوافل بالليل، فاقضه في نهارك، وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك» . وروى أبو داود الطيالسي عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال: أقضيه، وتلا هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً. وهذه الآية وما قبلها من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته ووجوده. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- إن مما يثير العجب والدهشة أن الله تعالى بعد أن عدد النعم وبيّن كمال قدرته، وجد المشركين باقين على إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضرر، بسبب جهلهم وعنادهم، وشأن الكافر أنه معين للشيطان على المعاصي. 2- لا سلطان للرسول صلّى الله عليه وسلم في مجال الإيمان والطاعة على أحد، وإنما تقتصر مهمته على تبشير من أطاعه بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار، يفعل ذلك بمحض الإخلاص وحب الخير للناس، دون أن يطلب على التبليغ والإنذار أو الوحي والقرآن أجرا ولا جزاء ولا شكورا.

لكن باب التنافس في القربات والمبادرة إلى الخيرات مفتوح على مصراعيه، فمن أراد أن ينفق من ماله في سبيل الله من جهاد وصدقات وغيرها فليفعل. 3- على الرسول صلّى الله عليه وسلم وكل مؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائط أن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت. والتوكل: اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. ويجب تنزيه الله تعالى عما يصفه الكفار به من الشركاء، فيقول الواحد: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم أستغفر الله، كما ورد في المأثور. والتسبيح: التنزيه. وحسبك أيها الإنسان أن الله عليم بكل شيء من أمورك ظاهرها وباطنها، فيجازيك عليها خيرا أو شرا. 4- إن الله تعالى هو الحي الدائم الباقي الذي لا يموت ولا يفنى، وهو عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات. 5- الله سبحانه هو خالق كل شيء، خلق جميع السموات في ارتفاعها واتساعها، وخلق جميع الأرضين في سفولها وكثافتها. وقد أتم خلق السماء والأرض في ستة أيام لتعليم الناس التثبت والتروي والتؤدة. وخلق العرش واستوى عليه استواء يليق بجلاله وكماله وعظمته، وما على الجاهل إلا أن يسأل خبيرا بالله من رسول أو عالم، ثم يتبعه ويقتدي به. قال الرازي في تفسير قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: الاستقرار غير جائز لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب والبعضية، وكل ذلك على الله محال، بل المراد: ثم خلق العرش ورفعه على السموات، وهو مستول، كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [محمد 47/ 31] فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون. وليس خلق العرش بعد خلق السموات

لقوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود 11/ 7] وكلمة ثُمَّ ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات. 6- استبد العناد والاستكبار بالمشركين أنه إذا طلب منهم السجود للرحمن، قالوا على جهة الإنكار والتعجب: وما الرحمن؟ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة الكذاب، أنسجد لما تأمرنا أنت يا محمد؟ وزادهم هذا الأمر نفورا عن الدين، ومن شأنه حملهم على الفعل والقبول. كان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا. 7- من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته: جعله في السماء بروجا، أي منازل للكواكب العظام كالزّهرة والمشتري وزحل والسماكين ونحوها، وجعله فيها الشمس ضياء والقمر نورا ينير الأرض إذا طلع، وجعله الليل والنهار في تعاقب دائم في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، لا عبثا وإنما ليتذكر المقصر تقصيره والمسيء إساءته، فيصلح ما بدر منه، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. قال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. ففي الليل دعة وسكون وهدوء يستدعي التذكر، وفي النهار حركة وتصرف وانشغال قد يشغل عن التذكر، أو يكون سببا لتذكر ما مر من الليل بالنوم، فيستدرك المؤمن ما فاته في أحدهما من الخير في وقت الآخر، فهما وقتان للمتذكرين والشاكرين، والله يتقبل عمل الليل وعمل النهار، فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. ثم إن سكون الليل والتصرف بالنهار نعمة تستحق الشكر، كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص 28/ 73] .

صفات عباد الرحمن [سورة الفرقان (25) الآيات 63 إلى 77] :

صفات عباد الرحمن [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 77] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّيدُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

الإعراب:

الإعراب: وَعِبادُ الرَّحْمنِ: مبتدأ، وخبره: الَّذِينَ يَمْشُونَ. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ إلى قوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مبتدأ، وخبره أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ. قالُوا: سَلاماً منصوب على المصدر أي (تسليما) فسلام في موضع تسليم. وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً اسم كانَ مضمر فيها، وقَواماً خبرها، أي كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار. ويجوز جعل بَيْنَ متعلقا بخبر كانَ أي كائنا بين ذلك، فيكون قَواماً خبرا بعد خبر. يُضاعَفْ بالجزم: بدل من يَلْقَ أَثاماً والفعل يبدل من الفعل، كما يبدل الاسم من الاسم. ويقرأ بالضم على أنه في موضع الحال، أو على الاستئناف والقطع مما قبله. مَتاباً منصوب على المصدر، وهو مصدر مؤكد. وأصله: متوب، فنقلت الفتحة من الواو إلى التاء، فتحركت في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا. كِراماً حال من واو مَرُّوا. صُمًّا وَعُمْياناً حال من واو لَمْ يَخِرُّوا. وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً إِماماً أي إماما واحدا أريد به الجمع، أي أئمة كثيرا، واكتفى بالواحد عن الجمع للعلم به، كقولهم: نزلنا الوادي فصدنا غزالا كثيرا، أي غزلانا. ويجوز أن يكون جمع (آمّ) على وزن فاعل، وفاعل يجمع على فعال نحو قائم وقيام وصاحب وصحاب. لِزاماً خبر يَكُونُ واسمها مضمر فيها، وتقديره: فسوف يكون التكذيب لزاما لدلالة قوله: كَذَّبْتُمْ. البلاغة: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الإضافة للتشريف والتكريم. سُجَّداً وَقِياماً ولَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا بين كلّ طباق. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مقابلة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.

المفردات اللغوية:

لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً استعارة، استعار لمن لم يتغافل عن الهداية والإنذار حال من لا يسمع ولا يبصر. قُرَّةَ أَعْيُنٍ كناية عن الفرحة والسرور، وكذلك الْغُرْفَةَ كناية عن الدرجات العالية في الجنة. المفردات اللغوية: هَوْناً الهون: اللين والرفق، والمراد أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار، دون تكبر ولا تجبر. الْجاهِلُونَ السفهاء. سَلاماً أي تسليم متاركة بلا خير ولا شر، أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. يَبِيتُونَ يدركون الليل، ناموا أو لم يناموا. سُجَّداً جمع ساجد. وَقِياماً أي قائمين يصلون بالليل. وخصّ البيتوتة لأن العبادة بالليل أبعد عن الرياء، وأكثر خشوعا وقربة إلى الله تعالى. غَراماً لازما لا يفارق لأنه عذاب دائم، وهو إشارة إلى أنهم مع اجتهادهم في عبادة الحق خائفون من العذاب، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم، لعدم اعتدادهم بأعمالهم. ساءَتْ بئست. مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع استقرار وإقامة. والجملة تعليل لما سبق. أَنْفَقُوا على عيالهم وأنفسهم. لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا لم يجاوزوا الحدّ المعتاد، ولم يضيقوا تضييق الشحيح، والقتر والإقتار والتقتير: البخل. وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي كان الإنفاق بين الإسراف والإقتار وسطا عدلا. وقرئ بكسر القاف أي ما يقام به الحاجة، لا يفضل عنها ولا ينقص، وهو ما يدوم عليه الأمر ويستقر. لا يَدْعُونَ لا يعبدون ولا يشركون. حَرَّمَ اللَّهُ أي حرّمها بمعنى حرّم قتلها. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ واحدا من الثلاثة. أَثاماً عقوبة وجزاء إثم في الآخرة، والآثام: الإثم، والمراد جزاؤه. يُضاعَفْ وفي قراءة: يضعّف، وسبب مضاعفة العذاب انضمام المعصية إلى الكفر. مُهاناً ذليلا مستحقرا. يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي في الآخرة. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي ولم يزل متصفا بذلك، فيعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات. وَمَنْ تابَ من ذنوبه أو معاصيه، بتركها والندم عليها. وَعَمِلَ صالِحاً يتلافى به ما فرط. فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يرجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله، ماحيا للعقاب، ومحصلا للثواب، فيجازيه عليه. وهذا تعميم بعد تخصيص. لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يقيمون الشهادة الباطلة أو الكاذبة، والزُّورَ الكذب والباطل، والمقصود: لا يعينون أهل الباطل على باطلهم. بِاللَّغْوِ ما يجب أن يلغى ويطرح

سبب النزول:

من الكلام القبيح وغيره. مَرُّوا كِراماً معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب. وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي وعظوا بالقرآن. لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها يسقطوا، والخرور: السقوط على غير نظام ولا ترتيب. صُمًّا وَعُمْياناً المراد: لم يقيموا عليها غير واعين ولا متبصرين بما فيها، كمن لا يسمع ولا يبصر، بل أقبلوا عليها سامعين بآذان واعية، مبصرين ناظرين منتفعين. قُرَّةَ أَعْيُنٍ لنا بأن نراهم مطيعين لك، والمراد: الفرح والسرور بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل، فإن المؤمن يسرّ قلبه بطاعة أهله وأولاده لربهم، ليلحقوا به في الجنة. ومِنْ في قوله: مِنْ أَزْواجِنا.. ابتدائية أو بيانية. وتنكير الأعين للتعظيم، والإتيان بجمع القلة في كلمة أَعْيُنٍ لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم. وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً في الخير، يقتدون بنا في أمر الدين، بإفاضة العلم والتوفيق للعمل. وأفرده، وأراد به الجمع، أي أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين، لأنه يستعمل للمفرد والجمع. الْغُرْفَةَ كل بناء مرتفع عال، والمراد الدرجة العليا في الجنة أو أعلى مواضع الجنة، وهي اسم جنس أريد به الجمع، لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ 34/ 37] . بِما صَبَرُوا بصبرهم على المشاق والقيام بطاعة الله. وَيُلَقَّوْنَ فِيها بالتشديد، والتخفيف، أي يلقون في الغرفة. تَحِيَّةً وَسَلاماً من الملائكة، أي تحييهم الملائكة ويسلمون عليهم، وهو دعاء بالتعمير والسلامة. أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع استقرار وإقامة دائمة لهم. قُلْ يا محمد لأهل مكة ما يَعْبَؤُا بِكُمْ ما يعتدّ بكم ولا يبالي ولا يكترث، وما: نافية. دُعاؤُكُمْ إياه في الشدائد، فيكشفها، أو عبادتكم له تعالى، فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي كيف يعبأ بكم وقد كَذَّبْتُمْ الرسول والقرآن. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي سوف يكون العذاب وجزاء التكذيب ملازما لكم في الآخرة حتى يقذفكم في النار، بعد ما يحلّ بكم في الدنيا، فقتل منهم يوم بدر سبعون. وجوابدلّ عليه ما قبله، أي لولا دعاؤكم لم يبال بكم. سبب النزول: نزول الآية (68) : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ: أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت

سبب نزول الآية (70) :

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك» ، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» ، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: غَفُوراً رَحِيماً. ونزل: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية [الزمر 39/ 53] . سبب نزول الآية (70) : إِلَّا مَنْ تابَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلها آخر، وأتينا الفواحش، فنزلت: إِلَّا مَنْ تابَ الآية. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة، وإعراض الكافرين عن السجود له، بالرغم من اطلاعهم على دلائل التوحيد والقدرة الإلهية، ذكر صفات المؤمنين عباد الرحمن التي استحقوا من أجلها أعلى منازل الجنان، وأنه خصّ اسم العبودية بالمشتغلين بالعبادة، مما يدل على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره وقلبه ولسانه بما أمره، فهو الذي يستحق اسم العبودية.

التفسير والبيان:

ووصفهم سبحانه بتسع صفات كما ذكر الرازي، وقال القرطبي: وصف تعالى عباد الرحمن بإحدى عشرة صفة حميدة من التحلّي والتخلّي، وهي: (التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والبعد عن الزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله) . ثم بيّن الله تعالى جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة التي هي الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا «1» . التفسير والبيان: هذه صفات عباد الله المؤمنين عباد الرحمن الذين استحقوا أعلى الدرجات في الجنة، وهي في الجملة تسع صفات: 1- التواضع: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي وعباد الله المخلصين الربانيين الذين لهم الجزاء الحسن من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار، من غير تجبر ولا استكبار، يطؤون الأرض برفق، ويعاملون الناس بلين، لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا، كما قال تعالى حاكيا وصية لقمان لابنه: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان 31/ 18] . وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء، وإنما بعزة وأنفة هي عزة المؤمن المتواضع لله وحده، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «2» ، وكأنما الأرض تطوى له.

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 83. (2) أي كأنما ينحدر من مكان عال مرتفع.

وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا، فقال: مالك أأنت مريض؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدّرة، وأمره أن يمشي بقوة. وإنما المراد بالهون هنا: السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة: «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها، وعليكم السكينة، فما أدركتم منها فصلوا، وما فاتكم فأتموا» . وروي أيضا أن عمر رضي الله عنه رأى غلاما يتبختر في مشيته، فقال: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله، وقد مدح الله أقواما فقال: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فاقصد في مشيتك. ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] . 2- الحلم أو الكلام الطيب: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء، لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص 28/ 55] . قال النحاس: ليس سَلاماً من التسليم، إنما هو من التسلّم، تقول العرب: سلاما، أي تسلّما منك، أي براءة منك. وروى الإمام أحمد عن النعمان بن مقرّن المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وسبّ رجل رجلا عنده، فجعل المسبوب يقول: عليك السلام-: «أما إن ملكا بينكما يذبّ عنك، كلما شتمك هذا، قال له: بل أنت، وأنت أحقّ به، وإذا قلت له: وعليك السلام قال: لا، بل عليك، وأنت أحق به» .

وقوله: قالُوا: سَلاماً يعني قالوا سدادا، أو ردوا معروفا من القول. وقال الحسن البصري: قالوا: سلام عليكم: إن جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون. هاتان صفتان بينهم وبين الناس وهما ترك الإيذاء وتحمل الأذى، ثم ذكر الله تعالى صفاتهم فيما بينه وبينهم فقال: 3- التهجد ليلا: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي أن سيرتهم في الليل كسيرتهم في النهار، فنهارهم خير نهار، وليلهم خير ليل، فإذا أمسوا أو أدركوا الليل باتوا ساجدين قائمين لربهم، يصلّون بعض الليل أو أكثره، طائعين عابدين، كما قال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات 51/ 17- 18] ، وقال سبحانه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة 32/ 16] ، وقال عزّ وجلّ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر 39/ 9] . قال ابن عباس: من صلّى ركعتين أو أكثر بعد العشاء، فقد بات لله ساجدا وقائما. 4- الخوف من عذاب الله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ أي والذين يخافون ربّهم ويدعونه في وجل، ويقولون في حذر: ربّنا أبعد عنا عذاب جهنّم وشدته، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون 23/ 60] . ثم ذكر تعالى أن علة سؤالهم ودعائهم شيئان: الأول- إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي إن عذابا كان ملازما دائما للإنسان العاصي، لزوم الدائن الغريم لمدينه، أو هلاكا وخسرانا لازما.

الثاني- إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي إن جهنم بئس المنزل مستقرا ومنظرا يستقر فيه، وبئس المقيل مقاما. وهذا أمر لا شك فيه يعلمه كل من اكتوى بشيء من نار الدنيا. 5- الاعتدال في الإنفاق: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي والذين إذا أنفقوا على أنفسهم أو عيالهم ليسوا بالمبذّرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا بالبخلاء، فيقصرون في حقهم وفيما يجب عليهم، بل ينفقون عدلا وسطا خيارا، بقدر الحاجة، وخير الأمور أوسطها، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] أي الوسطية في الاعتدال، وترك الإسراف والتقتير. وهذا أساس الاقتصاد وعماد الإنفاق في الإسلام، روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته» . وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» . وروى الحافظ أبو بكر البزّار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في العبادة» . فالتبذير سبب في ضياع مال الشخص ومال الأمة: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء 17/ 27] ومن المعلوم أنه لا سرف في الخير، ولا خير في السرف، قال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا

ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من السّرف أن تأكل كل ما اشتهيت» . ثم ذكر الله تعالى صفات سلبية بعيدة عن المؤمنين، وإنما هي من صفات المشركين والفاسقين فقال: 6- البعد عن الشرك والقتل والزنى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيجعلون مع الله في عبادتهم شريكا آخر، وإنما يخلصون له الطاعة والعبادة، ولا يقتلون النفس عمدا إلا بحق، كالكفر بعد الإيمان، والزنى بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق، ويكون القتل بحكم الحاكم أو القاضي لا برأي شخصي، ولا يزنون، وهذه أعظم الجرائم: الشرك، والقتل العمد العدوان، والزنى، والجريمة الأولى عدوان على الله، والثانية عدوان على الإنسانية، والثانية عدوان على الحقوق وانتهاك للأعراض. فإذا جعلنا هذه الصفات ثلاثا، صارت إحدى عشرة، كما ذكر القرطبي. ثم توعد الله تعالى مرتكب هذه الجرائم فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ومن يفعل واحدة من تلك الجرائم الثلاث، يلق في الآخرة عقابا شديدا وجزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل يضاعف له العذاب ضعفين بسبب انضمام المعصية إلى الكفر، ويخلد في نار جهنم أبدا مع الإهانة والإذلال والاحتقار، وذلك عذابان: حسي ومعنوي. ثم فتح الله تعالى باب التوبة للترغيب في الإصلاح والعودة إلى الاستقامة فقال: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لكن من تاب في الدنيا إلى الله عزّ وجلّ عن جميع ذلك بأن أقلع عن

الذنب، وندم على المعصية، وكان مؤمنا مصدقا بالله ورسله واليوم الآخر، وعمل الصالحات، فأولئك يمحو الله عنهم بالتوبة السيئات، ويبدلهم مكانها حسنات بإثبات لواحق الطاعة، أو تنقلب تلك السيئات الماضية بنفس التوبة حسنات. روى أبو ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن السيئات تبدل بحسنات» وروى أحمد والترمذي والبيهقي عن معاذ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] . والخلاصة: في معنى قوله يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قولان «1» : القول الأول- أنهم بدّلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا، وبالكفر إسلاما. أي أن التبديل يكون في الدنيا، وأثره في الآخرة. والقول الثاني- أن تلك السيئات تنقلب بالتوبة النصوح نفسها حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم، واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، أي أن التبديل يكون في الآخرة. والظاهر القول الأول، وأن التوبة تجبّ ما قبلها، وتفتح للتائب صفحة جديدة، فيثاب على الأعمال الصالحة، ويعاقب على السيئات، كغيره من المؤمنين. وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي ومن تاب عن معاصيه، وعمل الأعمال الصالحة، فإن الله يقبل توبته، لأنه رجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله، فيمحو عنه العقاب، ويجزل له الثواب.

_ (1) تفسير الرازي: 24/ 112، تفسير ابن كثير: 3/ 327.

وهذا تعميم لقبول التوبة عن جميع المعاصي، بعد تخصيص قبولها ممن تاب عن كبائر المعاصي السابقة التي هي الشرك والقتل العمد والزنى. وللآية نظائر كثيرة، مثل قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] وقوله سبحانه: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53] . 7- البعد عن شهادة الزور أو تجنب الكذب: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي الذين لا يشهدون شهادة الزور وهي الكذب متعمدا على غيره، أو لا يحضرون مواضع الكذب، قال ابن كثير: والأظهر من السياق أن المراد لا يحضرون الزور، ولهذا قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرّوا، ولم يتدنسوا منه بشيء. ونظير الآية: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 55] . والواقع أن الآية تدل على أمرين: تحريم شهادة الزور وتجنب مجالس اللغو أو العفو عن المسيء، ويستدل بها الفقهاء على الأمر الأول، كما ورد في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» فما يزال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخّم وجهه (يطليه بالسواد) ويحلق رأسه، ويطوّف به السوق. 8- قبول المواعظ: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي والذين إذا ذكّروا بالآيات، أكبّوا عليها حرصا على استماعها،

وأقبلوا على من ذكّرهم بها بآذان صاغية واعية، وعيون مبصرة متفتحة، وقلوب مستوعبة، لا كالكفار والمنافقين والعصاة من المؤمنين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به، ولم يغيروا ما هم عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم، وجهلهم وطغيانهم، كأنهم صمّ عمي، كما قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 124- 125] . 9- الابتهال إلى الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي والذين يبتهلون إلى ربّهم داعين الله أن يرزقهم زوجات صالحات وأولادا مؤمنين صالحين مهديين للإسلام يعملون الخير، ويبتعدون عن الشر، تقرّ بهم أعينهم، وتسرّ بهم نفوسهم، فإن المؤمن إذا رأى من يعمل بطاعة الله قرّت عينه، وسرّ قلبه في الدنيا والآخرة. ويدعونه أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير واتباع أوامر الدين. وبذلك أحبوا أن تتصل عبادتهم بعبادة زوجاتهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع فهم دعاة خير وبر، وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . قال بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها، قال إبراهيم الخليل عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. ثم ذكر الله تعالى جزاء المتصفين بتلك الصفات الإحدى عشرة فقال:

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا، وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة، والأقوال والأفعال الحميدة يجزون يوم القيامة الغرفة أي الغرفات لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ 34/ 37] وهي المنازل العالية، والدرجات الرفيعة في الجنان، بصبرهم على القيام بها، ويلقّون في الجنة تحية وسلاما، أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويعاملون بالتوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 23- 24] . ودلّ قوله: بِما صَبَرْتُمْ على أن الجنة بالاستحقاق. ومفاد الآية أن الطائعين في نعيم الجنة مع التعظيم والاحترام، على عكس العصاة الذين يضاعف لهم العذاب، مع الإهانة والاحتقار. خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي إن نعيمهم دائم لا ينقطع، فهم مقيمون في الجنان، إقامة مستمرة لا يحوّلون، ولا يموتون ولا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا، حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا، كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108] . والخلاصة: أن الله وعد عباد الرحمن بالمنافع الجلي في الجنة أولا، وبالتعظيم ثانيا، ثم بيّن أن صفتهما الدوام: خالِدِينَ فِيها، والخلوص أيضا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً. قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّيدُعاؤُكُمْ أي إن الله غني عن عباده، وإنما كلفهم لينتفعوا، وعذبهم لعصيانهم، فلا يبالي بهم ولا يكترث إذا لم يؤمنوا به ولم يعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا، كما قال سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي أنكم أيها الكافرون والعصاة إذا كذبتم رسلي، ولم تؤمنوا بلقائي، فسوف يكون تكذيبكم سببا ملازما ومؤديا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود 11/ 106- 107] . واللّزام: الملازمة. فقه الحياة أو الأحكام: هذه هي صفات عباد الرحمن، وهي إحدى عشرة صفة، يستحق بها أهلها المنازل العالية في الجنان. الصفة الأولى: التواضع والطاعة لله تعالى: ويكون ذلك بالعلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه، والخشية من عذابه وعقابه. الصفة الثانية: الحلم والكلام الطيب: فإذا أوذوا قابلوا الإساءة بالإحسان، قال الحسن البصري: «حلماء، إن جهل عليهم لم يجهلوا» أي على نقيض خلق الجاهلية: «ونجهل فوق جهل الجاهلين» وإنما يقول المؤمن للجاهل كلاما موصوفا بالرفق واللين. الصفة الثالثة: التهجّد ليلا: أي العبادة الخالصة لله تعالى في جوف الليل، فإنها أكثر خشوعا، وأضبط معنى، وأبعد عن الرياء.

الصفة الرابعة:

الصفة الرابعة: الخوف من عذاب الله تعالى: أي أنهم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله، سواء في سجودهم وقيامهم لأن عذاب جهنم لازم دائم غير مفارق، وبئس المستقر، وبئس المقام، وهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم، كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجاح. الصفة الخامسة: الاعتدال في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير، والمراد من النفقة نفقة الطاعات في المباحات، فهذه يطالب فيها الإنسان ألا يفرط فيها حتى يضيع حقا آخر أو عيالا، وألا يضيق أيضا ويقتر، حتى يجيع العيال، ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب حاله وعياله، وصبره وجلده على الكسب، وخير الأمور أوساطها، وهذه الوسطية خير للإنسان في دينه وصحته ودنياه وآخرته. أما النفقة في معصية الله فهو محظور حظرته الشريعة قليلا كان أو كثيرا، وكذلك التعدي على مال الغير، هو حرام أيضا. الصفة السادسة: البعد عن الشرك: وهو عبادة أحد مع الله أو عبادة غير الله، وهو أكبر الجرائم، لذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . الصفة السابعة: الابتعاد عن القتل العمد: وهو إزهاق النفس الإنسانية عمدا دون حق، وهو اعتداء على صنع الله، وإهدار لحق الحياة الذي هو أقدس حقوق الإنسان.

الصفة الثامنة:

أما القتل بحق كالقتل بسبب الردة أو زنى المحصن أو القصاص فجائز من قبل الحاكم. الصفة الثامنة: اجتناب الزنى: وهو انتهاك حرمة العرض، وهو جريمة خطيرة تؤدي إلى اختلاط الأنساب، وإشاعة الأمراض، وهدم الحقوق، وإثارة العداوات والأحقاد والبغضاء. ومن يرتكب هذه الجرائم العظمى (الشرك، والقتل، والزنى) يضاعف له العذاب في نار جهنم، ويكون مخلّدا فيها ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا من رحمة الله تعالى. لكن إذا تاب الكافر والقاتل والزاني تقبل توبته، ويبدل الله سيئته حسنة إما في الدنيا على رأي، بأن يجعل الإيمان محل الشرك، والإخلاص محل الشك، والإحصان مكان الفجور، وإما في الآخرة على رأي آخر فيمن غلبت حسناته على سيئاته. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أن يبدلها حسنات. ثم أكّد الله قبول التوبة الصادقة النصوح من كل إنسان. الصفة التاسعة: تجنب الكذب والباطل وشهادة الزور، فلا يحضر المسلم مجالس اللغو والكذب والغناء واللهو ونحوها، ولا يؤدي شهادة الزور مهما كانت البواعث والأسباب لأنها محرمة لذاتها. لذا قال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا، وإن تاب وحسنت حاله، فأمره إلى الله تعالى.

الصفة العاشرة:

الصفة العاشرة: قبول المواعظ: فإذا قرئ القرآن عليهم ذكروا آخرتهم ومعادهم، ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع. الصفة الحادية عشرة: الابتهال إلى الله بجعل توابع الإنسان من أزواج وذريات هداة مهديين مطيعين لله، تقرّ النفوس بهم، وتثلج الصدور بسيرتهم العطرة، وأن يكونوا أئمة وقدوة يقتدى بهم في الخير، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الداعي تقيا صالحا. وهذا يدل على جواز الدعاء بالولد، وللولد وللزوجة، وبأن يكون نفع الإنسان شاملا غيره. وجزاؤهم الدرجات العليا في غرفات الجنان، مع التوقير والاحترام، بالتحية والسلام، والخلود الدائم، والتمتع بحسن المقام والمنظر والاستقرار. ونفع الطاعة للعباد لا لله، فالله غني عن عباده، فلولا عبادتهم وكثرة استغاثتهم إليه في الشدائد ونحوها، لما ب إلى الله بهم ولا اكترث بشأنهم. فإن كذبوا بما دعوا إليه من الإيمان وعبادة الله كان تكذيبهم ملازما لهم، وجزاء التكذيب دائم لا مفرّ منه.

سورة الشعراء:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشعراء مكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية. تسميتها: سميت (سورة الشعراء) لما ختمت به من المقارنة بين الشعراء الضالين والشعراء المؤمنين في قوله سبحانه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [224- 226] بقصد الرد على المشركين الذين زعموا أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان شاعرا، وأن ما جاء به من قبيل الشعر. مناسبتها لما قبلها: تتضح مناسبة هذه السورة لسورة الفرقان في الموضوع والبداية والنهاية. أما الموضوع: ففيها تفصيل لما أجمل في الفرقان من قصص الأنبياء بحسب ترتيبها المذكور في تلك السورة، فبدأ بقصة موسى، وهذا سر لطيف يجمع بين السورتين. وكان في الفرقان إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة، ففصلت هنا قصة إبراهيم، وقوم شعيب، وقوم لوط. وأما البداية: فقد بدئت كلتا السورتين بتمجيد القرآن العظيم: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. وأما النهاية: فإن خاتمة كلتا السورتين متشابهة، فقد ختمت الفرقان بوعيد المكذبين، ووصف المؤمنين بأنهم يقولون: سَلاماً للجاهلين، وأنهم

مشتملاتها:

يمرون مر الكرام باللغو، وختمت الشعراء بتهديد الظالمين المكذبين، والرضا عن الشعراء المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويذكرون الله كثيرا، وينتصرون ممن ظلمهم. مشتملاتها: تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية الكلام عن أصول الاعتقاد والإيمان من إثبات «التوحيد، والرسالة النبوية، والبعث» لذا كانت آياتها قصارا للزجر والردع وشدة التأثير. وابتدأت الكلام عن القرآن الكريم وبيان هدفه في الهداية، وتبشير المؤمنين الصالحين بالجنة، وإنذار الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة بسوء العذاب، وإثبات إنزال القرآن وحيا على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتسليته عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته، والاستدلال بخلق النباتات على وجود الله وتوحيده. ثم أوردت قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم لعظة المكذبين، مبتدئة بقصة موسى ومعجزاته، ومحاورته مع فرعون الجبار وقومه في شأن توحيد الله، وتأييده بالآيات البيّنات، وإيمان السحرة برب موسى وهارون، ثم تلتها قصة إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه عبدة الأوثان، وإبطاله عبادتها، وإثباته وحدانية الله عز وجل. ثم جاء بعدها قصص «نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب» عليهم السلام وما فيها من حملاتهم العنيفة ضد الوثنية، والفساد الخلقي والاجتماعي، وبيان عاقبة التكذيب للرسل، ونهاية الجبابرة العتاة بأنواع رهيبة من العذاب. وأعقب ذلك جعل الخاتمة كبدء السورة بإثبات كون القرآن العظيم وحيا وتنزيلا من رب العالمين لا من كلام الشياطين، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله لتبليغ رسالته إلى عشيرته والأمم جميعا، ليس بكاهن ولا شاعر، وأنه من سلالة

فضلها:

الموحدين، وبراءته من أفعال المشركين، والرد على افترائهم وزعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين التي تتنزل على كل أفّاكّ أثيم، وإعلامهم بأن الغاوين الضالين هم أتباع الشعراء، وليسوا المؤمنين الصلحاء المجاهدين. فضلها: ورد في فضل هذه السورة خبران: الأول عن ابن عباس، والثاني عن البراء. - روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذّكر الأول، وأعطيت طه، وطسم من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة» . - وروى البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبي قبلي» «1» . تكذيب المشركين بالقرآن وإنذارهم وإثبات وحدانية الله [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 87.

الإعراب:

الإعراب: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ فَظَلَّتْ في موضع جزم بالعطف على نُنَزِّلْ. وأَعْناقُهُمْ: اسمها، وخاضِعِينَ: خبرها. وإنما قال خاضِعِينَ لأنه أراد بالأعناق الرؤساء، أي فظلت الرؤساء خاضعين لها، أو بتقدير مضاف محذوف، أي فظلت أصحاب الأعناق. البلاغة: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ كناية عن الذل والهوان الذي يلحقهم. فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وعيد وتهديد. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ استفهام للتوبيخ على إهمال النظر في دلائل وجود الله وتوحيده. المفردات اللغوية: طسم تقرأ طا، سين، ميم، مع إدغام السين في الميم والمراد بهذه الأحرف الهجائية كما بينا سابقا الإشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وتحدي العرب بالإتيان بمثله، مع أنه مركب من الحروف الهجائية التي تتركب منها لغتهم، وينطق بها كل عربي، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة. وعليه، فهي حروف تنبيه مثل ألا ونحوها، ويا للنداء. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه الآيات في هذه السورة، أو آيات القرآن كله، هي آيات القرآن الظاهر إعجازه وصحته، والمظهر الحق من الباطل، وإضافة آياتُ إلى الْكِتابِ بمعنى من لَعَلَّكَ يا محمد، ولعل: هنا يراد بها الاستفهام المقصود به الإنكار والإشفاق، أي أشفق على نفسك بتخفيف هذا الغم. باخِعٌ نَفْسَكَ قاتلها أو مهلكها غما وحزنا. أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي من أجل عدم إيمان قومك أهل مكة. وأصل البخع: أن يبلغ بالذّبح البخاع: وهو عرق في فقرات الرقبة، مبالغة في الذبح. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً دلالة ملجئة إلى الإيمان، أو بلية قاسرة عليه. فَظَلَّتْ بمعنى المضارع، أي تظل

التفسير والبيان:

وتدوم. أَعْناقُهُمْ أي أصحابها، كما يكنى عن النفس بالوجه، ولما وصفت الأعناق بصفات العقلاء وهو الخضوع أجريت مجراهم، وجمعت الصفة جمع العقلاء وهي: خاضعين، أي منقادين، وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين. ذِكْرٍ تذكير وموعظة، وهو القرآن. مِنَ الرَّحْمنِ بوحيه إلى نبيه. مُحْدَثٍ مجدّد إنزاله لتكرار التذكير وتنويع التقرير. إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه فَقَدْ كَذَّبُوا به أي بالذكر بعد إعراضهم، وأمعنوا في تكذيبه، بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به. فَسَيَأْتِيهِمْ أي سيحل بهم العذاب إما في الدنيا كيوم بدر، وإما يوم القيامة. أَنْبؤُا عواقب. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من أنه كان حقا أم باطلا. أَوَلَمْ يَرَوْا أو لم ينظروا إلى عجائبها. كَمْ أَنْبَتْنا أي كثيرا. مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف محمود كثير المنفعة، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضي. إِنَّ فِي ذلِكَ إن في إنبات تلك الأصناف. لَآيَةً دلالة على أن منبتها تام القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ في علم الله تعالى، فلا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام. الْعَزِيزُ ذو العزة الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. الرَّحِيمُ حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممن كفر، الرحيم لمن تاب وآمن. التفسير والبيان: طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذا القرآن مكون من أحرف عربية، مثل الطاء والسين والميم، يقصد بها تحدي العرب به ليأتوا مثله، فإذا عجزوا دل على أنه كلام الله الموحى به إلى نبيه. وهذه آيات القرآن البيّن الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد. لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أأنت يا محمد مهلك نفسك حزنا وأسفا على عدم إيمان قومك برسالتك؟! وهذه تسلية من الله لرسوله في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر 35/ 8] وقال سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] .

إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي إن الله قادر على كل شيء، فلو نشاء لأنزلنا عليهم من السماء آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، وتقسرهم عليه، فتصبح رقابهم خاضعة ذليلة منقادة لما نريد، أو يصبح كبراؤهم ورؤساؤهم منقادين، ولكنا لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان عن اختيار وطواعية ورضا، لا بالقسر والإكراه، كما قال سبحانه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 99] وقال عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً [هود 11/ 118] . وأضحت سنتنا إرسال الرسل إلى البشر، وإنزال الكتب عليهم، ليؤمنوا عن بيّنة واقتناع. لكن الكفار ممعنون في الكفر، موغلون في الضلال، معاندون معرضون، فقال: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، وما الهدف من تجديد إنزال الكتب الإلهية إلا تكرار التذكير، وتنويع البيان، للتأمل وإعمال الفكر، والهداية والإصلاح، غير أنه كلما جدد الله لهم موعظة وتذكيرا جددوا إعراضا وتكذيبا كما قال: فَقَدْ كَذَّبُوا، فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي فقد كذب أولئك المشركون بما جاءهم من الذّكر والحق، ثم بادروا إلى الاستهزاء، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب والاستهزاء في المستقبل، كما قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص 38/ 88] وقال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس 36/ 30] . ثم إنهم أعرضوا عن التفكير في آيات الله الكونية وآثاره المشاهدة فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي أولم ينظروا إلى

فقه الحياة أو الأحكام:

الأرض التي خلقها الله، وأنبت فيها من كل صنف كثير النفع من الزروع والثمار، فيستدلوا بذلك على عظمة سلطان الله، وباهر قدرته، فهو موجود واحد قادر على كل شيء من هداية القوم وغيرها. والجمع بين كَمْ وكُلِّ لدلالة كُلِّ على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، ودلالة كَمْ على أن هذا المحيط متكاثر، فجمع بين الكثرة والإحاطة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في ذلك الإنبات لدلالة على قدرة الخالق للأشياء، وقدرته على البعث والإحياء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره، وارتكبوا نهيه. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك أيها الرسول لهو القادر على كل ما يريد، القاهر الغالب الذي قهر كل شيء وغلبه، الرحيم بخلقه، فلا يعجل على من عصاه، بل يمهله ويؤجله، لعله يرجع عن غيه، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن القرآن الكريم كلام الله المعجز الواضح الجلي الذي أبان الحق وزيّف الباطل، وقرر الأحكام، ودعا إلى الهدى والرشاد. 2- لا حاجة بك أيها النبي إلى الإسراف في الأسى والحزن على تكذيب القوم وإعراضهم عن رسالتك، وعدم إيمانهم بالقرآن ودعوة الإسلام. 3- إن الله جلت قدرته قادر على إنزال معجزة ظاهرة تجبرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل لأن سنته وحكمته اقتضت جعل الإيمان اختياريا لا قسر فيه ولا

إكراه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة 2/ 256] . 4- بالرغم من تجدد المواعظ والمذكّرات فإن المشركين أعرضوا عن الهدى، وكذبوا بالمنزل على الأنبياء، فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا، والذي استهزءوا به. ويلاحظ أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض عن القرآن المنزل أولا، وبالتكذيب ثانيا، والإنكار إلى درجة الاستهزاء ثالثا. 5- احتجت المعتزلة بقوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ على خلق القرآن فقالوا: الذكر هو القرآن، لقوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الأنبياء 21/ 50] وبيّن في هذه الآية أن الذكر محدث، فيلزم منه أن القرآن محدث، والجواب: أن الحدوث إنما هو لهذه الألفاظ المتلوة بالوحي الحاصل، أما أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم قدم الله تعالى. 6- نبّه الله تعالى بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ.. على عظمته وقدرته، وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم، لعلموا أن الله هو الذي يستحق أن يعبد، إذ هو القادر على كل شيء، لذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدليلا واضحا على أن الله قادر، ولكن، وما أكثر الناس بمصدقين، لما سبق من علمي فيهم، وإن الله هو المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.

القصة الأولى قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وقومه:

القصة الأولى قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وقومه - 1- امتنان فرعون على موسى بتربيته [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) الإعراب: وَإِذْ نادى إِذْ: ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر، تقديره: واتل عليهم إذ نادى. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق بمحذوف في موضع الحال، تقديره: فأرسلني مضموما إلى هارون.

البلاغة:

نَّا رَسُولُ قال سُولُ بالإفراد، لأنه أراد بالرسول الجنس، فوحّد، أو أن يكون سُولُ بمعنى رسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا.. أي بأن أرسل معنا، فحذف حرف الجر، وهي تحذف معها كثيرا. أَنْ عَبَّدْتَ إما بدل مرفوع من نِعْمَةٌ وإما منصوب بتقدير: لأن عبدت، ثم حذف حرف الجر، لطول الكلام بصلة أَنْ طلبا للتخفيف. البلاغة: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بينهما مقابلة. ُولُ أَرْسِلْ جناس اشتقاق. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ جناس ناقص، لاختلاف الشكل واتحاد الحروف. أَلَمْ نُرَبِّكَ.. إيجاز بالحذف، تقديره: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، فقال لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ كذلك إيجاز بالحذف، أي فأرسل جبريل إلى هارون واجعله نبيا يؤازرني ويعاضدني. المفردات اللغوية: وَإِذْ نادى متعلق بفعل مقدر، أي اذكر أو اتل يا محمد لقومك. إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ليلة رأى النار والشجرة. أَنِ ائْتِ بأن ائت رسولا. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر واستعباد بنى إسرائيل وذبح أولادهم. قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الْقَوْمَ الأول أو عطف بيان له. أَلا يَتَّقُونَ الله بطاعته، فيوحدوه، والاستفهام إنكاري، وهو استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار، تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وفيه مزيد الحثّ على التقوى. وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم لي. وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأداء الرسالة، للعقدة التي فيه. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي أرسل جبريل إلى أخي هارون معي، ليكون نبيا. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ لهم علي تبعة ذنب، فحذف المضاف، والمراد قتل القبطي، وإنما سماه ذنبا على زعمهم. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به، وكان القتل قبل أداء الرسالة. كَلَّا كلمة زجر وردع، أي ثق بالله، ولا تخف منهم، فلا يقتلونك. فَاذْهَبا أنت وأخوك، فيه تغليب الحاضر على الغائب، وهو معطوف على الفعل الذي دلّ عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت والذي طلبته ليكون معك نبيا وهو هارون.

المناسبة:

بِآياتِنا معجزاتنا. إِنَّا مَعَكُمْ يعني موسى وهارون وفرعون، أو أجريا مجرى الجماعة. مُسْتَمِعُونَ ما تقولون وما يقال لكم وما يجري بينكما وبينه، فأجعل لكما الغلبة عليه. َّا رَسُولُ أي إن كلّا منا رسول من الله إليك، أو أراد به الجنس أو ضمنه معنى الإرسال والرسالة. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا أي بأن أرسل معنا إلى الشام، قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا أي فأتياه فقالا له ما ذكر، فقال فرعون لموسى: ألم نكن ربّيناك في منازلنا. وَلِيداً طفلا صغيرا، سمي بذلك لقربه من الولادة بعد فطامه. وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة، يلبس من ملابس فرعون، ويركب من مراكبه، وكان يسمى ابنه. ثم خرج إلى مدين عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الإغراق لفرعون وقومه خمسين. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي قتل القبطي، وبّخه به معظما إياه، بعد ما عدّد عليه نعمته. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد. وهو حال من تاء فَعَلْتَ. قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى: فعلتها حينئذ وأنا من المخطئين أو من الجاهلين، قبل أن يؤتيني الله العلم والرسالة، لأنه لم يتعمد قتله. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً حكمة وعلما. تَمُنُّها تمنّ بها، أي وتلك التربية نعمة تمتن علي بها ظاهرا، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وذبح أبنائهم، أي اتخذتهم عبيدا، ولم تستعبدني، لا نعمة لك بذلك لظلمك باستعبادهم. وقدر بعضهم أول الكلام همزة استفهام للإنكار، أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي أن عبدت؟ والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وأنك لم تستعبدني. المناسبة: هذه القصة التي ترددت في القرآن كثيرا في سور عديدة «1» يراد من ذكرها هنا تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه من صدود وإعراض وتكذيب، فبعد أن ذكر الله تعالى تكذيب المشركين برسالته وإنذارهم وإثبات وحدانية الله لهم بإنبات النبات، ذكر قصة موسى مع فرعون وقومه الذين كذبوه مع إثبات نبوته بالمعجزات البينات، ولما لم تغن الآيات والنذر، حاق بالمكذبين سوء العذاب، وأغرقهم الله في اليم، جزاء جحودهم وتكذيبهم.

_ (1) ذكرت قصة موسى في البقرة، والأعراف، ويونس، وهود، وطه، والشعراء، والنمل، والقصص، وغافر (المؤمن) ، والسجدة (فصلت) ، والنازعات، بأساليب مختلفة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يبدأ الله تعالى القصة من بدء بعثة موسى بن عمران عليه السلام وتكليم ربّه له ومناجاته إياه من جانب الطور الأيمن، فيقول: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ أي، اذكر يا محمد لقومك حين نادى الله موسى من جانب الطور الأيمن بالوادي المقدس طوى، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه القوم الظالمين أنفسهم بالشرك واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم، فيدعوهم إلى عبادة الله وحده، وتخلّيهم عن فكرة تأليه فرعون. وقال الله لموسى تعجيبا من حالهم: ألا يتقونني، ألا يخافون بطشي وانتقامي في الآخرة، ويحذرون عصياني وعذابي على كفرهم وبغيهم. وقوله: أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف، أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار وتسجيل الظلم عليهم، وأمنهم العواقب وقلة خوفهم. والنداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هو كلام الله القديم المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات، مع أنه مسموع، على رأي أبي الحسن الأشعري. وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات «1» . قالَ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي قال موسى مجيبا ربّه: يا ربّ، إني أخشى تكذيبهم لي، فأحزن ويضيق صدري تأثرا وتألما بما يعملون، ولا ينطلق لساني بما يجب علي من أداء الرسالة، بل أتلعثم، وأخي هارون أفصح مني لسانا، وأقوى بنيانا.

_ (1) تفسير الرازي: 24/ 121

فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي فاجعل هارون نبيا مثلي، أو أرسل جبريل عليه السلام له بالوحي ليكون معي نبيا ورسولا، يؤازرني ويعاضدني، فتتحقق أعباء الرسالة على الوجه الأكمل. وسبب آخر هو: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي ولهم آل القبط علي تبعة جرم بقتل قبطي خطأ قبل الرسالة أدى إلى خروجي من مصر، فأخاف إن كنت وحدي أن يقتلوني بسبب ذلك، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، وأما هارون فليس متهما بشيء، فيتحقق المقصود من البعثة. وهذا إيماء إلى أن الخوف قد يطرأ على الأنبياء كما يطرأ على غيرهم من البشر، وقد وقع مثل هذا لنبينا، حتى طمأنه الله بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . والخلاصة: هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه، وأسباب لبعثة هارون معه إلى فرعون وقومه، بدأ بخوف التكذيب من فرعون وملئه، ثم ثنّى بضيق الصدر تأثرا وتألما، ثم ثلّث بعدم انطلاق اللسان، وأما هارون فهو أفصح لسانا، وأهدأ بالا، ثم ربّع بوجود تبعة الذنب وهو جرم القتل خطأ قبل النبوة، فخاف أن يبادروا إلى قتله، فيفوت أداء الرسالة ونشرها. ويجمع مطالبه أمران: طلب دفع السوء أو الشر أو التقصير عنه، وإرسال هارون معه. فأجابه الله إليها فقال: قالَ: كَلَّا، فَاذْهَبا بِآياتِنا، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي قال الله له: ارتدع يا موسى عما تظن، ولا تخف من شيء، فإنهم لا يقدرون على قتلك، وأجابه إلى المطلب الثاني بقوله: فَاذْهَبا أي اذهب أنت وأخوك الذي طلبته وهو هارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقكما، وأنا ناصركما ومعينكما، كما قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه 20/ 46] أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي، وقوله: إِنَّا يريد

الأول:

نفسه تعالى، وقوله: مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون، وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما، وأنه يعينهما ويحفظهما. فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاذهبا إلى فرعون، فقولا له بلين ورفق: إننا رسولا ربّ العالمين أرسلنا الله لك ولقومك أي أرسل كلا منا إليك، فأطلق حرية بني إسرائيل، ليعبدوا ربّهم في أرض الله الواسعة، ويعودوا معنا إلى الأرض المقدسة: فلسطين. وجاء لفظ الرسول هنا مفردا، وفي آية أخرى مثنى إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه 20/ 47] لأن الرسول يطلق على الواحد وغيره، لأنه اسم جنس، أو لأنه بمعنى الرسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، أو لأنهما على شريعة واحدة وإخوة كأنهما رسول واحد، أو كل واحد منا رسول. فأعرض عنهما فرعون، ونظر إلى موسى وأجابه بازدراء وتقريع معاتبا إياه بأمرين: الأول: قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ أي في الكلام حذف، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون: ما هذا هو المؤمل منك، أأنت الذي ربيناك صغيرا في بيوتنا وعلى فراشنا، ولم نقتلك من جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك مدة من السنين- قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة- ثم تقابل الإحسان بكفر النعمة، وتبادرنا بما تقول؟ ومتى كان هذا الذي تدعيه؟

الثاني:

الثاني: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وقتلت أيضا رجلا منا، وهو ذلك القبطي الذي وكزته فقضيت عليه، وهو من أتباعي، فإنه كان خباز فرعون، وكنت من جاحدي النعمة، وهذا لا يليق في أخلاق الرجال من الوفاء وردّ الجميل. فأجاب موسى عن قضية القتل، وترك أمر التربية المعلومة الظاهرة والتي لم ينكرها موسى، لأن الرسول مطالب بتبليغ الرسالة سواء كان المرسل عليه أنعم عليه أم لا، والإعراض عن مثل هذا الكلام أولى، إذ لا مكابرة فيه. قالَ: فَعَلْتُها إِذاً، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى لفرعون: فعلت تلك الفعلة السيئة وهي قتل القبطي في تلك الحال، وأنا من المخطئين لا المتعمدين قبل أن يوحى إلى وينعم الله علي بالرسالة والنبوة كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو: وأنا من الجاهلين بأن ضربتي تؤدي إلى القتل، فإني تعمدت الوكز دفاعا وتأديبا، فأدى ذلك إلى القتل، وهو ما يسمى في القوانين الحديثة بالضرب المفضي إلى الموت. أي إن القتل الذي تعاتبني عليه لم يكن مقصودا مني. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي فولّيت هاربا إلى مدين خوفا من بأسكم، حين أخبرني رجل، فقال لي: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص 28/ 20] وجاء أمر آخر وهو أن الله منحني فهما وعلما وحكمة «1» ، وأرسلني إليك، فإن أطعته سلمت، وإن خالفته هلكت.

_ (1) قال الرازي: الأقرب أن الحكم غير النبوة، والنبوة مفهومة من قوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم: العلم، ويدخل في العلم: العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أجاب موسى عن فضل التربية لفرد والإساءة إلى جماعة وهم بنو إسرائيل فقال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل قومي، فجعلتهم عبيدا وخدما، يقومون في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له قيمة بالنظر إلى الإساءة إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم. فقوله: عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ معناه اتخذتهم عبيدا لك مستذلّين. وإنما جمع الضمير في مِنْكُمْ وخِفْتُكُمْ مع إفراده في تَمُنُّها وعَبَّدْتَ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله تعالى المتقدم: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد «1» فقه الحياة أو الأحكام: هذا هو الفصل الأول من قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، ويستفاد منه ما يأتي: 1- كان إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، ومعه قومه الظالمون بالشرك واستعباد الضعفاء إعذارا وإنذارا، حتى لا يبقى لهم ولأمثالهم حجة يتذرعون بها للجهل بحقيقة الإيمان والدين. 2- في قوله: أَلا يَتَّقُونَ حثّ شديد على التقوى لمن تدبر وتأمل ووعى المستقبل المنتظر. 3- قدّر موسى خطورة المهمة وأداء الرسالة التي كلف بها إلى فرعون فسأل ربّه أمرين: أن يدفع عنه شرهم، وأن يرسل معه هارون نبيا، فأجابه الله تعالى

_ (1) الكشاف: 2/ 422.

إلى الأمرين، فهدّأ خوفه وروعه، وأمره بالثقة بالله تعالى، وأيّده بنصره وعونه، وجعل أخاه رسولا مثله، ليؤازره ويعاونه، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 29- 32] ، وقال سبحانه: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص 28/ 34] . قال القرطبي: وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة، بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم «1» . 4- لا بدّ من اتخاذ الأسباب لكل مهمة خطيرة أو غير خطيرة، فذلك مأمور به شرعا، كما أن الحذر مطلوب، وتقدير المخاطر مما يوجبه الشرع والعقل. 5- لم يتردد موسى وأخوه هارون بعد هذا التأييد الإلهي من الذهاب إلى فرعون الظالم، وأعلنا له أنهما رسولان إليه من ربّ العالمين، وهذا واجب التبليغ الذي لا بدّ فيه من الجرأة والشجاعة والصبر، حتى إنه ذكر أن فرعون لم يأذن لهما سنة في الدخول عليه، ثم أذن استهزاء، فدخلا عليه وأدّيا الرسالة. 6- كان مطلب موسى وهارون بعد إعلان الرسالة والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك مطلبا عدلا، وهو إخلاء سبيل بني إسرائيل حتى يسيروا مع هذين الرسولين إلى فلسطين، وإنهاء عهد الاستعباد، فإن فرعون استعبدهم أربع مائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مائة وثلاثين ألفا. 7- إن حادثة قتل القبطي من قبل موسى عليه السلام كانت قبل النبوة في

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 92.

عهد الشباب، بدليل قوله بعدئذ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وحدثت تلك الحادثة خطأ من غير تعمد القتل، وجهلا بأن الوكزة تؤدي إلى القتل. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون عن ذلك أولا. 8- قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ مختلف في معناه وفائدته: - قال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. - وقال قتادة وغيره: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار، أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم، فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟! وقال الأخفش والفراء أيضا: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة؟! - وقال الضحّاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به. والظاهر لي هو المعنى الثاني، وهو ما جريت عليه في أثناء التفسير.

- 2 - الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله [سورة الشعراء (26) الآيات 23 إلى 31] :

- 2- الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) البلاغة: أَلا تَسْتَمِعُونَ صيغة تعجيب. إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ التأكيد بأنّ واللام لتشكك السامع وتردده. الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بينهما طباق. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال موسى ذلك في بدء مناظرته لفرعون وقومه بطريق التلطف والملاينة طمعا في إيمانهم، ثم لما رأى عنادهم ومغالطتهم وبخهم بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وهذا مقابل لقول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. المفردات اللغوية: قالَ فِرْعَوْنُ لموسى. وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما حقيقته وأيّ شيء هو الذي قلت: إنك رسوله. قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا لما لم يكن للخلق سبيل إلى معرفة حقيقته تعالى، وإنما يعرفونه بصفاته، أجابه موسى عليه السلام بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما، وهو أظهر خواصه وآثاره. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه تعالى خلق ذلك، فآمنوا به

المناسبة:

وحده، أو إن كنتم ذوي قلوب موقنة وأبصار نافذة، والمعنى: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ قال فرعون لأشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقة رب العالمين، فذكر أفعاله، أو يزعم أنه رب السموات وهي متحركة بذواتها وغير محتاجة إلى مؤثر، وهذا مذهب الدهرية، وفيه تعجب من نسبة الربوبية إلى غيره. قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قال موسى: إنه رب جميع الخلائق وإنه رب المشرق والمغرب، وهذا وإن كان داخلا فيما قبله الذي استوعب به الخلائق كلها، فإنه تخصيص بعد تعميم، لأنه أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل. إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولا على سبيل السخرية. قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما قال موسى: إنه الرب الذي تشاهدون آثاره كل يوم، فيأتي بالشمس من المشرق، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم ألا جواب لكم فوق ذاك. إنه بقوله السابق: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لاينهم أولا، ثم لما رأى شدتهم وخشانتهم عارضهم بمثل مقالتهم. قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قال فرعون، عدولا إلى التهديد عن المحاجة والمناظرة، وهكذا شأن المعاند المحجوج. وهذا دليل على ادعائه الألوهية وإنكاره للصانع. واللام في المسجونين للعهد، أي ممن عرفت حالهم في سجوني، فإن سجنه كان شديدا، يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده، لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا، حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل. قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال له موسى: أتفعل ذلك ولو جئتك ببرهان على رسالتي يعني المعجزة. والواو في قوله: أَوَواو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام. قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي قال فرعون له: فائت به إن كنت صادقا في أن لك بينة، أو في دعواك النبوة، فإن مدعي النبوة لا بد له من حجة. المناسبة: لما سمع فرعون جواب موسى عما طعن به فيه وهو القتل والتربية، ورأى أن موسى وهارون مصران على دعوتهما إلى توحيد الله، وطلبهما إخراج بني إسرائيل من مصر، شرع في الاعتراض على الدعوى، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل

التفسير والبيان:

للأنبياء، علما بأن فرعون لم يقل لموسى: وما ربّ العالمين إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، بدليل ما تقدم من قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. التفسير والبيان: هذه مناظرة بين موسى وفرعون حول الإله، فلما قال موسى وهارون لفرعون: إنا أرسلنا إليك من رب العالمين لهدايتك إلى الحق وتوحيد الله، وتفوّقا عليه بالحجة، لجأ إلى المعارضة، وأصرّ على جحوده وتمرده وطغيانه، فقال: قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي قال فرعون لموسى: وما حقيقة رب العالمين الذي أرسلك؟ ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ وسبب السؤال أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] فجحدوا الإله الصانع جلّ وعلا، واعتقدوا أنه لا رب لهم سوى فرعون. فأجابه موسى عليه السلام: قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي قال موسى: هو خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما من كواكب ونجوم، وبحار وجبال وأنهار وأشجار، وإنسان وحيوان ونبات، وما بينهما من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو، إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، الجميع عبيد له، خاضعون ذليلون، خلق الأشياء كلها، وهو المتصرف فيها. أو إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته، فاعرفوا أنه هو الله، وأنه لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. ونظير الآية قوله: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 20/ 49- 50] .

فلم يعجبه الجواب والتفت إلى خاصته ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي قال فرعون لحاشيته: ألا تعجبون من قوله وزعمه أن لكم إلها غيري، وأ لا تستمعون لتخريفه وتهربه من الجواب؟ أسأله عن حقيقة رب العالمين، فيذكر أفعاله وآثاره. فذكر موسى جوابا آخر أخص مما ذكر وأدل على المراد، لأنه واقع حسي مشاهد لهم: قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي إنه تعالى خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، والمقصود أن التغير من وجود إلى عدم وبالعكس دليل الحدوث، فأنتم محدثون، كنتم بعد العدم، وآباؤكم ماتوا بعد أن كانوا موجودين، وأنتم مثلهم على الطريق، أما الإله الواجب لذاته فهو الباقي الذي لا يطرأ عليه الفناء، ولا أول لوجوده ولا آخر، فهو إذن الإله. فلما حار فرعون ولم يجد جوابا مقنعا، لجأ إلى عقلية الصبية والاتهام الرخيص: قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم ليس له عقل، لا يفهم السؤال، فضلا عن أن يجيب عنه، وهو يخلط في كلامه، ويدعي أن هناك إلها غيري. فعدل موسى إلى طريق ثالث أوضح من الجواب الثاني فقال: قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي قال موسى: إنه الله تعالى رب طلوع الشمس وظهور النهار، ورب غروب الشمس وزوال النهار، وهو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا

تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع انتظام مداراتها، فهذا الذي يغير ويبدل، وينظم ويدبر تدبيرا مستمرا كل يوم هو الله، بل هو الذي يدبر الكون كله، لا أنتم، إن كان لكم عقل تدركون به ظواهر الكون، وهذا مناسب لقولهم واتهامهم بأنه مجنون. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا، فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربا، والمغرب مشرقا. وهذا الطريق في الاستدلال على وجود الله هو الذي سلكه إبراهيم الخليل عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة، وهو بعينه الذي أجاب به موسى هنا بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة 2/ 258] فقال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة 2/ 258] وهو الذي ذكره موسى هنا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. ولما غلب موسى فرعون بحجته، اتجه كأهل السلطة في كل زمان ومكان إلى التهديد والوعيد باستخدام القوة والقهر والسلطان، فقال: قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي قال فرعون: لئن ألّهت غيري، لجعلتك في عداد المسجونين الذين يزجّ بهم كما تعلم في قيعان السجون تحت الأرض، ويتركون حتى يموتوا، وكان سجنه أشد من القتل. فقابل موسى التهديد والتخويف بالمعجزات الخارقة للعادة بعد أن لم تفلح الأدلة العقلية، فقال: قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال موسى: أتفعل هذا وهو السجن، ولو أتيتك بحجة بيّنة، وبرهان قاطع واضح على صدق دعواي النبوة؟ وهي المعجزة الدالة على وجود الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قال فرعون: فأت بهذا الشيء الذي يشهد لك، والدليل الواضح على دعوى الرسالة، فكل من يدعي النبوة عليه تأييد دعواه، ظنا منه أنه سيعارضه. فقه الحياة أو الأحكام: هذه مناظرة حاسمة في شأن إثبات وجود الله بين موسى عليه السلام وفرعون الطاغية الجبار. يتبين منها النزعة المادية عند الماديين والملحدين، الذين يريدون رؤية الله تعالى بالعين المجردة أو لمسه بالحس المجاور، كشأن بقية المواد، لذا استفهم فرعون عن حقيقة رب العالمين، فأتى موسى عليه السلام بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته، التي لا يشاركه فيها مخلوق لأن حقيقة الله لا يدركها أحد، ولأن المادة المجسدة محدثة، والله تعالى هو خالقها وموجدها. وكان جواب موسى الأول أن الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما، فهو المالك والمتصرف وخالق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيّرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطير وغيرهما. وخلق الأشياء هو الدليل القاطع على وجود الله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] . فلما أدرك فرعون عجزه عن الإيجاد والخلق، قال: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ مستخدما أسلوب الإغراء والتعجب من غرابة المقالة التي تصادم المقرر في عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، كالفراعنة المتقدمين. ثم أتى موسى عليه السلام ثانيا بدليل يفهمونه عنه من الحس والمشاهدة التي

يطلبونها، فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي أن الله خالقهم وخالق آبائهم الأوائل، فانحدارهم من آباء فنوا، ووجودهم بعد أن لم يكونوا، دليل على أنه لا بدّ لهم من مغيّر، فهم محدثون، ولا بد لهم من مكوّن وهم مخلوقون. لم يجد فرعون جوابا، فلجأ إلى التهكم والاستخفاف واتهم موسى بالجنون لأنه لا يجيب عما سأله تماما. فأجابه موسى ثالثا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أي إن الله هو مسيّر نظام الكون كله، ومحرك هذا العالم بأجمعه في نظام بديع لا يعرف الخلل والاضطراب، ومالك جميع أنحاء الأرض، أما فرعون فيملك بلدا واحدا، لا سلطان له على غيره، فهل من عقل يدرك هذا، وهل من إدراك يؤدي بهم إلى ضرورة الإيمان بصاحب الملك المطلق، وأن المالك الجزئي عبث وسفه وجنون أن يكون إلها، فمن إله بقية العالم؟ ولما هزم فرعون أمام حجة موسى، لم يجد بدا من استخدام السلطة الإرهابية، فتوعد موسى بالسجن، وذلك عين الضعف، مع أنه كما يروى كان سجنه أشد من القتل، وكان إذا سجن أحدا، لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا. ولكن التأييد الإلهي أشد نفاذا وإرهابا وإقناعا، ولا يجدي معه توعد فرعون، ويهون أمامه كل مخاوف الدنيا، فحينئذ طلب موسى عليه السلام إثبات صدق دعواه النبوة بالمعجزة الخارقة للعادة التي لا تحدث إلا على يد نبي أو رسول بإحداث الله تعالى وإيجاده، فقبل فرعون إظهار تلك المعجزة، ظنا منه أنه سيبطلها، ويأتي بما يعارضها.

- 3 - معجزة موسى عليه السلام ووصف فرعون لها بالسحر [سورة الشعراء (26) الآيات 32 إلى 37] :

- 3- معجزة موسى عليه السلام ووصف فرعون لها بالسحر [سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الإعراب: أَرْجِهْ فعل أمر، أي أخر أمره وأمر أخيه، يقال: أرجأته وأرجيته، أي أخرته. وسكّنت الهاء لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرئ بكسر الهاء من غير إشباع، اكتفاء بالكسرة عن الياء، وقرئ بكسر الهاء والإشباع، وقرئ بالضم دون الإشباع على الأصل، وبالضم دون الإشباع، اكتفاء بالضمة عن الواو. المفردات اللغوية: ثُعْبانٌ ذكر الحيات. مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته بلا تمويه ولا تخييل، كما يفعل السحرة. وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه. بَيْضاءُ ذات شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسدّ الأفق. لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من ظاهرة الجلد واللحم والعظم. لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ للأشراف والرؤساء المستقرين حوله، فهو ظرف وقع موقع الحال. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. فَماذا تَأْمُرُونَ بهره سلطان المعجزة حتى أنساه دعوى الربوبية إلى الاستعانة بائتمار القوم وتنفيرهم عن موسى، وفيه استشعار بتغلبه واستيلائه على ملكه. أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما، وقيل: احبسهما. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أرسل في أنحاء البلاد شرطا يحشرون (يجمعون) السحرة. سَحَّارٍ عَلِيمٍ خبير بفن السحر يتفوق على موسى ويفضله.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: بعد أن وافق فرعون على إظهار موسى عليه السلام معجزته، أظهرها، فقال تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي رمى موسى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا واضحا ظاهرا، لا لبس فيه، ولا تمويه ولا تخييل. روي أنه لما انقلبت حية، ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت، ويقول فرعون: يا موسى، أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فعادت عصا «1» . والسبب في قوله هنا: ثُعْبانٌ مُبِينٌ وفي آية أخرى: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه 20/ 20] وفي آية ثالثة: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص 28/ 31] : أن الحية اسم الجنس، ثم إنها لكبرها صارت ثعبانا، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها. ولما أتى موسى عليه السلام بهذه الآية قال له فرعون: هل غيرها؟ قال: نعم، وهذا في الآية التالية: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي أدخل موسى يده في جيبه، ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء تلمع وتتلألأ للناظرين، لها شعاع كالشمس، يكاد يغشى الأبصار، ويسدّ الأفق. ومع هذا كله، أراد فرعون تعمية الأمر، فبادر بشقاوته إلى التكذيب والعناد، فذكر أمورا ثلاثة: 1- قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي قال لحاشيته من القادة وأشراف قومه الذين حوله: إن هذا الرجل لبارع في السحر، يريد بذلك وصف فعله بأنه سحر لا معجز. ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به فقال:

_ (1) تفسير الرازي 24/ 131، الكشاف 2/ 424.

2، 3- يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ أي يريد إخراجكم من وطنكم، ويتغلب عليكم بسحره، وبما يلقيه بينكم من العداوات، فيفرق جمعكم، ويكثر أعوانه وأنصاره، ويغلبكم على دولتكم، ويأخذ معه بني إسرائيل، فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به؟ إني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم، وهذا أسلوب يستنفر حماسهم وجهودهم وتوحيد كلمتهم لمطاردته والتغلب عليه، فاتفقوا على جواب واحد وهو: قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ، وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ أي قال مستشاروه بعد أن تشاوروا فيما يفعلون: أخر أمره ومناظرته وأخاه ولا تتعجل في عقابهما لوقت اجتماع السحرة، بأن تجمعهم من أنحاء البلاد، فتبعث في أرجاء مملكتك جامعين يحشرون السحرة، ويأتونك بكل خبير في السحر ماهر فيه، فيقابلون موسى بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت ويكون لك النصر والتأييد عليه. وكان هذا من تسخير الله تعالى لموسى وأخيه، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس جهارا نهارا. وقيل: معنى أَرْجِهْ احبسه، روي أن فرعون أراد قتله، ولم يكن يصل إليه، فقالوا له: لا تفعل، فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة، ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه، فلا يثبت له عليك حجة، ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنا منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه، وكشفوا حاله. ويلاحظ أنهم عارضوا قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم: بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة، ليطيبوا قلبه، وليسكنوا بعض قلقه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: كانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، فألقى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا وهو أعظم ما يكون من الحيّات، وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي تلألأ، كأنها قطعة من الشمس، لكن كان بياضها نورانيا كالقمر. فوصف فرعون تلك المعجزة لقومه بأنها من قبيل السحر، لا من قبيل المعجزة، وحرضهم على اتخاذ خطة للغلبة على موسى وأخيه، حتى لا يأخذ البلاد من أيديهم. وهنا جاء دور المزايدة كما يفعل أتباع الرؤساء اليوم، فأشاروا على فرعون بجمع مهرة السحرة من أرجاء البلاد، ليقابلوه بنظير ما جاء به موسى، وتتحقق لفرعون الغلبة والنصرة عليه. ولكن كان في هذا الجمع مفاجأة إلهية أدت إلى إيمان السحرة جميعا بإله موسى وهارون. - 4- إيمان السحرة بالله في المبارزة الحاسمة في مشهد عظيم [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 51] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

الإعراب:

الإعراب: قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من فَأُلْقِيَ أو حال بإضمار: قد. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل للتوضيح. المفردات اللغوية: لِمِيقاتِ ما وقت به من ساعات يوم معين، وهو وقت الضحى من يوم الزينة الذي حدده موسى عليه السلام. والميقات يطلق على الميقات الزماني كأشهر الحج، والميقات المكاني وهو مواقيت الإحرام. وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ الاستفهام للحث على مبادرتهم إلى الاجتماع. لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا، والترجي على تقدير غلبتهم، ليستمروا على دينهم، فلا يتبعوا موسى، فالمقصود الأصلي ألا يتبعوا موسى، لا أن يتبعوا السحرة، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه السلام. قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسلا به إلى إظهار الحق. بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أقسموا بعزة فرعون، أي قوته على أن الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر. تَلْقَفُ تبتلع. ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه، بتمويههم وتزويرهم، فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق، يخيل شيئا لا حقيقة له. وإنما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنهم أخذوا وطرحوا على

التفسير والبيان:

وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما تعهدهم به من التوفيق. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فيه إشعار بأن موجب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهارون لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر. قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون أآمنتم لموسى. آذَنَ لَكُمْ أنا. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ إن المسؤول هو كبيركم موسى الذي علمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم، وتواطأتم على ما حدث. أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني. لا ضَيْرَ لا ضرر علينا في ذلك وفيما يلحقنا من عذاب الدنيا. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إنا راجعون في الآخرة بعد موتنا إلى الله ربنا بأي وجه كان، فالصبر على الإيمان محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى. إِنَّا نَطْمَعُ نرجو. أَنْ كُنَّا بأن كنا أو لأن. أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ في زماننا. التفسير والبيان: أراد فرعون وقومه القبط أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، وهذا شأن الإيمان والكفر، والحق والباطل، ما تواجها وتقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء 21/ 18] ، وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء 17/ 81] . وهذا مشهد من مشاهد الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ جمع السحرة وجاؤوا من أقاليم مصر، في اليوم المخصص للقاء موسى، وهو وقت الضحى من يوم الزينة (العيد) كما حدد موسى: قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه 20/ 59] والميقات: ما وقت به الزمان أو المكان، ومنه مواقيت الإحرام. وكان السحرة أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكانوا هم الفئة المثقفة، وكانوا جمعا كثيرا، قيل: كانوا اثني عشر ألفا، وقيل أكثر، والله أعلم

بعددهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم: سابور وعاذور وحطحط ومصفى. وأراد موسى عليه السلام أن تقع تلك المبارزة يوم عيد لهم، ليكون ذلك أمام حشد عظيم، ولتظهر حجته عليهم أمام الجموع الغفيرة، وهذا كله من لطف الله تعالى في إظهار أمر موسى عليه السلام. وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟ أي طلب من الناس الاجتماع، وحثهم قوم فرعون على الحضور لمشاهدة ما يحدث من الجانبين، ثقة من فرعون بالغلبة، وهم أرادوا ذلك حتى لا يؤمن أحد بموسى، وموسى عليه السلام رغب أيضا في هذا التجمع لتعلو كلمة الله، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين. لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي وقال قائلهم: إنا نرجو أن يتغلب السحرة، فنستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى. ولم يقولوا: نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى لأن الرعية على دين ملكهم. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي لما قدم السحرة إلى مجلس فرعون، وقد جمع حوله وزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، قالوا: هل لنا أجر من مال أو غيره إن تغلبنا على موسى، قال: نعم لكم الأجر، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقربين عندي ومن جلسائي، فهم ابتدؤوا بطلب الجزاء: وهو إما المال وإما الجاه، فبذل لهم كلا الأمرين. وبعدئذ تحاوروا مع موسى على البادئ بالإلقاء، فجعلهم أولا كما قال تعالى: قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي أذن لهم موسى بالبدء بالإلقاء، وقال: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة منه بأن الله غالبة ومؤيده، وليكون

ما يلقونه طعمة لعصاه، بعد أن عرضوا عليه أن يبدأ أولا بالإلقاء، فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزئبق، والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزة فرعون أي بقوته وجبروته إنا لنحن المتغلبون عليه. فلما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وامتلأت الساحة بالحيات والثعابين، وخيل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، كما قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه 20/ 66- 68] وقال سبحانه: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. [الأعراف 7/ 116] . وحينئذ ابتهج فرعون وقومه، واعتقدوا أن السحرة غلبوا، وأن عصا موسى لن تفعل شيئا أمام آلاف الحيات. فأمره الله أن يلقي عصاه: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي فلما ألقى موسى عصاه، فإذا هي تبتلع من كل بقعة ما قلبوا صورته وزيفوا حاله بتمويههم وتخييلهم أنها حيات تسعى، فلم تدع منه شيئا، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف 7/ 117- 118] . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي فخرّ السحرة ساجدين بلا شعور لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل إليه الكون رب موسى وهارون، فلم يتمالكوا أنفسهم إلا ووجدوها ساجدة لهذا الإله، أما هم فقد بذلوا أقصى ما لديهم من علم وطاقة، وما هو منتهى فعل السحرة من تخييل وتمويه.

وفاعل الإلقاء في فَأُلْقِيَ أو نائب الفاعل هو الله عز وجل بما رزقهم من التوفيق، أو هو إيمانهم، أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة. ويجوز عدم تقدير فاعل لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. والتعبير بالإلقاء إشارة إلى الدهشة التي اعترتهم، حتى لكأنهم أخذوا فطرحوا وسقطوا ساجدين لله. ثم أعلنوا ما وقر في صدورهم: قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أي قال السحرة: صدقنا واعترفنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى وهارون، مفضلين الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، غير عائبين بعزة فرعون وجبروته وباطله، ولا طامعين بأجره وقربته ومنافعه. وهذا دليل على إسقاط ربوبية فرعون، وأن سبب الإيمان هو ما رأوه من معجزة الرسولين: موسى وهارون عليهما السلام. ولما رأى فرعون ما حدث أسقط في يده، وتحير في أمره، فلجأ إلى التهديد والوعيد شأن العتاة الظالمين، حتى لا تسقط هيبته أمام شعبه، وتتداعى أركان حكمه وسلطانه، ويفعل الناس مثل فعل السحرة الكثيرين، فإنه توقع الغلبة، ففوجئ بالهزيمة المنكرة، ولكن لم تفلح تهديداته في السحرة شيئا، وأصروا على الإيمان بالله تعالى، لانكشاف الحقيقة لهم، وقال لإنقاذ موقفه: أولا- قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قال فرعون للسحرة: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تخرجون عن طاعتي، وأنا الحاكم المطاع؟! وفي هذا إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه، وأنكم متهمون بالتواطؤ معه، فربما قصروا في إتقان السحر. وإنما قال لَهُ لا (به) لأنه الذي يدعو إليه موسى وهارون.

ثانيا- إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وهذا تصريح بما رمز إليه أولا، فإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، وقصّرتم في السحر، ليظهر أمر موسى. وهذا تلبيس على القوم وتضليل لهم لئلا يعتقدوا أن إيمان السحرة حق، ومبالغة في التنفير عن موسى عليه السلام، ومكابرة ظاهرة الضعف، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل الموعد أصلا، فكيف يكون هو كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثالثا- فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني من عقاب. وهذا وعيد مطلق وتهديد شديد. رابعا- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أي توعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والصلب بعد ذلك جميعا. وليس في الإهلاك أشد من ذلك. فأجابوه بما يدل على صلابة الإيمان بوجهين: الأول- قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الضر والضير واحد، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت، ولو بعد حين، والمرجع إلى الله عز وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، وهذا دليل على أنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم مرضاة الله تعالى، ولهذا قالوا: الثاني- إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا إشارة منهم إلى الكفر والسحر، أي إنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وما أكرهتنا عليه من السحر، من أجل أن كنا أول المؤمنين الذين شهدوا هذا الموقف، أو بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فما كان من فرعون إلا أن قتلهم جميعا. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء 26/ 82] ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيحصل في المستقبل. ونظير الآية: قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه 20/ 72- 73] . فقه الحياة أو الأحكام: كان اجتماع السحرة مع موسى عليه السلام للمبارزة أمام فرعون وملئه في مشهد عظيم خلده التاريخ، تبين فيه موقف أهل الحق والإيمان بالله، وموقف الأفاكين والمبطلين. اجتمع الناس يوم عيد للقبط هو يوم الزينة، كما حدد موسى عليه السلام: قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه 20/ 59] وحرض بعضهم بعضا على الحضور، ورجوا أو تأملوا غلبة السحرة على موسى وأخيه هارون. وبوادر الهزيمة كانت قائمة، فالسحرة أرادوا التفوق والغلبة لهدف دنيوي إما المال وإما الجاه، ووعدهم فرعون بالأمرين معا، وأما موسى وأخوه عليهما السلام فأرادوا نصرة الحق، وإثبات صدق النبوة والرسالة، وإعلاء كلمة الله، فأيدهما الله بنصره لأن المعجزة أمر خارق للعادة، مصدرها الإرادة الإلهية، وشتان بين قدرة الله وقدرة البشر! ومن علائم الهزيمة: ابتداء السحرة بإلقاء حبالهم وعصيهم لتكون طعمة لعصا موسى عليه السلام، بالرغم من انشداه الناس وانبهارهم بها، روي عن ابن عباس: أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم، وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق،

والعصي مجوفة مملوءة بالزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض، فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له: ألق ما في يمينك فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ثم فتحت فاها، فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم، حتى أكلت الكل، ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك قالوا لفرعون: كنا نساحر الناس، فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا، ولكن هذا حق، فسجدوا وآمنوا برب العالمين. أما عدد السحرة والحبال والعصي فليس فيها رواية ثابتة، والذي يدل عليه القرآن أنها كانت كثيرة، من حيث حشروا من كل بلد، ولأن فرعون اطمأن إلى الغلبة بهذا الجمع الغفير. ومن أمارات الهزيمة: أن السحرة قالوا حين الإلقاء: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي قطعوا بالغلبة، أما موسى فألقى باسم الله وعزته. والمفاجأة العظمى الأخرى غير نصر المعجزة لموسى عليه السلام هي إيمان السحرة بالله عز وجل، فخروا ساجدين لله تعالى لأنهم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا أن عصا موسى تبتلع كل ما صنعوا من تخييل وتمويه، وشاهدوا أن ذلك خارج عن حدّ السحر، علموا أنه ليس بسحر. وقد أعلنوا إيمانهم الجازم بالله عز وجل غير عائبين بتهديدات فرعون الجبار العاتي، وفضلوا الموت استشهادا في سبيل هذا الإيمان، مع تقطيع الأيدي والأرجل والصلب، على العودة إلى مستنقع الكفر وضلال السحر، وخلد القرآن الكريم موقفهم الصلب الثابت رضي الله عنهم، بأمرين: الأول- التفاني في حب الله وابتغاء مرضاته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو

- 5 - نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده [سورة الشعراء (26) الآيات 52 إلى 68] :

رهبة من عقاب: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وهذا أعلى درجات الصديقين. الثاني- التخلص من تبعات الماضي الذميم القائم على الكفر والسحر: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا فكانوا بذلك السباقين إلى الإيمان في بيئة تغصّ بالكفر أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. - 5- نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) الإعراب: أَنْ أَسْرِ في موضع نصب ب أَوْحَيْنا وتقديره: بأن أسر، فحذفت الباء، فاتصل الفعل به.

البلاغة:

لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ إنما جمع قَلِيلُونَ وإن كان لفظ لَشِرْذِمَةٌ مفردا، حملا على المعنى لأن الشرذمة جماعة من الناس، موافقة لرؤوس الآي، ولو أفرد لكان جائزا حملا على اللفظ. كَذلِكَ فيه ثلاثة أوجه: النصب بفعل مقدر أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا. والجر على أنه وصف لمقام، أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. مُشْرِقِينَ حال لقوم فرعون. فَانْفَلَقَ معطوف على جملة فعلية محذوفة، تقديرها: ضرب البحر فانفلق، ويجوز حذف الجملة الفعلية، كما يجوز حذف الجملة الاسمية، كقولهم: زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو أبوه منطلق، مثل: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر. البلاغة: فَانْفَلَقَ إيجاز بالحذف، أي فضرب البحر فانفلق. كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه وحذف وجه الشبه، أي كالجبل في رسوخه وثباته. المفردات اللغوية: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أي بعد سنين أقامها في مصر يدعو شعبها بآيات الله إلى الحق، فلم يزيدوا إلا عتوا وفسادا وإعراضا. أَنْ أَسْرِ أي سر بهم ليلا، وأسر: من سرى بمعنى أسرى: سار ليلا، وقد أمر موسى بالتوجه إلى البحر. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده، وهو علة الأمر بالإسراء، فإذا اتبعوكم مصبحين قبل وصولكم إلى البحر أنجيكم وأغرقهم، إذ إنهم يسيرون وراءكم، ويدخلون في مساركم في البحر. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسيرهم. فِي الْمَدائِنِ قيل: كان له ألف مدينة، واثنا عشر ألف قرية. حاشِرِينَ جامعين العساكر ليتبعوهم. لَشِرْذِمَةٌ طائفة. قَلِيلُونَ قللهم بالنظر إلى كثرة جيشه، قيل: كان بنو إسرائيل ست مائة وسبعين ألفا، ومقدمة جيش فرعون سبع مائة ألف، كل رجل على حصان، وعلى رأسه خوذة، أما الجيش فهو مليون وخمس مائة ألف، والتحديد بهذه الأعداد محل نظر لم يثبت، والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي لفاعلون ما يغيظنا. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ وإنا لجميع مستعدون في حذر وحزم في الأمور. وقرئ: حذرون أي متيقظون. فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه، أي هيأنا في أنفسهم دواعي الخروج وحملناهم عليه. جَنَّاتٍ بساتين كانت على جانبي النيل. وَعُيُونٍ أنهار

مقدمة لخروج بني إسرائيل من مصر:

جارية في الدور من النيل. وَكُنُوزٍ أموال كنزوها أو خزنوها في الأرض. وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي قصور عالية ومنازل فخمة. كَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، أو كذلك إخراجنا كما وصفنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ بعد إغراق فرعون وقومه. فَأَتْبَعُوهُمْ لحقوهم. مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر. لَمُدْرَكُونَ لملحقون، يدركنا جمع فرعون، ولا طاقة لنا به. قالَ موسى. كَلَّا أي لن يدركونا. إِنَّ مَعِي رَبِّي بالحفظ والنصرة. سَيَهْدِينِ طريق النجاة منهم. أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي البحر الأحمر (القلزم) أو النيل. فَانْفَلَقَ أي فضرب، فانشق اثني عشر فرقا بينها مسالك. فِرْقٍ قطعة من البحر. كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الضخم الثابت، فدخلوا في شعابها، كل سبط في شعب، لم يبتل منها أحد. وَأَزْلَفْنا قرّبنا. ثَمَّ هناك. الْآخَرِينَ فرعون وقومه، حتى دخلوا وراءهم مداخلهم، وسلكوا مسالكهم. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وقومه، بإطباق البحر عليهم، لما تمّ دخولهم في البحر، وخروج بني إسرائيل منه. إِنَّ فِي ذلِكَ الإغراق. لَآيَةً لعظة وعبرة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وما تنبه عليها أكثرهم، إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي. مصر من القبط غير آسية امرأة فرعون، وأبيها (حزقيل) مؤمن ال فرعون، ومريم بنت ذا موسى التي دلت على عظام يوسف عليه السلام، وكذلك بنو إسرائيل بعد النجاة سألوا بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 2/ 55] . الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه. الرَّحِيمُ بالمؤمنين، فأنجاهم من الغرق. مقدمة لخروج بني إسرائيل من مصر: ذكر المفسرون أنه لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم في ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عزّ وجلّ. خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، قائلين لهم: إن لنا في هذه الليلة عيدا. وكان خروجه بهم وقت طلوع القمر.

التفسير والبيان:

وكان موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم لأن يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوه معهم. التفسير والبيان: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ: أوحى الله إلى موسى أن يسير ليلا باتجاه البحر مع قومه بني إسرائيل، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون وقومه سيتبعونهم، حتى إذا تبعوهم مصبحين، تقدموا عليهم ولم يدركوهم قبل وصولهم إلى البحر، فيدخلون فيه، ثم يلحقهم في مسالكهم فرعون وجنده، فيطبقه عليهم ويغرقهم. وكانت إقامة بني إسرائيل في مصر 430 سنة، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد. وكان عددهم كما روي عن ابن عباس ست مائة ألف ماش من الرجال. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي فلما أصبح فرعون وقومه وعلم بخروج بني إسرائيل، غاظه ذلك واشتد غضبه على بني إسرائيل، فأرسل سريعا في مدائن مصر من يحشر الجند كالنقباء والحجّاب. واستخدم فرعون أسلوب التعبئة المعنوية لتحريض قومه على الخروج معه، فوصف بني إسرائيل بثلاث صفات: 1- إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ إن بني إسرائيل لطائفة قليلة، فيسهل متابعتهم وأسرهم أو قتلهم أو إعادتهم إلى العبودية. 2- وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي أنهم في كل آونة يغيظوننا ويضايقوننا، بالفتنة والشغب، وقد ذهبوا بأموالنا، وخرجوا عن عبوديتنا، وخالفوا ديننا.

3- وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي وإن جميعنا قوم آخذون حذرنا وأهبتنا ومستعدون بالسلاح، وإني أريد إبادتهم واستئصالهم. فجمع الجموع الغفيرة، ولا يوجد رواية ثابتة تحصي عددهم، ولا عدد بني إسرائيل، لكن من المؤكد أن عددهم كان أقل من عدد جند فرعون. فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي فجعلنا في قلوبهم داعية الخروج، وخرجوا من النعيم إلى الجحيم، وتركوا البساتين الخضراء، والرياض الغناء، والأنهار الجارية والأموال المكنوزة المخزونة في الأرض والمنازل العالية والدور الفخمة والملك والجاه العظيم في الدنيا. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي كان الأمر حقا كما قلنا، وكذلك كان إخراجنا كما وصفنا، وورثنا بني إسرائيل تلك الثروات، وتحولوا من العبودية إلى الحرية والاستقلال والترف والنعيم، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] ، وقال سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] . فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس على خليج السويس. وفي هذه الآونة ظهرت المخاوف على بني إسرائيل، فقال تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ، قالَ أَصْحابُ مُوسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي فلما رأى كل من الفريقين صاحبه، قال بنو إسرائيل وقد أيقنوا بالهلاك: إن فرعون وجنوده لحقوا بنا وسيقتلوننا، أو إنا لمتابعون وسنموت على أيديهم. فطمأنهم موسى عليه السلام وهدّأ نفوسهم قائلا: قالَ: كَلَّا، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ قال موسى: كلا لا يدركوننا، إن

معي ربي بالحفظ والنصرة سيهديني إلى طريق النجاة والخلاص منهم، وسينصرني عليهم وأوحى الله إلى موسى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي أمر الله موسى بضرب البحر بعصاه، فضربه بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق اثني عشر طريقا، وصارت كل قطعة من الماء المجوز عن الانسياب الواقف عن التحرك كالجبل الشامخ الكبير، وكانت الطرق الجافة بالهواء والشمس بعدد أسباط بني إسرائيل، لكل سبط منهم طريق، كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه 20/ 77] . وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي وقرّبنا من البحر هنالك الآخرين وهم فرعون وجنوده، فتبعوهم. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، ولم يبق منهم أحد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن في هذه القصة وما فيها من العجائب لعبرة وعظة وآية دالة على قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى إنجاء عباد الله المؤمنين وإهلاك الكافرين. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي ولم يؤمن أكثر من بقي في مصر من القبط، وكذلك لم يؤمن أكثر بني إسرائيل، فإن هذه المعجزة تحمل على الإيمان، ومع ذلك كذب بنو إسرائيل، واتخذوا العجل إلها، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وفي هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما أغمه وأحزنه من تكذيب قومه، مع قيام

فقه الحياة أو الأحكام:

الأدلة والمعجزات على الإيمان بالله والرسل. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن الله تعالى لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين. وهذا بشارة بالنصر للنبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل القريب. فقه الحياة أو الأحكام: في هذا الفصل الخامس والأخير من قصة موسى وفرعون حسم الموقف حسما يظهر قدرة الله تعالى في أحلك الساعات وأشد الأزمات، ويبين مدى ضعف الاعتماد على القوة البشرية الظالمة في مواجهة قدرة الله تعالى واختراعه، أما عصا موسى فمجرد ضربها ليس بفارق للبحر إلا بما اقترن به من إظهار القدرة الإلهية، وهذا ما يجب التبصر به بالنسبة للكافرين غير المؤمنين الهازئين بتأثير العصا في فلق البحر اثني عشر طريقا يبسا. ومن حكمته تعالى أن يستدرج الظالمين إلى الهاوية والهلاك، فيغرقهم جميعا ليكون عبرة للمعتبر، وأن يقود جيش الإيمان بقيادة نبيهم إلى ساحل النجاة، ليظهر فضله، وتمام نعمته عليهم، وكان بإمكان الله تعالى أن يهلك فرعون وجنوده في قلب مملكته وفي أرض دولته. وإظهارا لتلك الحكمة وسنته تعالى في عباده لإنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده لأنهم آمنوا بموسى، وأوحى إليه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم ليردوهم إلى بلاد مصر، لإبقائهم عبيدا أرقاء. فجمّع فرعون عساكره، وأعد جيشه في اليوم التالي لمسيرة موسى ببني إسرائيل ليلا، مستنفرا القوى العسكرية بأن هؤلاء طائفة قليلة حقيرة، وأنهم

أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها كما تقدم بيانه، وأننا مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وكان هذا الاستنفار تجريدا لهم من أرض مصر وما فيها من أشجار وأنهار ومنازل عالية، وجعل ممتلكاتهم إرثا مشروعا لبني إسرائيل الذين كانوا عبيدا أذلاء مستضعفين في مصر. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حليّ آل فرعون بأمر الله تعالى. قال القرطبي: وكلا الأمرين حصل لهم، والحمد لله، أي فقد عادوا إلى مصر وأصبحوا قادتها وسادتها وملاكها. وتبع فرعون وقومه بني إسرائيل حين أشرقت الشمس. وكان سبب تأخر فرعون وقومه إما اشتغالهم بدفن بناتهم الأبكار الذين ماتوا في تلك الليلة بسبب وباء وقع فيهم، وإما لأن سحابة أظلتهم وظلمة أعاقتهم، فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا. فلما تقابل الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه، خاف أصحاب موسى، وقالوا: لقد قرب منا العدو ولا طاقة لنا به، فالعدو وراءنا والبحر أمامنا، وساءت ظنونهم، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فردّ عليهم قولهم وزجرهم وذكّرهم وعد الله سبحانه بالهداية والظفر، قائلا لهم: كَلَّا لم يدركوكم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي معي بالنصر على العدو، وسيدلني على طريق النجاة. فلما عظم البلاء واشتدّ خوف بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه لأنه تعالى أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة في الظاهر بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى

واختراعه، وجعل هذا من معجزات موسى عليه السلام. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالجبل العظيم، وكأنه جمّد، فصار البحر طريقا يبسا بتأثير رياح لفحتها وجففتها وجعلتها كوجه الأرض، كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه 20/ 77] . وقرّب الله فرعون وقومه إلى البحر، والغيظ يملأ نفوسهم، ونار الحقد تغلي في قلوبهم كالمراجل، وأنجى موسى ومن معه أجمعين، ثم لما صار الآخرون في وسط البحر أطبقه عليهم وأغرقهم جميعا. إنها آية وأي آية! عظة للمتعظ وعبرة للمعتبر المتأمل، حقا، إن الذي حدث في البحر آية عجيبة من آيات الله العظام الدالة على قدرته، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له، وعلى اعتبار المعتبرين به أبدا. وفي هذا تحذير شديد من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى، وأمر رسوله، ويكون فيه اعتبار وتسلية لمحمد صلّى الله عليه وسلم الذي كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات، فلا تعجب يا محمد من تكذيب أكثر قومك لك، واصبر على إيذائهم، فلعلهم أن يصلحوا، لذا قال تعالى عقيب ذلك: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ سواء من قوم فرعون أو من قوم موسى، فإنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل، وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وأما قوم موسى فبعد أن نجوا، عبدوا العجل، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً!! [البقرة 2/ 55] .

القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام:

القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام - 1- التنديد بعبادة الأصنام وبيان صفات الرّب المستحق للعبادة [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) الإعراب: إِذْ قالَ بدل من قوله نَبَأَ إِبْراهِيمَ. هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ فيه مضاف محذوف، أي هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ عَدُوٌّ: اسم مفرد يؤدي معنى الجمع. ورَبَّ الْعالَمِينَ: منصوب على الاستثناء المنقطع لأنه سبحانه ليس من أعداء إبراهيم. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الَّذِي مبتدأ، وفَهُوَ يَهْدِينِ خبره، والفاء للسببية.

البلاغة:

وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ عطف على الَّذِي المتقدم، وخبره محذوف. وتقديره: والذي هو يطعمني ويسقيني، فهو يهدين. وكذلك كل ما جاء بعدها من الَّذِي إلى قوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ... خبره: «فهو يهدين» مقدرا. البلاغة: يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ بينهما طباق، وكذلك بين يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أسند المرض لنفسه مراعاة للأدب تأدبا مع الله لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبا، وإن كان المرض والشفاء كلاهما من الله، فلم يقل: أمرضني. المفردات اللغوية: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي العرب ومنهم كفار مكة وأمثالهم. نَبَأَ خبر مهم. ما تَعْبُدُونَ؟ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة. نَعْبُدُ أَصْناماً صرحوا بالفعل. فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: ندوم مقيمين على عبادتها، وزادوا هذا الجواب على قولهم: نَعْبُدُ تبجحا وافتخارا به، وإظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج. إِذْ تَدْعُونَ حين تدعون. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ حين تعبدونهم. أَوْ يَضُرُّونَ أي يضرونكم إن لم تعبدوهم. ومجيئه مضارعا مع إِذْ على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. كَذلِكَ يَفْعَلُونَ مثل فعلنا، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بالتقليد. وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ التقدم لا يدل على الصحة، ولا ينقلب به الباطل حقا. عَدُوٌّ لِي لا أعبدهم، والمراد أنهم أعداء لعابديهم لأنهم يتضررون من جهتهم، لكنه صوّر الأمر في نفسه تعريضا لهم، فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه، ليكون أدعى إلى القبول. وإفراد لفظ العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب أي عدوي، أجراه على النسب. إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ لكن ربّ العالمين فإني أعبده، استثناء منقطع. فَهُوَ يَهْدِينِ إلى الدين لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد، هداية مطردة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضارّ، كما قال تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] وتبدأ الهداية في الإنسان من وقت هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، وتنتهي إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها. أَطْمَعُ أرجو. يَوْمَ الدِّينِ الجزاء. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى في أول السورة شدة حزن محمد صلّى الله عليه وسلم بسبب كفر

التفسير والبيان:

قومه، ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة حصلت لموسى فيكون ذلك تسلية له، ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضا أن حزن إبراهيم كان أشد من حزنه لأنه يرى أباه وقومه في النار، وهو لا يتمكن من إنقاذهم، وكل ذلك إشارة إلى أن معارضة الرسل من أقوامهم أمر قديم ومستمر، فلا داعي للغم والحزن. التفسير والبيان: هذا هو الفصل الأول من قصة إبراهيم إمام الحنفاء عليه السلام مع قومه، موضوعه الإنكار على قومه عبادة الأصنام مع الله عزّ وجلّ، وتبيان صفات الربّ الذي يجب أن يعبد، فقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي واتل يا محمد على أمتك خبر إبراهيم عليه السلام، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله، وعبادته وحده لا شريك له، والتبري من الشرك وأهله، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره إلى كبره، ولما شبّ أنكر على قومه عبادة الأصنام، وقال لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ليلفت نظرهم إلى أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل. فأجابوه مقرين بعبادة الأصنام، ومظهرين لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بها: قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي قال قوم إبراهيم: نعبد هذه الأصنام، وندوم مقيمين على عبادتها في الليل والنهار. فناقشهم في جدوى تلك العبادة متعجبا من فعلهم: قالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ أي قال إبراهيم: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، وهل يجلبون لكم نفعا أو يدفعون

عنكم ضررا؟ إذ ما الفائدة من عبادة لا هدف لها؟ فهل تفكرون قليلا، وتتأملون كثيرا فيما تفعلون؟ وكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه؟ قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ لم يجدوا جوابا مقنعا يرد حجة إبراهيم إلا التمسك بالتقليد الأعمى للآباء والأجداد، وليس لهم حجة مقبولة لتسويغ عبادتها وتقديسها. وهذا من أقوى الأدلة على فساد التقليد في العقائد ووجوب الاعتماد على الاستدلال العقلي المقنع لأن الله أورد ذلك ذما لطريقة الكفار وإنكارا لمنهجهم. فتقوّى إبراهيم في تقريعهم وتوبيخهم وتحديهم، فسألهم: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أخبروني عن حال ما تعبدونه، أنتم وآباؤكم وأجدادكم الغابرون من قديم الزمان إلى الآن، هل حققت هذه العبادة شيئا، وهل استحقت تلك الأصنام الجمادات التي لا تسمع ولا تنطق عبادة العابدين؟ فإن كان لهذه الأصنام تأثير، فلتجلب إليّ الإساءة والأذى، فإني عدو لها لا أعبدها، ولا أبالي بها، ولا أفكر فيها. وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، وتحد صارخ لصحة ما يعبدون. لكن ربّ العالمين الذي خلقني ورزقني، وهو وليي في الدنيا والآخرة هو الذي أعبده وأنحني إجلالا لعظمته وعزته، فعبادتي للأصنام عبادة للعدو، لذا اجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله. وهذا نصيحة لنفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. وهذا نظير قول نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس 10/ 71] وقول هود عليه السلام: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ

إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود 11/ 54- 56] . ثم أكد إبراهيم أنه لا يعبد إلا المتصف بهذه الأوصاف الخمسة وهي: 1- الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي هو الخالق المبدع الموجد الذي خلقني وغيري من المخلوقات، وهو الذي يهديني دائما لما فيه الخير في الدنيا والآخرة، كما قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 2- 3] أي الخالق الذي قدر قدرا، وسوى المخلوق في أحسن تقويم، وهدى الخلائق إليه، فكلّ يجري على ما قدر له، فبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع لكل منتفع. 2- وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي هو خالقي ورازقي بما يسّر من الأسباب السماوية والأرضية، فأنزل الماء، وأحيى به الأرض، وأخرج به من الثمرات المختلفة رزقا للعباد، وأوجد الأنعام وغيرها، فوفر للإنسان الطعام والشراب وغيرهما من كل ما يتصل بالرزق. 3- وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي وإذا طرأ علي مرض، فهو تعالى الذي ينعم علي بالشفاء منه. ويلاحظ أنه نسب المرض إلى نفسه ولم يقل: أمرضني، تأدبا مع الله، وإن كان المرض والشفاء من الله عزّ وجلّ جميعا وكلاهما يحدث بقدر الله وقضائه، كما قال تعالى آمرا المصلي أن يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.. [الفاتحة 1/ 7] أسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى، وحذف فاعل الغضب أدبا وأسند الضلال إلى البشر، وكما قال فتى موسى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف 18/ 63] ، وكما قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن 72/ 10] . وهنا أضاف إبراهيم المرض إليه، أي إذا وقعت في مرض، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غير الله بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.

4- وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي وهو الذي يحيي ويميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد، والمراد منه الإماتة في الدنيا، والإعادة والبعث في الآخرة، بدليل عطفه ب ثُمَّ. 5- وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي وهو الذي أرجو أن يستر ذنبي يوم القيامة، فإنه لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو، كما قال: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ [آل عمران 3/ 135] . وإنما قال أَطْمَعُ مع أنه صلّى الله عليه وسلم كان قاطعا بذلك لأنه لا يجب على الله لأحد شيء، فاستعمال الرجاء والظن للدلالة على أن الثواب ورفع العذاب فضل من الله ونعمة. وأسند إلى نفسه الخطيئة، مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا قطعا، مريدا بذلك تسمية ما صدر عنه من عمل هو خلاف الأولى خطيئة، استعظاما له. وعلّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يظهر يوم الدين. وقال: لِي في قوله: أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي لبيان أن غفرانه لي ولأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه البتة. والخلاصة: أن هذا من إبراهيم عليه السلام إظهار للعبودية، وإن كان يعلم أنه مغفور له. جاء في صحيح مسلم عن عائشة: «قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . ويوم الدين: هو يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: إن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام هنا كان لتنبيه المشركين على فرط جهلهم إذا رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه، وهو أبوهم، وليسرّى «1» عن النبي صلّى الله عليه وسلم مما وقع فيه من همّ وغم وحزن لإعراض قومه عن الإيمان برسالته. وتتضمن القصة نقاشا حادا بين سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وبين أبيه وقومه في فائدة عبادة الأصنام، حرصا على عدم إضاعة جهودهم سدى، فإن العبادة تكون عادة لفائدة، ويدرك كل عاقل أن هذه الأصنام الجمادات لا تأتي بخير أو رزق، ولا تملك لأحد خيرا، كما لا تدفع عنه ضرا إن عصيت، فإذا لم ينفعوكم أيها الوثنيون ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟ ولما وجدوا هذه الحجة مقنعة وقاطعة في الإفهام وإثبات المراد، لجؤوا إلى التمسك بالتقليد للآباء والأجداد من غير حجة ولا دليل. وفي هذا دلالة كافية على ذم التقليد وفساده في شأن العقائد، وأنه لا بد في تكوينه وإثباته من الاعتماد على الدليل المقنع المنطقي. فأكد إبراهيم الخليل قوله السابق، وأفهم هؤلاء القوم الجهلة بأن عبادة هذه الأصنام ضرر محض لعابديها، وأنه لا تنبغي العبادة إلا لله ربّ العالمين من الإنس والجن والملائكة، فمن عبده انتفع ودفع الضرر عن نفسه في الدنيا والآخرة، ومن أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى. ثم إن صفات هذا المعبود بحق تستوجب عبادته والتقرب إليه، فهو الخالق الهادي المرشد إلى الدين الحق، وهو الذي يرزق الطعام والشراب وغيرهما من المنافع، لا غيره، وهو الشافي المعافي، وهو المميت والمحيي، أي الموجد من العدم،

_ (1) سرّي عنه، وانسرى عنه الهم: انكشف.

- 2 - دعاء إبراهيم عليه السلام دعاء المخلصين الأوابين [سورة الشعراء (26) الآيات 83 إلى 89] :

ثم المفني، ثم الباعث البعث، وهو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، الفعال لما يشاء. - 2- دعاء إبراهيم عليه السلام دعاء المخلصين الأوّابين [سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) البلاغة: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ استعارة، استعار اللسان للذكر الجميل والثناء الحسن. المفردات اللغوية: حُكْماً فهما وعلما بالخير وعملا به وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء، والمراد: وفقني للأعمال التي تجعلني في زمرة الصالحين البعيدين عن صغائر الذنوب وكبائرها. لِسانَ صِدْقٍ ثناء حسنا وصيتا طيبا في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، بتوفيقي للعمل الصالح، حتى يقتدي بي الناس. فِي الْآخِرِينَ الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ في الآخرة، أي ممن يعطاها ويتمتعون بها، كما يتمتع الناس بميراث الدنيا. وَاغْفِرْ لِأَبِي بأن توفقه للهداية والإيمان وتتوب عليه، فتغفر له لأن المغفرة مشروطة بالإسلام، فهذا دعاء لأبيه بالإسلام. إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ طريق الحق أي المشركين. وهذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله. وَلا تُخْزِنِي لا تهنّي، من الخزي: وهو الهوان، أو من الخزاية وهي الحياء. يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي الناس، فالضمير للعباد لأنهم معلومون أو للضالين. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي مخلصا سليم القلب من الكفر والنفاق وميل للمعاصي، وهو قلب المؤمنين.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أثنى إبراهيم عليه السلام على ربه وعظم شأنه، وعدّد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، أتبع ذلك بالدعاء بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، وهذا على ما هو مطلوب من تقديم الثناء على الدعاء. التفسير والبيان: سأل إبراهيم الخليل ربّه أمورا في هذه الدعوات تجعله من الأخيار المصطفين، للتعليم والاقتداء به، وتلك الأمور هي: 1- رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي امنحني يا رب علما وفهما ومعرفة تنير بها قلبي للتعرف على صفاتك، وإدراك الحق والصواب لأعمل به. 2- وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي وفقني لطاعتك، لأنتظم في زمرة الكاملين في الصلاح المنزهين عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، واجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم عند الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى» قالها ثلاثا. وقال صلّى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدّلين» . وقد أجاب الله دعاء إبراهيم كما قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت 29/ 27] . 3- وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به في الدنيا، بتوفيقي للعمل الصالح، فيقتدى بي في الخير. فأجاب الله دعاءه كما قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات 37/ 108- 110] .

قال مجاهد وقتادة: اللسان الصدق: يعني الثناء الحسن. وقد اتفقت الملل على محبة إبراهيم عليه السلام وجعله قدوة في الدين. وبعد أن طلب سعادة الدنيا، طلب ثواب الآخرة، فقال: 4- وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي واجعلني من أهل الجنة الذين يتمتعون بخيراتها ونعيمها، كما يتمتع الوارث بإرث غيره في الدنيا. وبعد أن طلب لنفسه السعادة الدنيوية والأخروية طلبها لأبيه ولي نعمته وسبب وجوده، فقال: 5- وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ كما قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إبراهيم 14/ 41] أي اغفر له ذنوبه ووفقه للتوبة والإسلام، فإنه ضالّ عن طريق الهدى والحق، أي إنه مشرك. وهذا وفاء بما وعده من قبل، وقبل أن يتبين أنه عدو لله، كما قال تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة 9/ 114] . ثم طلب الستر التام في الآخرة فقال: 6- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تفضحني بعتاب على ما فرطت، أو بنقص منزلة عن وارث، وأجرني من الخزي والهوان يوم القيامة ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وهذا مبالغة منه صلّى الله عليه وسلم في تحري الكمال والسلامة والنجاة، في يوم شديد الأهوال، وصفه فقال: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي ذلك اليوم الذي لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، ولا أولاده ولو افتدى بمن على الأرض جميعا، وإنما ينفع يومئذ الإيمان بالله تعالى،

فقه الحياة أو الأحكام:

وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك وأهله. فالمراد بالقلب السليم: هو الخالي من العقائد الفاسدة والأخلاق المرذولة والميل إلى المعاصي، وعلى رأسها الكفر والشرك والنفاق، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: القلب السليم: هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة 2/ 10] . فقه الحياة أو الأحكام: جمع إبراهيم الخليل عليه السلام في دعائه هذا خيري الدنيا والآخرة، فطلب أن يؤتيه الله علما وفهما ومعرفة بالله عز وجل وبحدوده وأحكامه. ثم طلب أن يخلد ذكره الجميل في الدنيا، ويمنح الثناء الحسن بالتوفيق لصالح العمل، وقال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه، ثم سأل الله أن يكون من أهل الجنة الذين يتمتعون بنعيمها. روى أشهب عن مالك قال: قال الله عز وجل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ: لا بأس أن يحبّ الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه 20/ 39] وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم 19/ 96] أي حبا في قلوب عباده، وثناء حسنا. فنبه تعالى بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل، فهو الحياة الثانية. وفي هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .

ثم سأل الله تعالى أن يوفق أباه، ويهديه للإسلام والإيمان، ويخرجه من الشرك، لأن أباه وعده في الظاهر أن يؤمن به، فاستغفر له لهذا، فلما بأن أنه لا يفي بما قال، تبرأ منه. وختم إبراهيم دعاءه بالستر التام والسلامة والنجاة فقال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة. ثبت في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة، عليه الغبرة والقترة» والغبرة هي القترة. وفي البخاري أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه، فيقول: يا ربّ، إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين» . ووصف إبراهيم يوم القيامة بأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون أحدا، ولكن ينفع القلب السليم وهو الخالص من الشك والشرك. أما الذنوب فلا يسلم منها أحد، وهذا رأي أكثر المفسرين. وخص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح. ومن المعلوم أن ذكر الله تعالى على الدوام من أهم حالات وأسباب ترويض القلوب على السلامة والخلوص من الأوصاف الذميمة، والاتصاف بالأوصاف الجميلة، جاء في الأثر أو الحديث القدسي عن الله تعالى فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري: «من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» . وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية، قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لو علمنا أيّ المال خير اتخذناه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» .

- 3 - أوصاف يوم القيامة وثواب الله وعقابه وندم المشركين على ضلالهم [سورة الشعراء (26) الآيات 90 إلى 104] :

والخلاصة: أن هذه الأدعية من أبي الأنبياء وإمام الحنفاء تستهدف التوجيه والتعليم والاتباع والالتزام، فما علينا إلا تردادها والعمل بها. - 3- أوصاف يوم القيامة وثواب الله وعقابه وندم المشركين على ضلالهم [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) الإعراب: أَجْمَعُونَ إما تأكيد للجنود إن جعل مبتدأ، وخبره ما بعده، وإما تأكيد للضمير هُمْ وما عطف عليه. تَاللَّهِ إِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي إنه. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: فتح أن لوقوعها بعد لو وإنما فتحت بعد لو لأنها لا يقع بعدها إلا الفعل، وهو فعل لا يجوز إظهاره، وتقديره: لو وقع أن لنا كرة. ونكون: منصوب على جواب التمني بالفاء بتقدير «أن» لأن «لو» في معنى التمني.

البلاغة:

البلاغة: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ووَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ بينهما مقابلة. لِلْمُتَّقِينَ لِلْغاوِينَ مُبِينٍ الْعالَمِينَ شافِعِينَ الْمُؤْمِنِينَ سجع ومراعاة للفواصل أواخر الآيات. تَعْبُدُونَ يَنْتَصِرُونَ الْغاوُونَ أَجْمَعُونَ يَخْتَصِمُونَ الْمُجْرِمُونَ سجع ومراعاة فواصل أيضا. المفردات اللغوية: وَأُزْلِفَتِ قرّبت ليدخلوها بحيث يرونها من الموقف. وَبُرِّزَتِ أظهرت وجعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها. لِلْغاوِينَ الكافرين الضالين عن طريق الحق. أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل لهم على سبيل التوبيخ: أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم من غير الله من الأصنام. هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم. أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ألقوا فيها على وجوههم، الآلهة وعبدتها. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أتباعه ومطيعوه من عصاة الثقلين: الجن والإنس. مُبِينٍ بيّن. قالُوا أي الغاوون. وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يتخاصمون مع معبوديهم، على أساس أن الله ينطق الأصنام، فتخاصم العبدة، ويؤيده الخطاب في قوله: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نجعلكم مساوين له في استحقاق العبادة. قال البيضاوي: ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة، كما في قالُوا والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى: أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة، متحسرون عليها. وَما أَضَلَّنا عن الهدى. إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الشياطين أو آباؤنا الذين اقتدينا بهم. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء. صَدِيقٍ صادق في وده. حَمِيمٍ يهمه أمرنا. وجمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل. كَرَّةً رجعة إلى الدنيا وقوله: فَلَوْ للتمني، أقيم مقام «ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير، ونكون: جواب التمني. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً فيما ذكر من قصة إبراهيم لَآيَةً لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قومه مُؤْمِنِينَ به. الْعَزِيزُ القادر على تعجيل الانتقام. الرَّحِيمُ بالإمهال لكي يؤمنوا، هم أو أحد من ذريتهم.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن دعا إبراهيم عليه السلام بدعوات المخلصين الأوابين، وختمها بألا يخزيه الله يوم البعث، وصف يوم القيامة، وما فيه من ثواب وعقاب، وندم المشركين وحسرتهم على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا. التفسير والبيان: وصف إبراهيم عليه السلام يوم القيامة بثلاثة أوصاف هي: 1- وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي إن ذلك اليوم هو اليوم الذي قرّبت وأدنيت فيه الجنة للمتقين السعداء، ينظرون إليها، ويدخلون فيها، تعجيلا للبشارة والمسرّة بما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال، كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، غَيْرَ بَعِيدٍ [ق 50/ 31] . وهو اليوم الذي أظهرت فيه النار وجعلت بارزة مكشوفة للضالين عن الحق الكافرين الأشقياء، بحيث يرونها، ويعلمون أنهم مواقعوها، تعجيلا للغم والحسرة على شقاوتهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ، كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [الجاثية 45/ 34] وقال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك 67/ 27] . ثم يسأل أهل النار تقريعا وتوبيخا، فيقال لهم: 2- وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ أي أين آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد، هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ويمنعونكم من العذاب، وهل ينفعون أنفسهم

بانتصارهم ودفع العذاب عنهم؟ لا يحصل كلا الأمرين، فإنهم وآلهتهم وقود النار، وحصب جهنم، هم لها واردون، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي فدهوروا فيها، أي الآلهة غير المؤمنة وعبدتهم، والقادة وأتباعهم يلقون فيها إلقاء مكررا، بعضهم على بعض، كما يلقى معهم متّبعو إبليس من عصاة الإنس والجن أجمعين، أولهم وآخرهم. وتقديم إلقاء الآلهة ليشاهد الغاوون سوء حالهم، وييأسوا من النجاة. 3- قالُوا- وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ-: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي قال أهل الغواية، وهم في حال الغيظ الشديد من المخاصمة والمحاجة بينهم وبين الآلهة المعبودة والشياطين الداعية لتلك العبادة: والله لقد كنا في ضلال عن الحق واضح بيّن حين نجعلكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر متساوين في استحقاق العبادة وإطاعة الأمر مع رب العالمين من الإنس والجن: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص 38/ 64] . وهذا خطاب في الحقيقة بدليل قولهم: وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي والحق أنه ما دعانا إلى ذلك الخطأ العظيم إلا المجرمون من الشياطين والقادة والرؤساء، كما قال تعالى: وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب 33/ 67] . وقد أفلسنا اليوم من وعودهم الكاذبة والآمال المعقودة كما قال: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع، ولا صديق ودود قريب يهمه أمرنا، من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس يعدونهم بالنجاة والإنقاذ، كما قال تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ

فقه الحياة أو الأحكام:

فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف 7/ 53] وقال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] . فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا، فنؤمن بالله ربنا وحده لا شريك له، ونؤمن برسله الكرام، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، ولكن ذلك كذب ومراوغة، كما أخبر تعالى عنهم بخلاف ذلك، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] وقال سبحانه أيضا: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ، وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون 23/ 75] . إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في ذلك المذكور من قصة إبراهيم، ومحاجته لقومه، وإقامة الحجج عليهم في التوحيد، وتغلبه عليهم، وفي مخاصمة أهل النار، لعظة وعبرة، ودلالة واضحة جلية على أن: لا إله إلا الله، وألا معبود سواه، ولا رب غيره، وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين بالله وبرسوله. وفي هذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه وإعراضهم عن دعوته، مع إقامة الأدلة، وظهور المعجزات. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك الذي أحسن إليهم بإرسالك لهم لهدايتهم، لقادر على الانتقام منهم، ورحيم بهم إذ لم يعجل إهلاكهم، ورحيم بالمؤمنين الطائعين. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات الكريمة تصوير تام شامل لليوم الآخر، ووصف موجز ليوم القيامة بما فيه من ثواب المتقين وعقاب العصاة الكافرين، وندم المشركين على ضلالهم في الدنيا.

وهو تصوير محبّب، ووصف جذاب يأخذ بمجامع القلوب، فالجنة تقرّب وتدنى للمتقين فتتعلق بها نفوسهم ويأخذهم الفرح والحبور، وتعمهم الغبطة، وجهنم تبرز وتكشف للكافرين الذين ضلوا عن الهدى، وتظهر لأهلها قبل أن يدخلوها حتى يستشعروا الروع والحزن، فيبدو منها عنق، فإذا زفرت زفرة بلغت القلوب منها الحناجر، كما يستشعر أهل الجنة الفرح، لعلمهم أنهم يدخلون الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. ويقال لأهل جهنم تقريعا وتوبيخا: أين آلهتكم من الأصنام والأنداد التي كنتم تعبدونها من دون الله، هل ينصرونكم وينجونكم من عذاب الله، وهل ينتصرون لأنفسهم؟! إنهم يقلبون على رؤوسهم، ويدهورون في النار، ويلقى بعضهم على بعض، الآلهة المعبودة وعابدوها وجنود إبليس أجمعون، وهم من كان من ذريته، وكل من دعاه إلى عبادة الأصنام ونحوها فاتّبعه. حينئذ لا يجد هؤلاء الكفرة مناصا من الإقرار بكفرهم، ويقول الإنس والشياطين والغاوون والمعبودون المتخاصمون في جهنم: والله إننا كنا في ضلال مبين، أي في خسار وتبار وحيرة عن الحق بينة، إذ اتخذنا مع الله آلهة، فعبدناها كما يعبد الإله الحق، ونجعلها مساوية في العبادة لرب العالمين، وهذه الآلهة لا يستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسهم، ولقد أضلنا الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام، أو أسلافنا الذين قلدناهم، قال أبو العالية وعكرمة: الْمُجْرِمُونَ: إبليس وابن آدم القاتل: هما أوّل من سنّ الكفر والقتل وأنواع المعاصي. فليس لنا شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين، ولا صديق مشفق علينا. قال الزمخشري رحمه الله: وجمع الشافع لكثرة الشافعين، ووحّد

القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) الآيات 105 إلى 122] :

الصديق لقلته، أي أن الشفعاء يكثرون عادة عند المحنة، وإن لم يكن هناك سبق معرفة، وأما الصديق المخلص في وداده فقليل نادر. ويتمنون الأماني حين لا ينفعهم التمني، ويقولون: ولو حدث لنا رجوع إلى الدنيا، لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. يقولون ذلك حين تشفع الملائكة والمؤمنون. قال جابر بن عبد الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليقول في الجنة: ما فعل فلان وصديقه في الجحيم؟ فلا يزال يشفع له حتى يشفّعه الله فيه، فإذا نجا قال المشركون: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» . وقال الحسن البصري: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفّعون. وختمت الآيات ببيان العبرة والعظة، فقال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في المذكور من قصة إبراهيم واختصام أهل النار وحسرتهم على ضلالهم لعبرة وعظة مؤثرة، ولم يكن أكثر قوم إبراهيم، بل ولا أكثر الناس بمؤمنين بالله ورسله، ولكن الله هو المنتقم الجبار الذي ينتقم من المعاندين الكفرة، الرحيم بالناس إذ لم يعجل لهم الانتقام، وإنما أمهلهم لعلهم يعودون إلى دائرة الحق والإيمان والتوبة. القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

البلاغة:

البلاغة: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ في قوله: الْمُرْسَلِينَ: مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الكل وإرادة البعض، فإنه أراد بالمرسلين نوحا، وذكره بصيغة الجمع تعظيما له، وتنبيها على أن من كذب رسولا، فقد كذب جميع المرسلين. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً استعارة تبعية، استعار المفتاح للحاكم، والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر، والمعنى: احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل. المفردات اللغوية: قَوْمُ اسم لا واحد له من لفظه، كرهط ونفر، يذكر ويؤنث، وتذكيره باعتبار لفظه، وتأنيثه باعتبار معناه الْمُرْسَلِينَ المراد به نوح عليه السلام، عبر عنه بصيغة الجمع تعظيما له، ولأن من كذب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، لاشتراكهم برسالة التوحيد، أو لأنه لطول لبثه فيهم كأنه رسل. أَخُوهُمْ أي أخوة نسب أو جنس لا أخوة دين لأنه كان منهم. أَلا تَتَّقُونَ الله، فتتركوا عبادة غيره. رَسُولٌ أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيكم، وأمين على تبليغ ما أرسلت به. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من توحيد الله وإطاعته. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغه. إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي إلا على الله. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرره للتأكيد. أَنُؤْمِنُ لَكَ أنصدق لقولك. وَاتَّبَعَكَ وفي قراءة: وأتباعك. الْأَرْذَلُونَ السفلة، الأقلون جاها ومالا، كأهل الحرف والمهن الوضيعة من الحاكة والأساكفة ونحوهم، جمع أرذل، والرذالة: الخسة والدناءة. وهذا من سخافة عقولهم وقصور نظرهم على المادة وحطام الدنيا، وإشارة إلى أن اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة، وإنما هو لتوقع مال ورفعة، لذلك قال: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا علم لي بأنهم عملوه إخلاصا، أو طمعا في شيء، وما على إلا اعتبار الظاهر.

المناسبة:

إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله، فإنه المطلع عليها، لو تعلمون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما أنا إلا بيّن الإنذار، وهذا كالعلة لما سبق، فما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا أعزاء أو أذلاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول لنا. مِنَ الْمَرْجُومِينَ المقتولين أو المضروبين بالحجارة، أو من المشتومين. قالَ: رَبِّ، إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ قال نوح ذلك، إظهارا لسبب الدعاء عليهم وهو تكذيب الحق. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي فاحكم بيني وبينهم حكما. وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي نجني من شؤم عملهم. الْفُلْكِ يطلق على الواحد والجمع. الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجائهم. الْباقِينَ من قومه. لَآيَةً عبرة شاعت وتواترت. المناسبة: لما قص الله تعالى على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم قصة موسى وإبراهيم، أتبعه بذكر قصة أبي البشر الثاني نوح عليه السلام، ثم خبر هود، وصالح، ولوط وشعيب فيما يأتي بعد، والهدف من كل ذلك واحد، وهو تسلية رسوله فيما يلقاه من قومه، وبيان لسنة الله في عقاب المكذبين، فإن أقوام هؤلاء جميعا كذبوا رسلهم، فعوقبوا، وقومك يا محمد كمن سبقهم، فلا تجزع ولا تحزن ولا تغتم. وقد تقدم تفصيل نبأ نوح في سورتي الأعراف وهود. التفسير والبيان: هذا قصص نوح عليه السلام مع قومه، فهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد أن عبدت الأصنام والأنداد، فنهاهم عن ذلك وحذرهم من وبيل عقاب ربهم، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين، فكذبه قومه، واستمروا على ما هم عليه من الوثنية، ونزّل الله تكذيبهم له منزلة تكذيب جميع المرسلين، فقال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ أي كذب قوم نوح رسل الله أي نوحا نفسه فيما جاءهم به من الهداية لتوحيد الله

وإنهاء عبادة الأصنام، حين قال لهم نوح أخوهم: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ ألا تحذرون عقابه على كفركم به؟ وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا لأن من كذب رسولا، فقد كذب جميع الرسل. وإنما قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ لأن القوم مؤنث، وتصغيرها قويمة. وقال: أَخُوهُمْ لأنه كان منهم، كما تقول العرب: يا أخا بني تميم، أي يا واحدا منهم. وبعد أن خوفهم نوح من سوء فعلهم، وصف نفسه بأمرين: الأول- إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي، دون زيادة ولا نقص. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي خافوا عذاب الله، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وعبادته وطاعته. وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته، وهي أساس الطاعة ومبعثها، فلولا الخوف من الله تعالى ما أطاعه الناس. الثاني- وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم، بل أدخر ثواب ذلك عند الله تعالى. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فقد وضح لكم صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به، وائتمنني عليه. وكرر ذلك للتأكيد عليهم، وتقريره في نفوسهم لأن التقوى والطاعة أساس الدين، لكن جعل علة الأول كونه أمينا فيما بينهم، وعلة الثاني حسم طمعه عنهم. ولما لم يجدوا سبيلا للتخلص من حجته وعدم إمكان الطعن بها، أوردوا شبهة واهية فقالوا: قالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟ أي إنهم قالوا: لا نؤمن

لك ولا نتبعك، ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأراذل السفلة في المجتمع، فإنهم أراذلنا، وضعاف الناس، وفقراء القوم، ونحن السادة أهل الجاه والثروة والنفوذ!! وهذه شبهة في نهاية السقوط والضعف، فإن نوحا عليه السلام بعث هاديا لجميع الناس، لا فرق بين غني وفقير، ووجيه ووضيع، وحسيب ومغمور، وسيد ومسود، ولا يبحث الرسول عادة عن هويات المؤمنين ومنازلهم، لذا قال: قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي قال نوح: لا علم لي بأعمال هؤلاء وحرفهم ومهنهم، ولا أنقب عنهم أو أبحث أو أفحص أمورهم الداخلية، وإنما ليس لي إلا الظاهر، فأقبل منهم تصديقهم إياي، وأترك سرائرهم إلى الله عز وجل، وحسابهم على ربهم، لا علي، كما قال: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي إن كان لهم عمل شيء، فما حسابهم علي، وإنما على ربي، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر، لا محاسب ولا مجاز، لو تشعرون ذلك بأن كنتم ذوي شعور مرهف وحس صادق وعقل واع، ولكنكم تجهلون، فتنساقون مع الجهل حيث سيّركم ووجهكم. والقصد من ذلك تبديد شبهتهم، وإنكار تسمية المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى. ثم ردّ على ما فهم من مطلبهم بإبعاد هؤلاء وطردهم من مجلسه، فقال: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني ولا من مبدئي ورسالتي طرد هؤلاء الذين آمنوا بربهم واتبعوني وصدقوني، إنما بعثت نذيرا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني، كان مني وأنا منه، سواء كان شريفا أو وضيعا، جليلا أو حقيرا، وإني أخوّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد. فلما أفحمهم بجوابه، لم يجدوا بدا من اللجوء إلى التهديد:

قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي قال قوم نوح له: لئن لم تنته عن دعوتك إيانا إلى دينك، لنرجمنك بالحجارة. وهذا تخويف منهم بالقتل بالحجارة، فعندئذ دعا عليهم بعد اليأس من إيمانهم دعوة استجاب الله منه، بعد أن أذن له، فقال: قالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي قال نوح: يا رب، إن قومي كذبوني في دعوتي إياهم إلى الإيمان بك، فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا تنصر به أهل الحق، وتهلك أهل الباطل والضلال، ونجني من العذاب مع من آمن برسالتي وصدق بدعوتي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] . ويلاحظ أنه ليس الغرض من هذا إخبار الله تعالى بالتكذيب، لعلمه أن الله عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أني لا أدعوك عليهم لإيذائي، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك. والمراد من هذا الحكم في قوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه: وَنَجِّنِي. فأجاب الله دعاءه فقال: فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي أنجينا نوحا ومن آمن بدعوته، فوحد الله وأطاعه، وهجر عبادة الأصنام، وأنقذناهم بسفينة مملوءة بالناس والأمتعة وأجناس الحيوان. ثم أغرقنا بعد إنجائهم قومه الآخرين الذين بقوا على كفرهم، وخالفوا أمره. روي أن الناجين كانوا ثمانين، أربعين رجلا وأربعين امرأة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن في إنجاء المؤمنين

فقه الحياة أو الأحكام:

وإغراق الكافرين لعبرة وعظة لكل من صدق أو كذب بالرسل، وإن من سنتنا دائما إنجاء الرسل وأتباعهم، وإهلاك الذين كذبوا برسالتهم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك الله لهو القوي الغالب المنتقم ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بمن أطاعه وأناب إليه وتاب، فلا يعاقبه. فقه الحياة أو الأحكام: الوثنية وعبادة الأصنام تقارن عادة وجود الشعوب البدائية، فهي في الغالب عقيدتهم، لذا كان نوح عليه السلام أول رسول للناس بعد ظهور هذه العقيدة. والبدائية والمادية وسخف العقل وسطحية التفكير أمور متلازمة، لذا كان الإصرار على عبادة شيء من دون الله هو الظاهرة الشائعة، وكانت مهمة الأنبياء المتقدمين عسيرة وصعبة. فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم إلى توحيد الله والتخلي عن عبادة الأصنام، فكذبوه وآذوه، بالرغم من أنه أكد لهم أنه رسول أمين صادق فيما بلغهم عن الله تعالى، وقد عرفوا أمانته وصدقه من قبل، كمحمد صلّى الله عليه وسلم في قريش، وبالرغم من تخويفهم من عقاب الله قائلا لهم مرة: ألا تتقون الله في عبادة الأصنام؟ ومرة: فاتقوا الله وأطيعوني أي استتروا بطاعة الله تعالى من عقابه، وأطيعوني فيما آمركم به من الإيمان، ولا طمع لي في مالكم، وما جزائي إلا على رب العالمين. ولكن تذرعوا بشبهة واهية للبقاء على عنادهم وكفرهم، ودفعهم الغرور والاستكبار إلى الترفع عن الإيمان بسبب تصديق فئة ضعيفة برسالة نوح، ليسوا من الوجهاء ولا من الأثرياء، وإنما من طبقة المهنيين والحرفيين. وهذا قول الكفرة، فإن تعلم الصناعات مما رغب به الدين، وليست الحرفة عيبا، وإنما هي

شرف وعزة، يستغني بها الإنسان عن الآخرين، فلا يفهمن أحد خطأ أن الدين ينتقص من قدر هؤلاء، وإنما الذي انتقصهم هم الأغنياء المترفون. ويؤكد ذلك جواب نوح عليه السلام لهم وهو: قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنني لم أكلف العلم بأعمالهم، إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان، لا بالحرف والصنائع، وليس للحرفة أو الصنعة تأثير في ميزان الدين، وكذلك النظر في الدعوة إلى الله إلى الظاهر، لا إلى الباطن. ثم أجابهم بجواب آخر: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم، لما عبتموهم بصنائعهم. وجواب ثالث: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم كما تتصورون، وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء، كما طلبته قريش. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أي إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء، إنما أنا رسول للناس جميعا، أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله، وإن كان فقيرا. ولما تغلب نوح عليه السلام على قومه بالحجة العقلية والمنطق الصريح، لجؤوا إلى التهديد شأن كل العتاة، فقالوا: قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيب ديننا لنقتلنك بالحجارة، أو لنسبنك ونشتمنك. قال الثّماليّ: كل «مرجومين» في القرآن فهو القتل إلا في مريم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [19/ 46] . وبعد أن يئس من إيمانهم، دعا عليهم بالعذاب، طالبا حكم الله العدل فيهم، فأنجاه ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالناس والدواب وغير ذلك، ثم أغرقهم الله أجمعين. إن في ذلك لآية وأي آية، وعبرة وعظة، وكان أكثرهم كافرين، والله هو القادر المنتقم من كل مكذّب بالله ورسله، رحيم بمن آمن وأطاع.

القصة الرابعة قصة هود عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) الآيات 123 إلى 140] :

وهاتان الآيتان الواردتان للعبرة والعظة هما اللتان ختمت بهما قصة إبراهيم عليه السلام لأنهما بيت القصيد من القصة. القصة الرابعة قصة هود عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) الإعراب: تَعْبَثُونَ الجملة حال من ضمير: تَبْنُونَ. المفردات اللغوية: كَذَّبَتْ عادٌ أنثه باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبي القبيلة الأكبر، ويعبر عن القبيلة عادة باسم الأب، أو ببني فلان. رِيعٍ مكان مرتفع آيَةً علامة أو علما بارزا

المناسبة:

للمارة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا، كاللعب مَصانِعَ مجامع الماء ومآخذه، وقيل: قصورا مشيدة وحصونا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي كأنكم تخلدون فيها لا تموتون، ولعل هنا: للتشبيه وَإِذا بَطَشْتُمْ بضرب أو قتل، والبطش: الأخذ بالعنف جَبَّارِينَ متسلطين عاتين بلا رأفة ولا شفقة، ولا قصد تأديب فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم. أَمَدَّكُمْ أنعم عليكم أو سخر لكم أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ كرره للتأكيد والتنبيه على دوام الإمداد، والوعيد على تركه بالانقطاع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإنعام، قدر على الانتقام سَواءٌ عَلَيْنا مستو عندنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أصلا، أي لا نرعوي لوعظك عما نحن عليه. والوعظ: كلام لطيف يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الذي خوفتنا به إلا خلق المتقدمين وكذب الأولين وعادتهم وطبيعتهم ونحن بهم مقتدون، فلا حساب ولا بعث، والمراد: عادتهم في اعتقاد ألا بعث وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه فَكَذَّبُوهُ بالعذاب فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب التكذيب في الدنيا بريح صرصر. المناسبة: هذه قصة أخرى للعظة والعبرة، هي قصة هود عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله وطاعته، وحذرهم من عقابه، وهم في الزمان بعد قوم نوح، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الأعراف 7/ 69] وكانوا يسكنون الأحقاف: وهي جبال الرمل قرب حضرموت في بلاد اليمن. وكانوا أولي طول مديد وبأس وشدة، ورخاء ونعيم، بسبب كثرة الأرزاق والأموال والأنهار والزروع والثمار، لكنهم مع ذلك كانوا يعبدون غير الله تعالى، وكذبوا نبيهم هودا عليه السلام، فأهلكهم. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ

أي كذبت قبيلة عاد رسالة الرسل المرسلين من عند الله، حين قال لهم هود عليه السلام: ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إني لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله فيما أمر ونهى، وأطيعوني فيما آمركم وأنهاكم عنه، يصلح حالكم، وتسعدون في دنياكم وأخراكم، ولا أطلب منكم على تبليغ رسالتي أجرا ولا مالا، ولا أبتغي بذلك سلطانا ولا جاها، إن أجري وجزائي إلا على ربي لو علمتم ذلك، ولكنهم كذبوه وآذوه. وهذه المقالة بعينها جاءت على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه على وحدة رسالة الأنبياء الداعية إلى توحيد الله وطاعته، وترك عبادة ما سواه. ثم تكلم معهم هود عليه السلام على ثلاثة أمور: 1- أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ أي أتعمرون في كل مكان مرتفع بنيانا محكما هائلا باهرا، يكون علامة على القوة والعزة والغنى تفاخرا، وإنما تفعلون ذلك عبثا لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، لا للحاجة إليه، لذا أنكر عليهم لأنه تضييع للزمان، وإتعاب الأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة. 2- وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي وتتخذون قصورا مشيدة وحصونا، لكي تقيموا فيها أبدا، كأنكم مخلدون في الدنيا، أو ترجون الخلد في الدنيا، مع أنكم زائلون عنها، كما زال من كان قبلكم. وقيل: المصانع: مآخذ الماء. روى ابن أبي حاتم رحمه الله أن أبا الدرداء رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم، فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون،

ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان خيلا وركابا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟! 3- وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي إنكم مع ذلك السرف والحرص، تعاملون غيركم معاملة الجبارين لأنكم قوم قساة غلاظ عتاة متجبرون. والخلاصة: أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، فهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو، وهذه صفات الإله، وهي ممتنعة الوصف للعبد، فدل ذلك على حب الدنيا، والخروج عن حد العبودية، والحوم حول ادعاء الربوبية. وفي هذا تنبيه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وعنوان كل كفر ومعصية، لذا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فاحذروا عقاب الله، واعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم، فذلك أدوم لكم وأنفع، إذ لا خلود لأحد في هذه الدنيا. ثم ذكّرهم نعم الله عليهم تفصيلا، فقال: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي اتقوا عقاب الله الذي أمدكم بنعم وفيرة، ورزقكم أنواع الحيوانات المأكولة والأولاد الكثيرة، والبساتين الغنّاء والأنهار العذبة الفياضة، فاجعلوا مقابل هذه النعم عبادة الله الذي أنعم بها.

إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي إني أخشى عليكم إن كذبتم وخالفتم وأصررتم على الكفر عذاب يوم شديد الأهوال. وقد دل هذا على أنه دعاهم إلى الإيمان بالله بالحسنى وبالترغيب والترهيب، والتخويف والبيان، بما هو النهاية في ذلك، فكان جوابهم: قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا، وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرجع عما نحن عليه، كقوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود 11/ 53] . وقال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة 2/ 6] . وذريعتهم في عدم إيمانهم هي: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي ما جئت به اختلاق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، كما قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أو ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، ونحن تابعون لهم، سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، وما نحن بمعذّبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول. فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أي فكانت النتيجة أنهم كذبوا هودا عليه السلام فيما أتى به، واستمروا على تكذيبه ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، أي ريح شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا، فكان سبب إهلاكهم من جنس عملهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الفجر 89/ 6- 7] وهم عاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم 53/ 50] وهم من نسل إرم بن سام بن نوح، وذات العماد: الذين كانوا

فقه الحياة أو الأحكام:

يسكنون العمد، وليست إرم بلدا. وقال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [فصلت 41/ 15] . وقد حصبت الريح كل شيء لهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف 46/ 25] . إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في إهلاك عاد بسبب تكذيبها رسولها لعبرة لكل الأقوام فيما أتيتهم به من رسالة الله، وما كان أكثر هؤلاء المهلكين بمؤمنين في سابق علمنا، وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين من عباده إن تابوا وأصلحوا. فقه الحياة أو الأحكام: تبين من هذه القصة ما يلي: 1- لقد كان موقف هود عليه السلام من قومه موقف الحكيم الحليم المتلطف بهم، فبالرغم من أنهم وصفوه بالسفاهة والجنون، ترفّع عن اتهامهم، واكتفى بالقول: قالَ: يا قَوْمِ، لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 67] . 2- إن أسلوب الداعية يجب أن يكون لطيفا دون تنفير، فقد سلك هود عليه السلام هذا الأسلوب، فذكّر قومه بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، وحثهم على شكرها، والإيمان بالله المنعم كفاء ما أنعم، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر. 3- إن التجبر أو العتو أو الطغيان لا يأتي بخير، وكل من ظن أن جبروته يحقق له كل ما يريد فهو غرّ جاهل، فهؤلاء قبيلة عاد الأولى توافرت لهم القوة البدنية الفائقة، والطول المديد، والنعمة السابغة، من الأموال والبساتين

القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) الآيات 141 إلى 159] :

والأنهار، والحصون المشيدة والمباني الضخمة والزروع والثمار، ولكنهم لما طغوا وبغوا، وعاملوا الناس معاملة الجبابرة، وأصروا على كفرهم وعنادهم، عاقبهم الله بما هو أشد من جبروتهم، وأرسل عليهم ريحا باردة عاتية، فدمرت كل شيء لهم إذ أين قوة البشر من قوة الله وقدرته؟! 4- إذا استولى الكفر والعناد والكبرياء على قلب الإنسان، لم يبق أمل في نفوذ هداية الله إليه، ولم يعد يحسّ فيه بتقوى الله، ولا يقدّر وجوب طاعته: قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ. 5- يعتمد عبدة الأوثان في اعتقادهم وعبادتهم على ما توارثوه عن الأسلاف، ويسيطر الفكر المادي على أذهانهم، فينظرون إلى الحياة نظرة المتمتع المترفه فيها، ثم يرتحل عنها: حياة ثم موت، ولا بعث. 6- يرى المتأمل كيف أهلك الله من كذّب رسوله، فليحذر الناس في كل زمان ومكان من عصيان الرسل وتكذيبهم، ولكن مع الأسف لا يتعظ أكثر الناس بهذا، ويبقون في كفرهم وعدم إيمانهم، ويهملون النظر إلى قدرة الله القادر على الانتقام من كل أحد. القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

الإعراب:

الإعراب: فارِهِينَ حال من واو تَنْحِتُونَ. هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ شِرْبٌ مرفوع بالظرف، على مذهب سيبويه والأخفش لأنه قد جرى وصفا على النكرة، والظرف إذا وقع وصفا ارتفع به ما بعده، كالفعل. البلاغة: وَأَطِيعُونِ استعار الطاعة التي هي انقياد الآمر لامتثال الأمر. يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ بينهما طباق. الْمُرْسَلِينَ تَتَّقُونَ أَمِينٌ أَطِيعُونِ الْعالَمِينَ عُيُونٍ ... توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذلك هَضِيمٌ مَعْلُومٍ عَظِيمٍ الرَّحِيمُ. إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مبالغة لأن المسحّر مبالغة عن المسحور. المفردات اللغوية: إِنْ أَجْرِيَ ما أجري أَتُتْرَكُونَ إما إنكار لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم، وإما تذكير بالنعمة في تخلية الله إياهم فِي ما هاهُنا من الخيرات والنعيم طَلْعُها أول ما يطلع من ثمر النخل، وما يأتي بعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا، ثم رطبا، ثم تمرا هَضِيمٌ نضيج لطيف

المناسبة:

لين وَتَنْحِتُونَ النحت: النّجر والبري والتسوية فارِهِينَ بطرين، من الفره: وهو شدة الفرح، أو حاذقين بنحتها من الفراهة: وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب، وقرئ: فرهين، أي بطرين وهو أبلغ وَأَطِيعُونِ فيما أمرتكم به الْمُسْرِفِينَ العاصين يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ بطاعة الله، وأتى به لبيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح. الْمُسَحَّرِينَ المغلوب على عقولهم بكثرة السحر مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك الرسالة شِرْبٌ نصيب من الماء عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب فَعَقَرُوها رموها بسهم ثم قتلوها، وأسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقر برضاهم، ولذلك عذبوا جميعا نادِمِينَ على عقرها خوفا من حلول العذاب، لا توبة من ذنوبهم، أو عند حلول العذاب، ولذلك لم ينفعهم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود به، فهلكوا. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قال البيضاوي: في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم، لما أخذوا بالعذاب، وإن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم. المناسبة: لما قص الله على رسوله قصة هود عليه السلام وعاد، أتبعه بقصة صالح عليه السلام وثمود، وقد كانوا عربا مثل عاد، يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام أي على طريق المدينة، ومساكنهم معروفة مشهورة، كانت قريش في رحلة الصيف يمرون عليها، وهم ذاهبون إلى الشام، ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام، فوصل إلى تبوك ليتأهب لذلك. وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام. دعاهم نبيهم صالح إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلّغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذّبوه وخالفوه، فأخذهم عذاب الزلزلة، فزلزلت بهم الأرض، ولم تبق منهم أحدا، كما قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة 69/ 5] .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قد عرفنا أن هذه المقالة مشابهة لما سبقها من مقالة نوح وهود عليهما السلام. والمعنى: أن قبيلة ثمود كذبت برسالة نبيهم صالح عليه السلام حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله، فتؤمنوا به وتوحدوه وتعبدوه، وتطيعوني فيما بلغتكم من الرسالة، فإني رسول من عند الله تعالى، أمين على رسالته التي أرسلها معي إليكم، ولا أطلب على نصحي وتبليغي عوضا ولا جزاء، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني، وهو يتولاني في الدنيا والآخرة. ثم وعظهم، وحذرهم نقم الله أن تحل بهم، وذكّرهم بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الطيبات، وفجّر لهم العيون والأنهار، وأنبت لهم الزروع والثمرات، وجعلهم في أمن من المحذورات، فقال مخاطبا لهم بأمور ثلاثة: 1- أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟ أي أتظنون أنكم في الدنيا مخلّدون في النعيم، وأنكم تتركون في دياركم آمنين، متمتعين في الجنات والعيون، والنخيل ذات الرطب الهضيم اللين اللطيف، والزروع والثمار، وتطمعون في ذلك، وتظنون ألا دار للجزاء على الأعمال؟ لا يعقل أن تبقوا على الشرك والكفر، وأنتم ترفلون في هذه النعم، وتتمتعون بهذه الخيرات. وقوله: فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فصّله وفسره بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... إلخ، فهو تفصيل بعد إجمال.

2- وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي وتتخذون بيوتا في الجبال حاذقين في نحتها وبنائها، بطرين فرحين أشرين بها، متنافسين في عمارتها، من غير حاجة إلى السكنى فيها. فاتقوا الله حق التقوى، وأقبلوا على ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم. ويلاحظ أن الغالب على قوم هود الذين تقدم وصفهم هو اللذات المعنوية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية المادية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة. 3- وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي ولا تطيعوا أمر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا والترف والمجون، وهم كبراؤهم ورؤساؤهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق، وهم الرهط التسعة في أرض ثمود المشار إليهم في آية أخرى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَلا يُصْلِحُونَ [النمل 27/ 49] . وإنما قال وَلا يُصْلِحُونَ بعد قوله يُفْسِدُونَ لبيان أن فسادهم خالص، ليس معه شيء من الصلاح، على عكس حال بعض المفسدين المخلوطة أعمالهم ببعض الصلاح. فأجابوا نبيهم صالحا عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل بقولهم: قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي قال قومه: ثمود، الذي يغلب على الظن أنك أصبحت من المغلوب على عقولهم بكثرة السحر، وصرت من المسحورين، أي إنك في قولك هذا مسحور لا عقل لك، فلا يسمع لرأيك ولا لنصحك. ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحي إليك دوننا، وتكون نبيا لنا؟ كما قالوا في آية أخرى:

أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر 54/ 25- 26] . وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين، لكانوا من جنس الملائكة. ثم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم، وهو أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء (حامل لعشرة أشهر) صفتها كذا وكذا، فما كان منه إلا أن أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح عليه السلام، فصلى، ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء، على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم. «1» قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي إن النبي صالح عليه السلام قال مجيبا طلبهم إرسال آية تكون دليلا على صدقه: الدليل هو ناقة الله هذه، فهي الآية والمعجزة الدالة على صدقي، ترد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي وإياكم أن تصيبوها بأذى من ضرب أو قتل أو غير ذلك، فيصيبكم عذاب شديد. وقد عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم بالعظم أبلغ من وصف العذاب لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب، كان موقعه من العظم أشد. فَعَقَرُوها، فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي ذبحوا الناقة، ثم ندموا على فعلهم عند معاينة العذاب، أي حين علموا أن العذاب نازل بهم، فنالهم

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 344، تفسير القرطبي: 13/ 130، وهذا مرويّ عن ابن عباس، وربما كان الأمر محتاجا إلى رواية موثقة ثابتة السند ليجب علينا الاعتقاد بذلك. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

عذاب الله وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، وأصبحوا في ديارهم جاثمين. والذي حدث أن الناقة مكثت لديهم حينا من الزمان، ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها، يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا، فلما طال عليهم الأمد، وحضر أشقاهم، تمالؤوا على قتلها وعقرها. روي أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم، فأصاب رجلها، فسقطت، ثم ضربها قدار. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في ذلك المذكور من قصة صالح عليه السلام، وتكذيب قومه ثمود لرسالته، واعتدائهم على معجزة الناقة لآية وعبرة وعظة، وأي آية أعظم من هذا؟ إنهم كذبوا رسولهم فلم يؤمنوا به، واغتروا بما لهم ومتعتهم الدنيوية، واعتدوا على الناقة، فنزل بهم العذاب، ولم يكن أكثرهم مؤمنين بالله ورسله، وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأنابوا إليه. وهذه الخاتمة بذاتها هي خاتمة قصة نوح وهود لأن القصد منها واحد، وهو العظة والاعتبار بحال المكذبين. يقال: إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمان مائة رجل وامرأة. فقه الحياة أو الأحكام: كانت قبيلة ثمود تسكن في الحجر «1» وهي ذوات نخل وزروع ومياه، ومبان جبلية شاهقة فخمة، وكانوا معمّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، إلا أنهم اغتروا بمالهم وجاههم، فكذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، فقرعهم ووبخهم، وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت؟.

_ (1) الحجر: واد بين المدينة والشام.

القصة السادسة قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) الآيات 160 إلى 175] :

وأمرهم بتقوى الله عز وجل وهي امتثال أمره واجتناب نهيه، وحذرهم من إطاعة أمر كبرائهم ورؤسائهم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. فاتهموه بأنه مسحور لا عقل له، ونفوا عنه الرسالة لأنه بشر مثلهم فكيف يوحى إليه دونهم، ويكون نبيا غيرهم؟ ثم طالبوه بالإتيان بمعجزة حسية تدل على صدقه، فأيده الله بالناقة العظيمة التي لا مثيل لها، فكانت تشرب ماء نهير صغير كله في يوم، ثم تدرّ لهم الحليب، فيحلبون منها ما شاؤوا في اليوم التالي. ولكن أبطرتهم النعمة، وأساؤوا إلى أنفسهم، وتواطؤوا على عقرها، حبّا في الإساءة ذاتها، فعقرها رجل منهم اسمه «قدار» ثم ندموا على عقرها لما أيقنوا بالعذاب، ولكن لم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ... [النساء 4/ 18] فأهلكهم الله بالزلزلة والصيحة بسوء فعلهم وقبح كفرهم. القصة السادسة قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

الإعراب:

الإعراب: نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ على حذف مضاف، أي عقوبة ما يعملون من الفاحشة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. البلاغة: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ. قالَ مِنَ الْقالِينَ جناس ناقص، الأول من القول، والثاني من القلى مصدر قلى: أبغض بغضا شديدا. المفردات اللغوية: أَخُوهُمْ الذي يعايشهم في السكن والبلد، لا في الدين والنسب لأنه ابن أخي إبراهيم من أرض بابل الذُّكْرانَ الذكور مِنَ الْعالَمِينَ من الناس لَكُمْ لأجل استمتاعكم مِنْ أَزْواجِكُمْ أي أقبالهن عادُونَ متجاوزون الحدود الشرعية والعقلية والفطرية السليمة من الحلال إلى الحرام لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن إنكارك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ المطرودين المنفيين من بلدنا الْقالِينَ المبغضين لفعلكم غاية البغض أو أشد البغض مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من عذاب أو عقوبة أو شؤم عملهم. وَأَهْلَهُ أي أهل بيته والمتبعين له على دينه، أخرجه الله من بينهم وقت حلول العذاب بهم إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم، راضية بفعلهم، وقيل: كانت فيمن بقي في القرية، فإنها لم تخرج مع لوط دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم أشد إهلاك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قيل: أمطر الله عليهم حجارة، فأهلكهم فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم، واللام فيه للجنس، حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل (ساء) والمخصوص بالذم محذوف، وهو مطرهم.

المناسبة:

المناسبة: هذه قصة أخرى كسابقاتها للعبرة والعظة، هي قصة لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، بعثه الله تعالى إلى أمة عظيمة في عهد إبراهيم، تسكن من قطاع الأردن سدوم وأعمالها التي أهلكها الله وهي عمورة وثلاثة مدن أخرى، وجعل مكانها بلاد الغور المتاخمة لجبال بيت المقدس، والمحاذية لبلاد وجبال الكرك والشوبك، والمجاورة للبحر الميت «بحيرة لوط» فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما ابتدعوه من الفواحش، مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، من إتيان الذكور دون الإناث. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي إن قوم لوط كذبوا نبيهم المرسل إليهم ومن كذّب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، حين قال لهم لوط عليه السلام: ألا تتقون عذاب الله بترك معاصيه، فإني رسول لكم مؤتمن على تبليغ رسالته، فاتقوا الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وأطيعوني فيما آمركم به من عبادة الله وحده، وإتيان النساء بالزواج وما أنهاكم عنه من ارتكاب الفواحش، ولا أطلب منكم أجرا أو جزاء على تبليغ رسالتي، فما جزائي إلا على الله رب الإنس والجن وجميع العوالم في الأرض والسماء. ثم وبخهم وقرعهم وأنكر عليهم ظاهرة الفحش الشنيعة قائلا: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي كيف تقدمون على شيء شاذ جدا، أترتكبون هذه المعصية الشنيعة؟ وهو إتيان

الذكور من الناس، وهو كناية عن وطء الرجال، وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء، وسماه الله تعالى فاحشة، فقال: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف 7/ 80] وتتركون إتيان نسائكم اللاتي جعلهن الله للاستمتاع الطبيعي بهن، كما قال تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 222] . بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي لكن أنتم قوم متجاوزون الحد في الظلم وفي جميع المعاصي، ومنها هذه الفعلة الشنيعة. وقوله: بَلْ إضراب، بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم. والمراد: بل أنتم أحق بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة. ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه وهددوه: قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي قال قوم لوط له: لئن لم تنته عن دعواك النبوة، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكور، وهو ما جئتنا به، لنطردنك وننفينك من هذه البلدة التي نشأت فيها، ونبعدنك من بيننا، كما أبعدنا من نهانا قبلك، كما قال تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل 27/ 56] . فأجابهم بأن إبعاده لا يمنعه من الإنكار عليهم والتبرؤ منهم لما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه، وأنهم مستمرون على ضلالتهم، فقال: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي إني من المبغضين بغضا شديدا لعملكم، فلا أرضاه ولا أحبه، وإني بريء منكم، وإن هددتموني وأوعدتموني بالطرد. وكونه بعض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره، هو بعضهم، وقوله: مِنَ الْقالِينَ أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قال.

وفيه تنبيه على أن هذا الفعل موجب للبغض، حتى يبغضه الناس. ثم دعا الله بإنجائه من سوء فعلهم قائلا: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي يا ربّ، خلّصني من عقوبة ما يعملون من المعاصي، ونجني من شؤم أعمالهم. والخلاصة: أنهم لما توعدوه بالإخراج، أخبرهم ببغض عملهم، ثم دعا ربّه بالنجاة من سوء فعلهم. فأجاب الله دعاءه: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي فنجيناه وأهل بيته ومن آمن به جميعا ليلا من عقوبة عملهم ومعاصيهم، إلا امرأة عجوزا هي امرأته، وكانت عجوز سوء لم تؤمن بدين لوط، بقيت مع القوم ولم تخرج، فهلكت، كما قال سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [هود 11/ 81] لأنها كانت راضية بسوء أفعالهم، وتنقل إليهم الأخبار. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي ثم أهلكنا القوم الآخرين الباقين الذين انغمسوا في المنكرات، وكفروا بالله الذي خلقهم، ولم يؤمنوا برسله، وأنزلنا عليهم العذاب الذي عمّ جميعهم، وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل منضود، فبئس هذا المطر مطر المهلكين المنذرين بالهلاك. قال قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وقال مقاتل: خسف الله بقوم لوط، وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط. وقال وهب بن منبّه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار، أي فجر الله فيها البراكين النارية. والْمُنْذَرِينَ لم يرد بهم قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم. والخلاصة: أن عقابهم كان زلزالا شديدا جعل بلادهم عاليها سافلها، وكان

فقه الحياة أو الأحكام:

مصحوبا بكبريت ونار وحجارة من السماء، فأحرقت قراهم، كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود 11/ 82] فالعقوبة: هي الزلزال والبركان. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وهذه هي العبرة والخاتمة التي ختمت بها القصة، كما ختمت بها قصص الأنبياء المتقدمين، والمعنى: إن في تلك القصة لعبرة وعظة لكل متأمل، حيث أهلك الله العصاة الموغلين في المعصية، وهم اللوطيون، ونجى المؤمنين الصالحين الذين أنكروا تلك الفاحشة، وكانت امرأة لوط من الهالكين لتواطؤها مع قومها، ومحبتها فعلهم، ولم تنفعها صلتها بالنبي لوط عليه السلام لأن لكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وما كان أكثر هؤلاء القوم بمؤمنين، بل كانوا وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين التائبين. فقه الحياة أو الأحكام: إن الكفر بالله تعالى ورسله، والشذوذ الجنسي (اللواط) وترك الاستمتاع الطبيعي الحلال من طريق الزواج بالنساء، مدعاة للانتقام الإلهي، والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة. ومهمة النبي لوط عليه السلام كانت صعبة جدا في علاج هذا الأمر المتأصل المستعصي في قومه، فأنكر عليهم أشد الإيمان، ووبّخهم أشد التوبيخ، ووصفهم بأنهم قوم موغلون في العدوان وتجاوز حدود الله، وأعلن بغضه الشديد لعملهم، بالرغم من تهديدهم له بالطرد والإبعاد من بلدهم. ولما يئس لوط عليه السلام من إيمان هؤلاء القوم بالله، والتطهر من فعل الفاحشة الشنيعة، دعا ربه بأن ينجيه وأهله من عذاب عملهم، وألا يصيبه من عذابهم، وهذا يتضمن الدعاء عليهم، ولا يدعو النبي على قومه إلا بإذن من ربه.

القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) الآيات 176 إلى 191] :

فأجاب الله دعاءه، ونجاه وأهل بيته ومن آمن معه أجمعين من العقاب الأليم الذي أنزله بهم، إلا امرأته العجوز بقيت في عذاب الله تعالى. وكان العقاب الدنيوي هو الإهلاك بالخسف والحصب، أي بالزلزال والبركان، فأمطر الله عليهم الحجارة، بأن خسف جبريل عليه السلام بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة. إن في ذلك لآية وأي آية، والعاقل من اتعظ بغيره، ولم يكن من قوم لوط مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه، والله قادر على الانتقام من أعدائه، وهو في الوقت نفسه رحيم بأوليائه المؤمنين. القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

الإعراب:

الإعراب: الْأَيْكَةِ معرّف بالألف واللام، ومجرور بالإضافة، يقرأ بالهمزة وبتخفيفها، وهو الوجه ويقرأ بلام أصلية مفردة «ليكة» بالنصب: اسم بلد، على أنه ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والتأنيث، ووزنه «فعلة» . والواقع أن أصل: «ليكة» : الأيكة، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت، فاستغني عن همزة الوصل، وصارت الكلمة «ليكة» . وكتبت هنا وفي سورة «ص» بغير ألف اتباعا للفظ. البلاغة: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ إطناب لأن وفاء الكيل نهي عن الخسران. المفردات اللغوية: الْأَيْكَةِ غيضة شجر كثير ناعم ملتف، قرب مدين، بعث الله إلى أهلها شعيبا عليه السلام، كما بعث إلى مدين، ولم يكن منهم نسبا، وكان أجنبيا منهم، ولذلك قال: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل «أخوهم» . جاء في الحديث: «إن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم، وإلى أصحاب الأيكة» . أَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف. بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ الميزان السوي أو العدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم من حقهم شيئا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تفسدوا أشد الإفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق، يقال: عثا في الأرض: أفسد فيها، ومُفْسِدِينَ حال مؤكدة لمعنى عاملها وَالْجِبِلَّةَ أي ذوي الجبلة، أي الخلقة والطبيعة، يقال: جبل فلان على كذا، أي خلق، والمراد: أنهم كانوا على خلقة عظيمة الْأَوَّلِينَ من تقدمهم من الخلائق الْمُسَحَّرِينَ المغلوبين على عقولهم بكثرة السحر. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة، مبالغة في تكذيبه، أي المسحور البشر وَإِنْ نَظُنُّكَ إِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها

المناسبة:

محذوف، أي إنه لَمِنَ الْكاذِبِينَ في دعواك كِسَفاً جمع كسفة أي قطعة (وزنا ومعنى) والمراد قطع عذاب. الظُّلَّةِ السحابة التي أظلتهم بعد حر شديد أصابهم، فاجتمعوا تحتها، ثم أمطرتهم نارا فاحترقوا جميعا. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إلى قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هي مقالة الأنبياء السابقين نفسها. المناسبة: هذا آخر القصص السبع المذكورة في هذه السورة باختصار، تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من إعراض قومه، فيغتم ويحزن، وتهديدا للمكذبين به، وإعلاما باطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به. وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ومع أهل الأيكة، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر، بعثه الله إليهم، لإصلاح الوضع الاجتماعي المتردي فيهم، وهو بخس الكيل والميزان وتطفيفه، والإفساد الشديد في الأرض، فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان، وألا يعثوا في الأرض مفسدين، فكذبوه، فأهلكهم الله بعذاب يوم الظلة. التفسير والبيان: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي كذب أصحاب الغيضة وهي الشجر الكثير الملتفّ، وكانت قرب مدين، وقال ابن كثير: «أصحاب الأيكة: هم أصحاب مدين على الصحيح» «1» . كذبوا رسولهم الذي بعث إليهم، وهو شعيب عليه السلام.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 345.

كذبوه حين قال لهم شعيب: ألا تتقون عذاب الله؟! بالإيمان به وبرسوله وبالامتناع عن معاصيه. ولم يقل «أخوهم شعيب» لأنه كما يرى الزمخشري والبيضاوي والرازي لم يكن منهم نسبا. ورأى ابن كثير أنه تعالى قطع نسب الأخوة بينه وبينهم، للمعنى الذي نسب إليهم وهو عبادة الأيكة وهي شجرة، وإن كان أخاهم نسبا. وحثهم بإخلاص على اتباع رسالته مطمئنا لهم بصراحة أنه رسول إليهم مرسل من عند الله، أمين على تبليغ الرسالة بكاملها، فاتقوا الله وخافوه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وما أطلب منكم أجرا وجزاء ماديا أو معنويا كجاه أو سلطان أو رياسة على تبليغي الرسالة، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني إليكم. نصحهم بهذه النصائح الأساسية في رسالته، ثم أمرهم بأشياء قائلا: 1- إيفاء الكيل والميزان: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي إذا بعتم فأتموا الكيل والميزان، ولا تكونوا ممن ينتقص الناس حقوقهم، وإذا اشتريتم فلا تزيدوا في الوزن والكيل طمعا بأموال الناس، كما لو بعتم، أي أن الواجب يقتضي المساواة في الأخذ والعطاء، فخذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي وزنوا بالميزان العادل السوي، ونظير الآية قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين 83/ 1- 4] فهذا نهي عن التطفيف في الكيل والوزن، يشمل المساواة في الأخذ والعطاء والبيع والشراء. ثم نهاهم عن الظلم والبخس نهيا عاما في كل حق فقال:

2- عدم إنقاص الحقوق: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوهم أموالهم أو حقوقهم في أي شيء مكيل أو موزون، مذروع أو معدود، فشمل كل المقادير، وأوجب العدل في المقاييس عامة، كيلا أو وزنا أو مساحة أو قدرا، كذلك شمل حقوقهم الأدبية والمعنوية كالحفاظ على الكرامة والعرض، قال الرازي: وهذا عام في كل حق يثبت لأحد ألا يهضم، وفي كل ملك ألا يغصب مالكه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض بجميع أنواعه فقال: 3- عدم الإفساد: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي ولا تفسدوا أشد الإفساد في الأرض كقطع الطريق والغارة والنهب والسلب والقتل وإهلاك الزرع وغير ذلك من أنواع الفساد التي كانوا يفعلونها. 4- تقوى الله: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي وخافوا بأس الله الذي تفضل عليكم بخلقكم وخلق من تقدمهم من ذوي الخلقة المتقدمين، من آبائهم الذين انحدروا منهم وكانوا في الظاهر سبب وجودهم وخلقهم، ومنهم أصحاب البأس والقوة والمال كقوم هود وقوم صالح. وهذا كما قال موسى عليه السلام سابقا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء 26/ 26] . فأجابوه بالطعن في رسالته من ناحيتين، ثم بالاستخفاف بالوعيد والتهديد. أما الطعن فهو: 1- إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي ما أنت إلا رجل مسحور مغلوب على عقله، فلا يسمع لقولك، ولا يؤبه لنصحك. وهذا مثلما أجابت به ثمود رسولها، تشابهت قلوبهم، واتفقت منازع الكفر فيهم. ثم قالوا له: إنك مثلنا بشر، فما الذي فضّلك علينا، وجعلك نبيا ورسولا دوننا؟!. وأتوا بالواو في قولهم وَما للتعبير عن قصدهم معنيين كلاهما مناف

للرسالة في تقديرهم: السحر والبشرية. وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحدا، وهو كونه مسحرا، ثم قرروا كونه بشرا مثلهم. 2- وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي ويغلب على ظننا أنك ممن تعمد الكذب فيما يقول، ولست ممن أرسلك الله إلينا. وأما الاستخفاف بالتهديد فهو: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك بأننا سنعذب، فأنزل علينا قطعا من السحاب فيها نوازل العذاب. وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب والعناد واستبعادهم وقوع العذاب. وبعبارة أخرى: إن كنت صادقا أنك نبي، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء. والسماء: السحاب أو المظلة. وهذا شبيه بما قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى أن قالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 17/ 90- 92] وقوله سبحانه: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] . وهم بهذا ظنوا أنه إذا لم يقع العذاب ظهر كذبه، فأجابهم شعيب عليه السلام: قالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي قال شعيب: الله ربي أعلم بعملكم، فيجازيكم عليه، إما عاجلا وإما آجلا، وأما أنا فلا قدرة لي على إنزال العذاب، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به، وهو غير ظالم لكم. وهذا دليل على أنه لم يدع عليهم، بل فوض الأمر في التعذيب إلى الله تعالى، فلما استمروا في التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظّلّة، فقال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي فلما أصروا على التكذيب واستمروا عليه، جوزوا بعذاب الظلة وهو أنهم أصيبوا بحر عظيم، أخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى الخروج إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا، فاحترقوا جميعا. وهذا كما حكى الله تعالى بقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور 52/ 44] . إن ذلك العذاب عذاب شديد الهول، عظيم الوقع، أدى إلى الإفناء: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في تلك القصة البليغة لعبرة وعظة يا أهل مكة وغيركم من الكفار، تلك العبرة الدالة بوضوح على صدق الرسل، ومجيء العذاب بتوقيت الله، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن الله ربك يا محمد لهو القادر على الانتقام من الكافرين، الرحيم بعبادة المؤمنين. وهذه هي الخاتمة بذاتها التي ختمت بها القصص السبع المذكورة في هذه السورة للدلالة على وجوب استنباط العظة والعبرة من كل قصة، وكلها دليل قاطع على أن القرآن كلام الله الذي يخبر وحده عن الغيب: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 12/ 111] . فقه الحياة أو الأحكام: تكرر في المناسبة والتفسير بيان الهدف العام من هذه القصة وغيرها من القصص السابقة، وكان مجموعها في هذه السورة سبعا، فإن الله تعالى أنزل في قرآنه هذه القصص تسلية لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، وإزالة للحزن عن قلبه، بسبب صدود الناس عن دعوته، وهي تسرية دائمة لكل داعية مخلص، حتى لا ييأس

ولا يعجز، ولا يلين ولا يقف عن السير في دعوته، فيستمر ثابت الخطا، ماضي العزم، رافع الرأس معتزا بما يقوم به. والخلاصة: أن السبب في تشابه بداية هذه القصص وآخرها: هو التأكيد وتقرير المعاني في النفوس وتثبيتها في الصدور. وفهم من هذه القصص أن الله هو الذي أنزل العذاب على المكذبين لرسله، وأنه إنما أنزله عليهم جزاء وفاقا على كفرهم، لا ظلما ولا تشفيا ولا ثارا، وإنما لإرساء معالم الحق، وتوطيد صرح العدل بين الخلائق. ويلاحظ أن جميع الأنبياء متفقون على أصول الرسالات من الدعوة إلى توحيد الله، واحترام الفضائل ومحاربة الرذائل، ثم يقوم كل واحد منهم بمعالجة الظواهر المرضية، والأوضاع الشاذة عند قومه، فهذا هود عليه السلام ينكر على قومه العبث بالبناء، والطمع في الدنيا كأنهم مخلدون، والبطش بطش الجبارين وغير ذلك من النزعات المعنوية المغالية وهذا صالح عليه السلام ينكر على قومه إقامة البيوت في الجبال بطرين أشرين مستكبرين، حريصين على الملذات الحسية المادية وهذا لوط عليه السلام يستنكر الفاحشة الشنيعة وهي إتيان الذكور في أدبارهم، وترك إتيان النساء الأزواج في أقبالهن وهذا شعيب ينكر على قومه الظلم الاجتماعي بسرقة أموال الناس وإهدار حقوقهم بتطفيف الكيل والميزان، فيأمرهم بإيفاء الكيل والوزن كاملا غير زائد ولا ناقص، وبألا يبخسوا الناس أشياءهم، وألا يعثوا في الأرض فسادا، وأن يتقوا الله الذي خلقهم وخلق آباءهم العظام الأولين. ومن أنعم بهذه النعم كان هو المستحق للعبادة، لكنهم قوم ظالمون كافرون بالقيم والأخلاق الاجتماعية، مستصغرون وعيد الرسل، مستخفون بنصحهم ووعظهم. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة،

والامتناع عن أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. واتفق هؤلاء الرسل على الترفع عن مقابلة إساءة أقوامهم لهم واتهاماتهم الباطلة، والصبر على الدعوة، وتفويض الأمر الحازم الحاسم بإنزال العذاب وغيره إلى الله عز وجل، ليبقوا في مرتبة البشرية التي ظنها الكفرة نقصا، وهي في الحقيقة عنوان العبودية لله عز وجل. وأما صفة عذاب قوم شعيب وإهلاكهم، فإن الله أبانها في ثلاثة مواطن، كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق، ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين لأنهم قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [88] فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه، فأخذتهم الرجفة. وفي سورة هود قال: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [67] ولأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [87] قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم، فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الآية. وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلّط عليهم الحر سبعة أيام، حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم، فاستظل بها، فأصاب تحتها بردا وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعا، فاستظلوا تحتها، فأججت عليهم نارا «1» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 346.

إنزال القرآن من عند الله لإنذار المشركين وبشارة المؤمنين [سورة الشعراء (26) الآيات 192 إلى 212] :

إنزال القرآن من عند الله لإنذار المشركين وبشارة المؤمنين [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 212] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) الإعراب: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ متعلق بنزل، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين، أي لتكون من المنذرين بلغة العرب. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ اسم يكن، وآيَةً خبر مقدم، ولَهُمْ متعلق بحال، والتقدير: أولم يكن لهم علم بني إسرائيل آية لهم. ويَكُنْ يقرأ بالياء والتاء. وعلى قراءة التاء تكون: آية خبر: تكن، والتاء لتأنيث القصة، وأَنْ يَعْلَمَهُ في موضع رفع مبتدأ، ولَهُمْ خبر مقدم، والتقدير: أولم تكن القصة علم بني إسرائيل آية لهم. الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي، وهو من لا يتكلم بالعربية، أصله: أعجمين، فاستثقلوا

البلاغة:

اجتماع الأمثال، فحذفوا الياء الثانية من ياءي النسب، ثم حذفوا الياء الأولى لالتقاء الساكنين، مثل حذفهم ياءي النسب في «الأشعرين ومقتدين والياسين» . ما أَغْنى عَنْهُمْ ما إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى وإما نافية، وما «الثانية» في موضع رفع ب أَغْنى. ذِكْرى إما منصوب على المصدر، أي ذكّرنا ذكرى، وإما منصوب على الحال، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: إنذارنا ذكرى. البلاغة: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ التأكيد بإن واللام لدفع شبهة المتشككين في صحة نزول القرآن. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت. يَعْلَمَهُ عُلَماءُ جناس اشتقاق. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي من أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحال. المفردات اللغوية: الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل عليه السلام، فإنه أمين على وحي الله تعالى عَلى قَلْبِكَ على روحك لأنه مركز الإدراك والتكليف دون الجسد مِنَ الْمُنْذِرِينَ عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى، لئلا يقولوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ وقوله: مِنَ الْمُنْذِرِينَ معناه من الذين أنذروا بلغة العرب، وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، إذا تعلق قوله بِلِسانٍ بالمنذرين. وأما إذا تعلق بنزل فمعناه نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به، فتنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك لأنك تفهمه ويفهمه قومك. وَإِنَّهُ أي القرآن المنزل على محمد لَفِي زُبُرِ كتب جمع زبور الْأَوَّلِينَ كالتوراة والإنجيل أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي أولم يكن لكفار مكة دليلا وبرهانا على صحة القرآن، أو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: «أن يعلمه علماء بني إسرائيل» أن يعرفه هؤلاء العلماء، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن آمنوا، فإنهم يخبرون بذلك، بما هو مذكور في كتبهم. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قرأه محمد عليه السلام على كفار مكة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ما صدقوا به

سبب النزول نزول الآية (205) :

أنفة من اتباعه، ولفرط عنادهم واستكبارهم كَذلِكَ سَلَكْناهُ أدخلناه، أي مثل إدخالنا التكذيب به أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين أي كفار مكة بقراءة النبي صلّى الله عليه وسلم، وضمير أدخلناه عائد للكفر المدلول عليه بقوله: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وهو يدل على أن الكفر بخلق الله تعالى، وقيل: يعود الضمير للقرآن، أي أدخلناه في قلوبهم، فعرفوا معانيه وإعجازه، ثم لم يؤمنوا به عنادا. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان. بَغْتَةً فجأة في الدنيا والآخرة لا يَشْعُرُونَ بإتيانه مُنْظَرُونَ مؤخرون لنؤمن به، ويقولون ذلك تحسرا وتأسفا أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ فيقولون: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف 7/ 70 وهود 11/ 32 والأحقاف 46/ 22] أَفَرَأَيْتَ أخبرني ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما استفهامية بمعنى أي شيء، أو نافية، أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه. لَها مُنْذِرُونَ رسل تنذر أهلها إلزاما للحجة ذِكْرى تذكرة وعظة لهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ في إهلاكهم بعد إنذارهم. وهو رد لقول المشركين وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ كما زعم المشركون أنه من قبيل ما تلقي الشياطين على الكهنة وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي ما يتيسر ولا يتسنى ولا يصح لهم أن يتنزلوا به وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ما يقدرون على ذلك إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ أي لممنوعون بالشهب لأن نفوسهم خبيثة شريرة بالذات لا تقبل ذلك. سبب النزول: نزول الآية (205) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ ... : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: «رئي النبي صلّى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولم، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد؟ فنزلت: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ فطابت نفسه» . المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسوله، ووعدا له بالفوز

التفسير والبيان:

والغلبة، وإنذارا للمشركين من تكذيبه، حتى لا يهلكوا كما أهلك المكذبون السابقون، أردفه ببيان ما يدل على نبوته صلّى الله عليه وسلم من تنزيل القرآن المعجز على قلب نبيه صلّى الله عليه وسلم. كذلك لتتناسب خاتمة السورة مع فاتحتها التي افتتحت بالحديث عن إعراض المشركين عما يأتيهم من الذّكر: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [5- 6] . التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن خواص الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه وحي من عند الله، بلسان عربي، وللدلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلم، وذلك من وجهين: الدليل الأول: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي إن القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لفصاحته كان معجزا، فكان تنزيله من ربّ العالمين، كما أن فيه إخبارا عن القصص الماضية من غير تعليم، وذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى. نزل به جبريل الأمين على الوحي والرسالة، ذو المكانة عند الله، المطاع في الملأ الأعلى، على قلبك أي على روحك المدركة الواعية، وفهمك إياه، سالما من الدنس والزيادة والنقص، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة، وكان إنزاله باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بيّنا واضحا قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا على الحق، هاديا إلى الرشاد، مصلحا أحوال العباد.

وقوله عَلى قَلْبِكَ دليل على أن القرآن محفوظ، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم متمكن منه، وثابت في وعيه لأن القلب موضع التمييز، ومركز الحواس الروحية، ومحل الإدراك والوعي، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق 50/ 37] ، وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الصحيحان: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» . وندد تعالى بأن قلوب الكفار مغلقة، فقال: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] ، وقال: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] . وقوله: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ توبيخ للمشركين في مكة وتقريع لهم وتحريض على الإيمان به، فإنهم كذبوه لا لعسر فهمه، فهو بلغتهم، وإنما بسبب العناد والاستكبار والأنفة. وقوله: مِنَ الْمُنْذِرِينَ يدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح لأنه في كلا الحالين يوجد الخوف من العقاب. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب المتقدمين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، عملا بالميثاق الذي أخذ به عليهم، وعبر عنه آخرهم وهو عيسى مبشرا بأحمد: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 61/ 6] والزبر هنا: هي الكتب، وهي جمع زبور، ومنها زبور داود أي كتابه. وكذلك جميع الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها، ويهيمن عليها: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة 2/ 89] . وقال سبحانه أيضا: وَأَنْزَلْنا

الدليل الثاني على نبوته صلى الله عليه وسلم وصدقه:

إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة 5/ 48] . والخلاصة: إن هذه الآيات تتضمن أدلة ثلاثة على أن القرآن من عند الله: وهي كونه منزلا على قلب النبي الأمي الذي لم يسبق له علم بشيء منه، والذي وعاه وحفظه وأنذر به، وكونه بلسان عربي مبين تحدى به العرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، بل بسورة منه، فعجزوا، مما يدل على أنه من عند الله، لا من عند محمد، وكونه منوها به ومبشرا به في الكتب السماوية السابقة. وإذا ثبت كون القرآن من عند الله، ثبتت نبوة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلم. الدليل الثاني على نبوته صلّى الله عليه وسلم وصدقه: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟ أي أوليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل، وبيان صفة النبي صلّى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وكان مشركو قريش يذهبون إليهم ويسألونهم عن ذلك ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس: أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه، وذكروا نعته. «1» وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.. الآية [الأعراف 7/ 157] . وهذا يدل دلالة واضحة على نبوته صلّى الله عليه وسلم لأن تطابق الكتب الإلهية على إيراد نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته.

_ (1) البحر المحيط: 7/ 41.

وبعد أن بيّن الله تعالى بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق لهجته، بيّن بعدئذ أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ولو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم، وهم الذين لا ينطقون باللغة العربية، فضلا عن أن يقدروا على نظم مثله، فقرأه عليهم فصيحا معجزا متحدى به، لكفروا به أيضا، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوافُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت 41/ 44] ، وذلك بحجة عدم فهمهم له. أما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، فلا عذر لهم في عدم الإيمان به. وعلى هذا، الأمر سيّان، فسواء أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، أو أنزلناه على أعجمي لا يحسن العربية لكفروا به. وهذا دليل ملموس على تعنت كفار قريش وعنادهم وشدة كفرهم، مع أنهم عرفوا الحق، وأدركوا سرّ فصاحة القرآن وبلاغته، ولكنهم تجاهلوه عصبية وأنفة واستكبارا. وفيه أيضا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتخفيف لأحزانه لإعراض قومه عن الإيمان برسالته. ثم أكد الله تعالى هذا الموقف المتعنت فقال: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أدخلناه ومكنّاه، والمعنى: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجمي على العرب، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش. والمقصود أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على عربي أو أعجمي، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، فإن الكفر به والتكذيب له متمكن في قلوبهم، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من

نفوسهم أي وسيلة علاج أو إصلاح، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] . وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه إذا عرف هذا الرسول إصرارهم على الكفر، وأنه تمّ القضاء به لسبق علم الله بموقفهم المتصلب الذي لا يتغير، حصل له اليأس من إيمانهم والاطمئنان على سلامة موقفه منهم، وأنه لا ضير عليه في ذلك. وزاد في التأكيد والتوضيح والبيان فقال: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي إنهم يظلون كافرين، غير مؤمنين بالحق، جاحدين له في قلوبهم، لا يزالون على التكذيب به، حتى يعاينوا العذاب الشديد الألم. ثم أخبر الله تعالى عما هو أشد من العذاب وهو مجيئه فجأة، فقال: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي إن هذا العذاب يأتي أولئك المكذبين بالقرآن فجأة، دون أن يشعروا بمجيئه، وحينئذ يتحسرون، كما قال تعالى: فَيَقُولُوا: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ؟ مؤخرون، أي إنهم يتمنون حينئذ تأخير العذاب قليلا حينما يشاهدونه، ليتداركوا ما فاتهم، ويعملوا في زعمهم بطاعة الله تعالى، ولكن لا ينفعهم الندم ولن يؤجلوا لأنهم يعلمون ألا ملجأ في الآخرة، وإنما يذكرون ذلك استرواحا. ومع هذا البيان والإنذار تغلب عليهم الحماقة والجهل، فيطلبون تعجيل العذاب، فقال: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يطلبون تعجيل

العذاب، بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] ، وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف 7/ 70] ، وهم عند نزول العذاب يطلبون التأجيل والتأخير، فهم قوم متناقضون. وهذا إنكار عليهم وتهديد لهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول صلّى الله عليه وسلم تكذيبا واستبعادا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت 29/ 29] . ثم بيّن الله تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يحدث منهم ليتمتعوا في الدنيا، فقال: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي لو فرض أيها المخاطب أننا لو أطلنا في عيشهم ليتمتعوا من نعيم الدنيا طوال سنين، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة، فلا يجدي أي شيء عنهم ولا ما كانوا فيه من النعيم، ولا يخفف من عذابهم، ولا يدفعه عنهم لأن مدة التمتع في الدنيا مهما طالت متناهية قليلة، ومدة العذاب في الآخرة غير متناهية، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] ، وقال سبحانه: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة 2/ 96] ، وقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل 92/ 11] . عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة، فقال له: عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. «1» وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتى

_ (1) تفسير الرازي: 24/ 171.

بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط، فيقول: لا والله يا ربّ» أي كأن شيئا لم يكن. ثم أخبر الله تعالى عن قانون عدله التام الدائم في خلقه، وهو أنه لا يعذب قوما إلا بعد إنذار، ولا يهلك أمة إلا بعد إعذار وبيان الحجة، وبعثة الرسل، فقال: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم من عذابنا على كفرهم، ويبشرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا، وذلك تذكرة لهم وتنبيه إلى ما يجب عليهم، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم، وإنما أصروا على الكفر والجحود وعبادة غيرنا. وهذا المبدأ شهير مكرر في القرآن، مثل قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] ، وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص 28/ 59] . ثم ردّ الله تعالى على المشركين الذين كانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن ما أنزل عليه من القرآن مثلما تلقي الشياطين على الكهنة، فقال: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي إن القرآن العظيم لم تلق به الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة، ولا يتيسر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب، معزولون عن استماع كلام أهل السماء. فهذا الإنزال يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه «1» :

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 349.

أحدها:

أحدها: أنه ليس هو من بغيتهم ولا من مطلبهم لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وفي القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، وتغاير شديد. الثاني: أنّه لو انبغى لهم لما استطاعوا تحمله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر 59/ 21] . الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله، وتأديته لما وصلوا إليه لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا، في مدة إنزال القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- القرآن الكريم: كلام الله القديم المنزل بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم باللسان العربي المبين، والذي أعلنت عن نزوله كتب الأنبياء المتقدمين. نزل به جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فتلاه عليه، ووعاه قلبه منه، ورسخ في عقله رسوخا كالنقش في الحجر، قال تعالى: قُلْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ.. [البقرة 2/ 97] ، وقال سبحانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة 75/ 16- 19] .

ونزوله بلغة العرب لئلا يقولوا: لسنا نفهم ما تقول. وبشّرت بنزوله كتب الأنبياء المتقدمين، كما بشّرت ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم. 2- أثبتت الآيات نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه مع كونه أميّا بهر العالم ببلاغة القرآن وفصاحته، وإخباره عن المغيبات، وإثرائه الحياة بأنظمة سديدة رصينة لا تقبل الطعن ولا النقد، وهذا العطاء الإلهي دليل قاطع على النبوة. كما أن من الأدلة على النبوة علم أهل الكتاب بأوصاف النبي صلّى الله عليه وسلم ونعوته، سواء من أسلموا أو لم يسلموا. وإنما صحت شهادة أهل الكتاب وصارت حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في شؤون الدين، يسألونهم عن مدى تطابق القرآن مع ما أخبرت به كتبهم الدينية. 3- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء هي الإنذار لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ويدخل في الإنذار الدعوة إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح. 4- إن كفر المشركين من أهل مكة بالقرآن مجرد عناد واستكبار، دون دليل ولا برهان، وإنما على العكس علموا بأنه الحق ثم جحدوه، وكان تحدي القرآن لهم بالإتيان بمثل سورة منه حجة عليهم، فهو منزل بلغتهم، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به، فلم يؤمنوا به وجحدوه عنادا وأنفة ومكابرة، وسموه- زورا وبهتانا- شعرا تارة، وسحرا أخرى. ولو نزل هذا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان (أعجمي) فقرأه على كفار قريش بغير لغة العرب، لما آمنوا ولقالوا: لا نفقه ما نسمع. فهذا إلزام

لهم، وإنكار عليهم، وفضح لأحوالهم لأن القرآن نزل بلغتهم فهم أولى الناس بالإيمان به. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الموقف المتعنت بقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي إن الذي منعهم من الإيمان، وإعلان الكفر بالقرآن والتكذيب به هو الإصرار على ما هم عليه والحفاظ على رياساتهم ومصالحهم المادية، حتى أصبح ذلك مدخلا سالكا في قلوبهم، خلقا غير قابل للتغيير والتبديل، بمنزلة أمر جبلوا عليه وفطروا، كما يقال: فلان مجبول على الشّح، والمراد تمكن الشّح فيه. ولا يتصور إيمانهم بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم إلا حين مشاهدة العذاب المؤلم ومعاينته، ومجيئه فجأة دون أن يشعروا به، وهو إما عذاب الدنيا، وإما عذاب الساعة (القيامة) وحينئذ يقولون: هل نحن مؤخرون وممهلون، إنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا فلا يجابون إليها. ومعنى التعقيب في قوله تعالى: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، ... فَيَقُولُوا كما ذكر الزمخشري: ليس ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال التأخير فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب، فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم فجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم التأخير. ومثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون، فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب: أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، إنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشد من مقتهم، وهو مقت الله «1» . 5- كان جزاء هذا الموقف المتعنت لكفار قريش تبكيتهم بالإنكار عليهم

_ (1) الكشاف: 2/ 437

والتهكم على أمر آخر، وهو: كيف يستعجل العذاب المعرّضون للعذاب؟ ثم يشنع القرآن عليهم ويوبخهم على حبهم إطالة الاستمتاع بالدنيا، فذلك العذاب المنتظر والهلاك كائن لا محالة، ولا يغني عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه. عن الزهري: إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح، أمسك بلحيته، ثم قرأ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ. 6- اقتضت عدالة الله ورحمته ألا يهلك قوما أو يعذب أهل قرية إلا بعد إرسال الرسل المنذرين لهم بأس الله وعذابه، فإذا جاء العذاب أو العقاب، لم يكن الله ظالما في تعذيبهم، حيث قدم الحجة عليهم وأعذر إليهم. 7- القرآن- كما تقدم- نزل به الروح الأمين من عند الله تعالى، ولم تنزل به الشياطين، فإنه لا يتيسر لهم إنزاله، ولا يستطيعون تحمله وتأديته، ولا يتمكنون من اختلاسه واستراقه لأنهم معزولون عن سمع ملائكة السماء برمي الشهب عليهم فتحرقهم. 8- محل العقل: ورد في الآية أن القرآن منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم فهل المراد بالقلب العضو المعروف في الجانب الأيسر من الإنسان أم العقل الكائن في الدماغ؟ المعروف لدى علماء الطب والتشريح المعاصر أن محل العقل الدماغ. أما العلماء القدماء فانقسموا فريقين: فريق يرى أن محل العقل القلب، وفريق آخر يرى أن محل العقل الدماغ «1» . واستدل الفريق الأول بالأدلة التالية: الأول- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها؟ [الحج 22/ 46] ،

_ (1) تفسير الرازي: 24/ 167.

، وقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف 7/ 179] ، وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] أي عقل، أطلق عليه اسم القلب لأنه محله. الثاني- أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب، وقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة 2/ 10] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة 2/ 7] قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء 4/ 155] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة 9/ 64] يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح 48/ 11] كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين 83/ 14] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد 47/ 24] ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] دلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب. الثالث- إذا أمعن الإنسان في الفكر وغيره أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، مما يدل على أن موضع العقل هو القلب، فوجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم. الرابع- أن القلب أول الأعضاء تكونا، وآخرها موتا. واحتج الفريق الثاني القائل بأن العقل في الدماغ بما يأتي: الأول- أن الحواس التي هي آلات الإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ محل الإحساس. الثاني- أن الأعصاب آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ مركز التنبيه العصبي.

الثالث- أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل، مثل الجنون والنزف الدماغي. الرابع- جرى العرف على أن من أريد وصفه بقلة العقل، قيل: إنه خفيف الدماغ، خفيف الرأس. الخامس- أن العقل أشرف أجزاء الإنسان، فيكون مكانه أشرف، والأعلى هو الأشرف، وذلك في الدماغ، لا القلب. ورأيي هو ترجيح الرأي الثاني لأن العلم الحديث أجري مئات التجارب على الدماغ وما فيه من مخ ومخيخ، فوجد أنه محل العقل والإحساس والتنبيه والذاكرة وغير ذلك من وظائف الدماغ، فدل على أنه هو محل العقل. أما الآيات القرآنية المتقدمة التي يفهم منها كون العقل في القلب، فذلك من قبيل الإطلاق العرفي السائد في الكلام، والذي يراد به العقل، فيقال: لا قلب عنده، أي لا عقل. أما القيم الأدبية أو الأخلاقية: فمحلها القلب باعتباره المعبر عن النفس الإنسانية التي لا حياة فيها إلا بالقلب. ثم إن المعاني المتقدمة التي تختص بالقلوب، ويراد بها المعاني العقلية كالنية والمعلومات والمعارف، قد تنسب إلى الصدر تارة، وإلى الفؤاد أخرى. أما الصدر: فلقوله تعالى: وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات 100/ 10] ، وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران 3/ 154] ، وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك 67/ 13] ، إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران 3/ 29] . وأما الفؤاد فقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الأنعام 6/ 110] .

آداب الداعية وواجباته [سورة الشعراء (26) الآيات 213 إلى 220] :

آداب الداعية وواجباته [سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) البلاغة: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم بأسلوب التهييج والإلهاب، لما عرف عنه من زيادة إخلاص وتقوى. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ استعارة مكنية، حذف منها المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، شبّه التواضع ولين الجانب بخفض الطائر جناحه عند إرادة الهبوط، فأطلق على المشبه اسم الخفض. المفردات اللغوية: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ إن فعلت شيئا مما دعوك إليه، وهذا تهييج للنبي صلّى الله عليه وسلم وإلهاب لزيادة الإخلاص، وتحذير لسائر المكلفين. عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ هم بنو هاشم وبنو المطلب، وقد أنذرهم جهارا، كما روى البخاري ومسلم، وبدأ بالأقرب منهم فالأقرب لأن الاهتمام بشأنهم أهم، روى أحمد ومسلم وغيرهما أنه صلّى الله عليه وسلم: «لمّا نزلت هذه الآية، صعد الصفا، وناداهم فخذا فخذا، حتى اجتمعوا إليه، فقال: لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا، أكنتم مصدّقي؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . وَاخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين، ولِمَنِ: بيانية أو للتبيين. فَإِنْ عَصَوْكَ ولم يتبعوك أي عشيرتك. بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من عبادة غير الله، أي مما تعملونه أو من أعمالكم. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي فوض إلى الله جميع أمورك، فهو الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه.

سبب النزول:

حِينَ تَقُومُ إلى التهجد (صلاة الليل) . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ تغير أحوالك في أركان الصلاة، قائما وقاعدا وراكعا وساجدا. فِي السَّاجِدِينَ المصلين. وإنما وصف الله تعالى ذاته بعلمه بحال نبيه التي بها يستأهل ولايته، بعد أن وصف تعالى نفسه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه، تحقيقا للتوكل، وتطمينا لقلبه عليه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله. الْعَلِيمُ بما تنويه. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. المناسبة: بعد أن بالغ الله تعالى في تسلية رسوله أولا بقصص الأنبياء وما تبعها، ثم أقام الحجة على نبوته ثانيا، ثم أجاب عن سؤال المنكرين، أمره بعد ذلك بما يتعلق بالتبليغ والرسالة، فرتب له طريق الإنذار بدءا بالأقرب فالأقرب. والرفق بالمؤمنين، ثم ختم وصاياه له بالتوكل عليه تعالى وحده. سيرته صلّى الله عليه وسلم في التبليغ: وردت أحاديث كثيرة توضح كيفية قيامه صلّى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته والدعوة إلى ربّه، منها: ما رواه أحمد ومسلم عن عائشة قالت: «لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» . ومنها: ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أتى

التفسير والبيان:

النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا، فصعد عليه، ثم نادى: «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ [المسد 111/ 1] . ومنها: ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا، فعمّ وخصّ، فقال: «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله، لا أملك لكم من الله شيئا، ألا إن لكم رحما، وسأبلّها ببلالها» يريد: أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا. التفسير والبيان: تضمنت هذه الآيات أوامر أربعة للنبي صلّى الله عليه وسلم تتعلق بتبليغ رسالته وهي: 1- فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أي اعبد الله وحده لا شريك له، واحذر أن تدعو أو تعبد معه إلها غيره، فإن العبادة لا تكون إلا لله وحده بإخلاص، والشرك رأس المعاصي. وهذا حثّ للرسول صلّى الله عليه وسلم على زيادة الإخلاص في العبادة، فالله يعلم أنه لا يكون ذلك منه، ثم إنه بدأ بالأمر به لأنه قائد الأمة، فكان ذلك في الحقيقة

توجيها وخطابا لغيره من الناس لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر، وإن كان المقصود بذلك هم الأتباع. والخلاصة: أنه بدأ بالرسول صلّى الله عليه وسلم فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، فقال: 2- وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي خوف أقاربك في العشيرة بأس الله وعذابه لمن أشرك به سواه. وهذا جزء من مهمته بإنذار البشر كافة من عذاب الله، كما قال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام 6/ 92] ، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى 42/ 7] ، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . ويأتي التبشير عادة مع الإنذار، كما ذكر في آيات كثيرة، منها: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم 19/ 97] ، ومنها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب 33/ 45- 46] . وروى مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» . ثم أمره ربه بالرفق بالمؤمنين، فقال: 3- وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك وارفق بأتباعك الذين آمنوا بك وصدقوك، فذلك أطيب لقلوبهم. فَإِنْ عَصَوْكَ، فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي فإن عصاك أحد ممن

فقه الحياة أو الأحكام:

أنذرتهم من عشيرتك وغيرهم، فقل: إني بريء من أعمالكم التي ستجازون عليها يوم القيامة. 4- وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي وفوض جميع أمورك إلى الله القوي القاهر الغالب القادر على الانتقام من أعدائه، الرحيم بأوليائه، الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى أحوالك متقلبا من قائم إلى قاعد، وراكع إلى ساجد، فيما بين المصلين. وعبّر عنهم بالساجدين لأن العبد أقرب ما يكون من ربّه، وهو ساجد. والمقصود أن الله مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، ومعتن بك في جميع أحوالك التي منها الصلاة وما فيها من قيام وركوع وسجود، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور 52/ 48] . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن ربك هو السميع لأقوال عباده، العليم بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم ونواياهم، كما قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس 10/ 61] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- المساواة أمام التكاليف الشرعية دون استثناء أحد: فإذا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو القائد والقدوة بإخلاص العبادة لله تعالى، وبالبدء بإنذار أقاربه، كان غيرهم مطالبا بجميع التكاليف الشرعية بالأولى، وكان الإنذار لمن عداهم أشد تأثيرا وأجدى نفعا، وهو دليل على إلغاء جميع الامتيازات لأحد في الإسلام، فلا يعفى شخص وإن كان حاكما ولا حاشيته من الالتزام بتطبيق شرع الله ودينه.

2- دلت الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ والأحاديث المتقدمة على أن القرب في الأنساب لا ينفع، مع إهمال الأسباب والتفاني في الأعمال الصالحة. ودلت أيضا على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إن لكم رحما سأبلّها ببلالها» وقوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة 60/ 8] . 3- إن الإحسان إلى الأتباع من حسن السياسة، ومما يحقق فوائد جمّة، لذا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالتواضع وإلانة الجانب لأتباعه المؤمنين برسالته، المستقيمين على منهج الحق وتقوى الله. فإن عصوا وخالفوا أمره، فإنه صلّى الله عليه وسلم بريء من معصيتهم إياه لأن عصيانهم إياه عصيان لله عزّ وجلّ، باعتبار أنه صلّى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يرضي ربه، ومن تبرأ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد تبرأ الله منه. 4- التوكل على الله من أصول الإيمان وخصائصه في الإسلام، وقد أمر الله نبيه بتفويض أمره إلى ربه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه. 5- إن الله تعالى عاصم نبيه من كل سوء، حافظه من كل مكروه، ناصره على أعدائه، معتن بأمره كله، يعلم بكل أنشطته وأعماله، فهو يراه حين يقوم إلى الصلاة، ويراه قائما وراكعا وساجدا لأنه سبحانه السميع لأقوال عباده جميعا، العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم. 6- قال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي تنقله وسلالته في أصلاب الآباء: آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا. وقد استدل الشيعة بهذه الآية على أن آباء النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين، كما استدلوا على ذلك بالخبر التالي في قوله صلّى الله عليه وسلم: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» .

الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر [سورة الشعراء (26) الآيات 221 إلى 227] :

الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) الإعراب: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أَيَّ منصوب على المصدر ب يَنْقَلِبُونَ وتقديره: أي انقلاب ينقلبون. ولا يجوز نصبه ب سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله لأن الاستفهام له صدر الكلام، وإنما يعمل فيه ما بعده. البلاغة: أَفَّاكٍ أَثِيمٍ كلاهما صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل، أي كثير الكذب كثير الفجور. يَقُولُونَ ويَفْعَلُونَ وانْتَصَرُوا وظُلِمُوا بين كلّ طباق. فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استعارة تمثيلية، شبه حال الشعراء بإفراطهم في المديح والهجاء واسترسال الخيال بالتائه في الصحراء الذي هام على وجهه، فهو لا يدري أين يسير. مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ جناس اشتقاق. يَهِيمُونَ، يَنْقَلِبُونَ، يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ سجع لمراعاة الفواصل وخواتيم الآيات. المفردات اللغوية: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم يا أهل مكة وأمثالكم. تَنَزَّلُ أي تتنزل، ثم حذفت إحدى التاءين من الأصل. أَفَّاكٍ كذاب. أَثِيمٍ فاجر، مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة، وهما صيغة مبالغة، أي كثير الإفك والكذب، كثير الذنوب والفجور. يُلْقُونَ السَّمْعَ أي

سبب النزول:

الأفاكون من الشياطين يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين، فيتلقون منهم ما أكثره كذب وزور من الظنون والأمارات. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فسره بعضهم بالكل لقوله تعالى: كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قال البيضاوي: والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم، على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل: تعود الضمائر للشياطين، أي يلقون ما سمعوه من الملائكة إلى الكهنة، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي الضالون المائلون عن منهج الاستقامة، فهم مذمومون، وهذا للمقارنة بينهم وبين المؤمنين، فالشعراء يتبعهم الضالون في شعرهم، فيقولون به، ويروونه عنهم، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فليسوا كذلك. أَلَمْ تَرَ تعلم. فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام وفنونه، والوادي: الشّعب. يَهِيمُونَ يمضون أو يسيرون حائرين، فيجاوزون الحد مدحا وهجاء لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في الباطل. يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي يكذبون فيقولون: فعلنا وهم لم يفعلوا. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. أي من الشعراء. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً لم يشغلهم الشعر عن الذكر. وَانْتَصَرُوا بهجوهم الكفار. مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بهجو الكفار لهم مع جملة المؤمنين، فليسوا بمذمومين، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] . مُنْقَلَبٍ مرجع. يَنْقَلِبُونَ يرجعون بعد الموت، وهو تهديد شديد لأن قوله: سَيَعْلَمُ وعيد بليغ، وقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا على الإطلاق والتعميم، وقوله: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فيه إبهام وتهويل. سبب النزول: نزول الآية (224) وما بعدها: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الآيات. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ إلى قوله:

المناسبة:

ما لا يَفْعَلُونَ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ السورة. وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ الآية، جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم. المناسبة: هذا عود على بدء، فبعد أن أبان الله تعالى استحالة تنزل الشياطين بالقرآن (الآية 210 وما بعدها) وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين، أردف ذلك بأن الشياطين تتنزل على كل كذاب فاجر، لا على الرسول الصادق الأمين، فهو ليس من فئة الكهنة الذين يستمعون إلى الشياطين، كما أنه ليس من فئة الشعراء الغارقين في الخيال، الهائمين في كل واد من فنون القول والكلام، من غير ترجمة للحقيقة، ولا صدق في القلب، وقناعة في العقل، والرسول صلّى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالحق ولا يتكلم إلا بالصدق. ولما كان إعجاز القرآن من جهة المعنى واللفظ، وقد قدح المشركون في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء، فإنه تعالى ردّ على القسمين، وبيّن منافاة القرآن لهما، ومخالفة حال الرسول صلّى الله عليه وسلم لحال أصحابهما، فهو ليس بكاهن ولا بشاعر. التفسير والبيان: هذه الآيات تتضمن نفي فريتين عن القرآن وعن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهما

الكهانة والشعر، فليس القرآن الكريم من جنس ما تتلقاه الكهنة عن الشياطين، وليس هو من الشعر في شيء، كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس كاهنا ولا شاعرا. أما الفرية الأولى فوصفها تعالى ثم ردّ عليها فقال: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ أي هل أخبركم خبرا حقيقيا، نافعا لكم في قاموس المعرفة والعلم، على من تنزل عليه الشياطين من الكهان ونحوهم من الكذبة الفسقة؟ وكان للكهانة تأثير كبير عند العرب في الجاهلية، ولكهانهم مركز مهم، لقطع النزاع، وفض المشكلات من الأمور، مثل هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الخثعمية. وهذه الآيات رد على من زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ليس بحق، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن، أي مسّ، وبيان قاطع بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، أمين عظيم، وأنه ليس من قبل الشياطين، والجواب من وجهين: 1- تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي إن الشياطين تنزل على كل كذوب، فاجر فاسق في أفعاله، من الكهنة المتنبئة، مثل شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة، ومسيلمة وطليحة، ومن الكفار الذين يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه. وأما الكهنة فالغالب عليهم الكذب، ومحمد صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه من المغيبات لم يظهر عليه إلا الصدق. 2- يُلْقُونَ السَّمْعَ، وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي يصغي الكهنة الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، فيلقون وحيهم الزائف إليهم، ويتلقفون منهم ما أكثره كذب

وزور من الظنون والأمارات، فأكثر الشياطين كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، كما أن أكثر الأفاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا به إليهم، فيكون أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وقيل: يعود الضمير إلى الشياطين، أي يلقون إلى أوليائهم الكهنة المسموع من الملائكة، مما يختطفونه من بعض الكلمات، مما اطلعوا عليه من المغيبات، قبل أن يحجبوا بالرجم، ويبعدوا عن التقاط الكلام من الملأ الأعلى، ثم يوحون به إلى أوليائهم، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا. والخلاصة: أن الواقع خير شاهد، يوضح كالشمس الفرق بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكهنة، فكل ما أخبر به النبي عن ربه كان صادقا مطابقا للواقع ولم يعرف عنه في سيرته الطويلة المدى إلا الصدق، وأكثر ما يخبر به الكهنة كذب يتنافى مع الواقع، ولم يعرف عن الكهنة إلا الكذب، لذا مجّهم التاريخ، ورفضهم العقل، ولم يعد يصدق أباطيلهم وترهاتهم إلا السّذّج البسطاء من الأولاد والنساء وبعض الكبار السطحيين. وبعد أن بيّن الله تعالى الفرق بين محمد صلّى الله عليه وسلم وبين الكهنة، بين الفرق بينه صلّى الله عليه وسلم وبين الشعراء، ردا على الكفار القائلين: لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، جريا على ما هو المعتاد بأن لكل كاهن وشاعر شيطانا، فقال: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي أن الشعراء يتبعهم الضالون، ضلّال الإنس والجن، المنحرفون عن جادة الحق والاستقامة، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فهم المهتدون المستقيمون القائمون على منهج الحق والإيمان بالله وعبادته والاستقامة على أمره. ثم بيّن الله تعالى تلك الغواية بأمرين: 1- أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي ألم تعلم أن الشعراء يخوضون في كل

فن من الكلام، ويتناقضون مع أنفسهم، فقد يمدحون الشيء بعد أن ذموه، وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا إعلان الصدق، فهم قوم خياليون عاطفيون، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالصدق، ويدعو إلى طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا غير المفيدة. 2- وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أن أكثر قولهم الكذب، فإنهم يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر عنهم، وهذا أيضا من علامات الغواة، فإنهم يرغّبون في الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويصرّون عليه، ويقدحون في الأعراض لأدنى سبب، ولا يرتكبون إلا الفواحش، أما النبي محمد صلّى الله عليه وسلم فعلى خلاف ذلك، لا يأمر بالشيء إلا وقد فعله، ولا ينهى عن الشيء إلا وقد اجتنبه، يأمره ربه بإخلاص العبادة له أولا: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ولا يستثني قرابته من شيء من التكاليف الشرعية أو المدنية أو السياسية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. فمنهج الشعراء مخالف لحال النبوة، فإنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ودعوة الأنبياء واحدة، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته والترغيب في الآخرة والصدق «1» . ثم استثنى الله تعالى من الشعراء من اتصف بصفات أربع هي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله وتوحيده، ونصرة الحق وأهله، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي إلا الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، وذكروا الله كثيرا في كلامهم أو شعرهم، ودافعوا عن النبي ودينه وقاوموا الشرك وأهله، مثل حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك،

_ (1) البحر المحيط: 7/ 49.

وكعب بن زهير الذين ردوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. ومثلهم بعدئذ البوصيري رحمه الله وأحمد شوقي في مدائحه النبوية ونحوهم. وقيل: المراد بهذا الاستثناء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشا، وعن كعب بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل» وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك» . ثم ختم الله تعالى السورة بالتهديد الشديد والوعيد الأكيد، فقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات الفارقة بين نبوة النبي وكهانة الكهان وشعر الشعراء، سيعلمون أي مرجع يرجعون إليه بعد الموت لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب، وهو شر مرجع. ذكر الجمهور أن المراد من الآية الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء. قال الرازي: والأول- أي هذا الرأي- أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها. ثم قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم، ومن الوقائع الشهيرة في الاستشهاد بهذه الآية ما قالته عائشة: «كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما وصّى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به، ورجائي فيه، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» . قال القرطبي: والفرق بين المنقلب والمرجع: أن المنقلب: الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع: هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا، ذكره الماوردي.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: حسمت الآيات الفرق بين النبوة وبين الكهانة والشعر، فالنبوة حق وصدق، والنبي موحى إليه من عند ربه، والقرآن كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم. ولا يمكن للشياطين أن تتنزل بالقرآن ولا تستطيعه ولا تنسجم معه، فهو يدعو إلى الإيمان والهداية والحق والاستقامة، أما الشياطين فتدعو إلى الكفر والضلال والباطل والفساد والانحراف. والشياطين تتنزل على كل أفّاك (كذوب) أثيم (فاجر في أفعاله) والكهنة يصغون السمع إلى الشياطين، وأكثر الكهنة والشياطين كاذبون في أخبارهم وأقوالهم. أما الأنبياء فينزل جبريل الأمين عليهم بالوحي الصادق الذي لا مرية فيه بكونه من رب العالمين. والشعراء الماجنون يتّبعهم ضلال الجن والإنس الزائغون عن الحق، وهذا دليل على أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين، ما كان أتباعهم غواة. أما النبي فيتبعه صلحاء الجن والإنس لأنه يدعو إلى الخير والصلاح والبر والتقوى. والدليل على غواية أغلب الشعراء أمران: أنهم في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبّت، ولم يكن هائما على وجهه، لا يبالي بما قال وأن أكثرهم يكذبون، فيدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه. لكن هناك أيضا شعراء صالحون هم المتصفون بالأوصاف الأربعة التالية: وهي الإيمان بالله الحق وبنبيه المرسل، والقيام بالعمل الصالح الذي يرضي الله،

موقف الإسلام من الشعر:

وذكر الله كثيرا في كلامهم، والانتصار من الظالم بعد ظلمه، والانتصار يكون بالحق وحده وبما حدّه الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. ثم حذر القرآن وهدد من انتصر بظلم، فإنه سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة. موقف الإسلام من الشعر: ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث في الشعر، منها ما أقره، ومنها ما ذمّه، فمن الأحاديث التي ذمّت الشعر: ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه «1» خير من أن يمتلئ شعرا» . ومن الأحاديث التي مدحت الشعر ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحرا، وإن من الشعر حكما» . ويمكن التوفيق بين الحديثين بحمل الأول على الشعر المذموم الرديء المردود، كالشعر الذي يتكلم في الغزل الخليع، ويشبّب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان فنا رائعا في الأدب. ومنه شعر الشاعر الذي يتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ومثل هذا، كلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، ولا يحل إعطاؤه شيئا لأن ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه للضرورة بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة.

_ (1) ورى القيح جوفه يريه وريا: أكله. والقبح: المدّة يخالطها دم.

ومنه شعر الهجاء الذي لم يقصد به هجو الكفار ونصرة الإسلام والمسلمين، فإن كان انتصارا لمن هجا المسلمين، وشبب بأعراضهم جاز، وكان مستحسنا لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] . ويحمل الحديث الآخر على الشعر الممدوح الحسن المقبول الذي قصد به إظهار الحق، وإيراد الحكمة، وتعليم الجاهل، ونصرة المظلوم والحق، والدفاع عن الوطن، والذود عنه بجيد الكلام، ونحو ذلك من كل ما فيه نفع، وتربية للنفوس، وتهذيب للعقول، وتوحيد الصفوف. وهذا التوفيق بين الحديثين ما هو إلا نوع من وسطية الإسلام المعروفة، والاعتدال في الأشياء كلها روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» . «1» وردد هذا المعنى كبار الأئمة وعلماء اللغة والأدب، فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الشعر نوع من الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمضمونه، وقد كان عند العرب عظيم الأثر والموقع. وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النّهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثّل به أو سمعه، فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء، لا يحل سماعه ولا قوله. والخلاصة: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم.

_ (1) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو، وأبو يعلى عن عائشة، وهو حسن.

ومن الأمثال الرائدة والنماذج الطيبة للشعر الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلم ما يأتي: 1- روي مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصّلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت. قال القرطبي: وهذا دليل على جواز حفظ الأشعار المتضمنة للحكمة والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا وعقلا، أي والداعية إلى فضائل الأخلاق. وإنما استكثر النبي صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما ألا ترى قوله صلّى الله عليه وسلم: «وكاد أمية بن أبي الصّلت أن يسلم» . 2- فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه، فذلك مندوب إليه، وكذلك مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد مدحه العباس، فقال له: «لا يفضض الله فاك» ومنه الدفاع عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أقر حسّان بن ثابت على ذلك، ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم- أو هاجهم- وجبريل معك» أو «قل وروح القدس معك» . وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» أو «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل» . 3- روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» . أما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم: فهو المتكلم بالباطل، حتى يفضّلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء،

ويفسقوا التقيّ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحة بعنوان (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر) . لكن قد يكون الشعر حراما كما بينا في أغراضه وفي أمثلة الشعر المذموم، وقد يكون كفرا كهجو النبي صلّى الله عليه وسلم، سواء كان قليلا أو كثيرا. وأما هجو غير النبي صلّى الله عليه وسلم من المسلمين فهو محرم قليله وكثيره. قال ابن العربي: أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها، وإن استغرقت الحدّ، وتجاوزت المعتاد. ثم قال: وبالجملة، فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه، فذلك مذموم شرعا «1» . وقد أنهى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مشكلة تكسب الشعراء بشعرهم، فلم يعطهم العطايا المعتادة، وكشف حقائقهم، وساسهم بمنطق الشرع وعدله، فأعطى الفرزدق أربعة آلاف درهم، لئلا يعرض لأحد من أهل المدينة بمدح ولا هجاء، ومنح الأحوص أحد شعراء المدينة مائة دينار، على أن يكف عن هجاء أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعاقب الشاعر جرير بالرغم من مدحه، مع عمرو بن لجأ التيمي، لما تهاجيا وتقاذفا، وغضب على شاعر الخلاعة والعزل والتشبيب بالنساء عمر بن أبي ربيعة، ونفاه إلى دهلك، لكثرة تعرضه لنساء الأشراف وبناتهم «2» .

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1434 وما بعدها. (2) الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز للمؤلف 62 وما بعدها، المرجع السابق: 3/ 1430.

سورة النمل:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية. تسميتها: سميت سورة النمل لإيراد قصة وادي النمل فيها، ونصيحة نملة منها بقية النمل بدخول جحورهن، حتى لا يتعرضن للدهس من قبل جند سليمان عليه السلام دون قصد، ففهم سليمان الذي علمه الله منطق الطير والدواب كلامها، وتبسم ضاحكا من قولها، ودعا ربه أن يلهمه شكره على ما أنعم به عليه. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه: 1- أنها كالتتمة لها في بيان بقية قصص الأنبياء، وهي قصة داود وسليمان عليهما السلام. 2- أن فيها تفصيلا لما أجمل في سورة الشعراء من القصص النبوي، وهي قصة موسى في الآيات [7- 14] وقصة صالح في الآيات [45- 53] ولوط في الآيات [54- 58] . 3- نزلت هذه السور الثلاث (الشعراء، والنمل، والقصص) متتالية على هذا الترتيب، وذلك كاف في ترتيبها في المصحف على هذا النحو. روي عن

مشتملاتها:

ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب نزول السور: أن الشعراء، ثم طس، ثم القصص. كما يوجد تشابه بينها في البداية والافتتاح (طسم، الشعراء، طس، النمل، طسم، القصص) ولعل التشابه بين الأولى والثالثة، والاختلاف الجزئي في الثانية دليل على تأكيد المقصود بهذه الحروف المقطعة وهو تحدي العرب بالقرآن الذي تكوّن من حروف لغتهم المتركبة في جمل، بزيادة أحيانا ونقص أحيانا من تلك الحروف. 4- كذلك وجد التشابه الموضوعي بينهما في وصف القرآن وتنزيله من عند الله لأنه قال في بداية الشعراء: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وقال هنا: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وقال في أواخر الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وقال هنا: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي الذي هو تنزيل رب العالمين. 5- تلتقي السورتان في بيان وحدة القصد من القصص القرآني، وهو تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه، وإعراضهم عنه. مشتملاتها: هذه السورة المكية تتفق مع أغراض السور المكية في بيان أصول العقيدة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، وإثبات كون القرآن الكريم منزلا من عند الله العزيز الحكيم. وإسهاما في توضيح تلك الأغراض أبانت السورة معجزة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الخالدة، وهي تنزيل القرآن المجيد هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، ثم سردت وقائع مثيرة من قصص الأنبياء: موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط، عليهم السلام، تبين مدى ما تعرّض له موسى وصالح ولوط من أذى أقوامهم، وتكذيبهم برسالاتهم، وإنزال العقاب الأليم بهم، وتنبّه إلى ما أنعم الله به على

داود وسليمان من النعم العظمى، بهبة النبوة والملك والسلطان، وتسخير الجن والإنس والطير، وإذعان الملكة بلقيس لدعوة سليمان. وفي هذا حكمة بالغة لأصحاب السلطة هي اتخاذ السلطان والنفوذ سبيلا للدعوة إلى الله جل جلاله. وتلا ذلك بيان الأدلة والبراهين على وجود الله وتوحيده من خلق الكون: سمائه وأرضه، بره وبحره، وإلهام الإنسان الإفادة من كنوز الأرض، والهداية في ظلمات البر والبحر، وإمداده بالأرزاق الوفيرة، ومفاجأته بأهوال يوم القيامة ومغيبات الأحداث، وسعة علم الله، وتعاقب الليل والنهار. وأنكرت السورة بعدئذ على المشركين تكذيبهم بالبعث والحشر والنشور، وألزمت بني إسرائيل بالاحتكام إلى القرآن في خلافاتهم وخصوماتهم، وتحدثت عن أشراط الساعة، كخروج دابة الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال، ثم ذكّرت بالنفخ في الصور لجمع الناس ومجيئهم داخرين صاغرين لله تعالى. وختمت السورة بتصنيف الناس إلى سعداء أبرار، وأشقياء فجار، وجزاء كلّ بما يستحق خيرا أو شرا، وإعلام المشركين بوجوب عبادة الله وحده، والتخلي عن عبادة الأصنام والأوثان، والالتزام بمنهج القرآن ودستوره في الحياة لأنه نور وهداية، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها، وتعريفهم بآيات الله العظمى في وقت لا ينفعهم فيه شيء غير الإيمان بالله وحده، وتعرضهم للجزاء الحتمي عن جميع أعمالهم. والخلاصة: أن ما ذكر في هذه السورة يدعو إلى المبادرة إلى الإيمان بالله تعالى ربا وإلها لا شريك له، والتصديق بالبعث طريقا لإنصاف الخلائق، واتخاذ القرآن نبراسا ودستورا للحياة الإنسانية.

رسالة القرآن [سورة النمل (27) الآيات 1 إلى 6] :

رسالة القرآن [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) الإعراب: هُدىً.. إما منصوب على الحال من الكتاب، أي تلك آيات القرآن هاديا، وَبُشْرى عطف عليه، أي مبشرا وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو خبر بعد خبر، فإن قوله تعالى: تِلْكَ مبتدأ، وآياتُ الْقُرْآنِ خبره، وهُدىً خبر بعد خبر. فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي الْآخِرَةِ تبيين، وليس بمتعلق بالأخسرين، فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة. البلاغة: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ إشارة بالبعيد بدلا عن القريب، لبيان رفعة القرآن وعلو شأنه. وَكِتابٍ مُبِينٍ التنكير للتفخيم والتعظيم، أي كتاب عظيم الشأن رفيع القدر. هُدىً وَبُشْرى التعبير بالمصدر بدلا عن اسم الفاعل للمبالغة، أي هاديا ومبشرا. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ بينهما مقابلة، وتكرار الضمير فيهما لإفادة الحصر والاختصاص.

المفردات اللغوية:

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ التأكيد بإن واللام للرد على المتشككين في القرآن. المفردات اللغوية: طس تقرأ: طا، سين، وهذه الحروف المقطعة التي ابتدئ بها في كثير من السور القرآنية للتنبيه، أريد بها تحدي العرب للإتيان بمثل القرآن، ما دام مكونا من حروف لغتهم التي بها ينطقون ويخطبون وينظمون الشعر. تِلْكَ آياتُ أي هذه الآيات، أو أي السورة آياتُ الْقُرْآنِ أي آيات من القرآن، والإضافة للتفخيم لها والتعظيم لأن المضاف إلى العظيم عظيم. وَكِتابٍ مُبِينٍ مظهر للحق من الباطل، والمراد بالكتاب: إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن، فهو يبينه للناظرين، وإما القرآن ذاته، وإبانته: أنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم والشرائع، وإعجازه ظاهر مكشوف، وإذا أريد بالكتاب هنا القرآن، فيكون ذلك عطفا لإحدى الصفتين على الأخرى، بزيادة صفة، ولتغايرهما في المدلول عليه بالصفة، من حيث إن مدلول الْقُرْآنِ الاجتماع، ومدلول كِتابٍ الكتابة. وتنكير كِتابٍ للتفخيم والتعظيم. هُدىً أي هو هاد من الضلالة. وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي مبشرا للمصدقين بالجنة، أو هما حالان من الآيات، والعامل فيهما معنى الإشارة. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بها تامة على وجهها المطلوب. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعطون الزكاة المفروضة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يصدقون ويعلمون بوجود الآخرة بالاستدلال، والواو: للحال، أو للعطف، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته، وأنهم الأوحدون فيه. ويصح أن تكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، لأن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والتوثق من المحاسبة. زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة، بأن جعلها مشتهاة للطبع، محبوبة للنفس. فَهُمْ يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون فيها لقبحها وعدم إدراكهم ما يتبعها من ضر أو نفع. سُوءُ الْعَذابِ أشده في الدنيا، كالقتل والأسر يوم بدر. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة، واستحقاق العقوبة في النار المؤبدة عليهم. وَإِنَّكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم. لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه، ويلقى عليك بشدة. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ من عند أحكم الحكماء وأعلم العلماء. والجمع بين الصفتين، مع أن العلم داخل في الحكمة، لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، وللدلالة على أن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقصص والإخبار عن المغيبات.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: طس حروف مقطعة في أوائل السور، للتنبيه على إعجاز القرآن، كما بينا. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ أي هذه الآيات المنزلة عليك أيها النبي في هذه السورة هي آيات القرآن المجموع في النهاية، وآيات الكتاب المسطور في السطور، الواضح البيّن، الذي سيبقى إلى يوم القيامة، ويسهل العمل به لوضوحه وبيانه المشرق، ويستفيد منه من تأمل فيه، واستعذب حلاوة كلام الله، وفكّر في عظمته وفضل الله تعالى في إنزاله وبيانه، فهو ليس من كلام البشر، بل ولا يستطيع أحد الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه. وعطف الكتاب على القرآن من عطف إحدى الصفتين على الأخرى، كما بينا في المفردات، كما تقول: هذا فعل السخي والجواد والكريم. ويلاحظ أن هاتين الصفتين مرة يذكران بالتعريف، ومرة بالتنكير، والمعنى واحد، وأن القرآن له صفتان: قرآن وكتاب لأنه يظهر بالقراءة والكتابة. هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن القرآن هاد للناس من الضلالة، ومبشر المؤمنين الطائعين بالجنة وبرحمة الله تعالى. ومعنى كون القرآن هدى للمؤمنين: أنه يزيدهم هدى على هداهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة 9/ 124] وأنه يهديهم إلى الجنة، كما قال تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء 4/ 175] . والتخصيص بالمؤمنين للدلالة على أن الهداية والبشارة إنما يحصلان لمن آمن به، واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه. ثم ذكر تعالى مظاهر الإيمان فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي إن المؤمنين المنتفعين بالقرآن هداية وبشارة هم الذين يؤدون الصلاة كاملة

الأركان، تامة الشروط، مستحضرا فيها المصلي عظمة ربه، خاشعا في تلاوته ومناجاته وأذكاره وتسبيحاته، ويعطون الزكاة المفروضة المطهرة لأموالهم وأنفسهم من الدنس والشبهات، ويوقنون بالدار الآخرة، والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها، والجنة والنار، فيستعدون للأنسب الأفضل لهم، ويطيعون ربهم فيما أمر به، وينأون عما نهي عنه وزجر. ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء بحال من لا يؤمن بالآخرة، فذكر منكري البعث بعد ذكر المؤمنين الموقنين بالبعث فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ، فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي إن الذين يكذبون بالآخرة ويستبعدون وقوعها بعد الموت، حسّنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون ويترددون في ضلالهم، جزاء على ما كذبوا من الدار الآخرة، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 6/ 110] . أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي أولئك جزاؤهم العذاب السيء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمثل قتلهم وأسرهم يوم بدر، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار، بل هم في الآخرة أشد الناس خسرانا، لا يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر لأن عذابهم فيها دائم لا ينقطع. وبعد وصف حال المؤمنين بالقرآن والمكذبين به، ذكر الله تعالى حال المنزل عليه فقال: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي وإنك أيها الرسول لتأخذ القرآن وتعطاه وتتعلمه من عند حكيم في أمره ونهيه وتدبير خلقه، عليم بالأمور جليلها وحقيرها وبأحوال خلقه وما فيه خيرهم، فخبره هو الصدق المحض، وحكمه هو العدل التام، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام 6/ 115] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من هذه الآيات ما يلي: 1- آيات هذه السورة آيات القرآن، وآيات كتاب مبين، وهما صفتان: صفة بأنه قرآن مقروء مجموع مصون، وصفة بأنه كتاب مكتوب، فهو يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة. وذكر القرآن بلفظ المعرفة، وذكر كتاب بلفظ النكرة، وهما في معنى المعرفة، كما تقول: فلان رجل عاقل، وفلان الرجل العاقل. وذلك بدليل ورودهما في سورة الحجر بالعكس: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فورد الكتاب بلفظ المعرفة، والقرآن بلفظ النكرة لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة. ووصف القرآن أو الكتاب بصفة «المبين» لأنه تعالى بيّن فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده. 2- وكذلك آيات هذا الكتاب أو القرآن هادية ومبشرة للمؤمنين بالجنة، أولئك المؤمنون المتصفون بأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصدقون بالآخرة صدقا لا شك فيه ولا تردد. 3- أما الذين لا يصدقون بالبعث فهم في حيرة وضلالة، يترددون في مهاوي الضلال، لذا عاقبهم الله جزاء كفرهم بتزيين أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة، قال الزجّاج: «جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه» وهم يترددون في أعمالهم الخبيثة وفي ضلالتهم. ولهم عدا هذا العقاب المعنوي عقاب مادي سيء في الدنيا والآخرة وهو جهنم، وبما أنهم خسروا الآخرة بكفرهم، فهم أخسر كل خاسر.

القصة الأولى قصة موسى عليه السلام بالوادي المقدس [سورة النمل (27) الآيات 7 إلى 14] :

4- إن تنزيل القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم وتعليمه إياه وتلقينه به من عند الله العلي الحكيم بتدبير خلقه، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم. وهذه الآية الأخيرة تمهيد لسياق القصص التالية عن الأنبياء عليهم السلام. القصة الأولى قصة موسى عليه السلام بالوادي المقدس [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) الإعراب: بِشِهابٍ قَبَسٍ قَبَسٍ بالتنوين: بدل مجرور من شهاب. ومن قرأ بغير تنوين أضاف كلمة بِشِهابٍ إلى قَبَسٍ إضافة النوع إلى جنسه، مثل: ثوب خزّ. تَصْطَلُونَ أصلها «تصتليون» فأبدل من التاء طاء، لتوافق الطاء في الإطباق، ونقلت

البلاغة:

الضمة من الياء إلى اللام، فبقيت الياء ساكنة، وواو الجمع ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه بورك، وهو في موضع رفع ب نُودِيَ. ومَنْ فِي النَّارِ، أي من في طلب النار، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للخبر. تَهْتَزُّ، كَأَنَّها جَانٌّ تَهْتَزُّ جملة فعلية حال من هاء رَآها. وكَأَنَّها جَانٌّ حال أيضا، أي فلما رآها مهتزة مشبهة جانا، ومُدْبِراً حال منصوب أيضا. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَنْ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع. تَخْرُجْ بَيْضاءَ بَيْضاءَ حال من ضمير تَخْرُجْ. وإِلى فِرْعَوْنَ حال من مرسلا المحذوف المنصوب على الحال، لدلالة الحال عليه، أي مرسلا إلى فرعون. مُبْصِرَةً حال من الآيات، أي مبينة. البلاغة: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ إيجاز بالحذف، حذفت جملة: فألقاها، فانقلبت حية، لدلالة السياق عليه. حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ووَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ بين كل منهما طباق. آياتُنا مُبْصِرَةً استعارة، استعار لفظ الإبصار للوضوح والبيان لأن الإبصار يكون بالعينين. كَأَنَّها جَانٌّ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه، وحذف وجه الشبه، فصار مرسلا مجملا. المفردات اللغوية: إِذْ قالَ أي اذكر حين قال موسى. لِأَهْلِهِ كنى عن زوجته بالأهل عند مسيرته من مدين إلى مصر. آنَسْتُ أبصرت من بعيد. بِخَبَرٍ عن حال الطريق لأنه قد ضله. وجمع الضمير في قوله: سَآتِيكُمْ وآتِيكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ مراعاة لكلمة لِأَهْلِهِ. وأتى بالسين في قوله: سَآتِيكُمْ للدلالة على بعد المسافة، أو الوعد بالإتيان وإن أبطأ. وأتى بأو دون الواو اعتمادا أو رجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا، لم يعدم واحدة منهما: إما هداية الطريق،

وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وقد ظفر بكلتا حاجتيه وهما عز الدنيا وعز الآخرة. بِشِهابٍ شعلة نار. قَبَسٍ قطعة من النار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها. تَصْطَلُونَ تستدفئون من البرد، وقوله لَعَلَّكُمْ معناه رجاء أن تستدفئوا. نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي نودي بأن بارك الله، فأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، أو مفسرة، لأن النداء فيه معنى القول مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار وهو موسى والبقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص 28/ 30] . وَمَنْ حَوْلَها المكان الذي حولها، والمعنى: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، قال البيضاوي: والظاهر أنه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا، وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى. وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من جملة ما نودي، ومعناه: تنزيه الله من السوء. يا مُوسى إِنَّهُ ضمير الشأن والأمر. تَهْتَزُّ تتحرك باضطراب. كَأَنَّها جَانٌّ حية خفيفة سريعة. وَلَّى مُدْبِراً هرب. وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع على عقبه. لا تَخَفْ من غيري ثقة بي، أو مطلقا، لقوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لا يخاف عندي الرسل من حية وغيرها، حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق. إِلَّا لكن فهو استثناء منقطع. مَنْ ظَلَمَ نفسه. ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أتى حسنا بعد سوء وبدل ذنبه بالتوبة، أي تاب. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أستر عليه وأغفر له وأرحمه بقبول التوبة. والمراد من الاستثناء التعريض بموسى حينما وكز القبطي. فِي جَيْبِكَ طوق قميصك. تَخْرُجْ خلاف لونها من الأدمة أي الجلد. مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص ونحوه من الآفات، لها شعاع يغشي البصر. فِي تِسْعِ آياتٍ أي تلك آية من تسع آيات أي معجزات دالة على صدقك، أو في جملتها، والتسع: هي فلق البحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والطمسة، وجدب واديهم، ونقصان مزارعهم. ومن عد العصا واليد من التسع جعل الأخيرين واحدا، ولم يعد الفلق منها لأنه لم يبعث به إلى فرعون وقومه. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للإرسال. مُبْصِرَةً بينة واضحة مضيئة. مُبِينٌ بيّن ظاهر. وَجَحَدُوا بِها لم يقروا. اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ تيقنوا أنها من عند الله والاستيقان أبلغ من الإيقان. ظُلْماً لأنفسهم. وَعُلُوًّا ترفعا وتكبرا عن الإيمان بما جاء به موسى. فَانْظُرْ يا محمد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. قال الزمخشري: وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينات واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى أن القرآن المجيد متلقى من عند الله الحكيم العليم، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتلاوة بعض ما تلقاه، تقريرا له، وهو ما أورده من بعض القصص للعظة والذكرى. التفسير والبيان: ابتدأ الله تعالى بالتذكير بقصة موسى كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا، واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي اذكر أيها الرسول حين سار موسى بأهله (زوجته) من مدين إلى مصر، فضل الطريق في ليل مظلم، فرأى من بعيد نارا تتأجج وتضطرم، فقال لأهله مستبشرا بمعرفة الطريق والاصطلاء بالنار: إني أبصرت نارا، سآتيكم منها بخبر عن الطريق، أو آتيكم منها بشعلة نار، تستدفئون بها في هذه الليلة الباردة. وكان الأمر كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم هو النبوة، واقتبس منها نورا عظيما لا نارا هو نور الرسالة، كما قال: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فلما وصلها، ورأى منظرها هائلا حيث تضطرم النار في شجرة خضراء، فلا تزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضارة، ثم رفع رأسه، فإذا نورها متصل بعنان السماء، ولم تكن نارا، وإنما كانت نورا، هو نور رب العالمين، كما قال ابن عباس، فوقف موسى متعجبا مما رأى، فنودي أن

بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها، أي تبارك من في النور، والمكان: هو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص 28/ 30] وما حولها: أرض الشام ذات البركات والخيرات لكونها مهبط الأنبياء، ومبعث الرسالات. وقيل: من في النور هو الله سبحانه، ومن حولها: الملائكة، والأولى ما ذكرناه. وسبب المباركة: حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم الله موسى عليه السلام، وجعله رسولا، وإظهار المعجزات على يده، ولما كان هذا الحال قد يوهم بالتجسيم والمادية نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق بذاته وحكمته، فقال: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزه الله الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، والأحد الفرد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. وقد عرف موسى أن ذلك النداء من الله تعالى لأن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك كالمعجز الدال على صدور الكلام من الله سبحانه. ومما يدل على صحة هذا التعليل المروي عن ابن عباس: ما أخرجه مسلم في صحيحة وابن ماجه في سننه، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفها «1» لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شيء

_ (1) لعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالأنوار، وهذه رواية ابن ماجه، ورواية مسلم: «لو كشفه» . [.....]

ثم أراه قدرته وأيده بالمعجزات، فقال تعالى:

أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ثم صرح الله تعالى بإظهار كلامه فقال: يا مُوسى، إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا موسى، إن الذي يخاطبك ويناجيك هو الله ربّك الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله. ثم أراه قدرته وأيده بالمعجزات، فقال تعالى: المعجزة الأولى: وَأَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أي أمره الله بإلقاء عصاه من يده على الأرض، فلما ألقاها، انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة، في غاية الكبر وسرعة الحركة معا، فلما رآها هكذا، ولّى هاربا خوفا منها، ولم يرجع على عقبيه، ولم يلتفت وراءه من شدة خوفه. فهدّأ الحق تعالى نفسه، وأزال عنه الرعب، فقال: يا مُوسى، لا تَخَفْ، إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي لا تخف يا موسى مما ترى، فإني أريد أن أصطفيك رسولا، وأجعلك نبيا وجيها، ولا يخاف عندي الرسل والأنبياء إذا أمرتهم بإظهار المعجزة. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا استثناء عظيم، وبشارة عظيمة للبشر في هذا الكلام الرباني المباشر مع موسى، أي لكن من ظلم نفسه أو غيره أو كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب إلى ربه، فإن الله يقبل توبته لأنه بدل بتوبته عملا حسنا بعد سوء، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه 20/ 82] وقال

المعجزة الثانية:

سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء 4/ 110] . المعجزة الثانية: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي أدخل يدك في جيب قميصك «1» فإذا أدخلتها وأخرجتها، خرجت بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، من غير آفة بها كبرص وغيره. ويلاحظ أن المعجزة الأولى كانت بتغيير ما في يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وجعلها ذات أوصاف نورانية. فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي هاتان المعجزتان أو الآيتان في جملة أو من تسع آيات أخرى أؤيدك بهن، وأجعلها برهانا لك، مرسلا بها إلى فرعون وقومه، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء 17/ 101] . إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي لأنهم كانوا قوما عصاة خارجين عن دائرة الحق، بتأليه فرعون. وهذا تعليل لما سبق من تأييده بالمعجزات. ثم كان اللقاء مع فرعون وقومه، فقال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي فلما جاءت فرعون وقومه آياتنا التسع بينة واضحة ظاهرة دالة على صدق موسى وأخيه هارون، أنكروها وقالوا: هذا سحر واضح ظاهر، وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين. وعبّر بقوله: مُبْصِرَةً للدلالة على أنها لفرط وضوحها

_ (1) هو الفتحة التي يدخل منها الرأس ثم يتدلى الثوب إلى الصدر والجسد.

فقه الحياة أو الأحكام:

كأنها تبصر نفسها. ونظرا لهذا الوضوح فيها صدقوا بها في قلوبهم، وكذبوا بها في الظاهر بألسنتهم فقال تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا أي وأنكروها وكذبوا بها في ظاهر الأمر مكابرة بالألسنة وعنادا، وتيقنوا وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتباع الحق، كما جاء في آية أخرى: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون 23/ 46] . فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر أيها الرسول وكل سامع كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير لمكذبي الرسل الذين أرسلهم الله لهداية البشرية. والمعنى: فاحذروا أيها المكذّبون لمحمد صلّى الله عليه وسلم، الجاحدون لما جاء به من عند ربه أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك بطريق الأولى والأخرى، لأن النبوات ختمت برسالته، ولأن القرآن المنزل عليه مصدّق لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السابقة ومهيمن عليها، ولبشارات الأنبياء به وأخذ المواثيق له، ولتأييده بأدلة دالة على صدق نبوته أكثر من موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء والرسل، وعلى رأسها معجزة القرآن المجيد، كما أخبر تعالى في مطلع هذه السورة: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. فقه الحياة أو الأحكام: تكررت قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في سور عديدة، لما تضمنت من العظة والعبرة التي تتجلى في قهر الله أكبر قوة عاتية بشرية وتحطيم جبروت سلطة ظالمة غاشمة، على يد رجل أعزل من السلاح هو وأخوه هارون إلا أنهما قويان بقوة الله، وقوة الإيمان، وعظمة النبوة.

وهي أول قصة حكاها القرآن في هذه السورة على أثر قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي خذ يا محمد من آثار حكمة الله وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله: «إني آنست نارا ... » . مشى موسى عليه السلام هو وزوجته من مدين إلى مصر، وشأنه ككل بشر عادي، يحار في الصحراء، ومفارق الطرق، وفي الليالي الظلماء الباردة العاصفة، فضل الطريق، وأحس هو وزوجته بالحاجة إلى الدفء، كما يحس المسافر العادي بالحاجة إلى النار أثناء البرد. واستدرجه ربّه فيما يناسب ظرفه والمناخ الذي يكتنفه، فرأى نارا من بعيد، فبشّر أهله بما رأى، وأنه سيأتي بشعلة نار منها، ويهتدي بأهل النار إلى الطريق، إذ النار لا توقد وحدها من دون شخص يوقدها. ولكنه فوجئ بنقيض مقصوده، لما جاء المكان الذي ظن أنه نار، وهي نور، وذلك أنه لما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فوجدها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الاخضرار، يقال لها العلّيق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرّما، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا، وأراد أن يقتطع منها غصنا ملتهبا، فلم يتمكن، حتى تبين أنها مباركة، ثم نودي: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي ناداه الله مباركا مكان النار، ومن حولها: الملائكة والبقعة وموسى. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه قال: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود 11/ 73] . والخلاصة: إن هذه النار التي رآها موسى فيض من نور الله، تمهيدا لتكليم الله موسى وتحيته وجعله نبيا رسولا، وتنزيها وتقديسا لله رب العالمين، علما بأن هذا الكلام الأخير من قول الله تعالى تعليما لنا، وقيل: إن موسى عليه السلام قال حين فرغ من سماع النداء: استعانة بالله تعالى وتنزيها له.

وكانت فاتحة خطاب الله لموسى إظهار عظمة الله وعزته وحكمته البالغة: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إنني أنا الله الغالب القاهر الذي ليس كمثله شيء، الحكيم في أمره وفعله. ثم جعل له تسع آيات دليلا وبرهانا على نبوته، وأهمها وأبرزها: العصا واليد، فكان إذا ألقى عصاه من يده، صارت حية تهتز كأنها جانّ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقيل: إنها كبيرة ضخمة ذات حركة سريعة. وإذ أدخل يده في جيب ثم أخرجها أصبحت ذات مصدر إشعاع ونور كالقمر. ومن الطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام لأول مرة من الحية المضطربة المتحركة التي يخشى الإنسان من لدغها بالفطرة، ففرّ هاربا منها، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه، فطمأنه ربه العلي العظيم قائلا: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وهذا خبر بالرسالة والنبوة. ثم استثنى استثناء منقطعا من خلاف جنس المستثنى منه فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي لكن لا يخاف من ظلم وعصى وأساء، ثم تاب وأناب لربه، فالله غفور لمن تاب، رحيم بمن أناب. وهذا تثبيت لموسى بأنه ليس من شأنه الخوف، وتطمين له بأن ربّه غفر له بعد أن تاب من حادث قتل القبطي وهو شاب حدث قبل النبوة. أما بعد النبوة فالأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر. ثم أخبره ربه بأنه مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه الفاسقين، أي الخارجين عن طاعة الله، فأظهر موسى عليه السلام لهم معجزاته الباهرة الدالة على صدقه دلالة واضحة بيّنة، فجروا على عادتهم في التكذيب، وأنكروها وعاندوها في الظاهر، ولكنهم تيقنوا من صدقها في الباطن أو في القلب، وأنها من عند الله، وأنها ليست سحرا، غير أنهم تجاهلوا ذلك، وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا واستكبارا كشأن كل العتاة المتكبرين.

القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام:

ثم أوجز الله تعالى العبرة من هذه القصة بتلك العبارة التي ختمت بها فقال: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر يا محمد كيف كان مصير أو آخر أمر الكافرين الظالمين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه، ولينظر أيضا كل عاقل، وليعتبر بالنتائج الحادثة بأسباب تؤدي إليها في سنة الله ونظامه. القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام - 1- نعم الله الجليلة عليهما [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

الإعراب:

الإعراب: قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ خاطبهم مخاطبة من يعقل لما وصفهم بصفات من يعقل. لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ لا الناهية، ولهذا دخلت النون المشددة في يَحْطِمَنَّكُمْ. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ جملة حالية. البلاغة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه حسن الاعتذار والالتفات. يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه نداء، وتنبيه، وأمر بالدخول، وبيان الملجأ والمأمن، والتحذير، وتخصيص سليمان، ثم التعميم، والاعتذار الحسن. المفردات اللغوية: عِلْماً هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس ومنطق الطير وغير ذلك. وَقالا شكرا لله، وعطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة، كأنه قال: ففعلا شكرا له ما فعلا، وقالا: الحمد لله الَّذِي فَضَّلَنا.. بالنبوة والعلم وتسخير الجن والإنس والشياطين على من لم يؤت علما. وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله، حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبروا ما دونه من الملك. وفيه أيضا تحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوة والعلم أو الملك دون باقي أولاده الذين كانوا تسعة عشر عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي علمنا فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، والمنطق والنطق: الصوت المعبر عما في النفس. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تؤتاه الأنبياء والملوك، وفيه التحدث بنعمة الله، ودعوة الناس إلى التصديق بالمعجزة التي هي علم الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه. إِنَّ هذا المؤتى. لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ البيّن الظاهر. يُوزَعُونَ يكفّون، ويجمعون بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم من الوزع: الكف والمنع. وَحُشِرَ جمع. وادِ النَّمْلِ واد في بلاد الشام كثير النمل، وقيل: في بلاد اليمن. قالَتْ نَمْلَةٌ هي ملكة النمل، وقد رأت جند سليمان. لا يَحْطِمَنَّكُمْ أصله: لا يحتطمنكم، وهو نهي لهم عن الحطم أي عن التوقف بحيث يحطمونها

المناسبة:

ويكسرونها، وهو مثل قولهم: لا أرينك هاهنا. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنهم يحطمونكم، إذ لو شعروا لم يفعلوا، كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء. وقد نزل النمل منزلة العقلاء، في الخطاب بخطابهم. فَتَبَسَّمَ سليمان. ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تعجبا من تحذيرها واهتدائها إلى مصالحها أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها وفهم غرضها. أَوْزِعْنِي ألهمني. وَعَلى والِدَيَّ أدرج في دعائه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ تماما للشكر واستدامة للنعمة. فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي أدخلني في عدادهم الجنة، وهم الأنبياء والأولياء. المناسبة: هذه قصة ثانية بعد قصة موسى عليه السلام تبين آثار حكمة الله، وتعليمه، وإنزال القرآن، وأنه من حكيم عليم، ففيها يخبر الله تعالى عما أنعم به على داود وسليمان من النعم الجليلة والصفات الجميلة، وما جمع لهما من سعادة الدنيا والآخرة بإيتاء النبوة والملك معا. التفسير والبيان: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أي ولقد أعطينا كلا من داود وابنه سليمان طائفة من العلم هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس، وعلمنا داود صنعة دروع الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير، فشكرا الله تعالى على نعمه، وقالا: الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من العباد المؤمنين بهذه العلوم والمعارف الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، ولم يؤتهم مثلنا. وهذا دليل على فضل العلم الذي لم يكن الملك إلا دونه، وعلى رفع مرتبة العلم والعلماء، كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا

1 - تعليمه منطق الطير:

الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] وهو حث للعالم على شكر النعمة وعلى التواضع، فلم يفضلا أنفسهما على الكل، وإنما على الكثير، وتذكير بأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل على الكثير أناس مثله. وأشرف مراتب العلم: العلم بالله وبصفاته. روي ابن أبي حاتم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: إن الله لم ينعم على عبده نعمة، فيحمد الله عليها، إلا كان حمده أفضل من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي خلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النبوة والعلم والملك، وليس المراد وراثة المال، لأنه خصص بهذا الإرث عن بقية أولاد داود الكثر، ولأن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: نحن معاشر الأنبياء «لا نورث، ما تركنا صدقة» . وكان داود أكثر تعبدا من سليمان، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله، وكان أعظم ملكا من أبيه، فقد أعطي ما أعطي داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، ومعرفة لغة الطيور، كما أخبر تعالى معددا بعض نعم الله عليه: 1- تعليمه منطق الطير: وَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي قال سليمان متحدثا بنعمة الله عليه أن ربه علّمه لغة الطير والحيوان إذا صوّت، فأستطيع التمييز بين مقاصده من نوع تصويته. وربما فهم بعض الناس الذين يقدمون خدمات للحيوان بعض أصوات الحيوانات، كالخيول والبغال والحمير والأبقار والإبل والقطط، فيدركون رغبتها في الأكل أو الشرب، ويفهمون تألمها عند المرض أو

الضرب. وأدرك أناس في العصر الحديث كثيرا من لغات الطيور حال الحزن أو الفرح أو الحاجة إلى الطعام والشراب والاستغاثة وغير ذلك بالتجربة والملاحظة وتشابه النغمات في حال واحدة، كما حاولوا معرفة لغات الحشرات كالنمل والنحل. قال البيضاوي: ولعل سليمان عليه السلام كان إذا سمع صوت حيوان، علم بقوّته الحدسية التخيل الذي صوّته، والغرض الذي توخاه به، ومن ذلك ما حكي: أنه مرّ ببلبل يصوّت ويرقص، فقال سليمان: إنه يقول: «إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء» وصاحت فاختة «1» ، فقال: إنها تقول: «ليت الخلق لم يخلقوا» فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال، وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا من ملك وثروة. وهذا الأسلوب كما ذكر الزمخشري يراد به كثرة ما أوتي كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد كثرة قصّاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه، ومثله قوله تعالى في مقال الهدهد عن بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 27/ 23] . والضمير في عُلِّمْنا، وَأُوتِينا لسليمان ولأبيه، أو له وحده، على عادة الملوك، لمراعاة قواعد السياسة. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي إن هذا المؤتى من الخيرات والنعم من النبوة والملك والحكم، لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد، وهو فضل الله علينا. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال

_ (1) نوع من الحمام البري، جمع فواخيت.

2 - جنود سليمان:

رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر» أي أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا. 2- جنود سليمان: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، أي ركب فيهم في أبّهة وعظمة، تليه الإنس، ثم الجن، ثم الطير، فإن كان حرّ أظلته منه بأجنحتها، فهم يجمعون بترتيب ونظام، بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم، ويردّ أو يكفّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته، وليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وهذا يدل على مسيرته في جيش عظيم منظم له عرفاء، ليس جيشا من الناس فقط، وإنما معه الجن، والطير. قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة (عرفاء) ، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم. وعلى هذا فكلمة يُوزَعُونَ من الوزع وهو الكف والمنع، قال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن أي من الناس. وقال الحسن البصري: لا بد للناس من وازع، أي سلطان يكفّ ويمنع. وهذا دليل على أن سليمان عليه السلام جمع بين النبوة والسلطات كلها، والملك الذي لم يتوافر لأحد بعده، فضلا من الله واستجابة لدعائه: قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص 38/ 35- 37] . وقال تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ 34/ 12- 13] .

3 - قصة النملة:

وبه يتبين أن الله تعالى سخر لسليمان الإنس، فكان له عساكر كثيرون منهم، والجن لصناعة المباني الضخمة والأواني الواسعة والقدور السابغة، والطير، كما سيأتي في قصة الهدهد. 3- قصة النملة: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي حتى إذا قدم سليمان ومن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، وهي- كما يقال ولم يثبت- واد بالشام أو بغيره كثير النمل، نادت نملة هي ملكة النمل، كما فهم سليمان: يا أيها النمل، ادخلوا بيوتكم، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده، دون أن يشعروا بذلك. وقوله: لا يَحْطِمَنَّكُمْ كما جاء في الكشاف: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، أي ادخلوا لا يحطمنكم، مثل: اجتهد لا ترسب، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، أي في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي فتبسم شارعا في الضحك بعد أن فهم قولها، تعجبا من تحذيرها، أو سرورا بما خصه الله به من فهم غرضها، وقال: ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه قياما بواجب الشكر على النعمة، واجعلني إذا توفيتني في الجنة في زمرة الصالحين من الأنبياء والأولياء الصلحاء. وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا نعمة الدين، فإن الولد إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها كافية في وجوب الشكر، مستحقة للحمد والثناء على المتفضل المنعم بها. وفيه الدليل على البر بالوالدين والدعاء لهما بعد موتهما. ومن وقائع فهم سليمان كلام النمل: ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: «خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن نعمة العلم من أجل النعم وأشرفها وأرفعها رتبة، وإن من أوتي العلم فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] . 2- كان إرث سليمان من والده داود عليهما السلام هو النبوة والملك، وليس وراثة مال، وإلا لكان جميع أولاد داود التسعة عشر فيه سواء. والمقصود أنه صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، كما قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي الدرداء مرفوعا: «العلماء ورثة الأنبياء» أي ورثتهم في العلم والحكمة وفهم أمور الدين والدنيا على حقيقتها. ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: إنا معشر الأنبياء «لا نورث» . 3- تقتضي نعمة العلم وغيره شكر المنعم وحمده على فضله وإحسانه، كما فعل داود وسليمان عليهما السلام، ودل قولهما على تواضع العلماء والاعتقاد بأنه وإن فضلا على كثير، فقد فضل عليه أناس مثلهما، وهذا مشابه لقول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.

4- عدد الله في القصة نعما ثلاثا على سليمان عليه السلام: هي تعليمه منطق الطير وإيتاؤه الخير الكثير، وتسخير الجن والإنس والطير، وفهمه خطاب النملة. وأصوات الطيور والبهائم هو منطقها، وفي مناطقها معاني التسبيح وغير ذلك، كما أخبر تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] . 5- بدأ سليمان عليه السلام في تعداد هذه النعم قائلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا تشهير لنعمة الله، وتنويه بها، واعتراف بمكانها، ودعوة الناس إلى التصديق برسالته بذكر المعجزة وهي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. 6- اشتمل دعاء سليمان عليه السلام على طلب الإلهام من الله شكر ما أنعم به عليه، وعلى توفيقه لزيادة العمل الصالح والتقوى، فهو عليه السلام بعد أن سأل ربه شيئا خاصا وهو شكر النعمة، سأل شيئا عاما وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى. 7- دل قوله: فَهُمْ يُوزَعُونَ على جواز اتخاذ الإمام والحكام وزعة (أي عرفاء) يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. هذا.. وقد علّق ابن العربي على قول عثمان: «ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن» فقال: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافّة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها،

وقصّروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية منها، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها. ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور «1» . 8- ما حكاه تعالى من قول النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حسن اعتذار، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله ضاحِكاً إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، وسرور النبي بأمر الآخرة والدين، لا بأمر الدنيا. 9- أفهم الله تعالى النملة هذا الكلام لتكون معجزة لسليمان عليه السلام. 10- أودع الله في كل حيوان غرائز معينة، يهتدي بها إلى ما ينفعه، ويمتنع بها عما يضره. ومن درس طبائع الحيوانات وعرف خصائصها، أدرك فيها عجائب مثيرة، وإلهامات غريبة، وذلك يدعو إلى الإيمان بالله الخالق الموجد الملهم، وسبحانه أبدع كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون حينما قال له ولأخيه هارون: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه 20/ 49- 50] .

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1438.

- 2 - قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام [سورة النمل (27) الآيات 20 إلى 28] :

- 2- قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 28] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) الإعراب: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً عَذاباً: إما منصوب على المصدر، بجعل العذاب الذي هو اسم قائما مقام «تعذيب» ويجوز إقامة الأسماء مقام المصادر، كقولهم: سلمت عليه سلاما، وكلمته كلاما، وإما منصوب على المفعول بتقدير حذف حرف الجر، أي لأعذبنه بعذاب. وليست اللام في لَيَأْتِيَنِّي لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في أثر قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ أجراه مجراه.

البلاغة:

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ غَيْرَ إما صفة مصدر محذوف، أي فمكث مكثا غير بعيد، أو وصف لظرف محذوف، أي فمكث وقتا غير بعيد. مِنْ سَبَإٍ اسم مصروف للحي أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسما لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. والصحيح أن سَبَإٍ اسم رجل، كما في كتاب الترمذي. أَلَّا يَسْجُدُوا أَلَّا بالتشديد، أصلها «أن لا» وأن: في موضع نصب، لتعلقه ب يَهْتَدُونَ و (لا) : زائدة. ومن قرأ بالتخفيف، جعل أَلَّا للتنبيه، وجعل (يا) حرف نداء، والمنادي محذوف، وتقديره: يا هؤلاء اسجدوا، فحذف المنادي لدلالة حرف النداء عليه. البلاغة: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فيها مراعاة فواصل الآيات. ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ تعجب. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي التأكيد المكرر للدلالة على العزم المشدد على الفعل. أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ بينهما طباق السلب. مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ جناس ناقص. تُخْفُونَ تُعْلِنُونَ بينهما طباق. أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ طباق بالمعنى، وهو أبلغ من المطابقة باللفظ لأن الجملة الثانية اسمية، وهي تفيد الثبوت. المفردات اللغوية: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ بحث عنه، والتفقد: طلب ما فقد، والطير: اسم جنس لكل طائر ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ تعجب من عدم رؤيته الهدهد، ظنا منه أنه حاضر محجوب عنه لساتر أو غيره. وأم منقطعة للإضراب، أي فلما لاح له أنه غائب، أضرب عن ذلك وقال: بل أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أي تعذيبا شديدا كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، فلا يمتنع من هوام الأرض لعجزه عن الطيران، أو كجعله في قفص أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بقطع حلقومه، ليعتبر به غيره أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ببرهان بين ظاهر أو بحجة بينة على عذره.

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي ظل الهدهد غائبا زمانا يسيرا ثم عاد، والمراد الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ اطلعت على ما لم تطلع عليه، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، أي اطلع على حال سبأ. وفي هذا الخطاب تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به، للدلالة على محدودية العلم عند سليمان مِنْ سَبَإٍ اسم مدينة في اليمن، والمراد أهلها، سميت باسم جد لهم وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، فمن جعله اسما للقبيلة منعه من الصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر، جعله مصروفا، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل بِنَبَإٍ يَقِينٍ خبر مهم محقق. امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ أو لأهلها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المراد كثرة ما أوتيت مما يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة وَلَها عَرْشٌ هو سرير الملك عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي كأنهم كانوا يعبدونها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادة الشمس وغيرها من مقابيح أفعالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الحق والصواب فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه. أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: أن يسجدوا له، فزيدت (لا) وأدغم فيها نون «أن» كما في آية لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد 57/ 29] أي ليعلم الْخَبْءَ المخبوء من كل شيء كالمطر والنبات وغيره من المغيبات، ويُخْرِجُ الْخَبْءَ يظهره، وهو يشمل إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات وإنشاء الأشياء وإبداعها وَيَعْلَمُ ما يخفون في قلوبهم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتهم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هو استئناف جملة ثناء، مشتمل على عرش الرحمن، في مقابلة عرش بلقيس، وبينهما بون عظيم قالَ: سَنَنْظُرُ أي قال سليمان للهدهد: سنتعرف أَصَدَقْتَ فيما أخبرتنا به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي من هذا النوع، والتغيير من الجملة الفعلية إلى الاسمية للمبالغة، فالجملة الاسمية أبلغ من: «أم كذبت فيه» ولمراعاة الفواصل. اذْهَبْ بِكِتابِي هذا صورة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ انصرف أو تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه فَانْظُرْ تأمل وفكّر ماذا يَرْجِعُونَ ما يردّون من الجواب وماذا يقول بعضهم لبعض.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان تسخير الجن والإنس والطير لسليمان عليه السلام، أبان الله تعالى هنا أن سليمان تفقد طير الهدهد، فلم يجده، ثم حضر فأخبره عن مملكة بلقيس، وعن عبادتهم الشمس. التفسير والبيان: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ، فَقالَ: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أي بحث سليمان عن الهدهد بين جنوده، وكان له علم بمنطق الطير، وكانت الطيور مسخرة له كالريح وغيرها، فقال متعجبا: كيف لا أرى الهدهد؟ علما بأنه لم يأذن له بالغياب، بل هو من الغائبين دون أن أعلم بغيبته. وفي العبارة قلب، أي ما للهدهد لا أراه؟! وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا؟ أي مالك؟. وذكر المفسرون أن سبب بحثه عنه أنه كان يدل على مكان وجود الماء تحت الأرض، بنقره فيها، فيستخرج منها من طريق الجن أو الشياطين، كما كان يرشد سليمان وجنوده إلى الحد الفاصل بين قريب الماء وبعيده أثناء السير بفلاة من الأرض. وحين تثبّت من غيابه توعده بالعذاب إذا كان بغير عذر مقبول، فقال تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي أنه هدده بالقتل أو بالتعذيب والعقاب الشديد كنتف ريشه إلا أن يأتي ببرهان واضح يبين عذره، أي إن التهديد والوعيد كان بأحد أمرين إن لم يأت بالأمر الثالث وهو العذر الواضح البيّن. فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي غاب الهدهد زمانا يسيرا ثم جاء فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال

لسليمان: اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك، وجئتك من مدينة سبأ بخبر صدق متيقّن، والأكثر على أن سَبَإٍ مصروف لأنه اسم بلد. وأهل سبأ: هم حمير وهم ملوك اليمن. والأكثر على أن الضمير في فَمَكَثَ يعود للهدهد، ويحتمل أن يكون لسليمان، والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل، أي غير وقت طويل. وقد كان الهدهد ماهرا بالدفاع عن نفسه بتلطف وقدرة على اجتذاب النظر إليه وإصغاء السمع لكلامه، وأنه كان يقوم برحلة استكشاف علمية لمملكة سبأ ومعرفة أحوال أهلها في الملك والتدين. ثم عرّف سليمان ببعض المعارف بالرغم مما أوتيه من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة، للتنبيه على وجود العلم والمعرفة عند من هو أضعف منه، وللإرشاد إلى ضرورة تواضع العلماء. قال الزمخشري: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: أن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه «1» . ومضمون خبر الهدهد ثلاثة أمور هي في هذه الآية: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي إني وجدت في بلاد سبأ مملكة عظيمة ذات مجد تملكهم امرأة هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها قبلها ملكا عظيم الملك، وأعطيت من متاع الدنيا الشيء الكثير من شراء وغنى، وملك وأبهة، وجيش مسلح بأنواع مختلفة من معدات القتال، وبإيجاز: أوتيت من كل شيء تحتاجه المملكة في زمانها، ولها سرير عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، تجلس عليه، فوصفه بالعظم أي في الهيئة ورتبة السلطان، قال المؤرخون: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد، رفيع البناء، محكم الصنع، فيه ثلاث مائة طاقة من مشرقه ومثلها

_ (1) الكشاف: 2/ 448.

من مغربه، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحا ومساء. وهذا ما أشارت إليه الآية التالية المبينة عقيدتهم الدينية. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من غير الله، وزيّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فصاروا يرون السيء حسنا، ومنعهم الشيطان عن طريق الحق وعبادة الله الواحد الأحد، فأصبحوا لا يهتدون إليه. أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، وهو الخالق المبدع الذي يخرج إلى الوجود بعد العدم كل شيء مخبوء مغيب في السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن والمخلوقات، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال. ونظير الآية في القسم الأول منها: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت 41/ 37] . ونظيرها في القسم الآخر: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد 13/ 10] . اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي أنه بعد بيان الدليل على وجود الله وتوحيده، وهو افتقار العالم إليه، نزهه وأبان عظمته، فذكر أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فكل عرش مهما عظم فهو دونه، ومنها عرش بلقيس، فكان الواجب إفراده بالعبادة. فوصف الهدهد عرش بلقيس بالعظم

فقه الحياة أو الأحكام:

بالنسبة أو بالإضافة إلى عرش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض. فأجاب سليمان عليه السلام طير الهدهد عن دفاعه عن نفسه لتبرئة ساحته، حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم فقال: قالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي قال سليمان: سنتعرف على مدى صحة قولك، أصادق في إخبارك هذا، أم أنك كاذب في مقالتك، لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك به؟. والمغايرة بين الجملتين الفعلية والاسمية في هذه الآية، وجعل الثانية اسمية للمبالغة كما بينا، وإفادة ثبات صفة الكذب عليه، وأنه مداوم على الكذب لا ينفك عنه. ووسيلة الاختبار هي: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي إن سليمان عليه السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها، يدعوها فيه إلى الإيمان والإسلام لله عز وجل، وأعطاه ذلك الهدهد، وأمره أن يلقيه إليهم، ثم يبتعد عنهم قريبا، ويتأمل رد الفعل، وما يراجع بعضهم بعضا القول، ويناقش فيه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- القائد يتفقد عادة جيشه وجنوده، وقد فعل ذلك سليمان عليه السلام أثناء مسيره ومروره بوادي النمل، فتفقد جنس الطير وجماعتها التي كانت تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها. وكان سبب تفقده ما تقتضيه عادة العناية بأمر الملك، والاهتمام بعناصر الجيش وبكل جزء منها، كما دل ظاهر الآية. وقال

عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة. قال القرطبي: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر «1» . والخلاصة: استنبط العلماء من الآية استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب. 2- قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً دليل على أن الحدّ أي العقوبة على قدر الذنب، لا على قدر الجسد، ولكن يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. وأما ذبحه فدليل على أن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع. 3- قوله تعالى: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، دليل على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب، ودليل على أن الصغير يقول للكبير، والمتعلم للعالم: عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. 4- الاعتذار الصحيح مقبول عند أهل الحق والإيمان، فقول الهدهد: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ دفع فيه عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. 5- كانت بلقيس ملكة سبأ، وكان هذا عرفا معمولا به عند القدماء، وعند المعاصرين غير المسلمين. أما في شرعنا فقد روى البخاري من حديث ابن عباس

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 178.

أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملّكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ولا بأن يكتب لها منشور (أو مسطور) بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» «1» . وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وما روي عن عمر أنه قدّم امرأة على حسبة السوق لم يصح، فلا يلتفت إليه، وإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث. 6- كانت أمة بلقيس ممن يعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى، وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم أي ما هم فيه من الكفر، وصدهم عن طريق التوحيد، فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده، وزين لهم ألا يسجدوا لله، أو فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وعلى هذا تكون (لا) زائدة، مثل: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف 7/ 12] أي أن تسجد. وهذا دليل على أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به قطعا. ثم آمنت تلك الأمة واهتدت إلى الإقرار بنبوة سليمان ودعوته إلى التوحيد، كما سيأتي بيانه. 7- إن الله الذي خلق فسوى، وأخرج المخبوء في السموات والأرض كالمطر من السماء والنبات والكنوز من الأرض، هو الذي تجب عبادته، وهو الذي يستحق العبادة. والآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة:

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 183.

فقوله: يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث، ومن الأرض بالنبات. وأما العلم فقوله: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. 8- قول الهدهد أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ وقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ دليل على أنه داع إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له، لذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتله، كما روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد» . 9- قوله تعالى: أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم، بباطن أعذارهم لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد. وفي الصحيح: «ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل» . وقد قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه. لكن للإمام أن يمتحن المعتذر إذا تعلق بالأمر حكم من أحكام الشريعة، كما فعل سليمان بالتثبت من صدق الهدهد. 10- دلت آية: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا ... على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعوتهم إلى الإسلام، وقد كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وإلى كل جبار، كما دلت الآية على سرعة الهدهد في تبليغ الكتاب إليهم، وعلى إيتائه قوة المعرفة وفهم كلامهم، وأن الملكة فهمت الكتاب فورا بواسطة مترجم، وعلى حسن آداب الرسل أن يتنحوا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، للتشاور فيها.

- 3 - جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام [سورة النمل (27) الآيات 29 إلى 37] :

- 3- جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام [سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 37] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) الإعراب: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ في «أن» ثلاثة أوجه: الأول- أن تكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، أي بألا تعلوا عليّ. الثاني- أن تكون في موضع رفع على البدل من كِتابٌ وتقديره: إني ألقي إلي كتاب ألا تعلوا. الثالث- أن تكون مفسرة بمعنى «أي» كقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي امشوا، ولا موضع لها من الإعراب. أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ كل من أَذِلَّةً والجملة بعدها حال من الهاء والميم في لَنُخْرِجَنَّهُمْ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: قالَتْ بلقيس لأشراف قومها الْمَلَأُ أشراف القوم وخاصتهم كِتابٌ كَرِيمٌ لكرم مضمونه أو مرسلة، أو لأنه كان مختوما أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أي ألا تتكبروا علي وتنقادوا للأهواء مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين مستسلمين. وهذا الكتاب مع وجازته تضمن المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع وصفاته، والنهي عن الترفع الذي هو داء المعاندين والمتكبرين، والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل. الْمَلَأُ أشراف القوم أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا علي بالرأي في هذا الأمر قاطِعَةً أَمْراً باتة في أمر أو مبرمة أمرا حَتَّى تَشْهَدُونِ أي حتى تحضروني أي بمحضركم، وقد استعطفتهم بذلك ليظهروا إخلاصهم التام في الدفاع عنها أُولُوا قُوَّةٍ قدرة جسدية وعددية وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب شدة وشجاعة ونجدة وثبات في الحرب ماذا تَأْمُرِينَ أي ماذا توجهين إيانا بأوامرك فنطيعك أَفْسَدُوها بالتخريب وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ مرسلو الكتاب. ويلاحظ أنها لما أحست ميلهم إلى القتال، جنحت إلى الصلح لأن الحرب سجال، لا يدري عاقبتها. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بيان لما ترى تقديمه للمصالحة بإرسال هدية تدفع بها عن ملكها بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ من قبول الهدية أو ردها، فإن كان ملكا قبلها، وإن كان نبيا لم يقبلها فَلَمَّا جاءَ الرسول بالهدية ومعه أتباعه فَما آتانِيَ اللَّهُ من النبوة والملك خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من الدنيا بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنكم لا تهتمون إلا بزخارف الدنيا. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ارجع أيها الرسول إلى بلقيس وقومها بما أتيت من الهدية لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بمقاومتها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من بلدهم سبأ، سميت باسم أبي قبيلتهم أَذِلَّةً بذهاب ما كانوا فيه من العز وَهُمْ صاغِرُونَ أسرى مهانون محتقرون، إن لم يأتوا مسلمين. المناسبة: بعد إرسال سليمان عليه السلام كتابه إلى بلقيس وقومها مع الهدهد، ذكر الله تعالى مضمون الكتاب، وتشاور بلقيس في شأنه مع مستشاريها، فارتأوا القتال، وارتأت المهادنة والصلح بإرسال هدية إليه تدفع بها عن بلادها ويلات الحروب، ولا مانع لديها من إعطائه خراجا دائما مقابل ترك القتال.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي قالت بلقيس لأشراف قومها ومستشاريها وأركان دولتها ومملكتها: يا أشراف القوم، إني ألقي إلي كتاب كريم: لأن مرسلة نبي الله سليمان، وهو ملك كريم، ولحسن مضمونه وجمال عباراته، ولأنه كان مختوما، قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني: «كرامة الكتاب: ختمه» وكان صلّى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاتخذ لنفسه خاتما كما أن فيه عجيب أمر حامله، وهو طائر ألقاه به إليها، ثم تولى عنها أدبا، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك. ومضمون الكتاب: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي قرأت الكتاب على أشراف قومها، وكان في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة شاملا أمورا ثلاثة: 1- البسملة الدالة على إثبات الله ووحدانيته وقدرته ورحمته. 2- النهي عن الترفع الذي يحجب وصول الحق إلى النفوس، والنهي عن الانقياد للأهواء. 3- الأمر بالإسلام الجامع لأصول الفضائل، أو الأمر بالانقياد والطاعة لأمر سليمان. قال العلماء: لم يكتب أحد: بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام. وبه ثبت أن هذا الكتاب على وجازته جامع كل ما لا بد منه من أمور الدين والدنيا.

ثم استشارتهم في شأن الرد على الكتاب، وهذا من الحكمة والديمقراطية ونبذ الاستبداد: قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، أَفْتُونِي فِي أَمْرِي، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أي قالت بلقيس: يا أشراف القوم، أشيروا عليّ في شأن هذا الكتاب الذي أرسل إلي من نبي الله سليمان عليه السلام، ما كنت مبرمة أمرا ولا قاضية في شأن حاسم حتى يكون بحضوركم ومشاورتكم فيه. وهذا دال على حسن سياستها ورشادها وحكمتها، فإنها استعطفتهم ليعينوها على اتخاذ الرأي الأفضل والأخلص والأصوب، فأجابوها بإظهار الاستعداد للقتال والحرب والدفاع عن المملكة: قالُوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي قال أشراف القوم: نحن أصحاب قوة جسدية وعددية، وذوو نجدة وشجاعة وشدة وثبات في الحروب. ثم فوضوا إليها أمر إعلان الحرب، قائلين: نحن على أتم الاستعداد من جانبنا للحرب، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا، ففيه إظهار القوة الذاتية والعرضية، وإظهار الطاعة لها إن أرادت السلم والمصالحة. فناقشتهم في ذلك، لعلمها بقوة سليمان وجنوده وجيوشه، وما سخر له من الجن والإنس والطير، فآثرت السلم على الحرب، وقالت: إني أخشى أن نحاربه، فيتغلب علينا، ويصيبنا جميعا الهلاك والدمار. فمالت إلى المصالحة، وتبين أنها أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، ولهذا حكت لهم ما يفعله الملوك الأشداء: قالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً، وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي قالت بلقيس لهم حين أظهروا استعدادهم لقتال سليمان: إن الملوك إذا دخلوا بلدا عنوة، خرّبوه وأتلفوا الديار والأموال، وأذلوا أعزة

أهلها بالقتل أو الأسر، وأهانوهم غاية الهوان، لتتحقق لهم الغلبة والرهبة، ويفعلون هكذا. وقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ الأقرب أنه من كلامها الذي أرادت به أن هذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت. وهذا تحذير لقومها من محاربة سليمان ومجيئه إليهم ودخوله بلادهم، وبعد أن استبعدت فكرة الحرب، لجأت إلى الوسائل الودية ومنها المسالمة والمصالحة، واقترحت إرسال هدية إليه، وكان ذلك هو الرأي السديد. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ، فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي وإني ألجأ إلى هذه التجربة وهي بعث هدية إليه، تليق بمثله، وأختبر أمره، أهو نبي أم ملك؟ وأنظر ماذا يكون جوابه بعدئذ، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا، أو يفرض علينا خراجا نرسله إليه في كل عام، فنأمن جانبه، ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عساكر عن أبي هريرة وهو حسن: «تهادوا تحابوا، وتصافحوا يذهب الغل عنكم» . وقال ابن عباس وغيره: قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك، فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه. وكانت الهدية عظيمة مشتملة على ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك، قال ابن كثير: والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب، فماذا كان موقف سليمان من الهدية؟:

فقه الحياة أو الأحكام:

فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ، قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي لما جاء الرسول ومعه أتباعه بالهدية إلى سليمان، لم ينظر إليها، وأعرض عنها، وقال منكرا عليهم: أتمدونني بمال؟ أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ إن الله تعالى أعطاني خيرا كثيرا مما أعطاكم وهو النبوة، والملك الواسع العريض، والمال الوفير، فلا حاجة لي بهديتكم، وإنما أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف وتفرحون بها، وأما أنا فلست طالبا للدنيا الزائلة، وإنما أطالبكم بالدخول في دين الله وترك عبادة الشمس، ولا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ أي ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإنا سنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله رب العالمين. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أدب الخطاب وخصوصا في مجال الدعوة إلى الله تعالى في مكاتبات الملوك ورؤساء الدول مطلوب شرعا، لذا وصفت بلقيس كتاب سليمان عليه السلام بأنه كتاب كريم، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبّا ولا لعنا، ويؤيده قول الله عز وجل إلى نبيه صلّى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 16/ 125] وقوله لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] .

والوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف بدليل قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة 56/ 77] . 2- كانت عادة المتقدمين في المكاتبة أو المراسلة أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وسار السلف الصالح من أمتنا على هذا المنهج معاملة بالمثل، قال ابن سيرين، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم، فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه» وقال أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم. لكن لو بدأ الكاتب بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوها في ذلك، فالأحسن في زماننا ومن عدة قرون أيضا أن يبدأ الكاتب بالمكتوب إليه، ثم بنفسه، لأن البداية بنفسه تعدّ منه استخفافا بالمكتوب إليه، وتكبرا عليه. 3- إذا كانت التحية واردة في رسالة ينبغي على المرسل إليه أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام. 4- اتفق العلماء على البدء بالبسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها لأنه أبعد من الريبة، وجاء في الحديث المتقدم: «كرامة الكتاب ختمه» واصطنع النبي صلّى الله عليه وسلم خاتما، ونقش على فصه: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . 5- كان مضمون كتاب سليمان مع وجازته مشتملا على المقصود وهو إثبات وجود الله وصفاته الحسنى، والنهي عن الانقياد للهوى والنفس والترفع والتكبر، والأمر بالإسلام والطاعة، بأن يأتوه منقادين طائعين مؤمنين.

والبسملة في هذا الموضع آية قرآنية بإجماع العلماء، فيكفر منكرها هنا. 6- المشاورة أمر مطلوب في كل شيء عام أو خاص ما لم يكن سرا لأنها تحقق نفعا ملحوظا للتوصل إلى أفضل الآراء وأصوبها، وخصوصا في الحروب والمصالحات وقضايا الأمة العامة، فإنه ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة، قال الله له: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء، ومدح الله تعالى الفضلاء بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 38] . والمشاورة نهج قديم، وبخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس قبل إسلامها: قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالت ذلك لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم في أمرهم، ومدى طاعتهم لها. وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده، وربما كان في استبدادها مكمن الخطر والضعف والسقوط في النهاية. وقد نجحت في هذه المشاورة، فسلّموا الأمر إلى نظرها، مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ ثم وجّهتهم إلى مراعاة قوة الملوك وشدة بأسهم، حماية لهم وحفظا لبلادهم، وأن من عادتهم الإفساد والتخريب، والتدمير والإهلاك، والإذلال والإخراج من البلاد، وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا. 7- كان من حسن نظر الملكة بلقيس وتدبيرها اختبار أمر سليمان بإرسال هدية عظيمة إليه، فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض إلا اتباعهم على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية، وللهدية تأثير في كسب المودة والمحبة، واستلال الحقد والضغينة، وإنهاء الخصومة والمشاحنة.

وكان النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عائشة يقبل الهدية ويثيب عليها، ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها لأنه قال لها في كتابه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة لأنها تورث المودة، وتذهب العداوة، روى مالك عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشحناء» وعن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم، فإن الهدية تذهب السّخيمة» . وروى البزار عن أنس بإسناد ضعيف: «تهادوا، فإن الهدية تسلّ السخيمة» . قال القرطبي: وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة. أما سليمان عليه السلام فإنه رد هدية بلقيس لأنها كانت بدلا عن السكوت عن الحق وعن الدعوة إلى الإسلام والإيمان، وواجب الرسل التبليغ دون أجر، ودون مهادنة أو مساومة لأن غرضهم إرضاء الله، ونشر العقيدة والفضيلة والإخلاص في عبادة الله تعالى. لذا انضم إلى رده الهدية إنذارهم بالحرب والقتال بجيوش لا طاقة لهم على مقاومتها، وتهديدهم بالإخراج من أرضهم أذلة قد سلبوا ملكهم وعزمهم، مهانين محتقرين إن لم يسلموا. وقد حقق الإنذار الغاية منه، فجاءت بلقيس مع حاشيتها وجنودها مسلمين منقادين طائعين، كما أبانت الآيات التالية.

- 4 - إسلام بلقيس وولاؤها وزيارتها لسليمان عليه السلام [سورة النمل (27) الآيات 38 إلى 44] :

- 4- إسلام بلقيس وولاؤها وزيارتها لسليمان عليه السلام [سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 44] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) الإعراب: عِفْرِيتٌ: التاء فيه زائدة، ووزنه فعليت، كغزويت، أي قصير، والعفريت: القوي النافذ، وجمعه عفاريت. وَصَدَّها ما كانَتْ.. ما: إما فاعل «صد» وإما منصوب بصد، بتقدير حذف حرف الجر، وفاعل صَدَّها ضمير وهو الله، أي صدها الله عما كانت تعبد، أي عن عبادتها. وإنها بالكسر على الابتداء، وبالفتح: إما بدل مرفوع من ما إذا كانت فاعلا، وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنها كانت.

البلاغة:

أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ عَ إما ظرف، وإما حرف وبنيت على الفتح لأنها قد تكون ظرفا أحيانا، وكانت الحركة فتحة لأنها أخف الحركات، فإن سكنت العين فهو حرف لا غير. البلاغة: تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ فيهما جناس الاشتقاق. كَأَنَّهُ هُوَ تشبيه مرسل مجمل، أي كأنه عرشي في الهيئة. قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ استعارة، استعار رجوع الطرف للسرعة في الإتيان بالعرش، مشبها السرعة بالتقاء الجفنين الذي هو ارتداد الطرف. ومثله وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَتَهْتَدِي لا يَهْتَدُونَ بينهما طباق السلب. المفردات اللغوية: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها العرش: سرير الملك، أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بعد التمويه على العرش، فينظر أتعرفه أم تنكره مُسْلِمِينَ منقادين طائعين عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ خبيث مارد قوي شديد قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ مجلسك للقضاء، وكان من الغداة إلى نصف النهار عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ لقادر مؤتمن على ما فيه من الجواهر وغيرها، لا أنقص منه شيئا ولا أبدّله. قال سليمان: أريد أسرع من ذلك قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ المنزل هو آصف بن برخيا وزيره، كان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهو المشهور. وقيل: إنه الخضر عليه السلام، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو ملك أيد الله تعالى به سليمان، وقيل: إنه سليمان نفسه، قال الرازي: وهو الأقرب. قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي قبل أن يرجع إليك بصرك إذا نظرت به إلى شيء، ويَرْتَدَّ يرجع، والطرف: تحريك الأجفان، والمراد بذلك السرعة العظيمة على سبيل الاستعارة، كما يقال: آتيك به مثل لمح البصر، أو قبل أن تغمض عينك، ويراد الإسراع الشديد في الإحضار مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ساكنا حاصلا بين يديه قالَ: هذا أي الإتيان لي به فَضْلِ تفضل وإحسان لِيَبْلُوَنِي ليختبرني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي أشكر بأن أراه فضلا من الله بلا حول مني ولا قوة، وأقوم بحقه، أم أجحد الفضل بنسبته إلي، وأقصر في أداء واجب الشكر يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأجلها لأن ثواب شكره له وَمَنْ كَفَرَ النعمة فلم يشكرها غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ بالتفضل والإنعام عليه ثانيا.

المناسبة:

نَكِّرُوا لَها عَرْشَها غيروه أي بتغيير هيئته وشكله بزيادة أو نقص وغير ذلك أَتَهْتَدِي إلى معرفته لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته، قصد بذلك اختبار عقلها أَهكَذا عَرْشُكِ أمثل هذا عرشك كَأَنَّهُ هُوَ أي فعرفته، ولم تقل: هو، لاحتمال أن يكون مثله، وذلك من كمال عقلها، فشبّهت عليهم كما شبهوا عليها. وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ هذا من كلام سليمان وقومه، وهو معطوف على محذوف تقديره: قد أصابت في جوابها، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، ثم قالوا: ونحن أوتينا العلم بالله وبقدرته قبل علمها وكنا منقادين لحكمه، ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام. ويصح أن يكون من تتمة كلام بلقيس، متصلا بقوله كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة بما تقدم من الآيات، وكنا خاضعين منقادين لله عز وجل. ثم إن قوله: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية من كلام رب العزة. ومعنى صَدَّها أي منعها عن عبادة الله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ على قراءة كسر إنها يكون المعنى: صدها أي منعتها عبادة الشمس عن عبادة الله، وإنها من قوم كافرين، فهو استئناف وابتداء كلام جديد، وعلى قراءة الفتح أنها يكون المعنى: صدّها نشوؤها بين أظهر الكفار، أو تعليل لما سبق، أي: لأنها. َّرْحَ القصر وكل بناء عال جَّةً ماء مجتمعا كثيرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لتخوضه، روي أن أرضية القصر أو صحنه بني من زجاج أبيض شفاف، وأجري تحته ماء عذب، فيه سمك، ووضع سليمان سريره في صدر الصرح، وجلس عليه، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا، فكشفت عن ساقيها. ْحٌ مُمَرَّدٌ أملس نْ قَوارِيرَ من زجاج الَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي فلما دعاها إلى الإسلام، اعترفت بظلمها نفسها بعبادة غير الله وأسلمت لله كائنة مع سليمان، أي خضعت. المناسبة: بعد أن رجعت الرسل بهديتها إلى الملكة بلقيس، وأخبروها بما قال سليمان، أخبرت قومها بمضمون رأيها السابق وأنه لا طاقة لهم بمواجهة سليمان وجنوده، ثم استجابت لطلبه، وأقبلت هي وقومها تسير إليه في جنودها معظمة سليمان، ناوية متابعته في الإسلام، فسرّ سليمان عليه السلام بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، وبعث الجن يأتونه بأخبارهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: لما اقترب وفد بلقيس من بلاد الشام، جمع سليمان عليه السلام جنده من الجن والإنس، وخاطبهم بقوله: قالَ: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي قال سليمان: يا أيها السادة الأعوان، من منكم يستطيع الإتيان بعرش (سرير) بلقيس قبل وصولها مع وفدها إلينا منقادين طائعين، ليكون ذلك دليلا على صدق نبوتنا، ومعجزة إلهية تعرف بها أن مملكتها صغيرة أمام عجائب الله وبدائع قدرته؟ فأجابه بعض جنده: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي قال شيطان مارد من الجن: أنا أحضره إليك قبل انفضاض مجلس حكمك وقضائك، وكان يمتد إلى منتصف النهار، ثم أكد عزمه وضمن نتيجة فعله بقوله: وإني على حمله لقادر غير عاجز، أمين غير خائن، لا آخذ منه شيئا، ولا أمسّ ما فيه من الجواهر واللآلئ. ثم أجابه آخر بعد أن قال سليمان: أريد أعجل من ذلك، لأنه أراد بإحضار هذا السرير عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد بعده، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها، بأن يأتي بخارق عظيم وهو إحضار سريرها من بلادها في اليمن بعد أن تركته محفوظا، قبل وصولها إليه: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي قال عالم من علماء أسرار الكتاب الإلهي: أنا أحضره في لمح البصر قبل أن تغمض عينك وقبل أن يرجع إليك نظرك.

وهذا العالم: قيل: كان من الملائكة إما جبريل أو غيره من الملائكة، أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وقيل: كان من الإنس وهو آصف بن برخيا وزير سليمان وهو المشهور من قول ابن عباس، وكان يعلم الاسم الأعظم، إذا دعا به أجيب. أو هو الخضر عليه السلام، والراجح في رأي الرازي أنه سليمان عليه السلام لأنه أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي، وقال أبو حيان: ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. والمهم أنه حدث ما وعد به هذا العالم، والله أعلم به. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ أي فلما عاين سليمان وجماعته وجود سرير بلقيس الذي أتي به من بلاد اليمن السعيدة، ورآه ساكنا قائما بين يديه، قال: هذا من نعم الله علي ليختبرني أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا حول ولا قوة مني، أم أجحد فأنسب العمل لنفسي. وفائدة الشكر ومضرة الجحود والكفر ترجع إلى الإنسان نفسه، لذا قال: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أي ومن شكر النعمة فإن نفع الشكر عائد إليه، لا إلى الله تعالى لأنه بالشكر تدوم النعم، ومن جحد النعمة ولم يشكرها، فإن الله غني عن العباد وعبادتهم وعن شكرهم لا يضره كفرانهم، كريم في نفسه، وإن لم يعبده أحد، لا يقطع النعمة عن عباده بسبب إعراضهم عن شكره، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] وقال سبحانه حكاية لقول موسى: وَقالَ مُوسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] . وجاء في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم

وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» . ثم أمر سليمان عليه السلام بتغيير صفات عرش بلقيس، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، كما حكى تعالى: قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي قال سليمان لأتباعه: غيّروا هيئة عرشها وصفته وشكله لنختبر حالها، وننظر في إمكاناتها العقلية وملاحظاتها الفكرية ومقدار ذكائها، أتهتدي إليه، فتعرف أنه عرشها، أم تكون غير مهتدية إليه أو تائهة عنه متحيرة في الحكم وإبداء الرأي؟ وذلك يدل على قدرة الله تعالى بنقله من مكان بعيد إلى بلاد الشام، وعلى صدق سليمان عليه السلام. فَلَمَّا جاءَتْ، قِيلَ: أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ أي حين قدمت، عرض عليها عرشها (سرير الملك) وقد غيّر وزيد فيه ونقص، فسئلت عنه: أمثل هذا عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا، فقالت: كأنه هو، أي يشبهه ويقاربه، ولم تجزم أو تقطع يقينا بأنه هو، لاحتمال أن يكون مثله بسبب بعد مسافته عنها. وكان جوابها جواب سياسي بارع ذكي محنّك، دل على كمال عقلها ودهائها، وثبات شخصيتها، وأنها في غاية الذكاء والحزم، فشبهت عليهم من حيث شبهوا عليها.

وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ الظاهر كما قال أبو حيان أن هذا الكلام ليس من كلام بلقيس، وإن كان متصلا بكلامها، فقيل- وهو قول مجاهد-: من كلام سليمان، أي أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها، وكنا في كل ذلك موحدين خاضعين لله تعالى، وقيل: من كلام قوم سليمان وأتباعه «1» . قال ابن كثير: ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح «2» ، كما سيأتي. ثم أبان الله تعالى عذر بلقيس في عدم إعلانها الإسلام قبل ذلك فقال: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي ومنعها عن عبادة الله وإظهار الإسلام ما كانت تعبد من غير الله وهو عبادة الشمس، فإنها كانت من قوم وثنيين كانوا يعبدون الشمس، فتأثرت بالبيئة التي نشأت فيها، ولم تكن قادرة على تغيير عقيدتها، حتى جاءت إلى بلاد سليمان الذي أحسن عرض الإسلام عليها، وأقنعها بصحته ووجوب الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته، فهو رب الكون جميعه، ورب الكواكب كلها، شمسها وقمرها ونجومها العديدة. لَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها، قالَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا جار على عادة استقبال الملوك والرؤساء في قصور الضيافة الفخمة، فقد قال لها وفد الاستقبال السليماني: ادخلي هذا القصر المشيد العالي، فإنه بني لاستقبال العظماء، وليريها سليمان ملكا أعز من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها، وكان صحنه من الزجاج الأبيض الشفاف، فلما رأت مدخله الفخم ظنت وجود ماء مجتمع كثير فيه، فكشفت عن ساقيها، فقال لها سليمان: إنه قصر مصنوع من الرخام الأمرد ذي السطح الأملس، ومن

_ (1) البحر المحيط: 7/ 78. (2) تفسير ابن كثير: 3/ 365.

فقه الحياة أو الأحكام:

الزجاج الصافي، وأن الماء يجري تحته لا فيه، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء. وحينئذ استدلت بكل ما رأت على التوحيد والنبوة فأعلنت إسلامها، وأراد الله لها الخير والهداية، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي يا ربي، إني ظلمت نفسي في الماضي بعبادة غيرك، وأسلمت مع إسلام سليمان، وخضعت لله رب العوالم كلها من الإنس والجن. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- استدعى سليمان عليه السلام عرش بلقيس (كرسي الملك) من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ليريها قدرة الله العظمى، ويجعله دليلا على نبوته لأخذه من قصرها دون جيش ولا حرب، وقبل أن تأتي هي وجماعتها إليه مستسلمين. 2- ظهرت قدرة الله على يد مؤمن عالم بكتاب الله وبأسراره وبالاسم الأعظم، فجيء بعرش بلقيس بسرعة خاطفة، وكان هذا العالم بإقدار الله وتوفيقه أقدر من عفريت الجن- وهو القوي المارد- الذي استعد للإتيان به، في زمن أطول، ولكنه سريع وقريب وقصير أيضا، إذ كان في مدة زمن القضاء اليومي، وأما زمن العالم فهو بمقدار إطباق الأجفان وفتحها. وفي هذا دلالة على سمو مرتبة العلم ورفعة العلماء في الدنيا والآخرة إذا عملوا بعلمهم صالحات الأعمال. قال القشيري: وقد أنكر كرامات الأولياء من قال: إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. وعند هؤلاء يكون ما فعل العفريت ليس من المعجزات، ولا من

الكرامات، فإن الجنّ يقدرون على مثل هذا. وعلى أي حال، تم نقل العرش من اليمن إلى الشام بقدرة الله العظمى، وإن وجدت الوسيلة في الظاهر، كفلق البحر لموسى عليه السلام، بضرب العصا، فإن الفالق هو الله تعالى، وليس العصا. 3- إن ما حدث من إحضار العرش بهذه السرعة هو معجزة لسليمان عليه السلام، والمعجزات خوارق للعادات، لا تخضع لمقاييس الأحوال العادية، ولا يصدق بالمعجزة إلا مؤمن بقدرة الله، أما الكافر الملحد أو المادي الذي لا يصدق إلا بما يقدمه العلم التجريبي، فإن إقناعه بذلك عبث. وقد أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة، وتؤمن بنبوته. 4- إن ظهور المعجزة على يد الأنبياء أمر موجب للشكر والحمد الكثير لله عز وجل، لتأييدهم بها، ولإظهار عجزهم الحقيقي أمامها، لذا قال سليمان لما رأى العرش ثابتا مستقرا عنده: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي هذا النصر والتمكين من فضل الله ربي، لينظر أأكون شاكرا حامدا، أما كافرا بالنعمة جاحدا؟ 5- لا يرجع نفع الشكر إلا إلى الشاكر نفسه لأنه بالشكر يحقق تمام النعمة ودوامها والمزيد منها، وبه تنال النعمة المفقودة أيضا. وأما ضرر الكفر والجحود فعائد كذلك إلى الكافر نفسه، ومع كفره فإن الله غني عن شكره، كريم في التفضل والإنعام عليه بالرغم من الكفر. 6- إن تنكير العرش وتغيير هيئته فيه استثارة البحث، وإمعان النظر، وإعمال العقل، وتركيز الانتباه إلى آية المعجزة، وقد بدا كل هذا في جواب بلقيس كَأَنَّهُ هُوَ. قال عكرمة: كانت حكيمة، فقالت: كَأَنَّهُ هُوَ. وقال مقاتل: عرفته، ولكن شبّهت عليهم، كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها:

أهذا عرشك؟ لقالت: نعم هو. 7- قوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها.. إذا كان من قول سليمان وهو الظاهر فيراد به أنه أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وإذا كان من قول بلقيس، فيراد به أنه أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل آية العرش هذه، وكنا مسلمين منقادين لأمره. 8- ما أجمل تقديم هذا الاعتذار عن تأخر إسلام بلقيس إلى لقاء سليمان، وهو تأثرها بالبيئة وعقيدة أهل المملكة، فقد منعها أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر، وكانت من قوم كافرين غير مؤمنين بوجود الله ووحدانيته. 9- أراد سليمان أيضا بالإضافة إلى إظهار المعجزة لنبوته بإحضار عرش بلقيس أن يبهرها بقوة ملكه، وعزة سلطانه، وأن ذلك أعزّ وأمنع من مملكتها الغنية، وبلادها الخصبة، وقصورها المشيدة. كما أنها شهدت في صرح سليمان فنا رائعا في البناء والهندسة المعمارية ما لا مثيل له حتى في أوج العصر الحاضر وعظمة تقدم العلم والفن في القرن العشرين، ولعل عظمة بناء المسجد الأقصى خير مثال على تقدم فن البناء وعظمته في عهد سليمان عليه السلام. 10- تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين. وأخيرا يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس، وأحسن ما أذكره هنا قول الرازي: والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها: اختاري من قومك من أزوجك

خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام:

منه، فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجها إياه، ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم «1» . خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام يحسن أن أوجز هنا خصائص سليمان ومعجزاته ونعم الله عزّ وجلّ عليه مما ذكر في القرآن كله، بعد أن أوردت هذه السورة مواقف أربعة متميزة في قصته، وحينئذ أكون قد ذكرت إلى هنا مجملا قصص عشرين نبيا أو أكثر تحت عنوان: أضواء من التاريخ على قصة أو حياة كل نبي أو رسول. ومن المعلوم أن سليمان ذكر في القرآن (16) ست عشرة مرة في سور: البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وأوضح الآن نعم الله الكثيرة عليه وهي ما يأتي «2» : 1- ذكاؤه وفراسته في القضاء: منح الله تعالى سليمان عليه السلام ذكاء نادرا وإصابة في القضاء والحكم، بدليل قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم الراعي، فكان حكمه كما بينا في سورة الأنبياء أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام، كما قال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ [الأنبياء 21/ 78- 79] . 2- تعليمه منطق الطير: إن الله تعالى علّم سليمان منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، كما تبين في تفسير الآية [16] من سورة النمل:

_ (1) تفسير الرازي: 24/ 201 (2) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 317- 348، ط رابعة.

يا أَيُّهَا النَّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.. أي أوتي نعما كثيرة، ومنها تعليمه كلاما لا يعلمه سواه. 3- تسخير الرياح له: كان لسليمان بساط الريح ينقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الريح حيث يشاء، فيأمرها بأن تهب في ناحية ما، كما قال تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء 21/ 81] ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص 38/ 36] ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ 34/ 12] . 4- تربية الخيول وهي الصافنات الجياد للجهاد: كان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا، قال صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عروة البارقي-: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والأجر والمغنم» . وكان سليمان يستعرضها كالعروض العسكرية اليوم بمناسبات وطنية أمام الرؤساء، وكان يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وقد أعاد عرضها أمامه يمسح سوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، وهذا هو المقصود من الآيات: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ، فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص 38/ 30- 33] . وأما تفسير هذه الآيات بما يتنافى مع منصب النبوة، كالاشتغال بالخيول عن صلاة العصر، ثم تقطيع أعناقها وسوقها، فهو باطل لا أصل له، كما ذكر الرازي في تفسيره الكبير. 5- فتنة سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه: ذكر الله تعالى بعد قصة عرض الصافنات الجياد هذه الفتنة، فقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ

جَسَداً ثُمَّ أَنابَ، قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص 38/ 34- 37] ، وقد اختار الرازي في تفسير هذه الآيات أن سليمان ابتلي بمرض شديد أضناه، أي أثقله حتى صار لشدة المرض كأنه جسد أو جسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى الصحة. واختار العلامة أبو السعود والألوسي في تفسير هذه الآيات ما ورد في الصحيحين مرفوعا: أنه- أي سليمان- قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» . والمراد بالسبعين الكثرة وليس تمام العدد، كما هو المألوف في الاستعمال العربي والقرآني لكلمة (سبعين) مثل: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة 9/ 80] أي إن تستغفر لهم كثيرا. وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية فلم تصح ولا يعول عليها. 6- إسالة عين القطر (النحاس المذاب) له: أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ 34/ 12] . 7- تسخير الجنّ له: عدد الله تعالى في الآية السابقة في سورة سبأ النعم العظمى التي أنعم بها على سليمان عليه السلام، فقال: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ

بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ 34/ 12- 13] . وقال سبحانه بعد ذكر تسخير الرّيح: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص 38/ 37] . وبه تبين أن الله جلّ جلاله سخر الجنّ كما سخر له الرّيح، فكانت الجن من جنده، تطيعه بما يأمر، وتعمل له ما يشاء من ضخم المباني والعمائر والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، والقدور الراسيات والجفان (الآنية الواسعة) التي كأنها الحياض لسعتها. 8- إسلام ملكة سبأ والإتيان بعرشها: عرفنا في البيان المتقدم في سورة النمل لقصة سليمان مع بلقيس ملكة سبأ أن طير الهدهد أخبره بوجود ملكة عظيمة في سبأ من بلاد اليمن تعبد مع قومها الشمس من دون الله، وأن لها عرشا عظيما مزينا بأنواع الجواهر واللآلئ، فأرسل سليمان رسالة لها مع الهدهد مضمونه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. فاستجابت بلقيس مع قومها لطلب سليمان بعد أن أقنعتهم بألا طاقة لهم بمواجهة جنود سليمان، وآثرت بكمال عقلها وفطنتها السلم والمصالحة والمسالمة والموادعة على الحرب والقتال، بالرغم من توافر قوة عسكرية كبيرة عندها: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ. فشيّد لها سليمان صرحا عظيما ومرّد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لخوض الماء لئلا تبتل ثيابها بالماء، ثم أحضر لها عرشها من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، ليكون دليلا على صدق نبوته، ومعجزة على صحة رسالته، وآية على قدرة الله العجيبة في خرق العادات وتجاوز المحسوسات، مما لم يكتشف العلم سره ونواميسه إلى الآن، فما كان من بلقيس إلا أن أسلمت وآمنت برسالة سليمان، فقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .

9- قصة النملة: كان سليمان بتعليم الله وإرشاده يفهم أيضا لغة النمل، كما يفهم منطق الطير، وذلك كله من المعجزات الخارقة للعادة، وقد بيّنا كيفية فهم سليمان خطاب النملة في بني جنسها: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل 27/ 17- 19] . 10- موت سليمان عليه السلام: أعمى الله موت سليمان على الجان المسخرين لخدمته في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئا على عصاه (منسأته) بعد موته مدة طويلة نحوا من سنة كما يقال، فلما أكلتها الأرضة (دابة الأرض) ضعفت وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وهو أمامهم، وتبينت الجن والإنس أنهم لا يعلمون الغيب قطعا، فقال تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ [سبأ 34/ 14] . وهذا من تكريم الله لسليمان عليه السلام، وإلقاء هيبته على الجنّ والإنس حتى بعد موته.

القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام مع قومه [سورة النمل (27) الآيات 45 إلى 53] :

القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام مع قومه [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِتَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) الإعراب: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن اعبدوا الله. وأَخاهُمْ مبتدأ، وفَرِيقانِ خبر المبتدأ، وإذا: خبر ثان، أي فبالحضرة هم فريقان. ويَخْتَصِمُونَ جملة فعلية في موضع نصب حال من ضمير فَرِيقانِ.

البلاغة:

اطَّيَّرْنا أصله: تطيرنا، فأبدلت التاء طاء، وسكنت وأدغمت الطاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل وكسرت لسكون ما بعدها. تَقاسَمُوا فعل أمر، أمر بعضهم بعضا بالتقاسم والتحالف على أن يبيتوه وأهله. وقرئ بالياء «يقاسموا» على أنه فعل ماض لأنه إخبار عن غائب. مَهْلِكَ أَهْلِهِ بمعنى الهلاك، وقرئ: مَهْلِكَ وأراد به الإهلاك مصدر «أهلك» وقرئ «مهلك» وأراد به الهلاك من «هلك» والمشهور في المصدر الفتح، والكسر قليل لأن الكسر يكون في المكان والزمان، فيكون «مهلك» بالكسر كالمرجع بمعنى الرجوع. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أَنَّا بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنا دمرناهم، فتكون كانَ ناقصة، أو عاقِبَةُ: اسمها، وكَيْفَ: خبرها. ومن قرأ بالكسر إنا فعلى الابتداء، وعاقِبَةُ اسم كانَ، وكَيْفَ خبرها، وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ خبر مقدم لأن الاستفهام له صدر الكلام. ويحتمل أن تكون كانَ تامة أي وقع، وعاقِبَةُ فاعل، ولا تفتقر إلى خبر، وكَيْفَ في موضع نصب على الحال، أي انظر على أي حال وقع أمر عاقبة مكرهم، ثم بين العاقبة بقوله: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ. خاوِيَةً حال من بُيُوتُهُمْ وعامله ما في فَتِلْكَ من معنى الإشارة أي أشير إليها خاوية، وتقرأ بالرفع على أنها خبر للبيوت، أو خبر ثان، أو خبر لمبتدأ مقدر أي هي خاوية، أو بدل من «البيوت» أو خبر تلك، وبُيُوتُهُمْ عطف بيان على فَتِلْكَ. البلاغة: بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةِ طباق. وتسمية العذاب أو العقاب بالسيئة مجاز. يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ طباق. تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ للتحضيض. اطَّيَّرْنا طائِرُكُمْ جناس اشتقاق. وَمَكَرُوا وَمَكَرْنا مشاكلة، سمى تعالى إهلاكهم مكرا على سبيل المشاكلة. المفردات اللغوية: أَخاهُمْ من القبيلة. أَنِ اعْبُدُوا بأن وحدوا الله. فَإِذا هُمْ ففاجئوا التفرق. فَرِيقانِ فريق مؤمن وفريق كافر. يَخْتَصِمُونَ يتنازعون ويجادل بعضهم بعضا. قالَ:

المناسبة:

يا قَوْمِ قال صالح للمكذبين. لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل الرحمة، أو بالعقوبة التي تسوء صاحبها قبل التوبة، حيث قلتم: إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب. هلا. تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ من الشرك. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبول التوبة فلا تعذبوا، فإنها لا تقبل عند نزول العذاب. اطَّيَّرْنا تشاءمنا بك حيث فرقتنا، والطيرة: تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا. بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين، حيث قحطوا المطر وجاعوا. طائِرُكُمْ شؤمكم أي ما يصيبكم من الخير أو الشر. عِنْدَ اللَّهِ أي هو قدره أتاكم به، أو عملكم المكتوب عنده. تُفْتَنُونَ تختبرون بالخير والشر أو تعاقب السراء والضراء. فِي الْمَدِينَةِ مدينة ثمود وهي الحجر. تِسْعَةُ رَهْطٍ تسعة رجال، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، وأما النفر فهو من الثلاثة إلى التسعة. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوائب الصلاح، والإفساد: بالمعاصي كاقتطاع جزء من الدراهم والدنانير، والصلاح: بالطاعة. قالُوا قال بعضهم لبعض. تَقاسَمُوا احلفوا. لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ لنباغتن صالحا وأهله الذين آمنوا به ليلا، أي نقتلهم ليلا. لِوَلِيِّهِ لولي دمه وهو من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. ما شَهِدْنا ما حضرنا. مَهْلِكَ هلاك، وقرئ مَهْلِكَ أي إهلاك، أي فلا ندري من قتلهم. وَمَكَرُوا مَكْراً بهذا التواطؤ على الاغتيال، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر. وَمَكَرْنا مَكْراً جازينا بتعجيل عقوبتهم. لا يَشْعُرُونَ بذلك. دَمَّرْناهُمْ أهلكناهم. وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بصيحة جبريل، أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم. خاوِيَةً خالية. بِما ظَلَمُوا بظلمهم أي كفرهم. لَآيَةً لعبرة وموعظة. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قدرتنا فيتعظون. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بصالح، وهم أربعة آلاف. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك أو الكفر والمعاصي، فلذلك خصوا بالنجاة. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصة موسى وداود وسليمان، وهم من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب، وهم ثمود أي عاد الأولى، وصالح أخوهم في النسب، بقصد تذكير قريش والعرب وتنبيههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله بالعبادة، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

التفسير والبيان:

وكل هذه القصص من التاريخ الغابر دليل على أن محمدا رسول الله، وأنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وإنذار وتهديد لكل كافر أو مشرك. التفسير والبيان: لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي وتالله لقد بعثنا إلى قبيلة ثمود العربية أخاهم في النسب والقبيلة بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، فانقسموا فريقين: فريق مؤمن مصدق برسالته وبما جاء به من عند ربه، وفريق كافر مكذّب بما جاء به. وأصبح الفريقان يتجادلان ويتنازعان في الدين، كل فريق يقول: الحق معي، وغيري على الباطل، كما قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف 7/ 75- 76] . قالَ: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ أي قال صالح: يا قومي، لم تطلبون أو تتعجلون نزول العقاب أو العذاب قبل أن تطلبوا من الله رحمته أو ثوابه إن عملتم بما دعوتكم إليه وآمنتم بي، والمقصود: أن الله مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه بالإيمان، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكان هذا جوابا لهم حينما توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب إن لم يؤمنوا بالله وحده، فقالوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 77] . تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي هلا تطلبون من الله المغفرة وتتوبون إليه من كفركم لكي ترحموا!! لأنه إذا نزل العذاب لم تنفعكم التوبة فكان جوابهم:

قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي قال قومه بغلظة وشدة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن معك ولم نر خيرا منكم إذ تتابعت علينا الشدائد، ووقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم، وكانوا لشقائهم لا يصاب أحد منهم بسوء إلا قالوا: هذا من قبل صالح وأصحابه. قال مجاهد: تشاءموا بهم. وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف 7/ 131] . وسمي التشاؤم تطيرا من عادة العرب بزجر الطير أي رميه بحجر ونحوه، فإن تحول يمينا تفاءلوا، وسموه السانح، وإن اتجه يسارا تشاءموا وسموه البارح. قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي قال صالح: شؤمكم وتفاؤلكم وما يصيبكم من شر أو خير هو قدر الله أتاكم به، وهو مكتوب عند الله، والله يجازيكم على ذلك، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم. وسمي القضاء والقدر طائرا لسرعة نزوله بالإنسان. وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء 4/ 78] . بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي بل إنكم قوم تختبرون بالطاعة والمعصية، حين أرسلني الله إليكم، فإن أطعتم أجزل الله لكم الثواب، وإن عصيتم حل بكم العقاب. وقال ابن كثير: والظاهر أن المراد بقوله: تُفْتَنُونَ أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. وعلى أي حال، فإن القصد بيان أن سبب نزول الشر بهم هو عصيانهم. ثم أخبر الله تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، وعن كون مدينة ثمود مرتع الفساد الكثير فقال:

وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي وكان في مدينة ثمود وهي الحجر تسعة نفر أوغلوا في الفساد الذي لا أثر للصلاح فيه، فكانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وهم الذين تواطؤوا على عقر الناقة وعلى قتل صالح ومن آمن به، فقال تعالى: قالُوا: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي قال بعضهم لبعض في المشاورة بشأن صالح بعد أن عقروا الناقة: احلفوا لنباغتنه وأهله الذين آمنوا معه ليلا، فنقتلنهم، فهذا تحالف على قتل نبي الله صالح عليه السلام ليلا قتل غيلة، ثم تحالفوا على أن يقولوا لأولياء الدم أو القصاص إذا مات: ما حضرنا هلاكهم، ولا ندري من قتلهم، وإنا لصادقون في قولنا، أي إننا لم نحضر هلاك أحد الجانبين وهو أهل صالح، وإن فعلوا الأمرين معا. قال الزمخشري: وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. وهذا من الزمخشري على طريقة المعتزلة في أن العقل يدرك الحسن والقبح قبل الشرع، والكذب قبيح عقلا. وكان تآمرهم على قتل صالح بعد أن توعدهم على عقرهم الناقة فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] . ولكن الله كادهم وأحبط مؤامرتهم وجعل الدائرة عليهم، فقال: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ودبروا مؤامرة وكادوا كيدا خفيا، ولكنا جازيناهم وأهلكناهم، وعجلنا لهم العقاب، دون أن يشعروا بمجيئه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أي فتأمل أيها الرسول وكل سامع كيف كان مصير تأمرهم أنا أهلكناهم وقومهم جميعا، ولم نبق أحدا منهم إلا الذين آمنوا بصالح عليه السلام.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي وكان من آثار إنزال العذاب بهم أن أصبحت مساكنهم خالية بسبب ظلمهم أنفسهم، إن في هذا العقاب لعبرة وموعظة لأناس أهل معرفة وعلم، يعلمون بسنة الله في خلقه، وبأن النتائج مرتبطة بالأسباب، فالويل كل الويل لمن كفر بالله وكذب رسله، ولم يقلع عن طغيانه وعناده وكفره. أما المؤمنون فهم دائما ناجون كما قال سبحانه: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي ونجينا من العذاب صالحا النبي ومن آمن به إذ ساروا إلى بلاد الشام ونزلوا بالرملة من فلسطين لأن الإيمان واتقاء عذاب الله بطاعته سبب دائم للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة. والمقصود تذكير قريش والعرب وتحذيرهم بأنهم إن استمروا في كفرهم وعنادهم عذبوا كما عذّب أمثالهم، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين المصدقين برسالته ينجيهم الله برحمة منه وفضل. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- من البداهة أن ينقسم الناس بعد النبوة إلى فريقين: فريق مؤمن وفريق كافر، وليس هذا شرا، وإنما هو أثر طبيعي من آثار الرسالة النبوية، وهو حجة على الكافرين وليس ذريعة لهم في معاداة الأنبياء. 2- المخاطبون بالرسالة الإلهية هم المخطئون المقصرون بتفويت فرصة الخير على أنفسهم، لذا قال صالح عليه السلام لقوله: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب، فكانوا يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب. وهم لم يدركوا أن الإيمان سبب للرحمة، والكفر سبب للعذاب.

3- لقد استبد الجهل والعناد بقوم صالح فقالوا بغلظة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن بك، والشؤم: النحس، ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطّيرة أي التشاؤم، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفّرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز: «أقرّوا الطير على وكناتها» أي أعشاشها ولا تنفروها، وفي رواية: «مكناتها» . ورد صالح على قومه: قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي مصائبكم عند ربكم، وأنتم قوم تمتحنون، وقيل: تعذبون بذنوبكم. 4- إن قادة السوء ودعاة الكفر من أشد الناس عذابا يوم القيامة، ويضاعف لهم العذاب، لذا خصص القرآن التنديد بتسعة رجال من أبناء مدينة صالح وهي الحجر، وكانوا عظماء المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، ويدعون قومهم إلى الكفر والضلال. وكان قدار بن سالف الذي عقر الناقة أحد هؤلاء التسعة زعماء الاجرام. وزاد من طغيانهم أنهم عقروا الناقة، وتآمروا على قتل نبي الله صالح عليه السلام، فكانوا عتاة قوم صالح، مع أنهم كانوا من أبناء أشرافهم. 5- إن كل مكر أو تدبير خفي أو مؤامرة دنيئة كالتآمر على قتل نبي، ذو عاقبة سيئة، فلا يحيق المكر السيء إلا بأهله، لذا كان عقاب قبيلة ثمود بسبب كفرهم وطغيانهم التدمير والإهلاك بصيحة جبريل عليه السلام وبإمطار الملائكة عليهم حجارة قاتلة قتلتهم. قال القرطبي: والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة. 6- بقيت آثار الدمار شاهدة على سوء أفعال ثمود، فصارت بيوتهم خالية من

القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة النمل (27) الآيات 54 إلى 55] :

السكان، بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر والفساد والمعاصي، وفي ذلك عبرة للمعتبر. 7- نجّى الله الذين آمنوا بصالح لأنهم مؤمنون اتقوا الله وخافوا عذابه، قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. وهذا أيضا بشارة بالرحمة والنجاة لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة، فاللهم يا ربنا ثبّت علينا الإيمان، والإخلاص في عبادتك، وجنبنا العصيان، فإنا نخاف عذابك، ونجّنا من عذاب الدنيا وأهوال عذاب الآخرة يا أرحم الراحمين. القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) الإعراب: وَلُوطاً منصوب بفعل مقدر، تقديره: واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا. البلاغة: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ استفهام توبيخي وإنكاري. المفردات اللغوية: وَلُوطاً أي واذكر لوطا، أو أرسلنا لوطا، لدلالة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا في قصة صالح السابقة عليه. إِذْ قالَ بدل مما قبله على تقدير: اذكر، وظرف على تقدير: أرسلنا الْفاحِشَةَ اللواط. وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تعلمون فحشها، من بصر القلب لأن اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصر بعضكم بعضا انهماكا في الفاحشة، وإعلانا بها، فتكون أفحش.

المناسبة:

شَهْوَةً بيان لإتيانهم الفاحشة، وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل، لا قضاء الوطر. مِنْ دُونِ النِّساءِ اللاتي خلقن لذلك. تَجْهَلُونَ عاقبة فعلكم، أو تفعلون فعل من يجهل قبحها، أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح. المناسبة: هذه هي القصة الرابعة في هذه السور، لكن تتمتها في بداية الجزء التالي، قصد بها كما قصد بغيرها من القصص السابقة التحذير من مخالفة أوامر الله، واقتراف الفواحش أو المعاصي الكبيرة، لئلا ينزل بالعصاة من العذاب مثل ما نزل بمن قبلهم. التفسير والبيان: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أي واذكر أيها الرسول لقومك قصة لوط حين أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين فقال منكرا عليهم وموبخا لهم: أتأتون الفاحشة وهي إتيان الذكور دون الإناث، مع علمكم بقبحها، واقتراف القبيح من العالم أشنع من غيره، أو في حال رؤية بعضكم بعضا إذ تأتون في ناديكم المنكر. ثم صرح بما يفعلون بعد الإبهام فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ هذا تكرار للتوبيخ، أي كيف تقبلون إتيان الرجال من غير النساء، فهذا شذوذ جنسي، وانتكاس للفطرة، وترك لما أحل الله لكم من الاستمتاع بالنساء، والحقيقة أنكم قوم جهلاء سفهاء، لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا، وتجهلون عاقبة هذا الأمر الشنيع، ولا تميزون بين الحسن والقبيح، فتفضلون العمل الشنيع على المباح لكم من النساء. كما قال تعالى في آية أخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء 26/ 165- 166] .

وإذا فسرت تُبْصِرُونَ بالعلم، ثم قال تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء جهلاء؟ والجواب كما ذكر الزمخشري أنه أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة، مع علمكم بذلك، أو تجهلون العاقبة، أو أنه أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، أي أنهم سفهاء ماجنون. ولا نرى حملة تشنيع على منكر مثل هذه الحملة الشديدة، فقوله الرِّجالَ شذوذ يأباه الحيوان، وقوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ انحراف عن الشيء الطبيعي والأفضل، وأنه خطأ بالغ وفعل قبيح، وقوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصف ثابت لازم لهم بأنهم يفعلون فعال الجهلاء السفهاء الذين لا يميزون ولا يعقلون الفرق بين الحسن والقبيح. وإزاء هذه الحملة، وبالرغم من عنفها وقسوتها أجابوا عنها بما لا يصلح أن يكون جوابا مقبولا ولا معقولا في ميزان العقلاء، وهو ما سيأتي في مطلع الجزء التالي. آمنت بالله انتهى الجزء التاسع عشر

تتمة قصة لوط عليه السلام [سورة النمل (27) الآيات 56 إلى 58] :

[الجزء العشرون] [تتمة سورة النمل] تتمة قصة لوط عليه السلام [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) المفردات اللغوية: آلَ لُوطٍ أهله. يَتَطَهَّرُونَ ينزهون أنفسهم عن أفعالنا. قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أنزلنا عليهم حجارة السجيل، فأهلكتهم. فَساءَ بئس. مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس المطر مطرهم، وهم المنذرون بالعذاب. التفسير والبيان: هذه تتمة قصة لوط عليه السلام مع قومه، تتضمن جوابهم عن إنذاره: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي لقد أعلن القوم إصرارهم على تعاطيهم الفاحشة المنكرة، وأجابوا لوطا عليه السلام بعد التشاور فيما بينهم: أخرجوا لوطا وأهله ومن معه من بلدتنا، فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم، ونرتاح من وعظهم وإرشادهم، فإن البلدة بلدتنا، ولوط وجماعته قوم أغراب عنا. وسبب هذا الإخراج أو الإبعاد: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي إنهم يتحرجون من أفعالنا، ولا يقروننا على

فقه الحياة أو الأحكام:

صنيعنا، وهذا صنيع الفساق في كل زمان، لا يريدون تعكير فسادهم بكلام المصلحين، ليبقوا منغمسين في الرذيلة دون منغص أو معترض. فلما عزموا على إخراج لوط وأهله من بلدتهم دمّر الله عليهم، وللكافرين الفاسقين أمثالها، وأنجى الله المؤمنين الصالحين، قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي نجينا لوطا ومن آمن معه برسالته من أهله، أما امرأته التي كانت راضية بأفعالهم القبيحة، ومتواطئة معهم، فتدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم، فإنا حكمنا بجعلها من الباقين في العذاب، لأن من رضي بالمنكر وإن لم يفعله فهو مقرّ به، فله جزاء الفاعلين. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي وأنزلنا عليهم حجارة من سجيل وهو الحاصب، فأبادهم وخسف بهم الأرض، فبئس المطر مطر المنذرين بالعذاب الذين قامت عليهم الحجة، ووصلهم الإنذار الإلهي، فخالفوا الرسول وكذبوه، وهمّوا بإخراجه من قريتهم، وتلك هي عاقبة الفاسقين. فقه الحياة أو الأحكام: اقتضت عدالة الله تعالى ألا يعذب قوما إلا بعد إنذار، وألا يعجل لهم العقاب إلا بعد نصح وإرشاد وإمهال. وهذا ما فعله نبي الله لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم، فإنه وبخهم وأنكر عليهم بشدة فعلتهم القبيحة الشنيعة التي يعلمون أنها فاحشة، وذلك أعظم تجريما وأكبر إثما ومعصية، ويقال: إنهم كانوا يتعاطون هذه الفاحشة جهارا نهارا، ولا يستترون من بعضهم بعضا، عتوا منهم وتمردا. ثم صرح لوط عليه السلام بذكر تلك الفعلة الشنيعة، وأعلنها لفرط قبحها

أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية [سورة النمل (27) الآيات 59 إلى 64] :

وسوئها، ووصفهم بأنهم جاهلون أمر التحريم أو العقوبة، والآن يعلمهم بشدة الحرمة، وينذرهم بقبح العقاب وألم العذاب. لكن القوم أمعنوا في ضلالهم، وازدادوا غيا في فسقهم، وأصروا على معصيتهم، وتآمروا فيما بينهم على طرد لوط وأهله من قريتهم، قائلين على سبيل الاستهزاء منهم: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن أدبار الرجال. فكان مقتضى الرحمة الإلهية أن ينجي الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته، وتورعوا من التدنس برجس هؤلاء العصاة الفساق، إلا امرأته التي كانت راضية بأفعال قومها القبيحة، أضحت باقية معهم في العذاب. وكان من مقتضى العدل أن يجازي الله هؤلاء المصرين على العصيان وارتكاب الفاحشة، والذين أنذروا بالعقاب فلم يقبلوا الإنذار، فأنزل الله عليهم من السماء حجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، فأهلكوا جميعا، وما أسوأ ذلك المصير المشؤوم!! أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)

الإعراب:

الإعراب: آللَّهُ خَيْرٌ ... مبتدأ وخبر، والأظهر- كما قال ابن الأنباري- أن كلمة خَيْرٌ هنا للمفاضلة، فإنه وإن لم يكن في آلهتهم خير، فهو بناء على اعتقادهم، فإنهم كانوا يعتقدون أن في آلهتهم خيرا. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ما صلة زائدة، قَلِيلًا صفة مصدر مقدر، أي تذكرا قليلا يذكرون، والمراد به النفي، مثل: قل ما يأتيني، أي لا يأتيني. البلاغة: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ استفهام يقصد به التبكيت والتهكم. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة، أي أمام نزول المطر، استعار اليدين للإمام. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بينهما طباق. قَراراً أَنْهاراً يُشْرِكُونَ يَعْدِلُونَ يَعْلَمُونَ تَذَكَّرُونَ فيها مراعاة الفواصل، الذي هو من محاسن الكلام. المفردات اللغوية: قُلِ أيها الرسول. الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك الكفار الفجار من الأمم الخالية. اصْطَفى اختار، والأنبياء هم المصطفون المختارون. خَيْرٌ لمن يعبده. أَمَّا يُشْرِكُونَ أصله أم ما يشركون فأدغم الميمان ببعضهما، وهم أهل مكة الذين يشركون بالله تعالى آلهة أخرى، أي هل شركهم خير لهم؟ وهو تهكم بهم وتسفيه لرأيهم إذ من المعلوم ألا خير أصلا فيما أشركوه، حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير وهو الله. أَمَّنْ أي بل أم من. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وَأَنْزَلَ لَكُمْ لأجلكم. فَأَنْبَتْنا فيه

المناسبة:

التفات من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع لا يقدر عليه غيره تعالى، لذا قال: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي لعدم قدرتكم عليه. حَدائِقَ بساتين مسورة، جمع حديقة. ذاتَ بَهْجَةٍ حسن ورونق. شَجَرَها شجر الحدائق. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل له شريكا، وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟ يَعْدِلُونَ يميلون أو ينحرفون عن الحق الذي هو التوحيد، فيشركون بالله غيره. قَراراً مكانا يستقر عليه الإنسان، فلا يميد بأهله. خِلالَها وسطها، وبين جهاتها المختلفة، جمع خلل: أي وسط. رَواسِيَ جبالا ثوابت، ثبّت بها الأرض. بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بين العذب والمالح، لا يختلط أحدهما بالآخر. حاجِزاً فاصلا بين الشيئين. لا يَعْلَمُونَ الحق، وهو التوحيد، فيشركون به. الْمُضْطَرَّ الذي أحوجته الشدة إلى اللجوء والضراعة إلى الله، واللام فيه للجنس، لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع السوء عنه وعن غيره. خُلَفاءَ الْأَرْضِ خلفاء فيها، بأن ورّثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم، من الخلافة: وهي الملك والتسلط، والإضافة بمعنى في، أي يخلف كل قرن القرن الذي قبله. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خصكم بهذه النعم العامّة والخاصة. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تتعظون، وما زائدة لتقليل القليل، والمراد به العدم أو الحقارة التي لا فائدة منها. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ يرشدكم إلى مقاصدكم. فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم ليلا، وبعلامات الأرض نهارا. والظلمات: ظلمات الليالي، أضافها إلى البر والبحر للملابسة. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام المطر. عَمَّا يُشْرِكُونَ به غيره، فهو تعالى القادر الخالق، المنزه عن مشاركة العاجز المخلوق. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بداية خلق الإنسان الأول من التراب، وبدء خلق سلالة الإنسان في الأرحام من نطفة. ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت. والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالبراهين عليها. مِنَ السَّماءِ بالمطر. وَالْأَرْضِ بالنبات. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ الحق أنه لا يفعل شيئا مما ذكر إلا الله، ولا إله معه. بُرْهانَكُمْ حجتكم على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إشراككم، فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى قصص أربعة أنبياء مع أقوامهم، وإهلاكهم بسبب شركهم ووثنيتهم، والإدلال على كمال قدرته ونصر رسله على أعدائهم، أمر

التفسير والبيان:

رسوله صلّى الله عليه وسلم بحمد الله تعالى على تلك النعمة، والسلام على الأنبياء كافة، لأدائهم واجب التبليغ لرسالة ربهم على أكمل وجه، ثم رد على عبدة الأوثان ببيان الأدلة المختلفة على وحدانيته وتفرده بالخلق، وقدرته، وإخلاص العبادة له. التفسير والبيان: قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بحمد الله وشكره على نعمه على عباده التي لا تعدّ ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العلا والأسماء الحسنى، وأن يسلّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لتبليغ رسالته، وهم رسله وأنبياؤه الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه. وأما كون الخطاب لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم فلأن القرآن منزل عليه، وكل ما فيه فهو مخاطب به صلّى الله عليه وسلم إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. ومن تلك النعم نجاة رسله ونصرتهم وتأييدهم، وإهلاك أعدائه. ونظير الآية قوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصافات 37/ 180- 182] . وهذا تعليم لنا بأن نحمد الله تعالى على جميع أفعاله، ونسلّم على عباده المصطفين الأخيار. آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أي هل الله الذي يتصف بالعظمة والقدرة التامة خير أم ما يشركون به من الأصنام؟ وهذا استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، وتبكيت لهم، وتهكم بحالهم لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى. والمقصود به التنبيه على نهاية ضلالهم وجهلهم، علما بأنه لا خير أصلا فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما كانت الموازنة بحسب اعتقادهم وجود منفعة في آلهتهم المزعومة.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال: «بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم» . ثم انتقل من التوبيخ والتبكيت إجمالا إلى الرد المفصل على عبدة الأوثان ببيان الأدلة على أنه تعالى إله واحد لا شريك له، قادر على كل شيء لأنه الخالق لأصول النعم وفروعها، فكيف تصح عبادة ما لا منفعة منه أصلا؟ وتلك الأدلة أنواع: 1- ما يتعلق بالسموات: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي أعبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات في ارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من كواكب نيّرة ونجوم زاهرة وأفلاك دائرة، وخلق الأرض الصالحة للحياة الهادئة، وجعل فيها الجبال والسهول، والأنهار والوديان، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، والحيوانات المختلفة الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لأجل عباده من السماء مطرا جعله رزقا لهم، فأنبت به بساتين ذات بهجة ونضارة، وشكل حسن ومنظر بهي، ولولاه ما حصل الإنبات، ولم تكونوا تقدرون على إنبات الأشجار والزروع. فهو المنفرد بالخلق والرزق، فهل يصح بعدئذ وجود إله مع الله يعبد؟ كما قال تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون 23/ 91] . بل هؤلاء المشركون قوم يميلون عن الحق إلى الباطل، وينحرفون عن جادة الصواب، فيجعلون لله عدلا ونظيرا. ونظير الآية كثير مثل: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] ونحو

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت 29/ 63] . هذا.. وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أم في أَمَّنْ وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ وهو أن أَمَّا متصلة لأن المعنى أيهما خير، وفي أَمَّنْ منقطعة بمعنى «بل» . 2- ما يتعلق بالأرض: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أعبادة الأوثان العديمة النفع والضرر خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان وغيره، لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وجعل فيها الأنهار العذبة الطيبة لسقاية الإنسان والحيوان والنبات، وجعل فيها جبالا ثوابت شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم، وجعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا، أي مانعا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بذاك، لتبقى الغاية من التفرقة بينهما متحققة، فإن الماء العذب الزلال لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار، والماء المالح في البحار ليكون مصدرا للأمطار، وليبقى الهواء فوقه نقيا صافيا لا يفسد بالرائحة الكريهة التي تحدث عادة في تجمعات المياه العذبة. أيوجد إله مع الله فعل هذا وأبدع هذه الكائنات؟! بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فيتبعونه، ولا يعرفون قدر عظمة الإله المستحق للعبادة. ونظير الجزء الأول من الآية: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً [غافر 40/ 64] ونظير آية حاجز البحرين: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان 25/ 53] .

3- ما يتعلق عموما باحتياج الخلق إلى الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي أتلك الآلهة الجمادات الصماء خير أم من يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه المرض أو الفقر أو المحنة إلى التضرع إلى الله تعالى، ويرفع عنه السوء أو الضرر الذي أصابه من فقر أو مرض أو خوف أو غيره، ويجعلكم ورثة من قبلكم من الأمم في سكنى الأرض والديار والتصرف فيها، فيخلف قرنا لقرن وخلفا لسلف، كما قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الأنعام 6/ 165] . أيعقل وجود إله مع الله بعد هذا؟ وهل يقدر أحد على ذلك غير الله المتفرد بهذه الأفعال؟ ولكن ما أقل تذكركم نعم الله عليكم، ومن يرشدكم إلى الحق ويهديكم إلى الصراط المستقيم. 4- ما يتصل باحتياج الخلق إلى الله تعالى في وقت خاص: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أتلك الآلهة التائهة خير أم من يرشدكم في أثناء الظلمات البرية أو البحرية إذا ضللتم الطريق بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل 16/ 16] وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام 6/ 97] . ومن يرسل الرياح مبشرات أمام نزول الغيث الذي يحيي به الأرض بعد موتها، أيكون هناك إله مع الله فعل هذا؟ تنزه الله المتفرد بالألوهية المتصف بصفات الكمال عن شرك المشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر؟! 5- ما له صلة بإبداع الخلق والحشر والنشر: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ،

وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي أتلك الآلهة العاجزة خير، أم الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق من غير مثال سبق، ثم يميته، ثم يعيده إلى الحياة الأولى مرة أخرى، كما قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج 85/ 13] وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] وهو الذي يرزقكم بما ينزّل من السماء من أمطار، وبما ينبت من بركات الأرض. أيوجد إله آخر فعل هذا مع الله حتى يتخذ شريكا له؟ قل لهم أيها الرسول: قدّموا برهانكم على صحة ما تدّعون من عبادة آلهة أخرى إن كنتم صادقين في ذلك مع أنفسكم ومع غيركم. والواقع أنه لا حجة لهم ولا برهان يقبله عاقل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون 23/ 117] . قال أبو حيان: ناسب ختم كل استفهام بما تقدمه، فلما ذكر العالم العلوي والسفلي وما امتنّ به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، ختمه بقوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي عن عبادته أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق، فلا يعبد إلا موجد العالم، ولما ذكر جعل الأرض مستقرا وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على ضرورة تعقل ذلك والتفكر فيه، ختمه بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ختمه بقوله: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره، ولما ذكر الهداية في الظلمات وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم لا تهدي وهم يشركون بها، ختمه بقوله: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى «1» .

_ (1) البحر المحيط: 7/ 91.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت هذه الآيات الأدلة على إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته الشاملة، وتتلخص هذه الأدلة بالخلق والإيجاد، والتفرد في دفع الضرر، وجلب النفع والخير، والقدرة على الحشر والنشر، ويتجلى ذلك فيما يأتي: 1- إهلاك كفار الأمم الخالية جميعا لإصرارهم على الشرك والوثنية وارتكابهم كبائر المعاصي وعظائم الفواحش. وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى تعليم وإرشاد إلى حمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية الذين زرعوا الشرك والمعصية في ديارهم، مما يجب التخلص منهم، وفي هذا عبرة وعظة. ويؤخذ من ذلك الاستفتاح بالتحميد لله والسلام على الأنبياء والمصطفين من عباده، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ جيلا عن جيل هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في فواتح الأمور المفيدة وفي المواعظ والخطب. 2- قوله سبحانه: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ تبكيت للمشركين وتوبيخ وتهكم على حالهم وضلالهم، لإيثارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى. 3- الله تعالى هو خالق السموات والأرض، ومنزل المطر، ومنبت الشجر والزرع والثمر في الحدائق الغنّاء ذات الأنواع والأشكال والألوان المختلفة، والمناظر الجميلة الرائعة الحسن والبهاء، فيكون قطعا هو المستحق للعبادة دون غيره لأنه لا يتهيأ للبشر ولا لغيرهم ولا يتيسر لهم ولا يمكنهم أن يخلقوا شيئا مما ذكر، فهم عجزة عن مثل ذلك. 4- قال القرطبي في قوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها:

يستدل به لقول مجاهد على منع تصوير أي شيء، سواء أكان له روح أم لم يكن. ويعضده ما رواه مسلم في صحيحة من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا شعيرة» . وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز، كما يجوز الاكتساب به أخرج مسلم أيضا أن ابن عباس قال للذي سأله أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا، فاصنع الشجر وما لا نفس له. 5- الله عز وجل هو الذي جعل كرة الأرض اليابسة صالحة للحياة، بجعلها قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها، وزودها بالهواء الذي لا تمكن الحياة بدونه، وجعل فيها الأنهار للسقي، والجبال الثوابت لتمسكها وتمنعها من الحركة، وجعل بين البحرين: العذب والمالح مانعا من قدرته، لئلا يختلط الأجاج بالعذب. إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غير الله، فلم يعبد المشركون ما لا يضر ولا ينفع؟ ولكن أكثرهم يجهلون الله، فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية. 6- الله تعالى وحده مصدر الرحمة الذي يدفع الضرر، فيجيب دعاء المضطر (وهو ذو الضرورة المجهود) ويكشف السوء (الضر) ويجعل الناس خلفاء الأرض أي سكانها جيلا بعد جيل، فيموت قوم وينشئ الله آخرين، أمع الله ويلكم أيها الناس إله؟ ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا نعم الله عليكم، والمراد نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي. وهذا دليل على أن الله تعالى ضمن إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، لأن التضرع إليه ينشأ عن الإخلاص، وعدم تعلق القلب بسواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، سواء وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو

فاجر، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها، جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس 10/ 22] وقوله: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت 29/ 65] أي أن الله تعالى أجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم، وقال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت 29/ 65] . وفي الحديث الصحيح: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شكّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» وفي صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجّهه إلى أرض اليمن: «واتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب» . 7- الله تعالى وحده مصدر الخير والنفع، فهو الذي يرشد الطريق في ظلمات البر والبحر حال السفر إلى البلاد البعيدة، وهو الذي يرسل الرياح مبشرات قدام المطر، فهل يوجد إله مع الله يفعل ذلك ويعينه عليه؟ تنزه الله عما يشرك به المشركون من دونه. 8- الله الذي يقرّ المشركون أنه الخالق الرازق هو الذي يعيد الخلق يوم القيامة إلى الحياة الجديدة لأن من قدر على ابتداء الخلق فهو قادر حتما على الإعادة، وهو أهون عليه، أيوجد إله مع الله يخلق ويرزق ويبدئ الخلق ويعيده؟ فيا أيها المشركون مع الله إلها آخر، قدّموا حجتكم أن لي شريكا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله، إن كنتم صادقين مع أنفسكم في ادعاء أن له شريكا.

لا يعلم الغيب إلا الله [سورة النمل (27) الآيات 65 إلى 66] :

لا يعلم الغيب إلا الله [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) الإعراب: الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ اللَّهُ: بدل مرفوع من «من» لأنه استثناء من منفي. بَلِ ادَّارَكَ أي تتابع، وأصله «تدارك» فأبدل من التاء دالا، وأدغم الدال في الدال. وقرئ «ادّرك» أي تناهي علمهم وكمل في أمر الآخرة. فِي الْآخِرَةِ فِي بمعنى الباء، والمضاف محذوف، أي بل ادّرك علمهم بحدوث الآخرة، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من حدوثها. عَمُونَ أصله «عميون» فاستثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها، فسكنت الياء، والواو بعدها ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وكان حذفها أولى من حذف واو الجمع، لأن واو الجمع دخلت لمعنى، وهي لم تدخل لمعنى، فكان حذفها أولى. البلاغة: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ استعارة، استعار العمى للتعامي عن الحق، وعدم التفكر في أدلة إثباتها. المفردات اللغوية: مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والناس الْغَيْبَ ما غاب عنهم إِلَّا اللَّهُ لكن الله يعلمه، فالاستثناء منقطع وَما يَشْعُرُونَ أي كفار مكة وغيرهم أَيَّانَ أي متى يُبْعَثُونَ ينشرون، أي يخرجون من القبور للحساب والجزاء بَلِ أي هل ادَّارَكَ تتابع وتلاحق واستحكم، وقرئ: «ادّرك» بوزن أكرم، أي انتهى علمهم وتكامل. والمراد أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والبينات على أن القيامة كائنة لا محالة، لا يعلمونه كما

المناسبة:

ينبغي، وإذا سألوا عن وقت مجيء القيامة فليس الأمر كذلك، فهم في شك منها بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي فهم في الحقيقة في شك وحيرة عظيمة من حصول القيامة، كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهو جمع عم: وهو أعمى القلب والبصيرة، وهو أبلغ مما قبله. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أنه المختص بالقدرة التامة الفائقة العامة، أتبعه بما هو أيضا من لوازم الألوهية وهو أنه المختص بعلم الغيب، فثبت أنه هو الإله المعبود لأن الإله هو المتمكن من المجازاة لأهل الثواب والعقاب. التفسير والبيان: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أي قل أيها الرسول لجميع الخلق: لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. فقوله: إِلَّا اللَّهُ استثناء منقطع، أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل، فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام 6/ 59] وقال: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 34] . روى مسلم وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم ما يكون في غد، فقد أعظم الفرية على الله لأن الله يقول: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. ولما نفى عنهم علم الغيب على العموم، نفى عنهم علم الغيب المخصوص بوقت الساعة فصار منتفيا مرتين، فقال: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وما يدري أهل السموات والأرض بوقت

الساعة، كما قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف 7/ 187] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض، فلا يشعر الكفار وغيرهم في أي وقت يكون البعث للحساب والجزاء، وإنما تأتيهم الساعة فجأة. ثم أكد الله تعالى جهلهم بيوم القيامة فقال: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي بل انتهى علمهم بالآخرة، وعجز عن معرفة وقت حدوثها، والمراد: أن ما توصلوا إليه من أدلة إثبات الآخرة تلاشى شيئا فشيئا، حتى لم يعد لها قيمة ذات بال. ثم وصفهم بالحيرة في الآخرة فقال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي بل الكافرون (أي جنسهم) في حيرة شديدة من تحقق الآخرة ووجودها، أي شاكون في وجودها ووقوعها، كما قال تعالى: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [الكهف 18/ 48] أي أن لن نجعل للكافرين منكم: ثم وصفهم الله بالتعامي عن التفكر والتدبر في أمر الآخرة، فقال: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي بل هم في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها، لا يفكرون فيها في أعماق نفوسهم، فهم عمي البصيرة لا البصر، وهذا أسوأ حالا من الشك. قال أبو حيان: هذه الإضرابات الثلاثة ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذلك عدّاه بمن دون «عن» «1» .

_ (1) التفسير الكبير: 7/ 93.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى أنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فذلك مما اختص الله به، فيكون هو الإله المستحق للعبادة. ودلت على أن الكفار وغيرهم لا يشعرون بوقت القيامة حتى تأتيهم فجأة، وعلى أن علمهم بأدلة إثباتها معدوم، فهم جهلة بها ولا علم لهم فيها، وهم أيضا في شك منها في الدنيا وفي حيرة شديدة من شأن وجودها، وقلوبهم عمياء عن إدراكها وعما يوصل إلى الحق في شأنها. إنكار المشركين البعث [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) الإعراب: رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم، واللام زائدة، كاللام في قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ أي بوأنا إبراهيم.

البلاغة:

البلاغة: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ استفهام إنكاري، وتكرار همزة أَإِنَّا للمبالغة في التعجب والإنكار. قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وعيد وتهديد. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ تأكيد بإن، واللام لترسيخ المعنى. ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ بين تُكِنُّ أي تخفي ويُعْلِنُونَ طباق. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا أيضا في إنكار البعث بعد بيان عماهم عن الآخرة. لَمُخْرَجُونَ من القبور أو من حال الفناء إلى الحياة. إِنْ هذا ما هذا. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب الأقدمين، جمع أسطورة: وهي ما سطره الأقدمون من خرافات وأحاديث. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي هلاكهم بالعذاب لإنكارهم البعث. ضَيْقٍ في ضيق صدر. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم، أي فإن الله يعصمك من الناس، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم، أي لا تهتم بمكرهم وتآمرهم عليك، فإنا ناصروك عليهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود، أو الوعد بالعذاب. رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم بمعنى تبعكم ولحقكم. بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي أصابهم بعض العذاب وهو القتل ببدر، وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت. لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي ومنه تأخير العذاب عن الكفار. لا يَشْكُرُونَ نعم الله عليهم ومنه تأخير العذاب لإنكارهم وقوعه. تُكِنُّ صُدُورُهُمْ تخفيه. وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. غائِبَةٍ التاء المربوطة أو الهاء للمبالغة، والمعنى: أيّ شيء في غاية الخفاء على الناس، كالتاء في علّامة ونسابة، والأصل: غائب. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن، وهو اللوح المحفوظ، فكل شيء يعلمه الله قديما، ومنه تعذيب الكفار. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى جهل الكفار بالآخرة، أردفه بما قالوا عنها، مما يدل على إنكارهم لها. وأما مناسبة هذه الآيات لجملة السورة فهي أنه تعالى لما تكلم في حال مبدأ الخلق، تكلم بعده في حال المعاد لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من

التفسير والبيان:

الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم، فإذا ثبت كونه تعالى قادرا على كل الممكنات، وعالما بكل المعلومات، ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل إنسان عن أجزاء بدن غيره، وثبت أنه قادر على إعادة التركيب والحياة إلى تلك الأجزاء، وإذا ثبت إمكان ذلك، ثبت صحة القول بالحشر أو المعاد. التفسير والبيان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا، أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي وقال المشركون منكرو البعث، الذين كفروا بالله وكذبوا رسله: أنخرج من قبورنا أحياء، بعد مماتنا، وبعد أن بليت أجسادنا وصارت ترابا؟ فهذا حكاية لاستبعادهم إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا. لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي ما زلنا نسمع كثيرا بهذا نحن وآباؤنا، ولا نلمس له حقيقة ولا وقوعا ولم نر قيام أحد بعد موته، والمراد أن هذا تاريخ غابر محكي، أكل عليه الدهر وشرب. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بإعادة الأبدان إلا أسطورة، أي خرافة وأكذوبة، يتناقلها الناس عن بعضهم، وليس لها حقيقة، ولم يقم عليها دليل مقبول. ثم أرشدهم الله تعالى إلى الصواب في ذلك وعما ظنوا من الكفر وعدم المعاد بصيغة الوعيد والتهديد، فقال: قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي قل لهم أيها الرسول: سيروا في أرض الحجاز والشام واليمن وغيرها، فانظروا مصير من سبقكم من المكذبين، إنهم اغتروا بدنياهم، وفتنوا بزخارفها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا وجود البعث، فأهلكهم الله بذنوبهم، وبقيت ديارهم آثارا شاهدة عليهم للعبرة والعظة، ونجى الله رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته من الإيمان بالله

وبالبعث، وتلك سنة الله في كل من كذب رسله، وسيعاقبكم بمثل عقابهم إن لم تبادروا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر. ثم سلّى الله نبيه صلّى الله عليه وسلم عن إعراضهم عن قوله ورسالته فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي ولا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المكذبين عن رسالتك، ولا تكن ضيق الصدر حزينا مكروبا مهموما من كيدهم وتآمرهم عليك، فإن الله مؤيدك وناصرك وعاصمك من الناس، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب. ثم حكى الله تعالى إنكارا آخر من الكفار غير الساعة، وهو إنكار عذاب الله، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يقول هؤلاء المشركون في مكة وغيرهم في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك: متى وقت هذا العذاب الذي تعدنا به، إن كنتم أيها الرسول والمؤمنون به صادقين في ادعائكم وقولكم؟ يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء. فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي قل لهم يا محمد: عسى أن يكون ردفكم أي لحقكم وتبعكم واقترب منكم بعض ما تستعجلون وقوعه من العذاب، وهو القتل والعذاب والنكال يوم بدر. فقوله: رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم واللام زائدة، وقال ابن كثير: وإنما دخلت اللام في قوله: رَدِفَ لَكُمْ لأنه ضمن معنى: عجل لكم، كما قال مجاهد في تفسير ذلك. قال الزمخشري: عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم،

وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده «1» . ثم ذكر تعالى سبب تأخير العقاب، فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي وإن الله لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يسبغ إنعامه عليهم في الدنيا، مع ظلمهم لأنفسهم، ويترك معاجلتهم بالعقوبة على كفرهم ومعاصيهم، ولكنهم مع ذلك كله لا يشكره أكثرهم على فضله، ولا يشكره إلا القليل منهم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي وإن ربك ليعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، كما قال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد 13/ 10] وقال: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] والمراد أنه تعالى عالم بمكائد المشركين للرسول، وسيجازيهم على ذلك. ثم أبان الله تعالى حقيقة شاخصة عامة وهي أن كل ما في الكون محفوظ في اللوح المحفوظ، فقال: وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي وما من شيء غائب مخفي في السموات والأرضين إلا وهو موجود معلوم محفوظ في اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه الله تعالى كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه، وعالم غيب السموات والأرض من أمر الخلائق قاطبة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج 22/ 70] وقال حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ

_ (1) الكشاف 2/ 460.

فقه الحياة أو الأحكام:

فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان 31/ 16] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- تكرر في القرآن الكريم حكاية إنكار المشركين البعث، فهم يعدّونه من خرافات الأقدمين المتوارثة، وكانت الأنبياء يقرّبون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت قريب. 2- وبما أن واقعة البعث أمر غيبي يحدث في المستقبل، فإن الله تعالى أجاب المنكرين له بالنظر في مصير المكذبين لرسلهم، المنكرين وقوع البعث، نظرة تأمل في القلوب والبصائر في بلاد الشام والحجاز واليمن وغيرها، هل دام لهم العز والسلطان، أم دمّر الله ديارهم بسبب كفرهم؟. 3- كانت درجة إحساس النبي صلّى الله عليه وسلم عالية جدا، ومرهفة إرهافا مفرطا، فتألم وحزن لإعراض قومه عنه، فسرّى عنه القرآن همومه، ونهاه عن حمل الهموم والأحزان على كفار مكة إن لم يؤمنوا، كما نهاه عن الضيق أي الحرج من مكرهم وتدبيرهم وقولهم: متى أو أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا؟ 4- أجابهم الحق تعالى عن استبطاء نزول العذاب بالترهيب مرة وبالترغيب مرة أخرى، فأنذرهم بأن بعض عذابهم قد اقترب منهم ودنا من ساحتهم، وذلك في أول لقاء عسكري فاصل بينهم وبين المؤمنين في موقعة بدر، فيقتل رؤساؤهم ويؤسر أشرافهم، ورغّبهم بالتوبة والإيمان، وذكّرهم بفضله سبحانه على الناس في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، ولكن أكثرهم لا يشكرون فضله ونعمه. 5- وأبان لهم أن مصير خططهم ومؤامراتهم إلى الخيبة والفشل، فإن الله يعلم

إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم [سورة النمل (27) الآيات 76 إلى 81] :

ما تخفي صدورهم وما يظهرون من الأمور، فيحبط مشاريعهم، كما أنه تعالى يعلم جميع ما أخفى عن خلقه وغيّبه عنهم، وهذا عام بعد خاص، وقد أثبت تعالى في اللوح المحفوظ ما أراد، ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته، فكيف يخفى عليه ما يسرّ هؤلاء وما يعلنونه؟! وإذا كان الله عليما بكل نشاطاتهم المشبوهة وتحركاتهم المريبة، فيستحيل وقوع ما يريدون من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم أو النيل من رسالته، أو تحقيق الظفر على المسلمين. إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) البلاغة: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ: في هذا الفعل المضارع استعارة تبعية، استعار ما يتكلم به الإنسان الناطق إلى القرآن، لتضمنه نبأ الأولين، فكان كالإنسان الذي يقصّ على الناس الأخبار. الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل. إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ بِهادِي الْعُمْيِ استعارة تمثيلية، فقد عبر بالموتى والصم والعمي تمثيلا لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ الموجودين في زمان نبينا أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يخبرهم بأكثر نواحي الاختلاف كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح لَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ من العذاب وخص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به يَقْضِي بَيْنَهُمْ يفصل بين بني إسرائيل كغيرهم يوم القيامة بِحُكْمِهِ بما هو حكمه الذي هو الحق والعدل وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، فلا يرد قضاؤه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضي فيه، فلا معقب لحكمه. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، ولا تبال بمعاداتهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الدين البيّن، وصاحب الحق جدير بالثقة بنصر الله وحفظه، فإنه سينصرك على الكفار إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ تعليل آخر للأمر بالتوكل، من حيث إنه يقطع الأمل بمتابعتهم ومعاضدتهم، فضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي، لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم، ولا برؤية ما يرشدهم إلى الإيمان مُدْبِرِينَ راجعين فارّين هاربين لأن إسماعهم في هذه الحال أبعد. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ لأن الهداية لا تحصل إلا بالصبر إِنْ تُسْمِعُ أي ما يجدي إسماعك سماع فهم وقبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يصدق بالقرآن فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون بتوحيد الله. المناسبة: بعد أن أتمّ الله تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد بالأدلة الكونية، الحسية والعقلية، أعقب ذلك بإثبات النبوة بأدلة أعظمها القرآن الكريم المشتمل على المعجزات، وإذا كان معجزا دل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يدعيه. التفسير والبيان: إن الكتاب الذي أورد الأدلة على إثبات صفات الكمال لله تعالى، وإثبات البعث لإقامة العدل بين الخلائق بالثواب والعقاب، وهما أصلان للدين، هو هذا القرآن المتضمن وجوه الإعجاز التالية: 1- الإخبار عن قصص الأنبياء المتقدمين: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا القرآن العزيز يخبر بني

إسرائيل، وهم حملة التوراة والإنجيل، بالحق في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها، كاختلافهم في عيسى عليه السلام، فاليهود افتروا عليه، والنصارى غلوا في شأنه، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل: أنه عبد من عباد الله، ونبي من أنبيائه ورسله الكرام. وهذه الحقيقة وغيرها من القصص لا تعرف إلا بالوحي الإلهي من عند الله تعالى لأن محمد صلّى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن كان أميا لا يقرأ لا يكتب، ولم يتتلمذ على أحد من العلماء للتعلم ومعرفة شؤون الثقافة، ولأن هذه القصص المذكورة في القرآن موافقة لما في التوراة والإنجيل. 2- إثبات التوحيد والبعث والنبوة وأحكام التشريع بدلائل عقلية: وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن هذا القرآن لهاد للمؤمنين إلى طريق الرشاد، ورحمة لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة، كالتوحيد والحشر والنبوة وصفات الله الحسنى، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة. وهو أيضا هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه غاية الفصاحة والبلاغة حتى عجزت البشر عن معارضته، فدل على إعجازه، وخروجه عن طاقتهم، وأنه وحي منزل من إله حكيم حميد قدير. وخص المؤمنين في الآية لأنهم المنتفعون به. وبعد بيان خصائص إعجاز القرآن الدالة على صدق الرسالة النبوية أتبعه بذكر أمرين: الأول- إقامة الدليل على عدل الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي إن ربك الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقضي بين المصيب والمخطئ منهم بحكمه العادل، وهو القوي القادر على الانتقام من المبطل منهم، ومكافأة المحسن منهم، فلا يرد قضاؤه، العليم بأفعال عباده وأقوالهم، فيقضي بالصواب المطابق للواقع لأنه العليم بمن يقضي له وبمن يقضي عليه.

ومعنى يَقْضِي.. بِحُكْمِهِ أي يقضي يوم القيامة بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما، أو أراد أنه يقضي بحكمته. الثاني- أمر النبي بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي ثق بالله واعتمد عليه وفوض جميع أمورك إليه، وبلّغ رسالة ربك، ولا تلتفت إلى أعداء الله، فإنك أنت على الحق الواضح، وإن خالفك فيه من خالفك من أهل الشقاء. وهذه هي العلة الأولى للتوكل على الله، ثم علل ذلك بعلة أخرى فقال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي إنك لا تستطيع أن تسمعهم شيئا ينفعهم، فهم حين توليهم مدبرين معرضين عنك كالموتى لا يتأثرون بما يتلى عليهم ولا يفهمونه، وكالصم الذين لا أمل في سماعهم فلا يسمعون بحال، وكالعمي الذين لا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء أصلا لأن على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقر الكفر، وفي نفوسهم استعلاء واستكبارا عن الرضوخ للحق. وفي هذه العلة الثانية قطع طمع النبي عن الكفار، فيقوى قلبه على إظهار مخالفة أعداء الله، بأن بيّن له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمي، فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، ولأن الإنسان ما دام يطمع في أن يأخذ من أحد شيئا، فإنه لا يجرأ على مخالفته. وهذا سبب قوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي. ومعنى قوله: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد وأدبر عن الداعي كان أبعد عن إدراك صوته. والخلاصة: إنه تعالى أمر رسوله بالتوكل عليه والإعراض عما سواه لأنه على الحق المبين، وغيره على الباطل، ولأنه لا أمل ولا مطمع في مساندة المشركين، ولا في استجابتهم لدعوة الحق.

فقه الحياة أو الأحكام:

والمراد من نفي الإسماع للموتى الإسماع الذي يمكن أن يعقبه إجابة وتفاعل وتفاهم، فلا يعارضه ثبوت السماع من جانبهم دون أن يتمكنوا من الرد أو إجابة من يكلمهم، كما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وأنه صلّى الله عليه وسلم سلّم على قبور أهل بدر، وكما ثبت في صحيح البخاري ومسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب (بئر) بدر، فقيل له: يا رسول الله، إنما تكلّم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» . ثم أكد الله تعالى ما سبق فقال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي وما أنت أيها الرسول بمستطيع أن تهدي العمي عن ضلالتهم، أي تردهم عن الضلال بالهدى لأن على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما أتيت به نظرا مؤديا إلى الحق، وما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي يصدقون بها، فهم مسلمون مخلصون التوحيد لله، خاضعون لله، ولا يستجيب لك إلا من هو مبصر القلب، يستخدم سمعه وبصره في إدراك الأمور على وجهها الصحيح، مستعد لقبول الحق، فهذا هو المسلم الذي أسلم وجهه لله، يعني جعله سالما لله تعالى خالصا له. فقه الحياة أو الأحكام: يثبت الله تعالى بهذه الآيات صدق النبوة وصحة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك بالقرآن الذي أنزله على قلب نبيه، مشتملا على وجوه عديدة من الإعجاز. منها: أنه يبين لبني إسرائيل الموجودين حال نزوله ما اختلفوا فيه، لو أخذوا به، وذلك ما حرّفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.

ومنها: أن القرآن هاد من الضلالة إلى الحق والاستقامة والرشاد، ورحمة لمن صدّق به بما اشتمل عليه من الأدلة العقلية على التوحيد والبعث والنبوة وشرح صفات الله تعالى ونعوت جلاله، وبما انطوى عليه نظمه من سمو الفصاحة والبلاغة، حتى عجز البشر عن معارضته، مما يدل على أنه كلام الله المعجز الدال على صدق الرسالة النبوية. ثم ذكر الله تعالى دليل عدله، فهو سبحانه يقضي بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وهو العزيز أي المنيع الغالب الذي لا يردّ أمره، العليم الذي لا يخفى عليه شيء. ثم أمر الله تعالى نبيه بالتوكل على الله، أي تفويض أمره إليه واعتماده عليه، فإنه ناصره، لأنه على الحق المبين، أي الظاهر، ولأن هؤلاء الكفار أشبه بالموتى لتركهم التدبر، فلا حسّ لهم ولا عقل، وبمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون، وكالعميان الذين لا يميزون طريقهم، فهم تائهون حائرون، كما قال سبحانه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة 2/ 171] . ثم ذكر الله تعالى قاعدة عامة في مسيرة الدعوة للنبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وما تسمع إلا المستعد لقبول الحق، المهيأ للإيمان بآيات الله، المخلوق للسعادة، فهم مخلصون في التوحيد. أما الكافر المعاند المعرض عن آيات ربه فلا أمل في إيمانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس 10/ 96- 98] .

من أمارات القيامة ومقدماتها:

من أمارات القيامة ومقدماتها - 1- إخراج دابة الأرض وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله أمام ربهم [سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 86] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) الإعراب: أَنَّ النَّاسَ أَنَّ بالفتح: إما في موضع نصب مفعول به ل تُكَلِّمُهُمْ أي تخبرهم، أي تخبرهم أن الناس، وإما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، أي تكلمهم بأن الناس، وبِآياتِنا في موضع نصب متعلق ب يُوقِنُونَ أي كانوا لا يوقنون بآياتنا. ومن قرأ بالكسر: «إن» فعلى الابتداء والاستئناف. البلاغة: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه أسلوب التوبيخ والتأنيب. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فيه ما يسمى في علم البديع بالاحتباك، وهو أن يحذف من أوله ما أثبت في آخره وبالعكس، وبيانه هنا: جعلنا الليل مظلما

المفردات اللغوية:

ليسكنوا فيه، والنهار مبصرا ليتصرفوا فيه، فحذف «مظلما» لدلالة مُبْصِراً عليه، وحذف «ليتصرفوا فيه» لدلالة لِيَسْكُنُوا فِيهِ. المفردات اللغوية: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي إذا دنا أو قرب وقوع معنى القول وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب الذي ينزل بالكفار أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ كائنا حيا يدب على الأرض، وهو الجسّاسة تُكَلِّمُهُمْ تنبئهم وتخبرهم أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي أن أكثر الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله الدالة على مجيء الساعة، والله أعلم بحقيقة تلك الدابة، ولعلها إنسان عادي، والمهم الإخبار عن تكذيب الجم الغفير من الناس بوقوع القيامة. وَيَوْمَ أي واذكر يوم القيامة نَحْشُرُ نجمع مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من للتبعيض فَوْجاً جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا من للتبيين، وهم الرؤساء المتبعون يُوزَعُونَ يجمعون بمنع أولهم وإيقافه من أجل آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف المناقشة والحساب حَتَّى إِذا جاؤُ مكان الحساب أو المحشر قالَ تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ أنبيائي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال، أي أكذبتم بآياتي بادي الرأي، ولم تتأملوا بحقيقتها، ولم تنظروا نظرا يحيط علمكم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب، فمعنى: لم تحيطوا بها علما: لم تدركوا حقيقة كنهها. والواو للعطف، أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها؟ أي النظرة السطحية لها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك، وهو استفهام للتبكيت، إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل، وأما: فيه إدغام «ما» الاستفهامية ب «ذا» الموصول، أي ما الذي كنتم تعملون فيما أمرتم به؟ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حلّ بهم العذاب، وهو كبّهم في النار بعد ذلك بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم، وهو الشرك والتكذيب بآيات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ لا حجة لهم أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أَنَّا جَعَلْنَا خلقنا لِيَسْكُنُوا فِيهِ ليستريحوا فيه ويهدأوا مُبْصِراً يبصر فيه بضوئه أسباب المعيشة ليتصرفوا فيه، وجعل الإبصار للنهار وهو لأهله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على قدرة الله تعالى، وهي تدل على الأمور الثلاثة: التوحيد والحشر وبعثة الرسل لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصوا بالذكر لانتفاعهم بها في الإيمان لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص لا يكون إلا بقدرة قاهرة، وإن من قدر على إبدال الظلمة بالنور من مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة من مواد الأبدان.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى الدلائل على كمال قدرته وكمال علمه، وفرع على ذلك القول بإمكان البعث والحشر والنشر، ثم أوضح كون القرآن معجزا، ونبّه بإعجازه على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، أردف ما سبق ببيان مقدمات قيام القيامة، وهي إما كالعلامة للقيامة كإخراج دابة الأرض، وإما أن تقع عند قيام القيامة كنفخ الصور. وإنما أخر تعالى الكلام عن علامات القيامة عن إثبات النبوة، لأن هذه الأشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق. التفسير والبيان: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي أنه في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، واستحقاقهم العذاب الموعود به، وذلك قرب مجيء الساعة، يخرج الله للناس دابة من الأرض تحدثهم أن أكثر الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون. ولعل تلك الدابة هي إنسان كما قال بعض المفسرين الجدد لوصفها بالكلام ولأن كل ما يدب على الأرض فهو دابة. وسميت تلك الدابة في الآثار بالجسّاسة، وورد في شأنها أحاديث آحاد، منها ما رواه مسلم وأهل السنن عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غرفة، ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة

خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن، تسوق أو تحشر الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» . وأما موضع خروجها فهو: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم: من أين تخرج الدابة؟ فقال: «من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى، يعني المسجد الحرام» «1» . وبعد ذكر العلامة الأولى لقيام الساعة ذكر تعالى العلامة الثانية وهي: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً، مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا، فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً، أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ويوم نجمع يوم القيامة جماعة من رؤساء كل أمة من الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله، ونحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا في موقف الحشر والحساب، حتى إذا جمعوا ووقفوا بين يدي الله عز وجل للحساب والنقاش، فيقول الله لهم توبيخا وتبكيتا: أكذبتم بآياتي الدالة على لقاء هذا اليوم، غير ناظرين بما يحيطكم علما بحقيقة الآيات، وإذا لم تتأملوا فيها، فبماذا كنتم تشغلون أنفسكم أو تعملون فيها من تصديق أو تكذيب؟! فقوله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بمعنى: بل ماذا كنتم تعملون؟! وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا، فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أي وحينئذ يحل العذاب بأولئك المكذبين بآيات الله بسبب ظلمهم، أي تكذيبهم وكفرهم، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كما قال تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات 77/ 35] . ثم ذكر الله تعالى دليل التوحيد والحشر والنبوة، فقال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي ألم يعلم هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا خلقنا الليل للسكن والنوم

_ (1) انظر تفسير ابن كثير: 3/ 375 وما بعدها. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

والراحة والقرار بعد عناء التعب في النهار، وخلقنا النهار منيرا مشرقا للتصرف أو التقلب في المعايش والمكاسب والأسفار والتجارات وغيرها من شؤونهم التي يحتاجونها، إن في ذلك الخلق والإيجاد لدلالات على قدرة الله على البعث بعد الموت، للجزاء والحساب، وعلى توحيده، لقوم يصدقون بالله ورسله. فمن تأمل في تعاقب الليل والنهار والانتقال من حال شبيهة بالموت إلى حال الحركة والحياة، أدرك أن القيامة كائنة لا محالة، وأن الله سيبعث من في القبور. فقه الحياة أو الأحكام: إن مفاجات يوم القيامة وأهوالها كثيرة وغريبة ومذهلة، فمن مقدماتها: إخراج دابة من الأرض عند استحقاق العذاب تخبر بأن أكثر الناس كانوا لا يصدقون بآيات الله. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» . واختلف المفسرون في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا، قال القرطبي: أول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح عليه السلام، وهو أصحها- والله أعلم- لما ذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدابة فقال: «لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة، خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب، فارفضّ الناس منها شتّى ومعا..» الحديث.

وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله: «وهي ترغو» والرغاء إنما هو للإبل وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب، فانفتح له حجر، فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل «1» . ثم ذكر الله تعالى بعض الأمور الواقعة بعد قيام القيامة وهو حشر زمرة وجماعة من كل أمة، ممن يكذب بالقرآن وبالأدلة الدالة على الحق، فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب، وقال قتادة: أي يردّ أولهم على آخرهم، حتى إذا حضروا الموقف قال الله: أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دليلا على توحيدي، ولم تعلموا بحقيقتها، وإنما أعرضتم عنها مكذبين جاهلين غير مستدلين؟ ثم يقول لهم تقريعا وتوبيخا: ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها. ولكن وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم، فهم لا ينطقون، أي ليس لهم عذر ولا حجة. ثم أقام الله تعالى دليلا على البعث والتوحيد والنبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر، وهو خلق الليل للنوم والاستقرار، وخلق النهار المنير المشرق الذي يبصر فيه الناس الأشياء للحركة ونشاط الحياة وسعي الرزق، إن في ذلك لدلالات على قدرة الله وتوحيده وإمكانه الحشر لقوم يؤمنون بالله. أما وجه دلالته على التوحيد فهو أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور بدقة متناهية لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وأما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرة الله تعالى على هذا التقليب فهو قادر على القلب من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة، وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع الناس، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الناس منافع عظيمة، فما المانع من بعثتهم إلى الناس لتحصيل تلك المنافع؟

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 235.

- 2 - النفخ في الصور وتسيير الجبال [سورة النمل (27) الآيات 87 إلى 90] :

- 2- النفخ في الصور وتسيير الجبال [سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) الإعراب: وَيَوْمَ يُنْفَخُ.. يَوْمَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكر يوم ينفخ. صُنْعَ اللَّهِ منصوب على المصدر لأن ما قبله يدل أنه تعالى صنع ذلك، فكأنه قال: صنع صنعا الله، ثم أضاف المصدر إلى الفاعل. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ.. مَنْ شرطية مبتدأ، وفَلَهُ الجواب، خبر المبتدأ. وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ من قرأ «فزع» بالتنوين، كان (يوم) منصوبا بالمصدر، أو ب آمِنُونَ تقديره: وهم آمنون يومئذ من فزع ومن قرأ بغير تنوين كان (يوم) مجرورا بالإضافة، كقوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج 70/ 11] . أي أنه في حالة إضافة «فزع» تكسر ميم «يومئذ» وتفتح، وفي حال تنوين «فزع» تفتح ميم «يومئذ» . البلاغة: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ بينهما طباق. تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ تشبيه بليغ، أي تمر كمرّ السحاب في السرعة، حذفت فيه الأداة ووجه الشبه.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الصُّورِ البوق الذي ينفخ فيه، والمقصود هنا: النفخة الأولى من إسرافيل فَفَزِعَ خاف، والمراد هنا الخوف الشديد المفضي إلى الموت من الهول، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ألا يفزع بأن ثبّت قلبه، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ملك الموت. وعن ابن عباس: هم الشهداء إذ هم أحياء عند ربهم يرزقون وَكُلٌّ أَتَوْهُ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، أو راجعون إلى أمره، وتنوين كُلٌّ عوض عن المضاف إليه، أي وكلهم بعد إحيائهم يوم القيامة أتوه داخِرِينَ صاغرين، والتعبير ب أَتَوْهُ بالماضي لتحقق وقوعه. وَتَرَى الْجِبالَ تبصرها وقت النفخة تَحْسَبُها تظنها جامِدَةً ثابتة في مكانها لعظمها وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي في السرعة لأن الأشياء الكبار إذا تحركت في سمت واحد، فلا تكاد تتبين حركتها. وهنا شبهها بالسحب التي تسيرها الرياح صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، تقديره: صنع الله ذلك صنعا أَتْقَنَ أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ عالم بظواهر الأفعال وبواطنها، فيجازيهم عليها. بِالْحَسَنَةِ أي الإيمان والعمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي له ثواب بسببها وليس هذا للتفضيل، إذ لا فعل خير منها، وفي آية أخرى: عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ الفزع هنا: الخوف من العذاب، وهم: أي الفاعلون الحسنة وأما الفزع الأول في قوله فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ فهو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع، وهول يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به بِالسَّيِّئَةِ الإشراك بالله والمعاصي فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقيت منكوسة، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، وذكرت لأنها موضع الشرف من الحواس، فغيرها من باب أولى هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ما تجزون إلا جزاء عملكم من الشرك والمعاصي. وهذا القول المستفهم به للتبكيت. المناسبة: بعد ذكر العلامة الأولى لقيام القيامة وهي خروج الدابة للكلام والحديث، ذكر الله تعالى علامتين أخريين لقيام القيامة وهما النفخ في الصور، وتسيير الجبال، ثم ذكر أحوال المكلفين يوم القيامة وأنهم قسمان: المطيعون الأبرار الذين يعملون الحسنات، فيثابون خيرا منها ويأمنون الفزع من العذاب، والعصاة

التفسير والبيان:

الأشقياء الذين يعملون السيئات، فيكبّون على وجوههم في النار، جزاء عملهم. التفسير والبيان: العلامة الثانية- نفخ الصور: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي اذكر أيها الرسول للناس هول يوم نفخة الفزع في الصور، وهو كما جاء في الحديث: قرن ينفخ فيه، إذ يخاف جميع من في السموات ومن في الأرض خوفا شديدا، يؤدي بهم إلى الموت إلى من شاء ربك، بأن ثبت قلبه فلا يخاف، وهم بعض الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل: هم الشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون. وهناك نفختان: نفخة الفزع في هذه الآية وهي النفخة الأولى، ونفخة الصعق (أي الموت) المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر 39/ 68] والنفخة الثانية: نفخة البعث التي في تتمة الآية السابقة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وفي آية أخرى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس 36/ 51] . وفي حديث الصور: إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع من في السموات ومن في الأرض. فالنفخ إذن مرتان: مرة ليموت الكل إلا من شاء الله، ومرة ليحيي الكل للحساب، ومن استثني أولا يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي وكل واحد من الخلائق يأتون إلى الموقف بين

العلامة الثالثة - تسيير الجبال:

يدي الله للسؤال والحساب أذلاء صاغرين، صغار ذل إن كانوا كفارا، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين، لا يتخلف أحد عن أمر ربه، كما قال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم 19/ 93] وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء 17/ 52] وقال: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم 30/ 25] وقال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج 70/ 43] . العلامة الثالثة- تسيير الجبال: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وتنظر إلى الجبال فتراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تزول بسرعة عن أماكنها، وتسير كما يسير الغمام بتأثير الرياح، لأن الجسم الكبير إذا تحرك برتابة لا تكاد حركته تبين، كما قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً [الطور 52/ 9- 10] وقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف 18/ 47] وقال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 20] وقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 105- 107] . وتسير الجبال- وإن دكت عند النفخة الأولى- يحدث بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، ليشاهدها أهل المحشر، فيبدل الله الأرض غير الأرض والسموات، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم 14/ 48] . وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة، لكن الظاهر أن ذلك في الآخرة لأن الكلام هنا عن يوم القيامة. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي ذلك الصنع هو فعل الله بقدرته

العظيمة، الذي أحكم كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ هذا علة النفخ في الصور والبعث للحساب والجزاء، أي إن الله تعالى عليم بما يفعل عباده من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء. ثم بيّن الله تعالى حال المكلفين السعداء والأشقياء بعد قيام القيامة فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ أي من جاء مؤمنا بالله وحده لا شريك له، عاملا الصالحات، فله على ذلك الثواب الجزيل عند ربه في جنات النعيم، يأمن من الفزع الأكبر، وهو الخوف من عذاب القيامة، كما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء 21/ 103] وقال سبحانه: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فصلت 41/ 40] وقال عز وجل: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ 34/ 37] . والحسنة: الإيمان والعمل الصالح، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة: هي لا إله إلا الله. وخَيْرٌ هنا ليس أفعل تفضيل، فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله، كما قال عكرمة، وإنما المراد مضاعفة الثواب ودوامه لأن العمل ينقضي، والثواب يدوم، فالخير: الثواب، وقيل: للتفضيل، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله. ومَنْ لابتداء الغاية أي له خير من الخيور، مبدؤه ونشوؤه منها أي من جهة هذه الحسنة. وقد رتب الله على مجيء المكلف بالحسنة شيئين: الثواب والأمن من العذاب. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ومن أشرك بالله وارتكب المعاصي، ومن لقي الله مسيئا لا حسنة له، أو قد رجحت سيئاته على حسناته، كل بحسبه، فيلقى في النار، ويقال لهم أي للكفار والعصاة: هل هذا إلا جزاء عملكم في الدنيا من شرك ومعصية؟

فقه الحياة أو الأحكام:

ويلاحظ أن هذه الآيات كلها في قمة البلاغة والفصاحة والإيجاز المفيد معاني عديدة متلاحقة، قال الزمخشري: فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن تنظيمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوي، وأخرس الشّقاشق «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن نفخ إسرافيل في الصور نفخة مرعبة وهي النفخة الأولى ونفخة الصعق يموت من رعبها الخلائق كلهم إلا من شاء ربك من الملائكة أو الناس. وهي العلامة الثانية لقيام القيامة. قال القرطبي: والصحيح في الصور: أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل. قال مجاهد: كهيئة البوق. والصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان، لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما ترجع إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما، أي فزعوا فزعا ماتوا منه، ثم تأتي نفخة البعث وهي النفخة الثانية التي يحيى بها العباد ليجتمعوا في أرض الجزاء «2» . ولا يتخلف أحد من الخلائق من عهد آدم إلى قيام الساعة عن المثول حيا أمام الله تعالى، لقوله سبحانه: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي ذليلين صاغرين. 2- وبعد قيام القيامة وبعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق يحدث تسيير الجبال من أماكنها، ثم تتلاشى وتتبدد كالعهن، أي الصوف المندوف. يقال: إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة، ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها،

_ (1) الكشاف: 2/ 463، والشقاشق: الخطباء الماهرون في الكلام، جمع شقشقة وهي في الأصل لهاة البعير. (2) تفسير القرطبي: 13/ 240.

وإبراز ما كانت تواريه فأول الصفات: الاندكاك، وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش وذلك إذا صارت السماء كالمهل (أي الزيت المذاب) وقد جمع الله بينهما فقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج 70/ 8- 9] . والحال الثالثة: أي تصير كالهباء، وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن. والحال الرابعة: أن تنسف، والحال الخامسة: أن الرياح ترفعها على وجه الأرض، فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، والحال السادسة: أن تكون سرابا «1» . 3- إن تغيير معالم الأرض من جبال وغيرها، وتبديد السموات وغير ذلك من فعل الله الذي أتقن بصنعه كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع. 4- الناس صنفان يوم القيامة: سعداء وأشقياء، فالسعداء: هم المؤمنون الذين عملوا الأعمال الصالحة، وهؤلاء لهم الثواب الجزيل، والأمن من عذاب الله. والأشقياء: هم الكفار والمشركون والعصاة الذين ارتكبوا في الدنيا السيئات، وهؤلاء يطرحون في النار على وجوههم، ويقال لهم: هل هذا إلا جزاء أعمالكم؟ والثواب الممنوح من الله للسعداء وهو الخير اسم جنس، فسر بمضاعفته بعشرة أمثاله في آية أخرى، فإن الله تعالى يعطي بالحسنة الواحدة عشرا، أما جزاء السيئة فلا يضاعف فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام 6/ 160] .

_ (1) المرجع السابق: 242- 243.

الاشتغال بعبادة الله وحمده وتلاوة القرآن [سورة النمل (27) الآيات 91 إلى 93] :

الاشتغال بعبادة الله وحمده وتلاوة القرآن [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) المفردات اللغوية: هذِهِ الْبَلْدَةِ مكة، وتخصيصها بهذه الإضافة: إضافة رَبَّ إليها تشريف لها وتعظيم لشأنها. الَّذِي حَرَّمَها أي الله الذي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم الإنسان، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها (عشبها الرطب) وذلك من نعم الله على قريش حيث رفع عن بلدهم العذاب والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب. وقرئ: التي حرمها. وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا، فهو ربه وخالقه ومالكه. مِنَ الْمُسْلِمِينَ لله بتوحيده، أي المنقادين الثابتين على ملة الإسلام. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي وأن أواظب على تلاوته لينكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا، وأتلوه أيضا عليكم تلاوة الداعية إلى الإيمان. لِنَفْسِهِ لأجلها، فإن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ المخوفين قومهم من عذاب الله، فليس علي إلا التبليغ. الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها يريكم آياته القاهرة في الدنيا كوقعة بدر، أو في الآخرة، فتعرفون أنها آيات الله، ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي إنما يمهلهم لوقتهم، فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أحوال المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة، وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب، أمر رسوله بهذه الخاتمة اللطيفة بأن يقول

التفسير والبيان:

للمشركين هذه المقالة، مبينا لهم أنه قد أتم أمر الدعوة، وقد كملت، ولم يبق عليه إلا الاشتغال بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحمده وشكره على نعمه العظمى، وبتلاوة القرآن، أي أن مهمة إعلان الدعوة من جانبه انتهت، وبقي عليهم التفكير في الاستجابة لهذه الدعوة، وتدبر آي القرآن التي تكفي في إرشادهم، وأنها إن لم تفدهم فقد أفادته، فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها، فإني مصرّ عليها، غير مرتاب فيها. التفسير والبيان: قل: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها أي قل لهم أيها الرسول: إنما أمرت أن أعبد رب مكة الذي حرمها على الناس، فجعلها شرعا وقدرا حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر طيرها، ولا يخوّف فيها خائف، يجبى إليها ثمرات الدنيا من كل ناحية. وخص مكة بالذكر تشريفا لها، لأن أول بيت وضع للعبادة كان فيها، كما قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش 106/ 3- 4] . وفي هذا توبيخ لأهل مكة على ترك عبادة الله، والاتجاه نحو عبادة الأصنام. ونظير الآية: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي، فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [يونس 10/ 104] . وقد أبان النبي صلّى الله عليه وسلم مظاهر تحريم مكة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد

شوكة، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاها» أي عشبها الرطب. وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي له تعالى كل شيء خلقا وملكا وتصرفا، دون أي شريك، وهذا من عطف العام على الخاص، أي هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه، لا إله إلا هو. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرني ربي أن أكون من الموحّدين، المخلصين، المنقادين لأمره، المطيعين له. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي وأمرني ربي أن أتلو القرآن على الناس، وأن أتلوه وحدي ليل نهار، لتتكشف لي أسراره، وأتعرف دائما على أدلة الكون المودعة في آياته، فيزداد إيماني، وتشرق نفسي. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتدى إلى الحق والإيمان فإنما يهتدي لأجل نفسه، ومن آمن برسالتي واتبعني فقد رشد، وأمن عذاب ربه. وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي ومن ضل وأخطأ طريق الحق والإيمان والرشاد، وكذب بدعوتي وبما جاءني من عند الله وهو القرآن، فعليه وزر ضلاله، وإنما أنا من المنذرين المخوفين قومهم عذاب الله، وليس علي إلا الإنذار والتبليغ، وقد أديت المهمة وأبلغتكم ما يوحى إلي، وخلصت من العهدة، وحسابكم على الله، كما قال تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود 11/ 12] . وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها أي وقل أيها الرسول: لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإنذار إليه، ولله الحمد على ما أنعم على من نعمة النبوة، وعلى ما علّمني ووفقني لتحمل أعباء الرسالة

فقه الحياة أو الأحكام:

والعمل بما أنزل علي، وإنه سبحانه سيريكم آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته وأمارات عذابه وسخطه، ويتبين لكم صدق دعوتي، فتعرفون كل ذلك، ولكن حين لا ينفعكم الإيمان. ونظير الآية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت 41/ 53] . وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل عما يعمله المشركون وغيرهم، بل هو شهيد على كل شيء، ولكن يؤخر عذابهم إلى أجل على وفق إرادته وحكمته. وهذا تقرير لما سبق من الوعد والوعيد، وتبشير للنبي بأن الله ناصره ومخزي أعدائه الكافرين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس لا يغترنّ أحدكم بالله، فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرّة» . وروى أيضا عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم. فقه الحياة أو الأحكام: أمر النبي صلّى الله عليه وسلم ومثله أمته في هذه الآيات بأوامر ثلاثة هي: 1- تخصيص الله وحده بالعبادة دون اتخاذ شريك له. ووصف الله نفسه بأمرين: أحدهما- أنه رب هذه البلدة أي مكة، واختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لها، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. وقد حرمها لتحريمه فيها أشياء على من يحج، ولأن اللاجئ إليها آمن،

ولأنه لا ينتهك حرمتها إلا ظالم، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها. والثاني- وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا وتصرفا، فهو خالق لجميع النعم، ومالك جميع من في الكون، ومتصرف بملكه كما يشاء، جلّ جلاله. 2- أن يكون من المسلمين: أي المنقادين لأمره، الموحّدين له. 3- أن يتلو القرآن، أي يقرأه لنفسه وعلى الناس لتبليغهم إياه. فمن اهتدى في هذه الأصول الثلاث المقررة في هذه السورة وهي التوحيد والحشر والنبوة فله ثواب هدايته، ومنفعة اهتدائه راجعة إليه، ومن ضل أو انحرف عن هذه الأصول، فما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين، وما هو إلا رسول منذر من جملة المنذرين، أي المخوفين قومهم من العذاب. ثم ختم تعالى السورة بهذا التوجيه الحميد لرسوله صلّى الله عليه وسلم ولكل مؤمن وهو أن يحمد الله على نعمه وعلى هدايته، والله تعالى سيري خلقه آياته في أنفسهم وفي غيرهم، فيعرفون بها دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسهم وفي السموات وفي الأرض، كقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات 51/ 20- 21] . والله شهيد على كل شيء، وليس هو بغافل عما يعمله الخلائق أجمعون، فيجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

سورة القصص:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القصص مكية، وهي ثمان وثمانون آية تسميتها: سميت سورة (القصص) لما فيها من البيان العجيب لقصة موسى عليه السلام من حين ولادته إلى حين رسالته، التي يتضح فيها أحداث جسام، برز فيها لطف الله بالمؤمنين وخذلانه الكافرين. ثم ذكر فيها قصة قارون من قوم موسى المشابهة للقصة الأولى في تقويض أركان الطغيان، طغيان السلطة عند فرعون، وطغيان المال عند قارون. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لسورتي النمل والشعراء في أنها تفصيل لما أوجز فيهما من قصة موسى عليه السلام، مبتدئا ببيان استعلاء فرعون وظلمه، وذبحه أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم، خوفا عليه من الذبح، ثم انتشال فرعون له وتربيته في قصره عنده إلى سن الشباب، حيث حدثت حادثة قتله القبطي، التي استوجبت فراره من مصر إلى مدين، وزواجه بابنة شعيب عليه السلام، ثم مناجاته ربه وبعثه إياه رسولا، وما تبع ذلك. كذلك فصلت هذه السورة موقف القرآن من توبيخ المشركين على إنكارهم يوم القيامة، من خلال الإخبار بإهلاك الكثيرين من أهل القرى بسبب ظلمهم، والتساؤل عن شركاء الله يوم القيامة وما يدور بينهم وبين عبدتهم من

ما اشتملت عليه السورة:

نقاش انتهى بتبرئهم من عبادتهم، وإيراد الأدلة المتضافرة لإثبات قدرة الله على الخلق والإيجاد والبعث والإعدام. كما أن هناك ربطا من وجه آخر بين سورتي النمل والقصص، فقد أوجز هنا ما فصّل في السورة المتقدمة من إهلاك قوم صالح وقوم لوط، ومن بيان مصير من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة. ما اشتملت عليه السورة: تلتقي هذه السورة مع ما سبقها من سورتي الشعراء والنمل في بيان أصول العقيدة: التوحيد والرسالة والبعث في ثنايا قصص الأنبياء، وإيضاح الأدلة المثبتة لهذه الأصول في قضايا الكون وعجائبه البديعة ونظمه الفريدة. وكان الطابع الغالب على هذه السورة تبيان قصة موسى مع فرعون التي تمثل الصراع بين طغيان القوي وضعف الضعيف، لكن الأول على الباطل والثاني على الحق، وأعوان الباطل هم جند الشيطان وأعوان الحق هم جند الرحمن. كان فرعون معتمدا على سلطانه وقوته وثروته، فطغى وبغى، واستعبد شعب بني إسرائيل، وزاد في غلوه أنه ذبح الأبناء، واستحيا النساء، وادعى الربوبية ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] وأفسد في الأرض. واستوجب ذبح الأطفال إلقاء موسى في اليم، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه، ثم تربيته في قصر فرعون، إلى أن بلغ أشده وصار رشيدا قويا، فقتل قبطيا قتلا خطأ، فهرب من مصر إلى أرض مدين، فتزوج بابنة شعيب عليه السلام، ومكث راعيا ماشيته عشر سنين، ثم عاد إلى مصر، فناجى ربه في الطور، وأيده الله بمعجزات أهمها معجزة العصا واليد، فبلغ رسالة ربه، لكن كذبه فرعون وقومه علوا واستكبارا، فأغرقهم الله في البحر.

وذلك شبيه بإنكار قريش نبوة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم مع ما جاءهم به من الحق، فوصفوه بالسحر المفترى، وتنكروا للإيمان برسالته بأعذار واهية، فأنذرهم القرآن بعذاب مماثل لقوم فرعون، وأبان لهم أن الله لا يعذب قوما إلا بعد إرسال رسول إليهم، وأن الرسول باختيار الله تعالى لا بحسب أهواء المشركين، وأن آلهتهم المزعومة ستتبرأ من عبادتهم يوم القيامة، وأن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له، وأنه القادر على بعث الأموات، كما قدر على بدء الخلق، وإيجاد تعاقب الليل والنهار. وسيشهد الأنبياء على أممهم بتبليغ رسالات ربهم، وقد آمن جماعة من أهل الكتاب، وسيعطون أجرهم مرتين، وأن الهداية بيد الله تعالى، لا بيد رسوله، فلن يتمكن من هداية من أحب. وأعقب ذلك بقصة مشابهة هي قصة قارون من قوم موسى واعتماده على طغيان الثروة والمال كاعتماد فرعون على طغيان السلطة والحكم، فكان مصيره أشأم من مصير فرعون وهو الخسف به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين. وكل من خبر القصتين برهان قاطع على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يكن حاضرا معهم، ولم يتعلم ذلك من معلم. وختمت القصتان بإعلان مبادئ: أولها- أن ثواب الآخرة يكون للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. وثانيها- أن الإيمان بالله وباليوم الآخر هو طريق السعادة الموجب لمضاعفة الحسنات ومقابلة السيئات بجزاء واحد، وتحقيق النصر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على أعدائه، وعودته إلى مكة فاتحا بعد تهجيره منها.

قصة موسى عليه السلام:

وثالثها- بيان نهاية العالم كله وهي الهلاك الشامل، وانفراد الله تعالى بالبقاء والدوام، والحكم والحساب، ورجوع البشر كافة إليه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ونحوها: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 25- 26] . قصة موسى عليه السلام - 1- نصرة المستضعفين [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) الإعراب: وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أَهْلَها وشِيَعاً مفعولا جَعَلَ لأنه بمعنى (صيّر) . يَسْتَضْعِفُ الجملة حال من فاعل جَعَلَ أو صفة شِيَعاً أو استئناف كلام جديد. ويُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ... بدل منه. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً الهاء والميم مفعولا (جعل) لأنه بمعنى (صيّر) . وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ فرعون وما عطف عليه: مفعول أول ل نُرِيَ وهو من رؤية البصر، وهو في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد، فلما تعدى بالهمزة صار متعديا إلى مفعولين، والمفعول الثاني هو: ما كانُوا يَحْذَرُونَ.

البلاغة:

البلاغة: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الإشارة بالبعيد عن القريب لبعد مرتبة القرآن في الكمال. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا نُرِيدُ حكاية حال ماضية لاستحضار تلك الصورة في الذهن لأن ذلك معطوف على جملة إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ من حيث إنهما واقعان تفسيرا للنبأ. وإرادة المنة بخلاصهم من فرعون هي في المستقبل، فلا يمنع ذلك إرادة استضعافهم في الماضي، ولما كانت الإرادة الأولى قريبة الوقوع من الثانية جعلت كالمقارنة لها. المفردات اللغوية: طسم تقرأ: طا، سين، ميم، بمد السين والميم وإدغام النون في الميم. وهذه الحروف المقطعة وأمثالها كما بينا مرارا للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية، فكون العرب أساطين البيان، وفرسان الفصاحة والبلاغة، عجزوا عن معارضته، دليل على أنه فوق مستوى البشر، وأنه من لدن حكيم حميد، إله الكون أجمعين. تِلْكَ هذه الآيات. آياتُ الْكِتابِ الإضافة بينهما بمعنى (من) . الْمُبِينِ المظهر الحق من الباطل. نَتْلُوا نقرؤه بقراءة جبريل، ويجوز أن يكون بمعنى (ننزله) مجازا. نَبَإِ خبر مهم، وقوله: مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ معناه بعض نبئهما. بِالْحَقِّ الصدق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأجلهم، وخص المؤمنون لأنهم المنتفعون به. عَلا تجبر واستكبر، وقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر: استئناف مبين لذلك البعض، أي بعض خبر موسى وفرعون. شِيَعاً فرقا وأصنافا يستخدمهم في أعماله من بناء وحفر وحرث ونحو ذلك من مشاق الأعمال، ويؤلب بعضهم على بعض، زارعا بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا. يَسْتَضْعِفُ يجعلهم ضعفاء مقهورين، وهم بنو إسرائيل. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ المولودين. وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ يبقي نساءهم أحياء، وسبب هذا الفعل أن كاهنا قال لفرعون: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده، وذلك كان من غاية حمقه، فإنه لو صدّق لم يندفع الأمر بالقتل، وإن كذب فما الداعي لما فعل؟! إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بالقتل وغيره، فاجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد. أَنْ نَمُنَّ نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه. أَئِمَّةً قادة يقتدى بهم في الخير في أمر الدين والدنيا. وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ملك فرعون وقومه. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر والشام، والتمكين: يراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها. وَهامانَ وزير فرعون. ما كانُوا يَحْذَرُونَ يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: طسم بيّنت المراد بهذه الحروف في المفردات. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه آيات من الكتاب الواضح الجلي الكاشف لحقائق أمور الدين، وما كان وما يكون. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه حقا وصدقا كأنك تشاهد، وكأنك حاضر، من أجل قوم يصدقون برسالتك وبما أنزل إليك من ربك، فتطمئن به قلوبهم، كقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف 12/ 3] . وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شيئا أو بعضا من قصة موسى وفرعون، للعبرة والعظة، وإقامة الدليل على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن العظيم وحي يوحى، وليس من وضع البشر. وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أن القرآن للناس أجمعين للإشارة إلى أن الانتفاع به لا يكون إلا لمن صدق بأنه كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي إن فرعون ملك مصر تجبر في أرضها واستكبر، وبغى وطغى وقهر أهلها. وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي جعل أبناء مصر فرقا وأحزابا مختلفة، وسخر كل طائفة في مصالحه العمرانية والزراعية وغير ذلك من أمور دولته، وبذر بينهم بذور الفتنة والعداوة والبغضاء، حتى لا يتفقوا، أخذا بسياسة المستعمر: «فرّق تسد» . وهذا مضاد لسياسة الإسلام- بالمعنى العام- والهدي الإلهي كله القائم على التأليف والجميع على قلب واحد، وإشاعة روح المحبة والتسامح والود والوئام

والصفاء بين الرعية، وهذا في الواقع هو المبدأ الأمثل الذي يريح الحاكم، ويقوّي الأمة، ويبني أمجادها، ويحقق لها الانتصارات المتلاحقة. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يجعل جماعة منهم أذلة مقهورين، وهم بنو إسرائيل. ومظاهر الاستضعاف هي: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي يقتل مواليدهم الذكور، ويبقي إناثهم أحياء، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من وجود غلام منهم كان فرعون وأهل مملكته قد تخوفوا من ظهور غلام منهم يكون سبب هلاكهم وذهاب دولتهم على يديه، وذلك لأن الكهنة قالوا له: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال المنجّمون له ذلك، أو رأى رؤيا، فعبّرت كذلك. قال الزجّاج: العجب من حمقه، لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر، فيقتل بلا ذنب، وينشر الرعب والإرهاب بلا مسوغ، وهذا شأن الظلمة العتاة الذين يستبد القلق والاضطراب في نفوسهم، فيرتكبون مثل هذه الفظائع. ولو شعروا يوما أو أكثر بالطمأنينة والراحة، ونشر عليهم الإيمان أجنحته وظلاله الوادعة، لعاشوا في استقرار وأمان، ولم يعيثوا في الأرض فسادا، ولما احتاجوا إلى مثل هذا العسف والظلم المؤذن بدمارهم. وبعد أن ذكر تعالى هذه الصفات الخمس الذميمة للعتاة وهي الاستعلاء في الأرض، والاستضعاف، وقتل الأبناء، وإبقاء الإناث، والإفساد، ذكر في مقابلها خصائص خمسا للمستضعفين من بني إسرائيل وهي: إنقاذهم من الظلم، وجعلهم القادة بعد فرعون وقومه، وجعلهم ورثة مصر والشام، وجعل السلطة لهم فيها، وإظهار ما كان يحذره فرعون وهامان وجنودهما من دمارهم وذهاب

ملكهم على يد بني إسرائيل، فقال تعالى: 1- وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ أي وأردنا التفضل والإنعام على المستضعفين من بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وأذلهم بتخليصهم من بأسه، وإنقاذهم من ظلمه. وتساءل الزمخشري بقوله: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم، وإذا أراد الله شيئا كان، ولم يتوقف إلى وقت آخر؟ ثم أجاب عنه بأنه لما كانت منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم. 2- وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي ونجعلهم قادة وولاة وحكاما متقدمين في الدين والدنيا. 3- وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ الذين يرثون ملك فرعون وأرضه وما في يده، كقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] وقوله سبحانه: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء 26/ 59] . 4- وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نجعل لهم السلطة وإنفاذ الأمر وإطلاق الأيدي في أرض مصر والشام. 5- وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي نجعلهم يبصرون ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل. وقد أنفذ الله أمره، وحقق حكمه، بأن جعل دمار فرعون وقومه على يد من رباه وأنشأه على فراشه وفي داره، وعلى سفرته وطعامه بعد أن جعله الله رسولا وأنزل عليه التوراة ليعلم أن رب السموات والأرض هو القاهر الغالب على أمره، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

فقه الحياة أو الأحكام:

والواضح أن هذه الخصائص تكون ما دام بنو إسرائيل عاملين بأصل شريعتهم وبكتابهم المنزل غير المبدل ولا المحرف، والذي فقد ولم يعد له وجود، ومضمون التوراة في الوضع الأصلي يلتقي مع مضمون القرآن، فإذا ما انحرفوا عن العقيدة الصحيحة والشريعة المنزلة، زالت عنهم هذه الخصائص. فقه الحياة أو الأحكام: تبين من الآيات ما يأتي: 1- القرآن العظيم أبان الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ولا ينتفع من هديه إلا القوم المصدقون به، الذين يعلمون أنه من عند الله. 2- يجب اجتناب الاستعلاء في الأرض، والتعزز بكثرة الأتباع، وهما من سيرة فرعون وقارون. وكانت قصتهما حجة على مشركي قريش وأمثالهم، فكما أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، فكذلك قرابة قريش لمحمد صلّى الله عليه وسلم. 3- كان علو فرعون وتجبره من كفره، وكانت ممارسات ظلمه وعتوه كثيرة متنوعة، فكان يستذل طائفة من بني إسرائيل، يذبح أطفالهم الذكور، ويترك الإناث أحياء، إهانة لهم واحتقارا، وكان من البغاة المفسدين في أرض دولته. والظلم والكبرياء سبيل الدمار والهلاك، فأهلكه الله، ونجّى بني إسرائيل من العسف والطغيان. 4- كافأ الله المستضعفين من بني إسرائيل، وشأنه دائما الرفق بالضعفاء، فأنقذهم من بأس فرعون، وجعلهم ولاة وملوكا، كما قال تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة 5/ 20] ، وورّثهم ملك فرعون فسكنوا مساكن القبط المصريين، كما قال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الأعراف 7/ 137] ، وأقدرهم على أرض مصر والشام وأهلها، فاستولوا عليها، وأراد

- 2 - إلقاء موسى في اليم بعد ولادته وإرضاعه والبشارة بنبوته [سورة القصص (28) الآيات 7 إلى 14] :

أن يري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافون من تدمير ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل، فلم يفده قتل الألوف من الأولاد الأبرياء، وتحقق مراد الله تعالى، فهو النافذ الحكم والسلطان على الإطلاق. - 2- إلقاء موسى في اليم بعد ولادته وإرضاعه والبشارة بنبوته [سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 14] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِأَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

الإعراب:

الإعراب: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ.. اللام في لِيَكُونَ يسميها البصريون لام العاقبة، أي كان عاقبة التقاطهم العداوة والحزن، وإن لم يكن التقاطهم له لهما. ويسميها الكوفيون لام الصيرورة، أي صار لهم عدوا وحزنا، وإن التقطوه لغيرهما. قُرَّتُ عَيْنٍ.. إما خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة عين، وإما مبتدأ، وخبره: لا تَقْتُلُوهُ. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الجملة حال من الملتقطين. إِنْ كادَتْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي إنها. بَلَغَ أَشُدَّهُ إما جمع شدّة كنعمة وأنعم، وإما جمع شدّ، نحو قدّ وأقدّ، وإما واحد مفرد، وليس في الأسماء المفردة ما هو على وزن أفعل إلا «أصبغ» و «آجر» و «أيمن» وآنك: وهو الرصاص المذاب الخالص. البلاغة: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ عبر بالجملة الاسمية عن الفعلية: سنرده ونجعله، للاعتناء بالبشارة لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار. أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها استعارة، شبه ما ألقى في قلبها من الصبر بربط الشيء خشية ضياعه، مستعيرا لفظ الربط للصبر. لا تَقْتُلُوهُ خاطبت امرأة فرعون زوجها بصيغة الجمع بدل صيغة المفرد «لا تقتله» للتعظيم. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ توافق الفواصل من المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: وَأَوْحَيْنا وحي إلهام، مثل وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل 16/ 68] أو وحي منام. أَنْ أَرْضِعِيهِ ما أمكنك إخفاؤه. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بأن يحسّ به أحد. الْيَمِّ البحر أي النيل. وَلا تَخافِي غرقه. وَلا تَحْزَنِي لفراقه، والخوف: غم لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن: غم يحدث بسبب مكروه حصل. إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب بحيث تأمنين

عليه. وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ بشارة بالرسالة والنبوة. فأرضعته ثلاثة أشهر، ولما ألح فرعون في طلب المواليد وأرسل الجواسيس للبحث، وضعته في تابوت مطلي بالقار من الداخل، وألقته في بحر النيل ليلا. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط: أخذ الشيء فجأة من غير طلب له ولا إرادة. أي التقط أعوان فرعون التابوت صبيحة الليل، ووضعوه بين يديه، ففتحه وأخرج موسى منه. لِيَكُونَ لَهُمْ في عاقبة الأمر. عَدُوًّا ينقض لهم جذور تدينهم. وَحَزَناً يزيل ملكهم، وحزن: اسم فاعل من حزن كأحزن، وقرئ «حزنا» . وَهامانَ وزير فرعون. خاطِئِينَ آثمين عاصين، من الخطيئة وهي هنا الشرك، مأخوذ من خطئ: تعمد الخطأ. أما أخطأ: فمعناه لم يصب، بغير تعمد. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وقد همّ مع أعوانه بقتله. قُرَّتُ عَيْنٍ أي هو قرة عين، أي مصدر فرح وسرور، يقال: قرّت به العين، أي فرحت وسرّت. لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع. أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبناه، فإنه أهل له. هُمْ لا يَشْعُرُونَ أي والحال أنهم لا يشعرون بعاقبة أمرهم معه، وأنهم مخطئون في التقاطه وفي طمع النفع منه. وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من العقل، لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون عدو بني إسرائيل، مثل قوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم 14/ 43] أي لا عقول فيها. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لتظهر بأنه ابنها. أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بالصبر، أي سكّناه وثبتناه. لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بوعد الله. وجوابدل عليه ما قبله. قُصِّيهِ اقتفي أثره وتتبعي خبره حتى تعلمي مصيره. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي أبصرته عن بعد اختلاسا. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يدرون أنها أخته وأنها ترقبه. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ قبل رده إلى أمه، أي منعناه أن يرتضع من المرضعات، فلم يقبل ثدي واحدة من المراضع المحضرة له. فَقالَتْ أخته. هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يتكفلون أو يضمنون إرضاعه والقيام بشؤونه لأجلكم. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائه. وَلا تَحْزَنَ حينئذ بفراقه. وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لتعلم علم مشاهدة أن وعد الله برده إليها صدق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون بهذا الوعد، ولا بأن هذه أخته وهذه أمه، فمكث عندها إلى أن فطمته، ثم تربى عند فرعون. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ غاية نموه، وهو مفرد جاء على وزن الجمع، وبلوغ الأشد: من ثلاثين إلى أربعين سنة، فإن العقل يكمل حينئذ. وَاسْتَوى اكتملت أو نضجت قواه الجسدية والعقلية

التفسير والبيان:

ببلوغ أربعين سنة. آتَيْناهُ حُكْماً حكمة أي معرفة أسرار الشريعة. وَعِلْماً فقها في الدين. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزيناه نجزي المحسنين لأنفسهم. التفسير والبيان: بعد بيان منة الله على بني إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون في قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ابتدأ تعالى بذكر أوائل نعمه عليهم فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أي وألهمنا أم موسى إرضاعه ما أمكنها إخفاؤه عن العدو، فأرضعته ثلاثة أو أربعة أشهر كما يقال. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي أي فإذا خفت عليه من القتل بسبب سماع أحد من الجيران صوته، فألقيه في بحر النيل، ولكن لا تخافي عليه حينئذ من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض جواسيس فرعون الذين يبحثون عن الولدان، وغير ذلك من المخاوف، ولا تحزني لفراقه. وهكذا طمأنها الحق تعالى عن مخاوفها وهواجسها الجديدة بعد إلقائه في البحر، بإلقاء الأمان والسكينة في قلبها لأن عناية الله ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله منذ بدء الحمل وفي عهد الطفولة. وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتا، ومهدت فيه مهدا، فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وألقته في النيل، فذهب مع الماء واحتمله على سطحه، حتى مرّ به على دار فرعون، فالتقطه الجواري وذهبن به إلى امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، فلما كشفت عنه، أوقع الله محبته في قلبها، فآثرت الإبقاء عليه، ولم تزل تكلم فرعون حتى تركه لها. إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي إنا سنرده عليك لتكوني أنت المرضعة له، وسنجعله نبيا مرسلا إلى أهل مصر والشام.

وقد جمعت هذه الآية الواحدة بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين والأمران: هما أرضعيه وألقيه، والنهيان: هما وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي، والخبران: هما إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ، والبشارتان: في ضمن الخبرين، وهما الرد والجعل من المرسلين. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي فأخذه أهل فرعون، لتكون عاقبة أمره أن يكون عدوا لهم بمجاهدته بمخالفة دينهم، وموقعا لهم في الحزن بإغراقهم وزوال ملكهم. ولام لِيَكُونَ لام العاقبة، وليست لام التعليل لأنهم لم يريدوا قطعا بالتقاطه ذلك، ولكن الله جعل دمارهم بما صنعت أيديهم، فالتقطوه وربوه، ليكون في نهاية أمره سببا لمأساتهم وتحقق ما توقعوه من زوال ملكهم. قال الرازي: واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب الكشاف وهو أن هذه اللام هي لام التعليل، على سبيل المجاز دون الحقيقة لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره، فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه، فإن اتخاذه عدوا لم يكن سبب التقاطهم له، ولكن شبهت المحبة والتبني بالسبب الذي يؤدي إلى الفعل، ويفعل الفعل لأجله، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع. وسبب ذلك على يد موسى عليه السلام هو ما قاله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي إن هؤلاء كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم الله بأن ربّى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، فهو من الخطيئة أي الإثم، ويصح أن يكون من الخطأ فإنهم كانوا مخطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم. قال الحسن البصري: معنى كانُوا خاطِئِينَ ليس من الخطيئة، بل المعنى: وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم.

أما جمهور المفسرين فقالوا: معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، كما ذكرنا. وأما سبب عدم قتله فهو تشفع امرأة فرعون له، فقال تعالى: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ أي قالت زوجة فرعون له: هو قرة عين لنا أي يكون لنا سلوى، وتقرّ به عيوننا، وتفرح به نفوسنا، فلا تقتلوه، لأن الله تعالى ألقى عليه المحبة، فكان يحبه كل من شاهده عليه السلام، كما قال سبحانه: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه 20/ 38- 39] . وكما هو مصدر سرور وسكن وسلوى قد يكون نافعا: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لعله يكون سببا للنفع والخير، لما رأيت فيه من مخايل اليمن وأمارات النجابة، أو نتخذه ولدا ونتبناه، لما يتمتع به من الوسامة والجمال، ولم يكن لها ولد من فرعون، فحقق الله أملها بأن هداها به وأسكنها الجنة بسببه، ولكن لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم بسببه وعلى يده، وأنه سيظهر على يديه من الحكمة والحجة ومعجزة النبوة ما سيكون سببا في تكذيبهم له، مما يؤدي إلى هلاكهم، فالله تعالى وحده عالم الغيب والشهادة، ينصر رسله، ويؤيد دينه، ويخذل أعداءه، ليكون ذلك عبرة وعظة للمؤمن والكافر. وإذا كان الفرح غمر قلب آسية امرأة فرعون، فإن الوساوس والهواجس ألمت بقلب أمه، فقال تعالى:

وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أصبح فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر فارغا من كل شيء من شواغل الدنيا إلا من موسى، كما أنه طار عقلها، وسيطر عليها الخوف والفزع، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، وكادت من شدة حزنها وأسفها أن تظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها أنها أمه، لولا أن الله ثبّتها وصبّرها، لتكون من المصدقين الواثقين بوعد الله برده إليها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. والخلاصة: لولا تثبيت الله قلبها وتصبيره إياها لكشفت أمرها، وباحت بسرها، وأظهرت أنه ابنها، بحكم العاطفة والشفقة، فألهمها الله أن تتعرف خبره بأخته: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي وقالت أم موسى لابنتها الكبيرة التي تعي ما يقال لها: تتبعي أثره، وتعرفي خبره، واطلبي شأنه من نواحي البلد، فخرجت لذلك، فهداها الله لمقرّ وجوده في بيت فرعون، وأبصرته عن بعد أو من بعيد، وهم لا يحسون بأنها تتعقبه، وتتعرف حاله، وأنها أخته. وتتابعه عناية الله ويسوقه القدر إلى إرجاعه لمهد أمه، فقال تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ، فَقالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟ أي ومنعنا موسى أن يرضع ثديا غير ثدي أمه قبل رده إلى أمه وقبل مجيء أخته، لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه، والتحريم: استعارة للمنع، لأن من حرم عليه الشيء فقد منعه. فقالت أخته لما رأت ارتباكهم واهتمامهم برضاعه: أتريدون أن أدلكم على أهل بيت يتكفلون بشأنه وإرضاعه وتربيته، وهم حافظون له، ناصحون، يعنون بخدمته والمحافظة عليه؟

قال ابن عباس: فلما قالت ذلك، أخذوها وشكّوا في أمرها، وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك، ورجاء منفعته، أي عطائه، فلما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها، فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاء جزيلا، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها، فترضعه، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادا، ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دارّ «1» . جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى، ترضع ولدها، وتأخذ أجرها» . فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فأرجعناه إلى أمه بعد التقاط آل فرعون له، من أجل أن تقر عينها بابنها وتسرّ بوجوده لديها وسلامته عندها، ولا تحزن عليه بفراقه، ولتتيقن أن وعد الله فيما وعدها من رده إليها حق لا شك فيه حين قال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن رسولا، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا من كمال الأخلاق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكم الله في

_ (1) تفسير ابن كثير 3/ 382.

فقه الحياة أو الأحكام:

أفعاله وعواقبها المحمودة في الدنيا والآخرة، فربما كان الأمر كريها إلى النفوس في الظاهر، محمود العاقبة في الحقيقة ونفس الأمر، كما قال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة 2/ 216] وقال تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء 4/ 19] . وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى، آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ولما اكتملت قواه الجسدية والعقلية آتيناه الحكمة والعلم وفقه الدين وعلم الشريعة، ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه نجزي المحسنين على إحسانهم. وقد رجح الرازي أن المراد بالحكم هنا الحكمة والعلم، لا النبوة «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- قد يطلق الوحي على الإلهام لأن الوحي لا يكون إلا لنبي، وقد أجمع العلماء على أن أم موسى وأم عيسى لم تكن واحدة منهما نبية، وإنما ذلك من قبيل الإلهام، كإلهام النحل اتخاذ البيوت. وقد ألهم الله أم موسى بعد ولادته أن ترضعه، فإذا خافت عليه من القتل ألقته في البحر، دون خوف عليه من الغرق ولا حزن على فراقه، فإن الله تكفل برده إليها وبجعله من الأنبياء المرسلين إلى أهل مصر. 2- قد يقصد الإنسان شيئا ويحدث شيء آخر، فإن أهل فرعون التقطوا موسى الصغير ليكون لهم قرّة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، ولله في خلقه شؤون.

_ (1) تفسير الرازي 24/ 232.

3- كان إنقاذ موسى من البحر سببا في إسعاد الناس برسالته وإنزال التوراة عليه، وهداية آسية امرأة فرعون إلى الإيمان بالله تعالى، بعد أن أقنعت زوجها فرعون بإبقائه وعدم قتله رجاء أن يكون مصدر نفع لهم أو أن يتبنوه، علما بأنها كانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه، قالوا له: إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء (إبقاء الأولاد) وولد موسى في عام الذبح. يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه، فرأت فيه صبيا صغيرا، فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ. 4- لا يشعر الناس بتدبير الله وتخطيطه، وقد تكرر ذلك المعنى في الآيات فقال تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [9] أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه، ثم كرر تعالى ذلك في الآية [11] ثم قال: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. 5- هجمت الوساوس والمخاوف والهواجس على قلب أم موسى، وطار عقلها لوقوع ابنها في يد فرعون عدو الإسرائيليين، وقاربت أن تظهر أمره لولا أن ثبّتها الله وصبّرها وملأ قلبها بالإيمان والاطمئنان والسكينة، لتكون من المصدقين بوعد الله حين قال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. 6- كان لأخت موسى الذكية الحصيفة مريم بنت عمران كاسم مريم أم عيسى عليه السلام دور طيب ناجح في إقناع حاشية فرعون وامرأته بمن يقبل ثديها من النساء، لحاجتها إلى عطاء الملك، وطيبها وطيب رائحتها، دون أن يشعروا أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر، حتى رأتهم قد أخذوه، فأرشدتهم بلباقة إلى أهل بيت يكفلونه، وهم للملك ناصحون، يحرصون على مسرّته، ويطمعون في عطائه.

7- إن تدبير الله الخفي الذي لا يصلح غيره في أي شيء أشد نفاذا وأنجح خطة من تدبير البشر، فقد منع موسى الطفل من الارتضاع من قبل مجيء أمه وأخته، ثم رده إليها، وفاء بوعده لها، وكان قد عطف الله قلب العدو عليه، ولتعلم أن وعد الله حق، أي لتعلم وقوعه، فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. 8- لم يؤت الله النبوة لأحد غير يحيى وعيسى عليهما السلام قبل بلوغ سن الأربعين الذي تكتمل فيه القوى العقلية والجسمية، وتحقيق هذا في شأن موسى، فإنه لما بلغ أشده، أي غاية نموه، ونضج وبلغ أربعين سنة آتاه الله النبوة والحكمة قبل النبوة والعلم والفقه في الدين، يروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة. وكما جزى الله موسى على طاعته وصبره على أمر ربه، وجزى أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله، فرد ولدها إليها وهي آمنة، ووهب له العقل والحكمة والنبوة، كذلك يجزي كل محسن. الخلاصة: أن هذا الفصل من قصة موسى عليه السلام بيان لما أنعم الله عليه في صغره من إنجائه من القتل والغرق في النيل، وما أنعم عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة والنبوة والرسالة إلى بني إسرائيل والمصريين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى، إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ.. [طه 20/ 37- 40] .

- 3 - قتل المصري خطأ وخروجه من مصر [سورة القصص (28) الآيات 15 إلى 21] :

- 3- قتل المصري خطأ وخروجه من مصر [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) الإعراب: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أراد بالجملة حكاية حال كانت فيما مضى، كقوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف 18/ 18] فأعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي، على حكاية الحال. وقوله: مِنْ عَدُوِّهِ أي من أعدائه، وعدو: يصلح للواحد والجمع. خائِفاً يَتَرَقَّبُ خبر أصبح المنصوب. ويجوز أن يكون فِي الْمَدِينَةِ خبرها، وخائِفاً حال منصوب. والَّذِي مبتدأ مرفوع، وخبره إما يَسْتَصْرِخُهُ وإما

البلاغة:

فَإِذَا ويستصرخه في موضع نصب على الحال. يَسْعى صفة رجل، أو حال منه إذا جعل: من أقصى المدينة صفة له. البلاغة: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ استعطاف. جَبَّاراً لَغَوِيٌّ مُبِينٌ صيغ مبالغة على وزن فعّال وفعيل. وكذلك الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بينهما طباق أي بين «جبار» وهو المفسد في الأرض وبين كلمة الْمُصْلِحِينَ. إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ التأكيد بإن واللام ليناسب مقتضى الحال، ليجد موسى مخرجا. المفردات اللغوية: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي دخل موسى مصر آتيا من قصر فرعون، وقيل: منف مدينة فرعون، أو عين شمس من نواحي مصر. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل: كان وقت القيلولة، أو بين العشاءين. مِنْ شِيعَتِهِ إسرائيلي، أي من حزبه وجماعته الذين شايعوه وتابعوه في الدين، وهم بنو إسرائيل. وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ قبطي، أي من مخالفيه في الدين، وهم القبط. فَاسْتَغاثَهُ طلب منه الغوث والنصرة والإعانة، ولذلك عدّي بعلى، وقرئ: فاستعانه. فَوَكَزَهُ فضرب القبطي بجمع كفه أي بيده، وكان شديد القوة والبطش، وقرئ: فلكزه، أي فضرب به صدره. فَقَضى عَلَيْهِ قتله خطأ، فأنهى حياته، ولم يكن قصد قتله، ودفنه في الرمل. هذا أي قتله. مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه الذي هيج غضبي. ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وسماه ظلما، واستغفر منه، لاستعظام الصغائر، بل وكان ذلك قبل النبوة في عهد الشباب، في سن دون الثلاثين لأنه أوحي عليه في سن الأربعين بعد زواجه بابنة شعيب في مدين، ورعيه الماشية عشر سنوات. إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم. مُضِلٌّ موقع في الضلال والخطأ. مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال. قالَ موسى نادما. ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتله. فَاغْفِرْ لِي فاستر ذنبي. فَغَفَرَ لَهُ باستغفاره. الْغَفُورُ لذنوب عباده. الرَّحِيمُ بهم. رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي بحق

المناسبة:

إنعامك علي بالمغفرة اعصمني فهو استعطاف، أو هو قسم محذوف الجواب، أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي فلن أكون معينا لمن أجرم بعد هذه إن عصمتني. خائِفاً يَتَرَقَّبُ ينتظر ما يناله من أذى أي استقادة أو قود (قصاص) . اسْتَنْصَرَهُ طلب نصره وعونه. يَسْتَصْرِخُهُ يستغيث به على قبطي آخر. لَغَوِيٌّ ضال. مُبِينٌ بيّن الغواية. فَلَمَّا أَنْ زائدة. يَبْطِشَ يضرب بسطوة وقوة وصولة. بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى والمستغيث به. قالَ القبطي المصري، أو قال الإسرائيلي المستغيث لأنه سماه غويا، فظن أنه يبطش به. إِنْ تُرِيدُ ما تريد. جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ تتطاول على الناس ولا تنظر العواقب. مِنَ الْمُصْلِحِينَ يبغون الإصلاح بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن. ولما قال هذا سمع القبطي، وانتشر الحديث وبلغ الخبر إلى فرعون وملئه، فعلم أن القاتل موسى، فأخبر فرعون بذلك، فأمر فرعون الذبّاحين بقتل موسى، فهموا بقتله. وَجاءَ رَجُلٌ هو مؤمن آل فرعون. أَقْصَى الْمَدِينَةِ آخرها أو من أبعد جهاتها. يَسْعى يسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم. إِنَّ الْمَلَأَ أشراف قوم فرعون. يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك، وسميت المشاورة ائتمارا، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر به. فَاخْرُجْ من المدينة. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ في الأمر بالخروج. واللام للبيان، وليس صلة للناصحين لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول. يَتَرَقَّبُ يتلفّت يمنة ويسرة. المناسبة: بعد بيان ما أنعم الله به على موسى عليه السلام من إنجائه صغيرا من الذبح على يد فرعون، وإيتائه الحكمة والعلم كبيرا تهيئة للنبوة، ذكر ما أنعم به عليه من الخروج آمنا من مصر بعد قتله قبطيا مصريا، كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين. التفسير والبيان: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي ودخل موسى المدينة التي كان يسكنها فرعون، وهي قرية على بعد فرسخين من مصر، هي- كما قال

الضحاك- عين شمس، وذلك في وقت لا يتوقع دخوله فيها، وهو إما وقت القيلولة في نصف النهار وقت الظهيرة والناس نيام، أو ما بين المغرب والعشاء. فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي فوجد موسى في تلك المدينة رجلين يتضاربان ويتنازعان، أحدهما إسرائيلي من حزبه وجماعته، والآخر قبطي مصري مخالف لموسى في العقيدة والدين، وهو طباخ فرعون، كان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلي من موسى النجدة والعون على عدوه القبطي، فضربه موسى بيده، فقضي عليه، أي كان الضرب مفضيا إلى الموت، وواراه التراب، دون أن يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى. ثم ندم موسى على ما فعل، فقال: هذا الحادث من تزيين الشيطان وإغرائه. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي إن الشيطان عدو للإنسان، مضل له أي موقع له في الضلال والخطأ، بيّن العداوة والإضلال، ثم تاب من فعله فقال: قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي أي قال موسى: يا رب، إني ظلمت نفسي بهذا الفعل، وهو قتل نفس بريئة، فاستر لي ذنبي، ولا تؤاخذني بما جنت يدي، فإني أتوب إليك، وأندم على فعلي. وقد عدّ ذلك ذنبا، لأن القتل لا يحل أصلا، وذلك معروف من شرائع الأنبياء المتقدمين. قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه، وإن هذا كان قبل النبوة. روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت

رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الفتنة تجيء من هاهنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله عز وجل: وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» . فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي فعفا عنه وقبل توبته، إنه تعالى الستار لذنوب عباده المنيبين إليه، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة والإنابة، فشكر موسى ربه: قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي قال موسى: يا رب اعصمني من الخطأ بحق ما أنعمت علي من المعرفة والحكمة والتوحيد، ومن الجاه والعز والنعمة، فلن أكون إن عصمتني معينا لمن ظلم وأجرم وأشرك. أو أقسم بإنعامك علي بهذه النعم الكثيرة لأتوبن، ولن أناصر المشركين. قال القشيري: ولم يقل لما أنعمت علي من المغفرة لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل. وذكر الماوردي وغيره أن الإنعام بالمغفرة أو الهداية. قال القرطبي: فَغَفَرَ لَهُ يدل على المغفرة، والله أعلم. وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله. ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود 11/ 113] .

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي فصار موسى بعد حادثة قتل القبطي المصري خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل، فيطلب به، وصار يتلفت ويتوقع أن يقتل بسبب جنايته، فسار في بعض الطرق متخفيا مستترا، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري، يطلب منه العون والغوث على مصري آخر، فقال له موسى: إنك ظاهر الغواية، كثير الفساد والشر والضلال. فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ أي فلما أراد موسى زجر عدوهما وهو القبطي، قال له مستنكرا مستهجنا: أتريد الإقدام على قتلي كما قتلت نفسا البارحة، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي، قال الرازي: والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى فهذا القول إذن منه، لا من غيره، وأيضا فقوله: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولا للكافر. وقال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي مبين، ورآه على غضب، ظن- لما همّ بالبطش- أنه يريده لخوره وضعفه وذلته، فقال هذا القول، وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف لأنه لم يكن يعلم بحادثة الأمس غير هذا العبري، فلما سمعها ذلك القبطي، نقلها إلى فرعون، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون قتّالا بطاشا، مستعليا، كثير الأذى في الأرض، دون أن تنظر في العواقب، ولا تريد أن تكون من أهل

فقه الحياة أو الأحكام:

الإصلاح الذين يفصلون في خصومات الناس بالحسنى والحكمة، ولو كان أحد الخصوم من ذوي القربى أو العشيرة الواحدة. وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ: يا مُوسى، إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، يخفي إيمانه عن الناس، من أبعد مكان في المدينة، يسرع ليخبر موسى بما دبره القوم من سوء له، وقال: يا موسى، إن فرعون وأشراف دولته يتشاورون فيك، ويدبرون مؤامرة لقتلك، فاخرج بسرعة من البلد، إني لك ناصح أمين. ووصف بالرجولة لسلوكه طريقا أقرب من طريق المبعوثين وراء موسى. فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فخرج موسى من مدينة فرعون خائفا على نفسه يتلفّت، ويترقب متابعة أحد له. قالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قال موسى في هذه المحنة الشديدة: رب نجني من هؤلاء الظالمين: فرعون وملئه، فاستجاب الله دعاه ونجاه ووصل إلى مدين، كما قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه 20/ 40] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وقوع حادثة قتل خطأ غير عمد من موسى عليه السلام. 2- ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز (الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين) ونسب الفعل إلى الشيطان، وقال: رب، إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فغفر له، وحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر ثم لم يزل عليه السلام يعدّد ذلك

على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. وكان ذلك القتل قبل النبوة، كما عرفنا. والقتل الخطأ ذنب، بدليل إيجاب الكفارة عليه في شرعنا، ولأنه لا يخلو عن إهمال أو تقصير أو تجاوز الحدود المألوفة، قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء 4/ 92] . 3- كان من توابع توبة موسى عليه السلام من فعله أنه أقسم بما أنعم الله عليه ألا يظاهر ولا يعاون مجرما. ويصح أن يكون قوله: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ استعطافا كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة أو غيرها من النعم كالمعرفة والحكمة والتوحيد، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا (معينا) للمجرمين. 4- دلت آية فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة. قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين. وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة، أو برى لهم قلما؟ فيجمعون في تابوت من حديد، فيرمى به في جهنم» . وفي حديث آخر رواه الديلمي عن معاذ: «من مشى مع ظالم فقد أجرم» ويروى أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته، ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، أزلّ الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام» . 5- دل قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً على أن الخوف غريزة

- 4 - ذهاب موسى عليه السلام إلى أرض مدين وزواجه بابنة شعيب عليه السلام [سورة القصص (28) الآيات 22 إلى 28] :

في النفس البشرية، وإن كان المرء قويا كموسى عليه السلام، كما أن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه، وهو أيضا سبيل الأمان. وكان خوفه من الملاحقة والطلب، فقد يؤخذ غرّة على حين غفلة. 6- يوصف الشرير بأنه غوي (خائب) مبين، ويوصف القاتل بأنه جبار، أي قتّال، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق. والجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن. 7- إن الإيمان رابطة وثيقة بين المؤمنين، لذا بادر مؤمن آل فرعون وهو حزقيل بن صبور، ابن عم فرعون إلى إخبار موسى عليه السلام بمكيدة فرعون وملئه له، وأنهم يتشاورون في قتله بالقبطي الذي قتله بالأمس، ونصحه بالخروج مسرعا من مدينة فرعون أو من مصر. 8- شأن المؤمن دائما أن يلجأ إلى الله تعالى، فقد خرج موسى عليه السلام من مصر، خائفا يترقب الطلب، قائلا: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. فنجاه الله ووصل إلى بلاد مدين. - 4- ذهاب موسى عليه السلام إلى أرض مدين وزواجه بابنة شعيب عليه السلام [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

الإعراب:

الإعراب: حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ يُصْدِرَ بالضم: مضارع فعل رباعي، والمفعول محذوف، أي حتى يصدر الرعاء إبلهم ومواشيهم. وقرئ بالفتح على أنه مضارع فعل ثلاثي. أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا إِحْداهُما مصدرية، أي أجر سقيك لنا، وليست موصولة لأنها لو كانت موصولة، كان المعنيّ بها الماء، والأجر على السقي أو العمل لا على الماء أو العين. تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من إِحْداهُما وعامله جاءت وعَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع نصب على الحال من ضمير تَمْشِي وعامله تَمْشِي. عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي تأجرني نفسك في ثماني سنوات، وثَمانِيَ منصوب على الظرف. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي: منصوب ب قَضَيْتُ وما: زائدة، والْأَجَلَيْنِ مجرور بالإضافة، وتقديره: أيّ الأجلين قضيت، وقَضَيْتُ مجزوم

البلاغة:

ب أَيَّمَا وفاء فَلا.. مع ما بعده مجزوم لأنه جواب الشرط، والجملة: في موضع نصب مفعول قالَ. ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مبتدأ وخبر. البلاغة: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ استعطاف وترحم. وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: تَوَجَّهَ قصد بوجهه تِلْقاءَ تجاه مَدْيَنَ قرية شعيب على مسيرة ثمانية أيام من مصر، وسميت باسم مدين بن إبراهيم عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي قال ذلك توكلا على الله وحسن ظن به، لأنه لم يكن يعرف طريقها، وسواء السبيل: الطريق الأقوم، والطريق الوسط إليها، وكان هناك ثلاثة طرق، فأخذ في أوسطها وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وصل إلى بئر فيها كانوا يستقون منها وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً جماعة كثيرة من الناس مختلفين، يسقون مواشيهم. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ سواهم تَذُودانِ تمنعان وتطردان أغنامهما عن الماء، خوفا من السقاة الأقوياء قالَ موسى لهما ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان مع هؤلاء؟ يُصْدِرَ الرِّعاءُ يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، وحينئذ نسقي خوف الزحام ومزاحمة الرجال، يقال: صدر عن الماء مقابل ورد: انصرف عنه، وقرئ: يصدر الرعاء أي يرجعون من سقيهم، والرعاء: جمع راع وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يقدر أن يسقي. فَسَقى لَهُما مواشيهما من بئر أخرى بقربهما، رحمة عليهما، بأن رفع حجرا عنها لا يرفعه إلا عشرة أنفس أو سبعة، بالرغم من تعبه وجوعه وجرح قدمه. ثُمَّ تَوَلَّى انصرف إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة كانت هناك، هروبا من شدة الشمس، وكان جائعا مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير، ويطلق على الطعام، كما في الآية، وعلى المال كما في آية إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة 2/ 180] وعلى القوة كما في آية: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان 44/ 37] وعلى العبادة كما في آية: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ [الأنبياء 21/ 73] فَقِيرٌ محتاج. فرجعتا إلى أبيهما في زمن أقل مما كانتا ترجعان فيه، فسألهما عن ذلك، فأخبرتاه بمن سقى لهما، فقال لأحدهما: ادعيه لي فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي شدة حياء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال، أي مستحيية متخفرة، قيل: كانت الصغرى منهما، وقيل:

المناسبة:

الكبرى، واسمها صفوراء أو صفراء، وهي التي تزوجها موسى لِيَجْزِيَكَ ليكافئك أو ليثيبك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا جزاء سقيك لنا. وقد أجابها موسى ليتبرك برؤية الشيخ، ويستظهر بمعرفته، لا طمعا في الأجر، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاما، فامتنع عنه، وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا، أو لا نطلب على عمل خير عوضا، فأجابه شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، أو قال: لا، عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام. علما بأن من فعل معروفا، فأهدي إليه شيء، لم يحرم أخذه. قَصَّ روى له القصة وأخبره بحاله الْقَصَصَ مصدر بمعنى الحديث المقصوص أي المخبر به، من قتله القبطي، وقصدهم قتله، وخوفه من فرعون نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فرعون وقومه إذ لا سلطان له على مدين. قالَتْ إِحْداهُما التي استدعته الكبرى أو الصغرى اسْتَأْجِرْهُ اتخذه أجيرا يرعى غنمنا بدلنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فإنها أخبرته عن رفعه حجر البئر، وعن قوله لها أثناء السير: امشي خلفي، وقابل حياءها بحياء، فلما جاءته وعلم بها، صوّب رأسه فلم يرفعه. والجملة تعليل جامع، يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار. وللمبالغة فيه جعل خيرا اسما، وذكر الفعل بلفظ الماضي، للدلالة على أنه أمين مجرب معروف. إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ الكبرى أو الصغرى عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي تكون أجيرا لي أو تأجر نفسك مني في رعي غنمي ثَمانِيَ حِجَجٍ سنين، جمع حجة أي سنة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً رعي عشر سنين فَمِنْ عِنْدِكَ التمام وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ باشتراط العشر سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ للتبرك مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة. قالَ موسى ذلِكَ الذي قلته بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أطولهما وأقصرهما للرعي قَضَيْتُ وفيتك إياه فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ بطلب الزيادة عليه، أو فلا مجاوزة للحد، أي فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثماني وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي على ما نقول أنا وأنت حفيظ أو شاهد، فتم العقد بذلك. المناسبة: بعد أن تمالأ فرعون وقومه على قتل موسى، وأخبره مؤمن من آل فرعون بما عزموا عليه، ونصحه بالخروج من مصر، فخرج متجها إلى أرض مدين، ماشيا، برعاية الله وهدايته الطريق، للنسب الذي بين الإسرائيليين وبين أهل مدين،

التفسير والبيان:

لأن مدين من ولد إبراهيم، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وهناك تزوج بابنة شعيب عليه السلام، ثم عاد إلى مصر بعد أن أوتي النبوة في الطريق. التفسير والبيان: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ، قالَ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي لما اتجه موسى جهة مدين تاركا مدينة فرعون لأنه كما بينا وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو كان من بني إسرائيل، لكن لما لم يكن عالما بالطريق، اعتمد على فضل الله تعالى، قائلا: ربي اهدني الطريق الأقوم، فامتن الله عليه، وهداه إلى الصراط المستقيم، واختار الطريق الوسط من بين ثلاث طرق، وكان يسأل الناس عن كيفية الطريق، بحكم العادة. قال ابن إسحاق: خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر (أي راحلة) وبينهما مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. ومدين: شمال خليج العقبة في بلاد فلسطين. وكانت أحداث مدين كما يلي: 1- حال الرعاء على الماء: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ: ما خَطْبُكُما؟ قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي ولما وصل إلى مدين، وورد ماءها، وكان لها بئر يرده رعاة الماشية، فوجد جماعة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم، ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرعاة الآخرين، لئلا يؤذيا وتختلط أغنامهما مع غيرها، فلما رآهما موسى عليه السلام رقّ لهما ورحمهما، فسألهما: ما شأنكما وما خبركما لا تردان الماء مع هؤلاء؟ قالتا: لا نسقي غنمنا، أي لا نتمكن من سقي الغنم إلا بعد فراغ هؤلاء

القوم من السقي، وأبونا شيخ كبير هرم لا يستطيع الرعي والسقي بنفسه، مما ألجأنا إلى الحال التي ترى. وهذا شأن الضعيف مع القوي دائما، يشرب القوي أولا من الماء الصافي، ويشرب الضعيف بقية الماء. وفي هذا اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما. 2- السقي للمرأتين والمناجاة: فَسَقى لَهُما، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ: رَبِّ، إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي فسقى غنمهما لأجلهما من بئر مغطى بصخرة، لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، كما روى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أعاد الصخرة على البئر، ثم انزوى إلى ظل شجرة للراحة، فناجى ربه قائلا: إني لمحتاج إلى الخير القليل أو الكثير وهو الطعام، لدفع غائلة الجوع. وإنما عدى فقيرا باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وفيه دلالة على أنه سقى لهما في حر من الشمس، وعلى كمال قوة موسى عليه السلام، وعلى أنه رغم نعومة عيشه في بلاط فرعون كان مخشوشنا جلدا صابرا. قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل، وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة. 3- الفرج بعد الشدة: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي لما رجعت المرأتان سريعا بالغنم إلى أبيهما استغرب وسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها، فجاءت إحداهما تمشي مشي الحرائر، مستحيية، متخمرة بخمارها، ساترة وجهها بثوبها، ليست جريئة على الرجال،

فقالت في أدب وحياء وخفر: إن أبي يطلبك ليكافئك على إحسانك لنا، ويعطيك أجر سقيك لغنمنا. واختلف العلماء في تعيين الأب من هو، والجمهور- أو المشهور عند كثير من العلماء- على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهما ابنتاه «1» . وليس في ذلك شيء يأباه الدين كما قال الرازي. وقد أجابها موسى عليه السلام للتبرك بالشيخ، لا طلبا للأجرة، روي أنها لما قالت لِيَجْزِيَكَ كره ذلك، ولما قدم إليه الطعام امتنع، وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا، حتى قال شعيب عليه السلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا فضلا عن أن الضرورات تبيح المحظورات. وتبع موسى المرأة إلى منزل أبيها، وطلب منها أن تسير خلفه كيلا ينظر إليها، وأن ترشده إلى الطريق، وهي خلفه، وهذا من أدب الرجال الذين أعدهم الله للنبوة. 4- حديث الأمان مع الشيخ الكبير: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ: لا تَخَفْ، نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي فلما جاء موسى إلى الشيخ، وأخبره عن قصته مع فرعون وقومه في كفرهم وطغيانهم، وظلمهم بني إسرائيل، وتآمرهم على قتله وسبب خروجه من بلده مصر، قال له: لا تخف واطمئن وطب نفسا، فإنك نجوت من سطوة الظالمين، وخرجت من مملكتهم، ولا سلطان لهم في بلادنا، فاطمأن موسى وهدأت نفسه من القلق. 5- طلب البنت استئجار القوي الأمين: قالَتْ إِحْداهُما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي قالت إحدى ابنتي الشيخ

_ (1) البحر المحيط: 7/ 114، تفسير ابن كثير: 3/ 384

الكبير التي ذهبت تدعوه لأبيها: يا أبت استأجره لرعي هذه الغنم، فإن خير مستأجر هو لأنه القوي على حفظ الماشية والقيام بشؤونها، المؤتمن الذي لا تخاف خيانته. وصفته بأفضل صفات الأجير: القوة في القيام بالأمر، والأمانة في حفظ الشيء. ومصدر هاتين الصفتين ما شاهدت من حاله، قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اختلف عليّ الطريق، فاقذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال: أَكْرِمِي مَثْواهُ وصاحبة موسى حين قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. 6- مصاهرة موسى لشعيب: قالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي إن شعيب اقتنع بأن موسى رجل قوي أمين، فقال له: أريد مصاهرتك وتزويجك إحدى هاتين البنتين، فاختر ما تشاء، وهما صفوريا وليا، والمهر: أن ترعى غنمي ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين، فهو إليك، وإلا ففي الثماني كفاية. ولا أشاقك بعد ذلك بشيء من المناقشة في الوقت أو غيره، وستجدني صالحا على العموم، ومن ذلك حسن المعاملة، ولين الجانب. وإنما قال: إِنْ شاءَ اللَّهُ للتبرك والاتكال على توفيق الله ومعونته. فأجابه موسى بقوله: قالَ: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي قال

فقه الحياة أو الأحكام:

موسى لصهره: الأمر على ما قلت، لي الخيار في إحدى البنتين، وفي إحدى المدتين: ثماني أو عشر سنين، كل واحد على ما شرط على نفسه، فإن أتممت عشرا فمن عندي، وإن قضيت ثمانيا فقد برئت من العهد، وخرجت من الشرط، فلا حرج علي من اختيار إحدى المدتين، وليس لك أن تطالبني بزيادة عليهما، وإن كان المهيأ للنبوة سيختار الأكمل، وإن كان مباحا غير لازم، وقد فعل موسى عليه السلام أكمل الأجلين. روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سألت جبريل، أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما» «1» هو المعاهدة التي حدثت بين موسى وشعيب عليهما السلام. وقوله: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وقوله: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي أطول الأجلين الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان. وقوله: فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا يعتدي أحد على آخر في طلب الزيادة. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي والله حفيظ أو شاهد على ما ألزم كل واحد نفسه به للآخر. والوكيل في الأصل: الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدّي بعلى. وهذا من قول موسى، وقيل: هو من قول شعيب والد المرأة. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- انتقل موسى عليه السلام ماشيا من مصر إلى مدين شمال خليج العقبة بفلسطين مدة ثماني ليال.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 386.

2- ليس سقي ابنتي شعيب عليه السلام الماشية بمحظور في الدين، ولا يأباه الدين والمروءة جريا على عادة العرب وأحوالهم. 3- لم يذق موسى عليه السلام طعاما في طريقه إلى مدين سبعة أيام، حتى التصق بطنه بظهره، فلجأ إلى الدعاء تعريضا، ولم يصرح بالسؤال، وإنما طلب إنزال أي خير قليل أو كثير، فدل هذا الكلام على الحاجة إلى الطعام أو إلى غيره، إلا أن المفسرين حملوا هذا الكلام على الطعام. قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق على الله. وفي هذا إشعار بهوان الدنيا على الله. 4- إن سقي موسى عليه السلام ماشية المرأتين اللتين عجلتا بالذهاب إلى أبيهما كان سببا في دعوته وتناوله الطعام عند شعيب عليه السلام، وإجابة لدعائه ومناجاته ربه. وبالرغم من حاجته إلى الطعام قال موسى: لا آكل، إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا، فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام، فحينئذ أكل موسى عليه السلام. 5- دل قوله: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ على أن سلطان الحكام كان محصورا في إقليم معين، فكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون. 6- دل قوله تعالى: قالَتْ إِحْداهُما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ على مشروعية الإجارة، وهي فعلا كانت مشروعة في كل ملة، لحاجة الناس إليها، وتحقيق مصالحهم بها. 7- قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ فيه دليل على جواز عرض الولي ابنته على الرجل لخطبتها، وهذه سنة شائعة قديمة، فقد عرض صالح

مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الواهبة نفسها على النبي صلّى الله عليه وسلم، أخرج البخاري والنسائي عن ابن عمر قال: «لما تأيمت حفصة من حذافة بن خنيس السهمي قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر» وكذلك قال لأبي بكر، لكنهما امتنعا لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكرها بخير، فلم يفشيا سره، وفهما أنه يريد الزواج بها. 8- قوله: أُنْكِحَكَ دليل على أن النكاح إلى الولي، لا للمرأة لأن صالح مدين تولاه، وهو رأي جمهور العلماء، وخالف في ذلك أبو حنيفة، كما تقدم في تفسير آيات النكاح. 9- والآية تدل أيضا على أن للأب أن يزوّج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها لأنها بلغت حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة، فإنه يزوجها بغير رضاها، لأنه لا إذن لها ولا رضا بغير خلاف. 10- استدل الشافعية بآية: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح فقط. وقال المالكية: ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد، بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية، فكذلك النكاح، والذي خص به النبي صلّى الله عليه وسلم كون الزواج بلا مهر، لا الزواج بلفظ الهبة. 11- قوله تعالى: إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عرض للزواج، لا عقد لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له. 12- قال مكّي: في هذه الآية خصائص في النكاح، منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حدّ أول الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا. أما التعيين فالواقع أنه تم في اتفاق آخر، وإنما عرض الأمر مجملا، وعيّن بعد ذلك.

وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه، بل هو مسكوت عنه، فإما أنهما اتفقا عليه، وإلا فهو من أول وقت العقد. وأما الزواج بمنفعة الإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر أقره شرعنا، بدليل ما روى الأئمة من الزواج على شيء من القرآن، وفي بعض طرقه: «فعلّمها عشرين آية وهي امرأتك» . وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: كرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، والحنفية، وأجازه ابن حبيب والشافعية والحنابلة، بدليل هذه الآية. وأما قول مكي: دخل ولم ينقد، ففيه خلاف، منعه ابن القاسم، فليس للزوج الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار، وأجازه متأخر والمالكية لأن تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب. 13- دلت الآية على اجتماع عقدين هما الإجارة والزواج، وقد أجازه ابن العربي المالكي على الصحيح لأن الآية تدل عليه، وقد قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع، أو بين بيع ونكاح «1» . ومنعه ابن القاسم في المشهور، وقال: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده لاختلاف مقاصدهما، كسائر العقود المتباينة. 14- يدل قوله تعالى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ على جواز ذكر الخدمة مطلقا، دون بيان نوع العمل، مع بيان الأجل فقط، وقد أجازه مالك وقال: إنه جائز ويحمل على العرف. فلم يكن لصالح مدين إلا رعي الغنم. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى نوع العمل لأنه مجهول. 15- أجمع العلماء على جواز استئجار الراعي شهورا معلومة، بأجرة

_ (1) أحكام القرآن 3/ 1464.

معلومة، لرعاية غنم معدودة. فإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت الإجارة عند المالكية عملا بالعرف. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها. 16- دلت آية ثَمانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ على مذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، أنه يصح ويختار المشتري، فبأيهما أخذ يصح، وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود: «من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا» على هذا المذهب. 17- استدل الحنابلة بهذه الآية المتقدمة على صحة استئجار الأجير بطعامه وكسوته، ويؤيدهم ما رواه ابن ماجه في السنن عن عتبة بن المنذر السّلمي قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقرأ طسم، حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه» . «1» . 18- قال مالك: وليس على الراعي ضمان، وهو مصدّق فيما هلك أو سرق لأنه أمين كالوكيل، ولا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال، ولصاحب المال تضمينه إن كان من أهل الفسوق والفساد. 19- روى عيينة بن حصن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفّة فرجه» . والإجارة بالعوض المجهول كشيء مما تلده الغنم لا تجوز، فإن ولادة الغنم غير معلومة لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة نهى عن الغرر ، وروى البزار بسند ضعيف عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح.

_ (1) لكن فيه راو ضعيف الرواية عند الأئمة هو مسلمة بن علي الخشني الدمشقي البلاطي.

والمضامين: ما في بطون الإناث، والملاقيح: ما في أصلاب الفحول. على أن راشد بن معمر أجاز الإجازة على الغنم بالثلث والربع. وقال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه، وبه قال أحمد. 20- الكفاءة في النكاح معتبرة، واختلف العلماء هل في الدّين والمال والحسب أو في بعض ذلك؟ والصحيح لدى المالكية جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات 49/ 13] . وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا، فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه، ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك. 21- إذا اشترط ولي المرأة لنفسه شيئا، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده، ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما- أنه جائز، والآخر- لا يجوز، فهو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام. ويؤيد الرأي الأول ما جرى من شعيب حيث اشترط لنفسه إجارة الرعي ثماني سنين، وترك المهر مفوضا، ونكاح التفويض جائز، ويجب حينئذ مهر المثل. 22- يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال: وتطوع بكذا، فينفذ الشرط على حدة، ويترك الطوع لتنفيذه مختارا على حدة. وهذا ما فعله شعيب حيث ذكر اشتراط الإجارة ثماني سنين، وترك التطوع لموسى، وهو سنتان أخريان إن شاء. 23- قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فيه جعل الإشهاد عليهما في الزواج بالله تعالى، ولم يشهد شعيب وموسى عليهما أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في الزواج على قولين: أحدهما- وهو قول الجمهور: أنه لا ينعقد الزواج إلا بشاهدين.

- 5 - عودة موسى عليه السلام إلى مصر ونبوته [سورة القصص (28) الآيات 29 إلى 32] :

والثاني- قال مالك: إنه ينعقد دون شهود لأنه عقد معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح: الدّفّ. - 5- عودة موسى عليه السلام إلى مصر ونبوته [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) الإعراب: أَنْ يا مُوسى أَنْ مفسرة لا مخففة في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بأن يا موسى. وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ معطوف على قوله: أَنْ يا مُوسى.

البلاغة:

فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ تَهْتَزُّ جملة فعلية، في موضع الحال من الهاء والألف في رَآها أي مهتزة مشبهة جانا. وَلَّى: أصله وَلَّى فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبها ألفا، وهو جواب «لمّا» . ومُدْبِراً حال من ضمير وَلَّى وعامله وَلَّى. ولَمْ يُعَقِّبْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير وَلَّى وهو العامل فيها أيضا. فَذانِكَ بُرْهانانِ مبتدأ وخبر، وذان: تثنية ذا، قرئ بتخفيف النون وتشديدها، والتشديد عوض عن حذف ألف ذا التي كانت في الواحد. البلاغة: تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ تشبيه مرسل مجمل، حذف فيه وجه الشبه، فصار مجملا. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ كناية، كنى بالجناح عن اليد لأنها للإنسان كالجناح للطائر. المفردات اللغوية: قَضى ... الْأَجَلَ أتم المدة المحددة المتفق عليها بينهما، وهو رعيه عشر سنين وَسارَ بِأَهْلِهِ زوجته بإذن أبيها نحو مصر، روي أنه قضى أقصى الأجلين، ثم عزم على الرجوع آنَسَ أبصر من بعيد مِنْ جانِبِ الطُّورِ من الجهة التي تلي الطور: وهو اسم لجبل في سينا بِخَبَرٍ عن الطريق، وكان قد أخطأها أَوْ جَذْوَةٍ جمرة ملتهبة أو عود غليظ في رأسه نار تَصْطَلُونَ تستدفئون. مِنْ شاطِئِ الْوادِ من جانب الْأَيْمَنِ لموسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ المكان الذي بارك الله فيه لموسى لسماعه كلام الله فيها مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت نابتة على الشاطئ، وهي شجرة عناب أو عليق أو عوسج أَنْ يا مُوسى أي يا موسى تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ الجانّ: الحية الصغيرة التي توجد في الدور ولا تؤذي، أي تشبه الحية في الهيئة والجثة، أو السرعة، أو الجني في سرعة الحركة وعظم الخلقة وَلَّى مُدْبِراً أدبر هاربا منهزما منها من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يا مُوسى أي نودي يا موسى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من المخاوف، فإنه لا يخاف لدي المرسلون. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخلها في طوق قميصك وأخرجها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب كبرص ونحوه وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع مِنَ الرَّهْبِ الخوف الحاصل من إضاءة اليد، بأن تدخلها في جيبك (فتحة القميص من جهة الرأس) وعبر عن اليد بالجناح لأنها للإنسان كالجناح للطائر.

المناسبة:

فَذانِكَ أي العصا واليد بُرْهانانِ دليلان مرسلان، أو حجتان فاسِقِينَ خارجين عن حدود الله، فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم. المناسبة: بعد أن أتم موسى عليه السلام أوفى الأجلين، عزم على العودة إلى مصر، لزيارة أقاربه، وبينا هو في الطريق، وكانت الليلة باردة شاتية، أبصر من ناحية جبل الطور نارا، فطلب من أهله المكث في مكانهم، ليحضر لهم جذوة نار، فناداه ربه، وآتاه النبوة والرسالة. التفسير والبيان: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ... لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي فلما أكمل الأجلين وأتمهما وهو رعي غنم شعيب عشر سنين، وهذا مستفاد أيضا من الآية الكريمة حيث قال تعالى فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي الأكمل منهما، وأن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين، وليس فقط عقيب أحدهما، وهو قضاء الأجل. وسار إلى ما يريد مع أهله أي زوجته، أبصر نارا تضيء على بعد من ناحية جبل الطور، فطلب من أهله المكوث في مكانهم حتى يذهب إلى النار، فيأتي من أهلها بخبر الطريق أو بقطعة أو شعلة من النار ليستدفئوا بها من البرد، وذلك لأنه سار في ليلة مظلمة مطيرة باردة، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى منفردا مع أهله. وخاطب أهله بقوله: امْكُثُوا بصيغة الجمع للتعظيم. وقوله: بِخَبَرٍ فيه دلالة على أنه ضل الطريق، وقوله: لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فيه دلالة على البرد. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي فلما وصل إلى مكان وجود النار التي

رآها من بعيد، ناداه ربه من جانب الوادي الأيمن، أي عن يمين موسى من ناحية الغرب، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص 28/ 44] مما يدل على أنه قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه. ناداه ربه في البقعة المباركة من ناحية الشجرة: يا موسى، إني أنا الله رب العالمين، إني أنا ربك فاخلع نعليك، إنك بالوادي المقدس طوى، أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين، الفعال لما يشاء، لا إله غيره، ولا رب سواه، تنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله. ووصف البقعة بكونها مباركة، لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه. ومن الأولى: مِنْ شاطِئِ والثانية: مِنَ الشَّجَرَةِ لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة. وقد خلق الله تعالى في موسى أثناء ذلك علما يقينيا بأن ذلك الكلام هو كلام الله، وسمع الكلام القديم من الله تعالى، لا من الشجرة، على رأي أبي الحسن الأشعري، وسمع الصوت والحرف المخلوق في الشجرة والمسموع منها، على رأي أبي منصور الماتريدي. ثم أيده بمعجزتين هما: أولا- وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ونودي بأن ألق عصاك التي في يدك، فألقاها فصارت حية تسعى، فعرف وتحقق أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات أو ثعبان، لسرعة حركتها، أو شبهها بالجانّ من حيث الاهتزاز والحركة، لا من حيث المقدار، ولّى هاربا ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه لأن طبع البشر ينفر من ذلك.

فهدّأ الحق تعالى روعه قائلا: يا مُوسى، أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ، إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي يا موسى ارجع إلى مكانك أو مقامك الأول، ولا تخف من الحية أو الثعبان، فأنت آمن من كل سوء. ثانيا- اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي أدخل يدك في جيب أو فتحة قميصك العليا من جهة الرأس، ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، ولها شعاع، كأنها قطعة قمر، من غير عيب ولا برص فيها. وإزالة لخوفه من الآيتين المعجزتين السابقتين قال تعالى له: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي وضع يدك على صدرك، يذهب عنك ما تجده من الخوف، فكان إذا خاف من شيء ضم إليه يده، فإذا فعل ذلك ذهب ما طرأ عليه من الخوف. وقوله: مِنَ الرَّهْبِ أي من أجل الرهب. وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده أو يخيفه، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة سبحانه. قال ابن عباس: كل خائف إذا وضع يده على صدره، زال خوفه. فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي فتلك الآيتان المعجزتان وهما إلقاء العصا وجعلها حية تسعى، وإدخال يدك في جيبك، فتخرج بيضاء من غير سوء، هما دائما دليلان قاطعان واضحان على قدرة الله وصحة نبوتك، يؤيدانك في رسالتك إلى فرعون وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع، إنهم قوم خارجون عن طاعة الله، مخالفون لأمره ودينه، فكانوا جديرين بإرسالك إليهم مؤيدا بهاتين المعجزتين.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الآتي: 1- يسير المهيّؤون للنبوة بتوجيه وإلهام من الله تعالى، فلما انتهي موسى من الوفاء بما عاهد عليه شعيب من رعي غنمه مهرا للزواج بابنته، اتجه عائدا مع زوجته إلى مصر، في ليلة ظلماء شاتية باردة، مشيا من دون راحلة في الإياب كما كان الحال في الذهاب من مصر إلى مدين، وكان قد أتم أكمل الأجلين، عملا بخلق النبوة، وأخذا بالأكمل، كما ثبت في الخبر عن نبينا عليه السلام. وفي أثناء الطريق الذي أخطأه وفي شدة البرد التي ألمت به وبأهله رأى نارا من بعيد، فطلب من أهله المقام في المكان الذي وقفا فيه، وبادر إلى الإتيان بشعلة نار أو قطعة جمر للتدفئة، وللسؤال من أهل النار عن الطريق. 2- دل قوله: وَسارَ بِأَهْلِهِ على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوامة وزيادة الدرجة، إلا أن يلتزم لها أمرا، فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به شروط الزواج. 3- كان ترائي النار استدعاء من رب الكون لمائدة تكليم رب العزة وإيتائه النبوة والرسالة، وهنيئا لموسى عليه السلام بتلك الدعوة التي هي أكرم وأشرف دعوة على الإطلاق، إذ صار بضيافتها كليم الله، ورسول رب العالمين إلى عظيم الطغاة فرعون وحاشيته. 4- ناداه ربه بكلام لطيف في بقعة مباركة من شاطئ الوادي المقدس الأيمن: على يمين موسى، طوى من ناحية شجرة، على الجانب الغربي اتجاها، من جبل الطور، وكان مطلع النداء التعريف بالمنادي: إني أنا الله رب العالمين. وهذا نفي لربوبية غيره سبحانه.

فصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل، لا من رسله لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة، وقد أمر بها بعد هذا الكلام وهو: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي من المرسلين لقوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وقوله إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ 5- أيده الله بمعجزتي العصا واليد، فخاف منهما لأول وهلة، ثم هدّأ الله روعه، وسكّن خوفه، وأعاده بعد الهرب إلى ساحة المناجاة مع ربه، وجعل له علاجا للخوف بضم يده إلى صدره، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون، وإما من الثعبان، فأوحى الله له: إذا هالك أمر يدك وشعاعها، فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت. 6- قدمنا قول ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده، فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. وهكذا تكون محن الأنبياء عليهم السلام دائما فرجا ومخرجا للأمة. وبه تبين الهدف من قوله: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وهو خروج اليد بيضاء، ومن قوله: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وهو إخفاء الرهب. وقد تساءل الزمخشري ثم الرازي بقوله: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وفي الآخرة مضموما إليه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل من اليدين جناح «1» .

_ (1) الكشاف: 2/ 473، تفسير الرازي: 24/ 247 وما بعدها.

- 6 - نبوة هارون وتكذيب فرعون [سورة القصص (28) الآيات 33 إلى 37] :

- 6- نبوة هارون وتكذيب فرعون [سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) الإعراب: يُصَدِّقُنِي بالرفع وصف ل رِدْءاً. وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر بتقدير حرف الشرط، أو على أن جزم القاف لكثرة الحركات، كقولهم في: عضد: عضد، والوجه الأول أوجه. بِآياتِنا متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا، أو متعلق ب نَجْعَلُ أي نسلطكما بها. بَيِّناتٍ حال إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الهاء: ضمير الأمر والشأن. البلاغة: يُصَدِّقُنِي يُكَذِّبُونِ بينهما طباق. سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ مجاز مرسل عن التقوية، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب لأن شد العضد يستلزم شد اليد، وشد اليد مستلزم للقوة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً هو القبطي (المصري، الفرعوني) أَنْ يَقْتُلُونِ أي به أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أبين رِدْءاً معينا يُصَدِّقُنِي بتوضيح ما قلته، وتقرير الحجة وإقامة الأدلة، ومجادلة المشركين وتزييف الشبهة. سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به ونعينك به، والعضد: ما بين المرفق إلى الكتف سُلْطاناً غلبة وتفوقا أو حجة قوية فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بسوء بَيِّناتٍ واضحات مُفْتَرىً مختلق فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي كائنا في أيامهم رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ أي عالم يعلم أني محق وأنتم مبطلون والضمير في عِنْدِهِ عائد للرب وَمَنْ معطوف على بِمَنْ المتقدمة عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة في الآخرة، والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأن الدنيا خلقت جسرا للآخرة، والمقصود منها بالذات: هو الثواب والعقاب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في الآخرة، والظالمون: الكافرون. المناسبة: بعد أن قال الله سبحانه: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ علم موسى عليه السلام أنه يذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، فطلب من الله تعالى ما يقوي قلبه، ويزيل خوفه من فرعون، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا، فأجابه الله إلى طلبه. وكان الرسولان موسى وهارون محاجين فرعون في الربوبية بحجة ساطعة، فلم يكن منه إلا المكابرة والعناد، والافتراء والاتهام الزائف بأن المعجزتين سحر مختلق. التفسير والبيان: لما أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون، الذي خرج من ديار مصر فرارا منه، وخوفا من سطوته:

قالَ: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً، فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي قال موسى: يا ربّ كيف أذهب إلى فرعون وقومه، وقد قتلت منهم فرعونيا، فأخاف إذا رأوني أن يقتلوني ثأرا منهم. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي إن أخي هارون أفصح لسانا مني، وأحسن بيانا بسبب ما في لساني من لثغة أو عقدة من حين الصغر حين تناولت الجمرة، لما خيرت بينها وبين التمرة، فوضعتها على لساني، فحصل فيه شدة في التعبير، فاجعل معي هارون أخي رسولا وزيرا ومعينا يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل، ويوضح البراهين والأدلة، ويفنّد الشبهات المثارة من قبل هؤلاء الجاحدين، وإني أخاف أن يكذبوني في رسالتي. ونظير الآية: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه 20/ 27- 32] . فأجابه الله تعالى إلى طلبه: قالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً، فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي قال الرب لموسى: سنقويك ونعزّز جانبك بأخيك الذي سألت أن يكون نبيا معك، كما قال تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 36] وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم 19/ 53] ونجعل لكما حجة قاهرة، وغلبة ظاهرة على عدوكما، فلا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما، بسبب إبلاغكما آيات الله تعالى. قال بعض السلف عن طلب موسى بعثة أخيه هارون: ليس أحد أعظم منّة على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام، فإنه شفع فيه، حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه، ولهذا قال تعالى في حق موسى: وَكانَ

عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب 33/ 69] . وقال السدي: إن نبيين وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة. بِآياتِنا، أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ أي اذهبا بآياتنا، أو نجعل لكما سلطانا، أي نسلطكما بآياتنا، أو لا يصلون إليكما أي تمتنعون منهم بآياتنا، أنت يا موسى وأخوك ومن آمن بكما وتبعكما في رسالتكما الغالبون بالحجة والبرهان لأن حزب الله دائما هم الغالبون. وتعليق الآيات بالسلطان يجعل انقلاب العصا حية معجزة، ومانعا أيضا من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، ولذا يجوز الوقوف على إِلَيْكُما ويكون في الكلام تقديم وتأخير، كما يجوز الوصل. ثم أبان تعالى موقف فرعون من محاجة موسى وهارون فقال: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ، قالُوا: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي حين عرض موسى وهارون على فرعون وملئه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة الواضحة والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره، قالوا: ما هذا إلا سحر مفتعل مصنوع، مكذوب موضوع، وما سمعنا بما تدعونا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له في أيام الأسلاف، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى. وهذا مجرد تمسك بالتقليد الذي لا دليل على صحة العمل به. فأجابهم موسى: وَقالَ مُوسى: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي أجاب موسى فرعون وملأه بقوله: ربي الله الذي لا إله غيره الذي خلق كل شيء ويعلم غيب السموات والأرض أعلم مني ومنكم

فقه الحياة أو الأحكام:

بالمحق من المبطل، وبمن جاء بالحق الداعي إلى الرشاد، وأهله للفلاح الأعظم، ومن الذي له العاقبة المحمودة في الدنيا بالنصر والظفر والتأييد، وفي الآخرة بالثواب والرحمة والرضوان كقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرعد 13/ 22- 23] وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 42] ، وسيفصل بيني وبينكم، إنه لا يفلح المشركون بالله عز وجل، ولا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع، بل يكونون على ضد ذلك. وفي الآية أسلوب أدبي رفيع من الخطاب والجدل والمناظرة، فهو لم يعلن أنه المحق وغيره المبطل الضال، وإنما ردد ذلك ليجعل للعقل في النقاش دورا في الحكم النهائي وتغليب الأصح الأصوب، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلم للمشركين: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ 34/ 24] . كما أن نهاية الآية زجر لهم عن العناد الذي ظهر منهم، وإيماء بأنهم خاسرون في هذا الجدال، وسيكون لهم الخيبة والفشل في المستقبل. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- ضرورة التسلح بمختلف القوى المادية والمعنوية عند لقاء العدو، فقد طلب موسى من ربه تأييده بأخيه هارون، ليكون له عونا ووزيرا، ومدافعا ومبينا حجج الله وبيّناته في دعوة فرعون وقومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإنه إذا لم يكن له وزير ولا معين لا يكادون يفقهون عنه، وربما تعرّض لأذى، فيدفعه عنه. 2- إن السؤال المنطقي والدعاء المناسب للحال مستجاب متحقق، لذا أجاب الله طلب موسى عليه السلام، وقال له: سنقويك بأخيك، ونجعل لكما حجة

- 7 - محاجة فرعون في ربوبية الله تعالى وعاقبة عناده مع قومه [سورة القصص (28) الآيات 38 إلى 43] :

وبرهانا، فلا يصلون إليكما بالأذى، وتمتنعان منهم بآياتنا، فأنتما وأتباعكما الغالبون عليهم بآياتنا، أي سائر المعجزات. 3- لقد أعمى فرعون وقومه إدراك الحق، فتمسكوا بالمكابرة والعناد، واعتصموا بتقليد الآباء والأسلاف الذي لا حجة ولا دليل عليه، وهذا مذموم عقلا وعادة، لذا قالوا: ما هذه المعجزات إلا سحر مكذوب مفترى، ولم نسمع بدعوة التوحيد والتخلي عن الإشراك في التاريخ الغابر، ولا قيمة لتلك الحجج العقلية التي أوردها موسى لإثبات توحيد الله تعالى!!. 4- لا بد من استعمال الحكمة في الإجابة والجدال والمناظرة للسلاطين والحكام الجبابرة، كفرعون الطاغية، توقيا من الأذى، وتأملا في اللين، والإذعان للحق، لذا كان جواب موسى حكيما حين أعلن أن الله أعلم بمن جاء بالرشاد من عنده سبحانه، ومن المستحق لدار الجزاء، وإنه لا يظفر الظالمون أنفسهم بالشرك والكفر والمعصية بشيء عند الله وفي الآخرة. - 7- محاجة فرعون في ربوبية الله تعالى وعاقبة عناده مع قومه [سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 43] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

الإعراب:

الإعراب: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَوْمَ منصوب من أربعة أوجه: إما لأنه مفعول به توسعا، كأنه قال: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما معطوف بالنصب على موضع الجار والمجرور وهو: فِي هذِهِ الدُّنْيا وإما منصوب بما دل عليه قوله: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول، وإما منصوب على الظرف بالمقبوحين، أي وهم من المقبوحين يوم القيامة. بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً كلها منصوبات على الحال من الْكِتابَ. البلاغة: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ قال الزمخشري (2/ 477) : ولم يقل: اطبخ لي الآجرّ، لأنه أول من عمل الآجرّ، فهو يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة. وأمر هامان- وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين- منادى باسمه بيا في وسط الكلام: دليل التعظيم والتجبر. بَصائِرَ لِلنَّاسِ تشبيه بليغ، حذفت فيه أداة الشبه ووجه الشبه، أي أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس. المفردات اللغوية: هامانُ وزير فرعون فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاصنع لي الآجرّ أي الطوب، قال عمر رضي الله عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجرّ: ما علمت أن أحدا بنى بالآجر

المناسبة:

غير فرعون صَرْحاً قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أصعد وأرتقي، ثم أنظر إليه وأوقف عليه، كأنه توهم أنه لو كان، لكان جسما في السماء يمكن الترقي إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعائه إلها آخر وأنه رسول. فِي الْأَرْضِ أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق لا يُرْجَعُونَ بالنشور فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم فِي الْيَمِّ في البحر المالح، فغرقوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ حين صاروا إلى الهلاك. وقوله: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ قال البيضاوي: فيه تفخيم لشأن الآخذ، واستحقار للمأخوذين، كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف، وطرحهم في اليم. أَئِمَّةً قادة، قدوة للضلال يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يدعون إلى موجبات النار من الكفر والمعاصي وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم لَعْنَةً طردا عن الرحمة، وخزيا الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المبعدين المخزيين. الْكِتابَ هنا التوراة الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنوار للقلوب في عصرهم، تبصر بها الحقائق، وتميز بين الحق والباطل وَهُدىً إلى الشرائع التي هي سبيل الله تعالى وَرَحْمَةً لمن آمن به لأنهم لو عملوا بالتوراة لنالوا رحمة الله يَتَذَكَّرُونَ يتعظون بما في ذلك الكتاب من المواعظ. المناسبة: قوبل موسى وهارون في دعوتهما القوية إلى توحيد الله تعالى بكفرين عظيمين: الأول- ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي أي نفي إله غيره، وادعاء ألوهية نفسه. والثاني: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أي محاولة الصعود والارتقاء إلى السماء لرؤية إله موسى. وكل من الأمرين جهل وعتو وطغيان واستكبار، فكانت عاقبته الغرق في الدنيا، والطرد من رحمة الله في الآخرة. وفي مقابل هذا الكفر آتى الله موسى التوراة نورا وهدى ورحمة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي أي وقال فرعون الطاغية الجبار ملك مصر: يا أيها القوم، لم أعلم بوجود إله غيري، أي إن إله موسى غير موجود، وإنما أنا الإله، كما قال تعالى في آية أخرى حاكيا عنه: فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات 79/ 23- 26] . دعا قومه إلى الاعتراف بألوهيته، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم، كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الزخرف 43/ 54] . وليس قصده من ادعاء الألوهية كما أبان الرازي «1» كونه خالقا السموات والأرض، وإنما وجوب تعظيمه وعبادته، أي عبادة الملك صاحب السلطة والنفوذ المطلق والانقياد التام لأوامره. وهذا من إغراءات الحكم والسلطان، وغرور الملك والعظمة. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فاصنع لي يا هامان الوزير آجرّا، تبني لي به قصرا عاليا جدا، شامخا في الفضاء حتى أصعد به وأرتقي إلى السماء، فأشاهد إله موسى الذي يعبده، توهما منه أنه جسم كالأجسام المادية الأخرى. وإني لأعتقد أنه كاذب في قوله: إن هناك ربا آخر غيري، كما في آية أخرى: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ، فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً، وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر 40/ 36- 37] . وقد أراد فرعون بادعاء الألوهية وبناء أعلى صرح في زمانه التلبيس

_ (1) تفسيره المعروف بالتفسير الكبير: 24/ 253.

والترويج على الناس، والإظهار لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون. ثم ذكر الله تعالى سبب غروره وعناده فقال: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ أي لقد طغى فرعون وقومه وأتباعه وتجبروا، وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد، ولا حساب ولا عقاب، وكل من توهم ذلك هان عليه الطغيان والاستكبار والاستعلاء في الأرض، ولم يعلموا أن الله رقيب عليهم ومجازيهم بما يستحقون، لذا أبان تعالى عقابهم العاجل في الدنيا بعد تهديدهم بعقاب الآخرة فقال: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة، فلم يبق منهم أحد، فانظر أيها المتأمل في قدرة الله وعظمته وآياته كيف كان مصير هؤلاء الظالمين الذي ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وادعى كبيرهم الألوهية من دون الله. ثم ذكر الله تعالى ما يوجب مضاعفة عذابهم فقال: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ أي وجعلنا فرعون وأشراف قومه قادة ضلال في تكذيب الرسل وإنكار وجود الإله الصانع، فلم يكتفوا بضلال أنفسهم، بل قاموا بإضلال غيرهم، فاستحقوا جزاءين: جزاء الضلال والإضلال، ولا أمل لهم في النجاة ونصرة الشفعاء، فهم يوم القيامة لا نصير ولا شفيع لهم ينصرهم من بأس الله ويدفع عنهم عذاب الله، فاجتمع عليهم خزي الدنيا وذل الآخرة، كما قال: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي وألزمناهم بصفة دائمة في الدنيا لعنة وخزيا وغضبا على ألسنة المؤمنين والأنبياء المرسلين، كما أنهم يوم القيامة من المطرودين المبعدين عن رحمة الله، كما قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ، بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود 11/ 99] . وأما موسى وجند الإيمان بعد إغراق فرعون وقومه، فلهم نور التوراة: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى، بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي لقد أنعم الله على عبده ورسوله موسى الكليم عليه السلام بإنزال التوراة بعد ما أهلك فرعون وقومه ومن تقدمهم من قوم نوح وهود وصالح ولوط، ليكون ذلك الكتاب مصدر إشعاع للحياة وأنوارا للقلوب، يميز به بين الحق والباطل، وهداية من الضلال والعمى، ورحمة لمن آمن به، وإرشادا إلى العمل الصالح، لعل الناس يتذكرون به ويتعظون، ويهتدون بسببه. روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى، ثم قرأ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- نفي فرعون ألوهية الله عز وجل وادعاؤه الألوهية، قال ابن عباس: كان بين قوله: وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وبين قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أربعون سنة، وكذب عدو الله، بل علم أن له ثمّ ربّا هو خالقه وخالق قومه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. 2- بناء أعلى صرح شامخ للصعود إلى الله ورؤيته، فخاب وضل وخسر. 3- تعاظم فرعون وجنوده عن الإيمان بموسى ظلما وعدوانا دون أن تكون

لهم حجة تدفع ما جاء به موسى، وتوهموا أنه لا معاد ولا بعث. ويقابل الاستكبار بالباطل الاستكبار بالحق الذي هو لله تعالى، فهو المتكبر في الحقيقة، المبالغ في كبرياء الشأن، قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه فيما رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحة عن أبي هريرة وابن عباس: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار، ولا أبالي» . 4- بالرغم من أن فرعون وقومه كانوا عارفين بوجود إله هو الله تعالى، كما تبين، إلا أنهم كانوا ينكرون البعث: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فلأجل ذلك تمردوا وطغوا. 5- كان عقابهم في الدنيا الإغراق في البحر المالح وهو البحر الأحمر، في صبيحة يوم واحد، بل في دقائق معدودة، وإلزامهم اللعن أي البعد عن الخير، وفي الآخرة هم من المطرودين، المبعدين عن رحمة الله، الممقوتين. 6- لهم عقاب مضاعف إذ كانوا في ضلال وأئمة ضلال ودعاة إلى عمل أهل النار، وزعماء كفر، يدعون الناس إلى الكفر ويتبعونهم فيه، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أشد وأكثر، جاء في الحديث النبوي الذي رواه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي: «من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . 7- البقاء للأصلح، فقد نجى الله موسى وقومه، وأنزل عليه التوراة منارا للحق وتبصرا به، وهدى من الضلالة إلى الرشاد، ورحمة للمؤمنين بها، لعل الناس يتعظون ويرجعون إلى ربهم من قريب، ويذكرون هذه النعمة، فيؤمنوا في الدنيا، ويثقوا بثواب الله في الآخرة. قال يحيى بن سلّام: هو أول كتاب- يعني التوراة- نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام.

الحاجة إلى إرسال الرسل وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم [سورة القصص (28) الآيات 44 إلى 47] :

وكان إنزال التوراة بعد إهلاك القرون الأولى (الأمم الماضية المكذبة) مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وقيل: من بعد إغراق فرعون وقومه وخسف الأرض بقارون، ولعل ذلك إشعار بشدة الحاجة إليها، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها، وحاجة الناس إلى تشريع جديد ينظم لهم شؤون حياتهم. الحاجة إلى إرسال الرسل وبعثة محمد صلّى الله عليه وسلم [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) الإعراب: تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا خبر ثان ل كُنْتَ. وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رَحْمَةً: إما منصوب على المصدر، وإما مفعول لأجله، أي ولكن فعل ذلك لأجل الرحمة، وإما خبر كان مقدرة، أي ولكن كان رحمة من ربك. البلاغة: أَنْشَأْنا قُرُوناً مجاز عقلي، أريد به: أمما في تلك الأزمنة، والعلاقة زمانية. تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ جناس اشتقاق. وقوله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ حذف منه الجواب لدلالة السياق عليه، أي ولولا خشية وقوع المصيبة بهم ما أرسلناك يا محمد رسولا إليهم، فهو إيجاز بالحذف.

المفردات اللغوية:

بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، أريد به بما كسبوا لأن أكثر الأعمال تزاول بالأيدي. المفردات اللغوية: وَما كُنْتَ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي ما كنت حاضرا بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي بجانب الجبل أو الوادي أو المكان الغربي من موسى حين المناجاة، فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى إِذْ قَضَيْنا أوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي أمر الرسالة إلى فرعون وقومه، والمعنى: كلفناه وعهدنا إليه بالرسالة أمرا ونهيا وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين لما حدث، فتعلمه وتخبر به. أَنْشَأْنا قُرُوناً أوجدنا أمما مختلفة من بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي بعد الأمد وطال عمرهم، فنسوا العهود، وحرّفت الأخبار، وتغيرت الشرائع، واندرست العلوم، وانقطع الوحي. وحذف المستدرك بعد لكِنَّا وأقام سببه مقامه وتقديره: فجئنا بك رسولا، وأوحينا إليك خبر موسى وغيره ثاوِياً مقيما، يقال: ثوى بالمكان يثوي به: أقام أَهْلِ مَدْيَنَ قوم شعيب تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرأ عليهم آياتنا التي فيها قصتهم، فتخبر بها بعد معرفتها كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك ومخبرين لك بها، أي أرسلناك بالرسالة المتضمنة أخبار المتقدمين. بِجانِبِ الطُّورِ جبل الطور إِذْ نادَيْنا حين نادينا موسى أن خذ الكتاب بقوة وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن علمناك وأرسلناك رحمة من ربك لِتُنْذِرَ قَوْماً هم أهل مكة وغيرهم يَتَذَكَّرُونَ يتعظونالأولى امتناعية مُصِيبَةٌ عقوبة أو عذاب في الدنيا والآخرة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بما كسبوا من الكفر والمعاصيأَرْسَلْتَ أي هلا، وهي تحضيضية، تفيد الحث على حدوث ما بعدها فَنَتَّبِعَ آياتِكَ المرسل بها، وجواب لولا محذوف، أي لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم، لما أرسلناك رسولا. والمراد أن إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وكل رسول قبله كان لقطع أعذار الناس، وإبطال احتجاجهم بعدم الاعلام والتبليغ. المناسبة: بعد أن قص الله تعالى قصة موسى وهارون مع فرعون وقومه وما تضمنه من غرائب الأحداث والعبر، وأوحى الله تعالى بجميع تلك الأخبار إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، ذكّره بإنعامه عليه بذلك وبما خصه من المغيبات التي لا يعلمها، لا هو ولا قومه، وأبان الحاجة إلى رسالته، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد

التفسير والبيان:

الرسل. وكل ذلك برهان على أن القرآن وحي من عند الله، وعلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث أخبر بالغيوب الماضية وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب. التفسير والبيان: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وما كنت يا محمد حاضرا بجانب المكان أو الجبل الغربي- غرب موقف موسى حين كلم الله موسى، وأوحى إليه أمر الرسالة، وأعطاه ألواح التوراة، وألزمه العهد، وما كنت من الحاضرين لذلك، فتعلمه وتخبر به. ولكنا أعلمناك بخبره ليكون برهانا على نبوتك، إذ تخبر بأخبار الماضين كأنها واقعة أمامك، وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب، مما يدل على كون ذلك الإخبار بوحي من عند الله تعالى، ثم بين سبب ذلك الإخبار: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي والسبب الداعي إلى الإخبار عن الماضين وإنزال الوحي مجددا في القرآن الكريم وجود أمم كثيرة من بعد موسى، بعد بها الأمد، وطال عليها العهد، فاندرست العلوم، وتغيرت الشرائع، ونسي الناس حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين، فجئنا بك يا محمد رسولا تجدد العهد الإلهي، وتبين للناس رسالة الله إليهم، كما قال سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ، قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة 5/ 19] . والآية تنبيه على المعجزة، إذ الإخبار عن قصة مضى عليها مئات السنوات، دون مشاهدة ولا حضور لأحداثها، دليل واضح على نبوة المخبر، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتلا ذلك مؤيدات أخرى مشابهة:

1- وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي وما كنت مقيما بين قوم شعيب في مدين، تقرأ عليهم آياتنا المنزلة، حين أخبرت عن النبي شعيب عليه السلام وما قال لقومه وما ردوا عليه، ولكن- ذات الجلالة- نحن أوحينا إليك ذلك، وأرسلناك للناس رسولا، وأيدناك بهذه الآيات المعجزات، لتكون برهانا على صحة نبوتك وصدق رسالتك، ولولا خبر الوحي ما علمت بذلك ولا أخبرت أحدا بشيء. 2- وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي وما كنت يا محمد أيضا بجانب جبل الطور حين مناداة موسى وتكليمه ومناجاته، حتى تعرف تفاصيل الخبر وتحدث بين الناس. وهذا شبيه بقوله المتقدم: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ولكنه ورد بصيغة أخرى أخص مما سبق وهو النداء، أي مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه «1» . ولكن علمناك وأخبرناك وأنزلنا عليك القرآن المتضمن تلك الأخبار وغيرها، وأرسلناك رحمة مهداة منه بك وبالعباد المرسل إليهم، لتنذر قوما هم العرب لم ينذروا قبل، بأس الله وعذابه إن لم يؤمنوا به، وظلموا على وثنيتهم وضلالهم، لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل، فيصيروا من أهل السعادة. والثابت تاريخيا أنه لم يأت إلى العرب رسول بعد إسماعيل عليه السلام، وأما رسالة موسى وعيسى فكانت خاصة ببني إسرائيل فقط.

_ (1) الظاهر أن الله تعالى كلم موسى مرتين: مرة حين البعثة، ومرة حين اختار سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل للميقات ليظهروا توبتهم من عبادة العجل، ولما كلمه الله وهم يسمعون كلام الله تمردوا وعصوا وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم صرح الله تعالى بسبب إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم فقال: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَيَقُولُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولولا قول الناس ومنهم العرب إذا أصابتهم مصيبة العذاب على كفرهم: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يبين لنا صحة الاعتقاد أو التوحيد، ونظامك الشرعي للحياة، فنؤمن بك ربا واحدا، ونعمل بشريعتك، ما أرسلناك للناس رسولا. ولكنا بعثناك رسولا نذيرا تقيم عليهم الحجة، وتبلغهم رسالة ربهم في العقيدة والأخلاق ودستور الحياة، وتقطع عذرهم وتبطل حجتهم بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير، كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء 4/ 165] وقال سبحانه: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ.. [الأنعام 6/ 156- 157] . وهذا كله من رحمة الله بعباده ألا يعذب إنسانا إلا بعد بيان، ولا يعاقب إلا بعد تكليف وإرسال رسول. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات موضوعين: الأول- إقامة بعض الأدلة على كون القرآن موحى به من عند الله وعلى صحة نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم: وهي الإخبار عن أحوال الأنبياء المتقدمين وقصصهم مع أقوامهم. وخص بالذكر قصتين: هما أولا- مناجاة الله موسى وتكليمه في جبل الطور في المكان الغربي من موقف موسى في الوادي المقدس طوى، حيث

تكذيب أهل مكة بالقرآن وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم. [سورة القصص (28) الآيات 48 إلى 51] :

بعثه رسولا، وأنزل عليه ألواح التوراة، وثانيا- قصة شعيب مع قومه أهل مدين. ولولا الإخبار القرآني بذلك، ما علم بالخبر محمد صلّى الله عليه وسلم وقومه العرب ومنهم أهل مكة، وإنما فعل تعالى ذلك رحمة منه برسوله صلّى الله عليه وسلم وبعباده، لينذرهم بها، وينذر العرب الذين لم يشاهدوا تلك الأخبار. الثاني- بيان الحكمة من إرسال النبي محمد صلّى الله عليه وسلم بل وكل الرسل: وهي تبليغ شريعة الله ووحيه، وتصحيح العقيدة، وإعلان كلمة التوحيد، حتى لا يبقى لهم عذر بالجهل بالأحكام أو الاعتقاد بعد بلوغ خبر الرسل لهم، وإكمال البيان، وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان وإقامة الحجة وبعثة الرسل. وهذا يدل على مبلغ الحاجة الداعية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية. تكذيب أهل مكة بالقرآن وبرسالة النبي صلّى الله عليه وسلم. [سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 51] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُواأُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

البلاغة:

البلاغة: أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسىهنا: أي هلا للتحضيض، لا لامتناع الوجود. قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ يراد بالأمر هنا التعجيز. المفردات اللغوية: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل على محمد الرسول المؤيد بالمعجزات. أُوتِيَ هلا. مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما والكتاب جملة واحدة. أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أولم يكفر أمثالهم من بني جنسهم في الرأي والمذهب، وهم كفرة زمان موسى، وكان فرعون عربيا من أبناء عاد. قالُوا: سِحْرانِ أي القرآن والتوراة، وقرئ: ساحران، أي موسى وهارون أو موسى ومحمد. تَظاهَرا تعاونا وتناصرا. وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ أي من النبيين والكتابين. كافِرُونَ جاحدون. هُوَ أَهْدى مِنْهُما من الكتابين، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين: موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. صادِقِينَ في قولكم: إنا ساحران مختلفان، ويراد بذلك الإلزام والتبكيت. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي لدعائك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدّي إليه حذف الدعاء غالبا، والمراد: فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به. يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ في كفرهم، إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ.. استفهام بمعنى النفي. بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ في موضع الحال للتأكيد، أو التقييد، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى. وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير، فنزل القرآن منجما مفرقا يتصل بعضه ببعض، ويتبع نزول الكتب المتقدمة. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون فيؤمنوا ويطيعوا. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن كفار مكة وغيرهم أنهم عند الخوف من المصيبة

التفسير والبيان:

قالوا: هلا أرسلت إلينا رسولا، فنتّبع آياتك، بيّن أنه بعد إرسال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم إلى أهل مكة قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل، فكفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة محمد، وتعلقوا بشبهة قبل البعثة، وبعد البعثة، مما يدل على أنه لا قصد لهم سوى الزيغ والعناد، لذا طلبوا معجزات مادية كمعجزات موسى كاليد والعصا، وقد كفر أمثالهم المعاندون قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات، ووصفوه بالسحر، فإن استطاعوا الإتيان بكتاب آخر غير كتابي موسى ومحمد، فليأتوا به، وما أنزل القرآن منجما إلا لتجديد الذكرى والعبرة. التفسير والبيان: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي حينما جاء الحق من عند الله وهو القرآن المنزل على رسول الله، قال أهل مكة الذين لم يأتهم رسول من قبل، على وجه التعنت والعناد والتمادي في الكفر والجهل والضلال: هلا أوتي محمد مثلما أوتي موسى قبله من المعجزات والآيات الكثيرة مثل العصا واليد وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى وانفجار الماء من الحجر، ونحو ذلك من الآيات الباهرة التي أجراها الله على يدي موسى حجة وبرهانا له على فرعون وقومه وبني إسرائيل. ولكن هذا مجرد عناد ومكابرة وتهرب من الإيمان: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أولم يكفر أمثالهم من البشر المعاندين بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة، وهم الذين كفروا في زمان موسى بما جاء به، فهذا شأن المكابرين المعاندين دائما. قالُوا: سِحْرانِ تَظاهَرا، وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أي قال هؤلاء القوم المشركون في مكة: القرآن والتوراة سحران، ومحمد وموسى ساحران، تعاونا على التدجيل والتضليل، وصدّق كلّ منهما الآخر، وإنا بكلّ منهما

كافرون، لا نصدق بما جاءا به. فتحداهم الله بأن يأتوا بكتاب آخر أهدى للبشر: قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل يا محمد لقومك: ائتوا بكتاب آخر من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن، وأكثر نفعا وهداية، لكي أتبعه مع غيري، إن كنتم صادقين فيما تقولون أو تدّعون، وتدافعون به الحق، وتعارضون به من الباطل. وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق، ولم يفعلوا ما كلفتهم به من الإيمان بالقرآن وبرسالتك، فاعلم أنهم في عقائدهم الباطلة يتبعون أهواءهم بلا دليل ولا حجة، فهم جماعة أهواء. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً أي وليس هناك أشد ضلالا عن طريق الهدى والرشاد ممن سار مع هواه، وانقاد لشهواته بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، ولم يقم له دليل صائب عن الله، وهذا دليل على بطلان أو فساد التقليد في العقائد، وأنه لا بدّ من الحجة والاستدلال. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إن الله لا يوفق للحق والرشاد الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان، وتكذيب الرسل، واتّباع الأهواء. وهذا عام يتناول كل كافر. وأما حكمة إنزال القرآن منجما فهي: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي ولقد أتبعنا بعض القرآن بعضا في النزول لقريش، حسبما تقتضي الحكمة، وتدل عليه المصلحة، ويلائم كل

فقه الحياة أو الأحكام:

عصر وأوان، لعلهم وأمثالهم من البشر يتعظون ويتنبهون إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، فيؤمنوا بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه، وهو مصدّق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- إن خطة الكفار واحدة في كل زمان، دأبهم المكابرة والعناد والإنكار، وطلب المعجزات المادية المحسوسة، فإنه بالرغم من حدوثها لن يؤمنوا لأن المكذب بمعجزة واحدة مكذب بكل المعجزات. وإذا نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم مثل معجزات موسى عليه السلام كانقلاب العصا حية، واليد البيضاء، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانفجار الحجر بالماء، وإنزال المنّ والسلوى، وكتابة الألواح في التوراة، وتكليم الله له، وإنزال القرآن جملة واحدة كالتوراة، إذا نزل مثل ذلك فهم معتصمون بالكفر مقيمون عليه. 2- إن حجة الكفار في تكذيب كتب الله ورسله واحدة أيضا، وهي الاتهام بأن تلك الكتب سحر مختلق، وأولئك الرسل سحرة مبطلون، بل إنهم متواطئون على السحر والتدجيل، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا. 3- إن اليهود علّموا المشركين أن يقولوا لمحمد صلّى الله عليه وسلم: لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة. وهؤلاء اليهود الذين توارثوا الكفر هم الذين كفروا بما جاء به موسى من قبل، فقالوا في موسى وهارون: هما ساحران، فقلدهم كفار قريش وقالوا عن موسى ومحمد مثل ذلك القول، واتفق الفريقان على الكفر بكلّ من التوراة والإنجيل والقرآن، وعلى الكفر بموسى وعيسى ومحمد على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

4- يقابل التحدي والعناد بتحدّ أشد منه، فإذا كفرتم معاشر اليهود والمشركين بكتب الله المنزلة على رسله، فأحضروا كتابا أهدى منها يتبعه الناس، ليكون ذلك عذرا لكم في الكفر، ومسوغا لما أنتم عليه، إن كنتم صادقين في أن تلك الكتب سحر مفترى، وقد مهر اليهود والعرب بالسحر. 5- إذا لم يؤمن الناس بهذا القرآن ولم يأتوا بكتاب من عند الله، فهم أهل ضلال وأهواء، يتبعون ما تملي عليهم شهواتهم وآراؤهم الخاصة وشياطينهم، دون حجة لهم ولا دليل. 6- لا أحد أضل ممن سار مع هواه، فهو ظالم، والله لا يوفق الظالمين للخير، وهداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين. 7- لقد تتابع إنزال الكتب من عند الله، وإرسال الرسل، وأخبار الأنبياء بعضها ببعض، كتابا بعد كتاب، ورسولا بعد رسول، وخبرا بعد خبر، وتتابع أيضا نزول القرآن منجما مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، وعلى وفق الحكمة والمصلحة، ليستمر صوت التذكير والتنبيه، وتتجدد الدعوة إلى الإيمان حالا بعد حال، وزمانا إثر زمان. ثم خلد الله صوت الحق الإلهي بهذا القرآن، وجعله ذكرى متجددة دائمة للأجيال، بما تكفل له من الصون والحفظ عن التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، وبما اشتمل عليه من التنوع في الأسلوب والخطاب وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ونصائح ومواعظ، إرادة أن يتذكر الناس به فيؤمنوا به ويعملوا بموجبه، فيفلحوا، ويقلعوا عن اتباع الأديان الباطلة المنسوخة، وعن الأهواء والشهوات البائدة الفارغة، والوثنية البدائية المنافية لكرامة الإنسان، والمصادمة للعقل البشري السوي.

إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن [سورة القصص (28) الآيات 52 إلى 55] :

8- لا يقبل التقليد في العقائد، وإنما لا بدّ من غرس العقيدة بالحجة والبرهان. 9- نبّه القرآن بتحدي العرب وغيرهم الإتيان بمثله على عجز محاكاته على الدوام، وأنه كتاب موحى به من عند الله تعالى، فهو حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] . 10- تنطق الآيات جملة وتفصيلا بالدلالة على نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم. إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن [سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) المفردات اللغوية: مِنْ قَبْلِهِ أي قبل القرآن، بدليل قوله الآتي: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ أي صدقنا بأنه كلام الله تعالى. مُسْلِمِينَ منقادين خاضعين لله تعالى. يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بالكتابين: كتابهم والقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم على العمل بهما. وَيَدْرَؤُنَ يدفعون. بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي بالطاعة المعصية، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذرّ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» . يُنْفِقُونَ يتصدقون. اللَّغْوَ هو الساقط من القول، والمقصود به هنا الشتم والأذى من الكفار. أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرما. سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام متاركة لهم وتوديع أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم ولا نريدها، ولا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل، فنعاملكم بالمثل.

سبب النزول نزول الآية (52) :

سبب النزول: نزول الآية (52) : وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ: أخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم رفاعة- يعني أباه- إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فآمنوا فأوذوا، فنزلت: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. وأخرج أيضا عن قتادة قال: كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق، حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، فآمنوا به، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام. وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ عليهم: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا «1» . وعلى كل حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. المناسبة: بعد أن أقام الله تعالى الدليل على أن القرآن وحي من عند الله، وعلى صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، أكد ذلك بأن جماعات من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وحده قبل نزول القرآن، أسلموا وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، حين اقتنعوا بصدقه وصحة ما أنزل عليه، فكان غير أهل الكتاب أولى بالإيمان أو الإسلام. التفسير والبيان: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ أي إن جماعة من علماء أهل الكتاب الأولياء الأصفياء، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا النبي محمدا صلّى الله عليه وسلم، آمنوا بالقرآن، لمطابقته لأصول كتبهم المتقدمة، وبشارة تلك

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 393 [.....]

الكتب بمحمد وتطابق الأوصاف عليه. فقوله: مِنْ قَبْلِهِ أي قبل القرآن. وهُمْ بِهِ أي بالقرآن أو بمحمد صلّى الله عليه وسلم أو بهما معا يصدّقون. وللآية نظائر كثيرة منها: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة 2/ 121] ، ومنها: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران 3/ 199] ، ومنها: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ: سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الإسراء 17/ 107- 108] . وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أي وإذا قريء عليهم القرآن، قالوا: صدقنا به، وآمنا بأنه الكلام الحق الصدق الثقة من ربّنا، وكنا مصدقين بالله مسلمين له أي موحدين، مخلصين لله، مستجيبين له، من قبل نزول هذا القرآن، أو من قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم. وهذا دليل على قدم إيمانهم، لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدم النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، فمدحهم تعالى بهذا المدح العظيم وقال: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول وهو كتابهم، ثم بالثاني وهو القرآن لهم ثواب مضاعف مرتين، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمانين، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس، فإنهم لم يأبهوا بإيذاء قومهم. ونظير الآية: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد 57/ 28] ، وورد في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن

بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة، فأدّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها» . وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتاب، فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا» . وبعد أن مدحهم الله تعالى بالإيمان أولا، أثنى عليهم بالطاعات البدنية في قوله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ثم بالطاعات المالية في قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم باشتغالهم بالطاعات والأفعال والأخلاق الحسنة في قوله: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ فقال: - وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون السيئة بالحسنة، فلا يقابلون السيء بمثله، ولكن يعفون ويصفحون. - وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من رزق الله الحلال في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم، ويؤدون الزكاة المفروضة، والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات. - وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي وإذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام وهو الساقط من القول من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب، أعرضوا عن أهله، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم، بل كانوا كما قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان 25/ 72] . وقالوا إذا سفه عليهم سفيه، وكلّمهم بما لا يليق: لنا أعمالنا فنحن المسؤولون عنها ثوابا وعقابا، ولكم أعمالكم عليكم تبعاتها، لا نرد عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، أو سلمكم الله مما أنتم فيه، لا نريد اتباع طريق

فقه الحياة أو الأحكام:

الجاهلين ولا نحبها ولا نصاحب أهلها، ونؤثر الكلام الطيب، ولا نقابل الكلام القبيح بمثله. ونظير الآية وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان 25/ 63] قال الحسن رحمه الله عن كلمة سَلامٌ عَلَيْكُمْ: هذه الكلمة تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين. روى محمد بن إسحاق في سيرته: أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به، وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم. فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. ويقال: إن هؤلاء النفر النصارى من أهل نجران «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي:

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 394، وهو مروي عن عروة بن الزبير.

1- إذا كان الإيمان بالله صحيحا منسجما مع الوحي الثابت الصحيح، سهل التقاء رافدي الإيمان، وتيسر الدمج بين الإيمانين، إن تجرد الإنسان عن العصبية والهوى، والمصلحة الذاتية، والنفع المادي. وهذا ما تحقق لجماعة من أهل الكتاب من بني إسرائيل، آمنوا بالله ربّا واحدا لا شريك له قبل القرآن بمقتضى كتابهم السماوي، ثم آمنوا بالقرآن، لمطابقته مع أصل ذلك الكتاب المتقدم، وهؤلاء كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، ومن أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام، وكانوا أئمة النصارى، منهم بحيرا الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. وقيل: أكثر من ذلك. 2- هؤلاء المؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب يضاعف لهم الثواب أو الأجر مرتين: مرة لإيمانهم بكتابهم، ومرة لإيمانهم بالقرآن بسبب صبرهم على الأذى الذي يلقونه من الكفار. 3- المؤمن الكامل الإيمان شأنه الاشتغال بمرضاة الله تعالى، فيبادر إلى الطاعات البدنية والمالية، ويتحلى بالخلق الفاضل، وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب بأنهم يقابلون السيئة بالحسنة، أي بالاحتمال والعفو والصفح والكلام الحسن، وهذا من مكارم الأخلاق، وينفقون من أموالهم في الطاعات والقربات، فيحسنون إلى البائسين والمعوزين، وفي ذلك حضّ على الصدقات، ويعرضون عن لغو الكلام، فلا يتكلمون بالكلام القبيح، وإنما ينطقون دائما بالكلام الطيب، فإذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم، أعرضوا عنه، أي لم يشتغلوا به، قال صلّى الله عليه وسلم لمعاذ في حديث أبي ذر المتقدم والمروي أيضا عن معاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» ومن الخلق الحسن: دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا، بالإعراض عنه ولين

الرد على شبهات المشركين [سورة القصص (28) الآيات 56 إلى 61] :

الحديث، وهذا مؤيد لمعنى الآية: وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام متاركة ومفارقة، لنا ديننا ولكم دينكم، فهذا ليس من التحية في شيء. ولا نبتغي الجاهلين، أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة، ولا نرغب في مصاحبتهم، ولا نودّ معاشرتهم، ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم. الرد على شبهات المشركين [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 61] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

الإعراب:

الإعراب: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا مفعول لأجله. وَكَمْ أَهْلَكْنا كَمْ: منصوبة ب أَهْلَكْنا. بَطِرَتْ مَعِيشَتَها منصوب بحذف حرف الجر، أي بطرت في معيشتها، ولا يجوز نصبه على التمييز، لأن التمييز لا يكون إلا نكرة، ومعيشتها: معرفة. البلاغة: إِنَّكَ لا تَهْدِي وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بينهما طباق السلب. حَرَماً آمِناً مجاز عقلي، نسب الأمن إلى الحرم، وهو لأهله، وعلاقته المكانية. أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً ... أورد الكلام بصيغة الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا. المفردات اللغوية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته، أي لا تقدر أن تدخله في الإسلام. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيدخله في الإسلام، والهداية نوعان: الدلالة والإرشاد إلى الخير، والتوفيق بعد توافر أصل الهداية. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ عالم بالمستعدين للهداية. وَقالُوا أي قريش. نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ننتزع منها بسرعة، أي نخرج من البلاد. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن من الإغارة والقتل، بحرمة البيت الذي فيه ويتناحر العرب حوله، وهم آمنون فيه. يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه ويجمع فيه، جبى الماء: جمعه، والجابية: الحوض العظيم. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل مكان. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا رزقا لهم من عندنا. لا يَعْلَمُونَ أن ما نقوله حق، فهم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا. والمعنى المراد: فإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف نعرّضهم للخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي كم من أهل قرية كانت حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. فقوله: بَطِرَتْ مَعِيشَتَها من البطر: وهو الأشر وقلة احتمال النعمة، والمراد من بطرت: بغت وتجبرت ولم ترع حق الله في زمن معيشتها. إِلَّا قَلِيلًا أي لم تسكن إلا فترات قليلة للمارة يوما أو بعضه، من شؤم معاصيهم. وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم، إذ لم يخلفهم أحد في ديارهم وتصرفاتهم. وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته. أُمِّها أصلها وعاصمتها (قصبتها) وأعظمها.

سبب النزول:

رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو في الكفر. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أسباب الدنيا. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي تتمتعون وتتزينون به أيام حياتكم ثم يفنى. وَما عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه. خَيْرٌ في نفسه من ذلك، لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. وَأَبْقى أدوم وأبدي. أَفَلا تَعْقِلُونَ تتفكرون، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرئ يعقلون وهو أبلغ في الموعظة. وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً وعدا بالجنة، فإن حسن الوعد بحسن الموعود. فَهُوَ لاقِيهِ مدركه لا محالة، لامتناع الخلف في الوعد، ولذلك عطفه بالفاء المتضمنة معنى السببية. كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي يزول عن قريب، ويختلط بالآلام والمتاعب. مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعذاب بالنار، وقوله: ثُمَّ للتراخي في الزمان أو الرتبة. والمراد بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ المؤمن، وبقوله: كَمَنْ مَتَّعْناهُ الكافر، أي لا تساوي بينهما، وهذه الآية كالنتيجة التي قبلها، ولذلك رتب عليها بالفاء. سبب النزول: نزول الآية (56) : إِنَّكَ لا تَهْدِي: أخرج مسلم وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش، يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وأخرج النسائي وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ في أبي جهل وأبي طالب؟ قال: نعم. نزول الآية (57) : وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناسا من قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن نتبعك تخطفنا الناس، فنزلت.

نزول الآية (61) :

وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك، وعبارته- كما في البيضاوي-: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب- وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلو العدد- أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى الآية. نزول الآية (61) : أَفَمَنْ وَعَدْناهُ: أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ الآية، قال: نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه: أنها نزلت في حمزة وأبي جهل. المناسبة: بعد بيان إيمان طوائف من أهل الكتاب، ذكر الله تعالى شبهة المشركين في امتناعهم عن الإيمان، ثم رد عليها بأجوبة ثلاثة، مفتتحا الكلام بتقرير أن الهداية للدين وهي هداية التوفيق هي لله تعالى لا لرسوله، وأثبت له في آية. أخرى هي وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى 42/ 52] هداية الدلالة والإرشاد والبيان. التفسير والبيان: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية من أحببت هدايته هداية توفيق، فليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، والله هو الذي يستطيع هداية من يشاء هداية توفيق وشرح صدر، بأن يقذف نورا في قلبه، فيحيى به، كما قال سبحانه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ

[الأنعام 6/ 122] وله الحكمة البالغة، وربّك هو العالم بالمستعدين للهداية، فيهديهم، لأنهم مستحقون لها، وعالم أيضا بالمستعدين للغواية، فلا يهديهم، لأنهم لا يستحقونها. والمراد بالآية تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم في عدم تمكنه من هداية قومه. ويلاحظ أنه لا دلالة في ظاهر هذه الآية على كفر أبي طالب، لكن الثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما بينت، قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمدا وصدقوه، تفلحوا وترشدوا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا عم، تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى، قال: يا ابن أخي، قد علمت أنك صادق، ولكني أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبّة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف» . قال القرطبي: والصواب أن يقال: أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو نص البخاري ومسلم. ونظير الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] وقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] . والخلاصة: أن الهداية- كما ذكر الرازي:- بمعنى الإلجاء والقسر غير جائز، لأن ذلك قبيح من الله تعالى في حق المكلف، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو

الحاجة، وهما محالان، ومستلزم المحال محال، فذلك محال من الله تعالى، والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة «1» . ثم أخبر الله تعالى عن شبهة المشركين في عدم إيمانهم بالنبي صلّى الله عليه وسلم، واعتذارهم بعذر واه، فقال: وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي قال المشركون: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا ما حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، ويخرجونا من ديارنا. فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بثلاثة أجوبة: 1- تأمين الحرم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي إن هذا الاعتذار كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحرم آمن معظّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنا لهم إن أسلموا واتبعوا الحق؟ ومن خصائص الحرم المكي: أنه يحمل إليه من سائر الثمار في كل البلدان، كما تحمل إليه أصناف المتاجر والأمتعة، تفضلا بالرزق من عند الله، ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون «2» لما فيه الخير والسعادة، ولا يتفكرون ليعلموا الأحق بالعبادة، ويقلعوا عن عبادة ما سواه. 2- التذكير بإهلاك الأمم: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي ليعلم

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 3 (2) فطن للشيء يفطن بالضم فطنة، وفطن- بالكسر- فطنة أيضا.

هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النعم أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النعم، فكثيرا ما أهلك الله من القرى أي أهلها التي أبت الإيمان، وكفرت، وبغت وطغت وأشرت، وجحدت بأنعم الله وأرزاقه المغدقة، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها، لا يسكن فيها أحد إلا لمدة قليلة، يبيت فيها المارة يوما أو بعض يوم، وأصبح الوارث هو الله لأنها رجعت خرابا ليس فيها أحد يخلفهم فيها. ويقال للشيء الذي ترك بلا مالك: إنه ميراث الله، لأنه المالك الحقيقي للكون، والباقي بعد فناء خلقه. ونظير الآية قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل 16/ 112] . ثم أخبر تعالى عن عدله في إنزال العقاب، فقال: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي وما كانت عادة ربك وسنته أن يهلك المدن والقرى بأهلها حتى يرسل في أصلها وعاصمتها وأكبرها رسولا يبين لهم الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وأحقيته بالعبادة، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ولا عذر بعدم معرفة الحق، فيهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولا يهلك أهل القرى أو أحدا من خلقه إلا وهم ظالمون أنفسهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات. وهذا دليل على عدل الله في خلقه، فلا عقاب إلا بعد بيان، ولا إهلاك مع إيمان، وإنما العقاب والهلاك حال الظلم واجتراح المعاصي، واقتراف المنكرات والآثام التي أكبرها الشرك بالله تعالى.

وللآية نظائر كثيرة منها: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] . وفي الآية دليل على أن النبي الأمي وهو محمد صلّى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى (مكة) رسول إلى جميع القرى من عرب وعجم، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى 42/ 7] وقال سبحانه: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقال عز وجل: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] . 3- التدين أو الإيمان لا يضيع منافع الدنيا: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، أَفَلا تَعْقِلُونَ أي إن الدنيا وما فيها من زينة وزخرف ومتاع فانية حقيرة بالنسبة لما أعده الله لعباده الصالحين من المنافع والنعم في الدار الآخرة، فكل ما أعطيتم أيها الناس من أموال وأولاد وزينة وزخارف، فهو مجرد متاع مؤقت وزينة زائلة، لا يجدي عند الله شيئا، وهو زائل وزهيد إذا قيس بنعم الآخرة، فنعيم الآخرة باق دائم خير في ذاته من متاع الدنيا، كما قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 16/ 96] وقال سبحانه: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران 3/ 198] وقال عز وجل: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 16- 17] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الثابت: «والله، ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر ماذا يرجع إليه» !! أفلا يعقل ويتفكر من يقدّم الدنيا على الآخرة، أفلا يتدبر من يؤثر الفاني على الباقي!! ألا فليفكر الإنسان في اختيار ما هو الخير الدائم له، ويترك الشر الذي يصيبه بالأذى. ثم أكّد الله تعالى ذلك المعنى فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي فليقارن الإنسان ليعلم ترجيح ما عند الله وتفضيله على زينة الدنيا، وكيفية المقارنة: أفمن هو مؤمن بكتاب الله مصدق بوعد الله وثوابه على صالح الأعمال بالجنة وجزيل النعيم، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أياما قلائل، ثم يصير أمره يوم القيامة من المعذبين في نار جهنم؟! فقولهم: إنا تركنا الدين خشية فوات منافع الدنيا خطأ وقول غير سديد لأن الدين لا يفوت تلك المنافع، فهي حقيرة في ميزان الله، وإنما يكون إيثار الدنيا مفوتا لمنافع الآخرة، وسببا أيضا للعقاب الدائم في الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يلي: 1- يخص الله تعالى بعض خلقه بخلق الهداية ومعرفة طريق الجنة، ويمنع البعض منها، ولا يسأل عما يفعل. وليس معنى الهداية والضلال القسر والإلجاء عليهما فذلك غير جائز شرعا وعقلا، وهو قبيح من الله تعالى في حق الإنسان المكلف بالتكاليف الشرعية. ولقد بان من سبب النزول الثابت في الصحيحين أن أبا طالب مات على غير الإيمان، والله أعلم. 2- الله تعالى هو المختص بعلم الغيب، فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي. 3- قال مشركو مكة للنبي صلّى الله عليه وسلم معتمدين على شبهة واهية وتعلل مرفوض أو عذر غير واقعي ولا منطقي: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا (مكة)

لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم. قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي. 4- أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة: الأول- أنه سبحانه جعل حرم مكة ذا أمن، فكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فقد أمّنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم، فما الذي يمنعهم من الإيمان بعد توافر الأمان؟! ومن مزايا الحرم المكي بعد الأمن أنه يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد، فضلا ورزقا من عند الله، ولكن أكثر المكيين لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من رزقهم وأمّنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. وخلاصة هذا الجواب: أنه تعالى لما جعل الحرم آمنا، وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى، مقبلين على عبادة الأوثان، فلا حرج في إيمانهم إذ لو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى. فهذا رد أول على تعللهم بترك الإيمان. الثاني- بعد أن بيّن تعالى ما خص به أهل مكة من النعم، أتبعه ببيان ما أنزله على الأمم الماضية المنعمين بنعم الدنيا بسبب تكذيب الرسل، فإذا توهموا أنه لو آمنوا لقاتلتهم العرب، فذلك وهم باطل لأن الخوف في ترك الإيمان أكثر. فكم من قوم كفروا، ثم حلّ بهم الدمار، ولما قالوا: إنا لا نؤمن خوفا من زوال نعمة الدنيا، بيّن الله تعالى لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم، لا الإقدام على الإيمان والدليل أنه تعالى أهلك كثيرا من

الأقوام بسبب البطر وهو ألا يحفظ حق الله تعالى في الغنى، فأصبحت مساكنهم غير مسكونة بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من السكنى أو سكونا قليلا، فلم يسكنها إلا المسافرون أو المارة بالطريق يوما أو بعض يوم، وكان الله هو الوارث لها بعد هلاك أهلها. ومن المعلوم أنه إذا لم يبق للشيء مالك معين قيل: إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه. ثم أوضح الله تعالى سنته في الإهلاك: وهي أنه لم تكن عادة الله أو سنته أن يهلك القرى الكافرة، حتى يبعث في عاصمتها وأعظمها رسولا، كما أرسل إلى أهل مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم، ثم لم يهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لظلمهم ولإصرارهم على الكفر بعد إعذارهم وإنذارهم. وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم. والخلاصة: أن إهلاكهم لا يكون إلا بأمرين: استحقاقهم الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة، والإلزام ببعثة الرسل. الثالث- إن قول أهل مكة: تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا خطأ عظيم لأن ما يتمتعون به مدة حياتهم زائل، وما عند الله خير وأبقى، أي أفضل وأدوم، أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني؟! أما إنه خير: فلأن المنافع في الآخرة أعظم، ولأنها خالصة عن الشوائب، أما منافع الدنيا فمشوبة بالمضار، بل المضار فيها أكثر. وأما إنها أبقى: فلأنها دائمة غير منقطعة، ومنافع الدنيا منقطعة، وإذا قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما، ثم إن نصيب كل واحد من منافع الآخرة إذا قورن بمنافع الدنيا كلها يعدّ كالذرة بالقياس إلى البحر.

تقريع المشركين يوم القيامة بأسئلة ثلاثة [سورة القصص (28) الآيات 62 إلى 67] :

وهل يعقل التسوية بين الموعود وعدا حسنا وهو الجنة وما فيها من الثواب والممتع بمتاع الدنيا، أي الذي أعطي منها بعض ما أراد، ثم يوم القيامة كان من المحضرين في النار. قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم. وقال الثعلبي: وبالجملة، فإنها نزلت في كل كافر متّع في الدنيا بالعافية والغنى، وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله، وله في الآخرة الجنة. والخلاصة: تترجح منافع الآخرة على منافع الدنيا بأمرين: الدوام والبقاء، وعدم العقاب، أما منافع الدنيا فهي إلى انقطاع وفناء، ويحصل بعدها العقاب الدائم إذا لم تقترن بطاعة الله. 5- دل قوله سبحانه: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا، كان خارجا عن حد العقل السليم. واستدل الشافعي رحمه الله بهذا القول على أن من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس، صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأن أعقل الناس من أعطى القليل، وأخذ الكثير، وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى. تقريع المشركين يوم القيامة بأسئلة ثلاثة [سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

الإعراب:

الإعراب:: كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ حذف مفعولا الفعل: تَزْعُمُونَ، أي تزعمونهم شركائي. هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا خبر المبتدأ الثاني، أي: هؤلاء هم الذين أغوينا. ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ كَما: إما نافية، وإما مصدرية، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا، والوجه الأول أوجه. البلاغة: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ استفهام على سبيل التهكم والسخرية. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تشبيه مرسل. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ فيه استعارة تصريحية تبعية، وقلب، وتضمين، أستعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم، وأصله: فعموا عن الأنباء، وضمّن معنى الخفاء فعدي ب (على) . المفردات اللغوية: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ منصوب بفعل محذوف: اذكر، أو معطوف على: يوم القيامة في الآية السابقة (61) . كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما. حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب وثبت مقتضى القول وحصل مؤداه، وهو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] وغيره من آيات الوعيد، أي ثبت القول عليهم بدخول النار، وهم رؤساء الضلالة. هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا قال صاحب الكشاف: هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنا أي أضللنا: صفة المبتدأ، وأَغْوَيْناهُمْ الخبر، وكاف كَما صفة مصدر محذوف تقديره: أغويناهم، فغووا غيا، مثل ما غوينا، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا، ولم نكرههم على الغي لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا، لا قسرا وإلجاء، فلا فرق إذن بين

المناسبة:

غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، والغواية: الضلال. تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم أي من عبادتهم إيانا. ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ كَما نافية، أي ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام الذين تزعمون أنهم شركاء الله. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يجيبوا دعاءهم، لعجزهم عن الإجابة والنصرة. وَرَأَوُا الْعَذابَ أبصروه هم. لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في الدنيا، لما رأوه في الآخرة. فَعَمِيَتْ خفيت. الْأَنْباءُ الأخبار والحجج التي تنجيهم. يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، لم يجدوا خبرا لهم فيه نجاة، أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، وأصله: فعموا عن الأنباء، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يأتي من خارج. فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك. وَآمَنَ صدق بتوحيد الله. وَعَمِلَ صالِحاً أدى الفرائض، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح. مِنَ الْمُفْلِحِينَ الناجحين عند الله، وعسى: تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح. المناسبة: بعد بيان كون التمتع في الدنيا بزخارفها دون طاعة الله وشكره على نعمه سببا في عذاب الكافر يوم القيامة، أبان الله تعالى حالة الإهانة والتقريع للمشركين أو الكافرين حين يسألهم الله تعالى يوم القيامة ثلاثة أسئلة يحارون في الجواب عنها، وهي السؤال عن آلهتهم التي عبدوها في الدنيا، وعن دعوتهم لها، وعما أجابوا به الرسل الذين دعوهم إلى الإيمان بربهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة بحيث يناديهم ويسألهم عن ثلاثة أشياء: الأول- السؤال عن نصرة الآلهة المزعومة: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي واذكر أيها الرسول يوم ينادي الحق تعالى

هؤلاء المشركين، فيقول لهم: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا من الملائكة والجن والكواكب والأصنام والأنداد والأشخاص، وتزعمون أنهم شركائي، هل يشفعون لكم، وهل ينصرونكم أو ينتصرون؟ والمقصود من السؤال الإهانة والتحقير، والتقريع والتنديد، فلا جواب لديهم لأنهم عرفوا يوم القيامة بطلان ما كانوا عليه، وأدركوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة. ونظير الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام 6/ 94] . ثم ذكر جواب أئمة الضلال ودعاة الكفر، فقال: قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا، تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق فيهم مؤداه ولزمهم الوعيد، بقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] : ربنا هؤلاء الأتباع الذين آثروا الكفر على الإيمان كان غيهم باختيارهم، كما أن غينا باختيارنا، فإن إغواءنا وإضلالنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية والضلال قسرا وإكراها، بل كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد والأعمال. والمراد أن تبعة غيهم عليهم لا علينا. ونحن نتبرأ إليك منهم، ومن عقائدهم وأعمالهم، ومما اختاروه من الكفر والعصيان، وهم في الحقيقة ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شياطينهم، فالمعبودون شهدوا أنهم أغووا الأتباع فاتبعوهم، ثم تبرؤوا من عبادتهم. وذلك كما قال تعالى في آية أخرى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ

عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] وقال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقال عز وجل: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة 2/ 166] . السؤال الثاني- السؤال عن جواب الآلهة لدفع العذاب: وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، فَدَعَوْهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَأَوُا الْعَذابَ، لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أي وقيل للمشركين بالله: ادعوا شركاءكم آلهتكم ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون في الدار الدنيا، فدعوهم لفرط الحيرة والدهشة، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الجواب، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب عن الجواب، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب المحدق بهم لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين في الدنيا. وعلى هذا جواب لَوْ محذوف، أي ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون. ونظير الآية: وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 52- 53] . والقصد من هذا السؤال التوبيخ والتقريع وكشفهم أمام الناس، بدعائهم من لا نفع له ولا فائدة ترتجى منه، فهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة، وأن العذاب مقرر لهم ثابت عليهم. وفي ذلك ردع وزجر عن الشرك وخرافاته في الدنيا. السؤال الثالث- السؤال عن التوحيد وإجابة الأنبياء: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ أي واذكر يوم ينادي الله تعالى المشركين لمعرفة جوابهم للمرسلين إليهم، وكيف كان حالهم معهم، وعن التوحيد الذي دعوا

فقه الحياة أو الأحكام:

إليه، وهذا كما يسأل العبد في قبره: من ربّك، ومن نبيك، وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول: هاه هاه لا أدري، فلا جواب له يوم القيامة غير السكوت. وفي هذا إثبات النبوات، وإعلان التوحيد، والبراءة عن الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ، فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي فخفيت عليهم الحجج، وعموا عن أوجه الدفاع عن أنفسهم يوم القيامة، ولم يجدوا بدا من السكوت، ولا يسأل بعضهم بعضا كما يسأل الناس في المشكلات، لما اعتراهم من الدهشة والذهول، ولتساوي الناس جميعا في عمى الأنباء عنهم والعجز عن الجواب، حتى الأنبياء، كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ، قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 5/ 109] فما ظنك بهؤلاء الضلال؟! وسميت حججهم أنباء (أخبارا) لأنها أخبار يخبرونها. وبعد بيان الصورة القاتمة لحال هؤلاء المشركين وتوبيخهم، ذكر الله تعالى حال التائبين ترغيبا في التوبة والبراءة عن الكفر، فقال: فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي فأما الذين تابوا من المشركين، وصدقوا بالله وتوحيده، وأخلصوا العبادة له، وآمنوا بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، وعملوا الأعمال الصالحة في الدنيا من فرائض وغيرها، فهم ناجون فائزون برضوان الله ونعيمه في الجنة يوم القيامة. وعسى من الله على سبيل التحقق، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة، وأما من العبد فتوقع وترج أن يفلح ويفوز بما طلب. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات تنبيها وإنذارا مسبقا، وتوبيخا، وزجرا عن الكفر، كي يتدارك الإنسان أمره في الدنيا، كيلا يفاجأ بالمصير المشؤوم يوم القيامة.

وفيها تفنيد لمزاعم الكفار في شفاعة الآلهة المختلقة، ونصرتها لعابديها في عالم الحساب في الآخرة. ففي التساؤل الأول تتبدد الآمال، وتزول الرجاءات، وتنقطع الأطماع، فلا يجد العابدون فائدة في نصرة الشركاء وشفاعتهم لهم، ويتبرأ بعضهم من بعض، فالشياطين يتبرءون ممن أطاعهم، والرؤساء يتبرءون ممن قبل منهم، وتقع الكارثة، ويبهت المجرمون الكافرون، كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] . وفي التساؤل الثاني تشتد الحيرة وتسيطر الدهشة، فيستغيث الكفار بآلهتهم التي عبدوها في الدنيا لتنصرهم وتدفع عنهم عذاب يوم القيامة، فلا يجدون جوابا لاستغاثتهم، ولا صدى لدعائهم، ولا ينتفعون أصلا بهم، وودّوا حين رأوا العذاب محدقا بهم لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إلى الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه وبما جاء به رسوله. وفي التساؤل الثالث وهو الأمر الحاسم يطلب منهم الجواب عما أجابوا به رسل الله وأنبياءه الكرام لما بلغوهم رسالات ربهم، ولكنهم يسكتون بسبب الحيرة والهول واستيلاء الدهشة عن الجواب، وتخفى عليهم الحجج، فلا يجدون حجة لهم يوم القيامة، ولا يتمكنون من سؤال بعضهم بعضا عن الحجج لأن الله تعالى أدحض حججهم، وأخرس ألسنتهم، إذ كل ما يقولونه باطل محض لا خير فيه. وفي هذا إثبات التوحيد والنبوة. وأمام هذه الصورة الكئيبة والحالة المفجعة، فتح الله أمام أولئك المشركين والكفار باب الأمل بالفوز والفلاح وإحراز السعادة، وهو باب التوبة، وطريق أهل الحق والإيمان، وحكم سبحانه أنه بالرغم من سوء حال المشركين الماضية في الدنيا لو تابوا من الشرك، وصدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر،

صاحب الحق المطلق في الاختيار المستحق للحمد والعبادة [سورة القصص (28) الآيات 68 إلى 70] :

وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، لكانوا بالتأكيد من جانب الله من الفائزين بالسعادة، فإن «عسى» من الله واجبة، ومن جانبهم على طريق الأمل والرجاء وتوقع النجاة والفوز. وفي هذا ترغيب في التوبة والتخلص من ظلمة الكفر، وضلال الشرك، وإعمال الفكر في طريق العودة إلى الله إيمانا بوجوده ووحدانيته، وتصديقا بالكتب والرسل والبعث، ومبادرة إلى القيام بالتكاليف الإلهية. صاحب الحق المطلق في الاختيار المستحق للحمد والعبادة [سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) الإعراب: ما يَشاءُ وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ: ما الأولى: اسم موصول بمعنى الذي، في موضع نصب مفعول به ل يَخْلُقُ. وما الثانية: نافية لا موضع لها من الإعراب. البلاغة: تُكِنُّ ويُعْلِنُونَ الْأُولى وَالْآخِرَةِ بين كل طباق. المفردات اللغوية: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ فيه إثبات حرية الخلق والاختيار لله عز وجل، دون موجب عليه ولا مانع له. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فيه نفي الاختيار عن المشركين وغيرهم، والخيرة: هي الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله أن ينازعه أحد في اختياره. تَعالى تعاظم وتقدس عن إشراكهم. تُكِنُّ صُدُورُهُمْ تخفي أو تسرّ قلوبهم من

المناسبة:

الكفر وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلم والحقد عليه وغير ذلك. وَما يُعْلِنُونَ يظهرون بألسنتهم من الطعن في الرسول صلّى الله عليه وسلم وغيره. وَهُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقها إلا هو. فِي الْأُولى الدنيا. وَالْآخِرَةِ الجنة. لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في كل شيء دون مشاركة أحد. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور. المناسبة: بعد توبيخ المشركين على اتخاذ الشركاء ودعوتهم للشفاعة والنصرة، أبان الله تعالى أنه هو صاحب الاختيار المطلق في تعيين الشفعاء، لا المشركون، وكذا في اصطفاء بعض المخلوقات للرسالة والنبوة وتمييزهم عن غيرهم، فكان اختيار المشركين جهلا وغباء وضلالا. وسبب كون الاختيار لله: أنه العالم بالخفايا والظواهر، وأنه لإنعامه المستحق للعبادة، فلا يستحقها إلا هو، وأنه صاحب القضاء النافذ في كل شيء، وأن إليه المرجع والمآب للسؤال والحساب. التفسير والبيان: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أنه تعالى يخبر أنه المنفرد بالخلق والاختيار دون منازع ولا معقب، والمعنى: ربك يا محمد وكل سامع صاحب الحق المطلق في خلق ما يشاء، واختيار ما يريد، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه، يختار أقواما لأداء الرسالة، ويصطفي من الملائكة والناس رسلا لأداء المهمة، ويمنح الحق في الشفاعة لمن يريد، يميز بعض مخلوقاته على بعض. وليس للمشركين ولا لغيرهم أن يختاروا شيئا، فيقولوا مثلا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] أي إما على الوليد بن المغيرة أو على عروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف. فقوله تعالى ما كانَ:

ما نافية على الصحيح كما نقل عن ابن عباس وغيره، ولأن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا نزّه تعالى نفسه في منازعة أحد في سلطانه، فقال: سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزيها لله وتقديسا وتعاليا عن إشراك المشركين، وعن أن ينازعه أحد في اختياره وخلقه من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئا. والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إلى الله تعالى، ليس لأحد فيه شركة ومنازعة. ثم بيّن الله تعالى كون اختياره مبنيا على علم ثابت صحيح فقال: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي وربك أيها العبد المخلوق يعلم ما تخفيه صدورهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وسرائرهم من الكيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وعداوته، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق، كما قال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد 13/ 10] . وهذا العلم الشامل المطلق صادر ممن له خصائص الألوهية وكونه الإله الفرد الصمد، فقال: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هو المنفرد بالألوهية، فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار غيره، فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء. وفيه تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، منزها عن النقائص والآفات، لذا كان هو المستحق للحمد والشكر كما قال: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي إنه تعالى وحده المستحق للحمد والشكر، والعبادة، المحمود في جميع ما يفعله في الدنيا والآخرة لأنه بعدله وحكمته يمنح النعم ويفيض الخير على مخلوقاته.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي وهو تعالى له القضاء النافذ في كل شيء، فلا معقّب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، الرحيم اللطيف الخبير، وإليه ترجع جميع الخلائق يوم القيامة، فيجزي كل عامل بعمله من خير أو شر، ولا يخفى عليه منهم خافية في الأرض ولا في السماء. وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة، ونهاية تقوية القلب للمطيعين، فلا يخل بميزان العدل، يجازي المحسنين على طاعتهم، ويعاقب العصاة على عصيانهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء، لا إلى المشركين. 2- الخلق أو الاختيار لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، كما قال: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب 33/ 36] . روى الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لي واختر لي» وروى ابن السني مرفوعا عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «يا أنس، إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق قلبك، فإن الخير فيه» . ومن هنا شرعت صلاة الاستخارة، بأن يتوضأ ويصلي ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (الكافرون) وفي الثانية (الإخلاص) . روى البخاري في صحيحة عن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل:

اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» قال: ويسمي حاجته. قال العلماء: وينبغي له أن يفرّغ قلبه من جميع الخواطر، حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله، فإن وجد انشراحا وسرورا وارتياحا فالأمر خير، وإن وجد انقباضا وضيقا، فالأمر شر. 3- إن اختيار الملائكة والرسل لأداء الرسالة إلى الله، فهو يصطفي منهم ما يشاء على وفق الحكمة والمصلحة والعلم الشامل، وليس ذلك لأحد من الناس، كما تبادر إلى بعض المشركين أن تكون الرسالة لأحد زعيمين قويين في المال والأولاد والسلطة والنفوذ: إما الوليد بن المغيرة، وإما عروة بن مسعود، كما تقدم بيانه. 4- تقدس وتمجد الله عن إشراك المشركين. 5- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء. 6- الله جل جلاله هو المنفرد بالألوهية والوحدانية، وجميع المحامد له، ولا حكم إلا إليه، وإليه المرجع والمصير.

أدلة العظمة والسلطان الإلهي وتأكيد تقريع المشركين [سورة القصص (28) الآيات 71 إلى 75] :

أدلة العظمة والسلطان الإلهي وتأكيد تقريع المشركين [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) الإعراب: لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل، ولم يقل: لتسكنوا فيهما لأن السكون إنما يكون بالليل لا بالنهار، وقوله: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي في النهار لأن الابتغاء للرزق إنما يكون بالنهار في العرف والعادة. البلاغة: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ وكذا يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ؟ استفهام للتبكيت والتوبيخ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لف ونشر مرتب، ذكر الليل والنهار، ثم أعاد السكن إلى الليل، وابتغاء الرزق إلى النهار بالترتيب. المفردات اللغوية: قُلْ لأهل مكة وغيرهم. أَرَأَيْتُمْ أخبروني. سَرْمَداً دائما متصلا متتابعا. بِضِياءٍ نهار تطلبون فيه المعيشة. أَفَلا تَسْمَعُونَ ذلك سماع تدبر وتفهم واستبصار، فترجعوا عن الإشراك. تَسْكُنُونَ فِيهِ تستقرون وتستريحون فيه من متاعب الأشغال. أَفَلا

المناسبة:

تُبْصِرُونَ ما أنتم عليه من الخطأ في الإشراك، فترجعوا عنه. وقدم السمع لأن استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر. لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار بأنواع المكاسب. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ اذكر يوم. أَيْنَ شُرَكائِيَ.. تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به أو أن الأول لتقرير فساد آرائهم، والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند أو دليل، وإنما كان محض تشه وهوى. وَنَزَعْنا أخرجنا. شَهِيداً هو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. فَقُلْنا للأمم. هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما قلتم من الإشراك وما كنتم تدينون به. فَعَلِمُوا حينئذ. أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد. وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم غيبة الضائع، أو تاه. ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الباطل وهو أن معه شريكا آخر، تعالى عن ذلك. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أنه الخالق المختار، وسفّه آراء المشركين في عبادتهم غير الله، وبعد أن أبان أنه المستحق للحمد على ما تفضل به من النعم، أردفه بإيراد بعض الأدلة والبراهين الدالة على عظمته وسلطانه وهي النعم التي لا يقدر عليها سواه، لتذكير الناس بما يجب عليهم من الحمد له، وشكر المنعم المتفضل به. ثم كرر قوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ على جهة الإبلاغ والتأكيد، ثم ذكر شهادة نبي كل أمة على أعمالهم في الدنيا، زيادة في الغم وإثباتا للجرم. التفسير والبيان: يمتن الله على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما فقال: - قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ أي قل أيها الرسول للمشركين بالله: أخبروني إن جعل الله وقتكم كله ظلاما، فجعل الليل عليكم دائما متتابعا إلى يوم القيامة، فيحصل لكم السأم والضجر والضرر، كالمناطق القطبية التي يكون فيها

الزمن كله ليلا لمدة ستة أشهر، ثم يكون مثلها نهارا، فمن الإله غير الله الذي يتمكن من الإتيان بضياء النهار، أفلا تسمعون ذلك سماع تدبر وتفهم وتفكر، فتقلعوا عن الإشراك بالله لأن كل من سوى الله عاجز عن ذلك وغيره؟ ثم ذكر العكس فقال: - قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أي وقل لهم أيضا أيها الرسول: أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارا، فجعل النهار دائما متصلا إلى يوم القيامة دون أن يعقبه ليل، فتتعب الأبدان وتكل الأجسام من كثرة الحركات والأشغال، فمن ذلك الإله غير الله يستطيع الإتيان بليل تستقرون وتستريحون فيه من عناء التعب، أفلا تبصرون هذه الظاهرة والحقيقة الدالة على القدرة الإلهية التامة، فتعلموا أن المستحق للعبادة والتأليه هو الله المنعم بهذه النعم؟ - وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ومن رحمته بكم أيها الخلق تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما، فجعل لكم الليل ظلاما للراحة والسكن والاستقراء وهدوء النفس من عناء العمل النهاري، وجعل لكم النهار مضيئا لتبصروا فيه منافعكم، وتحصلون فيه معايشكم، وتتنقلوا فيه بالأسفار من بلد لآخر، ويمتلئ بالحركات والأشغال، بحثا عن موارد الرزق، وقضاء الحاجات بأنس ومتعة لا يتوافران في العمل الليلي، فتشكروا الله بأنواع العبادات ليلا ونهارا على ما أنعم به عليكم من هذه النعم دون أن يشاركه فيها شريك؟ دلّ هذا بحق على أن تعاقب الليل والنهار من أعظم النعم على المخلوقات، بل ومن البراهين الدالة على كمال القدرة الإلهية، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان 25/ 62]

ونحو ذلك من الآيات الكثيرة. وهذا التعاقب لأغراض ثلاثة: أن تسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر، وهو النهار، ولإرادة شكركم على المنفعتين معا. ويلاحظ أنه تعالى قرن قوله أَفَلا تَسْمَعُونَ بالليل، لمناسبته له، ففي سكون الليل وظلامه يكون إعمال السمع أفيد، ففيه يدرك الإنسان ما لا يدركه بالبصر من منافع وفوائد. ثم قرن قوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ بالنهار، لمناسبته له، ففي ضوء النهار يكون إعمال البصر أوقع، ففيه يدرك الإنسان بعينه من المنافع والفوائد والعظات ما لا يدركه السمع أثناء الضجة والحركة، وعلى هذا كان التذييل بما هو الأليق بكل من الليل والنهار. وأما سبب التذييل بكل منهما فهو الحث على الانتفاع بما يسمعون ويبصرون تأملا وتدبرا، فلما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر. ثم أعاد الله تعالى النداء لمن عبد مع الله إلها آخر على رؤوس الأشهاد على سبيل التوبيخ والتقريع فقال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ أي واذكر أيها الرسول للمشركين يوم يناديهم ربك، فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في دار الدنيا أنهم شركائي، ليخلّصوكم مما أنتم فيه. والقصد من تأكيد هذا النداء مرة ثانية التنبيه على أنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما أنه لا شيء أدعى لمرضاته من توحيده تعالى. قال القرطبي: والمناداة هنا ليست من الله لأن الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة 2/ 174] لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكّتهم، ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 209.

فقه الحياة أو الأحكام:

ويترتب على هذا النداء التوبيخي زيادة غمهم وفرط حزنهم وألمهم، وقد أكد ذلك بالإشهاد عليهم، ليعلم أن التقصير منهم، فيكون ذلك زائدا في غمهم، فقال: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، فَقُلْنا: هاتُوا بُرْهانَكُمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وأخرجنا أو أحضرنا من كل أمة شاهدا عليهم وهو نبيهم أو رسولهم، كما قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر 39/ 69] وقال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] فكل رسول يشهد على قومه بأعمالهم في الدنيا، ويشهد محمد صلّى الله عليه وسلم على الأنبياء جميعا. وقلنا لهم: أحضروا برهانكم على صحة ما ادعيتموه من أن لله شريكا، فلم يتمكنوا ولم يجيبوا، وعلموا علم اليقين حينئذ أن الحق في الألوهية لله وحده، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا شريك له في ملكه وسلطانه، وذهب عنهم أو تبدد باطلهم وافتراؤهم، وتضليلهم وكذبهم الذي كان منهم في الدنيا بنسبة الشريك لله، فلم ينفعهم شيئا، كما غابت عنهم آلهتهم غيبة الشيء الضائع، فلم ينفعوهم. فقه الحياة أو الأحكام: 1- إن تعاقب الليل والنهار دليل على عظمة الله وقوة سلطانه وتوحيده، وهو أيضا نعمة ورحمة بالمخلوقات جميعا من إنسان وحيوان ونبات وجماد، أما بالنسبة للإنسان ففي الليل دعة وهدوء، وسكون وراحة من عناء العمل، وفي النهار حركة وعمل وتكسب وطلب لرزق الله تعالى. وتلك النعمة تستوجب الشكر، وتستحق حمد الله على الدوام، ويكون

قصة قارون:

الشكر بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل. 2- تتكرر مناداة الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها أمام الله تعالى يوم القيامة، ففي المرة الأولى لا يستجيبون، فتظهر حيرة أتباعهم وعابديهم، وفي المرة الأخرى يسكتون، وذلك كله توبيخ وتقريع للمشركين وزيادة خزي وتحقير أمام الخلائق قاطبة. 3- يزداد غم المشركين وتتضاعف حسرتهم وكمدهم وألمهم حين يشهد عليهم بأعمالهم نبيهم المبعوث إليهم في الدنيا لدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته، ويطلب منهم إحضار حجتهم على صحة أو صدق ادعائهم، ولكنهم يعجزون، ويدركون إدراكا جازما أن الأنبياء صادقون فيما جاؤوا به، وأن الله وحده هو الإله الحق، ويذهب عنهم ويبطل كل ما كانوا يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة أخرى تعبد. قصة قارون - 1- بغيه على قوم موسى واغتراره بماله [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

الإعراب:

الإعراب: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ ما اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب ب آتَيْناهُ وصلته: إِنَّ وما عملت فيه. وكسرت إِنَّ لأنها متى وقعت في موضع يصلح اسما وفعلا، كانت مكسورة، والاسم الموصول يدخل على الجملة الاسمية والجملة الفعلية. وأُولِي واحدها ذو من غير لفظها. عَلى عِلْمٍ عِنْدِي في موضع الحال. البلاغة: لا تَفْرَحْ الْفَرِحِينَ وكذا الْفَسادَ الْمُفْسِدِينَ بين كل جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: قارُونَ هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام. مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه لأن موسى هو ابن عمران بن قاهث، وكان أيضا ابن خالته، وممن آمن به. فَبَغى عَلَيْهِمْ تكبر عليهم وتجبر بكثرة المال وظلمهم وطلب أن يكونوا تحت أمره. الْكُنُوزِ جمع كنز: وهو المال المدخر، يقال: كنز المال: جمعه وادخره. مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ تثقل خزائنه أي صناديقه، جمع مفتح، أو مقاليده أي مفاتيحه جمع مفتح وهو ما يفتح به. بِالْعُصْبَةِ الجماعة الكثيرة. أُولِي الْقُوَّةِ أصحاب الشدة. قَوْمُهُ المؤمنون من بني إسرائيل. لا تَفْرَحْ بكثرة المال، أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا دون الآخرة. وَابْتَغِ اطلب. فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال. الدَّارَ الْآخِرَةَ أي ثوابها، بأن تنفقه في طاعة الله. وَلا تَنْسَ تترك ترك المنسي. نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي حظك منها بأن تأخذ منها ما يكفيك أو أن تعمل فيها للآخرة. وَأَحْسِنْ للناس بالصدقة. وَلا تَبْغِ تطلب. الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بأمر يكون علة للظلم والبغي أي بعمل المعاصي. لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يعاقبهم.

المناسبة:

أُوتِيتُهُ أي المال. عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي معرفة مني ومهارة في اكتساب المال، قيل: إنه علم التجارة. مِنَ الْقُرُونِ الأمم. وَأَكْثَرُ جَمْعاً للمال. وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام، فإنه تعالى مطلع عليها، معاقبهم عليها لا محالة. المناسبة: بعد تقريع المشركين وتوبيخهم، ذكر الله تعالى قصة قارون لبيان عاقبة الكافرين والمتجبرين في الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف والزلزلة، وهو في الآخرة كالمشركين من أهل النار. أضواء من التاريخ على قصة قارون: عرفنا أن قارون هو ابن يصهر بن قاهث جدّ موسى، فهو ابن عمه، وقال ابن عباس: وكان أيضا ابن خالته. وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم، فنافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله. فهو رجل من بني إسرائيل، آتاه الله مالا كثيرا، حتى إن مفاتيح خزائنه كان تنوء بحملها عصبة من الرجال. نصحه أهل الوعظ والإرشاد من قومه بالبعد عن البطر والتجبر والإفساد في الأرض، وأن يستعمل ماله في مرضاة الله، مع الانتفاع ببعضه في مصالح الدنيا بقدر الكفاية، وألا ينفقه فيما يغضب الله تعالى، حتى لا يتعرض لزوال النعمة، فأبى الامتثال لنصح الناصحين، وقال في ماله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي والظاهر أنه جمعه بما لديه من ذكاء وخبرة في شؤون التجارة، ولكنه غفل عن بطش الله بالمتجبرين المتكبرين من أمثاله في الأمم الغابرة الذين كانوا أشد منه قوة وأكثر جمعا للمال. وقد استبد به الكبر والخيلاء أن كان يخرج في موكب مهيب وزينة فاخرة باهرة، فافتتن بعض الناس بمظاهره، وتمنوا أن يؤتوا مثله من المال، فقال لهم

التفسير والبيان:

أهل العلم والبصر والحكمة: لا تفتتنوا به ولا تطمعوا، فثواب الله خير للمؤمن الذي يعمل الصالحات، فكان عاقبة طغيانه وظلمه وجحوده نعمة الله أن خسف الله به وبداره الأرض، دون أن يجد له نصيرا أو معينا. التفسير والبيان: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ أي إن قارون الذي أصبح مضرب المثل والغنى والثروة والظلم والعتو كان من بني إسرائيل، فتجبر وتكبر بكثرة ماله، وتجاوز الحد في ظلمهم، وطلب منهم أن يكونوا تحت إمرته، مع أنه قريبهم: وظلم ذوي القربى أشد غضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي وأعطيناه من الأموال النقدية والعينية المدخرة التي يثقل بحمل مفاتيح خزائنها العصبة (الجماعة الكثيرة) القوية من الناس. قال ابن عباس: إن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء. فنصحه الوعاظ بمواعظ خمس قائلين: 1- إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي قال له جماعة من بني إسرائيل من النصحاء، حينما أظهر التفاخر والتعالي: لا تبطر ولا تفرح بما أنت فيه من المال، فإن الله لا يحب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، ولا يستعدون للآخرة، أي يبغضهم ويعاقبهم، كقوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد 57/ 23] . 2- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي استعمل ما وهبك الله من هذا

المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة. 3- وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك حظك من لذات الدنيا التي أباحها الله من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والزواج، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك (زوارك) عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. وهذه هي وسطية الإسلام في الحياة، قال ابن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . 4- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى خلقه كما أحسن الرب إليك، وهذا أمر بالإحسان مطلقا بعد الأمر بالإحسان بالمال، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه، وحسن اللقاء، وحسن السمعة، أي أنه جمع بين الإحسان المادي، والإحسان الأدبي أو الخلقي. 5- وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس، فإن الله يعاقب المفسدين، ويمنعهم رحمته وعونه وودّه. ولكن قارون أبى النصح فقال: قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي قال قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: أنا لا أحتاج لما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال، لعلمه بأني أستحقه، ولمعرفتي وخبرتي بكيفية جمعه، فأنا له أهل، كما قال تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر 39/ 49] أي على علم من الله بي، وقال سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: هذا لِي [فصلت 41/ 50] أي هذا أستحقه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فأجابه الله بقوله: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً، وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي أولم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم حتى لا يغترّ بكثرة ماله وقوته أنه قد كان من هو أكثر منه مالا، وما كان ذلك منا عن محبة له، أو أنه أهل له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم، ولا يسأل المجرمون عن كثرة ذنوبهم، أي إذا عاقب الله تعالى المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن أنواع ذنوبهم ومقدارها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فلا حاجة به إلى السؤال. فالمراد بذلك سؤال الاستفسار والاستعلام، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وسؤال الاستعتاب، كما قال تعالى: ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل 16/ 84] . هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات 77/ 25- 26] . ونظير الآية: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن 55/ 39] . ولا يتنافى هذا مع سؤالهم في وقت آخر سؤال توبيخ وإهانة، كما في قوله سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92- 93] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- البغي مرتعه وخيم، والظلم مؤذن بخراب العمران والديار. 2- إن كثرة المال محنة وبلاء، وسبب للطغيان والفساد. 3- الجاهل الذي لا علم لديه، أو علمه ناقص هو الذي يغترّ بماله، ويبطر

عند النعمة، فإن الله تعالى يعاقب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون نعمة الله تعالى عليهم. 4- إن أصول الحضارة الإسلامية أربعة: العمل الصالح ابتغاء ثواب الآخرة، وعمارة الدنيا بإتقان دون أن تستولي على مشاعر الإنسان، والإحسان إلى الناس إحسانا ماديا ومعنويا أو خلقيا، وقمع الفساد والعصيان والخراب. فمن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في التجبر والبغي، وألا يضيع عمره في غير العمل الصالح في دنياه إذ الآخرة هي التي يعمل لها، فنصيب الإنسان: عمره وعمله الصالح فيها، بأن يطيع الله ويعبده كما أنعم عليه، وألا يعمل بالمعاصي والإفساد، فإن الله يجازي المفسدين. 5- الله تعالى مصدر الخير والرزق، وما العبد إلا وسيلة، يجب عليه أن يعمل ويكتسب، والله هو الرازق الميسر له أسباب الرزق، المانح له الثراء والمال، فيكون هو المستحق للشكر على تلك النعمة. فمن الغباء والجهل أن ينسب الإنسان الخير والفضل لنفسه ومواهبه، أو يدعي أنه الحقيق الجدير بما أعطي، أو ينخدع بأن ما أعطيه دليل على محبة الله ورضاه عنه، فقد يكون العطاء فتنة واستدراجا، وليس قرينة الرضا والمودة. لذا كان اغترار قارون بكثرة ماله، وادعاؤه أنه أهل له عبثا باطلا. 6- أهلك الله كثيرا من الأمم الخالية الكافرة، وهم أشد قوة من قارون، وأكثر جمعا للمال منه، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم. 7- لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم سؤال استعلام واستعتاب، فالله عليم بكل شيء، ولا يقبل اعتذارهم ولا عتبهم، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما بينا.

- 2 - بعض مظاهر بغي قارون وكبريائه [سورة القصص (28) الآيات 79 إلى 82] :

- 2- بعض مظاهر بغي قارون وكبريائه [سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُأَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) الإعراب: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أراد: وقال الذين فحذف الواو كما حذفت من قوله تعالى: سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف 18/ 22] أي ورابعهم. وَيْكَأَنَّ اللَّهَ وَيْكَأَنَّ «وي» : منفصلة من «كأن» بمعنى أعجب، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وكأن الله: بلفظ التشبيه، لكن ليس بمعنى التشبيه، أي إن الله. أَنْ مَنَّ اللَّهُ.. أن مخففة من الثقيلة من غير عوض، وإن كانت قد دخلت على الفعل، وتقديره: لولا أن الأمر والشأن منّ الله علينا لخسف بنا. وقرئ لخسف وخسف ولا يخسف بنا. فعلى القراءة الأولى: معناه: لخسف الله بنا والجار والمجرور في موضع نصب بالفعل، وعلى القراءة الثانية: الجار والمجرور في موضع رفع، لقيامه مقام نائب الفاعل، وعلى القراءة الثالثة حذفت الكسرة تخفيفا، والقراءة الرابعة كقراءة لخسف بنا للبناء للمجهول.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ تأكيد الجملة بإن واللام لأن السامع شاك متردد. تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ كناية، كنّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ بِالْأَمْسِ. يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَخَرَجَ قارون عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ في موكب مهيب يتبعه الركبان متحلين بملابس الذهب والحرير على خيول وبغال متحلية، وكانوا أربعة آلاف. الدُّنْيا للتنبيه مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ في الدنيا، تمنوا مثله، لا عينه حذرا من الحسد، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ لصاحب نصيب عَظِيمٍ واف في الدنيا أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة وما وعد الله فيها، فالمراد بالعلم: علم الدين وأحوال المتقين وَيْلَكُمْ الويل: الهلاك أو العذاب، والمراد هنا: الزجر عما لا ينبغي ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة بالجنة خَيْرٌ مما أوتي قارون في الدنيا وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يتلقى الجنة المثاب بها إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي. فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون، وخسف: غار في الأرض، والمراد: جعلنا عاليها سافلها فِئَةٍ جماعة أعوان مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره، بأن يمنعوا عنه الهلاك وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين من عذاب الله تعالى بِالْأَمْسِ من قريب وَيْكَأَنَّ اللَّهَ أي ألم تر أن الله، وكلمة «وي» اسم فعل بمعنى أتعجب، وكأن: للتشبيه في الأصل، وليس المراد بها هنا التشبيه، وإنما المراد: بل إن الله يَبْسُطُ يمدّ ويعطي وَيَقْدِرُ يضيق ويقتر بمقتضى مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يوجب القبض. المناسبة: هذا فصل آخر من قصة قارون، فبعد أن ذكر الله تعالى بغيه على بني إسرائيل وتجبره عليهم، أعقبه ببيان بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فقام باستعراض عظمته وقوته وأبهته، تعاليا على الناس، وإذلالا للنفوس، وكسرا للقلوب، فعاقبه الله بالخسف والزلزال، وأصبح المعجبون بحاله متعجبين مما حل به، وأدركوا أن الإمداد بالرزق الإلهي لا لكرامة ومنزلة للإنسان عند الله، كما أن حجب الرزق لا لهوان وسخط.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوما على قومه في زينة عظيمة وتجمل باهر، من مراكب وملابس عليه وعلى حاشيته، بقصد التعالي على الناس، وإظهار العظمة والأبهة. قال الرازي: وليس في القرآن إلا هذا القدر «1» ، يعني أن وصف الزينة كما يذكر بعض المفسرين لا دليل عليه. قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي فلما خرج في مظاهر الأبهة كان طبيعيا أن يفتتن بعض الناس به، وهم السذّج والجهال الذين يريدون الحياة الدنيا، ويميلون إلى زخارفها وزينتها، فتمنوا أن لو كان لهم مثل ما أعطي، وقالوا: يا ليت لنا من الأموال والثروات والأوضاع ما لقارون، لنتمتع بها مثله، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا. وهذه نزعة جبلّيّة في الإنسان، فهو دائما يطمع في السعة واليسار: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات 100/ 8] . وفي مقابلة هذا الفريق يوجد فريق آخر هم أهل الحكمة والعلم وبعد النظر: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي وقال علماء الدين وأهل العلم النافع: ويلكم أي انزجروا وارتدعوا عن هذه التمنيات والأقوال، فإن جزاء الله ومثوبته لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون وما تتمنون، ولكن لا يتلقى الجنة أو المثوبة ولا يوفق لها إلا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي، الراغبون في الدار الآخرة، الراضون بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار، المترفعون عن محبة الدنيا، وذلك كما جاء في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 17.

واقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] . ثم ذكر تعالى عقاب قارون فقال: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ أي بعد أن اختال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم، زلزلنا به وبداره الأرض، فابتلعته وغاب فيها جزاء بطره وعتوه، كما ثبت في صحيح البخاري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يجرّ إزاره، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» . فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي ما أغنى عنه ماله ولا حاشيته، ولا دفعوا عنه نقمة الله ونكاله، ولا كان هو في نفسه منتصرا لها، فأصبح لا ناصر له من نفسه ولا من غيره. ولا داعي لبيان أسباب الخسف المروية في التفاسير، فإنها كما ذكر الرازي في أكثر الأمر متعارضة مضطربة، والأولى طرحها، والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب «1» . وحينئذ ظهرت العبرة للمعتبر، وتبين المفتونون بمال قارون حقيقة الأمر: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي صار الذين رأوه في زينته وتمنوا في الماضي القريب أن يكونوا مثله يقولون: ألم تر أن الله يمدّ الرزق لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء، وليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة، كما

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 18.

فقه الحياة أو الأحكام:

جاء في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» . أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لولا لطف الله بنا، وإحسانه إلينا، لخسف بنا الأرض، كما خسف بقارون لأنا وددنا أن نكون مثله، وألم تر أن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به، المكذبين رسله، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة، مثل قارون. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- لقد استبد البغي والغرور والبطر والكبر بقارون، فتعالى على قومه بني إسرائيل، وأراد إظهار أبهته وعظمته أمامهم، فخرج عليهم في يوم عيد في موكب مهيب مزدان بمتاع الحياة الدنيا من الثياب والتجمل والدواب. 2- انقسم الناس في شأن قارون بعد هذا الاستعراض فريقين: فريق ينبهر بسطحيات الأمور، فأعجب بهذا المظهر، وتمنى أن يكون مثل قارون في الثروة والمال والعزة والجاه، وهؤلاء هم الماديون في كل زمان. وفريق نور الله بصيرته، ولم يغتر بمظاهر الدنيا وزخارفها، وإنما نظر إلى الحقائق، وأدرك أن الدنيا فانية، وأن السعادة بالفوز في الآخرة، وهؤلاء هم العلماء المؤمنون العارفون بمصير العالم والإنسان وهم أحبار بني إسرائيل، فقالوا لأصحابهم الفريق الأول: ويلكم (كلمة زجر) ثواب الله أي الجنة ونعيمها خير من مال قارون وجاهه، وهي لمن آمن وعمل الأعمال الصالحة، ولا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله. ويلاحظ أن الضمير في قوله: وَلا يُلَقَّاها يراد به الجنة لأنها المعنية بقوله تعالى: ثَوابُ اللَّهِ.

3- كان عقاب قارون في الدنيا الخسف به وبداره الأرض، فأصبح كأن لم يكن، وله في الآخرة عذاب النار، ولم يكن له في الحالين جماعة ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله، وما كان من المنتصرين الممتنعين من العذاب. 4- إن في ذلك لعبرة للمتأمل، فقد ندم الذين تمنوا أن يكونوا مثله، وتنبهوا إلى حقيقة الأمر، وتعجبوا من تعجيل العقاب، وأدركوا أن سعة الرزق ليست دليلا على رضوان الله، كما أن تقتير الرزق ليس علامة على سخط الله، وحمدوا الله على فضله ورحمته وعصمته من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر وما نزل به من العقاب، وأيقنوا أن لا فلاح ولا فوز عند الله للكافرين به، المكذبين رسله، الجاحدين نعمته. 5- إن عاقبة الكبر والتعالي وخيمة، وإن الاغترار بالأموال والأوصاف نذير سوء، ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب «العجائب الغريبة» عن نوفل بن مساحق قال: رأيت شابا في مسجد نجران، فجعلت أنظر إليه، وأتعجب من طوله وتمامه وجماله، فقال: ما لك تنظر إلي؟ فقلت: أتعجب من جمالك وكمالك. فقال: إن الله ليعجب مني، قال: فما زال ينقص حتى صار بطول الشبر، فأخذه بعض قرابته في كمه، وذهب به. وهذا واضح اليوم حين يفترس السرطان جسد الإنسان، فيتآكل عظمه من الداخل تدريجيا، ويضمر ويصيبه الهزال الشديد، حتى يصبح قزما صغيرا، ثم يموت.

- 3 - محل الجزاء ومقداره والعبرة من قصة قارون [سورة القصص (28) الآيات 83 إلى 84] :

- 3- محل الجزاء ومقداره والعبرة من قصة قارون [سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) الإعراب: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ تِلْكَ: مبتدأ، والدَّارُ الْآخِرَةُ: إما خبر، فيكون قوله تعالى: نَجْعَلُها في موضع نصب على الحال أو في موضع رفع خبر بعد خبر، وإما عطف بيان، فيكون قوله: نَجْعَلُها خبر المبتدأ. البلاغة: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إلا مثلها بينهما مقابلة. فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع الظاهر وهو السيئات موضع الضمير أي «عملوها» تهجينا لحالهم، بتكرير إسناد السيئة لهم. المفردات اللغوية: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة، وتلك: إشارة تعظيم، كأنه قال: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ قهرا وتكبرا وغلبة وَلا فَساداً ظلما على الناس، كما أراد فرعون وقارون وَالْعاقِبَةُ المصير المحمود لِلْمُتَّقِينَ عقاب الله أو ما لا يرضاه الله، بفعل الطاعات. بِالْحَسَنَةِ الفعلة الطيبة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا وقدرا ووصفا وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ الفعلة المنكرة الخبيثة إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون، فحذف المثل، وأقام مقامه: ما كانُوا يَعْمَلُونَ مبالغة في المماثلة.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان قول أهل العلم: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ أبان الله تعالى محل هذا الجزاء وهو الدار الآخرة، وجعله للمؤمنين المتقين المتواضعين الذين لا يتكبرون على الناس ولا يفسدون فيهم، بظلمهم وأكل حقوقهم، ثم بيّن بعدئذ مقدار ذلك الجزاء الذي يحصل لهم: وهو أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، فأكثر، فضلا من الله ورحمة، وجزاء السيئة مثلها، لطفا من الله وعدلا. وذلك كله عبرة بقصة قارون المتجبر المتكبر الباغي. التفسير والبيان: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً أي إن الدار الآخرة ونعيمها الدائم الذي لا يحول ولا يزول، ولا عناء فيه ولا مشقة، يجعلها ربك لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم بغير حق، ولا فسادا بأخذ أموالهم بغير حق. ولم يعلق الوعد بالنعيم بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما. وقال: تِلْكَ على جهة التعظيم للجنة والتفخيم لشأنها، يعني تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها. قال علي رضي الله عنه- فيما رواه ابن جرير عنه-: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل في قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ.. الآية. قال ابن كثير: وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره، فإن ذلك مذموم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل، فهذا لا بأس به، فقد ثبت- فيما روي مسلم وأبو داود- أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» . وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي والمصير المحمود وهو الجنة لمن اتقى عذاب الله وخاف عقابه، بعمل الطاعات، وترك المحظورات المحرّمات، ولم يكن كفرعون الطاغية الجبار الكافر بالله، ولا كقارون الباغية الفاجر المكذب رسل الله، الذي يريد الفساد في الأرض والاستعلاء. ثم بين الله تعالى حال الجزاء على الأعمال فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي من جاء بالخصلة الحسنة يوم القيامة، فله خير منها ذاتا ومقدارا وصفة، فثواب الله خير من حسنة العبد، والله يضاعفه أضعافا كثيرا، فضلا من الله ورحمة وإحسانا. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ومن أتى بالفعلة القبيحة المنكرة شرعا وعقلا وعرفا صحيحا مقبولا، فلا يجزى عليها إلا مثلها رحمة وعدلا، كما قال تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل 27/ 90] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الآتي: 1- الجنة ونعيمها والعاقبة المحمودة للمؤمنين المتقين المتواضعين الذين لا يقصدون رفعة وتكبرا على الإيمان والمؤمنين، ولا فسادا بعمل المعاصي وأخذ المال بغير حق، وذلك من لم يكن مثل فرعون وقارون. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يردد هذه الآية حتى قبض.

قصص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه [سورة القصص (28) الآيات 85 إلى 88] :

وقوله: عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً دليل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود، لا مجموعهما. والعلو: الرفعة والتكبر. والفساد: يعم كل أنواع الشر. 2- من أتى بالخصلة الحسنة، ومنها: لا إله إلا الله، فله منها خير، ومن جاء بالفعلة السيئة، ومنها الشرك فيعاقب بما يليق بعمله. وهذا من فضل الله العظيم ورحمته بالناس أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء. قصص النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) الإعراب: أَعْلَمُ مَنْ جاءَ.. مَنْ: في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه أَعْلَمُ وتقديره: يعلم من جاء بالهدى، كقوله: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام 6/ 117] أي يعلم من يضل، ووجب التقدير لامتناع الإضافة.

البلاغة:

كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَجْهَهُ: مستثنى منصوب. ويجوز فيه الرفع على الصفة، وتكون إِلَّا بمعنى غير، مثل: قام القوم إلا زيد، بالرفع على الوصف، كقولهم: قام القوم غير زيد، وكقول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان أي غير الفرقدين. البلاغة: إِلَّا وَجْهَهُ مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، أي ذاته المقدسة. المفردات اللغوية: فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أنزله عليك، وأوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي بلده مكة، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظافرا منتصرا، علما بأن السورة مكية. وقيل: المعاد: هو المقام المحمود الذي وعده ربه أنه يبعثه فيه يوم القيامة، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة. أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أَعْلَمُ بمعنى عالم، ومَنْ منتصب بفعل يفسره: أعلم، أي فالنبي هو الجائي بالهدى، جوابا لقول كفار مكة: إنك في ضلال، والحقيقة أنهم هم في ضلال الْكِتابُ القرآن إِلَّا رَحْمَةً أي لكن ألقي إليك رحمة من ربك، أي لأجل الترحم ظَهِيراً معينا وناصرا لِلْكافِرِينَ على دينهم الذي دعوك إليه، بمداراتهم، والتحمل منهم، والإجابة إلى طلبهم. وَلا يَصُدُّنَّكَ أصله: ولا يصدونك، حذفت نون الرفع للجازم، والواو الفاعل لالتقائها مع النون الساكنة عَنْ آياتِ اللَّهِ أي عن قراءتها والعمل بها. بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي لا ترجع إليهم في ذلك وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي وادع الناس إلى توحيده وعبادته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بإعانتهم، علما بأنه لم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه وَلا تَدْعُ تعبد هالِكٌ معدوم إِلَّا وَجْهَهُ إلا ذاته لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور من قبوركم.

سبب النزول نزول الآية (85) :

سبب النزول: نزول الآية (85) : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ: أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ. وقال مقاتل: إنه صلّى الله عليه وسلم خرج من الغار- غار ثور حين الهجرة- وسار في غير الطريق، مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام، وقال له: تشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: نعم، فقال جبريل عليه السلام: فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يعني إلى مكة ظاهرا عليهم. قال الرازي: وهذا المعنى أقرب لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه، وفارقه وحصل العود، وذلك لا يليق إلا بمكة، وإن كان سائر الوجوه محتملا، لكن ذلك أقرب «1» . المناسبة: قال الرازي أيضا: ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة، واستقصى في ذلك، شرح له ما يتصل بأحواله، فقال: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» . وهذا يعني أن الله تعالى بعد أن قص في هذه السورة على رسوله قصص موسى مع فرعون، وقصص قارون مع قومه بني إسرائيل، وبيّن هلاك كل من

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 21. (2) المرجع والمكان السابق.

التفسير والبيان:

الطاغيتين، أعقبه بذكر قصص النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإخراجهم أو تهجيرهم إياه من مكة، ثم عوده إليها ظافرا منتصرا، متابعا دعوته إلى عبادة الله وتوحيده. التفسير والبيان: يأمر الله رسوله بإبلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس، ويخبره بأنه سيرده إلى معاد فقال: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إن الله الذي أوجب عليك العمل بالقرآن وافترض عليك أداءه إلى الناس، لرادّك إلى بلدك الحبيب: مكة فاتحا ظافرا منتصرا، بعد خروجك منها مهاجرا. وكان هذا هو الفتح الأعظم الذي تم به الاستيلاء على معقل الكفر والوثنية، وتحطيم الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة. وهو وعد صادق منجز من الله لرسوله، حينما كان في مكة في طريقه إلى المدينة، فاطمأن لذلك وهدأت نفسه. قال المحققون: وهذا أحد ما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر، فيكون معجزا. ولما وعد الله تعالى رسوله الرد إلى معاد أمره أن يقول للمشركين (كفار مكة) توبيخا لهم حينما اتهموه بأنه في ضلال القول الآتي: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قل أيها الرسول لمن خالفك وكذبك من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم: الله تعالى العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة هو عالم بالمهتدي مني ومنكم، وعالم بالضال ضلالا بينا ظاهرا، وعالم بمن جاء بالهدى- يعني نفسه صلّى الله عليه وسلم- وهو القرآن، وبما يستحقه من الثواب في معاده، وإعزازه بالإعادة إلى مكة،

وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار، ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، فينصر المؤمن، ويخذل الكافر. ثم قال تعالى مذكرا نبيه نعمته العظيمة عليه وعلى الناس إذ أرسله إليهم: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وما كنت أيها النبي تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل إليك، وأن القرآن ينزل على قلبك، فتعلم به أخبار الماضين، وتعرف منه دستور الحياة، وتشريع المجتمع الذي فيه سعادتهم ونجاتهم، ولكن إنما أنزل ربك الوحي عليك وألقى عليك الكتاب، رحمة منه بك وبالعباد بسببك. وبناء عليه كلفه ربه بأمور خمسة هي: 1- فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي فلا تكن معينا للكفار بأي حال، ولكن فارقهم وخالفهم، وكن عونا للمسلمين، والله مؤيدك وحافظك. 2- وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تتأثر بهم ولا لمخالفتهم لك، ولا تركن إلى قولهم، فيصدّوك عن اتباع آيات الله المنزلة إليك، وتبليغها للناس، فإن الله معك، ومؤيد دينك، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . 3- وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي وادع إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، وبلّغ دينه، وأعلن رسالته دون تردد ولا خوف ولا تمهل. وهذا أمر بالصدع أو الجهر بالدعوة، وفيه تشدد بدعوة الكفار والمشركين، ولكن في مظلة الأمن والسلام، والمهادنة والموادعة.

4- وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي واحذر أن تكون مع الذين أشركوا بربهم، فجعلوا له شريكا وندا، فتكون من الهالكين، لأن من رضي بطريقتهم كان منهم. وهذا النهي عن مظاهرة المشركين ونحو ذلك من باب إلهاب الحماس، وتهييج العاطفة، وإثارة الغيرة على استقلال دين التوحيد وعبادة الله. ثم فسر ذلك بقوله: 5- وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي ولا تعيد مع الله إلها آخر، ولا تدع في أي عمل من الأعمال إلها غير الله لأنه لا تليق العبادة إلا له، ولا جدوى في الدعاء لغيره، ولا تنبغي الألوهية إلا لعظمته، ولا معبود يستحق العبادة سواه، كما قال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمّل 73/ 9] أي فاتخذه وكيلا في أمورك، وهو نعم الوكيل. وهذا وإن كان واجبا على الكل، إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل التعظيم. ثم بيّن الله تعالى صفات الألوهية التي تفرد بها فقال: أولا- كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي كل من في الوجود فان إلا ذات الله المقدسة، فهو الدائم الباقي، الحي القيوم، الذي يميت الخلائق ولا يموت، كما قال سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 26- 27] . وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»

فقه الحياة أو الأحكام:

ومقتضى هذا أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس، فإنه الأول والآخر، الذي هو قبل كل شيء، وبعد كل شيء. ثانيا- لَهُ الْحُكْمُ أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ في الخلق، ولا معقب لحكمه. ثالثا- وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مصير جميع الخلائق إليه، فإليه ترجعون يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- ختم الله تعالى سورة القصص ببشارة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم برده إلى مكة، قاهرا لأعدائه، فاتحا البلد الحرام، مكسرا الأصنام، معلنا انتهاء عهد الشرك والوثنية، رافعا راية التوحيد إلى الأبد بأنه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وهذا إشارة إلى الهجرة وإلى فتح مكة أيضا. 2- يستخدم القرآن أحيانا أسلوب اللين والحكمة وإثارة الانتباه والتفكير في حقيقة دعوة الإسلام، فلا يحسم الأمر ليترك سبيلا للمناقشة والأخذ والرد، وهذا من فنون السياسة الرفيعة المستوى، لذا أمر الله نبيه أن يقول: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قل لكفار مكة وأمثالهم إذا قالوا: إنك لفي ضلال مبين: ربي هو العالم بالمهتدي والضال: أنا أم أنتم. 3- لا علم لأحد، ولا علم لرسوله أن الله تعالى يرسله نبيا رسولا إلى الخلق أجمعين، وينزل عليه القرآن نورا وهدى ونبراسا ودستورا للحياة وتشريعا خالدا صالحا على الدوام للإنسانية جمعاء.

ولكن رحمة الله برسوله وبعباده اقتضت إرسال الرسول، وإنزال القرآن حكما عدلا وقولا فصلا. 4- كلّف الرسول صلّى الله عليه وسلم بخمسة أمور: ألا يكون عونا ولا مساعدا للكافرين في جميع الأحوال، وأن يمضي في تبليغ رسالة ربه وأمره وشأنه دون أن تمنعه أقوال الكفار وكذبهم وأذاهم عن مواصلة الطريق في الدعوة إلى الله، وأن يعلن الدعوة إلى توحيد الله، وألا يكون مع المشركين لأن من رضي بطريقتهم كان منهم، وألا يعبد مع الله إلها غيره، فإنه لا إله إلا هو، وهذا نفي لكل معبود وإثبات لعبادة الله تعالى. 5- وصف الحق تعالى نفسه بصفات ثلاث: هي كل شيء في الوجود هالك فان غير الله تعالى، وله الحكم النافذ في الدنيا والآخرة، وكل المخلوقات راجعة إليه للحساب والجزاء على الأعمال خيرها وشرها. وهذا يعني: ليس كل شيء هالكا من غير رجوع، بل كل شيء هالك، وله رجوع إلى الله تعالى.

سورة العنكبوت:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العنكبوت مكية، وهي تسع وستون آية. تسميتها: سميت سورة العنكبوت لأن الله تعالى شبّه الذين اتخذوا الأصنام وغيرها آلهة بالعنكبوت التي اتخذت بيتا ضعيفا واهنا، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً.. الآية [41] . موضوعها: موضوع السورة كسائر السور المكية تقرير أصول العقيدة وهي الوحدانية، والرسالة، والبعث والجزاء، وتثبيت الإيمان في القلوب في جميع الأحوال، وبخاصة وقت الابتلاء والمحنة، فافتتحت بالإخبار عن فتنة الإنسان، وختمت بالحديث عن هداية المجاهدين نفوسهم إلى أقوم السبل ونصرة الله لهم. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في بيان أمثلة واقعية من الصراع بين الحق والباطل، وبين الضعف والقهر، وبين أثر الصمود والصبر على الإيمان وأثر الانسلاخ منه، ففي سورة القصص ذكر الله تعالى استعلاء فرعون وجبروته، وتفريقه الناس شيعا، واستضعافه بني إسرائيل بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم،

ونجاة موسى عليه السلام مع قومه، ونصره على الطغاة وإغراقهم، كما ذكر الله قصة قارون الباغية وعقابه بالخسف. وفي هذه السورة ذكر الله قصة المسلمين في مكة الذين فتنهم المشركون عن دينهم، وعذبوهم على الإيمان بنحو أقل من تعذيب فرعون بني إسرائيل، حثا لهم على قوة التحمل والصبر، وتسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، ثم ذكر نجاة نوح عليه السلام في سفينته مع جند الإيمان، وإغراق قومه الذين كذبوه. كما أن بين السورتين تشابها في الإشارة إلى موضوع الهجرة، ففي خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وفي خاتمة هذه السورة الإشارة إلى هجرة المؤمنين: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [56] . وكذلك يوجد ارتباط بين السورتين في تحديد الغاية والغرض، ففي سورة القصص بيان العاقبة المحمودة للمتقين المتواضعين: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [83] وفي هذه السورة تقرير العاقبة الحسنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [58] . ثم إنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وأعقبه بما يبطل قول منكري الحشر: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رد في مطلع هذه السورة على منكري الحشر القائلين: لا فائدة في التكاليف إذ لا مرجع بعد الهلاك والزوال، ومضمون الرد أن للتكليف فائدة وهي أن يثيب الله الشكور ويعذب الكفور.

مشتملات السورة:

مشتملات السورة: اشتملت هذه السورة على ما يأتي: 1- إعلان اختبار المؤمنين على الشدائد والمحن في الدنيا، وبيان فائدة جهاد النفس، ومعرفة مدى صلابة الإيمان وقت الشدة، فالمؤمن هو المجاهد الصابر الذي لا يلين أمام الأحداث الجسام، ويظل ثابت العهد كالطود الشامخ دون أن يتزحزح عن إيمانه وعقيدته، وأما مهتز الإيمان أو المنافق، فيظهر الإيمان أحيانا، ولكنه لا يتحمل الأذى في سبيل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ ... وحينئذ يعلم الله المؤمنين علم انكشاف وإظهار كما يعلم المنافقين، لكنه سبحانه عالم بذلك سلفا. 2- الحديث عن محنة الأنبياء التي هي أشد وأصعب من محنة المؤمنين، فقد قص الله على رسوله وعلى المؤمنين قصة نوح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وهود، وصالح، وموسى، وهارون، ليعلموا أن الله نصرهم، وأهلك أقوامهم: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. الآية [40] . 3- محاجة المشركين بضرب الأمثال لهم تقريعا وتوبيخا، ومحاجة أهل الكتاب بالحسنى واللين والحكمة. 4- إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم بمعجزة إنزال القرآن عليه علما بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وتفنيد بعض شبهات المشركين في نبوته، واستعجالهم العذاب المحقق نزوله بهم. 5- الإذن للمؤمنين بالهجرة من ديارهم فرارا بدينهم من الفتن، وترغيبهم بالصبر، وإبعاد خوف الموت عن نفوسهم فإن الموت محقق في كل مكان وزمان،

اختبار الناس وجزاؤهم [سورة العنكبوت (29) الآيات 1 إلى 7] :

وتبشيرهم بالعاقبة الحسنة إذا عملوا الصالحات، وزهدوا في الدنيا لأن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية الحقة. 6- اعتراف المشركين بأن الله هو خالق السموات والأرض وأنه هو الرازق، وأنه كاشف الضر والمنجي من المخاطر، وذلك يتضمن الحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح. 7- الامتنان على أهل مكة بإقامتهم في الحرم الآمن، مع خوف من حولهم، ثم كفرهم بهذه النعمة وغيرها بالإشراك بالله، وتكذيب رسوله، وهو غاية الظلم. 8- بيان جزاء المؤمنين الذين صبروا أمام المحن والشدائد، وجاهدوا في سبيل الله بالنفس والمال، واجتازوا المحنة بأمان وسلام. اختبار الناس وجزاؤهم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)

الإعراب:

الإعراب: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا أَنْ يُتْرَكُوا: منصوب ب حَسِبَ سدّ مسد مفعوليها. وأَنْ يَقُولُوا: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن يقولوا. ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما: إما في موضع رفع بمعنى: ساء الشيء أو الحكم حكمهم، وإما في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون. البلاغة: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. استفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار. صَدَقُوا والْكاذِبِينَ بينهما طباق. فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ التأكيد بإن واللام لأن المخاطب منكر. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل. المفردات اللغوية: الم هذه الحروف الهجائية تنبيه على إعجاز القرآن، ووقوع الاستفهام بعدها دليل على استقلالها بنفسها أَحَسِبَ النَّاسُ أظن الناس، والاستفهام إنكاري، وتدخل حَسِبَ على الجملة للدلالة على جهة ثبوتها أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، بل يمتحنهم الله بمشاقّ التكاليف، كالهجرة والجهاد ومقاومة الشهوات والقيام بالطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ يختبرون ويمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم بالتعرض للشدائد. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي ليظهرن صدقهم وكذب المكذبين، وينوط به ثوابهم وعقابهم. وهذا تعلق حالي وعلم مشاهدة يتميز به الفريقان، ولا ينافي تعلق علم الله القديم بكل شيء، فهو عالم بما خلق قبل الخلق. يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر والمعاصي، فإن العمل يعم أفعال القلوب والأعضاء أَنْ

سبب النزول:

يَسْبِقُونا يفوتونا فلا ننتقم منهم، أي الفوت عن الجزاء على مساويهم ساءَ بئس الحكم هذا ما يَحْكُمُونَ الذي يحكمونه، أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا. مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي يأمل ويطمع في لقائه وثوابه وجزائه في الجنة، وقيل: يخاف لقاءه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ أي فإن الوقت المحدد للقائه أو هو الموت لجاء لا محالة، فليستعد له وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأفعالهم. وَمَنْ جاهَدَ نفسه بالصبر على الطاعة والكف عن الشهوات، وبذل جهده في مقاومة الأعداء بالنفس أو المال فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فإن منفعة جهاده له إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ عن الإنس والجن والملائكة، وعن عبادتهم، فلا حاجة به إلى طاعتهم، وإنما كلف عباده رحمة بهم ومراعاة لصلاحهم لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ بعمل الصالحات فيسقط عقابها بثواب الحسنات وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصالحات، وأَحْسَنَ إما بمعناه أو بمعنى حسن، وهو منصوب بنزع الخافض: الباء، والمعنى لنجزينهم بأحسن جزاء لأعمالهم، وهو أن يجازي الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة. سبب النزول: روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين، وقيل: في عمار، وقد عذب في الله، أخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله: أَحَسِبَ النَّاسُ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآية قال: أنزلت في أناس كانوا بمكة، وقد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون، فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتّبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل 16/ 110] .

التفسير والبيان:

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن قتادة قال: أنزلت الم، أَحَسِبَ النَّاسُ في أناس من أهل مكة خرجوا، يريدون النبي صلّى الله عليه وسلم، فعرض لهم المشركون، فرجعوا، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم، فخرجوا فقتل من قتل، وخلص من خلص، فنزل القرآن: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم يومئذ: «سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. الآية. التفسير والبيان: الم هذه الحروف المقطعة بدئ بها لتنبيه السامع وطلب إصغائه وإشعاره بإعجاز القرآن الدال على كونه كلام الله الحكيم الخبير. وقد لاحظ الرازي «1» أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن، كأوائل سورة البقرة الم، ذلِكَ الْكِتابُ وآل عمران الم ... نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والأعراف المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ويس يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وص ص، وَالْقُرْآنِ وق ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، والحواميم (غافر أو المؤمن، وفصلت أو السجدة، والشورى) إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت، والروم. وقد حصل التنبيه في القرآن بغير حروف التهجي التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى في أول سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 26 وما بعدها.

وفي أول سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وفي أول سورة التحريم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. والسبب في بدء هذه السورة بهذه الحروف، وليس فيها الابتداء بالقرآن أو الكتاب هو الإشارة إلى مبدأ التكليف، وجميع التكاليف فيها ثقل على النفس، فبدئ بحروف التنبيه للفت النظر إلى خطورة ما يلقى بعدها. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أظن الناس بعد خلقهم أن يتركوا بغير اختبار بمجرد قولهم: آمنا بالله ورسله، وهم لا يمتحنون بمشاق التكاليف كالهجرة والجهاد في سبيل الله، ومقاومة الشهوات، ووظائف الطاعات والفرائض المالية والبدنية من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها، والتعرض للمصائب في الأنفس والأموال والثمرات، ليتميز المؤمن المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ونجازي كل واحد بحسب عمله. وهذا استفهام إنكار، معناه أن الله تعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح: «أشدّ الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد له في البلاء» . ونظير هذه الآية قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] . وقد بينت أن هذه الآية نزلت في بعض المؤمنين في مكة، الذين كان كفار

قريش يعذبونهم على الإسلام ويؤذونهم بأشد أنواع الإيذاء، كعمار بن ياسر وأمه سميّة وأبوه ياسر، وعيّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام. ويظهر أن التعرض للأذى باق في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم ما دام هناك إسلام يمثل جوهر الحق، وعقيدة صحيحة تتحدى تيارات الإلحاد والكفر والعلمانية وأوضار الوثنية في كل أنحاء الأرض، وما دام قرآن مجيد يحافظ على وجود المسلمين، ويتلى في كل مكان. ولن تفلح قوى الشر في إخفات صوت الإسلام، ودفن صرح التدين، وتصفية جند الإيمان بالله عز وجل، قال ابن عطية: وهذه الآية، وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال، فهي باقية في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر لأن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك. وليس الافتتان والإيذاء بدعا بين المسلمين، وإنما هو سنة الله الدائمة في خلقه في الماضي والحاضر والمستقبل، لذا قال تعالى تسلية لهم: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي وتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين، بل والأنبياء القدامى بأنواع عديدة من الشدة والمشقة والضرر، كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 146] . والهدف من الاختبار أن يعلم الله علم ظهور وانكشاف، أي يظهر الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، وسيجازي كل واحد بما قدّم. والله يعلم سلفا ما كان وما يكون وما لم يكن، ولو كان كيف يكون، بإجماع أهل السنة والجماعة، لذا قال ابن عباس في مثل قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ: إلا لنرى لأن الرؤية تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.

ويلاحظ أنه تعالى قال في حق المؤمنين: الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل، أي وجد منهم الصدق، وقال في حق الكافرين: الْكاذِبِينَ بصيغة اسم الفاعل الدالة على الثبات والدوام. هذا فضلا عن أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة. وقد ورد في السنة الصحيحة أخبار ونماذج من تعذيب المؤمنين قبل الإسلام، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرتّ قال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» . وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: «دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرّه بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدّها عليك!! قال: إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها «1» ، وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء» . والخلاصة: أن الحياة ميدان كفاح وجهاد وشقاء وعناء، وكلما عظمت

_ (1) وفي الجامع الصغير للسيوطي: «يجوبها» أي يخرقها ويقطعها، وهو أولى.

المسؤولية عظم قدر المسؤول، وكلما أهملت المسؤولية أو التبعة أهمل المسؤول، فالتكليف دليل التكريم، وهو رمز الشخصية وإثبات الذات، ولا طعم للحياة دون عمل وتكليف لأن لذة الحياة ومتعتها أن يعمل الإنسان لغاية وهدف معين، وإلا كان الأمر عبثا موقعا في السأم والحيرة، فالحمد لله على التكليف، والشكر له على الابتلاء والاختبار، ليتميز العامل من العابث، والملتزم المتقن من المتسيب الذي لا يبالي بشيء. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يفوتونا فلا نجازيهم؟ لن يفلتوا من عذابنا، بئس ما يظنون، وبئس الحكم ما حكموا بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله، ولا يعاقبون، إنه حكم مغلوط سيء رديء، يتنافى مع مقتضى العقل والشرع والعدل. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل والأسود، والعاص بن هشام، وعتبة والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاص بن وائل. وبعد بيان أن من ترك التكليف عذّب، بيّن سبحانه أن من آمن بالآخرة وعمل لها، يجد ثواب عمله فقال: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي من كان يتوقع الخير ويطمع ويأمل في ثواب الله الجزيل في الدار الآخرة، ويعمل صالحا، فإن الله سيحقق له رجاءه، ويوفيه عملا كاملا غير منقوص، فإن وقت البعث والحياة الثانية بالحشر كائن لا محالة، والله سميع الدعاء وجميع أقوال عباده لا يخفى عليه منهم شيء، عليم بصير بكل الكائنات، يعلم عقائدهم وأعمالهم، ويجازي كل واحد بما عمل. وهذا دليل على تأكد حصول الوعد

والوعيد، وحث على المبادرة بالعمل الصالح الذي يصدق الرجاء ويحقق الأمل ويكتسب به القربة عند الله والزلفى. وأجل الله: يمكن أن يكون المراد به الموت، ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بعد الحشر. وقوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ شرط وجزاء، والمراد وعد المطيع بما يعده من الثواب، فمن كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت بثوابه، يثاب على طاعته عنده، ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو. لكن نفع التكليف للمكلف لا لله تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي ومن جاهد نفسه وهواه، فأدى ما أمر الله به وانتهى عما نهى عنه، فإن ثمرة جهاده تعود له، ونفع عمله لنفسه لا لغيره، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت 41/ 46] ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء 17/ 7] فإن الله غني عن أفعال عباده وجميع خلقه من الإنس والجن. ونوع جزاء المطيع هو: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنه تعالى مع غناه عن الخلائق جميعهم، فإنه يجازي أحسن الجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال، بأداء الفرائض وفعل الخيرات، من مواساة البائسين وإغاثة المظلومين، ودعم أمتهم بالنفس والنفيس، وأحسن الجزاء: هو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الواحد

فقه الحياة أو الأحكام:

منها بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- الدنيا دار ابتلاء واختبار وتكليف بالشاق من الأعمال، فلا يكفي مجرد إعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله، بل لا بدّ من الابتلاء بأنواع المصائب، وألوان الطاعات لأن المقصد الأسمى من العبادة محبة الله، كما ورد في الخبر الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه» فإذا قال الإنسان: آمنت بالله بلسانه، فقد ادعى محبة الله في الجنان، فاحتاج إلى شهود تصدقه، وأداء الطاعات والقربات، واجتناب المحظورات شهود عيان للتصديق. ويكون الابتلاء سبيلا للرقي من أول الدرجات إلى أعلى الدرجات، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة 58/ 11] وقال سبحانه: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء 4/ 95] . 2- الابتلاء سنة الله في خلقه، وعادته في عباده، فقد ابتلى الله الماضين كإبراهيم الخليل ألقي في النار، وكيحيى الحصور الذي قتل، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله، فلم يرجعوا عنه، كما تقدم بيانه، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون وقومه، كما ابتلوا بقارون، وأصابهم الجهد الشديد، وابتلي المؤمنون بعيسى بمن كذبه وأعرض عنه، وهمّ بقتله، وهم اليهود وحكام عصره. 3- الهدف من الابتلاء إظهار صدق الصادقين في إيمانهم وتبيّنه في واقع الأمر، وكشف كذب الكاذبين الذين يدّعون الإيمان بالله، وهم كافرون به.

4- لن يفلت الكافرون والمجرمون والعصاة من العقاب، فإن ظنوا الإفلات، فبئس الحكم حكمهم. 5- لا بدّ من أن يجازي المحسن بإحسانه يوم القيامة. 6- هذه الحقائق الثلاث المتقدمة وهي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يطمع في لقاء ربه، حاصلة لا شك فيها، ولكن من جاهد في الدين، وصبر على قتال الكفار، وأعمال الطاعات، فإنما يسعى لنفسه، ويكون ثواب ذلك كله له، ولا يرجع إلى الله شيء من النفع، ومن أهمل جهاد نفسه، ولم يؤد طاعة ربه، ولم يتجنب الحرام، فإنما يسيء لنفسه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت 41/ 46] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء 17/ 7] . والله غني عن أعمال عباده، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. 7- إن نوع جزاء العمل الصالح لا مثيل له في الدنيا عند أحد من الخلائق، فإن الله تعالى يغطي السيئات بالمغفرة، ويضاعف الحسنات وثواب الطاعات، ولا يهمل شيئا منها مهما قلّ، وإنما يقدره على أحسن وجه وأكمله، ويجازي الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات بأحسن أعمالهم. 8- الآيات في الجملة تعرّف بحقائق الدنيا، فهي قائمة على الابتلاء والاختبار، وتشحذ العزائم لزرع العمل الصالح في الدنيا، وتؤكد أن يوم الجزاء قريب الحصول، لإقامة العدل بين المحسن والمسيء، وتبين أن العمل الصالح خير للإنسان نفسه لا لغيره، والله غني عن العالمين. 9- دلت آية وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ على وجوب إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له لأن من علم أن الله يراه

ويبصره يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن نفعه له، ومقدّر بقدر عمله، يكثر منه. 10- الجزاء على العمل بحكم الوعد لا بالاستحقاق. وتدل الآية المتقدمة على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه ليس هناك سلطان أعلى من الله يوجب شيئا عليه، والعبد أدنى منه، وتدل أيضا على أن الله تعالى ليس في مكان معين، وليس على العرش على الخصوص، لأن العرش من مخلوقات الله، والله غني عنهم. 11- في هذه الآية أيضا بشارة وإنذار، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين، فلو أهلك عباده فلا شيء عليه لغناه عنهم، وهذا يوجب الخوف العظيم، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده، لا شيء عليه لاستغنائه عنه، وهذا يوجب الرجاء التام. 12- قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يفيد التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه. والإيمان: التصديق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره. والعمل الصالح: كل ما أمر الله به، فيصير صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحا، ولا بقاء للعمل الصالح إلا إذا كان لوجه الله الباقي حتى يبقى، وما لا يكون لوجهه لا يبقى، لا بنفسه لأنه عرض زائل، ولا بالعامل لأنه ميت هالك، ولا بالمعمول له لأن غير الله فان، فالعمل الصالح: هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله. والنية: شرط في الصالحات من الأعمال، وهي قصد الإيقاع لله. والعمل الصالح: لا يرتفع إلا بالكلم الطيب وهو الإيمان، فالعمل من غير المؤمن لا يقبل.

وقد ذكر الله في الآية نوعين من أعمال العبد: الإيمان والعمل الصالح، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين: تكفير السيئات وهو في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن وهو في مقابلة العمل الصالح. وهذا كما قال الرازي يقتضي أمورا ثلاثة: الأول- المؤمن لا يخلد في النار لأنه بإيمانه تكفر سيئاته، فلا يخلد في النار. الثاني- الجزاء الأحسن المذكور هنا غير الجنة لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة، ولا يبعد أن يكون الجزاء الأحسن هو رؤية الله عز وجل. الثالث- الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا، فيستر الله عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسّن حالة صاحبه في الدنيا، فيجزى الجزاء الأحسن في العقبى، والإيمان لا يبطله العصيان، بل هو يغلب المعاصي ويسترها، ويحمل صاحبها على الندم «1» . 13- أجمل الله حال المسيء بقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ.. إشارة إلى التعذيب، وحال المحسن بقوله: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ثم فصل حال المحسن بآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه، وفضله أعم من عدله.

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 34.

صلابة المكلفين ومظاهر فتنة المؤمنين وتهديد الكافرين والمنافقين [سورة العنكبوت (29) الآيات 8 إلى 13] :

صلابة المكلفين ومظاهر فتنة المؤمنين وتهديد الكافرين والمنافقين [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) الإعراب: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ فيه حذف الجار والمجرور، أي ولنحمل خطاياكم عنكم. البلاغة: فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فهو مجمل. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ استعارة، شبه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل الإنسان معنويا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أمرنا، وصى بمعنى أمر معنى وتصرفا. حُسْناً أي بأن يفعل معهم حسنا، أي فعلا ذا حسن بأن يبرهما، أو هو الحسن نفسه مبالغة، كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه، وقرئ: حسنا وإحسانا. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ما ليس لك بإشراكه علم، أو ما ليس لك بألوهيته علم، أي معلوم، كأنه قال: لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، عبر عن نفي الألوهية بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه. فَلا تُطِعْهُما في الإشراك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق الجزاء. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيكم به. لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم، وهم الأنبياء والأولياء، بأن نحشرهم معهم. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. فِتْنَةَ النَّاسِ أذاهم له في الصرف عن الإيمان. كَعَذابِ اللَّهِ في صرف المؤمنين عن الكفر، فيطيعهم فينافق. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ اللام لام القسم، ومجيء النصر بالفتح للمؤمنين والغنيمة. لَيَقُولُنَّ حذفت منه نون الرفع: ليقولونن لتوالي النونات، وحذفت الواو: ضمير الجمع لالتقاء الساكنين. إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين والإيمان، فأشركونا في الغنيمة. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ أي بعالم. بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق؟ بلى. وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا بقلوبهم. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين: لام قسم. اتَّبِعُوا سَبِيلَنا طريقنا الذي نسلكه في ديننا. وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي عنكم في اتباعنا، إن كانت لكم خطايا، والأمر بمعنى الخبر. مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: مزيدة، والتقدير: وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم. أَثْقالَهُمْ أوزارهم أو ذنوبهم التي اقترفتها أنفسهم. وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي ذنوبا أخرى معها لما تسببوا له بالإضلال وحمل الآخرين على المعاصي، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت. عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها. سبب النزول: نزول الآية (8) : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ: روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم

نزول الآية (10) :

طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، فنزلت: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ. وتوضيح ذلك في رواية الترمذي: أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارّا بأمّه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعيّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به. وقال ابن عباس في آية وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا: نزلت في جميع الأمة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق. نزول الآية (10) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ: نزلت في المنافقين. قال مجاهد: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. وقال ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدّوا، والذين نزلت فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ

نزول الآية (12) :

الآية «1» [النساء 4/ 97] . وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد، وكان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخوين لأمه، ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه. نزول الآية (12) : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى حسن التكاليف وثواب الآتي بها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر أن الإتيان بها واجب ولو كان ذلك بمخالفة الوالدين اللذين يجب الإحسان إليهما والطاعة، فلا يكون ذلك مانعا من الإيمان ورفض الشرك ومقاومة معصية الله تعالى. ثم ذكر أن العامل بالصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء. وبعد أن أبان الله تعالى حال صنفين من المكلفين: المؤمن حسن الاعتقاد والعمل، والكافر المجاهر بكفره وعناده في قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أردف ذلك ببيان حال الصنف الثالث وهم المنافقون بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ. ثم ذكر الله تعالى محاولات الكفار في فتنة المؤمنين عن دينهم، ودعوتهم بالرفق واللين إلى الشرك، ومساومتهم واستعدادهم تحمل تبعات ذنوب المؤمنين إن كانت.

_ (1) أسباب النزول للواحدي: 196.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: تشتمل الآيات على موضوعات ثلاثة: التمسك بالتوحيد ولو بمخالفة أمر الأبوين رغم الأمر بالإحسان إليهما، وأقسام المكلفين الثلاثة، وبعض مظاهر الفتنة عن الدين. الموضوع الأول: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لقد أمرنا العباد بالإحسان إلى الوالدين ببرهما قولا وفعلا لأنهما سبب وجوده، كما قال تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء 17/ 23- 24] . ونكّر كلمة حُسْناً ليدل على الكمال. ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، فإنه وإن حرصا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فلا تطعهما في ذلك، في دعوتهما إلى الاعتقاد فيما ليس معلوما لك إذ كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . وإذا كان لا يصح اتباع ما ليس معلوما ثبوته، فلا يجوز اتباع ما علم بطلانه بالأولى، وهذا دليل على أن متابعتهم في الكفر لا تجوز. والسبب مرجعكم جميعا إلى يوم القيامة، المؤمن والكافر، والبار بوالديه والعاق لهما، فأجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه وصبره على دينه، والمسيء بإساءته، لذا قال محرضا على الصلاح والإيمان:

الموضوع الثاني:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي وإن الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فأصلحوا نفوسهم، وأدوا فرائضهم، لنحشرنهم في زمرة الصالحين: الأنبياء والأولياء، لا في زمرة الوالدين المشركين، وإن كانا أقرب الناس إليه في الدنيا، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب حبا دينيا. والسبب في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان حال الهادي هنا بعد بيان حال المهتدي قبل ذلك بدليل أنه قال أولا: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ثم قال ثانيا هنا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء، ولهذا قال كثير من الأنبياء: أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كما أنه تعالى ذكر أولا حال الضال بقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ثم هدد المضل بقوله: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ فصار البيان المتقدم لقسمين من المكلفين: المهتدي والضال، والبيان المتأخر لقسمين آخرين هما: الهادي والمضل «1» . الموضوع الثاني: حال المنافقين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي ويوجد فريق من الناس، هم قوم من المكذبين المنافقين الذين يقولون بألسنتهم: صدقنا بوجود الله ووحدانيته، ولكن لم يثبت الإيمان في قلوبهم، بدليل أنه إذا نزلت بهم محنة وفتنة في الدنيا، فآذاهم المشركون لأجل إيمانهم بالله، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام، وكان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف المؤمنين عن الكفر. وهذا كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج 22/ 11] .

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 36.

وهذا دليل على أن التخلي عن الإيمان سهل على المنافق لأنه لم يخالط الإيمان شغاف قلبه، وإنما كان مجرد ترداد على اللسان، لمصالح دنيوية، فإذا تعرض لأدنى أنواع الأذى، ترك الله بنفسه. أما المؤمن الصادق الإيمان فلا يتزحزح عن إيمانه القلبي مهما تعرض لأنواع الأذى، فإن أكره على الردة أمكنه مجاراة المكره باللسان، مع اطمئنان قلبه بالإيمان، فلا يترك الله بحال. قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله. روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال» . ثم تحدث الله تعالى عن انتهازية المنافقين ونفعيتهم فقال: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي ولئن تحقق نصر قريب من ربك يا محمد بالفتح والغنيمة لقال هؤلاء المنافقون: إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين، نناصركم على الأعداء، كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ [النساء 4/ 141] . ثم رد الله عليهم وكشف أمرهم متوعدا مبينا لهم أنه لا تخفى عليه أوضاعهم فقال: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم من الإيمان والنفاق، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان؟ بلى، إن الله عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، فيعلم المؤمن الحق والمنافق الكاذب. ثم ذكر الله تعالى أنهم معرّضون للاختبار فقال:

الموضوع الثالث:

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي وليختبرن الناس بالسراء والضراء، ليتميز المؤمنون من المنافقين، فيعرف من يطيع الله في كل حال، ومن يعصيه وقت الشدة، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] وقال سبحانه بعد وقعة أحد التي كانت محك اختبار وامتحان: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران 3/ 179] . ويلاحظ أنه تعالى حكم هنا على ما في القلب، فيعلم إيمان المؤمن وهو التصديق، ونفاق المنافق وهو صدقه في قوله باللسان: الله واحد، وأما فيما سبق فقال: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ليميز بين المؤمن القائل بأن الله واحد، وبين الكافر الكاذب في قوله: الله أكثر من واحد، فكان هناك قسمان: صادق وكاذب. وهنا قسم واحد وهو صادق. الموضوع الثالث: محاولات فتنة المسلمين عن دينهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي وقال كفار قريش لمن آمن منهم واتبع الهدى بعد بيان أحوال الناس الثلاثة: المؤمن والكافر والمنافق: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا، وأما آثامكم إن كانت لكم آثام ووجد حساب فعلينا وفي رقابنا، كما يقول القائل الجاهل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي. وهذه محاولة فتنة وإغراء للمسلمين على ترك دينهم بالرفق واللين. وقوله: وَلْنَحْمِلْ صيغة أمر من الشخص لنفسه، ولكن يراد بها الخبر، والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، كما يقول الواحد: ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فليس هو في الحقيقة أمر طلب. فرد الله عليهم تكذيبا لهم:

وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي وإنهم لا يتحملون شيئا من ذنوبهم وأوزارهم، وإنهم لكاذبون فيما قالوه: إنهم يحملون عنهم الخطايا، فهم لا يحملون شيئا لأنه لا يحمل أحد وزر أحد، كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر 35/ 18] وقال سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج 70/ 10- 11] وقال جل وعز: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] . ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة هذا القول، فقال: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي إن دعاة الكفر والضلال هؤلاء ليحملن يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم من الناس، من غير أن ينقص من أوزار أتباعهم شيئا، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل 16/ 25] وكما جاء في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» «1» وفي الصحيح أيضا: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل» وثبت أيضا: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» . «2» . وسوف يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن عن أنس بن مالك. [.....] (2) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ويختلفون من البهتان في الدنيا، كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم، فطرح عليه» . فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- بالرغم من وجوب أو افتراض بر الأبوين اللذين كانا سببا في وجود الإنسان وتربيته والإنفاق عليه، فإنه لا يجوز إطاعتهما فيما يدعوان الولد إلى الشرك والعصيان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا تجوز متابعتهم في الكفر. لذا كان قوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ... وعيدا في طاعة الوالدين في معنى الكفر، وأنه تعالى سيجازي كل إنسان بما عمل، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. 2- كرر الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لتحريك النفوس إلى نيل مراتب الصالحين: وهم الذين بلغوا نهاية الصلاح وأبعد غاياته، من الأنبياء والأولياء، وإذا وصل المؤمن إلى تلك المرتبة حظي بالثمرة المرجوة وهي الجنة. 3- ينكشف أمر النفاق وشأن المنافقين وقت المحنة، فإذا قال المنافق: آمنت بالله، ولم يؤمن قلبه، ثم تعرض لأذى أو مصاب، ارتد على عقبيه، وترك الإسلام إلى الكفر، جاعلا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، وما أفسد هذا القياس؟! وتراه يجزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، ولا يصبر على الأذية في الله تعالى.

قصة نوح عليه السلام مع قومه [سورة العنكبوت (29) الآيات 14 إلى 15] :

وإذا تحقق نصر للمؤمنين بالفتح والغنائم طالب هؤلاء المرتدون بنصيب منها قائلين: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أيها المؤمنون، وهم كاذبون. فرد الله عليهم: الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم، فلا يخفى عليه نفاقهم، والله يعلم المؤمن من المنافق، ويجازي كلّا بما يستحق. 4- حاول الكفار فتنة المسلمين عن دينهم بالرفق واللين والإغراء، ليبينوا أنهم بكثرتهم على الحق، والمسلمون على باطل، وأظهروا استعدادهم لتحمل أوزار المسلمين يوم القيامة، وهم في الحقيقة والواقع كاذبون فيما يقولون، فإنهم لا يتحملون شيئا من أوزار غيرهم. وإنما على العكس يتحملون الإثم مضاعفا: إثم أنفسهم وإثم إضلالهم غيرهم، فهم دعاة كفر وضلالة، ويسألون يوم القيامة عن افترائهم بأن لا خطيئة في الكفر، وأن لا حشر، وأنهم يتحملون خطايا غيرهم، ويقال لهم حينئذ: لم افتريتم ذلك؟! قصة نوح عليه السلام مع قومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) الإعراب: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً: أَلْفَ سَنَةٍ: منصوب على الظرف، وخَمْسِينَ عاماً: منصوب على الاستثناء.

البلاغة:

البلاغة: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً تفنن في التعبير، فلم يقل: إلا خمسين سنة، تحاشيا للتكرار المنافي للبلاغة، إلا إذا كان لغرض كالتفخيم أو التهويل، مثل: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [القارعة 101/ 1- 2] . المفردات اللغوية: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي مكث في قومه يدعوهم إلى توحيد الله تسع مائة وخمسين سنة، فكذبوه. روي أنه بعث على رأس أربعين، ودعا قومه تسع مائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. قال البيضاوي: ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد، فإن تسع مائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه. فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء، والطوفان في الأصل: اسم لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها. وَهُمْ ظالِمُونَ بالكفر. فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا. وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي الذين أركبهم معه من أولاده وأتباعه المؤمنين، وكانوا ثمانين، أو ثمانية وسبعين، نصفهم ذكور ونصفهم إناث. آيَةً عبرة. لِلْعالَمِينَ لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسله، يتعظون ويستدلون بها. المناسبة: بعد بيان التكليف وأقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، ووعيد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم، ذكر الله تعالى قصة أطول الأنبياء عمرا نوح عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن معه إلا قليل. ثم أتبع ذلك بذكر قصص أنبياء آخرين: إبراهيم، ولوط وهود وشعيب وصالح، لبيان عاقبة الله في المكذبين من المكلفين، وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتثبيته على ما يكابده من أذى الكفرة، وعبرة لمن يعتبر، وتأكيدا لما في بداية السورة الكريمة من أن الابتلاء سنة الحياة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي تالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام، وهو أول نبي أرسل، إلى قومه الذين كانوا كفارا، لا يؤمنون بالله، وإنما يعبدون الأصنام، فاستمر مقيما معهم ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته، والإيمان بيوم القيامة، فلم يؤمنوا بدعوته، وكذبوه، وما آمن معه منهم إلا قليل: قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح 71/ 5- 6] قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح 71/ 21] . فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ، وَهُمْ ظالِمُونَ أي بعد هذه المدة الطويلة، لم يفدهم البلاغ والإنذار، فأغرقهم الله بالطوفان، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم، فإن الأمر بيد الله تعالى، وإليه ترجع الأمور. فإن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في دعوة قومه إلى الإيمان بالله، ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر. وكان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر، ومع ذلك ما نجوا، فلا يغتروا فإن العذاب يلحقهم. فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ، وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي فأنجينا نوحا والذين آمنوا معه بركوب السفينة التي أوحى الله إليه كيفية صنعها، ثم سارت في البحر، حتى استقرت على جبل الجودي، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء، وجعل ربك سفينة نوح تذكرة لنعمة الله على خلقه كيف أنجاهم من الطوفان، وعبرة وعظة يتأمل بها من يأتي بعدهم من الناس، كيف يعاقب الله من عصوا رسله وكذبوا بأنبيائه، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ،

فقه الحياة أو الأحكام:

لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] . والضمير في قوله: جَعَلْناها عائد إلى السفينة المذكورة. فقه الحياة أو الأحكام: هذا عرض موجز جدا لقصة نوح مع قومه، فصلت في مواضع أخرى كثيرة من القرآن الكريم. وقد دلت مع هذا الإيجاز على العظة المؤثرة منها، فإنها ذكرت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم لما أسف على إعراض قومه عن دعوته، فأخبره الله تعالى بأن الأنبياء قبلك ابتلوا بالكفار من أقوامهم فصبروا، وخص نوحا بالذكر أولا لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض، بعد أن امتلأت كفرا، وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح عليه السلام، كما تقدم في سورة هود. روى ابن عساكر عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح» . واختلف في عمره، قال الحسن البصري: لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال: يا نوح كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاث مائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي، وثلاث مائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان، قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان، دخلت من هذا، وخرجت من هذا. وبالرغم من هذه المدة الطويلة في الدعوة إلى توحيد الله، لم يؤمن برسالة نوح عليه السلام إلا فئة قليلة. وظهر في القصة بنحو ملحوظ مصير المؤمنين ومصير الكافرين، أما الأوائل فقد نجاهم الله في السفينة التي كان نوح قد صنعها، فركبوا فيها ونجوا من الغرق، وأما الكافرون المكذبون فقد أغرقهم الله جميعا، وجعل الله السفينة أو العقوبة أو النجاة عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ.

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه:

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه - 1- الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والبعث [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 23] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) الإعراب: وَإِبْراهِيمَ منصوب عطفا على نوح في آية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أي وأرسلنا إبراهيم، أو عطفا على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو منصوب بتقدير فعل، تقديره: واذكر إبراهيم. والعامل في إِذْ قالَ هو العامل في إِبْراهِيمَ فهو على الأول ظرف لأرسلنا.

البلاغة:

إِفْكاً إما مصدر نحو كذب ولعب وإما صفة لفعل أي خلقا ذا إفك وباطل. لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يحتمل كونه مصدرا بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم، وأن يراد المرزوق، وتنكيره للتعميم. البلاغة: يُبْدِئُ ويُعِيدُهُ يُعَذِّبُ ويَرْحَمُ بين كلّ طباق. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أسلوب الإطناب للتشنيع عليهم في عبادة الأوثان. يَسِيرٌ وسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بينهما جناس ناقص غير تام. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ التصريح باسم الله هنا بعد إضماره في قوله بَدَأَ الْخَلْقَ للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنها أهون. المفردات اللغوية: وَاتَّقُوهُ خافوا عقابه. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من عبادة الأصنام. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من غيره وتميزون ما هو شر مما هو خير. أَوْثاناً جمع وثن: وهو ما اتخذ من جص أو حجر، والصنم: ما كان من معدن كنحاس وغيره، والتمثال: ما هو مثال لكائن حي. وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً تقولون كذبا في تسميتها آلهة، وادعاء شفاعتها عند الله، وأنها شركاء لله، وهو دليل على شرّ ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل لا حقيقة له. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لا يقدرون أن يرزقوكم، وهو دليل ثان على شر ما هم عليه، من حيث إن تلك الأوثان لا تجدي شيئا. فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ اطلبوه منه، فإنه المالك له. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، شاكرين له نعمه. إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مستعدين للقائه بالعبادة والشكر، فإنكم راجعون إليه. وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي تكذبوني. فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبلي من الرسل، فلم يضرهم تكذيبهم، وإنما ضرّ أنفسهم، حيث تسبب لما حلّ بهم من العذاب، فكذا تكذيبكم. إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلا البلاغ البيّن الذي زال معه الشك. وهذه الآية: وَإِنْ تُكَذِّبُوا وما بعدها إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ من جملة قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون المذكور اعتراضا، بذكر شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم

المناسبة:

والوعيد على سوء صنيعهم، وهو توسط بين طرفي قصة، من حيث إن مساقها لتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم والترويح عنه بأن أباه خليل الله مني بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم، وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه. يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم ابتداء من مادة وغيرها. ثُمَّ يُعِيدُهُ يعيد الخلق بعد الموت كما بدأهم. إِنَّ ذلِكَ المذكور من الخلق والإعادة. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء، فكيف ينكرون الثاني؟ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ لمن كان قبلكم وأماتهم، على اختلاف الأجناس والأحوال. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق مرة أخرى، بعد النشأة الأولى التي هي الإبداء، فإنه والإعادة نشأتان، من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم، فالنشأة: الخلق والإيجاد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه البدء والإعادة لأن قدرته لذاته وكل الممكنات بالنسبة إلى ذاته سواء، فيقدر على النشأة الأخرى، كما قدر على النشأة الأولى. يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه. وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردّون بعد موتكم. بِمُعْجِزِينَ ربكم عن إدراككم، أي جاعلين الله عاجزا. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا تفوتونه أينما كنتم، سواء بالتواري في الأرض أو التحصن في السماء. مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. مِنْ وَلِيٍّ قريب، أو متولي الأمر يمنعكم منه. وَلا نَصِيرٍ معين، ينصركم من عذابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته أو بكتبه. وَلِقائِهِ بالبعث. يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة، فعبر عنه بالماضي لتحقق الوقوع والمبالغة فيه. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بكفرهم. المناسبة: بعد الانتهاء من بيان قصة نوح أبي البشر الثاني عليه السلام، أورد الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وإمام الحنفاء، بقصد عرض نماذج من سيرة الأنبياء للنبي صلّى الله عليه وسلم ليتأسى بهم، ويسلو عما أهمه من إعراض قومه عن دعوته، كما بيّنت.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك حين دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء عذابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر فيهما، إن كنتم ذوي إدراك وعلم، تميزون به بين الخير والشر، وتفعلون ما ينفعكم. فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ معناه: أخلصوا له العبادة والخوف. ثم أقام إبراهيم لقومه دليلين على التوحيد وعلى فساد ما هم عليه، وشر ما يسيرون عليه، فقال: الدليل الأول: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي إن الأصنام التي تعبدونها من غير الله، ما هي إلا أشياء مصنوعة من جص أو حجر، صنعتموها بأيديكم، فلا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، فسميتموها آلهة، وادعيتم أنها تشفع لكم عند ربكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تكذبون حين تصفونها بأنها آلهة. فقوله: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً معناه: تختلقون الإفك أي الكذب والباطل، بتسمية الأوثان آلهة، وشركاء لله، أو شفعاء إليه. الدليل الثاني: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تقدر أن تجلب لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فكيف تعبدونها؟!

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي فاطلبوا الرزق من عند الله، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها، فإن غيره لا يملك شيئا، تدركوا ما تطلبون، فكلوا من رزق الله، واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من مزيد الفضل، واستعدوا للقائه، فإليه ترجعون يوم القيامة، وتسألون عما أنتم عليه من عبادة غيره، ويجازي كل عامل بعمله. ثم أقام إبراهيم دليلا على الرسالة، فقال: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي وإن تكذبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فإن الأمم السابقة كذبوا رسلهم، ولكن بلغكم ما حلّ بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، فأضروا أنفسهم بذلك، وما المطلوب الواجب على الرسول إلا أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء، وعلى الله الحساب. فقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ معناه: لا واجب عليه إلا التبليغ، وهو ذكر المسائل والأوامر المنزلة من عند الله، والإبانة: وهي إقامة البرهان على ما جاء به. وبعد بيان الأصل الأول والاستدلال عليه وهو التوحيد، والإشارة إلى الأصل الثاني وهو الرسالة، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة متلازمة لا يكاد ينفصل ذكر بعضها عن بعض في البيان الإلهي، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أولم يشاهدوا كيفية بدء الخلق؟ فإن الله خلق أنفسهم بعد أن لم يكونوا شيئا

مذكورا، وزودهم بالقدرة الجسدية وبطاقات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد، فإن الذي بدأ هذا قادر على إعادته، فإنه سهل عليه، يسير لديه، بل هو أهون عليه، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] . وبعد إثبات المعاد بالدليل المشاهد في الأنفس، لفت الله تعالى النظر إلى آياته في الآفاق، فقال: قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قل يا محمد: سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السموات وما فيها من الكواكب النيّرة الثوابت والسيارات، والأرضين وما فيها من جبال ومهاد ووديان وبراري وقفار، وأشجار وأثمار، وأنهار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار. وذلك كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 41/ 53] وقوله سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور 52/ 35- 36] . هذا هو المتفرد بالخلق، وذلك دليل على وجوده، ومن قدر على الخلق قدر على الإعادة وإنشاء النشأة الآخرة يوم القيامة، فإن الله قدير على كل شيء، ومنه البدء والإعادة. وقد عبر أولا بلفظ المستقبل كَيْفَ يُبْدِئُ للدلالة على القدرة المستمرة، ثم عبّر بلفظ الماضي كَيْفَ بَدَأَ للعلم بما بدأ. ويلاحظ أنه تعالى قال أولا أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ بصيغة الاستفهام، ثم قال: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بصيغة الأمر لأن الآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي: وهو الحاصل من غير طلب، والآية الثانية إشارة إلى

العلم الفكري الحاصل بالتفكير والطلب، أي سيّروا فكركم في الأرض، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم، لتعلموا بدء الخلق. ثم ذكر الله تعالى ما يكون بعد الإعادة فقال: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي إن الله هو الحاكم المتصرف يعذب من يشاء منكم من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، فله الخلق والأمر، وإليه تردون يوم القيامة بعد الموت مهما طال الأمد، فيحاسب الخلائق على ما قدموا، وحسابه حق وعدل لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السّنن: «إن الله لو عذّب أهل سماواته، وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم» . وتقديم التعذيب في البيان على الرحمة، مع أن الرحمة سابقة كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي» لأنه ذكر الكفار أولا، ولمناسبته التهديد السابق بقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا ... وإعادة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ بعد قوله: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للدلالة على أن التعذيب والرحمة وإن تأخرا، فلا بدّ من حصولهما، فإن إليه الإياب وعليه الحساب، وعنده يدخر الثواب والعقاب. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي وما أنتم أيها البشر بجاعلين الله عاجزا عن إدراككم في أرضه وسمائه، فلا يعجزه أحد من أهل السموات والأرض، ولا يقدر على الهرب من قضائه، بل هو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين ناصر ينصركم ويمنعكم من عذابه إن عذبكم. وبعد الإفاضة في بيان هذه الأدلة على المعاد، والقدرة الإلهية الفائقة التصور، والتوحيد، هدد كل مخالف وتوعد كل كافر، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي والذين جحدوا بآيات الله أي بدلائل وحدانيته وما أنزله على رسله من البراهين المرشدة إلى ذلك، وكفروا بالمعاد ولقاء الله في الآخرة، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله، بسبب كفرهم، ولهم عذاب مؤلم موجع شديد في الدنيا والآخرة، كما قال: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] . وتكرار أُولئِكَ في الآية للدلالة على أن كل واحد من اليأس والعذاب لا يوجد إلا في الكفار، وقد أضاف اليأس إليهم بقوله: أُولئِكَ يَئِسُوا فلو طمعوا بالرحمة لأنزلها عليهم، ثم إنه تعالى أضاف الرحمة لنفسه رَحْمَتِي لبيان عمومها لهم ولزومها له، ولم يضف العذاب لنفسه لتخصيصه بالكفار. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كانت دعوة إبراهيم كدعوة جميع الأنبياء عليهم السلام إلى عبادة الله (أي إفراده بالعبادة) وتوحيده واتقاء عذابه بفعل أوامره وترك معاصيه. وقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره، فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ إثبات الإله، وقوله: وَاتَّقُوهُ نفي الغير. 2- إن الوثنيين يعبدون أصناما من صنع أيديهم ويختلقون الكذب بجعل تلك الأصنام شركاء لله شفعاء عنده، مع أنها لا تملك ضرّا ولا نفعا، ولا تقدر على جلب الرزق لأحد، إنما الرازق الذي يطلب منه الرزق هو الله وحده، فيجب على العباد أن يسألوه وحده دون غيره لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور: إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته، وإما لكونه نافعا في الحال أو في المستقبل، وإما

لكونه خائفا منه، فقوله: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها، وقوله: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وقوله: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ معناه اعبدوه لكونه مرجعا يتوقع الخير منه. وقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا تهديد. 3- الله تعالى هو بادئ الخلق، خلق الإنسان والحيوان والنبات والثمار، فتحيى ثم تفنى، ثم يعيدها، ويهلك الإنسان، ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة لأن القادر على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، وذلك هيّن يسير على الله، لأنه إذا أراد أمرا قال له: كُنْ فَيَكُونُ. وبإيراد آية أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ تكون الآيات دالة على الأصول الثلاثة: التوحيد، والرسالة بقوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والحشر. 4- إن آفاق الكون سمائه وأرضه خلقها الله تعالى، وهو الذي يعيد الخلق مرة أخرى لأنه القادر على كل شيء، وهذا يفيد كون الإعادة أمرا مقدورا، وذلك كاف في إمكان الإعادة، وهو تقرير لكون الأمر يسيرا على الله تعالى. 5- الله سبحانه هو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، يعذّب من يشاء تعذيبه بعدله وحكمته وهو تعذيب أهل التكذيب، ويرحم من يشاء رحمته بفضله، وهو رحمة المؤمنين، والجميع عائدون إليه، محاسبون أمامه، ولا يعجزه أحد في السماء والأرض. وهذا كله لتخويف العاصي وتفريح المؤمن. 6- ليس لأحد سوى الله من ولي يتولى أمره حفظا وعناية ورعاية، ولا من ناصر معين يعينه على التخلص من الشدائد. 7- إن الذين كفروا بالقرآن، أو بما أقامه الله من أدلة وأعلام على وجوده وتوحيده وقدرته لا نصيب لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى، فهم أيسوا من

- 2 - جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به وتعداد النعم عليه [سورة العنكبوت (29) الآيات 24 إلى 27] :

الرحمة، وقد ذكّر الكفار بالله هنا بعد بيان أصلي التوحيد والإعادة وتهديد من خالف. 8- دلّ قوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلّغ شيئا ولم يبيّنه، فإنه لم يأت بالبلاغ المبين، فلا يكون آتيا بما عليه. - 2- جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به وتعداد النعم عليه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 27] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) الإعراب: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ إِنَّمَا: كافة ومكفوفة، وأَوْثاناً مفعول اتَّخَذْتُمْ واقتصر على مفعول واحد، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ. ومَوَدَّةَ مفعول لأجله، أي إنما اتخذتم الأوثان للمودة فيما بينكم. ويجوز أن تكون (ما) في إِنَّمَا اسما موصولا بمعنى

البلاغة:

الذي، في موضع نصب لأنها اسم (إن) وصلته اتَّخَذْتُمْ والعائد محذوف تقديره: اتخذتموهم، وهو المفعول الأول ل اتَّخَذْتُمْ والمفعول الثاني أَوْثاناً ومَوَدَّةَ مرفوع خبر (إن) . ومن نون مَوَدَّةَ نصب بَيْنِكُمْ على الظرف، والعامل فيه مَوَدَّةَ. وفِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف للمودة أيضا. وجاز أن يتعلق بها ظرفان لاختلافهما لأن أحدهما ظرف مكان والآخر ظرف زمان. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْآخِرَةِ جار ومجرور متعلق بمحذوف مقدر، أي: وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين، أو متعلق ب الصَّالِحِينَ على رأي بعضهم، فإنه نزلها منزلة الألف واللام التي للتعريف، لا بمعنى التي للذين. البلاغة: أَوْ حَرِّقُوهُ على طريقة أسلوب الإيجاز، أي حرقوه في النار، وكذا فَأَنْجاهُ اللَّهُ.. أي ففعلوا فأنجاه الله من النار. المفردات اللغوية: جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم له. إِلَّا أَنْ قالُوا كان ذلك قول بعضهم، لكن لما قيل فيهم أو رضي به الباقون، أسند إلى كلهم. حَرِّقُوهُ أحرقوه. فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي فقذفوه في النار، فأنجاه الله منها، بأن جعلها عليه بردا وسلاما. إِنَّ فِي ذلِكَ في إنجائه منها. لَآياتٍ هي حفظه من أذى النار، وإخمادها مع عظمها في زمان يسير، وإنشاء روض مكانها. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بها. مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أي لتتواددوا بينكم وتتواصلوا في اللقاء على عبادتها. يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يتبرأ القادة من الأتباع. وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن الأتباع القادة. وَمَأْواكُمُ مصيركم جميعا. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها. فَآمَنَ لَهُ صدق بإبراهيم لُوطٌ هو ابن أخي إبراهيم واسمه هاران، أو ابن أخته وأول من آمن به. وَقالَ إبراهيم. إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من قومي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، فهجر قومه وهاجر من سواد العراق إلى الشام فنزل فلسطين، ونزل لوط سدوم. الْعَزِيزُ في ملكه الذي يمنعني من أعدائي. الْحَكِيمُ في صنعه الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. إِسْحاقَ هو الابن الثاني لإبراهيم بعد إسماعيل. وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وحفيد إبراهيم فكان نافلة بعد أن أيس من الولادة من عجوز عقيم (عاقر) . وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته. وَالْكِتابَ يريد به الجنس، ليتناول الكتب الأربعة، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.

التفسير والبيان:

أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا الرزق الواسع، والمنزل المريح، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل بين أهل الأديان جميعا. لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي في زمرة الكاملين في الصلاح. والصالح لغة: الباقي على ما ينبغي، يقال: طعام صالح، أي باق على حال حسنة. التفسير والبيان: بعد أن أقام إبراهيم عليه السلام لقومه الأدلة والبراهين على توحيد الله والرسالة والبعث أو الحشر، وأمرهم بعبادة الله تعالى، وندد بعبادة الأوثان، لم يجدوا جوابا له على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم إلا اللجوء إلى استعمال القوة، كما هو شأن المحجوج المغلوب على أمره المعتمد على جاهه وقوة ملكه، وهذا ما حكاه تعالى عنهم قائلا: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لم يجد قوم إبراهيم جوابا له على مطالبتهم بعبادة الله واتقاء عذابه إلا أن قال كبراؤهم ورؤساؤهم: اقتلوه، أو أحرقوه بالنار تحريقا شديدا، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله وسلمه منها، وجعلها بردا وسلاما عليه، لحفظه له وعصمته إياه. إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالات على وجود الله وقدرته لقوم يصدقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والحجج. إنه مثل السوء ومدعاة العجب، يدعوهم إبراهيم عليه السلام إلى الخير، ويرشدهم إلى الحق والهدى، فيلقى في النار للتخلص منه، ولكن الله أكبر وأقدر من كيد البشر وقوتهم، فإنه جعل النار المحرقة غير مؤثرة فيه، وإنما صيّرها بردا وسلاما عليه. وقد وصف الله في آيات أخرى هذا التقابل بين الفعلين، فقال: قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ

[الصافات 37/ 97- 98] ، وقال سبحانه: قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء 21/ 68- 70] . ثم ذكر الله تعالى جواب إبراهيم لقومه بعد النجاة من النار: وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي قال إبراهيم لقومه مقرعا لهم، وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان: إنما اتخذتم هذه الأوثان لتجتمعوا على عبادتها، ولتتواددوا بينكم، وتقووا الصداقة والألفة بين بعضكم بعضا في حياتكم الدنيا، كاتفاق أهل المذاهب والأهواء على رابطة بينهم تكون سبب تجمعهم وتآلفهم، ولكن تلك الأوثان لا تعقل ولا تنفع ولا تضر، وإنما يكون اتخاذكم هذا لتحصيل المودة لكم في الدنيا فقط. وستكون حالهم من التنافر والتباعد في الآخرة نقيض ذلك، فقال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ثم تنعكس هذه الحال يوم القيامة، فتنقلب هذه الصداقة والمودة بغضا وحقدا وعداوة، فيتبرأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف 7/ 38] ، وقال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف 43/ 67] ثم يكون مصيركم إلى النار، ولن تجدوا حينئذ ناصرا ينصركم، ولا منقذا ينقذكم من عذاب الله تعالى. هذا حال الكافرين، أما المؤمنون فبخلاف ذلك، يتصافون ويصفحون، ويعفو بعضهم عن بعض، كما ورد في بعض الأحاديث. ثم ذكر تعالى أنه لم يؤمن بإبراهيم ولم يصدق بما رأى إلا لوط فقال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ، وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فلما نجا إبراهيم

سليما من النار آمن به لوط، وصدق بنبوته، ولوط: هو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن آزر، ولم يؤمن به من قومه سواه وسارّة امرأة إبراهيم الخليل. وقال إبراهيم: إني مهاجر من دياركم، متجه إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وقد هاجر من سواد العراق إلى حرّان، ثم إلى فلسطين ونزل لوط بلدة سدوم. وعلة الهجرة هي كما قال: إن ربي هو العزيز في ملكه الغالب على أمره، الذي يمنعني من أعدائي، وينصرني عليهم، الحكيم في تدبير شؤون خلقه، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح. فقوله: وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ يعود الضمير إلى إبراهيم لأنه المكني عنه بقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي من قومه. ويحتمل عود الضمير إلى لُوطٌ لأنه أقرب المذكورين. ثم عدّد تعالى نعمه على إبراهيم في الدنيا والآخرة لإخلاصه لربه، فقال: 1- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي ووهبنا إلى إبراهيم بعد إسماعيل في حال الكبر إسحاق، وكذا من نسله يعقوب نافلة حفيدا له، كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مريم 19/ 49] ، وقال سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء 21/ 72] . وفي الصحيحين: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام» . 2- وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي وجعلنا في ذرية إبراهيم النبوة، فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته، ولم يوجد نبي بعده إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،

فقه الحياة أو الأحكام:

حتى كان آخرهم عيسى بن مريم، مبشرا بالنبي العربي الهاشمي خاتم الرسل على الإطلاق. وآتيناه الكتاب، فكانت التوراة منزلة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، وكلهم من نسله. 3- وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا بكثرة الذرية والأموال والزوجة الصالحة والثناء الحسن، فجميع أهل الأديان يحبونه ويتولونه، قال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول: هو منا. 4- وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي وإنه يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح الذين لهم الدرجات العلا. وبهذا جمع الله تعالى له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- أثبت إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه أصول الدين الثلاثة: وهي وحدانية الله، وصحة الرسالة أو النبوة، والبعث والحشر، وأقام البرهان الدامغ على ذلك، فكان جوابهم النابع من تمكن الكفر والعناد والمكابرة هو: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ثم اتفقوا على تحريقه، وهو قتل بالنار أشد نكاية وتعذيبا وتشفيا من القتل العادي. 2- حشد قوم إبراهيم الجموع العظيمة، وجمعوا الأحطاب الكبيرة، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لهبها إلى عنان السماء، ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم، فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فيها، فأنجاه الله وسلّمه،

وجعلها عليه بردا وسلاما، كما قال تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء 21/ 69] . أما كيفية استبراد النار فهو أمر معجز، والمعجز خارق للعادة، والله قادر على كل شيء، بسلب خاصية الحرارة عن النار. لهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، فاجتمع على محبته جميع أهل الأديان. 3- إن في إنجاء إبراهيم من النار العظيمة، حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها، لآيات للمؤمنين بالله ورسله. وجمع الآيات هنا لأن الإنجاء من النار، وجعلها بردا وسلاما، ولم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به، وغير ذلك، مجموع آيات. وخص الآيات بالمؤمنين لأنه لا يصدق بذلك إلا المؤمنون، وفيه بشارة للمؤمنين بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة. أما في قصة نوح فقال: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ للدلالة على اتخاذ السفينة وقت الحاجة وصونها عن المهلكات، فهي آية واحدة، وجعلها للعالمين علامة ظاهرة لبقائها أعواما حتى مرّ عليها الناس، ورأوها، فعلم بها كل أحد، وليس المؤمنين فقط. 4- بالرغم من إلقاء إبراهيم في النار، عاد إلى لوم الكفار وبيان فساد ما هم عليه وخطئه، وتمسكهم بالتقليد الأعمى، فقال: إنكم اتخذتم عبادة الأوثان لإيجاد نوع من التوادد والترابط والتواصل فيما بينكم، كالتوافق الذي يحدث بين أهل مذهب معين. غير أن تلك الروابط واهية غير موثقة، فهي رابطة في الدنيا فقط، ثم تنقطع وتتلاشى في عالم الآخرة، فيقع التباغض والتلاعن والتعادي بينكم

يوم القيامة، فتتبرأ الأوثان من عبّادها، والرؤساء من الأتباع، ويلعن الأتباع رؤساءهم، ويكون مأوى الجميع نار جهنم. 5- ليست نار الآخرة كالنار التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره، فإن الكفار في النار، وليس لهم شافع ولا ناصر دافع، ينصرهم ويمنع عنهم عذاب الله تعالى. 6- لوط عليه السلام أوّل من صدق إبراهيم عليه السلام حين رأى النار عليه بردا وسلاما، وتلك معجزة. قال ابن إسحاق: آمن لوط بإبراهيم، وكان ابن أخته، وآمنت به سارّة، وكانت بنت عمه. 7- بعد أن بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي بعد وجود الآية الكبرى، وهي نجاته من النار، ولم يؤمنوا، وجبت المهاجرة لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا، فبقاؤه فيهم عبث ولا جدوى فيه، لذا هاجر من أرض بابل ونزل بفلسطين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وامرأته سارّة. وهو أول من هاجر من أرض الكفر. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه- كما روى البيهقي- أول من هاجر بأهله إلى الحبشة في الهجرة الأولى، بعد لوط. 8- أكرم الله تعالى إبراهيم الخليل بعد هجرته، فمنّ عليه بالأولاد، فوهب له إسحاق ولدا، ويعقوب ولد ولد، من بعد إسماعيل، وجعل في ذريته النبوة، والكتاب، فلم يبعث الله نبيّا بعد إبراهيم إلا من صلبه، وأنزل الكتب الأربعة المعروفة على أناس من ذريته، فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والزبور على داود من ولد إسحاق بن إبراهيم، والقرآن (أو الفرقان) على محمد صلّى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل بن إبراهيم، وآتاه أجره في الدنيا باجتماع أهل الملل عليه، وجعله في الآخرة في زمرة الصالحين. وكل هذا حثّ على الاقتداء بإبراهيم عليه السلام في الصبر على الدين الحق.

قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة العنكبوت (29) الآيات 28 إلى 35] :

قصة لوط عليه السلام مع قومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) الإعراب: وَلُوطاً إِذْ قالَ إما منصوب بالعطف على هاء فَأَنْجَيْناهُ أو عطفا على نوح في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً أي وأرسلنا لوطا، أو منصوب بفعل مقدر، أي واذكر لوطا، وعامل إِذْ هو العامل في لوط والأولى عطفه على إِبْراهِيمَ. إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ كاف مُنَجُّوكَ في موضع جرّ بالإضافة. وأَهْلَكَ منصوب بفعل مقدر، أي وننجي أهلك.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ تأكيد بعد مؤكدات، وإطناب بتكرار فعل تأتون لتقبيح عملهم وتوبيخهم. ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ استهزاء وسخرية، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سبق، أي إن كنت صادقا فائتنا به. رِجْزاً مِنَ السَّماءِ التنكير لإفادة التهويل، أي عذابا عظيما شديدا. الْعالَمِينَ الصَّادِقِينَ ظالِمِينَ الْغابِرِينَ وكذا يَفْسُقُونَ يَعْقِلُونَ توافق الفواصل. المفردات اللغوية: وَلُوطاً أي واذكر الْفاحِشَةَ الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة، وهي إتيان أدبار الرجال. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع السليمة. الْعالَمِينَ الإنس والجن. وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ الطريق على المارة، بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة، حتى انقطعت الطرق. فِي نادِيكُمُ مجالسكم الخاصة أو متحدثكم. الْمُنْكَرَ الأمر المخالف للشرع، المنفر للطبع السليم كاللواط وأنواع الفحش. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في استقباح الفاحشة وأن العذاب نازل بفاعليه. انْصُرْنِي في إنزال العذاب. عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ العاصين بإتيان الرجال أو بابتداع الفاحشة، فاستجاب الله دعاءه. بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب بعده. هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سدوم، قرية لوط. ظالِمِينَ كافرين. قالُوا أي الملائكة الرسل. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب. سِيءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف، فخاف عليهم قومه، فأعلموه أنهم رسل ربه. وضاق ذرعه أي قصرت طاقته أو قدرته، وضده: طال ذرعه وذراعه، ورحب الذراع: إذا كان قادرا على الشيء لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. رِجْزاً عذابا شديدا، سمي بذلك، لأنه يقلق المعذّب، من قوله: ارتجز أو ارتجس أي اضطرب. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم. آيَةً بَيِّنَةً ظاهرة، وهي آثار خرابها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون أو يستعملون عقولهم في الاستبصار.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله قصة إبراهيم ذكر قصة لوط عليهما السلام لأنه كان معاصرا له في زمن إبراهيم، ولم يذكر في قصته هنا دعوته إلى التوحيد كسائر الأنبياء، وإنما اقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، وذكر ذلك عنه في موضع آخر حيث قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ [هود 11/ 78، الشعراء 26/ 163] وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجر 15/ 69] وكان قد أتى به إبراهيم وسبقه إليه. واختص لوط بالمنع من عمل قومه الفاحش، فلما يئس من ردعهم وتطهرهم من فاحشتهم، استنصر بربه، فاستجاب له وأهلك قومه، ونجاه مع من آمن به بسبب فحشهم وكفرهم بالله وبرسوله وقطعهم الطرق. التفسير والبيان: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي واذكر أيها الرسول لقومك للعبرة والعظة قصة نبي الله لوط عليه السلام حين أرسله الله إلى أهل قرية «سدوم» فأنكر عليهم صنيعهم وقبيح أعمالهم التي ابتدعوها، وقال منكرا عليهم أو محذرا أو موبخا ومقرعا لهم: أتأتون الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح شرعا وطبعا سليما؟! ثم كرر الإنكار عليهم ووضح تلك الفاحشة فقال: 1- أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ؟ أي تأتون الذكران بشهوة كإتيان النساء، ما سبقكم أحد قبلكم من بني آدم إلى هذه الفعلة. 2- وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي تقفون في طريق الناس، وتتعرضون للمارة بقتلهم وأخذ أموالهم وفعل الفاحشة بهم. 3- وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي وتفعلون ما لا يليق من الأقوال

والأفعال في مجالسكم الخاصة، دون أن ينكر بعضكم على بعض شيئا من ذلك، فهم ذوو أخلاق سوء. والنادي: المجلس. روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال: «يحذفون «1» أهل الطريق، ويسخرون منهم، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» . وروي عن ابن عباس قال: إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، منها أنهم يتظالمون فيما بينهم، ويشتم بعضهم بعضا، ويتضارطون في مجالسهم، ويخذفون، ويلعبون بالنّرد والشّطرنج، ويلبسون المصبغات. ويتناقرون بالديكة، ويتناطحون بالكباش، ويطرّفون أصابعهم بالحنّاء، وتتشبه الرجال بلباس النساء، والنساء بلباس الرجال، ويضربون المكوس «2» على كل عابر، ومع هذا كله كانوا يشركون بالله، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسّحاق. وفسر مجاهد المنكر: بأنه الصفير، ولعب الحمام، والجلاهق «3» والسؤال في المجلس، وحل أزرار القباء. فكان جوابهم: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فما كان جوابهم بعد نهيهم عن الفاحشة وغيرها إلا قولهم بسبب كفرهم واستهزائهم وعنادهم: عجل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به. وهذا كان في بداية وعظه لهم، فلما ألح عليهم في الإنكار قالوا كما

_ (1) الحذف أو الخذف: الرمي بالحصى. (2) رسوم المرور الظالمة. (3) كعلابط البندق الذي يرمى به.

جاء في آية أخرى: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف 7/ 82] . ولما يئس لوط من استجابة قومه طلب من الله النصرة عليهم فقال: قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أي قال لوط داعيا: رب انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض بابتداع الفاحشة. ومن المعلوم أنه ما طلب نبي من الأنبياء هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 27] أي لا مصلحة ولا خير يرتجى فيهم لا حالا، ولا مآلا في المستقبل. فاستجاب الله دعاءه، وبعث ملائكة العذاب لنصرته: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى، قالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي بعث الله ملائكة، فمروا على إبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءهم بما ينبغي للأضياف، فلما رأى أنه لا رغبة لهم في الطعام خاف منهم، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بولد صالح من امرأته «سارّة» وهو إسحاق، ومن بعده يعقوب، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط لأنهم قوم ظالمون أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم رسولهم وتماديهم في الفساد والفحش. فأخذ إبراهيم يدافع، لعلهم يمهلونهم، ولعل الله يهديهم، وأشفق على ابن أخيه لوط، فقال: قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي قال إبراهيم مشفقا على لوط: إن في القرية لوطا، وهو غير ظالم، وهو رسول، فقالت الملائكة الرسل: نحن أعلم منك بمن

فيها من المؤمنين والكافرين، وإنا لننجي لوطا وأهله وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلا امرأته، فهي من الهالكين لأنها كانت تمالئ القوم على كفرهم وبغيهم وخبائثهم. ثم قدموا على لوط فدخلوا عليه في صورة شبان حسان، فلما رآهم ضاق بهم، كما حكى تعالى: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً، وَقالُوا: لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي ولما جاءت الملائكة الرسل إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه، اغتم بأمرهم، وخاف عليهم من قومه، فقالوا له معرضين بحالهم: لا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث، وإنا جئنا لتعذيبهم، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب، إلا امرأتك، فإنها من الهالكين لتواطئها معهم على الفساد، فكانت تدلهم على ضيوفه، وكانت تدافع عنهم، وترضى بأفعالهم. ثم وصفوا العذاب بقولهم: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي إننا سننزل على أهل قرية «سدوم» عذابا شديدا عظيما من السماء، تضطرب له نفوسهم، بسبب فسقهم. وكان العذاب هو الزلزلة التي خسفت بهم الأرض، وصار مكان قريتهم بحيرة لوط (البحر الميت) فاقتلع جبريل عليه السلام قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم، وأرسل الله الحمم وحجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد، ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ولقد تركنا من القرية

فقه الحياة أو الأحكام:

بعض آثار منازلهم الخربة أو أخبارهم علامة ظاهرة واضحة، وعبرة أو عظة لقوم يتدبرون ويستبصرون بعقولهم الأمور، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات 37/ 137- 138] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآية ما يأتي: 1- أنكر نبي الله لوط على قومه الذين أرسل إليهم في «سدوم» إنكارا شديدا مع التوبيخ والتحذير فعل ثلاثة أمور: ارتكاب الفاحشة (اللواط) وقطع الطريق لأخذ الأموال والفاحشة والاستغناء عن النساء، وفعل المخازي في مجالسهم الخاصة. 2- لقد قابل القوم هذا الإنكار بالاستهزاء والعناد والتكذيب واللجاج، فطلبوا إنزال العذاب الذي يهددهم به إن كان صادقا فيما يقول ظنا منهم أن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه، ثم هددوه في آية أخرى بالطرد والإخراج من قريتهم. 3- تدل الآية على وجوب الحد في اللواطة لأنها فاحشة كالزنى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء 17/ 32] واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه، فما شرع زاجرا في الزنى، يشرع زاجرا في اللواطة. وهذا وإن كان قياسا إلا أن علة القياس مستفادة من الآية، فتكون منصوصا عليها، والقياس المنصوص العلة متفق على العمل به. 4- ما طلب نبي هلاك قوم إلا إذا يئس من هدايتهم، وعلم أن عدمهم خير من وجودهم، لذا دعا لوط عليه السلام ربه أن ينصره على القوم المفسدين، فأجاب الله دعاءه. 5- إذا نزل العذاب بقوم نجى الله الصالحين المؤمنين منهم كما نجى لوطا وأهله

قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام مع أقوامهم [سورة العنكبوت (29) الآيات 36 إلى 40] :

الذين اتبعوه، وأهلك الظالمين المفسدين مرتكبي الفاحشة كما فعل بقوم لوط وامرأته التي كانت راضية بأفعالهم، وتدلهم على ضيوف لوط، فكان حكمها حكمهم لأن الدال على الشر كفاعله، كما أن الدال على الخير كفاعله. 6- ترك الله تعالى بعض آثار منازلهم الخربة للعبرة والعظة لمن يتأمل من العقلاء بمصير الظالمين ومآل الكافرين في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكى في الآخرة. 7- اشتملت مهمة الملائكة الرسل في ضيافة إبراهيم أمرين: الأول- البشارة التي هي أثر الرحمة، والإنذار بالإهلاك الذي هو أثر الغضب، ورحمته تعالى سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار. الثاني- لم يعلل الملائكة البشرى بشيء، فلم يقولوا مثلا: لأنك رسول مخلص أو لأنك مؤمن، أو لأنك عادل، وعللوا الإهلاك بقولهم: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لأن صاحب الفضل المطلق لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم. قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام مع أقوامهم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

الإعراب:

الإعراب: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً مَدْيَنَ: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وشُعَيْباً: منصوب بفعل مقدر، تقديره: أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لعاملها. وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض الَّذِينَ في آية وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أو منصوب بفعل مقدر، تقديره: وأهلكنا عادا وثمودا، بدلالة: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنه في معنى الإهلاك، وكلمة ثمودا هنا مصروف لأنه اسم للحي، وورد في مكان آخر ممنوعا من الصرف لأنه بمعنى القبيلة. وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ كلها أسماء منصوبة بالعطف على عاداً في جميع الأوجه التي ذكرت، ولا ينصرف للعجمة والتعريف (العلمية) . البلاغة: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. تقديم المفعول للاهتمام به، وفي الآية إجمال ثم تفصيل. المفردات اللغوية: وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، وأصلها: أبو القبيلة. وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، فأقيم المسبب مقام السبب. وقيل: إنه من الرجاء بمعنى

المناسبة:

الخوف، أي واخشوا يوم القيامة. وَلا تَعْثَوْا لا تفسدوا من عثي: أفسد، ومفسدين حال مؤكدة لعاملها. الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، وقيل: صيحة جبريل لأن القلوب ترجف بها. جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين، أي ماتوا. وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي تبين لكم بعض مساكنهم، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم بالحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، فكانت قبيلة عاد تسكن الأحقاف قرب اليمن، وثمود تسكن الحجر قرب وادي القرى. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ السوي، سبيل الحق الذي بيّن الرسل لهم. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ذوي بصائر، متمكنين من النظر والاستبصار، ولكنهم لم يفعلوا. وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ أي وأهلكنا، وتقديم قارون لشرف نسبه بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحات. سابِقِينَ فائتين عذابنا غير مدركين، بل أدركهم أمر الله، مأخوذ من سبق طالبه: إذا فاته. فَكُلًّا من المذكورين. أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي عاقبنا بذنبه. حاصِباً ريحا عاصفا فيها حصباء، كقوم لوط، يقال: حصبه يحصبه: إذا رماه بالحصباء: وهي الحجارة الصغيرة. الصَّيْحَةُ الصرخة الشديدة، كمدين وثمود. مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وقومه. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعذبهم بغير ذنب. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب الذنب والتعرض للعذاب. المناسبة: بعد أن قص الله تعالى قصص نوح وإبراهيم ولوط، أردفه بقصص شعيب وهود وصالح وموسى بإيجاز، لفائدة العظة والاعتبار بأحوال هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم. ويلاحظ أن هذه القصص هنا ذكر فيها القوم جريا على الأصل أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم، ولأن قوم شعيب وهود وصالح كان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، مثلما ذكر قارون وفرعون وهامان لاشتهارهم بالطغيان. أما قوم نوح وإبراهيم ولوط فلم يكن لهم اسم

التفسير والبيان:

خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي فقيل: قوم نوح وقوم لوط. التفسير والبيان: قصة شعيب: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي وأرسلنا إلى مدين نبي الله شعيبا الذي كان من أهل مدين، فأمرهم بعبادة الله وحده، وإخلاص العبادة له، وفعل ما يرجون به ثواب اليوم الآخر، والخوف من بأس الله ونقمته يوم القيامة، ونهاهم عن الإفساد في الأرض، والبغي على أهلها، بإنقاص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، وغير ذلك من المعاصي التي تجب التوبة منها، وأخطرها الكفر بالله ورسوله، كما قال: فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي فقابلوه بالتكذيب والعناد، والإصرار على الكفر والعصيان، فأهلكهم الله بزلزلة (رجفة) عظيمة، قوضت أركان ديارهم، وصيحة هزت جنبات نفوسهم، وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم، أدى إلى إماتتهم، فأصبحوا في ديارهم ميتين لا حراك بهم، ألقي بعضهم على بعض. وقد تقدم بيان قصتهم في سور: الأعراف، وهود، والشعراء. قصة هود وصالح: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي وأهلكنا عادا قوم هود عليه السلام

قصة موسى:

الذين كانوا يسكنون الأحقاف، وهي قرية من حضرموت في بلاد اليمن، وأهلكنا ثمود قوم صالح عليه السلام الذين كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى، بين الحجاز والشام، ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، وكانت العرب تعرف مساكنهم جيدا، وتمر عليهم كثيرا. فأنتم يا أهل مكة ويا مشركي العرب قد تبين لكم إهلاكهم من آثار مساكنهم، واطلعتم على معالم عذابهم، فإن الشيطان قد زين لهم أعمالهم من عبادة غير الله، وكفرهم بربهم، واقترافهم المعاصي، وصدهم الناس عن الدين الحق والسبيل الأقوم، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستبصار، فلا عذر لهم في ترك الإيمان بربهم، إلا أنهم لم ينتفعوا بطاقات فكرهم ونظرهم في عواقب الأمور. أفلا يكون جديرا بكم أن تتعظوا بهؤلاء، فالعاقل من اتعظ بغيره؟! قصة موسى: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ، وَما كانُوا سابِقِينَ أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الوفيرة والكنوز العظيمة، وفرعون ملك مصر في زمن موسى، ووزيره هامان. وكان موسى قد جاءهم من عند ربه بالحجج الواضحات الدالة على صدق رسالته، فاستكبروا في الأرض وأبوا تصديقه والإيمان به، وكذبوه وكفروا بالله تعالى وبرسوله، وكانوا خاطئين آثمين عالين مفسدين، ولكنهم لم يكونوا فائتين الله، ولا هاربين من عذابه، بل أدركهم أمر الله وبطشه فإنه القادر القاهر العزيز الغالب.

أنواع عقوبات الأقوام المكذبين:

أنواع عقوبات الأقوام المكذبين: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فلقي كل قوم ما يناسبه من العقاب، وأهلكهم الله سبب تكذيبهم الرسل، وكانت عقوباتهم أربعة أنواع: 1- الريح العاصفة: أرسل الله على بعضهم كقوم عاد حاصبا، أي ريحا صرصرا باردة عاتية شديدة الهبوب جدا، تحمل الحصباء (الحجارة الصغيرة) فتلقى عليهم، وتقتلعهم من الأرض، وترفعهم إلى عنان السماء، ثم تصرعهم على الأرض، فيصبحون جثثا هامدة، وذلك لكفرهم وقولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] ؟! 2- الصيحة: وأرسل الله على قوم ثمود الصيحة (أو الرجفة) حين أصروا على كفرهم فلم يؤمنوا، واستمروا على طغيانهم، وهددوا نبي الله صالحا عليه السلام ومن آمن معه وتوعدهم بالإخراج والرجم، فجاءتهم صيحة أخمدت أصواتهم وحركاتهم، ومثلهم أهل مدين. 3- الخسف: عاقب الله قارون الذي طغى وبغى، وعتا وعصا الرب الأعلى، وتكبر وتجبر واختال في مشيته، فخسف به وبداره الأرض، ليكون عبرة لكل عات جبار. 4- الإغراق: أغرق الله قوم نوح بالطوفان لكفرهم وعبادتهم الأصنام، كما أغرق فرعون وهامان وجنودهما في صبيحة يوم واحد، فلم ينج منهم أحد. وكل عقوبة مما ذكر كانت جزاء وفاقا على ظلمهم وآثامهم، وليس ظلما لهم، كما قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي وما كان ينبغي لله أن يظلمهم أبدا فيما فعل بهم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم وبظلمهم أنفسهم وكفرهم بالله ربهم. فقه الحياة أو الأحكام: هناك سبب مشترك في عقاب الأمم المتقدمة وإهلاكهم وهو الكفر بالله كفر تحد وعناد، مع الإفساد، في الأرض بالمعاصي الكبائر. فقوم مدين: رفضوا دعوة نبيهم شعيب عليه السلام الذي قال لهم: الله تعالى واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد بالكفر والظلم والمعصية محرم فلا تقربوه، فكذبوه فيما دعاهم إليه وأخبرهم به. فعاقبهم الله كما ذكر هنا وفي الأعراف بالرجفة، وفي هود بالصيحة، والأمر واحد، فإن الصيحة كانت سببا للرجفة، أي زلزلة الأرض، إما بسبب صيحة جبريل، وإما بسبب رجفة الأفئدة التي ارتجفت منها، ولما كانت الصيحة عظيمة أحدثت الزلزلة في الأرض، فأصبحوا جاثمين ميتين في ديارهم. وقبيلتا عاد وثمود: أهلكهما الله تعالى بظلمهم، أما عاد قوم هود عليه السلام فقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 41/ 15] ؟ فأنكروا وجود الإله الخالق القادر، وعتوا وبغوا وتعالوا على الناس، فدمر الله ديارهم بمن فيها بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 6- 7] . وأما ثمود قوم صالح فكذبوا رسولهم وأعلنوا كفرهم وهددوا نبيهم بالطرد والإخراج من بلدهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله إليهم معجزة لنبيهم صالح، وكان عقابهم كعقاب أهل مدين بالصيحة أو الزلزلة أو الطاغية، وبقيت آثار ثمود وعاد بالحجر والأحقاف شاهدة على ظلمهم، وآية بينة مؤثرة للمعتبرين المتعظين.

تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت [سورة العنكبوت (29) الآيات 41 إلى 43] :

ورؤوس الطغيان والبغي في مصر: قارون وفرعون وهامان، استكبروا في الأرض، وظنوا أن الله غير قادر عليهم، فخسف الله بقارون وبداره الأرض، وأغرق فرعون وهامان وجنودهما في البحر. ولم يكن العقاب بالهلاك ظلما، فكل فئة أخذت بجريرة ذنبها العظيم، وما كان الله ليظلمهم لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر، وإنما ظلموا أنفسهم. تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 43] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) الإعراب: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ الكاف: في موضع رفع لأنها خبر المبتدأ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ.. ما: إما بمعنى «الذي» في موضع نصب ب يَعْلَمُ وتقديره: إن الله يعلم الذين يدعون من دونه من شيء، فحذف العائد تخفيفا. وإما أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَدْعُونَ وتقديره: أي شيء تدعون من دونه، وهو قول الخليل وسيبويه. البلاغة: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً تشبيه تمثيلي، شبه

المفردات اللغوية:

الكفار في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيف النسج قابلا للاختراق والزوال بنفخة هواء. والتشبيه التمثلي: هو ما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد. المفردات اللغوية: مَثَلُ المثل: الصفة التي تشبه المثل في الغرابة. أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها. الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة. اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها تأوي إليه مما نسجته من شبكة واهنة ضعيفة. أَوْهَنَ أضعف البيوت، لا يدفع عنها حرا ولا بردا، كذلك الأصنام لا تنفع عابديها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذلك ما عبدوها. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ على إضمار القول، أي قل للكفرة: إن الله يعلم الذي يعبدون، والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل. مِنْ دُونِهِ غيره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب القوي في ملكه، الحكيم في صنعه، وهو تعليل لما سبق، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه، فالجماد بالنسبة إلى القادر القاهر على كل شيء، البالغ النهاية في العلم وإتقان الفعل كالمعدوم. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا المثل ونظائره. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نجعلها مثلا تقريبا لأفهامهم. وَما يَعْقِلُها يفهمها. إِلَّا الْعالِمُونَ المتدبرون الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم: من عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» . المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك من أشرك بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، دون أن ينفعه معبوده في الدارين، شبّه حال هذا المشرك الذي اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت التي اتخذت بيتا لا يحميها من الأذى، ولا يمنع عنها الحر أو البرد. ثم أكد ذلك فأوضح أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يعبد وتترك عبادة الله القادر القاهر الحكيم المتقن؟ ثم لفت النظر إلى فائدة ضرب الأمثال وهي التقريب للأفهام وإدراك العقلاء لمغزاها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً أي صفة المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله، طمعا في نصرهم ورزقهم ونفعهم، والتمسك بهم في الشدائد، كصفة العنكبوت في ضعفها اتخذت لنفسها بيتا يقيها الأذى والحر والبرد، فلم يفدها شيئا، وإذا هبت ريح يصير هباء منثورا. فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم أصنامهم، ولا تدفع عنهم سوءا، ولا تجديهم شيئا، وتصبح أعمالهم للأوثان مبددة ذاهبة الأثر، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف هذا البيت، فقال: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي وإن أضعف البيوت بيت العنكبوت لأنه يخرب بأدنى شيء، ولا يبقى منه أثر، فكذلك عملهم لا أثر له، فلو كانوا يعلمون علما صحيحا أن أصنامهم وعبادتهم لها لا تنفعهم شيئا، ما فعلوا ذلك، إلا أنهم في الواقع في غاية الجهل، لا يعلمون شيئا من عواقب الأمور، فتراهم يظنون بذلك النفع. ثم أكد الله تعالى كون تلك المعبودات ليست بشيء، فقال متوعدا عابديها: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الله يعلم أن الذي يعبدونه من غيره من الأصنام والجن والإنس ليس بشيء، وهو القوي الغالب القادر على الانتقام ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره، الحكيم في صنعه وتدبيره خلقه، يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أبان تعالى فائدة ضرب الأمثال، فقال: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أي هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم، يضربها للناس تقريبا لأفهامهم، وتوضيحا لما التبس عليهم، وما يفهمها ويدركها ويتدبر حقيقتها إلا العلماء الأثبات، المتضلعون في العلم، المتأملون في القضايا والمسائل. روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: «العالم من عقل عن الله تعالى، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» . فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- إن عبادة الأصنام والأوثان فارغة المحتوى، لا مضمون فيها، ولا هدف لها، وما مثلها في عدم النفع إلا كمثل بيت العنكبوت. قال الفراء: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا. 2- شبّه الله تعالى حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت التي تتخذ أضعف البيوت، ولو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا، وأن هذا مثلهم أو صفتهم، لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. أما قتل العنكبوت فروي عن سيدنا علي جوازه قائلا: إن تركه في البيوت يورث الفقر. وهذا صحيح لأن العناكب من الحشرات السامة. 3- إن الله يعلم ضعف كل ما يعبدون من دونه من ملائكة وكواكب وأصنام وجن وإنس، فرثى لحالهم، وعجب من صنعهم، فنبههم على سطحية تفكيرهم، وسوء اعتقادهم، وأن جميع تلك المعبودات مثل بيت العنكبوت لأن كل ما عدا

فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة [سورة العنكبوت (29) الآيات 44 إلى 45] :

الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، فلا معبود بحق إلا الله، ولا إله سواه. 4- إن ضرب الأمثال أي بيانها وعقد المقارنة بين المتشابهات أمر مفيد للناس، لمعرفة حقائق الأمور، ولكن لا يفهم تلك الأمثال إلا العالمون بالله تعالى. قال أبو حيان: وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة، فتبرزها وتصورها للفهم، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد «1» . 5- حقا إن المشرك في غاية الجهل في الاعتقاد، لذا كانت هذه الآيات تجهيلا للمشركين، حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد، لا علم لديه، ولا قدرة أصلا عنده، وتركوا عبادة القادر القاهر، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة. أما المسلم المؤمن قلبه بالله فهو واع لما يفعل، مقدر ما يعبد، يبغي الخير في عبادته، ويحسن العمل في اتباع الشرع لأن فيه نجاته وإنقاذه، ويصل إلى مبتغاه فعلا بجلب النفع والخير، ودفع الضرر والشر. فائدة خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة [سورة العنكبوت (29) : الآيات 44 الى 45] خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

_ (1) البحر المحيط 7/ 153.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ محقا غير قاصد به باطلا، وقصده بالذات من خلقهما إفاضة الخير، والدلالة على ذاته وصفاته، كما أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دلالة على قدرته تعالى. لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون بها في الإيمان، بخلاف الكافرين. اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ القرآن، تقربا إلى الله بقراءته، واستكشافا لمعانيه، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها لأنها تذكر بالله، وتورث النفس خشية، أي من شأنها ذلك. والمنكر: القبيح شرعا وعقلا. روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له، فقال: «إن صلاته تنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب. وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها بالذكر لاشتمالها على الذكر الذي هو العمدة في تفضيلها على سائر الحسنات ونهيها عن السيئات. ويصح أن يكون المعنى: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ منه ومن سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى الناس بالإيمان، وأبان ضعف دليل الكفار على عبادة معبوداتهم، لفت النظر إلى من تجب له العبادة وهو الذي لا يعجزه شيء، وخالق السموات والأرض، والمرشد بكتابه إلى معالم الحق، والمبين طريق العبادة المرضية له وهو الصلاة. كما أن في الآيات تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن إعراض الكفار واليأس منهم، بالتأمل في خلق السموات والأرض وتلاوة القرآن الدال على أن الرسل السابقين كنوح وإبراهيم ولوط بلغوا الرسالة، وأقاموا الأدلة على الإيمان بالله تعالى، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة. التفسير والبيان: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الله تعالى أوجد وأبدع السموات والأرض للدلالة على قدرته العظيمة، وإفاضة الخير، ولحكم وفوائد دينية ودنيوية، فقد خلقهما محقا غير قاصد الباطل، ولم

يخلقهما عبثا ولهوا ولعبا، وفي ذلك دلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والألوهية، كما جاء في رواية عن الله عز وجل: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» إلا أنه لم يصح حديثا، ومعناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] . ولا ينتفع بتلك الدلالات ولا يفهم هذه الأسرار إلا المؤمنون المصدقون بالله ورسوله لأنهم يستدلون بآثار الخلق على وجود المؤثر فيها. ثم أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس للاستزادة من المعرفة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وحكمته فقال: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي اقرأ يا محمد ومثلك كل مسلم، وأدم تلاوة هذا القرآن وتبليغه للناس، فإنه إمام ونور، وهدى ورحمة، ودليل خير ونجاة، وعلاج ما استعصى من الأزمات والمحن، وتخطي مراحل اليأس والقنوط. كذلك أمر تعالى بالصلاة قرة عين المؤمن فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي وأدّ أيها النبي وكل مؤمن فريضة الصلاة ونافلتها تامة الأركان والشروط، مع الخشوع والخضوع لله، واستحضار خشية الله في جميع مراحلها، فهي تشتمل بمواظبتها على شيئين: ترك الفواحش والمنكرات، وهي عماد الدين، وصلة بين العبد وربه، ودليل الإيمان واليقين، وفرجة المكروب والمحزون، وسبب لتطهير العبد من آثار الذنوب والمعاصي. جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني وغيره من رواية عمران وابن عباس مرفوعا: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا» وروى أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «حبّب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وكل ذلك مشروط بأدائها بخشوع وخضوع وإخلاص كما ذكر، حتى تكون ذات مدلول وروح، وذات إشعاع تملأ النفس استحضارا لعظمة الله والخوف منه، وإلا كانت مجرد حركات وأفعال مادية فاقدة الأثر المقصود منها. ثم أكد تعالى رفعة شأن الصلاة فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أي إن الصلاة أكبر من سائر الطاعات، وذكر الله وتفقده الناس العابدين برحمته أكبر من ذكرهم إياه بطاعته، والله عليم بما تصنعون من خير أو شر، وعليم بذات الصدور، يعلم جميع أقوالكم وأفعالكم ونياتكم: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] وفي ذلك وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله في كل الأحوال، فمن يعلم أن الله يسمعه ويراه، لزم الحياء، وخشي العذاب، وأحسن العبادة. ومن أتى بالذكر النافع وهو الحاصل عن علم وتأمل ووعي قلب وتفرغ نفس مما سوى الله، نال المراد، وحقق المبتغى، وأما ما كان مجرد لقلقة باللسان، دون استحضار لعظمة الله وخشوع معه، فلا خير فيه ولا نفع. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- خلق الله السموات والأرض على وجه الإحكام والإتقان والعدل والقسط، ولأهداف وغايات دينية ودنيوية، منها أن الإنسان يستدل بهما على وجود الخالق القادر الكامل الشامل العلم، الذي لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات فيهما، ولا يعجزه شيء فيهما. 2- إن المستفيد من خلق السموات والأرض هو الإنسان، ولا ينتفع في دلالتهما على الاعتقاد بوجود الخالق الواحد إلا المصدقون بالله ورسوله. 3- على المسلم مواظبة التلاوة لآي القرآن، وتبليغ أحكامها المستفادة منها، فإن القرآن كتاب هداية، ودستور حياة فاضلة.

4- على المؤمن أيضا استدامة إقامة الصلاة: وهو أداؤها في وقتها بقراءتها، وركوعها وسجودها، وقعودها، وتشهدها، وجميع شروطها. 5- إن الصلوات الخمس لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة تنهى عن الفواحش والمنكرات، وتكفّر ما بينها من الذنوب إذا أديت بحقها وكانت مع استحضار عظمة الله وبأسه، أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» . وروى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم؟» . ويؤكده الحديث المتقدم الذي رواه الطبراني وغيره: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا، ولم يزدد بها من الله إلا مقتا» . قال أبو العالية في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ: إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله: القرآن يأمره وينهاه. 6- دل قوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على أن الصلاة أكبر من سائر الطاعات وأفضل من كل العبادات، وأن ذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم ورحمته إياهم أكبر من ذكرهم له في عبادتهم وصلواتهم، وكذلك أن تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ينبغي أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم.

روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ: «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» . وفي حديث آخر: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم» «1» . 7- الذكر النافع: هو الذي يكون مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه، إلا من الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان فله رتبة أخرى. وذكر الله تعالى للعبد: هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة 2/ 152] . 8- إن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ نوع من الوعد والوعيد، وحث على مراقبة الله تعالى في السرّ والعلن. آمنت بالله تعالى انتهى الجزء العشرون

_ (1) روى الطبراني عن معاذ بن انس حديثا بلفظ: «لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الملأ الأعلى» .

طريقة إرشاد أهل الكتاب [سورة العنكبوت (29) الآيات 46 إلى 49] :

[الجزء الحادي والعشرون] [تتمة سورة العنكبوت] طريقة إرشاد أهل الكتاب [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) المفردات اللغوية: وَلا تُجادِلُوا المجادلة والجدل: الحجاج والمناظرة والمناقشة أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر وبالتوراة والإنجيل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم وضبط النفس، والمشاغبة بالنصح، والتنبيه إلى آيات الله وحججه إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي لكن الظالمون منهم بالإفراط في الاعتداء والعناد والمحاربة، فجادلوهم وعاملوهم بالمثل وَقُولُوا لمن سالمكم وأذعن للحق أو قبل المعاهدة السلمية معكم إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي صدّقنا بما أنزله الله إلينا وهو القرآن، وما أنزله إليكم في أصوله الصحيحة من التوراة والإنجيل، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم في ذلك، فهذا من المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يأتي تخريجه: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وملائكته وبكتبه ورسله، فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم، وإن قالوا حقا لم تكذبوهم» .

المناسبة:

وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ خاضعون مطيعون له خاصة، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن، كما أنزلنا إليهم التوراة وغيرها، وكان القرآن وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة كعبد الله بن سلام وأمثاله يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن وَمِنْ هؤُلاءِ أهل مكة أو العرب أو الكتابيين الموجودين في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها وقيام الحجة عليها، والجحد: إنكار الشيء بعد معرفته والعلم به إِلَّا الْكافِرُونَ المتوغلون في الكفر، وهم المشركون وغير المسلمين الذين لا يؤمنون بالإسلام والقرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد أن ظهر لهم أن القرآن حق، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم حق، ثم جحدوا ذلك. وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي إنك أمي لم تكن تعرف القراءة والكتابة قبل نزول القرآن، فإن هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الذي نزل على أمي لم يعرف القراءة والتعلم أمر خارق للعادة إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت قارئا كاتبا لشك أهل الباطل كاليهود فيك. وإنما سماهم مبطلين لكفرهم وكونهم غير محقين فيما ذهبوا إليه من التنكر لرسالة الإسلام. بَلْ هُوَ أي القرآن الذي جئت به آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي هو آيات واضحات الدلالة على الحق في قلوب أهل العلم وهم المؤمنون فيحفظونه من كل تحريف وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي وما ينكر آيات الله إلا الظالمي أنفسهم الذين جحدوا وجه الحق، بعد وضوح دلائل إعجاز تلك الآيات. المناسبة: بعد بيان الله تعالى طريقة إرشاد المشركين عبدة الأصنام أو غيرها، أبان الله تعالى طريقة إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى المنكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والقائلين ببقاء شريعتهم وأنها لم تنسخ بشريعة أخرى، مبتدئا بأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به أن يعلنوا إيمانهم بالقرآن وبما تقدمه من التوراة والإنجيل، وبإطاعة الإله الواحد، ثم مبينا إيمان بعض أهل الكتاب وبعض المشركين من أهل مكة بالقرآن، ثم موضحا دليل الإيمان بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو كونه أميا لم يقرأ ولم يكتب، وكون القرآن مشتملا على علوم نافعة فريدة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي ولا تحاججوا، ولا تناقشوا اليهود والنصارى إلا بالطريقة الحسنة وبالأسلوب الهادئ اللطيف، إلا الذين ظلموا أنفسهم، وحادوا عن سبيل الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم ينفع معهم أسلوب المنطق والإقناع العقلي، فهؤلاء يعاملون بالمثل، ويرد على عدوانهم ومكابرتهم بطريقتهم نفسها، فيقاتلون ويردعون بالحرب، وهؤلاء- كما قال مجاهد وسعيد بن جبير- هم الذين نصبوا للمؤمنين الحرب، فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وهذا هو العلاج الحاسم كما قال الشاعر: ووضع الندى في موضع السيف للعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى أما القسم الأول من الآية، فقال قتادة وآخرون: هذه الآية منسوخة بآية السيف ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. واحتجوا بأن الآية مكية. والحق كما قال مجاهد وآخرون أن هذه الآية باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم- من أهل الكتاب- في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ويدعى إلى الله عز وجل وحده لا شريك له، وينبه على حججه وآياته، رجاء إجابته إلى الإيمان، بغير إغلاظ ولا مخاشنة، كما قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. [النحل 16/ 125] وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] . واختار هذا القول ابن جرير الطبري. وأما القسم الثاني من الآية فلا خوف في محاربته لعدوانه، فيقاتل بما يمنعه ويردعه، قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 57/ 25] .

أسلوب الجدال:

أسلوب الجدال: 1- وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي إذا دعوتم أيها الرسول وأتباعه أهل الكتاب إلى الإيمان برسالة الإسلام، وأخبروكم عما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فلا تصدقوهم لأنه قد يكون كذبا أو باطلا، ولا تكذبوهم لأنه قد يكون حقا أو صحيحا، وإنما قولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا وإليكم وإلى البشر كافة، وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم أي نؤمن بالمنزّل فعلا على موسى وعيسى عليهما السلام، غير المبدّل ولا المؤول، ومعبودنا ومعبودكم الحق واحد لا شريك له، ونحن له خاضعون مطيعون أمره ونهيه. أخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» . وأخرج الإمام أحمد أن أبا نملة الأنصاري «1» أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم» . وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم يهدوكم وقد ضلّوا، إما أن تكذّبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل» .

_ (1) أبو نملة: هو عمارة، أو عمار، أو عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه.

وأخرج البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك، لنبلو عليه الكذب» . 2- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب (القرآن) فالذين آتيناهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى، إذا أخذوا هذا القرآن، فتلوه حق تلاوته، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما آمنوا وصدقوا بنزوله من عند الله، وكذلك بعض كفار قريش وغيرهم يؤمنون به لأنه- كما عرفوا من لغة البيان- ليس من كلام البشر، وإنما هو من كلام الله الموحى به إلى نبيه. وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويطمس معالم الهداية والنور، ويعاند في كفره ويستكبر، فلا يؤمن بالله وحده، ولا يشكر نعمة الله عليه. وهذا تنفير عما هم عليه من الشرك والباطل. 3- وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي وما كنت أيها الرسول في تاريخك مع قومك تقرأ من قبل نزول القرآن من كتاب آخر، ولا تعرف الكتابة ولا تستطيع أن تخط شيئا من الكتاب إذ لو كنت قارئا وكاتبا لشك المشركون الجهلة فيما نزل إليك، وقالوا: لعل ذلك مأخوذ من كتب سابقة، ولما لم يكن كاتبا ولا قارئا فلا وجه لارتيابهم. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يخطّ ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية. وقال النحاس: الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لقريش أنه لا يقرأ

ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل الكتاب، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك. وقوله: مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ لتأكيد النفي، وكذلك قوله: وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ تأكيد أيضا، وذكر اليمين خرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام 6/ 38] . والخلاصة: أن صفة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة وتاريخه المعروف بين قومه: أنه رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف 7/ 157] . فلا وجه أصلا للشك في أن هذا القرآن نزل من عند الله، لا بإيحاء بشر ولا ملك ولا جانّ، وبالرغم من نصاعة هذه الحقيقة، ومع علم قريش بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يحسن الكتابة، اتهموه بأخذه عن الكتب المتقدمة، كما حكى تعالى عنهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] . وتأكيدا لما سبق أن القرآن منزل من عند الله، قال تعالى: بَلْ، هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي بل إن هذا القرآن آيات واضحة الدلالة على الحق، وذلك أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم، ولكن ما ينكر وما يكذب بآيات الله النيّرة ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون، أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والخلاصة: أن هذا القرآن العظيم ليس من مخترعات البشر، بل هو آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرا ونهيا وخبرا، يفهمه العلماء ويحفظونه، وقد يسر الله عليهم حفظه وتلاوته وتفسيره، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 17] . وروى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- فضيلة الجدال والنقاش بالأسلوب الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، فذلك أدعى عند العقلاء إلى توفير القناعة، والوصول إلى الإيمان، وتحقيق الهدف المقصود. 2- إن المعاملة بالمثل واللجوء إلى القتال والعنف واستخدام القوة هو السبيل المتعين في الرد على أهل العصبية والعناد والإصرار على الكفر. 3- إن هذه الآية الآمرة بالجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى الله عز وجل بالحجة والمنطق والبرهان آية محكمة، كما قرر أثبات العلماء والمفسرين مثل مجاهد التابعي وغيره، قال القرطبي: وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها: إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر، أو حجة من معقول «1» . وهذا اختيار ابن جرير الطبري وابن العربي. قال ابن العربي: الآية ليست منسوخة، وإنما هي مخصوصة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث باللسان يقاتل به في الله، ثم أمره الله بالسيف واللسان، فمن قاتل قتل، ومن سالم بقي الجدال في حقه،

_ (1) تفسير القرطبي: 13/ 350

ولكن بما يحسن من الأدلة، ويجمل من الكلام، ولين الخطاب «1» . 4- بعض أهل الكتاب معتدلون في آرائهم ومعتقداتهم، بعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث، وهؤلاء ينفع معهم الجدال والنقاش، فهم يؤمنون بالله وبكتابهم وباليوم الآخر، ولم يبق إلا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كالإيمان بموسى وعيسى عليهما السلام. وبعض أهل الكتاب متعصبون حاقدون خلطوا بين التوحيد والتثليث، وحرفوا في الكتاب وغيروا، ونسبوا لله ولدا أو شريكا، ثم صيروه هو الإله، وهؤلاء يصعب معهم الجدال وقد لا ينفع معهم النقاش، ومع ذلك ندعوهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، لأنه لا إكراه في الدين، والإسلام يقر بحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، بعد التبليغ والإنذار، والترغيب والترهيب. أما المشركون عبدة الأوثان ففي جزيرة العرب لا مجال لإقرارهم على وثنيتهم، وأما في غير جزيرة العرب، فكذلك ندعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة. 5- النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول القرآن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب بشهادة الكتب السماوية المتقدمة، وبمعرفة قومه الذين عايشوه في مكة مدة أربعين عاما. وأمّية النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل قاطع واضح على أن القرآن كلام الله العزيز الحكيم. ثم ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى كتب، وقرأ. وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي في صلح

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1475 بتصرف.

الحديبية كتب بيده: محمد بن عبد الله، ومحا كلمة رسول الله، حينما أصر المشركون على عدم كتابتها. قال القرطبي: الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى. وقال: «إنا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب» رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر. 6- آيات القرآن آيات بيّنات واضحات، وليس هذا القرآن كما يقول المبطلون: إنه سحر أو شعر، ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه. وتلك الآيات يحفظها علماء الأمة ويقرءونها، وقد وصف الله المؤمنين بالعلم، لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين، قال كعب الأحبار في صفة هذه الأمة: إنهم حكماء علماء، وهم في الفقه أنبياء. 7- لا ينكر كون القرآن منزلا حقا من عند الله إلا القوم المبطلون الجاهلون وهم المشركون، وإلا الكفار الظالمون الذين جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به. 8- ليس القرآن من مخترعات أحد من الملائكة أو الإنس أو الجن، إذ لا يستطيع الكل على الإتيان بمثله أو بمثل عشر آيات أو بمثل سورة من أقصر سوره. وهذا الإعجاز المتحدي به دليل قاطع على كونه كلام الله الموحى به إلى قلب نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.

بعض مطالب المشركين التعجيزية الإتيان بمعجزات حسية واستعجال بالعذاب [سورة العنكبوت (29) الآيات 50 إلى 55] :

بعض مطالب المشركين التعجيزية الإتيان بمعجزات حسية واستعجال بالعذاب [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 55] وَقالُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) البلاغة: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ تحضيض. آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ طباق. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لإفادة القصر عليهم لا غيرهم. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ إطناب بذكر العذاب مرات بقصد الإرهاب والتشنيع على المشركين. لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي بهم، بوضع الظاهر موضع المضمر.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي قال كفار مكة: هلا أنزل على محمد آياتٌ مِنْ رَبِّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى. قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ قل يا محمد لهم: إنما الآيات ينزلها الله كيف يشاء، ولست أملكها، فآتيكم بما تقترحونه. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني إلا إنذار أهل المعصية بالنار بما أعطيت من الآيات. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ آية لما طلبوا أو اقترحوا. الْكِتابَ القرآن. يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم، فهو آية ثابتة مستمرة لا انقضاء لها، يتحداهم، بخلاف سائر الآيات. إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة. وَذِكْرى عظة وتذكرة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن همهم الإيمان دون التعنت. قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يشهد بصدقي. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ويعلم حالي وحالكم. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وهو ما يعبد من دون الله. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ بقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] . وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى معلوم محدد لكل عذاب أو قوم. لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فجأة، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عند نزول الموت بهم. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانه. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ في الدنيا. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. يَوْمَ يَغْشاهُمُ ظرف لكلمة (محيطة) ويَغْشاهُمُ يصيبهم. مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من جميع جوانبهم. وَيَقُولُ الله أو الملك الموكل بالعذاب. ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاءه، فلا تفوتونا. سبب النزول: نزول الآية (51) : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم» ، فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ.

المناسبة:

وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي يستغني به عن غيره. وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلّى الله عليه وسلّم بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم» . المناسبة: بعد بيان كون القرآن منزلا من عند الله، وليس من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر الله تعالى شبهة للمشركين وهي أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تقول: إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، أفلا تأتينا بآية أو معجزة مادية محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي ليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، والله إن أراد ينزلها، وإن لم يرد لا ينزلها، وكفى بالقرآن آية فهو معجزة ظاهرة باقية، والله شهيد عليم يحكم بين عباده. وبعد بيان الطريقين في إرشاد الفريقين: المشركين وأهل الكتاب، أعلن الله تعالى الإنذار الشامل العام بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ولما أنذروا بالخسران أوضح تعالى أن العذاب لا يأتيهم بسؤالهم أو استعجالهم، وإنما له أجل مسمى اقتضته حكمته وارتضته رحمته.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي وقال المشركون تعنتا وتعجيزا وعنادا: هلا أنزل على محمد آية حسية مادية، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء المتقدمين، كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى، تكون دليلا على صدقه، ومعجزة تثبت أنه رسول من عند الله!! فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قل يا محمد لهم: إنما أمر إنزال الآيات وإرسال المعجزات إلى الله تعالى، فلو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم، لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه سبحانه يعلم أنكم قصدتم بطلبكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى مطلبكم، كما قال: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها [الإسراء 17/ 59] . وإنما بعثت نذيرا لكم بيّن الإنذار من عذاب شديد إذا بقيتم على كفركم، لا الإتيان بما تقترحون، فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى، وليس علي هداكم، إنما الهدى على الله الذي قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الإسراء 17/ 97] وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] . ثم أبان الله تعالى كثرة جهلهم وسخافة عقولهم، حيث طلبوا آيات تدل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما جاءهم، مع إنزال القرآن عليه، فقال: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ أي أما يكفيهم دليلا على صدقك أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا

من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، وأبنت الصواب فيما اختلفوا فيه، كما قال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه 20/ 133] . أخرج الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي قل يا محمد لهم: كفى الله عالما وحكما عدلا بيني وبينكم، فهو أعلم بما صدر منكم من التكذيب، وبما أقول لكم وأبلغكم به من أوامر وإنذارات وبما أرسلني به إليكم، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، كما قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة 69/ 44- 47] وإنما أنا صادق فيما أخبرتكم به، ولهذا أيّدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السموات والأرض، ومن جملة علمه: أنه يعلم حالي وحالكم، من صدقي وتكذيبكم وإنكاركم. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي والذين صدقوا بما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام ونحوها، وجحدوا بوجود الله أو توحيده، مع توافر الأدلة على الإيمان به، أولئك هم الخاسرون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر بالإيمان، وسيجزيهم الله يوم القيامة على ما فعلوا، ويعاقبهم على ما صنعوا من تكذيب برسل الله، مع قيام الأدلة على صدقهم، وإنكار للحق، واتباع للباطل من الإيمان بالطواغيت والأوثان بلا دليل.

وقوله: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يقتضي الحصر، أي من أتى بالإيمان الباطل والكفر بالله، فهو خاسر، وكل من آمن بالباطل، فقد كفر بالله. ثم أخبر الله تعالى عن جهل المشركين وحماقتهم في استعجالهم إيقاع عذاب الله بهم، فقال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ويتعجل كفار قريش نزول العذاب بهم، كما حكى تعالى عنهم: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . ولولا كون العذاب محددا بوقت معلوم، ولولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة، لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه، وسوف يأتيهم بالتأكيد فجأة، وهم لا يحسون بمجيئه، بل يكونون في غفلة عنه. ثم أكد تعالى طلبهم نزول العذاب بقوله: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي يطلبون منك حدوث العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، وإن جهنم ستحيط بهم من كل جانب. ثم وصف تعالى كيفية إحاطة العذاب بقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يوم يعمهم العذاب من كل الجوانب، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من كفر ومعاصي، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] وقال سبحانه: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16]

فقه الحياة أو الأحكام:

وقال عز وجل: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء 21/ 39] وقال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر 54/ 48] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم معجزة مادية محسوسة، مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى، على سبيل العناد والمكابرة، لا على سبيل التوصل بحسن نية إلى الإيمان بالله عز وجل وتوحيده. 2- كان الرد القرآني المفحم عليهم أنه: ألا يكفيهم هذا الكتاب المعجز الذي قد تحداهم الله بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه، فعجزوا. ولو أتاهم بآيات موسى وعيسى لقالوا: سحر ونحن لا نعرف السحر، والكلام مقدور لهم، ومع ذلك عجزوا عن المعارضة. وليس من شرط الرسالة وجود المعجزة، فقد علمنا وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب، ولم تعلم لهم معجزة. 3- والقرآن رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، رحمة في الدنيا باستنقاذهم من الضلالة، وفي الآخرة بصرفهم عن النار، وهو أيضا ذكرى في الدنيا بإرشادهم به إلى الحق، ومعجزة باقية يتذكر بها كل إنسان على ممر الزمان. فيكون القرآن أتم من كل معجزة، لأنه باقي الأثر، والمعجزات المادية لم يبق لها أثر، ولأنه بلغ خبره المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، والمعجزات المادية محصورة في مكان واحد. 4- يقال للمكذبين: كفى بالله شهيدا يشهد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق في ادعائه أنه رسول، وأن هذا القرآن كتابه. وهذا إنذار وتهديد يفيد تقريرا وتأكيدا. 5- قوله تعالى: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يخفى عليه شيء:

احتجاج على المكذبين في صحة شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم، لأنهم أقروا بعلم الله الشامل، فلزمهم أن يقرّوا بشهادته. 6- إن المشركين أو الكفار الذين يؤمنون بالباطل وهو إبليس أو بعبادة الأوثان والأصنام، ويكفرون بالله لتكذيبهم برسله، وجحدهم لكتابه، وإشراكهم به الأوثان، وإضافة الأولاد والأضداد إليه، هم الخاسرون أنفسهم وأعمالهم في الآخرة. وهذا يشمل أهل الكتاب، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بأن القرآن منزل من عند الله تعالى، فدل ذلك على أن الآية إنذار عام شامل. 7- قال المشركون لفرط الإنكار والإمعان في الكفر: عجل لنا هذا العذاب الذي توعدنا به، كما قال النضر بن الحارث وأبو جهل فيما أخبر القرآن: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] وقالا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] . 8- اقتضت الحكمة الإلهية رحمة بالناس وإعطائهم فرصة كافية للإصلاح والتوبة تأخير العذاب إلى أجل محدد ووقت معين وهو يوم القيامة، فلكل عذاب أجل لا يتقدم ولا يتأخر، بدليل قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام 6/ 67] . وسيأتي العذاب الذي استعجلوه حتما فجأة، وهم لا يعلمون بنزوله. 9- إن كفار قريش وأمثالهم يستعجلون نزول العذاب، وقد أعد الله لهم جهنم، وأنها ستحيط بهم لا محالة، فما معنى الاستعجال؟ وإن ذلك العذاب يصيبهم يوم القيامة من جميع جوانبهم، فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم، ويقال لهم من قبل الملك بأمر الله: ذوقوا ما كنتم تعملون.

الأمر بالهجرة عند تعذر إقامة الشعائر الدينية [سورة العنكبوت (29) الآيات 56 إلى 60] :

الأمر بالهجرة عند تعذر إقامة الشعائر الدينية [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) الإعراب: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً..: غُرَفاً مفعول به ثان ل لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أما قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج 22/ 26] فاللام زائدة في لِإِبْراهِيمَ ومَكانَ الْبَيْتِ: مفعول ثان. خالِدِينَ فِيها حال من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ. وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ: كَأَيِّنْ: في موضع رفع مبتدأ، بمنزلة (كم) ومِنْ دَابَّةٍ: تبيين له. ولا تَحْمِلُ: في موضع جر لأنها صفة دَابَّةٍ. اللَّهُ يَرْزُقُها اللَّهُ مبتدأ، وجملة يَرْزُقُها خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع، لأنه خبر كَأَيِّنْ. البلاغة: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا الإضافة للتشريف والتكريم. المفردات اللغوية: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي إذا لم يتيسر لكم العبادة في بلدة أو إقامة شعائر الدين، فهاجروا إلى أي أرض أخرى تتيسر فيها العبادة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، ولو كان شبرا، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام» . والفاء في قوله:

سبب النزول نزول الآية (56) :

فَإِيَّايَ في جواب شرط محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فأخلصوها في غيرها. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تناله لا محالة. تُرْجَعُونَ للجزاء، ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد لذلك الجزاء. لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم، وقرئ: (لنثوينهم) أي لنقيمنهم، من الثواء، أي الإقامة، وتعدية هذا الفعل إلى كلمة غُرَفاً: بحذف مِنَ أي تكون منصوبة بنزع الخافض، أو لأنه أجري مجرى (لننزلنهم) . خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام. نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وقرئ: «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله، أي نعم هذا الأجر. الَّذِينَ صَبَرُوا أي هم الصابرون على أذى المشركين والهجرة لإظهار الدين وغير ذلك من المحن والمشاق. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولا يتوكلون إلا على الله، فيرزقهم من حيث لا يحتسبون، لأن الرازق هو الله الذي يهيئ الأسباب للرزق وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة. وَكَأَيِّنْ أي كم. لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تطيق حمله لضعفها. وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم. الْعَلِيمُ بضمائركم. سبب النزول: نزول الآية (56) : يا عِبادِيَ : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، أي في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة. نزول الآية (60) : وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ: عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أي ليس معها رزقها مدخرا، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.

المناسبة:

المناسبة: بعد إنذار المشركين وأهل الكتاب بالخسران وجعلهم من أهل النار، اشتد عنادهم وزاد فسادهم، وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله تعالى بالهجرة إلى بلاد أخرى، إن تعذرت عليهم العبادة في بلادهم، مما يدل على أن المقام في دار الحرب حرام، والخروج منها واجب. وأبان تعالى أن توقع المكروه لا يمنع من الهجرة، فالمكروه إن لم يحدث بالهجرة، وقع بالموت في أي مكان، كما أبان أنه سبحانه تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته حيثما كانوا. التفسير والبيان: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي أيها العباد المصدقون بي وبرسولي محمد صلّى الله عليه وسلّم، إن أرضي واسعة غير ضيقة، يمكنكم المقام فيها في أي موضع، فإذا تعذرت عليكم العبادة وإقامة شعائر الدين بسبب منع الكفار وأذاهم، فهاجروا إلى المكان الذي تتمكنون فيه من إقامة الشعائر الدينية. وبالرغم من أن كلمة عِبادِيَ لا تتناول إلا المؤمنين، فقد أتبعت بوصف الَّذِينَ آمَنُوا لا للتمييز، بل لمجرد بيان اشتمالهم على هذا الوصف. فهذا أمر للمؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم، وهو حثّ على إخلاص العبادة لله تعالى. والمقصود من الهجرة: إعداد المؤمن الكامل المخلص الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة قبل الفتح، ثم زال وجوبها. أخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم» .

ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم فيها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة، ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى، فآواهم وأيدهم بنصره، ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الباقون إلى المدينة المنورة. وبعد أن أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة والإخلاص فيها وصدق الاهتمام بها، أبان أن الدنيا ليست بدار بقاء، وأمر بالاستعداد إلى دار الجزاء، فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي إن الموت كائن لا محالة بكل نفس، وأينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بدّ منه ولا محيد عنه، سواء في الوطن أو خارجه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب. والخلاصة: أن المكروه لا بد من وقوعه، فلا يصح أن يصعب على المؤمنين ترك الأوطان ومفارقة الإخوان. ثم بيّن الله تعالى نوع جزاء المؤمن المهاجر بدينه، فرارا من الشرك والمعاصي فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال من التزام أوامر الله واجتناب نواهيه، لننزلنهم أو لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحت أشجارها الأنهار، على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن، ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا، جزاء لهم على أعمالهم، نعم الجزاء، ونعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين.

الصبر والتوكل:

وهذا الجزاء في مقابل جزاء الكافرين السابق ذكره: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ فكما أن للكافرين النيران، يكون للمؤمنين الجنان أجر عملهم. ومن صفات هؤلاء العاملين: الصبر والتوكل: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إن أولئك المؤمنين الذين صبروا على القيام بواجبات دينهم من صلاة وصيام وهجرة في سبيل الله، وجهاد الأعداء، ومفارقة الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله، وتحمل أذى المشركين، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، فقاموا بما يجب عليهم، ثم تركوا أمر تحقيق النتائج إلى ربهم، من نصر ونجاح ورزق وعزة وغير ذلك. وذكر صفتي الصبر والتوكل هنا مناسب للمقام، فإن الهجرة والجهاد وترك الأوطان ومفارقة الإخوان تتطلب الصبر على تحمل الأذى، والمواظبة على عبادة الله تعالى والتوكل عليه. ثم ذكر الله تعالى ما يعين على التوكل وهو معرفة أن الله هو الكافي في رزق مخلوقاته فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين وجدوا، فكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تستطيع جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد، الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره لها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ويكفيه، سواء كان في باطن الأرض، أو طيرا في الهواء، أو حوتا في الماء، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بضمائرهم وأسرارهم وما في قلوبهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد أنجز الله وعده، فكانت أرزاق المهاجرين في المدينة أكثر وأوسع وأطيب، وصاروا بعد زمن قصير حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار. ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مطلوبة واجبة حال وجود أذى الكفار وتعذر إقامة شعائر الدين، فعلى المسلم أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده، فإن كان في حال مضايقة من إظهار الإيمان في أرض، فهاجر إلى أرض أخرى، فإن أرض الله واسعة، لإظهار التوحيد بها. وهذا كان مناسبا للمؤمنين في صدر الإسلام حيث هاجروا من مكة مهد الشرك والوثنية إلى المدينة الطيبة المطهرة، ثم ارتفع الوجوب ولم تعد الهجرة واجبة بعد فتح مكة، وإنما بقيت الهجرة بمعنى هجر السوء وترك ما نهى الله عنه. والآية نزلت في الهجرة قبل الفتح، لا في الهجرة مطلقا في كل زمان ومن أي بلد، ولكن بعمومها تعد مستندا للقول بوجوب الهجرة على الدوام عند الإمكان إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه. 2- رغّب الله في الهجرة السابقة من مكة إلى المدينة بتحقير أمر الدنيا ومخاوفها وبيان أن البشر كلهم ميتون ومحشورون إلى الله، وما عليهم إلا المبادرة إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل. 3- وعد الله المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه وهو دخول الجنان التي تجري من تحتها الأنهار وإسكانهم المنازل العالية.

روى مسلم في صحيحة عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراؤون الكوكب الدرّيّ الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» . وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى الله بالليل والناس نيام» . 4- من أهم صفات المؤمنين الذين يستحقون الجنان: الصبر على الأذى وعلى مشاق التكاليف الشرعية، والتوكل على الله، فهما صفتان يدلان على العلم بالله تعالى، وهما صفتان مناسبتان أيضا للهجرة والجهاد موضوع الآيات. 5- بدد الله سبحانه مخاوف المهاجرين ومخاطر المغتربين، فأبان أن الموت حتمي في أجل مسمى، فلا يزيد العمر ولا ينقص، سواء أكان الشخص مقيما في موطنه، أم مسافرا مغتربا بعيدا عن بلده، كما قال سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء 4/ 78] . وأبان أيضا أن الرزق مكفول ومقسوم منه تعالى، كما قال تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات 51/ 22] ومن رحمته سبحانه أنه ييسر الرزق رغدا لكل دابة كل يوم، رغم ضعفها، وأنها لا تدخر شيئا لغد، سواء أكانت الدابة في جوف الأرض أم في ظاهرها أم في أعماق المياه، أم في أعالي الفضاء.

اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي [سورة العنكبوت (29) الآيات 61 إلى 63] :

والله تعالى سميع لعباده إذا طلبوا منه الرزق، يسمع ويجيب، عليم إن سكتوا، لا تخفى عليه حاجتهم ولا مقدار حاجتهم. اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) البلاغة: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اللام: لام القسم، والسؤال للكفار من أهل مكة وأمثالهم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فكيف يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك. يَبْسُطُ يوسع لمن يشاء امتحانا. وَيَقْدِرُ يضيق لمن يشاء ابتلاء. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالحهم ومفاسدهم، ومنها محل البسط والتضييق. نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ هذا اعتراف منهم بأن الله الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، فكيف يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك. الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك من هذه الضلالة، وعلى تصديقك وإظهار حجتك عليهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ تناقضهم في ذلك، إنهم يتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه، ثم يشركون به الصنم.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أمر المشركين ومطالبهم التعجيزية وسوء أعمالهم، ثم مخاطبة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ذكر تعالى ما يكون إرشادا للمشرك إذا فكر وتأمل، بأسلوب أدبي رفيع تضمن نصح المفسد أولا، ثم مخاطبة الرشيد، ليسمع المفسد، على طريقة: (إياك أعني واسمعي يا جارة) ، وكأن المتكلم يقول: إن هذا لا يستحق الخطاب، فاسمع أنت، ولا تكن مثل هذا المفسد، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح، وزجر المفسد، ودعوته إلى سبيل الرشاد، وهو الإقرار بوحدانية مبدع العالم، وخالق السماء والأرض وما فيهما، ورازق المخلوقات، ومحيي الأرض بعد موتها. التفسير والبيان: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي والله لئن سألت يا محمد المشركين بالله: من الذي أوجد وأبدع السموات وما فيها من الكواكب النيّرات، والأرض وما حوته من كنوز ومعادن، وذلّل الشمس والقمر يجريان لمصالح الخلق، وأدى ذلك إلى تعاقب الليل والنهار، لو سألتهم لأجابوا بأن المستقل بالخلق والإيجاد هو الله عز وجل. وإذ أقروا بذلك واعترفوا، فكيف يصرفون عن توحيد الله وإخلاص العبادة له؟! فإن الاعتراف بأن الله هو الخالق يمنع المشركين من عبادة إله آخر سواه، أو اتخاذ شريك معه، والاعتراف بتوحيد الربوبية الصادر من المشركين بقولهم: «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية، وكثيرا ما يذكر الله تعالى توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية.

وبعد الاعتراف بالخلق، ذكر تعالى ما هو سبب لدوام الحياة، وبقاء المخلوقات وهو الرزق، فقال: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله يوسع الرزق لمن يريد من عباده امتحانا له، ويضيق أو يقتّر على من يريد ابتلاء واختبارا، فالله هو الخالق الرازق لعباده، يقسم وحده الأرزاق على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة، لأن الله عليم بكل شيء من المفاسد والمصالح، ومقتضيات سعة الرزق وتضييقه، فيمنح ويمنع، بما هو الأصلح وما هو خير لعباده في الحالين، ويحصل التفاوت بين الناس في الأرزاق، ويكون هناك الغني والفقير، والله هو العليم بما يصلح كلّا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] وقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] . ثم ذكر تعالى سبب الرزق وهو إنزال الماء، فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ أي ومن الحقائق الثابتة أنك لو سألتهم أيضا عمن ينزل المطر من السحاب، فيحيي به الأرض الجدباء الهامدة التي لا حركة فيها بالنبات الأخضر، لأجابوك بأنه هو الله المبدع الموجد لكل المخلوقات، ثم يتعجب الإنسان من إشراكهم بعد ذلك بعض مخلوقاته. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي قل يا محمد: الحمد لله على ثبوت الحجة عليهم، واعترافهم بأن الله مصدر جميع النعم، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعقلون هذا التناقض الحاصل منهم، فتراهم يقولون بأن الخالق الموجد المحيي الرازق هو الله، ثم يقولون بألوهية غير الله، فيخالف فعلهم أقوالهم

فقه الحياة أو الأحكام:

وإقراراتهم، ويعبدون مع الله إلها آخر سواه ليست له مقومات الألوهية، ولا يدركون ما فيه الخير والمصلحة ودفع الضر عنهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- يقر المشركون بأمرين أساسيين: أولهما- أن الله هو الخالق المبدع المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار. وثانيهما- أن الله هو الخالق الرازق لعباده، المحيي الأرض بالماء النازل من السحاب، فتصبح الأرض مخضرة بعد جدبها وقحط أهلها. 2- ثم في مجال الأفعال ترى المشركين متناقضين مع أنفسهم، فهم يقرون بوجود الله، ثم يشركون معه إلها آخر من مخلوقاته. 3- وإذا اعترفتم بأن الله خالق كل الأشياء في السماء والأرض، فكيف تشكّون في الرزق؟ فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العباد، وكيف تكفرون بتوحيد الله، وتتحولون عن إخلاص العبادة لله؟ وإذا أقررتم بأن الله يحيي الأرض الجدبة، فلم تشركون به وتنكرون الإعادة؟ ومن قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين. 4- لا يختلف أمر الرزق بالإيمان والكفر، فالتوسيع والتقتير من الله، فلا تعيير بالفقر، فكل شيء بقضاء وقدر، والله عليم بكل شيء من أحوال العباد وأمورهم، وبما يصلحهم من إقتار أو توسيع. 5- يستحق الله الحمد على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته وعلى

بيان حال الدنيا واضطراب أوضاع الكفار فيها [سورة العنكبوت (29) الآيات 64 إلى 69] :

إقرار المشركين بوجود الله، ولكن أكثر المشركين لا يتدبرون هذه الحجج، ولا يعون ما فيه النفع والمصلحة الحقيقية. بيان حال الدنيا واضطراب أوضاع الكفار فيها [سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 69] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) الإعراب: لَهِيَ الْحَيَوانُ يجوز في هاء لَهِيَ الكسر والتسكين، فمن كسر أتى به على الأصل، ومن سكن حذف الكسرة تخفيفا، كما قالوا في كتف وكتف. والحيوان: أصله «الحييان» بياءين، إلا أنه لما اجتمعت ياءان متحركتان، استثقلوا اجتماعهما، فأبدلوا من الياء الثانية واوا كراهية لاجتماع ياءين متحركتين، وكان قلب الثانية أولى من الأولى لأن الثانية هي التي حصل التكرار بها. وَلِيَتَمَتَّعُوا قرئ بكسر اللام وسكونها، وهي لام الأمر ومعناه التهديد، فمن قرأ بالكسر فعلى الأصل، ومن سكّن فعلى التخفيف، كما قالوا في «كتف كتف» . البلاغة: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ تشبيه بليغ أي كاللهو واللعب، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.

المفردات اللغوية:

حَرَماً آمِناً مجاز عقلي، أي آمنا أهله. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إيجاز بحذف جواب الشرط، أي لو علموا لما آثروا الدنيا على الآخرة. يَعْلَمُونَ يُشْرِكُونَ يَكْفُرُونَ فيها مراعاة الفواصل، ذات الإيقاع والتأثير على السمع. المفردات اللغوية: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تهوين وتحقير، لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة. لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي كلهو الصبيان ولعبهم، يبتهجون ساعة ثم يتفرقون متعبين، وأما الطاعات والقرب فمن أمور الآخرة، لظهور ثمرتها فيها. واللهو: الاستمتاع بالملذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيها. لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية التامة التي لا فناء فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ تلك الحقيقة ما آثروا الدنيا عليها. الْفُلْكِ السفينة السائرة في البحر. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء، أي لا يدعون معه غيره، لأنهم في شدة لا يكشفها إلا الله، فيظهرون في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، فلا يذكرون إلا الله، ولا يدعون سواه. إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجؤوا المعاودة إلى الشرك. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام «كي» أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة وكذلك اللام في: وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها، أي قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، أي أن هذه اللام لام التعليل في تقدير الله، ولام العاقبة بالنسبة إليهم. ويصح أن تكون اللام في الفعلين المذكورين لام الأمر، وهو أمر تهديد فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، يعني أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي جعلنا بلدهم مكة مصونا من النهب والتعدي، آمنا أهله من القتل والسبي. وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختلسون قتلا وسبيا، وهم في أمان. أَفَبِالْباطِلِ أي بعد هذه النعمة الواضحة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره. وتقديم الجار والمجرور في قوله فَبِالْباطِلِ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة. وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكا. أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أي كذب بالنبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو القرآن. وقوله لَمَّا فيه تسفيه لهم بأن لم يتوقفوا، ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مأوى، والاستفهام تقرير لثوائهم، أي ألا يستوجبون الثواء في جهنم، وقد افتروا مثل هذا

سبب النزول نزول الآية (67) :

الكذب على الله وكذبوا بالحق!! وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي في حقنا، والجهاد يعم أنواع الجهاد الظاهرة والباطنة لكل الأعداء. لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا طريق السير إلينا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها. وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي المؤمنين بالنصر والعون. سبب النزول: نزول الآية (67) : أَوَلَمْ يَرَوْا.. أخرج جويبر عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا، فكنا أكلة رأس، فأنزل الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً. المناسبة: بعد بيان كون المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي، وهم مع ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء حرصا على زينة الحياة الدنيا ومكاسبها المادية، أوضح الله تعالى أن ما يميلون إليه وهو الدنيا ليس بشيء، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقة التامة التي تستحق الحرص عليها والعمل من أجلها، فلو كان عندهم شيء من العلم ما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية. ثم أبان الله تعالى أحوال تخبطهم وتناقضهم، فهم مع شركهم بربهم في الدعاء والعبادة إذا تعرضوا لمحنة أو شدة، رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، ولجؤوا إلى الله وحده، وأخلصوا له النية والدعاء لتخليصهم من الشدة، وتلك نعمة عظمي. ثم ذكّرهم تعالى بنعمة أخرى تتناسب مع حال الخوف الشديد، وهي حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة بلدهم ومولدهم ومسكنهم البلد الآمن الحرام، بتحصين الله أمنها، ودفع الشرور عن سكانها، لكنهم نفعيون متناقضون

التفسير والبيان:

جاحدون النعمة في الحالتين: نعمة النجاة ونعمة الأمن في بلدهم، فاستحقوا اللوم والتعنيف، إذ أنهم في أخوف ما كانوا، يدعون الله، وفي آمن ما حصلوا عليه من الأمن السكني، يكفرون بالله، فكيف يكفرون بالله حين الأمن. ويؤمنون به حال الخوف؟! التفسير والبيان: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقارن الله تعالى بين الدنيا والآخرة، ويخبر بأن الحياة الدنيا حقيرة زائلة لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو يتلهى به، ولعب يتسلى به، وأما الآخرة فهي دار الحياة الدائمة التي لا تزول ولا تنقضي، بل هي مستمرة أبد الآباد، فلو علموا ذلك لآثروا ما يبقى على ما يفنى. والفرق بين اللهو واللعب: أن اللعب إقبال على الباطل، واللهو: إعراض عن الحق. وليس المراد بالحيوان: الشيء النامي المدرك، وإنما الحيوان مصدر حي كالحياة، لكن فيها مبالغة ليست في الحياة. ثم يخبر الله تعالى عن حال المشركين حين الترفع عن الدنيا ووقت التعرض للمحنة والشدة، فيقول: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي إن المشركين عند الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، فهلا يكون هذا منهم دائما؟! فتراهم إذا ركبوا في السفينة، وأحدق بهم الغرق، دعوا الله وحده، مفردين إياه بالطاعة، مخلصين له النية، صادقين في اتجاههم إلى الله، فإذا تحقق لهم الأمن والنجاة من الهلاك، عادوا إلى شركهم، ودعوا الآلهة المزعومة كافرين بنعمة النجاة.

ونحو الاية قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] وهذا دليل على أن معرفة الله في فطرة كل إنسان. ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، ذهب فارّا منها، فلما ركب في البحر، ليذهب إلى الحبشة، اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره، اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبنّ، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنّه رؤفا رحيما، فكان كذلك» . لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ اللام لام العاقبة أو الصيرورة، أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفر بنعمة النجاة، والتمتع بالاجتماع على عبادة الأصنام، وعقد الروابط بسببها، ولكنهم سوف يعلمون عاقبة فعلهم هذا، وسيجازون الجزاء الوفاق على أعمالهم. وهذا وصف لسوء ما يترتب على شركهم، وتهديد ووعيد على بقائهم على كفرهم. ويصح أن تكون اللام لام الأمر، ويكون المعنى التهديد أي: ليكفروا، كما قال تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقال: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الزمر 39/ 39] فساد ما تعملون. ثم وصف الله تعالى تناقض المشركين إذ يلجأون إلى الله وحده مخلصين له الدعاء وقت الشدة، ويكفرون بالله ويشركون به حين الأمن في بلدهم مكة، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟! أي أولم يعلم هؤلاء المشركون ما أنعمنا به عليهم من إسكانهم في بلد حرام آمن وهو مكة، لا يتعرضون فيه لقتل وسبي

وخطف، فيشكروا الله على هذه النعمة، وهذا امتنان على قريش بما أحلهم من حرم الله الآمن، كما قال سبحانه: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش 106/ 4] . ولكن عجبا لهم أنهم قابلوا الشكر بالكفر، أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله؟! فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه. وبعد بيان حالهم العجيبة وتناقضهم، أبان الله تعالى أنهم قوم أظلم من يكون، فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله بالشرك وتكذيب كتابه ورسوله وقوله: إن الله أوحى إليه، ولم يوح إليه شيء، أو قوله إذا فعل فاحشة: إن الله أمر بها، والله لا يأمر بالفحشاء، ألا يستوجب هؤلاء المشركون من أهل مكة وأمثالهم المقام في جهنم؟ وهذا تسفيه آرائهم وتقريع لهم، وتبيين سوء مصيرهم، بطريق الاستفهام التقريري الذي هو أبلغ في إثبات العقاب المنتظر لهم. وبعد بيان عاقبة الكافرين، أبان الله تعالى عاقبة المؤمنين فقال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي من جاهد بالطاعة، ونصر دين الله، وقاتل أعداء الله المكذبين بكتابه ورسوله، هداه الله ووفقه إلى طريق الجنة وطريق السعادة والخير في الدنيا والآخرة، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد 47/ 17] وجاء في الحديث الثابت: «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

والله مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والإعانة، والتأييد والحفظ والرعاية والتوفيق، روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: «إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك» . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- الحياة الدنيا بما فيها من المال والجاه والملبس ملهاة وملعب، أو شيء يلهى به ويلعب، وليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول، كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات. 2- ما يعمل في الدنيا لله من القرب والطاعات هو من الآخرة، وهو الذي يبقى، كما قال تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 27] أي يبقى ما ابتغي به ثواب الله ورضاه. 3- إن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها، وهي الحياة الصحيحة، فلا حياة إلا حياة الآخرة، وعبّر عنها بالحيوان: وهو الحياة، لأن فيها مبالغة ليست في الحياة. 4- المشركون قوم متناقضون، فتراهم في وقت الشدة المستعصية، كما إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق، يدعون الله صادقين في نياتهم، ويتركون دعاء الأصنام وعبادتها، فإذا وصلوا إلى بر الأمان دعوا معه غيره، وما لم ينزل به سلطانا أو حجة، وما لا حقيقة لألوهيته أصلا، فهم يشركون في البر، ولا يشركون في البحر. 5- إن عاقبة الشرك أو ثمرته أن يجحد المشركون نعم الله ويتمتعوا بالدنيا،

والله يهددهم ويوعدهم ويقول لهم: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا. 6- جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] وتلك نعمة تستحق الشكر والحمد لله والإذعان له بالطاعة، لا سيما إذا قورنت مكة بما عليه أحوال أهل البلاد الأخرى المجاورة، حيث يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، ويغار بعضهم على بعض. ولكن المشركين كما تقدم تتناقض أحوالهم، فهم بالشرك أو بإبليس يؤمنون وبنعمة الله وعطائه وإحسانه يكفرون ويجحدون. 7- لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا، وإذا فعل فاحشة قال: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف 7/ 28] وكذّب بالقرآن أو بتوحيد الله، وأنكر رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعاقبتهم الثّواء في نار جهنم. 8- إن المجاهدين جهادا عاما في دين الله وطلب مرضاته يوفقهم ربهم إلى سبل الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا» قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 282] . قال ابن عطية في آية: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا: هي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.

9- إن الله لمع المحسنين بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع جميع الناس بالإحاطة والقدرة. فتكون فائدة المجاهدين في طاعة الله أمرين: التوفيق للخير والإيمان والسعادة، والعون والتأييد والحفظ.

سورة الروم:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الروم مكية، وهي ستون آية. تسميتها: سميت سورة الروم لافتتاحها بخبر غلبة الروم، والإخبار عن نصرهم بعدئذ في بضع سنين، وتلك إحدى معجزات القرآن العظيم بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ووقوع الشيء كما أخبر به. موضوعها: هو موضوع سائر السور المكية التي تبحث في أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصفات الله تعالى، والإيمان بالرسالة النبوية، وبالبعث والجزاء في الآخرة. مناسبتها لما قبلها: تتشابه سورة الروم وسورة العنكبوت التي قبلها في المطلع، فإن كلا منهما افتتح ب الم غير مقرون بذكر التنزيل والكتاب والقرآن، على خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح بالحروف المقطعة، فإنها كلها قرنت بذلك إلا هاتين السورتين وسورة القلم. وقد ذكر في أول هذه السورة ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت هذه الحروف الهجائية لتنبيه السامع والإقبال بقلبه وعقله وروحه على الاستماع.

مشتملات السورة:

وهناك تشابه آخر بين السورتين من وجوه ثلاثة: الأول- إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وبدئت هذه السورة بوعد المؤمنين بالغلبة والنصر، وهم يجاهدون في سبيل الله تعالى. الثاني- إن الاستدلال في هذه السورة على أصول الاعتقاد وأهمها التوحيد جاء مفصلا للمجمل في السورة السابقة مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [19] فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [20] . الثالث- ترتب على التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب في السورة المتقدمة أن أبغض المشركون أهل الكتاب، وتركوا مراجعتهم في الأمور، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وسبب البغضاء أن المشركين في جدالهم نسبوا إلى عدم العقل: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [63] وطلب مجادلة أهل الكتاب بالحسنى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [46] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله، كما قال تعالى: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [46] . فلما غلب أهل الكتاب حين قاتلهم الفرس المجوس، فرح المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى أوائل سورة الروم لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق، وإنما قد يريد الله تعالى مزيد ثواب في المحب، فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار للمعادي تعجيل العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر يوم القيامة. مشتملات السورة: افتتحت السورة بإثبات النبوة بالإخبار بالغيب، وهو انتصار الروم على الفرس في حرب تقع بينهما في غضون بضع سنوات (من 3- 9 سنوات) ووقع الخبر كما أخبر القرآن، وتلك معجزة القرآن تثبت صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتتضمن البشارة بنصر جند الرحمن على حزب الشيطان.

ثم ذكرت أدلة الوحدانية وعظمة القدرة الإلهية بالتأمل في صفحة الكون والنظر في خلق السموات والأرض، والاعتبار بمأساة المكذبين الغابرين وعاقبتهم السيئة، وأردف بعدها أدلة البعث، والأمر بعبادة الله وحده، وذلك مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها. ونوقش فيها المشركون وضربت لهم الأمثال في أن الشركاء ضعفاء عاجزون لا يملكون لأنفسهم يوم القيامة نفعا، ولا يتمكنون دفع الضر عن أحد، ولا يستطيعون خلق شيء وإيجاده ولا إمداد أحد بالرزق. وكشف القرآن حقيقة حال المشركين كما ذكر في السورة المتقدمة وهي لجوءهم إلى الله وقت الضر، وإشراكهم به وقت الرخاء، وأميط اللثام عن طبيعة الإنسان وهي الفرح بالنعمة، والقنوط حين الشدة إلا من آمن وعمل صالحا. ونهى الله تعالى عن اتباع المشركين وغيرهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ثم أمر تعالى بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، واجتناب أكل الربا، وتنمية المال بوجوه الحلال وتطهيره بالزكاة. ثم قارنت السورة بين مصير المؤمنين في روضات الجنان فضلا من الله تعالى، ومصير الكافرين في نيران الجحيم جزاء أعمالهم وكفرهم، وحينئذ تظهر فائدة الإيمان والخير، وظلام الكفر والشر. وأعقب ذلك إيراد بعض الأدلة الكونية الناطقة بقدرة الله والدالة على وحدانيته من إرسال الرياح مبشرات بالرحمة، وتسيير السفن في البحار، وتمكين المسافرين من التجارة وابتغاء فضل الله في أقطار الأرض، والدلائل الملحوظة في الأنفس من خلق ثم رزق، ثم إماتة، ثم إحياء. وختمت السورة بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته بأنهم أغلقوا منافذ الهداية، وعطلوا طاقات الفكر والعقل عن النظر في وسائل

الإخبار بالغيب في المستقبل [سورة الروم (30) الآيات 1 إلى 7] :

الوصول إلى الإيمان بالله، فهم صمّ عمي لا يسمعون ولا يبصرون، وأنهم مهما رأوا من الآيات، وشاهدوا من البراهين والمعجزات، لن يؤمنوا بسبب العناد، والتشبث بمواقع الكفر، والحفاظ على مراكز الزعامة والنفوذ بين العرب. وهذا يقتضي الصبر على أذى المشركين حتى يأتي النصر، ومتابعة القيام بواجب تبليغ الرسالة، فإنه قد يهتدي بعضهم أو غيرهم، وسيكون النصر في جانب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والخذلان لمن كذب به، ولن يؤثر في مسيرة دعوته كفر الذين لا يوقنون بالبعث بعد الممات. الإخبار بالغيب في المستقبل [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) الإعراب: مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ غلب: مصدر مضاف إلى المفعول، وتقديره: وهم من بعد أن غلبوا سيغلبون. مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ظرف مبني على الضم لأنه مقطوع عن الإضافة، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة كلمة واحدة، فلما اقتطع عن الإضافة، نزّل منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني. والبناء على الضم تعويضا عن المحذوف، لأنه أقوى الحركات، ولئلا تلتبس حركة الإعراب بحركة البناء، فلو بني على الفتح أو الكسر، لالتبست حركة الإعراب بحركة البناء.

البلاغة:

بِنَصْرِ اللَّهِ في موضع نصب، متعلق ب يَفْرَحُ. وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، والمصدر مضاف إلى الفاعل. البلاغة: غُلِبَتِ وسَيَغْلِبُونَ بينهما طباق، وكذا بين قَبْلُ وبَعْدُ. لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً بينهما طباق السلب. الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ صيغة مبالغة، أي البالغ نهاية العزة وغاية الرحمة. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ تكرار الضمير لإفادة الحصر، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على استمرار الغفلة. المفردات اللغوية: غُلِبَتِ الرُّومُ الروم: أمة ذات مدنية وحضارة وقوة، من ولد روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، كانوا نصارى، غلبتهم فارس الذين كانوا يعبدون الأوثان، ففرح كفار مكة بذلك، وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، وأقرب مكان إلى أرض العرب من جهة الشام، فيها التقى الجيشان، وكان الفرس هم البادئين بالغزو وَهُمْ الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أضيف المصدر إلى المفعول، أي غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس. فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع: ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى العشر، وقد تم لقاء الجيشين فعلا في السنة السابعة من اللقاء الأول، وغلبت الروم فارس لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل غلب الروم ومن بعده، والمعنى أن غلبة الفرس أولا وغلبة الروم ثانيا تم بأمر الله، أي إرادته وَيَوْمَئِذٍ يوم تغلب الروم. بِنَصْرِ اللَّهِ أي نصر أهل الكتاب على من لا كتاب له الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ الواسع الرحمة بالمؤمنين وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد للفعل، أي وعدهم الله النصر وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده تعالى بنصرهم لجهلهم وعدم تفكيرهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يشاهدونه منها من المعايش في التجارة والزراعة والبناء والغرس وغير ذلك. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي أنهم غافلون عن الغاية والمقصود من الحياة، لا تخطر ببالهم، وإعادة هُمْ تأكيد.

سبب النزول:

سبب النزول: أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت الم، غُلِبَتِ الرُّومُ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة، قبل أن يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم، وهم أهل كتاب؟! فسنغلبكم كما غلب فارس الروم، فأنزل الله: الم، غُلِبَتِ الرُّومُ. وأخرج الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي: أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام، فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات. فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين، فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا، ولا يقرّنّ الله أعينكم «1» ، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس، كما أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه أبيّ بن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه «2» على عشر قلائص «3» مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت،

_ (1) لا يسرّنكم. (2) أراهنك. (3) جمع قلوص وهي الناقة الشابة الفتية.

التفسير والبيان:

وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «زايده في الخطر «1» وماده في الأجل» فخرج أبو بكر، فلقي أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلا، ومات أبيّ من جرح جرحه إياه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموقعة، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي، وجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تصدّق به» . وقد كان هذا قبل تحريم القمار، لأن السورة مكية، وتحريم الخمر والميسر بالمدينة. واستدل به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب. والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب. التفسير والبيان: الم هذه الحروف المقطعة التي تقرأ هكذا: «ألف، لام، ميم» للتنبيه على إعجاز القرآن، كما تقدم في أمثالها، وتنبيه السامع على الاستماع بقلبه لما يلقى إليه بعدها. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ أي غلبت فارس قوم الروم في أقرب أرض الروم إلى بلاد العرب في مشارف الشام، بين الأردن وفلسطين، وسيغلب الروم فارس في بضع سنين (ما بين الثلاث إلى العشر من السنين) من تاريخ الوقعة الأولى، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

_ (1) الخطر: السبق الذي يتراهن عليه أي الرهن الذي يخاطر عليه.

وهذا إخبار بالغيب عن أمر في المستقبل، أيده الواقع، وقد نزلت الآيات كما بينا حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل. فبعد نزول سورة الروم سنة 622 م ببضع سنين في سنة 627 م أحرز هرقل أول نصر حاسم للروم على الفرس في نينوى على نهر دجلة، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم للقسطنطينية، ولقي كسرى أبرويز مصرعه سنة 628 م على يد ولده (شيرويه) . ولقد كانت هاتان الدولتان مسيطرتين على العالم القديم: فارس في الشرق، والروم في الغرب، وكانتا تتنازعان السيادة على بلاد الشام وغيرها. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي الأمر كله من قبل الغلبة ومن بعدها، فتغلب إحدى الدولتين على الأخرى بقضاء الله وقدره، فهو يقضي في خلقه بما يشاء: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران 3/ 140] فليس الانتصار دائما عن قوة مادية ذاتية، وإنما القوة إحدى وسائل النصر، والمعول في النهاية إرادة الله وقدرته، فقد يتغلب الضعيف على القوي، والقليل على الكثير: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 2/ 249] . وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم ينتصر الروم النصارى أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى الوثنيين المجوس، يفرح المؤمنون بنصر الله أهل الدين والكتاب على من لا دين له ولا كتاب. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي ينصر الله من يريد على الأعداء، فهو الفعال لما يريد، وهو القوي الذي لا يغلب، المنتقم من أعدائه،

المعزّ أولياءه بقوته وقدرته، الرحيم بعباده المؤمنين، فلا يدع القوي يتحكم بالضعيف، ولا يعاجل بالانتقام على الذنوب، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر 35/ 45] . روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، ففرحوا به، وأنزل الله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وقال جماعة آخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. والمهم أنه لما انتصرت الروم على الفرس، فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى.. الآية [المائدة 5/ 82] . وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد حق من الله، وخبر صدق، والله لا يخلف الميعاد، ولا بد من وقوعه، لأن سنة الله أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون بحكم الله وأفعاله القائمة على العدل، لجهلهم بالسنن القائمة في الكون. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي أكثر الناس لهم علم ظاهري بالدنيا وعلومها المادية كتدبير شؤون المعيشة، وتحصيل الأموال والمكاسب من تجارة وزراعة وصناعة وغيرها، ولكنهم غافلون عن أمور الدين والآخرة، كأنهم عديمو الفكر والنظر، لا ينظرون إلى المستقبل

فقه الحياة أو الأحكام:

وما ينتظرهم من نعيم مقيم إن آمنوا وعملوا الصالحات، أو عذاب مهين إن كفروا وعصوا أوامر ربهم، فلا يعملون أبدا لما ينفعهم في الآخرة، وعلمهم منحصر في الدنيا، بل لا يعلمون الدنيا على حقيقتها، وإنما يعلمون ظاهرها، وهي ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها، فهم عن الآخرة غافلون. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إثبات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعواه النبوة والرسالة، وإعلام قاطع بأن القرآن كلام الله الذي يعلم وحده الغيب في السموات والأرض. وتلك معجزة واضحة بالإخبار عن مغيبات المستقبل، وقد وقع الأمر كما أخبر القرآن الكريم. 2- الله تعالى متفرد بالقدرة الشاملة النافذة، فكل ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه، وبإرادته وقدرته، فلله الأمر، أي إنفاذ الأحكام سواء قبل هذه الغلبة وبعدها، والله دائما هو القوي العزيز في نقمته، الرحيم لأهل طاعته. 3- يبشر الله تعالى المؤمنين بنصر أهل الكتاب المتعاطفين مع المسلمين، لاجتماعهم على الإيمان بالإله والإيمان باليوم الآخر، على الفرس المجوس الوثنيين الذين لا يؤمنون بشيء من الكتب السماوية، ولا بالله تعالى ولا بالآخرة. 4- وعد الله لا يخلف لأن كلامه حق وصدق، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون وعده، ولا أنه لا خلف في وعده. 5- إن أكثر الناس لا سيما الكفار عاملون بظواهر الأمور الدنيوية من اكتساب الأموال والمعايش ومعرفة شؤون الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم المادية، ولكنهم غافلون عن العلم بالآخرة وعن العمل بها. قال الزمخشري: أفاد قوله تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أن

الحث على التفكر في المخلوقات الدالة على وجود الله ووحدانيته [سورة الروم (30) الآيات 8 إلى 10] :

للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها وباطنها وحقيقتها: أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة «1» . الحث على التفكر في المخلوقات الدالة على وجود الله ووحدانيته [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) الإعراب: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ.. ما: حرف نفي، ويَتَفَكَّرُوا قد عدّي إلى أَنْفُسِهِمْ كما عدّي في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 185] . ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا.. عاقِبَةَ: خبر كانَ، والسُّواى اسمها، ومن قرأ عاقبة بالرفع، فهي اسم كانَ، والسُّواى: خبر كان. والسُّواى على وزن «فعلى» تأنيث للاستواء، كالحسنى تأنيث الأحسن.

_ (1) الكشاف: 2/ 503 [.....]

البلاغة:

وأَنْ كَذَّبُوا مفعول لأجله، أي لأن كذبوا، ويجوز كونه في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أن كذبوا، أو بدل من السُّواى رفعا ونصبا. والسُّواى منصوب بأساؤوا انتصاب المصادر، لأنه مصدر. البلاغة: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَوَلَمْ يَسِيرُوا إنكار وتوبيخ. أَساؤُا السُّواى جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أولم يحدثوا التفكر فيها، أو: أولم يتفكروا في أمر أنفسهم، فإنها أقرب إليهم من غيرها، فبالتفكر يرجعون عن غفلتهم ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ما خَلَقَ متعلق بقول محذوف معناه: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول، وقيل: معناه: فيعلموا لأن في الكلام دليلا عليه. ومعنى قوله: إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى معناه: ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من الانتهاء إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ مثل كفار مكة بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أي لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، أي جاحدون يحسبون أن الدنيا بداية وأن الآخرة لا تكون. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حض على السير في أقطار الأرض، والنظر في آثار المدمرين من قبلهم من الأمم، وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود وَأَثارُوا الْأَرْضَ حرثوها وقلبوها للزرع والغرس وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي عمروا الأرض أكثر من عمارة أهل مكة إياها، فإنهم أهل واد غير ذي زرع. وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهم أضعف حالا فيها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، والآيات الواضحات، والحجج الظاهرات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما يفعل بالظلمة، فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم. ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي ثم كان عاقبتهم العقوبة السوأى، والمراد بها جهنم، والسوأى: تأنيث الأسوأ أي الأقبح، أو مصدر كبشرى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي كانت إساءتهم بأن كذبوا بالقرآن.

المناسبة:

المناسبة: هذه الآيات مرتبطة بما قبلها، تتضمن تهديد المشركين وحثهم على التفكر والنظر في المخلوقات الدالة على وجود الله وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه، بعد بيان ما صدر منهم من إنكار الإله بإنكار وعده، وإنكار البعث، كما قال تعالى: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ. التفسير والبيان: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي أولم يحدثوا التفكر في عقولهم، أو يفكروا في أمر أنفسهم بأن يجيلوا فيه الفكر، فيقولوا: إن الله لم يخلق الكون من السماء والأرض وما فيهما من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات الكثيرة المتنوعة والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا عبثا ولا باطلا، بل كان خلقها مقرونا بالحق، مصحوبا بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب، فإذا حل الأجل بدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لحساب الله الواحد القهار. وهذا حثّ لهم على إعمال الفكر السليم الموصل إلى معرفة الله ووحدانيته بالنظر في أنفسهم وما حولهم من مشاهد الكون، والمراد أن أسباب العلم الصحيح ومفاتيح الهداية تعتمد على العقل وأنه متوافر لديهم، لكنهم عطلوه ولم يعملوه فيما يجب إعماله. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أي وإن أكثر الناس ولا سيما الكفار لجاحدون منكرون وجود البعث والحساب لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا لأيقنوا بمعادهم إلى ربّهم بعد الموت. ثم نبّه الله تعالى على صدق رسله فيما جاؤوا به عن ربهم بما أيّدهم به من

المعجزات الباهرات، والدلائل الواضحات المحسوسات من إهلاك من كفر برسالتهم، ونجاة من صدّقهم فقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثارُوا الْأَرْضَ، وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي أولم يتنقل هؤلاء المنكرون للنبوات، المكذبون بالآخرة في بلاد الأرض، فينظروا بعقولهم وأفهامهم، ويبحثوا في آثار الله، ويسمعوا أخبار الماضين ويتأملوا بمصير المكذبين رسلهم من الأمم الماضية، علما بأنهم كانوا أشدّ قوة من أهل مكة وأمثالهم، وأكثر أموالا وأولادا، وحرثوا الأرض وقلبوها للزراعة والغرس أكثر مما فعل المكيون وسائر العرب لقحط بلادهم، واستغلوا الأرض أكثر من استغلال هؤلاء. ثم أهلكهم الله بذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والأدلة المحسوسة والشواهد الناطقة بقدرة الله وتوحيده، فما كان عقابهم ظلما، وما كان من شأن الله أن يظلمهم وغيرهم فيما حلّ بهم من العذاب والنكال، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها وذنوبهم السالفة. فالعاقل من اتّعظ بغيره، وعرف أن زخارف الدنيا ومتاعها من أموال وأولاد لا تغني عنه شيئا يوم القيامة، وقد أكد الله تعالى ذلك بقوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أي ثم كان مصير المسيئين العذاب السُّواى في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم، بسبب تكذيبهم بآيات الله ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، واستهزائهم بها وسخريتهم منها. فقوله أَساؤُا السُّواى معناه: كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون. والإساءة: التكذيب والاستهزاء، وعبر عن العقاب بالجريمة الصادرة من الكفار، على سبيل المشاكلة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الحثّ على التفكر في الكون وإيجابه، فإن التأمل في خلق السموات والأرض والأنفس البشرية المخلوقة لحكمة ومصلحة وعدل، والمؤقتة بأجل مسمى تنتهي إليه، دليل على وجود الخالق وتوحيده وقدرته وعلى حدوث الحشر، فقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ يدل على الوحدانية لأن إحكام الخلق والتنزه عن الفساد يمنع من تعدد الآلهة، ففي وجود آلهة فساد وخلل وتعثر، وقوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى دليل على الحشر لأنه يدل على فناء العالم وتخريب الكون، وبما أن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على الإعادة ولأن الخلق بالحق يوجب أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا، كما أخبر القرآن. 2- دلّ قوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة على حدوث الفناء في نهاية عمر الدنيا، وعلى أن لكل مخلوق أجلا، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء. 3- كثير من الناس كافرون بالبعث بعد الموت، وهذا نقص في التفكير، وقلة في العقل، فالعاقل من فكر بالمستقبل، وعمل لما بعد الموت، ولم تغره الحياة الدنيا. 4- التبصر بعبر الماضي درس وعظة، فمن سمع بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، وأدرك مصيرهم، وعرف سبب هلاكهم وتدميرهم، بادر إلى الإيمان بالله عزّ وجلّ، وصدّق رسله الذين جاءوهم بالمعجزات الدالة على صدقهم. 5- الاعتماد على قوة الجسد وسعة المال، ووفرة الثروة والأولاد خطأ محض، فإن كل الأموال والمدنيات وتقدم الحضارات لا تغني أصحابها شيئا يوم القيامة.

إثبات الإعادة والحشر وبيان ما يكون وقت الرجوع إلى الله [سورة الروم (30) الآيات 11 إلى 16] :

6- لقد كان إهلاك الأمم الماضية الجاحدة بربها ورسله وأنبيائه حقا وعدلا، ولم يكن الهلاك بغير ذنب ولا بغير سابق إنذار بالرسل والحجج، وإنما كان بظلمهم أنفسهم بالشرك والعصيان، والتكذيب بآيات الله الدالة على وجوده وتفرده بالألوهية، وتكذيب القرآن والرسول ومعجزاته، واستهزائهم بها. إثبات الإعادة والحشر وبيان ما يكون وقت الرجوع إلى الله [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) البلاغة: يَبْدَؤُا ويُعِيدُهُ بينهما طباق. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المقصود. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ بين الجملتين مقابلة بين حال السعداء والأشقياء. تُرْجَعُونَ يَتَفَرَّقُونَ يُحْبَرُونَ مُحْضَرُونَ مراعاة الفواصل في الحرف الأخير، وذلك له وقع وتأثير على السمع.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئ خلق الناس ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعث الناس ويخلقهم مرة أخرى بعد موتهم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يسكت المشركون متحيرين آيسين لانقطاع حجتهم، يقال: أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته، والمبلس: الساكت المنقطع الحجة، اليائس من الاهتداء إليها وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أي لا يكون ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام شفعاء يجيرونهم من عذاب الله. وجاء التعبير بمعنى الماضي لتحققه وَكانُوا أي يكونون بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي متبرئين منهم، يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم. يَوْمَئِذٍ تأكيد لقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ. يَتَفَرَّقُونَ أي يتفرق المؤمنون والكافرون. فِي رَوْضَةٍ بستان أو أرض ذات أزهار وأنهار يُحْبَرُونَ يسرّون سرورا تهللت له وجوههم بِآياتِنا القرآن وَلِقاءِ الْآخِرَةِ البعث وغيره مُحْضَرُونَ مدخلون فيه لا يغيبون عنه. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أن عاقبة المجرمين إلى الجحيم، وذلك إشارة إلى الإعادة والحشر، أقام الأدلة عليه بأن من بدأ خلق الناس بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بيّن ما يكون وقت الرجوع إليه، وأخبر أن الناس حينئذ فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير. التفسير والبيان: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي أن الله كما هو قادر على بداءته وإنشائه، فهو قادر على إعادته، فالله هو الذي بدأ إنشاء الخلق بقدرته وإرادته، فلا يعجز عن رجعته، ثم إليه يعودون يوم القيامة ويحشرون للقضاء بينهم، فيجازي كل عامل بعلمه، ثم وصف حال الأشقياء بقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي ويوم تقوم القيامة للفصل بين الناس والحساب، يسكت المجرمون الذين أشركوا بالله وتنقطع عنهم الحجة من شدة الأهوال، وييأسون ولا يجدون طريقا للخلاص، ولا أملا في النجاة من طريق غيرهم، كما قال:

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي ولن يجدوا لهم شفعاء من الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، ينقذونهم من عذاب الله، وكانوا بشركائهم وآلهتهم المزعومة جاحدين، متبرئين منهم، إذ خانوهم في أحوج ما كانوا إليهم، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [البقرة 2/ 166- 167] . وهذا دليل على تبين إفلاسهم وإعلان خسرانهم. ثم يتميز أهل المحشر إلى فريقين، فقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي ويوم تقوم القيامة يتفرق الناس فرقة لا اجتماع بعدها، كما قال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس 36/ 59] فيؤخذ أهل الإيمان والسعادة إلى الجنان، ويؤخذ أهل الكفر والشقاوة إلى النيران. قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها، لهذا قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي فأما المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله واليوم الآخر، والعاملون بما أمر الله به، والمنتهون عما نهى الله عنه، فهم يتنعمون ويسرّون سرورا يملأ القلب والنفس ويظهر البشاشة بما لاحظوا به من روضات الجنان ذات البهجة والخضرة والأنهار الجارية، أي فهم في جنة يسرون بكل مسرة، كما قال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي وأما الكافرون الجاحدون بوجود الله ووحدانيته، المكذبون رسله

فقه الحياة أو الأحكام:

وآياته، المنكرون وقوع البعث بعد الموت، فهم مخلدون في عذاب جهنم، لا غيبة لهم عنه أبدا، ولا فتور له عنهم إطلاقا، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، أُعِيدُوا فِيها [الحج 22/ 22] وقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف 43/ 74- 75] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- الله هو منشئ الخلق، ومعيده بقدرته، وإليه المرجع والمآب. 2- لا يجد المشركون والكفار يوم القيامة حجة لهم يدافعون بها عن شركهم وكفرهم، فتنقطع حجتهم، وييأسون من الاهتداء إليها، كذلك لا يجدون لهم من غيرهم ناصرا ينصرهم ولا شفيعا ينقذهم من عذاب الله، وحينئذ يقولون عن آلهتهم: إنهم ليسوا بآلهة، فيتبرءون منها، وتتبرأ منهم. 3- يحدث انفصال يوم القيامة بين المؤمنين وبين الكافرين، فيتميز الطيبون من الخبيثين، ويقيم المؤمنون في جنان الخلد ذات الرياض الغناء والأنهار الجارية، فيغمرهم الحبور والسرور، وينعّمون ويكرمون، ويقيم الكافرون في عذاب جهنم إقامة دائمة أبدية، فلا يفارقونها، ولا يخفف عنهم فيها شيء من العذاب. 4- لا بد مع الإيمان من العمل الصالح، وهو الائتمار بأمر الله، واجتناب ما نهى عنه لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان، فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات، ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح. وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره. وهذا هو السبب في ذكر العمل الصالح مع الإيمان، وعدم ذكر العمل السيئ مع الكفر.

تنزيه الله تعالى وحمده في جميع الأحوال [سورة الروم (30) الآيات 17 إلى 19] :

تنزيه الله تعالى وحمده في جميع الأحوال [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) البلاغة: تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ بينهما طباق. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ استعارة، استعار الحي للمؤمن، والميت للكافر. المفردات اللغوية: فَسُبْحانَ اللَّهِ سبحان: هو التسبيح، أي التنزيه، وهو إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه، أي سبحوا الله بمعنى صلوا في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته حِينَ تُمْسُونَ تدخلون في المساء، وفيه صلاتان: المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أوضح وأبين. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض، ومعناه: يحمده أهلها وَعَشِيًّا عطف على حِينَ تُمْسُونَ وفيه صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ تدخلون في الظهيرة، وفيه صلاة الظهر. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس: تُمْسُونَ صلاة المغرب والعشاء وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر وعَشِيًّا صلاة العصر وتُظْهِرُونَ صلاة الظهر. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال أكثر المفسرين: يخرج الدجاجة من البيضة، والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة، ويخرج البيضة من الطائر، والنطفة من الإنسان، وقال بعضهم: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يحييها بالنبات بعد يبسها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور

المناسبة:

وتبعثون. والمعنى أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة القادر على إخراج الأشياء من أضدادها، بإخراج الميت من الحي، وإخراج الحي من الميت، وإحياء الميت، وإماتة الحي. وقرئ: تخرجون. المناسبة: بعد بيان عظمة الله تعالى وقدرته في خلق السموات والأرض حين ابتداء العالم، وعظمته حين قيام الساعة (القيامة) حال انتهاء العالم، وافتراق الناس فريقين: فريق الجنة وفريق النار، أمر الله تعالى بتنزيهه عن كل سوء وعما لا يليق به، وبحمده على كل حال لأنه المتفرد بإحياء الميت وإماتة الحي، وإحياء الأرض بعد موتها، كإحياء الناس من قبورهم للبعث، وهذا في وقت الصباح يشبه حال انتقال الإنسان من النوم الذي هو الموتة الصغرى إلى اليقظة التي هي الحياة. التفسير والبيان: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي سبحوا الله تعالى ونزهوه وصلّوا له في جميع أوقات النهار والليل، حين ابتداء المساء، وحين طلوع الصباح. وهذا إرشاد من الله تعالى لعباده بتسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء: وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح: وهو إسفار النهار بضيائه، وفي المساء صلاتا المغرب والعشاء، وفي وقت الصباح صلاة الفجر. وقدم الإمساء على الإصباح هنا لأن الليل يتقدم النهار. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي والله تعالى هو المحمود من جميع أهل السموات والأرض من ملائكة وجن وإنس. وهذا اعتراض بحمده مناسب للتسبيح وهو التحميد.

وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أي وسبحوه ونزهوه أيضا وقت العشي أو العشاء: وهو شدة الظلام، وفي وسط النهار وقت الظهيرة. قال الماوردي: الفرق بين المساء والعشاء: أن المساء: بدوّ الظلام بعد المغيب، والعشاء: آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب. ويلاحظ أن تخصيص هذه الأوقات بالتسبيح إنما هو بسبب وجود معالم الانتقال المحسوس من حال إلى حال، ومن زمن إلى زمن، يشمل جميع أجزاء اليوم، بدءا من الصبح أو النهار وقوة الضياء، إلى الظهر حين تتحول الشمس من جهة المشرق إلى المغرب، إلى العصر حين يبدأ أفول النهار وقدوم العشي، إلى المغرب بدء الظلام، إلى العشاء في شدة الظلام. والمعنى: نزهوا الله عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال في جميع هذه الأوقات المتعاقبة لأن أفضل الأعمال أدومها. وفي هذا إشارة إلى أصول الإيمان الموجبة للظفر بروضات الجنان، فبعد أن أبان الله تعالى أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل صالحا في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أعلمنا أن الإيمان تنزيه بالجنان، وتوحيد باللسان، وأن العمل الصالح القيام بجميع الأركان، وكل ذلك تسبيح (تنزيه) وتحميد، يوصل إلى الحبور (السرور والتنعم) في رياض الجنان. وقد تكرر في القرآن لفت النظر إلى الإضاءة والإظلام، وأن الله فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، كما قال: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس 91/ 3- 4] ، وقال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل 92/ 1- 2] ، وقال: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى 93/ 1- 2] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وعظمته الموجبة للتنزيه والتحميد، فقال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي أن الله تعالى هو القادر على خلق الأشياء المتقابلة، فهو يخرج أولا الإنسان الحي من التراب الميت، ثم من النطفة، والطائر من البيضة، كما يفعل ضدّ هذا، فيخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، واليقظان من النائم، والنائم من اليقظان. وأما كون النطفة كائنا حيّا فلا تعرفه العرب، ولم يكن التقدم العلمي واضح المعالم في هذا لديهم. وهذا دليل على كمال القدرة الإلهية وبديع الصنع وعظمة الإله. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي والله تعالى يحيي الأرض بالمطر، فيخرج النبات من الحب، والحب من النبات، كما قال: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ [يس 36/ 23- 24] ، وقال سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج 22/ 5] . وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور أحياء بعد أن كنتم أمواتا، وذلك على الله يسير. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب تنزيه الله تعالى عن جميع صفات النقص، ووصفه بجميع صفات

بعض أدلة الوحدانية والقدرة والحشر [سورة الروم (30) الآيات 20 إلى 27] :

الكمال، في جميع الأوقات المتعاقبة، وقرن التسبيح بالتحميد على نعم الله وآلائه، والصلوات المفروضة الخمس بعض مظاهر التسبيح والتحميد لاشتمالها على ذلك. وقد استدل ابن عباس كما تقدم بهذه الآيات على بيان عدد الصلوات الخمس في القرآن. وذلك دليل على الإيمان، وعلى فضل التسبيح والتحميد، قال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال حين يصبح: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. الآية، أدرك ما فاته في ليلته، ومن قال حين يمسي، أدرك ما فاته في يومه» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الآية» . 2- يتجلى كمال قدرة الله عزّ وجلّ ويثبت وجوده بتفرده بالخلق والإيجاد، والإعدام، والإحياء والإماتة، فهو سبحانه يخلق الأشياء المتقابلة أو المتضادة بعضها من بعض، فهو يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها أو يبسها، وكما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحيي الناس بالبعث. قال القرطبي: وفي هذا دليل على صحة القياس. أي أنه قاس إحياء الموتى من القبور على إحياء الأرض الميتة بالمطر الذي ينبت النبات الأخضر الزاهي. بعض أدلة الوحدانية والقدرة والحشر [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

الإعراب:

الإعراب: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ.. أَنْ خَلَقَكُمْ: في موضع رفع على الابتداء، والجار والمجرور قبلها خبرها، وتقديره: وخلقكم من تراب من آياته. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ فيه محذوف مقدر تقديره: ومن آياته آية يريكم البرق فيها، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه. ومن النحويين من يجعل تقديره: ومن آياته أن يريكم البرق، كالآيتين المتقدمتين: أَنْ خَلَقَكُمْ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ. دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ جار ومجرور متعلق بمحذوف، إما صفة للنكرة أي دعاكم دعوة كائنة من الأرض، أو في موضع الحال من الكاف والميم في دَعاكُمْ. ولا يجوز أن يتعلق ب تَخْرُجُونَ لأن ما بعد إِذا لا يعمل فيما قبلها. البلاغة: خَوْفاً وطَمَعاً يَبْدَؤُا ويُعِيدُهُ بين كلّ منهما طباق. دَعاكُمْ دَعْوَةً بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَمِنْ آياتِهِ آيات الله تعالى الدالة على قدرته. أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلكم

آدم من تراب. ثُمَّ إِذا هي للمفاجاة. أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ بَشَرٌ من دم ولحم تنتشرون في الأرض، تبتغون من فضل الله. مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً بأن خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطف الرجال والنساء، أو المعنى: أنهن خلقن من جنس الرجال، لا من جنس آخر. لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوها، فإن اتحاد الجنس علة للضم والاجتماع، والاختلاف سبب للتنافر. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي وجعل بين الرجال والنساء أو بين أفراد الجنس مودة ورحمة بواسطة الزواج، بخلاف سائر الحيوانات، تنظيما لأمر المعيشة، قال السّدّي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إن في ذلك المذكور لآيات دالة على قدرة الله، لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى، فيعلمون ما في ذلك من الحكم. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم من عربية وغير عربية. وَأَلْوانِكُمْ من بياض وسواد وغيرهما، وأنتم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، أو اختلاف في تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها وجمالها، بحيث وقع التمايز والتعارف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي لدلالات على قدرته تعالى لذوي العقول وأولي العلم، لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن، كما قال تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت 29/ 43] . مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ منامكم في زماني الليل والنهار، لاستراحة الجسد والنفس والفكر. وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي طلبكم المعاش في الليل والنهار. لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم وتدبر واستبصار واعتبار. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ أي إراءتكم بتقدير. (أن) كقول الشاعر: ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي أو الفعل فيه منزل منزلة المصدر، مثل: «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» أو صفة لمحذوف تقديره: آية يريكم بها البرق. الْبَرْقَ شرارة كهربائية تظهر في الجو نتيجة احتكاك السحب، وينشأ عنها الرعد. خَوْفاً للمسافر من الصواعق. وَطَمَعاً في الغيث للمقيم. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها، وإحياؤها يكون بالإنبات. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لدلالات على قدرته تعالى لقوم يتدبرون، يستعملون عقولهم في كيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته. بِأَمْرِهِ أي بإقامته لهما وإرادته قيامهما في موقعهما المعين من غير مقيم محسوس وجعل السماء من غير عمد ترونها. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة، فيقول: أيتها الموتى اخرجوا، أو بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي تخرجون من القبور أحياء. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا

سبب النزول نزول الآية (27) :

وعبيدا. قانِتُونَ مطيعون منقادون لفعله فيهما، لا يمتنعون عليه. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ خلق الناس. ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد هلاكهم. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي الإعادة أسهل عليه من البدء، بالنظر إلى مفهوم المخاطبين أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه، وإلا فهما عند الله تعالى سواء في السهولة. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلّا الله، أي الوصف بالوحدانية الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه في السموات والأرض، يتصف به دلالة ونطقا. أو له الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة. وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر في ملكه الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال في خلقه على مقتضى حكمته. سبب النزول: نزول الآية (27) : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. المناسبة: بعد بيان الأمر بتنزيه الله تعالى عن جميع النقائص، واستحقاقه الحمد على خلق جميع الأشياء، وبيان قدرته على الإماتة والإحياء، ذكر هنا أدلة التوحيد والوجود والعظمة وكمال القدرة، والحجج المثبتة للبعث والإعادة، مبتدئا بدليل خلق الإنسان من تراب ثم بقاء النوع الإنساني بالتوالد، ثم خلق السموات والأرض ومشاهد الكون، واختلاف ألوان البشر ولغاتهم، ومنامهم بالليل واكتسابهم بالنهار، وتلك أوصاف تعرض للنفوس، ثم عوارض الكون من البرق والمطر والإنبات، ثم خضوع السماء والأرض لإرادته وإذعان الأموات لدعوته بالخروج أحياء من القبور، وأعقب كل ذلك بما هو كالنتيجة لما سبق، من تقرير كمال القدرة على بدء الخلق وإعادته واتصافه بالصفة العليا وهي الوحدانية وجميع الصفات الباهرة كالقدرة التامة والحكمة الشاملة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي ومن آياته تعالى الدالة على عظمته وكمال قدرته على الخلق والإيجاد والإعدام والإفناء بدء خلق الإنسان، فخلق أباكم في الأصل من تراب، وجعل مصدر غذائكم من لحوم الحيوان والنبات من التراب، ثم بعد إنشائكم تعمرون الأرض وتتوزعون فيها لأغراض مختلفة من بناء المدائن والحصون، وزراعة الحقول، والاتّجار بالسفر في البلاد المختلفة لتحصيل الأرزاق، وكسب المعايش، وجمع الأموال، مع اختلاف المواهب والعقول والأفكار، والغنى والفقر، والسعادة والتعاسة. روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك» . ثم ذكر الله تعالى طريق بقاء النوع الإنساني فقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي ومن آياته الدالة على قدرته ورحمته أن خلق النساء لكم من جنس الرجال، وجعل بدء خلق المرأة من جسد الرجل، ليتحقق الوفاق ويكتمل الأنس، وجعل بين الجنسين المودة أي المحبة، والرحمة أي الشفقة ليتعاون الجنسان على أعباء الحياة، وتدوم الأسرة على أقوى أساس وأتم نظام، ويتم السكن والاطمئنان والراحة والهدوء، فإن الرجل يمسك المرأة ويتعلق بها إما لمحبته لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك. إن في ذلك الخلق والإيجاد الأصلي من التراب، وجعل الأزواج من أنفس

الرجال، وتقوية الروابط بينهما بالمودة والمحبة والرحمة والرأفة لدلالة على الخالق الموجد والنعم المتفضل لمن تأمل وفكر في أسباب الحياة، وتحقيق النتائج، وبناء الروابط على وفق الحكمة والمصلحة، والنظام البديع. فأبونا من تراب، وذريته من ماء، والماء من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات وخواص الأرض وكنوزها، ثم جعل الرابطة الزوجية بين الجنسين من تكوين واحد، وطباع واحدة، وغرائز متحدة، ليتحقق السكن إلى المرأة، ويتوافر الميل إليها، ويحدث الهدوء النفسي معها فإن النفس ميالة إلى ما يلائمها، وينسجم معها في الأغراض، نافرة مما يناقضها ويعاكسها في الجملة. وقوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يفسره قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف 7/ 189] . ثم ذكر الله تعالى أدلة أخرى على وجوده وربوبيته وتوحيده وقدرته من الكون العظيم وعظمة تكوين الإنسان، فقال: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته العظيمة ووجوده: خلقه السموات المرتفعة بدون عمد، المزينة بالكواكب والنجوم الثوابت والسيارات، وخلق الأرض بطبقاتها المترعة بالكنوز والمعادن والخيرات، المثبّتة بالجبال، المشتملة على الوديان والقفار، والبحار، والحيوان، والأشجار. ولم يكن ذلك الكون فارغا من المخلوقات، وإنما أوجد فيه الأنس بالناس ذوي الجنسيات المتعددة، واللغات المختلفة، والألوان المتنوعة، والأصوات المتميزة، والسمات والهيئات والتقاطيع المتفاوتة كاختلاف البصمات وغير ذلك من حسن وجمال، وقبح وتفاوت بالرغم من كونهم من أصل واحد وأب واحد وأم واحدة. قال الله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة 75/ 4] .

إن في ذلك المذكور لآيات دالة على تمام القدرة الإلهية لقوم ذوي عقول نافذة، وأفكار مبصرة، وعلوم نافعة تهديهم إلى الحق، وترشدهم إلى التفكير في المخلوقات، وتبين لهم أنها خلقت لحكمة بالغة، ومصلحة راقية، لا عبثا ولا فسادا. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي ومن علامات قدرته ورحمته تعالى التمكين من الراحة من التعب، والهدوء والاستقرار بالليل، والحركة والسعي للرزق والنشاط المتتابع في النهار، إن في ذلك المذكور لدلالات وعبرا لقوم يسمعون سماع اتعاظ وتدبر، ووعي وتفهم للحجج، يؤدي بهم إلى القناعة والاعتقاد الجازم بأن الله قادر على بعث العالم وإعادته. ثم ذكر الله تعالى أدلة من عوارض الأكوان وتقلبات الحياة، فقال: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ومن آياته الدالة أيضا على عظمة قدرته إراءتكم البرق، خوفا للمسافر وغيره من الصواعق المتلفة، وطمعا فيما تحبون من المطر المحتاج إليه لحياة الإنسان والحيوان والنبات، كما قال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم 30/ 24] ، أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج 22/ 5] . إن في ذلك المذكور من الإحياء بعد الموت لبرهانا ساطعا دالا على البعث والمعاد وقيام الساعة، فإن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ

إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي ومن أدلة قدرته ووجوده تعالى قيام السماء بلا عمد، والأرض الكروية الدائرية القائمة في الفضاء بلا وتد، بل بإقامته وتدبيره وإحكامه وتصرفه، كما قال: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد 13/ 2] ، وقال: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج 22/ 65] ، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر 35/ 41] . ثم إنه تعالى يحفظ نظام هذا العالم حتى ينتهي أجل الدنيا، فإذا دعاكم الداعي حينئذ للخروج من قبوركم أحياء خرجتم، كما قال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج 70/ 43] ، وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 52] ، وقال: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] ، وقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس 36/ 53] . والنتيجة الحتمية هي: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي ولله جميع من في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وهم جميعا خاضعون خاشعون لما يريد الله من موت أو حياة، وحركة أو سكون، طوعا أو كرها. روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو الطاعة» . وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي والله تعالى هو الذي بدأ خلق الإنسان من غير أصل سابق له، ثم يميته ويفنيه، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أيسر وأسهل عليه، بحسب تصور البشر المخاطبين وإدراكهم أن

فقه الحياة أو الأحكام:

الإعادة أسهل من البدء، وكل ما ذكر كان تقريبا لعقول الكفرة الجهلة منكري البعث، وإلا فالبدء والإعادة سواء في قدرة الله تعالى، فأهون بمعنى: هيّن لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء. أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة 2/ 116 ومواضع أخرى] ، وأنا الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 3- 4] » . وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وله الصفة العليا الكاملة وهي تفرده بالوحدانية، أي أنه لا إله إلا الله، ولا ربّ غيره، واتصافه بكل صفات الكمال، وتنزهه عن جميع صفات النقصان، وليس كمثله شيء، فلا ندّ ولا شبيه ولا نظير له، وهو القوي في ملكه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، يجري كل شيء في الوجود على وفق علمه وإرادته، ومقتضى حكمته، ونطق كل موجود بأنه الخالق الواحد القادر القاهر فوق عباده، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه. فقه الحياة أو الأحكام: في الآيات ستة أدلة على ربوبية الله تعالى ووحدانيته ونتيجة مقررة لها وهي: 1- الدليل الأول: خلق أصل الإنسان من تراب، والفرع كالأصل. وقد خلق الله تعالى

الإنسان أولا، لا أنه خلقه حيوانا ثم جعله إنسانا، ثم زوده بعد الخلق بطاقات الإدراك والمعرفة والعلم والعقل، فأصبح هناك عقلاء ناطقون يتصرفون في قوام معايشهم، لم يخلقهم عبثا، وإنما لحكمة ورسالة معينة، ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. والتعبير بقوله: بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إشارة بقوله بَشَرٌ إلى القوة المدركة المغايرة للحيوان، وبقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المحركة، وكلاهما من التراب عجيب. وقد خصّ الله تعالى بالذكر عنصري التراب والماء، مع أن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار لأن الحاجة إلى الهواء والنار تكون بعد امتزاج الماء بالتراب، ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء «1» . 2- الدليل الثاني: بقاء النوع الإنساني بالتوالد: دلّ قوله تعالى مِنْ أَنْفُسِكُمْ على أن الله خلق حواء من جسم آدم كما قال بعضهم، والصحيح كما قال الرازي: أن المراد منه من جنسكم، كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] ، ويدل عليه قوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي أن السكن والألفة والاطمئنان لا تتحقق إلا بين متحدي الجنس «2» . وأحاط الله تعالى رباط الزوجية بما يكفل دوامه واستمراره، فجعل النساء موضع سكون قلبي واطمئنان للرجال، وجعل بين الزوجين مودة ورحمة أي محبة وشفقة، كما قال السدّي، وروي معناه عن ابن عباس قال: المودّة: حبّ الرجل امرأته، والرحمة: رحمته إياها أن يصيبها بسوء.

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 108- 110 (2) تفسير الرازي: 25/ 110

والخلاصة: أن الله تعالى حافظ على النوع الإنساني بأمرين: كون الزوج من جنس الرجل، وما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه، فالجنسية توجب السكون، وأحاط السكون بأمرين: المودة والرحمة، والمودة تكون أولا ثم إنها تفضي إلى الرحمة لأن الإنسان يجد بين القرينين الزوجين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام، وليس ذلك بمجرد الشهوة، فإنها قد تنتفي وتزول أو يعصف بها الغضب الكثير الوقوع، وتبقى الرحمة التي هي من الله تعالى، وبها يدفع الإنسان المكاره عن حرمه. 3- الدليل الثالث: دلائل الآفاق والأنفس: وأهمها خلق السموات والأرض، ثم اختلاف الكلام واللغات العديدة في العالم من عربية وغيرها، واختلاف الألوان من البياض والسواد والحمرة، واختلاف الأصوات والصور، ومقاطع الجلد وتقاسيم الوجه وغير ذلك، فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرّق بينه وبين الآخر، وليست هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين، فلا بدّ من فاعل، ولا فاعل إلا الله تعالى. وهذا من أدلّ الأدلة على وجود المدبر البارئ. 4- الدليل الرابع والخامس: العرضيات الطارئة للإنسان: وهي النوم بالليل والحركة طلبا للرزق بالنهار، وإظهار البرق والرعد تخويفا من الصواعق، وطمعا في إنزال الغيث النافع، وإنزال المطر فعلا من السحاب لإحياء الزرع والشجر وإنبات النبات وتغذية منابع الماء ومصادر الثروة المائية. 5- الدليل السادس: إقامة السماء والأرض وإمساكهما بقدرته وتدبيره وحكمته، فيمسك تعالى السماء بغير عمد لمنافع الخلق، كيلا تسقط على الناس، ويحفظ الأرض الدائرة

دعاء الأرق:

المتحركة بأهلها من غير وتد، وفي حال من التوازن، دون تعارض ولا تصادم بينها وبين بقية الكواكب الثابتة والسيارة، حتى ينتهي أجل الدنيا، وحينئذ يحدث البعث، فإن الذي خلق هذه الأشياء قادر على أن يبعث المخلوقات من قبورهم، والمراد من قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا انتظار، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه. 6- النتيجة المقررة لما سبق من إثبات الوحدانية التي هي الأصل الأول، وإثبات القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر: أن لله جميع من في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصرفا، كلّ له طائعون طاعة انقياد، وأن الله تعالى هو مبدئ الخلق وهو معيده مرة أخرى، كما قال: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج 85/ 13] ، والإعادة أمر هيّن على الله، والبدء والإعادة سواء في قدرة الله تعالى. وإذ ثبتت القدرة العظمى لله في كل شيء، وثبتت الوحدانية، فلله الصفة العليا في السموات والأرض: وهي أنه لا إله إلا هو ولا ربّ غيره، وتلك صفة الوحدانية، وأنه متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقصان، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، القوي الغالب الذي لا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، وما أراده جلّ وعزّ كان. دعاء الأرق: إن النوم بفضل الله وتيسيره كما قال: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وقد روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حيّ قيوم، يا حيّ يا قيوم أنم عيني، وأهدئ ليلي» . فالحمد لله الذي جعل راحة الإنسان بفضله وقدرته، لا بالطبيعة والعادة، فلولا إلقاء النوم على الإنسان ليلا أو نهارا، لما تمكن من متابعة جهده وعمله في النهار.

إثبات الوحدانية من واقع البشر [سورة الروم (30) الآيات 28 إلى 29] :

إثبات الوحدانية من واقع البشر [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) المفردات اللغوية: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ جعل لكم أيها المشركون مثلا كائنا منتزعا من أحوال أنفسكم التي هي أقرب الأمور إليكم. والمثل: الصفة الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من مماليككم وعبيدكم. مِنْ شُرَكاءَ لكم. فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فتكونون أنتم وهم فيه سواء في إمكان التصرف فيه، يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم. ومن الأولى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ للابتداء، والثانية: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة: مِنْ شُرَكاءَ مزيدة لتأكيد الاستفهام المقصود به النفي. تَخافُونَهُمْ أي تخافون أن يستقلوا بالتصرف فيه. كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. والمعنى: ليس مماليككم شركاء لكم في أموالكم، فكيف تجعلون بعض مماليك الله شركاء له؟! كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التفصيل نبين الآيات بالتمثيل الموضح للمعاني. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون، يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال. ظَلَمُوا بالإشراك. بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يردعهم شيء. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي فمن يقدر على هدايته؟ والمعنى: لا أحد يهديهم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم من آفاتها، أي: وليس لهم منقذ من قدرة الله. سبب النزول: أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبّيك اللهم

التفسير والبيان:

لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، فأنزل الله: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ. التفسير والبيان: من أسلوب القرآن المتميز تصوير المعنويات بصور المحسوسات، وضرب الأمثال الواقعية تقريبا للأذهان، وإمعانا في الإقناع، وهذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. والقصد من هذا المثل إثبات الوحدانية، وهدم الشرك والوثنية، فقال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ أي جعل الله لكم مثلا تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم، ومنتزع من أحوالكم ومشاعركم التي تسيطر عليكم، وقريبة منكم قربا ملازما، لإثبات وحدانية الله تعالى، والإقلاع عما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام. ذلك المثل: هو هل ترضون أن يكون لكم أيها المشركون شركاء في أموالكم؟ وهؤلاء الشركاء هم عبيدكم يساوونكم في التصرف فيها، وأنتم وهم في المال سواء، تخافون أن يقاسموكم الأموال؟! وإذا كنتم تأنفون من ذلك، ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه، وتجعلون عبيده شركاء له؟! والمعنى المقصود: أن أحدكم يأنف من ذلك أي بأن يساويه عبده في التصرف

فقه الحياة أو الأحكام:

في أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد الأشباه من خلقه؟! وهذا كقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ [النحل 16/ 62] أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات لله، وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى، ظل وجهه مسودا وهو كظيم، فهم يأنفون من البنات وجعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم، فهذا أغلظ الكفر. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي مثل ذلك التفصيل والتبيان في إلزام الخصم الحجة القوية، نفصل الآيات ونوضحها لقوم يستعملون عقولهم ويتأملون فيما يقال لهم ويذكر من الأدلة المنطقية والحجج الإقناعية. بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولكن هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم اتبعوا أهواءهم جهلا منهم، ولم يحكّموا عقولهم، في عبادتهم الأنداد بغير مستند من عقل أو نقل، وساروا على غير هدى ولا علم ولا بصيرة. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي إذا كان أمر هؤلاء الناس المشركين كذلك، فلا أحد يهديهم ويوفقهم إلى الحق، بعد أن اختاروا الكفر، وفقدوا الاستعداد للإيمان، وصار الشرك طبعا لهم، وخلقوا ميالين بالفطرة إليه، والله عالم بهم وبشأنهم قبل خلقهم، فصاروا معتمدين على أنفسهم، ولا ناصر لهم ينقذهم من بأس الله ولا مجير لهم من عذابه وشديد انتقامه إذا أحدق بهم لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الشركة بين المتفاوتين في الدرجة أو الطبقة مرفوضة في واقع الأمر

الأمر باتباع الإسلام دين الفطرة والتوحيد [سورة الروم (30) الآيات 30 إلى 32] :

وعادة الناس، وهي باطلة غير قائمة فعلا بين العبيد والسادة فيما يملكه السادة، وإذا كان الخلق كلهم عبيدا متساوين لله تعالى، فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله. وهذه الآية تنفي جميع محاسن العبادة عن غير الله تعالى، إذ لا ملك لهم فلم يصلحوا للشركة، ولا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم، ولا يرتجى منهم منفعة حتى يعبدوا لنفع، وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد، والعبد المملوك لا يقدر على شيء. 2- إذا ثبت أنه لا يجوز ولا يعقل أن يشارك المملوك مالكه، فلا يجوز أن يكون المخلوقون المملوكون لربهم شركاء له، ولكن الذين أشركوا تجاوزوا هذا المنطق، واتبعوا بعبادتهم الأصنام أهواءهم من غير دليل علمي، وقلدوا فقط الأسلاف في ذلك. 3- هؤلاء المشركون الذين اختاروا الشرك والكفر أضلهم الله، فلا هادي لهم، كما لا هادي لكل من أضله الله تعالى، وهم أيضا مخذولون فاقدو النصرة من أحد، ولا منقذ لهم من قدرة الله، ولا مجير، ولا حيلة لهم بالهرب من عذاب الله ولا محيد لهم عنه. الأمر باتباع الإسلام دين الفطرة والتوحيد [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

الإعراب:

الإعراب: فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب بتقدير فعل، أي اتبع فطرة الله، دل عليه قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي اتبع الدين، أو منصوب على المصدر، تقديره: فطر الله الخلق فطرة، أو منصوب على الإغراء. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ منصوب على الحال من ضمير فَأَقِمْ. وإنما جمع حملا على المعنى لأن الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به أمته، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق 65/ 1] . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا بدل بإعادة الجار، أي بدل من المشركين. البلاغة: فَأَقِمْ وَجْهَكَ من إطلاق الجزء وإرادة الكل، أي توجه إلى الله بكليتك. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي اتبع الدين وأخلص فيه وأقبل على الإسلام واثبت عليه يا محمد ومن تبعك. حَنِيفاً مائلا إلى الاستقامة، تاركا طرق الضلالة. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقة الله التي خلق الناس عليها من الشعور بالعبودية لله تعالى، وقبول الحق وإدراكه. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا ينبغي لأحد أن يغير فطرة الله وخلقه، وليس لكم أن تبدلوا دينه بأن تشركوا. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الدين المأمور باتباعه أو الفطرة بمعنى الملة هو الدين المستقيم أو المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو توحيد الله. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أغلب الناس، مثل كفار مكة حين نزول الوحي لا يعلمون توحيد الله تعالى واستقامة الدين، لعدم تدبرهم وتفكرهم. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل، والتزام ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. وَاتَّقُوهُ أي أقيموا الدين واتبعوه وخافوا الله لأن الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والأمة معه، غير أن الآية صدرت بخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له. فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقرئ: فارقوا، اي تركوا دينهم الذي أمروا به. شِيَعاً فرقا، تشايع كل فرقة إمامها الذي قرر لها دينها وأصّله، أي وضع أصوله. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل حزب منهم بما عندهم مسرورون.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية على كل شيء ومنه الحشر والبعث، وبعد توطين عزيمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الاعتزاز بدعوته وعدم الاهتمام بموقف المشركين منها، وترك الالتفات إليهم، أمر الله تعالى بمتابعة دين الإسلام، والثبات عليه، والإخلاص في العمل الذي اشتمل عليه لأنه فطرة الله التي أودع النفوس والعقول عليها، والاعتراف بمضمونها، والشعور الصافي بمدلولها. التفسير والبيان: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي إذا تبين الحق في الاعتقاد والدين بدلائله السابقة، وبطل الشرك ومعالمه، فاتبع الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، التي هداك الله لها، وأكملها لك، وهو دين الفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه خلقهم على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره، وكن بذلك مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر لأمته أيضا. وتلك الفطرة كما قال تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] وكما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم وأحمد: «إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» وفي حديث آخر رواه البخاري ومسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء «1» ، هل تحسّون فيها من جدعاء «2» » . فكل من الآيتين والحديثين دليل على نقاوة أصل الخلق، وأن الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وعلى الإسلام الصافي، ثم طرأ على بعضهم الأديان

_ (1) مستوية كاملة لا نقص في شيء من بدنها. (2) جدعاء: مقطوعة الأذن أو الأنف.

الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية. وقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وقدر فعل الخطاب للجماعة لقوله: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا ينبغي لأحد أن يبدّل أو يغير فطرة الله أي الخلقة الأصلية والملة السليمة، وهو خبر في معنى النهي أو الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله ودينه بالشرك، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها. وهذا دليل على سلامة الخلقة العقدية، ونقاوة العقل البشري في أصل التكوين والوجود، ثم يحدث التغيير بتأثيرات البيئة من أهواء وعلوم ومعارف زائغة، وموروثات باطلة وتقليد مستمر للأسلاف، دون إعمال الفكر وتكوين الاعتقاد بالنظرة المستقلة الصائبة، ولو ترك الإنسان وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا لأنه دين الفطرة والعقل. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي ذلك المأمور به من اتباع ملة التوحيد والتمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف. غير أن أكثر الناس لا يعرفون ذلك حق المعرفة، فهم ناكبون عنه، لعدم إعمال فكرهم والإفادة من العلم الصحيح والبراهين الواضحة الدالة عليه، ولو فكروا وعقلوا وعلموا حق العلم، لما عدلوا عن ملة التوحيد وشريعة الإسلام وهديه. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي اتبعوا دين الله، مقبلين عليه، راجعين إليه، وإذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته، بل خافوه وداوموا على العبادة، وراقبوه فلا تفرطوا في طاعة، ولا ترتكبوا معصية، وأقيموا الصلاة، أي داوموا على إقامتها كاملة

الأركان مستوفية الشروط، قائمة على الخشوع وتعظيم الله عز وجل، ولا تكونوا بعد الإيمان من المشركين به غيره، فلا تقصدوا بذلك غير الله، أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة، لا يريدون بها سواه، والعبادة الخالصة هي كما جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن عمر: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي مريم قال: مرّ عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل، فقال عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهن المنجيات: الإخلاص، وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. وأوصاف المشركين هي: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي من المشركين الذين فرقوا دينهم أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، وبدلوا دين الفطرة وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وصاروا فرقا مختلفة كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة، كل فرقة منهم تفرح بما عندها وتسر وتعجب، وتزعم أن الصواب في جانبها، مع أنهم على الباطل الذي يناقض الحق الذي أراده الله واختاره دينا لعباده. وهذا يشمل أيضا اختلاف الأمة الإسلامية، اختلفوا بينهم على مذاهب شتى في الاعتقاد والعمل، كلها ضلالة، إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، كما روى الحاكم في مستدركه أنه سئل صلّى الله عليه وسلّم عن الفرقة الناجية منهم، فقال: «من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . وقرئ: «فارقوا دينهم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الإسلام دين الفطرة والتوحيد، فهو دين يلائم أصل الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها. وفطرة الله هي التوحيد، فإن الله خلق الناس موحدين مقرين بوجود ربهم وبوحدانيته، حيث أخذهم من ظهر آدم في عالم الذر، وسألهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فقالوا: بَلى [الأعراف 7/ 172] . 2- أمر الله تعالى باتباع دين الفطرة النقية لأنه دين التوحيد، والدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو دين الإسلام، وحذر من تبديله وتغييره، فلا يصح تبديل دين الله، قال البخاري: قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: لدين الله، خلق الأولين، دين الأولين، الدين والفطرة: الإسلام. كما حذر الله تعالى من الميل لأي دين آخر غير ملة الإسلام، بقوله: حَنِيفاً معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة. 3- إن أكثر الناس لا يتفكرون، فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه، وأن الإسلام هو الدين المستقيم. 4- أمر الله تعالى بالإنابة إليه، أي بالرجوع إليه بالتوبة والإخلاص، والإقبال عليه، وإطاعته، والتوبة إليه من الذنوب. وأمر أيضا بالتقوى، أي بالخوف من الله وامتثال ما أمر به، وبإقامة الصلاة تامة كاملة مشتملة على الخشوع ومحبة الإله المعبود، وحذر من اقتران العبادة بالشرك، فأبان أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص، فلذلك قال:

سوء حال بعض الناس بالرجوع إلى الله أحيانا ثم الشرك والنكول [سورة الروم (30) الآيات 33 إلى 37] :

وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمراد إخراج العبد عن الشرك الخفي، أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله. 5- لقد غيّر الناس دين الفطرة، وجعلوا أديانا وآراء متناقضة، وذلك يشمل المشركين: عبدة الأوثان، واليهود والنصارى، والمسلمين أهل القبلة أصحاب الأهواء والبدع، كل حزب بما عندهم مسرورون معجبون لأنهم لم يتبينوا الحق، وعليهم أن يتبينوه. سوء حال بعض الناس بالرجوع إلى الله أحيانا ثم الشرك والنكول [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) الإعراب: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً سُلْطاناً: قيل: هو جمع (سليط) كرغيف ورغفان، وقفيز وقفزان، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، فمن ذكّر فعلى معنى الجمع، ومن أنثه فعلى معنى الجماعة. والأصح أن السلطان: الحجة، وتكلّمه مجاز كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الدلالة. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ.. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إِنْ: شرطية، وجوابها قوله: إِذا

البلاغة:

بمنزلة الفاء، وصارت إِذا بمنزلة الفاء لأنها لا يبتدأ بها، كما لا يبتدأ بالفاء، بسبب أنها للمفاجاة. وإنما يبتدأ ب (إذا) إذا كان فيها معنى الشرط. وتُصِبْهُمْ: مبتدأ، ويَقْنَطُونَ: خبره. وإِذا خبر آخر، تقديره: وبالحضرة هم قانطون. البلاغة: يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. فَتَمَتَّعُوا التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة. المفردات اللغوية: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ أي المشركين كفار مكة وأمثالهم. ضُرٌّ شدة وبلاء. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه دون غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خلاصا من تلك الشدة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام العاقبة أو الصيرورة، مثل آية لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] وقيل: للأمر بمعنى التهديد. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم. أَمْ بمعنى همزة الإنكار. سُلْطاناً حجة وكتابا. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلم دلالة، فهو مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، ومعناه الدلالة والشهادة، كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته. بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي يأمرهم بالإشراك. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ فئة من الكفار. رَحْمَةً نعمة من صحة وسعة. فَرِحُوا بِها فرح بطر، أي بطروا بسببها. سَيِّئَةٌ شدة. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بشؤم معاصيهم. يَقْنَطُونَ ييأسون من الرحمة. ومن شأن المؤمن أن يشكر عند النعمة، ويرجو عند الشدة. أَوَلَمْ يَرَوْا أولم يعلموا. يَبْسُطُ يوسع. لِمَنْ يَشاءُ امتحانا. وَيَقْدِرُ يضيق لمن يشاء ابتلاء. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بربهم، فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة. المناسبة: بعد بيان التوحيد والاستدلال عليه عقلا وبالمثال، أبان الله تعالى حال فئتين من الناس: الأولى- بعض المشركين الذين يتضرعون إلى الله وقت الشدة، ويشركون به الأوثان والأصنام وقت الرخاء. والثانية- بعض الكفار أو

التفسير والبيان:

المشركين غير المذكورين سابقا الذين تكون عبادتهم الله للدنيا، إن أوتوا منها رضوا، وإن منعوا منها سخطوا وقنطوا. التفسير والبيان: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي إذا أصاب الناس عادة شدة أو بلاء من مرض أو قحط أو تعرض للخطر في جو أو بحر أو بر ونحو ذلك من حالات الاضطرار، لجؤوا إلى الله يدعونه وحده لا شريك له، وتضرعوا إليه واستغاثوا به مقبلين عليه، راجعين إليه، حتى إذا كشف عنهم البلاء وأسبغ عليهم النعمة، فاجأ فريق منهم في حالة الاختيار، يشركون بالله، ويعبدون معه غيره من الأوثان والأصنام. فهم انتهازيون نفعيون يؤمنون بالله، ويدعونه دون سواه وقت المصلحة أو الحاجة الشديدة، ثم يتنكرون لربهم، ويعرضون عنه حال السراء والرخاء، بل ويشركون به سواه، وهذا مبعث العجب والاستغراب. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام لام العاقبة، أي ليؤول أمرهم إلى الكفر بنعمة الله، وجحود فضله وإحسانه. ورأى بعضهم أن الفعل فعل أمر للتهديد، كما في قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] وكالأمر بعده: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ الأمر للتهديد، كما في قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] أي استمتعوا أيها المشركون بمتاع الدنيا ورخائها، فمتاعها قصير زائل، فسوف تعلمون عقابي وشدة عذابي في الآخرة على كفركم في الدنيا. قال بعضهم: والله لو توعدني حارس درب، لخفت منه، فكيف والمتوعّد هاهنا هو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ؟!

ثم أنكر الله تعالى على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة، فقال: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي أأنزلنا عليهم في عبادة الأوثان حجة وكتابا فيه تقرير ما يفعلون، وينطق أو يدل ويشهد بشركهم؟! وهذا استفهام إنكاري معناه أنه لم يكن شيء من ذلك، فلم ينزل الله عليهم كتابا بما يقولون، ولا أرسل رسولا، وإنما هو شيء اخترعوه، وفي ضلالتهم يترددون. وبعد ان بيّن الله تعالى حال المشرك الظاهر شركه، بيّن حال المشرك الذي دونه، وهو من تكون عبادته الله للدنيا، فإذا آتاه منها رضي، وإذا منعه سخط وقنط، فقال: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي إذا أنعم الله على بعض الناس نعمة بطر بها، كما قال: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود 11/ 10] أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره وإذا أصابته شدة أو شر قنط وأيس من رحمة الله وسخط لأن إصابته بالسيئة كان بسبب شؤم معصيته. ويلاحظ أنه تعالى لم يذكر عند النعمة سببا لها لتفضله بها، وذكر عند العذاب سببا تحقيقا للعدل. وهذا إنكار على الإنسان وطبيعته، لكن في آية أخرى عقب آية هود المتقدمة استثنى تعالى المؤمنين الصابرين فقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود 11/ 11] أي الذين صبروا في الضراء وعملوا الصالحات، كما ثبت في الصحيح عند أحمد ومسلم عن صهيب: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم نبههم تعالى إلى ما يطرد اليأس والقنوط، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي ألم يعلموا ويشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا، بغض النظر عن وجود صفة الكفر، ويضيق الرزق على من يشاء ابتلاء، ولو مع وجود الإيمان وصالح الأعمال، فالله هو المتصرف الفاعل للأمرين بحكمته وعدله، يوسع على قوم، ويضيق على آخرين، دون نظر إلى صفتي الإيمان والكفر لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والمؤمن: هو الراضي بقضاء الله وقدره، ولا ييأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي إن في ذلك المذكور من سعة الرزق وإقتاره لدلالة واضحة على الإيمان الصادق، وحجة للمؤمن المصدق بوحدانية الله وقدرته تجعله يفوض الأمر إلى الله وحده. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- إن حال فريق من المشركين أو الكفار مدعاة للعجب، فهم يتركون الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم، وتراهم لا يثبتون على وتيرة واحدة، فإذا مسّهم ضرّ من مرض أو شدة، دعوا ربهم، أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم، وأقبلوا عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها، وإذا أنعم الله عليهم بنعمة أو عافية أشركوا به في العبادة. 2- إن مصير هؤلاء هو ملازمة الكفر، وقد هددهم الله وأوعدهم على تمتعهم بمتاع الدنيا، ثم يجدون جزاءهم العادل في عالم الآخرة. 3- لا حجة ولا برهان للكافرين على كفرهم، فالله لم ينزل عليهم في شأن

الترغيب بالنفقة وأنواع العطاء وضمان الرزق وإثبات الحشر والتوحيد [سورة الروم (30) الآيات 38 إلى 40] :

إقرار كفرهم كتابا ولا أرسل رسولا، ولم يسوغ ذلك في أي وثيقة يعتمدون عليها. 4- أنكر الله تعالى على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه ووفقه، حيث إنه يفرح ويبطر حال الخصب والسعة والعافية وغيرها من النعم، وييأس ويقنط من الرحمة والفرج حال البلاء والعقوبة، بما عمل من المعاصي. أما المؤمن فيشكر عند الرخاء، ويصبر عند البلاء. 5- الله تعالى وحده هو المتصرف في أرزاق العباد، فيوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق، على وفق الحكمة والعدل، فلا يصح أن يكون الفقر سببا للقنوط، ولا ينبغي أن يكون الغنى سببا للبطر، فكل من الغنى والفقر من الله تعالى، وعلى المؤمن الموحد تفويض أمر الرزق إلى الله سبحانه. الترغيب بالنفقة وأنواع العطاء وضمان الرزق وإثبات الحشر والتوحيد [سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) البلاغة: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. سجع مرصّع.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أعط القريب حقه من صلة الرحم والبرّ به، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم. وَالْمِسْكِينَ هو المحتاج وهو المعدم الذي لا مال له. وَابْنَ السَّبِيلِ المسافر المحتاج إلى المال، وإيتاؤهما: إعطاؤهما ما وظّف لهما من الزكاة. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمته تبع له في ذلك. لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ثوابه بما يعملون أو ذاته أو جهته قاصدين إياه بمعروفهم خالصا. الْمُفْلِحُونَ الفائزون. وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً أي ما فعلتم من ربا، وهو الزيادة، والمراد بها الهبة أو الهدية التي يقصد بها الوصول إلى أكثر منها. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ المعطين أي يزيد. فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لا يزكو عنده، ولا يبارك فيه، ولا ثواب فيه للمعطين. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي صدقة. الْمُضْعِفُونَ ثوابهم بما أرادوه، أي يضاعف الله لهم الثواب، مأخوذ من (أضعف) إذا صار ذا ضعف. المناسبة: لما ذكر الله تعالى أنه هو الباسط الرازق لمن يشاء والقابض له، وجعل في ذلك آية للمؤمن، أردفه بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان لذوي الحاجة، فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق، وإذا قدر وقتّر لا يزداد بالإمساك، ولأن من الإيمان الشفقة على خلق الله من قريب أو مسكين وابن سبيل. التفسير والبيان: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يأمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء، فيقول: فأعط أيها الرسول ومن تبعك من أمتك المؤمنين ذوي القرابة حقهم من صلة الرحم والبرّ بهم والإحسان إليهم لأنهم جزء من رابطة الدم والنسب، فكانوا أحق الناس بالتواصل والتزاور والشفقة، وأعط الحق أيضا للمسكين الذي لا شيء له ينفق عليه، أو له شيء لا يقوم بكفايته، ومثله المسافر البعيد عن ماله المحتاج إلى نفقة وحوائج السفر. وسرعة المواصلات لا تستأصل حاجة هذا المسافر، وإنما تقلل من المبلغ المالي الذي يحتاج إليه.

وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. والظاهر أن الحق ليس الزكاة، وإنما يصير حقا بالإحسان والمواساة. وقدم ذا القربى على المسكين وابن السبيل للاهتمام به لأن بره صدقة وصلة. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي إن الإيتاء أو الإعطاء لمن ذكر خير في ذاته لمن يقصدون بعملهم وجه الله خالصا، أي يطلبون ذاته أو جهته أو ثوابه ورضوانه يوم القيامة، دون أن يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة وشهرة، وأولئك هم المفلحون الفائزون في الدنيا والآخرة. وكون هذا الإعطاء خيرا لأنه سبب لتكافل الأسرة وتعاون المسلمين فيما بينهم، وفي التكافل والتعاون قوة وتوادد وتراحم وتآزر، وتخلص من أمراض الفقر والتمزق والحقد والحسد. ثم ذكر نوعين من أنواع العطاء: أحدهما حسن مقبول عند الله والآخر قبيح مبغوض عند الله، أما القبيح فهو الربا، وأما الحسن فهو الزكاة، والقبيح هو المذكور في قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم، فلا ثواب له عند الله، كما قال تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر 74/ 6] أي لا تعط عطاء تريد أكثر منه، وهذا حرام على النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخصوص، حلال على غيره، لكن لا ثواب فيه. قال ابن عباس: الربا نوعان: ربا لا يصح، وهو ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ.

وروي مثل ذلك عن عكرمة والضحاك ومجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي. وأما العطاء الحسن الذي يثاب عليه صاحبه فهو الزكاة كما قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي ومن أعطى صدقة يقصد بها وجه الله وحده خالصا، فله الثواب المضاعف والجزاء الأفضل عند الله تعالى، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة 2/ 245] وقال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد 57/ 11] وجاء في الحديث الصحيح: «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، فيربيها لصاحبها، كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله، حتى تصير التمرة أعظم من أحد» «1» الجبل المعروف في المدينة. ثم أكد الله تعالى ما سبق بأن الزيادة والنماء داخل في رزق الله المحدد لكل إنسان، فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي الله هو الخالق الرازق الذي يرزق الإنسان من الميلاد إلى الوفاة، ثم هو المميت بعد هذه الحياة، ثم هو المحيي يوم القيامة للحشر والبعث. هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ أي هل من آلهتكم الذين تعبدونهم من دون الله من يفعل من ذلكم شيئا، أي من الخلق أو الرزق أو الإماتة أو الإحياء؟! لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة، لهذا قال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله وتقدس وتعاظم عن أن

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحة عن أبي هريرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد. وأضاف الشركاء إلى عبدة الأصنام لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء، ويجعلون لهم من أموالهم. ويلاحظ أنه تعالى جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين: الحشر والتوحيد، أما الحشر فبقوله: يُحْيِيكُمْ بدليل قدرته على الخلق في ابتداء الخليقة، وأما التوحيد فبقوله: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- يأمر الله تعالى بصلة الأقارب ذوي الأرحام، وبمساعدة المسكين وابن السبيل، وقد فضّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة، وقد أعتقت وليدة (أمة رقيقة) : «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» . والأصح أن الآية ليست منسوخة بآية المواريث، فللقريب حق لازم في البرّ على كل حال، ومعاونة المحتاجين من الفقراء والمنقطعين في الأسفار عن الوصول لبلادهم من مظاهر البرّ والخير في الإسلام. وفسر ابن عباس الْمِسْكِينَ فقال: أي أطعم السائل الطوّاف، وابْنَ السَّبِيلِ بأنه الضيف، فجعل الضيافة فرضا. واستدل أبو حنيفة كما بينا بالآية على وجوب النفقة للمحارم المحتاجين. 2- إن إعطاء الحق المقرر شرعا لمن ذكر أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه، وفاعلوه هم المفلحون الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة. 3- إذا كان العطاء بقصد التوصل إلى الزيادة والأفضل فهو حرام على

جزاء المفسدين والكافرين وجزاء المؤمنين [سورة الروم (30) الآيات 41 إلى 45] :

النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، مباح لأمته، وإن كان لا ثواب فيه. وهذا هو الربا الحلال أو هبة الثواب. أما الربا الحرام شرعا الذي يمحقه الله، وإثمه كبير فهو ربا البيع وربا القرض، وهو إعطاء الشيء وأخذ بدل عنه بشرط في العقد، أو عمل بالعرف السائد. 4- إذا كان العطاء صدقة أو زكاة بقصد إرضاء الله وابتغاء الثواب من عنده، فله ذلك عند الله بفضله ورحمته. والعطاء لحق القرابة وصلة الرحم يكون لوجه الله. أما إذا كان العطاء رياء وسمعة ليحمده الناس ويثنوا عليه من أجله، فلا ثواب فيه في الدنيا، ولا أجر في الآخرة قال الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [البقرة 2/ 264] . 5- «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» فلا يبارك الله في المأخوذ من الآخرين مقابل الهدية أو الهبة ولا ينمو ولا ثواب فيه عند الله تعالى، وأما المعطى بقصد رضوان الله، فذلك الذي يقبله الله، ويضاعف ثوابه عشرة أضعافه إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإن فضل الله لا يحد ولا ينحصر ويمنح من يشاء. 6- الله تعالى هو القادر على البعث والحشر، كما خلقنا أول مرة، وهو الإله الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له، الخالق الرازق المميت المحيي، المنزه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والولد. ولن تستطيع الآلهة المزعومة سواه شيئا من أفعاله السابقة كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. جزاء المفسدين والكافرين وجزاء المؤمنين [سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 45] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

البلاغة:

البلاغة: الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بينهما طباق. بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ مجاز مرسل بإطلاق الجزء وهو الأيدي وإرادة الكل. فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ استعارة، شبه القائم بالأعمال الصالحة بمن يمهد فراشه ويعدّه للنوم عليه، توفيرا للراحة والسلامة. المفردات اللغوية: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الفساد: الخلل في الأشياء، كالجدب والقحط وقلة النبات، وكثرة الحرق والغرق وأخذ المال ظلما وكثرة المضار وقلة المنافع. والبر: الجزء اليابس من الأرض. والبحر: الجزء المائي، والمراد: في أهل البر سكان القرى والمدن والفيافي، وأهل البحر سكان السواحل، وركاب البحار. بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بسبب معاصيهم وذنوبهم لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي أن الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ليذيقهم وبال بعض أعمالهم وعقوبته في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه ويتوبون. واللام: للتعليل أو للعاقبة. قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي قل يا محمد لكفار قريش وأمثالهم، تأملوا فيما حدث في الأرض، لتشاهدوا مصداق ذلك، وتتحققوا صدقه. كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشوّ الشرك فيهم. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أي وجّه نفسك للعمل بالدين المستقيم، البليغ الاستقامة وهو دين الإسلام. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أي قبل يوم القيامة الذي لا يقدر أن يرده واحد فلا راد له ولا مانع منه. مِنَ اللَّهِ متعلق بفعل يَأْتِيَ ويجوز تعلقه بقوله مَرَدَّ على معنى: لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئة. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدعون، أي يتفرقون بعد الحساب، فريق في الجنة، وفريق في السعير. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فعليه وبال كفره وهو النار المؤبدة. يَمْهَدُونَ يوطئون منزلهم ويسوونه في الجنة. لِيَجْزِيَ علة ليمهدون، أو ليصدعون، متعلق به. والاقتصار على

المناسبة:

جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات. مِنْ فَضْلِهِ أي يثيبهم من فضله، وهذا دليل على أن الإثابة تفضل محض. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي يعاقبهم. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى سوء حال المشركين، والشرك سبب الفساد، بدليل قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] ذكر أن الفساد قد ظهر بين الناس، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال، وفشا الظلم، وكثرت الحروب، ثم نبههم وأمرهم بالمسير في الأرض، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم، فإن الله تعالى أهلك قوما بسبب الشرك، وقوما بسبب المعاصي، والإهلاك قد يكون بالشرك، وقد يكون بالمعاصي، ثم أمر تعالى رسوله بالثبات في الدين الحق قبل مجيء الحساب الذي يتفرق فيه الناس: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كفر فعليه وبال كفره، ومن آمن وعمل صالحا فقد أعد لنفسه المهاد الذي يستريح عليه. التفسير والبيان: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عمّ العالم ظهور الخلل والانحراف، وكثرة المضار وقلة المنافع ونقص الزروع والأنفس والثمرات، وقلة المطر وكثرة الجدب والقحط والتصحر، بسبب شؤم معاصي الناس وذنوبهم، من الكفر والظلم، وانتهاك الحرمات، ومعاداة الدين الحق، وعدم مراقبة الله عز وجل في السر والعلن. والاعتداء على الحقوق وأكل مال الغير بغير حق، ليذيقهم الله جزاء بعض عملهم وسوء صنيعهم من المعاصي والآثام، وحينئذ ربما يرجعون عن غيهم ومعاصيهم، كما قال تعالى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف 7/ 168] .

ثم هدد الله تعالى على ظهور الفساد بالعقاب كعقاب الأمم السابقة، فقال: قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي قل أيها الرسول للمفسدين والمشركين: سيروا في البلاد، وتأملوا بمصير من قبلكم، وكيف أهلك الله الأمم المتقدمة، وأذاقهم سوء العذاب بسبب كفرهم وسوء أعمالهم، وانظروا ما حلّ بهم من تكذيب الرسل وكفران النعم، وأن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر، وكان أيضا بغير الشرك كالإهلاك بالفسق والمخالفة، كما فعل بأصحاب السبت الْيَهُودُ. قال في الكشاف: دل بقوله: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأن ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك «1» . فسبب عذابهم في الغالب هو كفرهم بآيات ربهم وتكذيبهم رسله، وهو تعليل لما سبق، فهو دليل على تعليل الأحكام، وعلى التزام ظاهرة العدل في العقاب الإلهي. وبعد بيان ظاهرة الشرك والانحراف والفساد وبيان عاقبتها، وبعد نهي الكافر عما هو عليه، ذكر تعالى ما يقابلها من حال الاستقامة، وأمر المؤمن بما هو عليه، فقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي بادر أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين إلى الاستقامة في طاعة الله، وبادر إلى الخيرات، ووجه نفسك كلها وبإخلاص للعمل بالدين المستقيم، البليغ الاستقامة، وهو دين الإسلام من قبل مجيء يوم القيامة الذي لا رادّ له ولا مانع منه، فلا بد من وقوعه لأن الله كتب مجيئه وقدّره، وما قدّره وأراد حدوثه فلا راد له ولا بد أن يكون.

_ (1) الكشاف 2/ 511

ذلك اليوم الذي يتفرق فيه الناس بحسب أعمالهم، ففريق في الجنة، وفريق في السعير. ثم بين الله تعالى أن جزاء كل فريق بحسب عمله ونتيجة فعله، فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي من كفر بالله وكتبه ورسله، وكذب باليوم الآخر، فعليه وبال كفره ووزره وإثمه وعاقبته، ومن آمن بالله وكتبه ورسله وبالبعث، وعمل الأعمال الصالحة، فأطاع الله فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه، فقد أعدّ لنفسه الفراش الوطيء الوثير المريح، والمسكن الفسيح، والقرار الدائم. وإنما قال: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً ولم يقل: ومن آمن لأن العمل الصالح المقبول لا يكون إلا بعد الإيمان، ولأن بالعمل الصالح يكمل الإيمان، فذكره تحريضا للمكلف عليه، وأما الكفر إذا حدث فلا زنة للعمل معه. وسبب التفرقة في الجزاء هو ما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي أنا المجازي فكيف يكون الجزاء؟ وأنهم يتفرقون فريقين فكيف يجازون؟ إنني أجازي المؤمنين الذين يعملون الصالحات بفضلي وإحساني، فالمجازاة مجازاة الفضل، فأكافئ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى ما شاء الله، وأما الكافرون فإن الله يبغضهم ويعاقبهم، ولكنه عقاب عادل لا يجور فيه، وهذا تهديد ووعيد. ودل قوله: مِنْ فَضْلِهِ على أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، لقلته وحقارته، ولكن بمحض فضل الله تعالى. ويلاحظ أنه عند ما أسند الله تعالى الكفر والإيمان إلى العبد المخلوق، قدّم الكافر، فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وعند ما أسند الجزاء إلى نفسه، قدم

فقه الحياة أو الأحكام:

المؤمن، إظهارا للكرم والرحمة، فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لأنه تهديد ووعيد. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يلي: 1- انتشار ظاهرة الفساد والانحراف في العالم، من الشرك أعظم الفساد، والقحط وقلة النبات وذهاب البركة، والمعاصي وقطع السبيل والظلم وغير ذلك من الآثام والذنوب. والعالم هو البر والبحر المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس، لا ما قاله بعض المفسرين: البر: الفيافي، والبحر: القرى، والعرب تسمي الأمصار البحار. 2- إن ظهور الفساد سبب للدمار والهلاك في الدنيا، والعقاب في الآخرة، وعقاب الدنيا على المعاصي التي عملها بعض الناس في البر والبحر، كحبس الغيث وغلاء الأسعار، وكثرة الحروب، والفتن والقلاقل، قد يكون باعثا على التوبة، وحافزا على الرجوع إلى الله والاستقامة على الطاعة، واجتناب الذنوب والمنكرات. 3- على الناس قديما وحديثا أن يعتبروا بمن قبلهم من الأمم السابقة، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل، وقد كان أكثرهم مشركين أي كافرين فأهلكوا. 4- النبي والمؤمنون مخاطبون بتوجيه القصد والعزيمة إلى اتباع الدين القيم، يعني الإسلام، في دار التكليف دار الدنيا، قبل مجيء يوم القيامة الذي لا يردّه الله عنهم ولا عن غيرهم، وليس لأحد دفعه أو منعه، لعجزه عن ذلك أمام قدرة الله وقدره وقضائه السابق.

الاستدلال بالرياح والأمطار على قدرة الله وتوحيده [سورة الروم (30) الآيات 46 إلى 51] :

وخاطب الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به، فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إن الله أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين» . 5- يتفرق الناس يوم القيامة فريقين بحسب أعمالهم: فريق في الجنة، وفريق في السعير. 6- للكافر جزاء كفره وهو النار، وللمؤمن الذي عمل صالحا الجنة، وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوطّئون أو يقدمون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح. 7- اقتضت رحمة الله أن يجزي الله من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذي يمهّدون لأنفسهم، ليتميز المسلم من الكافر، وكل إنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، لا بعمله، حتى الأنبياء. كذلك كان مقتضى العدل أن يجازى الكافرون ويعاقبوا على كفرهم ومعاصيهم إذ لا يعقل التسوية بين المسلمين والكافرين كما قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [القلم 68/ 35- 38] . الاستدلال بالرياح والأمطار على قدرة الله وتوحيده [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 51] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

الإعراب:

الإعراب: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ تكرار قَبْلِ إما للتأكيد، وإما مع اختلاف التقدير والضمير، أي: وإن كانوا من قبل أن ينزل الغيث عليهم من قبل السحاب لمبلسين، والضمير يعود إلى السحاب في قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً والسحاب يجوز تذكيره وتأنيثه. فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، الهاء يعود إلى الزرع الذي دل عليه. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أو إلى السحاب، وإذا أريد به الزرع فسبب تذكير الضمير: أن تأنيث الرحمة غير حقيقي. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في موضع نصب على الحال، حملا على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام، والحال خبر، والتقدير: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها. البلاغة: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بأسلوب الإطناب، فإنه أسهب تذكيرا للعباد بالنعم الكثيرة، وكان يكفي الجملة الأخيرة. ْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا فيهما جناس الاشتقاق. اؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا فيه إيجاز بالحذف، حذف منه: فكذبوهم واستهزءوا بهم. المفردات اللغوية: الرِّياحَ أي رياح الخير والرحمة وهي الشمال والصبا والجنوب، وأما الدّبور فريح العذاب، قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» . مُبَشِّراتٍ تبشر بالخير وهو

المناسبة:

المطر. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ليذيقكم بها المطر والخصب أي المنافع التابعة لها. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ السفن بها بإذنه. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا الرزق من فضل الله بالتجارة في البحر. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله فيها، فتوحدوه. اؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات على صدقهم في رسالتهم إليهم، فكذبوهم. نْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أهلكنا الذين كذبوا، ودمرنا الذين فعلوا جرما. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ على الكافرين بإهلاكهم وإنجاء المؤمنين. وهو إشعار بأن الانتقام لصالح المؤمنين وإظهار كرامتهم، حيث جعلهم الله مستحقين لديه أن ينصرهم، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني وغيره عن أبي الدرداء: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم» ثم تلا الآية. فَتُثِيرُ أي تحرك وتهيج. فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ ينشره متصلا بعضه ببعض. كَيْفَ يَشاءُ من قلة وكثرة، كِسَفاً قطعا متفرقة، وقرئ بسكون السين، تخفيفا. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ وسطه. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أصاب بالودق بلادهم وأراضيهم. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالمطر أمارة الخصب. مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر. مِنْ قَبْلِهِ كرره للتأكيد والدلالة على طول زمن تأخر المطر. لَمُبْلِسِينَ آيسين من إنزاله. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ آثار الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار، وقرئ: إلى أثر. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها، بأن يجعلها تنبت، وقرئ: تحيي بإسناده إلى ضمير الرحمة. لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أن قدرته على جميع الممكنات سواء. وَلَئِنْ اللام لام القسم. أَرْسَلْنا رِيحاً مضرة على نبات. فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع، وقد صار جواب القسم. مِنْ بَعْدِهِ من بعد اصفراره. يَكْفُرُونَ يجحدون النعمة بالمطر، وقوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب سد مسد جزاء الشرط، وحرف الشرط هو (إن) في قوله وَلَئِنْ. المناسبة: بعد وصف ظاهرة الفساد في العالم بسبب الشرك والمعاصي، أقام الله تعالى الأدلة القاطعة على وحدانيته بإرسال الرياح والأمطار، وعلى البعث والنشور وعلى قدرته ورحمته بإحياء الأرض بعد موتها، وتخلل ذلك التسرية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس أول من كذبه الناس، فقد تقدمه رسل كثيرون جاؤوا أقوامهم بالبينات فكذبوهم، فانتقم الله منهم بالتدمير والهلاك، فلا يجزع ولا يحزن، والنصر دائما في جانب المؤمنين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يذكر الله تعالى نعمه وفضله على خلقه بإرساله الرياح مبشرات بمجيء الغيث، فقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ومن أدلة وحدانيته تعالى وقدرته ونعمته وآياته الكونية أنه المهيمن على كل شيء في الوجود، فيرسل الرياح مبشرة بالخير والبركة ونزول المطر الذي يحيي الأرض بعد يبسها، وينبت الزرع ويخرج الثمر، وليذيق الناس من آثار رحمته بالمطر الذي ينزله، فيحيي به العباد والبلاد، ولتسيير السفن في البحار بالريح، وللتمكين من ممارسة التجارة والتنقل في البلاد والأقطار للكسب والمعيشة ولشكر الله تعالى على ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم 14/ 34] . ثم سلّى الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ أي إن كذبك كثير من قومك أيها الرسول، فلست أول من كذّب، فلقد كذّبت الرسل المتقدمون بالرغم مما جاؤوا به أممهم من الدلائل الواضحات على أنهم رسل من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، فانتقم الله ممن كذبهم وخالفهم، ونجّى المؤمنين الذين صدقوا بالله ورسله، وما جرى على النظير يجري على نظيره قياسا عقليا وشرعيا، فسيكون الانتقام من كفرة قومك كالانتقام ممن تقدمهم. والخلاصة: أن الله تعالى بعد إثبات الأصلين: الوحدانية والبعث، ذكر الأصل الثالث وهو النبوة. ثم أخبر الله تعالى عن مبدأ عام وهو تأييد المؤمنين بالنصر، وأنه حق أوجبه

الله على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا، كقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] . وفي هذا وعيد للكفار بالهزيمة ووعد وبشارة بالظفر للمؤمنين. روى ابن أبي حاتم والطبراني والترمذي وابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الآية: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. ثم أبان تعالى كيفية خلقه السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي الله هو الذي يسير الرياح على وفق الحكمة ومقتضى الإرادة إلى الجهة المرادة، فتحرك السحاب وتهيجه بعد سكونه، فينشره في السماء ويجمعه ويكثره، فيجعل من القليل كثيرا، ثم يجعله قطعا متفرقة ذات أحجام متنوعة، فتارة يكون السحاب خفيفا، وتارة يأتي السحاب من جهة البحر مشبعا بالرطوبة، ثقيلا مملوءا بذرات الماء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف 7/ 57] . فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي فتنظر المطر أو القطر يخرج من وسط ذلك السحاب، فإذا أصاب به الله بمشيئته بعض العباد والبلاد، فرحوا بنزوله عليهم ووصوله إليهم، لحاجتهم إليه. فقوله مِنْ خِلالِهِ الضمير عائد في الظاهر على السحاب إذ هو المحدّث عنه.

وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي ينزل عليهم هذا المطر بعد أن كانوا قبل نزوله قانطين يائسين من نزوله قبل ذلك، فكانت الفرحة شديدة التأثير في نفوسهم، لمفاجأتهم بالغيث الذي كادوا ييأسون من نزوله. وتكرار كلمة قَبْلِهِ أي قبل الإنزال للتأكيد. ومجمل معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، وكانوا قبل ذلك بفترات متفاوتة متقطعة يترقبونه فيها، فتأخر، ثم انتظروه مرة أخرى فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فصارت أرضهم الهامدة منتعشة بالنبات من كل زوج بهيج. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فانظر أيها الرسول ومن تبعك نظرة تأمل واستبصار واستدلال إلى المطر الذي هو أثر من آثار رحمة الله، كيف يكون سببا لإحياء النبات والزرع والأشجار والثمار، مما يدل على واسع رحمة الله وعظيم قدرته. ثم نبّه الله تعالى بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال: إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، أو من يقدر على إحياء الأرض بعد يبسها بالخضرة والنبات قادر على إحياء الموتى، والله وحده بالغ القدرة على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء في الابتداء أو في الإعادة، كما قال سبحانه: قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس 36/ 78- 79] . ثم بيّن تعالى سوء حال الكافرين، وتنكرهم للمعروف والجميل، وعدم ثباتهم على منهج واحد، فتراهم يفرحون بالخير، ثم ييأسون وينقطع رجاؤهم من الخير إن تعرضوا لسوء، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ أي وتالله لئن بعثنا ريحا ضارة، أو سامة، حارة أو باردة على نبات أو زرع أو ثمر، فرأوا ذلك الزرع قد اصفر، ومال إلى الفساد بعد خضرته، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر، يجحدون نعم الله التي أنعم بها عليهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- من دلائل كمال قدرة الله إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه، والغيث والخصب أثر من آثار رحمة الله، ومن خواص الرياح أيضا عند هبوبها تسيير السفن في البحر، وبالسفن ينتقل الركاب والتجار، وتحمل البضائع من قطر إلى آخر، فتكون وسيلة الرزق بالتجارة، وكل ذلك من نعم الله وأفضاله التي تستوجب الشكر بالتوحيد والطاعة. 2- النبوة والرسالة من نعم الله أيضا التي تتطلب التصديق والتأييد، ولكن استبداد الكافرين وعنادهم يدفعهم إلى التكذيب برسالات الرسل قديما وحديثا، فقد أرسل الله رسلا كثيرين إلى مختلف الأمم والأقوام والشعوب، مؤيدين بالمعجزات والحجج النيرات، فكذبوهم وآذوهم وسخروا منهم، وكفروا برسالاتهم، فانتقم الله ممن كفر، ونجّى المؤمنين ونصرهم على أعدائهم، وسنة الله الثابتة أنه ينصر عباده المؤمنين، وهذا خبر صدق، والله لا يخلف الميعاد، ولا خلف في خبره. 3- أخبر الله تعالى أيضا عن كيفية تكون السحاب، وهو أن الله يرسل الرياح، فتحرك الغيوم وتنقلها من مكان إلى آخر، ثم ينشرها ويجمعها في الجو على وفق مشيئته وإرادته وحكمته، ويجعلها قطعا متفاوتة الأحجام والأوزان

والنوعية، تارة تكون خفافا، وتارة تصبح ثقالا مملوءة بالماء، فإذا أنزل المطر على بعض العباد فرحوا بنزول المطر عليهم. وكانوا قبل نزول المطر عليهم يائسين حزينين لاحتباس المطر عنهم، وأكد تعالى وجود ظاهرة اليأس والاكتئاب قبل إنزال المطر، ليدل على شدة حال الناس، ثم تغيرها إلى حال البشر والفرح، فكلمة مِنْ قَبْلِهِ للتأكيد عند أكثر النحويين، كما في قوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر 59/ 17] . وقال الرازي: والأولى أن يقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل إرسال الرياح، وذلك لأنه بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها مطر، فقبل المطر إذا هبت الريح، لا يكون مبلسا، وإنما قد يكون راجيا غالبا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح، فقال: مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الرياح وبسط السحاب، لبيان حال حدوث الإبلاس أي اليأس «1» . 4- إن النتيجة الطبيعية لإنزال المطر هي الدلالة بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نوع من القياس يقال له: قياس الغائب على الشاهد، أو استدلال بالشاهد على الغائب، أي إثبات البعث بناء على ثبوت ظاهرة مشابهة هي إحياء النبات. 5- المشركون مضطربون قلقون في عقيدتهم، فتراهم عند إقبال الخير فرحين به، وعند ظهور السوء يائسين مكتئبين، ومثال ذلك: أنهم إن أحرقت الريح زرعهم، فاصفر ثم يبس، كفروا وجحدوا وجود الخالق، وتنكروا لمن أنعم عليهم

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 133، وكذلك قال أبو حيان في البحر المحيط (7/ 179) : ما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: مِنْ قَبْلِهِ غير ظاهر.

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من الإعراض عن دعوته [سورة الروم (30) الآيات 52 إلى 53] :

في أحيان أخرى، حيث أغرقهم بسيل متلاحق من النعم، فهم متقلّبون غير ثابتين، لا يدومون على حالة واحدة، وذوو نظر قاصر على الحال دون المآل أو الماضي. تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من الإعراض عن دعوته [سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) البلاغة: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى استعارة تصريحية، شبه الكفار بالموتى وبالصم في عدم سماعهم سماع تدبر ووعي العظات والعبر والأدلة على صدق الرسالة النبوية. المفردات اللغوية: لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي سماع تدبر واتعاظ لأنهم سدّوا عن الحق مشاعرهم. إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قيّد عدم السماع به ليكون أشد استحالة، فإن الأصم إذا أقبل على السماع، وإن لم يسمع الكلام، استفاد منه بواسطة الحركات على اللسان بعض الأشياء. الْعُمْيِ سمى الكفار عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الإبصار. إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع سماع إفهام وقبول إلا المؤمنين لأن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى. بِآياتِنا القرآن. فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون منقادون لما تأمرهم به. المناسبة: بعد بيان أدلة التوحيد والبعث، ومهام الرسل، والوعد والوعيد، والإعراض عن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، سلّاه ربه عما يراه من تماد في الإعراض وعناد، فهم أشبه بالموتى والصمّ والعمي، لعدم استعدادهم لسماع أدلة الهداية سماع تدبر واتعاظ، وقد رتب المشبه بهم على حسب مدى الإعراض، فإرشاد الميت محال،

التفسير والبيان:

ثم إرشاد الأصم الذي لا يفهم الكلام إلا بالإشارة أصعب، ثم الأعمى الذي يفهم ويعي الشيء الكثير، لكن إرشاده صعب أيضا. التفسير والبيان: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي لا تحزن ولا تجزع أيها الرسول على إعراض هؤلاء المشركين عن دعوتك، بعد بيان أدلة التوحيد والقدرة على البعث، وتهديدهم ووعيدهم، فإنك لا تستطيع أن تفهم الموتى أو تسمعهم سماع تدبر واتعاظ، ولا تقدر أن تسمع دعوتك الصم الذي لا يسمعون، وهم أيضا مع ذلك مدبرون عنك غير مقبلين على كلامك وهدايتك، وهم مع سماعهم في الظاهر أشبه بالموتى في أجداثهم، والصم الذين فقدوا حاسة السمع، لسدهم منافذ الهداية، وإدبارهم عن سماع كلمة الحق، وعدم استعدادهم لوعي شيء وفهمه عنك، وهم أيضا كالعمي كما قال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي وليس في مقدورك هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل الهداية إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ولهذا قال تعالى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا، فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تسمع أيها الرسول سماعا يؤدي إلى الانتفاع إلا المؤمن المصدق بالقرآن وما اشتمل عليه من دلائل التوحيد والقدرة الإلهية على كل شيء، فهذا المؤمن إذا سمع آيات الله تتلى عليه، تدبره وتفهمه، وأقبل عليه يعمل بما جاء فيه، وينتهي عما نهى عنه، وهؤلاء المؤمنون هم المسلمون، أي الخاضعون المستجيبون المطيعون لله فيما أمر ونهى، وأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لا فائدة ولا جدوى في هداية المشركين المكابرين المعاندين الذي ألفوا تقليد الأسلاف في الكفر، فماتت عقولهم، وعميت بصائرهم. 2- إنما الفائدة تظهر في إسماع مواعظ الله المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد، ويستعدون لقبول الهداية إن ظهرت لهم دلائلها. 3- المقصود من قوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى سماع التدبر والفهم والاتعاظ، وهذا لا يعارض الثابت في السنة النبوية من إمكان سماع الأموات كلام الأحياء. روى عبد الله بن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خاطب القتلى الذين ألقوا في قليب (بئر) بدر، بعد ثلاثة أيام، وعاتبهم وقرعهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ - أي أنتنوا- فقال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون» . وهذا هو الصحيح المؤيد بالشواهد الكثيرة، منها ما رواه ابن عبد البر، مصحّحا له عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام» . وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم في تعريفه أمته كيفية السلام على أهل القبور أن يقولوا كما يخاطب الأحياء: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد. وروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده إلا استأنس به، ورد عليه حتى يقوم» . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه، فسلّم عليه، رد عليه السلام.

أطوار حياة الإنسان [سورة الروم (30) آية 54] :

وأجمع السلف على هذا، وشرع السلام على الموتى، مما يدل على شعورهم وعلمهم بالمسلّم، وعلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا فيما رواه مسلم عن بريدة: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم حقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية» . وكل ذلك دال على أن السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل، ويرد، وإن لم يسمع المسلّم الرد «1» . أطوار حياة الإنسان [سورة الروم (30) : آية 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) البلاغة: ضَعْفٍ وقُوَّةً بينهما طباق. الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ صيغة مبالغة على وزن فعيل، معناه التام العلم والقدرة. المفردات اللغوية: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة، أو ابتدأكم ضعفاء، وجعل الضعف أساس أمركم، كقوله: خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء 4/ 28] والضعف: ما قابل القوة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً أي بعد ضعف الطفولة قوة الشباب بعد بلوغ الحلم ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أي جعل بعد قوة الرجولة ضعف الكبر وشيب الهرم. والشيب: بياض الشعر. والضعف: بفتح الضاد وضمه. يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضعف والقوة والشباب والشيبة وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ أي إن تلك الأطوار والأحوال التي يمر بها الإنسان بمشيئة الله دليل العلم والقدرة، فهو العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 438- 439

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أدلة الآفاق من إرسال الرياح وإنزال المطر على الوحدانية، ذكر تعالى دليلا آخر عليها من الأنفس، وهو خلق الآدمي ومروره بأدوار مختلفة تحتاج إلى العلم والقدرة الشاملة، وذلك لا يتصف بهما غير الله عز وجل. التفسير والبيان: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أي إن الله تعالى هو الذي جعل الإنسان يمر في أطوار متفاوتة من الخلق حالا بعد حال، فجعل أصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم كون عظامه، ثم كسا العظام لحما، ونفخ فيه الروح، ثم أخرجه من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوى، فقوله مِنْ ضَعْفٍ أي ابتدأه ضعيفا. ثم يشبّ قليلا قليلا فيكون صغيرا، ثم شابا بالغا، وهذا دور القوة بعد الضعف، ثم يأتي دور الضعف من ابتداء الكهولة إلى الهرم والشيخوخة، وهو الضعف بعد القوة، فتضعف الهمة والحركة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة. هذا الانتقال والتدرج والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة الإلهية الخالقة، وبرهان على البعث الذي ينكره المشركون، فإن القادر على هذا التغيير والتبديل قادر على الإعادة مرة أخرى إلى الحياة الأولى كما كانت لأن من كانت قدرته تامة شاملة لا يصح مقارنتها بقدرة الإنسان النسبية، ولا يعجزه شيء، سواء في بدء الخلق أم حال إعادته. يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ أي يفعل الله ما يشاء، ويوجد ويبدع ما يشاء من ضعف وقوة، وبدء وإعادة، ويتصرف في عبيده بما يريد،

فقه الحياة أو الأحكام:

وهو العليم التام العلم بتدبير خلقه، القدير الشامل القدرة على ما يشاء، ومن آثار قدرته إحياء الناس وإماتتهم ثم بعثهم أحياء عند ما يريد. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية تتضمن استدلالا آخر على قدرة الله في نفس الإنسان، ليعتبر ويبادر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، فإن الآلة الجامدة تظل على وتيرة واحدة لأن صانعها وهو الإنسان محدود القدرة، أما الإنسان الذي يمر بمراحل ثلاث، متفاوتة هبوطا وصعودا، ضعفا وقوة، لا يبقى على حال واحدة، وإنما يتغير. والتغير والتدرج ليس مجرد طبيعة دون مدبر ولا مغير، وإنما يحتاج كل طور من مراحل التغير إلى خالق مبدع، وقادر عظيم، ولا يستطيع ذلك أحد غير الله صاحب التكوين والإرادة، والأمر والنفوذ الشامل، فهو وحده الخالق ما يشاء من قوة وضعف، وهو العليم بتدبيره، القدير على إرادته، وهو الفعال لما يريد، المتصرف في مخلوقاته كيف يشاء. أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا [سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

الإعراب:

الإعراب: لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرئ ينفع بالياء وبالتاء، أما قراءة التاء فعلى الأصل من التطابق بين الفعل والفاعل، وأما قراءة الياء فبسبب وجود الفاصل بينهما. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الفاء لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كنتم منكرين البعث، فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم. البلاغة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ جناس تام بين قوله السَّاعَةُ التي هي القيامة، وقوله السَّاعَةُ التي هي المدة الزمنية المعروفة. المفردات اللغوية: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة، سميت بها، لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تحدث بغتة، وصارت علما للقيامة بالتغليب كالكوكب للزهرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا يحلف الكافرون ما أقاموا في الدنيا أو في القبور غَيْرَ ساعَةٍ مدة زمنية قليلة كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الصرف عن الواقع في مدة اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق الذي هو البعث وغيره من قول الحق والنطق بالصدق. يقال: أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق والحق والخير. أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ الملائكة أو الإنس المؤمنون فِي كِتابِ اللَّهِ فيما كتبه في سابق علمه أو قضائه فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي أنكرتموه وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق واقع لتفريطهم في النظر مَعْذِرَتُهُمْ أي عذرهم في إنكارهم له وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم العتبى، أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى، يقال: استعتبني فلان فأعتبته، أي استرضاني فأرضيته. المناسبة: بعد بيان أدلة التوحيد في خلق الإنسان في النشأة الأولى، ودلائل البعث والإعادة مرة أخرى إلى الحياة، ذكر الله تعالى أحوال البعث ومقارنتها بأحوال الدنيا، وما يحدث يوم القيامة من مناقشات بين أهل الإيمان وبين المجرمين،

التفسير والبيان:

واكتشاف جهل الكفار في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فعكوفهم على عبادة الأوثان، وأما في الآخرة فإقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا. التفسير والبيان: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ أي حين تقوم القيامة ويبعث الله الناس من قبورهم، وما يتعرضون له من أهوال جسام طويلة الأمد، يحلف الكفار الآثمون أنهم ما أقاموا في الدنيا أو في القبور غير ساعة واحدة، أي مدة قليلة من الزمان، قاصدين بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا مدة معقولة، حتى يعذرون فيما هم عليه من تقصير. وهذا دليل واضح على قصر مدة الدنيا مهما طالت، إذا قورنت بالآخرة، وأن الذي يوعد بالشر يستقل المدة التي عاشها، أما الموعود بالخير فيستكثر المدة مهما قلت: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] . كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الصرف عن تقدير الحقيقة والواقع في مدة اللبث، كانوا يصرفون من الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب، والمراد أنهم كاذبون في قولهم: ما لبثنا غير ساعة، وفي حلفهم على الكذب، وأنهم مغترون بزينة الدنيا ومتاعها وزخرفها، فإذا عرفوا ذلك ربما حملهم على ترك العناد، وسلوك طريق الرشاد. وفي هذا دلالة على أن إصرارهم على الكفر، صرفهم عن التفكير فيما هو حق وعن الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر. ثم ذكر جواب المؤمنين لهم في موقف القيامة، فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ

فقه الحياة أو الأحكام:

الْبَعْثِ أي فردّ المؤمنون العالمون بالآخرون على منكري البعث القائلين الحالفين بأنهم لم يلبثوا غير ساعة: لقد لبثتم في علم الله وقضائه مدة طويلة في الدنيا من يوم خلقتم إلى أن بعثتم. وفي هذا إشارة إلى أن المؤمن العالم يستكثر مدة المكث في الدنيا لأنه متطلع مشتاق إلى نعيم الجنة وخلودها، وهو يعلم أن مصيره إلى الجنة، فيستكثر المدة، ولا يريد التأخير. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه الواقع الذي لا سبيل لإنكاره، وبه يتبين بطلان إنكاركم إياه، غير أنكم تجهلون أنه حق واقع، لتفريطكم في النظر وغفلتكم عن أدلة ثبوته. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ففي يوم القيامة لا ينفع هؤلاء الظالمين الكافرين عذرهم أو اعتذارهم عما فعلوا، ولا تقبل منهم توبتهم لأن وقت التوبة في دار الدنيا، وهي دار العمل، أما الآخرة فهي دار الجزاء، لا وقت العمل. وقوله: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ معناه أنه لا يطلب منهم الإعتاب، وهو إزالة العتب بالتوبة والطاعة التي تزيل آثار الجريمة لأنها لا تقبل منهم، ولا يعاتبون على ذنوبهم، وإنما يعاقبون عليها، كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت 41/ 24] فليست حالهم حال من يستعتب ويرجع عما هو عليه. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- إن عمر الدنيا قصير جدا إذا قورن بالآخرة.

2- قوله تعالى: ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ لا يعني إنكار عذاب القبر أو التهوين من شأنه، فقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه تعوذ منه، وأمر أن يتعوذ منه، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم أم حبيبة وهي تقول: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد سألت الله لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة، ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر» . 3- دل قوله عز وجل: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ على أن الكفار كانوا يكذبون في الدنيا، وينصرفون من الحق إلى الباطل، وأنهم كما صرفوا عن الحق في قسمهم أنهم ما لبثوا غير ساعة، كذلك كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا، كما وصفهم القرآن: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة 58/ 18] وقال تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا [الأنعام 6/ 23- 24] . 4- العلماء بالآخرة المؤمنون بها وبالله تعالى من الملائكة والناس يستكثرون مدة الدنيا شوقا إلى الآخرة والجنة، أما الكافرون فيستقلّون مدة اللبث في الدنيا، ويختارون تأخير الحشر، والإبقاء في القبر، تحاشيا من عذاب الآخرة، لذا يقول المؤمنون للكفار ردا عليهم: لقد لبثتم في الدنيا أو في قبوركم إلى يوم البعث. 5- الواقع خير شاهد ودليل، لذا يقول المؤمنون للكفار: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي كنتم تنكرونه. 6- إذا جاء الموت أو يوم القيامة لا ينفع العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ، ولا يطلب من الكفار العتبى، أي إزالة العتب بالتوبة التي تسقط الذنب،

مهمة القرآن في بيان أدلة العقيدة وأمر النبي بالصبر على الأذى والدعوة [سورة الروم (30) الآيات 58 إلى 60] :

ولا تقبل التوبة حينئذ لأن وقتها ووقت التكليف وهو دار الدنيا قد فات، ولم يبق أمامهم إلا دار الجزاء والعقاب، فيعاقبون على أعمالهم التي عملوها. مهمة القرآن في بيان أدلة العقيدة وأمر النبي بالصبر على الأذى والدعوة [سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) المفردات اللغوية: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بينا لهم في القرآن أدلة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم مقرونة بالأمثلة، تنبيها لهم، والمثل: الصفة التي هي في الغرابة كالأمثال وَلَئِنْ اللام لام القسم جِئْتَهُمْ يا محمد بِآيَةٍ من آيات القرآن لَيَقُولَنَّ «1» الَّذِينَ كَفَرُوا منهم، من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ما أنتم أي الرسول والمؤمنون إلا مزورون أصحاب أباطيل متبعون الباطل. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك الطبع يطبع على قلوب هؤلاء الجهلة الذين لا يطلبون العلم، ويصرّون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. فَاصْبِرْ أيها النبي على أذى قومك وعلى دعوتك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك عليهم وإظهار دينك على الدين كله حَقٌّ لا بد من إنجازه وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أي ولا يحملنك على الخفة والطيش والقلق بترك الصبر أي لا تتركه الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم وإيذائهم، فإنهم ضالون.

_ (1) حذفت منه نون الرفع لتوالي النونات، وحذفت وأو الجماعة لالتقاء الساكنين.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أدلة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ختم الله السورة بوصف إجمالي للقرآن وهو أنه كتاب العبر والأمثال لإزالة الأعذار، والكتاب المخلص غاية الإخلاص للبشرية بتقديم الإنذارات الكافية، ثم أردفه ببيان تحقيق جميع أهدافه على يد الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي بلغ الغاية القصوى في تبليغ دعوته، وأنه لم يبق منه تقصير. فإن طلب الكفار شيئا آخر غير القرآن وهذا النبي، فذلك عناد، لم يفدهم بعده أي بيان إذ من هان عليه تكذيب دليل، سهل عليه تكذيب الأدلة كلها. التفسير والبيان: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي ولقد بينا لهم الحق ووضحناه، وضربنا لهم فيه الأمثال الدالة على وحدانية الخالق وعلى البعث وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ليستبينوا الحق ويتبعوه، ولم يحصل تقصير من جانب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ الدعوة إلى الله، فإن طلب الناس شيئا بعد ذلك، فهو عناد، ومن هان عليه تكذيب دليل، لم يصعب عليه تكذيب الدلائل كلها كفرا وعنادا، لذا قال: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي وتالله لو رأوا أي آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره، لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل، وما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا جماعة مبطلون تأتون بالباطل وتتبعونه؟!. وذلك كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ

رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 96- 97] . وترتب على إعراضهم عن الإيمان عنادا واستكبارا الطبع على القلوب كما قال تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك الختم وحجب الخير والحق يختم الله على قلوب الجهلة الذين لا يتعلمون ولا يعلمون حقيقة الآيات البينات في القرآن المجيد، لسوء استعدادهم، وإصرارهم على تقليد الأسلاف، واعتقاد الخرافات. ثم أمر الله رسوله بالصبر على مخالفتهم وأذاهم وعنادهم، فقال: فَاصْبِرْ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فاصبر أيها الرسول على أذى المشركين وتابع في تبليغ رسالتك، فإن وعد الله الذي وعدك به من نصره إياك عليهم وظفرك بهم، وجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، حق ثابت لا شك فيه، ولا بد من إنجازه والوفاء به. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقول الذين لا يوقنون بالله واليوم الآخر، فإنهم قوم ضالون، واثبت على ما بعثك الله به، فإنه الحق الذي لا محيد عنه، بل الحق كله منحصر فيه. وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدعوة إلى الإيمان. روى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا رضي الله عنه، وهو في صلاة الغداة (الفجر) فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر 39/ 65] فأنصت له عليّ حتى فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاة: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن القرآن المجيد هو النعمة العظمى على الإنسانية وعلى المسلمين لأنه يرشد ببيانه العجيب وأمثلته التوضيحية إلى ما يحتاجون إليه، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل. 2- إن أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بآية قرآنية أو بمعجزة مثل المعجزات المادية المحسوسة للأنبياء السابقين كفلق البحر والعصا وغيرهما، لقال الكفار: ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا قوم مبطلون، أي تتبعون الباطل والسحر. 3- كما طبع أو ختم الله على قلوب صناديد الكفر وزعماء الشرك، حتى لا يفهموا الآيات عن الله، فكذلك يطبع على قلوب الذين لا يعلمون التوحيد وأصول الاعتقاد، وحقيقة العبر والعظات، وآيات الله البينات، فيصبحون عديمي الفهم لكل ما يتلى عليهم من القرآن، بسبب عنادهم وإعراضهم، وسوء استعدادهم لقبول دعوة الحق والخير والتوحيد. 4- على المؤمن أن يثبت على الحق الذي لا مرية فيه، وهو دين الإسلام، ولا يتأثر بسفاهات المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا بالبعث. والخطاب في قوله: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته. فإن قصر الخطاب على النبي صلّى الله عليه وسلّم فالمراد به وجوب المداومة على الدعوة إلى الإيمان، فإنه لو سكت لقال الكافر: إنه متقلب الرأي، لا ثبات له على مبدئه.

سورة لقمان:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة لقمان مكية، وهي أربع وثلاثون آية. تسميتها: سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة (لقمان الحكيم) الذي أدرك جوهر الحكمة، بمعرفة وحدانية الله وعبادته، والأمر بفضائل الأخلاق والآداب، والنهي عن القبائح والمنكرات. موضوعها: تضمنت الكلام عن موضوعات السور المكية وهي إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله ووحدانيته، وتصديق النبوة، والإقرار بالبعث واليوم الآخر. وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قصة لقمان مع ابنه وعن بره والديه، فنزلت. صلتها بما قبلها أو مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بسورة الروم قبلها من وجوه: 1- قال تعالى في آخر السورة السابقة: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إشارة إلى كون القرآن معجزة، وقال في مطلع هذه السورة: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ.

2- كذلك قال سبحانه في آخر السورة المتقدمة: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ إشارة إلى أن المشركين يكفرون بالآيات، وقال في هذه السورة: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [7] . 3- وصف الله تعالى قدرته على بدء الخلق والبعث في كلتا السورتين، فقال في السورة السالفة: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [27] وقال هنا: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [28] . 4- أثبت الله تعالى في كلتا السورتين إيمان المؤمنين بالبعث، فقال في السورة السابقة: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [56] وهذا عين إيقانهم بالآخرة المذكور في مطلع هذه السورة: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. 5- حكى الله تعالى في السورتين ما عليه حال المشركين من القلق والاضطراب، إذ يضرعون إلى الله في وقت الشدة، ويكفرون به وقت الرخاء، فقال في السورة المتقدمة: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ... [33] وقال في هذه السورة: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... [32] . 6- ذكر في سورة الروم: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [15] وقد فسر بالسماع، وفي لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [6] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي. 7- قابل تعالى بين السورتين، فذكر في سورة الروم مدى اعتزاز المشركين بأموالهم ورفضهم إشراك غيرهم فيها، وذكر هنا قصة لقمان الحكيم العبد الصالح الذي أوصى ابنه بالتواضع وترك التكبر، كما ذكر في الأولى محاربة الروم والفرس

مشتملات السورة:

في معركتين عظيمتين، وذكر في السورة الثانية في قصة لقمان الأمر بالصبر والمسالمة وترك المحاربة. مشتملات السورة: اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية: فبدأت ببيان معجزة النبي الخالدة وهي القرآن دستور الهداية الربانية، وموقف الناس منه، ففريق المؤمنين يصدّقون بكل ما جاء فيه، فيظفرون بالجنان، وفريق الكافرين الساخرين الهازئين الذي يعرضون عما فيه من الآيات، ويضلون عن سبيل الله جهلا وسفها، فيتلقون العذاب الأليم. ثم تحدثت عن أدلة الوحدانية والقدرة الباهرة لله ربّ العالمين من خلق العالم والكون، وتلا ذلك بيان قصة لقمان الحكيم ووصاياه الخالدة لابنه، تعليما للناس وإرشادا لهم، وعلى رأسها نبذ الشرك، وبر الوالدين، ورقابة الله على كل صغيرة وكبيرة، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواضع واجتناب الكبر، ومشي الهوينى، وإخفاض الصوت. وأردف ذلك توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك مع مشاهدتهم أدلة التوحيد، والنعي عليهم في تقليدهم الآباء، وجحودهم نعم الله الكثيرة التي لا حصر لها، وإعلامهم أن طريق النجاة هو إسلام النفس لله والإحسان بالعمل الصالح، وبيان تناقضهم حين يقرّون بأن الله هو خالق كل شيء ثم يعبدون معه غيره، مع أن الله هو مالك السموات والأرض والمنعم بجلائل النعم، وعلمه محيط بكل شيء، وأن خلق جميع البشر وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها، فهو المدبر والمصرف الذي لا يعجزه شيء، وأنهم يتضرعون إليه وقت الشدة ويشركون به وقت الرخاء. ثم أضافت السورة أدلة أخرى على القدرة الإلهية من إيلاج الليل في النهار وبالعكس، وتسخير الشمس والقمر، وتسيير السفن في البحار وغير ذلك.

خصائص القرآن وأوصاف المؤمنين به [سورة لقمان (31) الآيات 1 إلى 5] :

وختمت السورة ببيان الأمر بالتقوى والخوف من عذاب يوم القيامة الذي لا بد من إتيانه، ولا أمل فيه بنصرة أحد، وعدم الاغترار بمتاع الدنيا وزخارفها، والتنبيه على مفاتيح الغيب الخمسة التي اختص الله بعلمها، وأن الله محيط علمه بالكائنات جميعها، خبير بكل ما يجري فيها. خصائص القرآن وأوصاف المؤمنين به [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الإعراب: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مبتدأ وخبر والإضافة بمعنى «من» وهُدىً وَرَحْمَةً بالنصب والرفع، فالنصب على الحال من آياتُ والعامل فيهما معنى الإشارة، ولا يجوز أن يكون منصوبا على الحال من الْكِتابِ لأنه مضاف إليه، ولا عامل يعمل في الحال، وفيه خلاف. والرفع: إما خبر تِلْكَ وآياتُ: بدلا من تِلْكَ وإما خبر بعد خبر، كقولهم: هذا حلو حامض، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو هدى. البلاغة: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ عبر بالمصدر عن اسم الفاعل للمبالغة. تِلْكَ آياتُ إشارة بالبعيد عن القريب لبيان علو الرتبة وسمو القدر. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إطناب بتكرار الضمير هُمْ واسم الإشارة أُولئِكَ لزيادة الثناء عليهم وتكريمهم. وقوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ يفيد الحصر، أي هم المفلحون لا غيرهم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الم يشبه افتتاح سورة البقرة المدنية، وجاء على وفق المعروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية، للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإشارة إلى أن هذه الأحرف «ألف، لام، ميم» ينطق بها العرب قاطبة، ولكنهم عاجزون عن معارضتها بالإتيان بمثل سورة أو عشر سور من القرآن، مما يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي هذه الآيات آيات القرآن المتصف بالحكمة. هُدىً وَرَحْمَةً أي الآيات هادية راحمة الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بيان للمحسنين هُمْ يُوقِنُونَ هم الثانية للتأكيد وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون، لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح. التفسير والبيان: الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي إن هذا القرآن مكوّن من الحروف ذاتها التي تنطقون بها، فهل تأتون بمثل آياته؟ فهذه آيات القرآن ذي الحكمة، الذي لا خلل فيه ولا عوج، ولا تناقض فيه ولا اختلاف، بل هو آيات بينات واضحات. ثم ذكر تعالى الغاية من تنزيله فقال: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ أي هذه الآيات القرآنية هدى وشفاء من الضلال، ورحمة تنقذ المؤمنين بها من العقاب، وهم الذين أحسنوا العمل، واتبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وفي أوقاتها، مع نوافلها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وصدقوا وأيقنوا بوجود الآخرة وبالجزاء العادل فيها، ورغبوا إلى الله في الثواب، دون مراءاة ولا جزاء ولا شكور من الناس. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هؤلاء الموصوفون بما ذكرهم في قمة الهداية والفلاح، فهم المهديون أي على بصيرة ونور ومنهج

فقه الحياة أو الأحكام:

واضح من الله، وهم الفائزون وحدهم في الدنيا والآخرة. وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى علو المرتبة والتعظيم الذي يستحقونه، إذ لا فلاح إلا بإحسان العمل، ولا خير إلا في الإيمان. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما هو آت: 1- إن آيات القرآن العظيم محكمة لا خلل فيها ولا تناقض، ولا عيب فيها ولا تعارض، وهي دستور الهداية الربانية، وسبيل استحقاق الرحمة الإلهية، التي لا يستحقها إلا المحسنون. والمحسن: الذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراه، أو هو الآتي بالإيمان، المتقي الشرك والعناد. 2- إن من أخص صفات المحسنين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان باليوم الآخر. 3- هؤلاء المحسنون استنارت قلوبهم وعقولهم بمنهج الله تعالى، فالتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ففازوا وحدهم بسعادة الدنيا والآخرة. 4- إن وصف القرآن بالحكمة في قوله تعالى: الْكِتابِ الْحَكِيمِ مناسب لموضوع السورة في بيان الحكمة في قصة لقمان وما يؤيدها من آي السورة في تقرير التوحيد، وهدم الشرك وإثبات البعث والنبوة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، والإيمان بعالم الغيب والشهادة، المنعم على عباده بالنعم الكثيرة الظاهرة والباطنة.

إعراض الكافرين عن القرآن وإقبال المؤمنين عليه [سورة لقمان (31) الآيات 6 إلى 9] :

إعراض الكافرين عن القرآن وإقبال المؤمنين عليه [سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 9] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) الإعراب: وَيَتَّخِذَها بالنصب عطفا على لِيُضِلَّ وبالرفع عطفا على يَشْتَرِي أو على الاستئناف. وهاء يَتَّخِذَها يعود على السبيل لأنها مؤنثة كما في قوله تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي [يوسف 12/ 108] وتذكّر كما في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف 7/ 146] . وباء بِغَيْرِ عِلْمٍ للحال، تقديره: ليضل عن سبيل الله جاهلا. وَلَّى مُسْتَكْبِراً حال من ضمير وَلَّى وكاف كَأَنْ لَمْ في موضع نصب على الحال، تقديره: ولّى مستكبرا مشبها من في أذنيه وقر، وقوله: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ حال أخرى أو بيان للحال الأولى. لَهُمْ جَنَّاتُ مرفوع بالجار والمجرور لوقوعه خبرا عن المبتدأ وخالِدِينَ منصوب على الحال من هاء وميم لَهُمْ. البلاغة: مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ استعارة تصريحية، شبه حاله بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يَشْتَرِي لمعنى «يستبدل» بطريق الاستعارة. كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، وذكر فيه أداة التشبيه.

المفردات اللغوية:

فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكم لأن البشارة المستعملة في الخير استعملت في الشر تهكما وسخرية. بِعَذابٍ أَلِيمٍ جَنَّاتُ النَّعِيمِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مراعاة الفواصل في الحرف الأخير، وهو السجع الحسن غير المتكلف. المفردات اللغوية: لَهْوَ الْحَدِيثِ ما يلهي منه عما يعني ويفيد من الحكايات والأساطير والمضاحك وفضول الكلام، وكتب الأعاجم، والجواري المغنيات. واللهو: كل باطل ألهى عن الحق والخير. وقد اشتريت تلك الملاهي بالفعل، والإضافة بيانية بمعنى «من» إن أراد بالحديث المنكر، وتبعيضية إن أراد به الأعم منه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليصرف الناس عن دين الله وهو طريق الإسلام، أو قراءة كتابه بِغَيْرِ عِلْمٍ غير عالم بحال ما يشتريه، أو بالتجارة، حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن وَيَتَّخِذَها هُزُواً ويتخذ السبيل سخرية مهزوءا بها لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ عذاب فيه غاية الإهانة لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا القرآن وَلَّى مُسْتَكْبِراً متكبرا لا يعبأ بها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابها حاله حال من لم يسمعها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابها من في أذنيه صمم أو ثقل يمنع من السماع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بوقوعه في عذاب مؤلم لا محالة، وذكر البشارة تهكم به لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي لهم نعيم جنات، فعكس للمبالغة خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها وَعْدَ اللَّهِ، حَقًّا مصدران مؤكدان: الأول لنفسه، والثاني لغيره، أي وعدهم الله ذلك وحقه حقا لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ وعد، وليس كل وعد حقا وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء، فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده الْحَكِيمُ الذي لا يضع شيئا إلا في محله، ولا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته. سبب النزول: نزول الآية (6) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية)

المناسبة:

وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام، إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمّد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فنزلت. وقال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدّث بها قريشا، ويقول لهم: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن. المناسبة: بعد بيان أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكيمة، وبعد بيان حال السعداء المهتدين بهديه، المنتفعين بسماعه، بيّن الله تعالى حال الكفار الأشقياء التاركين له المشتغلين بغيره، وأعقبه بوعيدهم بالعذاب المهين المؤلم، وعطف عليه وعد المؤمنين به المقبلين على تلاوته، الملتزمين حدوده من أوامر ونواه. التفسير والبيان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّخِذَها هُزُواً، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي وهناك فريق من الناس يستبدل بالنافع الضار، وبالقرآن الشافي ما يتلهى به من الحكايات والأساطير وفضول الكلام، والمضاحك، والاستماع إلى غناء الجواري، كالنضر بن الحارث الذي كان يشتري كتب الفرس ويحدّث بها الناس، ويقتني المغنيات لاجتذاب الشبان، وإغراء من أسلم حديثا، لحملة على ترك الإسلام، وإضلاله عن دين الله وهو دين الإسلام، والصد عنه، واتخاذه هزوا وسخرية، جهلا بخطورة ما يفعل من استبدال اللهو بقراءة القرآن، وأولئك وهم الموغلون في الكفر والضلال يحيق بهم عذاب بالغ الإهانة. وقوله عَذابٌ مُهِينٌ للتفرقة بين عذاب الكافر وعذاب

المؤمن، فإن عذاب المؤمن للتطهير، فهو غير مهين، وأما عذاب الكافر فهو في غاية الإهانة، فكما استهان بآيات الله وسبيله أهين يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر. وقوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بضم الياء معناه لمخالفة الإسلام وأهله ومعاداتهم، واللام لام التعليل، أي ارتكب هذا الفعل من أجل الإضلال والصد عن سبيل الله. وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة، أي لتكون عاقبة أمره الإضلال، واتخاذ آيات الله هزوا وسخرية. ثم وصف الله تعالى هؤلاء المضلين بالإمعان في الضلال والكفر، وازدياد الإعراض والنفور عن دين الله، فقال: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي إن من يشتري الحديث الباطل إذا تليت عليه آيات القرآن أدبر وأعرض عنها متكبرا، وتصامم عن سماعها، وإن لم يكن به صمم، كأنه ما سمعها، وكأن في أذنيه صمما وثقلا لأنه يتأذى بها، ولا ينتفع منها، ولا أرب له فيها، فبشر هذا المعرض بعذاب يؤلمه يوم القيامة، كما تألم بسماع كتاب الله وآياته. وبعد بيان حال هؤلاء الأشقياء، ذكر الله تعالى مآل الأبرار السعداء في الدار الآخرة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خالِدِينَ فِيها، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة من الائتمار بالأوامر الشرعية، واجتناب المحظورات والمناهي، لهم جنات يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسارّ من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب وغير ذلك من المتع مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم

فقه الحياة أو الأحكام:

فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا. وهذا كائن لا محالة لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده لأنه الكريم المنّان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء. وهو العزيز القوي الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء، فلا ينجو منه مشرك ولا غيره، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين. ونحو موضوع الآيتين السابقتين قوله تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت 41/ 44] وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] . فقه الحياة أو الأحكام: 1- إن من أعظم الجرائم الإعراض عن سماع القرآن كلام الله، وشغل الناس بسماع غيره من أنواع الكلام غير المفيد من القصص والأساطير والمضاحيك ونحو ذلك من ألوان اللهو والعبث، بقصد الإضلال والصد عن دين الله تعالى، ويستحق المعرض المتولي تكبرا عن القرآن عذابا أليما. 2- استدل ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بقوله: لَهْوَ الْحَدِيثِ على منع استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب. وهذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية: قوله تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ [النجم 53/ 61] قال ابن عباس: هو الغناء، بالحميريّة اسمدي لنا، أي غنّي لنا. والآية الثالثة: قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء 17/ 64] قال مجاهد: الغناء والمزامير.

حكم الغناء عند الفقهاء:

روى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار، ورنّة شيطان عند نغمة ومرح، ورنّة عند مصيبة لطم خدود، وشق جيوب» وأخرج أبو طالب الغيلاني عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بكسر المزامير» وأخرج ابن بشران عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت بهدم المزامير والطبل» وروى ابن المبارك عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جلس إلى قينة يسمع منها، صبّ في أذنه الآنك «1» يوم القيامة» . وبناء عليه، قال العلماء بتحريم الغناء. حكم الغناء عند الفقهاء: للفقهاء، ومنهم علماء المذاهب الأربعة على المعتمد لديهم تفصيل في حكم الغناء هو ما يأتي «2» : أ- الغناء الحرام: هو الذي يحرّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون، بكلام يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرّمات لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. وإذا لم يجز فأخذ الأجرة عليه لا يجوز ب- الغناء المباح: هو ما سلم مما ذكر، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق حول المدينة، وحدو أنجشة «3» .

_ (1) الآنك: الرصاص. إلا أن الحديث ضعيف. (2) تفسير القرطبي: 14/ 54 (3) أنجشة: هو عبد أسود كان يسوق إبل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.

ج- أما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبّابات «1» والطار والمعازف والأوتار فحرام. وفي اليراعة «2» تردد، والدف مباح. د- وأما طبل الحرب فلا حرج فيه لأنه يهيج النفوس، ويرهب العدو، فقد ضرب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح» فكنّ يضر بن ويقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبّذا محمد من جار هـ- لا بأس من استعمال الدّفّ في حفلات الزفاف، وكذا الآلات المشهرة بالزواج والغناء بحسن الكلام الذي لا فحش فيه. وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز. والاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة، فإن لم يدم لم تردّ. ونقل عن أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل القول بكراهة الغناء. وقال الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه. 3- عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها لبيان الفرق والترغيب والترهيب، فبعد أن ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين، وهو أن للمؤمنين الذي يعملون صالح الأعمال المأمور بها شرعا نعيم الجنان، دائمين فيها، ووعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه، وهو وعد العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه وفعله.

_ (1) الشبّابة: قصبة الزمر. (2) اليراعة: مزمار الراعي. [.....]

الاستدلال بخلق السموات والأرض على وحدانية الله وإبطال الشرك [سورة لقمان (31) الآيات 10 إلى 11] :

الاستدلال بخلق السموات والأرض على وحدانية الله وإبطال الشرك [سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) الإعراب: بِغَيْرِ عَمَدٍ الباء في موضع نصب على الحال من السَّماواتِ. وتَرَوْنَها جملة فعلية في موضع جر على الصفة ل عَمَدٍ أي بغير عمد مرئية، فالضمير راجع إلى العمد، والعمد: قدرة الله وإرادته، أو أن الضمير راجع إلى السموات، أي ليست هي بعمد، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، وحينئذ تكون الجملة مستأنفة لا محل لها. فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ.. الياء في فَأَرُونِي المفعول الأول، وفَأَرُونِي: معلق عن العمل وماذا خَلَقَ: سد مسد المفعول الثاني. وماذا: ما: استفهام إنكار: مبتدأ، وذا بمعنى الذي مع صلته: خبره. البلاغة: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ التفات من الغيبة إلى التكلم، تعظيما لشأن الرحمن، بعد قوله خَلْقُ وَأَلْقى وَبَثَّ. هذا خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه، من قبيل إطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة. ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت. بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ الأصل أن يقال: بل هم، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: خَلَقَ السَّماواتِ استئناف كلام جديد بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها العمد: جمع عماد: وهو الأسطوانة التي يعمد بها أي يسند به، وتَرَوْنَها إما صفة العمد أي بغير عمد مرئية، أو يعود الضمير إلى السَّماواتِ، أي لا عمد لها أصلا، وأنتم ترونها بلا عمد، فهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة رَواسِيَ جبالا ثوابت مرتفعة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تميد، أي تتحرك وتضطرب بكم وَبَثَّ نشر وفرق زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف حسن، كثير المنافع. والآية دليل على عزة الله التي هي كمال القدرة، والحكمة التي هي كمال العلم، لتقرير أصل التوحيد. هذا خَلْقُ اللَّهِ هذا الذي ذكر مخلوق الله فَأَرُونِي أخبروني يا أهل مكة وأمثالكم الكفار ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ماذا خلق الذين من غيره وهم آلهتكم التي أشركتموها بالله تعالى بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بل: للانتقال والإضراب عن تبكيتهم إلى تسجيل الضلال عليهم، فهم في ضلال بيّن لا يخفى على ناظر، بإشراكهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم. المناسبة: بعد قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الدال على عزته وحكمته وكمال قدرته وعلمه وإتقان صنعه، ذكر الله تعالى الأدلة على قدرته العظيمة من خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، لتقرير وحدانيته، وإبطال الشرك، والتنبيه إلى وجوب اتباع الحق الذي جاءت به الرسل. التفسير والبيان: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي من أدلة قدرته تعالى العظيمة، وحكمته السديدة أنه خلق السموات بغير أعمدة، لا مرئية ولا غير مرئية، والسموات كالأرض في الظاهر مبسوطة، وفي الحقيقة مستديرة، لقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء 21/ 33] والفلك: اسم لشيء مستدير، وهي على أي حال مخلوقة بقدرة الله، لا بالطبيعة، وهي فضاء والفضاء لا نهاية له، ولا تزول إلا بقدرة الله تعالى.

وليس لها عمد أصلا، بدليل رؤية الناس لها غير معمودة. وقيل: إن لها عمدا غير مرئية، والله عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته. والخلاصة: أنه تعالى خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها، بل هي قائمة بقدرة الله تعالى. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي وجعل في الأرض جبالا شوامخ ثوابت أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها، وتغمرها مياه البحار والمحيطات المحيطة بها، والتي تكوّن أكثر الكرة الأرضية. وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي وذرأ فيها ونشر ووزع من أصناف الحيوان التي لا يحصي عددها، ولا يعلم أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي وأنزلنا من السحاب مطرا يكون سببا لإنبات كل صنف كريم، أي حسن المنظر، كثير المنفعة. ثم وبخ الله تعالى أولئك المشركين الذين يتركون عبادة الخالق ويشتغلون بعبادة المخلوق، فقال: هذا خَلْقُ اللَّهِ، فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي هذا الذي ذكر من المخلوقات هو من خلق الله وفعله وتقديره وحده لا شريك له في ذلك، والخلق بمعنى المخلوق، فأخبروني أيها الكفرة ماذا خلق الذين تعبدونهم من غيره من الأصنام والأنداد. وقوله: خَلْقُ واقع على هاء محذوفة، تقديره: فأروني أي شيء خلق الذين من دونه، أو أروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه. وبعد توبيخهم على شركهم، وصفهم تعالى بما يترتب عليه وهو الضلال، فهم

فقه الحياة أو الأحكام:

في شركهم وعبادتهم مع الله غيره في ضلال واضح، فقال: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي بل هؤلاء المشركين بالله العابدون معه غيره في جهل وعمى وانحراف وكفر بيّن واضح ظاهر، لا خفاء به، ولا اشتباه فيه لمن تأمله، جعلهم في غاية الضلال الذي ليس بعده ضلال. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- الدليل على وجود الله وقدرته العظمى وحكمته البالغة: هو خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها، وإنما أمسكها الله بقدرته وإرادته وخلق الأرض ذات الجبال الشوامخ الثوابت لئلا تضطرب بأهلها وجعلها ذات أنس بما وزّع فيها من أصناف الحيوان في البر والبحر والجو، ذوات الأشكال المختلفة، والمناظر البديعة، والأصوات المختلفة وإنزال الأمطار عليها لإنبات النباتات البهية المنظر، البديعة التكوين، الكثيرة المنافع، سواء بثمرها إن كانت مثمرة، أو بظلها المريح وخضرتها الممتعة للنظر والمفرحة للنفس، أو بجعلها أسبابا لزيادة المطر. 2- أكد تعالى قدرته الخلاقة بأن هذا المذكور المعاين هو مخلوق الله من غير شريك، ثم تحدى ووبخ قائلا: أخبروني معاشر المشركين عما خلقت الآلهة المزعومة من الأصنام والأنداد، ثم وصفهم بالوصف الملازم لهم: وهو أن المشركين في خسران ظاهر.

قصة لقمان الحكيم ووصيته لابنه [سورة لقمان (31) الآيات 12 إلى 19] :

قصة لقمان الحكيم ووصيته لابنه [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) الإعراب: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ إِذْ: ظرف متعلق بفعل مقدر، أي اذكر إذ قال لقمان. ولُقْمانُ: ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والألف والنون الزائدتين، كعثمان وعمران.

البلاغة:

وَهْناً منصوب بحرف جر محذوف، تقديره: حملته أمه بوهن، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه. أو حال من فاعل حَمَلَتْهُ على التأويل بالمشتق، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن وعلى وهن أي ذات ضعف على ضعف متتابع. أَنِ اشْكُرْ لِي منصوب بحرف جر محذوف، أي بأن اشكر، وقيل: أن: مفسرة بمعنى أي، كقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص 38/ 6] ولا موضع لها من الإعراب. إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ خبر تكون الناقصة، أي إن تكن الخصلة الموزونة مثقال حبة. وعلى قراءة الرفع فاعل تكون التامة، وأنث فَتَكُنْ وإن كان المثقال مذكرا، لاكتساء المضاف التأنيث من المضاف إليه، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، وكقوله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف 12/ 10] . مَرَحاً مصدر منصوب في موضع الحال، كقولهم: جاء زيد ركضا. البلاغة: يَشْكُرْ وكَفَرَ بينهما طباق. غَنِيٌّ حَمِيدٌ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فَخُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعيل وفعول، أي كثير الغنى والحمد والفخر. بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية والاهتمام بالأم. إِلَيَّ الْمَصِيرُ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فيه تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر، أي إليّ لا إلى غيري. إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ من باب التمثيل، مثل بذلك لبيان سعة علم الله ودقته وشموله جميع الأشياء حقيرها وجليلها. فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ من باب التتميم، تمم خفاء الأشياء في نفسها بخفاء مكانها. وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ مقابلة بين اللفظين. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ استعارة تمثيلية، شبه الرافعين أصواتهم برفع الحمير أصواتهم، ولم يذكر أداة التشبيه، وإنما أورده بطريق الاستعارة للمبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لُقْمانَ هو كما ذكر البيضاوي لقمان بن باعورا من أولاد آزر، ابن أخت أيوب أو ابن خالته، أسود من سودان مصر من النوبة، وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم، آتاه الله الحكمة، أي العقل والفطنة والعلم والإصابة في القول، والجمهور على أنه كان حكيما، ولم يكن نبيا. من أقواله: «الصمت حكم وقليل فاعله» وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا. الْحِكْمَةَ هي في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة، على قدر طاقتها أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي بأن اشكر، أو أي اشكر ما أعطاك من الحكمة، والشكر: الثناء على الله تعالى وطاعته فيما أمر به، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه وثواب شكره عائد له وهو دوام النعمة واستحقاق المزيد منها. غَنِيٌّ عن خلقه، لا يحتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بالحمد، وإن لم يحمد، ومحمود في صنعه، نطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ أي واذكر، واسم ابنه: أنعم، أو أشكم، أو ماتان أو ثاران في قول السهيلي وَهُوَ يَعِظُهُ العظة: تذكير بالخير بأسلوب رقيق يرقّ له القلب يا بُنَيَّ التصغير للإشفاق والتحبب إِنَّ الشِّرْكَ بالله لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وكون الشرك ظلما لأنه تسوية بين المنعم وحده وغير المنعم وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أي أمرناه وألزمناه بِوالِدَيْهِ أي بأن يبرهما وَهْناً أي بوهن، أي ضعف عَلى وَهْنٍ أي تضعف ضعفا فوق ضعف، من الحمل، فالطّلق، فالولادة وَفِصالُهُ أي فطامه فِي عامَيْنِ في انقضاء عامين، وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصيّنا الْمَصِيرُ المرجع، فأحاسبك على الشكر أو الكفر. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ مطابق للواقع فَلا تُطِعْهُما في ذلك مَعْرُوفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة، أو صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع في الدين طريق من رجع إلي بالتوحيد والإخلاص في الطاعة. وأَنابَ رجع إلى ربه بالتوبة والاستغفار فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أخبركم بأعمالكم، وأجازيكم على الإيمان والكفر. والآيتان: وَوَصَّيْنَا.. وَإِنْ جاهَداكَ.. معترضتان ضمن وصية لقمان، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك، كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به. إِنَّها إِنْ تَكُ أي إن الخصلة السيئة أو الحسنة مِثْقالَ حَبَّةٍ وزن أصغر شيء مِنْ

المناسبة:

خَرْدَلٍ وزن حبة خردل فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي في أخفى مكان فيهما يَأْتِ بِهَا اللَّهُ فيحاسب عليها لَطِيفٌ باستخراجها، يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ بمكانها، عالم بكنه الأشياء وحقائقها وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد، وبسبب الأمر والنهي إِنَّ ذلِكَ المذكور من كل ما أمر به ونهى عنه مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها، أو من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عنهم ولا تولّهم صفحة وجهك، كما يفعل المتكبرون، والأصعر: المعرض بوجهه كبرا، مأخوذ من الصّعر، وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه مَرَحاً خيلاء وبطرا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي يعاقب كل متبختر في مشيه، فخور على الناس. وهو علة للنهي. والمختال: فاعل الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبرا، والفخور من الفخر: وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه غير مختال ولا مستضعف، وغير مسرع ولا مبطئ وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وهو ضعيف: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» والمقصود بقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشى أسرع» أنه يسير ما فوق دبيب المتماوت وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي أنقص منه وأقصر أو اخفض إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أقبحها وأزعجها وأصعبها على السامع لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أوله زفير وآخره شهيق. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتقاد المشركين وأن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة والعلم المرشد إلى الإقرار بوحدانيته، وإن لم يكن هناك نبوة، فإن لقمان توصل إلى إثبات التوحيد وإطاعة الله والتزام مكارم الأخلاق دون نبي ولا رسول. وهذا إشارة إلى أن اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم لازم فيما لا يعقل معناه، إظهارا للتعبد، ولازم من باب أولى فيما يدرك بالعقل معناه. التفسير والبيان: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي وتالله لقد أعطينا لقمان «1» الحكمة وهي التوفيق

_ (1) روى ابو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتخذوا السودان، فإن

إلى العمل بالعلم والفهم، وشكر الله وحمده على نعمه وأفضاله، وحب الخير للناس، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير والنفع. وهذا دليل على أن لقمان الحكيم هداه الله إلى المعرفة الصحيحة، من غير طريق النبوة. ومن يشكر الله على ما منحه وأعطاه ربه، فيطيعه ويؤدي فرضه، فإنما يحقق النفع والثواب لنفسه، وينقذها من العذاب، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت 41/ 46] وقال عز وجل: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم 30/ 44] . ومن جحد نعمة الله عليه، فأشرك به غيره، وعصى أوامره، فإنه يسيء إلى نفسه، ولا يضر ربّه، فإن الله غني عن العباد وشكرهم، لا يتضرر بذلك، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وهو المحمود في السماء والأرض بلسان الحال أو المقال، وإن لم يحمده أحد من الناس. ثم ذكر تعالى وصية لقمان (وهو كما ذكر ابن كثير لقمان بن عنقاء بن سدون) لابنه (وهو ثاران في قول السهيلي والطبري والقتبي) فقال: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، وَهُوَ يَعِظُهُ: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ واذكر حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة، حرصا عليه لأن الأب يحب ابنه وهو أشفق الناس عليه، فقال له: يا ولدي، اعبد الله ولا تشرك به شيئا، فإن الشرك أعظم الظلم، أما إنه ظلم فلكونه وضع الشيء في غير موضعه، وأما كونه أعظم الظلم فلتعلقه بأصل الاعتقاد وتسويته بين الخالق والمخلوق، وبين المنعم وحده وبين غير المنعم أصلا، وهي الأصنام والأوثان.

_ ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن» قال الطبراني: أراد الحبش (تفسير ابن كثير: 3/ 447) .

والآية عطف على معنى ما سبق، وتقديره: ولقد آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه، وحين جعلناه واعظا لغيره. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت آية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام 6/ 82] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» . ثم أمر الله تعالى ببرّ الوالدين، جريا على عادة القرآن، فإنه كثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين الأمر بعبادة الله واجتناب الشرك وبين الأمر ببرّ الوالدين، كما في قوله سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] ، فقال: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وأمرنا الإنسان وألزمناه ببرّ والديه وطاعتهما، وأداء حقوقهما، ولا سيما برّ الأم التي حملته في ضعف فوق ضعف، من الحمل إلى الطلق إلى الولادة والنفاس، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين والتربية ليلا ونهارا، كما قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] وقد بيّن الحديث النبوي أحقية الأم بالبرّ، فأوصى بها ثلاث مرات، ثم أوصى بالأب في المرة الرابعة، فجعل له ربع المبرة. لقد وصيناه، أي أمرناه وعهدنا إليه بالشكر لي أي لله على نعمتي عليك، وبالشكر للوالدين لأنهما سبب وجودك، ومصدر الإحسان إليك بعد الله تعالى. وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي لبيان علة الوصية أو وجوب امتثالها، والْإِنْسانَ هنا في رأي الزمخشري تفسيرية، والجملة بيان لفعل التوصية، إذ هو متضمن معنى القول، أي قلنا له: اشْكُرْ لِي.

وكذا علة الأمر بطاعة الله وطاعة الأبوين أو السبب فيه: هو أن المصير أو المرجع إلي، فسأجزيك على ذلك أوفر الجزاء في الآخرة. وهذا تهديد وتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبرّ الوالدين وصلتهما. وهذه الآية وما بعدها من كلام لقمان الذي وصى به ابنه، أخبر الله عنه بذلك، فلما بيّن لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه، كان ذلك حثّا على طاعة الله، ثم بيّن أن الطاعة تكون للأبوين، وبيّن السبب في ذلك. وقيل: هو من كلام الله قاله للقمان، أي قلنا له: اشْكُرْ، وقلنا له: وَوَصَّيْنَا، وقيل: هذه الآية اعتراض بين وصية لقمان تؤكد النهي عن الشرك، قال القرطبي: والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت السابقة: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [8] نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية التي حلفت ألا تأكل حتى يرتد سعد، وعليه جماعة من المفسرين «1» . والمختار عند المفسرين أن هذه الآية إلى آخر الآيتين بعدها كلام مستأنف من الله تعالى، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه، تأكيدا للنهي عن الشرك. ثم قيّد الله طاعة الأبوين مستثنيا حقوقه تعالى، فقال: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما أي وإن ألحّ والداك في الطلب، وحرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما في دينهما، وتشرك بي في عبادتي غيري مما لا تعلم أنه شريك لي، فلا تقبل منهما ذلك، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو المعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 63، البحر المحيط: 7/ 186 وما بعدها.

معصية الخالق. والمراد بنفي العلم نفي الشريك، أي لتشرك بي ما ليس بشيء وهي الأصنام. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لا يمنعك عدم طاعتك لأبويك في الشرك والمعصية من أن تصاحبهما في الدنيا بالمعروف، بأن تحسن إليهما، فتمدهما بالمال عند الحاجة، وتطعمهما وتكسوهما، وتعالجهما عند المرض، وتواريهما عند الموت في القبور، وتبرّ صديقهما، وتفي بعهدهما. وقوله مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا على مقتضى الكرم والمروءة، أو مصاحبا حسا بخلق جميل، وحلم واحتمال، وبرّ وصلة. وقوله: فِي الدُّنْيا تهوين شأن الصحبة، فهي لأيام محدودة، وسنوات معدودة، سريعة الزوال والانقضاء. والمعروف هنا: ما يعرفه الشرع ويرتضيه، وما يقتضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما والإحسان إليهما في القول والفعل. وإياك والمحاباة في شأن الدين، فالزم سبيل المؤمنين التائبين في دينك، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما فيه، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا. ثم إليّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر. والجملة مقررة لما قبلها ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما في غير معصية. ثم أخبر تعالى عن بقية وصايا لقمان الحكيم النافعة، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال: 1- يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي يا ولدي، إن

الحسنة والسيئة أو المظلمة والخطيئة، لو كانت تساوي وزن أو مثقال حبة خردل، ولو كانت في أخفى مكان كجوف صخرة، أو في أعلى مكان كالسماوات، أو في أسفل موضع كباطن الأرض، لأحضرها الله يوم القيامة حين الحساب، ووزن الأعمال، والمجازاة عليها خيرا أو شرا، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء 21/ 47] وقال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 99/ 7- 8] . وقوله: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ يراد به المبالغة والانتهاء في التفهيم. إن الله لطيف العلم، يصل علمه إلى كل شيء خفي، فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقت ولطفت وتضاءلت، خبير عالم بكنه الأشياء، يعلم ظواهر الأمور وبواطنها. والمقصود من الآية بيان سعة علم الله، فهو يعلم الغيب والشهادة، ويطلع على جميع أعمال عباده، لموافاتهم بجزائها يوم القيامة. 2- يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي بعد أن منعه من الشرك، وخوفه بعلم الله وقدرته، أمره بصالح الأعمال اللازمة للتوحيد وهي الصلاة أي العبادة لوجه الله مخلصا، وإقامتها أي أداؤها كاملة بحدودها وفروضها وأوقاتها، وهي عماد الدين، ودليل الإيمان واليقين، ووسيلة القربى إلى الله وتحقيق رضوانه، كما أنها تساعد على اجتناب الفحشاء والمنكر، وصفاء النفس. والأمر بالمعروف أي أمر النفس والغير بما هو معروف شرعا وعقلا، كمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، مما يهذب النفس ويدعو إلى التحضر والتمدن، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] .

والنهي عن المنكر، أي منع النفس والآخرين من المعاصي والمنكرات المحرّمة شرعا والقبيحة عقلا، والتي تغضب الله، وتوجب عذاب جهنم. والصبر على الأذى والشدائد والأوامر الإلهية، فإن الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر يؤذى عادة، فطلب منه الصبر. وقد بدئت الوصايا بالصلاة لأنها عماد الدين وختمت بالصبر لأنه أساس المداومة على الطاعات، وعماد رضوان الله، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة 2/ 45] . إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي إن ذلك المذكور مما أمر الله به ونهى عنه، ومنه الصبر على أذى الناس، لمن الأمور الواجبة المعزومة، أي المقطوعة قطع إيجاب وإلزام «1» ، ويكون المصدر «عزم» بمعنى المفعول. وبعد أمره بما يكمل نفسه وغيره، نهى عن أشياء وحذر من أشياء، فقال: 1- وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا، والمعنى: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، ولا تتكلم وأنت معرض، بل كن متواضعا سهلا هينا لينا منبسط الوجه، مستهل البشر، كما جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله» . 2- وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي لا تسر في الأرض مختالا بطرا متبخترا، جبارا عنيدا، فإن تلك المشية يبغضها، والله يكره كل مختال معجب في نفسه، فخور على غيره، كما قال تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا

_ (1) ومنه الحديث: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» أي لم يقطعه بالنية، ومنه الحديث الآخر: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصة، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» .

[الإسراء 17/ 37] . وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر: «من جرّ ثوبه خيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة» . والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي، ولا يشكر الله تعالى» . وروى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا احضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة» وروى أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ربّ ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، لو قال: اللهم إني أسألك الجنة، لأعطاه الله الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا» . وروى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، فيقول: يا ابن آدم، ما غرّك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غرّك بي! لقد كنت تمشي حولي فدّادا (مختالا متكبرا) . 3- وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي امش مشيا متوسطا عدلا، ليس بالبطيء المتثبّط المتماوت الذي يظهر الضعف تزهدا، ولا بالسريع المفرط، الذي يثب وثب الشيطان، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» ، وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشى أسرع في مشيته» فالمراد السرعة التي تتجاوز دبيب المتماوتين. وقد رأى عمر رجلا متماوتا، فقال له: «لا تمت علينا ديننا، أماتك الله» ، ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له: «ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض» . 4- وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أي لا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، وأخفضه، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع، وتدل على الغرور والاعتداد بالنفس وعدم الاكتراث بالغير، واعتدال الصوت أوقر

فقه الحياة أو الأحكام:

للمتكلم، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه، وقد علل النهى عن رفع الصوت بأنه يشبه صوت الحمير في علوه ورفعه، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير، وهو بغيض إلى الله تعالى، والسبب أن أوله زفير وآخره شهيق. وفيه دلالة على ذمّ رفع الصوت من غير حاجة، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذمّ، وقد ورد في السّنة أيضا ما يدل على التنفير منه، روى الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن الشرك بالله أو اتخاذ عبد من عباده أو صنم من الأصنام شريكا في العبادة مع الله ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، لما فيه من الافتئات على الخالق الرازق، وسخف هذا الاعتقاد، وخلوة من أي فائدة للمشرك. وقد حققت وصية لقمان لابنه هدفها، فقد ورد في التفسير أن ابنه كان مشركا، فوعظه وكرر الوعظ عليه حتى أسلم. 2- برّ الوالدين وطاعتهما في معروف غير معصية فرض واجب على الإنسان، مقابلة للمعروف بمثله، ووفاء للإحسان، وتقدير الفضل، واحترام نظام الأسرة. وأمر الله بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكافرين، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة. غير أن طاعة الأبوين غير مطلوبة، بل هي حرام في ارتكاب معصية كبيرة كالإشراك بالله، وترك فريضة عينية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتندب الطاعة في ترك المندوبات ومنها الجهاد

الكفائي، وإجابة الأم في الصلاة النافلة إذا شقّ عليها الانتظار أو خيف هلاكها. وتختصّ الأم بزيادة البرّ والطاعة لمعاناتها في سبيل تربية أولادها، وبما أنها كما ذكرت الآية تعرضت لمراتب ثلاث من المشاق: الحمل، والرضاع، والوضع، جعل لها ثلاثة أرباع المبرّة، وللأب الربع، قال صلّى الله عليه وسلّم لرجل سأله فيما رواه البخاري وغيره: «من أبرّ؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» . 3- أقصى مدة الرضاع في أحكام النفقات والتحريم بالرضاع عامان، وقصر مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم على عامين هو رأي العلماء غير أبي حنيفة. ورأى أبو حنيفة أن مدة الرضاع المحرم ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً. واستنبط العلماء أيضا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من مجموع آيتين، قال تعالى في آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] ، وقال في آية أخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف 46/ 15] . 4- الشكر لله على نعمة الإيمان وغيرها من النعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى، وللوالدين على نعمة التربية، قال سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما. 5- آية وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً دليل على جواز صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعوة إلى الإسلام برفق. ويؤيده أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري

ومسلم- وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة، أو خالتها-: «يا رسول الله، إن أمي قدمت علي، وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم» قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء: هي قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام. ودلّ قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً على أن الولد لا يستحق القصاص على أحد والديه، وأنه لا يحدّ له إذا قذفه، ولا يحبس له بدين عليه، وأن على الولد نفقة والديه عند الحاجة. 6- قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ المراد به العموم، كما هو ظاهر اسم الموصول، فهو وصية لجميع العالم، والمأمور الإنسان، وهي سبيل الأنبياء والمؤمنين الصالحين. وأناب معناه: مال ورجع إلى الشيء، والمراد هنا: تاب من الشرك، ورجع إلى الإسلام، واتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورجع إلى الله بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، لا سبيل الوالدين اللذين يأمران بالشرك. وهذا الأمر باتباع السبيل دليل على صحة إجماع المسلمين، وأنه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم، وهو مثل قوله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء 4/ 115] . 7- قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ.. توعد من الله عزّ وجلّ ببعث من في القبور، والرجوع إليه للجزاء والاعلام بصغير الأعمال وكبيرها. 8- قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ.. قصد به إعلام قدرة الله تعالى، وتخويف منه ورجاء، فمهما تكن الحسنة أو الخطيئة أو الطاعات والمعاصي مثقال حبة خردل يأت بها الله، لأن الحسّ لا يدرك ثقلا للخردلة، إذ لا ترجّح ميزانا.

وفسّر القرطبي الآية بأنه لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في أي مكان في العالم العلوي (السموات) والسفلي (الأرض) جاء الله بها، حتى يسوقها إلى من هي رزقه أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتّباع سبيل من أناب إلي. ومن هذا المعنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن مسعود فيما رواه البيهقي في القدر، وهو ضعيف: «لا تكثر همّك، ما قدّر يكن، وما ترزق يأتك» . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا سبحانه لا شريك له. 9- في الآية تعظيم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يشمل جميع الطاعات والفضائل، والحضّ على تغيير المنكر والصبر، وإن نال الإنسان ضرر، وفيه إشعار بأن المغيّر يؤذى أحيانا. كما أن الصبر مندوب إليه عند التعرض لشدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وعلى الإنسان ألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عزّ وجلّ، فإن من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره. وإن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور، أي مما عزمه الله وأمر به، وجعله من الأمور الواجبة. 10- دلّ قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ على تحريم التكبر، ومعنى الآية: ولا تمل خدك للناس تكبرا عليهم، وإعجابا بالنفس، واحتقارا لهم، وأقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا، وإذا حدّثك أصغر الناس، فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، كما كان يفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. والخلاصة: لا تدبر عن المتكلم، كما روى مالك عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» فالتدابر والإعراض وترك

الكلام والسلام من المحظورات. 11- يحرم على الإنسان أن يمشي في الأرض متبخترا متكبرا، بل يحرم التكبر في كل الحالات. 12- يندب للإنسان القصد أي التوسط في المشي، وهو ما بين الإسراع والبطء، فلا تدبّ دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشيطان. 13- كما يندب إليه عدم التكلف في رفع الصوت، والتكلم حسب الحاجة والمعتاد، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذي، والمراد بذلك كله التواضع. وقد شبّه رفع الصوت الزائد عن الحاجة بصوت الحمير، والحمار ونهاقه مثل في الذمّ البليغ والشتيمة. وفي الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية. والآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة، وقد نهى الله عنه، لأنه من أخلاق الجاهلية وعاداتها، فقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك. وتلك إشارة إلى التوسط في جميع الأفعال والأقوال. والخلاصة: جمعت وصية لقمان بين فضائل الدين والآخرة ومكارم الأخلاق في الدنيا، واشتملت تسعة أوامر، وثلاثة نواه، وسبع علل أو أسباب: أما الأوامر: فهي الأمر ببرّ الوالدين، والشكر لله وللوالدين، ومصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف، واتباع سبيل الأنبياء والصالحين، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاعتدال في المشي، وإخفاض الصوت.

توبيخ المشركين على الشرك مع مشاهدة دلائل التوحيد [سورة لقمان (31) الآيات 20 إلى 21] :

وأما النواهي: فهي النهي عن الشرك، والنهي عن تصعير الخد (الإعراض عمن تكلم تكبرا) والنهي عن المشي مرحا (اختيالا وتبخترا) . والتعليلات أو الأسباب هي: 1- وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. 2- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. 3- إِلَيَّ الْمَصِيرُ، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. 4- إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. 5- إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. 6- إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. 7- إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. توبيخ المشركين على الشرك مع مشاهدة دلائل التوحيد [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) الإعراب: نِعَمَهُ ظاهِرَةً أراد: نعم الله، جمع نعمة، وظاهِرَةً حال. وقرئ: نعمة، ونعمته.

البلاغة:

البلاغة: ظاهِرَةً وَباطِنَةً بينهما طباق. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إنكار وتوبيخ، مع الحذف، أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان. إلخ ... المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ أي ألم تعلموا أيها المخاطبون أن الله ذلل لكم جميع ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك، بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم. وَما فِي الْأَرْضِ بأن مكنكم من الانتفاع به، كالثمار والأنهار والدواب والمعادن وما لا يحصى. وَأَسْبَغَ أكمل وأوسع وأتمّ. نِعَمَهُ جمع نعمة: وهي كل نفع قصد به الإحسان. ظاهِرَةً وَباطِنَةً محسوسة ومعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه، فالظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة كحسن الصورة وتسوية الأعضاء، والباطنة: ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها!! وَمِنَ النَّاسِ بعض الناس كأهل مكة في صدر الإسلام. مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده وصفاته. بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل أو بغير حجة. وَلا هُدىً أي ولا هداية من رسول. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله، بل بالتقليد. بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي ما سار عليه الأسلاف، وهو منع صريح من التقليد في الأصول كالاعتقاد. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي أيتبعونهم، ولو دعاهم الشيطان إلى موجبات عذاب جهنم، وهو الإشراك أو التقليد، وجواب لَوْ محذوف، أي لا تبعوه، والاستفهام للإنكار والتعجيب. المناسبة: بعد أن استدل الله تعالى بقوله: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ على الوحدانية وذكر أن لقمان عرف ذلك بالحكمة، لا بالنبوة، عاد إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا في عالم السموات والأرض، وتسخير ما فيها لمنافعهم، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي ألم تعلموا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله سبحانه في كل شيء، وإنعامه عليكم، فهو الذي ذلل لكم جميع ما في السموات من شمس وقمر ونجوم، تستضيئون بها في الليل والنهار، وما خلق فيها من سحاب ينزل منه المطر، لسقي الإنسان والحيوان والنبات، ويسر لكم جميع ما في الأرض من قرار ومعادن، وأنهار وبحار، وأشجار وزروع، وثمار، ونحو ذلك من المنافع الغذائية، وأكمل وأتم عليكم نعمه الظاهرة والباطنة أي المحسوسة والمعقولة، المعروفة وغير المعروفة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإزالة الشّبه والعلل والأعذار. وقيل: الظاهرة: الإسلام، والباطنة: الستر قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس- وقد سأله عن هذه الآية-: «الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيء عملك» . وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات. ومع هذا كله، ما آمن الناس كلهم، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا هُدىً، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي وبالرغم من ثبوت الألوهية بالخلق والإنعام، فهناك فريق من الناس يجادل في توحيد الله وصفاته وإرساله الرسل، كزعماء الوثنية في مكة وغيرها، بغير دليل معقول، ولا مستند أو حجة صحيحة على يد رسول، ولا كتاب مأثور صحيح ينير الطريق الحق.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ معناه: لا من علم واضح، من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب مبين واضح. وإنما حجتهم الوحيدة هو التقليد الأعمى، واتباع الهدى والشيطان، لذا تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع المطهرة، لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين فيما اعتقدوه من دين. وهذا في غاية القبح، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى كلام الله الهادي إلى الحق والخير، وهم يأخذون بكلام آبائهم. وهذا منع صريح من التقليد في أصول العقيدة، لذا وبخهم الله على سوء مقالتهم فقال: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟ أي أيتبعونهم بلا دليل، ولو كان اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم، والله يدعو إلى النجاة والثواب والسعادة؟! وهذا كقوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة 2/ 170] أي ولو كان آباؤهم المحتجون بصنيعهم على ضلالة، فلا عقل عندهم ولا هداية معهم؟! وهم خلف فيما كانوا فيه. وهذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار، يتضمن التهكم عليهم، وتسفيه عقولهم، والسخرية من آرائهم. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي:

سلامة منهج المؤمن وسوء طريقة الكافر [سورة لقمان (31) الآيات 22 إلى 24] :

1- الدليل على وحدانية الله الخلق والإنعام، فإنه خلق السموات بما فيها من شمس وقمر ونجوم وملائكة، وذللها للناس، جالبة لهم المنافع، وخلق الأرض وما فيها من جبال وأشجار وثمار ومعادن وماء وهواء وبخار وذرة وما لا يحصى، وكلها لنفع الإنسان. وأكمل النعم وأتمها على بني آدم، سواء كانت ظاهرة مشاهدة محسوسة، كالصحة وكمال الخلقة والمال والجاه والجمال، وشرائع الإسلام، أو معقولة مجردة كالمعرفة والعقل وحسن اليقين بالله تعالى، وسواء كانت معروفة أو ستعرف علميا مع تطور الاكتشافات العلمية المتجددة في كل عصر. 2- بالرغم من كثرة الأدلة الدالة على توحيد الله من الخلق والإنعام، فإن فريقا من الناس كالنّضر بن الحارث وأبيّ بن خلف يجادلون أو يخاصمون في التوحيد بغير حجة عقلية أو نقلية من سنة رسول أو بيان كتاب مضيء نيّر، وإنما الحجة هي الشيطان فيما يلقى إليهم، وإلا تقليد الأسلاف، كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام 6/ 121] . 3- إذا أمر المشركون باتباع ما أنزل الله على رسوله من الآيات البينات والشرائع المطهرة، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بتقليد الآباء والأجداد، وبما يزين لهم الشيطان من الوساوس والأهواء، فإنهم يتبعونه على ضلال. سلامة منهج المؤمن وسوء طريقة الكافر [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)

البلاغة:

البلاغة: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ مجاز مرسل في وَجْهَهُ من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل. وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ بينهما ما يسمى بالمقابلة. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تشبيه تمثيلي، شبّه من تمسك بالإسلام بمن أراد الصعود إلى قمة جبل، فتمسك بأوثق حبل، وحذف أداة التشبيه للمبالغة. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر. عَذابٍ غَلِيظٍ استعارة الغلظ للشدة لأنه إنما يكون للمادة الكثيفة، فاستعير للمعنى. المفردات اللغوية: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يفوض أمره إليه، ويقبل على طاعته، ويخلص عبادته إليه. وَهُوَ مُحْسِنٌ متقن عمله. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق بأوثق وأمتن ما يتعلق به، وهو الطرف الأوثق الذي يؤمن انقطاعه، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرا الحبل المتدلي منه. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ مرجعها إذ الكل صائر إليه. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يضرك في الدنيا والآخرة، ولا تهتم بكفره. إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي مصيرهم إلى الله في الدارين. فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا نجازيهم بأعمالهم بالإهلاك والتعذيب. عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحديث النفس الكائن في الصدور كما أنه عليم بما في غيرها، فمجاز عليه. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا نمتعهم في الدنيا أيام حياتهم تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا، فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. نَضْطَرُّهُمْ نلزمهم في الآخرة. إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم، وهو عذاب النار، لا يجدون عنه محيصا. المناسبة: بعد بيان حال الكافر المجادل في الله جهلا وعنادا، أبان الله تعالى حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه، ثم أردفه بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من إعراض المشركين عن دعوته عنادا، وهددهم بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، مع التنبيه بأن عذاب الآخرة أشد وأثقل.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي ومن يخلص العبادة والعمل إلى الله، وينقاد لأمره، ويتبع شرعه، مع إتقان عمله باتباع ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه وزجر، فقد تمسك بالحبال الواثقة، أي تعلق بأوثق الوسائل الموصلة إلى رضوان الله، وسيلقى الجزاء الحسن على عمله، لأن مصير المخلوقات كلهم إلى الله، فيجازي المتوكل عليه، المخلص عبادته إليه أحسن الجزاء، كما يعاقب المسيء بأشد العذاب. ثم نصح الله رسوله بألا يهتم بكفر الكافرين، فقال: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لا تغتم ولا تجزع على كفر الكافرين الذين كفروا بالله ورسوله، ولا تهتم بهم، ولا تحزن عليهم، فإن مصيرهم إلينا يوم القيامة وفي الدنيا، فنجازيهم بالإهلاك والعذاب، ولا تخفى عليه خافية منهم، ولا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم، فنخبرهم بما أضمرته صدورهم. وكلمة مَنْ تصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: كُفْرُهُ ثم قال: مَرْجِعُهُمْ وما بعده على المعنى. ثم بيّن مدى مقامهم في الدنيا، فقال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أي نجعلهم يتمتعون في الدنيا بزخارفها تمتعا قليلا أو زمانا قليلا، ثم نلجئهم ونلزمهم بعذاب شاق ثقيل شديد عليهم. والغلظ يكون في الماديات، وأستعير للمعنى، والمراد الشدة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أن الناس في الآخرة فريقان: فريق في الجنة، وفريق في

إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء [سورة لقمان (31) الآيات 25 إلى 32] :

السعير، فمن أخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى، وأتقن عمله، بأن عبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن ربّه يراه، فهو من الناجين الذين أخذوا موثقا متينا من الله أنه لا يعذبهم، ومنتهى الأمور كلها ومصيرها إلى الله تعالى. ومن أنكر وجود الله أو أنكر وحدانيته فأشرك به غيره، فإن الله يجازيه، والله عليم بكل ما أسرّ العبد وأعلن. وإن بقاء العالم في الدنيا قليل، فهم يتمتعون فيها مدة قليلة، ثم يساقون ويلجأون ويلزمون إلى عذاب شديد، هو عذاب جهنم. إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء [سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 32] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

الإعراب:

الإعراب: لَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي الأمثال، وحذف واو الضمير لالتقاء الساكنين. وَالْبَحْرُ الواو واو الحال، والْبَحْرُ: مبتدأ، وخبره: يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ والجملة حالية، وعامل الحال ما في أَقْلامٌ من معنى الفعل لأن (أقلاما) قام مقام (كاتبات) فكأنه قال: كاتبات والبحر يمده. ومن قرأ بالنصب، فهو معطوف على ما أو منصوب بتقدير فعل يفسره يَمُدُّهُ وتقديره: يمد البحر يمده، مثل: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس 36/ 39] أي قدرنا القمر قدرناه. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خَلْقُكُمْ مبتدأ، وكاف كَنَفْسٍ في موضع رفع خبر المبتدأ، وتقديره: ما خلقكم ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ولا يجوز أن تعمل ما بسبب إِلَّا لأنها تشبه (ليس) في نفي الحال، وإِلَّا تبطل منها معنى النفي، وهو وجه الشبه الموجب للعمل، وإذا زال وجه الشبه الموجب للعمل بطل العمل. البلاغة: صَبَّارٍ شَكُورٍ خَتَّارٍ كَفُورٍ خَبِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ صيغ مبالغة، وفيها ما يسمى توافق الفواصل أو السجع. فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فيه إيجاز بالحذف، والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر، دل على المحذوف قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ. المفردات اللغوية: وَلَئِنْ اللام لام القسم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غير

الله، بحيث اضطروا إلى الإقرار بوجوده. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور الحجة عليهم بثبوت التوحيد، وإلجائهم إلى الاعتراف بما يبطل اعتقادهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يجهلون إلزامهم بتلك الحجة. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، فلا يستحق العبادة فيهما غيره. هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه. الْحَمِيدُ المستحق للحمد، المحمود في صنعه. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي ولو صارت جميع الأشجار أقلاما. وإنما قال شَجَرَةٍ بالإفراد دون اسم الجنس الذي هو شجر، ليشمل كل شجرة على حدة، حتى لا يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة، إلا قد بريت أقلاما. وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي والبحر المحيط يمده بسعته مدادا، فاكتفى بذكر يَمُدُّهُ عن ذكر المداد لأنه من مدّ الدواة وأمدها. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي معلوماته، بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد ولا بأكثر من ذلك لأن معلوماته تعالى غير متناهية. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ لا يخرج شيء عن علمه وحكمته. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خلقا وبعثا، أي كبعث نفس واحدة وخلقها، إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولأنه يتم بكلمة كُنْ فَيَكُونُ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع. بَصِيرٌ يبصر كل مبصر، لا يشغله إدراك شيء عن شيء. أَلَمْ تَرَ تعلم أيها المخاطب. يُولِجُ يدخل الليل في زمن النهار وبالعكس، أي يضيف أحدهما إلى الآخر، فالله يزيد في كل من الليل والنهار بما نقص من الآخر. كُلٌّ يَجْرِي كل من الشمس والقمر النيرين يجري في فلكه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم مقدر، إلى نهاية دورة الشمس السنوية، ودورة القمر الشهرية، أو إلى يوم القيامة. بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه. ذلِكَ المذكور من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع. بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بسبب أنه الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته، أو الثابت الألوهية. وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ أي وأن ما يعبدون من غيره هو المعدوم في حد ذاته الذي لا يوجد، والزائل، أو الباطل الألوهية. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ المترفع على خلقه وعلى كل شيء بالقهر، والمتسلط عليه، وهو العظيم. الْفُلْكَ السفن. تَجْرِي تسرع. بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه وأنها تحمل الطعام والمتاع ونحوهما، وهو استدلال آخر على باهر قدرته وكمال حكمته وشمول إنعامه. لِيُرِيَكُمْ أيها المخاطبون بذلك. مِنْ آياتِهِ دلائله. لَآياتٍ علامات وعبرا. لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على المشاق وعن معاصي الله، فيتعب نفسه في التفكر في الآفاق والأنفس. شَكُورٍ لنعمته، يعرف النعم، ويتعرف ما نحها، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.

سبب النزول نزول الآية (27) :

غَشِيَهُمْ علاهم وغطاهم. كَالظُّلَلِ كالظلال التي تظل من تحتها، من جبال وسحاب وغيرها. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء بأن ينجيهم، أي لا يدعون معه غيره بسبب ما دهاهم من الخوف الشديد. مُقْتَصِدٌ متوسط بين الكفر والإيمان، أو مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، ومنهم باق على كفره. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها، ومنها الإنجاء من الموج. خَتَّارٍ غدار، فإنه نقض للعهد الفطري. كَفُورٍ شديد الجحود للنعم. سبب النزول: نزول الآية (27) : وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ: أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الروح، فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 85] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة 2/ 269] ، فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية. واخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا إيانا تريد أم قومك؟ فقال: كلّا عنيت، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي في علم الله قليل، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فنزل: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الآية.

نزول الآية (28) :

نزول الآية (28) : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ: نزلت الآية في أبيّ بن خلف وأبي بن الأسدين، ومنبّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تقول: إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. المناسبة: بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق السموات بغير عمد، وبإمداد خلقه بنعمه الظاهرة والباطنة، أبان الله تعالى أن المشركين معترفون بوجود الله، وأنهم يتضرعون إليه وحده وقت الشدة، ثم يعودون إلى كفرهم بعد النجاة. ثم أثبت تعالى وحدانيته بملكه ما في السموات وما في الأرض، ثم أقام الدليل على سعة علمه، وشمول قدرته على كل شيء، ومنه خلق الناس وبعثهم، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر في دورة محددة، وتسيير السفن في البحار بتيسيره وتهيئة أسبابه، علما بأن المشركين يعترفون بتلك الآيات. التفسير والبيان: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي وتالله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله من قومك: من الذي خلق السموات والأرض؟ لأجابوا: هو الله الخالق، فهم معترفون بأن الله خالق السموات والأرض، غير منكرين له، لوضوح الأمر، وعدم وجود البديل، بحيث اضطروا إلى إعلان هذا الاعتراف بالله، ومع هذا فهم يعبدون معه شركاء، يعترفون أنها مخلوقة لله، ومملوكة له.

قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي قل أيها الرسول: الحمد لله على اعترافكم، إذ قامت الحجة عليكم بإلجائكم إليه، وأن دلائل التوحيد واضحة، لا يكاد ينكرها أحد، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أنه ينبغي ألا يعبد مع الله غيره، وأن هذه الحجة تلزمهم، وتبين تناقضهم، وأنهم لم ينتبهوا مع وجود هذا التنبيه. وبعد انتزاع هذا الاعتراف الصريح بوجود الله وتوحيده، استدل الله تعالى على ذلك بقوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي لله جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصرفا، وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة غيره، لأنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، وهم مملوكون له، محتاجون إليه، وهو المحمود في الأمور كلها، وعلى نعمه التي أنعم بها، وعلى ما خلق وشرع. ومنعا لإيهام قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تناهي ملكه بحصره في الموجود في السموات والأرض، أبان تعالى أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادا (حبرا) وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مددا، إن الله قوي لا يعجزه شيء، حكيم في صنعه، لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، كامل القدرة، فيكون له مقدورات لا نهاية لها. وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، كما لم يرد أن هناك

سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم، والعرب تذكر السبعة والسبعين والسبع مائة، وتريد بذلك الكثرة. والخلاصة: أن الآية تخبر عن عظمة الله وكبريائه وجلاله وكلماته التامة ومعلوماته وأسراره التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فمعلوماته تعالى لا نهاية لها. ويكون المراد بكلمات الله: معلوماته، وقيل: هي ما في المعدوم، دون ما خرج من العدم إلى الوجود «1» . ونظير الآية: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف 18/ 109] وليس المراد بقوله: بِمِثْلِهِ آخر مثل فقط، بل بأمثاله، لأنه مفرد مضاف فيعم، كما أن كَلِماتُ وإن كانت جمع قلة، تفيد هنا الكثرة، لأن جموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمّت، وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق جميع أفراده. ولما بيّن الله تعالى كمال قدرته وعلمه وأن كلماته ومعلوماته لا يحيط بها أحد، أوضح أن هذا الخلق غير المنحصر قد أحاط به علما، وأنه قادر على البعث والمحشر كما قدر على الخلق أول مرة، فقال: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كسبة خلق نفس واحدة، الجميع هيّن عليه، كما قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] وقال تعالى أيضا: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء، لا يحتاج

_ (1) البحر المحيط: 7/ 192

إلى تكرار الأمر وتوكيده، وقال سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] فمن لا نفاد لكلماته يقول للموتى: كونوا، فيكونوا. وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي كما أن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة. وبعد بيان تسخيره تعالى ما في السموات وما في الأرض، ذكر هنا بعض ما فيهما على وجه الخصوص، بقوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ثم ذكر بعض ما في السموات بقوله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أردفه ببعض ما في الأرض بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ألم تشاهد أن الله في شأن تعاقب الليل والنهار، يزيد في زمن الليل على حساب النهار في الشتاء، ويزيد في ساعات النهار على حساب الليل في الصيف، فيأخذ من هذا ويضيفه إلى ذاك، فيطول أحدهما ويقصر الآخر. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي ذلّل النيرين لمصالح خلقه ومنافعهم، كل منهما يسير بسرعة إلى غاية محدودة، أو إلى يوم القيامة، وأن الله مطلع بدقة على جميع أعمالكم من خير وشر، ويجازيكم عليها، فهو الخالق العالم بجميع الأشياء. ثم ذكر الله تعالى الهدف من بيان آياته فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي إنما يظهر الله لكم آياته، ويبين عجائب قدرته وحكمته، لتستدلوا بها على أنه الحق، أي الموجود الثابت المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه

باطل زائل، فهو الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، لأن جميع ما في السموات والأرض خلقه وعبيده، ولا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه وقدرته ومشيئته، وأن الله تعالى هو العلي الذي لا أعلى منه، المرتفع على كل شيء، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، العظيم السلطان، فكل شيء خاضع له. وبعد ذكر الآيات السماوية الدالة على وجود الله تعالى وقدرته ووحدانيته، ذكر آية أرضية، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي ألم تعلم أيها المخاطب أيضا أن الله سخر البحر لتجري فيه السفن بأمره، أي بلطفه وإحسانه وتهيئة الأسباب، ليرشدكم إلى معرفته، ويظهر لكم شيئا أو بعضا من قدرته، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن، لما جرت. إن فيما ذكر من الأدلة السماوية والأرضية لأدلة واضحة وعلامات نيّرة لكل صبّار (كثير الصبر) في الضراء، شكور في الرخاء، لأن المؤمن متذكر ربه، فيصبر إذا أصابته نقمة، ويشكر إذا أتته نعمة، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» . ثم ذكر الله تعالى تناقض المشركين واضطرابهم من اللجوء إليه حين الضراء، ونسيانه حال السراء، فقال: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ أي وإذا أحدقت بهم مخاطر الأمواج العالية التي تشبه الجبال والغمام، رجعوا إلى الفطرة، ودعوا الله دعاء حارّا، مخلصين له الطاعة، لا يشركون به غيره، مستغيثين به وحده، فلما رحمهم ونجوا بفضله من الأهوال المحدقة، ووصلوا إلى شاطئ البر والسلامة، فمنهم

فقه الحياة أو الأحكام:

مقتصد في الكفر، منزجر بعض الانزجار، متجه إلى توحيد الله، ومنهم غدّار ناقض للعهد، كافر بأنعم الله، وما يكفر بآياتنا الكونية والقرآنية إلا كل كثير الغدر، كفور بما أنعم الله عليه. ونظير الآية: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 17/ 67] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- لا يجد المشركون بدا عند سؤالهم عن خالق السموات والأرض من الإجابة بأنه هو الله تعالى، فهم يعترفون بأن الله خالقهن، فلم يعبدون غيره؟! فالحمد لله على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا ينظرون ولا يتدبرون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، ودلت الآية الثانية التي تلتها على أن جميع ما في السموات، والأرض لله ملكا وخلقا، وأن الله هو الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم بالعبادة لينفعهم، والله هو المحمود في صنعه. 2- دلت الآية الأخيرة: وَإِذا غَشِيَهُمْ على اعتراف آخر من المشركين بوجود الله ووحدانيته، فإنهم إذا تعرضوا لمخاطر الغرق بسبب اضطراب البحر، وارتفاع الأمواج، لم يجدوا بديلا غير الله للجوء إليه، فيدعونه موحدين له، لا يدعون لخلاصهم سواه، فإذا ما نجوا من البحر، ووصلوا إلى البر والأمان، فمنهم مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة، موفّ بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم كافر، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ أي لا ينكر دلائل الآيات على توحيد الله إلا كل غدّار مغرق في الكفر، جحود للنعم، لا يشكرها، بل يتناساها ولا يذكرها.

3- إن معاني كلام الله سبحانه لا تنفد، وإنها لا نهاية لها، ولا يمكن حصرها ولا عدها، وقد دلنا على ذلك هذا البيان القرآني: وهو لو كانت الأشجار أقلاما، والبحار مدادا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، لأنه تعالى القديم الذي لا نهاية له ابتداء وانتهاء، أما المخلوق فلا بد له من بداية ومن نهاية، والمقصود من الكلمات: الكلام القديم، والمراد بالآية الاعلام بكثرة معاني كلمات الله، هي غير متناهية في نفسها، وإنما قرّب الأمر بهذا المثال لأفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور. وإذا كانت معاني كلام الله لا نهاية لها، فعلم الله بحقائق الأشياء لا يمكن حصره، وإنما هو واسع شامل. والخلاصة: أن كلمات الله هي مقدوراته وعجائبه، أو معلوماته. 4- ما ابتداء خلق جميع البشر إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثهم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة، وإن الله سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون. 5- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آية سماوية دالة على قدرة الله تعالى، وقوله: وَسَخَّرَ.. أي ذلّلهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال، وإتماما للمنافع، وجعل الطلوع والغروب في وقت محدد لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وينتهي وجودهما بانتهاء السموات والأرض يوم القيامة. ومن قدر على هذه الأشياء، فلا بدّ من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقد فعل الله تعالى ذلك (الزيادة والنقص في الليل والنهار وتسخير

الأمر بتقوى الله وبيان مفاتح الغيب [سورة لقمان (31) الآيات 33 إلى 34] :

النيرين) لتعلموا وتقرّوا بأن الله هو الإله الحق، وأن ما عداه باطل زائل لا وجود له ولا حقيقة له، وأن الله هو العلي في مكانته، الكبير في سلطانه. 6- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي آية أرضية دالة على قدرة الله تعالى، فهو الذي جعل الماء قادرا على حمل السفن، وسيّرها إما بالهواء، وإما بتعليم الإنسان وإلهامه الاستفادة من الطاقة البخارية أو النفطية أو الذرية أو الكهربائية لجريها السريع. كل ذلك ليرينا الله تعالى بعض آياته، ويجعلنا نشاهد بعض مظاهر قدرته في البحار، وفي ذلك علامات وعبر وعظات لكل صبّار على قضاء الله، شكور على نعمائه، قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم تخريجه: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» . وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. الأمر بتقوى الله وبيان مفاتح الغيب [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) الإعراب: وَاخْشَوْا يَوْماً يَوْماً منصوب على أنه مفعول وَاخْشَوْا ولا يجوز أن يكون ظرفا، لأنه يصير الأمر بالخشية في يوم القيامة، ويوم القيامة ليس بيوم تكليف، وإنما هو يوم الجزاء.

المفردات اللغوية:

وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ مرفوع معطوف على والِدٌ المرفوع الذي هو فاعل يَجْزِي وهُوَ تأكيد لما في مَوْلُودٌ من الضمير، ولا يجوز أن يكون هُوَ ضمير فصل، لأن الفصل لا يدخل بين النكرتين. ماذا تَكْسِبُ غَداً ماذا منصوب ب تَكْسِبُ لا ب تَدْرِي لأن الاستفهام ينتصب بما بعده لا بما قبله، هذا إذا جعل (ما وذا) بمنزلة شيء واحد، فإن جعلا بمنزلة كلمتين، وجعلا بمنزلة (الذي) وجعل موضع ماذا مرفوعا، لم يجز نصبه ب تَدْرِي لما ذكر، وإنما نحكم على موضع الجملة بالنصب بدخوله عليها. المفردات اللغوية: اتَّقُوا رَبَّكُمْ خافوا عقابه. لا يَجْزِي لا يقضي فيه، أو لا يغني. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ إن تغيير النظم بين يَجْزِي وجازٍ للدلالة على أن المولود أولى بألا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث وبالثواب والعقاب صدق لا يمكن إخلافه. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ فلا تخدعنكم. وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان وكل ما غرّ الإنسان من مال وجاه، والشيطان يرجّي بالتوبة والمغفرة، فيجسّر على المعاصي. عِلْمُ السَّاعَةِ علم وقت قيام القيامة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ بوقت يعلمه. ما فِي الْأَرْحامِ من الذكورة والأنوثة، والتمام والنقص، والحياة والموت، وغير ذلك من خواص الجنين وأحواله وأعراضه. ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وتنفيذ العزم على شيء وخلافه. بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي كما لا تدري في أي وقت تموت، والله يعلمه وحده. عَلِيمٌ بكل شيء، يعلم الأشياء كلها. خَبِيرٌ يعلم الباطن والظاهر. سبب النزول: نزول الآية (34) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية هو الحارث بن عمرو «1» ، فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.

_ (1) في رواية قتادة: اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة.

المناسبة:

المناسبة: بعد ذكر دلائل التوحيد من أول السورة إلى آخرها، أمر الله تعالى بتقوى الله والخوف منه، والخشية من يوم القيامة، لأنه تعالى لما كان واحدا أوجب التقوى البالغة، وأنذر الناس يوم المعاد، وأخبر بأنه حق كائن، ثم أردفه ختاما للسورة ببيان ما استأثر الله بعلمه، وهي مفاتح الغيب الخمسة، لأنه بعد هذا الإنذار كأن قائلا قال: فمتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن العلم بهذه الأمور لا يحصل لغير الله، ولكن يوم المعاد كائن لا بد منه، وإن لم يعلم الناس وقته، والله قادر عليه. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً أي يا أيها البشر من كفار ومؤمنين خافوا الله الذي خلقكم ورزقكم، وسخر لكم هذا الكون، واحذروا عقابه، واخشوا يوما شديد الهول هو يوم القيامة الذي لا يغني فيه والد عن ولده، فلو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، ولا مولود هو مغن عن والده أو نافع والده شيئا، فلو أراد فداء والده بنفسه، لم يقبل منه، إذ لا يستطيع أحد أن يشفع بأحد إلا بإذن الله، ولا جدوى عند الله إلا بالعمل الصالح الحاصل في الحياة الدنيا. ثم أخبر الله تعالى عن حدوث هذا اليوم حتما، فقال: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعد الله بالبعث وبالثواب والعقاب أمر ثابت مؤكد حصوله، ولا شك فيه، ولا خلف لوعده. ومقتضى التخويف الإعداد لهذا اليوم وترك التعلق بالدنيا، فقال تعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي لا تخدعنكم زينة

الدنيا، فتطمئنوا فيها، وتميلوا إليها، تاركين الاستعداد للآخرة، ولا يخدعنكم الشيطان بحلم الله وإمهاله، فيعدكم بالمغفرة، ويحملكم على المعصية بتزيينها لكم، وينسيكم الآخرة، كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء 4/ 120] . وفي الآية دلالة واضحة على أن الدنيا غرّارة بزخارفها ومتاعها، وأن الشيطان بوساوسه يقوي هذا الغرور بالدنيا، لصرف الناس عن الآخرة والتزود لها بصالح الأعمال. وقيل: الغرور: الدنيا، وقيل: تمني المغفرة في المعصية، والأماني الباطلة برحمة الله واعتماده على شفاعة شافع أو كونه مسلما محبا الله ورسوله بقلبه دون عمل، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: الغرة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة. وقد ردّ القرآن على هذه التمنيات بقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [النساء 4/ 123] . ثم ذكر الله تعالى مفاتح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلام بها، فقال: 1- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إن علم وقت الساعة (أي القيامة) مختص بالله سبحانه، فلا يعلم أحد بوقته سواه، لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، كما قال: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] . 2- وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي ويختص تعالى أيضا بمعرفة وقت إنزال المطر ومكانه المعين، لا يعلمه إلا الله، فإن أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه.

وأما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات والأمارات، وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح، فليس ذلك غيبا، وإنما هو تخمين وظن، قد يحدث نقيضه، كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة، يلاحظ فيها اتجاهات الرياح والمنخفضات الآتية من الشمال أو من الغرب مثلا. 3- وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي لا يعلم أحد إلا الله ما في الأرحام من خواص الجنين وأحواله العارضة له من طبائع وصفات وذكورة وأنوثة، وتمام خلقة ونقصها، فإن توصل العلماء بسبب التحليل الكيميائي كون الجنين ذكرا أو أنثى، فلا يعني ذلك غيبا، وإنما بواسطة التجربة، وتظل أحوال أخرى كثيرة مجهولة للعلماء، لا تعلم إلا بعد الولادة. قال القرطبي: وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك «1» . 4- وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً أي لا تعلم نفس ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها. 5- وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي وما تعلم نفس موضع موتها، في بلدها أو غيرها من بلاد الله، لا علم لأحد بذلك. روي أن ملك الموت مرّ على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبا منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 82

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي إن علم الله غير مختص بهذه الأمور الخمسة، بل هو عليم مطلقا بكل شيء، وليس علمه علما بظاهر الأشياء فحسب، بل خبير علمه، يعلم بواطن الأمور وظواهرها. ويلاحظ أنه جعل العلم لله في قوله: عِلْمُ وَيَعْلَمُ والدراية للعبد في قوله: وَما تَدْرِي نَفْسٌ لما في الدراية من معنى الختل والحيلة والمعنى: أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها. ونظير الآية: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] . وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» . ويلاحظ أن هذه الأمور الخمسة تشتمل على الدليلين المكررين في القرآن لإثبات البعث: أحدهما- إحياء الأرض بعد موتها، حيث قال تعالى هنا: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وقال في موضع آخر: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم 30/ 50] وقال تعالى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم 30/ 19] . والثاني- الخلق ابتداء، حيث قال هنا: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وقال في موضع آخر: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم 30/ 27] وقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت 29/ 20] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب الخوف من الله تعالى وتوحيده، وخشية يوم المعاد الذي لا بد من حصوله. 2- البعد عن الاغترار بزينة الحياة وزخارفها، والاتكال عليها والركون إليها، وترك العمل للآخرة. 3- إن الدنيا غرارة، وإن الشيطان يغرّ الناس ويمنّيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة، فيصبح الإنسان مغرورا يعمل بالمعصية ويتمنى بالمغفرة!! 4- لا يعلم أحد إلا الله تعالى بأمور خمسة: هي وقت الساعة، ووقت إنزال الغيث ومكانه، وعلم ما في الأرحام من أحوال الجنين وأوصافه العارضة له، وأعمال المستقبل القريب والبعيد، ومكان وفاة الإنسان. قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرّب، ولا نبي مرسل فمن ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه. أما الأنبياء فيعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. وبذلك يبطل كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء «1» عالمين بالغيبيات.

_ (1) الأنواء: جمع نوء: وهو سقوط نجم في المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر من المشرق يقابله في ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.

سورة السجدة:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة السجدة مكية، وهي ثلاثون آية. تسميتها وفضلها: سميت سورة السجدة لما فيها من وصف المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى ويسبحونه عند سماع آيات القرآن العظيم: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [15] . روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان 76/ 1] . وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 67/ 1] . مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة لقمان من ناحية اشتمال كل منهما على أدلة التوحيد وهو الأصل الأول للعقيدة، وبعد أن ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة الأصل الثاني وهو الحشر أو المعاد، وختم تلك السورة بهذين الأصلين، بدأ هذه السورة ببيان الأصل الثالث وهو الرسالة أو النبوة، فقال تعالى: الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ ...

موضوعها:

كذلك تعد بعض آيات هذه السورة شرحا وتفصيلا للسورة السالفة، فقوله تعالى هنا: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [5] توضيح لقوله تعالى في بيان مفاتح الغيب هناك: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [34] . وقوله سبحانه هنا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [27] تفصيل لقوله هناك: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [34] . وقوله هنا: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [7] شرح لقوله هناك: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [34] . وقوله هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [5] شرح لقوله هناك: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [34] . وقوله هنا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [10- 11] إيضاح لقوله: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [34] . موضوعها: موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية وهو إثبات أصول الاعتقاد: «الإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والرسل والبعث والجزاء» ومحور الكلام إثبات (البعث) بعد الموت الذي أنكره المشركون والماديون، واتخذوه سببا لتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم. مشتملاتها: افتتحت السورة بتقرير كون القرآن العظيم بلا أدنى شك هو كتاب الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإبطال مزاعم المشركين بأن

الرسول افترى هذا القرآن، وبيان أنه لم يأتهم رسول مثله قبله. ثم أوردت السورة أدلة وحدانية الله وقدرته من تدبيره الكون، وخلقه الإنسان ورعايته له في أطواره التي يمر بها، ثم بعثه الخلق مرة أخرى ليوم مقداره ألف سنة مما تعدّون، بأسلوب يرد على إنكار المشركين البعث والنشور، لظنهم بسبب عجزهم أن التفتت إلى ذرّات مبعثرة مشتتة يحيل بعدئذ تجمعها وإعادتها إلى خلق جديد. ثم وصفت السورة حال المجرمين الكافرين وحال المؤمنين الطائعين لله، فالأولون تلبسهم الذلة والمهانة، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، ويذوقون العذاب الأليم. والمؤمنون لا تفارقهم في الدنيا الطاعة في الليل والنهار، ويدعون ربهم خوفا وطمعا، وينفقون أموالهم في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جزاء عملهم الثواب الجزيل، والفضل العظيم الذي تقرّ به أعينهم، وجنات المأوى والاستقرار والخلود. وعقّبت السورة على حال هذين الفريقين باستبعاد التسوية بينهما إذ لا يعقل مكافأة العصاة كمكافأة الطائعين. ثم ختمت السورة بتقرير ما بدأت به، فذكرت الرسالة، وأبانت الهدف من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وهو هداية بني إسرائيل، تنبيها على وجه الشبه بين رسالة محمد ورسالة موسى عليهما الصلاة والسلام. ثم ذكرت التوحيد والقدرة وأقامت البرهان عليهما بإهلاك الأمم الظالمة في الماضي، وأخيرا أكدت حدوث الحشر الذي استبعد الكفار حصوله. فصار مطلع السورة ومضمونها وخاتمتها إثبات أصول العقيدة وهي كما ذكرت: التوحيد، والرسالة، والبعث.

إثبات النبوة (الرسالة) [سورة السجده (32) الآيات 1 إلى 3] :

إثبات النبوة (الرسالة) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) الإعراب: تَنْزِيلُ الْكِتابِ، لا رَيْبَ فِيهِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، ولا رَيْبَ فِيهِ: خبره. ويجوز جعل تَنْزِيلُ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، ويجوز أن يكون لا رَيْبَ فِيهِ في موضع نصب على الحال من الْكِتابِ ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر المبتدأ، ومِنْ: متعلقة بالخبر المحذوف. وإذا جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبر المبتدأ كانت مِنْ متعلقة ب تَنْزِيلُ ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر ثان. المفردات اللغوية: الم هذه الحروف الهجائية المقطعة سيقت كما بان سابقا للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن. تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي إنزال القرآن، أو المنزّل. لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه. أَمْ بل. يَقُولُونَ: افْتَراهُ أي يقول المشركون: اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند نفسه، منكرين كونه من رب العالمين. بَلْ هُوَ الْحَقُّ أي إن القرآن هو الحق الثابت المنزل من الله. ما أَتاهُمْ قَوْماً نافية. نَذِيرٍ منذر. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك. قال في الكشاف وأوجز البيضاوي كلامه: إنه تعالى أشار أولا إلى إعجاز القرآن، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه، فإن أَمْ منقطعة «1» ، ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه

_ (1) هذه أَمْ المنقطعة التي تقدّر بمعنى: بل وألف الاستفهام، أي بل أيقولون؟! وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث.

التفسير والبيان:

الحق المنزل من الله، وبيّن المقصود من تنزيله، فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ إذ كانوا أهل الفترة، لعلهم يهتدون بإنذارك إياهم. التفسير والبيان: الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ، لا رَيْبَ فِيهِ، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ افتتحت هذه السورة بهذه الأحرف كغالب السور المكية لبيان إعجاز القرآن وعظمته، والرد على المشركين المنكرين نزوله من عند الله، والمكذبين برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم. هذا القرآن العظيم لا شك في أنه منزل من عند الله على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فليس بسحر ولا شعر ولا سجع كاهن، وإنما هو كلام رب العوالم جميعهم من إنس وجنّ، وذلك رد على قولهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] . أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي بل إنهم يقولون زورا وبهتانا: اختلقه وافتعله محمد من عنده، فرد الله عليهم: بل هو الحق الثابت أي هو حق من الله ربه، أنزله إليك لتخوف وتنذر به قوما- أي قريشا ونحوهم- بأس الله وعذابه إن كفروا وعصوا، علما بأنه لم يأتهم نذير قبلك، فتبين لهم طريق الرشاد، ولعلهم يهتدون بإنذارك إياهم. وهذا إثبات لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبرهان واضح على صدقه، وردّ لقول المشركين: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان 25/ 4] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات أن القرآن الكريم كلام الله الذي لا شك فيه أنه من عند

دلائل التوحيد والقدرة الإلهية [سورة السجده (32) الآيات 4 إلى 9] :

الله، فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين، كما يزعم المشركون الأفاكون الوثنيون، والكفار المتعصبون لدين سابق. وبعد أن أثبت الله تعالى أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، أضرب عن ذلك (أي انتقل) إلى قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ثم كذبهم في دعوى الافتراء. ثم بيّن الله تعالى مهمة القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم وهي إنذار الكافرين عذاب الله، ومنهم قريش، قال قتادة في تفسير قوله تعالى: قَوْماً يعني قريشا، كانوا أمّة أمّية لم يأتهم ندير من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم. دلائل التوحيد والقدرة الإلهية [سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) الإعراب: كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلق: فعل ماض، وموضع الجملة إما النصف صفة لكل، وإما الجر

البلاغة:

صفة لشيء، ومعناه: أحسن كلّ شيء مخلوق له. ومن قرأ بسكون اللام جعله بدل اشتمال أي بدلا من قوله تعالى: كُلَّ شَيْءٍ أو مفعولا ثانيا ل أَحْسَنَ بمعنى أفهم فيتعدى إلى مفعولين. مِنْ وَلِيٍّ من زائدة لتأكيد النفي، أي ليس لكم ناصر مطلقا. البلاغة: الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق. وَجَعَلَ لَكُمُ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: وجعل له فعدل إلى ضمير الجماعة، مراعاة لخطاب الإنسان الذي صار حيّا بنفخ الروح فيه مع ذريته. المفردات اللغوية: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من الأحد إلى الجمعة، والأيام: جمع يوم، وهو عند العرب جزء من اليوم، ويراد به لغة: الوقت. اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ العرش: أعظم المخلوقات، وهو لغة: سرير الملك، والاستواء عليه: هو شيء يليق بالله عز وجل دون حصر ولا كيف ولا تحديد بجهة معينة. ما لَكُمْ أيها الكفار وغيركم. مِنْ دُونِهِ من غيره. مِنْ وَلِيٍّ أي ناصر. وَلا شَفِيعٍ يشفع بكم ليدفع العذاب عنكم. والمعنى: ليس لكم غير الله ناصر ولا شفيع، بل هو الذي يتولى مصالحكم، وينصركم في مواطن النصر. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ بمواعظ الله فتؤمنوا؟! يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبر أمر الدنيا مدة بقائها، وينظم شؤونها وأحوالها الواقعة فيها تدبيرا وتنظيما شاملا مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ثم يصعد إليه ويرجع الأمر والتدبير ويثبت في علمه. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، أي يصعد إليه في برهة من الزمان متطاولة وهو يوم القيامة، وتقديره بألف سنة لشدة أهواله بالنسبة إلى الكافر، وأما المؤمن فيكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا، كما جاء في الحديث الثابت. ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ذلك الخالق المدبر يدبر الكون على وفق الحكمة، وعلى وفق علمه الشامل الذي يعلم ما غاب عن الخلق وما حضر، المنيع في ملكه، الغالب على أمره، الرحيم بأهل طاعته وتدبيره أمر العباد. قال البيضاوي: وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي مصالح الناس تفضلا وإحسانا. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أتقن ما خلقه، موفرا له كل ما يحتاجه على وفق الحكمة والمصلحة. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم نَسْلَهُ ذريته، سميت به لأنها تنسل منه أي تنفصل. مِنْ سُلالَةٍ نطفة. مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن ضعيف، وهو النطفة. ثُمَّ سَوَّاهُ قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي وأتّمه. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضافه إلى نفسه تشريفا،

المناسبة:

وإشعارا بأنه خلق عجيب، وأن له شأنا، والمعنى: جعله حيا حساسا بعد أن كان جمادا. وَجَعَلَ لَكُمُ لذريته. السَّمْعَ أي الإسماع. وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ خصص هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرون شكرا قليلا، وما زائدة مؤكدة للقلة. المناسبة: بعد ما أثبت الله تعالى صحة الرسالة، ذكر ما يجب على الرسول من الدعوة إلى توحيد الله، وزوده بما يحتاجه من إقامة الأدلة والبراهين على ذلك، لإنجاح مهمته. التفسير والبيان: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي إن الله تعالى هو خالق الأشياء، فخلق السموات والأرض وأبدعهما وفطرهما وما بينهما لا على مثال سابق، في مدة ستة أيام، أي في أجزاء ستة من الوقت، ليست هي الأيام المعروفة لأنه قبل خلقها لم يكن ليل ولا نهار. وقال الحسن البصري: «من أيام الدنيا» ولو شاء لخلقها بلمح البصر، ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى على ملكه يدبر أمره ويحكم شأنه، أو استوى استواء يليق بجلاله وعظمته على العرش الذي هو أعظم المخلوقات، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا يحده زمان ومكان، ولا تدركه الأبصار إدراك إحاطة وشمول، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ليس لكم أيها الناس، ولا سيما الكفار من غير الله ناصر يدفع عنكم عذابه ويلي أموركم، ولا شافع يشفع لكم عنده إلا بإذنه، بل هو المالك المطلق لكل شيء، فيتولى ما فيه المصلحة، ويدبر الأمور، دون تدخل من أحد، ولا حاجة لأحد لأنه وحده القادر على كل شيء، والمهيمن على جميع الأشياء.

أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ أي أفلا تتدبرون وتتعظون، فتؤمنوا بالله وحده لا شريك له. ولا نظير ولا وزير، ولا عديل له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. والمراد: حمل الناس على الإيمان بالله إلها وربا، يعبد وحده، ويطاع لذاته، فهو المستعان على كل أمر، وهو المانع من السوء، والجالب للخير والنفع، والمحقق للمصلحة، دون حاجة لأحد ولا لشيء، لذا قال مبينا الأمر بعد بيان الخلق: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف 7/ 54] . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي يدبر أمر الكون كله في العالم العلوي والسفلي، ثم يصعد إليه أثر الأمر وتنفيذه بواسطة الملائكة، وهذا تمثيل لعظمة الله وامتثال المخلوقات جميعا لمراده وتدبيره، كالحاكم المطلق الذي يصدر أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي ترفع الأمور الحاصلة في الدنيا صغيرها وكبيرها إلى الله تعالى يوم القيامة ليفصل فيها ويحكم في شأنها، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي نعدّها في هذه الحياة. والمراد بالألف: الزمن المتطاول الذي هو في لغة العرب أقصى نهاية العدد. وفي موضع آخر وصف الله تعالى مقدار هذا اليوم بخمسين ألف سنة: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] قال القرطبي: المعنى أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر. وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 88

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي المدبر لهذه الأمور هو العالم بجميع الأشياء، يعلم ما يغيب عن الأبصار، مما يجول في خلجات النفس، وما لا تدركه العين المجردة، ويعلم ما هو مشاهد تعاينه الأبصار، وهو العزيز الذي قد عزّ كل شيء، فقهره وغلبه، ودانت له العباد والرقاب، القوي الشديد في انتقامه ممن كفر به وأشرك معه غيره، وكذب رسله، وهو الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين القانتين التائبين الذين يعملون الصالحات، يرحمهم في تدبير شؤونهم في الدنيا وفي الآخرة. وبعد إثبات الوحدانية بالآفاق من خلق السموات والأرض، ذكر تعالى الدليل الدال عليها من الأنفس، فقال: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ أي إن ذلك المدبر للأمور العليم الخبير القوي الرحيم هو الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها، وبدأ خلق أبي البشر آدم من طين، والطين مكوّن من ماء وتراب. وكذلك يعتمد الإنسان في تكوينه وبقاء حياته على الطين لأن المني ناشئ من الغذاء، والغذاء إما من الحيوان وإما من النبات، وكلاهما يعتمد على ما تخرجه الأرض الترابية. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ثم جعل ذرية الإنسان يتناسلون من امتزاج نطفة الرجل بماء المرأة الذي فيه البويضة التي تتلقح بنطفة الرجل، فيتم التوالد والتناسل وبقاء النوع الإنساني من خلاصة من ماء ضعيف ممتهن عادة وهو المني. ثُمَّ سَوَّاهُ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي ثم بعد خلقه من تراب جعله سويا مستقيما، فقوّم أعضاءه، وعدّلها، وأتمها، ونفخ فيه الروح التي هي من أمر الله والتي لا يعرف حقيقتها إنسان، فبدأ

فقه الحياة أو الأحكام:

يتحرك وينمو، وأنعم عليكم بالحواس مفاتيح المعرفة وصمامات الأمان، فمنحكم السمع الذي تسمع به الأصوات، والأبصار التي تبصر بها المرئيات، والعقول التي تفكرون بها، وتميزون بين الخير والشر، والحق والباطل. وهكذا يلاحظ التدرج في الخلقة وأطوار الإنسان، فهو ينشأ أولا من مادة هي الطين اللازب، ثم تصبح هذه المادة ذات إفرازات حية، يتم بها تكوين الجنين، ثم تتحرك المادة بالروح التي هي من الحق تعالى، فيصبح خلقا جديدا سويا في أحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنكم أيها الناس لا تقابلون هذه النعم بالعرفان والوفاء، والشكر والامتنان، وإنما تشكرون ربكم قليلا على هذه النعم التي رزقكم الله تعالى، باستعمال تلك الحواس في طاعة الله واتباع مرضاته. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- هناك دلائل كثيرة على توحيد الله وكمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، منها إبداع السموات والأرض وإيجادها بعد العدم، وبعد أن لم تكن شيئا، في أجزاء من الزمن الله أعلم بمقدارها، وقد قرّبها لعقولنا وعبر عن طولها بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الأيام الستة، فقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض مقداره ألف سنة من سنيّ الدنيا. وقال الضحاك: في ستة آلاف سنة أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة. 2- والاستواء على العرش استواء يليق بجلال الله وكماله دون تحديد ولا

حصر، وهو الأصح أو التمكن والسلطة على الكون المخلوق حاصل مع خلق السموات والأرض، فليست ثُمَّ للترتيب، وإنما هي بمعنى الواو. 3- إن الله عز وجل ولي المؤمنين الذي يتولى مصالحهم وناصرهم وشفيعهم، فإذا تجاوز الناس رضاه لم يجدوا لأنفسهم وليا، أي ناصرا ينصرهم ولا شفيعا يشفع لهم، وعليه، ليس للكافرين من ولي يمنع عنهم العذاب، ولا شفيع يتوسط لهم فيرفع عنهم العقاب. فهل من متذكر معتبر في قدرة الله ومخلوقاته؟! 4- ويأتي الأمر بعد الخلق، للدلالة على عظمة الله، فإن نفاذ أمر الله في الكون دليل على عظمته، لذا كان الأمر والتدبير في الكون وإنزال القضاء والقدر، ونفاذ هذا التدبير من مظاهر عظمة الله تعالى، ومجموع هذه الأوامر النافذة كلها عائد إلى الله يوم القيامة، فقوله: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ معناه يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا، فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هو يوم القيامة، وقد يكون لشدة أهواله وبحسب أحوال بعض الناس في مدة مقدارها خمسون ألف سنة، كما قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج 70/ 4] . ورأى الزمخشري في الكشاف أن المراد من الأمر: المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم يصعد إليه المأمور خالصا في مدة متطاولة لقلة عمال الله والخلّص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ثم يثبت ذلك الأمر الصاعد ويصير إلى الله في كل وقت إلى أن تبلغ المدة آخرها في يوم القيامة الذي هو من أيام الله، ويوم الله كألف سنة، ثم يدبر الله أيضا الأمر ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة «1»

_ (1) الكشاف: 2/ 522- 523

5- الله تعالى في خلقه وتدبيره وحسمه أمر الدنيا بالقيامة يعلم ما غاب عن الخلق وما حضرهم، فلا تفوته مصلحة، ولا تخفى عليه خافية من أعمال المخلوقات. وفي هذا الكلام معنى التهديد والوعيد، يراد به أن أخلصوا أفعالكم وأقوالكم، فإني أجازي عليها. 6- لله القدرة البالغة التي لا توصف عظمتها وحدودها، فقد خلق أصل الإنسان من طين، ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من ماء ممتهن ضعيف، ثم أكمله وأتمه وعدّله ونفخ فيه الروح، وخلق فيه حواس السمع والبصر والعقل أدوات المعرفة ووسائل إدراك الحق والهدى، وتلك نعم عظمي تستحق الشكر والوفاء بالمعروف، لكن أكثر الناس كافرون لا يشكرون، وقليل من عباده الشكور. ويلاحظ أن الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة لأن الإنسان يسمع أولا الأمور فيفهمها، ثم يبصر الأمور، ثم يحصل له بعد السمع والبصر الإدراك التام والذهن الكامل، فيستخرج الأشياء مما سمع ورأى. وسبب ذكر السمع مصدرا، والأبصار والأفئده اسما، فجمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع: هو لحكمة هي أن الإنسان لا يسمع في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما، ولا اختيار لمحل السمع وهو الاذن، ويدرك في زمان واحد صورتين فأكثر بالعين ويعيهما ويستبينهما في القلب، ولمحل البصر وهو العين شبه اختيار، فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون غيره، وكذلك الفؤاد محل الإدراك له نوع اختيار، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة.

إثبات البعث وحال الكفار يوم القيامة [سورة السجده (32) الآيات 10 إلى 14] :

إثبات البعث وحال الكفار يوم القيامة [سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 14] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) الإعراب: أَإِذا ضَلَلْنا إِذا: ظرف متعلق بفعل مقدر، تقديره: أنبعث إذا ضللنا في الأرض، أي غبنا وبلينا. إِذِ الْمُجْرِمُونَ إِذِ تتعلق ب تَرى والْمُجْرِمُونَ مبتدأ، وناكسو رؤوسهم: خبره، ورَبَّنا أَبْصَرْنا تقديره: يقولون: ربنا أبصرنا، فحذف القول، كما هو المعتاد الكثير في كلام العرب. البلاغة: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ استفهام إنكاري بقصد الاستهزاء. رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فيه إضمار تقديره: يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا.

المفردات اللغوية:

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ تقديم الجار والمجرور للاختصاص، أي إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة. وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ.. حذف جواب «لو» للتهويل. أي لرأيت أمرا مهولا. نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ بينهما مشاكلة: وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، فإن الله تعالى لا ينسى، وإنما المراد نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي. المفردات اللغوية: وَقالُوا أي منكرو البعث. ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ غبنا فيها وبلينا وهلكنا، بأن صرنا ترابا مختلطا بتراب الأرض لا نتميز منه. أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أنبعث أو يجدد خلقنا، والقائل أبي بن خلف، وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. وهو استفهام إنكار غرضه الاستهزاء. بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي بل هم بالبعث جاحدون. قُلْ لهم. يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي يقبض أرواحكم ملك الموت، حتى لا يبقى أحد منكم. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي تعودون أحياء للحساب والجزاء، فيجازيكم ربكم بأعمالكم. الْمُجْرِمُونَ الكافرون. ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ خافضوها ومطأطئوها حياء وخزيا. رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي يقولون: يا ربنا أبصرنا ما وعدتنا من البعث وسمعنا منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه. فَارْجِعْنا إلى الدنيا لنعمل صالحا فيها. إِنَّا مُوقِنُونَ الآن، ولم يبق لنا شك بما شاهدنا، ولكن لا ينفعهم ذلك، ولا يرجعون. وجواب وَلَوْ تَرى.. محذوف تقديره: لرأيت أمرا فظيعا مهولا. وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له والاختيار من النفس. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت قضائي وسبق الْجِنَّةِ الجن. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تقول لهم خزنة النار إذا دخلوها: ذوقوا العذاب بترككم الإيمان باليوم الآخر، فهذا سبب العذاب. إِنَّا نَسِيناكُمْ تركناكم في العذاب ترك المنسي. وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي عذاب جهنم الدائم. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر وتكذيب الرسل. وقد كرر الأمر للتأكيد. وفي التعليل بأمرين: وهما الأفعال السيئة من التكذيب والمعاصي، وترك التفكر في أمر الآخرة دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك. المناسبة: بعد بيان الوحدانية ودليلها في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

التفسير والبيان:

وَالْأَرْضَ وبيان الرسالة وبرهانها في قوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أخبر الله تعالى عن البعث وطريق إثباته للرد على المشركين المنكرين له، وهذا على عادة القرآن كلما ذكر أصلين من أصول الاعتقاد الثلاثة ذكر الأصل الثالث، وهو هنا الحشر في قوله تعالى: وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ. التفسير والبيان: وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي يخبر الله تعالى عن المشركين الذين استبعدوا المعاد حيث قالوا: أءذا صارت أجسامنا ترابا في الأرض، أيمكن أن نعود خلقا جديدا بعد تلك الحال؟! وهذا الاستبعاد إنما هو بتقديرهم وقياسهم حيث قاسوا قدرة الله على قدراتهم، فهم يرون أن البعث بعيد بالنسبة إلى قدراتهم العاجزة، لا بالنسبة إلى قدرة الإله الخالق الذي بدأهم وخلقهم من العدم، والذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ ولهذا قال تعالى منكرا قياسهم وآراءهم: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي إن هؤلاء المشركين لم ينكروا قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار البعث، فهم جاحدون لقاء ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء. فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي قل للمشركين يا محمد: إن ملك الموت الموكّل بقبض الأرواح يقبض أرواحكم في الوقت المحدد لانتهاء الأجل، ثم في نهاية الدنيا بعد الموت ستعودون أحياء كما كنتم قبل الوفاة، وذلك يوم المعاد وبعد القيام من القبور، للحساب والجزاء، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

وهذا إثبات للبعث مع التهديد والوعيد، وبيان أن القادر على خلق الناس أول مرة قادر على إحيائهم مرة أخرى. ثم أخبر الله تعالى عن حال المشركين حين معاينة البعث والحساب يوم القيامة فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ أي ولو تشاهد أيها الرسول حين يقوم هؤلاء المشركون بين يدي ربهم خافضي رؤوسهم من الحياء منه والخزي والعار لرأيت عجبا وأمرا فظيعا، فتراهم يقولون: ربّنا نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك، لقد أبصرنا الحشر وسمعنا تصديقك للرسل فيما كذبناهم فيه، فارجعنا إلى دار الدنيا نعمل ما يرضيك من صالح الاعتقاد والقول والعمل، فهم يلومون أنفسهم حين دخول النار، كما أخبر تعالى عنهم: وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك 67/ 10] . قال الزجاج في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى: المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته. وإنا الآن قد أيقنا بوحدانيتك، واستحقاقك العبادة دون غيرك، وتحققنا أن وعدك بالبعث حق ولقاءك حق، وأنك القادر على الإحياء والإماتة. ولكن الله يعلم أنه لو أعادهم إلى الدنيا، لكانوا فيها كفارا كما كانوا، يكذبون بآيات الله، ويخالفون رسله، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 27- 28] . وقال تعالى هنا: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي ولو أردنا أن نوفق كل نفس

ونلهمها الهداية إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس 10/ 99] . ولكن حكمتنا قضت ترك أمر الإيمان والعمل الصالح للاستعدادات والخيار، دون الإكراه والاضطرار، كما قال سبحانه: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي ولكن ثبت قضائي، وسبق أنه لا بد من ملء جهنم من صنفي الجن والإنس الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم وسوء اختيارهم، وفحش اعتقادهم وعملهم، فهم الظالمون أنفسهم، وقد علم الله مسبقا قبل خلقهم أن مآلهم إلى النار، فحقّ الوعيد، وحق الجزاء. لذا استحقوا أيضا التوبيخ، فقال تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، وعملكم عمل الناسي له، لذا فإنا سنعاملكم معاملة الناسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شيء، وهذا ما يسمى بأسلوب المقابلة أو المشاكلة، مثل قوله: وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية 45/ 34] وقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . ويقال لهم أيضا على سبيل التأكيد: وذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم، كما قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ 78/ 24- 30] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- أنكر المشركون البعث لأنهم قاسوا قدرة الله الخالق على قدرة العبد المخلوق العاجز، فقالوا: أءذا هلكنا وصرنا ترابا نخلق بعد ذلك خلقا جديدا؟ 2- الحقيقة أن المشركين لا يجحدون قدرة الله تعالى بالإعادة لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألا حساب عليهم، وأنهم لا يلقون الله تعالى. 3- من مظاهر قدرة الله سبحانه أنه المميت الذي يتوفى الأنفس ويقبض الأرواح عند انتهاء آجالها، وأن ملك الموت واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله يتصرف كل تصرفه بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه، فيخلق الله على يديه قبض الأرواح، ذكر ابن عطية حديثا أن «البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت» كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم، فالله هو الفاعل حقيقة، والملك واسطة ووكيل، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر 39/ 24] وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك 67/ 2] وقال عز وجل: يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران 3/ 156] فملك الموت يقبض، والأعوان يعالجون، والله تعالى يزهق الروح، لكنه لما كان ملك الموت متولّي ذلك بالوساطة والمباشرة، أضيف التوفّي إليه، كما أضيف الخلق للملك. روي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال: «ربّ جعلتني أذكر بسوء، ويشتمني بنو آدم، فقال الله تعالى له: إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها، فلا يذكرك أحد إلا بخير» . 4- استدل بعض العلماء بقوله تعالى: وُكِّلَ بِكُمْ أي بقبض الأرواح على جواز الوكالة.

5- إن حال المشركين يوم القيامة يدعو للعجب، فهم عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم خافضو الرؤوس من الحياء والندم، والخزي، والذل والغم والحزن، ويقولون: ربّنا أبصرنا ما كنا نكذب، وسمعنا ما كنا ننكر، فارجعنا إلى الدنيا نعمل العمل الصالح الذي يرضيك، إنا مصدّقون بالبعث وبالذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه حق. قال سفيان الثوري: فأكذبهم الله تعالى، فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] . وقال محمد بن كعب القرظيّ: لما قالوا: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ ردّ عليهم بقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي حق القول مني لأعذبنّ من عصاني بنار جهنم، وعلم الله تعالى أنه لو ردّهم لعادوا. وهذه الهداية: معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه، وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره. وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع لقطعهم بأن المراد: هداها إلى الإيمان. وللإمامية جواب آخر: هو أن هداية الله سبحانه بالإلجاء والإجبار

صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم عند ربهم في الآخرة [سورة السجده (32) الآيات 15 إلى 17] :

والإكراه ممنوعة، والمراد الهداية إلى الإيمان والطاعة بالاختيار، حتى يصح التكليف، فمن شاء الله آمن وأطاع اختيارا، لا جبرا، قال الله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير 81/ 28] وقال: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الدهر 76/ 29] ثم عقّب هاتين الآيتين بقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الدهر 76/ 30] فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفى أن يشاءوا إلا ان يشاء الله. وتوسط أهل السنة فلم يقولوا بالإجبار كالمجبرة، ولا بالاختيار المطلق كالقدرية، وخير الأمور أوساطها، وقالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، كالتفرقة بين حركة الارتعاش غير الإرادية وحركة الاختيار، وسموا هذه المنزلة الوسطى كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة 2/ 286] . 6- يقال للمجرمين يوم القيامة على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم رسل الله، وإنكاركم البعث، وترككم العمل له كالناسين، والله يعاملكم معاملة الناسي والمنسيين لأن الجزاء من جنس العمل، وذوقوا العذاب المخلّد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم بسبب أعمالكم في الدنيا من المعاصي. صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم عند ربهم في الآخرة [سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)

الإعراب:

الإعراب: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ.. جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير خَرُّوا. وكذلك جملة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ منصوبة على الحال، وكذلك سُجَّداً حال، وكذلك موضع وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وكذلك موضع مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ كلها منصوبات على الحال من ضمير خَرُّوا وسَبَّحُوا. خَوْفاً وَطَمَعاً إما منصوبان على المفعول لأجله أو منصوبان على المصدر. ما أُخْفِيَ لَهُمْ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي، وصلته أُخْفِيَ والعائد مقدر، أي لهم، وهو منصوب ب تَعْلَمُ. وإما استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وأُخْفِيَ خبره. هذا على قراءة أُخْفِيَ فعل مضارع. وأما على قراءة أُخْفِيَ المبني للمجهول، يكون ما منصوبا ب أُخْفِيَ أي فلا تعلم نفس أي شيء أخفي لهم، ولا يجوز أن يعمل فيه تَعْلَمُ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا ينصب بما قبله وإنما ينصب بما بعده. البلاغة: خَوْفاً وَطَمَعاً بينهما طباق. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ كناية عن كثرة العبادة ليلا. المفردات اللغوية: بِآياتِنَا القرآن ذُكِّرُوا وعظوا خَرُّوا سُجَّداً سقطوا ساجدين، خوفا من عذاب الله وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ نزّهوه عما لا يليق به، كالعجز عن البعث، حامدين له، خوفا من عذاب الله، وشكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى، فقالوا: سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والطاعة، كما يفعل من يصرّ مستكبرا. تَتَجافى ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ جمع جنب، وهو شق الإنسان عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش ومواضع النوم، جمع مضجع، وهو مكان النوم أو الاضطجاع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ داعين إياه خَوْفاً من سخطه وعقابه وَطَمَعاً في رحمته، فسرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام العبد من الليل يُنْفِقُونَ يتصدقون، أو ينفقون في وجوه الخير.

سبب النزول نزول الآية (16) :

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما أُخْفِيَ لَهُمْ خبئ لهم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي من شيء تقرّ به عيونهم وتسرّ، يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة: «يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرا، بله «1» ما أطلعكم عليه، اقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» . سبب النزول: نزول الآية (16) : تَتَجافى جُنُوبُهُمْ: أخرج البزار عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد، وناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ لكن في إسناده ضعيف. وذكره الواحدي النيسابوري عن مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن هذه الآية فيمن نزلت، فقال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلون من المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا مروي عن قتادة وعكرمة. وأخرج الترمذي وصححه عن أنس: أن هذه الآية نزلت في انتظاره الصلاة التي تدعى «العتمة» أي العشاء. وعن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: هي قيام العبد أول الليل. وقال الحسن البصري ومجاهد ومالك والأوزاعي: نزلت في المتهجدين الذين يقومون الليل إلى الصلاة. ويدل على صحة هذا السبب ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر «2» ، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبي

_ (1) بله: اسم فعل مبني على الفتح مثل كيف، ومعناها: دع عنكم ما أطلعكم عليه، فالذي لم يطلعكم أعظم. (2) في غزوة تبوك.

المناسبة:

الله، أخبرني عما يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- حتى بلغ- جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم» . المناسبة: بعد بيان حال الكافرين في موقف الحساب يوم القيامة من ذلة وخزي وخجل، وما يتعرضون له من عذاب شديد مخلّد، أبان الله تعالى حال أهل الإيمان في الدنيا من طاعة ربهم وتعظيمه وحمده والتقرب إليه بالنوافل، وما أعد لهم من نعيم وسرور، جزاء على أعمالهم. التفسير والبيان: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي إنما يصدّق بآيات القرآن والآيات الكونية وبالرسل المرسلين

الذين إذا وعظوا بها واستمعوا لها بعد تلاوتها عليهم، سقطوا بأعضائهم وجباههم ساجدين لله، تذللا وخضوعا، وإقرارا بالعبودية، ونزّهوه في سجودهم عما لا يليق به من أوضار الشرك كاتخاذ الصاحبة والولد والشريك، حامدين ربهم على آلائه ونعمه، أي جامعين بين التسبيح والتحميد بأن يقولوا: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى، وهم لأن قلوبهم عامرة بالإيمان لا يستكبرون عن طاعة ربهم، واتباع الآيات والانقياد لها، كما يفعل الكفرة الجهلة الفجرة الذين يتولون مستكبرين، فلهم عذاب أليم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] . هذه أوصاف المؤمنين: العبادة، والتقديس مع الحمد، والطاعة والانقياد، ثم ذكر الله تعالى لهم أوصافا أخرى: هي التهجد أو قيام الليل، والدعاء الخالص لله، والإنفاق في وجوه الخير: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي تترفع جوانبهم عن أماكن النوم والراحة، يبادرون إلى قيام الليل تهنأ نفوسهم بمناجاة ربهم، وتقرأ عينهم وترتاح ضمائرهم بالعبادة، ويدعون ربهم دعاء خالصا موقنين بالإجابة، خوفا من العقاب، وطمعا بالرحمة وجزيل الثواب، وينفقون بعض أموالهم في سبل الخير والبر ومرضاة الله، فيجمعون بين فعل القربات الشخصية والقربات الاجتماعية. روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله تعالى، فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وذكر الثعلبي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين، جاء مناد، فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون، وهم قليل، ثم يرجع، فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله على كل حال في السرّاء والضّرّاء، فيقومون وهم قليل، فيسرّحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس» . ثم ذكر الله تعالى جزاء أولئك المؤمنين الموصوفين بما تقدم فقال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فلا يعلم أحد على الإطلاق من الملائكة والرسل عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، جزاء عدلا مقابلا لصالح أعمالهم التي أخفوها فلم يراءوا بها الناس، فأخفى الله ثوابهم. روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. وروى الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وإنه في القرآن: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- من صفات المؤمنين أنهم يخرون سجدا لله تعالى على وجوههم، تعظيما

لآياته، وخوفا من سطوته وعذابه، وأنهم يقرنون التسبيح أي التنزيه بالتحميد، فيقولون في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى وبحمده أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين. وهم أيضا ينقادون لأمر ربهم، فلا يستكبرون عن عبادته، كما استكبر أهل مكة وأمثالهم بعدهم عن السجود لله تعالى. 2- ومن صفات المؤمنين أيضا: ملازمة قيام الليل، أي صلاة التهجد في الثلث الأخير من الليل، وقيل عن قتادة وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والعشاء. ومع تجافي جنوبهم عن المضاجع هم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم، خوفا من العذاب، وطمعا في الثواب، ويتصدقون بفضول أموالهم وتلك هي النوافل بعد أداء الزكاة المفروضة. وقد وردت أحاديث كثيرة ذكرت بعضها في فضل قيام الليل. 3- إن جزاء أولئك المؤمنين مفتوح وعظيم جدا، لا يعلم حقيقته غير الله عز وجل، فلا يدري أحد ما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك. وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا، كما جاء مبيّنا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «سأل موسى عليه السلام ربّه فقال: يا ربّ، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربّ، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربّ، فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربّ، فيقال: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك، فيقول: رضيت ربّ.

جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين [سورة السجده (32) الآيات 18 إلى 22] :

قال: فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين [سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) البلاغة: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى.. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ بينهما ما يسمى بالمقابلة، وذلك بين الوصفين والجزاءين. الْأَدْنى الْأَكْبَرِ بينهما طباق لأن الأكبر هو الأقصى. المفردات اللغوية: مُؤْمِناً مصدقا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فاسِقاً كافرا خارجا من الإيمان والطاعة وأحكام الشرع، فهو أعم من الكفر، وقد يرادفه كما في آية: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور 24/ 55] وأصل الفسق: الخروج،

سبب النزول نزول الآية (18) :

يقال: فسقت الثمرة: إذا خرجت من قشرها لا يَسْتَوُونَ المؤمنون والفاسقون في الشرف والمثوبة، وجمع الفعل بعد كلمتي مُؤْمِناً وفاسِقاً للحمل على المعنى. جَنَّاتُ الْمَأْوى جنات المسكن الحقيقي، أما مساكن الدنيا فمرتحل عنها نُزُلًا المراد هنا: ثوابا وجزاء، وأصل النزل: ما يعد للضيف من الطعام والشراب والمبيت، ثم أطلق على كل عطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم أو على أعمالهم. فَسَقُوا بالكفر وتكذيب الرسل أُعِيدُوا فِيها يراد به خلودهم فيها ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ.. إهانة لهم وزيادة في غيظهم الْعَذابِ الْأَدْنى أي الأقرب والأقل، وهو عذاب الدنيا الذي تعرضوا له بالجدب سبع سنين والقتل والأسر والأمراض دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي قبل عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل من بقي منهم يتوبون عن الكفر، روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا يوم بدر، فنزلت هذه الآيات. بِآياتِ رَبِّهِ الآيات القرآنية والكونية ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها فلم يتفكر فيها. وثُمَّ لاستبعاد الإعراض عنها، مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة، بعد التذكير بها عقلا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي من المشركين منتقمون. سبب النزول: نزول الآية (18) : أخرج الواحدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحدّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ قال: يعني بالمؤمن عليا، وبالفاسق الوليد بن عقبة. المناسبة: بعد بيان حال المجرم والمؤمن، سأل العقلاء: هل يستويان؟ وبعد الجواب

التفسير والبيان:

أو البيان بأنهما لا يستويان، ذكر الله تعالى تفاوتهما في المنزلة والحكم يوم القيامة، عملا بمقتضى عدله وكرمه. التفسير والبيان: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ أي هل يستوي المؤمن بالله ورسوله، المطيع لأمر ونهيه، والكافر الخارج عن طاعة ربه، المكذب رسل الله إليه؟ والجواب: لا يستوي المؤمنون والفاسقون عند الله يوم القيامة. ونظير الآية قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 45/ 21] وقوله سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] وقوله عز وجل: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] . ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريقين في الآخرة فقال: 1- أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى، نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن الذين صدقت قلوبهم بآيات الله ورسله، وعملوا صالح الأعمال، فلهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية، ثوابا وجزاء وتكريما لهم على أعمالهم الحسنة وأفعالهم الطيبة التي فعلوها في الدنيا. وقوله في حق المؤمنين فَلَهُمْ بلام التمليك زيادة إكرام. 2- وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي وأما الذين فسقوا أي كفروا بالله، وخرجوا عن الطاعة، وعملوا السيئات، فمأواهم النار التي يأوون إليها ويستقرون فيها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم فيها، فقال:

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها أي كلما عزموا على الخروج منها من شدة العذاب والأهوال، أعيدوا فيها، ودحروا إليها، أي أنهم مخلّدون فيها، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، أُعِيدُوا فِيها [الحج 22/ 22] . قال الفضيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم. ويقال لهم تقريعا وتوبيخا وتهديدا: وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي تذوقوا وتحملوا عذاب النار الذي كذبتم به في الدنيا فإن الله أعدّه للمشركين به. وهناك عذاب آخر سابق له: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ولنذيقن الكفار والعصاة شيئا من العذاب الأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا من المصائب والآفات كالجوع والقتل والسبي، قبل مجيء وحدوث العذاب الأشد الأعظم وهو عذاب القيامة، ليرجعوا عن ضلالهم إلى الهدى والرشد، ويثوبوا عن الكفر، ويؤمنوا بربهم، ويصدقوا برسولهم. والترجي في قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ محال على الله تعالى، فيراد به تعليل ذلك الفعل بأمر الرجوع، كما يقال: فلان اتجر ليربح، أو يكون معناه: لنذيقنهم إذاقة الراجين، أو إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه. ثم ذكر الله تعالى سببا عاما للعقاب وهو ظلم الناس، فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها، إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي لا أحد أظلم ممن ذكّره الله بآياته القرآنية ومعجزات رسله، وبيّنها

فقه الحياة أو الأحكام:

له ووضحها، ثم تركها بعد ذلك وجحدها، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها، فإننا سننتقم أشد الانتقام من الكفار الذي كفروا بالله واقترفوا المعاصي والمنكرات. روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، فقد أجرم، يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- ليس في حكم الله وعدله ولا في ميزان العقل السليم أن يسوّى بين المؤمن والفاسق في الثواب والجزاء في يوم القيامة. 2- يترتب على نفي المساواة بين المؤمن والكافر منع القصاص- في رأي الجمهور غير الحنفية- بينهما إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. ورأى أبو حنيفة قتل المسلم بالذمي، وقال: أراد نفي المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب، وفي الدنيا في العدالة. وحمله الجمهور على عمومه، إذ لا دليل يخصه. 3- مقر المؤمنين في الآخرة ثوابا وجزاء: جنات المأوى، أي يأوون إلى الجنات فأضاف الجنات إلى المأوى لأن ذلك الموضع يتضمن جنات. ومقام الفاسقين الخارجين عن الإيمان إلى الكفر النار، وهم فيها خالدون،

_ (1) قال ابن كثير عن هذا الحديث: وهذا حديث غريب جدا. [.....]

فكلما دفعهم لهب النار إلى أعلاها، ردّوا إلى موضعهم فيها لأنهم يطمعون في الخروج منها. وتقول خزنة جهنم لهم، أو يقول الله لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون، ذوقا حسيا ومعنويا. ويلاحظ من قوله تعالى: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر، أما الكفر إذا جاء فلا التفات بعده إلى الأعمال، لذا قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ولم يقل: وعملوا السيئات لأن المراد من فَسَقُوا كفروا. 4- للكافرين أيضا عذاب آخر في الدنيا وهو مصائب الدنيا وأسقامها، مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا. وينتظرهم العذاب الأكبر وهو عذاب يوم القيامة. وذلك العذاب إنذار، لعله يرجع من بقي منهم إلى الرشاد والهداية فإن عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديدا ولا مديدا لأنه يعقبه الموت، أما عذاب الآخرة فهو شديد ومديد. 5- لا أحد أظلم لنفسه ممن ذكرت له آيات ربه أي حججه وعلاماته، ثم أعرض عنها، وترك قبولها، فإن الله منتقم أشد الانتقام من المشركين لتكذيبهم وإعراضهم.

عقد الصلة بين الرسالتين إنزال التوراة على موسى عليه السلام وموقف اليهود منها [سورة السجده (32) الآيات 23 إلى 25] :

عقد الصلة بين الرسالتين إنزال التوراة على موسى عليه السلام وموقف اليهود منها [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) الإعراب: مِنْ لِقائِهِ الهاء عائدة إلى الكتاب، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، والفاعل مقدر، وتقديره: من لقاء موسى الكتاب، ويصح أن تكون عائدة إلى موسى، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، والمفعول به محذوف وهو الْكِتابَ وتقديره: فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب، وهو التوراة، ويصح أن تكون عائدة إلى «ما لاقى موسى» وتقديره: فلا تكن في مرية من لقاء ما لاقى موسى من التكذيب والإنكار من قومه. لَمَّا صَبَرُوا لَمَّا ظرف زمان بمعنى «حين» في موضع نصب، والعامل فيه يَهْدُونَ ومن قرأ بالتخفيف وكسر اللام، كانت لَمَّا مصدرية، وتقديره: لصبرهم. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ هو هنا: ضمير فصل لأن يَفْصِلُ فعل مضارع، ولو كان فعلا ماضيا لم يجز، فإنهم يجيزون: زيد هو يقوم، قال تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر 35/ 10] وقال سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] ولا يجيزون: زيد هو قام. وإنما جاز لأن الفعل المضارع أشبه الأسماء شبها أوجب له الإعراب، بخلاف الفعل الماضي. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة، كما آتيناك. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ لا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل 27/ 6]

المناسبة:

فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه، فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه. ويحتمل: من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى، وقد التقيا ليلة الإسراء، قال صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي موسى عليه السلام رجلا آدم طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة» . وَجَعَلْناهُ أي الكتاب المنزل على موسى. هُدىً هاديا. يَهْدُونَ الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. بِأَمْرِنا إياهم، أو بتوفيقنا لهم. لَمَّا صَبَرُوا أي لصبرهم على طاعة دينهم وعلى البلاء في الدنيا. وَكانُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا. يُوقِنُونَ يصدقون، لإمعانهم النظر فيها. يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي، فيميز الحق من الباطل والمحق من المبطل. يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين. المناسبة: بعد تقرير الأصول الثلاثة في أول السورة وهي التوحيد والبعث والرسالة، عاد في آخرها إلى الأصل الثالث مرة أخرى وهو الرسالة المذكورة أولا في قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ. واختار موسى لقربه من محمد صلّى الله عليه وسلّم ووجود من كان على دينه، إلزاما لهم، وإنما لم يختر ذكر عيسى عليه السلام لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته. وأما النصارى، فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام، فذكر المجمع عليه. التفسير والبيان: لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ يخبر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأنه آتى موسى عليه السلام التوراة، فلا تكن يا محمد في شك من لقائك الكتاب، فإنا آتيناك القرآن كما آتينا موسى التوراة، فأنت لست ببدع من الرسل قط، كما قال تعالى: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 9] والصلة قائمة بين الرسالتين والمهمة واحدة، فإن التوراة جعل أيضا هاديا ومرشدا لبني إسرائيل، كما أنك مرشد لأمتك، كما قال تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء 17/ 2] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والمقصود بالآية حمل اليهود على الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتحريض المشركين وغيرهم على التصديق بتلك الرسالة، فإن التشابه بين الرسالتين قائم والمهمة واحدة، وكذلك تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن حزنه الشديد بسبب إعراض قومه عن رسالته، فإن موسى عليه السلام لقي من قومه الأهوال وأنواع الأذى، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء 4/ 153] ، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة 5/ 24] ، واتخذوا العجل إلها ونحو ذلك. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أي وجعلنا من بني إسرائيل قادة يدعون الناس إلى الخير والإيمان، بإذننا وتوفيقنا وإعانتنا لهم لأنهم صبروا على طاعة دينهم وتصديق رسلهم واتباعهم، وعلى البلاء الذي تعرضوا له في الدنيا، كإيذاء فرعون لهم واستعباده إياهم، وكانوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والقدرة مصدقين على وجه اليقين. وهذا إيماء آخر إلى أن القرآن هاد للناس كالتوراة، وأن أتباعه هداة مخلصون، وهو أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن ربك يقضي يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه من أمور الاعتقاد والدين والحساب والثواب والعقاب، والأعمال، فيثيب المطيع بالجنة، ويعاقب العاصي بالنار. وهذا باعث آخر على الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وتهديد ضمني لمن يعرض عن هداية الله التي صارت متمثلة بالقرآن بعد فقد التوراة وافتقاد الأصل الصحيح للإنجيل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي:

1- لقد أنزل الله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم كما أنزل التوراة على موسى عليه السلام، فالإيمان بهما والعمل بأحكامهما واجب، إلا أن فقد التوراة جعل العمل بالقرآن من الناحية الواقعية متعينا، كما أن المنزل عليه القرآن خاتم النبيين، ونسخت رسالته بنص القرآن وتشريعه الرسالات السماوية السابقة، حتى لو فرض بقاء شيء ثابت صحيح منها. 2- إن أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم هم الدعاة إلى دين الله وشرعه، كما أن أتباع موسى عليه السلام كانوا قادة يقتدى بهم في الدين، ويدعون الناس إلى الإيمان بالأصل الصحيح للتوراة والإنجيل، وإطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وذلك كله بإذن الله وتوفيقه. فحيث جعل الله كتاب موسى هدى، وجعل منهم أئمة يهدون، كذلك يجعل القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم كتاب هدى، ويجعل من أمته صحابة يهدون. 3- إن اتخاذ بعض الناس أئمة سببه الصبر على الطاعة للدين، والرضا بأمر الله، والعمل على إعلاء كلمة الله، والصبر على البلاء والمحن في سبيل الله تعالى، فإن جعل الأئمة هادين يحصل بالصبر، وهذا أمر بالصبر والإيمان بأن وعد الله حق. 4- إن الله سبحانه هو القاضي العدل والحاكم المطلق بحق بين المؤمنين والكفار، فيجازي كلا بما يستحق، ويفصل بين المختلفين من أمة واحدة، كما يفصل بين المختلفين من الأمم.

تأكيد ثبوت التوحيد والقدرة والحشر [سورة السجده (32) الآيات 26 إلى 30] :

تأكيد ثبوت التوحيد والقدرة والحشر [سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 30] أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) الإعراب: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ فاعل يَهْدِ مقدر وهو المصدر، أي أولم يهد الهدى لهم. وقيل: إن الفاعل هو الله تعالى، أي أولم يهد الله لهم. وقرى «نهد» وتقدير الفاعل: نهد نحن لهم. و «كم» في موضع نصب ب أَهْلَكْنا. مَتى هذَا الْفَتْحُ هذَا مبتدأ، والْفَتْحُ صفته، ومَتى خبره لأن الفتح مصدر وهو حدث، ومَتى ظرف زمان، وظروف الزمان يجوز أن تكون أخبارا عن الأحداث، لوجود الفائدة في الإخبار بها عنها. البلاغة: إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَفَلا يَسْمَعُونَ سجع لمراعاة الفواصل ورؤوس الآيات. المفردات اللغوية: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي أولم يتبين لكفار مكة كثرة من أهلكناهم من القرون أي الأمم الماضية بكفرهم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرّ أهل مكة في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام وغيرها على ديارهم، فيعتبروا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات على قدرتنا أَفَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واتعاظ.

سبب النزول نزول الآية (29) :

الْأَرْضِ الْجُرُزِ اليابسة التي لا نبات فيها لأنه جرز نباتها، أي قطع وأزيل، لا التي لا تنبت تَأْكُلُ مِنْهُ من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتبن والورق وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر أَفَلا يُبْصِرُونَ هذا، فيستدلون به على كمال قدرته وفضله، فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم؟ وَيَقُولُونَ للمؤمنين الْفَتْحِ النصر أو الفصل بالحكم، أي متى هذا الحكم الحاسم بيننا وبينكم؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الوعد به قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ بإنزال العذاب بهم يوم القيامة، فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل: يوم بدر، أو يوم فتح مكة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تبال بتكذيبهم وَانْتَظِرْ النصرة عليهم أو إنزال العذاب بهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليك، أو الموت أو القتل. سبب النزول: نزول الآية (29) : قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ: أخرج ابن جرير عن قتادة: قال الصحابة: إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننعم، فقال المشركون: متى هذا الفتح إن كنتم صادقين؟ فنزلت. المناسبة: في القسم الأخير من السورة عود على بدء في تقرير الأصول الثلاثة وهي الرسالة والتوحيد والبعث، فبعد أن ذكر تعالى بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تقرير رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإعادة بيان ما سبق في قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً.. أعاد هنا ذكر التوحيد وبرهانه وإثبات القدرة الإلهية بالمشاهدات المحسوسة بقوله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ.. ثم أعاد ذكر الحشر وإثباته بقوله: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ؟ التفسير والبيان: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي

ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أي أولم يتبين لهؤلاء المكذبين بالرسل كثرة من أهلكنا من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم، وهؤلاء المكذبون يمرون أثناء أسفارهم في مساكن وديار أولئك المكذبين، ويشاهدون آثار تدميرهم كعاد وثمود وقوم لوط، لم تبق منهم باقية ولا أثر، كقوله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مريم 19/ 98] وقوله: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها [هود 11/ 68] وقوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل 27/ 52] وقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج 22/ 45] . إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ؟ أي إن في تدمير أولئك القوم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم لدلائل على قدرتنا، وعبرا وعظات يعتبرون ويتعظون بها، فهلا يسمعون عظاتنا، ويتذكرون تذكيرنا لهم، سماع تدبر واتعاظ وتفكر؟ والخلاصة: أن مساكن المهلكين دالة على حالهم. وبعد بيان القدرة على الإهلاك، بيّن الله تعالى القدرة على الإحياء، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، أَفَلا يُبْصِرُونَ أي أولم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث أننا قادرون على الإحياء، فنسوق الماء من السماء أو السيول إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه أنعامهم من التبن والشعير والحشيش، وتتغذى منه أجسامهم، وتتقوى به أبدانهم، أفلا يبصرون هذا بأعينهم، فيعلموا أننا قادرون على الإعادة بعد الموت، كإحياء الأرض بعد موتها؟ ثم ذكر تعالى تساؤل المشركين عن يوم البعث والحشر، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويتساءل هؤلاء

الكفار عن ميعاد وقوع بأس الله وعذابه بهم استبعادا وتكذيبا وعنادا، قائلين: متى تنتصر علينا يا محمد، ومتى ينتقم الله لك منا، وأنت وصحبك ما نراكم إلا مختفين خائفين ذليلين؟ إن كنتم صادقين في تهديدكم ووعيدكم على الكفر وعبادة الأوثان. فأجابهم الله تعالى موبخا لهم: قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين برسالتك: إن يوم الحكم الفاصل والقضاء والفصل النافذ هو يوم القيامة الذي لا ينفع فيه إيمان الكافر ولا توبته، ولا هم يؤخرون فيه بالإعادة إلى الدنيا للتوبة والإيمان وإصلاح العمل لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، فلا تستعجلوه، فهو كائن حتما. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي أعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بتكذيبهم، وتابع تبليغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر النصر من الله الذي وعدك به، فإن الله سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد. إنك أنت منتظر نصر الله، وهم منتظرون الغلبة عليك والموت أو القتل، كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة ربك، وسيجدون سوء ما ينتظرونه فيك من عقاب الله بهم وتعذيبه إياهم في الدنيا والآخرة، وما علموا أن الله عاصمك منهم ومؤيدك بنصره.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن إهلاك الأمم الظالمة العاتية دليل على قدرة الله ووحدانيته، وفي ذلك عبرة للمعتبر، والمشركون الذين يشاهدون آثار الدمار والهلاك، لا يسمعون آيات الله وعظاته فيتعظون، إذ ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه، ولا قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم. 2- إن سوق الماء بقدرة الله إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لإحيائها بالنبات الأخضر والزرع النضر دليل آخر على قدرة الله على الإحياء وإعادة البشر لحياة البعث والنشور، ولكن الكفار لا يتأملون هذا بعين البصيرة ولا يبصرون هذا بحق، فيعلمون أن الله قادر على الحشر وعلى إعادتهم إلى الحياة يوم القيامة. وفي هذين الدليلين من الإهلاك والإماتة، والأحياء والاعادة إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله تعالى. 3- إن حماقة المشركين دفعتهم إلى استعجال العذاب والعقاب يوم القيامة. ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى يوم الفتح، أي هذا الحكم؟ 4- كان الرد الحاسم على هؤلاء الحمقى أن يوم الفتح والحكم والفصل بين المؤمنين والكفار كائن حتما لا شك فيه ولا بد منه، ولكن لا ينفع فيه الإيمان حينئذ لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، وكذلك لا يؤخرون بالإعادة للدنيا، ولا يمهلون للتوبة. 5- النتيجة المطلوبة أن الإعراض عن المكذبين بالقرآن والرسول بعد

البيانات المتكررة والبراهين المتلاحقة هو الواجب، ولينتظر نبي الله والمؤمنون يوم الفتح وحكم الله عليهم، وتحقيق النصر، ولن يفيد الكفار المكذبين انتظار حوادث الزمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه، فإن الله عاصمه من الناس، وناصر جنده المؤمنين، والشعار حينئذ: انتظر عذابهم، إنهم منتظرون هلاكك؟! وهم هالكون لا محالة.

سورة الأحزاب:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الأحزاب مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية. تسميتها: سميت سورة الأحزاب لاشتمال الكلام فيها على وقعة الخندق أو الأحزاب الذين تجمعوا حول المدينة، من مشركي قريش وغطفان، بالتواطؤ مع المنافقين ويهود بني قريظة، لحرب المسلمين ومحاولة استئصالهم، كما سميت (الفاضحة) لأنها افتضحت المنافقين، وأبانت شدة إيذائهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أزواجه وتألبهم عليه في تلك الموقعة. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بسورة السجدة التي قبلها في وجوه التشابه بين مطلع هذه وخاتمة تلك، فإن السورة السابقة ختمت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره صلّى الله عليه وسلّم بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحي إليه من ربه، والتوكل عليه. موضوعها: موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المدنية، التي تهتم بالجانب التشريعي للأمة، ولا سيما تنظيم الأسرة النبوية، وإبطال بعض عادات الجاهلية كالتبني والظهار واعتقاد وجود قلبين للإنسان، وعدم إيجاب العدّة على المطلقة

مشتملاتها:

قبل الدخول، وفرض الحجاب على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ونساء المؤمنين، وبيان خطورة أمانة التكليف. مشتملاتها: اشتملت هذه السورة على بعض الآداب الاجتماعية، والأحكام التشريعية وأخبار في السيرة عن غزوتي الأحزاب وبني قريظة وعن المنافقين. أما الآداب الاجتماعية: فأهمها آداب الدعوة إلى الولائم، والحجاب وعدم التبرج، وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته ومع الناس، والقول السديد. وأما الأحكام الشرعية فكثيرة: منها الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، ووجوب اتباع الوحي، وحكم الظهار، وإبطال عادة التبني وعادة التوريث بالحلف أو الهجرة، وجعل الرحم والقرابة أساس الميراث، وتعداد المحارم وعدد زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرض الحجاب الشرعي وتطهير المجتمع من مظاهر التبرج الجاهلية، وعدم إلزام المطلقة قبل الدخول بالعدة، وتخيير نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الفراق والبقاء معه، وتخصيص زوجاته بمضاعفة الأجر والثواب عند الطاعة، ومضاعفة العذاب عند المعصية، وتحريم إيذاء الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وخطورة أمانة التكليف، وعقاب المسيء وإثابة المحسن. وأما أخبار السيرة: ففي السورة بيان توضيحي عن (غزوة الأحزاب) أو (غزوة الخندق) وغزوة بني قريظة، ونقضهم العهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكشف فضائح المنافقين والتحذير من مكائدهم، وتهديدهم مع المرجفين في المدينة على جرائمهم بالطرد والتعذيب، وتذكير المؤمنين بنعم الله العظمى التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد اشتداد الخطب عليهم، ورد كيد أعدائهم بالملائكة والريح، حتى صار ذلك معجزة خارقة للعادة، وبيان قصة زيد بن حارثة مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم.

الأمر بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله [سورة الأحزاب (33) الآيات 1 إلى 3] :

الأمر بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) البلاغة: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ أي دم على تقواه، وليتق الله المؤمنون، بأسلوب يقصد به تنبيه بالأعلى وهو النبي على الأدنى وهم المؤمنون، فإنه تعالى إذا أمر رسوله بالتقوى، كان المؤمنون مأمورين بها بطريق الأولى أو أنه أمر قصد به الثبات والاستدامة على التقوى. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك وأوامر ربك. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي إن الله كان وما يزال عالما بكل شيء قبل وجوده، حكيما فيما يخلقه. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وكل أمرك إلى تدبيره. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا لك، موكولا إليه كل الأمور، والأمة تبع له في المذكور كله. سبب النزول: أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.

التفسير والبيان:

وذكر الواحدي في أسباب النزول: أن الآيات نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السّلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ (زعيم المنافقين) وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم قولهم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: «إني قد أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي يا أيها الرسول محمد، داوم على تقوى الله وخف عقابه بإطاعة أوامره واجتناب محارمه، ولا تسمع من الكافرين والمنافقين ولا تستشرهم في شيء، واحترس منهم، ولا تستجب لمطالبهم بتخصيص بعض المجالس والأوقات لهم وطرد الضعفاء، إن الله عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإن أولئك الكفار أعداؤك الذين يريدون هلاكك. وقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهي مؤكد لمضمون الأمر السابق، أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم. روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، تابعه ناس من اليهود نفاقا، وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعا فحذره الله منهم، ونبهه إلى عداوتهم. وقال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله،

فقه الحياة أو الأحكام:

ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله مخافة عذاب الله. ثم أكد الله تعالى وجوب امتثال أوامر الله، فقال: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي اعمل بمقتضى الوحي المنزل إليك من ربك من قرآن وسنة، فإن الله لا تخفى عليه خافية، يعلم بدقة بواطن الأشياء وظواهرها، ثم يجازيكم عليها. وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ.. علة للأمر باتباع الوحي، وإشارة إلى أن التقوى ينبغي أن تكون عن صميم قلبك، لا تخفي في نفسك تقوى غير الله. ثم أمر تعالى رسوله بعد التزام الأوامر بتفويض الأمور إلى الله وحده، فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي فوض جميع أمورك وأحوالك إلى الله، وكفى به وكيلا لمن توكل عليه، وأناب إليه. والمقصود أن الله عاصمك وحسبك، فهو وحده جالب النفع لك، ودافع الضر عنك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إيجاب التقوى والمداومة عليها ومتابعة طاعة الله أمر عام مفروض على جميع البشر، سواء أكانوا أنبياء ورسلا وملائكة أم غيرهم، إلا أن الأنبياء والملائكة المعصومين من المعصية يؤمرون بالتقوى تعليما وإرشادا لغيرهم، وتنبيها بالأعلى على الأدنى. ويلاحظ أن الله تعالى لم يخاطب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلا بلفظ النبوة والرسالة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ولم يخاطبه باسمه، تعظيما لشأنه، وإشادة بمقامه، وتعليما لنا للأدب معه، مع أنه تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم فقال: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود 11/ 48]

يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات 37/ 104- 105] يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف 7/ 144] . 2- الأمر بالشيء نهي عن ضده، لذا منع الله سبحانه من طاعة الكافرين من أهل مكة ونحوهم والمنافقين من أهل المدينة وأمثالهم فيما نهى عنه، والتحذير من الميل إليهم، فإن الله عليم بكفرهم ونفاقهم، حكيم فيما يفعل بهم، والمقصود بذلك الاحتراس من مؤامراتهم ومكائدهم وخططهم المشبوهة. والمراد بالكافرين من أهل مكة: أبو سفيان وأبو الأعور وعكرمة. والمراد بالمنافقين من أهل المدينة: عبد الله بن أبيّ، وطعمة بن أبيرق، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. 3- ومن الواجب أيضا اتباع الوحي من قرآن وسنة، وفي ذلك زجر عن اتباع مراسم الجاهلية. وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأمته. 4- على المؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائل أن يعتمد على الله في جميع أحواله، فهو الذي ينفع ويمنع، ولا يضر معه معارضة أحد من البشر أو مخالفته، وكفى بالله حافظا لجميع الأمور والأحوال. والخلاصة: أن الله تعالى أراد بهذه الآيات غرس العزة والكرامة في نفوس المسلمين، والثقة بالذات، وعدم الالتفات إلى الأعداء، ومن أجل تحقيق تلك الغايات، قررت الآيات هذه الأحكام وهي أن الله عليم بالمصلحة والصواب، حكيم لا يأمر ولا ينهى إلا على وفق الحكمة والصواب، فالواجب الأول: امتثال الأمر وتنفيذ النهي، والواجب الثاني: اتباع وحي الله، فإن الله خبير بما يصلح أمور العباد، والواجب الثالث: التوكل على الله حقا، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، وكفى بالله وكيلا.

تعدد القلب والظهار والتبني [سورة الأحزاب (33) الآيات 4 إلى 5] :

تعدد القلب والظهار والتبني [سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5] ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) الإعراب: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي.. أزواج: جمع زوج، والزوج ينطلق على الذكر والأنثى، يقال: هما زوجان، وقد يقال للمرأة: زوجة، واللغة الفصحى بغير تاء، وهي لغة القرآن، قال تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 2/ 35] وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء 21/ 90] . واللَّائِي: فيه ثلاث قراءات، بإثبات الياء، وبحذفها، وبجعل الهمزة بين بين تسهيلا بعد حذف الياء. وتُظاهِرُونَ: يقرأ بتخفيف الظاء وتشديدها، وأصلها: يتظاهرون. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الْحَقَّ منصوب على أنه مفعول به ل يَقُولُ أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقول القول الحق. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ فِيما: إما مجرور بالعطف على فِيما في قوله: فِيما أَخْطَأْتُمْ وإما مرفوع بالابتداء، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به. البلاغة: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ تنكير رجل للاستغراق والشمول، وحرف الجر: لتأكيد

المفردات اللغوية:

الاستغراق، وذكر الجوف فِي جَوْفِهِ لزيادة تصوير الإنكار. أَخْطَأْتُمْ تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ جَعَلَ خلق، وهذا رد على من زعم من الكفار أن له قلبين يعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم. تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ الظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أحد محارمه، أي أنت في التحريم علي كتحريم الأم ونحوها من المحارم. أُمَّهاتِكُمْ أي كالأمهات في التحريم، فقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا، أما في الإسلام فتجب فيه الكفارة قبل الجماع. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ جمع دعيّ: وهو الذي تدّعى بنوته، فيدعى لغير أبيه ابنا له، وكان له أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام، وفي الواقع هو ابن غيره. أَبْناءَكُمْ أي أبناء في الحقيقة. والمراد: ما جمع تعالى الزوجية والأمومة في امرأة، ولا الدعوة والنبوة في رجل، فكما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى تناقض: (وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل) لم يجعل الزوجة والدّعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أما ولا ابنا اللذين بينهما وبينه ولادة. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ذلِكُمْ إشارة إلى كلّ ما ذكر، وقَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي مجرد قول في الظاهر، لا حقيقة له في الواقع. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي يقول ما له حقيقة مطابقة للواقع. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق. والمراد: نفي وجود القلبين، ونفي الأمومة والبنوة عن المظاهر منها والمتبنى. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي لكن انسبوهم إليهم. هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل لما سبق، وأَقْسَطُ أفعل تفضيل، قصد به الزيادة مطلقا، أي أعدل، والمراد: البالغ في الصدق. سبب النزول: نزول الآية (4) : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ: أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذي يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلبا معكم وقلبا معه، فأنزل الله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.

نزول الآية:

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة: قالوا: كان رجل يدعى ذا القلبين. قيل: إنه أبو معمر، وقيل: إنه جميل بن أسد الفهري. وكانت الزوجة المظاهر منها كالأم، ودعيّ الرجل: ابنه. وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري مثل الذي أخرجه ابن أبي حاتم، وزاد: وكان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. وأخرج عن مجاهد قال: نزلت في رجل من بني فهر قال: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمح يقال له: جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول: إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما كان يوم بدر، وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقاه أبو يوسف وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر، ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده «1» . نزول الآية: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ: نزلت في زيد بن حارثة، كان عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه وتبناه قبل الوحي، فلما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد صلّى الله عليه وسلّم امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: 201 (2) المرجع والمكان السابق.

المناسبة:

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت في القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بتقواه وطاعته والخوف منه، ونهى عن طاعة الكفار والخوف منهم، نفى تعدد القلب عند الإنسان، وأبطل الظهار والتبني، فإذا كان لا يجتمع في قلب إنسان الخوف من الله والخوف من غيره، فليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصي بالآخر، ولا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، ولا البنوة الحقيقية والتبني في رجل، فجمع في الآيات بين أمر معروف حسي، وبين أمرين معنويين. التفسير والبيان: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي إن الذات الإنسانية ووحدة التركيب العضوي واحدة في كل إنسان، وما خلق الله لأي أحد قلبين، فليس لأي رجل قلبان في صدره، وإنما هو قلب واحد لأن القلب محل التوجيه والإرادة والعزم، فإذا كان الإنسان مؤمنا بالله ورسوله، فلن يكون كافرا أو منافقا، أي أنه لا يجتمع في قلب واحد اعتقادان، ولا يجتمع اتجاهان متضادان، يأمر أحدهما أو ينهى بنقيض ما يطلبه الآخر. والآية كما بان في سبيل النزول رد على ما كانت العرب تزعم أن اللبيب الأريب له قلبان، فقيل لأبي معمر أو لجميل بن معمر الفهري أو لجميل بن أسد الفهري: ذو القلبين. والظاهر أنه أبو معمر الفهري جميل بن معمر الذي اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.

والقلب: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، وهو محل الخطرات والوساوس، ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومحل الانزعاج والطمأنينة. والجعل: الخلق. وفائدة ذكر الجوف كفائدة ذكر الصدر في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج 22/ 46] ليحصل للسامع زيادة التصور، والإسراع في الإنكار. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي وما جعل الزوجات المظاهر منهن كالأمهات في الحرمة، بأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فذلك كذب موجب العقوبة، كما قال تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.. [المجادلة 58/ 2] . وكان حكم الظهار في الجاهلية طلاقا يفيد التحريم المؤبد، فجعل الإسلام الحرمة مؤقتة، تزول بالكفارة (تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا قبل الجماع) كما جاء في أوائل سورة المجادلة، لتحريم ما أحل الله تعالى. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي وما جعل الله المدّعى بنوتهم بالتبني أبناء في الحقيقة، فهم أبناء آبائهم الحقيقيين، والتبني حرام، وهذا أيضا إبطال لما كان عليه العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من جعل الابن بالتبني كالابن النسبي. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إعتاق زيد بن حارثة مولاه قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له زيد بن محمد، وتبنى الخطّاب عامر بن أبي ربيعة، وأبو حذيفة سالما، وكثير من العرب تبنى ولد غيره. والخلاصة: أجمع أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة. وقد أبطل الله هذا الإلحاق الوهمي وهذا النسب المزعوم بهذه الآية، وبقوله

تعالى بعدئذ في هذه السورة: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.. [40] . وهذا هو المقصود بالنفي، قدّم الله له نفي أمر حسي معروف وهو ازدواج القلب في الإنسان، ثم أردفه بنفي أمرين معنويين هما اجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب، فالثلاثة باطلة لا حقيقة لها، لذا قال تعالى مؤكدا النفي: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي ذلكم المذكور كله في الجمل الثلاث من ادعاء وجود قلبين في صدر واحد، واجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب هو مجرد قول باللسان، لا صلة له بالحقيقة، فلا تصبح الزوجة بالظهار أما، ولا المتبني ابنا. وزيادة قوله تعالى: بِأَفْواهِكُمْ للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له حقيقة في الواقع، كما أن زيادة فِي جَوْفِهِ لتأكيد الإنكار وزيادة تصويره للنفوس. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي والله هو الذي يقرر الصدق والعدل، ويقول الواقع، ويرشد إلى السبيل الأقوم الصحيح والطريق المستقيم، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز وجل. ثم فصل تعالى هذا الحق المقصود أصالة بالآية فقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي انسبوا أولئك الذين تبنيتموهم وألحقتم نسبهم بكم إلى آبائهم الحقيقيين، فذلك أعدل في حكم الله وشرعه، وأصوب من نسبة الابن لغير أبيه. فقوله أَقْسَطُ أفعل التفضيل، وهو ليس على بابه، أي لا يراد به المفاضلة بين اثنين، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه على سبيل التهكم بهم. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي فإن جهل آباء هؤلاء الأدعياء، فهم إخوانكم في الدين إن كانوا قد أسلموا، وهم مواليكم في الدين

أيضا أي أنصاركم، إن كانوا عتقاء محرّرين، فينادى الواحد منهم: يا أخي أو يا مولاي، لذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة. جاء في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن أبي ذر: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر» قال ابن كثير: هذا تشبيه وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي لا إثم عليكم بنسبة بعضهم إلى غير أبيه خطأ قبل النهي، أو بعده نسيانا أو سبق لسان، أو بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما قال تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة 2/ 286] وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: قد فعلت» . وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن أبي ذر: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . لا إثم في الخطأ، ولكن الإثم على من تعمد الباطل، فنسب الابن أو البنت إلى غير الأب المعروف، فتلك معصية موجبة للعقاب. ولا إثم ولا تحريم فيما غلب عليه اسم التبني كالمقداد بن عمرو، فإنه غلب عليه نسب التبني، فيقال له: المقداد بن الأسود، والأسود: هو الأسود بن عبد يغوث، كان قد تبناه في الجاهلية، فلما نزلت الآية، قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية: «لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه» . وأخرج الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا

قصة زيد بن حارثة في السيرة والسنة النبوية:

صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. ثم قال: قد كنا نقرأ: «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم عليه السلام، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبده ورسوله» وربما قال معمر: «كما أطرت النصارى ابن مريم» . وروى أحمد في حديث آخر: «ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم» . وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي وكان الله وما يزال ساترا لذنب المخطئ، والمتعمد إذا تاب، رحيما بهما فلا يعاقبهما، فمن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، وقبل توبة المسيء عمدا. قصة زيد بن حارثة في السيرة والسنة النبوية: أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. وقد سبي من قبيلته «كلب» وهو صغير. وكان من أمره ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيّ، فأصيب في نهب من طيّ، فقدم به سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته.

فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو عندها، فأعجب النبي صلّى الله عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه، فالولاء لي، فأبى عليها عليه الصلاة والسلام، فوهبته له، إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك. قال: فشب عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال: لا، قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك، قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد المطلب، فقال له: أعربي أنت أم عجمي؟ قال: عربي، قال: ممن أصلك؟ قال: من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ودّ، قال: ويحك، ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي، قال: ومن أخوالك؟ قال: طي، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه، وقال: ابن حارثة. ودعا أباه، فقال: يا حارثة، هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له حارثة: يا محمد، أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيد قومك، وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيكم خيرا من ذلك، قالوا: وما هو؟ قال: أخيّره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه. فقالوا: جزاك الله خيرا، فقد أحسنت. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا زيد، أتعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي، فقال صلّى الله عليه وسلّم:

فقه الحياة أو الأحكام:

«فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم، فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم» . فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم، قال: أبوه وعمه: أيا زيد، أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصه عليه، قال: «اشهدوا أنه حر، وأنه ابني يرثني وأرثه» ، فطابت نفس أبيه وعمه، لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- أعلم الله عز وجل أنه لا أحد بقلبين، وإنما هو قلب واحد، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر، ولا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار. وفي هذا رد على بعض أهل مكة الذين كانوا يقولون: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهو ردّ أيضا على المنافقين الذين هم على درجة من النفاق، متوسطة بين الإيمان والكفر إذ ليس هناك إلا قلب واحد فيه إيمان أو كفر. 2- أبطل الله تعالى في هذه الآية حكم الظهار الجاهلي، وهو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فتصبح محرمة على التأبيد، أما في الإسلام فالحرمة مؤقتة تنتهي بالكفارة. 3- التبني حرام في الإسلام لأنه يصادم الحقيقة، والأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا، ويحرم على الإنسان أن يتعمد دعوة الولد لغير

أبيه، على النحو الذي كان في الجاهلية. فإن لم يكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير تلطفا أو تحننا وشفقة: يا ابني أو يا بنيّ، فالظاهر عدم الحرمة، لكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار. 4- نسبة الإنسان إلى أبيه من التبني خطأ، بأن يسبق اللسان إليه من غير قصد، لا إثم ولا مؤاخذة فيها، لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. كذلك لا إثم في نسبة شخص كان في الأصل منسوبا إلى أبيه بالتبني، وجرى الإطلاق على سبيل الشهرة، كالحال في المقداد بن عمرو، فإنه غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية، قال المقداد: أنا ابن عمرو ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه، ولم يحكم أحد بعصيان من ناداه بذلك، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة فإنه لا يجوز أن يقال فيه: زيد بن محمد إذ لم يشتهر به بعد التحريم والنهي، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. 5- وكما يحرم التبني، يحرم انتساب الشخص إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، بل هو من الكبائر إذا كان على النحو الجاهلي، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وجاء في السنة الوعيد الشديد عليه، أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ادّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام» . وأخرج الشيخان أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا»

وأخرجا أيضا عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس من رجل ادّعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر» . والكفر: إذا اعتقد إباحة ذلك، فإن لم يعتقد إباحته، فمعنى كفره: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية، أو أنه كافر نعمة الله والإسلام عليه. 6- هناك فرق بين التبني المنهي عنه والاستلحاق الذي أباحه الإسلام، فالتبني: هو ادعاء الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأما الاستلحاق الشرعي: فهو أن يعلم المستلحق أن المستلحق ابنه أو يظن ذلك ظنا قويا، بسبب وجود زواج سابق غير معلن. فإن كان من زنى فلا يجوز الاستلحاق. 7- يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي أو يا مولاي إذا قصد الأخوة في الدين والولاية فيه، وكان المدعو تقيا. فإن كان فاسقا فلا يدعى بذلك، ويكون حراما لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق. 8- دل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ على أنه ينبغي أن يكون قول الإنسان إما عن حقيقة يقرها العقل السليم أو عن شرع ثابت، فمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا، وكانت الزوجة سابقا زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه، فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش أي رابطة الزوجية. 9- قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يدل على أنه سبحانه يغفر الذنوب للمستغفر، ويرحم المذنب التائب.

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ومهمته وتشريع الميراث بقرابة الرحم [سورة الأحزاب (33) الآيات 6 إلى 8] :

مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومهمته وتشريع الميراث بقرابة الرحم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) الإعراب: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ مبتدأ وخبر، أي إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بهن، احتراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا.. أن وصلتها: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. البلاغة: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي وأزواجه مثل أمهاتهم في الحرمة والتعظيم. أَوْلى بِبَعْضٍ مجاز بالحذف، أو أولى بميراث بعض. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ عطف الخاص على العام للتشريف والتنويه بشأنهم، بالرغم من دخول محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في جملة النبيين. مِيثاقاً غَلِيظاً استعارة، استعار الغلظ في الأجسام الحسية للشيء المعنوي، وهو بيان حرمة الميثاق وخطورته وعظمه، للوفاء به.

المفردات اللغوية:

لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ التفات من التكلم للغيبة لتبكيت المشركين وتقبيح فعلهم. المفردات اللغوية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في الأمور كلها في الدين والدنيا، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فهو أرأف بهم وأعطف عليهم فيما دعاهم إليه مما دعتهم أنفسهم إليه إذ هو يدعو إلى النجاة وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزّلات منزلة الأمهات في حرمة زواجهن واستحقاق التعظيم، وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات، ولذلك قالت عائشة: لسنا أمهات النساء. وَأُولُوا الْأَرْحامِ ذوو القرابات. بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث من الإرث بالحلف والمؤاخاة، وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. فِي كِتابِ اللَّهِ فيما فرض الله تعالى وشرع أو في اللوح المحفوظ. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أو صلة لأولي، أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، والمهاجرين بحق الهجرة، وبعبارة أخرى: الإرث بقرابة الرحم مقدم على الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام، فنسخ. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان المذكور في الآيتين ثابتا في اللوح المحفوظ، أو في القرآن. وَإِذْ أَخَذْنا أي واذكر. مِيثاقَهُمْ أي عهودهم بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الدين القويم، والميثاق: العهد المؤكد. وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي بأن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادته، وذكر هؤلاء الأنبياء الخمسة من عطف الخاص على العام لأنهم مشاهير أصحاب الشرائع وأولو العزم من الرسل. وقدم نبينا تعظيما له. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ميثاقا شديدا عظيم الشأن بالوفاء بواجب التبليغ لما أنزل إليهم من ربهم. وقيل: ميثاقا مؤكدا باليمين. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة أولئك الأنبياء الصادقين الذين صدقوا عهدهم عن صدقهم في تبليغ الرسالة وعما قالوه لقومهم، تبكيتا للكافرين برسالاتهم. وَأَعَدَّ تعالى، معطوف على أَخَذْنا والمعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه، لأجل إثابة المؤمنين، وتبكيت الكافرين، وأعد للكافرين بهم عذابا مؤلما. المناسبة: بعد أن أبطل الله تعالى حكم التبني الخاص وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس أبا لزيد بن حارثة، أبان تعالى أن أبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عامة لكل الأمة، وأزواجه بالنسبة للرجال في حكم حرمة الأمهات، وهي أشرف من أبوة النسب لأنها إنقاذ أبدي من

التفسير والبيان:

الهلاك، قال مجاهد: كل نبي أبو أمته. ثم أردف ذلك بعلو منزلته وسمو مهمته وهو تبليغ دعوة الله، وفاء بالميثاق (العهد المؤكد) الذي أخذه الله عليه وعلى سائر الأنبياء من قبله. التفسير والبيان: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي إن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم أرأف بجماعة المؤمنين من أمته وأعطف عليهم من أنفسهم إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها تقّحم الفراش» «1» ولأنه ينزّل لهم منزلة الأب، فالنفس قد تأمر بالسوء، وأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو لا يأمر إلا بالخير ولا ينطق إلا بالوحي. فإذا كان زيد يعتز بدعوته لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنها تكسبه جاها كبيرا في الدنيا والآخرة، فإن المؤمنين أصبحوا جميعا يعتزون بأبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم العامة لهم، وقد نزلت الآية تسلية لزيد، وبيانا للانتقال من الأبوة الخاصة لزيد إلى الأبوة العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا، لا فرق فيها بين الابن الصلبي وغيره فهو يرعاهم حق الرعاية ويهديهم الطريق المستقيم. وجعلت الولاية مطلقة لتشمل جميع الأمور الدينية والدنيوية. وما دام محمد صلّى الله عليه وسلّم أولى من النفس، فهو أولى من جميع الناس بطريق الأولى، وحكمه مقدّم على اختيارهم لأنفسهم، ومحبته مقدمة أيضا على حب النفس التي بين الجنبين، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء 4/ 65] .

_ (1) نص الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، وأنا أخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه» . قال العلماء: الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار.

وثبت في صحيح البخاري وغيره: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» وروى البخاري في صحيحة أيضا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا- عيالا- فليأتني، فأنا مولاه» . وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا، يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: الآن يا عمر» . ومبعث هذا ما علم الله تعالى من توافر شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام، أي في تحريم زواجهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستحقاق التكريم والتعظيم والتوقير، وأما في غير ذلك فهن أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين، ولا يحل النظر إليهن ولا الخلوة بهن، ولا ارثهن ونحو ذلك. وهذا بالنسبة للرجال، فهم كأمهاتهم، وأما النساء فلا يقال لهن عند البعض: أمهات المؤمنات، لذا قالت عائشة رضي الله عنها لمن قالت لها: يا أمه: أنا أم رجالكم، لا أم نسائكم. وسيأتي بيان الخلاف. ويثبت هذا الوصف لجميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى المطلّقة، لكن صحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط. واختار الرازي والغزالي

القطع بحل المرأة التي اختارت الدنيا من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول آية التخيير الآتية. ثم بيّن الله تعالى بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ حكم الميراث، وبقوله: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ حكم الوصية، ليبين الفرق بين ولاية النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين، وولاية المؤمنين لأقاربهم، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يورث، فلا توارث بينه وبين أقاربه، لولايته العامة، والمؤمنون يرث بعضهم من بعض إذا كانوا ذوي قرابة، وهم أولى ببعضهم في النفع بميراث وغيره، إلا في حال بر صديق أو محتاج بالوصية، فيصير أولى من قريبه، فتقطع الوصية الإرث، فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي وذوو القرابات مطلقا، سواء أكانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام أولى بمنافع بعضهم بالتوارث وغيره من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار، أي بحق الدين وهو الإيمان، أو بحق الهجرة، وذلك في فرض الله وشرعه وما كتبه على عباده، أو في القرآن، أو في اللوح المحفوظ. وقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ كما ذكر الزمخشري إما بيان راجع لأولي الأرحام (أي الأقرباء) والمعنى: وأولو القرابة من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بنفع بعض أو بميراثه من الأجانب. وإما لابتداء الغاية، والمعنى: وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدّين، ومن المهاجرين بحق الهجرة «1» . وعلى هذا المعنى الثاني وهو المشهور تكون الآية إبطالا لما كان في بدء الإسلام من التوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، بسبب الأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه وخارجة بن زيد، وآخى

_ (1) الكشاف: 2/ 531

بين عمر وشخص آخر، وآخى بين عثمان ورجل من بني زريق، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك «1» . ويؤكد هذا المعنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» والمراد: بطل حكم الهجرة وزالت الأحكام المترتبة عليها كالتوارث بها. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي ذهب الميراث بالتآخي، وبقي حكم الوصية والنصر والبر والصلة والإحسان، أي إلا أن توصوا إلى أصدقائكم الذين توالونهم وتودونهم من المؤمنين والمهاجرين وصية، والمعروف هنا: الوصية، ومن المعلوم أن الدّين والوصية مقدّمان شرعا على الميراث، كما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء 4/ 11] . ومعنى الآية: إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي إن هذا الحكم (وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض) حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدّل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت ما، لمصلحة مؤقتة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري التشريعي. وبعد بيان مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المؤمنين، أبان الله تعالى سمو مهمته وعلو منزلته في تبليغ الشرائع، والدعوة إلى دين الله ورسالة ربه، ووفائه بتلك المهمة، عملا بمقتضى ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله، وكأنه تعالى من بداية السورة إلى هنا قال لنبيه تعليما للأمة، اتق الله، ولا تخف أحدا، واذكر

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 468

أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون شرائع الله، ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع، فقال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي واذكر أيها الرسول أننا أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ولا سيما أولو العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في الآية في أنهم يبلغون رسالة الله إلى أقوامهم، ويقيمون دين الله تعالى، ويتناصرون ويتعاونون فيما بينهم بإكمال بعضهم رسالة من تقدمه، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ، مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا: أَقْرَرْنا، قالَ: فَاشْهَدُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران 3/ 81] أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعلن محمد صلّى الله عليه وسلّم أن لا نبي بعده. ثم أكد الله تعالى ذلك الميثاق بعينه، فوصفه بالشدة والغلظ مبالغة في حرمته وعظمته وثقل تبعته (مسئوليته) والمعنى: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا، فالميثاق الثاني هو الأول مؤكدا باليمين، أو مكررا لبيان صفته، من طريق استعارة الغلظ من صفة الأجسام المادية إلى الأشياء المعنوية، مبالغة في بيان حرمته وعظمه وخطورته، كما بينت. وقد خص الله تعالى بالذكر خمسة رسل هم أولو العزم، تنويها بشأنهم، وتبيان أهمية رسالاتهم، من باب عطف الخاص على العام، كما في آية أخرى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] . ثم ذكر الله تعالى أنه سائل الأنبياء عن التبليغ والمؤمنين عن الإجابة والمكذبين عن التكذيب، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً اللام في لِيَسْئَلَ قيل: إنها لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء، ليصير الأمر إلى السؤال عما فعلوا، كما قال تعالى: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 6] . قال الرازي: يعني أرسل الرسل، وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب، والكافر معذب «1» . والظاهر- كما قال أبو حيان- أنها لام التعليل، لام كي، أي بعثنا الرسل، وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها، على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب، فالصادقون المسؤولون على هذا المعنى: هم المؤمنون، والهاء في صِدْقِهِمْ عائدة عليهم، ويجوز أن يراد: وليسأل الأنبياء، أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه: أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف بمن سواهم؟ «2» أو ليسأل المبلّغين الذين بلغتهم الرسل. وعلى هذا، يكون المعنى: وأخذنا من الأنبياء ميثاقهم في تبليغ الدعوة إلى دين الله، لكي نسأل المرسلين عن قيامهم بواجب التبليغ، ومعرفة ما أجابتهم به أممهم، ولأجل إثابة المؤمنين على إيمانهم وصدقهم، وعقاب الكافرين من أممهم المكذبين رسلهم الذين أعد الله لهم عذابا شديدا مؤلما موجعا هو عذاب جهنم. فقوله تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ معطوف على قوله: أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي:

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 197 (2) البحر المحيط: 7/ 213

1- النبي صلّى الله عليه وسلّم أرأف وأعطف وأشفق على المؤمنين من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. 2- آية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام منها: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يصلّي على ميّت عليه دين ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال كما جاء في الصحيحين: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» . وفي الصحيحين أيضا «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه» والضياع: مصدر ضاع، ثم جعل اسما لكل ما يتعرض للضياع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيّم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع ضياعا. قال بعض العلماء: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه، حيث قال: «فعلي قضاؤه» . 3- جعلت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين في وجوب التعظيم والبرّ والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وتحريم النظر إليهن، وحجبهن عن الرجال، بخلاف الأمهات. وهذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، فقد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهي أخت عائشة، ولم يقل: هي خالة المؤمنين. ولا يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين. وهن في قول أمهات الرجال خاصة، لا أمهات الرجال والنساء، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمّه فقالت لها: لست لك بأمّ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح «1» .

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1497

وقال القرطبي: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقّهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة فيكون قوله: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ عائدا إلى الجميع «1» . 4- قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، وللتوارث بالهجرة لأن المراد بأولي الأرحام ذوي القرابة مطلقا أيا كان نوعهم، والمراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا، وقد فسر الإمام الشافعي رضي الله عنه الآية بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية. إلا أن الجصاص يرى فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام، لا من حيث إن الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إن الآية اقتضت أن ذا القرابة مطلقا أولى من غيره، وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض، فهذا له أدلته الخاصة. ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم (هو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى) أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدم بيت المال عليهم. وظاهر الآية يدل على أن ذا الرحم أولى من مولى العتاقة، ويرى بعضهم أن مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو أولى من الرد لأنه من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم، وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا، ومات وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنة حمزة. ونوقش

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 123

هذا بأنه لم يقل لنا الرواة: هل كان للميت ذو رحم، حتى يتم الدليل. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر: «الولاء لحمة كلحمة النسب» ونوقش هذا أيضا بأن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، ولكنه لا يدل على تقديمه على غيره. 5- قال قوم: لا يجوز أن يسمّى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا لقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم» . وقال القرطبي: والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة لا في النسب، وأما قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ فهو في النسب. وقرأ ابن عباس: «من أنفسهم، وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم» وهي في مصحف أبيّ. 6- لا مانع من الإحسان لغير الوارثين في الحياة، والوصية عند الموت لهم لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إن ذلك جائز. وقال محمد بن الحنفية: «إنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني» «1» أي أنه تجوز الوصية للقريب والوليّ وإن كان كافرا لأن الكافر ولي في النسب لا في الدين، فيوصى له بوصية. ويكون معنى الآية: وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم. 7- رسالات الأنبياء في الأصول العامة كأصول الاعتقاد والأخلاق واحدة، وهم متناصرون متعاونون فيما بينهم، ويكمّل بعضهم رسالة البعض الآخر لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ... الآية، أي أخذنا عهدهم على الوفاء بما أوحي إليهم، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدّق بعضهم بعضا، وذلك

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 355

حكم قديم مسطور حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء، وهو عهد وثيق عظيم على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا. وقد خص الله تعالى خمسة أنبياء بالذكر (وهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى) . تفضيلا لهم لأنهم أولو العزم من الرسل وأئمة الأمم، ولأنهم أصحاب الشرائع والكتب. وقدّم محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الذكر لما رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ... فقال: «كنت أولهم في الخلق، وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم» «1» . 8- قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فيه أربعة أوجه «2» : أحدها- ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم؟ الثاني- ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم. الثالث- ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم. الرابع- ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، كما قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف 7/ 6] . وفائدة سؤال الأنبياء: توبيخ الكفار، كما قال تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة 5/ 116] .

_ (1) لكن فيه راو ضعيف. (2) تفسير القرطبي: 14/ 128

غزوة الأحزاب أو الخندق وبني قريظة [سورة الأحزاب (33) الآيات 9 إلى 27] :

غزوة الأحزاب أو الخندق وبني قريظة [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)

الإعراب:

الإعراب: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ (10) إِذْ: في موضع نصب على البدل من إِذْ في قوله تعالى: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وإِذْ هذه منصوبة ب اذْكُرُوا. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) يقرأ الظُّنُونَا بإثبات الألف، لأنها فاصلة، وفواصل الآيات تشبه رؤوس الأبيات. ويقرأ بترك الألف على الأصل. وَإِذْ يَقُولُ وإِذْ قالَتْ (12، 13) : إِذْ فيهما منصوب بفعل مقدر، أي اذكر. وَيَسْتَأْذِنُ (13) الواو: واو الحال، والجملة بعدها في موضع نصب على الحال من الطائفة المرفوعة ب قالَتْ. وقال بعضهم: تم الكلام عند قوله: فَارْجِعُوا وليست الواو واو الحال.

البلاغة:

وإِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذات عورة، فحذف المضاف. عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ، لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ (15) عاهَدُوا اللَّهَ: بمنزلة القسم، ولا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ: جوابه. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ (19) : إما منصوب على الحال من واو يَأْتُونَ أو منصوب على الذم. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ، كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (19) : يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في رَأَيْتَهُمْ من رؤية العين. وتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ: إما حال من واو يَنْظُرُونَ أو حال بعد حال. وكَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تقديره: تدور أعينهم دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، فحذف المصدر وهو «دورانا» وما أضيفت الكاف إليه وهو دوران، وما أضيف «دوران» إليه وهو «عين» وأقيم «الذي» مقام «عين» وإنما وجب هذا التقدير ليستقيم معنى الكلام لأن تشبيه الدوران بالذي يغشى عليه تشبيه العرض بالجسم، والأعراض لا تشبه بالأجسام، ومِنَ الْمَوْتِ أي من حذر الموت. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ (19) : أَشِحَّةً: منصوب على الحال من واو سَلَقُوكُمْ وهو عامله. بادُونَ فِي الْأَعْرابِ (20) : الجار والمجرور إما مرفوع على أنه خبر بعد خبر، أي كائنون في جملة الأعراب، وإما منصوب على الحال من ضمير بادُونَ. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ (21) : الجار والمجرور بدل من لكم أو في موضع رفع لأنه صفة بعد صفة ل أُسْوَةٌ أي أسوة حسنة كائنة لمن كان. ولا يتعلق ب أُسْوَةٌ إذا جعل مصدرا بمعنى التأسي لأنها وصفت والمصدر إذا وصف لم يعمل. وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً (22) أي ما زادتهم الرؤية إلا إيمانا، وإنما جعل الفعل زادَهُمْ بالتذكير لأن الرؤية بمعنى النظر. ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23) : ما هنا: مصدرية، في موضع نصب ب صَدَقُوا أي صدقوا الله في العهد، أي وفّوا به. البلاغة: مِنْ فَوْقِكُمْ وأَسْفَلَ مِنْكُمْ بينهما طباق. تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من

المفردات اللغوية:

وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ مبالغة في التمثيل، صور القلوب في خفقانها واضطرابها، كأنها وصلت إلى الحلقوم. لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ كناية عن الفرار من الزحف. سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ استعارة مكنية، شبه اللسان بالسيف المصلت، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق أي الضرب، بطريق هذه الاستعارة، وحِدادٍ ترشيح. مَسْطُوراً بَصِيراً غُرُوراً فِراراً يَسِيراً كَثِيراً توافق الفواصل في الحرف الأخير. هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إطناب بتكرار اسم الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم للتعظيم والتشريف. قَضى نَحْبَهُ استعارة، أستعير النحب وهو النّذر للموت نهاية كل حي كأنه نذر لازم في رقبة كل إنسان. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قوله: إِنْ شاءَ اعتراض للدلالة على أن العذاب أو الرحمة بمشيئة الله تعالى. المفردات اللغوية: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش بقيادة أبي سفيان، وغطفان بقيادة عيينة بن حصن، وبنو أسد بإمرة طليحة، وبنو عامر بزعامة عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النّضير من اليهود برئاسة حييّ بن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا وسيدهم كعب بن أسد، وقد نقض هؤلاء اليهود عهدهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواطؤوا مع قريش. وبلغ مجموع الأحزاب عشرة آلاف، أو زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق، وعلى قراءة: يعملون تحزيب المشركين ومحاربتهم بَصِيراً رائيا مطلعا تمام الاطلاع مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي، من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها، فلم تلتفت إلا إلى عدوها حيرة ودهشة وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ المراد أنها فزعت فزعا شديدا، والحناجر: جمع حنجرة: وهي منتهى الحلقوم وهو مدخل الطعام والشراب والتنفس، وتصوير ذلك: أن الرئة تنتفخ من شدة الرعب، فترتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي تظنون مختلف الظنون من نصر ويأس، فالمؤمنون المخلصون خافوا الزلل وضعف الاحتمال، والمنافقون

ومرضى القلوب كذبوا بوعد الله، وتشككوا فيه، وأعلنوا بطلانه. ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اختبروا وامتحنوا، فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً اضطربوا كثيرا من شدة الفزع وكثرة العدو وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بالإغراءات وزرع الشّبه في قلوبهم، لحداثة عهدهم بالإسلام ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بالنصر أو الظفر وإعلاء دينه إِلَّا غُرُوراً إلا وعدا باطلا لا حقيقة له، أو خداعا. طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل لا مُقامَ لَكُمْ أي لا إقامة ولا مكانة لكم هاهنا فَارْجِعُوا إلى منازلكم في المدينة هاربين، وذلك بعد أن خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى «سلع» : جبل خارج المدينة للقتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في الرجوع يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قاصية غير حصينة، يخشى عليها الاقتحام من الأعداء وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي ما يريدون إلا هروبا من القتال مع المؤمنين. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة مِنْ أَقْطارِها نواحيها وجوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ طلب منهم الداخلون الشرك والردة، ومقاتلة المسلمين لَآتَوْها لأعطوها وفعلوها، وقرئ: لأتوها أي لجاؤوها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ما أخّروها، أو ما أخروا إعطاء الفتنة إلا لوقت يسير لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ المراد لا ينهزمون ولا يفرون من الزحف. والأدبار: جمع دبر وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به، ومجازي عليه. وهم بنو حارثة عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله. وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إذا فررتم لا تتمتعون في الدنيا بعد فراركم إِلَّا قَلِيلًا أي لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا أو زمانا قليلا يَعْصِمُكُمْ يمنعكم أو يجيركم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً هلاكا وهزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً فيه محذوف أي: أو يصيبكم بسوء إن أراد الله بكم خيرا، فقد يكون المصاب خيرا مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره وَلِيًّا مواليا ينفعهم وَلا نَصِيراً ناصرا يدفع الضر عنهم. الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبّطين منكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم المنافقون وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة هَلُمَّ إِلَيْنا تعالوا، وأقبلوا إلينا، أو قرّبوا أنفسكم إلينا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يأتون الحرب والقتال إلا إتيانا أو زمانا قليلا، رياء وسمعة أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بما ينفعكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله، جمع شحيح عَلَى الْخَيْرِ حريصين على مال الغنائم، يطلبونها تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ تدير أعينهم أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كنظر أو دوران عين المغشي عليه من سكرات الموت خوفا فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ زالت حالة الخوف وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ آذوكم بالكلام ورموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي ألسنة ذربة سليطة قاطعة

كالحديد يطلبون الغنيمة لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أبطل ثمرة أعمالهم وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي وكان ذلك الإحباط هينا سهلا على إرادة الله، فإذا أراد شيئا كان، ولم يمنعه عنه أحد. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ من الكفار لَمْ يَذْهَبُوا إلى مكة، لخوفهم منهم، المعنى: يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا، ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة أخرى يَوَدُّوا يتمنوا بادُونَ فِي الْأَعْرابِ كائنون معهم في البادية يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أخباركم مع الكفار، وما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي ما كان قتالهم إلا قتالا ظاهريا قليلا، رياء وخوفا من التعيير. أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة صالحة، يتأسى به، كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله أو لقاءه، ونعيم الآخرة وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً قرن بالرجاء كثرة ذكر الله المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم من كان كذلك، بخلاف غيره. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ من الكفار الذين تجمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم والقضاء عليه قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الابتلاء والنصر، بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ.. [البقرة 2/ 214] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم» . وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في الوعد والابتلاء وَما زادَهُمْ ذلك الذي رأوه من الخطب أو البلاء إِلَّا إِيماناً تصديقا بوعد الله وَتَسْلِيماً لأمره ومقاديره. صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمقاتلة لإعلاء الدين قَضى نَحْبَهُ مات أو قتل في سبيل الله شهيدا، ووفّى نذره، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، والنحب: النذر، فجعل كناية عن الموت مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة، كعثمان وطلحة وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه، بخلاف حال المنافقين لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ تعليل للمنطوق وهم المؤمنون المخلصون، وللمعرّض به وهم المنافقون، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء، كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى، لكن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم، والمراد به التوفيق للتوبة غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الأحزاب بِغَيْظِهِمْ متغيظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إيجاد ما يريد عَزِيزاً غالبا على كل شيء ظاهَرُوهُمْ ظاهروا الأحزاب أي عاونوهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني من بني قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم، جمع صيصة وهي كل ما يتحصن به

سبب النزول نزول الآية (9) :

وَقَذَفَ ألقى الرُّعْبَ الخوف الشديد فَرِيقاً تَقْتُلُونَ منهم وهم المقاتلة وَتَأْسِرُونَ فريقا منهم وهم الذراري: أي النساء والأطفال. وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد، وهي خيبر، أخذت بعد قريظة. سبب النزول: نزول الآية (9) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعودا، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخاف على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلّى الله عليه وسلّم إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون، إذ استقبلنا النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا رجلا حتى أتى علي، فقال: ائتني بخبر القوم، فجئت، فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو الله، إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت، فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ الآية. نزول الآية (12) : وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عمرو المزني قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعول، فضربها ضربة، صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة «1» ، فكبّر، وكبّر المسلمون، ثم ضربها الثانية، فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبّر

_ (1) جانبي المدينة.

نزول الآية (23) :

وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبّر، وكبّر المسلمون، فسئل عن ذلك، فقال: ضربت الأولى، فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم، ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فأضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ ويحدّثكم، يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق «1» ، لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. نزول الآية (23) : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ: أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فكبر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرينّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بالتقوى بحيث لا يبقى في نفس المؤمن خوف من أحد، ذكر مثالا واقعيا من وقعة الأحزاب، حيث تجمع المشركون من قريش ومن عاونوهم من اليهود والأحباش عشرة آلاف حول المدينة بقصد القضاء على

_ (1) الفرق: الخوف. [.....]

أضواء من السيرة على غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق:

النبي وصحبه، فدفع الله القوم عن المؤمنين من غير قتال وآمنهم من الخوف، مما يدل على أنه لا يخاف العبد غير ربه، فإنه القادر على كل ممكن، الكاف أمره. أضواء من السيرة على غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق: في شوال من السنة الخامسة للهجرة اجتمع حول المدينة عشرة آلاف، أو اثنا عشر ألفا، أو خمسة عشر ألفا من الكفار الوثنيين وأهل الكتاب، للقضاء على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المشركون من قريش والأحباش في أربعة آلاف بقيادة أبي سفيان، وبني أسد بقيادة طليحة، وغطفان في ستة آلاف بزعامة عيينة بن حصن، وبني عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وسليم يقودهم أبو الأعود، وكان يهود بني النضير برئاسة حيي بن أخطب وابني أبي الحقيق، ويهود بني قريظة وسيدهم كعب بن أسد الذي كان بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم عهد، فنبذه بسعي حيي بن أخطب. وكان سبب الوقعة اليهود، فقد خرج نفر من بني النضير وبني قريظة، فقدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاؤوا غطفان وقيسا وعيلان وبني مرة وأشجع، فدعوهم إلى الحرب في المدينة، فتوافق المعسكران: الوثني والكتابي على تكوين جيش موحد بقيادة أبي سفيان، فنزلوا أمام المدينة. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون في ثلاثة آلاف، حتى نزلوا بظهر سلع. ولما سمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمسير فئات الأحزاب، أمر بحفر خندق حول المدينة بمشورة سلمان الفارسي، وعمل في حفره الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، في السهل الواقع شمال غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو، وأما الجوانب الأخرى فكانت محصنة بالجبال. وبلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة، وعرضه تسعة فأكثر.

فلما رأى المشركون وأحزابهم الخندق قالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، فوقعت مصادمات، وحاول بعض المشركين اقتحام الخندق، فرمي بالحجارة، واقتحمه بعضهم بفرسه فهلك أو قتل، منهم الفارس المشهور عمرو بن ودّ العامري الذي تبارز مع علي رضي الله عنه، فقتله، وفرّ صاحباه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، ومن فوارسهم نوفل بن مغيرة. واستشهد سعد بن معاذ رضي الله عنه في غزوة بني قريظة. ثم وقعت مكيدة محكمة بين الأحزاب، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في خوف وشدة، إذ جاءه نعيم بن مسعود الغطفاني، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فأتى بني قريظة، وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم أتى قريشا وغطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتّحدون معه على قتالكم لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا. ولما أراد أبو سفيان وقادة غطفان خوض معركة حاسمة مع المسلمين، تباطا اليهود، وطلبوا منهم رهائن من رجالهم، فامتنعوا وصدّقوا حديث نعيم بن مسعود، وتحقق اليهود من صدق حديث نعيم أيضا، فتخاذل اليهود والعرب، وتفرقت الكلمة. ودب الضعف في الأحزاب، وزاد من قلقهم واضطرابهم أن أرسل الله عليهم

التفسير والبيان:

ريحا شديدة البرد في ليلة شاتية، فأكفأت قدورهم، وطرحت آنيتهم. فرجع أبو سفيان مع قريش إلى بلادهم، وتبعته غطفان، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان حتى يأتي بخبرهم، ومكث النبي صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي، ودعا لحذيفة بالسلامة والحفظ حتى يعود، كما دعا رافعا يديه ويقول: «يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي. وصدق الله إذ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب 33/ 9] ويقول: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب 33/ 25] . وانتهت الحرب بين المسلمين والمشركين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» . واستشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقتل من المشركين أربعة. التفسير والبيان: تضمنت الآيات في مجال التذكير بنعمة الله وإحسانه إلى عباده المؤمنين بنصرهم في غزوة الخندق موضوعات خمسة: هي وصف الغزوة (الآيات: 9- 11) وموقف المنافقين واليهود من المسلمين (الآيات: 12- 21) وموقف المؤمنين في التضحية والفداء (الآيات: 22- 24) ونصر المؤمنين وهزيمة الكافرين (الآية: 25) وتأديب يهود بني قريظة (الآيتان: 26- 27) .

أولا - وصف الغزوة:

أولا- وصف الغزوة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أيها المؤمنون بالله ورسوله اذكروا بالشكر والحمد نعم الله التي أنعم بها عليكم حين وقعتم في حصار جنود وحشود هائلة من قريش وغطفان واليهود الذين جاؤوا لإبادتكم واستئصال شوكتكم وإنهاء وجودكم، فبعثنا عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية، وملائكة لم تروها زلزلتهم وألقت الرعب في قلوبهم، فأكفأت القدور، وقلبت البيوت والأواني، حتى بادر رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان، النجاء النجاء، وقال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدا قد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع (الخيول) والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وكان الله مطلعا عليما على جميع أعمالكم من حفر الخندق ومقاساة الشدائد، والاستعداد للقتال، والتحرز من العدو، وهو يجازيكم عليها، ولا يبخس منها شيئا. ثم ذكّرهم بإحكام حصار الأحزاب عليهم، فقال: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي واذكروا حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، ومن أسفل الوادي من جهة المغرب، الأولون من قريش والأحباش وبني كنانة وأهل تهامة، والآخرون من بني قريظة، كما ذكر حذيفة. وقيل: الأولون من أهل نجد وبني أسد

ثانيا - موقف اليهود والمنافقين من المسلمين:

وبني نصر، والآخرون: من قريش، وأما يهود بني قريظة فمن وجه الخندق. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي وإذ مالت الأبصار عن سننها، فلم تلتفت إلى العدو لكثرته، وبلغت القلوب الحناجر كناية عن شدة الخوف والفزع، وتظنون مختلف الظنون، فمنكم مؤمن ثابت الإيمان لا يتزحزح عن موقفه، واثق بنصر الله وبوعده، ومنكم منافق مريض الاعتقاد، ظن أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وينتصر المشركون، ويسودون المدينة. قال الحسن البصري: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حينئذ اختبر الله المؤمنين، فظهر المخلص من المنافق، وحركوا واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وتهديد العدو، فمن ثبت منهم هم المؤمنون حقا، ومن استبد القلق بهم هم المنافقون. والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له، بل لحكمة أخرى، هي أن الله تعالى عالم بما هم عليه، لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الأنبياء والملائكة. ثانيا- موقف اليهود والمنافقين من المسلمين: ثم أعلن الله تعالى موقف المنافقين ومؤيديهم، فقال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً أي واذكروا حين قال المنافقون الذين أسلموا في الظاهر ولم تؤمن قلوبهم، وضعفاء العقيدة لحداثة عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من النصر على العدو إلا وعدا باطلا لا وجود ولا حقيقة له. والقائل: جماعة من اليهود والمنافقين نحو من سبعين رجلا، مثل معتّب بن قشير وطعمة بن أبيرق، فقال معتب حين رأى الأحزاب: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن

يتبرّز فرقا (خوفا) ما هذا إلا وعد غرور «1» . وأما مريض الاعتقاد فتحدث بما توسوس به نفسه لضعف إيمانه، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا أي واذكروا أيضا حين قالت طائفة من المنافقين، وهم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه، أو عبد الله بن أبيّ وأصحابه: يا أهل المدينة، لا وجه لإقامتكم مع محمد وعسكره، ولا مسوغ لها مع هذه الحال من الذل والهوان، ولا قرار لكم هاهنا ولا مكان تقيمون فيه، فارجعوا إلى بيوتكم ومنازلكم في المدينة، لتسلموا من القتل والفناء. ويثرب: اسم للبقعة التي هي المدينة أو طيبة أو طابة. والطائفة: تطلق على الواحد فأكثر. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي وبسبب إشاعة الفتنة وبثّ روح الضعف عزم جماعة من المنافقين على الرجوع وهم بنو حارثة بن الحارث، وطلبوا الإذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم في العودة إلى بيوتهم وترك القتال قائلين: إن بيوتنا سائبة ضائعة ليست بحصينة، أي فيها خلل يخاف منه دخول العدو والسارق ليأخذ المتاع ويفزع النساء والأولاد، فكذبهم الله بقوله: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي ليس فيها خلل أو ثغرة، بل هي حصينة وليست كما يزعمون، وإنما قصدهم الفرار بسبب الخوف، والهرب من الزحف مع جيش المؤمنين الصادقين. ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف الإيمان ورقّته في قلوبهم وأن ذلك الفرار ليس لحفظ البيوت، فقال: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي ولو دخل الأعداء عليهم من كل جانب من جوانب المدينة، أو

_ (1) الكشاف: 2/ 533، البحر المحيط: 7/ 217

البيوت، ثم طلب منهم الردة والعودة صراحة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، لجاؤوها أو لأعطوها من أنفسهم ولفعلوا ذلك سريعا، ولم يحافظوا على الإيمان ولم يستمسكوا به، وما مكثوا في استجابتهم وعطائهم ما طلب منهم إلا زمنا يسيرا من أدنى خوف وفزع، وهو مقدار ما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو ما تلبثوا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا. وهذا دليل واضح على ضعف الإيمان في نفوسهم، فلا عجب إذا بادروا إلى التراجع والتسلل من المعركة. وهذه سمة المترددين الجبناء الذين اعتادوا على الهرب من مواقف الصمود ولقاء الشجعان، لذا قال تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي ولقد كان هؤلاء وهم بنو حارثة عاهدوا الله يوم أحد من قبل هذا الخوف ألا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا لمثل ذلك. ثم هددهم تعالى وأوعدهم بقوله: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي إن الله سيسألهم عن ذلك العهد والوفاء به يوم القيامة، ويجازيهم على نقضه وخيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أمر لا بدّ منه. وقوله: مَسْؤُلًا معناه: مطلوبا مقتضى حتى يوفى به. ثم بيّن الله تعالى لهم عدم جدوى فعلهم، ووبخهم، فقال: قُلْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي أخبرهم أيها الرسول أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطوّل أعمارهم، فلن ينفعهم الهرب من لقاء الموت أو القتل في ميدان المعركة، فإن المقدّر كائن لا محالة، وربما كان فرارهم سببا في تعجيل أخذهم غرّة، وإذا ظلوا أحياء ونفعهم الفرار ونجوا من الموت كما يظنون، لم يكن تمتعهم بالتأخير بمتاع الدنيا بعد هربهم وفرارهم إلا تمتيعا قليلا أو زمانا يسيرا:

قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [النساء 4/ 77] . قال الربيع بن خيثمة: وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن فررتم من الموت أو القتل لا ينفعكم الفرار لأن مجيء الأجل لا بدّ منه. ثم أبان الله تعالى ما تقدم معرّفا لهم قدرته الكاملة عليهم، فقال: قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي وقل لهم أيضا أيها الرسول: لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد الله بكم، أو دفع السوء عنكم إذا قدره الله عليكم، أو تحقيق النفع والخير إذا أراده لكم. وقوله: أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً معناه: أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. وقوله: سُوءاً أي هلاكا، وقوله: رَحْمَةً أي خيرا ونصرا وعافية. وأكد هذا بقوله: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ولا يجد هؤلاء المنافقون ومؤيدوهم من ضعفاء العقيدة ولا غيرهم مجيرا ولا مغيثا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم. ثم حذرهم بدوام علمه بالخائنين، فقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ: هَلُمَّ إِلَيْنا قد: هنا للتحقيق وليس للتقليل، والمعنى: إن الله ليعلم علما محيطا شاملا الذين يثبطون المسلمين عن شهود الحرب، تخذيلا ونفاقا، ويعلم القائلين لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وقرّبوا أنفسكم إلينا، واتركوا محمدا والحرب معه. وهلّم: لغة أهل الحجاز، يسوّون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال، وهلمن يا نساء. والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا، وإنما هو مركب مختلف في

أصل تركيبه، فقيل: هو مركب من ها التي للتنبيه ولم، وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، وهو متعد ولازم، فالمتعدي كقوله: قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الأنعام 6/ 150] أي أحضروا شهداءكم، واللازم كقوله: هلم إلينا، وأقبلوا إلينا، وقوله: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ إما المنافقون قالوا للمسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس «1» ، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا، وإما يهود بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين: تعالوا إلينا وفارقوا محمدا، فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. وإما رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لشقيقه في قلب المعركة: هلم إلي، قد تبع بك وبصاحبك، أي قد أحيط بك وبصاحبك. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أي ولا يأتي المنافقون القتال إلا زمنا قليلا أو شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، خوفا من الموت، كقوله تعالى: ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب 33/ 20] . ثم ذكر الله تعالى صفات أخرى لهم، فقال: 1- أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ هذه صفة البخل، أي بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، فلا يعاونونكم في الحرب بنفس ولا بمال ولا بمودة وشفقة، وكذا عند قسمة الغنيمة. وأشحة: جمع شحيح على غير القياس، والقياس: أشحاء، مثل خليل وأخلاء. والصواب: أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة المؤمنين. 2- فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وهذه صفة الجبن والخوف، والبخل شبيه الجبن، فلما ذكر البخل بيّن سببه وهو الجبن، والمعنى: فإذا بدأ حدوث الخوف ببدء المعركة والقتال،

_ (1) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل.

رأيتهم ينظرون إليك أيها النبي في تلك الحالة، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا وضعفا، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال. 3- فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ وهذه صفة سلاطة اللسان والإيذاء بالكلام والتفاخر الكاذب، والمعنى: فإذا تحقق الأمن غلبوكم باللسان وآذوكم بالكلام، وتفاخروا بأنهم أهل النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون. وسبب هذه الصفة، كما قال تعالى: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي وهم مع ذلك ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم قليلو الخير في الحالتين، كثيرو الشر في الوقتين، يبخلون أولا وآخرا، أي أنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة بخلاء، قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق. ثم ذكر الله تعالى سبب مرضهم وجميع صفاتهم وهو ضعف الثقة بالله، فقال: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي إن أولئك المنافقين هم في الواقع غير مصدقين بالله ورسوله، ولم يؤمنوا حقيقة، وإن أظهروا الإيمان لفظا، فأبطل الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين، وكان ذلك الإحباط سهلا هينا عند الله، بمقتضى عدله وحكمته. وتساءل الزمخشري بقوله: هل يثبت للمنافق عمل، حتى يرد عليه الإحباط؟ فأجاب: لا، ولكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجزى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل «1» .

_ (1) الكشاف: 2/ 534

ثم ذكر الله تعالى أن صفاتهم القبيحة في الجبن والبخل والخوف ملازمة لهم على الدوام، وليست مجرد أمر عارض مؤقت، فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي يظنون من شدة الخوف والفزع أن أحزاب الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة لم يرحلوا ولم ينهزموا، وأن لهم عودة إلى الحصار والحرب فكأنهم عند حضورهم غائبون عن الساحة حيث لا يقاتلون، مع أن الأحزاب رحلوا وانهزموا ولن يعودوا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي وإن يعد الأحزاب إلى قتالكم، يتمنوا أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة وبين المقاتلين، بل يكونون في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم للشماتة بكم، وانتظار وقوع السوء بكم، وجبنا وخورا في العزائم. وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي ولو كان هؤلاء المنافقون معكم في ساحة المعركة لما قاتلوا إلا قتالا يسيرا وزمنا قليلا، لاستيلاء الجبن والضعف عليهم. ثم لفت نظرهم ونظر غيرهم إلى ضرورة التأسي بالقائد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً هذا أمر من الله تعالى بالتأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب وغيره في أقواله وأفعاله وأحواله، وصبره ومصابرته ومجاهدته وانتظار الفرج من ربه عز وجل، والمعنى: لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة صالحة ومثل أعلى يحتذي به، فهلا اقتديتم وتأسيتم بشمائله صلّى الله عليه وسلّم، فهو مثل أعلى في الشجاعة والإقدام والصبر والمجالدة، إذا كنتم تريدون ثواب الله وفضله، وتخشون الله وحسابه،

ثالثا - موقف المؤمنين:

وتذكرونه ذكرا كثيرا في الليل والنهار، حبا به وتعظيما له، وخوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه وجزائه، فإن ذكره دافع إلى طاعته، والتأسي برسوله. وهذا عتاب للمتخلفين، وإرشاد للناس جميعا أن يتأسوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السراء والضراء وحين البأس ولقاء الشجعان ونزال الأبطال. ثالثا- موقف المؤمنين: ثم بعد بيان حال المنافقين أبان الله تعالى حال المؤمنين عند لقاء الأعداء، فقال: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً أي ولما شاهد المؤمنون المصدقون بموعود الله لهم، المخلصون في القول والعمل الأحزاب المتجمعة حول المدينة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار بمجابهة الأعداء ثم النصر القريب، وصدق الله ورسوله الوعد بالنصر، وما زادهم تجمع الأعداء وتلك الحال من الشدة والضيق إلا إيمانا بالله، وتصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتسليما لقضائه وقدره وانقيادا لأوامره وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، واعتقادا جازما أن النصر من عند الله تعالى بعد أن يتخذ العباد الأسباب، ويستعدوا للحرب، ويقاتلوا فعلا لأن الجهاد تكليف من الله لعباده، وتعطيل التكليف معصية، ومجرد الاعتماد على قدرة الله وإمداده بالعون والنصر دون عمل من عباده: سوء فهم وجهل وتمنيات شيطانية خادعة. والتحذير من هذه المفاهيم المخطئة متكرر في القرآن، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت 29/ 2] .

وعن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا» أي في آخر تسع ليال أو عشر. وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضا: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم» . وفي الآية دلالة على وجوب الثقة بوعد الله ورسوله، وقوله تعالى: وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، كما قال جمهور الأئمة: إنه يزيد وينقص. وبعد بيان حال المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف الله تعالى المؤمنين الذين استمروا على العهد والميثاق، فوفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت، فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي وهناك في مقابلة المنافقين جماعة من المؤمنين المخلصين الصادقين، صدقوا العهد مع الله، ووفوا بما عاهدوا عليه من الصبر في حال الشدة والبأس، فمنهم من انتهى أجله واستشهد كيوم بدر وأحد، ومنهم من ينتظر قضاء الله والشهادة وفاء بالعهد، وما بدلوا عهدهم وما غيّروه، بخلاف المنافقين الذين قالوا: لا نولي الأدبار، فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم. وقوله: قَضى نَحْبَهُ معناه قاتل فوفى بنذره، والنحب: النذر. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وروى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: «غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فشقّ عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرينّ الله عز وجل

ما أصنع، قال أنس: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو، أين؟ واها لريح الجنة، إني لأجده دون أحد، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية. وذكر في الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير وغيرهم رضي الله عنهم. ثم ذكر تعالى علة ابتلاء المؤمنين وغيرهم وإيلامهم في الحرب، فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي إنما يختبر الله عباده بالخوف ولقاء الأعداء ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر كل واحد منهما بالفعل، ويكافئ الصادقين في إيمانهم بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، وصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا وعودهم، ويعذب المنافقين الذين كذبوا ونقضوا العهد وأخلفوا أوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه. والكل تحت مشيئة الله في الدنيا، إن شاء بقوا على ما هم عليه حتى يلقوه، فيعذبهم، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى الإقلاع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان، أي إن الهداية إلى الإيمان والتوبة بمراد الله ومشيئته. ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال:

رابعا - نهاية المعركة أو الإجلاء:

إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث ستر ذنوبهم، ورحمهم ورزقهم الإيمان ووفقهم إلى التوبة، ولا يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل فوات الأوان. ونظير الآية كثير، منها: قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] وقوله عز وجل: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران 3/ 179] . رابعا- نهاية المعركة أو الإجلاء: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً أي إن الله تعالى أجلى الأحزاب عن المدينة، وردهم خائبين خاسرين مع غيظهم، لم يشفوا صدرا، ولم يحققوا أمرا، ولم ينالوا أي خير من غنيمة أو أسر أو نصر حاسم، بما أرسل عليهم من الريح الباردة والجنود الإلهية، فتفرقت جموعهم، وتشتت شملهم، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم، لا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة من الآثام في إعلان عداوتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومبارزته، وهمهم بقتله، واستئصال زمرته وجيشه، ومن همّ بشيء، وبدأ بتنفيذ همه بالفعل، فهو في الحقيقة كالفاعل. وكفى الله المؤمنين القتال، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة حتى يجلوا عن بلادهم، بل كفى الله وحده شرهم، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الشيخان- يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» . وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأحزاب، فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب،

خامسا - حصار بني قريظة:

اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم» . وقال محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك، بل غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، حتى فتح الله تعالى مكة. وكان الله قويا عزيزا، أي غير محتاج إلى قتالهم، قادرا على استئصال الكفار وإذلالهم، ردهم بحوله وقوته خائبين، لم ينالوا خيرا، وأعز الله الإسلام وأهله. خامسا- حصار بني قريظة: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ أي وأنزل الله يهود بني قريظة الذين هم من أهل الكتاب والذين عاونوا الأحزاب من حصونهم وقلاعهم. وذلك لأنهم بمسعى حيي بن أخطب النضيري نقضوا عهدهم الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك يا حيي، إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب (أي يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن، فيكون أسوتهم. فلما أيد الله تعالى رسوله والمسلمين، وكبت أعداءهم، وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجعوا إلى المدينة، أرسل الله جبريل عليه السلام، فأوحى إلى

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائلا: «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» فنهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنّف واحدا من الفريقين. وتبعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد استخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. فلما جاء سعد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت» . فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: «نعم» قال: وعلى من هاهنا؟ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا وإكراما وإعظاما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» . فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة

فقه الحياة أو الأحكام:

أرقعة» أي سبع سموات. أو «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله» . ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأخاديد، فخدّت في الأرض، وجيء بهم مكتّفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبع مائة إلى الثمان مائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء ، وأموالهم، لذا قال تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي وألقى في نفوسهم الخوف الشديد، لممالأتهم المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخافتهم المسلمين، وقصدهم قتلهم، فانعكس الحال عليهم، وأسلموا أنفسهم للقتل، وأولادهم ونساءهم للسبي، فريقا تقتلون، وهم الرجال المقاتلة، وتأسرون فريقا، وهم النساء والصبيان. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي جعل الله لكم أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة، وأرضا أخرى لم تطأها أقدامكم بعد وهي التي ستفتح في المستقبل، بعد بني قريظة، مثل خيبر ومكة وبلاد فارس والروم. وكان الله صاحب القدرة المطلقة على كل شيء، فهو كما ورّثكم أرض بني قريظة، ونصركم عليهم، قادر على أن يورثكم غير ذلك، وينصركم على أقوام آخرين. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت هذه الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية: 1- إن النصر الحاسم للمسلمين على المشركين في غزوة الخندق والأحزاب، وعلى يهود بني قريظة ناقضي العهد نعمة عظمي تستوجب الشكر والحمد لله تعالى لأنه نصر دبره الله عز وجل بإرسال الريح والملائكة، وقد صدقت فيه

عزيمة المؤمنين على خوض المعركة، والدفاع عن مدينتهم عاصمة الإسلام. 2- إن السلطان يشاور أصحابه وخاصته في أمر القتال لأنه لما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماع الأحزاب وخروجهم إلى المدينة، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، فرضي رأيه، وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منا آل البيت» . وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يومئذ حرّ، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين. وفي هذا الخبر أيضا وجوب التحصن من العدوّ بما أمكن من الأسباب، وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يد على من سواهم. أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عنّي الغبار جلد بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول: اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا 3- دلت أخبار السيرة السالفة الذكر ورواية النسائي عن البراء وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب صخرة أثناء حفر الخندق ضربات ثلاثا، أضاءت له الضربة الأولى مدائن كسرى وما حولها، وأنارت له الثانية مدائن قيصر وما حولها، وأبدت له الثالثة مدائن الحبشة وما حولها، ورأى سلمان بعينه ذلك، وتلك معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشّر بها بفتح هذه البلاد، وقال عند ذلك فيما رواه مالك: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» .

4- أعلن بنو قريظة بتواطئهم مع الأحزاب من قريش وغطفان نقضهم العهد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال لهم الرسول: «نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته» وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى أموالهم وذراريهم. وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة. 5- كان تجمع الأحزاب على المدينة وحصارها مثار قلق واضطراب، ومبعث بلاء وشدة خوف، فانتابتهم الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما يسرّون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها، وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك: معتّب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف. فأقام المشركون في حصارهم المدينة بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، لم يكن بينهم وبين المسلمين إلا الرمي بالنّبل والحصى، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عمرو المرّي، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكان ذلك مراوضة ولم تكن عقدا. فلما وافقا استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وقال: «أنتم وذاك» .

وقال لعيينة والحارث: «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف» . وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة، فمحاها. 6- اختراق الخندق: اخترق فوارس من قريش الخندق، منهم عمرو بن ودّ العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهريّ، حتى صاروا بين الخندق وبين سلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، فنادى عمرو: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله، ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علي: أنا والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو ونزل عن فرسه، فعقره، وصار نحو علي، فتنازلا وتجاولا، حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي، اقتحموا بخيلهم الثّغرة منهزمين هاربين. ورمي يومئذ سعد بن معاذ، فقطع منه الأكحل «1» ، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة، وهو الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اهتز لموته عرش الرحمن» يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه، واهتزوا له. 7- مشروعية الخدعة في الحرب، لما فعل نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الذي استطاع بدهائه وحيلته بذر بذور الفرقة بين العرب وبين اليهود، ونجح في خدعته، كما تقدم بيانه. 8- الاجتهاد جائز، سواء أصاب المجتهد أو أخطأ، فقد أقرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كلّا

_ (1) الأكحل: عرق في وسط الذراع.

من الفريقين: الذي صلى العصر في الطريق إلى بني قريظة، والذي أخّر الصلاة حتى فات وقتها، عملا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين. 9- قسم صلّى الله عليه وسلّم أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما ، قيل: وهي أول غنيمة قسّم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وفي قول آخر: إن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش. ووفّق ابن عبد البر بين القولين: أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [الأنفال 8/ 41] . وكان عبد الله بن جحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه. 10- أرسل الله على الأحزاب ريح الصّبا يوم الخندق، حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، وأنزل الملائكة لتفريق الجموع، ولم تقاتل يومئذ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والشيخان: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المسلمون قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها. قال المفسرون: بعث الله تعالى الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيّد كل خباء يقول: يا بني فلان هلمّ إلي، فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاء النّجاء، لما بعث الله تعالى عليهم من الرّعب.

11- لن يمنع حذر من قدر، فمن حضر أجله، مات أو قتل، ولا ينفعه الفرار، ويكون تمتعه في الدنيا بعد الفرار إلى انقضاء الأجل زمنا قليلا، وكل ما هو آت فقريب. 12- للمنافقين خصال اجتماعية وشخصية قبيحة ومذمومة، فهم بخلاء على المسلمين فيما يحقق المصلحة العامة، بخلاء بأنفسهم وأحوالهم وأموالهم، جبناء يخافون من لقاء الشجعان، سليطو اللسان يؤذون غيرهم بالكلام يتفاخرون بما هو كذب وزور، والحقيقة أنهم كفرة، لم يؤمنوا بقلوبهم، وإن كان ظاهرهم الإسلام، لوصف الله عز وجل لهم بالكفر في قوله: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وهم كغيرهم من الكفار حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فلا ثواب لهم إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها، وإحباط أعمالهم على الله هيّن يسير. ولجبنهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا، وكانوا قد انصرفوا، وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال، يتمنوا أن يكونوا مع أعراب البادية، حذرا من القتل. وانتظارا لإحاطة السوء والهلاك بالمسلمين، يتساءلون ويتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه! أما غلب أبو سفيان وأحزابه! ولو كانوا في ميدان المعركة ما قاتلوا إلا رياء وسمعة. 13- قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الآية عتاب للمتخلفين عن القتال، معناه: كان لكم قدوة في النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق، والتأسي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر، ويرجو لقاء الله بإيمانه، ويصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال، ويذكر الله ذكرا كثيرا، خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه. وهل التأسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الإيجاب أو الاستحباب! قولان: أحدهما- على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب.

الثاني- على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب. قال القرطبي: ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا. 14- موقف المؤمنين نقيض موقف المنافقين، فهم مصدقون واثقون بوعد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم تزدهم المحنة والابتلاء والنظر إلى الأحزاب إلا إيمانا بالله وتسليما للقضاء. 15- التجسس على الأعداء أمر جائز شرعا، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان بأن يتعرف أخبار الأحزاب وانصرافهم عن المدينة، قائلا له: «انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني» . والدعاء لله تعالى مطلوب في أي وقت ولأي حاجة، وبخاصة وقت الشدة، فقد انطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده يقول: «يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» . فنزل جبريل وقال: «إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك» فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: «شكرا شكرا كما رحمتني، ورحمت أصحابي» . وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا فبشر أصحابه بذلك. 16- تتلاحق مواكب الشهداء وتتوالى على درب الجهاد في سبيل الله، فمنهم من يستشهد في معركة، ومنهم من ينتظر أجله في معركة أخرى، وهذا أمارة الخير، ودليل على استدامة الكفاح والإخلاص جيلا بعد جيل.

تخيير زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة ومقدار ثوابهن وعقابهن [سورة الأحزاب (33) الآيات 28 إلى 30] :

17- أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم، ويعذب في الآخرة المنافقين، وذلك بمشيئة الله، فإن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. 18- كانت الهزيمة الساحقة في غزوة الخندق لجيوش الأحزاب، إذ ردّ الله أولئك الكفار إلى ديارهم، فرجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة بن بدر إلى نجد، ونصر الله جيش الإيمان بغير قتال كبير، بأن أرسل على الأحزاب ريحا وجنودا، حتى رجعوا، ورجعت بنو قريظة إلى حصونهم أو قلاعهم، فكفى أمر قريظة بالرعب، وكان الله قويا أمره، عزيزا لا يغلب. 19- وهزم بنو قريظة هزيمة نكراء بعد أن عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان، وأنزلوا من حصونهم، وشاع الذعر والهلع في صفوفهم، وكان مصيرهم قتل رجالهم، وأسر نسائهم وأطفالهم، وتوريث المسلمين أراضيهم وبساتينهم ومنازلهم وأموالهم المدخرة. وبشر الله المؤمنين بأنهم سيرثون بلاد فارس والروم، وكل أرض تفتح إلى يوم القيامة، والله على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، وعلى ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، لا ترد قدرته، ولا يجوز عليه العجز بحال. تخيير زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة ومقدار ثوابهن وعقابهن [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

الإعراب:

الإعراب: فَتَعالَيْنَ أصله من العلو، إلا أنه كثر استعماله في معنى «انزل» فيقال للمتعالي: تعال، أي انزل. البلاغة: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بينهما ما يسمى بالمقابلة أي الطباق بين جملتين. المفردات اللغوية: لِأَزْواجِكَ هن تسع، وطلبن منه من زينة الدنيا ما ليس عنده. الْحَياةَ الدُّنْيا السعة والتنعم فيها. وَزِينَتَها زخارفها. أُمَتِّعْكُنَّ أعطكن المتعة وهي متعة الطلاق وهي مال يعطى للمطلقة. وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أطلقكن من غير ضرار وبدعة، والتسريح: الطلاق، روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة، فنزلت، فبدأ بعائشة، فخيرها، فاختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم اختارت الباقيات اختيارها، فشكر لهن الله ذلك، فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب 33/ 52] . وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا يدل على أن المخيّرة إذا اختارت زوجها لم تطلق، خلافا لرواية عن علي، ويؤيده قول عائشة: «خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعدّ طلاقا» فإذا اختارت نفسها فإنه طلقة رجعية عند الشافعية، وبائنة عند الحنفية. وتقديم التمتيع على التسريح: من الكرم وحسن الخلق. وَالدَّارَ الْآخِرَةَ الجنة. فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بإرادة الآخرة. أَجْراً عَظِيماً الجنة، يستحقر دونه الدنيا، ومن في قوله مِنْكُنَّ للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي مثلي عذاب غيرهن لأن الذنب منهن أقبح، كما أن ثوابهن مرتان، كما قال تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب 33/ 31] . وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم.

سبب النزول نزول الآية (28) :

سبب النزول: نزول الآية (28) : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ: روى أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: «أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، فدخلا، والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى بدا ناجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فبدأ بعائشة، فقال: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية. قالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى لم يبعثني معنّفا، ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» . المناسبة: لما نصر الله نبيه، وفرق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله، وقلن: «يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول (الخدم) ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق» . وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن.

التفسير والبيان:

وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك تسع: هن خمسة من قريش وهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأربعة من غير قريش: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة، وصفيّة بنت حييّ بن أخطب الخيبرية. فلما خيرهن رسول الله اخترن كلهن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. هذا وجه تعلق الآيات بما قبلها. أما مناسبة هذه الآيات للسورة فهي أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله تعالى، وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله فيما رواه البزار عن أبي رافع: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» . فلما أرشد الله سبحانه نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب 33/ 1] ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن بالنفقة. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بتخيير نسائه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، والمعنى: يا أيها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى حالين: إما المفارقة إن أحببتن وكان عظيم همكن التعمق في لذات الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها ونعيمها، وحينئذ أعطيكن متعة الطلاق المستحقة وهي مال يهدى للزوجة المطلقة تطييبا لخاطرها، وأطلقكن طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة، وإما الصبر على ما عندي من ضيق الحال، وهو المذكور في الآية التالية. أما متعة الطلاق: فهي كسوة أو هدية أو مال بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا، كما قال تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ،

مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة 2/ 236] وأما الطلاق الذي لا ضرر فيه ولا بدعة: فهو ما يكون في حال الطهر مع استقبال العدة أي الابتداء بها، لا في الحيض لقوله تعالى: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق 65/ 1] . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً أي وإن أردتن رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة، فإن الله أعدّ للمحسنة منكن ثوابا عظيما، تستحقر زينة الدنيا دونه. وهذا دليل على أن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنا صالحا. وقوله: تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فيه معنى الإيمان. ولما خيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة، اخترن جميعا الآخرة، فسرّ بذلك، وشكرهن الله على حسن اختيارهن، وكرّمهن، فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الأحزاب 33/ 52] وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب 33/ 53] . وزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم اثنتا عشرة، وهن أمهات المؤمنين، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة هي السيدة عائشة، وكان زواجه بالأخريات تأليفا للقلوب، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية، وبناء الدولة، ووحدة الكلمة، وهن «1» : 1- خديجة بنت خويلد: أول زوجاته، تزوجها بمكة، وعاشت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوة سبع سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، وسنّه 54 عاما، وهي أول من آمن من النساء. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. 2- سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية، دخل بها بمكة، وتوفيت بالمدينة.

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 164 وما بعدها.

3- عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق، العالمة الفقيهة راوية الحديث الكثير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها. 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم طلّقها، فقال له جبريل: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوّامة قوّامة» فراجعها. 5- أم سلمة: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ابنها سلمة على الصحيح، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية. 6- أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة سبع من الهجرة ودخل بها بعد الهجرة بسبع سنين وكان وكيله في زواجها عمرو بن أمية الضّمري، وقد أصدقها النجاشي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع مائة دينار، لما مات زوجها. 7- زينب بنت جحش: تزوجها بأمر الله بعد طلاقها من زوجها أسامة بن زيد، لإبطال التبني وآثاره. وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب. 8- زينب بنت خزيمة بن الحارث: تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ماتت بعد ثمانية أشهر، كانت تسمى في الجاهلية أمّ المساكين لإطعامها إياهم. 9- صفية بنت حييّ بن أخطب الهارونية: تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أعتقها، وكانت من سبايا خيبر، اشتراها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دحية الكلبي بسبعة أرؤس. 10- ريحانة بنت زيد: تزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلّم سنة ست، وماتت إثر حجة

الوداع، وكان زوجها قد قتل في الحرب، فتزوجها إكراما له ولأولاده. 11- جويرية بنت الحارث بنت أبي ضرار المصطلقيّة الخزاعية، من سبايا بني المصطلق، تزوجها في شعبان سنة ست، وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جويرية. 12- ميمونة بنت الحارث الهلالية آخر امرأة تزوجها. هؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن. وله نساء تزوجهن ولم يدخل بهن، منهن الكلابية واسمها فاطمة أو عمرة وهي المستعيذة، وأسماء بنت النعمان بن الجون، وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، وعددهن عشر، وكان له من السراري سرّيّتان: مارية القبطية وريحانة، وأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ومن وهبت له نفسها فعددهن تسع، كأم هانئ بنت أبي طالب. وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وعظهن وهددهن بمضاعفة العذاب على المعصية فقال: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي يا نساء النبي وأمهات المؤمنين من يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق، يكون عقابها مضاعفا، لشرف منزلتكن، وفضل درجتكن، وتقدمكن على سائر النساء، فأنتن أهل بيت النبوة، وكان تضعيف العذاب لهن يسيرا هينا على الله الذي لا يحابي أحدا لأجل أحد. قال أبو حيان: ولا يتوهم أن الفاحشة: الزنى لعصمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من

فقه الحياة أو الأحكام:

ذلك، ولأنه تعالى وصف الفاحشة بالتبيين، والزنى مما يتستر به، وينبغي حمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. فقه الحياة أو الأحكام: 1- الآيات حث واضح على منع إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أو مضايقته، ولو من أقرب الناس إليه، وفيها أدب عال لبيت النبوة الطاهر، وتسأم لمستوى الأنبياء، وترفع عن حطام الدنيا، وتربية لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم على الزهد والعفة والخلق السامي، وإعظام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. قال العلماء: هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ.. متصلة بما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان قد تأذى ببعض الزوجات. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها. أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أن يكون نبيا ملكا، وعرض عليه مفاتح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل، فأشار عليه بالمسكنة فاختارها فلما اختارها- وهي أعلى المنزلتين- أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له. 2- القول الأصح في كيفية تخيير النبي صلّى الله عليه وسلّم أزواجه أنه خيّرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية، أو الطلاق، فاخترن البقاء لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته، فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعدّه طلاقا، ولم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق.

وقيل: إنما خيّرهن بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق. 3- اختلف العلماء في المخيّرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر لقول عائشة فيما أخرجه الصحيحان: خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعده علينا طلاقا. وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية. وهذا غريب. وفي رواية أخرى عن علي، وهو قول الحنفية: أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة لأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن. وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملّكتك أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق، واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه. أما المخيّرة إذا اختارت نفسها، وهي مدخول بها، فهو الطلاق كله، ولا عبرة بإنكار الزوج لأن معنى التخيير: التسريح، والتسريح: البتات قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة 2/ 229] وقال تعالى في آية التخيير: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا والتسريح بإحسان: هو الطلقة الثالثة، ومعنى التخيير التسريح. وعلى هذا يكون طلاق المخيرة ثلاثا عند الإمام مالك. وأكثر الفقهاء في تحديد زمن الخيار على أن لها الخيار: ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا

من مجلسهما، بطل ما كان من ذلك إليها، ويرى آخرون أن ما ملكته يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها، وهذا عند المالكية هو الصحيح لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة فيما رواه البخاري والترمذي: «إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» فهذا دليل على استمرار التخيير، حيث جعل لعائشة التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر. والظاهر أن من اختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرم على النبي صلّى الله عليه وسلّم طلاقها، أي لا يباشره أصلا، عملا بعلو منصبه، وسمو خلقه. 4- جعل الله ثواب طاعة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن، بنص الآية هنا: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ والآية التي بعدها: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ فأخبر الله تعالى أن من جاء من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بفاحشة- والله عاصم رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك- يضاعف لها العذاب ضعفين لشرف منزلتهن، وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وبينت الشريعة في مواضع كثيرة أنه كلما تضاعفت الحرمات، فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد، والثيب على البكر. ولما كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في مهبط الوحي، وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وضعف الشيء مثله، فمعنى الضعفين: معنى المثلين أو المرتين، فلو فرض وقوع ما يوجب الحدّ منهن- وقد أعاذهن الله من ذلك- حدّت الواحدة حدّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحدّ، قال الله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور 24/ 2] . ويدل على هذا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ. انتهى الجزء الحادي والعشرون ولله الحمد

خصائص أهل بيت النبوة [سورة الأحزاب (33) الآيات 31 إلى 34] :

[الجزء الثاني والعشرون] [تتمة سورة أحزاب] خصائص أهل بيت النبوة [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 34] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) الإعراب: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... وَتَعْمَلْ من ذكّر يقنت ويعمل حمله على لفظ مَنْ. ومن أنّث «تعمل» حمله على لفظ «من» لأن المراد بها المؤنث. ولا مانع في النحو من التذكير بعد التأنيث، كما في قوله تعالى: وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام 6/ 139] . إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط، وجوابه: إما قوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أو ما دل عليه قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وتقديره: إن اتقيتن انفردتن بخصائص من جملة سائر النساء، بدليل قوله تعالى: لَسْتُنَّ. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قَرْنَ أصله «اقررن» من قرّ يقرّ، فنقلت فتحة الراء بعد حذفها إلى القاف، فلما فتحت القاف استغني عن همزة الوصل، وحذفت الراء لتكررها مع نظيرها، وتكررها مع نفسها، وقرئ «قرن» بكسر القاف، إما من «وقر يقر» أي اسكن، وإما من «قرّ يقرّ» والأصل فيه «اقررن» فنقلت الكسرة إلى القاف بعد حذف الراء.

البلاغة:

أَهْلَ الْبَيْتِ إما منصوب على الاختصاص والمدح، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت» أي أعني وأمدح أهل البيت، وإما منصوب على النداء، كأن قال: يا أهل البيت، والأول أوجه. البلاغة: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ تشبيه بليغ، أي كتبرج أهل الجاهلية، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه. وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف عام على خاص بعد قوله: أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ فإن الطاعة تشمل جميع الأوامر والنواهي. لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً استعارة، استعار الرجس للذنوب والمعاصي، والطهر للتقوى لأن عرض العاصي يتدنس، وعرض التقي نقي كالثوب الطاهر. وتَطْهِيراً ترشيح للتنفير. المفردات اللغوية: يَقْنُتْ يخشع ويخضع ويدم على الطاعة، والقنوت: الطاعة في سكون والعبادة في خشوع. نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مثلي ثواب غيرها من النساء، مرة على الطاعة ومرة على طلبها رضا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقناعة وحسن المعاشرة. وَأَعْتَدْنا أعددنا وهيأنا. رِزْقاً كَرِيماً في الجنة زيادة على أجرها سالما من العيوب والآفات. لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل أي لا مثيل لكن في جماعة النساء في الفضل. وأصل كَأَحَدٍ وحد بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام، وهو في النفي يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع الكثير. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله، فلم تخالفوا حكمه، وأرضيتم رسوله. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لا تلنّ القول للرجال مثل قول المريبات. مَرَضٌ تطلع إلى الفسق والفجور والريبة. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا من غير خضوع، بعيدا عن الريبة غير مطمع أحدا. قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أصله: اقررن، أي الزمن بيوتكن، بفتح القاف من قررت، وبكسرها من وقر يقر، من القرار أي السكون، يقال: قررت في المكان أقرّ به: أقمت فيه. أو من قرّ يقرّ. وَلا تَبَرَّجْنَ أي لا تتبرجن، والتبرج: إبداء المرأة للرجل ما يجب عليها ستره من محاسنها. تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ما كان قبل الإسلام من الجهالات كإظهار النساء محاسنهن للرجال. وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر والنواهي. الرِّجْسَ الذنب أو الإثم أو النقص المدنّس للعرض. أَهْلَ الْبَيْتِ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو منصوب على المدح أو النداء. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي ويطهركم من المعاصي.

المناسبة:

قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون إجماعهم حجة: ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، وحديث العباءة التي أدخل فيها النبي فاطمة وعلي وولديهما يقتضي أنهم أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ أي عظن النساء بما يتلى، وتذكرن نعم الله عليكن من جعلكن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة. وَالْحِكْمَةِ هي حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً بأوليائه وأهل طاعته. خَبِيراً بجميع خلقه، يعلم ويدبر ما يصلح في الدين. المناسبة: اقتضى عدل الله ورحمته أن تكون زيادة العقاب مقرونة بزيادة الثواب، فبعد ذكر مضاعفة العذاب على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ارتكاب الفاحشة، ذكر تعالى خصائص لهن، أولها- مضاعفة الثواب لهن على العمل الصالح، وإعداد الرزق الكريم في الجنة وهو ما يأتي بنفسه، على نقيض رزق الدنيا الذي لا يأتي بنفسه، وإنما بواسطة الغير. وثانيها- امتيازهن على سائر النساء، وثالثها- أمرهن بقوة الكلام وعدم إلانة القول للرجال، ورابعها- الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج، وخامسها- مطالبتهن بمداومة الطاعة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يأمر وينهى، وسادسها- تحقيق صون العرض والسمعة عن الذنوب والمعاصي والتجمل بالتقوى، وسابعها- الأمر بتعليم غيرهن القرآن والسنة النبوية، وتذكر نعمة الله تعالى عليهن. التفسير والبيان: 1- مضاعفة الثواب: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صالِحاً، نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أي ومن تطع منكن الله ورسوله، وتخشع جوارحها، وتستجب لأمر ربها، وتعمل صالح الأعمال،

نضاعف لها الأجر والثواب مرتين، لكونها من أهل بيت النبوة ومنزل الوحي، وأعددنا لها زيادة على هذا رزقا كريما في الآخرة والجنة، لا عيب ولا نقص فيه ولا منّة لأحد ويأتي بنفسه، على عكس رزق الدنيا المشوب بالعيوب والنقائص والمنة ويتوقف على الغير الذي يمسكه ويرسله بواسطة إلى غيره، ولأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم وصفا حقيقيا كاملا إلا الرزاق، وفي الآخرة يوصف بالكريم الرزق نفسه. ويلاحظ أنه تعالى عبّر هنا عند إيتاء الأجر بقوله نُؤْتِها للتصريح بالمؤتي وهو الله، وفي الآية السابقة عبر عند العذاب بقوله يُضاعَفْ فلم يصرح بالمعذّب، إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، ولأن الكريم عند النفع يظهر نفسه وفعله، وعند الضرّ لا يذكر نفسه «1» . 2- امتيازهن على سائر النساء: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي يا زوجات النبي ليس لكنّ شبيه في جماعة النساء في الفضل والمنزلة والشرف والكرامة، لكونكن أمهات جميع المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، ونزول القرآن في بيتكن وفي حقكن. وهذا التعبير كقولهم: ليس فلان كآحاد الناس، ومعناه أن فيه وصفا أخص ومزية وفضيلة لا توجد في غيره. ونساء النبي كذلك، وشرفهن مستمد من سمو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم القائل في الحديث المتفق عليه: «لست كأحدهم» . 3- النهي عن لين الكلام: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي إن أردتن التقوى أو كنتن متقيات «2» مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلا تلنّ الكلام ولا ترققنّه عند محادثة الرجال، وليكن كلامكن بجد وحزم وقوة، حتى لا يطمع في الخيانة من في قلبه

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 208 (2) الكشاف: 2/ 537.

ميل إلى الريبة والفسق والفجور، وقلن القول المعروف المعتاد الذي ليس فيه ترخيم الصوت، البعيد عن الريبة، الذي يختلف عن مخاطبة الأزواج. وهذا النهي لا يعني أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال من السوء تقتضي المنع والكف، وإنما المراد حملهن على أسمى الفضائل وملازمتها، فلما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح، منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال على وجه فيه ريبة وإطماع، وإساءة فهم من في قلبه ميل إلى الفجور والفسوق والنفاق. ونساء الأمة تبع لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآداب التي أمر الله تعالى بها. والخلاصة: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها. وقوله: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ إما متعلق بما قبله، على معنى: لستن كأحد إن اتقيتن، فإن الأكرم عند الله هو الأتقى، وإما أن يكون متعلقا بما بعده، على معنى: إن اتقيتن فلا تخضعن. ويصح أن يكون اتَّقَيْتُنَّ بمعنى استقبلتن أحدا من الرجال، واتقى بمعنى استقبل معروف في اللغة، قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد أي استقبلتنا باليد. قال أبو حيان: ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلّق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهرة أنهن لسن متحليات بالتقوى «1» . والمراد بقوله: مَرَضٌ ميل أو تشوف لفجور، وهو الفسق وحديث السوء، وهذا هو الأصوب فليس للنفاق مدخل في هذه الآية.

_ (1) البحر المحيط: 7/ 228

4- الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، أخرج الترمذي والبزّار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة- رحمة- ربها، وهي في قعر بيتها» . وروى أبو داود أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها» . أما خروج النساء للمساجد فجائز للعجائز دون الشابات لما أخرجه أحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات» . ولا تتبرجن تبرج الجاهلية القديمة قبل الإسلام: وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، والتبرج: إبداء الزينة والمحاسن للرجال كالصدر والنحر، بأن تلقي المرأة الخمار على رأسها ولا تشده، فتظهر عنقها وقرطها وقلائدها. 5- مداومة الطاعة لله ورسوله: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بعد أن أمرهن تعالى بالقول المعروف (وهو القول الحسن الجميل المعروف في الخير) وأتبعه ببيان الفعل المناسب للمرأة وهو القرار في البيوت، ثم نهاهن عن الشر، أمرهن بالخير في إقامة الصلاة (وهو أداؤها على الوجه المطلوب شرعا من الخشوع وإتمام الأركان والشروط) وإعطاء الزكاة (وهي الفريضة الواجبة شرعا والإحسان إلى الناس) وإطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي. وخص تعالى الصلاة والزكاة، لأهميتهما وخطورتهما وآثارهما الكبرى، فالأولى طهارة النفس وعماد الدين، والثانية طهارة المال وطريق مقاومة الفقر، فهما عمودا الطاعة البدنية والمالية.

وقوله: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ من باب عطف العام على الخاص إذ ليس التكليف منحصرا بالصلاة والزكاة، وإنما هو شامل لكل ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، وأمر الله والرسول واحد. 6- تحقيق السمعة العالية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي سبب تلك الأوامر والنواهي والمواعظ إنما هو لإذهاب المأثم عنكن، وتطهيركن من دنس المعاصي والذنوب، وتعمير قلوبكن بنور الإيمان. وقد استعار الرجس (أو الرجز) للذنوب، والطهر للتقوى لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث كما يتلوث بدنه بالأرجاس القذرة الحسية. وأما الطاعات فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمر به. والرجس يطلق على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. وأهل البيت: كل من لازم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأزواج والأقارب. وتوجيه الأوامر لهم لأنهم قدوة الأمة، روى الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمرّ بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . 7- الأمر بتعليم القرآن والسنة والتذكير بالنعم: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أي تذكرن نعم الله عليكن من جعل بيوتكن مهابط الوحي، ولا تنسين ما يتلى فيها من آيات الله في قرآنه، وما ينزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الحكمة البالغة والأحكام والعلوم والشرائع، فاعملوا بها وعلموها، إن الله لطيف خبير حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم، فأنزله

فقه الحياة أو الأحكام:

عليكم، وجعل في بيوتكن الآيات والشرائع، واختاركن زوجات لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو اللطيف فعله يصل إلى كل شيء. وفي هذا حث على الطاعة والتزام التكاليف الشرعية، وتنفير عن العصيان والمخالفة واقتراف المعاصي. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآداب سبعة أمر الله تعالى بها نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونساء الأمة في أغلبها تبع لهن في ذلك. 1- طاعة الله والرسول والعمل الصالح من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لها ثواب مضاعف، ورزق كريم وهو الجنة. 2- لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم منزلة وفضل وشرف يتميزون بها عن سائر جماعات النساء الأخرى، لكن هذه الفضيلة مشروطة بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونزول القرآن في حقهن، وهذه درجة عالية. وكذلك تمتاز نساء الأمة عن غيرهن من جنس النساء بالتقوى والعمل الصالح، ولكن درجتهن بالطبع أدنى من درجات أمهات المؤمنين أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم. 3- على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون قولهن جزلا، وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر اللين والميل من الفجار، كما كانت عليه الحال في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات. وهذا النهي ليس خاصا بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو شامل لنساء المؤمنين أيضا. وعلى هذا، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام، ويندب لها إذا خاطبت الأجانب، وكذا المحرّمات عليها بالمصاهرة، كزوج الأخت أن تكون نبرات صوتها قوية من غير رفع الصوت.

وفي الجملة: القول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس. 4- أمر الله تعالى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج: وهو إظهار ما ستره أحسن. والخطاب وإن كان لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، ولأن الشريعة تكرر الأمر فيها بلزوم النساء بيوتهن، وعدم الخروج منها إلا لضرورة. وإنما خوطبت نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك تشريفا لهن، وليكونن قدوة الأمة في الطهر والصون والعفاف. وأما خروج السيدة عائشة رضي الله عنها في موقعة الجمل بين أنصار علي وبين طلحة والزبير، فما كان لحرب، ولكن اشتدت شكاوى الناس إليها من عظيم الفتنة، ورجوا بركتها، وطمعوا في الاستحياء منها إذا رأتها الجموع المتقاتلة، فخرجت بقصد الإصلاح بين الناس، وآثرت ذلك على خروجها للحج الذي كانت قد عزمت عليه، مقتدية بقول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء 4/ 114] وقوله سبحانه: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات 49/ 9] . والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، ولكن لم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، فدارت رحى الحرب واشتد الطعان، وطعن جمل عائشة وعرقبه بعضهم، فاحتملها محمد بن أبي بكر إلى البصرة، ثم أركبها علي رضي الله عنه إلى المدينة في ثلاثين امرأة، فوصلت إليها برّة تقية مجتهدة، مصيبة مثابة في تأويلها، مأجورة فيما فعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب. 5- الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي. 6- إن كل تلك الأوامر والآداب بقصد تطهير أهل بيت النبوة من دنس

المعاصي ورجس المنكرات، وجعلهن في طليعة النساء صونا وعفة، وطاعة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. وأهل البيت النبوي: هم نساؤه وقرابته منهم العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم، قال الرازي: والأولى أن يقال: هم وأولاده وأزواجه، والحسن والحسين وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي صلّى الله عليه وسلّم وملازمته للنبي «1» . وهذا واضح من ألفاظ الآية وسياقها، فالخطاب في مطلع الآيات ونهايتها موجّه إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم. لكن قال القرطبي: والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: وَيُطَهِّرَكُمْ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكّر والمؤنث غلّب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهنّ، يدل عليه سياق الكلام «2» . وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره عن أم سلمة فهو كما قال الترمذي: هذا حديث غريب. ونصه: قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: «هؤلاء أهل بيتي» وقرأ الآية، وقال: «اللهم أذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرا» فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنت على مكانك، وأنت على خير» . وقال القشيري: وقالت أم سلمة: أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: «نعم» . 7- التذكير بنعمة الله على نساء النبي إذ صيّرهن الله في بيوت يتلى فيها

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 209 (2) أحكام القرآن: 3/ 1527

المساواة بين الرجال والنساء في ثواب الآخرة [سورة الأحزاب (33) آية 35] :

القرآن والحكمة وهي كلمات النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأمر بالتفكير فيها، والاتعاظ بمواعظ الله تعالى، وإحسان الأفعال، وحفظ أوامر الله تعالى ونواهيه، وإخبار الناس وتبليغهم بها ليعملوا بها ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدّين. قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن، وتعليم ما علّمه من الدين، فكان إذا قرأه على واحد أو ما اتفق، سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلّغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة، ولا كان عليه إذا علّم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس، فيقول لهم: نزل كذا، ولا كان كذا، ولا يلزم أن يبلّغ ذلك الرجال «1» . المساواة بين الرجال والنساء في ثواب الآخرة [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1527

الإعراب:

الإعراب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ.. الآية: كله منصوب بالعطف على اسم إِنَّ، وخبرها: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً. وقوله: وَالذَّاكِراتِ حذف منه المفعول، وكذلك: وَالْحافِظاتِ حذف مفعوله، وتقديره: والذاكرات الله، والحافظات فروجهن، فحذف المفعول لدلالة ما تقدم عليه. وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين، وأما عطف الصنفين على الصنفين فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، لتغاير الوصفين، وكأن معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات لهم مغفرة. البلاغة: وَالذَّاكِراتِ وَالْحافِظاتِ فيهما إيجاز بالحذف، حذف المفعول لدلالة السابق عليه، أي والذاكرات الله، والحافظات فروجهن. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ من باب التغليب لأنه إذا اجتمع الذكور والإناث، غلّب الذكور، ثم أدرجهم في الضمير. المفردات اللغوية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله الآتين بأركان الإسلام، والإسلام: الانقياد والخضوع لأمر الله. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بأركان الإيمان، والإيمان: التصديق بما جاء عن الله من أمر ونهي. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ الخاضعين لله المداومين على الطاعة، والقنوت: الطاعة في سكون. وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول والعمل. وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وعن المعاصي، فالصبر: تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي. وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله بقلوبهم وأعضائهم، والخشوع: السكون والطمأنينة. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم. وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المفروض في رمضان وغيره من النذور وكفارات الأيمان والقتل الخطأ. وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عن الحرام. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم، وهي ما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفّرات. وَأَجْراً عَظِيماً على طاعتهم: وهو نعيم الآخرة. سبب النزول: أخرج الترمذي وحسّنه عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت:

المناسبة:

ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال: قالت النساء: يا رسول الله، ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات، فنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وأخرج ابن سعد عن قتادة قال: لما ذكر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت النساء: لو كان فينا خير لذكرنا، فأنزل الله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وأخرج الإمام أحمد والنسائي وابن جرير عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم تقول: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر، قالت: وأنا أسرّح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرتي- حجرة بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: «يا أيها الناس، إن الله تعالى يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية. المناسبة: بعد أمر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ونهيهن عن الأمور السابقة، وبيان ما يكون لهن من ثواب، أبان الله تعالى ما أعدّ للمسلمين والمسلمات من المغفرة والثواب العظيم في الآخرة. التفسير والبيان: هذه الآية وعد للرجال والنساء على الطاعة، والاتصاف بهذه الخصال، ذكر الله تعالى فيها عشر مراتب إشارة إلى ما يجب أن يكونوا عليه، دون اتكال نساء النبي على صحبته وملازمته وقربهن منه:

1- الإسلام والانقياد لأمر الله واتباع أحكام الدين قولا وعملا. 2- الإيمان والتصديق التام بما جاء عن الله من شرائع وأحكام وآداب. وهذا دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وأن الأول أخص من الثاني، فالإيمان: هو الاعتقاد والتصديق الكامل مع العمل الصالح، والإسلام قول وعمل بالفعل قال تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/ 14] . وفي الصحيحين: «لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن» فيسلبه الإيمان، ولا يلزم منه كفره بإجماع المسلمين، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. 3- القنوت: وهو دوام العمل الصالح، والطاعة في سكون، كما قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزّمر 39/ 9] وقال سبحانه: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم 30/ 26] . وقال عز وجل: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران 3/ 43] . ويلاحظ التدرج بين هذه المراتب، فالإسلام: إسلام الظاهر من النطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ثم يأتي بعده مرتبة يرتقى إليها وهو الإيمان الذي هو الإذعان والتصديق الباطني في القلب، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ثم ينشأ عن مجموعهما القنوت الذي هو السكون والخشوع في الطاعة وأداء العبادة. 4- الصدق في القول والعمل، وهو خصلة محمودة، وعلامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق، فمن صدق نجا، وفي الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن ابن مسعود: «عليكم بالصدق، فإن

الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب، حتى يكتب عند الله كذّابا» . لذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرّب عليه كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام. وهذه المرتبة تلي القنوت، فإن من آمن وعمل صالحا كمل، فيكمّل غيره، ويأمر بالمعروف، وينصح أخاه بصدق. 5- الصبر على المصائب، وتحمل المشاق في أداء العبادات وترك المعاصي، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصعبه وأوجبه في أول وهلة من الحادث. وهو سجية الراسخين الأثبات. ويأتي بعد المراتب السابقة لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى، فيصبر عليه. 6- الخشوع: وهو السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع لله تعالى قلبا وسلوكا، خوفا من عقاب الله تعالى، ومراقبته، كما في الحديث الصحيح عند مسلم عن عمر: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» . وهذه المرتبة تأتي بمثابة المراقبة على أعمال الحسنات، فإذا عملها الإنسان قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته، فأمر تعالى بالتواضع حتى لا تجمح الأهواء والشهوات بالنفس، فتوقعها فيما يرديها، وقد تعصف بثمرات جميع الأعمال الصادرة عنها. 7- التصدق بالمال: وهو الإحسان إلى المحتاجين الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب، فيعطون حال الفرض والنفل طاعة لله وإحسانا إلى خلقه، وقد

ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله- فذكر منهم-: ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وفي حديث آخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار» . وهذه مرتبة تعد ترجمانا عمليا للخصال السابقة لأن بذل المال شاق على النفس، لمحبتها إياه، وهي دليل على محبة الإنسان لأخيه، فيساعده لينقذه من آفات الفقر والحاجة، كما أن الصدقة تزكية للمال وتطهير له. 8- الصوم فرضا ونفلا: وفيه تسأم روحي عن التعلق بالماديات، والإقبال على عبادة الله، ومن أكبر المعونة على كسر حدّة الشهوة، كما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه عن ابن مسعود عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» وهو أيضا تزكية للبدن، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه عنه صلّى الله عليه وسلّم: «والصوم: زكاة البدن» أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا، كما قال سعيد بن جبير: «من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، دخل في قوله تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ. 9- العفّة وحفظ الفروج عن المحارم والمآثم، إلا عن المباح، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ [المؤمنون 23/ 5- 7] . ومن اخترق حرمة الفروج وزنى، هان عليه اختراق حرمات الدين كلها، ومن صان فرجه وعفّ نفسه، كان من الطاهرين الأصفياء الذين استحقوا رضوان الله تعالى. ويلاحظ أن بين المرتبتين الأخيرتين تجانسا، فالصّوام إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة الباطنية من عبادة الله، والأعفّاء حفظة الفروج إشارة إلى الذين لا تمنعهم شهوة الفرج عن العبادة.

10- الذّكر الكثير لله تعالى: وهو استحضار عظمة الله تعالى في القلب، وتنزيهه باللسان عن كل نقص، ووصفه بكل كمال في جميع الأحوال، بنية صادقة لله. ويلاحظ أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر «الذّكر» قرنه بالكثرة، ليرشدنا إلى أنه لا يصير الإنسان ذاكرا حتى يداوم على الذكر قائما وقاعدا ومضطجعا، وهذا مروي عن مجاهد. وقد يصبح ذاكرا بصلاة التهجد ليلا، كما أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا ركعتين، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» . ويكون الذكر أيضا بالصلاة وفي الأكل والشرب والمشي والبيع والشراء والركوب والهبوط، وغير ذلك من الأحوال في غير أماكن القاذورات، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 191] . وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب 33/ 41- 42] . وقد ختمت هذه الآداب بالذكر لأن صحة جميع الأعمال الدينية من إسلام وإيمان وقنوت وصدق وصبر وخشوع وصدقة وصوم بذكر الله تعالى وهي النية. أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبق المفردون، قالوا: وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» . وأخرج أحمد أيضا عن معاذ الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن رجلا سأله، فقال: أيّ المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أكثرهم لله تعالى ذكرا، قال: فأيّ الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أكثرهم لله عز وجل ذكرا، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

فقه الحياة أو الأحكام:

أكثرهم لله ذكرا» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل» . ثم ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء جميعا فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أي إن الله تعالى هيّأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم وأجرا عظيما وهو الجنة. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآية كما وضح في تفسيرها عشرة آداب أمر الله تعالى بها، وهي تجمع أصول الإسلام في الاعتقاد والعبادة والأخلاق والسلوك والعمل الاجتماعي البناء في إطار من النية الصادقة والإخلاص لله عز وجل وهو المراد بذكر الله كثيرا. وقد بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه دعامة الإسلام، وأتبعه بالقانت: العابد المطيع، ثم الصادق: الذي يفي بما عوهد عليه، والصابر عن الشهوات وعلى الطاعات وقت الرخاء والشدة (أو المنشط والمكره) والخاشع: الخائف لله، والمتصدق بالفرض والنفل، والصائم فرضا ونفلا، وحافظ الفرج عما لا يحلّ من الزنى وغيره، وذاكر الله كثيرا في أدبار الصلوات وغدوّا وعشيا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم، وفي الذكر فوائد كثيرة محورها ربط المؤمن بالله تعالى في جميع الأحوال. قال مجاهد: لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: من أيقظ أهله بالليل، وصلّيا أربع ركعات، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.

قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما [سورة الأحزاب (33) الآيات 36 إلى 40] :

قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) الإعراب: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.. تذكير الفعل على أن الخيرة بمعنى التخيير، فهي مصدر بمعنى الاختيار، ومن قرأ بالتاء لأن اللفظ مؤنث. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وَاللَّهُ: مبتدأ، وأَحَقُّ: خبر المبتدأ، وأَنْ تَخْشاهُ: إما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، وإما مرفوع على أنه مبتدأ، وأَحَقُّ خبره، والجملة من المبتدأ أو الخبر في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ الأول وهو الله تعالى، أو مرفوع على أنه بدل من الله تعالى.

البلاغة:

سُنَّةَ اللَّهِ منصوب مصدر لفعل دل عليه ما قبله وهو فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي سنّ له سنة، أو منصوب بنزع الخافض، أي كسنة الله. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع. وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ رَسُولَ خبر كانَ مقدرة، أي ولكن كان محمد رسول الله. ومن قرأه بالرفع جعله خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو رسول الله. البلاغة: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ التنكير لإفادة العموم لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي ليس لمؤمن ولا لمؤمنة أن يريد غير ما أراده الله ورسوله. تُخْفِي ومُبْدِيهِ بينهما طباق. قَدَراً مَقْدُوراً بينهما جناس اشتقاق. وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فيهما طباق السلب. المفردات اللغوية: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما يصح له أو ما ينبغي له إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه قضاء الله. والسبب أنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته: أميمة بنت عبد المطلب، خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله الْخِيَرَةُ الاختيار، فليس لهم أن يختاروا من أمرهم شيئا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله ضَلالًا مُبِيناً أي ظاهرا بيّن الانحراف عن الصواب. وَإِذْ تَقُولُ أي اذكر حين تقول أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعتق والتحرير، وهو زيد بن حارثة، كان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، والأصح أن السيدة خديجة وهبته له، ثم أعتقه وتبناه، وقد تقدمت قصته أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب وَاتَّقِ اللَّهَ في أمر طلاقها، ولا تطلقها ضرارا وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي تخفي في نفسك ما الله مظهره وهو الأمر من الله بزواجها بعد طلاقها من زوجها «1» وَتَخْشَى النَّاسَ أي

_ (1) الإخفاء هو لزواجها المأمور به من الله لإبطال عادة التبني وآثاره في الجاهلية، وليس المراد كما جاء في تفسير الجلالين وغيره إخفاء حبها حين وقع بصره عليها بعد حين من زواجها، فهذا الكلام باطل لا أصل له، ويتنافى مع منصب النبوة، فهي ابنة عمته يعرفها من قديم، وكان بإمكانه أن يتزوجها قبل تزويجه إياها من زيد.

تستحييهم وتخاف تعييرهم إياك وقولهم: تزوج زوجة ابنه الذي تبناه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ في كل شيء، والواو للحال، فتزوجها ولا تأبه لقول الناس، قال البيضاوي: وليست المعاتبة على الإخفاء وحده، فإنه وحده حسن، بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة، أي لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها زَوَّجْناكَها جعلناها لك زوجة وأمرناك بزواجها، فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن بشر، بعد إذن الله تعالى، وأشبع المسلمين خبزا ولحما، فكانت بلا واسطة عقد بشري، بدليل أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تولى إنكاحي، وأنتن زوّجكن أولياؤكن. حَرَجٌ مشقة وضيق دائم أَدْعِيائِهِمْ جمع دعي وهو الابن المتبنى وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي مقضيه مَفْعُولًا نافذا حاصلا لا محالة، كما كان تزويج زينب. وجملة لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ.. علة للتزويج، وهو دليل على أن حكم النبي وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي قسم له وقدر وأجل، مأخوذ من قولهم: فرض له في الديوان كذا، وفرض للعسكر أو الجند كذا، أي قدر لهم أرزاقهم فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مضوا من الأنبياء ألا حرج عليهم في ذلك، وفيما أباح لهم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً فعله قضاء مقضيا وحكما مبتوتا كائنا لا بد منه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي لا يخشون مقالة الناس فيما أحل الله لهم، وهو تعريض بعد تصريح وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم، فينبغي ألا يخشى إلا منه. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة، فيثبت ما يترتب على البنوة من حرمة المصاهرة وغيرها، فليس أبا زيد، أي والده، فلا يحرم عليه التزوج بزوجته زينب وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أي ولكن كان رسول الله، وكل رسول أبو أمته، لا مطلقا، بل من حيث إنه رؤف بهم، ناصح لهم، واجب التوقير والطاعة عليهم، وزَيْدٌ منهم كبقية المؤمنين وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بكسر التاء، فاعل الختم، أي فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيا، وبفتح التاء بمعنى الطابع كآلة الختم، أي وآخرهم الذي ختمهم، أو به ختموا وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعلم من يليق بأن يختم به النبوة، فلا نبي بعده، وكيف ينبغي شأنه. وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم لا ينافي الآية، فإن هؤلاء قد أخرجوا من حكم النفي بقوله: مِنْ رِجالِكُمْ لأن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال، ولأنه قد أضاف الرجال إليهم، وهؤلاء رجاله، لا رجالهم. وأما كون عيسى ينزل في آخر الزمان، فلا يتناقض مع قوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ لأن

سبب النزول:

المعنى: لا يكون هناك بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم نبوة مبتدأة جديدة، فلا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبّئ قبله، وحين ينزل يحكم بشريعة محمد، ويصلي إلى قبلته، كأنه بعض أمته. سبب النزول: نزول الآية (36) : وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآيات، أخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب، يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد، أبت، فأنزل الله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية، فرضيت وسلّمت. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا، فأنزل الله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآية كلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أول امرأة هاجرت من النساء، فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، قالا: إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزوجنا عبده. وهذا قول أضعف مما سبق، فيكون الراجح ما ذكره قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبيّن أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت، فنزلت الآية. نزول الآية (37) : وَإِذْ تَقُولُ: أخرج البخاري عن أنس أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال: جاء زيد بن

نزول الآية (40) :

حارثة يشكو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك أهلك، فنزلت: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ. وأخرج مسلم وأحمد والنسائي قال: لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد: اذهب، فاذكرها علي، فانطلق، فأخبرها، فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر «1» ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليها بغير إذن. قال: ولقد رأيتنا حين دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، ثم أخبرته أن القوم قد خرجوا، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية. نزول الآية (40) : ما كانَ مُحَمَّدٌ..: أخرج الترمذي عن عائشة قالت: لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الآية. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بتخيير زوجاته بين البقاء معه، والتسريح الجميل، حتى لا يظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يريد ضرر الغير، ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان في كل شيء، كما في شأن الزوجات، بل هناك أمور لا اختيار فيها لأحد، وهي ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أراد النبي

_ (1) آمره في أمره، ووامره واستأمره: شاوره.

التفسير والبيان:

فهو الحق، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا لأن الله هو المقصد، والنبي هو الهادي الموصل. ثم ذكر الله تعالى قصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب، تنفيذا لأمر الله، وتقريرا لشرع محكم دائم مشتمل على فائدة، خال من المفاسد، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا بين الرسل فيما أباح الله له من الزوجات، وأنه من أولئك الرسل الكرام الذين يبلّغون رسالات ربهم، ولا يخشون أحدا غير الله، وهو بهذا الزواج من زينب قد أبطل بالفعل بعد القول ما كان مقررا في الجاهلية من حرمة الزواج بحليلة الابن بالتبني، كما قال تعالى في هذه الآيات: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ثم أكد ذلك بقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.. الآية. التفسير والبيان: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي ليس لأي مؤمن أو مؤمنة إذا حكم الله ورسوله بأمر أن يختاروا أمرا آخر، وإنما عليهم الامتثال لأمر الله ورسوله، وتجنب معصيته. ومبلّغ الأمر هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الله لتعظيم أمر رسوله، فصار حكم الله ورسوله واحدا، وقضاؤهما واحدا، فإذا قضى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر لم يكن لبشر اختيار غيره. وهذه الآية داخلة في ضمن قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب 33/ 6] . ثم حذر الله تعالى من عصيان الأمر فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي ومن يخالف أمر الله أو أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو يعصي ما نهيا عنه، فقد انحرف عن طريق الهدى والرشاد، ووقع في متاهات الضلال المبين البعيد عن منهج الحق والخير، المؤدي إلى ضياع

المصالح والانغماس في المفاسد، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] . وإزاء هذا الحكم الإلهي القاطع والتحذير من العصيان، فإن زينب بنت جحش التي نزلت الآية بسببها، امتثلت أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقبول زواجها من زيد بن حارثة مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم وعبده المعتق، وهي من علية قريش وذؤابة القوم، وبنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: «إذن لا أعصي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد أنكحته نفسي» بعد أن استنكفت من زيد، وقالت: أنا خير منه حسبا» لأنها كانت امرأة فيها حدّة. وكان في زواجها بزيد حكمة بالغة هي إعلان المساواة بين الناس، والقضاء على فوارق النسب والحسب، ما دامت مظلة الإسلام واحدة يتساوى فيها الجميع، وأن التفاضل فيه إنما هو بالتقوى والعمل الصالح. ولكن بالرغم من الموافقة الظاهرية على هذا الزواج، ظلت الكوامن النفسية والآلام قائمة، وبقيت زينب كارهة لزيد، متعالية عليه، فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرارا، فكان صلّى الله عليه وسلّم ينصحه قائلا: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ إلى أن نفذ حكم الله، وحدث الطلاق ، وهو ما قررته الآيات التالية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ أي واذكر يا محمد حين كنت تقول لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق والحرية والتربية والتقريب منك: أبق على زواجك بزينب، واصبر على طبعها وخلقها، واتق الله في شأنها وفي طلاقها، فلا تطلقها لتعاليها وشعورها بالرفعة والشرف، فإن الطلاق مضرة. وهذا نهي تنزيه وتعليم وتربية، لا نهي تحريم وحظر لأن الأولى على كل حال ألا يطلقها، لأن الطلاق شائن لها.

وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي وتخفي أيها الرسول في نفسك ما الله مظهره من الحكم، وهو علمك بأن زيدا سيطلقها وستنكحها لأن الله قد أعلمه بذلك، وتخاف من تعيير الناس ونقدهم واعتراضهم النابع من منطق الجاهلية، والله بعد أن أنزل عليك وحيه وشرعه المصحح لأعراف الجاهلية وتقاليدها أو المبطل لها، أجدر وحده أن تخاف منه، وتلزم أمره، وتمضي حكمه دون مبالاة بشرائع غيره. فقوله: وَاتَّقِ اللَّهَ أي في طلاقها، فلا تطلّقها، وأراد بذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم لأن الأولى ألا يطلق. عن عائشة رضي الله عنها: لو كتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا مما أوحي إليه، لكتم هذه الآية. والمراد من هذا التوجيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أن يصمت حين قال له زيد: أريد مفارقتها، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يتناقض سرّه مع علانيته، وليتساوى ظاهر الأنبياء وباطنهم، ولتبدو ظاهرة التصلب في الأمور الجادة التي نزل فيها وحي إلهي. ثم أعلن الله تعالى حكم زواج زينب المطلقة بعد انتهاء عدتها من نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً، زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي لما طلقها زيد، وانتهت حاجته منها، وملّها، وانقضت عدتها، جعلناها لك زوجة، ليرتفع الحرج والضيق من بين المؤمنين إذا أرادوا الزواج بمطلّقات أدعيائهم وهم الذين تبنوهم في الجاهلية، ثم أبطل الإسلام حكم التبني وألغى جميع آثاره، وصفّى كل نتائجه، وكان قضاء الله وقدره نافذا وكائنا لا محالة، وحكمه سائدا وشرعه دائما في كل زمان، ومن أحكام الله في سابق علمه أن زينب ستصير زوجة

للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والوطر: كل حاجة للمرء له فيها همّة، والجمع: الأوطار، قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته، يعني الجماع. وفي التعبير إضمار أي لما قضى وطره منها، وطلّقها زوجناكها، وقراءة أهل البيت: زوجتكها. وفي هذا إشارة إلى أن التزويج لزينب من النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن لقضاء شهوة، بل لبيان الشريعة بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن الفعل أوكد، والشرع يستفاد على نحو أقطع من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد أريد من هذا الزواج نفي الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انتهاء رابطة الزوجية بينهم وبينهن. روى البخاري والترمذي رحمهما الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتقول: زوّجكن أهاليكنّ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات» . وقال محمد بن عبد الله بن جحش: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما فقالت زينب رضي الله عنها: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وذكر ابن جرير عن الشعبي رضي الله عنها عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إني لأدلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدّي وجدّك واحد، وإن الله عز وجل أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل عليه السلام» . ثم أخبر الله تعالى عن سنته وحكمه في الرسل والأنبياء، فقال: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي لم يكن على النبي حرج أو عيب فيما أحل

له وأمره من زواج زينب مطلّقة دعيه ومتبناة سابقا زيد بن حارثة رضي الله عنه. وهذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء، وعليهم في ذلك حرج وضيق، وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهذا رد على المنافقين الذين عابوا رسول الله في تزوجه امرأة زيد مولاه ودعيّه الذي كان قد تبناه، ورد أيضا على اليهود الذين عابوه من كثرة الزوجات، فقد كان لداود وسليمان عليهما السلام عدد كثير من النساء. ثم مدح الله رسله الكرام، فقال: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي إن أولئك الرسل الذين رفع الله الحرج عنهم فيما أحل لهم، وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلّم مهمتهم تبليغ رسالات الله وشرائعه إلى الناس وأداؤها بأمانة، وهم يخافون الله وحده في ترك تبليغ شيء من الوحي، ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد أو انتقاده عن إبلاغ رسالات الله تعالى، وكفى بالله ناصرا ومعينا، وحافظا لأعمال عباده ومحاسبهم عليها. ثم رد الله تعالى على نقد من قالوا: إن محمدا تزوج حليلة ابنه، فقال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي إن التزوج بزوجة الابن النسبي بالفعل هو غير جائز، أما التزوج بزوجة المتبنى بالتبني المصطنع فهو جائز، خلافا لشرعة الجاهلية، وإن زيدا لم يكن ابنا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم حقيقة وإن كان قد تبناه، وليس هو أبا على الحقيقة لأحد من الرجال، وإنما هو رسول الله لتبليغ رسالته وشرعه إلى الناس، وهو الذي ختم به أنبياء الله ورسله، وكان الله وما يزال عليما مطلعا على كل شيء، يعلم من بدئت به النبوة ومن ختمت به، ولا يفعل إلا ما هو الأصلح، ولا يختار إلا من هو

فقه الحياة أو الأحكام:

الأجدر، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] . فليس بين محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين أحد من الناس أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، وإنما هو أب روحي لجميع المؤمنين، شديد الإشفاق عليهم، يستوجب التوقير والاحترام، كما قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب 33/ 6] وهذا أمر أجمع وأعم، وأما قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ.. فهو خاص. وأما أبوته صلّى الله عليه وسلّم الخاصة فهو أب لأربعة ذكور، وأربع بنات، فقد ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، ثم ماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ثم مات رضيعا، وكان له أربع بنات من خديجة: زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة، وقد ماتت الثلاث الأول في حياته صلّى الله عليه وسلّم، ثم ماتت فاطمة بعده لستة أشهر. وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعد نبي الله محمد، ولا رسول بعده بالطريق الأولى لأن النبوة أعم من الرسالة، والرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا عكس، وإذا انتفى وجود النبي بصريح الآية، انتفى وجود الرسول أيضا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- يحظر ويمنع على أي مؤمن أو مؤمنة إذا قضى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر أن يختار غيره لأن لفظة ما كان، وما ينبغي معناها هنا الحظر والمنع، فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية. وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها

[النمل 27/ 60] . وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمران 3/ 79] وقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى 42/ 51] . وربما كان في المندوبات كما تقول: «ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل» ونحو هذا. 2- في هذه الآية دليل للمالكية على أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان، خلافا للجمهور لأن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوّج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف. وقد أراد الله امتحان زينب بزواج زيد لهدم مبدأ العصبية الجاهلية والامتياز الطبقي أو العنصري، وجعل أساس التمايز هو الإسلام والتقوى. 3- يجب اتباع أمر الله ورسوله لأن الله أخبر أن من يعصي الله ورسوله فقد ضل طريق الهدى. قال القرطبي: وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة «افعل» للوجوب في أصل وضعها لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علّق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب «1» . 4- أراد الله تعالى من عتاب نبيه بآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ.. إظهار صلابة الأنبياء في بيان الأحكام الإلهية، وأن يكون ظاهرهم

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 188 [.....]

وباطنهم سواء لأن الله تعالى أعلم نبيه بأن زيدا سيطلّق زينب وينكحها هو، فما الداعي لوعظه وقوله له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ؟. وقد أخفى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أخبره الله به من طلاق زينب وزواجه، لا أنه أخفى استحسانها وحبّه لها والحرص على طلاق زيد إياها، كما يقول قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره، فهذا لا يليق بمنصب النبوة، ولا يتفق مع الواقع، فإنه كان بإمكانه أن يتزوجها وهي بكر، وهو يعرفها لأنها ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت هي ترغب بذلك، بدليل أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خطبها لزيد، ظنت أنه خطبها لنفسه، والخلاصة: أن قائل ذلك- إن تعمد- جاهل بعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته. وأشد قبحا ما قال مقاتل: زوّج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش من زيد، فمكثت عنده حينا، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم أتى زيدا يوما يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: «سبحان مقلّب القلوب» فسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففطن زيد، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ. وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري الفقيه المالكي الذي ولي قضاء العراق، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم: هو ما روي عن علي بن الحسين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلّق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكّى زيد للنبي صلّى الله عليه وسلّم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة الأدب

والوصية: «اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها وخشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من خشيته الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: «أمسك» مع علمه بأنه يطلّق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. ويدل تحرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من هذا الزواج على أن للأعراف والعادات تأثيرا كبيرا في المجتمعات والسلوك. 5- اقترنت واقعة زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب في السيرة بأحكام شرعية، منها: استخارة الله في الأمور، فعند ما جاء زيد يخطبها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن. ومنها: ندب وليمة الزواج، قال أنس بن مالك فيما يرويه مسلم: «ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة. ومنها: أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب علي فلانة، وهو زوجها المطلقة منه، ولا حرج في ذلك، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لزيد في رواية: «اذكرها علي» أي اخطبها. 6- اختصاص النبي صلّى الله عليه وسلّم بتزويج الله تعالى له، فلما وكّلت زينب أمرها إلى الله، وصح تفويضها إليه، تولى الله إنكاحها، ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في عقود زواجنا، ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقول: «زوجكن آباؤكن، وزوّجني الله تعالى» . أخرج النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت

زينب تفخر على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء، وفيها نزلت آية الحجاب. 7- المنعم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة إذ أعتقه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما اختار البقاء عنده، مفضلا إياه على أبيه وعمه، وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا أني وارث وموروث» فلم يزل يقال: زيد بن محمد، إلى أن نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ونزل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ. 8- قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السّهيلي رحمه الله تعالى: كان يقال: زيد بن محمد، حتى نزل: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد. فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخصّ بها أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي أنه سماه في القرآن فقال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً يعني من زينب. ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوّه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم له. فهو لا يزال مترددا على ألسنة المؤمنين، ومذكورا على الخصوص عند رب العالمين إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد فاسم زيد هذا في الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السّفرة الكرام البررة. وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه. وزاد في الآية أن قال: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي بالإيمان فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى. 9- قوله تعالى: زَوَّجْناكَها دليل على ثبوت الولي في النكاح.

10- أعلم الله جميع الأمة أنه سنّ لمحمد صلّى الله عليه وسلّم التوسعة عليه في النكاح سنّة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان، فكان لداود مائة امرأة، وثلاث مائة سرّية، ولسليمان ثلاث مائة امرأة وسبع مائة سرّية. 11- دلت آية ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بأب شرعي لزيد، وليس زيد ابنا له، حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمّته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، واعتراضهم بقولهم: تزوج النبي امرأة ابنه وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور كما تقدم: إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهّر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له. 12- الحقيقة أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله، وخاتم النبيين، وقوله خاتَمَ بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم، وبكسر التاء: بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وهذا دليل قاطع على أنه لا نبي ولا رسول بعده صلّى الله عليه وسلّم، وفيه وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منها ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللّبنة، فأنا موضع اللّبنة حيث جئت، فختمت الأنبياء» ونحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال: «فأنا اللّبنة وأنا خاتم النبيين» . ومنها ما أخرجه الصحيحان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن لي

تعظيم الله تعالى وإجلاله بالأذكار والتسابيح الكثيرة [سورة الأحزاب (33) الآيات 41 إلى 44] :

أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» . ومنها ما رواه أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي» فشق ذلك على الناس، فقال: «ولكن المبشّرات» قالوا: يا رسول الله، وما المبشّرات؟ قال: «رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله» قال ابن عبد البر: يعني الرؤيا- والله أعلم- التي هي جزء منها كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» . وإتمام النبوات مشابه لإتمام الأخلاق، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» . وهذا كله رد قاطع على المتنبئين كالأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذّاب باليمامة، وسجاح، وغيرهم من أدعياء النبوة الأفاكين، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء 26/ 221- 222] . تعظيم الله تعالى وإجلاله بالأذكار والتسابيح الكثيرة [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)

البلاغة:

البلاغة: بُكْرَةً وَأَصِيلًا بينهما طباق. المفردات اللغوية: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً أي في أغلب الأوقات، ويشمل مختلف أنواع التقديس والتمجيد والتهليل والتحميد وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي بالرحمة وَمَلائِكَتُهُ بالاستغفار لكم، والاهتمام بما يصلحكم، والمراد بالصلاة المشتركة بين الله وملائكته: هو العناية بصلاح أمركم، وظهور شرفكم ورفعة شأنكم لِيُخْرِجَكُمْ ليديم إخراجه إياكم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي كان الله وما يزال رحيما بعباده المؤمنين، حتى اعتنى بصلاح أمرهم ورفع قدرهم وهو دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة تَحِيَّتُهُمْ أي تحية الله للمؤمنين بلسان الملائكة هي السلام، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي يحيّون يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبر، أو دخول الجنة سَلامٌ إخبار بالسلامة من كل مكروه وآفة وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً هي الجنة. سبب النزول: نزول الآية (43) : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي..: أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما نزلت: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب 33/ 56] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه، فنزلت: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ. المناسبة: بعد بيان ما ينبغي أن يكون عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الله وهو التقوى والإخلاص، وما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وأقاربه بقوله تعالى: يا أَيُّهَا

التفسير والبيان:

النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وهو تحقيق الحرية والاستقرار الزوجي، أمر الله تعالى عباده المؤمنين بما أمر به أنبياءه المرسلين من تعظيم الله وإجلاله بذكره وتسبيحه في أغلب الأوقات ومختلف أنواع الطاعات، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ليحقق لهم أجزل الثواب ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. التفسير والبيان: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بكثرة ذكر ربهم تبارك وتعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم، لينالوا جزيل الثواب وجميل المآب، فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي يا أيها الذين أيقنوا وصدقوا بالله ورسوله اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم ذكرا كثيرا، يملأ عليكم مشاعركم، في جميع الأحوال، ويحقق في نفوسكم خشية ربكم، ونزهوه عن كل ما لا يليق به أول النهار وآخره، أي في غالب الأوقات لأن بداية الشيء ونهايته تشمل وسطه أيضا بحكم الاستمرار، قال الزمخشري في تفسير بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في كافة الأوقات. وإنما ذكر هذان الوقتان لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكر الله على فم كل مسلم» وروي «في قلب كل مسلم» وعن قتادة: «قولوا: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: ذكر الله عز وجل» .

ونظير الآية في وصف المؤمنين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران 3/ 191] . وقرن التسبيح بالذكر معناه: إذا ذكرتم الله تعالى، فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء، وهو المراد بالتسبيح. ثم حرّض تعالى على الذكر والتسبيح وأبان سببه فقال: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي إن الله ربكم الذي تذكرونه وتسبحونه هو الذي يرحمكم، وملائكته تستغفر لكم، وهو بهذه الرحمة يريد هدايتكم وإخراجكم من ظلمات الكفر والجهل والضلال إلى نور الحق والهدى والإيمان، وكان ربكم وما يزال رحيما تام الرحمة بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم، وأما في الآخرة: فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم. ومن مظاهر رحمته تعالى ما ورد في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترون هذه تلقي ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فو الله الله أرحم بعباده من هذه بولدها» . ثم ذكر تعالى دليل رحمته الشامل في الآخرة وعنايته فيها بعد بيان عنايته في الدنيا، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً تحيتهم من الله تعالى بواسطة ملائكته يوم لقائه في الآخرة هو السلام، كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس 36/ 58] وقال عز وجل: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 23- 24] . وهيّأ لهم ثوابا حسنا في الآخرة وهو الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والملاذّ والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الحض على ذكر الله وشكره على نعمه، وتسبيحه في معظم الأحوال بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، دون تقدير بقدر معين أو تحديد بحد، ليسهل الأمر على العبد، وليعظم الأجر فيه. روى أحمد وأبو يعلى وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون» . 2- إسباغ الرحمة الإلهية على المؤمنين وتسخير الملائكة للاستغفار لهم، بقصد هدايتهم وإخراجهم من ظلمة الكفر والجهل إلى نور الهدى واليقين. والصلاة من الله على العبد: هي رحمته له وبركته لديه، وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر 40/ 7] . قال ابن عباس: لما نزل إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب 33/ 56] قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصّة، وليس لنا فيه شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ...

وقال القرطبي: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم ودليل على فضلها على سائر الأمم، وقد قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] . ذكر النحاس حديثا: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أيصلّي ربّك جلّ وعزّ؟ فأعظم ذلك فأوحى الله جل وعز: «إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي» . 3- قوله تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الضلالة إلى الهدى: معناه التثبيت على الهداية لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية. وقوله: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً إخبار برحمته تعالى للمؤمنين وتأنيس لهم، فهو يرحمهم في الدنيا بهدايتهم إلى الحق، ويؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة، وتكون تحية الله لهم يوم القيامة بعد دخول الجنة: سلام، أي سلامة من عذاب الله، وقيل: عند الموت وقبض الروح. قال ابن كثير: الظاهر أن المراد- والله أعلم- تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه: سلام، أي يوم يسلم عليهم، كما قال عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس 36/ 58] . وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. وكذا قال القرطبي: تَحِيَّتُهُمْ أي تحية بعضهم لبعض، ويؤيده قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس 10/ 10] .

مهام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الأحزاب (33) الآيات 45 إلى 49] :

مهام دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) الإعراب: شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً كلها منصوبات على الحال. وقوله: وَسِراجاً أي وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفا للفاعل أو المفعول، والسراج ليس وصفا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن سراجا حقيقة. البلاغة: وَسِراجاً مُنِيراً تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي أنت يا محمد كالسراج المضيء في الهداية والإرشاد. وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَسِراجاً مُنِيراً فَضْلًا كَبِيراً توافق الفواصل. وكذا أيضا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا سَراحاً جَمِيلًا. المفردات اللغوية: شاهِداً على من أرسلت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم وَمُبَشِّراً من صدّقك وأطاعك

سبب النزول نزول الآية (47) :

بالجنة وَنَذِيراً من كذبك وعصاك بالنار وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته وإلى طاعته بِإِذْنِهِ بتيسيره وأمره وَسِراجاً مُنِيراً أي كالسراج الوضاء يستضاء به، ويكون مثله في الاهتداء به فَضْلًا كَبِيراً على سائر الأمم في الدنيا، وأجرا واسعا على أعمالهم في جنات النعيم. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك، والمراد به التهييج والإثارة له على ما هو عليه من مخالفتهم، تحقيقا لاستقلال الذات وصون الشريعة من الاختلاط. ويحتمل كون المراد به: الدوام والثبات على ما كان عليه وَدَعْ أَذاهُمْ أي اترك إلحاق الأذى والضرر بهم، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فوض أمرك إليه، فهو كافيك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مفوضا إليه الأمر في الأحوال كلها. نَكَحْتُمُ النكاح هنا العقد أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن، ويعبر عن الجماع في القرآن أدبا بالمس والملامسة والقربان والتغشي والإتيان فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي ليس عليهن انتظار أيام أو أقراء تستوفون عددها، يمتنعن فيها عن الزواج بآخرين، فالعدة: الشيء المعدود فَمَتِّعُوهُنَّ أعطوهن ما يستمتعن به، والمتعة سنة للمفروض لها المهر، وواجب لمن لم يفرض لها مهر وهي المفوضة في رأي الحنابلة والحنفية، وسنة فقط في غير المفوضة عند الجمهور، وواجبة لكل مطلّقة عند الشافعية، إلا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، فإنه يكتفى لها بنصف المهر، وتكون المتعة سنة مستحبة لها، وهو كسوة شاملة أو ثلاثون درهما وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي خلّوا سبيلهن من غير إضرار ولا إيذاء إذ ليس لكم عليهن عدة. سبب النزول: نزول الآية (47) : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: لما نزل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] قال رجال من المؤمنين: هنيئا لك يا رسول الله، قد علمنا بما يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فأنزل الله لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ الآية [الفتح 48/ 5] . وأنزل في سورة الأحزاب وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت:

المناسبة:

وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف 46/ 9] نزلت بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] فقالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزل: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً قال: الفضل الكبير: الجنة. وأخرجه أيضا ابن جرير وعكرمة عن الحسن البصري. المناسبة: موضوع السورة متعلق بآداب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبعد أن أمره الله تعالى بما ينبغي أن يكون عليه مع ربه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب 33/ 1] وما ينبغي أن يكون عليه مع أزواجه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ أمره بما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ. وكلما ذكر الله تعالى أدبا أو مكرمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ذكر للمؤمنين ما يناسبه، ففي مقابل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتقوى، أمر المؤمنين بالذكر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ وفي مقابل أدب الزوجات ذكر ما يتعلق بأزواج المؤمنين، ثم في الآيات التالية ذكر تعالى في مقابل بيان مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم أدب المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب 33/ 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى في هذه الآيات سبع مهامّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: 1- 3: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً، وَمُبَشِّراً، وَنَذِيراً أي يا أيها الرسول المنزل عليه الوحي، إنا بعثناك شاهدا على من أرسلت إليهم بتصديقك

وتكذيبك، واتباع هداك ومخالفتك، أي متحملا للشهادة في الدنيا، ومؤديا لما تحمّلته في الآخرة أمام ربك، وأرسلناك لتبشير من أطاعك بالجنة، ولإنذار من عصاك بالنار، فهذه ثلاث مهام من مهمات الدعوة المكلّف بتبليغها إلى البشر كافة. ونظير الآية في الشهادة قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] . روى الإمام أحمد والبخاري وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، قال: «أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا» . 4- 5: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً أي وداعيا الخلق إلى عبادة ربهم، وطاعته ومراقبته سرا وعلانية، بأمره إياه، والإقرار به، والإيمان بما يجب له من صفات الكمال، وجعلناك ذا سراج أو كالسراج الوضاء الذي يستضاء به في الظلمات، ليهتدي بك الناس، ويستنيروا بشرعك في تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة. فقوله بِإِذْنِهِ معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه، وَسِراجاً معناه: ذا سراج، أو يكون كقول القائل: «رأيته أسدا» أي شجاعا، فيكون قوله: سِراجاً أي هاديا مبينا كالسراج، يري الطريق ويبين الأمر، ويهدي الناس إلى الحق وإلى صراط مستقيم. ومقتضى تشبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسراج أن دينه أو أمره يكون ظاهرا واضح الحجة والبرهان، لا تعقيد فيه ولا التواء، ولا خفايا فيه ولا أستار.

وإنما شبّه بالسراج لا بالشمس التي هي أشد إضاءة من السراج لأن ضوء الشمس يبهر العين، وأما ضوء السراج فترتاح له الأعين. ووصف السراج بالإنارة لأن بعض السرج لا يضيء لضعفه ودقة فتيلته. 6- وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي أعلن البشارة لكل من آمن برسالتك وأطاع شرعك بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، وأجرا عظيما لا يوصف في الدار الآخرة، وبعد البشارة أتى بالإنذار، فقال: 7- وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، وَدَعْ أَذاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي لا تطع هؤلاء الذي كفروا برسالتك، أو نافقوا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ولا تسمع منهم اعتراضا أو نقدا في أمر الدعوة، ولا تأبه بهم، وبلّغ رسالة ربك إلى الناس قاطبة، ودع عنك أذاهم، واصفح عنهم، وتجاوز عن سيئاتهم، وامض لما أمرك به ربك، وفوّض أمرك إلى الله تعالى في كل ما تعمل وتذر، وثق به، فإن فيه كفاية لهم، وهو حافظك وراعيك، وكفى بالله كافيا عبده. والوكيل: الحافظ القائم على الأمر. وفي هذا الكلام القوي وعد بالنصر. وبعد بيان مهمات النبي صلّى الله عليه وسلّم، عاد الكلام إلى قضايا الأزواج، فلما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها، وكانت مدخولا بها، واعتدت، وخطبها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد انقضاء عدتها، بيّن حال من طلقت قبل الدخول (المسيس) وأنها لا عدة عليها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إذا عقدتم عقد النكاح على النساء المؤمنات، ثم أوقعتم الطلاق عليهن من قبل الدخول بهن، فلا عدّة لكم عليهن بأيام تستوفون

فقه الحياة أو الأحكام:

عددها، ولكن قدموا لهن بعد الطلاق تطييبا لخاطرهن متعة وهي كسوة تليق بكم وبهن بحسب الزمان والمكان، وطلقوهن طلاقا لا ضرر فيه إذ ليس لكم عليهن عدة. والجمال في التسريح: ألا يطالبها بما آتاها. وتخصيص المؤمنات بالذكر في الآية إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة، فإنها أشد تحصينا لدينه. وقوله: فَمَتِّعُوهُنَّ قيل بأنه واجب مختص بالمفوّضة التي لم يسم لها مهر إذا طلقت قبل الدخول، وقيل: بأنه عام يشمل المفوضة وغيرها، والأمر إما أمر وجوب أو أمر ندب على حسب اختلاف العلماء، فمنهم من قال للوجوب، فيجب مع نصف المهر المتعة أيضا، ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتّعها مع الصداق بشيء. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات الأحكام التالية: أولا- وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبع صفات أو أسماء، فهو الشاهد على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، وهو المبشر للمؤمنين برحمة الله وبالجنة، وهو المنذر للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد، وهو الداعي إلى الله بتبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة، وهو نور كالسراج الوضاء بشرعه الذي أرسله الله به، وهو الذي بشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى، وهو ذو شرع مستقل مطالب بألا يطيع الكافرين فيما يشيرون عليه من أنصاف الحلول والمداهنة في الدين والممالأة، لكنه مأمور أيضا أن يدع أذاهم مجازاة على إذايتهم إياه، فلا يعاقبهم، وإنما يصفح عن زللهم، معتمدا على الله وحده بنصر دينه وحفظه وتأييده وعصمته من الناس.

روى ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا ومعاذا فقال: «انطلقا، فبشّرا ولا تنفرا، ويسّرا ولا تعسّرا، فإنه قد نزل علي الليلة آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً- بالجنة- وَنَذِيراً- من النار- وَداعِياً إِلَى اللَّهِ- شهادة أن لا إله إلا الله- بِإِذْنِهِ- بأمره- وَسِراجاً مُنِيراً بالقرآن» . ثانيا- قال القرطبي «1» : هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية تضمنت من أسمائه صلّى الله عليه وسلّم ستة أسماء، ولنبينا صلّى الله عليه وسلّم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة، وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد. وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما روى عنه الثقات العدول عند الطبراني عن جابر: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» . وفي صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله رؤفا رحيما. وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمّي لنا نفسه أسماء، فيقول: «أنا محمد وأحمد، والمقفّي (أي أنه آخر الأنبياء) ، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» . وذكر القاضي ابن العربي في أحكامه (3/ 1534) بمناسبة هذه الآية سبعا وستين اسما للنبي صلّى الله عليه وسلّم هي: الرسول، المرسل، النبي، الأمي، الشهيد، المصدّق، النور، المسلم، البشير، المبشّر، النذير، المنذر، المبين، الأمين «2» ، العبد، الداعي، السراج،

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 200 (2) مكرر مع ما بعده «أمين» ويكون النبيء والنبي اسمين.

المنير، الإمام، الذّكر، المذكّر، الهادي، المهاجر، العامل، المبارك، الرحمة، الآمر، الناهي، الطيب، الكريم، المحلّل، المحرّم، الواضع، الرافع، المخبر، خاتم النبيين، ثاني اثنين، منصور، أذن خير، مصطفى، أمين، مأمون، قاسم، نقيب، مزمّل، مدثّر، العليّ، الحكيم، المؤمن، المصدّق «1» ، الرؤوف، الرحيم، الصاحب، الشفيع، المشفّع، المتوكل، محمد، أحمد، الماحي، الحاشر، المقفي، العاقب، نبي التوبة، نبي الرحمة، نبي الملحمة، عبد الله، نبي الحرمين. ذكر ذلك أهل ما وراء النهر. فالرسول: الذي تتابع خبره عن الله، وهو المرسل من ربّه، والمرسل غيره لتبليغ الشرائع إلى الناس مشافهة، والنبيء مهموز من النبأ وهو الخبر، وغير مهموز من النّبوة: وهو المرتفع من الأرض، فهو مخبر عن الله، رفيع القدر عنده، والأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب، والشهيد لشهادته على الخلق في الدنيا والآخرة، والمصدّق بجميع الأنبياء قبله، وصدّق ربه بقوله، وصدق قوله بفعله، والمنور الذي نور الله به الأفئدة بالإيمان والعلم، وبدد ظلمات الكفر والجهل، والمسلم خير المسلمين وأولهم، والبشير: الذي أخبر الخلق بثوابهم إن أطاعوا وبعقابهم إن عصوا، والنذير والمنذر: المخبر عما يخاف ويحذر، والمبين: الذي أبان عن ربه الوحي والدين وأظهر الآيات والمعجزات، والأمين: الذي حفظ ما أوحي إليه وما وظف به، والعبد: الذي ذل لله خلقا وعبادة، والداعي الخلق إلى الحق وترك الضلال، والسراج: النور الذي يبصر به الخلق الرشد، والمنير: المنور، والإمام: المقتدى به المرجوع إلى قوله وفعله، والذّكر: الشريف في نفسه، المشرّف غيره، والمذكّر: الذي يخلق الله على يديه الذّكر، أي تذكر الله، والهادي: الذي أبان النجدين، أي طريقي الخير والشر، والمهاجر: لأنه هجر ما نهى الله عنه، وهجر أهله ووطنه، والعامل: لأنه قام

_ (1) مكرر مع ما قبله، ويكون المرسل والمرسل اسمين.

بطاعة ربه، ووافق فعله قوله واعتقاده، والمبارك: الذي جعل الله في حاله زيادة الثواب، وفي حال أصحابه فضائل الأعمال، وفي أمته زيادة العدد على جميع الأمم، والرحمة: الذي رحم الله به العالمين في الدنيا من العذاب الشامل، وفي الآخرة بتعجيل الحساب، والآمر والناهي: المبلّغ الأمر والنهي، والطيب: فلا أطيب منه، لسلامته عن خبث القلب وخبث القول وخبث الفعل. والكريم: الجواد على التمام والكمال، والمحلّل والمحرّم: مبيّن الحلال والحرام، والواضع والرافع: الذي وضع الله به قوما ورفع آخرين، والمخبر: النبيء، وخاتم النبيين: آخرهم، وثاني اثنين: أحد اثنين والآخر أبو بكر في غار جبل ثور، والمنصور: المعان من قبل الله بالعزة والظهور على الأعداء، وأذن خير: لا يعي من الأصوات إلا خيرا ولا يسمع إلا الأحسن، والمصطفى: المخبر عنه بأنه صفوة الخلق، والأمين كما تقدم: المؤتمن على المعاني، والمأمون: الذي لا يخاف من جهته شرّ، وقاسم: يقسم الزكوات والأخماس وسائر الأموال بين الناس، ونقيب: يتولى الأمور، ويحفظ الأخبار، وقد وصف نفسه للأنصار بذلك فقال: أنا نقيبكم، والمزمّل: المتلفف بثيابه، والمدثر: المتغشّي بثيابه، والعلي: الرفيع القدر والمكان، الشريف الشأن، والحكيم: العامل بما علم، والمؤمن: المصدّق لربه اعتقادا وفعلا، والرؤوف الرحيم: لما أعطاه الله من الشفقة على الناس، والصاحب: الذي كان مع أتباعه حسن المعاملة، عظيم الوفاء، والشفيع المشفّع: الراغب إلى الله في أمر الخلق بتعجيل الحساب، وإسقاط العذاب وتخفيفه، والمتوكل: الملقي مقاليد الأمور إلى الله علما وعملا، والمقفّي: العابد، ونبي التوبة: لأنه تاب الله على أمته بالقول والاعتقاد، دون تكليف بقتل أو إصر، ونبي الرحمة: المشفق على الناس، ونبي الملحمة: المبعوث بحرب الأعداء والنصر عليهم. ثالثا- يرى مجاهد أن الأمر بالعفو والصفح عن الكافرين في قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ منسوخ بآية السيف.

رابعا- في آية إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ.. أحكام كثيرة منها: 1- المرأة المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك، فإن دخل بها فعليها العدّة إجماعا. والمشهور عند الفقهاء أن العدّة ليست خالص حق العبد، وإنما يتعلق بها حق الله وحق العبد معا لأن منع الفساد باختلاط الأنساب من حق الشارع أيضا، ولا تسقط العدة إذا أسقطها المطلّق لأن الشرع أثبتها. والعدة شرعا: المدة التي تنتظر فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل، أو للتعبد، أو للتفجع على زوج مات. 2- إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، وقد اتفق العلماء على أن المراد بالنكاح هنا العقد، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد. والنكاح في الأصل حقيقة في الوطء، لكن من أدب القرآن الكناية عن الوطء أو الجماع بلفظ: الملامسة والمماسّة والقربان والتغشّي والإتيان. وسمي العقد نكاحا من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم. 3- إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وهذه الآية مخصّصة لقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 2/ 228] ولقوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق 65/ 4] . 4- قوله تعالى: الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، ولكن لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في إباحة الزواج بالاتفاق. 5- استدل جمهور العلماء منهم الشافعي أحمد بقوله تعالى:

إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ بمهلة ثُمَّ على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، ولا طلاق قبل النكاح، فمن طلق المرأة قبل نكاحها وإن عيّنها، فلا يلزمه، فمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق، لا يعد طلاقا، فإذا تزوج لم تطلق زوجته حينئذ، سواء خص أو عم، وسواء أنجز أو علّق. وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: هو ليس بشيء، فقيل له: إن ابن مسعود كان يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال، لقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلّقتم المؤمنات، ثم نكحتموهن) ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ. وروى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا طلاق قبل النكاح» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» . وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا فرق بين من خص أو عم لأن الطلاق يقع في الملك، فإن عمّ، فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، تطلق منه، وهذا تعليق معنوي للطلاق على الملك، ومثله التعليق اللفظي: «إن تزوجت فلانة فهي طالق» «1» . أما تنجيز الطلاق على الأجنبية فلا يقع لأن الطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق. وقال مالك رحمه الله: إن عم لم يقع لأنه ضيق على نفسه أنواع الزواج،

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 364

والأمر إذا ضاق اتسع وإن عين امرأة بذاتها أو بقبيلة أو ببلد معين، يلزم ويقع. 6- هل الخلوة قبل الدخول بمثابة الجماع؟ يرى الشافعي وأحمد أن الخلوة ليست كالجماع لأن ظاهر التقييد بعدم المس في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ دليل على الفرق بين الخلوة والجماع والمس كناية عن الجماع، كما بينا، والخلوة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق. ويرى الحنفية والمالكية أن الخلوة الصحيحة كالجماع توجب العدة لما رواه الدارقطني والجصاص الرازي في أحكام القرآن: «من كشف خمار امرأة، ونظر إليها، وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» . وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملا، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل. والعدة عند الحنفية واجبة بعد الخلوة قضاء وديانة، فلا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتد، ما دامت الخلوة بالأول كانت صحيحة، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول: إنه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها، أما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر. 7- استدلّ داود الظاهري بظاهر الآية على أنه لا عدّة على المرأة المدخول بها المطلقة الرجعية أو البائنة بينونة صغرى إذا راجعها زوجها أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها قبل أن يمسها لأنها مطلقة قبل الدخول بها، فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني لأنه طلاق قبل الدخول، وليس عليها أيضا

أن تكمل العدة الأولى لأن الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول، ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة. وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه: يجب على المرأة في الحالتين أن تبني على عدة الطلاق الأول، ولا تستأنف عدة جديدة إذ الطلاق الثاني لا عدة له، ولكن لا يبطل ما وجب بالطلاق الأول، فإنه طلاق بعد دخول، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة، كما قال الظاهرية. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي: يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الحالتين لأنه وإن لم يحصل دخول، فإن المرأة كان مدخولا بها من قبل، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل بسبب كون المرأة مدخولا بها. وفرق المالكية بين الطلاق الرجعي والبائن، فأوجبوا على الرجعية أن تستأنف عدة كاملة إذ إنها في حكم الموطوءة بعد المراجعة، ولم يوجبوا على البائن عدة لأن النكاح بعد البينونة عقد جديد، فالطلاق بعده يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول، فلا يوجب عدة، لكنه لا يصح أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق، فعليها أن تكمل العدة الأولى، ولها على المطلّق نصف المهر. 8- استدل الحسن البصري وأبو العالية بظاهر قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ على إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض، ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 241] . وهذا مذهب الشافعية أيضا، لكنهم استثنوا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، فإن لها نصف المهر فقط، والمتعة سنة مستحبة، ودليلهم قوله تعالى:

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة 2/ 237] فلم يذكر متعة، قال سعيد بن المسيب: هذه الآية ناسخة لآية الأحزاب: فَمَتِّعُوهُنَّ. ويرى الحنفية والحنابلة أن المرأة المفوّضة وهي التي لم يفرض لها مهر تجب لها المتعة، وأما غيرها فالمتعة لها سنة، واستدلوا بقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة 2/ 236] . وجعل المالكية المتعة سنة مستحبة لكل مطلقة لأنهم حملوا الأوامر الواردة في شأن المتعة كلها على الندب والاستحباب لظاهر قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. والخلاصة: أن هناك تعارضا بين آية البقرة وبين آية الأحزاب، وقد دفع بعض العلماء التعارض بجعل آية البقرة مخصصة لآية الأحزاب أو ناسخة لعمومها، ويكون المعنى: فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن المهر في النكاح، وهو مذهب الحنفية والشافعية. ومن العلماء من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا، فيشمل نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدر بنصف المفروض بالنص، وفي صورة عدم الفرض غير مقدر، فإن اتفقا على شيء فذاك، وإلا قدرها القاضي باجتهاده على حسب حال الزوجين يسارا وعسرا. ومنهم من حمل الأمر في آية فَمَتِّعُوهُنَّ على الإذن الشامل للوجوب والندب، مع بقاء المتعة على معناها المعروف، فيكون التمتيع واجبا في صورة

النساء اللاتي أحل الله زواجهن بالنبي صلى الله عليه وسلم [سورة الأحزاب (33) الآيات 50 إلى 52] :

عدم الفرض لقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ ومستحبا في صورة الفرض الصحيح لأنه من الفضل المندوب إليه عموما في قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة 2/ 237] . 9- المتعة: كسوة كاملة، روى البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه صلّى الله عليه وسلّم بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين «1» » . النساء اللاتي أحلّ الله زواجهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)

_ (1) نوع من الثياب مشهور حينئذ.

الإعراب:

الإعراب: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً منصوب بالعطف على أَزْواجَكَ وعامله: أَحْلَلْنا أو منصوب بتقدير فعل، أي ويحل لك امرأة مؤمنة. إِنْ وَهَبَتْ بالفتح إما بدل من امْرَأَةً أو على حذف حرف الجر، أي لأن وهبت. خالِصَةً لَكَ مصدر مؤكد أو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف، أي هبة خالصة. لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متعلق ب أَحْلَلْنا أي أحللنا لك هذه الأشياء، لكيلا يكون عليك حرج، أي ضيق. وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ كُلُّهُنَّ: مرفوع لأنه تأكيد للضمير الفاعل في يَرْضَيْنَ. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ما: إما مرفوع على البدل من النِّساءُ في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وإما منصوب على أصل الاستثناء، وهو النصب، وما في هذين الوجهين: اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد، فالصلة مَلَكَتْ والعائد محذوف للتخفيف. أو أن تكون ما مصدرية في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. البلاغة: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا، تنويها بشأنه. المفردات اللغوية: أُجُورَهُنَّ مهورهن. وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي ما كان من الإماء بسبب السبي والغنيمة

في الحرب كصفية وجويرية. أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ردّه عليك. اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ من مكة إلى المدينة، بخلاف من لم يهاجرن. يَسْتَنْكِحَها أي إرادته أن ينكحها، فإن هبتها نفسها جار مجرى القبول، والاستنكاح: طلب النكاح والرغبة فيه. خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي خصوصية لك لشرف نبوتك واستحقاقك التكريم، وهو النكاح بلفظ الهبة من غير صداق، وبه احتج الشافعية على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى، وقد خصّ عليه الصلاة والسلام بالمعنى، فيخص باللفظ. قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي على المؤمنين في أزواجهم من الأحكام، من شرائط العقد، ووجوب المهر بالوطء إذا لم يسمّ في العقد، ووجوب القسم بين الزوجات، وألا يزيدوا على أربع نسوة، ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء بشراء أو غيره من أصل رقيق لا من الأحرار، وبأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية، بخلاف المجوسية والوثنية، وأن تستبرأ بحيضة قبل الوطء. لِكَيْلا متعلق ب أَحْلَلْنا. حَرَجٌ ضيق ومشقة. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيما يعسر التحرز عنه. رَحِيماً بالتوسعة في مظان الحرج. تُرْجِي تؤخر من الإرجاء: وهو التأخير، قرئ مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر وأرجأته: إذا أخرته. مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي من أزواجك عن نوبتها. وَتُؤْوِي تضم وتضاجع. ابْتَغَيْتَ طلبت. مِمَّنْ عَزَلْتَ تجنبت، من العزلة: الإزالة والتنحية من القسمة. فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لا إثم عليك، في طلبها وضمها إليك. وهذا تيسير على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كان القسم واجبا عليه. ذلِكَ التخيير. أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أقرب إلى قرة أعينهن وارتياحهن، وتقرّ: تسرّ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء والميل إلى بعضهن، فاجتهدوا في الإحسان، وإنما خيرناك يا رسول الله فيهن تيسيرا عليك في كل ما أردت. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه وبذات الصدور. حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يتقى. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ من بعد التسع التي اخترنك، وهو في حقه كالأربع في حقنا، أو من بعد اليوم، حتى لو ماتت واحدة، لم يحل له نكاح أخرى. وقرئ: يحل وتحل بالياء والتاء، وعلى قراءة الياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أي تتبدل، بأن تطلقهن كلهن أو بعضهن، ثم تتزوج بدل المطلقة. وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ حسن الأزواج المستبدلة، وهو حال من فاعل تَبَدَّلَ. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء، فتحل لك، وهو استثناء من النساء اللاتي يشملن الأزواج والإماء، وقيل: استثناء منقطع، وقد ملك صلّى الله عليه وسلّم بعدهن مارية القبطية، وولدت له إبراهيم ومات في حياته. رَقِيباً مراقبا ومحافظا، فلا تتخطوا ما حدّ لكم.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (50) : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ: أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أم هانئ قالت: نزلت فيّ هذه الآية: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ. أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوجني، فنهي عني، إذ لم أهاجر. وقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً: أخرج ابن سعد عن عكرمة في قوله: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية قال: نزلت في أم شريك الدوسية. وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت جميلة، فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك، فسماها الله مؤمنة، فقال: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فلما نزلت هذه الآية، قالت عائشة: إن الله يسرع لك في هواك. نزول الآية (51) : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ: أخرج الشيخان عن عائشة: أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها! فأنزل الله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الآية، فقالت عائشة: أرى ربك يسارع لك في هواك. وأخرج ابن سعد عن أبي رزين العقيلي قال: همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يطلق

نزول الآية (52) :

من نسائه، فلما رأين ذلك، جعلناه في حلّ من أنفسهن، يؤثر من يشاء على من يشاء، فأنزل الله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية. نزول الآية (52) : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ: أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزواجه اخترن الله ورسوله، فأنزل الله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ. وهذا ما ذكره غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم: أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما تقدم في الآية. المناسبة: سبق الكلام في أنكحة المؤمنين وأحكامها، وهنا خصص الكلام لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي يحل له نكاحهن، وقصر التحريم عليهن، وتخييره في القسم بين الزوجات دون إلزام، بالمبيت عند من يشاء، وترك البيتوتة عند من يريد، وزواجه بهبة المرأة نفسها له بغير صداق، مما يجري مجرى القبول، وكل من ترك إيجاب القسم والزواج بلفظ الهبة خصوصية للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون بقية المؤمنين. التفسير والبيان: 1- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ذكر الله تعالى في هذه الآية أربع مجموعات أو فئات من النساء اللاتي أباح الله لنبيه الزواج بهن، وهذه هي الفئة الأولى وهي النساء الممهورات، والمعنى: يا أيها الرسول،

إنا أبحنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وهي الأجور هنا، والمرأة التي أوتيت مهرها أو صداقها أفضل وأولى ممن لم تأخذ صداقها، فهذه هي الحالة الكاملة التي بدأ النص بها، ويكون الأكمل إيتاء المهر كاملا، دون تأخير شيء منه، وأما تأخير الناس الآن بعض المهر، فهو من مستحدثات العرف، بقصد الحذر، وبسبب التغالي في المهور وتعذر دفع كامل المهر. وقد كان مهره صلّى الله عليه وسلّم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا، أي خمس مائة درهم فضة، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإن النجاشي رحمه الله أمهرها عنه أربع مائة دينار، وإلا صفية بنت حييّ، فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويريّة بنت الحارث المصطلقية أدى عنها نجوم كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس، وتزوجها. 2- وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وهذه هي الفئة الثانية من النساء، وهي الإماء المملوكات. وقد ملك صلّى الله عليه وسلّم كما بيّنا صفية وجويرية، وريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم إبراهيم، وكانتا من السراري. 3- وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أي وأحللنا لك من الأقارب بنات العم، وبنات العمات، وبنات الخال، وبنات الخالة المهاجرات معك، دون غير المهاجرات. وهذه هي الفئة الثالثة التي شرط فيها كون المرأة مهاجرة، ولم تحل له غير المهاجرة كأم هانئ، كما تقدم. والمراد من بنات العم والعمة: القرشيات، فإنه يقال للقرشيين قربوا أم بعدوا: أعمامه صلّى الله عليه وسلّم، ويقال للقرشيات قربن أم بعدن: عماته، والمراد من بنات الخال والخالة: بنات بني زهرة، وقد كان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ستّ من القرشيات، ولم يكن عنده زهرية.

والحكمة في إفراد العم مجاراة مألوف العرب بإفراده في حال إضافة الابن والبنت له، وجاء الكلام في الخال على مثاله، وقيل: جاء الكلام في العمة والخالة بالجمع، وإن كانتا مضافين، لمكان تاء الوحدة، وهي تأبى العموم في الظاهر، وأما عدم الجمع في العم والخال فقد جاء على الأصل من إرادة العموم عند الإضافة. 4- وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك، وهذه هي الفئة الرابعة، وإباحتها بشرطين: هبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ورغبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في نكاحها، والزواج بلفظ الهبة من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم دون سائر المؤمنين، فله الزواج بها من غير مهر ولا ولي ولا شهود. هذه هي الأصناف الأربعة التي أحلها الله لنبيه: الممهورات، والمملوكات، والأقارب، والواهبات أنفسهن من غير مهر. والمراد بالإحلال: الإذن العام بالنكاح. ويلاحظ كما قال ابن عباس ومجاهد: «لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة موهوبة» ، وأما المرأة التي وهبت نفسها له وهي أم شريك الدوسية، فإنها لما قالت للنبي: وهبت نفسي لك، سكت عنها حتى قام رجل، فقال: زوّجنيها يا رسول الله، إن لم تكن لها بها حاجة. وكذلك وهبت نساء أخريات أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها، أخرج ابن سعد «أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ووهب نساء أنفسهن، فلم نسمع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا» . فإن كانت الواهبة نفسها كافرة فلا تحل للنبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه، وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب

الفضائل والكرامة فحظّه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أظهر، فجوز لنا نكاح الحرائر من الكتابيات، وقصر هو لجلالته على المؤمنات، وإذا كان لا يحلّ له من لم يهاجر لنقصان فضل الهجرة، فأحرى ألا تحلّ له الكتابية الحرة، لنقصان الكفر «1» . أما لو وهبت امرأة نفسها لرجل غير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي المفوّضة، وجب عليه لها مهر مثلها بالدخول أو بالموت، وقد حكم بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بروع بنت واشق، لما فوضت نفسها، ومات عنها زوجها، فقضى لها بصداق مثلها. ثم أكد تعالى مضمون جملة خالِصَةً لَكَ.. ببيان مغايرة أحكامه صلّى الله عليه وسلّم لأحكام المؤمنين أحيانا، فقال: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي إن ما ذكر حكمك أيها الرسول مع نسائك، وأما حكم أمتك مع نسائهم، فعندنا علمه، نبينه لهم على حسب مقتضى الحكمة والمصلحة، والمعنى: قد علم الله ما فرض من أحكام وشرائط وقيود في شأن أزواج المؤمنين والمملوكات، مما فيه صلاحهم وجعلهم غير النبي صلّى الله عليه وسلّم في تلك الأحكام، من حصرهم في أربع نسوة حرائر، وما شاؤوا من الإماء المؤمنات والكتابيات غير الوثنيات والمجوسيات، وعدم إباحة الزواج لهم بلفظ الهبة، واشتراط الولي والمهر والشهود. وهذه جملة اعتراضية تؤكد ما سلف وتبينه، ثم ذكر تعالى علة اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأحكام مثلما تقدم، وهو أننا أبحنا أو أحللنا لك ما ذكر من النساء والمملوكات والأقارب والواهبة، لندفع عنك الضيق والمشقة التي تلحقك، وتتفرغ لتبليغ الرسالة، وكان الله وما يزال غفورا لك وللمؤمنين

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1547

ما لا يمكن التحرز عنه، رحيما بك وبهم بدفع الحرج والعنت (المشقة) ، وعدم العقاب على ذنب تابوا عنه. وفي الجملة: إن قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً آنس به تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته. ثم أجاب الله تعالى عن غيرة بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل عائشة من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن تفويضهن أمر القسم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي لك يا رسول الله الحرية المطلقة في القسم بين زوجاتك، فلك أن تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك، وتبيت مع من تشاء، لا حرج لك أن تترك القسم لهن، ولا يجب عليك قسم، بل الأمر لك، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت. ومع هذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم لهن. وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي ومن طلبت إلى المبيت معك ممن تجنبت وتركت البيتوتة معهن، فلا إثم ولا حرج ولا ضيق عليك في ذلك، وكذلك لا ضير عليك في إرجاع من طلقت منهن. ثم أبان الله تعالى سبب هذا التفويض للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الإيواء والإرجاء وأنه لمصلحتهن، فقال: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ، وَلا يَحْزَنَّ، وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم وأنه غير واجب عليك، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، وأنت مع ذلك تقسم لهن باختيارك لا جبرا عنك، فرحن بذلك، واستبشرن به، وقدرن جميلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك فيهن، ورضين كلهن بما تفعل، دون إقلاق ولا بلبلة.

ثم خاطب الله النبي صلّى الله عليه وسلّم وأزواجه بطريق تغليب الذكور، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً أي إن الله عليم تام العلم بالميل إلى بعضهن دون بعض، من غير اختيار، ومما لا يمكن دفعه، وكان الله وما يزال عليما بما تخفيه النفوس، وتكتمه السرائر، حليما يحلم ويغفر، فلا يعاجل المذنبين بالعقوبة، ليتمكنوا من التوبة والإنابة. وفي هذا حثّ على حسن النوايا، وسلامة الطوية، وتحسين معاملة النساء للتغلب على أثر الغيرة. روى الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» زاد أبو داود: يعني القلب. ثم ذكر الله تعالى مجازاة نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي اخترن الله ورسوله، فمنع طلاقهن، وحرّم غيرهن عليه، فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي يحرم عليك أيها الرسول الزواج بغير هؤلاء النساء التسع اللاتي عندك الآن، جزاء لاختيارهن الله ورسوله، أخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: «لما خيّرهنّ، فاخترن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، قصره سبحانه عليهن» . وهذا هو الحكم الأول: تحريم بقية النساء عليه. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وهذا هو الحكم الثاني: منع استبدالهن وتحريم طلاقهن، أي ولا يحلّ لك أيها الرسول أن تتزوج غير اللاتي في عصمتك، وأن تستبدل بهن غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن وتتزوج بدلها أخرى، وإن أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك من الإماء، مثل مارية القبطية التي أهداها المقوقس له، فتسرّى بها، وولدت له إبراهيم ومات رضيعا.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل على جواز النظر إلى المخطوبة، أخرج أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» . وقال المغيرة بن شعبة: «خطبت امرأة، فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل نظرت إليها؟ قلت: لا، قال: انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» . وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي وكان الله وما يزال مطلعا على كل شيء، عالما مراقبا كل ما يكون من أحد وما يحدث في الكون، فاحذروا مخالفة أوامره، فإن الله يجازي كل امرئ بما عمل. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- إباحة أصناف أربعة من النساء للنبي صلّى الله عليه وسلّم توسعة عليه، وتيسيرا له في تبليغ الرسالة، وهنّ: أ- جميع النساء حاشا ذوات المحارم إذا آتاهن مهورهن، وهذا قول جمهور العلماء، بدليل ما أخرجه الترمذي عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحلّ الله تعالى له النساء. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشقّ ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء إلا من سمّي، سرّ نساؤه بذلك. وقد استنبط الكرخي من تسمية المهر أجرا جواز انعقاد النكاح بلفظ الإجارة، ولم يتابعه الحنفية في ذلك، لأن معنى الإجارة يتنافى مع عقد النكاح، إذ الإجارة عقد مؤقت، والنكاح عقد مؤبد يبطله التوقيت. ثم إن النكاح ليس عقد تمليك وإنما هو استباحة، وكذلك المهر في النكاح ليس عوضا، وإنما هو عطية أوجبها الله تعالى، إظهارا لخطر المحل.

ب- السراري مملوكات اليمين اللاتي ردها الله عليه من غنائم الحرب المأخوذة على وجه القهر والغلبة في وقت كان السبي أو الاسترقاق مشروعا في العالم، معاملة بالمثل. ج- قريباته بنات العم والخال والعمة والخالة المهاجرات معه من مكة إلى المدينة، وهن بنات عمه العباس وغيره من أولاد عبد المطلب وبنات أولاد بنات عبد المطلب، وذلك يشمل القرشيات، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة. وقد كان عنده خمس قرشيات، ولم يكن عنده من أولاد الخال والخالة أحد. والمراد بالمعية في قوله: مَعَكَ الاشتراك في الهجرة، لا في الصحبة فيها، فمن هاجر حلّ له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. وذكر الله تعالى العم فردا والعمات جميعا، وكذا الخال والخالات لحكمة عدا ما ذكرنا هي: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة، وهذا عرف لغوي. د- النساء اللاتي وهبن له أنفسهن من غير مهر، وهن أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم. ولكن لم يكن عنده إحدى الواهبات أنفسهن له، إذ لم يقبل منهن أحدا. 2- قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً يدل على أن الكافرة لا تحلّ له، كما بيّنا. وقوله سبحانه: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة. وقوله تعالى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها دليل

على أن الهبة لا تتم إلا بقبول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن قبل حلّت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك، كما إذا وهبت شيئا لرجل، فلا يجب عليه القبول. وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ دليل على أن انعقاد النكاح بلفظ الهبة من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن الهبة لا تحلّ لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح، ولا يحلّ للمرأة أن تهب نفسها لأحد، وهذا قول جمهور العلماء. وقال الحنفية والمالكية: ينعقد النكاح لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة، ويكون للمرأة ما سمي من المهر في العقد، ومهر المثل إن لم يسمّ شيء، وللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول. ومنشأ الخلاف هو في معنى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فذهب جماعة إلى أن الخصوصية في انعقاد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، لقوله تعالى: لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وقوله: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وقوله سبحانه: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ. وهذا رأي الجمهور. وذهب آخرون إلى أن الخصوصية الواردة في الآية هي في نكاح الواهبة بغير مهر، أما عقد النكاح بلفظ الهبة فكان جائزا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته على السواء، أي إن الخصوصية في المعنى دون اللفظ، لأن الله تعالى أضاف لفظ الهبة إلى المرأة بقوله: وَهَبَتْ وأضاف إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إرادة الاستنكاح، فدلت المخالفة على أن المراد مدلول اللفظ الذي من جانب المرأة، وهو ما يدل عليه لفظ الهبة من ترك العوض. 3- ذكر ابن العربي والقرطبي «1» بمناسبة هذه الخصوصية ما خصّ الله تعالى به

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1549- 1553، تفسير القرطبي: 14/ 211- 213

رسوله من أحكام في الشريعة لم يشاركه فيها أحد، سواء في مجال الفرض أو التحريم أو الإباحة، ففرضت عليه أشياء لم تفرض على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وأبيحت له أشياء لم تبح لهم. فأما ما اختص به من الفرائض فهو تسعة: الأول- التهجد بالليل، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل 73/ 1] ، والصحيح أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء 17/ 79] . الثاني- الضحى. الثالث- الأضحى. الرابع- الوتر. الخامس- السواك. السادس- قضاء دين من مات معسرا. السابع- مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن- تخيير النساء. التاسع- إذا عمل عملا أثبته. وأما ما اختص به مما حرّم عليه فهو عشرة: الأول- تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني- صدقة التطوع عليه، وفي آله اختلاف. الثالث- خائنة الأعين: وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. الرابع- حرّم الله عليه إذا لبس لأمته (درعه) أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس- الأكل متكئا. السادس- أكل الأطعمة كريهة الرائحة. السابع- التبدل بأزواجه. الثامن- نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع- نكاح الحرّة الكتابية. العاشر- نكاح الأمة. وحرّم الله عليه أشياء لم يحرّمها على غيره تنزيها له وتطهيرا، فحرّم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته، قال الله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت 29/ 48] . وهذا هو المشهور. وذكر النقاش أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مات حتى كتب.

وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متّع به الناس، قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه 20/ 131] . وأما ما اختص به مما أحلّ له فهو ستة عشر: الأول- صفىّ المغنم. الثاني- الاستقلال بخمس الخمس أو الخمس. الثالث- صوم الوصال. الرابع- الزيادة على أربع نسوة. الخامس- النكاح بلفظ الهبة. السادس- النكاح بغير ولي. السابع- النكاح بغير صداق. الثامن- نكاحه في حالة الإحرام. التاسع- سقوط القسم بين الأزواج عنه. العاشر- إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحلّ له نكاحها. هذا ما قاله إمام الحرمين. وقد بيّنا في قصة زيد بن حارثة أن هذا لا يليق بمنصب النبوة، وكل ما روي مما فيه مساس بذلك هو ساقط غير معتبر ولا دليل عليه «1» . الحادي عشر- أنه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر- دخوله مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر- القتال بمكة. الرابع عشر- أنه لا يورث، ويصبح ملكه صدقة. الخامس عشر- بقاء زوجيته من بعد الموت. السادس عشر- إذا طلّق امرأة تبقى حرمته عليها، فلا تنكح. وأبيح له صلّى الله عليه وسلّم أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب 33/ 6] ، وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا، وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد، ونصر بالرعب، فكان

_ (1) انظر أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1531

يخافه العدو من مسيرة شهر، وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة. وقد انشق القمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وخرج الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم. وكانت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبّح الحصى في يد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وحنّ الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضّله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة. 4- لم يكن القسم بين الزوجات واجبا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، توسعة عليه في ترك القسم وإباحة له، وإنما كان مخيرا في أزواجه ومع هذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم بينهن، دون فرض، تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وهذا أصح ما يراد بالآية. وقيل: كان القسم واجبا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية. قال أبو رزين: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد همّ بطلاق بعض نسائه، فقلن له: اقسم لنا ما شئت، فكان ممن آوى: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن. وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء. 5- قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ بيان الحكمة في التخيير بالقسم، قال قتادة وغيره: أي ذلك التخيير الذي خيّرناك في صحبتهنّ أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرّت أعينهن بذلك ورضين، لأن المرء إذا علم أنه لا حقّ له في شيء، كان راضيا بما أوتي منه وإن قلّ. وإن علم أن له حقّا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غيرته عليه، وعظم

حرصه فيه، فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن، كما قدّمنا، ويقول فيما رواه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها: «اللهم هذه قدرتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، يعني ميل قلبه، لإيثاره عائشة رضي الله عنها، دون أن يكون ذلك ظاهرا في شيء من فعله. وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة. أخرج البخاري في صحيحة عن عائشة قالت: «أول ما اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرّض في بيتها- يعني بيت عائشة- فأذنّ له» وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتفقد، يقول: «أين أنا اليوم، أين أنا غدا؟» استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها، قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري «1» ، صلّى الله عليه وسلّم. 6- على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة، ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها. وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته، إلا أن يعجز عن الحركة، فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صح استأنف القسم. والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء، وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر. روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» .

_ (1) أي بين جنبي وصدري. والسحر: الرئة، أطلق على الجنب مجازا، من باب تسمية المحل باسم الحال فيه، والنحر: الصدر.

ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة، ويجوز عند الأكثرين دخوله لحاجة وضرورة. قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل. فأما الحبّ والبغض فخارجان عن الكسب، فلا يتأتى العدل فيهما، وهو المعنيّ بقوله صلّى الله عليه وسلّم في قسمه: «اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء 4/ 129] وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ [الأحزاب 33/ 51] . 7- قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خبر عام، يدخل فيه الإشارة إلى ما في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من محبة شخص دون شخص، ويدخل في المعنى أيضا المؤمنون. أخرج البخاري عن عمرو بن العاص «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحبّ إليك؟ فقال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، فعدّ رجالا» . والقلب قد يكون مصدر خير أو شر، يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده: اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين، فأتاه باللسان والقلب. ثم أمره بذبح شاة أخرى، فقال له: ألق أخبثها بضعتين، فألقى اللسان والقلب. فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضعتين، فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين، فألقيت اللسان والقلب؟! فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. 8- حظر على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج على نسائه، لأنهن اخترن الله ورسوله

والدار الآخرة، ويكون ذلك قصرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم على أزواجه مجازاة لهن، وشكرا على هذا الاختيار، كما قصرهن الله عليه إكراما له في قوله: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ [الأحزاب 33/ 53] . وقيل: إن هذه الآية منسوخة بالسنة، وهو حديث عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحلّ له النساء. وبه قال الشافعي وقيل: إنها منسوخة بآية أخرى، روى الطحاوي عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحلّ الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله عز وجل: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ. والراجح أن الآية محكمة غير منسوخة، لأن حديث عائشة كما قال ابن العربي حديث ضعيف واه، أي شديد الضعف «1» . وأما نسخها بآية: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ... فقال فيه بعض فقهاء الكوفة: محال أن تنسخ هذه الآية: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. وأما القول بأن الترتيب في التلاوة ليس دليل الترتيب في النزول، فهو صحيح، لكن النسخ في الحقيقة يتطلب أمرين: ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ، وأن يكون بينهما تعارض. وهذان لم يتوافرا هنا. 9- ظاهر قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ناسخ لما كان قد ثبت له صلّى الله عليه وسلّم من أنه إذا رأى واحدة، فوقعت في قلبه موقعا كانت تحرم على الزوج، ويجب عليه طلاقها. وهو دليل على منع تبديل زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي اخترنه وهن تسع.

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1559

قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك. ولكن أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها. قال الطبري: وما فعلت العرب قط هذا. 10- قوله سبحانه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل كما تقدم على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن المغيرة: «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم «1» بينكما» وأخرج البخاري في صحيحة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لآخر: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» أي صفرة أو زرقة أو رمص. والأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها، فلعله يرى منها ما يرغّبه في نكاحها، بدليل ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» فقوله: «فإن استطاع فليفعل» لا يقال مثله في الواجب. وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وغيرهم. واختلف العلماء فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفّيها، ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. وأما قول داود الظاهري: ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ، فأصول الشريعة ترد عليه في تحريم الاطلاع على العورة.

_ (1) أي يؤلف ويوفق.

11- ظاهر عموم قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يدل على إحلال الأمة الكافرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. والأصح أن الكافرة لا تحل له، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة 60/ 10] فكيف به صلّى الله عليه وسلّم؟! 12- إن الذي استقر عليه عدد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كما تقدم هو تسع نسوة مات عنهن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن هذا التعدد لغرض جنسي أو شهواني، وإنما من أجل غاية أسمى هي نشر الدعوة الإسلامية، وتأليف القبائل العربية وترغيبهم في قبول عقيدة الإسلام، والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ظل على زوجة واحدة هي السيدة خديجة بنت خويلد حتى نهاية الرابعة والخمسين، وفي هذه السن تفتر الرغبة الجنسية عادة، وقد تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ثيّب بنت أربعين سنة، ومنها رزق الأولاد، وماتت وهي في سن الخامسة والستين. ثم تزوج بعد خديجة سودة بنت زمعة. وتزوج بعائشة البكر الوحيدة تقديرا لجهود وتضحيات والدها أبي بكر، وتزوج حفصة حبا في عمر، وتقديرا لصدقه وجهاده، مع أنها لم تكن جميلة، وكان زواجه بأم سلمة ذات الأولاد الكثر وفي سن كبيرة تعويضا عن مصابها بزوجها الذي هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وتزوج سودة بنت زمعة العجوز المسن أرملة السكران بن عمرو وفاء له لموته في سبيل الدفاع عن الحق في الحبشة التي هاجر إليها هربا من أذى المشركين، وتزوج زينب بن جحش لإبطال عادة التبني وإلغاء جميع آثاره بتزويج الله له كما بينا، وأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش التي أسلمت قبل أبيها وهاجرت إلى الحبشة، وقد أصدقها النجاشي أربع مائة دينار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها إكراما لها وتقديرا لإخلاصها وصدقها، وصفية بنت حييّ بن أخطب زعيم اليهود تزوجها رأفة بها بعد سبيها، وجويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق، تزوجها بعد سبيها وإعتاقها وكان

آداب دخول البيت النبوي وحجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الأحزاب (33) الآيات 53 إلى 55] :

عمرها زهاء خمسين عاما، فآمنت قبيلتها بالإسلام، وكانت سببا في إسلام خالد بن الوليد البطل الشهير. هذه هي الأسباب الخاصة بالزواج من أمهات المؤمنين، أما الأسباب العامة فتتلخص في أن المصاهرة من أقوى عوامل التالف والتناصر، ونشر دعوة الإسلام في مبدأ أمرها بحاجة إلى الأعوان، وكان المؤمنون يرون أن أعظم شرف مصاهرتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقربهم منه، كما أن تشريعات الإسلام الخاصة بالنساء تحتاج معرفتها إلى نسوة يبلغن الأحكام إلى المسلمات، فكانت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يقمن بهذه المهمة. وأما أسباب تعدد الزوجات لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي كثيرة، منها: إصابة المرأة بالعقم أو بالمرض الفتاك، المعدي أو المزمن، ومنها: قلة الرجال أحيانا كما يحدث عقب الحروب، ومنها: الترغيب في كثرة النسل لتقوية الإسلام، ومنها تفاقم الرغبة الجنسية أحيانا عند بعض الرجال. آداب دخول البيت النبوي وحجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)

الإعراب:

الإعراب: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غَيْرَ منصوب على الحال من واو تَدْخُلُوا. أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ وصلتها: في موضع رفع اسم كانَ وكذلك قوله تعالى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا لأنه عطف عليه. البلاغة: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الإضافة للتشريف. فَادْخُلُوا فَانْتَشِرُوا بينهما طباق، وكذا بين تُبْدُوا تُخْفُوهُ. فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بينهما طباق السلب. بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً عليم وشهيد على وزن فعيل للمبالغة. المفردات اللغوية: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إلا وقت أن يؤذن لكم في الدخول بالكلام أو الإشارة، أو إلا مأذونا لكم. إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن، لأنه متضمن معنى (يدعى) للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن بالدخول، لقوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غير منتظرين نضجه أو وقته وإدراكه. وأنىّ: هو مصدر: أنى يأني، أي أدرك وحان نضجه. فَانْتَشِرُوا تفرقوا ولا تمكثوا. مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي مستمعين لحديث أهل البيت أو لبعضكم بعضا. إِنَّ ذلِكُمْ المكث أو اللبث. كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله واشتغاله فيما لا يعنيه. فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم. وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك بيان الحق وهو الأمر بخروجكم.

سبب النزول نزول الآية (53) :

وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي سألتم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم. مَتاعاً شيئا محتاجا إليه ينتفع به. فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر الشيطانية المريبة. وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم. أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أن تفعلوا ما يكرهه. كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ذنبا عظيما. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ من التحدث بزواجهن بعده. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعلم ذلك، فيجازيكم عليه. قال البيضاوي: وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل، ومبالغة في الوعيد. لا جُناحَ لا إثم. وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء. وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية. سبب النزول: نزول الآية (53) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا: أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. وأخرج الترمذي وحسنه عن أنس قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتى باب امرأة عرّس بها، فإذا عندها قوم، فانطلق، ثم رجع، وقد خرجوا، فدخل، فأرخى بيني وبينه سترا، فذكرته لأبي طلحة، فقال: لئن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء، فنزلت آية الحجاب.

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في قعب، فمرّ عمر، فدعاه، فأكل، فأصابت أصبعه أصبعي، فقال: أوّه لو أطاع فيكنّ، ما رأتكنّ عين، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية البخاري: أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأطال الجلوس، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل، فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية: «بقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا» . قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب. قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا: قال البيضاوي: الآية خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيدخلون ويقعدون، منتظرين لإدراكه، مخصوصة بهم وبأمثالهم، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام، ولا اللبث بعد الطعام لمهمّ. أخرج عبد بن حميد عن أنس قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وأخرج ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال: نزلت هذه في الثقلاء، ومن ثم قيل: هي آية الثقلاء.

وقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ: أخرج ابن زيد قال: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا يقول: لو قد توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجت فلانة من بعده، فنزلت: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية. وأخرج ابن زيد أيضا عن ابن عباس قال: نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده، قال سفيان: ذكروا أنها عائشة. وأخرج عن السدّي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا، ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فأنزلت هذه الآية. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال: إذا توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة. وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا، فقال: يا رسول الله: إنها ابنة عمي، والله ما قلت منكرا، ولا قالت لي، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قد عرفت ذلك، إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني، فمضى، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي؟ لأتزوجنها من بعده، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيا، توبة من كلمته. والخلاصة: رويت روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات قال فيها أبو بكر بن العربي: إنها ضعيفة كلها ما عدا الذي ذكرنا- أي رواية أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس- وما عدا الذي روي أن عمر قال: قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب.

المناسبة:

وقد كان سبب نزول أدب الطعام والجلوس وليمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند زواجه بزينب، وسبب نزول الحجاب بسبب القعود في بيت زينب. المناسبة: بعد بيان حال النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أمته بأنه المبشر المنذر الداعي إلى الله تعالى، أبان الله تعالى حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكما أن دخولهم الدين كان بدعوته، كذلك لا يكون دخول بيته إلا بدعوته، إرشادا إلى الأدب معه واحترامه وتوفير راحته في بيته، ثم تعظيمه بين الناس بالأمر بعد هذه الآيات بالصلاة والسلام عليه. ولا يقتصر الأدب معه على الدخول إلى بيته، بل يشمل الخروج منه بعد انتهاء الحاجة من استفتاء أو تناول طعام، فذلك حق وأدب، ثم ذكر الله أدبا آخر، وهو طلب شيء من الحوائج من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم مع وجود حجاب أو ستر أو حائل. ومناسبة هذا لما قبله أنه لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى استعارة بعض الحوائج، بيّن أن ذلك غير ممنوع منه، وإنما يجب أن يكون السؤال والطلب من وراء حجاب. التفسير والبيان: تضمنت هذه الآيات آدابا عامة في الدخول إلى البيوت والخروج منها، والحجاب وعدم الاختلاط وتحريم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وزواج نسائه من بعده. وهي مما وافق الوحي فيها وتنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة 2/ 125] . وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل

عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تمالأن عليه: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك. وآية الحجاب هذه- كما ذكر قتادة والواقدي- نزلت في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، وقد صدّرت الآية بأدب اجتماعي يدفع الحرج عن النبي، فقال تعالى: 1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي يا أيها الذين صدقوا بالله ربّا وبمحمد رسولا إياكم أن تدخلوا بيتا من بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل الأحوال إلا في حال كونكم مصحوبين بالإذن بأن دعيتم إلى وليمة طعام، غير منتظرين وقت نضجه واستوائه، فإذا تم النضج وتوافر الإعداد فادخلوا حينئذ. وهذا قوله تعالى: 2- وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إذا دعاكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله، فإذا تناولتم الطعام الذي دعيتم إليه فتفرقوا ولا تمكثوا فيه من أجل تبادل أطراف الحديث والتحدث في شؤون الدنيا. وهذا دليل على حظر المؤمنين من دخول منازل النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن، وعدم ارتقاب نضج الطعام، وعلى حرمة التطفل، وعلى عدم البقاء في البيوت بعد الأكل، للاشتغال بلهو الحديث مع بعضكم أو مع أهل البيت، فذلك أمر غير مرغوب فيه، ونوع من الثقل غير محمود لأن أهل البيت بحاجة إلى التفرغ لتنظيف الأواني والراحة من عناء إعداد الطعام، لذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما

رواه أحمد والشيخان والترمذي عن عقبة بن عامر: «إياكم والدخول على النساء» . وعلل تعالى طلب مغادرة البيوت بعد الطعام بقوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي إن بقاءكم واشتغالكم بالحديث والدخول قبل نضج الطعام كان يؤذي النبي- وإيذاؤه حرام- ويشق عليه، لمنعه من قضاء بعض حاجته، ولما فيه من المضايقة لأهل البيت، ولكن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه صلّى الله عليه وسلّم، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، والله لا يترك بيان الحق وهو الأمر بالخروج ومنعهم من البقاء والمكث. وهذا أدب عام لا يقتصر على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل سائر المؤمنين. ويحرم اللبث إذا كان فيه إيذاء لصاحب البيت. وقد نصت آيات سورة النور [27- 31] على بيوت المؤمنين وآية الأحزاب [59] في حجاب نسائهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. 3- وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي وكما نهيتكم عن الدخول إلى بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير إذن ودون انتظار إدراك الطعام، كذلك نهيتكم عن النظر إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا طلبتم منهن شيئا ينتفع به، من ماعون وغيره، فاطلبوه من وراء حجاب ساتر، وحائل مانع من النظر. وسبب النهي عن ذلك، والأمر بالحجاب كما قال تعالى: ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي إن هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الدخول بالإذن، والخروج عقب الطعام دون الاستئناس بالحديث، والحجاب أطهر وأطيب للنفس، وأبعد عن الريبة والتهمة والفتنة، وأكثر طمأنينة للقلوب من الهواجس والوساوس الشيطانية.

ولما علّم الله المؤمنين أدب الدخول إلى البيوت وصون الأذن والعين من النظر المحرّم، أكده بما يحملهم على محافظته، فقال: 4- وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي ما صح وما ينبغي لكم أن تكونوا سببا في إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تفعلوا فعلا يضايقه ويكرهه، كالمكث في منزله والاشتغال بالحديث، فكل ما منعتم عنه مؤذ، فامتنعوا عنه، فإنه صلّى الله عليه وسلّم حريص على ما فيه إسعادكم وخيركم في الدنيا والآخرة، ومن أشد أنواع الأذى ومما هو حرام عليكم أن تتزوجوا أبدا بنسائه بعد مفارقتهن بموت أو طلاق، تعظيما له، ولأنهن أمهات المؤمنين، ولأنه ذنب عظيم كما قال تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي إن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونكاح أزواجه من بعده ذنب عظيم وإثم كبير. وفي هذا تعظيم الأمر، وتشديد فيه وتوعد عليه، ثم أكد ذلك بالبعد عن الإيذاء في الباطن والظاهر فقال: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي إن تظهروا شيئا من الأذى أو تكتموه، فإن الله عليم علما تاما دقيقا به، يعلم ما تكنّه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، ولا تخفى عليه خافية: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر 40/ 19] وهو مجاز كل إنسان بحسب ذلك العلم. ثم استثنى الله تعالى من حكم حجاب أزواج النبي على الأجانب المحارم ونساء المؤمنين والأرقاء، فقال: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي لا إثم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ترك الحجاب أمام آبائهن

فقه الحياة أو الأحكام:

وأجدادهن، سواء من جهة النسب أم من جهة الرضاع، أو أبنائهن من النسب أو الرضاع، أو إخوانهن الأشقاء أو لأب أو لأم، أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو أمام النساء المؤمنات القريبات أو البعيدات، أو الأرقاء من الذكور والإناث، إبعادا للحرج والمشقة في ذلك بسبب الخدمة. ثم ختمت الآية بما ينبه على زيادة الحذر والتقوى، فقال تعالى فيما معناه: واخشين الله في السرّ والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبنه، فإنه يجازي على كل عمل من خير أو شر لأنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة كل شيء، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي. ونساء المؤمنين كنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، بدليل آية النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ.. [31] . وأما السبب في عدم ذكر العم والخال في هاتين الآيتين فهو- كما ذكر عكرمة والشعبي- لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما، أو لأن العم والخال بمنزلة الوالدين، وقد يسمى العم أبا، كما قال تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة 2/ 133] . فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات الأحكام التالية: 1- الأدب في أمر الطعام والجلوس، فلا يجوز دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا

بالإذن، والدخول حرام إلا لأجل الأكل ونحوه، وظاهر الآية حرمة مكث المدعو بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت. ودخل في النهي سائر بيوت المؤمنين، فلا يجوز دخولها إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار الطعام. 2- يجب التفرق والخروج من البيت والانتشار في أرض الله تعالى بعد تناول الطعام، وانتهاء المقصود من الأكل ونحوه، لقوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا والمراد من الأمر: إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل، بدليل أن الدخول من غير إذن حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح، وعاد التحريم إلى أصله. 3- قوله تعالى: بُيُوتَ النَّبِيِّ دليل على أن البيت للرجل، ويحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه إضافة ملك. وأما الإضافة في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب 33/ 34] فهي إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والإذن إنما يكون للمالك. وأما سكنى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيوته في حياته وبعد موته من غير تملك، فهو حق لهن على الصحيح فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر وعثمان وغيرهما: «لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي، فهو صدقة» ويدل لذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن، وعدم الإرث دليل على أنها لم تكن ملكا لهن، وإنما كان لهن سكنى حياتهن، فلما توفّين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزيد إلى أصل المال، فصرف في منافع المسلمين مما يعمّ جميعهم نفعه.

4- قوله تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا خص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول «1» . 5- في قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا دليل آخر في غير إلزام الخروج بعد انتهاء الأكل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه قال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله. 6- قوله تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ دليل على أن المكث في المنزل بعد الطعام للاستئناس بالحديث أمر غير مرغوب فيه، وأدب يجب التزامه. 7- وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره دليل على ألا حياء في معرفة أحكام الدين وبيان الشرع. جاء في الصحيح عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأت الماء» . 8- وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً الصواب في المتاع كما قال القرطبي: أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا. 9- فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، فلا يجوز كشف شيء من جسدها إلا لحاجة

_ (1) أحكام القرآن: 3/ 1565

كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيّن كون الجواب عندها. قال القاضي عياض: فرض الحجاب بما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة. 10- استدل بعض العلماء من الأخذ عن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها، وهو رأي المالكية والحنابلة في قبول شهادته، ولا تقبل شهادته في رأي الحنفية والشافعية. 11- إن الحجاب وسيلة ناجعة في طهارة القلب من هواجس السوء وخواطر المعصية، سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية والتحصن. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته. 12- قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ دليل على تعليل الأحكام، ثم إن بيان العلة وتأكيد إيرادها يقوي دلالة الأحكام الشرعية على المطلوب. وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدثهم نفوسهم بإيذائه إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها. 13- يحرم التزوج بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد مفارقتهن بطلاق أو موت، تعظيما للنبي، ولكونهن أمهات المؤمنين، والمسلم لا يتزوج أمه. واختلف العلماء في وجوب العدة عليهن بالموت، فقيل: عليهن العدة لأن العدة عبادة، وقيل: لا عدة عليهن لأنها مدة تربّص (انتظار) لا ينتظر بها إباحة الزواج، قال القرطبي: وهو الصحيح لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت بعد نفقة عيالي» وروي «أهلي» وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة

والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه صلّى الله عليه وسلّم لهن بمنزلة المغيب في حق غيره لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا، بخلاف سائر الناس لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة» وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر: «كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي، فإنه باق إلى يوم القيامة» . وأما النساء اللاتي فارقهن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الدخول، فالصحيح جواز نكاحهن لغيره، كالكلبية التي تزوجها عكرمة بن أبي جهل، وقيل: تزوجها الأشعث بن قيس الكندي، وقيل: إنه مهاجر بن أبي أمية. 14- إن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو نكاح أزواجه من الذنوب الكبائر، ولا ذنب أعظم منه. 15- الله تعالى عالم بكل ما بدا وما خفي، وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض انقضى، ولا مستقبل آت، فهو سبحانه يعلم ما يخفيه الإنسان من المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيه عليها. والتذييل بهذه الآية توبيخ ووعيد لمن يضمر السوء في مخاطبة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأزواج المؤمنين أيضا. 16- استثنى الله تعالى من فرضية الحجاب على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الأقارب المحارم من النسب أو الرضاع، وهم الآباء والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات والنساء المؤمنات، وهو رأي ابن عباس ومجاهد، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكافرات. ويرى بعضهم أن المراد منهن النساء القريبات، وتكون إضافتهن إليهن

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وجزاء إيذائه وإيذاء المؤمنين [سورة الأحزاب (33) الآيات 56 إلى 58] :

لمزيد اختصاصهن بهن، لما لهن من صلة القرابة، وكذلك الخادمات. وأيضا ما ملكت أيمانهن من الذكور والإناث. 17- توّج الله تعالى آية الحجاب واستثناء المحارم بالأمر بالتقوى، كأنه قال: اقتصرن على هذا، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره، وخصّ النساء بهذا الأمر وعيّنهن، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن، ثم توعد تعالى بأنه رقيب على كل شيء بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي أنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة، فيجازي على ما يكون. تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم وجزاء إيذائه وإيذاء المؤمنين [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) البلاغة: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد. المفردات اللغوية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، أي يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. والصلاة في اللغة: الدعاء، يقال: صلى عليه، أي دعا له. وهي من الله: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: دعاء وتعظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم. صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً

سبب النزول نزول الآية (57) :

أي اعتنوا أنتم أيضا بالصلاة عليه، فإنكم أولى بذلك، وقولوا: اللهم صل وسلّم على محمد. والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة، وتجوز الصلاة على غيره تبعا له، وتكره استقلالا لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسل، كما ذكر البيضاوي والشوكاني وغيرهما، فلا يقال: صلّى الله على فلان، أو فلان عليه السلام، وقد اتفق العلماء على أن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرض على كل مسلم، وأقلها في العمر مرة. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي وهم الكفار يصفون الله بما هو منزه عنه من الولد والشريك، ويكذبون رسوله صلّى الله عليه وسلّم. لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم وطردهم من رحمته. عَذاباً مُهِيناً ذا إهانة وغاية في الإهانة مع الإيلام، وهو النار. بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا يرمونهم بغير جناية استحقوا بها الإيذاء، أو بغير ما عملوا. احْتَمَلُوا بُهْتاناً تحملوا كذبا. وَإِثْماً مُبِيناً أي ذنبا ظاهرا واضحا. سبب النزول: نزول الآية (57) : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية قال: نزلت في الذين طعنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين اتخذ صفية بنت حييّ زوجة له. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن أبيّ وناس معه قذفوا عائشة، فخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يعذرني في رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني» ، فنزلت. وروي أنها نزلت في منافقين يؤذون عليا رضي الله عنه، وقيل: في أهل الإفك كما تقدم، وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات. نزول الآية (58) : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله عنها، فخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يعذرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني» .

المناسبة:

وقيل: نزلت في أناس من المنافقين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب. وقيل: نزلت فيمن آذى عمر لضربه جارية من الأنصار متبرجة. وقال جماعة: نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن. المناسبة: بعد أن أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما، أكمل ذلك ببيان مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى، وما يجب له من احترام في الملأ الأدنى، ثم أردفه بتبيين أضداد الاحترام، فنهى عن إيذاء الله، بمخالفة أوامره وارتكاب معاصيه، وعن إيذاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالطعن فيه أو في أهل بيته، أو بنسبة عيب أو نقص فيه. التفسير والبيان: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي إن الله يصلي على نبيه بالرحمة والرضوان، والملائكة تدعو له بالمغفرة ورفعة الشأن، لذا فأنتم أيها المؤمنون بالله ورسوله قولوا: اللهم صلّ وسلّم على محمد، أي ادعوا له بالرحمة ومزيد الشرف والدرجة العليا. ويلاحظ الاهتمام بالحكم من طريق مجيء الخبر مؤكدا ب «إنّ» والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام، وأن مجيء الجملة اسمية في صدرها: إِنَّ اللَّهَ فعليه في عجزها: يُصَلُّونَ للدلالة على أن الثناء من الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم يتجدد على الدوام. وهذه الآية بمثابة العلة لما ذكر قبلها من أن شأن المؤمنين ألا يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكأنه قيل: ما كان لكم أن تؤذوه لأن الله يصلي عليه والملائكة، وما دام الأمر كذلك، فهو لا يستحق إلا الاحترام والإكرام. وقد بدئت الآية بالجملة الاسمية لإفادة الدوام، وانتهت بالجملة الفعلية للإشارة إلى أن

هذا الإكرام والتمجيد يتجدد مع مرور الزمان على الدوام. ويكون المقصود من الآية أن الله تعالى أخبر عباده بمنزلة نبيه وعبده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه، لذا أمر الله تعالى العالم الدنيوي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين: العلوي والسفلي جميعا. والصلاة كما بينا من الله الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء بالمغفرة والتعظيم لشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكيفية الصلاة عليه تعرف بالأحاديث المتواترة التي منها: ما رواه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟! قال: قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» . وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري قلنا: «يا رسول الله، هذا السلام عليك، قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم» . وأما التسليم فهو بأن يقولوا: السلام عليك يا رسول الله، ومعنى «السلام عليك» الدعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص.

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة والسلام على رسول الله، منها: ما رواه أحمد وابن ماجه عن عامر بن ربيعة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى عليه، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» . ومنها: ما رواه أحمد أيضا والنسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء ذات يوم، والسرور- أو البشر- يرى في وجهه، فقالوا: يا رسول الله، إنا لنرى السرور- أو البشرى- في وجهك، فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلّي عليك أحد من أمّتك إلا صلّيت عليه عشرا، ولا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا، قلت: بلى» . ومنها: ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى علي واحدة، صلّى الله عليه بها عشرا» . لذا أوجب الشافعي الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وجعلها ركنا في التشهد الأخير من الصلاة، وتستحب عنده في التشهد الأول. واتفق العلماء على وجوب الصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة في العمر، عملا بما يقتضيه الأمر صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد لأن الصحيح أن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما هو للماهية، المطلقة عن قيد التكرار والمرة، وحصوله مرة ضرورة لتحقيق مجرد الماهية. وأما القول بالوجوب كلما ذكر، أو في كل مجلس مرة، أو الإكثار منها من غير تقيد بعدد، فهو استدلال بالأحاديث المرغبة في فعلها والمرهبة من

تركها، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 6/ 160] الذي هو ترغيب في الإحسان. ويسن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم الجمعة وعند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم، وبعد النداء للصلاة، وفي صلاة الجنازة، روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ - يعني وقد بليت- قال: «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» . وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى عليّ صلّى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» : وروى النسائي عن أبي أمامة أنه قال: من السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويخلص الدعاء للجنازة، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها، ثم يسلم سرا في نفسه. وروى أبو داود، وصححه النووي في الأذكار، كما صحح الحديث المتقدم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما منكم من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أردّ عليه السلام» . ولا شك بأن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلبة للخير

والثواب، وسبب لدخول الجنة، ومذهبة للهم والحزن، وطرد للنسيان، أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يصلّ علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة» . وبعد الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، عاد الكلام إلى النهي عن إيذاء الله بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بوصفه بعيب أو نقص فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً أي إن الذين يصدر منهم الأذى لله ورسوله بارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان، كقول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام آلهة شركاء لله، وقولهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه شاعر، أو ساحر أو كاهن أو مجنون، إن هؤلاء الذين يؤذون الله ورسوله طردهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة، وهيأ لهم عذابا مهينا محقرا مؤلما في نار جهنم. وهذا دليل على أنه تعالى لم يحصر جزاءهم في الإبعاد من رحمته، بل أوعدهم وهددهم بعذاب النار الأليم. والآية عامة في كل من آذى النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء، فمن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله، كما قال الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب. وبعد بيان شأن الذين يؤذون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، أبان الله تعالى ما يناسب ذلك، وهو حكم الذين يؤذون المؤمنين، فقال:

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي والذين يؤذون أهل الإيمان من الرجال والنساء بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل، وسواء أكان الإيذاء للعرض، أو الشرف أو المال، بأن ينسبوا إليهم ما هم برآء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، فهو إيذاء بغير حق، كأن يشتم المؤمن أحدا، أو يضربه، أو يقتله، فقد أتوا بالكذب المحض والبهتان الكبير: وهو نسبة شيء لهم لا علم لهم به ولم يفعلوه، على سبيل العيب والإنقاص، وارتكبوا ذنبا واضحا بينا. ونظير الآية: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النساء 4/ 112] . والبهتان: الفعل الشنيع، أو الكذب الفظيع. ومن أشد أنواع الأذى: الطعن في الصحابة، والغيبة، واستباحة عرض المسلم، روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن المغفّل المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» . وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة: أنه قيل: «يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» . وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.

فقه الحياة أو الأحكام:

فإن كان الإيذاء بحق لم يحرم، مثل الإيذاء بالقصاص، والإيذاء بقطع اليد في السرقة، والإيذاء بالتعزيرات المختلفة، وقتال المرتدين، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . فهم أبو بكر رضي الله عنه من هذا الحديث أن الزكاة حق المال، فقاتل مانعيه من أجله، وقال: «والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله، لقاتلتهم عليه» وحاجه في ذلك عمر فقال: «إلا بحقها» والزكاة حق الأموال، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن آية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم تشريف له حياته وموته، وتنويه بمنزلته ومكانته السامية، والصلاة كما بينا من الله: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: الدعاء والتعظيم لأمره. 2- أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أنها فرض في العمر مرة، وسنة مؤكدة في كل حين لا يسع المسلم تركها، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. وقد عرفنا صفة الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي صيغة الصلاة الإبراهيمية، وبينا فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو كما ورد عنه فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «من صلّى علي واحدة، صلّى الله عليه بها عشرا» وقال أيضا: «من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب» «1» . وقال سهل بن عبد الله: الصلاة

_ (1) لكن قال عنه ابن كثير: ليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة.

على محمد صلّى الله عليه وسلّم أفضل العبادات لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. وقال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يرد ما بينهما. وأما الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فهي سنة مستحبة عند الجمهور، فإن تركها فصلاته مجزية، وواجبة لدى الشافعي، فمن تركها فعليه الإعادة. وأما الصلاة على غير الأنبياء: فإن كانت على سبيل التبعية مثل: اللهم صل على محمد وآله، وأزواجه، وذريته، فهذا جائز بالإجماع، فإن أفردوا فقال جماعة: يجوز ذلك لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب 33/ 43] وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة 2/ 157] وقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة 9/ 103] وحديث الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلى على آل أبي أوفى» وحديث جابر أن امرأته قالت: يا رسول الله، صلّ عليّ وعلى زوجي، فقال: «صلّى الله عليك وعلى زوجك» . وقال جمهور العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال: أبو بكر صلّى الله عليه، أو قال عليّ صلّى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وأما ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك، فمحمول على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته.

والصحيح أن هذا المنع من الصلاة على غير الأنبياء مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم. والسلام هو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام، وهذا سواء في الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم، أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه. وقال النووي: إذا صلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: صلّى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. 3- إن من يؤذي الله ورسوله يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وله عذاب محقر مؤلم في نار جهنم. وإيذاء الله: يكون بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] ، وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] ، وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة 9/ 30] ، وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر. أقلّب ليله ونهاره» ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى: «يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلّب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما» . هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية. وقد جاء مرفوعا عنه بلفظ آخر عند مسلم أيضا: «يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر أقلّب الليل

والنهار» . وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله المصوّرين» . والطعن في تأمير أسامة بن زيد «1» لغزو «أبنى» قرية عند مؤتة أذية له صلّى الله عليه وسلّم، من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة، ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد خروج هذا الجيش إلى ظاهر المدينة، فنفّذه أبو بكر بعده صلّى الله عليه وسلّم. جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده» . وفي هذا الحديث دلالة على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى، ويؤكده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدّم سالما مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم، وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش. 4- إن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير حق بالأقوال أو الأفعال القبيحة بهتان وإثم واضح. ومن أنواع الأذى: التعيير بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه. وقد ميّز الله بين أذاه سبحانه وأذى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأذى المؤمنين، فجعل الأول كفرا موجبا اللعن، والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.

_ (1) كان أسامة رضي الله عنه يدعى: الحبّ ابن الحبّ، وكان أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض. [.....]

آية جلباب النساء لستر العورة [سورة الأحزاب (33) آية 59] :

آية جلباب النساء لستر العورة [سورة الأحزاب (33) : آية 59] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) المفردات اللغوية: يُدْنِينَ الإدناء: التقريب، والمراد الإرخاء والسدل على الوجه والبدن، وستر الزينة، ولذا عدّي بعلى مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع جلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق القميص، أو الثوب الذي يستر جميع البدن. ومِنْ للتبعيض، فإن المرأة تغطي بعض جلبابها وتتلفع ببعض، والمراد: يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا شيئا قليلا كعين واحدة ذلِكَ أي إدناء الجلابيب أَدْنى أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أي أقرب إلى أن يميزن بأنهن حرائر، ويبعدن عن الإساءة فَلا يُؤْذَيْنَ أي فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن لترك الستر رَحِيماً بعباده، حيث يراعي مصالحهم بالأمر بالستر وغيره. سبب النزول: أخرج البخاري عن عائشة قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن، لكن أن تخرجن لحاجتكن.

المناسبة:

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي مالك قال: كان نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ. المناسبة: بعد بيان أن من يؤذي مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا، منعا وزجرا للمكلف من إيذاء المؤمن، أمر الله تعالى المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم التي قد تؤدى إلى الإيذاء، بالتستر وإرخاء الجلباب، خلافا لما كان عليه الحال في الجاهلية من خروج النساء مكشوفات يتبعهن الزناة. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي يطلب الله من رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر النساء المؤمنات وبخاصة أزواجه وبناته إذا خرجن من بيوتهن بأن يسدلن ويغطين من جلابيبهن ليتميزن عن الإماء. والجلباب: الرداء فوق الخمار. وهناك روايات في كيفية هذا التستر. - قال ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. - وقال محمد بن سيرين فيما رواه ابن جرير عنه: سألت عبيدة السّلماني عن قول الله عز وجل: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فغطّى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى.

- وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار، كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. والمقصود بالآية التي نزلت بعد استقرار الشريعة أن يكون الستر المأمور به زائدا على ما يجب من ستر العورة، وهو أدب حسن يبعد المرأة عن مظان التهمة والريبة، ويحميها من أذى الفساق. واللباس الشرعي: هو الساتر جميع الجسد، الذي لا يشف عما تحته، فإن كانت المرأة في بيتها وأمام زوجها فلها أن تلبس ما تشاء. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي إن إدناء الجلابيب أو التستر أقرب أن يعرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، فلا يتعرّض لهن بالأذى من أهل الفسق والريبة، وكان الله غفورا لما سلف منهن من إهمال التستر، ولمن امتثل أمره إذا أخل بالتستر خطأ بغير قصد، واسع الرحمة بعباده حيث راعى مصالحهم وأرشدهم إلى هذا الأدب الحسن. أما الإماء فلم يكلفهن الشرع بالتستر الكامل دفعا للحرج والمشقة في التقنع، وتيسيرا لهن القيام بخدمات السادة. هذا رأي الجمهور. وقال أبو حيان: والظاهر أن قوله: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن، بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن- أي الإمام- من عموم النساء إلى دليل واضح «1» .

_ (1) البحر المحيط: 7/ 250

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية على ما يأتي: 1- الأمر بالتقنع والتستر عام يشمل جميع النساء، وذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها، فلها أن تلبس ما شاءت لأن له أن يستمتع بها كيف شاء. ومن المأمورات بالستر: زوجات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبناته. أما زوجاته فقال قتادة: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تسع: خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية، وأما أولاده: فكان للنبي صلّى الله عليه وسلّم أولاد ذكور وإناث. وأولاده الذكور: القاسم والطاهر وعبد الله والطيب أبناء خديجة. وبناته: فاطمة الزهراء بنت خديجة زوجة علي رضي الله عنهما، وزينب بنت خديجة زوجة ابن خالتها أبي العاص، ورقيّة وأم كلثوم بنتا خديجة، زوجتا عثمان، كما تقدم سابقا. ويلاحظ أن الدعوة لا تثمر إلا إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله، لذا بدأ الأمر بالحجاب بنساء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبناته. 2- صورة إرخاء الجلباب: تغطية المرأة جميع جسدها إلا عين واحدة تبصر بها، كما قال ابن عباس وعبيدة السّلماني. وقال قتادة، وابن عباس في رواية أخرى: أن تلويه فوق الجبين وتشدّه، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن البصري: تغطي نصف وجهها.

تهديد المنافقين وجزاؤهم [سورة الأحزاب (33) الآيات 60 إلى 62] :

3- الحكمة من أمر الحرائر بالتستر هي ألا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى معارضة، مراعاة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن. 4- وقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع. 5- في الطبقات الكبرى لابن سعد أن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم، حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم. هذا وقد استدل بالآية على لزوم تغطية وجه المرأة لأن العلماء والمفسرين كابن الجوزي والطبري وابن كثير وأبي حيان وأبي السعود والجصاص الرازي فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجوه والأبدان والشعور عن الأجانب، أو عند الخروج لحاجة. تهديد المنافقين وجزاؤهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) الإعراب: مَلْعُونِينَ إما منصوب على الحال من واو لا يُجاوِرُونَكَ وإما منصوب على الذم، أي أذمّ ملعونين.

البلاغة:

سُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد. البلاغة: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ المرجفون هم من المنافقين، ففيه ذكر الخاص بعد العام، زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم. ثُقِفُوا أُخِذُوا بينهما طباق. وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد. المفردات اللغوية: لَئِنْ اللام لام القسم لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف إيمان وقلة ثبات عليه، أو فسوق وعصيان وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ هم اليهود وغيرهم المشيعون للأكاذيب والأباطيل الملفقون أخبار السوء ونشرها بين جنود المسلمين قائلين: قد أتاكم العدو، وسرايا المسلمين هزموا أو قتلوا أو غلبوا، ونحو ذلك من الأخبار المتضمنة توهين جانب المسلمين، من الإرجاف والرّجفان: الزلزلة والاضطراب الشديد. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنسلطنك عليهم ولنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ يساكنونك، والعطف ب ثُمَّ للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعظم ما يصيبهم مَلْعُونِينَ مبعدين عن الرحمة، أي لا يجاورونك إلا ملعونين ثُقِفُوا وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي أن هذا الحكم فيهم مأمور به. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية، وهو أن يقتل المنافقون الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا، وخلوا: مضوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي لأنه لا يبدلها الله، أو لا يقدر أحد أن يبدلها. المناسبة: هذا هو الصنف الثالث من المؤذين، فبعد أن ذكر الله تعالى حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، وأتبعه بذكر المجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسرّ المبطن الذي يظهر الحق، ويضمر الباطل، وهو المنافق. ثم ذكر مظاهر ثلاثة للنفاق في مواجهة الأقوام الثلاثة المؤذين: وهم المؤذون

التفسير والبيان:

الله، والمؤذون الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمؤذون المؤمنين، وهذه المظاهر: هي المنافق الذي يؤذي الله سرا، والذي في قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه، والمرجف الذي يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإرجاف، بقوله: غلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ أسيرا. وهذا كله من آثار النفاق العملي. التفسير والبيان: توعد الله المنافقين وحذرهم وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فقال: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لئن لم يكف المنافقون عما هم عليه من النفاق، والذين في قلوبهم ضعف إيمان وشك وريبة في أمر الدين، وأهل الإرجاف في المدينة الذين يشيعون الأخبار الملفقة الكاذبة المتضمنة توهين جانب المسلمين، وإظهار تفوق المشركين وغلبتهم عليهم، لنسلطنك عليهم ونأمرنك بقتالهم وإجلائهم عن المدينة، فلا يساكنونك فيها إلا زمنا قليلا. وهذه الأوصاف الثلاثة: النفاق، ومرض القلب، والإرجاف هي لشيء واحد، فإن من لوازم النفاق مرض القلب بضعف الإيمان، والإرجاف بالفتنة وإشاعة أخبار السوء، والمنافقون متصفون بهذه الأوصاف الثلاثة كلها. وكل وصف من هذه الأوصاف خطر على المجتمع الإسلامي، سواء إبطان الكفر، أو الفسوق والعصيان وتتبع النساء للاطلاع على عوراتهن والإساءة لهن بالقول القبيح والفعل الشنيع، أو إشاعة الأكاذيب المغرضة التي تنشر القلق والخوف والاضطراب، وتضعف من معنويات الجماعة، مما يسهل هزيمتهم، وانتصار الأعداء عليهم. ثم الله أبان تعالى جزاءهم في الدنيا والآخرة فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي إنهم في حال مدة إقامتهم في المدينة فترة زمنية قليلة مطرودون من رحمة الله منبوذون، وأينما وجدوا وأدركوا أخذوا لذلتهم وقلتهم، وقتّلوا شر تقتيل، فلن يجدوا أحدا يؤويهم، بل ينكل بهم ويؤسرون ويقتّلون تقتيلا شديدا يستأصلهم. وهذا دليل على أخذهم أسرى، والأمر بقتلهم إذا ظلوا على النفاق، وقد كان ذلك في أواخر حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ثم أوضح الله تعالى أن هذا الجزاء عام في جميع المنافقين الغابرين واللاحقين فقال: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي إن هذا الحكم- وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم- هو سنة الله وطريقته في المنافقين في كل زمان مضى، إذا بقوا على نفاقهم وكفرهم، ولم يرجعوا عما هم عليه، وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير، لقيامها على الحكمة والمصلحة وصلاح الأمة، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء على ممر التاريخ. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما هو آت: 1- اتفق أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة: النفاق، ومرض القلب، والإرجاف لشيء واحد كما تقدم، أي إن المنافقين قد جمعوا هذه الأشياء «1» . والآية دليل على تحريم الإيذاء بالإرجاف وعلى أن تتبع عورات النساء نفاق.

_ (1) قالوا: والواو مقحمة، كما قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم أي إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة.

توعد الكفار بقرب الساعة وبيان نوع جزائهم [سورة الأحزاب (33) الآيات 63 إلى 68] :

2- إن جزاء هؤلاء المنافقين إن أصروا على نفاقهم تسليط أهل الحق والإيمان عليهم، لاستئصالهم بالقتل، وطردهم من البلاد، فلا يساكنون النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين في المدينة إلا مدة يسيرة حتى يهلكوا، وطردهم من رحمة الله. 3- إن هذا العقاب هو ما سنه الله عز وجل فيمن أرجف بالأنبياء، وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل، ولا تبديل ولا تغيير لسنة الله وحكمه، فلا يغيره هو سبحانه، ولا يستطيع أحد تغييره. 4- لكن يجوز تأخير تطبيق هذا العقاب، فليس هو على الفور، قال القرطبي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه- صلّى الله عليه وسلّم- حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم «1» . وقد تأخر بالفعل عقاب المنافقين إلى أواخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما نزلت سورة «براءة» جمعوا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان قم فاخرج، فإنك منافق، ويا فلان قم» فقام إخوانهم من المسلمين، وتولوا إخراجهم من المسجد. توعد الكفار بقرب الساعة وبيان نوع جزائهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 248

البلاغة:

البلاغة: يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا تحسر وتفجع من طريق التمني. سَعِيراً نَصِيراً كَبِيراً فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل، لما فيها من وقع حسن. المفردات اللغوية: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي يسألك أهل مكة المشركون عن وقت يوم القيامة وحصوله استهزاء، أو تعنتا، أو امتحانا قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا وَما يُدْرِيكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي وما يعلمك يا محمد؟ أي أنت لا تعلمها، فكيف بغيرك من الناس؟ وربما توجد الساعة في زمن قريب. وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين. لَعَنَ الْكافِرِينَ أبعدهم وطردهم عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً نارا شديدة الاتقاد والاستعار يدخلونها خالِدِينَ مقدرا خلودهم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يواليهم ويحفظهم عنها وَلا نَصِيراً ينصرهم ويدفع العذاب عنهم يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تصرّف من جهة إلى جهة أخرى، كاللحم يشوى بالنار. يا لَيْتَنا يا: للتنبيه وَقالُوا أي الأتباع منهم سادَتَنا أي ملوكنا وقادتنا الذين لقنوهم الكفر، وقرئ «ساداتنا» جمع الجمع، للدلالة على الكثرة وَكُبَراءَنا علماءنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي أضلونا طريق الهدى بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ مثلي ما أوتينا من العذاب لأنهم ضلوا وأضلوا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي عذبهم وأبعدهم بلعن هو أشد اللعن وأعظمه، وفوله كَبِيراً أي عدده، أي عظيما. المناسبة: بعد بيان حال الفئات الثلاث في الدنيا (المشركين الذين يؤذون الله ورسوله، والمجاهرين الذين يؤذون المؤمنين، والمنافقين الذين يظهرون الحق ويضمرون الباطل) وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون، ذكر حالهم في الآخرة، فتوعدهم بقرب يوم القيامة، وبين نوع عذابهم فيه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي يتساءل الناس بكثرة عن وقت قيام القيامة، فالمشركون يسألون عنها تهكما واستهزاء، والمنافقون يسألون عنها تعنتا، واليهود يسألون عنها امتحانا واختبارا، فيجيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بتعليم الله له: إن علمها محصور بالله تعالى، لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا مرسلا، فهو وحده الذي يعلم وقت حدوثها. وأكد نفي علمها عن أحد غيره فقال: وَما يُدْرِيكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي وما يعلمك بها، فإنها من المغيبات المختصة بالله تعالى، وربما توجد في وقت قريب، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وقال عز وجل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى. وفي هذا تهديد للمستعجلين، وتوبيخ للمتعنتين، كما تقدم. وكلمة قَرِيبٌ فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] لذا لم يقل: لعل الساعة تكون قريبة. ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء الكفار الذي ينتظرهم يوم القيامة، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً أي إن الله تعالى طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته، وهيأ لهم في الآخرة نارا شديدة الاستعار والاتقاد. خالِدِينَ فِيها أَبَداً، لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي إنهم في ذلك العذاب في نار جهنم مخلدون ماكثون فيه على الدوام، ولا أمل لهم في النجاة منه، فلا يجدون

من يواليهم ويكون لهم مغيثا ومعينا ينقذهم مما هم فيه، ولا من ينصرهم ويخلصهم منه. والمقصود أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب. ثم ذكر وصف حال العذاب فقال: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أي إنهم يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، ويتقلبون فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار، وحينئذ يقولون ويتمنون: يا ليتنا لو كنا في الدار الدنيا ممن أطاعوا الله وأطاعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا بما جاء به، لينجوا من العذاب كما نجا المؤمنون، كما قال تعالى في آية أخرى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان 25/ 27] وقال أيضا مخبرا عنهم: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر 15/ 2] . ثم اعتذروا بالتقليد، فقال الله تعالى واصفا ذلك: وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي وقال الكافرون حينئذ وهم في عذاب جهنم: يا ربنا إنا أطعنا في الشرك والكفر رؤساءنا وقادتنا وعلماءنا، وخالفنا الرسل، واعتقدنا أنهم محقون فيما يقولون، فأخطؤوا بنا سواء الطريق، وأضلونا عن طريق الهدى بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله، وعدم الإقرار بالوحدانية، وإخلاص الطاعة لله تعالى. ثم صوّر تعالى ما يغلي في نفوسهم من الحقد الذي أدى بهم إلى طلب التشفي من القادة والأمراء والأشراف فقال: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي يا ربنا عذّبهم مثل عذابنا مرتين: عذاب الكفر، وعذاب الإضلال والإغواء إيانا، وأبعدهم عن

فقه الحياة أو الأحكام:

رحمتك بعدا عظيما كثيرا شديد الموقع، وهذا بمعنى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم، إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» يروى «كبيرا» و «كثيرا» وهما بمعنى واحد، واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، قال ابن كثير: وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، كما أن القارئ مخير بين القراءتين، أيتهما قرأ أحسن، وليس له الجمع بينهما «1» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لما توعد الله المؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعذاب، سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون، فأجابهم الله بأن علمها عند الله، وليس في إخفائها عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما يبطل نبوته، فليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله عز وجل. 2- إن وقت حصول الساعة (القيامة) في زمان قريب، وقد أخفي وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها. وهذا إشارة إلى التخويف. 3- إن الله عاقب الكافرين بالطرد والإبعاد من رحمته، وبإعداد نار جهنم المستعرة الشديدة الاتقاد، وهم فيها خالدون ماكثون على الدوام، ولا شفيع لهم ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه، ويتقلبون في السعير ذات اليمين وذات الشمال كما يشوى اللحم في النار. وهذا يدل على أنهم ملعونون في الدنيا، وملعونون عند الله، وأن العذاب دائم مستمر لا أمل في الخروج منه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 519

تحريم الإيذاء الذي لا يؤدي إلى الكفر والأمر بالتقوى [سورة الأحزاب (33) الآيات 69 إلى 71] :

4- يتمنى الكافرون في أثناء العذاب في نار جهنم أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا رسوله، فآمنوا بالله وحده لا شريك له، وآمنوا برسوله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وأدوا فروض الطاعة والولاء، وأخلصوا لله في أعمالهم. 5- إنهم يقولون أيضا على سبيل الأسف والاعتذار غير المفيد: إنا أطعنا القادة والأمراء والأشراف والعلماء بدل طاعة الله تعالى، فبدّلنا الخير بالشر، وأضلونا عن السبيل الصحيح وهو توحيد الله تعالى. 6- لا يجدون بدا من المطالبة على سبيل التشفي والانتقام بمضاعفة العذاب على أولئك المضللين: عذاب الكفر وعذاب الإضلال، أي عذبهم مثلي ما تعذّبنا فإنهم ضلّوا وأضلوا. بل إنهم يطلبون أيضا إبعادهم وطردهم من رحمة الله إبعادا كبيرا كثيرا لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار. وهذا في كلا الطلبين يتضمن معنى جديدا، فإنهم طلبوا لهم ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم: ضِعْفَيْنِ وزيادة اللعن بقولهم: لَعْناً كَبِيراً. تحريم الإيذاء الذي لا يؤدي إلى الكفر والأمر بالتقوى [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)

البلاغة:

البلاغة: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه أداة الشبه، وحذف وجه التشبيه. المفردات اللغوية: لا تَكُونُوا مع نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى وهم اليهود، كقولهم: ما يمنعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، أو اتهامه بالفاحشة، كما روي أن قارون حرض امرأة على قذف موسى بنفسها، فعصمه الله وبرّأه مما قالوا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا من كثير من التهم الباطلة، منها أنه وضع ثوبه على حجر ليغتسل، فطار الثوب مع الحجر، حتى استقر أمام ملأ من بني إسرائيل، فأدركه موسى، فأخذ ثوبه، فاستتر به، فرأوه ولا أدرة به وهي نفخة في الخصية. وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه وقدر وقربة ووجاهة عنده تعالى. اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحق يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها ويتقبلها وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يسترها ويكفّرها بالاستقامة في القول والعمل وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً نال غاية مطلوبة، بالعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يلعن ويعذب، مما يدل على أن إيذاءهما كفر، أرشد المؤمنين إلى ضرورة الامتناع من إيذاء لا يؤدي إلى الكفر، مثل عدم الرضا بقسمة النبي صلّى الله عليه وسلّم الفيء بين أصحابه. أما إيذاء موسى فمختلف فيه، قال بعضهم: هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: قال لموسى قومه: إنه آدر، فخرج ذات يوم ليغتسل، فوضع ثيابه على حجر، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، فخرج موسى يتبعها عريانا، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل، فرأوه وليس بآدر.

التفسير والبيان:

وقال بعضهم: إن قارون تآمر مع امرأة أن تقول عند بني إسرائيل: إن موسى زنى بي، فلما جمع قارون القوم، والمرأة حاضرة، ألقى الله في قلبها أنها صدقت، ولم تقل ما لقّنت. قال الرازي: وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف، وهو أنهم قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة 5/ 24] وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 2/ 55] وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة 2/ 61] إلى غير ذلك، فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى القتال، أي لا تقولوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة 5/ 24] ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه، «وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم» «1» . التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو العمل، مما يكرهه ولا يحبه، ولا تكونوا مثل الذين آذوا موسى، كتعييبه كذبا وزورا، أو تعجيزه برؤية الله جهرا، أو تركه يقاتل وحده، أو مطالبته بأنواع من الطعام، فبرأه الله مما قالوا من الكذب والزور، وكان ذا قدر وجاه ومنزلة عند ربه، قال الحسن البصري: كان مستجاب الدعوة عند الله، وقال غيره من السلف: لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، ولكن منع الرؤية لما يشاء عز وجل. ومن مظاهر إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم قسما، فقال

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 233 والجملة الأخيرة حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ «وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» .

رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمرّ وجهه، ثم قال: رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وروى أحمد عن ابن مسعود أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر» . وأما إيذاء موسى فالظاهر أنه كان بالطعن في تصرفاته، لا بتعييبه في بدنه، بدليل الحديث الأول عن ابن مسعود. وبعد نهي المؤمنين عن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو بالفعل، أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر عنهم من الأقوال والأفعال، أما الأفعال فالخير، وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله، ومن قال الصدق قالا قولا سديدا، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه، والتزام أوامره وعبادته عبادة من كأنه يراه، وقولوا القول الصواب والحق في كل أموركم، ويدخل فيه قول: لا إله إلا الله، والإصلاح بين الناس، كما يدخل فيه القول في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما لا يحل. ثم وعدهم على الأمرين: الخير في الأفعال والصدق في الأقوال بأمرين فقال: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي وعدهم على فعل الخيرات بإصلاح الأعمال، أي بقبولها، وجعل صاحبها في الجنة خالدا فيها أبدا، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب الماضية، وأما ما قد يقع منهم في المستقبل فيلهمهم التوبة منها.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم حرضهم على الطاعة، فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي ومن يطع أوامر الله والرسول ويجتنب النواهي، فقد نجا من نار الجحيم، وصار إلى النعيم المقيم. وبالرغم من أن طاعة الله هي طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه تعالى جمع بينهما لبيان أن المطيع اتخذ عند الله عهدا، وعند الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدا. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- لم تقتصر عناية القرآن وتحذيره على فئة من الناس دون فئة، فبعد أن ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، حذّر المؤمنين من التعرّض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إيذائهم نبيهم موسى عليه السلام. ومظاهر إيذاء محمد صلّى الله عليه وسلّم وموسى عليه السلام مختلف فيها، فقيل: إن أذيّتهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم قولهم: زيد بن محمد، أو أنه قسم قسما، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وأما أذية موسى عليه السلام، فقال ابن عباس وجماعة: هي اتهامه بالأدرة كما تقدم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون، مع أنه مات في جبل في سيناء بعد خروج موسى وهارون من التيه (قلب شبه جزيرة طور سينا) . وقيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون، وقيل بغير ذلك. قال القرطبي: والصحيح الأول، ويحتمل أن فعلوا كل ذلك، فبرّأه الله من جميع ذلك.

أمانة التكاليف وأثرها في تصنيف المكلفين [سورة الأحزاب (33) الآيات 72 إلى 73] :

وقد استدل بقصة اغتسال موسى عليه السلام على جواز وضع ثوبه على الحجر، ودخوله في الماء عريانا في منطقة معزولة بعيدة عن الناس، وهو مذهب الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى، واحتج بحديث لم يصح. 2- كان موسى عليه السلام عند الله وجيها، أي عظيم القدر، رفيع المنزلة، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه. 3- أوجب الله تعالى الخير في الأفعال أو التقوى، والصدق في الأقوال وهو ما يقابل الأذى المنهي عنه بالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. 4- وعد الله تعالى أنه يجازي على القول السديد، وتقوى الله بإصلاح الأعمال (أي قبولها وجعلها صالحة لا فاسدة بتوفيقهم إليها) وغفران الذنوب، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة. 5- من يطع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أمر به ونهى عنه، فقد نجا من النار وفاز بالجنة، أو وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي. أمانة التكاليف وأثرها في تصنيف المكلفين [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

الإعراب:

الإعراب: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً نصب رَحِيماً إما على الحال من ضمير غفور وهو العامل فيه، وإما صفة لغفور، وإما خبرا بعد خبر. البلاغة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ استعارة تمثيلية، مثّل الأمانة بما فيها من ثقل وشدة متناهية بشيء لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبت حمله وأشفقت منه. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بينهما ما يسمى بالمقابلة. وبين بدء السورة: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وبين ختمها: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ما يسمى في علم البديع: «رد العجز على الصدر» فالبدء في ذم المنافقين، والختام لبيان سوء عاقبتهم. المفردات اللغوية: عَرَضْنَا أي عرضها على هذه الأجرام خلافا لما في الطبيعة الْأَمانَةَ أي التكاليف الشرعية كالصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب، وتركها من العقاب، وسماها أمانة لأنها واجبة الأداء عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها المعنى أن الأمانة لعظمة شأنها، بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذات شعور وإدراك، لامتنعت من حملها، وأشفقت منه وخافت وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ آدم أبو البشر بعد عرضها عليه، مع ضعف بنيته ورخاوة قوته، فإن أدى حقوقها فاز بخير الدارين إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أي إن الإنسان حينما التزم بحقوق الأمانة كان ظلوما لنفسه بما حمله، جهولا به، وهذا وصف لجنس الإنسان باعتبار الأغلب. والمقصود بالآية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم، فهي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة وكذب الرسل ونقض الميثاق ممن نافق وأشرك، ويتوب على من آمن، الذين أدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها.

المناسبة:

وقال الزمخشري: اللام لام التعليل على طريق المجاز لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في قولك: «ضربته للتأديب» نتيجة الضرب. وقد جاراه القرطبي في ذلك. الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ المضيعين الأمانة. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المؤدين الأمانة. والوعد بالتوبة دليل على أن قوله: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا موجه إلى حال جبلة الإنسان فهو ظلوم لنفسه جهول بربه. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً غفورا للمؤمنين رحيما بهم، حيث تاب على ما فرطوا من ذنوب، وأثاب على طاعاتهم. المناسبة: بعد بيان أن من أطاع الله ورسوله فاز فوزا عظيما، أبان الله تعالى الوسيلة التي تنال بها الطاعة وهي فعل التكاليف الشرعية، وأن تحصيلها شاقّ على النفوس يحتاج إلى مكابدة وجهاد، ثم ذكر أن ما يحدث من صدور الطاعة من المكلفين، وإباء القبول، والامتناع من الالتزام إنما هو باختيار الإنسان دون جبر ولا إكراه. التفسير والبيان: يبين الله تعالى خطورة التكاليف وثقلها، وأنها عظيمة ناءت بحملها السموات والأرض والجبال، فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أي إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على هذه الأجرام العظام، فلم تطقها وأبت تحمل مسئوليتها، وخافت من حملها، لو فرض أنها ذات شعور وإدراك، ولكن كلّف بها الإنسان، فتحملها مع ضعفه، وهو في ذلك ظلوم لنفسه، جهول لقدر ما تحمله. قال ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة والفرائض، عرضها عليهم قبل أن

يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. والمراد جنس الإنسان بحسب الأغلب. فالأمانة تشمل الطاعات والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب، وبتضييعها العقاب، وتشمل أمانة الأموال كالودائع وغيرها مما لا بيّنة عليه، وغسل الجنابة أمانة، والفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرّجل أمانة. وقد حملها الإنسان بسبب جهله بما فيها، وعلم هذه الأجرام، وهو مع ذلك يتأثر بالانفعالات النفسية وبالشهوات الذاتية، ولا يتدبر عواقب الأمور، وكانت هذه التكاليف وسيلة للحد من سلطان الشهوة، وتأثير النوازع، والقوى الداخلية في نفسه. ثم بيّن الله تعالى نتائج تلك التكاليف بين المكلفين، فقال: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي إن عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة وهي التكاليف أن ينقسم الناس فريقين: فريق المنافقين والمنافقات (وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله) والمشركين والمشركات (وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة الرسل) الذين يعذبهم الله لخيانتهم الأمانة، وتكذيب الرسل، ونقض الميثاق، وفريق المؤمنين والمؤمنات (وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، العاملين بطاعته)

فقه الحياة أو الأحكام:

الذين يتوب الله عليهم إذا تابوا، وأدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها لأن الله غفور لذنوبهم، كثير الرحمة بهم. والآية دليل على أن الله أعلم الإنسان بأنه غفور رحيم، وبصره بنفسه فرآه ظلوما جهولا، ثم عرض عليه الأمانة، فقبلها مع ظلمه وجهله، لعلمه بما يجبرها من الغفران والرحمة. والمعنى أن هناك مرضا جبليا في الإنسان، وأن هناك علاجا ودواء لهذا المرض وهو سعة المغفرة وكثرة الرحمة الإلهية إذا تعرض الإنسان لهما في الجملة بالتوبة والإنابة والطاعة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ختمت السورة المشتملة على الأحكام بأمر إجمالي هو وجوب التزام الأوامر الإلهية، والآداب الشرعية السامية، والمواعظ الرائعة. 2- الأمانة تشمل جميل تكاليف الشرع ووظائف الدين، على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور، ومنها الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد، وليست التكاليف سهلة هينة، وإنما هي من عظائم الأمور التي ناءت بحملها السموات والأرض والجبال. روى الحكيم الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى لآدم: يا آدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها، فهل أنت حاملها بما فيها؟ فقال: وما فيها يا رب؟ قال: إن حملتها أجرت، وإن ضيّعتها عذّبت، فاحتملها بما فيها، فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر، حتى أخرجه الشيطان منها» . 3- العرض على السموات والأرض والجبال إما مجاز، وإما حقيقة، وإما

ضرب مثل، فقام قوم: المعنى: إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن، فأبين أن يحملن وزرها، مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] أي أهلها. فهذا مجاز مرسل. وقال قوم: إن الآية من المجاز- بنحو آخر- أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت. وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقال آخرون: الحسن وغيره: العرض حقيقة أي أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك، فلم يحملن وزرها، وأشفقت، وقالت: لا أبتغي ثوابا ولا عقابا، وكل يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن له سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخّرن له. ولكن قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة، على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. وقال القفّال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي إن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلّفه الإنسان، وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر 59/ 21] ثم قال: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ (الآية نفسها) قال القفال: فإذا تقرر أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وعلى أي حال، المقصود بالآية بيان عظمة التكاليف وثقلها وتنبيه الإنسان

لخطورة التبعة (أو المسؤولية) عنها، فلا يفرط فيها، وهو بين خيارين: إما العصيان فالعذاب، وإما الطاعة فالثواب، والله غفور رحيم. 4- لقد تجشم الإنسان تحمل مسئولية الأمانة، والتزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه أو للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه أو جهول بربه. والإنسان: هو النوع كله، مراعاة لعموم الأمانة، فيشمل الكافر والمنافق، والعاصي، والمؤمن. وقيل: المراد بالإنسان: آدم الذي تحمّل الأمانة. 5- اللام في قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ المتعلقة ب عَرَضْنَا أو ب حَمَلَهَا سواء قلنا: إنها لام الصيرورة أو لام التعليل، فإن النتيجة انقسام الناس إزاء التكاليف إلى قسمين: عصاة وطائعين، فقد حمل الإنسان الأمانة، ثم كانت حالته أمامها ليست واحدة، فهناك قوم التزموا القيام بحقها، فأثابهم الله الجنة، وهناك آخرون أهملوا القيام بحقها، فعذبهم الله بالنار. وإذا تعلقت اللام ب عَرَضْنَا يكون المعنى على أن اللام للتعليل: عرضنا الأمانة على الجميع، ثم قلدناها الإنسان، ليظهر شرك المشرك، ونفاق المنافق، ليعذبهم الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. وإذا تعلقت ب حَمَلَهَا يكون المعنى على جعل اللام للتعليل: حملها ليعذّب العاصي، ويثيب المطيع، لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة. وإذا كانت اللام لام الصيرورة يكون المعنى: حملها الإنسان، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة، ويتوب على من أداها حقها.

سورة سبأ:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة سبأ مكيّة، وهي أربع وخمسون آية. تسميتها: سميت سورة سبأ للتذكير فيها بقصة سبأ، وهم ملوك اليمن، في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ: جَنَّتانِ.. [15- 16] فقد أنعم الله عليهم بالحدائق الغناء والأراضي الخصبة، فلما كفروا النعمة، أبادهم بسيل العرم. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة: الأول- أن هذه السورة افتتحت ببيان صفات الملك التام والقدرة الشاملة التي تناسب ختام السورة السابقة في تطبيق العذاب وتقديم الثواب: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.... الثاني- كان آخر الأحزاب: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ومطلع سبأ في فاصلة الآية الثانية: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ. الثالث- في سورة الأحزاب سأل الكفار عن الساعة استهزاء، وفي هذه السورة حكى القرآن عنهم إنكارها صراحة. مشتملاتها: تضمنت سورة سبأ المكية محور ما تدور عليه بقية السور المكية في إثبات

العقيدة: من توحيد الله، والنبوة، والبعث. فابتدأت بحمد الله تعالى والثناء عليه لأنه خالق السموات والأرض، ومرسل الملائكة رسلا بمهام عديدة إلى البشر. ثم أعقب ذلك الحديث عن إنكار المشركين البعث بعد الموت، وإثباته بالقسم العظيم بالله تعالى من النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على وقوع المعاد: قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ. وذكرت اتهامهم الباطل للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه مفتر أو مجنون، ثم أكدت ثبوت قدرة الله تعالى بخسف الأرض وإسقاط السماء. وتلاها تعداد النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان، وأهل سبأ كتسخير الطير والجبال للتسبيح مع داود، وتسخير الريح لسليمان عليهما السلام، وجعل الحدائق والثمار الطيبة لملوك اليمن أهل سبأ. ثم تحدثت السورة عن أدلة وجود الله ووحدانيته، وتفنيد مزاعم المشركين في عبادة الأوثان، وإظهار صورة من الجدل العنيف بين الأتباع الكفرة والمتبوعين المخذولين يوم القيامة، وإلقاء كل من الفريقين التبعة على الآخر. وأبانت عموم الرسالة الإسلامية- المحمدية لجميع الناس، وهددت بالحساب العسير والجزاء الأليم يوم القيامة، وأن المترفين في كل زمان هم أعداء الرسل لاغترارهم بأموالهم وأولادهم، وأن الله راض عنهم فلا يعذبهم، وأن الله سيسأل الملائكة يوم الحشر، هل طلبوا من المشركين عبادتهم؟. تم حكت السورة إنكار المشركين للقرآن وأنه في زعمهم مفترى ليس بوحي، ووعظتهم بما عوقب به من قبلهم، وطالبتهم بالتأمل والتفكر في أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمفتر ولا مجنون، وإنما هو نذير بين يدي عذاب شديد، وأنه لا يطلب أجرا على دعوته، بل أجره على ربه.

صفات الملك والقدرة والعلم لله تعالى [سورة سبإ (34) الآيات 1 إلى 2] :

وختمت السورة بدعوة المشركين إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، قبل أن يأتي يوم القيامة، فيطلبون العودة إلى دار الدنيا للإيمان بالقرآن وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، والإتيان بصالح الأعمال، ولكن يحال بينهم وبين ما يشتهون، لفوات الأوان. صفات الملك والقدرة والعلم لله تعالى [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) الإعراب: الَّذِي لَهُ ... إما في موضع جر على النعت أو البدل، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أو في موضع نصب بمعنى أعني. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من اسم الله، ويحتمل أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب. البلاغة: الْحَمْدُ لِلَّهِ تعريف الطرفين لإفادة الحصر، أي لا يستحق الحمد الكامل إلا الله. يَلِجُ يَخْرُجُ يَنْزِلُ يَعْرُجُ بين كل منهما طباق. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ صيغة فعيل وفعول للمبالغة. المفردات اللغوية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمْدُ هو الثناء على الله بما هو أهله، أو الثناء على الله بجميل صفاته

التفسير والبيان:

وأفعاله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا ونعمة. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وتمام نعمته، وله أيضا حمد عباده في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة، للسبب السابق ذاته وَهُوَ الْحَكِيمُ في فعله وهو الذي أحكم أمر الدارين ودبره بمقتضى الحكمة الْخَبِيرُ بخلقه في الدارين، وهو الذي يعلم بواطن الأمور. يَلِجُ فِي الْأَرْضِ يدخل فيها كالماء ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع والنباتات والحيوان والفلزات وماء العيون وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والكتب والمقادير وَما يَعْرُجُ فِيها يصعد فيها من أعمال العباد وغيرها من الملائكة والأبخرة والأدخنة الرَّحِيمُ بعباده الْغَفُورُ لذنوبهم. التفسير والبيان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي إن الحمد المطلق الكامل لله مالك السموات والأرض وما فيهما، والمتصرف بشؤونهما، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وحمده على النعم التي أنعم بها على خلقه، والمعنى: إن المستحق للحمد والثناء والشكر هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصرفا بما يشاء، فهو صاحب القدرة الكاملة، والنعمة التامة. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي لله الحمد في الآخرة كالحمد في الدنيا لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة، كما قال في آية أخرى: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص 28/ 70] . وقال تعالى في حكاية حمد أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر 39/ 74] . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر 35/ 34- 35] . وإذا كان هو المحمود على طول المدى، فهو المعبود أبدا.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ أي والله هو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، يدبر شؤون خلقه على مقتضى الحكمة، والخبير ببواطن الأمور، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء. قال مالك: خبير بخلقه حكيم بأمره. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث الذي ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات، ويعلم ما يخرج من الأرض، كالحيوان والنبات والماء والفلزّات. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب والأرزاق والأمطار والصواعق، وما يعرج فيها كالملائكة وأعمال العباد والغازات والأدخنة ووسائل النقل الجوي والطيور. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي والله هو الرحيم بعباده، فلا يعاجل عصيانهم بالعقوبة، الغفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الله تعالى هو المستحق لجميع المحامد والحمد: الشكر على النعمة، ويكون الثناء على الله بما هو أهله، فالحمد الكامل والثناء الشامل كله لله إذ النعم كلها منه، وهو مالك السموات والأرض وخالقهما والمتصرف فيهما بالإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة. 2- الله تعالى هو المحمود في الدنيا والآخرة لأنه المالك للأولى والثانية، وهو الحكيم في فعله، الخبير بأمر خلقه. 3- الله عالم بكل شيء من الظواهر والخوافي، يعلم ما يدخل في الأرض من قطر وغيره من الكنوز والدفائن والأموات، ويعلم ما يخرج منها من نبات

إنكار الكفار الساعة وموقف الناس من آيات الله وجزاؤهم [سورة سبإ (34) الآيات 3 إلى 6] :

وغيره، ويعلم ما ينزل من السماء من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات، وما يعرج فيها من الملائكة وأعمال العباد، وهو الرحيم بعباده الغفور لذنوب التائبين منهم. وهذا ويلاحظ كما ذكر الرازي أن السور المفتتحة بالحمد خمس سور، سورتان منها في النصف الأول: وهما الأنعام والكهف، وسورتان في الأخير: وهما هذه السورة وسورة فاطر (سورة الملائكة) ، والفاتحة التي تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير، والحكمة فيها أن نعم الله منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء، ففي سورة الأنعام إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [1] وفي سورة الكهف إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً [1- 2] فإن بالشرائع البقاء. ثم في هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني في قوله: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وفي سورة فاطر إشارة إلى نعمة الإبقاء الثاني وهو في يوم القيامة لأن الملائكة لا تكون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلّمين، كما قال تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء 21/ 103] . وفي فاتحة الكتاب إشارة إلى النعمة العاجلة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [1] وإلى النعمة الآجلة بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [4] لذا قرئت في الافتتاح والاختتام. إنكار الكفار الساعة وموقف الناس من آيات الله وجزاؤهم [سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

الإعراب:

الإعراب: لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ عالِمِ بالجر: نعت لقوله تعالى: وَرَبِّي أو بدل منه، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب. وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ.. مرفوعان بالابتداء. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ.. اللام تتعلق بقوله: لا يَعْزُبُ. وأَلِيمٌ بالجر والرفع صفة لرجز أو عذاب. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إما معطوف على لِيَجْزِيَ أو مستأنف. هُوَ الْحَقَّ مفعول ثان ل يَرَى وهو: ضمير فصل، ومن قرأ بالرفع جعل هُوَ مبتدأ، والْحَقَّ خبره، والجملة ثاني مفعولي يَرَى. البلاغة: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ووَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ بينهما ما يسمى بالمقابلة، فالمغفرة والرزق الكريم جزاء المحسنين، والعذاب والرجز الأليم جزاء المجرمين. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ القيامة والبعث، وهذا منهم إنكار لمجيئها، أو استبطاء استهزاء بالوعد به قُلْ: بَلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه «1» وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ

_ (1) «بلى» : لها موضعان: الأول- أن تكون ردّا لنفي يقع قبلها، خبرا كان أو نهيا، فينتفي بها ما قبلها من النفي وتحققه، كما هنا. والثاني- أن تقع جوابا لاستفهام دخل على نفي تحققه، فيصير معناها التصديق لما قبلها، مثل: ألم أكن صديقك؟ فيقول الرادّ: بلى، إذا صدقه، والمعنى: بلى كنت صديقي، فهي إذن لإثبات المنفي. وأما «نعم» : فهي في الأصل: تصديق لما قبلها في كل كلام وإيجاب له، وعدة، مثل: هل تحسن إلي؟ فيقول الرادّ: نعم، فيعده بالإحسان، فإن أراد ترك الإحسان قال: لا، ولا يحسن هنا: بلى. و «لا» نفي لما قبلها وردّ له. وأما «كلا» فتكون بمعنى «لا» ومعناها الرد والإنكار لما تقدم قبلها من الكلام وذلك في حال الوقف عليها. وقد تأتي بمعنى «حقّا» وهو مذهب الكسائي خلافا لحذّاق النحويين. وفي حال الابتداء ب «كلا» تكون بمعنى «ألا» مثل كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (شرح «كلا، وبلى، ونعم» للعلامة مكي بن أبي طالب القيسي) .

تكرار لإثباته، مؤكدا بالقسم، مقررا وصف المقسم به بصفات تثبت إمكانه، وتنفي استبعاده لا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ وزن أو مقدار أصغر نملة وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ المثقال وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إلا وهو مثبت في كتاب بيّن واضح وهو اللوح المحفوظ. وقوله: وَلا أَصْغَرُ إلخ جملة مؤكدة لنفي العزوب. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا.. علة لقوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ وبيان لما يقتضي إتيانها، أي إن إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، أي محوها من قبل الله تعالى بسبب غلبة إيمانهم وأعمالهم الصالحة على ذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ حسن لا تعب فيه ولا منّة عليه، وهو ما يقيض لهم من ملاذ الأطعمة وغيرها في الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح تفضلا من الله تعالى عليهم. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بإبطال آياتنا المنزلة على الرسل، وتزهيد الناس فيها مُعاجِزِينَ مسابقين لنا يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، لاعتقادهم ألا بعث ولا عقاب، وقرئ: معجّزين، أي مثبّطين عن الإيمان بآيات القرآن من أراده رِجْزٍ سيء العذاب أو عذاب شديد أَلِيمٌ مؤلم. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويعلم أولو العلم من الصحابة ومشايعوهم من الأمة، أو من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ القرآن هُوَ الْحَقَّ الثابت الصحيح وغيره باطل وَيَهْدِي إِلى صِراطِ أي يوصل إلى طريق الله ودين الله وهو التوحيد والتقوى الْعَزِيزِ ذي العزة الذي يغلب ولا يغلب الْحَمِيدِ المحمود في جميع شؤونه.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أن لله الحمد في الدنيا والآخرة، أبان الله تعالى أن الكفار ينكرون حدوث القيامة أشد الإنكار، أو يستعجلون بها استهزاء بوعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بها، ثم أوضح تعالى أن الناس من آيات القرآن فريقان: فريق المنكرين الجاحدين المعاندين الساعين في إبطالها، وجزاؤهم العذاب الأليم، وفريق العالمين المؤمنين بأنها الحق الصراح الأكيد الذي يهدي إلى الصراط المستقيم. التفسير والبيان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي وقال الكافرون بالرسالات السماوية إنكارا منهم أو استعجالا على سبيل الاستهزاء بالوعد: لن يكون هناك قيامة ولا بعث ولا حساب. وهم بذلك جاحدون الأخبار الواردة من ربهم بحدوث الساعة، والتي تضمنتها كتبه وما فيها من الحجج والبينات. فرد الله عليهم مؤكدا بطلان اعتقادهم: قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي قل لهم أيها النبي: بلى والله إنها لآتية لا ريب فيها. ويلاحظ في ذلك إثبات وجودها ونفي مزاعمهم، مؤكدا ذلك بالقسم بالله وبالتأكيد في الفعل باللام ونون التوكيد. وهذه الآية- كما ذكر ابن كثير- إحدى آيات ثلاث أمر الله تعالى فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، للرد على المنكرين من أهل الشرك والنفاق والعناد، فإحداهن في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [53] والثانية هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ والثالثة في سورة التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [7] .

ثم وصف الله تعالى نفسه بصفة العلم الشامل الدال على إمكان البعث، فقال: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إن الله تعالى القادر على البعث لا يغيب عنه ولا يستتر عليه شيء من الموجودات ولو كان بقدر أصغر نملة، ولا أصغر من المثقال ولا أكبر منه إلا وهو محفوظ ومثبت في كتاب بيّن وهو اللوح المحفوظ. فالعلم بالغيبيات موجود، فاقتضى إمكان البعث. ثم بيّن الله تعالى حكمته في إعادة الأجساد وقيام الساعة بقوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي إن يبعثهم من قبورهم في البر والبحر وأي مكان يوم القيامة ليثيب المؤمنين بالله ورسله واليوم الآخر، الذين عملوا صالح الأعمال وهو ما أمروا به، واجتنبوا ما نهوا عنه، وأولئك لهم مغفرة أي محو لذنوبهم، ونعيم في الجنة لا تعب ولا منة فيه، والمقصود أن إثابة المؤمنين حق وعدل. هذا هو فريق المؤمنين، والفريق الثاني: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي إن الكفار المعاندين الذين حاولوا إبطال آيات القرآن وأدلة إثبات البعث، ظانين أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، لهم عذاب شديد في نار جهنم هو أسوأ العذاب وأشده، وهو مؤلم شديد الألم. وهذا التعذيب أيضا حق وعدل، حتى لا يتساوى المسيء مع المحسن، كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص 38/ 28] وقال سبحانه: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] .

فقه الحياة أو الأحكام:

والخلاصة: أن الغاية من القيامة هي أن ينعم السعداء من المؤمنين بالجنة، ويعذب الأشقياء من الكافرين بالنار. ثم أورد الله تعالى حكمة أخرى معطوفة على ما قبلها فقال: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي إن المؤمنين بما أنزل على الرسل من المسلمين وأهل الكتاب، مثل عبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما وغيرهم إذا شاهدوا قيام الساعة، ومجازاة الأبرار والفجار، وتحققوا مما علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذ عين اليقين وتيقنوا أن القرآن حق، ويقولون يومئذ: إن الذي جاءت به رسل الله لحق ثابت صدق لا شك فيه، وأن القرآن يرشد من اتبعه إلى طريق الله ذي العزة الذي لا يغلب ولا يمانع، وهو القاهر كل شيء، وهو المحمود في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ولا يليق به صفة العجز. والصحيح أن وَيَرَى مرفوع على الاستئناف. ونظير الآية: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس 36/ 52] لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم 30/ 56] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- أنكر الكفار من أهل مكة وغيرهم مجيء البعث والقيامة، قال أبو سفيان لكفار مكة: واللّات والعزّى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث، وهذا يعني أنهم مقرون بابتداء الله الخلق منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. 2- أكد الله تعالى حدوث الساعة بقسم محمد صلّى الله عليه وسلّم بربه العظيم لتأتينهم،

وأخبر على ألسنة الرسل عليهم السلام أنه يبعث الخلق، وإذا ورد الخبر بشيء، وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. 3- الله عالم بأصغر شيء وأكبره في السموات والأرض، فهو العالم بما خلق، ولا يخفى عليه شيء، فوجد المقتضي لوجود البعث وهو إقامة العدل بين الناس، وارتفع المانع من حصوله. 4- إن الحكمة من البعث والقيامة والحساب هي إثابة المؤمنين الذين عملوا الصالحات، وعقاب الكافرين المكذبين بوحدانية الله وبالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر. 5- إن الكفار الذين سعوا في إبطال أدلة الوحدانية والبعث والنبوة، والتكذيب بآيات الله مسابقين يحسبون أنهم يفوتون ربهم، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنه يهملهم، هؤلاء لهم عذاب مؤلم هو أسوأ العذاب وأشده. 6- وفي مقابل موقف أولئك الكفار الذين سعوا في إبطال النبوة، وجد آخرون هم الذين أوتوا العلم من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن مؤمني أهل الكتاب يرون أن القرآن حق وإن لم تأتهم الساعة، والرؤية بمعنى العلم، وأن القرآن يهدي إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله.

استبعاد الكفار قيام الساعة واستهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والاستدلال على البعث [سورة سبإ (34) الآيات 7 إلى 9] :

استبعاد الكفار قيام الساعة واستهزاؤهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والاستدلال على البعث [سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) الإعراب: إِذا مُزِّقْتُمْ العامل في إِذا فعل دلّ عليه قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وتقديره: إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم. وتقديم الظرف للدلالة على البعد. البلاغة: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ الاستفهام للسخرية والاستهزاء، ومرادهم الاستهزاء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يذكروا اسمه تجهيلا له. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: قال بعض الكفار لبعض على جهة التعجيب هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم. يُنَبِّئُكُمْ يخبركم أنكم إِذا مُزِّقْتُمْ قطّعتم قطعا صغيرة. كُلَّ مُمَزَّقٍ أي كل تمزيق، أي تقطيع. إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي إنكم تنشؤون وتخلقون خلقا جديدا بعد التمزيق والتفريق بحيث تصير ترابا. قالوا ذلك استهزاء. أَفْتَرى الهمزة للاستفهام، واستغني بها عن همزة الوصل، والافتراء: اختلاق الكذب.

المناسبة:

جِنَّةٌ جنون وزوال عقل يوهمه ذلك ويجعله يتخيل البعث. بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المشتملة على البعث والعذاب فيها فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ عن الحق والصواب في الدنيا، والعذاب في الآخرة. والمقصود الردّ من الله عليهم لإثبات ما هو أفظع من القسمين وهو الضلال والعذاب. أَفَلَمْ يَرَوْا ينظروا. إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ما فوقهم وما تحتهم. نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ نغيبهم فيها. كِسَفاً قطعا جمع كسفة. إِنَّ فِي ذلِكَ المرئي. لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ المنيب: الراجع إلى ربه المطيع له، والمعنى: إن فيما رأوا لدلالة على قدرة الله على البعث وما يشاء. المناسبة: بعد الإخبار عن إنكار الكفرة الساعة، والرّد عليهم، وبيان جزائهم وجزاء المؤمنين بها، ذكر الله تعالى مقال الكافرين في شأن الساعة على سبيل التعجب والتهكم والاستهزاء، ووصفهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه مفتر أو مجنون، ثم أقام الدليل على البعث بقدرته على خلق السموات والأرض، ثم هددهم بالعذاب الشديد، لعلهم يرجعون عن كفرهم. التفسير والبيان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي قال بعض الكفار لبعض على سبيل التعجب والاستهزاء والتهكم: هل ندلكم على شخص اسمه محمد يخبركم بنبإ غريب وهو أنكم إذا بليتم وصرتم ترابا وصارت أجسادكم في الأرض متفرقة موزعة قطعا قطعا، تعودون بعدئذ أحياء كما كنتم مرة أخرى. ونظير الآية: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس 36/ 78] .

أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي إن حاله لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله كذبا أنه قد أوحى إليه ذلك، أي أنه كاذب فيما قاله، أو أن به جنونا جعله لا يعقل ما يقول، ويتوهم البعث ويتخيله. فردّ الله عليهم بإثبات ما هو أخطر وأشنع من الأمرين فقال: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما ذهبوا إليه، بل إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو الصادق الرشيد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء المنكرون للآخرة، الذين كفروا، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة، وهم اليوم في الدنيا في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد. ثم نبههم تعالى على قدرته في خلق السموات والأرض، فهو القادر على البعث، فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي وبخهم لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض، فقال لهم: أفلم ينظروا خلفهم وأمامهم إلى العجائب الدالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته، فإنهم يرون السماء ناطقة بوجود القادر، والأرض كذلك تنطق بمثل ما تشير به السماء من الدلالة، فلو نظروا إليهما لعلموا أن خالقهما قادر على تعجيل العذاب لهم، فإن نرد نخسف بهم الأرض، كما خسفنا بقارون، أو نسقط عليهم قطعا من السماء، كما أسقطنا على أصحاب الأيكة. والمراد: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر العقاب عنهم لحلمنا وعفونا.

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجّاع إلى الله، على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرض في انخفاضها وطولها وعرضها، قادر على إعادة الأجسام كما كانت، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] ، وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى [يس 36/ 81] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- لم يكتف المشركون بإعلان إنكارهم البعث والقيامة، وإنما تغالوا في ذلك فأخذوا يقولون قولا يقصد به الطعن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والتعجب منه والهزء والسخرية من إخباره بالبعث، وجعلوا ذلك أداة ضحك وتلهي، واستغربوا أن الناس إذا فرقوا كل تفريق في أجزاء التراب، كيف يمكن إعادة الحياة لهم؟! 2- وقال المشركون: إن محمدا في إخباره بالبعث لا يخلو إما أن يكون كاذبا مفتريا على الله، وإما أنه مجنون. 3- ردّ الله عليهم ردّا يثبت عليهم ما هو أشنع من التهمتين السابقتين: وهو أنهم بسبب إنكارهم البعث واقعون في الآخرة في العذاب الشديد، واليوم في الضلال البعيد عن الصواب، حين صاروا إلى تعجيز الإله، ونسبة الافتراء إلى من أيّده الله بالمعجزات. 4- ثم أقام الله تعالى عليهم الدليل على صحة البعث، فأعلمهم أن الذي قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث، وعلى تعجيل العقوبة لهم، ومنها الخسف والكسف، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.

نعم الله على داود عليه السلام [سورة سبإ (34) الآيات 10 إلى 11] :

5- وإن في هذا المذكور من قدرة الله الباهرة لدلالة ظاهرة لكل عبد تائب رجّاع إلى الله بقلبه على قدرة الله تعالى على البعث ووقوع المعاد. وخصّ المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالتفكر في حجج الله وآياته. نعم الله على داود عليه السلام [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) الإعراب: وَالطَّيْرَ إما منصوب بالعطف على موضع المنادي وهو النصب في قوله: يا جِبالُ أو على أنه مفعول معه، أي مع الطير، أو بفعل مقدر، أي وسخرنا له الطير، ودلّ عليه قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا. ويقرأ بالرفع وَالطَّيْرَ عطفا على لفظ يا جِبالُ أو عطفا على الضمير المرفوع في أَوِّبِي وحسن ذلك لوجود الفصل ب مَعَهُ والفصل يقوم مقام التوكيد. والقراءة بالنصب أقوى في القياس من الرفع. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أَنِ: إما مفسرة بمعنى (أي) أو في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: لأن أعمل. وسابِغاتٍ: أي دروعا سابغات، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. البلاغة: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا تنكير فَضْلًا للتفخيم، أي فضلا عظيما. وتقديم داود على المفعول اهتمام بالمقدم وتشويق إلى المؤخر. المفردات اللغوية: فَضْلًا هو النبوة والملك والجنود وكتاب الزبور والصوت الحسن. أَوِّبِي مَعَهُ رجّعي وردّدي معه التسبيح، والتأويب: التسبيح. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالعجين

المناسبة:

أو الشمع يصرّفه من غير نار ولا طرق. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي وقلنا له اعمل دروعا كوامل تامة، وهو أول من اتخذها. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي اجعل النسج متناسبا في الحلق على قدر الحاجة غير مختلفة. وقَدِّرْ: اقتصد، والسَّرْدِ: النسج، يقال لصانع الدروع: سرّاد وزرّاد. وَاعْمَلُوا صالِحاً يعود الضمير لداود وأهله أي آل داود. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مطلع على كل أعمالكم، فأجازيكم عليها. المناسبة: لما ذكر الله تعالى من ينيب من عباده، ذكر نماذج ممن أنابوا إلى ربّهم ومنهم داود عليه السلام، وبيّن ما آتاه الله على إنابته، من النبوة والملك والجنود والزبور والصوت الحسن، فكانت الجبال والطيور إذا سبّح تسبّح معه، وعلّمه تعالى صناعة الدروع الحربية للوقاية من الضربات في الحروب. التفسير والبيان: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ يخبر تعالى عما أنعم به على رسوله داود عليه السلام مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك العظيم المتمكن والجنود، ومنحه من الصوت الرخيم القوي المؤثر، الذي كان إذا سبّح سبّحت معه الجبال الراسيات، والطيور السارحات: الغاديات الرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات. والمعنى: لقد أعطينا داود فضلا عظيما ونعما جليلة، فقلنا للجبال والطير: رددي معه التسبيح إذا سبّح. جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يقرأ من الليل فوقف، فاستمع لقراءته، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي جعلنا الحديد في يده لينا يصنع به ما يشاء، من غير حاجة إلى نار ولا مطرقة، بل كان يفتله في يده مثل الخيوط، ليعمل به الدروع الكاملات الواسعات التي تقي من ويلات الحروب، وعلمه كيفية نسج الدروع بحيث تكون متناسبة الحلق، وعلى قدر الحاجة، فلا هي صغيرة ضيقة لا تحقق الهدف، ولا كبيرة ثقيلة على لابسها، فيعجز عن لبسها. ولا شك أن إلانة الحديد من غير نار ولا طرق معجزة لنبي الله داود، لا تنطبق على غيره. وكان داود عليه السلام أول من صنع الدروع، قال قتادة رحمه الله: «كانت الدروع قبله صفائح ثقالا» فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي اعملوا يا آل داود عملا صالحا فيما أعطاكم الله تعالى من النعم فإني مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى عليّ شيء منها. وقوله: إِنِّي بِما.. تعليل للأمر. وهذا تحريض على إصلاح العمل لشكر النعمة، والعمل الصالح يقوّم النفوس، ويصقل الروح، ويحصنها من المزالق والانحرافات. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لقد منح الله تعالى عبده المنيب ورسوله داود عليه السلام فضلا عظيما، فضّله به على سائر الأنبياء من قبله، من الجمع بين النبوة والملك والزبور والعلم والجنود وتسبيح الجبال والطيور مع تسبيحه، قال تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص 38/ 18] .

قال أبو ميسرة في تفسير التأويب: هو التسبيح بلغة الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام. وقيل: المعنى: سيري معه حيث شاء من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، والنزول ليلا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوّتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير. 2- ومن فضائل الله على داود ومعجزاته: إلانة الحديد بيده، حيث يصير كالعجين أو الشمع من غير نار ولا مطرقة. قال القرطبي: في هذه الآية دليل على مشروعية تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرّف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» . 3- علّم الله تعالى داود عليه السلام صناعة الدروع السابغات، أي الكوامل التامات الواسعات، المحكمة الحلق المتناسبة فيما بينها، ليست بالصغيرة فلا تحقق الغرض منها وهو الدفاع، ولا بالكبيرة التي تثقل كاهل لابسها. 4- لم يستثن الله نبيا ولا رسولا من إلزامه بالعمل الصالح، لذا أعقب بيان نعمه وأفضاله على داود بأمره مع أهله بصالح العمل وهو فعل الأوامر وترك النواهي، كما قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ 34/ 13] . وعلل الترغيب بالعمل الصالح بأنه تعالى بصير بأعمال عباده وأقوالهم، لا يغيب عنه شيء، فيجازيهم عليها.

نعم الله على سليمان عليه السلام [سورة سبإ (34) الآيات 12 إلى 14] :

نعم الله على سليمان عليه السلام [سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) الإعراب: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ الرِّيحَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: وسخرنا لسليمان الريح، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور خبر مقدم، أو مرفوع بالجار والمجرور على مذهب الأخفش. غُدُوُّها شَهْرٌ مبتدأ وخبر. وَرَواحُها شَهْرٌ معطوف عليه، أي غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر، وإنما وجب هذا التقدير لأن الغدو والرواح ليس بالشهر، وإنما يكونان فيه. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ: إما منصوب بتقدير فعل، تقديره: وسخّرنا من الجن من يعمل بين يديه، وإما مرفوع بالابتداء، والجار والمجرور خبره، أو مرفوع بالجار والمجرور على مذهب الأخفش. وَمَنْ يَزِغْ مِنَ: شرطية في موضع رفع بالابتداء، ونُذِقْهُ: الجواب، وهو خبر المبتدأ. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً شُكْراً: منصوب لأنه مفعول لأجله، ولا يكون منصوبا ب اعْمَلُوا لأن «شكروا» أفصح من: «اعملوا شكرا» .

البلاغة:

مِنْسَأَتَهُ يقرأ بالهمز على الأصل، ومن لم يهمزه أبدل من الهمزة ألفا. أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ أَنْ: إما بالرفع على البدل من الْجِنُّ وهو بدل اشتمال، مثل: أعجبني زيد عقله، وإما بالنصب على تقدير حذف حرف جر، وهي اللام. البلاغة: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر. وَجِفانٍ كَالْجَوابِ تشبيه مرسل مجمل، لذكر أداة الشبه، وحذف وجه الشبه. المفردات اللغوية: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ فيه تقدير، أي وسخرنا لسليمان الريح. غُدُوُّها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، والغداة: من الصباح إلى الزوال. وَرَواحُها شَهْرٌ أي وجريها بالعشي مسيرة شهر، والعشي: من الزوال إلى الغروب. وَأَسَلْنا أذبنا. الْقِطْرِ النحاس المذاب. بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمر ربه. وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أي ومن يعدل منهم عن طاعة سليمان بأمرنا له بطاعته. نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي من عذاب النار في الآخرة، أو الحريق في الدنيا. مَحارِيبَ هي الأبنية العالية والقصور الرفيعة الحصينة، سميت بذلك لأنه يحارب عليها، وقيل: المراد بالمحاريب هنا: المساجد. وَتَماثِيلَ جمع تمثال، وهو كل شيء مجسّم صوّرته بصورة الحيوان من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك. قيل: إن التصوير كان مباحا في شرع سليمان، ثم نسخ ذلك في شرع نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَجِفانٍ جمع جفنة، أي صحاف تشبه في العظم حياض الإبل، يجتمع على القصعة الواحدة جمع كبير كألف، يأكلون منها. كَالْجَوابِ كالحياض الكبار، جمع جابية. وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات، ولها قوائم لا تتحرك عن أماكنها، تتخذ من الجبال باليمن، يصعد إليها بالسلالم. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي وقلنا لهم: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرا له على ما آتاكم. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ العامل بطاعة الله، المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر إلى ما لا نهاية. فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي حكمنا على سليمان، بأن مات ومكث قائما متكئا على عصاه، وبقي الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة على عادتها، لا تشعر بموته، حتى أكلت الأرضة عصاه، فخرّ ميتا. ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي ما دلّ الجن على موته إلا الأرضة: وهي التي تأكل

المناسبة:

الأخشاب ونحوها، مأخوذة من أرضيت الخشبة: أكلتها الأرضة، ويقال: أرضيت الأرضة الخشبة أرضا. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه لأنها ينسأ بها، أي يطرد ويزجر بها. فَلَمَّا خَرَّ سقط ميتا. تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ انكشف لهم. أَنْ لَوْ كانُوا أَنْ: مخففة من الثقيلة، أي أنهم. يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كما زعموا، لعلموا بموته. ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ما أقاموا في الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها، لظنهم حياته. قيل: وقد أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما وليلة مقدارا، فحسبوا ذلك، فوجدوه قد مات منذ سنة، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. وقال كما ذكر الماوردي بعد الانتهاء من بناء المسجد الأقصى: «اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلا أمّنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا فقير إلا أغنيته، والخامس: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا ربّ العالمين» . المناسبة: بعد بيان ما أنعم الله به على داود عليه السلام من النبوة والملك، ذكر تعالى ما أنعم به على سليمان من تسخير الريح له، حيث كانت تجري من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس كإذابة الحديد لأبيه داود، وتسخير الجن لبناء القصور الشامخة وصناعة الجفان الكبيرة كالأحواض، والقدور الثابتة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها. وهذه الأشياء الثلاثة تقابل الثلاثة في حقّ داود وهي تسخير الجبال الذي هو من جنس تسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير الذي هو من جنس تسخير الجن لسليمان، وإلانة الحديد كإلانة النحاس لسليمان. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى في هذه الآيات نعما ثلاثا كبري أنعم بها على سليمان عليه السلام وهي: 1- تسخير الريح: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ

أي وسخّرنا لسليمان الريح التي كانت تحمل بساطا له غدوها (أي سيرها وقت الغداة من أول النهار إلى منتصف النهار) مسيرة شهر، ورواحها (جريانها وقت الرواح من منتصف النهار إلى الغروب) مسيرة شهر. قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق، فينزل بإصطخر يتغدى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل (في أفغانستان) وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع. 2- إذابة النحاس: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي وأذبنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، فكان يصنع منه ما يشاء دون نار ولا مطرقة. وسمي عينا، لأنه سال من معدنه سيلان الماء من الينبوع. 3- تسخير الجن: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي وسخرنا له من الجن من يعمل لديه من المحاريب وغيرها، بأمر ربّه وقدرته وتيسيره وتسخيره إياهم لسليمان، ومن يعدل ويخرج منهم عن طاعة سليمان نذقه عذابا أليما من الحريق في الدنيا، أو من عذاب النار في الآخرة. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ، وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي يعمل الجن لسليمان ما يريد من الأبنية الرفيعة والقصور العالية والمساجد والصور المجسمة المصنوعة من النحاس أو الزجاج أو الرخام ونحوها، والصحاف أو القصاع الكبيرة التي تكفي لعدد كبير من الناس وتشبه حياض الإبل، والقدور الثابتات في أماكنها، لا تتحرك ولا تتحول عن مواضعها لعظمها وثقلها. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي وقلنا: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرا له على ما آتاكم من النعم في الدين والدنيا، وقليل

من عبادي من يشكرني، فيستعمل جميع جوارحه فيما خلقت له من المنافع المباحة. والشكور: هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضرّ. كما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ [ص 38/ 24] وهذا إخبار عن الواقع. ورد في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأحبّ الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى» . وأخرج مسلم في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا» . وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر، فتلا هذه الآية، ثم قال: «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود، فقلنا: ما هنّ؟ فقال: العدل في الرّضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السّرّ والعلانية» . ومع هذه النعم وعظمة سليمان عليه السلام ذكر تعالى كيفية موته وتعميته على الجن المسخرين له في الأعمال الشاقة، فقال: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي فلما حكمنا على سليمان بالموت وألزمناه إياه، مات، وهو قائم متكئ على عصاه، ولم تعلم الجن بموته، وبقوا يعملون خوفا منه، ولم يدلّهم على موته إلا الأرضة التي أكلت عصاه من الداخل، فلما سقط بعد ما وقعت عصاه، ظهر للجن أنهم

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يعلمون الغيب كما زعموا، ولو صحّ ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب، لعلموا بموته وهو أمامهم، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العمل الشاق الذي سخرهم فيه، ظانين أنه حيّ. أما المدة التي مكث فيها سليمان متكئا على عصاه فلم يرد خبر صحيح في شأنها، ونترك الأمر في تقديرها لله عزّ وجلّ، وربما يستأنس بالحديث المرفوع الذي رواه إبراهيم بن طهمان عن ابن عباس وفيه: «أن سليمان نحت عصا الخرنوبة، فتوكأ عليها حولا لا يعلمون، فسقطت، فعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك، فوجدوه سنة» «1» . قال الرازي: وقوله: ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين «2» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- امتنّ الله تعالى على سليمان عليه السلام بما أنعم عليه من النعم الجليلة أهمها ثلاث: تسخير الريح، وإذابة النحاس، وتسخير الجنّ للعمل بأمره. أما تسخير الريح فكانت تحمل بساطه تنقله من مكان إلى آخر، فتقطع مسافة في نصف يوم تقدر بمسيرة شهر للمسافر العادي، وهذا معنى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ. 2- والنعمة الثانية هي إذابة النحاس في يده.

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 279 (2) تفسير الرازي: 25/ 250

قال القرطبي: والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته «1» . 3- والنعمة الثالثة هي تسخير الجنّ له شغلة عملة لمختلف الحرف والصناعات الثقيلة، من المساجد والقصور الشامخة، والقصاع الكبيرة كحياض الإبل وقدور النحاس الثوابت التي لا تحرك لعظمها. والتماثيل: وهي كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان أو غيره. ذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصّور» أي ليتذكروا عبادتهم، فيجتهدوا في العبادة. والآية صريحة في أن نبي الله سليمان عليه السلام كان يتخذ التماثيل. وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ جوازه بشرع محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعلة النسخ سد الذّرائع ومحاربة ما كانت العرب تفعله من عبادة الأوثان والأصنام، كما أن التعظيم لا يكون لغير الله تعالى. ذكر ابن العربي خمسة أحاديث في منع التصوير، منها ما رواه مسلم عن أبي طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» زاد زيد بن خالد الجهني: «إلا ما كان رقما في ثوب» ثم ثبتت كراهية الرّقم أيضا ونسخه المنع منه في أحاديث أخرى، فاستقرّ الأمر فيه على المنع كما ذكر القرطبي، ومنها: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود وابن عباس: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون» ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حوّلي هذا، فإني كلما دخلت، فرأيته ذكرت الدنيا» وعنها

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 270

قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام «1» فيه صورة، فتلوّن وجهه، ثم تناول السّتر فهتكه، ثم قال: «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون بخلق الله عزّ وجلّ» . هذا ما يراه ابن العربي والقرطبي «2» في أن المنع من التصوير عام، ثم استثنيت منه أشياء، مثل لعب البنات، بالحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. واستبعد جماعة من العلماء هذا الاتجاه لأن النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ، والأولى في الجمع بين الأحاديث: أن يقال: تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسدا لذي روح، بدليل حديث «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله» ومن طريق آخر: «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» فيكون المنع متجها إلى صور الأجسام ذات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال: إن صاحبها يضاهي بها خلق الله، وذلك إذا كانت كاملة الخلق، بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح. وأما حديث الأمر بتحويل السّتر الذي فيه تمثال طائر، فلاستقبال المارة له، مما يشعر بتعظيمه، فإذا وضع للاستعمال فلا بأس. أما تصوير الجمادات، كالجبال والأنهار، والأشجار ونحوها، فليست مما يتناولها النص بإشارة: «يشبّهون خلق الله» وبإشارة «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» . وكذلك كل ما وضع في حالة لا تشعر بالتعظيم كالاستعمال في الأرض لا يكون ممنوعا.

_ (1) القرام: السّتر الرقيق. (2) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1589- 1590، تفسير القرطبي: 14/ 272- 274

هذا وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور، نقلا عن ابن العربي، وهي أن اتخاذ الصور ذات الأجسام أو ذات الظل لكل ما فيه روح من إنسان أو حيوان حرام بالإجماع إلا لعب البنات. أما الرّقم على الثياب ففيه أربعة أقوال: الأول- يجوز مطلقا، عملا بحديث: «إلا رقما في ثوب» . الثاني- المنع مطلقا. الثالث- إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل، حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال: وهذا هو الأصح. الرابع- إن كانت مما يمتهن جاز، وإلا لم يجز. وأجاز جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب اتخاذ الصور إذا كانت مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد. أما التصوير الشمسي أو الفوتوغرافي فحكمه حكم الرقم في الثوب، وهذا مستثنى بالنّص، بل إن هذا في الحقيقة ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به الأحاديث بل حبس للصورة أو الظل، فيكون مثل الصورة في المرآة أو الماء، وليس فيه محاكاة صنع الخالق أو تشبيه خلق الله تعالى. 4- أمر الله آل داود بشكره، وأخبر أن الشاكرين من عبادة قلة قليلة، مما يدل على وجوب شكر الله تعالى على ما أنعم على الإنسان، وحقيقة الشكر: الاعتراف بالنعمة للمنعم، واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وظاهر القرآن والسّنّة: أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان، فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان.

قصة سبأ وسيل العرم [سورة سبإ (34) الآيات 15 إلى 21] :

5- ليس لأحد من الملائكة والجنّ والأنبياء والناس ادعاء العلم بالغيب، وإنما ذلك مختص بالله تعالى، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن 72/ 26- 27] . وفي قصة موت سليمان متكئا على عصاه، دون أن تعلم الجن بموته، بدليل استمرارهم بما كلّفوا به من الأعمال الشاقة: مثل واقعي فذّ لجهلهم بالغيب، فإنه ظلّ مدة متكئا على عصاه، ثم سقط بسقوط العصا التي تآكلت بفعل الأرضة، وحينئذ علموا أنه ميّت. قصة سبأ وسيل العرم [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

الإعراب:

الإعراب: لِسَبَإٍ من قرأ بالتنوين جعله منصرفا، وقال: هو اسم بلد أو حي، وليس فيه تأنيث، ومن لم ينونه، جعله غير منصرف للتعريف (العلمية) والتأنيث، وقال: هو اسم بلدة أو قبيلة. فِي مَسْكَنِهِمْ من قرأ بالإفراد ففيه لغتان بفتح الكاف وكسرها، والفتح على القياس لأن مضارعه «يسكن» . والكسر على خلاف القياس، مثل: مطلع ومغرب ومسجد ومسقط ومنبت ومجزر. ومن قرأ بالجمع جعله جمع مسكن. جَنَّتانِ إما بدل من قوله آيَةٌ أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنتان، أو مبتدأ على تقدير: هنا جنتان، أو هناك جنتان. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ خبر مبتدأ أي هذه بلدة طيبة، وكذلك: وَرَبٌّ غَفُورٌ أي وهذا رب غفور. لَيالِيَ وَأَيَّاماً منصوبان على الظرف. والليالي جمع (ليلة) على خلاف القياس. وأيام جمع يوم. آمِنِينَ حال. أُكُلٍ خَمْطٍ من قرأ بالتنوين جعل (الخمط) عطف بيان على (الأكل) ولا يجوز أن يكون صفة لأنه اسم شجرة بعينها، ولا بدلا لأنه ليس هو الأول ولا بعضه. ومن لم ينون أضاف (الأكل) إلى الخمط لأن الأكل هو الثمرة، والخمط هو الشجرة، فأضاف الثمرة إلى الشجرة، مثل تمر نخل، وعنب كرم. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ذلِكَ: في موضع نصب لأنه مفعول ثان ل جَزَيْناهُمْ والمفعول الأول: الهاء والميم، وما: مصدرية أي بكفرهم. وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ من قرأ صدق بالتخفيف، كان ظَنَّهُ إما منصوب انتصاب الظرف، أي في ظنه، وإما منصوب انتصاب المفعول به على الاتساع، وإما منصوب على المصدر. ومن قرأ بالتخفيف ونصب إبليس ورفع ظنه، جعل الظن فاعلا وإبليس مفعولا. ومن قرأ بالتشديد نصب ظَنَّهُ لأنه مفعول صَدَّقَ. البلاغة: يَمِينٍ وَشِمالٍ بينهما طباق. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا بين الكلمتين الأخيرتين جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية:

صَبَّارٍ شَكُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول. وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ بينهما ما يسمى بمراعاة الفواصل، من أنواع الجمال في اللفظ. المفردات اللغوية: لِسَبَإٍ اسم قبيلة من قبائل العرب العاربة في بلاد اليمن، وتعد أصلا تفرع منها عدة فروع في جزيرة العرب. وقد سميت باسم جدّ لهم من العرب: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. فِي مَسْكَنِهِمْ موضع السكنى وهو مأرب في بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. آيَةٌ علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد أمور عجيبة. جَنَّتانِ بستانان. عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ عن يمين واديهم وشماله. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي قيل لهم ذلك، والرزق: ثمار الجنتين. وَاشْكُرُوا لَهُ على ما رزقكم من هذه النعم في أرض سبأ، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور. وكون البلد طيبة: أنه ليس فيها سباخ ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية لطيب هوائها. فَأَعْرَضُوا انصرفوا عن شكر هذه النعم وكفروا بالله. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي دمّره الله، وفتق عليهم سد مأرب حتى انتقض، فدخل الماء بساتينهم فغرقها، ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم. والعرم: جمع عرمة: وهي الحجارة المركومة والمباني القائمة، وسيل العرم: هو السيل الذي لا يطاق لقوته وشدّته. أُكُلٍ خَمْطٍ مرّ، والأكل بمعنى المأكول: الثمر، والخمط: كل شجرة مرّة ذات شوك وليس له ثمر. وَأَثْلٍ هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء، ولا ثمر له. سِدْرٍ شجر النبق له ثمر يؤكل. أهلك الله أشجارهم المثمرة، وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر، ووصف السدر بالقلة لأن ثمره مما يطيب أكله. ذلِكَ التبديل. جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بكفرانهم النعمة، أو بكفرهم بالرسل، إذ بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي لا نجازي بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في كفران النعم أو الكفر بالرسل. وقرئ: يجازي. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ سبأ باليمن. وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والشجر وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة. قُرىً ظاهِرَةً مرتفعة على الآكام، متواصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي كانت القرى على مقادير للمسافر، بحيث يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى، إلى انتهاء سفرهم ووصولهم إلى الشام، دون أن يحتاجوا في الطريق إلى حمل زاد وماء. سِيرُوا فِيها أي وقلنا:

سبب النزول:

سيروا فيها. لَيالِيَ وَأَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار. آمِنِينَ لا تخافون في ليل ولا في نهار. فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ وفي قراءة: بعّد. بَيْنَ أَسْفارِنا إلى الشام فإنهم بطروا النعمة كبني إسرائيل، فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الزاد. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر وبطر النعمة. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم في ذلك، جمع أحدوثة: وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، فإن الله أجابهم بتخريب القرى المتوسطة. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم في البلاد غاية التفريق. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ عبرا ودلالات واضحات. لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات. شَكُورٍ كثير الشكر على النعم. وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق إبليس على الكفار ومنهم سبأ ظنه، والمعنى: ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه. فَاتَّبَعُوهُ أي فصدق في ظنه، أو صدّق ظنه بأن وجده صادقا. إِلَّا فَرِيقاً بمعنى لكن. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لكن فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه، ومِنَ: للبيان. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي لم يكن له على المتبعين تسلط واستيلاء بوسوسة واستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ علم ظهور وانكشاف. مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي لنتعرف ونتميز المؤمن بالآخرة من الشاك. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ رقيب. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم أن فروة بن مسيك الغطفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ الآيات. المناسبة: بعد بيان حال الشاكرين لنعم الله المنيبين إليه، وهم داود وسليمان عليهما السلام، بيّن الله تعالى حال الكافرين بأنعمه، بحكاية قصة أهل سبأ، تحذيرا لقريش، ووعيدا لكل من يكفر بنعم الله تعالى.

اضواء على سبأ وسد مأرب:

اضواء على سبأ وسد مأرب: كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس صاحبة سليمان عليه السلام من جملتهم، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال سيل العرم، والتفرق في البلاد «1» . روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن ابن عباس يقول: إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ ما هو، أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «بل هو رجل، ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسّان» وإسناده حسن. قال علماء النسب كمحمد بن إسحاق: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ- أي تفرق- في العرب، وكان يقال له: الرائش لأنه أول من غنم في الغزو، فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا. وأرض سبأ: طيبة الثمار والهواء، كثيرة الخيرات والبركات، أنعم الله على أهلها بنعم كثيرة ليوحدوه ويعبدوه. والسابئيون: قوم سكنوا اليمن، وأقاموا المدن العظام ذات الحصون والقلاع والقصور الشامخة. واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال: أحدها- أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح، والثاني- أنه من سلالة عابر وهو هود عليه السلام، والثالث- أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 530

التفسير والبيان:

وأما سد مأرب: فكأن الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء، وبلغ حافة الجبلين، فغرسوا الأشجار، واستغلوا الثمار. وكان هذا السد بمأرب: بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسد مأرب. وقد جدد بناؤه عام 1987 م. التفسير والبيان: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ «1» فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ كان لقبيلة سبأ باليمن التي كان منها ملوك اليمن في مسكنهم: مأرب آية هي بستانان عن يمين واديهم وشماله، وكانت مساكنهم في الوادي، وفي البستانين جميع الثمار، فقيل لهم: كلوا من رزق ربكم، أي من ثمار الجنتين، والقائل لهم نبيهم، أو القول بلسان الحال أو الدلالة لأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. وقيل لهم أيضا: واشكروا ربكم على ما رزقكم من هذه النعم، ووحدوه واعبدوه، واعتدال هوائها، وصحة مناخها، والله المنعم عليكم بهذه النعم رب غفور لذنوبكم إن استمررتم على التوحيد والطاعة. فَأَعْرَضُوا، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ، وَأَثْلٍ، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ أي فأعرضوا عن توحيد الله، وعبادته وطاعته، وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما حكى القرآن عن قول الهدهد لسليمان عليه السلام: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ

_ (1) منصرف على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل، كما تقدم بيانه.

عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل 27/ 22- 24] . فأرسل الله عليهم سيل العرم، أي المياه الكثيرة الغزيرة، بأن تحطم سد مأرب، فملأ الماء الوادي، وغرّق البساتين الخضراء ثم يبست، ودفن البيوت، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وأعطوا بدل تلك الجنان والبساتين المثمرة الأنيقة النضرة بساتين لا خير فيها ولا فائدة منها، وإنما أشجار ذات ثمر مرّ هي الأراك، وأثل هو الطرفاء، والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل، وهو شجر النبق. قال القشيري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا، ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . وسبب هذا العقاب كما قال تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي إن ذلك التبديل من الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال الوارفة والأنهار الجارية إلى أشجار ذات أشواك وثمار مرة، كان بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق، وعدولهم عنه إلى الباطل، لقد عاقبناهم بكفرهم، ولا يعاقب الله إلا المبالغ في كفران النعم، والكفر بالرسل. وبعد تعداد نعم الله على السابئيين في مساكنهم، ذكر تعالى باقة أخرى من النعم أثناء تنقلهم في البلاد، ومتاجرتهم مع بلاد الشام، فقال: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالمياه والأشجار والخيرات الكثيرة قرى مرتفعة

معروفة، متواصلة، متقارب بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل ماء ولا زاد، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، وهي قرى ظاهرة، أي بينة واضحة يعرفها المسافرون، لبنائها على هضاب عالية. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلناها محطات متعاقبة ذات مقادير متناسبة بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، فيقيلون في بلد، ويبيتون في آخر، إلى أن يصلوا إلى الشام. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي وقيل لهم بلسان المقال أو الحال: سيروا في تلك القرى ليالي وأياما آمنين مما تخافون في السير ليلا ونهارا، لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يهددكم. ثم بطروا تلك النعمة، فقال تعالى: فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي سئموا النعمة، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وقالوا: ربنا اجعل بيننا وبين البلاد التي نسافر إليها مفاوز وقفارا، ليركبوا فيها الرواحل، والتزود بالزاد والماء، إظهارا للتمايز الطبقي والتكبر والتفاخر على الفقراء والعاجزين، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد بالمن والسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس، كما طلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار لأغراض حربية، وهذا غاية الانتكاس على الفطرة، والإمعان في تدمير مظاهر الحضارة والتمدن والحياة الهانئة، لذا وصفهم الله بأنهم ظلموا أنفسهم إذ عرضوها للسخط والعذاب، وعاقبهم الله على بطرهم النعمة وكفرهم بالله، فقال: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي جعلناهم عبرة لمن يعتبر،

وحديثا للناس يسمرون به في مجالسهم، وفرقنا شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، وفرقناهم في البلاد كل تفريق، فصارت العرب تضرب بهم المثل، فتقول: «تفرق القوم أيدي سبأ» وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها، فنزلت الأوس والخزرج بيثرب، وغسان آل جفنة بن عمرو بالشام، والأزد بعمان والسّراة، وخزاعة بتهامة، فمزقهم الله كل ممزق، وهدم السيل بلادهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي إن في هذا الذي حلّ بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة، وتحويل العافية، عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام، لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم. وفي هذا إشادة بالصبر، روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن: إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته» . وروي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» . وكان مطرّف بن الشّخير يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وبعد بيان قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان، أخبر تعالى بأنهم وأمثالهم هم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالفوا الرشاد والهدى، فقال: فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ظن إبليس بهؤلاء السابئيين أنه إذا أغواهم اتبعوه، فكان كما ظن بوسوسته، فانقادوا لإغوائه وعصوا ربهم وعبدوا الشمس من دون الله، إلا فريقا مؤمنا منهم قاوموا وسوسة الشيطان وعصوا أمره، وثبتوا على طاعة الله تعالى. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي لم يكن لإبليس على هؤلاء القوم من حجة وبرهان لإضلالهم، ولم يقهرهم على الكفر، وإنما كان منه الوسوسة والتزيين، قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها، فأجابوه. ولكن ابتليناهم بوسوسته وسلطانه عليهم لنعلم علم ظهور- وإلا فالله بكل شيء عليم- أمر من يؤمن بالآخرة وقيامها، والحساب فيها، والجزاء بالثواب والعقاب، ممن هو منها في شك، فلا يؤمن بحدوثها ولا بما اشتملت عليه من ثواب وعقاب. وربك أيها الرسول محافظ ورقيب على كل شيء، ومنه أعمال هؤلاء الكفار، وسيجازيهم عليها يوم الآخرة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لقد كان لقبيلة سبأ باليمن بساتين خضراء ومناظر رائعة حسناء، وخيرات وفيرة عن يمين واديهم التي يسكنون فيها وعن شمالهم في مأرب، وتلك علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة، لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر.

2- كان جديرا بهم أن يشكروا نعم الله وما رزقهم بالطاعة، فضلا عن أن الرسل قالت لهم ذلك، فهذه أي مأرب بلدة طيبة، أي كثيرة الثمار، معتدلة المناخ، لطيفة الهواء، بعيدة عن المؤذيات، والمنعم بهذه النعم عليهم ربّ غفور يستر ذنوبهم، فجمع الله تعالى لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم، ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. 3- لقد خيبوا ما يظن بهم، فأعرضوا عن أمر ربهم واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين، فأرسل عليهم سيل العرم، أي نقض سدّ مأرب، فتدفقت المياه المدرارة الغزيرة، فغرّقت بساتينهم، ودفنت بيوتهم، فيبست الأشجار المثمرة، ونبت مكانها أشجار مرّة لا خير فيها من الخمط أي الأراك، والأثل: وهو كما قال الفراء: شجر شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا، والسّدر وهو نوعان: نوع له ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضّال، ونوع ينبت على الماء وثمره النّبق، وورقه يشبه شجر العنّاب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيّره الله تعالى من شرّ الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة، وأثبت بدلها الأراك والطّرفاء والسّدر. 4- هذا التبديل من النعمة إلى النقمة جزاء كفرهم، ولا يعاقب بهذا إلا المبالغ في كفران النعمة والكفر بالله تعالى. وتساءل الزمخشري والقرطبي: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور، ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ والجواب أن المراد: هو الجزاء الخاص وهو العقاب بالاستئصال والإهلاك، وليس المراد: الجزاء العام الذي يشمل الكافر والمؤمن. هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حوسب هلك «1» ، فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جلّ وعزّ: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب

_ (1) ورواه الترمذي عن أنس: «من حوسب عذب» . [.....]

هلك» والمعنى: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير. 5- ومن النعم على أهل سبأ جعل طرقاتهم وممراتهم التجارية بين اليمن والشام مأهولة، لا تحتاج إلى حمل ماء وزاد، فقد جعل لهم محطات يستريحون فيها بالقيلولة والمبيت هي القرى الكثيرة على طول الطريق إلى الشام، قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبع مائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. والمسافات بين تلك القرى منتظمة، إذ جعل بين كل قريتين نصف يوم، حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. كما أن تلك الطرقات كانت آمنة غير مخوفة ليلا ونهارا، ولا يحتاجون إلى طول السفر، لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان، لا يحرّك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحرّكه، فلم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكدّ. 6- بطروا النعمة أيضا، وطغوا، وسئموا الراحة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة، فتبددوا في الدنيا، وتفرقوا في البلاد كل تفرق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل، ويتزودون الأزواد، وظلموا أنفسهم بكفرهم، وأصبحوا مدار القصص والتحدث بأخبارهم، وعبرة للمعتبر. 7- إن في هذا التبديل والتدمير وتغير نمط الحياة من رفاه ونعومة إلى تعب وكدّ وشظف وخشونة لعبرة ودلالة لكل صبار يصبر عن المعاصي، شكور لنعم الله تعالى. 8- كانوا في كفرانهم النعم، وجحودهم وجود الله وعبادتهم الشمس،

إبطال شفاعة آلهة المشركين [سورة سبإ (34) الآيات 22 إلى 23] :

وإعراضهم عن طاعة الرسل، واتباعهم أهواءهم، كما توقع إبليس الذي سوّل له ظنه فيهم شيئا، فصدق ظنه أنه يغويهم، فأغواهم فاتبعوه، إلا قوما منهم أطاعوا الله تعالى، وآمنوا برسلهم. 9- لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولا حجة يضلهم بها، ولا قدرة له على قهرهم على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين والوسواس، وكان منهم أنهم اتبعوه بشهوة وتقليد، وهوى نفس، لا عن حجة ودليل، وكان هو مجرد آية وعلامة خلقها الله لتبيين ما هو في علمه السابق. وتوضيح ذلك: لقد سلطه الله على الناس، كما يسلط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على من أهمل النظافة، فتكون الفريسة من لا قدرة له على المقاومة، وينجو الأقوياء الأصحاء المجاهدون. وهو تسليط قصد به الابتلاء والاختبار، وإظهار الواقع، مع أن الله يعلم بكل شيء، وتكون النتيجة ظهور أمر المؤمن بالله وبالآخرة، وتمييزه عن الشاك بوجود الله وبالقيامة، وتنصب في النهاية أعمال العباد في الحافظة الإلهية، فهو سبحانه يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه. إبطال شفاعة آلهة المشركين [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

الإعراب:

الإعراب: ماذا قالَ رَبُّكُمْ ما في موضع نصب ب قالَ وذا: زائدة. قالُوا الْحَقَّ الْحَقَّ: منصوب ب قالُوا أيضا، ليكون الجواب على وفق السؤال. البلاغة: قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعجيز بدعاء الجماد الذي لا يسمع. المفردات اللغوية: قُلِ أيها الرسول للمشركين في مكة وغيرها، وهو أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لكفار قريش: هؤلاء الأصنام الذين زعمتموهم آلهة من دون الله، ادعوهم ليكشفوا عنكم الضرّ الذي نزل بكم في سنين الجوع. ادْعُوا نادوا. زَعَمْتُمْ زعمتموهم آلهة. مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره، لينفعوكم بزعمكم. ثم أجاب تعالى عنهم إشعارا بتعين الجواب دون مكابرة: وهو لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي لا يملكون وزن ذرة من خير أو شر. وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي ليس لتلك الآلهة المزعومة من شركة، لا خلقا ولا ملكا. وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي ليس له تعالى من الآلهة من معين يعينه على تدبير أمرهما. وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ تعالى، فلا تنفعهم شفاعة آلهتهم كما يزعمون، وهو رد لقولهم: إن آلهتهم تشفع عنده. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أذن له أن يشفع. فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ كشف عنها الفزع بالإذن فيها، والفزع: انقباض بسبب الخوف. قالُوا قال بعضهم لبعض استبشارا ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ في الشفاعة. قالُوا: الْحَقَّ قالوا: قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وهم المؤمنون. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو فوق خلقه بالقهر، وذو الكبرياء العظيم، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه. المناسبة: بعد بيان حال الشاكرين كداود وسليمان، وحال الكافرين كسبا وما فعله بهم حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل، عاد الله تعالى إلى خطاب المشركين ومناقشتهم ومطالبتهم على سبيل التهكم بهم بأن يستعينوا بآلهتهم المزعومة ليكشفوا

التفسير والبيان:

عنهم الضر، ثم بيّن أنهم لا يملكون شيئا ولا تنفع شفاعتهم، فكيف يعبدونهم، وشأن المعبود تحقيق النفع للعابد؟ التفسير والبيان: قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين من قريش: نادوا تلك الآلهة المزعومة كالأصنام، والتي عبدت من دون الله، ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، أو يجلبوا لكم النفع. ثم أجاب سبحانه عنهم الجواب المتعين دون مكابرة، مبينا خطأهم، فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي إن تلك الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا أبدا، ولو كان وزن ذرة في السموات والأرض، وليس لهم قدرة على خير ولا شر في أمر من الأمور، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر 35/ 13] . ثم نفى الله تعالى وجود الشريك والمعين له، فقال: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي لا تستطيع الأصنام شيئا أصلا، لا استقلالا، ولا شركة في الخلق أو الملك، فليس لله شريك ولا معين على خلق شيء ولا على حفظه، كما قال تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف 18/ 51] بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه. ثم نفى إمكان شفاعتهم، فقال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي لا تنفعهم شفاعة تلك الأصنام لأنه لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا لمن أذن الله له أن يشفع، من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل، وهو لا يأذن للكافرين،

وهؤلاء الشفعاء المأذون لهم لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقال سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم 53/ 26] وقال عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء 21/ 28] وقال عز اسمه: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ 78/ 38] . ومفاد هذه الآيات: أن الشفاعة تحتاج إلى إذن الله تعالى، ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله، وأن تكون أسباب الشفاعة حقا وصوابا مقبولا، لهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله تعالى حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم حينما يأتي ربهم لفصل القضاء، أنه قال: «فأسجد لله تعالى، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» . وفي هذا الموقف الرهيب يتجلى مقام رفيع من العظمة الإلهية، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فسمع أهل السموات كلامه، أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما. وهنا ذكر الله تعالى ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة، فقال: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي إن الناس والملائكة يقفون فزعين خائفين منتظرين الإذن بالشفاعة، حتى إذا أذن للشافعين، وأزيل الخوف والفزع عنهم، قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في الشفاعة؟ قالوا للذي قال: قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، والله هو المتفرد بالعلو والكبرياء والعظمة،

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وليس لملك ولا لنبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى. وكلمة حَتَّى وقعت غاية لشيء مفهوم ضمنا وهو أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا من الراجين للشفعاء، والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ فقه الحياة أو الأحكام: هذه مناقشة معلن عنها مسبقا في القرآن الكريم، تحدث على سبيل التهكم والتوبيخ والتعجب بين الإله الخالق وبين المشركين. يأمر الله فيها نبيه أن يقول لهؤلاء المشركين: هل عند شركائكم قدرة على شيء من النفع يحققونه لكم؟ ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم، أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك. إنهم لا يملكون شيئا أصلا ولو وزن ذرة في السموات والأرض، وليس للأصنام في السموات والأرض مشاركة، لا بالخلق ولا بالملك، ولا بالتصرف، وليس لله من معين يعينه على شيء من أمر السموات والأرض ومن فيهما، بل الله المنفرد بالإيجاد والتدبير، فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال. ولا تنفع شفاعة الملائكة وغيرهم عند الله إلا لمن أذن له، حتى إذا وقفوا- أي الراجون للشفاعة والشفعاء- جميعا خائفين وجلين منتظرين الإذن بالشفاعة، ثم أزيل الفزع عن قلوبهم، تساءل الناس فيما بينهم وقالوا للملائكة: ماذا أمر الله بالشفاعة؟ فيجيبون: إنه أذن في الشفاعة للمؤمنين لا للكافرين، والله هو المتعالي المتكبر العظيم، فله أن يحكم في عباده بما يريد. وهكذا يتبين أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة، وهم على غاية الفزع من الله، كما قال: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ولن يكون الإذن

إقرار المشركين بأن الله هو الرازق وإعلامهم بالحاكم ووقت الحكم [سورة سبإ (34) الآيات 24 إلى 30] :

بالشفاعة لتلك الآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها، كما لن تكون الشفاعة إلا لمن رضي الله من المؤمنين، لا الكافرين. وهذا بيان جلي يقطع الأطماع في الشفاعة الموهومة، ويبدد الآمال في النجاة من غير أمر الله ورضوانه. وقوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ دليل على: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا. والمأذون لهم في الشفاعة: الملائكة وغيرهم، في رأي جمهور المفسرين منهم الزمخشري وأبو حيان. وقال الشوكاني في فتح القدير: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب، أخرج البخاري وأبو داود، من حديث أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير» . إقرار المشركين بأن الله هو الرازق وإعلامهم بالحاكم ووقت الحكم [سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 30] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

الإعراب:

الإعراب: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً إِيَّاكُمْ ضمير منفصل منصوب معطوف على اسم «إن» ولَعَلى هُدىً إما خبر لقوله: وَإِنَّا وخبر إِيَّاكُمْ محذوف لدلالة الأول عليه، أو أن يكون خبرا للثاني، وخبر الأول محذوف لدلالة الثاني عليه. وهذا كقولهم: زيد وعمرو قائم، إما أن يجعل قائم خبرا للأول، ويقدر للثاني خبر، وإما أن يجعل خبرا للثاني، ويقدر للأول خبر. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً.. كَافَّةً منصوب على الحال من كاف أَرْسَلْناكَ ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار. وأصله «كاففة» اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، فسكن الأول وأدغم في الثاني، فصار كَافَّةً وتقديره: وما أرسلناك إلا كافّا للناس. ودخلت التاء للمبالغة، كعلّامة ونسّابة. لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ.. مبتدأ مرفوع، ولَكُمْ خبره، والهاء في عَنْهُ عائدة على الميعاد. البلاغة: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توبيخ وتبكيت. قُلِ: اللَّهُ حذف الخبر، لدلالة السياق عليه، أي قل الله الخالق الرازق للعباد. تَسْتَأْخِرُونَ وتَسْتَقْدِمُونَ بينهما طباق. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل. المفردات اللغوية: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد به تقرير قول السابق: لا يملكون، والرزق من السموات: المطر، ومن الأرض: النبات. قُلِ: اللَّهُ أي لا جواب سواه، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام، فهم مقرّون به بقلوبهم. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أي أحد الفريقين. لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إما في حال هدى أو في ضلال

واضح. وهذا بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى، ومن هو في الضلال. وهذا الإبهام أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم، وهو تلطف بهم في الدعوة إلى الإيمان إذا وفقوا له. أَجْرَمْنا أذنبنا، أو وقعنا في الجرم، وهو الذنب. وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ لأنا بريئون منكم. يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ أي يحكم، والفتاح: الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره، وبعد الحكم يدخل تعالى أهل الحق والإيمان الجنة، وأهل الباطل والكفر النار. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم بالحق. الْعَلِيمُ بما يحكم به وبما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي أعلموني بالدليل وجه الشركة في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم، زيادة في تبكيتهم. كَلَّا كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب، والمراد هنا: ردع لهم عن اعتقاد شريك لله تعالى. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة وكمال القدرة، والحكمة الباهرة في تدبيره لخلقه، فلا يكون له شريك في ملكه. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي وما أرسلناك إلا للناس جميعا عربهم وعجمهم، وكَافَّةً مانعا لهم، من الكف وهو المنع عن الكفر ودعوتهم إلى الإسلام، أو جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ، من الكف بمعنى الجمع، والتاء للمبالغة، والمعنى على الأول: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد، وعلى الثاني: إلا جامعا للناس في الإبلاغ والإنذار، وهو حال من الكاف، ولا يجوز جعله حالا من لِلنَّاسِ لأن تقدم حال المجرور عليه ممنوع كتقدم المجرور على الجار. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا للمؤمنين بالجنة، ومنذرا للكافرين بالعذاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيحملهم جهلهم على مخالفتك، فهم لا يعلمون ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويقول المشركون من فرط جهلهم: متى يكون هذا الوعد بالعذاب الذي تعدوننا به يا محمد وصحبه، وهو قيام الساعة، أخبرونا به إن كنتم صادقين فيه. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، وهو يوم البعث أو القيامة. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون عليه، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وهو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أن الأصنام ونحوها من الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا في الكون، أبان الله تعالى أن المشركين يعترفون بأن الرازق من السماء والأرض بما ينزل من المطر وينبت من الزرع ويوجد من المعادن هو الله، فيلزمهم أن يعتقدوا بأنه لا إله غيره، وأن المحق واحد من الفريقين وغيره مبطل، والمحق هم المؤمنون لقيام الدليل على التوحيد، وأن يعلموا أن الله هو الحاكم بالحق يوم القيامة، وأنه هو الخالق الرازق، أما الشركاء فلا يخلقون ولا يرزقون. التفسير والبيان: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلِ: اللَّهُ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان والأصنام على سبيل التوبيخ والتبكيت: من الرازق لكم من السموات بإنزال المطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن ونحوها؟ قل لهم: هو الله الذي يرزقكم، إن لم يجيبوا، بل لا جواب لهم سواه، وقد أجابوا فعلا في آيات أخرى بأنه هو الله، قال تعالى: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس 10/ 31] . وإذا اعترفتم بأن الله هو الرازق، فلم تعبدون سواه ممن لا يقدر على الرزق؟ كما قال تعالى تبكيتا وتعنيفا لهم: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللَّهُ، قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الرعد 13/ 16] . ثم دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالله بطريق التلطف، بعد هذا الإلزام القائم مقام الاعتراف والإقرار، فقال:

وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: إن أحد الفريقين منا، سواء معشر المؤمنين الموحدين الله الخالق الرازق، الذين يخصونه بالعبادة، أو المشركين الذين يعبدون الجمادات العاجزة عن الخلق والرزق والنفع والضرر، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو في الضلال البيّن الوضح، فلا سبيل إلى تصويب كل منا، فإما أن نكون نحن أو أنتم على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، والآخر مخطئ مبطل. وهذا أسلوب فيه لطف وأدب، لاستدراج الخصم إلى أن ينظر في حاله وحال غيره، ويستعمله العرب لإعطاء الحرية للمخاطب بأن يتأمل ويعلن عن قناعة أنه مخطئ وغيره مصيب، كما يقول الرجل لصاحبه: قد علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب. ويلاحظ أنه ذكر كلمة «على» مع الهدى، وكلمة «في» مع الضلال لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها. ووصف الضلال بالمبين، ولم يصف الهدى لأن الهدى هو الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والمستقيم واحد، وغيره كله ضلال، بعضه أبين من بعض. وقدم الهدى على الضلال لمناسبته لوصف المؤمنين المبدوء بكلمة إِنَّا المقدم في الذكر. ثم أعلن الله تعالى وجود الانفصال بين الفريقين واستقلال كل منهما عن الآخر بطريق التلطف مرة أخرى بنسبة الاجرام فرضا إلى المؤمنين والعمل للمشركين فقال: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي قل أيها الرسول أيضا للمشركين: إن كانت عبادتنا لله وطاعتنا له جريمة، فلستم مسئولين عنا، ولا نسأل عما تعملون من خير أو شر. وهذا معناه التبري منهم، فلستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى توحيد الله وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا، ونحن منكم، وإن أعرضتم وكذبتم فنحن برآء منكم، وأنتم برآء منا، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] . وقد أضاف الاجرام إلى النفس:

أَجْرَمْنا وقال في حقهم عَمَّا تَعْمَلُونَ لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم. ثم أنذرهم الله تعالى بالقضاء والحكم الذي سيقضي به، تأكيدا للنظر والتفكر، في مجال الحساب والثواب والعذاب، فقال: قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أي قل لهم أيها الرسول أيضا. إن ربنا سيجمع بيننا في ساحة واحدة يوم الحساب، ويوم القيامة، ثم يحكم ويقضي بيننا بالحق والعدل، والله هو الحاكم العادل القاضي بالصواب، العالم بحقائق الأحوال والأمور، وبما يتعلق بحكمه من المصالح، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم 30/ 14- 16] . ثم تحداهم تعالى بالكشف عن الشركاء وقدراتهم، فقال: قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ، كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين قولا فصلا: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها شركاء ونظراء معادلين لله، حتى أراهم، وأرى ما يقدرون عليه. الحق واضح، والأمر ليس كما تزعمون، كلا أي فارتدعوا عن ادعاء المشاركة، فلا نظير ولا شريك ولا عديل لله، بل هو الله الواحد الأحد، المتفرد بالألوهية، الذي لا شريك له، ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وغلب كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، حكمة باهرة لا يعلوها شيء. وهذا التساؤل يراد به بيان فائدة الشركاء في دفع الضرر، بعد إبطال فائدتها بآية

قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لجلب المنفعة، تمشيا مع أهداف العامة الذين لا يعبدون المعبود إلا لدفع الضرر أو لجلب المنفعة، أما الخواص فيعبدون الله لأنه يستحق العبادة لذاته. وبعد إثبات التوحيد، أبان الله تعالى عموم الرسالة المحمدية للناس جميعا، فليست ذات نزعة عنصرية، ولا حكرا على العرب وحدهم، فقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي وما أرسلناك أيها النبي لقومك العرب خاصة، بل أرسلناك للناس قاطبة، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاع الله بالجنة، ومنذرا من عصاه بالنار، كما قال تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقال سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] . وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.. وذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» . وفي الصحيح أيضا: «بعثت إلى الأسود والأحمر» . إلا أن أكثر الناس لا يعلمون بعموم الرسالة، ولا بمهمة التبشير والإنذار، ولا بخطورة ما هم عليه من الضلال والجهالة، ولا بالنفع في إرسال الرسل، ولا ما عند الله من الجزاء، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف 12/ 103] وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام 6/ 116] . وبعد بيان التوحيد ثم الرسالة، ذكر الحشر، فأخبر تعالى عن استبعاد الكفار قيام الساعة وأجاب عنه، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويقول المشركون

فقه الحياة أو الأحكام:

استهزاء وتعنتا وجهلا: متى يكون هذا الوعد الذي تعدوننا به يا محمد والمؤمنون، وهو قيام الساعة، أخبرونا به إن كنتم صادقين في قولكم. وهذا كقوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى 42/ 18] . والجواب هو: قُلْ: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ، لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي قل لهم أيها الرسول: لكم موعد يوم مؤجل محدد لا شك فيه، هو يوم البعث والقيامة، لا تتأخرون عنه ساعة ولا تتقدمون عليه، لا يزاد ولا ينقص، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وفي هذا إنذار كاف. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الله سبحانه وتعالى في الواقع الذي لا يقبل سواه، وفي اعتراف المشركين أنفسهم هو خالق الأرزاق الكائنة من السموات، عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع، والخارجة من الأرض عن الماء والنبات، وبما أن الله هو الخالق الرازق فهو الذي ينبغي أن يعبد. ومن المعلوم أن العامة يعبدون الله، لا لكونه إلها، وإنما يطلبون به شيئا: إما دفع ضرر، أو جر نفع. 2- الحق واحد لا يتعدد، فلا يعقل أن يكون كل المؤمنين والمشركين في حال واحدة من الهدى أو الضلال، بل هما متعارضان متضادان، وأحد الفريقين مهتد، وهم المؤمنون، والآخر ضال وهم المشركون. وقد كذبهم القرآن بأسلوب يعد أحسن من تصريح الكذب، وهو أن المشركين هم الضالون حين أشركوا بالذي يرزقهم من السموات والأرض. فقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ كما تقول: أنا أفعل كذا،

وتفعل أنت كذا، وأحدنا مخطئ، وقد عرف من هو المخطئ. أما لو قال أحد المتناظرين للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ، فإنه يغضب، وإذا غضب اختل الفكر وساء الفهم. 2- أقام الله تعالى مهادنة ومتاركة بين المؤمنين والمشركين، فأعلن رسوله لهم: إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أن ينالني ضرر كفركم، ولا يسأل أحد الفريقين عن الآخر، فلا يسأل المشركون عما اكتسب المؤمنون، ولا يسأل المؤمنون أيضا عما اقترف المشركون، كما قال تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون 109/ 6] . 3- يجمع الله تعالى يوم القيامة أهل الإيمان وأهل الشرك، ثم يقضي بينهم بالحق والعدل، فيثيب المهتدي، ويعاقب الضال، والله هو القاضي بالحق، العليم بأحوال الخلق. 4- يسأل المشركون: عرّفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء؟ بينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها؟! الحق أنه ليس الأمر كما زعم المشركون، فليس لله شركاء، بل هو الله ذو العزة القاهر الغالب، الحكيم في أقواله وأفعاله، يفعل ما هو مصلحة. 5- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم رسالة عامة للبشرية جمعاء، وليست مقصورة على العرب خاصة، ومهمة النبي تبشير من أطاع الله بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار، ولكن أكثر الناس وهم في ذلك الوقت المشركون لا يعلمون ما عند الله تعالى. 6- يتساءل المشركون استهزاء وعنادا وتعجيزا، فيقولون للمؤمنين: متى موعدكم لنا بقيام الساعة إن كنتم صادقين في إخباركم عنها؟

إنكار المشركين القرآن والحوار يوم القيامة بين الضالين والمضلين [سورة سبإ (34) الآيات 31 إلى 33] :

فيجيبهم الله تعالى: قل لهم يا محمد: لكم ميقات معين هو يوم البعث أو القيامة، لا يزيد ولا ينقص، ولا تتقدمون عنه ولا تتأخرون، وهو آت لا محالة، وعلمه عند الله لم يطلع عليه أحدا من خلقه. إنكار المشركين القرآن والحوار يوم القيامة بين الضالين والمضلين [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواأَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) الإعراب: أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أَنْتُمْ ضمير مرفوع منفصل، مبتدأ، خبره محذوف، ولا يجوز إظهاره لطول الكلام بالجواب. البلاغة: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ استعارة في الجملة الأخيرة، إذ ليس للقرآن يدان، ولكنه استعارة لما سبقه من الكتب السماوية المتقدمة.

المفردات اللغوية:

وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ حذف الجواب للتهويل، أي لو رأيت حالهم، لرأيت أمرا مريعا مهولا. اسْتَكْبَرُوا واسْتُضْعِفُوا بينهما طباق. بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أسند المكر إلى الليل على سبيل المجاز العقلي، أي المكر الواقع ليلا. أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى استفهام بمعنى الإنكار. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة. وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ما تقدمه من الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل الدالين على البعث لإنكارهم له. وَلَوْ تَرى يا محمد. إِذِ الظَّالِمُونَ الكافرون. مَوْقُوفُونَ محبوسون ممنوعون في موقف الحساب. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا الأتباع. الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا الرؤساء. أَنْتُمْ لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان. لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بالله مصدقين لرسوله وكتابه. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا مجيبين عليهم، مستنكرين لما قالوه. أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى أي منعناكم عن الهدى. بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى. بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ مصرّين على الكفر، كثيري الاجرام والآثام. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ردّا لجوابهم ودفعا لما نسبوه إليهم من صدهم عن الإيمان. بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي لم يكن إجرامنا الصادّ، بل مكركم بنا في الليل والنهار، ودعوتكم المستمرة لنا إلى الكفر، هو الذي حملنا على هذا، والمكر: الخديعة والاحتيال. أَنْداداً شركاء، جمع ندّ: وهو النظير والشبيه. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر، وأخفوها عن غيرهم. الْأَغْلالَ جمع غلّ، وهو طوق من حديد يوضع في العنق. فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا جاء بالظاهر تنويها بذمّهم، أي جعلنا الأغلال في أعناق الكافرين في النار. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما يجزون إلا جزاء عملهم في الدنيا، أو لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، وتعدية يُجْزَوْنَ إما لتضمين «يجزى» معنى: يقضى، أو لنزع الخافض. المناسبة: بعد بيان الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر التي كفروا بها كلها، ذكر تعالى إنكار جماعة من المشركين القرآن والكتب السماوية القديمة، وما فيها

التفسير والبيان:

من إثبات البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر صورة من الحوار الحادّ بين الرؤساء المضلين والأتباع الضالين، وأوضح وصفا للجزاء الذي يلقونه على أعمالهم في الدنيا. التفسير والبيان: هذا لون من تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وهو إصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أخبر به من أمر المعاد، فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي وقال جماعة من مشركي العرب في مكة وغيرها: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السماوية السابقة، كالتوراة والإنجيل، ولا بما اشتملت عليه من أمور الآخرة من بعث وحشر وحساب وجزاء. والمعنى: أنهم جحدوا نزول القرآن من الله تعالى، وأن يكون لما دل عليه من المعاد وإعادة الجزاء حقيقة. ثم أخبر تعالى عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة وحوارهم فيما بينهم فقال لرسوله أو للمخاطب: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي ولو تنظر أيها الرسول حين يكون الكافرون أذلة مهانين محبوسين في موقف الحساب، يتخاصمون ويتحاجون ويتحاورون فيما بينهم ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، لرأيت العجيب والمخيف. وصورة الحوار هي: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي يقول الأتباع الضعفاء للسادة الرؤساء المتكبرين في الدنيا: لولا صدكم لنا عن الإيمان بالله واتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، لكنا مؤمنين بالله، مصدقين برسوله صلّى الله عليه وسلّم وكتابه.

فأجابهم القادة: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي قال السادة القادة المتكبرون في الدنيا للأتباع الضعفاء، مستنكرين لما قالوا: أنحن منعناكم عن الإيمان واتباع طريق الهدى بعد أن جاءكم من عند الله؟ لا، بل أنتم منعتم أنفسكم بإصراركم على الكفر، وولوغكم في الاجرام والإثم. فرد عليهم الأتباع بقولهم: وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي رد الأتباع على القادة رؤساء الضلال: بل الذي صدنا عن الإيمان مكركم بنا بالليل والنهار حين كنتم تطلبون منا أن نبقى على الكفر بالله، ونجعل له أشباها وأمثالا في الألوهية والعبادة. ثم ذكر مصير الفريقين فقال: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وأضمر الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه عن الكفر، وأخفاه عن غيره، مخافة الشماتة، وتبينت الندامة في وجوههم حين واجهوا العذاب المحدق بهم، وحين جعلنا الأغلال وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم في النار. ثم أخبر تعالى عن عدالة هذا الجزاء، فقال: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟ أي إنما نجازي هؤلاء وأمثالهم بأعمالهم، كل بحسبه، وبسبب ما اقترفه من الشرك بالله والإثم، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لقد أعلن كفار قريش عدم إيمانهم بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة المتضمنة الإخبار عن أمور الغيب من البعث والحشر والحساب والجزاء. 2- أخبر الله تعالى عن حالهم من الذلة والمهانة يوم القيامة، فهم محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين، فحين ترى الظالمين موقوفين على تلك الحال، ترى عجبا. 3- تكون المحاورة بين الرؤساء والأتباع شديدة حادة، فيقول الأتباع للسادة- وبدأ بهم لأن المضل أولى بالتوبيخ-: لولا أنكم أغويتمونا وأضللتمونا لكنا مؤمنين بالله ورسوله وكتبه. ويردّ القادة والرؤساء على الضعفاء الأتباع بقولهم منكرين اتهامهم: ما رددناكم نحن عن الهدى، ولا أكرهناكم، بعد أن جاءكم من الله، بل كنتم أنتم مشركين مصرين على الكفر. فأجابهم الأتباع بجواب أبلغ وأحكم: إن خديعتكم وحيلتكم وعملكم في الليل والنهار هو الذي صدّنا عن الإيمان بالله ورسوله، وهو الذي حملنا على الكفر بدعوتكم المستمرة المدبرة دوما، وكنتم تأمروننا بالكفر بالله، وبأن نجعل له أشباها وأمثالا ونظراء. وحين مجيء العذاب وبعد اليأس من الحوار أضمر الفريقان الندامة، وأخفوها مخافة الشماتة، وهذا معنى وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وقيل: معنى الإسرار:

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة الكفر بين المترفين واعتدادهم بالأموال والأولاد [سورة سبإ (34) الآيات 34 إلى 39] :

الإظهار، أي أظهروا الندامة لأن الفعل من الأضداد، يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. 4- كان جزاء الفريقين التابعين والمتبوعين وسائر الكنار: جعل أغلال الحديد في أعناقهم في النار، وهذا جزاء حق وعدل، ولا يجازى هؤلاء إلا بسبب أعمالهم في الدنيا من الشرك بالله والإثم والعصيان. تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهرة الكفر بين المترفين واعتدادهم بالأموال والأولاد [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

الإعراب:

الإعراب: بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالَّتِي في موضع نصب لأنه خبر ما. ودخلت الباء في خبر ما لتكون بإزاء اللام في خبر «إنّ» لأن «إن» للإثبات، وما للنفي. وإِلَّا مَنْ آمَنَ في موضع نصب على الاستثناء، ولا يجوز أن يكون منصوبا على البدل من الكاف والميم في تُقَرِّبُكُمْ لأن المخاطب لا يبدل منه. لكن جاء إبدال الغائب من المخاطب، بإعادة العامل في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] أبدل منه بإعادة الجار، فقال: لمن كان يرجو. البلاغة: يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى فيه التفات من الغائب إلى المخاطب للمبالغة في تحقيق الحق، وفيه إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه، حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه، أي ما أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ مقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار. كافِرُونَ لا يَعْلَمُونَ آمِنُونَ مُحْضَرُونَ 38 فيها توافق الفواصل الذي فيه جميل الوقع على السمع. المفردات اللغوية: قَرْيَةٍ أهل قرية أي بلد. نَذِيرٍ ينذرهم ويحذرهم عقاب الله. مُتْرَفُوها أثرياؤها وقادة الشرّ فيها. كافِرُونَ مكذبون لكم بما أرسلتم به من التوحيد والإيمان. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قاسوا أمر الآخرة المفترضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنهم لو لم يكونوا مكرمين عند الله لما رزقهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسعه لمن يريد امتحانا. وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء ابتلاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة، وكثيرا ما يكون للاستدراج. زُلْفى قربى أي تقريبا، ويصح: زلفة: قربة. إِلَّا مَنْ آمَنَ لكن من آمن. جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا الجزاء المضاعف للحسنات، أي الحسنة بعشر فأكثر. الْغُرُفاتِ غرفات الجنة، وقرئ: الغرفة، بمعنى الجمع. آمِنُونَ من جميع ما يكرهون من الموت وغيره.

سبب النزول نزول الآية (34) :

وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا القرآن بالرد والطعن. مُعاجِزِينَ مسابقين مغالبين لنا، زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم. أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ تحضرهم الزبانية إلى النار، دون أن يجدوا عنها محيصا أو مهربا. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه عليكم إما في الدنيا وإما في الآخرة. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي إن الناس مجرد وسطاء، فإن رزق العباد لبعضهم بعضا إنما هو بتيسير الله وتقديره، وليسوا برازقين على الحقيقة، وإنما الرازق الحقيقي هو الله تعالى. سبب النزول: نزول الآية (34) : وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ..: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: «كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دلّني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إلام تدعو؟ فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فأرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله قد أنزل تصديق ما قلت» . المناسبة: بعد بيان تكذيب المشركين بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية، سلّى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما مني به من مخالفة قومه، وخصّ بالتكذيب المترفين المعتمدين على كثرة الأموال والأولاد لأن الداعي إلى التكبر والإباء المفاخرة بزخارف

التفسير والبيان:

الدنيا والانهماك في الشهوات، والاستهانة بمن لم يحظ منها، وهذه ظاهرة عامة في الأمم لأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعا. ثم فنّد الله تعالى مزاعمهم مبينا بأن الغنى والفقر لا يرتبطان بالإيمان والكفر، فقد يرزق الكافر الفاجر ويحرم المؤمن وبالعكس، لحكمة ومصلحة يعلمها الله تعالى، وإنما الجزاء العادل في الآخرة حيث يمتّع المتقون بغرف الجنان، ويزج الكافرون الصادون عن سبيل الله في نار جهنم. التفسير والبيان: يسلّي الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه عن دعوته، ويأمر بالتأسي بالرسل المتقدمين، ويخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤهم، فقال: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي لم نبعث إلى أهل كل قرية نبيا أو رسولا يحذرهم ويخوفهم عقاب الله إلا قال أغنياؤها وكبراؤها وأولو النعمة وقادة الشر فيها: إنا مكذبون بما أرسلتم به من توحيد الإله والإيمان به، ونبذ تعدد الآلهة، فلا نؤمن بكم ولا نتبعكم. ونظير الآية كثير مثل: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام 6/ 123] ومثل: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء 17/ 16] . ومسوغات كفرهم: الاغترار بالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي وقال المترفون الكافرون للرسل وأتباعهم المؤمنين: إن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في

الدنيا، وأنتم فقراء ضعفاء، فهذا دليل تميزنا وتفاخرنا، وهو دليل على محبة الله تعالى لنا ورضاه عنا، وما نحن عليه من الدين، وما كان ليعطينا هذا في الدنيا ويحسن إلينا، ثم يعذبنا في الآخرة. ولكن هذه النظرة خطأ محض، وقياس باطل، فإن الإمداد بالأموال غالبا ما يكون للاستدراج، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 56- 55] . وقال سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة 9/ 55] . وهنا رد الله عليهم، وأبان خطأهم، فقال: قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي قل أيها الرسول لهم: إن الله يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لا لمحبة لمن وسع عليه، ولا لبغض لمن ضيق عليه، وإنما له في ذلك حكمة تامة بالغة، ولأن الدنيا لا تساوي شيئا في ميزان الله، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن سهل بن سعد: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة سنن الله في الكون، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مسألة الرزق غلط بيّن، أو مغالطة واضحة، فقد يعطي الله العاصي والكافر استدراجا، ويمنع الطائع والمؤمن ابتلاء واختبارا، ليصبر، فتكثر حسناته عند الله، وبه يتبين أن ما يزعمه المترفون من أن مدار التوسعة هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل: لا حقيقة له ولا أصل في تقدير الله تعالى. ثم أبان تعالى ميزان القربى عنده، وأنها ليست بكثرة المال والولد، وإنما بالإيمان والعمل الصالح، فقال:

وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي وليست كثرة أموالكم وأولادكم هي دليل محبتنا لكم ورضائنا عنكم، ولا هي مما تقربكم إلى رحمتنا وفضلنا، فإنما أموالكم وأولادكم فتنة واختبار لنعلم من يستعملها في طاعة الله، ممن يعصي الله فيها. لكن من آمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال، فأدى الفرائض، واستعمل أمواله في طاعة الله، فإن إيمانه وعمله يقربانه لدينا، ويكون مرضيا عندنا، وهؤلاء لهم الجزاء المضاعف للحسنات، نجازيهم الحسنة بعشر أمثالها فأكثر إلى سبع مائة ضعف، وهم آمنون من كل مكروه في غرفات الجنان. روى الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: لمن هي؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: لمن طيّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» . ثم هدد الله تعالى الكافرين، وأبان حال المسيئين، فقال: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي إن الذين يحاولون رد آياتنا في القرآن، والطعن فيها، لإبطالها، ويسعون في الصد عن سبيل الله، واتباع رسله، والتصديق بآياته، زاعمين أنهم يفوتوننا،

فقه الحياة أو الأحكام:

وأننا لا نقدر عليهم، فأولئك جميعهم مجزيون بأعمالهم، تحضرهم الزبانية إلى عذاب جهنم، ولا يجدون عنها محيصا أو مهربا. ثم أبان الله تعالى ما يريح الخلائق جميعا في مسألة الرزق، وأنه وحده هو المصدر، فقال: قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي قل أيها الرسول لهم: إن ربي وحده هو الذي يوسع الرزق على من يريد من عباده، وهو الذي يضيقه على من يشاء، بحسب ما له في ذلك من الحكمة التي لا يدركها غيره. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي إن عطاء الله متجدد دائم، فكل ما تنفقونه في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهو يعوضه عليكم بالبدل في الدنيا أو بالجزاء والثواب في الآخرة، والله هو الرازق في الحقيقة، وما العباد إلا وسائط وأسباب. وفي هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الإنفاق في الخير. جاء في الحديث القدسي عند مسلم: «يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك» وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن الاغترار بالأموال والأولاد ظاهرة عامة في البشر، وهي في الغالب سبب للإعراض عن دعوة الرسل، فلم يرسل الله نبيا ولا رسولا إلا قال مترفوها

أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل والأنبياء: نحن كافرون بما أرسلتم به. وقالوا أيضا: لقد فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدّين والفضل لم يعطنا ذلك، ولسنا نحن بمعذبين في الآخرة إن وجدت كما تقولون لأن من أحسن إليه فلا يعذبه. 2- رد الله عليهم قولهم بأن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة، فلا تظنوا أن أموالكم وأولادكم تغني عنكم غدا شيئا، والرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل، فكم من موسر شقي ومعسر تقي. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون. 3- أكد الله تعالى جوابه بأن الأموال والأولاد لا تقرب شيئا إلى الله، أما الذي يقرب إليه فهو الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا. وأولئك المؤمنون الصالحون لهم الجزاء المضاعف للحسنات في الآخرة، كما قال سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 6/ 160] وهم الآمنون من كل مكروه في غرفات الجنة، آمنون من العذاب والموت والأسقام، وهذا إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده، فإن من تنقطع عنه النعمة، لا يكون آمنا. وقد استدل بعضهم بهذه الآية في تفضيل الغنى على الفقر، قال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية. 4- أما الكافرون الصادون عن سبيل الله واتباع رسله، الساعون في إبطال

الأدلة والحجج المذكورة في القرآن، الذين يحسبون أنهم يفوتون الله بأنفسهم، فلا يقدر عليهم، فأولئك تحضرهم الزبانية في نار جهنم، وهذا إشارة أيضا إلى دوام العذاب، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة 32/ 20] وكما قال تعالى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الانفطار 82/ 16] . 5- كرر الله تعالى للتأكيد أنه هو وحده باسط الرزق ومضيقه لمن يشاء، على وفق ما يرى من الحكمة والمصلحة لعباده، فيا أيها المغترون بالأموال والأولاد: إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد، بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه عليكم، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى، وهو الرازق على الحقيقة، والناس مجرد وسطاء ورزقهم منقطع، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] . 6- ما دلت عليه الآية: فَهُوَ يُخْلِفُهُ والحديث المتقدم المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا: «قال: قال الله عز وجل: «أنفق أنفق عليك» : فيه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا عن النفقة إذا كانت النفقة في طاعة الله، وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء لتكفير الذنوب أو ادخار الثواب في الآخرة. روى الدارقطني عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل معروف صدقة، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله، كتب له صدقة، وما وقى به الرجل عرضه «1» فهو صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية» . أما ما أنفق الشخص في معصية فلا خوف أنه غير مثاب عليه، ولا مخلوف له. وأما البنيان فما يكون منه ضروريا يكنّ الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف

_ (1) مثل إعطاء الشاعر وذي اللسان لتوقي الذم والقدح والهجاء.

تقريع الكفار يوم القيامة أمام معبوداتهم [سورة سبإ (34) الآيات 40 إلى 42] :

عليه، ومأجور ببنيانه، كحفظ بنيته، وستر عورته. قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عثمان: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء» أي الوعاء. 7- دل قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ على أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا، بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم، مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى، بناء على وعد الله تعالى. وخيرية الرزق في أمور ذكرها الرازي: أحدها- ألا يؤخر عن وقت الحاجة، والثاني- ألا ينقص عن قدر الحاجة، والثالث- ألا ينكده بالحساب، والرابع- ألا يكدره بطلب الثواب «1» . تقريع الكفار يوم القيامة أمام معبوداتهم [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) البلاغة: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريع وتوبيخ للمشركين، والخطاب للملائكة. نَفْعاً وضَرًّا بينهما طباق.

_ (1) تفسير الرازي: 25/ 263

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي يحشر للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف، وقرئ: نحشرهم أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ هذا تقريع للمشركين، وتوبيخ لكل من عبد غير الله عز وجل، وإقناط لهم عما يتوقعون من شفاعتهم. والخطاب للملائكة لأنهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم. قالُوا أي الملائكة سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي تنزيها لك عن الشريك، أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم، ولا موالاة بيننا وبينهم، وما كنا معبودين لهم على الحقيقة بَلْ للإضراب والانتقال كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ الشياطين، وهم إبليس وجنوده، فإنهم كانوا يطيعونهم في عبادتهم إيانا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي أكثر المشركين مصدقون بالجن فيما يلقونه إليهم من الوساوس والأكاذيب، ومنها أمرهم بعبادة الأصنام، فالضمير الأول للمشركين والثاني للجن. قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يملك المعبودون للعابدين شفاعة ونجاة، ولا عذابا وهلاكا لأن الأمر يوم القيامة كله لله، والدار دار جزاء، والله هو المجازي وحده وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وكفروا بعبادة غير الله تُكَذِّبُونَ في الدنيا. المناسبة: لما بيّن الله تعالى أن حال النبي صلّى الله عليه وسلّم كحال من تقدمه من الأنبياء، وحال قومه كحال من تقدم من الكفار، وبيّن لهم خطأ اعتمادهم على كثرة الأموال والأولاد، بيّن ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتوبيخ، بسؤال الملائكة: أهم كانوا يعبدونكم؟ إهانة لهم. ثم بيّن أنهم كانوا ينقادون لأمر الجن، وأن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم. التفسير والبيان: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ أي ويوم يحشر الله تعالى العابدين والمعبودين، والمستكبرين والمستضعفين جميعا، ثم يسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم، ليقربوهم إلى الله زلفى: أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ وهذا السؤال يراد

به تقريع المشركين يوم القيامة أمام الخلائق، على طريقة: إياك أعني واسمعي يا جارة. وهذا شبيه بقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان 25/ 17] وشبيه بسؤال عيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة 5/ 116] . والله يعلم أن الملائكة وعيسى أبرياء من هذه التهمة، وإنما السؤال والجواب للتقريع والتوبيخ والتعيير. قالُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي قالت الملائكة: تنزيها لك يا رب عن الشريك، نحن عبيدك، ونبرأ إليك من هؤلاء، وأنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم، ما اتخذناهم عابدين، ولا موالاة بيننا وبينهم، بل إنهم كانوا يعبدون الشياطين وهم إبليس وجنوده، فهم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم، وأكثر المشركين مصدقون الجن فيما يلقونه إليهم من الوساوس والأكاذيب، ومنها أمرهم بعبادة الأصنام، كما قالت تبارك وتعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء 4/ 117- 118] . ثم أعلن الله تعالى إفلاسهم وتبدد آمالهم بشفاعة الآلهة المزعومة، زيادة في إيلامهم وحسرتهم، فقال: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي في يوم القيامة هذا لن يتحقق لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم، ولن تكون لكم شفاعة وقدرة على النجاة، كما لن يكون بيدكم العذاب والهلاك، وإنما المجازي هو الله وحده. وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي

فقه الحياة أو الأحكام:

ونقول للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله وهم المشركون تأنيبا وتوبيخا: ذوقوا عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون بوقوعه في الدنيا، فأنتم الآن في أعماق النار. وهذا تأكيد لبيان حالهم في الظلم وعقابهم على الإثم. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- الحشر والحساب حق، والله يحشر جميع الخلائق، لكن يكون للكفار حشر وموقف خاص، فالله تعالى يحشر العابدين والمعبودين أي يجمعهم للحساب مع بعضهم، ثم يسأل الملائكة الذين يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم، فيقول تقريعا وتوبيخا للكفار على عبادتهم غير الله: أهؤلاء كانوا يعبدونكم؟ 2- يتبرأ الملائكة من هذه التهمة قائلين: سبحانك، أي تنزيها لك يا رب عن الشريك، أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له، وإنما يعبد هؤلاء الشياطين ويطيعونهم، لأنهم زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم. وجاء في التفاسير: أن بني مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله. وهو قوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات 37/ 158] . 3- أيأس الله تعالى الكفار من شفاعة أحد من آلهتهم المزعومة، وأخبر بأنه في يوم القيامة لا يملك المعبودون للعابدين شفاعة ونجاة، ولا عذابا وهلاكا، وإنما المالك المجازي وحده هو الله تعالى. 4- يعاين الكفار جهنم، ويقذفون فيها، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا:

أسباب تعذيب الكفار [سورة سبإ (34) الآيات 43 إلى 50] :

ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدنيا، والمكذب به هنا: هو النار، وفي سورة السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [20] هو العذاب، وهم في الواقع يكذبون بالكل. وسبب التغاير في التعبير أن الآية هنا في وصف النار التي كانت أول ما رأوها بعد الحشر والسؤال، وأما في سورة السجدة فالمراد وصف العذاب الذي يعانونه بعد دخولهم النار، وأنه العذاب الدائم. أسباب تعذيب الكفار [سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

الإعراب:

الإعراب: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أَنْ تَقُومُوا: إما في موضع جر على البدل من قوله: بِواحِدَةٍ أي بأن، أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وهي أن تقوموا، أو في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وهو اللام، وتقديره: لأن تقوموا لله، ومَثْنى وَفُرادى منصوبان على الحال من واو تَقُومُوا. عَلَّامُ الْغُيُوبِ مرفوع على أنه خبر ثان بعد أول وهو يَقْذِفُ أو على البدل من ضمير يَقْذِفُ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أو بدل من «ربّ» على الموضع، وموضعه الرفع، أو وصف ل «رب» على الموضع. ويجوز فيه النصب من وجهين: على الوصف ل «رب» أو على البدل منه. وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ: ما: في موضع نصب، تقديره: أيّ شيء يبدئ الباطل، وأيّ شيء يعيد. البلاغة: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ استعارة، استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال أمام الإنسان. وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره. مَثْنى وَفُرادى بينهما طباق. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على إمعانهم في الكفر. المفردات اللغوية: آياتُنا القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالات، ظاهرات المعاني ما هذا التالي لها وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يَصُدَّكُمْ يمنعكم وَقالُوا: ما هذا قالوا ثانيا ما هذا القرآن إِفْكٌ كذب مُفْتَرىً مختلق لا أساس له وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالوا ثالثا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن والمعجزات، وهذا باعتبار لفظه وإعجازه، والأول باعتبار معناه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ما هذا إلا سحر ظاهر سحريته. ويلاحظ أن الإشارة الأولى: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ إلى القرآن، والثالثة: لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ والحق: أمر النبوة كله ودين الإسلام كما

وتكرار الفعل: قالُوا والتصريح بذكر الكفرة، وقوله: لَمَّا جاءَهُمْ من المبادهة بالكفر وأنه حين جاءهم لم يفكروا فيه، بل بادروه بالإنكار: دليل على صدور الكفر عن إنكار عظيم له، وغضب شديد منه، وتعجيب بليغ منه، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المنير قبل أن يتذوقوه: ما هو إلا سحر واضح لمن يتأمله. وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها، وهو دليل على صحة الإشراك وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه، وينذرهم بالعذاب على تركه. وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول صلّى الله عليه وسلّم وجه، ولا شبهة يعتمدون عليها، إذ لم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه، فمن أين كذبوك؟! وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال فأهلكهم الله، كعاد وثمود ونحوهم، والمعشار: هو العشر أي عشرة في المائة، وقيل: هو عشر العشر، أي واحد في المائة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب والعقوبة؟ أي هو واقع موقعه. أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أي أن تقوموا في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين: اثنين اثنين، أو واحدا واحدا لأن الاجتماع يشوش الفكر. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا تنظروا في حقيقة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الكتاب، فتعلموا أنه ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون ولا ساحر، فليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، ومجيئه بالوحي دليل ظاهر على صدقه إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ما هو إلا منذر لكم قبل مجيء عذاب شديد في الآخرة إن عصيتموه، وقد علمتم أنه أرجح الناس عقلا، وما جربتم عليه كذبا مدة عمره فيكم. قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ قل لهم: ما طلبت منكم على الإنذار والتبليغ مِنْ أَجْرٍ مال مقابل الرسالة إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ما ثوابي إلا على الله، لا على غيره وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع، لا يغيب عنه شيء، يعلم صدقي. قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يتكلم بالحق ويلقيه إلى أنبيائه، وهو القرآن والوحي عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والتوحيد، والقرآن الذي فيه البراهين والحجج وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي لا أثر للكفر أو الشرك، فهو لا حقيقة له بدءا وإعادة. إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق وطريقه فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي إثم ضلالتي يكون على نفسي فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من القرآن والحكمة والموعظة إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مني ومنكم، يعلم الهدى والضلالة.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان عقاب المشركين في نار جهنم يوم القيامة وأنه يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ذكر الله تعالى الأسباب الموجبة للعذاب من فساد الاعتقاد، واشتداد العناد، وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن والإسلام كله، ثم أنذرهم سوء العاقبة كالذين من قبلهم من الأمم القوية، ودعاهم إلى التأمل والتفكر الهادئ العميق في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم المنذر من عذاب يوم القيامة، وأخبرهم بأن الله أرسل إليهم الحق الدامغ الساطع وهو القرآن والوحي، وما عداه هو الباطل الذي لا حقيقة ولا بقاء لأثره. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أسباب استحقاق الكفار العقوبة وأليم العذاب، ويذكر هنا أهمها وهي ثلاث: الطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن الكريم، وبالدين والإسلام كله، فيقول: 1- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ أي وإذا تليت آيات القرآن الواضحات الدلالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك، الظاهرات المعاني، قالوا: ما هذا أي النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا رجل يريد صرفكم عن دين الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، دون حجة ولا برهان، وما جاء به باطل. 2- وَقالُوا: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أي وقال الكفار ثانيا: ما هذا أي القرآن إلا كذب على الله، مختلق من عنده، بقصد تضليل الأتباع. 3- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقال الكافرون ثالثا: ما هذا الدين والإسلام المشتمل على المعجزات والشرائع والأحكام لتنظيم الحياة الاجتماعية إلا سحر ظاهر.

فرد الله عليهم مبطلا كون دينهم حقا، ومظهرا انعدام حجتهم في اتباعه، فقال: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن يقرر لهم دينا، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الحق، وينذرهم بالعذاب مع أنهم كانوا يقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه. وإذا كان الدين الصحيح لا يعرف إلا بوحي من عند الله، وبكتاب ينزل على رسول، فإن ادعاء المشركين أن الشرك بالله وتقليد الأسلاف هو الدين الحق ادعاء باطل لا يعتمد على أساس ولا حجة. ونظير الآية كثير منها: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم 30/ 35] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف 43/ 21] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [القلم 68/ 37- 38] . ثم هددهم بعذاب مشابه لعذاب الأمم الظالمة من قبلهم، فقال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ولقد كذبت الرسل والوحي أمم سابقة من القرون الخالية كقوم نوح وعاد وثمود، وكانوا في الدنيا أشد قوة وبأسا من العرب، بل إن أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب لم يبلغوا بقوتهم وكثرة ما لهم عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال، فلم يدفع عنهم عذاب الله ولا رده، وإنما أهلكهم الله ودمرهم تدميرا، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر 40/ 82] .

وما جرى على المثيل يجري على مثيله، لتساويهما في سبب العقاب، فيتساويان في الحكم. ثم نصحهم القرآن بالتأمل والتريث في الحكم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وآمركم وأنصحكم بخصلة واحدة: هي قيامكم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، والتأمل الذاتي المجرد المخلص، دون تأثر بهوى أو عصبية، متفرقين اثنين اثنين، أو واحدا واحدا لأن الاجتماع والتجمهر يشوّش الفكر، وينشر الغوغائية والفوضى، ويثني الفكر عن الصواب، ثم ينصح بعضكم بعضا بإخلاص أن ينظر ويتفكر في حقيقة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الكتاب، فإنكم حينئذ تعلمون أن صاحبكم ليس بساحر ولا مجنون ليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، وإنما هو نبي مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي وما هذا الرسول إلا منذركم ومخوفكم ما تستقبلونه من عذاب شديد على النفوس يوم القيامة. وجعل إنذاره بين يدي العذاب إشارة إلى قرب العذاب لأنه بعث قرب الساعة، روى الإمام أحمد حديثا هو: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» . وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الصّفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال صلّى الله عليه وسلّم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ [المسد 111/ 1] .

قال الرازي: ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل، فقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إشارة إلى التوحيد، وقوله: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ إشارة إلى الرسالة، وقوله: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إشارة إلى اليوم الآخر. ولما نفى تعالى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنون المستلزم كونه نبيا، ذكر سببا آخر يلزم منه أنه نبي: وهو عناؤه الشديد في دعوته لا لغرض دنيوي عاجل، وإنما بقصد الثواب الأخروي، فقال: قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي قل أيها الرسول للمشركين: لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم، ونصحي لكم، وأمري بعبادته تعالى، إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله تعالى، والله عالم بجميع الأمور، من صدقي في تبليغ الرسالة، وما أنتم عليه. ثم صرح تعالى بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما هو وحي من عند الله، فقال: قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي قل للمشركين: إن الله يرسل الملك بالوحي إلى من يشاء من عباده، فمن يصطفيهم لرسالته، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض. وهذا كما قال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر 40/ 15] وقال سبحانه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] . وبعد أن ذكر الله تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة الاستقبال، أخبر أن ذلك الحق قد جاء فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

قُلْ: جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي قل للمشركين: جاء الدين الحق وهو الإسلام والقرآن والتوحيد، وهو الذي سيعلو على سائر الأديان، ويمحق الله الباطل ويذهب أثره، فلا يبقي منه شيئا، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء 21/ 18] . روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «أنه لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ، وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء 17/ 81] ، وقُلْ جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ. ثم أكد الله تعالى تقرير الرسالة، وأعلن القول الفصل بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، فقال: قُلْ: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أي قل أيها النبي لأولئك المشركين: إن ضللت عن الهدى وطريق الحق، فإن إثم ضلالي وضرره على نفسي، وإن عرفت طريق الهداية فمما أوحى إلي ربي من الخير والحق والاستقامة، إنه سميع لقولي وأقوالكم، قريب مني ومنكم، يعلم الهدى والضلالة، ويجازي كل إنسان بما يستحق. فالخير كله من الله عز وجل، وفيما أنزله من الوحي والحق المبين الذي فيه الهدى والبيان والرشاد، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- العدل والحق المطلق أهم مزية الحكم الإلهي، فلا يظلم الله أحدا،

ولا يعاقب إلا بأسباب موجبة للعقاب، وأهم الأسباب التي استحق بها المشركون نار جهنم: الطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن المجيد، وبالدين والإسلام نظام البشرية الأمثل، وقانونها الأعدل والأحكم. 2- لا حجة للمشركين في الإشراك بالله إلا تقليد الأسلاف واتباع الآباء والأجداد، دون حجة عقلية ولا برهان منطقي مقبول. 3- ليس للمشركين ما يعتمدون عليه أيضا من الأدلة النقلية، فليس لهم كتاب يقرءون فيه بطلان ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يسمعوا شيئا عن دينهم من رسول بعث إليهم، فلا وجه لتكذيبهم ولا شبهة يتمسكون بها، كشبهة أهل الكتاب وإن كانت باطلة، الذين يقولون: نحن أهل كتاب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. والخلاصة: أنه ليس للمشركين على شركهم حجة عقلية ولا نقلية. 4- لم يبق أمام موقف أولئك المشركين المتشدد المعاند إلا توعدهم على تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقرآن بما حلّ من العذاب بالأمم الغابرة كعاد وثمود، الذين كانوا أشد من أهل مكة المشركين بطشا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع عيشا، فأهلكهم الله، بل إنهم ما بلغوا عشر ما أوتي من قبلهم من تلك الأمم. 5- وبجانب الوعيد فهناك للكلمة المتأنية والفكرة الهادئة دور حيوي، لذا دعاهم الله تعالى أيضا إلى إعمال الفكر، لا بنحو جماهيري جماعي غوغائي، وإنما بطريق ثنائي أو فردي يدعو إلى الهدوء والتروي والمناقشة المنطقية المقبولة، وذلك في توحيد الله مصدر السعادة، وفي حقيقة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدراسة تاريخ حياته المعاصرة لهم، فهل جربوا عليه كذبا، أو رأوا فيه جنونا وخللا عقليا، وهل في أحواله وتصرفاته من فساد وشذوذ وانحراف، وهل كان يتردد إلى من يدّعي العلم بالسحر، وهل تعلّم الأقاصيص وقرأ الكتب، وهل عرفوه طامعا في

أموالهم، وهل هم قادرون على معارضة القرآن المنزل عليه في سورة واحدة؟! فإذا عرفوا بهذه التأملات والدراسة الواقعية صدقه، فما بال هذه المعاندة والمعارضة له؟ 6- لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا مبشرا من أطاعه بالجنة، ومنذرا من عصاه بنار جهنم يوم القيامة. 7- وأيضا إن عناء النبي الشديد في تبليغ دعوته دون أن يأخذ من أحد أجرا على تبليغ الرسالة دليل واقعي على صدق نبوته، فهو لا يريد إلا الأجر والثواب من عند ربه، وهذا دليل الإخلاص، والله رقيب على كل أعماله وأعمالهم، وعالم بها لا يخفى عليه شيء، فهو يجازي الجميع بما يستحقون. 8- الله الحق هو مصدر الوحي والحق والقرآن وبيان الحجة وإظهارها، وهذا ما أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه علام الغيوب: أي الأمر الذي غاب وخفي جدّا، وقد علم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أولى من غيره باصطفائه للنبوة والرسالة ونزول القرآن على قلبه. 9- لقد جاء الحق للبشرية فعلا وهو القرآن الذي فيه البراهين والحجج على صحة الاعتقاد من التوحيد والرسالة والبعث والحساب. وإذا جاء الحق اندحر الباطل وهو الشرك والكفر ولم يعد له قرار ولا أثر ولا مقام، ولم يبق منه شيء أمام الحق. 10- قال الكفار للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: تركت دين آبائك فضللت، فرد الله عليهم آمرا نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إن ضللت كما تزعمون، فإنما أضل على نفسي، أي إن ضرره وإثمه علي، وإن اهتديت إلى الحق والرشاد فبما أوحى الله إلي من الحكمة والبيان، إن الله سميع ممن دعاه، قريب الإجابة، وفي هذا تقرير للرسالة أيضا.

تهديد الكفار بشديد العقاب وإيمانهم حين معاينة العذاب [سورة سبإ (34) الآيات 51 إلى 54] :

تهديد الكفار بشديد العقاب وإيمانهم حين معاينة العذاب [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) الإعراب: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ، وَأُخِذُوا جواب لَوْ محذوف، تقديره: لو ترى لتعجبت، وفَزِعُوا: جملة فعلية في موضع جرّ بإضافة إِذْ إليها. وأُخِذُوا: جملة فعلية أخرى معطوفة عليها. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرئ «التناؤش» بالهمز على الأصل: أي التأخر، وقرئ بترك الهمز على إبدال الهمزة واوا، أو بمعنى التناول، فلا يكون أصله الهمز. البلاغة: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ استعارة تصريحية، استعار لفظ القذف للقول، وشبه القائل بغير علم وإنما بالظن بالصائد الذي يرمي هدفا بعيدا فلا يصيبه. المفردات اللغوية: وَلَوْ تَرى يا محمد، وجواب لَوْ محذوف، تقديره: لرأيت مدهشا أو عجبا إِذْ فَزِعُوا عند البعث. والفزع: انقباض في النفس عند الأمر المخيف فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت أحد منهم، ولا ينجو منهم ناج وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي من القبور أو من موقف الحساب، فهم قريبون من الله، لا يفوتونه. آمَنَّا بِهِ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالقرآن التَّناوُشُ تناول الإيمان تناولا سهلا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عن محله، إذ هم في الآخرة، ومحله والتكليف به في الدنيا. كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي

المناسبة:

كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالعذاب في الدنيا قبل ذلك أوان التكليف وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ يرجمون أو يرمون بالظن الذي لا دليل عليه، تقول العرب لكل من لم يتيقن أمرا: يقذف بالغيب، أي يرمي به مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جهة بعيدة، ليس فيها مستند لظنهم الباطل، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد. والمراد أنهم يتكلمون في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم من المطاعن أو في العذاب من الجزم بنفيه، حيث قالوا في النبي صلّى الله عليه وسلّم: ساحر، شاعر، كاهن، وفي القرآن: سحر، شعر، كهانة. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من قبول الإيمان، أو الرجوع إلى الدنيا، أو من أموالهم وأهليهم في الدنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي فعل بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، من قبلهم، والأشياع: جمع شيع: وهذا جمع شيعة: وهي أنصار المذهب المتشيعين له فِي شَكٍّ مُرِيبٍ موقع في الريبة والظن، في أمر الرسل وما دعوا إليه من التوحيد، والبعث والجنة والنار. ومريب: يحتمل وجهين: الأول: موقع في الريب والتهمة، والثاني: ذي ريب. المناسبة: بعد بيان أسباب العذاب، والرد على شبهات الكفار، هددهم الله تعالى وأنذرهم بشديد العقاب يوم القيامة، ثم أخبر عن إيمانهم حين معاينة العذاب يوم لا ينفع إيمان، لفوات الأوان، وكفرهم بالله وبرسوله وكتابه من قبل. التفسير والبيان: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ، وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي لو رأيت يا محمد هؤلاء الكفار حين خافوا عند البعث، وخروجهم من القبور، ورؤيتهم ألوان العذاب الشديد، لرأيت أمرا عجبا، فهم لا يتمكنون من الهرب ولا فوت، أي لا مفر لهم ولا ملجأ لهم من العذاب، وأخذوا لأول وهلة حين الفزع من القبور وموقف الحساب إلى نار جهنم، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة 32/ 12] . وَقالُوا: آمَنَّا بِهِ، وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي وقال الكفار

حينئذ: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله وآمنا بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكيف لهم تعاطي الإيمان، وقد بعدوا عن محل قبوله لأن الدار الآخرة وهي دار الجزاء ليست بدار التكليف أو دار الابتلاء، وإنما الدنيا هي مدار التكاليف من الإيمان والعمل الصالح. أو كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب، والإيمان لا يكون إلا في الدنيا، وهم في الآخرة، والدنيا من الآخرة بعيدة؟! وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا، وكذبوا الرسل؟ وكانوا يرجمون بالظن ويتكلمون بما لا مستند لهم فيه، فتارة يقولون في الرسول صلّى الله عليه وسلّم: شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو مجنون ونحو ذلك من الأباطيل، وتارة يقولون في القرآن: سحر، أو شعر، أو كهانة، أو إفك مفترى، وتارة يقولون: لا بعث ولا جنة ولا نار ولا حساب ولا جزاء، وما نحن بمعذبين. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا، وبين ما طلبوه في الآخرة، فمنعوا منه، مثل قبول الإيمان، والفرار من العذاب، أو الرجوع إلى الدنيا، أو اصطحاب أموالهم وأهليهم، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر 40/ 84- 85] . كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ هذا بيان سنة الله في أمثالهم، وعلة تعذيبهم ورفض قبول إيمانهم، والمعنى: لقد فعلنا بهم كما فعلنا في أمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، إنهم كانوا جميعا في الدنيا في شك مغرق في الريبة في أمر الرسل وما جاؤوا به من التوحيد، وإثبات البعث والجزاء، والشرائع والأحكام.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- هذه صورة كئيبة محزنة من أحوال الكفار في وقت اضطرارهم إلى معرفة الحق، فتراهم في أسوأ حال وأعجبه حين يستبد بهم الفزع والخوف ويتملكهم عند نزول بأس الله تعالى بهم، ومعاينة العذاب والعقاب يوم القيامة، حيث لا مفر ولا مهرب ولا نجاة لهم، وأخذوا من حيث كانوا في موقف الحساب إلى النار، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. 2- في هذه الحالة الرهيبة يعلنون الإيمان بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم، والبعث، ولكن كيف لهم تعاطي الإيمان وتناوله في الآخرة، وقد كفروا في الدنيا؟! 3- إنهم كفروا بالله عز وجل وبالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، ويرجمون بالظن، ويتكلمون بالأوهام كحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد، فلا يصيبه، فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن، ويقولون في القرآن: سحر، وشعر، وأساطير الأولين، ويقولون في محمد صلّى الله عليه وسلّم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. 4- والنهاية المحتومة: الحيلولة بينهم وبين النجاة من العذاب، ومن الرجوع إلى الدنيا، ومما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. وذلك المصير مشابه لمصير أمثالهم ممن مضى من القرون السالفة الكافرة، إنهم جميعا استحقوا العذاب لأنهم كانوا في شك ممعن في الريبة في أمر الرسل والبعث والجنة والنار، بل وفي الدين كله والتوحيد.

سورة فاطر:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة فاطر مكيّة، وهي خمس وأربعون آية تسميتها: تسمى سورة «فاطر» لافتتاحها بهذا الوصف لله عز وجل الدال على الخلق والإبداع والإيجاد للكون العظيم، والمنبئ عن عظمة الخالق وقدرته الباهرة. كما تسمى أيضا سورة «الملائكة» لأنها أفادت في مطلعها أيضا أن الله سبحانه جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغهم رسالاته وأوامره. مناسبتها لما قبلها: قال السيوطي: مناسبة وضعها بعد سبأ: تآخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار. وتظهر صلتها أيضا بما قبلها في أنه لما أبان تعالى في ختام سورة سبأ هلاك الكفار وتعذيبهم أشد العذاب، فقال: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ اقتضى أن يذكر ما يلزم المؤمنين من الحمد والشكر لله تعالى على ما اتصف به من قدرة الخلق والإبداع، وإرسال الملائكة رسلا إلى الأنبياء لتبليغ الرسالة والوحي. مشتملاتها: موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية في العقيدة من الدعوة إلى

توحيد الله، وإقامة البراهين على وجوده، وهدم قواعد الشرك، والإلزام بمنهج الاستقامة على دين الله وأخلاق الإسلام. وقد اشتملت هذه السورة في فاتحتها ومقدمتها على بيان الأدلة الدامغة على قدرة الله عز وجل بإبداع الكون، وجعل الملائكة رسلا بينه وبين أنبيائه لتبليغ الوحي. ثم ذكّرت الناس بنعم الله ليشكروها، وحذرت من وساوس الشيطان، وأبانت الفرق المتميز بين جزاء الكفار وجزاء المؤمنين الأبرار، وميّزت بين المؤمن والكافر بضرب المثل بالأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور. وأوضحت مظاهر القدرة الإلهية، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث في سجل هذا الكون من إنزال الغيث، وإنبات الزرع والثمار، وخلق الإنسان في أطوار، وعزل البحر المالح عن البحر العذب، وتعاقب الليل والنهار، وإيلاج أحدهما في الآخر، وتسخير الشمس والقمر، واختلاف ظواهر الجبال والناس والدواب والأنعام، ومزية العلماء. وأعلنت إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحق بشيرا ونذيرا، كما أرسل نذير في كل أمة، وثبّتت قلبه بذكر قصص المكذبين السابقين للأنبياء. وأشادت بمن يتلو كتاب الله، ويقيم الصلاة، وينفق من رزق الله سرا وعلانية، وأبانت أن القرآن مصدّق للكتب السماوية السابقة، وفاخرت بميراث الأمة الإسلامية لأشرف رسالة، وذكرت انقسام الأمة إزاءها إلى أنواع ثلاثة: ظالم مقصّر، ومحسن مقتصد، وسابق بالخيرات، وحددت جزاء كل نوع في عالم الآخرة. ثم ذكرت جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، ووصفت عاقبة كل منهم وما أعد له يوم القيامة.

بعض أدلة القدرة الإلهية والتذكير بنعم الله وإثبات التوحيد والرسالة [سورة فاطر (35) الآيات 1 إلى 4] :

وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم الأوثان والأصنام، وأنذرتهم بعاقبة الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة، وقرنت هذا الإنذار برحمة الله العامة للناس جميعا حيث لم يعاجلهم العقوبة، وإنما يؤخرهم إلى أجل مسمى. بعض أدلة القدرة الإلهية والتذكير بنعم الله وإثبات التوحيد والرسالة [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) الإعراب: فاطِرِ السَّماواتِ فاطِرِ: إما صفة لاسم الله تعالى أو بدل. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا رُسُلًا: مفعول به لاسم الفاعل: جاعِلِ إذا كان مرادا به الحال أو الاستقبال لأنه حينئذ يكون عاملا، أما إن أريد به الماضي كان رُسُلًا منصوبا بتقدير فعل. أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: صفة: أَجْنِحَةٍ، وهي ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، فهي معدولة عن لفظ اثنين وثلاثة وأربعة.

البلاغة:

ما يَفْتَحِ اللَّهُ ووَ ما يُمْسِكْ.. ما فيهما: شرطية منصوبة ب يَفْتَحِ ويُمْسِكْ، وما الشرطية يعمل فيها ما بعدها كالاستفهامية لأن الشرط والاستفهام لهما صدر الكلام، وقوله فَلا مُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ جواب الشرط. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ غَيْرُ: إما مرفوع لأنه فاعل أو صفة لخالق على الموضع، وإما مجرور صفة لخالق على اللفظ، وإما منصوب على الاستثناء. ويَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ خبر المبتدأ. البلاغة: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها استعارة تمثيلية، أستعير الفتح لإطلاق النعم والإمساك للمنع. يَفْتَحِ ويُمْسِكْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، من الفطر بمعنى الشق أي شق العدم بإخراج السماء والأرض جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء، أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، يبلغونهم رسالاته بالوحي، والملائكة: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أُولِي أَجْنِحَةٍ أصحاب أجنحة، فمنهم من له جناحان، ومنهم له ثلاثة، ومنهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي في خلق الملائكة وغيرها. وهو استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك مقتضى مشيئته ومؤدى حكمته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فبقدرته يزيد ما يشاء. ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ما يعطي من نعمة حسية أو معنوية، كرزق ومطر، وصحة وأمن، وعلم ونبوة وحكمة، ونحو ذلك فَلا مُمْسِكَ لَها فلا مانع لها فَلا مُرْسِلَ لَهُ يطلقه بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب، يتصرف في ملكه كما يشاء الْحَكِيمُ في فعله، يضع الأمر في موضعه المناسب، ولا معقب لحكمه، وكل ما يفعله فهو لحكمة بالغة. اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكروا نعمه، واحفظوها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وطاعة المنعم بها، ومن النعم التي كانت على أهل مكة: إسكانهم الحرم، ومنع الغارات عنهم يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وغيره من فائدة الكواكب وَالْأَرْضِ بالنبات وغيره من المعادن، والاستفهام في

التفسير والبيان:

قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ ... يَرْزُقُكُمْ ... للتقرير، أي لا خالق رازق غيره فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن توحيد الخالق، مع إقراركم بأنه الخالق الرازق. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد في دعوتك إلى التوحيد والبعث والحساب والعقاب فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ في ذلك، فاصبر كما صبروا. وفي هذا دعوة له للتأسي بمن قبله من الأنبياء، وتسلية عن تكذيب كفار العرب له وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي المصير النهائي المحتوم إلى الله، فيجازي كلا بما يستحقه، يجازي المكذبين، وينصر المرسلين. التفسير والبيان: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لله الشكر الخالص على نعمه وقدرته، فإنه خلق السموات والأرض وأبدعهما، لا على مثال سابق، وأحكم نظامهما. فموضوع الآية: أن الله تعالى يحمد نفسه على عظيم قدرته وعلمه وحكمته التي يشهد عليها ابتداء خلق السموات والأرض من العدم، واختراعهما على غير مثال، قال سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: هذه بئري وأنا فطرتها» أي بدأتها. والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي إنه تعالى جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وهم ذوو أجنحة متعددة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، وبعضهم له أكثر من ذلك، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. جاء في الحديث الصحيح عن مسلم عن ابن مسعود «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام، وله ستّ مائة جناح، بين كل جناحين، كما بين المشرق والمغرب» . ولهذا قال جلّ وعلا:

يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي يزيد في خلق الملائكة أجنحة أخرى ما يشاء، ويزيد في خلق غيرهم ما يشاء، من ملاحة العين، وحسن الأنف، وحلاوة الفم، وجمال الصوت، إن الله كامل القدرة في خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية، فلا يعجز عن شيء، وبقدرته يزيد مما يشاء. قال الزهري وابن جريح في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ: يعني حسن الصوت «1» . وبعد بيان كمال القدرة بيّن الله تعالى أنه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر، فقال: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي ما يعطي الله تعالى من نعمة حسيّة أو معنوية من رزق ومطر، أو صحة وأمن، أو علم ونبوة وحكمة، فلا مانع له، وما يمنع من ذلك فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، بيده الخير كله، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من الصلاة، قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السّماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحق

_ (1) رواه عن الزّهري البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره.

ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . ونظير الآية قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الأنعام 6/ 17] . وفي موطأ مالك: بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح، وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلا مُمْسِكَ لَها. وبعد بيان كونه تعالى مصدر الخلق والرزق والنعم، أمر بتذكر نعمه والإقرار بالتوحيد فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي يا أيها الناس قاطبة، تذكروا نعم الله عليكم، وارعوها، واحفظوها بمعرفة حقوقها والاعتراف بها، وأفردوا موجدها بالعبادة والطاعة، فهو وحده رازقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وأعلنوا توحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وإذا أقررتم بذلك، فكيف بعد هذا البيان ووضوح البرهان تصرفون عن الحق: وهو توحيد الله وشكره، وتعبدون بعد هذا الأنداد والأوثان؟! وبعد تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، قرر الله تعالى الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال مسلّيا رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون، ويعارضونك فيما جئت به من التوحيد، بعد إثباته بالأدلة والبراهين، فتأسّ بمن سلف قبلك من الرّسل، فإنهم أيضا جاؤوا قومهم بالبيّنات وأمروهم بالتوحيد، فكذبوهم وخالفوهم، ومصير

فقه الحياة أو الأحكام:

الجميع في النهاية إلى الله، فيجازي على ذلك أوفر الجزاء، يجازيك على صبرك، ويجازيهم على التكذيب. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الله تعالى هو مستحق الحمد والشكر على قدرته ونعمه وحكمته، وقد ذكرت سابقا أن هذه السورة- كما ذكر الرازي- إحدى السّور القرآنية الأربع المبدوءة بالحمد، فسورة الأنعام إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإيجاد، وسورة الكهف إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإبقاء، وسورة سبأ إشارة بالحمد إلى نعمة الإيجاد الثاني وهو الحشر، وهذه السورة إشارة بالحمد إلى نعمة البقاء في الآخرة، بدليل قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله تعالى. 2- الله سبحانه هو مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وهو جاعل الملائكة ذوي أجنحة من اثنين إلى ثلاثة فأربعة، فأكثر، للطيران والتحليق هبوطا وصعودا بين السماء والأرض، وجاعلهم رسلا إلى الأنبياء، أو إلى العباد برحمة أو نقمة في الدنيا، ولتلقي عباد الله في الآخرة كما ذكر الرازي. 3- الله تعالى هو الذي يزيد في مخلوقاته ما يشاء، سواء في خلق الملائكة، بالأجنحة الكثيرة، أو في الزيادة المادية الحسية أو المعنوية في خلق الناس، كالتميز بأنواع الجمال المختلفة في العينين والأنف والفم ونحوها، وحسن الصوت، وجمال الخط أو الكلام أو النّطق. 4- الله عزّ وجلّ تامّ القدرة على كل شيء بالنّقصان والزّيادة، والإيجاد والإعدام، وغير ذلك.

قال الزمخشري في آية يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ..: الآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التّكلّم، وحسن تأتّ «1» في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف «2» . 5- الله عزّ وجلّ نافذ المشيئة والإرادة والأمر، فإذا منح نعمة لأحد، فلا يقدر أحد أن يمنعها، وإذا حرم أحدا نعمة، لم يستطع أحد إعطاءه إياها. وبما أن الرّسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. وتنكيره الرحمة: مِنْ رَحْمَةٍ يفيد العموم والشمول، والإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة، سماوية كانت أو أرضية. 6- على الناس شكر نعمة الله عليهم، بحفظها وأداء حقها وذكرها باللسان والقلب، وإفراد المنعم بالطاعة والعبادة والثناء عليه بما هو أهله، وإنهاء التعلق بالأصنام والأوثان وجعلها شركاء لله، وهو أبطل الباطل الذي لا يقره العقل المتحضر، ولا الإنسان المتمدن. 7- لا أحد على الإطلاق يأتي بالرزق، فالله تعالى مصدر الرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات. 8- يجب على الخلق جميعا إعلان توحيد الله، فالوحدانية في صحيفة الكون، في الضمير والوجدان، ومقتضى الفطرة، وفي ميزان العقل الراقي.

_ (1) التأتي في الأمور: التّرفق لها، وإتيانها من وجهها، وعلاجها بحكمة. (2) الكشاف: 3/ 569

تقرير الحشر والتحذير من الشيطان وجزاء الكافرين والمؤمنين [سورة فاطر (35) الآيات 5 إلى 8] :

9- إذ أثبت العقل ودلّت آيات القرآن والكون وحدانية الله، فكيف يصحّ للبشر الانصراف عن هذا الظاهر، وكيف يشركون المنحوت بمن له الملكوت؟! 10- إثبات التوحيد يستتبع إثبات الرسالة وصدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات الظاهرة، وأعلاها وأخلدها القرآن العظيم. وإذا كذب بعض الناس قديما وحديثا رسول الله، فقد كذب الكفار عبر التاريخ أنبياءهم، وتلك ظاهرة عامة، وما على الرسول وأتباعه إلا التّأسّي بمن سبق في الصبر، والنهاية الحتمية المصيرية إلى الله، فيجازي الجميع بما يستحقون. تقرير الحشر والتحذير من الشيطان وجزاء الكافرين والمؤمنين [سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 8] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) الإعراب: الَّذِينَ كَفَرُوا.. الَّذِينَ: إما بدل مجرور من أَصْحابِ وإما بدل منصوب من حِزْبَهُ وإما بدل مرفوع من ضمير لِيَكُونُوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، خبره: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ. حَسَراتٍ إما مفعول لأجله، أو منصوب على المصدر. وقرئ بالإمالة مع فتحة الراء وإمالتها، فمن قرأ بفتح الراء أتى بها على الأصل، ومن أمال فلأن الألف بدل عن الياء، ثم أتبع الراء إمالة الهمزة، والإتباع للمجانسة كثير في كلام العرب.

البلاغة:

البلاغة: يُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق. الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بينهما مقابلة وهي كالطباق إلا أنها تكون في أكثر من شيئين. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه، أي كمن لم يزين له سوء عمله؟ ودلّ على المحذوف بقية الآية: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. وفَمَنْ مبتدأ، وخبره: كمن هداه الله. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ثم قال: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إطناب بتكرار الفعل. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان. السَّعِيرِ كَبِيرٌ سجع مؤثر على السمع. المفردات اللغوية: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء أو الحشر والعقاب لا خلف فيه. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تلهينكم ويذهلنكم التمتع بها عن الإيمان بالحشر وعن طلب الآخرة والسعي لها. وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان، بأن يمنيكم المغفرة، مع الإصرار على المعصية. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بطاعة الله، ولا تطيعوه في المعاصي، واحذروه في كل الأحوال. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يدعو أصحابه وأتباعه المتحزبين له، والمطيعين له، إلى المعاصي والكفر، لأجل أن يكونوا من أهل النار الشديدة، لعداوته لآدم وذريته. وهذا تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة أشياعه إلى اتّباع الهوى والركون إلى الدنيا. الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وعيد لمن أجاب دعاء الشيطان، ووعد لمن خالفه بالإيمان والعمل الصالح بمغفرة الذنوب والأجر الكبير وهو الجنة. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي من غلب وهمه على عقله، فرأى عمله السيء صوابا، والباطل حقا، والقبيح حسنا، كمن لم يزين له؟ حذف الجواب لدلالة: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ

سبب النزول نزول الآية (8) :

مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي عليه وهو المزين له، والمعنى: فلا تهلك نفسك باغتمامك على غيّهم وكفرهم وإصرارهم على التكذيب. والحسرة: همّ النفس على فوات أمر، أي التلهف عليه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه لأنه لا تخفى عليه خافية من أفعالهم وأقوالهم. سبب النزول: نزول الآية (8) : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» فهدى الله عمر، وأضلّ أبا جهل، ففيهما أنزلت. المناسبة: بعد بيان الأصل الأول وهو التوحيد، والأصل الثاني وهو الرسالة، ذكر الله تعالى الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، والحساب والعقاب، وقرر أنه حق لا شك فيه، وحذر من وسواس الشيطان في تشكيك الناس بالإيمان به، ثم صنّف الناس إزاءه صنفين: حزب الشيطان الذين لهم العذاب الشديد، وحزب الرحمن الذين لهم المغفرة والأجر الكبير وهو الجنة. ثم أبان قضية جوهرية وهي أن الضلال والهدى بيد الله حسبما يعلم من استعداد النفوس للأول أو الثاني. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يا أيها البشر جميعا إن وعد الله بالبعث والجزاء حقّ ثابت مؤكد

لا شك فيه، والمعاد كائن لا محالة، فلا تتلهوا بزخارف الدنيا ونعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان بالله، فيجعلكم تعيشون في الأوهام والآمال المعسولة، قائلا لكم: إن الله يتجاوز عنكم، ويغفر لكم، لسعة رحمته، فتنزلقوا في المعاصي، وتسرفوا في المخالفات، فإنه غرّار كذّاب أفّاك. وهذه الآية كآية آخر سورة لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. ثم بيّن الله تعالى علّة عدم الاغترار بالشيطان وهي عداوة إبليس لابن آدم، فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي إن عداوة الشيطان لكم عداوة قديمة عامة ظاهرة، فعادوه أنتم أشدّ العداوة، وخالفوه وكذّبوه فيما يغركم به، بطاعة الله، ولا تطيعوه في معاصي الله تعالى. ثم ذكر الله تعالى أغراض الشيطان ومقاصده الخبيثة فقال: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب النار الشديد الدائم. جاء في حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة «1» بابن آدم وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ» . ثم ذكر تعالى جزاء حزب الشيطان وحزب الرحمن فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي إن الذين كفروا بالله ورسوله وأنكروا البعث، واتبعوا وساوس الشيطان، لهم عذاب شديد في نار جهنم لأنهم أطاعوا الشيطان، وعصوا الرحمن.

_ (1) اللمة: الخطرة التي تقع في القلب.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي والذين صدقوا بالله ورسوله وباليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من اتّباع الأوامر واجتناب النواهي ومخالفة الشيطان وهوى النفس، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة، بسبب الإيمان والعمل الصالح وعمل الخير. ثم بيّن تعالى الفرق بين الصنفين، فليس من عمل سيّئا كالذي عمل صالحا، فقال: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي كيف يتساوى المسيء والمحسن، وهل يكون أولئك الكفار الفجار الذين بتزيين الشيطان وتحسين القبيح يعملون أعمالا سيّئة من كفر ووثنية وعصيان، معتقدين أنهم يحسنون صنعا، كالذين كانوا على الهدى، ويعلمون أنهم على الحق؟! والمراد بمن زين له سوء عمله: كفار قريش وأمثالهم. وسبب ذلك ما قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التامّ، وتبعا لعلمه باستعداد النفوس للخير والشّر. ثم سلّى تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث حزن من إصرار قومه على الكفر، فقال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ أي لا تغتم ولا تأسف ولا تهلك نفسك على عدم إيمانهم، وإصرارهم على الكفر، واستمرارهم على الضلال، فالله عليم بأحوالهم واستعداداتهم، وعليم بما يصنعون من المنكرات والقبائح لا تخفى عليه خافية، فيجازيهم بما يستحقون. وهذا وعيد كاف. وزجر بليغ إن أدركوا أبعاده ومراميه.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية كثير، منها قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 3] . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- بعد إيضاح الدّليل على إثبات البعث والحشر ذكر الله تعالى مبدأ عاما في الاعتقاد: وهو أن البعث والثواب والعقاب حق لا مرية فيه، ولا بدّ من حصوله. 2- وفي ضوء هذا المنظور الأخروي في عقيدة الإسلام الراسخة، على الإنسان ألا تلهيه الدنيا وزخارفها عن العمل للآخرة، وألا يغترّ بوساوس الشيطان، فإنه أفّاك كذّاب، قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذّاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر 89/ 24] . 3- إن عداوة الشيطان للإنسان عامة قديمة، فيجب الحذر منه، ومعاداته وعدم إطاعته، ودليل عداوته: إخراجه أبانا آدم من الجنة، وإصراره على إضلال الإنسان وضمانه ذلك في قوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء 4/ 119] ، وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ [الأعراف 7/ 16- 17] . 4- إن هدف الشيطان الدّال على عداوته للإنسان أيضا دعوة حزبه أي أشياعه وأتباعه ليكونوا معه في نار جهنم الشديدة الاستعار. 5- هناك فرق واضح بين المسيء والمحسن، فلا يسوّى بين من زيّن له

من دلائل القدرة الإلهية لإثبات البعث [سورة فاطر (35) الآيات 9 إلى 11] :

الشيطان عمله السيء فأطاعه، وبين من هداه الله للخير، فاتّبع أوامر الله تعالى. والفريق الأول يشمل كل الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان والأصنام والشيطان ونحو ذلك. 6- إن الإضلال والهداية من الله بحسب ماله من العلم التامّ المسبق بكل إنسان، وما لديه من استعداد للشّرّ أو للخير. 7- لا داعي للأسف والاغتمام على إصرار الكفار على كفرهم، ولا ينفع التأسف على مقامهم على كفرهم، فإن الله عليم بصنعهم القبائح، وسيجازيهم على أفعالهم. من دلائل القدرة الإلهية لإثبات البعث [سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 11] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) الإعراب: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الهاء تعود على الكلم، أي والعمل الصالح يرفع الكلم، وقيل: تعود على العمل، أي والعمل الصالح يرفعه الله، ولو صح هذا القول لكان يلزم نصب كلمة الْعَمَلُ.

البلاغة:

وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ السَّيِّئاتِ: إما مفعول يَمْكُرُونَ بمعنى يعملون، أو منصوب على المصدر لأن معنى يَمْكُرُونَ: يسيئون، أو وصف لمصدر محذوف، أي يمكرون المكرات السيئات، ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ مَكْرُ مبتدأ وخبره يَبُورُ وهو: فصل بين المبتدأ والخبر، ويجوز الفصل إذا كان الفعل مضارعا. البلاغة: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ سقناه: التفات من الغيبة إلى التكلم للإشعار بالعظمة. تَحْمِلُ وتَضَعُ بينهما طباق، وكذا بين يُعَمَّرُ ويُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ. المفردات اللغوية: أَرْسَلَ أطلق وأوجد من العدم. فَتُثِيرُ سَحاباً تزعجه وتحركه، وأتى بالمضارع حكاية للحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة. إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ بالتخفيف، أو ميّت بالتشديد: لا نبات فيه، ويرى بعضهم: أن الميت بالتخفيف: هو الذي مات، والميّت بالتشديد، والمائت: هو الذي لم يمت بعد. بَعْدَ مَوْتِها يبسها، وأحيينا به الأرض: معناه أنبتنا بالمطر الزرع والكلأ. كَذلِكَ النُّشُورُ أي كذلك يحيى الله العباد بعد موتهم، كما أحيا الأرض بعد موتها. والنُّشُورُ البعث والإحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره، أي أحياه. الْعِزَّةَ الشرف والجاه والمنعة. فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عند الله، فإن له كل العزة في الدنيا والآخرة، ولا تنال منه العزة إلا بطاعته، فليطعه. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ مجاز يراد به قبول الله له، أو علمه به، والْكَلِمُ الطَّيِّبُ هو التوحيد (لا إله إلا الله) وكل كلام طيب من ذكر الله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة قرآن ودعاء وغير ذلك. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. والْعَمَلُ الصَّالِحُ ما كان بإخلاص، ويَرْفَعُهُ يقبله. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي الذين يعملون السيئات في الدنيا على وجه المكر والخديعة، كالمكر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه، كما ذكر في الأنفال، أو مراءاة المؤمنين في أعمالهم بإيهامهم أنهم مطيعون لله. يَبُورُ يبطل ويفسد ولا ينفذ، من البوار: الهلاك. خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أباكم آدم من تراب. نُطْفَةٍ مني يخلق ذريته منه. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرانا وإناثا. إِلَّا بِعِلْمِهِ أي لا يخرج شيء عن علمه وتدبيره، وهو حال، أي

المناسبة:

معلومة له. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي لا يزاد ولا يطول من عمر أحد، ولا ينقص من عمر معمر آخر، وذلك بحسب العرف والعادة الشائعة بين الناس. إِلَّا فِي كِتابٍ أي في صحيفة المرء في اللوح المحفوظ، وتطويل العمر وتقصيره: هما بقضاء الله وقدره، لأسباب تقتضي التطويل أو التقصير، فمن أسباب التطويل: صلة الرحم، ومن أسباب التقصير: الاستكثار من معاصي الله عز وجل. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لا يصعب عليه منه شيء. المناسبة: بعد الإخبار عن عذاب الكفار الشديد، والمغفرة والأجر الكبير للمؤمنين يوم القيامة، أقام تعالى الدليل على البعث بإحياء الأرض بعد موتها، وبخلق الإنسان ومروره في أطوار مختلفة من التراب، فالنطفة، فالبشر السوي، فالمدّ في العمر أو تقصيره. التفسير والبيان: كثيرا ما يستدل الله تعالى على المعاد أو البعث بإحياء الأرض بعد موتها، كما في أول سورة الحج مثلا، وقال هنا: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ أي والدليل الحسي المشاهد على إمكان البعث وأنه مقدور لله تعالى: أنه سبحانه يرسل الرياح، فتحرك الغيوم إلى حيث يشاء الله، فيقوده إلى بلد ميت لا نبات به، فينزل المطر عليه، فتحيا الأرض بالنبات بعد يبسها، وتصبح مخضرة ذات زرع وشجر، بعد أن كانت تربة هامدة، فكذلك يكون النشور أي كما يحيي الله الأرض بعد موتها، يحيي العباد بعد موتهم، وهذا هو النشور، أي جعلهم أحياء. جاء في حديث أبي رزين: «قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك

ممحلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟! قلت: بلى، قال صلّى الله عليه وسلّم: فكذلك يحيي الله الموتى» . ثم ندد الله تعالى بمشاعر الكفار بالعزة والغطرسة التي حجبتهم عن طاعة الله، فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي من كان يريد الوصول إلى الشرف والتعزز والسمو، فليتعزز بطاعة الله، وليطلبها من الله لا من غيره، فإن الله مصدر العزة، وهو يهب منها لمن يشاء، وهذا ردّ على الكفار الذين كانوا يطلبون العزة بعبادة الأصنام، وعدم الطاعة للرسل، وترك الاتّباع له، فقال: إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة، فهي كلها لله، ومن يتذلل له فهو العزيز، ومن يتعزز عليه، فهو الذليل. وذلك كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون 63/ 8] . وقد حكى القرآن طلب المشركين العزة بعبادة الأصنام، فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم 19/ 81] . وأما المشركون فكانوا يطلبون العزة عند الكفار فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟! [النساء 4/ 139] . ثم وصف الله تعالى بعض مظاهر العزة ردا على الكفار الذين كانوا يقولون: نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده، فقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي إن كنتم لا تصلون إلى الله، فهو يسمع كلامكم، ويقبل طيب الكلام، كالتوحيد والأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء، وتلاوة القرآن وغير ذلك. ومن أفضل الأذكار: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وإن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع

العمل الصالح، وصلاح العمل: الإخلاص فيه، فلا يتقبل الله صلاة وصياما وزكاة ونحو ذلك من أعمال البر، إذا لم تكن لله، وفعلت مراءاة للناس. قال ابن عباس: الكلم الطيب: ذكر الله تعالى، يصعد به إلى الله عز وجل، والعمل الصالح: أداء الفريضة. ثم أخبر الله تعالى أنه لا يقبل من المرائين أعمالهم، فقال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي والذين يعملون المكرات السيئات في الدنيا، كالتآمر على قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لإضعاف المسلمين، ويوهمون غيرهم أنهم في طاعة الله تعالى، وهم بغضاء إلى الله عز وجل، يراءون بأعمالهم، لهم عقاب بالغ الغاية في الشدة. ومكر هؤلاء الكاذبين المفسدين يفسد ويبطل ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة، لا تتغير بالمكر والحيلة، ولأن المرائي ينكشف أمره بسرعة، ولا يروج أمره ويستمر إلا على غني، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية، يجازي على الرياء أشد العذاب. ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث بخلق الأنفس فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي والله سبحانه ابتدأ خلق الإنسان من تراب، فخلق أبانا آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فجعل الخلق المتوالي الدائم من النطفة (المني) والنطفة من الغذاء، والغذاء من الماء والتراب، فقد صير التراب نطفة، ثم جعل الناس أصنافا، ذكرانا وإناثا، فهذا التحول من تراب إلى خلية حية، إلى إنسان سوي دليل قاطع على إمكان البعث الذي هو إعادة الحياة مرة أخرى، والإعادة في مفهوم الناس أهون من الإعادة، أما عند الله فهما سواء.

فقه الحياة أو الأحكام:

هذا دليل القدرة، أعقبه تعالى بالدليل على كمال العلم فقال: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إن الله عالم بحمل أي أنثى في العالم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، كما أنه عالم بوقت الوضع ومكانه وكيفيته، كما قال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد 13/ 8- 9] . وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ سماه معمّرا بما هو صائر إليه، أي ما يمدّ في عمر أحد، وما ينقص من عمر آخر إلا في صحيفة كل إنسان في اللوح المحفوظ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، سواء أكان من أصحاب الأعمار الطويلة أم القصيرة الأجل، فتطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره، لأسباب مسبقة يعلمها الله، فمن أطال عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التطويل، كصلة الرحم، ومن قصر عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التقصير، كالإكثار من معاصي الله. روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره «1» ، فليصل رحمه» . إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن ذلك النظام المرتب للعالم سهل يسير على الله، لديه علمه جملة وتفصيلا، فإن علمه شامل لجميع المخلوقات، لا يخفى عليه شيء منها. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي:

_ (1) أي يؤخر له في أجله.

1- إمكان حدوث البعث لأن الله قادر على كل شيء، ومن مظاهر قدرته الدالة على ذلك بنحو حسي مباشر: إحياء الأرض بالمطر بعد يبسها وذهاب ما فيها من زروع ونباتات، واكتسائها بالخضرة والمروج، والنبات، والثمار المختلفة الألوان والأنواع والطعوم. فكما حدث من تبدل من موت إلى حياة كذلك يحدث إحياء المخلوقات، فمثل إحياء الأرض الموات نشر الأموات، وإعادة الحياة لهم بعد الموت. 2- إن الاعتزاز بالكفر والمال والأولاد والجاه والسمعة والنفوذ سراب خادع، فإن من كان يريد العزة التي لا ذلة فيها في الدنيا والآخرة، فعليه بطاعة الله عز وجل وعبادته وحده دون شريك لأن الله تعالى مصدر العزة، وهو سبحانه يعز من يشاء في الدنيا والآخرة، ويذلّ من يشاء، قال صلّى الله عليه وسلّم مفسّرا لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً: «من أراد عزّ الدارين، فليطع العزيز» . وعليه، من كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل في دار العزة- ولله العزة- فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به، فإنه من اعتز بالعبد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله. 3- الكلم الطيب من توحيد الله وذكره ودعائه وتلاوة كتابه ونحو ذلك هو الذي يقبله الله عز وجل، والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب كما قال ابن عباس وغيره، كما أن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح. وصلاح العمل: الإخلاص فيه، جاء في الحديث: «لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة» «1» .

_ (1) رواه الطبراني عن ابن عمر بلفظ: «لا يقبل إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان» .

وردّ على ابن عباس قوله بتعارضه مع معتقد أهل السنة، وأن ذلك لا يصح عنه. قال القرطبي: والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله، وقال كلاما طيبا، فإنه مكتوب له متقبّل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأوّل أنه يزيد في رفعه، وحسن موقعه إذا تعاضد معه، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى، كانت الأعمال أشرف فيكون قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ موعظة وتذكرة وحضّا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة «1» . 4- إن الذين يراءون في أعمالهم، ويعملون المكرات السيئات في الدنيا، لهم عذاب شديد في نار جهنم، ومكرهم بائد غير نافذ. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. 5- الدليل الاخر على إمكان البعث أحوال نفوس البشر وأطوارها، فقد خلق الله تعالى أصلها من تراب، ثم جعل النطفة سببا للخلق، ثم حدث التزاوج بين الذكر والأنثى، ليتم البقاء في الدنيا إلى نهاية العالم، عن طريق التناسل، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، ولا يخرج شيء عن تدبيره. 6- الأعمار كالأرزاق مقدرة محددة في صحيفة كل إنسان، لا تزيد ولا تنقص، وأما طول العمر بأسباب، كصلة الرحم، فهو داخل في تقدير العمر بصفة نهائية في علم الله، إذ إنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه، زيد في عمره كذا سنة، وفي موضع آخر من اللوح المحفوظ بيّن: إنه سيصل رحمه، فمن اطلع على الأول دون الثاني، ظن أنه زيادة أو نقصان.

_ (1) تفسير القرطبي: 14/ 330

من دلائل الوحدانية والقدرة الإلهية [سورة فاطر (35) الآيات 12 إلى 14] :

7- إن نظام العالم البديع، وكتابة الأعمال والآجال غير متعذر على الله، وإنما هو سهل يسير هيّن لأن علم الله مطلق غير نسبي كعلم البشر، وشامل غير محدود، وعام غير خاص يشمل الماضي والحاضر والمستقبل. من دلائل الوحدانية والقدرة الإلهية [سورة فاطر (35) : الآيات 12 الى 14] وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) الإعراب: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ الشرك: مصدر بمعنى الإشراك، وهو مضاف إلى الكاف والميم، وهي الفاعل في المعنى، وتقديره: بإشراككم إياهم، فحذف المفعول. البلاغة: هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ بينهما ما يسمى بالمقابلة وهي كالطباق، لكنها بين أكثر من شيئين. المفردات اللغوية: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ العذب والمالح. عَذْبٌ فُراتٌ شديد العذوبة، والعذب:

المناسبة:

الحلو اللذيذ الطعم، والفرات: المزيل للعطش. سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره. أُجاجٌ شديد الملوحة، وذلك مثل للمؤمن والكافر. وَمِنْ كُلٍّ منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك. وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي من البحر الملح، وقال الزجّاج: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، والحلية هنا: هي اللؤلؤ والمرجان، وهي في الأصل: كل ما يتحلى به من سوار أو خاتم. وَتَرَى تبصر. الْفُلْكَ السفن. فِيهِ في كل من البحرين. مَواخِرَ عابرات شاقات تشق الماء بجريها، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تطلبوا من فضل الله تعالى بالتجارة والتنقل فيها. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا الله على ما أنعم عليكم به من ذلك. يُولِجُ يدخل، فيزيد في كل من الليل والنهار بالنقص من الآخر. سَخَّرَ أجرى. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى كل منهما يسير في فلكه هي مدة دورانه، أو منتهاه، وقيل: إلى يوم القيامة. ذلِكُمُ الفاعل لهذه الأفعال. اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ أي هذا الصانع لما تقدم هو الخالق المقدر، والقادر المقتدر، المالك للعالم، والمتصرف فيه. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي تعبدون من غيره وهم الأصنام. ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ القطمير: لفافة النواة، أي القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون على النواة- البزرة. وهذا دليل التفرد بالألوهية والربوبية. لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد. وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض. مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ما أجابوكم. يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يجحدون بإشراككم إياهم مع الله، وعبادتكم لهم، والمعنى: يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي ولا يخبرك بالأمر، ويعلمك بأحوال الدارين مخبر مثل الخبير العالم به، وهو الله تعالى. المناسبة: بعد إيراد أدلة إثبات البعث، أورد الله تعالى الأدلة والبراهين الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، بخلقه أشياء متحدة الجنس، لكنها مختلفة المنافع، من الماء الواحد، والليل والنهار، والشمس والقمر. وأردفه بالرد على عبدة الأصنام التي لا تملك شيئا، ولا تسمع دعاء، ولا تجيب نداء، وتتبرأ من عابديها يوم القيامة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: نبّه الله تعالى على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة، فقال عن اختلاف البحرين: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ: هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أكثر المفسرين على أن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان، أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يتساوى مع الكفر في الحسن والنفع، كما لا يتساوى البحران العذب الفرات، والملح الأجاج، وقال الرازي: والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى، وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة، ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات، والآخر ملح أجاج. والمعنى: لا يتساوى ولا يتشابه البحران في الحقيقة، فأحدهما عذب الماء شديد العذوبة، سائغ الشراب، يجري في الأنهار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، وثانيهما ملح شديد الملوحة، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار. وبعد اختلافهما في هذا يتشابهان في أمور: مثل أخذ اللحم الطري والحلية منهما، والذي يوجد في المتشابهين اختلافا وفي المختلفين تشابها لا يكون إلا قادرا مختارا، فقال تعالى: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي يصاد السمك من كل منهما، وتستخرج الحلية الملبوسة منهما، وهو اللؤلؤ والمرجان، كما قال عز وجل: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 22- 23] . وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي تبصر أيها الناظر السفن في البحر شاقّة الماء، مقبلة مدبرة، حاملة المؤن

والأقوات وأنواع التجارة من قطر إلى آخر، لتطلبوا بأسفاركم بالتجارة بين البلدان من فضل الله، لتشكروا الله أو شاكرين ربكم على تسخيره لكم هذا البحر العظيم، وعلى ما أنعم به عليكم من النعم، فإنكم تتصرفون في البحر كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم دون عائق ولا مانع، بل بقدرته تعالى قد سخر لكم جميع ما في السموات والأرض من فضله ورحمته. ثم ذكر تعالى دليلا آخر على قدرته التامة وهو اختلاف الأزمنة، فقال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل أحدهما في الآخر فيكون أطول منه، فيزيد في زمن كل منهما بالنقص من الآخر، فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفا وشتاء. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي سيّر الشمس والقمر وبقية الكواكب السيّارة، والثوابت الثاقبة بإرادته وقدرته، يجري كل منهما بمقدار معين، ومنهاج مقنن، ومدة محددة هي زمن مدارها أو منتهاها، لتعلموا عدد السنين والحساب، وقيل: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى يوم القيامة. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ أي الذي فعل هذا من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك هو الرب العظيم، الذي لا إله غيره، وهو صاحب الملك التام، والقدرة الشاملة، والسلطان المطلق، وكل من عداه عبد له. ثم أبان تعالى في مقابل ذلك ما ينافي صفة الألوهية، فقال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين،

لا يملكون شيئا من السموات والأرض، ولو كان حقيرا بمقدار هذا القطمير، وهو قشرة النواة الرقيقة. ثم أبطل ما يقولون: إن في عبادة الأصنام عزة، وأبان عجزها وضعفها وحقارتها، فقال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي إن تدعوا هذه الآلهة من دون الله تعالى لا تسمع دعاءكم لأنها جماد لا تدرك شيئا، ولو سمعوا لم يقدروا أن ينفعوكم بشيء مما تطلبون منها، لعجزها عن ذلك، فهي لا تضر ولا تنفع ولا تغني شيئا، فكيف تعبدونها؟! وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي وفي اليوم الآخر يجحدون كون ما فعلتموه حقا، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم أو أقروكم عليها، ويتبرءون منكم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] . وتقريرا عاما لهذه المعاني، وتأكيدا لهذه الأخبار، قال تعالى: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة، أو لا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها إلا خبير بصير بها، وهو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في الحال أو في الاستقبال، وقد أخبر بالواقع لا محالة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- من أدلة القدرة الإلهية العظيمة الدالة على وحدانية الخالق خلق الأشياء المتفاوتة، التي منها خلق البحرين: العذب الزلال وهو الأنهار، والملح الأجاج وهو البحار، ومع اختلافهما وتمايزهما حينما يتجاوران، فيهما تشابه بوجود الأسماك في كل منهما، واستخراج الحلية وهي اللؤلؤ والمرجان منهما، أي من اختلاطهما وتمازجهما ونزول مطر السماء، وإن كانت الحلية من البحر المالح. 2- في قوله تعالى: تَلْبَسُونَها دليل على أن لباس كل شيء بحسبه، فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرّجل. 3- من نعم الله تعالى ودليل قدرته: تسيير السفن في البحر، لتبادل التجارات بين الأقطار البعيدة في مدة قريبة، وكسب الأرزاق، الذي يستدعي الشكر على ما آتانا الله من فضله وعلى تسخيره البحر للانتقال فيه، وحرية الحركة في أنحائه. 4- ومن أدلة القدرة الإلهية أيضا: اختلاف الأزمنة بتعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول، وتفاوت زمن الليل والنهار صيفا وشتاء، وتسيير الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة والثابتة في مدة دوران معينة تنتهي في اجتياز مدارها، وبقائها على هذا النحو الدقيق إلى يوم القيامة. 5- إن صانع كل ما ذكر من خلق السموات والأرض، وإنزال الغيث، وخلق الإنسان من تراب، وإيجاد الماء العذب والماء الملح وما يحققان من ثروة مائية ومعدنية ونفطية وحلي، ودورة الأرض واختلاف الليل والنهار بين نصفي

سبب العبادة والمسؤولية الشخصية وانتفاع العابدين بالإنذار [سورة فاطر (35) الآيات 15 إلى 18] :

الكرة الأرضية، وفي النصف الواحد في مدار السنة وغير ذلك، إن هذا الصانع هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر، والمالك القاهر، فهو الذي يستحق أن يعبد. 6- ما أقل عقول الوثنيين وما أبسطها حين يعبدون الأصنام الصماء من الحجارة والمعادن وغيرها، وهي لا تقدر على شيء ولا على خلقه، ولا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، فلا تغيث أحدا إذا استغاث بها لأنها جمادات، ولا تجيب إن ناداها عبّادها لأنها لا تنطق. والداهية العظمى أنها يوم القيامة تتبرأ من عابديها، وتنكر أفعالهم، وتتنصل من تبعة المسؤولية الموجهة إليهم، والله أصدق مخبر بذلك. سبب العبادة والمسؤولية الشخصية وانتفاع العابدين بالإنذار [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 18] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) البلاغة: يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بينهما طباق. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ بينهما جناس الاشتقاق، وكذا حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، وفي كل حال على الإطلاق. وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ على الإطلاق عن خلقه. الْحَمِيدُ المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم، المحمود في صنعه بهم. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ إن يشأ يفنكم، ويأت بقوم آخرين من جنسكم بدلكم، أطوع منكم، أو من جنس آخر غير ما تعرفونه. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي وما ذلك الإذهاب لكم والإتيان بآخرين بمتعذر ولا بمتعسر على الله تعالى. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة ذنب أو إثم نفس أخرى. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى، لتحمل عنها بعض الذنوب التي تحملها. لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا. وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المدعو قريبا لها في النسب كالأب والابن، فكيف بغير القريب؟! وهذا حكم مبرم من الله تعالى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافونه غائبا عنهم لأنهم المنتفعون بالإنذار. وَأَقامُوا الصَّلاةَ احتفلوا بأمرها، وأداموها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك مختص به، كما أن وزر من تدنس بالذنب لا يكون إلا عليه. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ إلى الله المرجع والمآل، فيجزي على تزكيهم وعملهم في الآخرة. المناسبة: بعد بيان كون العبادة واجبة لله تعالى لأنه المالك المطلق، والأصنام لا تملك شيئا، أبان الله تعالى حكمة العبادة للرد على الكفار القائلين بأن أمر الله بالعبادة أمرا بالغا، والتهديد الشديد على تركها، لاحتياجه إلى عبادتنا. ثم أوضح أن كل إنسان مسئول عن نفسه فقط، وأرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تنفع الذي يخشى الله بالغيب وأقام الصلاة. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن غناه المطلق عمن سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه، فقال:

يا أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي يا أيها البشر جميعا، أنتم المحتاجون إلى الله تعالى على الإطلاق، في منح القدرة على الحياة والبقاء، وفي جميع الحركات والسكنات، وفي جميع أمور الدين والدنيا، لذا فاعبدوه وحده لأن ثمرة العبادة عائدة إليكم وحدكم، والله هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له عن عبادتكم وغيرها، وهو المحمود المشكور على نعمه وعلى جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وذكر الْحَمِيدُ ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه. ثم أبان غناه وقدرته التامة بإمكانه استبدالكم، وأنه غير محتاج إليكم، فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي لو شاء لأفناكم أيها الناس، وأتى بقوم غيركم، يكونون أطوع منكم، وأجمل وأحسن وأتم، وما ذلك بصعب عليه ولا ممتنع، بل هو يسير هيّن عليه. وفي هذا تهديد ووعيد وتبديد لأوهامكم أنه لو أذهب البشر لزال ملكه وعظمته. ثم دعاهم إلى النظر والتأمل في المستقبل، وأخبرهم بمسؤولية كل إنسان يوم القيامة عن نفسه فقط دون غيره، فقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة أو مذنبة إثم أو ذنب نفس أخرى. وهذا لا يمنع مضاعفة الإثم للمضلين القادة، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت 29/ 13] . وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي وإن طلبت نفس مثقلة بالأوزار والذنوب مساعدة نفس أخرى في حملها، لتحمل

عنها بعض الذنوب، لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا، ولو كانت قريبة لها في النسب كالأب والابن لأن كل امرئ مشغول بنفسه وحاله، وله من الهموم ما يغنيه. ونظير الآية: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان 31/ 33] وقوله سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] . قال عكرمة في قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها: هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني، وإن الكافر ليتعلّق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له: يا مؤمن، إن لي عندك يدا، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا، وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه، حتى يرده إلى منزل دون منزله، وهو في النار، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: يا بني، أي والد كنت لك؟ فيثني خيرا، فيقول له: يا بني، إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته، فيقول: يا فلانة أو يا هذه، أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين، قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها الآية. ثم أبان الله تعالى من يجدي عنده الإنذار، فقال: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي إنما يتعظ بما جئت به أيها الرسول أولو البصيرة والعقل الذين يخافون من عذاب ربهم قبل

فقه الحياة أو الأحكام:

معاينته أو في خلواتهم عن الناس، ويفعلون ما أمرهم به، ويقيمون الصلاة المفروضة عليهم على النحو الأتم المشروع، إقامة فيها احتفال بأمرها، وبعد عن الاشتغال بغيرها. ثم ذكر الله تعالى أن فائدة العبادة تعود عليهم، فقال: وَمَنْ تَزَكَّى، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي ومن تطهر من الشرك والمعاصي، وعمل صالحا، فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك يعود على نفسه، لا غيره، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- الناس قاطبة فقراء محتاجون إلى ربهم الخالق الرازق في بقائهم وكل أحوالهم، والله هو الغني عن عباده، المحمود على جميع أفعاله وأقواله ونعمه الكثيرة التي لا تحصى. وغنى الله لا يعود عليه، وإنما ينفع به عباده، فاستحق الحمد التام والشكر الكامل من أعماق النفوس. 2- الله قادر على إفناء الخلق، والإتيان بخلق جديد آخر أطوع منهم وأزكى، وليس ذلك بممتنع عسير متعذر على الله تعالى. 3- من مفاخر الإسلام مبدأ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي مبدأ المسؤولية الشخصية في الدنيا والآخرة، فلا يسأل إنسان عن جريمة غيره، ولا يتحمل امرؤ عقوبة جان آخر: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] .

مثل المؤمن والكافر وإرسال الرسل في الأمم [سورة فاطر (35) الآيات 19 إلى 26] :

4- كل إنسان في الآخرة مشغول بنفسه، فلا يستطيع أن يتحمّل شيئا من آثام غيره، ولو كان أقرب الناس لديه، كالأب والابن وغيرهما. 5- إنما يقبل إنذار النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذارات القرآن الكريم: من يخشى عقاب الله تعالى في السرّ والعلن وقبل معاينة العذاب، كما قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس 36/ 11] . 6- من تطهر من أدناس المعاصي فإنما يتطهر لنفسه، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وتظهر الفائدة في الآخرة إذ إلى الله مرجع جميع الخلق، فيحاسبهم على ما فعلوا. مثل المؤمن والكافر وإرسال الرسل في الأمم [سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 26] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) البلاغة: الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الظُّلُماتُ والنُّورُ الظِّلُّ والْحَرُورُ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ بين كل طباق.

المفردات اللغوية:

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ استعارة تصريحية، استعار المشبه به وهو الأعمى للكافر، لعدم الاهتداء إلى الطريق الصحيح، واستعار البصير للمؤمن لاهتدائه إلى منهج الاستقامة ووضوح الطريق أمامه. وزيادة لَا في الآيات [20- 22] في المواضع الثلاثة للتأكيد. نَذِيرٌ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ توافق الفواصل ذو التأثير في جمال الكلام والوقع على النفس. المفردات اللغوية: الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الأول: فاقد البصر، والثاني له ملكة البصر، والمراد تشبيه الكافر بالأعمى، وتشبيه المؤمن بالبصير. الظُّلُماتُ والنُّورُ شبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق بالنور. الظِّلُّ والْحَرُورُ أراد بالظل الجنة وأراد بالحرور النار. والْحَرُورُ السموم، إلا أن السموم بالنهار، والحرور بالليل والنهار. الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ شبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ هدايته، فيجيب بالإيمان. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي الكفار، شبههم بالموتى الذين لا يجيبون. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر لهم، أو ما عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الإسماع فليس إليك، ولا قدرة لك عليه لأن الهدى والضلالة بيد الله عز وجل. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق، وهو الهدى، فيشمل المرسل والمرسل، فكلاهما محق. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا من أجابك بالجنة، ومنذرا من لم يجبك بالنار. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أو أهل عصر. إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ سلف ومضى فيها منذر مخوف من نبي أو عالم ينذر عنه، واكتفى بالنذير لأن الإنذار قرين البشارة، سيما وقد قرن به من قبل، أو لأن الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن يكذبك أهل مكة فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم. بِالْبَيِّناتِ المعجزات الدالة على صدقهم في نبوتهم. وَبِالزُّبُرِ أي الكتب المكتوبة، كصحف إبراهيم، جمع زبور: أي كتاب، والكتاب: ما فيه شرائع وأحكام. أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بتكذيبهم. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك. المناسبة: بعد بيان طريق الهدى وطريق الضلالة، واهتداء المؤمن الذي يخاف ربه،

التفسير والبيان:

وجحود الكافر المعاند، ضرب الله تعالى الأمثال للكافر والمؤمن، وللباطل والحق، وللجنة والنار، وللمؤمنين والكافرين، وعدّد الأمثلة، للتعريف بأن المؤمن بصير الطريق، والكافر أعمى الطريق، وأن الإيمان نور فلا يخفى على المؤمن، والكفر ظلمة فيزيد الأعمى حيرة، ثم ذكر مآلهما ومرجعهما، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم جعل الكافر أسوأ حالا من الأعمى فشبهه بالميت لأنه غير مدرك إدراكا نافعا، فهو كالميت، أما الأعمى فقد يدرك شيئا ما كالبصير. ثم أوضح تعالى أن الهداية بيده يمنحها من يشاء، ولكنه لم يترك سبيلا لأحد بالاعتذار، فقد أرسل الرسل والأنبياء في كل أمة من الأمم، فمن آمن نجا، ومن عصى عذب في النار. التفسير والبيان: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وللكافرين، فكما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة في حقيقتها وفائدتها، كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله، والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد فاتبعه وانقاد له، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور الإيمان، أو الباطل والحق، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار. فالمؤمن سميع بصير يمشي في نور على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال الوارفة والعيون المتدفقة، والكافر أصم أعمى يمشي في ظلمات لا خروج له منها، بل يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى ينتهي به الأمر إلى الحرور والسموم والحميم. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي ولا يتساوى المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر، والكافرون أموات القلوب والحواس.

فهذه أمثال للمؤمن والإيمان والعاقبة، والكافر والكفر والمصير، كما قال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟! [هود 11/ 24] وقال عز وجل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام 6/ 122] . قال قتادة: هذه كلها أمثال أي كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. ثم بيّن تعالى مصدر الهداية، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها، وكما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار، بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا تستطيع أيها النبي هدايتهم لأن الكفر أمات قلوبهم. وأما مهمة الرسول فهي: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا رسول منذر عذاب الله، ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الهدى والضلالة فهي بيد الله عز وجل. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً أي أرسلناك أيها الرسول إرسالا مصحوبا بالحق، والمرسل محق، وكذا المرسل محق، مبشرا المؤمنين أهل الطاعة بالجنة، ومنذرا الكافرين أهل المعصية بالنار. والإرسال منهج عام في البشرية، فقال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي ما من أمة من بني آدم سبقت إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 16/ 36] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم سلّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه وتكذيبهم وإعراضهم عن دعوته، فقال: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي وإن يكذبك أيها الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية من قبلهم أنبياءهم، جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة، وبالكتب المكتوبة كصحف إبراهيم، وبالكتاب الواضح البيّن، كالتوراة والإنجيل. وكرر الزبر والكتاب، وهما واحد، لاختلاف اللفظين. ثم هدد مخالفيه وأوعدهم بالعقاب، فقال: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ومع كل هذه الأدلة كذب أولئك رسلهم فيما جاءوهم به، فأخذتهم بالعقاب والنكال، فكيف رأيت إنكاري عليهم شديدا بليغا؟! فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- لا مساواة بين الكافر والمؤمن والجاهل والعالم، ولا بين الكفر والإيمان أو الحق والباطل، ولا بين الثواب والعقاب أو الجنة والنار، ولا بين العقلاء والجهال أو أحياء القلوب وأموات القلوب. 2- إن الله يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته، ويهدي أحباءه لطاعته، ولن يستطيع النبي إسماع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم أي كما لا يسمع من مات، كذلك لا يسمع من مات قلبه. والمراد بالآية: أن الكفار الذين حجبوا نور الهداية عن قلوبهم هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.

العلوم العملية الطبيعية دليل آخر على وحدانية الله وقدرته وحال العلماء أمام مشاهد الكون [سورة فاطر (35) الآيات 27 إلى 30] :

3- ما الرسول إلا مجرد رسول منذر، فليس عليه إلا التبليغ، ليس له من الهدى شيء، إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى. 4- أرسل الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. 5- لم تخل أمة من نبي أو رسول ينذرها ويبشرها. 6- سلّى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من تكذيب كفار قريش، بأن الأمم السابقة كذبوا أنبياءهم، بالرغم من تأييد صدقهم بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات، وبالكتب المكتوبة، وبالكتاب المنير، وكانت نتيجة التكذيب عقوبة الاستئصال. العلوم العملية الطبيعية دليل آخر على وحدانية الله وقدرته وحال العلماء أمام مشاهد الكون [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 30] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

الإعراب:

الإعراب: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ هاء أَلْوانُهُ تعود على موصوف محذوف، تقديره: خلق مختلف ألوانه، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، هي في موضع رفع بالابتداء، والجار والمجرور قبله: خبره. وأَلْوانُهُ فاعل مختلف لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل. يَرْجُونَ تِجارَةً خبر إن. ولَنْ تَبُورَ صفة للتجارة. البلاغة: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا التفات من الغيبة إلى التكلم، بدلا من «أخرج» للدلالة على كمال قدرة الله وحكمته. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استفهام تقريري، فيه معنى التعجب. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قصر صفة على موصوف، قصر الخشية على العلماء. يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ استعارة، استعار التجارة للمعاملة مع الله لنيل ثوابه، وشبهها بالتجارة الدنيوية، وأيدها بقوله: لَنْ تَبُورَ وهو الذي يسمى ترشيحا. عَزِيزٌ غَفُورٌ لَنْ تَبُورَ غَفُورٌ شَكُورٌ توافق الفواصل من عناصر جمال الكلام. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ تعلم فهذه رؤية القلب والعلم. مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها أو أصنافها أو هيئاتها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك. جُدَدٌ أي ذو جدد، أي طرائق وخطوط في الجبال وغيرها، جمع جدة: وهي الخطة أو الطريقة المختلفة الألوان في الجبل ونحوه. بِيضٌ وَحُمْرٌ أي وصفر ونحوها. مُخْتَلِفاً أَلْوانُها بالشدة والضعف. وَغَرابِيبُ سُودٌ معطوف على جدد، أي صخور شديدة السواد، وأصل اللفظ: وسود غرابيب، والعرب تقول كثيرا للشديد السواد المشابه لون الغراب: أسود غربيب، وقليلا: غربيب أسود. مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثمار والجبال. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ بخلاف الجهال كأهل مكة إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له» . عَزِيزٌ غالب قاهر. غَفُورٌ لذنوب عباده التائبين المؤمنين. والجملة: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يستمرّون على تلاوة القرآن الكريم. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أداموا إقامتها في أوقاتها، مع كمال أركانها وأذكارها. وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً فيه حث على الإنفاق

سبب نزول الآية (29) :

كيفما تهيأ، لكن السر أفضل من العلانية. يَرْجُونَ تِجارَةً أي تحصيل ثواب الطاعة. لَنْ تَبُورَ لن تكسد ولن تهلك بالخسران. سبب نزول الآية (29) : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ..: أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ الآية. المناسبة: هذا دليل آخر على وحدانية الله وقدرته من مشاهد الكون المختلفة الأجناس والألوان، ضمّنه أن العلماء في العلوم الكونية أقدر الناس على إدراك عظمة الكون. فيكونون هم أخشى الناس لله، ثم أردفه ببيان حال العلماء العاملين بكتاب الله، فهم الذين يرجون ثواب الله على طاعتهم. التفسير والبيان: ينبه الله تعالى على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، فيخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي ألم تشاهد أيها الإنسان أن الله تعالى خلق الأشياء المختلفة من الشيء الواحد، فأنزل الماء من السماء، وأخرج به ثمارا مختلفة الأجناس والأنواع والطعوم والروائح والألوان من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك، كما قال تعالى في آية أخرى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] .

وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، وَغَرابِيبُ سُودٌ أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو مشاهد من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد مختلفة الألوان أيضا. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي وخلق أيضا خلقا آخر من الناس والدواب والأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم مختلفة الألوان في الجنس الواحد، بل وفي النوع الواحد، وفي الحيوان الواحد، كاختلاف الثمار والجبال. وقوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي خلق مختلف ألوانه، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم 30/ 22] . والدواب: كل ما دب على القوائم، والْأَنْعامِ من باب عطف الخاص على العام. وكلمة كَذلِكَ هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية. وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان والأصباغ في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه، فذكر أولا اختلاف الألوان في ثمار النبات، ثم ذكر اختلاف الألوان في الجمادات، ثم في الناس والحيوان. أخرج الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيصبغ ربك؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: نعم صبغا لا ينفض، أحمر وأصفر وأبيض» . ثم ذكر مستأنفا من يعرف جمال ذلك ودقائقه وهم العلماء فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ أي إنما يخاف الله بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، ومنها عظيم قدرته على صنع ما يشاء وفعل ما يريد، فمن كان أعلم بالله، كان أخشاهم له،

ومن لم يخش الله فليس بعالم. والمراد به العالم بعلوم الطبيعة والحياة وأسرار الكون. وسبب خشية العلماء من الله أن الله قوي في انتقامه من الكافرين، غفور لذنوب المؤمنين به التائبين إليه، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى، وهذا يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ، وهذا كله يدركه بدقة وشمول العلماء المتخصصون. قال ابن عباس: العالم بالرحمن: من لم يشرك به شيئا، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله. وقال الحسن البصري: العالم: من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الآية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. وقال سعيد بن جبير: الخشية: هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب. ثم أخبر الله تعالى عن العلماء بكتاب الله العاملين به، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي إن الذين يواظبون على تلاوة القرآن الكريم ويعملون بما فيه من فرائض، كإقام الصلاة المفروضة في أوقاتها، مع كمال أركانها وشرائطها والخشوع فيها، والإنفاق مما أعطاهم الله تعالى من فضله ليلا ونهارا، سرا وعلانية، هؤلاء يطلبون ثوابا من الله على طاعتهم، لا بد من حصوله، لذا قال:

فقه الحياة أو الأحكام:

لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ أي ليوفيهم الله ثواب ما عملوه، ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، إنه غفور لذنوبهم، شكور لطاعتهم وللقليل من أعمالهم. ونظير الآية قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء 4/ 173] وقوله: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ.. إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.. [النور 24/ 37- 38] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- من أدلة قدرة الله العظمى ووحدانيته واختياره: إنزال الماء من السماء، وإنبات النباتات، وإخراج الثمار المختلفة الأنواع والطعوم والروائح والألوان. 2- ومن الأدلة أيضا: إرساء الأرض بالجبال، وخلق طرق مختلفة الألوان فيما بينها تخالف لون الجبل، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. 3- ومنها أيضا خلق الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان، ففيهم الأحمر والأبيض والأسود والأصفر وغير ذلك، وكل ذلك دليل على وجود صانع مختار، واحد لا شريك له. 4- إن العلماء بطبيعة تركيب الكون ودقائقه، وبصفات الله وأفعاله، هم الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، ومن لم يخش الله فليس بعالم، كما قال الربيع بن أنس، والخشية بمعرفة قدر المخشي، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لأن الله بين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم.

تصديق القرآن لما تقدمه وأنواع ورثته وجزاء المؤمنين [سورة فاطر (35) الآيات 31 إلى 35] :

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» . 5- آية إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ: هذه آية القراء العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه، الذين يقيمون صلاة الفرض والنفل، وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية، هؤلاء هم الذين يبتغون تحصيل الثواب من الله على طاعاتهم، ويزيدهم الله من فضله، والزيادة هي الشفاعة في الآخرة، إن الله عند إعطاء الأجور غفور للذنوب، وعند إعطاء الزيادة شكور يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب. وقوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ إشارة إلى الإخلاص، أي ينفقون لا ليقال: إنه كريم، ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله تعالى. تصديق القرآن لما تقدمه وأنواع ورثته وجزاء المؤمنين [سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 35] وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

الإعراب:

الإعراب: مُصَدِّقاً حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ: مبتدأ، والْفَضْلُ: خبره، وهُوَ: ضمير فصل بين المبتدأ والخبر. والْكَبِيرُ: صفة الخبر، ويصح القول: ذلِكَ مبتدأ أول، وهُوَ مبتدأ ثان، والْفَضْلُ خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. جَنَّاتُ عَدْنٍ إما مبتدأ، ويَدْخُلُونَها الخبر، أو بدل من قوله: الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو جنات. ويُحَلَّوْنَ خبر ثان أو حال مقدرة. مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهذا جمع سوار. ولُؤْلُؤاً معطوف على محل: مِنْ أَساوِرَ. الَّذِي أَحَلَّنا.. الَّذِي في موضع نصب صفة اسم «إن» في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّنا ويصح جعله في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو خبر بعد خبر، أو بدل من ضمير شَكُورٌ. البلاغة: لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إطناب بتكرار الفعل، للمبالغة في انتفاء كل من النصب واللغوب. المفردات اللغوية: مِنَ الْكِتابِ القرآن، ومِنَ للتبيين. لِما بَيْنَ يَدَيْهِ تقدمه من الكتب. لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن والظواهر. ثُمَّ أَوْرَثْنَا أعطيناه وقضينا وقدرنا. الْكِتابَ القرآن. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا اخترناهم، وهم علماء الأمة الإسلامية من الصحابة ومن بعدهم. ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به، والظلم: تجاوز الحدود. مُقْتَصِدٌ متوسط يعمل به في أغلب الأوقات. سابِقٌ بِالْخَيْراتِ يضم إلى العلم والتعليم، والإرشاد إلى العمل. وسابِقٌ متقدم إلى ثواب الله، وبِالْخَيْراتِ أي بسبب عمل الخيرات والأعمال الصالحة. بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته وتوفيقه. ذلِكَ توريثهم الكتاب والاصطفاء، وقيل: السبق إلى الخيرات. جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. أَساوِرَ جمع أسورة: وهي حلية تلبس في اليد. الْحَزَنَ الخوف من مخاطر المستقبل. لَغَفُورٌ للذنوب. شَكُورٌ للطاعة.

سبب النزول نزول الآية (35) :

دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة الدائمة وهي الجنة. نَصَبٌ تعب. لُغُوبٌ إعياء من التعب أو كلال، ونفيهما جميعا للدلالة على الاستقلال، ولعدم التكليف في الجنة. سبب النزول: نزول الآية (35) : الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ: أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن النوم مما يقرّ الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم؟ قال: لا، إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت، قال: فما راحتهم؟ فأعظم ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة، فنزلت: لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» . المناسبة: بعد بيان الأصل الأول في العقيدة، وهو وجود الله الواحد، وإثباته بأنواع الأدلة، وهي: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. ولما بيّن الله تعالى في الآية السابقة ثواب تلاوة كتاب الله، أكد ذلك وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، فتاليه محق ومستحق لهذا الثواب، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب السابقة، ثم قسم ورثته ثلاثة أنواع، ثم أوضح جزاء العاملين به في الآخرة. التفسير والبيان: يبين الله تعالى مكانة القرآن ومهمته بين الكتب السماوية فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ

بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ أي إن الذي أوحينا إليك به يا محمد وهو القرآن هو الحق الثابت الدائم، المصدق والموافق لما تقدمه من الكتب السماوية السابقة، إن الله محيط بجميع أمور عباده، يعلم أحوالها الباطنة والظاهرة، يشرع لهم من الشرائع والأحكام المناسبة لكل زمان ومكان، وقد أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين والمرسلين، لما اقتضت حكمته وعدله. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ أي ثم قضينا وقدرنا بتوريث هذا القرآن من اخترنا من عبادنا، وهم يا محمد علماء أمتك من الصحابة فمن بعدهم، التي هي خير الأمم بنص الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 3/ 110] وجعلناهم أقساما ثلاثة: 1- الظالم لنفسه: بتجاوز الحد، وهو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. 2- المقتصد: المتوسط المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، لكنه قد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. 3- السابق بالخيرات بإذن الله: وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. وهذا خير الثلاثة، الذي سبق غيره في أمور الدين. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي توريث الكتاب والاصطفاء فضل عظيم من الله تعالى. ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين السابقين بغير حساب والمقتصدين بحساب يسير، والظالمين إن رحموا، فقال:

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي يدخل هؤلاء المصطفون جميعا جنات الإقامة الدائمة يوم المعاد، التي يحلّون فيها أساور من ذهب مرصع باللؤلؤ، ويكون لباسهم حريرا خالصا، وقد أباحه الله تعالى لهم في الآخرة، بعد أن كان محظورا عليهم في الدنيا. ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» وقال: «هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» . وعلى هذا تكون الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة. أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك أي أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدّث به عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال رضي الله عنه: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سلك طريقا يطلب فيها علما، سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظّ وافر» . وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ أي وقالوا حين استقروا في مأواهم جنات عدن: الحمد والشكر والثناء على الله الذي أزال عنا الخوف من المحذور، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة، فهو غفور لذنوب عباده، شكور لطاعتهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت، ولا في القبور، ولا في النشور، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» . قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات. ثم حمدوه أيضا على نعمة البقاء والاستقرار في الجنة والراحة فيها، فقال: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام الذي لا تحول عنه من فضله ومنّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك، كما ثبت في الصحيح لدى مسلم وأبي داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل» ولا نتعرض فيها لتعب ولا إعياء، لا في الأبدان ولا في الأرواح إذ إنهم دأبوا على العبادة في الدنيا، فصاروا في راحة دائمة مستمرة، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- القرآن الكريم هو الحق الصدق الثابت الذي لا شك فيه، وهو الموافق والمصدق لأصول الكتب السماوية السابقة في صورتها الصحيحة قبل التحريف والتبديل لأن الله أعلم بما يحقق الحكمة والمصلحة والعدل. 2- علماء الأمة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم ممن اختارهم الله ورثوا

جزاء الكافرين وأحوالهم في النار وتهديدهم على كفرهم [سورة فاطر (35) الآيات 36 إلى 39] :

القرآن وضمنه كل كتاب منزل لأن الله شرفهم على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم. 3- قسم الله الأمة المسلمة بالنسبة للعمل بالقرآن ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه: أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق إلى الأعمال الصالحة. 4- وعد الله المصطفين جميعا أو السابقين إلى الخيرات جنات عدن يدخلونها، متمتعين فيها بحلي الذهب المرصع باللؤلؤ، مرتدين فيها الحرير الخالص. وهذا دليل سرورهم ومتعتهم. 5- يحمد الله هؤلاء المؤمنون الذين جعل مأواهم جنات عدن ودار الإقامة، قائلين: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أي الخوف من محذور المستقبل، لا يصيبنا فيها عناء ولا إعياء ولا مشقة. وهذا إخبار ببقائهم في الجنان ودوامهم فيها على الاستمرار. جزاء الكافرين وأحوالهم في النار وتهديدهم على كفرهم [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)

الإعراب:

الإعراب: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا فَيَمُوتُوا: منصوب بأن مضمرة بعد النفي. البلاغة: غَفُورٌ شَكُورٌ كَفُورٍ صيغ مبالغة، وتوافق فواصل. فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تهكم في صيغة أمر. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً إطناب لزيادة التشنيع والتقبيح على الكافرين وكفرهم. وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ سجع عفوي فيه غاية الجمال. المفردات اللغوية: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا يستريحوا من العذاب وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها بل كلما خبت زيد استعارها كَذلِكَ نَجْزِي مثل ذلك الجزاء، أو كما جزيناهم كَفُورٍ كثير الكفر. يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون في النار بشدة وصوت عال، من الصراخ: وهو الصياح رَبَّنا أَخْرِجْنا بإضمار: يقولون: أخرجنا منها نَعْمَلْ صالِحاً تقييد العمل بالصالح للتحسر على ما عملوه من غير الصالح، والاعتراف به. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ جواب من الله وتوبيخ لهم، معناه نجعلكم تعمرون وقتا أو نمهلكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي أولم نعمركم وقتا كافيا للتذكر، من أراد أن يتذكر وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ الرسول، فما أجبتم لِلظَّالِمِينَ الكافرين نَصِيرٍ معين يدفع عنهم العذاب. إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تخفى عليه خافية، فلا يخفى عليه أحوالهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من العقائد والظنون، وهو تعليل لما سبق لأنه إذا علم مضمرات الصدور- وهي أخفى ما يكون- كان علمه بغيرها أولى، بالنظر إلى حال الناس.

المناسبة:

خَلائِفَ جمع خليفة، يخلف بعضكم بعضا وهو الذي يقوم بما كان يقوم به سلفه، والخلفاء: جمع خليف. فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ جزاء كفره مَقْتاً غضبا وبغضا خَساراً خسارة للآخرة لأنهم اشتروا بعمرهم رأس المال سخط الله تعالى. المناسبة: بعد بيان جزاء ورثة القرآن، ذكر جزاء الكفار لأن المقارنة تبعث في النفس طمأنينة وارتياحا، وليعرف المؤمنون أن فخار الكفار في الدنيا عليهم ينقلب حسرة في الآخرة، وأنه لا نصير للظالمين. ثم أردف ذلك ببيان إحاطة علم الله بالأشياء، لينفي وجود نصير للظالمين، ثم ذكر خلافتهم في الأرض ليقطع حجتهم بطلب العودة إلى الدنيا، وأعقبه بتهديد الكافرين على كفرهم، فإنه لا ينفع عند الله إلا المقت، ولا يفيدهم إلا الخسارة، فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر. التفسير والبيان: بعد بيان حال السعداء شرع الله تعالى في بيان حال الأشقياء في الآخرة، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي والذين كفروا بالله وبالقرآن وستروا ما تدل عليه العقول من دلالات واضحة على الحق، لهم نار جهنم، لا يحكم عليهم بموت ثان، فيستريحوا من العذاب والآلام، ولا يخفف عنهم شيء من العذاب طرفة عين، بل كلما خبت زيد سعيرها، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب. ونظير الآية قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف 43/ 77] وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف 43/ 74- 75] وقوله:

كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء 17/ 97] وقوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ 78/ 30] . وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها، ولا يحيون» . كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي كل مبالغ في الكفر، فنزج به في قعر جهنم. ثم وصف تعالى حالهم في العذاب بقوله: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي وهؤلاء الكفار يستغيثون في النار، رافعين أصواتهم، ينادون قائلين: ربنا أخرجنا منها، وارجعنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا ترضى عنه، غير ما كنا نعمله من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان بدل الكفر، والطاعة بدل المعصية. فرد الله عليهم موبخا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نبقكم مدة من العمر، تتمكنون فيه من التذكر إذا أردتم التذكر، أو أما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق، لانتفعتم به في مدة عمركم؟ ونظير الآية: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر 40/ 11- 12] . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه» . وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي وجاءكم الرسول المنذر، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعه

القرآن، ينذركم بالعقاب إن عصيتم. وقيل: النذير: الشيب. وقال الرازي: أي آتيناكم عقولا، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول. وبه يتبين أن الله تعالى احتج عليهم بالعمر والرسل لقوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف 43/ 77- 78] وقوله سبحانه: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك 67/ 8- 9] . فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي فذوقوا عذاب جهنم، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في الدنيا، فليس لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال، وهو تهكم بصيغة الأمر مثل قوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] . ثم أخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع الأمور ومنها أحوالهم، فقال: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي إن الله يعلم كل أمر خفي في السموات والأرض، ومنها أعمال العباد، لا تخفى منها خافية، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما قال سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 28] وذلك لأنه عليم بما تنطوي عليه الضمائر، وبما تكنّه السرائر، من المعتقدات والظنون وحديث النفس، وسيجازي كل عامل بعمله. وفيه إشارة إلى أنه لو أعادهم إلى الدنيا لم يعدلوا عن الكفر أبدا. وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لشمول علمه.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر سببا آخر لعلمه بالغيب، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي إن الله هو الذي جعلكم يخلف قوم قوما آخرين قبلهم، خلفا بعد خلف، وجيلا بعد جيل، لتنتفعوا بخيرات الأرض، وتشكروا الله بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل 27/ 62] . فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فمن كفر منكم هذه النعمة، فعليه ضرر كفره، وجزاؤه عليه دون غيره. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى وغضب عليهم، وكلما أصروا على الكفر خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وأصابهم النقص والهلاك. وهذا التكرار دليل على أن الكفر يستوجب أمرين هما البغض والخسران. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- هذه أحوال النار ومقالتهم، يخلدون في نار جهنم، ولا يموتون فيها ولا يحيون: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى 87/ 13] ، ولا يخفف عنهم شيء من عذابها، وهذا جزاء كل كافر بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. 2- إنهم يقولون في النار: ربنا أخرجنا من جهنم، وردنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا غير عملنا الذي كنا نعمله، وهو الشرك، فنؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل. 3- أجابهم الله تعالى بأنه أعطاهم مدة من العمر كافية، يتمكن فيه كل واحد

مناقشة المشركين في عبادة الأوثان وإنكار التوحيد [سورة فاطر (35) الآيات 40 إلى 41] :

من التذكر إذا أراد التذكر، وجاءتهم الرسل تنذرهم من عقاب الله إن أصروا على الكفر، فكان أمامهم فرصتان: مدة العمر، وإرسال الرسل. 4- إن دار الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يقبل فيها تصحيح الإيمان، ولا تنفع فيها التوبة، فذلك كله محله دار الدنيا، لذا يقال للكفار: ذوقوا عذاب جهنم لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم، فما للظالمين من ناصر ولا مانع من عذاب الله تعالى. 5- الله تعالى عالم بكل أمر خفي أو ظاهر في الدنيا والآخرة، ومطلع على أعمال العباد، وهو يعلم أنه لو رد الكفار إلى الدنيا لم يعملوا صالحا، كما قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام 6/ 28] وهذا تقرير لدوامهم في العذاب. وسبب سعة علمه بالغيب: أنه عالم في الماضي والمستقبل بمضمرات الصدور، وأنه جعل الناس خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن، للانتفاع بكنوز الأرض، وشكر الله بالتوحيد والطاعة. 6- من كفر فعليه جزاء كفره وهو العقاب والعذاب. 7- إذا استمر الكفار على كفرهم لم يستفيدوا إلا أمرين: المقت، أي البغض والغضب من الله تعالى، والخسارة، أي الهلاك والضلال. فهل من معتبر منهم في الدنيا قبل فوات الأوان؟ مناقشة المشركين في عبادة الأوثان وإنكار التوحيد [سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

الإعراب:

الإعراب: أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ. إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ جملة سادّة مسد الجوابين: جواب القسم وجواب الشرط. البلاغة: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ استفهام إنكاري للتوبيخ. حَلِيماً غَفُوراً من صيغ المبالغة. غُرُوراً غَفُوراً توافق فواصل. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون من غير الله، وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء لله تعالى أَرُونِي أخبروني شِرْكٌ شركة مع الله فِي السَّماواتِ أي في خلقها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنا اتخذنا شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، أي لهم معي شركة بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي ما يعد الكافرون. ولمّا تقرر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف الأخلاف أو الرؤساء الأتباع غُرُوراً باطلا. يُمْسِكُ يحفظ أَنْ تَزُولا كراهة أن تضطرب وتنتقل من أماكنها، من الزوال، والمعنى: يمنعهما من الزوال وَلَئِنْ اللام لام القسم إِنْ أَمْسَكَهُما ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله، أي سواه، أو من بعد الزوال، ومن الأولى: زائدة، والثانية: للابتداء والمعنى الأصح: لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما لو فرض زوالهما إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً في تأخير عقاب الكفار، وفي إمساكه السموات والأرض.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان جزاء المؤمنين والكافرين وتهديد كل من كفر بالله، ذكر تعالى ما يدعو للتوحيد ويبطل الإشراك، مناقشا المشركين في أبسط مقومات عبادة الإله: وهو الخلق والإبداع، وأن هذه الآلهة المزعومة عاجزة عن ذلك. التفسير والبيان: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ قل أيها النبي للمشركين: أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله وتتخذونهم آلهة من الأصنام والأوثان، هل خلقوا شيئا من الأرض، حتى يستحقوا الألوهية؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ وهل لهم شركة مع الله في خلق السموات أو في ملكها أو في التصرف فيها، حتى يستحقوا بذلك الشركة في الألوهية؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ أي وهل أنزلنا عليهم كتابا يقرر ما يقولونه من الشرك والكفر، يكون لهم حجة فيما يدعون؟ بَلْ، إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي كلها غرور وباطل وزور، كما يعد الرؤساء والقادة أتباعهم بمواعيد يغرونهم بها، وهي أباطيل تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده. وبعد بيان ضعف الأصنام وعجزها عن أي شيء، أبان تعالى ما يؤهله للعبادة، ويجعله أهلا للعظمة، فقال مبينا قدرته وبديع صنعه: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنع زوال

فقه الحياة أو الأحكام:

السموات والأرض واضطرابها، وانتقالها من أماكنها، وهذا يشير إلى نظام الجاذبية، وأن الأرض كرة تسبح في الفضاء، كغيرها من الشمس والقمر والكواكب الأخرى السيارة التي تجري في مدارات خاصة بها، كما قال عز وجل: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [فاطر 35/ 41] وقال سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 30/ 25] . وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي لو قدّر إشرافهما على الزوال، لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما، ولا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، يمهل عقاب المشركين، ويغفر لمن تاب منهم ما أجرم في الماضي، فهو يحلم فيؤخّر ويؤجّل، ولا يعجّل، ويستر آخرين ويغفر، ويظل ممسكا السموات والأرض، بالرغم من أنه يرى عباده، وهم يكفرون به ويعصونه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- يتحدى الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد، ويطالبهم أن يخبروا عن شركائهم الذين يعبدونهم من دون الله، أعبدوهم لأن لهم شركة في خلق السموات والأرض، أم خلقوا من الأرض شيئا؟! أم عندهم كتاب أنزله إليهم بالشركة؟! وقوله شُرَكاءَكُمُ: إنما أضاف الشركاء إليهم، من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال: شُرَكاءَكُمُ أي الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال: شركاءكم في النار، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء 21/ 98] قال الرازي: وهو قريب، ويحتمل أن يقال: هو بعيد، لاتفاق المفسرين على الأول.

إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك [سورة فاطر (35) الآيات 42 إلى 45] :

2- الحقيقة أنه لا جواب يقنع من المشركين، وإنما هم يتبعون أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي باطل وزور، وما مواعيدهم لبعضهم بعضا إلا أباطيل تغرّ، حين قال السادة للأتباع: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقرّبكم. 3- الدليل على عظمة الله وقدرته بعد ثبوت ضعف الأصنام وعجزها: هو أن الله خالق السموات والأرض وممسكهما، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه، ولو زالتا فرضا واضطربتا ما أمسكهما من أحد غير الله جل جلاله. 4- من صفات الله العليا: الحلم، فلا يعجل العقوبة للكفار والعصاة، والمغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى إلى طريق الحق على الدوام، وهو تعالى يحافظ على هذا النظام البديع للكون، بالرغم من كفر الكافرين. إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

الإعراب:

الإعراب: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ اسْتِكْباراً مفعول لأجله، ومَكْرَ السَّيِّئِ منصوب على المصدر، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، بدليل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. البلاغة: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ في ظَهْرِها استعارة مكنية، شبّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات، ثم حذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الظهر، بطريق الاستعارة المكنية. عَلِيماً قَدِيراً بَصِيراً من صيغ المبالغة. المفردات اللغوية: وَأَقْسَمُوا حلف المشركون جَهْدَ أَيْمانِهِمْ طاقتها وغاية اجتهادهم فيها لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول منذر أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ اليهود أو النصارى، لما رأوا من تكذيب بعضهم بعضا إذ قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق والهدى. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي إنهم ما كذبوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لاعتقاد كذبه، إنما فعلوا ذلك لأجل الاستكبار عن أن يكونوا أتباعا له، ولأجل العتو: وهو التجبر والمضي في الفساد وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي ومكر العمل السيء من الشرك وكيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمكر: هو الحيلة والخداع والعمل القبيح وَلا يَحِيقُ لا يصيب ولا ينزل ولا يحيط إِلَّا بِأَهْلِهِ وهو الماكر فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ طريقة المتقدمين من تعذيب المكذبين رسلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي لا يبدل بالعذاب غيره، ولا يحول إلى غير مستحقه، وبعبارة أخرى: التبديل: وضع الرحمة موضع العذاب، والتحويل: نقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم. عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مصير وآثار الماضين من قبلهم أثناء سيرهم إلى الشام واليمن والعراق، كعاد وثمود ومدين وأمثالهم، نزل بهم العذاب، لما كذبوا الرسل، فتلك سنة الله في المكذبين التي لا تبدّل ولا تحوّل وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأطول أعمارا، وأكثر أموالا، وأقوى أبدانا، من أهل مكة، فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم. والواو: واو الحال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ

سبب النزول نزول الآية (42) :

شَيْءٍ يسبقه ويفوته إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها لا يخفى عليه شيء قَدِيراً لا يصعب عليه أمر. بِما كَسَبُوا عملوا من الذنوب أو المعاصي أو الخطايا عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض من الأحياء مِنْ دَابَّةٍ من الدواب التي تدبّ، والدابة: كل ما يدبّ على الأرض وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي فيجازيهم على أعمالهم، بإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين. سبب النزول: نزول الآية (42) : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه: أن قريشا كانت تقول: لو أن الله بعث منا نبيا، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكا بكتابها منا، فأنزل الله: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ [الصافات 37/ 168] لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام 6/ 157] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ وكانت اليهود تستفتح على النصارى به، فيقولون: إنا نجد نبيا يخرج. المناسبة: بعد بيان إنكار المشركين للتوحيد، وتوبيخهم وتقريعهم على سخف عقولهم، ذكر الله تعالى تكذيبهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بعد ترقبهم له، ثم هددهم بالهلاك كمن قبلهم من الأمم الغابرة الذين كذبوا رسلهم، وأردفه بتذكيرهم بما يشاهدونه في رحلاتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار تدمير منازل المكذبين بالرغم من كمال القوة، وكثرة المال والولد، وختم السورة ببيان مدى حلمه على الناس، وأنه لو أراد مؤاخذتهم لأفناهم، ولكنه أخرّ عقابهم إلى يوم القيامة، وحينها يعاقبهم على أعمالهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذا نبأ عجيب غريب عن قريش والعرب لا علم لنا به من غير القرآن، قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أقسمت قريش والعرب بالله أغلظ الأيمان قبل إرسال الرسول إليهم: لئن جاءهم من الله رسول منذر ليكونن أمثل من أي أمة من الأمم أو من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل في الطاعة، وأشدهم تمسكا بالرسالة وقبولا لها. وذلك كقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام 6/ 156- 157] . فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي فلما أتاهم ما تمنوه، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه من القرآن العظيم، ما ازدادوا إلا كفرا إلى كفرهم وتباعدا عن الإيمان وإجابة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مستكبرين عن اتباع آيات الله، ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله تعالى. وبه تبين ألا عهد لهم، ولا صدق في كلامهم، ولا وفاء بما يقولون، فتحملوا ثم فعلهم كما قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم نفسهم دون غيرهم، وعادت عليهم عاقبة مكرهم بالإثم والوزر، ونزلت عاقبة لسوء بمن أساء، قبل المساء إليه، كما قال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ

مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء 26/ 227] ومكر السيء: أي مكر العمل السيء، والمكر: هو الحيلة والخداع والعمل القبيح، وهو هنا الكفر وخداع الضعفاء، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم. ثم هددهم بجزاء أمثالهم، فقال: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي فهل ينتظرون إلا عقوبة لهم على تكذيبهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومخالفة أوامره مثل عقوبة الله للأمم الماضية المكذبين. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي تلك سنة الله وطريقته. التي لا تتغير ولا تتبدل في كل مكذب، فلن توضع الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من مكذب إلى غيره، كما قال تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرعد 13/ 11] . ثم لفت أنظارهم إلى آثار تدمير الماضين المكذبين فقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي أولم ينتقلوا في الأراضي في رحلاتهم إلى الشام واليمن والعراق، فيشاهدوا مصير السابقين الذين كذبوا الرسل، كيف دمّر الله عليهم، وللكافرين أمثالهم، بالرغم من أنهم كانوا أشد قوة من قريش وأكثر عددا وعددا، وأموالا وأولادا، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء أمر ربك، لأنه كما قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً أي لأن الله لا يعجزه ولا يفوته أو يسبقه شيء إذا أراد حدوثه في السموات والأرض، فلن يعجزه هؤلاء المشركون المكذبون لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولن يفلتوا من عقابه لأن الله تعالى عليم بجميع الكائنات لا يخفى عليه شيء، قدير

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يصعب عليه أمر، فهو يعلم المستحق للعقوبة، قادر على الانتقام منه في أي وقت أو مكان شاء. ثم أبان الله تعالى سياسته العقابية، وأخبر عن سابغ وواسع رحمته بالناس، فقال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أي لو عجل تعالى العقاب وآخذ الناس بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل السموات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، لشؤم معاصيهم. والمراد بالدابة كما قال ابن مسعود: جميع الحيوان مما دبّ ودرج. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي ولكن يؤجل عقابهم ومؤاخذتهم بذنوبهم إلى وقت محدد وهو يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستحق منهم العقاب، لا يخفى عليه شيء من أمرهم. ونظير الآية: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أقسمت قريش قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم أنه إن جاءهم نبي ليكونن أهدى ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل. فلما جاءهم ما تمنّوه وهو الرسول النذير، من أنفسهم، نفروا عنه، ولم يؤمنوا

به، تكبرا وعتوا عن الإيمان، ومكرا منهم بصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم. 2- لكن تنكر المشركين للعهد بالله، وإخلالهم بالوفاء باليمين، وعاقبة شركهم: لا ترتد آثاره إلا عليهم أنفسهم. وهذا ما دل عليه قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. وفي أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا» وروى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا، فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغ ولا تعن باغيا، فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وفي الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن قيس بن سعد: «المكر والخديعة في النار» أي تدخل أصحابها في النار لأنها من أخلاق الكفار، لا من أخلاق المؤمنين الأخيار، قال صلّى الله عليه وسلّم: «وليس من أخلاق المؤمن: المكر والخديعة والخيانة» . 3- ما موقف المشركين المعاند من نبي الله إلا كموقف من ينتظر العذاب الذي نزل بالكفار الأولين، وقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة أي طريقة فيهم، فهو يعذب المستحق، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والإهلاك ليس سنة الأولين وإنما هو سنة الله بالأولين. 4- تأكيدا لهذا الموقف نبّههم الله تعالى إلى الأمثلة الواقعية من تاريخ الأمم الغابرة، وهم الذين يشاهدون آثار تدمير مساكنهم ودورهم أثناء تجاراتهم ورحلاتهم إلى بلاد اليمن والشام والعراق، مثل إهلاك قوم عاد وثمود ومدين وغيرهم، لما كذبوا رسل الله، وكانوا أشد من أهل مكة قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وإذا أراد الله إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك. 5- اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعجل العذاب للعصاة والكفار على

ذنوبهم، وإنما يؤخرهم ويمهلهم إلى يوم معين كي تكون لديهم فرصة، فيتداركوا تقصيرهم، ويعدلوا عن ظلمهم، وكان مقتضى العدل تعجيل العقوبة، وإذا فعل الله ذلك، أهلك جميع المخلوقات إلا من يشاء، والله سبحانه عليم بمن يستحق العقاب منهم. وهذا رد بليغ على المشركين الذين كانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم وعتوهم يستعجلون بالعذاب، ويقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجل لنا عذابنا، فقال الله: للعذاب أجل. وقد حكى القرآن الكريم استعجال المشركين بالعقاب استهزاء، حيث قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] .

سورة يس:

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة يس مكيّة، وهي ثلاث وثمانون آية. تسميتها: سميت سورة يس لافتتاحها بهذه الأحرف الهجائية، التي قيل فيها إنها نداء معناه (يا إنسان) بلغة طي لأن تصغير إنسان: أنيسين، فكأنه حذف الصدر منه، وأخذ العجز، وقال: يس أي أنيسين. وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدليل قوله تعالى بعده. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- بعد أن ذكر تعالى في سورة فاطر قوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [37] وقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ [42] والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد أعرضوا عنه وكذبوه، افتتح هذه السورة بالقسم على صحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم، وأنه أرسل لينذر قوما ما أنذر آباؤهم. 2- هناك تشابه بين السورتين في إيراد بعض أدلة القدرة الإلهية الكونية، فقال تعالى في سورة فاطر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى

مشتملاتها:

[13] وقال في سورة يس: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [37- 38] . 3- وقال سبحانه في فاطر: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [12] وقال في يس: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [41] . مشتملاتها: تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية المفتتحة بأحرف هجائية الكلام عن أصول العقيدة من تعظيم القرآن الكريم، وبيان قدرة الله ووحدانيته، وتحديد مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبشارة والإنذار، وإثبات البعث بأدلة حسية مشاهدة من الخلق المبتدأ والإبداع الذي لم يسبق له مثيل. وقد بدئت السورة بالقسم الإلهي بالقرآن الحكيم على أن محمدا رسول حقا من رب العالمين لينذر قومه العرب وغيرهم من الأمم، فانقسم الناس من رسالته فريقين: فريق معاند لا أمل في إيمانه، وفريق يرجى له الخير والهدى، وأعمال كل من الفريقين محفوظة، وآثارهم مدونة معلومة في العلم الأزلي القديم. ثم ضرب المثل لهم بأهل قرية كذبوا رسلهم واحدا بعد الآخر، وكذبوا الناصح لهم وقتلوه، فدخل الجنة، ودخلوا هم النار. وأعقب ذلك تذكيرهم بتدمير الأمم المكذبة الغابرة. وانتقل البيان إلى إثبات البعث والقدرة والوحدانية بإحياء الأرض الميتة، وبيان قدرة الله الباهرة في الكون من تعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة والثابتة، وتسيير السفن في البحار. وإزاء ذلك هزم الجاحدون، وأنذروا بالعقاب السريع، وفوجئوا بنقمة الله في تصوير أهوال القيامة، وبعثهم من القبور بنفخة البعث والنشور، فأعلنوا

ندمهم، وصرحوا بأن البعث حق، ولكن لم يجدوا أمامهم إلا نار جهنم، وكانوا قد وبخوا على اتباع وساوس الشيطان، وأعلموا أن الله قادر على مسخهم في الدنيا. وأما المؤمنون فيتمتعون بنعيم الجنان، ويحسون بأنهم في أمن وسلام من رب رحيم. ثم نفى الله تعالى كون رسوله شاعرا، وأعلم الكافرين أنه منذر بالقرآن المبين أحياء القلوب، وذكّر الناس قاطبة بضرورة شكر المنعم على ما أنعم عليهم من تذليل الأنعام، والانتفاع بها في الطعام والشراب واللباس. وندد الله تعالى باتخاذ المشركين آلهة من الأصنام أملا في نصرتها لهم يوم القيامة، مع أنها عاجزة عن أي نفع، وهم مع ذلك جنودها الطائعون. وختمت السورة بالرد القاطع على منكري البعث بما يشاهدونه من ابتداء الخلق، وتدرج الإنسان في أطوار النمو، وإنبات الشجر الأخضر ثم جعله يابسا، وخلق السموات والأرض، وإعلان القرار النهائي الحتمي الناجم عن كل ذلك، وهو قدرة الله الباهرة على إيجاد الأشياء بأسرع مما يتصور الإنسان، وأنه الخالق المالك لكل شيء في السموات والأرض. والخلاصة: أن السورة كلها إيقاظ شديد للمشاعر والوجدان، وتحريك قوي للأحاسيس، وفتح نفّاذ للقلوب، لكي تبادر إلى الإقرار بالخالق وتوحيده، والإيمان بالبعث والجزاء. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتاب أبي داود عن معقل بن يسار: «اقرؤوا يس على موتاكم» .

القرآن والرسول والمرسل إليهم [سورة يس (36) الآيات 1 إلى 12] :

القرآن والرسول والمرسل إليهم [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) الإعراب: يس إما بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هذه يس، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث، وقرئ بالنصب على معنى: اتل يس، وإما بالفتح كأين وكيف، وقرئ بالكسر مثل: جير لإسكان الياء وكسر ما قبلها. ومنهم من أظهر النون، ومنهم من أدغمها في الواو، فمن أظهرها فلأن حروف الهجاء من حقها أن يوقف عليها، كالعدد، ولذلك لم تعرب، ومن أدغمها أجراها مجرى المتصل، والإظهار أقيس. لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في موضع رفع خبر (إن) وعَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما في موضع رفع خبر بعد خبر (إن) وإما في موضع نصب متعلق ب الْمُرْسَلِينَ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ منصوب على المصدر، مصدر (نزّل) وهو مضاف إلى الفاعل،

البلاغة:

ويقرأ بالرفع على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره: هو تنزيل، ويقرأ أيضا بالجر على البدل من القرآن. ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قَوْماً: إما نافية، وإما مصدرية في موضع نصب، تقديره: لتنذر قوما إنذارا مثل إنذارنا آباءهم، ممن كانوا في زمان إبراهيم وإسماعيل. وَآثارَهُمْ هي السنن التي سنّوها، فيه محذوف تقديره: سنكتب ذكر ما قدموا وذكر آثارهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كُلَّ منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَحْصَيْناهُ أي أحصينا كل شيء أحصيناه. البلاغة: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ في كل منهما تأكيد بأكثر من مؤكد وهو (إن) واللام لأن المخاطب منكر، وهذا التأكيد يسمى إنكاريا. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا استعارة تمثيلية، شبه حال الكفار في امتناعهم عن الإيمان بمن غلّت يده إلى عنقه بالقيود، فصار مرفوع الرأس خافض البصر، لا يستطيع فعل شيء ولا الالتفات إلى غيره. وكذلك شبه حالهم بمن وجد بين سدّين لا يستطيع النفاذ والاهتداء لطريقه. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بينهما طباق. أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ بينهما طباق السلب. نَحْنُ نُحْيِ جناس ناقص لتغير الحروف. المفردات اللغوية: يس تقرأ: يا، س بمد الياء، وإظهار النون الساكنة، أو بإدغام نون السين في الواو التي بعدها، إلخ ما ذكر في الحاشية، والمراد من هذه الحروف المقطعة الهجائية كما سبق بيانه التنبيه، مثل ألا ويا، والإشارة إلى العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف تتركب منها لغتهم وكلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ حجة عليهم. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الواو: واو القسم، يقسم الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني، أو بذي الحكمة، على أن محمدا رسول من عند الله، لئلا يشك أحد في كونه مرسلا. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي الأنبياء المرسلين إلى قومهم وغيرهم، والتأكيد بالقسم واللام للرد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: لست مرسلا. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي الطريق القويم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل هو الموصل إلى المطلوب، في العقيدة والشريعة، في التوحيد والاستقامة في الأمور.

سبب النزول نزول الآية (1) :

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي إن القرآن تنزيل منزل من العزيز الغالب في ملكه، الرحيم بخلقه. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ اللام متعلق ب تَنْزِيلَ، والمعنى أرسلناك بهذا التنزيل لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم الأقربون، في زمن الفترة، أو لتطاول مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. غافِلُونَ أي إن القوم العرب غافلون عن الإيمان والرشد، وعن الشرائع والأحكام. حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ وجب الحكم بالعذاب على أكثر أهل مكة: وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون بالقرآن. أَغْلالًا جمع غلّ: وهو ما تجمع به اليد إلى العنق للتعذيب. فَهِيَ الأيدي مجموعة. إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن: وهي مجتمع اللّحيين. مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، غاضون أبصارهم في عدم التفاتهم إلى الحق. وهذا تمثيل، يراد به أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون نفوسهم له. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أمامهم، والمراد: منعناهم عن الإيمان بموانع هي استكبارهم وعتوهم وعنادهم عن قبول الحق والخضوع له. فَأَغْشَيْناهُمْ غطينا أبصارهم. فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار سبيل الهدى، إنهم عموا عن البعث، وعن قبول الشرائع الإلهية. وهذا تمثيل أيضا لسد طريق الإيمان عليهم لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه. والعلم: مجرد معرفة مسبقة لا يمنع الإنسان عقلا وواقعا من الإيمان لأنه غير معروف له. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، بسبب العتو والاستكبار. إِنَّما تُنْذِرُ ينفع إنذارك. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي اتبع القرآن، وخاف عقاب الله في السر والعلن، وإن لم يره، والغيب: أي قبل معاينة أهواله. وَأَجْرٍ كَرِيمٍ هو الجنة. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى نبعثهم بعد الموت. وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نكتب في اللوح المحفوظ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كالعلم والكتاب والمسجد والمشفى والمدرسة، أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي كل شيء من أعمال العباد وغيرها ضبطناه في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال. سبب النزول: نزول الآية (1) : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:

نزول الآية (8) :

كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد. نزول الآية (8) : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله: لا يُبْصِرُونَ فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر. نزول الآية (12) : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى: أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النّقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا» . وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم» . التفسير والبيان: يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي

أقسم بالقرآن ذي الحكمة البالغة، المحكم بنظمه ومعناه بأنك يا محمد لرسول من عند الله على منهج سليم، ودين قويم، وشرع مستقيم لا عوج فيه. وفي هذا إشارة إلى أن القرآن هو المعجزة الباقية، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، صادق في نبوته، ومرسل برسالة دائمة من عند ربه. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي هذا القرآن والدين والصراط الذي جئت به تنزيل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى 42/ 52- 53] . وهذا دليل واضح على مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ أي أرسلناك أيها النبي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول نذير من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والنور والشرائع التي تسعد البشر في الدارين. لكنّ ذكرهم وحدهم هنا للعناية بهم وتوجيه الخطاب لهم: لا ينفي كونه مرسلا إلى الناس كافة، بدليل الآيات والأحاديث المتواترة المعروفة في عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم، مثل قوله تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة، وهو ما سجّل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر، ويصرون عليه طوال حياتهم.

والمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلي، وهو سبق علم الله بنهاياتهم، لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر، وفي هذا تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يجزع ولا يأسف على عدم إيمانهم به. ثم ضرب الله تعالى مثلا لتصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى إيمانهم، فقال: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود، تمنعهم من فعل شيء، فصاروا مرفوعي الرؤوس خافضي الأبصار. وهذا يعني أن الله جعلهم كالمغلولين المقمحين (الرافعي رؤوسهم الغاضي أبصارهم) في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يوجهون أنظارهم نحوه، وهم أيضا كالقائمين بين سدين، لا يبصرون أمامهم ولا خلفهم، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله، كما قال: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي تأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كمن أحاط به سدان من الأمام والخلف، فمنعاه من النظر، فهو لا يبصر شيئا، وهؤلاء لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه لأنا غطينا أبصارهم عن الحق. وهذا مثل صائب لأهل الجهالة والتخلف والبدائية الذين حجبوا مداركهم وأبصارهم عن التأمل في معطيات المدنية والتقدم والحضارة، وهو تمثيل رائع للسد الإلهي المعنوي بالسد الحاجز المادي الحسي. ونتيجة لما سبق: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إن إنذارك لهؤلاء المصرين على كفرهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، ما داموا غير مستعدين

لقبول الحق، والخضوع لنداء الله، والنظر في الدلائل الدالة على صدق رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتأمل في عجائب الكون المشاهدة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته. أما نفع الإنذار، فهو كما ذكر تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه ومعاينة أهواله، أو خشوا الله قبل رؤيته، فهؤلاء بشرهم بمغفرة لذنوبهم، ورضوان من الله، وأجر كريم ونعيم مقيم هو الجنة. ونظير الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك 67/ 12] . ثم أكد الله تعالى حصول الجزاء للمؤمنين وغيرهم، فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي إننا قادرون فعلا على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين ندوّن لهم كل ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء، وتركوا من أثر طيب أو خبيث، أي نكتب ونسجل أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها وخلفوها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن عمل على نشر الفضيلة جوزي بها، ومن عمد إلى نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة يحاسب عليها. وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي-: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده» . ثم ذكر تعالى أن كتابة الآثار لا تقتصر على الناس، وإنما تتناول جميع الأشياء، فقال: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي لقد ضبطنا وأحصينا كل شيء من أعمال العباد وغيرهم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي سجّل فيه جميع ما يتعلق بالكائنات، كما قال تعالى: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه 20/ 52] وقال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر 54/ 52- 53] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- القرآن الكريم معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وهو تنزيل من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 2- الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، على منهج وطريق ودين مستقيم هو الإسلام. 3- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العرب خاصة وإلى الناس كافة، فلم يبق بعدها عذر لمعتذر. 4- إن رؤوس الكفر والطغيان والعناد من أهل مكة أو العرب استحقوا الخلود في نار جهنم والعذاب الدائم فيها لأنهم أصروا على الكفر، وأعرضوا عن النظر في آيات الله، والتأمل في مشاهد الكون، وقد علم الله في علمه الأزلي

قصة أصحاب القرية - أنطاكية [سورة يس (36) الآيات 13 إلى 27] :

بقاءهم على الكفر، لكنه أمر نبيه بدعوتهم إلى دينه لأنهم لا يعلمون سابق علم الله فيهم، ولتعليمنا المنهج في دعوة الناس قاطبة إلى الإيمان بالله والقرآن ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والبعث والحساب والجزاء. 5- لا أمل بعد هذا في إنذارهم ولا نفع فيه بعد أن سدوا على أنفسهم منافذ الهداية ومدارك المعرفة، ولم تتفتح بصائرهم لرؤية الحق والنور الإلهي. 6- إنما نفع الإنذار لمن استعد للنظر في منهج الحق، ثم آمن بالقرآن كتابا من عند الله، وخشي عذاب الله وناره قبل المعاينة والحدوث، فهذا وأمثاله يغفر الله له ذنبه، ويدخله الجنة. 7- البعث حق والإيمان به واجب، والله قادر عليه، وسيكون مستند الجزاء ما كتب من أعمال العباد، وما تركوه من آثار صالحة أو سيئة، كما أن الله أحصى كل شيء وضبطه من أمور الكائنات، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وقد دلّ سبب نزول الآية على أن حسنات البعيدين عن المسجد مثل حسنات القريبين منه، وأنه إن تعذر عليهم الاقتراب من المسجد أو شقّ عليهم، فلا يلزم القرب منه. قصة أصحاب القرية- أنطاكية [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

الإعراب:

الإعراب: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أَصْحابَ: منصوب إما على البدل من قوله: مَثَلًا أي واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، فالمثل الثاني بدل من الأول، وحذف المضاف، وإما لأنه مفعول ثان ل اضْرِبْ. وإِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ: بدل اشتمال من أصحاب القرية. وإِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ بدل من إذ الأولى. وإِذْ جاءَهَا: ظرف لقوله جاءَهَا. أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ جواب الشرط محذوف، تقديره: أئن ذكرتم، تلقيتم التذكير والإنذار بالكفر والإنكار. وأَ إِنْ: همزة استفهام دخلت على إن الشرطية. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: أكثر القراء فتحوا الياء من لِيَ إشعارا بفتح الابتداء ب لا أَعْبُدُ ليبتعدوا عن صورة الوقف على الياء لأنهم لو سكنوا لكانت صورة السكون مثل صورة الوقف. أما في قوله: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل 27/ 20] فالياء ساكنة. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي ما: إما بمعنى الذي، وغَفَرَ لِي: صلته، والعائد محذوف

البلاغة:

تقديره: الذي غفره لي ربي، وحذف تخفيفا، وإما مصدرية، أي بغفران ربي لي، وإما استفهامية، وفيه معنى التعجب من مغفرة الله، تحقيرا لعمله وتعظيما لمغفرة ربه، لكن في هذا الوجه ضعف لأنه لو كانت استفهامية لزم حذف الألف منها، فتصير (بم) . البلاغة: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً إطناب بتكرار الفعل. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام للتوبيخ. قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ مجاز بالحذف، أي لما أعلن إيمانه قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة. أَرْسَلْنا الْمُرْسَلُونَ تَطَيَّرْنا طائِرُكُمْ فيهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي: ومثّل لهم مثلا، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، والمثل الثاني بيان للأول. والمثل: الصفة والحال الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قال القرطبي: هذه القرية: هي أنطاكية في قول جميع المفسرين. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ هم أصحاب عيسى، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعوة إلى الله. فَكَذَّبُوهُما في الرسالة. فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قوّينا وأيدنا بثالث، وقرئ: فعززنا بالتخفيف: أي غلبنا وقهرنا. إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها. وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مما تدّعونه أنتم، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء ما تدّعون من ذلك. رَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم، وقد أكدوا الجواب بالقسم وباللام، ردا على زيادة إنكارهم. الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الواضح للرسالة بالأدلة الواضحة وهي معجزات عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الميت، وليس علينا غير ذلك. تَطَيَّرْنا تشاءمنا بكم، وذلك لاستغرابهم ما ادّعوه، واستقباحهم له ونفورهم عنه. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، واللام لام القسم. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة. عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، شديد. طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والتكذيب، فهو سبب الشؤم لا نحن. أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: أإن وعظناكم وخوفناكم وذكرناكم بالله، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، والمراد بالاستفهام: التوبيخ. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحد في الشرك ومخالفة الحق.

المناسبة:

وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب بن موسى النجار، كان قد آمن بالرسل أصحاب عيسى، ومنزله بأقصى البلد أي أبعد مواضعها، قال قتادة: «كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى» أي يشتد عدوا لما سمع بتكذيب القوم للرسل. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي المعنى: أيّ مانع يمنعني من عبادة الذي خلقني، وكذلك أنتم، ما لكم لا تعبدون الله الذي خلقكم؟! وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت، فيجازيكم بكفركم. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام بمعنى النفي، أي لن أتخذ من غير الله الهة هي الأصنام، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني. لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي لا تفيدني شيئا من النفع، كائنا ما كان. وَلا يُنْقِذُونِ لا يخلصوني من الضر الذي أرادني الرحمن به. إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت من دونه آلهة. لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، وهذا تعريض بهم. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ آمنت بالذي خلقكم، فاسمعوا إيماني، فرجموه فمات. وهذا تصريح بعد التعريض تشددا في الحق. قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له عند موته: ادخل الجنة، تكريما له بدخولها بعد قتله، كما هي سنة الله في الشهداء. قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى أن يعلموا بحاله، ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته، فيؤمنوا مثل إيمانه. المناسبة: بعد بيان حال مشركي العرب الذين أصروا على الكفر، ضرب الحق تعالى لهم مثلا يشبه حالهم في الإفراط والغلو في الكفر وتكذيب الدعاة إلى الله، وهو حال أهل قرية أنطاكية شمال سورية على ساحل البحر المتوسط الذين كذبوا الرسل فدمرهم الله بصيحة واحدة، فإذا استمر المشركون على عنادهم واستكبارهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، وتكون قصتهم مع رسل الله، كقصة قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم معه. التفسير والبيان: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي واضرب مثلا في الغلو والعناد والكفر يا محمد لقومك الذين كذبوك بأهل قرية أنطاكية، حين

أرسل الله إليهم ثلاثة رسل من أصحاب عيسى عليه السلام الحواريين فكذبوهم، كما كذبك قومك عنادا، وأصر الفريقان على التكذيب. والقرية: أنطاكية في رأي جميع المفسرين، والمرسلون: أصحاب عيسى أرسلهم مقررين لشريعته، في رأي ابن عباس وكثير من المفسرين. ثم بيّن عدد الرسل فقال: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ، فَقالُوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي حين أرسلنا إليهم رسولين، أرسلهما عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى، فبادروا إلى تكذيبهما في الرسالة، فأيدناهما وقويناهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا عبادة الأصنام. وكان الرسولان الأولان يوحنا وبولص، والرسول الثالث شمعون وقيل: إنه بولص. فتمسكوا كغيرهم من الأمم بشبهة البشرية، كما حكى تعالى: قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي قال أصحاب القرية للرسل الثلاثة: أنتم مثلنا بشر تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق، فمن أين لكم وجود مزية تختصون بها علينا، وتدّعون الرسالة؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل وأتباعهم، وما أنتم فيما تدّعون الرسالة إلا كاذبون. وقولهم: ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ دليل على اعترافهم بوجود الله، لكنهم ينكرون الرسالة، ويعبدون الأصنام وسائل إلى الله تعالى. وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله:

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن 64/ 6] أي تعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله تعالى: قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [إبراهيم 14/ 10] . فأجابهم الرسل: قالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزّنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار؟ كقوله تعالى: قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت 29/ 52] . ثم ذكر الرسل مهمتهم: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح، فإذا استجبتم كانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم. فعند ذلك هددهم أهل القرية: قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي قال لهم أهل القرية: إنا تشاءمنا بكم، ولم نر خيرا في عيشنا على وجوهكم، فقد فرقتمونا وأوقعتم الخلاف فيما بيننا، ولئن لم تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، لنرجمنكم بالحجارة، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم أو عقوبة شديدة. وقوله: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بيان للرجم، يعني: ولا يكون الرجم رجما قليلا بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهو عذاب أليم. ويرى

بعضهم أن الواو بمعنى (أو) والمراد: إما أن نقتلكم أو نسجنكم ونعذبكم في السجون. فأجابهم الرسل: قالُوا: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي قالت لهم رسلهم: شؤمكم مردود عليكم، وهو معكم ومنكم، فسبب الشؤم هو تكذيبكم وكفركم، لا نحن، أمن أجل تذكيركم وأمرنا إياكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، وتوعدتمونا وهددتمونا؟ بل الحق أنكم قوم جاوزتم الحد في مخالفة الحق، وأسرفتم في الضلال، وتماديتم في الغي والعناد. وهذا الموقف مشابه لموقف قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف 7/ 131] ومماثل لموقف قوم صالح: قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النمل 27/ 47] . ثم أيدهم الله بنصير: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، قالَ: يا قَوْمِ، اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي وجاء رجل من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار، فقال ناصحا قومه: يا قوم، اتبعوا رسل الله الذين أتوكم لإنقاذكم من الضلال، وهم مخلصون لكم في دعوتهم، فلا يطلبون أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، وهم على منهج الحق والهداية فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له. وأبان أنه يحب لهم ما يحب لنفسه: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أي وما يمنعني من

إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع والمآل يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفي هذا ترغيب بعبادة الله وترهيب من عقابه، ثم أكد سلامة منهجه وتقريعهم على عبادة الأصنام، فقال تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً، وَلا يُنْقِذُونِ؟ هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، يراد به: لن أتخذ من دون الله آلهة، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني وخلقني، فإنه إن أرادني الرحمن بسوء لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تخلصني من ورطة السوء، فإنها لا تملك من الأمر شيئا إذ إنها لا تملك دفع الضرر ولا منعه، ولا جلب النفع، ولا تنقذ أحدا مما هو فيه. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وجهل فاضح، وانحراف عن الحق. وهذا تعريض بهم، ثم صرح بإيمانه تصريحا لا شك فيه مخاطبا الرسل: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي إني صدقت بربكم الذي أرسلكم، فاشهدوا لي بذلك عنده. روي عن ابن عباس وكعب ووهب رضي الله عنهم: أنه لما قال ذلك، وثبوا عليه وثبة رجل واحد، فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى مات رحمه الله. وكان من حبّه لهدايتهم: قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي،

فقه الحياة أو الأحكام:

وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي قال الله تكريما له بعد قتله: ادخل الجنة، لاستشهادك في سبيل إعلان الحق، فدخلها وهو يرزق فيها، فلما عاين نعيمها قال: يا ليت قومي يعلمون بمآلي وحسن حالي وحميد عاقبتي، فيؤمنوا مثل إيماني، فيصيروا إلى مثل ما أنا فيه من نعيم، وليتهم يعلمون بما أنعم الله عليّ من مغفرة لذنوبي، وبما جعلني في زمرة المكرمين المقربين الشهداء الذين منحهم ربهم الثواب الجزيل والفضل العميم. وهذا شأن المؤمن المخلص يحب الخير للناس جميعا، قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشّا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لم يترك الله سبحانه في قرآنه سبيلا لدعوة الناس إلى الإيمان الصحيح، سواء بالأدلة والبراهين، أو بإعمال الفكر والعقل، أو بالتأمل والمشاهدة، أو بضرب الأمثال، أو بذكر القصص للعظة والعبرة. والمراد من بيان قصة أصحاب القرية: توضيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإنذار المشركين من قومه، حتى لا يحل بهم ما حلّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل. 2- يكون الرسول عادة من جنس المرسل إليهم، حتى لا يبادروا إلى الإعراض بحجة المغايرة والمخالفة، فتكون شبهة الكافرين ببشرية الرسل في غير محلها، وإنما الباعث عليها الاعتزاز بالنفس والاستعلاء والاستكبار فيما يبدو. 3- يؤكد الرسل عادة صدقهم بالمعجزات، وأما رسل عيسى فقد ذكروا للقوم معجزاته، وأقسموا بالله أنهم رسل الله الذين بعثهم عيسى بأمر ربه، وإن كذبوهم، لم يجدوا سبيلا إلا التصريح بمهمتهم بالتحديد، وهي إبلاغ الرسالة، والاعلام الواضح في أن الله واحد لا شريك له.

4- لا يجد المرسل إليهم في العادة ذريعة بعد دحض حجتهم إلا ادّعاء التشاؤم بالرسل. قال مقاتل في أصحاب القرية: حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فقالوا: هذا بشؤمكم. ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين. 5- ثم إذا ضاق الأمر بهم يلجأون عادة إلى التهديد والوعيد إما بالطرد والإبعاد من البلد، وإما بالقتل أو الرجم بالحجارة. قال الفراء في قوله: لَنَرْجُمَنَّكُمْ: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. وقيل: لنشتمنكم. وأما قوله تعالى: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فهو إما القتل أي الرجم بالحجارة المتقدم، وإما التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب. 6- إن الشؤم الحقيقي من أهل القرية وهو الشرك والكفر وتكذيب الرسل، وليس هو من شؤم المرسلين، ولا بسبب تذكيرهم ووعظهم، وإنما بسبب إسرافهم في الكفر، وتجاوزهم الحدّ، والمشرك يجاوز الحدّ. 7- لا يعدم الحق في كل زمان أنصارا له، وإن كانوا قلة، وكان أهل الباطل كثرة، فقد قيض الله مؤمنا من أهل القرية جاء يعدو مسرعا لما سمع بخبر الرسل، وناقش قومه، ورغبهم وأرهبهم، ودعاهم إلى توحيد الله واتباع الرسل، وترك عبادة الأصنام، فإن الرسل على حق وهدى، لا يطلبون مالا على تبليغ الرسالة، وهذا دليل إخلاصهم وعدم اتهامهم بمأرب دنيوي، والخالق هو الأحق بالعبادة، وهو الذي إليه المرجع والمآب، فيحاسب الخلائق على ما قدموا من خير أو شر. أما الأصنام فلا تجلب نفعا ولا تدفع ضررا، ولا تنقذ أحدا مما ألمّ به من البلاء، فمن عبدها بعدئذ فهو في خسران ظاهر.

8- ثم صرح مؤمن القرية مخاطبا الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم، فليشهدوا له بالإيمان. 9- لقد كان جزاؤه المرتقب من القوم بسبب تصلبه في الدين، وتشدده في إظهار الحق: القتل أو الموت الزؤام. وأما جزاؤه من الله فهو التكريم في جنان الخلد. 10- بالرغم من هذا الإيذاء والتعذيب أحبّ هذا المؤمن، كشأن كل مؤمن، أن يبادر قومه إلى الإيمان بمثل ما آمن به، ليحظوا بما حظي به من النعيم والنجاة. قال ابن عباس: نصح قومه حيّا وميتا. وقال ابن أبي ليلى: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصدّيقون. وقد ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. 11- قال القرطبي: وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 15/ 20

تتمة قصة أصحاب القرية - تعذيب مكذبي الرسل -[سورة يس (36) الآيات 28 إلى 32] :

[الجزء الثالث والعشرون] [تتمة سورة يس] تتمة قصة أصحاب القرية- تعذيب مكذبي الرسل- [سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) الإعراب: وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما: إما زائدة وإما اسم معطوف على جُنْدٍ. يا حَسْرَةً نداء مشابه للمضاف، مثل: يا خيرا من زيد، ويا سائرا إلى الشام، ونداء مثل هذه الأشياء التي لا تعقل: تنبيه للمخاطبين، كأنه يقول لهم: تحسّروا على هذا، وادعوا الحسرة، وقولوا لها: احضري فهذا وقتك. كَمْ أَهْلَكْنا.. كَمْ: اسم للعدد في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ في موضع نصب على البدل من كَمْ. وكَمْ وما بعدها من الجملة في موضع نصب ب يَرَوْا. وأَنَّهُمْ مفعول مقدر، أي حكمنا أو قضينا أنهم لا يرجعون. وَإِنْ كُلٌّ.. لَمَّا إِنْ مخففة من الثقيلة، ولما خففت بطل عملها لنقصها عن مشابهة الفعل، فارتفع ما بعدها بالابتداء. ولَمَّا جَمِيعٌ: خبره، وما: زائدة، وتقديره: لجميع، وأدخلت اللام في خبرها، لتفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما» . ومن قرأ لَمَّا جَمِيعٌ بالتشديد، فمعناه «إلا» و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كل إلا جميع، فيكون كُلٌّ مرفوعا بالابتداء، وجَمِيعٌ خبره. ومُحْضَرُونَ خبر ثان.

البلاغة:

البلاغة: في الآيات المتقدمة من مطلع السورة إلى هنا يوجد فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل، الذي يزيد في روعة البيان القرآني، ويؤثر في سمع التالي والمستمع. المفردات اللغوية: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي لم ننزل على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له. مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ الجند: العسكر، والمراد هنا الملائكة لإهلاكهم وللانتقام منهم. وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ملائكة لإهلاك أحد، لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند، وهذا للدلالة على أن إنزال الجنود من عظائم الأمور، وهو تحقير لشأنهم، وتصغير لأمرهم، فهم ليسوا أهلا لأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت عقوبتهم إلا أن صاح بهم جبريل، فأهلكهم. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ساكتون هامدون ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالرماد الخامد، فالخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا الموت. يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة: الغم على ما فات، والندم عليه، والعباد: هؤلاء ونحوهم ممن كذب الرسل، فأهلكوا، ونداء الحسرة مجاز، أي هذا أوانك فاحضري. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا سبب الحسرة وهو الاستهزاء المؤدي إلى إهلاكهم. أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أي أهل مكة القائلون للنبي: لست مرسلا، والاستفهام للتقرير، أي اعلموا. كَمْ خبرية بمعنى كثيرا، والمعنى: إنا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ كثيرا. مِنَ الْقُرُونِ الأمم: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم بعد هلاكهم، وضمير أَنَّهُمْ عائد للمهلكين، وضمير إِلَيْهِمْ عائد للمكذبين، أفلا يعتبرون بذلك؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ إِنْ: نافية بمعنى ما، ولَمَّا بمعنى إلّا، ويصح جعل «إن» مخففة من الثقيلة، ولما: بالتخفيف، واللام فارقة، وما: مزيدة. جَمِيعٌ مجموعون في الموقف بعد بعثهم. لَدَيْنا عندنا مُحْضَرُونَ للحساب. المناسبة: هذه الآيات تتمة قصة أصحاب القرية، أبان الله تعالى فيها حال المكذبين رسلهم، وأوضح سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي، ثم ما يتعرضون له من

التفسير والبيان:

العذاب الأخروي. وذكرت هنا في بدء الجزء، لأن عد الأجزاء مراعى فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي. التفسير والبيان: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي لم ننزل على قوم المؤمن حبيب النجار من بعد قتلهم له، لدعوتهم إلى الإيمان بالله، جندا من الملائكة، وما كنا بحاجة إلى هذا الإنزال، بل كان الأمر أيسر علينا من ذلك، وقد سبق قضاؤنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند. وهذا لتحقير شأنهم، فإن إنزال الملائكة لعظائم الأمور، وهؤلاء لا يحتاجون لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحده، كما قال تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ما كان إهلاكهم إلا بصيحة واحدة صاح بهم جبريل، فأهلكهم، فإذا هم أموات لا حراك بهم. وقوله: إِنْ كانَتْ أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، وقوله: واحِدَةً تأكيد لكون الأمر هينا عند الله، وقوله: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ فيه إشارة إلى سرعة الهلاك. يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا هؤلاء الذين كذبتم الرسل تحسروا حسرة أليمة، واندموا على ما فعلتم، بسبب أنه ما جاء رسول يدعو إلى التوحيد والحق والخير إلا استهزئ به وكذّب وجحد ما أرسل به من الحق. فقوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ أي هذا وقت الحسرة على مكذبي الرسل، وتنكير حَسْرَةً للتكثير. وسبب التحسر عليهم: أنهم لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية. ولا متحسر أصلا في الحقيقة، إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة، حيث ظهرت الندامة عند مواجهة العذاب ومعاينته. وقيل: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أنذر الله تعالى الأجيال الحاضرة والمستقبلة فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، خلافا لما يزعم الدّهرية الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.. [الجاثية 45/ 24] . ثم أعلمهم أيضا بوجود الحساب والعقاب في الآخرة بعد عذاب الدنيا، فقال تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلّها خيرها وشرها، وهذا كقوله عز وجل: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود 11/ 111] . وهذا دليل على أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب، وحبس وعقاب، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة، كما قال القائل: ولو أنّا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيّ فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن تكذيب الرسل ما جاؤوا به من الحق يستدعي مزيد الألم والندامة والحسرة. 2- لا رجعة لأحد إلى الدنيا بعد الموت أو الإهلاك. 3- إن يوم القيامة يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الدائم.

أدلة القدرة الإلهية على البعث وغيره [سورة يس (36) الآيات 33 إلى 44] :

أدلة القدرة الإلهية على البعث وغيره [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 44] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) الإعراب: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أَحْيَيْناها خبر للأرض، والجملة خبر لآية أو صفة لها.

البلاغة:

وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما: إما اسم موصول في موضع جر بالعطف على ثَمَرِهِ. وعَمِلَتْهُ: الصلة، والهاء: العائد، وإما أنها نافية في قراءة «عملت» بغير هاء، والوجه الأول أوجه، لاحتياج «عملت» لتقدير مفعول إذا كانت «ما» نافية. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الْقَمَرَ إما مرفوع بالابتداء، وقَدَّرْناهُ الخبر، وإما منصوب بتقدير فعل دل عليه. قَدَّرْناهُ أي قدرنا القمر قدرناه. ومَنازِلَ أي قدرناه ذا منازل، فحذف المضاف، أو قدرنا له منازل، فحذف حرف الجر من المفعول الأول. حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ.. الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير عادَ وهو العامل فيه وكَالْعُرْجُونِ: وزنه فعلول نحو زنبور وقرقور، وليس على وزن فعلون لأنه ليس في كلام العرب. أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع رفع فاعل: يَنْبَغِي. وقرئ سابِقُ النَّهارِ بالجر بالإضافة، وسابق النهار، لأن التقدير: سابق النهار، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ آيَةٌ مبتدأ، وخبره إما لَهُمْ وإما أَنَّا حَمَلْنا. فَلا صَرِيخَ لَهُمْ صَرِيخَ: مبني مع لا على الفتح، ويجوز فيه الرفع مع التنوين، لتكرار «لا» مرة ثانية. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا رَحْمَةً: منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي إلا برحمة، أو مفعول لأجله. البلاغة: وَآيَةٌ لَهُمُ التنكير للتعظيم، أي آية عظيمة دالة على قدرة الله على البعث وغيره. وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بين الموت والإحياء طباق. وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ بين الليل والنهار طباق أيضا، وفي قوله نَسْلَخُ استعارة تصريحية، صرح فيها بلفظ المشبه به، حيث شبه إظهار ضوء النهار من ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، واستعار كلمة «السلخ» للإزالة والإخراج. حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ تشبيه مرسل مجمل لأنه لم يذكر فيه وجه الشبه، وهو مشتمل على ثلاثة أوضاع: الدقة، والانحناء، والصفرة. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها.. قدم الفاعل على الفعل لتقوية النفي، وللدلالة على أن الشمس مسخرة بأمر الله، لا تسير في مدارها إلا بإرادة الله.

المفردات اللغوية:

وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فيه تنزيل غير العاقل منزلة العاقل، حيث عبر عن الشمس والقمر والنجوم بضمير جمع المذكر في قوله يَسْبَحُونَ بدل: يسبح، لأن السباحة من صفات العقلاء. يَأْكُلُونَ والْعُيُونِ ويَعْلَمُونَ ومُظْلِمُونَ ويَسْبَحُونَ والْمَشْحُونِ ويَرْكَبُونَ سجع لطيف غير متكلف، وكذا في قوله الْعَلِيمِ والْقَدِيمِ. المفردات اللغوية: وَآيَةٌ لَهُمُ علامة دالة على البعث. الْمَيْتَةُ التي لا نبات فيها، وتقرأ بتخفيف الياء أو بالتشديد، والأول أشيع لسلسها على اللسان. أَحْيَيْناها بالماء فصارت حية بالنبات. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا المراد جنس الحب كالحنطة. فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدم الصلة (الجار والمجرور) على الفعل للدلالة على أن معظم ما يؤكل ويعاش به هو الحب. جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار مثمرة كالنخيل والأعناب. وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ فتّحنا وشققنا فيها شيئا من العيون. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثَمَرِهِ يقرأ بفتحتين وضمتين، أي ثمر المذكور من النخيل وغيره. وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قيل: ما: نافية أي لم تعمل الأيدي الثمر بل العامل له هو الله، والأصح: أنها اسم موصول عطف على الثمر، والمراد: ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما. أَفَلا يَشْكُرُونَ أنعم الله تعالى عليهم وهو أمر بالشكر، من طريق إنكار تركه. سُبْحانَ تنزيها لله عما لا يليق به. الْأَزْواجَ كُلَّها الأنواع والأصناف المختلفة. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات والشجر. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أي وخلق الأزواج من أنفسهم، وهم الذكور والإناث من بني آدم. وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصناف المخلوقات العجيبة في البرّ والبحر، والسماء والأرض، مما لم يطلعهم الله عليه، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته. وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ أي وعلامة دالة لهم على القدرة العظيمة وتوحيد الله ووجوب ألوهيته. نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نفصل منه النهار ونزيله عنه، والسلخ: إذهاب الضوء، ومجيء الظلمة. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها آية مستقلة أخرى، تطلع وتسير لحد معين ينتهي إليه جريانها ودورها. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ذلك الجري تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، الْعَلِيمِ المحيط علمه بكل معلوم. قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي جعلنا له منازل، والمنازل: جمع منزل، والمراد به المسافات التي يقطعها القمر في يوم وليلة، وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها، فإذا صار في آخرها وهو حينئذ دقيق قوس، عاد إلى أولها. ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما،

المناسبة:

وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما. والمنازل معروفة: وهي الشّرطان، البطين، الثّريّا، الدّبران، الهقعة، الهنعة، الذّراع المبسوطة، النّثرة، الطّرف، الجبهة، الزّبرة، الصّرفة، العوّاء، السّماك الأعزل، الغفر، الزّبانى، الإكليل، القلب، الشّولة، النّعائم، البلدّة، سعد الذّابح، سعد بلع، سعد السّعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخّر، الرّشاء وهو بطن الحوت. حَتَّى عادَ في آخر منازله في رأي العين. كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ كالشمراخ المعوج، لأنه إذا عتق يرق ويتقوس ويصفر. والْقَدِيمِ العتيق. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها لا يصح لها ويسهل. أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره، فتجتمع معه في الليل، لأن لكل واحد منهما مدارا منفردا، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، وإن كانت في نظر العين تسبق الشمس القمر في كل شهر مرة. والخلاصة: أن حرف النفي لَا للدلالة على أنها مسخرة، لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي لا يأتي قبل انقضائه، ولا يسبقه، ولكن يأتي عقبه، ويجيء كل واحد منهما في وقته، ولا يسبق صاحبه. وَكُلٌّ التنوين عوض عن المضاف إليه، أي وكل من الشمس والقمر وبقية الكواكب والنجوم. فِي فَلَكٍ هو المدار الذي يدور فيه الكوكب، سمي به لاستدارته كفلكة المغزل. يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بسهولة، وقد نزّلوا منزلة العقلاء. وَآيَةٌ لَهُمُ علامة دالة على قدرتنا. أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ وقرئ: ذرياتهم أي أولادهم ومن يهمهم حمله الذين يبعثونهم للتجارة، وأصل الذرية: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، وتطلق على الواحد والجمع، وقيل: المراد آباؤهم الأقدمون الذين في أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما امتن الله عليهم بذكر الذرية دونهم، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أصولهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ السفينة المملوءة، قيل: إنها سفينة نوح عليه السلام. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي أوجدنا بتعليمهم صناعة السفن الصغار والكبار والزوارق، مثل سفينة نوح عليه السلام، وقيل: المراد الإبل، فإنها سفائن البر. ما يَرْكَبُونَ فيه، ولعل ذلك إشارة إلى المركبات والقطارات والطائرات المستحدثة. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إن نرد أغرقناهم مع إيجاد السفن. فَلا صَرِيخَ لَهُمْ لا مغيث. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي لا أحد ينقذهم وينجيهم إلا بإنقاذنا لرحمة وتمتيع إياهم بلذاتهم إلى انقضاء آجالهم. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى ما يدل على الحشر بإحضار جميع الأمم إليه يوم القيامة

التفسير والبيان:

للحساب والجزاء، ذكر ما يدل على إمكان البعث بإنبات النبات من الأرض الجدباء بالمطر، وإيجاد البساتين وتفجير الأنهار، لتوفير سبل المعاش بها، مما يستدعي شكرهم على تلك النعم. وبعد بيان أحوال الأرض التي هي المكان الكلي، ذكر أربع آيات دالة على قدرته العظيمة من أحوال الأزمنة، وهي تعاقب الليل والنهار، ودوران الشمس، ومسير القمر في منازله، وتخصيص مدار مستقل لكل من الشمس والقمر. ثم أردف ذلك بدليل آخر دال على القدرة المقترنة بالرحمة وهو تنقل الأولاد والأجيال في السفن العابرة مياه البحار. التفسير والبيان: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي ومن العلامات الدالة على وجود الله وقدرته على البعث وإحياء الموتى: إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزال الماء عليها، وجعلها تموج وتهتز بالنبات المختلف الألوان والأشكال، وإخراج الحب الذي هو رزق للعباد ولأنعامهم، وهو معظم ما يؤكل، وأكثر ما تقوم به الحياة والمعاش. وكما نحيي الأرض الميتة نحيي الموتى. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي وأوجدنا في الأرض التي أحييناها بساتين مشجرة من نخيل وأعناب وغيرها، وجعلنا فيها أنهارا موزعة في أماكن مختلفة، يحتاجون إليها. وخصص النخيل والأعناب بالذكر من بين سائر الفواكه، لأن ألذ المطعوم الحلاوة، وهي فيها أتم، ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة خلافا لغيرهما، ولأنهما أعم نفعا.

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، أَفَلا يَشْكُرُونَ أي إن القصد من إنشاء الحب والجنات أن يأكل المخلوقون من ثمر المذكور من النخيل والأعناب، ويأكلوا مما صنعته أيديهم من تلك الغراس والزروع أو الحبوب والثمار، كالعصير والدبس ونحوهما، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بقدرتهم وقوتهم، فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟! وهذا أمر بالشكر من طريق إنكار تركه. وقوله مِنْ ثَمَرِهِ عائد إلى ما ذكر قبل ذلك، وقال الرازي: المشهور أنه عائد إلى الله. وقوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ يشمل في رأي الرازي الزراعة والتجارة. ولما أمرهم تعالى بالشكر، وشكر الله بالعبادة، نبّه إلى أنهم لم يقتنعوا بالترك، بل عبدوا غيره، وأتوا بالشرك، فقال: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي تنزيها عن الشريك لله الذي خلق الأنواع والأصناف كلها من مختلف الألوان والطعوم والأشكال، من الزروع والثمار والنبات، وخلق من النفوس الذكور والإناث، وخلق مخلوقات شتى لا يعرفونها، كما قال تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 8] وقال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات 51/ 49] . والخلاصة: أن خالق هذا الخلق العظيم من إنسان وحيوان ونبات وخالق أشياء لا نعلمها منزه عن الشريك والنظير، قادر على كل شيء، وفي الآية الأمر بالتنزيه عما لا يليق بالله تعالى، كالأمر بالشكر في الآية المتقدمة. وبعد الاستدلال على إمكان البعث والحشر بأحوال الأرض المكانية، ذكر تعالى أدلة أربعة من أحوال الأزمنة، فقال:

1- وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي ومن أدلة قدرته تعالى العظيمة: خلق الليل والنهار، وتعاقب الليل والنهار دائبين، فينزع النهار من الليل فيأتي بالضوء وتذهب الظلمة، وينزع الليل من النهار، فيصبح الخلق في ظلمة ويذهب الضوء، وهكذا يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف 7/ 54] نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، فتشرق الشمس على نصف الكرة الأرضية، وتغيب عن النصف الآخر، وفي كل من الظلمة والنور نفع وخير، ففي الظلام ترك العمل وسكون النفس والراحة من العناء، وفي النور متعة ولذة وحركة وعمل من أجل كسب الرزق. وقوله فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في الظلام، وإذا للمفاجاة، أي فهم داخلون في الظلمة مفاجأة وبغتة، لا يد لهم بعدئذ، ولا بد من الدخول فيه. 2- وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي وآية مستقلة دالة على قدرته تعالى: دوران الشمس في فلكها إلى نهاية مدارها، وذلك الدوران تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء، المحيط علمه بكل شيء. وهناك قولان للمفسرين في تفسير المستقر: الأول- أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي وجميع المخلوقات تحت العرش. والثاني- أن المراد مستقرها الزماني وهو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة «1» . وقد أثبت علماء الفلك أنه زيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم بسبب دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة، للشمس حركتان أخريان:

_ (1) تفسير ابن كثير: 3/ 571 وما بعدها.

دورة حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا، ودورة مع توابعها من الكواكب السيارة حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدر بنحو مائتي ميل في الثانية. والمستقر في رأي العلماء في الحالة الأولى: هو المحور الثابت، وفي الثانية: هو مركز النظام النجومي بأسره. 3- وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي جعل الله للقمر منازل يسير فيها سيرا آخر، وهي ثمانية وعشرون منزلا ذكرناها، ينزل كل ليلة في واحد منها بمعدل 13 درجة في اليوم، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما، فإذا صار القمر في آخرها دق وصغر واصفر وتقوس، وعاد إلى أولها، حتى صار كالعرجون القديم: وهو الغصن الذي عليه طلع النخلة، وهو أصفر عريض يعوجّ، ويقطع منه الشماريخ، يبقى على النخل يابسا. ويستدل بمنازل القمر على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة 2/ 189] وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس 10/ 5] وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء 17/ 12] . والشمس تطلع كل يوم، وتغرب في آخره، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار، ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار. وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية، ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء مقتبسا من الشمس، حتى يتكامل في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم- عرجون النخل.

وعلماء الفلك قسموا النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر. وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء (أي الأمطار) ، ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة ومنها الشمس. 4- لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي لا يصح ولا يسهل لكل من الشمس والقمر أن يدرك أحدهما الآخر، لأن لكل منهما مدارا مستقلا، لا يجتمع مع الآخر فيه، ولأن الشمس تسير مقدار درجة في اليوم، والقمر يسير مقدار (13) درجة في اليوم. ولا تسبق آية الليل وهي القمر آية النهار وهي الشمس، لأن لكل منهما مجالا وسلطانا، فسلطان الشمس ومجالها بالنهار، وسلطان القمر بالليل. وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء، كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار لها نصف قطره (93) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل شهر في مدار نصف قطره (24) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة. وهذا دليل على أن الله جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر. وبعد بيان الدليل المكاني وهو الأرض والأدلة الزمنية الأربعة المتقدمة، أتى تعالى بدليل آخر على قدرته، وهو تسيير الإنسان في البحر كما يسير في البر، كما قال تعالى: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء 17/ 70] وقال هنا: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي ومن دلائل قدرته ورحمته تبارك وتعالى: تسخيره البحر ليحمل السفن، وركوب الذرية، أي الأولاد في السفن المملوءة بالبضائع التي ينقلونها من بلد إلى آخر، لتوفير القوت

والمعاش، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان 31/ 31] . وقيل: الذرية: آباؤهم الذين حملوا في سفينة نوح عليه السلام، وهي السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات التي أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، حفاظا على أصول المخلوقات. والمعنى: أن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ أي وخلقنا للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبون عليها، لكن قال الرازي: الضمير في مِثْلِهِ عائد إلى الفلك، على قول الأكثرين، فيكون هذا كقوله تعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص 38/ 58] وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم، وليس المراد الإبل. ويؤيد هذا قوله تعالى هنا: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ. ولو كان المراد الإبل، لكان قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ فاصلا بين متصلين. ويحتمل أن يعود الضمير إلى معلوم غير مذكور تقديره: من مثل ما ذكرنا من المخلوقات، مثل قوله تعالى هنا: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ «1» وعلى هذا، الآية تشمل كل وسائل النقل الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات. ونظير الآية قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 8] . ودليل رحمته ولطفه تعالى حفظ الركاب في تلك الوسائط، فقال: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي وإن نرد إغراقهم في الماء مع حمولاتهم، فلا مغيث لهم يغيثهم مما هم فيه، أو ينجيهم من الغرق، ولا هم ينقذون مما أصابهم.

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 81، تفسير الألوسي: 23/ 27

فقه الحياة أو الأحكام:

إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ إِلَّا هنا: استثناء منقطع، تقديره: ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونحفظكم من الغرق، ونسلمكم إلى أجل مسمى، ونمتعكم بالحياة الدنيا إلى وقت معلوم عند الله عز وجل، وهو الموت. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- من الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته على البعث وإحياء الموتى وغير ذلك: إحياء الأرض الهامدة بالنبات الأخضر، وإخراج الحب منه، الذي هو قوام الحياة وأساس القوت والمعاش. 2- ومن الأدلة أيضا خلق بساتين في الأرض من نخيل وأعناب، وتفجير الينابيع في البساتين للأكل من ثمر ماء العيون، أو من ثمر المذكور وهو ثمر الجنات والنخيل، ومن الذي عملته أيدي الناس من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما اتخذوا من الحبوب كالخبر وأنواع الحلويات. وخصص النخيل والأعناب بالذكر، لأنهما أعلى الثمار، كما تقدم. 3- تستوجب هذه النعم شكر الخالق المنعم المتفضل، وشكره بعبادته، والإذعان لسلطانه وإرادته. 4- يجب تنزيه الخالق عما لا يليق به، والبعد عن صنيع الكفار الذين عبدوا غير الله، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته. 5- إن آثار قدرة الله ومظاهرها في العالم كثيرة، منها خلق النباتات والثمار المختلفة والألوان والطعوم والأشكال والأحجام صغرا وكبرا. ومنها خلق الأولاد

والأزواج أي ذكورا وإناثا، ومنها خلق أصناف أخرى لا يعلمها البشر في البر والبحر والسماء والأرض. وإذا كان الله قد انفرد بالخلق، فلا ينبغي أن يشرك به. 6- ومن العلامات الدالة أيضا على توحيد الله وقدرته ووجوب ألوهيته: تعاقب الليل والنهار وما يتبعهما من ظلمة وضوء لتحقيق مصالح العباد، وضبط السنين والحساب، وجريان الشمس لمستقرّ لها هو محورها أو نهاية سيرها يوم القيامة، وتقدير القمر ذا منازل هي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، فإذا صار في آخرها، عاد إلى أوّلها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة، ثم يستتر، ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج، لكل برج منزلان وثلث. ومنها جعل مدار مستقل وسلطان منفرد لكل من الشمس والقمر والأرض، فلا يدخل أحدها على الآخر، وإنما كل من الشمس والقمر والنجوم يجري في فلك خاص به. 7- ومن دلائل قدرة الله ورحمته: حمل ذرية القرون الماضية والحاضرة والمقبلة في السفن المملوءة بالسلع والأمتعة، وخلق وسائط أخرى للركوب مماثلة للسفن وهي الإبل سفائن البراري، ووسائل النقل الحديثة في البر والجو من سيارات وقطارات وطائرات ومناطيد (أو مطاود) ونحوها. والله قادر على إغراق ركاب السفن في البحار، فيصبحون دون مغيث ولا مجير ولا منقذ مما ألم بهم، ولكن رحمته تعالى اقتضت إبقاءهم وإنقاذهم ليتمتعوا بمتاع الحياة الدنيوية إلى آجالهم المرسومة، وأعمارهم المحدودة، والتمتع إلى حين هو الموت.

موقف الكفار من تقوى الله وآيات الله والشفقة على خلق الله [سورة يس (36) الآيات 45 إلى 47] :

وقد عجّل الله عذاب الأمم السالفة، وأخّر عذاب أمة محمد ص، وإن كذبوه، إلى يوم القيامة، تكريما لهذا الرسول ص. موقف الكفار من تقوى الله وآيات الله والشفقة على خلق الله [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) البلاغة: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بين الكفر والإيمان طباق. أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ استفهام أريد به التهكم. المفردات اللغوية: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للكفار اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ احذروا ما هو قدّامكم من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا، وما ستواجهون من عذاب الآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين لرحمة الله. وجواب إذا محذوف تقديره: أعرضوا، دل عليه الآية التي بعدها. إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي ما تأتيهم من آية من آيات القرآن إلا أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إليها وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي قال فقراء الصحابة أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي تصدقوا على الفقراء من الأموال التي رزقكم الله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا استهزاء بهم، وتهكما بقولهم. أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ في زعمكم ومعتقدكم، وقولكم: إن الرزاق هو الله، فكأنهم حاولوا إلزام المسلمين قائلين: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أنتم في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا إلا في ضلال واضح، حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله. ويجوز أن يكون هذا جوابا لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

المناسبة:

وهذا غلط منهم، ومكابرة ومجادلة بالباطل، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضا لحكمة يعلمها، وأمر الغني أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض عليه من الصدقة، ليعلم الطائع من العاصي علم بيان وانكشاف، وإقامة حجة وبرهان. المناسبة: بعد بيان الآيات الدالة يقينا وقطعا على وجود الله وتوحيده وقدرته التامة، أخبر الله تعالى أن الكفار مع هذا الدليل القاطع يعرضون عن آيات ربهم، ولا يعترفون بها، وشأن العاقل الاقتناع بها، ولكن هؤلاء لا يتقون الله، ولا يحذرون بأن يصيبهم مثل هلاك الأمم الغابرة، ولا يفكرون في آيات الله، وليس في قلوبهم رحمة أو شفقة على عباد الله، فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة، وليسوا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم الماضية، ولا بما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة، فيقول: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وإذا قيل لهؤلاء المعرضين عن آيات الله، المكذبين بها: احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب من قبلكم من الأمم، مما هو قدّامكم، من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا، وخافوا ما أنتم مقدمون عليه بعد الهلاك من عذاب الآخرة، إذا أصررتم على الكفر حتى الموت، لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك، ويحميكم من عذابه، ويغفر لكم. وإذا قيل لهم ذلك أعرضوا عنه، وإذا قيل لهم: اتقوا لا يتقون. وليس إعراضهم مقتصرا على ذلك، بل هم عن كل آية معرضون، كما قال تعالى:

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي وما تجيء هؤلاء المشركين آية من آيات الله على التوحيد وصدق الرسل إلا شأنهم الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، وترك التأمل بها، وعدم الانتفاع بها، لتعطيل طاقة الفكر والنظر المرشد إلى الإيمان وتصديق الرسول ص. وفضلا عن سوء الاعتقاد بالله ورسوله ص، تركوا الشفقة على خلق الله، كما قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟ أي وإذا طلب منهم الصدقة، وأمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج، أجابوا المؤمنين استهزاء بهم، وتهكما بقولهم: هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم: لو شاء الله لأغناهم، ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم. وكان هذا الاحتجاج باطلا، لأن الله تعالى إذا ملّك عبدا مالا، ثم أوجب عليه فيه حقا، فكأنه انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم، ولكن كذبوا في الاحتجاج بذلك. وقوله: مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ترغيب في الإنفاق، فإن الله رزقكم، فإذا أنفقتم فهو يخلف لكم الرزق ثانيا كما رزقكم أولا، وهو أيضا ذم على البخل الذي هو في غاية القبح، فإن أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير، وفي هذا ذم لهم على ترك الشفقة على خلق الله. ومع هذا كله، عابوا الآمرين لهم بالإنفاق واتهموهم بالضلال، فقالوا تتمة لكلامهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أنتم في أمركم لنا بالإنفاق إلا في خطأ واضح، وانحراف عن جادة الهدى والرشاد.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا.. يفيد الحصر. وهذا فهم خطأ من المشركين، لأن حكمة الله اقتضت تفاوت الناس في الرزق، فهو يقبض الرزق عمن يشاء، ويبسطه لمن يشاء، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى 42/ 27] فقد أغنى قوما، وأفقر آخرين، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل 92/ 5- 10] . وقال ابن جرير عن قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين، وردوا عليهم، فقال لهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال ابن كثير: وفي هذا نظر، والله أعلم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أمور ثلاثة هي: أولا- إن المشركين قوم تمادوا في الغي والضلال والعناد والكبر، ولم يتأملوا في أحداث الماضي، ووقائع الزمان، وأحوال الأمم التي أهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم، ولم ينظروا في مستقبل الحياة الآخرة، فتراهم إذا قيل لهم: اتقوا الله، لا يتقون. ثانيا- وهم أيضا شأنهم وديدنهم الإعراض عن آيات الله، والتكذيب لها، وعدم الانتفاع بها، لتركهم النظر المؤدي إلى الإيمان بالله وتصديق الرسول ص. ثالثا- كما أنهم أخلّوا بتعظيم الخالق، حرموا العطف والشفقة على الإنسانية، وانعدمت عندهم عاطفة الرحمة بالمخلوقات، إذ قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، فبخلوا وتهكموا، وهو شأن البخلاء في كل عصر.

إنكار الكفار يوم البعث وبيان أنه حق لا شك فيه [سورة يس (36) الآيات 48 إلى 54] :

إنكار الكفار يوم البعث وبيان أنه حق لا شك فيه [سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) الإعراب: يَخِصِّمُونَ الأصل: يختصمون بوزن «يفتعلون» فحذف حركة التاء، ولم ينقلها إلى الخاء، وأبدل من التاء صادا، وأدغم الصادين ببعضهما، وكسر الخاء لسكونها وسكون الصاد الأولى، لأن الأصل في التقاء الساكنين الكسر. وقرئ يَخِصِّمُونَ بفتح الياء والخاء، بنقل تتمة التاء إلى الخاء، وقرئ أيضا يَخِصِّمُونَ بكسر الياء والخاء، وقد كسر الياء اتباعا لكسرة الخاء، والكسر للاتباع كثير في كلامهم، مثل قسيّ وعصي وخفي. وقرئ «يخصمون» كيضربون، أي يخصم بعضهم بعضا. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل فَإِذا هُمْ إذا هنا ظرفية للمفاجاة. يا وَيْلَنا إما منادى مضاف، فويل: هو المنادي، ونا: هو المضاف إليه، ونداء الويل كنداء الحسرة في قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ. وإما أن يكون المنادي محذوفا، ووَيْلَنا منصوب على المصدر، كأنهم قالوا: يا هؤلاء ويلا لنا، فلما أضيفت حذفت اللام الثانية. هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ مبتدأ وخبر، وما مصدرية أو موصولة محذوفة العائد.

البلاغة:

البلاغة: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا استعارة، شبه حال موتهم بحال نومهم، أي من بعثنا من موتنا. هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ فيه إيجاز بالحذف، أي تقول لهم الملائكة ذلك، أي وعدكم به الرحمن. المفردات اللغوية: مَتى هذَا الْوَعْدُ متى يتحقق ويجيء ما وعدتمونا به وهو وعد البعث ما يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي نفخة إسرافيل الأولى في الصور، وهي التي يموت بها أهل الأرض جميعا تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي تأخذهم الصيحة فجأة في غفلة عنها، وهم يتخاصمون في معاملاتهم ومتاجرهم وأكلهم وشربهم وغير ذلك. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أن يوصوا في شيء من أمورهم بما لهم وما عليهم وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيعون الرجوع من أسواقهم وأشغالهم إلى منازلهم، بل يموتون فيها وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخ فيه النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة فَإِذا هُمْ المقبورون مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يخرجون بسرعة، أو يسرعون. قالُوا أي الكفار منهم يا وَيْلَنا يا هلاكنا، والويل: مصدر لا فعل له من لفظه وهو الهلاك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ من أخرجنا من موتنا، لأنهم بسبب ما رأوا من الهول، وما داهمهم من الفزع، ظنوا أنهم كانوا نياما هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أي هذا البعث الذي وعد به الرحمن وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي وصدق فيه الأنبياء المرسلون، والمعنى: رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم كانوا في الموت وبعثوا، وأقروا بصدق الرسل يوم لا ينفع التصديق أو الإقرار. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت الفعلة إلا النفخة الأخيرة التي نفخها إسرافيل في الصور، فإذا هم مجموعون عندنا بسرعة بمجرد تلك الصيحة للحساب والجزاء والعقاب. قال البيضاوي: وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، واستغناؤهما عن الأسباب المألوفة في الدنيا. وتنكير صَيْحَةً للتكثير. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك، تصويرا للموعود، وتمكينا له في النفوس.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان إعراض الكفار عن التقوى، وامتناعهم من الإنفاق، أبان الله تعالى سبب ذلك وهو إنكارهم للبعث، واستعجالهم له، استهزاء به، ثم أوضح أنه حق لا مرية فيه، وأنه سيأتيهم الموت بغتة، وهم في غفلة عنه، وأن البعث أمر سهل على الله لا يحتاج إلا إلى نفخة واحدة في الصور. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ أي ويقول المشركون استعجالا للبعث استهزاء وسخرية وتهكما بالمؤمنين: متى يأتي هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به، وتهددونا به، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون؟! والخطاب للرسول ص والمؤمنين الذين دعوهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، فأجابهم الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي ما ينتظرون للعذاب والقيامة إلا نفخة واحدة في الصور، هي نفخة الفزع التي يموت بها جميع أهل الأرض فجأة، وهم يختصمون فيما بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا أي وهم متشاغلون في شؤون الحياة من معاملة وحديث وطعام وشراب وغير ذلك، كما قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف 7/ 95] وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف 43/ 66] . وقوله جل وعز: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى في الصور، كما قال عكرمة، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عمر قال: لينفخنّ في الصور،

والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، فيصعق به، وهي التي قال الله: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ، وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، والرجل يليط «1» حوضه، فلا يسقي منه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (نعجته) ، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه (فمه) ، فلا يطعمها» . ثم أبان تعالى سرعة حدوث الموت العام أو الصيحة، فقال: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له من أملاك وما عليه من ديون، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم، ولا يتمكنون من الرجوع إلى منازلهم التي كانوا خارجين عنها. ثم أخبر الله تعالى عن نفخة ثانية هي نفخة البعث والنشور من القبور، فقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور من القبور، فإذا جميع المخلوقين يخرجون من القبور، يسرعون المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج 70/ 43] . ثم ذكر ما يطرأ عليهم بعد البعث من الأهوال والمخاوف فقال تعالى: قالُوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي قال المبعوثون: يا هلاكنا من الذي بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ وهي قبورهم التي كانوا يعتقدون في دار

_ (1) يليط حوضه، وفي رواية: «يلوط حوضه» أي يطينه.

الدنيا أنهم لا يبعثون منها، وظنوا لما شاهدوا من الأهوال وما استبد بهم من الفزع، أنهم كانوا نياما. وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد. هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي هذا ما وعد به الله وصدق في الإخبار عنه الأنبياء المرسلون، فهم رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم بعثوا من الموت، وأقروا بصدق الرسل، يوم لا ينفع التصديق. فهذا الكلام من قول الكفار، وهو رأي عبد الرحمن بن زيد، واختاره الشوكاني وغيره. واختار ابن جرير وابن كثير أن هذا جواب الملائكة أو جواب المؤمنين، كقوله تبارك وتعالى: وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات 37/ 20- 21] . ثم أوضح الله تعالى سرعة البعث، فقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، فإذا هم أحياء مجموعون لدينا بسرعة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] وقال عز وجل: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل 16/ 77] . وأردف بعدئذ ما يكون في ذلك من القضاء العادل، فقال تعالى: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ، ولا توفون إلا ما عملتم من خير أو شر.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كان الرد الحاسم على استعجال الكفار قيام الساعة استهزاء أنها تأتي فجأة كلمح البصر أو هي أقرب، وتحدث بنفخة واحدة هي نفخة إسرافيل في وقت يختصم الناس في أمور دنياهم، فيموتون في مكانهم. وهذه نفخة الصّعق. 2- من آثار الموت المفاجئ بتلك النفخة أنهم لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم إذا كانوا خارجين منها، ولا يستطيعون الإيصاء إلى غيرهم بما لهم وما عليهم. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. 3- ثم تأتي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور من القبور، فهما نفختان، لا ثلاث، بدليل هذه الآية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. وروى المبارك بن فضالة عن الحسن البصري قال: قال رسول الله ص: «بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حيّ، والأخرى يحيي الله بها كلّ ميت» . 4- يتعجب أهل البعث ويذهلون ويفزعون مما يرون من شدائد الأهوال، فيتساءلون عمن أخرجهم من قبورهم، مفضلين عذاب القبر، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد. 5- النفخة الثانية أيضا وهي نفخة البعث والنشور سريعة جدا، فإذا حدثت تجمّع الناس جميعا وحضروا مسرعين إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر 54/ 8] . 6- الحساب حق وعدل، والجزاء قائم على العدل المطلق، فلا ينقص من

جزاء المحسنين [سورة يس (36) الآيات 55 إلى 58] :

ثواب العمل أي شيء مهما قل، ولا يجزى الناس إلا على وفق ما عملوا من خير أو شر. جزاء المحسنين [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 58] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) الإعراب: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أَصْحابَ: اسم إِنَّ، وخبرها: إما فِي شُغُلٍ وإما فاكِهُونَ. وفِي شُغُلٍ: متعلق ب فاكِهُونَ ويجوز أن يكونا خبرين. ولا يجوز جعل فَالْيَوْمَ خبرا، لأنه ظرف زمان، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث. وفَالْيَوْمَ منصوب على الظرف، وعامله فِي شُغُلٍ وتقديره: إن أصحاب الجنة كائنون في شغل اليوم. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ هُمْ: مبتدأ، وَأَزْواجُهُمْ: عطف عليه، ومُتَّكِؤُنَ: خبر المبتدأ، وفِي ظِلالٍ: متعلق ب مُتَّكِؤُنَ. وعَلَى الْأَرائِكِ. صفة ل ظِلالٍ ويجوز جعل: فِي ظِلالٍ وعَلَى الْأَرائِكِ ومُتَّكِؤُنَ أخبارا متعددة لمبتدأ واحد. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ فاكِهَةٌ: مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، وفِيها: معمول الخبر، وهو لَهُمْ ويجوز جعل كل من لَهُمْ وفِيها خبرين للمبتدأ الذي هو فاكِهَةٌ، ويجوز أيضا جعل لَهُمْ وصفا ل فاكِهَةٌ فلما تقدم صار في موضع نصب على الحال، ويجوز أيضا جعل فِيها صفة ل فاكِهَةٌ فلما تقدم عليها صار في موضع نصب على الحال. وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي: مبتدأ وَلَهُمْ خبره، وصلته: يَدَّعُونَ، والعائد محذوف، وإما نكرة موصوفة، وصفتها يَدَّعُونَ وإما مصدرية، فتكون مع يَدَّعُونَ في تأويل المصدر. ويدعون أي يتمنون ويشتهون، وأصله (يدتعيون) بوزن يفتعلون فأبدل من التاء دالا، ونقلت حركة الياء إلى ما قبلها، فسكنت الياء، والواو بعدها ساكنة، فاجتمع ساكنان، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.

المفردات اللغوية:

سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ سَلامٌ: بدل مما يدعون، مرفوع على البدل من ما أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا منى أهل الجنة. وقَوْلًا: مصدر مؤكد لقوله تعالى: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصب على الاختصاص. ويصح جعل سَلامٌ وصفا ل ما إذا جعلتها نكرة موصوفة، أي ولهم شيء يدعونه سلام، ويصح جعله خبرا ل ما. المفردات اللغوية: فِي شُغُلٍ الشغل: الشأن الذي يشغل الإنسان عما سواه، إما لمسرة أو لمساءة. والمراد به هنا: أنهم مشغولون بما هم فيه من اللذات، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يشتغلون بذلك عن الاهتمام بأمر أهل النار. وهو شغل متعة، لا شغل تعب، لأن الجنة لا نصب فيها. فاكِهُونَ متنعمون متلذذون. فِي ظِلالٍ جمع ظل، وهو ما لا تصيبه الشمس. الْأَرائِكِ جمع أريكة: وهو السرير المزيّن في قبة أو بيت، أو الفراش، فالأرائك: الأسرّة التي في الحجال. يَدَّعُونَ أي يتمنون ويشتهون. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى حدوث البعث لا شك فيه، وما يكون في يوم القيامة من الجزاء العادل، بيّن هنا ما أعده للمحسنين، ثم أعقبه في الآيات التالية بما أعده للمسيئين، ترغيبا في العمل الصالح، وترهيبا من سوء الأعمال. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن حال أهل الجنة فيقول: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أي إن المؤمنين الصالحين إذا نزلوا في روضات الجنات يوم القيامة، كانوا في شغل عن غيرهم، بما يتمتعون به من اللذات، والنعيم المقيم، والفوز العظيم، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فهم في شغل عما فيه أهل النار من العذاب، وهم متنعمون متلذذون معجبون بالنعيم.

وليس التمتع وحدهم وإنما هم في أنس وسرور مع أزواجهم، فقال تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ أي إنهم وحلائلهم في الجنة في ظلال الأشجار التي لا تصيبها الشمس، لأنه لا شمس فيها، وهم فيها متكئون على السرر المستورة بالخيام والحجال (المظلة الساترة) . والأرائك كما بينا: الأسرّة التي في الحجال. وهذه المتعة في الظلال، وعلى الأسرّة والفرش الوثيرة الناعمة هي حلم الإنسان وغاية ما يطمح إليه. والمتعة ليست روحية وإنما هي مادية، فقال تعالى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ، وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي تقدم لهم الفواكه من جميع أنواعها، ولهم غير ذلك كل ما يتمنون ويشتهون، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذّ. وقوله: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ولم يقل «يأكلون» إشارة إلى اختيارهم وملكهم وقدرتهم. والنعمة الأسمى من كل ما يجدون: سلام الله عليهم، فقال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي إن ما يتمنونه هو تحية الله لهم بالسلام أي الأمان من كل مكروه، يقول لهم: سلام عليكم يا أهل الجنة، كما قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ [الأحزاب 33/ 44] أو بوساطة الملائكة، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 23- 24] والمعنى أن الله يسلم عليهم بوساطة الملائكة، أو بغير وساطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- إن أصحاب الجنة يتمتعون فيها متعة مادية وليست روحية فقط، فهم في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي في النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم. 2- يتمتع أهل الجنة بنعيمها هم وأزواجهم، تحت ستور تظللهم، وعلى الأرائك (أي السّرر في الحجال، كالناموسيات) متكئون. 3- لهم أنواع من الفاكهة لا تعد ولا تحصى، ولهم كل ما يتمنون ويشتهون، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. 4- ولهم أكمل الأشياء وآخرها الذي لا شيء فوقه وهو السلام من الله الرب الرحيم، إما بوساطة الملائكة، أو بغير وساطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك أقصى ما يتمنونه. جزاء المجرمين [سورة يس (36) : الآيات 59 الى 68] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)

الإعراب:

الإعراب: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ألم أعهد إليكم بألا تعبدوا، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به. البلاغة: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ.. وَأَنِ اعْبُدُونِي بينهما طباق السلب، أحدهما سلب والآخر إيجاب. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أَفَلا يَعْقِلُونَ استفهام إنكاري للتوبيخ. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ بين المضي والرجوع طباق. المفردات اللغوية: وَامْتازُوا تميزوا وانفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم، أي ويقال للمجرمين: اعتزلوا في الآخرة عن الصالحين. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أوصي وآمر على لسان رسلي، والعهد: الوصية، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة. أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ألا تطيعوه، والمراد: عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، مما زين به الشيطان وأمر به. عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة. وَأَنِ اعْبُدُونِي وحدوني وأطيعوني، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان، وبعبادتي. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي طريق معتدل قويم، وهو دين الإسلام. جِبِلًّا خلقا وجمعا عظيما، جمع جبيل كقديم، وقرئ بضم الباء. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ عداوة الشيطان وإضلاله لكم. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا على ألسنة الرسل. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ادخلوها وقاسوا حرها بسبب كفركم بالله في الدنيا، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نمنعها من الكلام، والمراد أفواه الكفار. وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ وغيرها، بأن يخلق الله فيها القدرة على الكلام. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي يقترفون، فكل عضو ينطق بما صدر منه، قال البيضاوي: أي بظهور آثار المعاصي عليها، ودلالتها على أفعالها، أو بإنطاق الله تعالى إياها. لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي أعميناهم، والطمس: إزالة

المناسبة:

الأثر بالمحو. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم ليمصوا فيه. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي فكيف يبصرون الطريق والحق حينئذ؟ أي لا يبصرون. لَمَسَخْناهُمْ أي لو شئنا تغيير صورتهم إلى صورة أخرى قبيحة. عَلى مَكانَتِهِمْ أي مكانهم، بحيث يجمدون فيه، وقرئ: مكاناتهم جمع مكانة، بمعنى مكان، أي في منازلهم. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهابا. وَلا يَرْجِعُونَ أي ولا رجوعا، أي لم يقدروا على ذهاب ولا عودة. وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ومن نطل عمره. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نغير خلقه ونقلبه فيه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة، فيصبح بعد قوته وشبابه ضعيفا هرما. أَفَلا يَعْقِلُونَ؟ أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ والبعث، فيؤمنوا. المناسبة: بعد بيان حال المحسنين في الآخرة، أعقبه تعالى ببيان حال المجرمين في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يميزون عن المؤمنين، ويصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بسبب كفرهم واتباع وساوس الشيطان، وفي الدنيا لم يعاجلهم بالعقوبة رحمة منه، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم، أو يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير، وأعطاهم الفرصة الكافية من العمر في الدنيا ليتمكنوا من النظر والاهتداء، قبل أن يضعفوا ويعجزوا عن البحث والإدراك، وذلك تحذير واضح لهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن حال الكفار يوم القيامة بتمييزهم عن المؤمنين في موقفهم، فيقول: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال للمجرمين الكافرين في الآخرة: تميزوا في موقفكم عن المؤمنين، كما قال تعالى في آية أخرى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس 10/ 28] وقال سبحانه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم 30/ 14] يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم 30/ 43] أي يصيرون صدعين فرقتين.

أو المراد: يمتاز المجرمون بعضهم عن بعض، فاليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة، والماديون والملحدون فرقة، وهكذا. ثم أبان الله تعالى سبب تمييزهم عن غيرهم، موبخا ومقرعا لهم على كفرهم، فقال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ألم أوصكم وآمركم وأتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم ألا تطيعوا الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتي ومخالفة أمري، فإن الشيطان ظاهر العداوة لكم، بدءا من أبيكم آدم عليه السلام. وبعد النهي عن عبادة غير الله أمر تعالى بعبادته، فقال: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي وأن وحّدوني وأطيعوني فيما أمرتكم به، ونهيتكم عنه، وهذا المأمور به والمنهي عنه هو الطريق المعتدل القويم، وهو دين الإسلام. ثم أخبر الله تعالى عن مساعي الشيطان في إضلال السابقين، فقال: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟ أي لقد أغوى الشيطان خلقا كثيرا، وزين لهم فعل السيئات، وصدهم عن طاعة الله وتوحيده، أفلم تعقلوا عداوة الشيطان لكم، وتبتعدوا عن مثل ضلالات السابقين، حتى لا تعذبوا مثلهم. ثم بيّن الله تعالى مآل أهل الضلال قائلا لهم يوم القيامة تقريعا وتوبيخا: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا وحذرتكم منها على ألسنة الرسل فكذبتموهم، وقد برزت لهم لإرهابهم.

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ادخلوها وذوقوا حرها اليوم، بسبب كفركم بالله في الدنيا، وتكذيبكم بها، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان. وفي هذا الكلام إشارة إلى شدة ندامتهم وحسرتهم من وجوه ثلاثة «1» : 1- قوله تعالى: اصْلَوْهَا وهو أمر تنكيل وإهانة، كقوله تعالى لفرعون: ذُقْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] . 2- قوله تعالى: الْيَوْمَ الذي يدل على أن العذاب حاضر، وأن لذاتهم قد مضت، وبقي العذاب اليوم. 3- قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الذي ينبئ عن الكفر بنعمة عظيمة، وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام، كما قال بعضهم: أليس بكاف لذي نعمة ... حياء المسيء من المحسن ثم أبان الله تعالى مدى مواجهتهم بالجرم الذي ارتكبوه دون أن يستطيعوا إنكاره، فقال: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي في هذا اليوم الرهيب، يختم الله على أفواه الكافرين والمنافقين ختما لا يقدرون معه على الكلام، ويستنطق جوارحهم بما عملت، فتنطق أيديهم وأرجلهم بما اقترفت، ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي، صارت شهودا عليهم. وجعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، لأن أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي، كما قال تعالى: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس 36/ 35] وقال سبحانه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة 2/ 195] أي ولا تلقوا بأنفسكم،

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 101 [.....]

والشاهد على العمل ينبغي أن يكون غيره، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود، لتعذر إضافة الأفعال إليها. روى مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ص قال: «يقول العبد يوم القيامة: لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» . ثم أوضح الله تعالى بعض مظاهر قدرته عليهم من إذهاب البصر والمسخ وسلب الحركة، فقال: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ؟ أي ولو نريد لأذهبنا أعينهم وأعميناهم، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى، فلو بادروا إلى الطريق المألوفة لهم ليسلكونها، لم يستطيعوا، وكيف يبصرون الطريق وقد ذهبت أبصارهم؟ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا، وَلا يَرْجِعُونَ أي لو شئنا لبدّلنا خلقهم، وحولنا صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير، وهم في أمكنتهم ومواضعهم التي هم فيها يرتكبون السيئات، فلا يتمكنون من الذهاب والمضي أمامهم، ولا الرجوع وراءهم، بل يلزمون حالا واحدا، لا يتقدمون ولا يتأخرون. ثم حذرهم من تفويت فرصة الشباب والعمر، فقال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ، أَفَلا يَعْقِلُونَ؟ أي ومن نطل عمره، نرده إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط، أفلا يدركون ويتفكرون أنهم كلما تقدمت بهم السن، ضعفوا وعجزوا عن العمل؟ وأننا أعطيناهم الفرصة

فقه الحياة أو الأحكام:

الكافية من العمر للبحث والنظر والتفكير الصحيح، فإذا طالت أعمارهم بعدئذ أكثر من ذلك، فلن يفيدهم طول العمر شيئا. وفي هذا قطع لأعذارهم بأنه لم تتوافر لديهم الفرصة المواتية للبحث والنظر. والآية مثل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم 30/ 54] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- إن سياسة العزل للمجرمين ستطبق في الآخرة بنحو تام وشامل، فيميز المجرمون عن المؤمنين، تحقيرا لهم، وإعدادا لسوقهم إلى نار جهنم، وذلك حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، فيقال لهم: اخرجوا من جملتهم. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. 2- يعاتب الكفار سلفا في الدنيا قبل أن يعاقبوا في الآخرة، فيقال لهم من جهة الحق: ألم أوصكم وأبلّغكم على ألسنة الرسل ألا تطيعوا الشيطان في معصيتي، وأن توحدوني وتعبدوني، فإن عبادتي دين قويم. 3- يؤكد تعالى تحذيره من الشيطان قائلا: لقد أغوى الشيطان بوساوسه خلقا كثيرا، أفلا تعتبرون بالآخرين، وألا تعقلون عداوته، وتعلموا أن الواجب طاعة الله تعالى. 4- وتقول خزنة جهنم للكفار: هذه جهنم التي وعدتم، فكذبتم بها. روي عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال: «إذا كان يوم القيامة، جمع الله الإنس

والجن والأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم أشرف عنق من النار على الخلائق، فأحاط بهم، ثم ينادي مناد: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فحينئذ تجثو الأمم على ركبها، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها [الحج 22/ 2] ، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى، وَما هُمْ بِسُكارى، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج 22/ 2] » . 5- إن أعضاء الإنسان التي كانت أعوانا في حق نفسه، صارت عليه شهودا في حق ربّه. والسبب في التعبير بكلام الأيدي وشهادة الأرجل أن اليد مباشرة للعمل، فتحتاج إلى شهادة غيرها. ومن وقائع الشهادة يوم القيامة أن المشركين قالوا كما حكى القرآن عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] فيختم الله على أفواههم، حتى تنطق جوارحهم. 6- لو شاء الله لأعمى الكفار عن الهدى، فلا يبصرون طريقا إلى منازلهم ولا غيرها، ولكنه لم يفعل رحمة بهم، وليتمكنوا من النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له. 7- ولو شاء الله لبدل خلقة الكفار إلى ما هو أقبح منها جزاء على كفرهم، ولجعلهم حجرا أو جمادا أو بهيمة، كالقردة والخنازير، وحينئذ لا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم، كما أن الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، ولكنه تعالى أيضا لم يفعل، لرحمته الواسعة. 8- لا حاجة لإطالة أعمار الناس أكثر مما قدر تعالى لهم، لأنه كلما طال العمر ازداد الإنسان ضعفا. والمقصود بالآية وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ.. الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار، ولهذا قال تعالى في ختام الآية: أَفَلا يَعْقِلُونَ أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم، ثم

إثبات وجود الله ووحدانيته وبيان خواص الرسالة [سورة يس (36) الآيات 69 إلى 76] :

صيرورتهم إلى سن الشيبة، ثم إلى الشيخوخة، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها، ولا انتقال عنها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة. ثم أفلا يعقلون أن من فعل هذا بهم قادر على بعثهم مرة أخرى؟! إثبات وجود الله ووحدانيته وبيان خواص الرسالة [سورة يس (36) : الآيات 69 الى 76] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) الإعراب: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقرئ: ركوبهم وركوبتهم، وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. حذف التاء من الأول، كقولهم: امرأة صبور وشكور، وكلاهما بمعنى مفعول. البلاغة: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ بين الجملتين ما يسمى بالمقابلة، قابل بين الإنذار والإعذار، وبين المؤمنين والكفار. مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً استعارة تمثيلية، شبه قيامه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرا بيديه، ويتقنه بذاته، واستعار لفظ العمل للخلق. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ بعد قوله: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ عام بعد خاص، لتعظيم النعمة.

المفردات اللغوية:

أَفَلا يَشْكُرُونَ استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ. يُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ بينهما طباق. وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ تشبيه بليغ، أي كالجند في الخدمة والدفاع. المفردات اللغوية: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ رد لقول المشركين في مكة: إن محمدا شاعر، وما أتى به من القرآن شعر، أي ما علمناه الشعر، بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى، لأنه غير موزون ولا مقفّى، والشعر: كلام موزون مقفّى. فالضمير في عَلَّمْناهُ للنبي ص. وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ما يصح له الشعر، ولا يتأتى منه، ولا يسهل عليه لو طلبه. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما القرآن إلا عظة أو موعظة وإرشاد من الله. وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي وكتاب سماوي مظهر للأحكام والشرائع وغيرها، يتلى في أثناء العبادة. لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول ص مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا ما يخاطب به فهما، أو حيّ القلب، مستنير البصيرة. وَيَحِقَّ الْقَوْلُ يجب العذاب ويثبت. عَلَى الْكافِرِينَ الذين يصيرون إلى الكفر، وهم كالميتين لا يعقلون ما يخاطبون به. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، والاستفهام للتقرير، والواو الداخلة على لَمْ للعطف. أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ للناس. مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا إحداثه وعملناه وأبدعناه بلا شريك ولا معين أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم، وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملكون، ضابطون قاهرون، يتصرفون بها كيف شاؤوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت منهم، ولم يقدروا على ضبطها. وَذَلَّلْناها لَهُمْ سخرناها لهم، وجعلناها منقادة لهم. فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم. وَمِنْها يَأْكُلُونَ ما يأكلون لحمه. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ كأصوافها وأوبارها وأشعارها. وَمَشارِبُ من لبنها، جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر. أَفَلا يَشْكُرُونَ المنعم بها عليهم فيؤمنوا، إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها لما حصّلوا هذه المنافع المهمة. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً من الأصنام ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولا فائدة منها. لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم في وقت الأزمات والشدائد. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي لا تستطيع آلهتهم مناصرتهم في شيء ما، وقد نزلوا منزلة العقلاء. وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي وهم لآلهتهم من الأصنام جنود يذودون عنهم، ثم هم محضرون في النار معهم. فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فلا يهمّك قولهم في الله بالإلحاد والشرك، وفيك بالتكذيب، قائلين

المناسبة:

لك: لست مرسلا. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ نعلم السر والجهر، فنجازيهم عليه، وهو تعليل النهي على الاستئناف. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أصلين من أصول الدين الثلاثة، وهما الوحدانية في قوله: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ والبعث أو الحشر في قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ.. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة في الآيتين الأوليين: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ... الآية. ثم إنه تعالى أعاد الكلام على الوحدانية وأقام الأدلة الدالة عليها في بقية هذه الآيات. التفسير والبيان: ينفي الحق تبارك وتعالى صفة الشعر عن القرآن، وخاصية الشاعرية عن الرسول ص، فيقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ليس النبي شاعرا، وما يصح له الشعر، ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه، فليس هو في طبعه، ولا يحبه، وقد جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب، وإنما علمه الله قرآنا هو أسمى من الشعر، ونوع آخر غير الشعر. والشعر: كلام عربي له وزن خاص، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية، ولا بد في القصيدة من وحدة القافية، أي الحرف الأخير من كل بيت. ويعتمد الشعر على الخيال الخصب، والتصوير الرائع، والعاطفة المشبوبة، ولا يتبع الشاعر فيه ما يمليه العقل والمنطق، ولا يتحرى الصدق والدقة في إرسال أوصاف المديح والهجاء والرثاء والغزل وغير ذلك، ويبالغ الشاعر في التصوير والوصف، وما همّه إلا انتزاع الإعجاب من السامعين بقوله، لذا وصف

تعالى الشعراء بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء 26/ 225- 226] وقال العرب: أعذب الشعر أكذبه قال أبو حيان: والشعر: إنما هو كلام موزون مقفّى، يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام وغير ذلك، مما يتورع المتدين عن إنشاده، فضلا عن إنشائه «1» . أما القرآن الكريم فخبره صدق، وكلامه عظة واقعية، ومنهجه التشريع الذي يسعد البشر، وقصده الترغيب في فضائل الأعمال وغرر الخصال والأخلاق، والترهيب من الانحراف والرذيلة، وتقرير أحكام العبادة الصحيحة والمعاملة الرشيدة. فالآية دلت على نفي كون القرآن شعرا في قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، ونفي كون النبي شاعرا في قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُ وإنما علّمه الله القرآن الذي يمتاز بخاصيّة معينة تختلف عن الشعر المعروف وعن النثر المألوف. وهي رد قاطع على قول العرب أهل مكة: إن القرآن شعر أو سحر أو من عمل الكهان، وإن محمدا شاعر، قاصدين بذلك إبطال صفة الوحي به من عند الله، وتكذيب خاصيّة الرسالة. وأما ما ورد على لسان الرسول ص من أقوال موزونة، فهو مجرد سليقة اتفاقية من غير تكلف ولا صنعة ولا قصد، مثل قوله يوم حنين وهو راكب البغلة البيضاء يقدم بها في نحور العدو: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب

_ (1) البحر المحيط: 7/ 345

وقوله ص حينما نكبت أصبعه في غار: إن أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت بل إن الخليل بن أحمد الفراهيدي ما عدّ المشطور من الرجز شعرا. ولكنه ص كان يتمثل أحيانا ببعض الأشعار لشعراء العرب، مثل تمثله ببيت طرفة بن العبد في معلّقته المشهورة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقد صح فيما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنه كان يقول: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا، فقال ص: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» . وروى ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن: «أنه ص كان يتمثل بهذا البيت هكذا: كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء ، والرواية: كفى الشيب والإسلام للمرء. ناهيا، فقال أبو بكر: أشهد إنك رسول الله، ما علمك الشعر، وما ينبغي لك» . وثبت في الصحيح أنه ص تمثّل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ولكن تبعا لقول أصحابه الذين كانوا يرتجزون، وهم يحفرون ويقولون: لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا ... إن الأولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع ص صوته بقوله: أبينا، ويمدّها. وعدم تعليمه الشعر، لأن الله إنما علّمه القرآن العظيم الذى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 42] . والقرآن ليس بشعر ولا تخيلات، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، وإنما هو دستور للحياة الإسلامية، ومواعظ وإرشادات، كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي ما القرآن إلا ذكر من الأذكار، وموعظة من المواعظ، وكتاب سماوي واضح ظاهر جلي لمن تأمله وتدبره، يتلى في المعابد، ويسترشد في كل شؤون الحياة. لذا قال تعالى محدّدا مهمة القرآن ومهمة رسول الله ص: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض، كقوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] ولكن إنما ينتفع بنذارته من هو حيّ القلب، مستنير البصيرة، ولكي تثبت به وتجب كلمة العذاب على الكافرين، الممتنعين من الإيمان به، وهذا في مقابلة صفة المؤمنين وهم أحياء القلوب، أما الكافرون فهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أشبه بالأموات في الحقيقة، لعدم تأثرهم بعظات القرآن، وانعدام يقظتهم لاتباع الحق والهدى. والخلاصة: أن الآية دالة على أن القرآن رحمة للمؤمنين، وحجة على الكافرين. ثم أعاد تعالى الكلام في الوحدانية وأتى ببعض أدلتها، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي أو لم

يشاهد هؤلاء المشركون بالله عبدة الأصنام وغيرهم أن الله خلق لهم هذه الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) التي سخرها لهم، وأوجدها من أجلهم من غير وساطة ولا شريك، وجعلهم مالكين لها، يقهرونها ويضبطونها ويتصرفون بها كيف شاؤوا، وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم، ولو شاء لجعلها مستعصية عليهم، مستوحشة نافرة منهم، فلا يستفيدون منها، فترى الولد الصغير يقود البعير الكبير، بل ولو كان القطار مائة بعير أو أكثر. ثم أبان الله تعالى منافعها الملموسة، فقال: وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي وجعلناها لهم مسخّرة مذللة منقادة لهم، لا تمتنع مما يريدون منها، حتى الذبح، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال، ومنها ما يأكلون من لحمها. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، وهي لهم مشارب أي يشربون من ألبانها، أفلا يشكرون خالق ذلك ومسخره وموجد هذه النعم لهم، بعبادته وطاعته، وترك الإشراك به غيره. وهذا حثّ صريح على شكر الخالق المنعم بعبادته وطاعته، وهو أبسط ما يوجبه الوفاء، وتقدير المعروف والإحسان. ولكن الكفار تنكروا لهذا الواجب، وكفروا بأنعم الله، واستمروا في ضلالهم وتركوا عبادة الله، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة، فقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي واتخذ هؤلاء المشركون

الأصنام ونحوها آلهة يعبدونها من دون الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى. ولكنها في الواقع لا تقدر على شيء، ولا تحقق فائدة لعبادها، لذا قال تعالى مبينا خيبة أملهم: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأذل وأحقر، بل لا تقدر على نصرة أنفسها، ولا على الانتقام ممن أساء إليها، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل، لذا كان الثابت بطلان ما رجوه منها، وأمّلوه من نفعها. والكفار المشركون جند طائعون للأصنام، يغضبون لها في الدنيا، وهي لا تستطيع نصرهم، ولا تقدم لهم خيرا، ولا تدفع عنهم شرا، إنما هي أصنام. وقوله: مُحْضَرُونَ أي يخدمونهم، ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم، وليس للآلهة استطاعة على شيء، ولا قدرة على النصر. أو إنهم يوم القيامة محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلونهم وقودا للنار. ثم سلّى الله رسوله عما يلقاه من أذى المشركين، فقال: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أي فلا يهمنك تكذيبهم لك وكفرهم بالله، وأذاهم، وجفاؤهم، وقولهم: هؤلاء آلهتنا، وأنها شركاء لله في المعبودية، أو قولهم لرسول الله ص: أنت شاعر، أو ساحر، أو كاهن ونحو ذلك. فإنا نحن نعلم جميع ما هم فيه، نعلم سرهم وجهرهم، ونعلم ما يسرون لك من العداوة، وإنا مجازوهم بذلك، ومعاقبوهم عليه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- ليس القرآن شعرا، ولا محمّد ص شاعرا، فلا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا به، كسر وزنه، وإنما كان همّه فقط الإفادة من المعاني. 2- إن إصابة النبي ص الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وليس ذلك شعرا ولا في معناه، كقوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 3/ 92] وقوله: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف 61/ 13] وقوله: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ 34/ 13] وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] إلى غير ذلك من الآيات. 3- روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر، فقال: لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، وَما يَنْبَغِي لَهُ. 4- ما ينبغي ولا يصح للنبي ص أن يقول الشعر، وذلك من أعلام النبوة، ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول ص، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به إلى الشعر، ليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا. 5- إن الذي يتلوه النبي ص على الناس هو ذكر من الأذكار، وعظة من المواعظ، وقرآن بيّن واضح مشتمل على الآداب والأخلاق، والحكم والأحكام، والتشريع المحقق لسعادة البشر.

6- إن الغرض من إنزال القرآن إنذار من كان حيّ القلب، مستنير البصيرة، وإيجاب الحجة بالقرآن على الكفرة. 7- من أدلة وجود الله ووحدانيته: خلق الإنسان والحيوان والنبات، فإنه سبحانه خلق كل ذلك، وأبدعه، وعمله من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. ومن فضله ونعمته على الناس تذليل الأنعام لهم، وتسخيرها لمنافعهم في الركوب، وأكل اللحوم وشرب الحليب والألبان، وصنع الأسمان، حتى إن الصبي يقود الجمل العظيم ويضربه ويوجهه كيف شاء، وهو له طائع. وهذا كله وغيره يوجب شكر الخالق المنعم وهو الله على نعمه، بعبادته وطاعته وإخلاص ذلك له. 8- بالرغم من وجود الآيات الدالة على قدرة الله، اتخذ الكفار المشركون من دون الله آلهة، لا قدرة لها على فعل، طمعا في نصرتها وأملا في مساعدتها لهم إن نزل بهم عذاب. والحقيقة أن تلك الآلهة المزعومة لا تستطيع نصر عابديها، ولا جلب الخير لهم، ولا دفع الشر والضر عنهم، ومع ذلك فإن الكفار جند طائعون لهذه الآلهة، يمنعون عنهم ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم في الدنيا، فهم لها بمنزلة الجند والحرس، وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين يوم القيامة، محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وفي الخبر: إنه يمثّل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله، فيتبعونه إلى النار، فهم لهم جند محضرون. وهذا المعنى ثبت في صحيح مسلم وكذا في جامع الترمذي عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطّلع عليهم رب العالمين، فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد،

إثبات البعث [سورة يس (36) الآيات 77 إلى 83] :

فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون» . 9- سلا الله عز وجل نبيه ص، فقال له: لا يحزنك قولهم: شاعر، ساحر، روي أن القائل عقبة بن أبي معيط، فنفى الله ذلك عن رسوله. 10- إن الله تعالى عليم مطلع على ما يسرّ الكافرون ويظهرون من القول والعمل، فيجازيهم بذلك يوم القيامة. إثبات البعث [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) الإعراب: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب، والواو للعطف على مقدر، أي ألم يتفكر الإنسان ويعلم. البلاغة: خَصِيمٌ مُبِينٌ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية:

أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ استعارة تمثيلية، شبه سرعة إنجازه الأشياء بأمر المطاع من غير امتناع ولا تأخير. مَلَكُوتُ صيغة مبالغة من الملك، أي الملك الواسع التام كالجبروت والرحموت للمبالغة. المفردات اللغوية: أَوَلَمْ يَرَ أو لم يعلم. الْإِنْسانُ أي إنسان، ويشمل من كان سبب النزول، وهو العاص بن وائل السهمي وأبي بن خلف. أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أنا خلقناه من أضعف الأشياء، والنطفة: الذرة من مادة الحياة وهي المني. فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الخصيم: الشديد الخصومة لنا، المبالغ في الجدل إلى أقصى الغاية، والمبين: البيّن في نفي البعث. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي أورد في شأننا قصة غريبة هي في غرابتها كالمثل، إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة، ونفى القدرة على إحياء الموتى، مقارنا ذلك بما عجز عنه، وقائسا قدرة الله على قدرة العبد. وَنَسِيَ خَلْقَهُ نسي خلقنا إياه، من المني، وهو أغرب من مثله. قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ الرميم: البالية أي ما بلي من العظام، ولم يقل: رميمة لأنه اسم لا صفة، روي أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف أو أبي بن خلف «1» أخذ عظما رميما، ففتته، وقال للنبي ص: أترى يحيي الله هذا بعد ما بلي ورمّ؟ فقال ص: «نعم، ويدخلك النار» وفيه دليل على أن العظم ذو حياة، فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فإن قدرته كما كانت، لامتناع التغير فيه، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي وهو بكل مخلوق عليم جملة وتفصيلا، قبل خلقه وبعد خلقه، يعلم تفاصيل المخلوقات وأجزاء الأشخاص المتفتتة، ومواقعها وطريق تمييزها، وضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً أي أن الله يسرّ لكم الانتفاع بالحطب، تحرقونه للطبخ والدفء، وقد كان أخضر رطبا، أو أن هناك شجرا يسمى المرخ، وشجرا آخر يسمى العفار، إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر، انقدحت منهما النار، وهما أخضران، وفي أمثال العرب: «في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار» ، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ

_ (1) قال أبو حيان: أقوال أصحها أنه أبي بن خلف، رواه ابن وهب عن مالك (البحر المحيط 70/ 348) ثم أضاف قائلا: ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية بإجماع، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة.

سبب النزول:

تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر، بعد أن كان أخضر. وهذا دالّ على القدرة على البعث، فإنه تعالى جمع فيه بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب. وإبراز الشيء من ضدّه: وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر أبدع شيء، وهو دالّ على قدرة الله تعالى. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي إن من قدر على خلق السموات والأرض، وهما في غاية العظم، يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير ضعيف بَلى أي هو قادر على ذلك، وبلى كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي، وكان الجواب من الله للدلالة على أنه لا جواب سواه. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير الخلق الْعَلِيمُ الواسع العلم بكل شيء، فهو كثير المخلوقات والمعلومات. إِنَّما أَمْرُهُ شأنه في الإيجاد. إِذا أَرادَ شَيْئاً خلق شيء. أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي فهو يكون، أي يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده من غير تأخر وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، قطعا للشبهة في قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ.. أي تنزيه عما ضربوا له من المثل، وتعجيب مما قالوا فيه، مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملك التام والقدرة، كالرحموت والرهبوت والجبروت، زيدت الواو والتاء للمبالغة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردون في الآخرة. سبب النزول: أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ص بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟ قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ إلى آخر السورة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسّدّي نحوه، وسمّوا الإنسان أبي بن خلف. وهذا هو الأصح كما قال أبو حيان، لما رواه ابن وهب عن مالك. وبناء عليه، قال المفسّرون: إن أبي بن خلف الجمحي جاء إلى

المناسبة:

رسول الله ص بعظم حائل، ففتته بين يديه، وقال: يا محمد، يبعث الله هذا بعد ما أرمّ؟ فقال: نعم، يبعث الله هذا، ويميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت هذه الآيات. وعلى أي حال، يقول علماء أصول الفقه: إن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة 58/ 1] نزلت في امرأة واحدة، وأراد الكل في الحكم، فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر، فهذه الآية ردّ عليه، فتكون الآية عامة. المناسبة: بعد بيان الأدلة الدّالة على قدرة الله عزّ وجلّ، ووجوب طاعته وعبادته، وبطلان الشرك به، ذكر تعالى شبهة منكري البعث، وأجاب عنها بأجوبة ثلاثة: هي أن الإعادة مثل البدء بل أهون، وقدرة الله على إيجاد النار من الشجر الأخضر، وخلق ما هو أعظم من الإنسان، وهو خلق السموات والأرض، وفي النهاية: فورية تكوين الأشياء بقول: كُنْ فَيَكُونُ. التفسير والبيان: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ألم يعلم كل إنسان أننا بدأنا خلقه من نطفة (مني) من ماء مهين، هي أضعف الأشياء، ثم جعلناه بشرا سويّا، ثم تراه يفاجئنا بأنه ناطق مجادل بيّن جريء في جدله، فقوله خَصِيمٌ ناطق، ومُبِينٌ إشارة إلى قوة عقله. والمراد: أو لم يستدلّ من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء ضعيف حقير، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ

مَعْلُومٍ [المرسلات 77/ 20- 22] ، وقال سبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان 76/ 2] أي من نطفة من أخلاط متفرقة. فشأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة، لا أن يطغى ويتجبر، وينكر البعث والإعادة. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ أي وذكر أمرا عجيبا كالمثل في الغرابة على استبعاد إعادة الله ذي القدرة العظيمة للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية، قائسا قدرة الله على قدرة العبد، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر. فأجابه الله تعالى بقوله: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي قل أيها الرسول لهذا المشرك المنكر البعث: يحيي الله تلك العظام البالية الذي أبدع خلقها وأوجدها في المرة الأولى من غير شيء من العدم ولم يكن شيئا مذكورا، وهو لا تخفى عليه خافية من الأشياء، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة مشتتة في أنحاء الأرض، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان، ولو في أعماق الأرض أو البحر أو أجواف الإنسان أو الحيوان أو اختلط بالتراب والنبات. وقد قال العلماء: إن الذرّة لا تفنى، وتقرر نظرية (لافوازيه) المعروفة: أنه لا يوجد شيء من العدم، والموجود لا ينعدم. ودليل ثان هو: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي وهو الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر يانع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، ومن قدر على ذلك، فهو قادر على

ما يريد، لا يمنعه شيء، فهذا التحوّل والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة، يدل على إمكان إعادة الرطوبة إلى ما كان يابسا باليا. والمشاهد أن شجر السّنط يوقد به النار وهو أخضر. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيأخذ عودين أخضرين منهما، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد تماما. ومثل ذلك احتكاك السّحب المولّد لشرارة البرق. ودليل ثالث أعجب مما سبق: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي إن من خلق السّموات السّبع بما فيها من الكواكب السّيارة والثّوابت، والأرضين السّبع بما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار، وهي أعظم من خلق الإنسان، إن من خلق ذلك قادر على خلق مثل البشر وإعادة الأجسام، وهي أصغر وأضعف من السّموات والأرض، بلى هو قادر على ذلك، وهو الكثير الخلق، الواسع العلم، فقوله الْخَلَّاقُ إشارة إلى كمال القدرة، وقوله الْعَلِيمُ إشارة إلى شمول العلم. والخلاصة: أن خلق الأشياء العظيمة برهان قاطع على خلق ما دونها، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] ، وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] . وتأكيدا للبيان ونتيجة لما سبق، قال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي إنما شأنه سبحانه في إيجاد الأشياء وإرادتها أن يقول للشيء: كُنْ فإذا هو كائن فورا، من غير توقّف على شيء آخر أصلا. ومقتضى ثبوت القدرة التامة لله تعالى: تنزيهه عما وصفوه به، فقال: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تنزّه الله عما لا يليق به من السوء أو النقص، فهو الذي له ملكية الأشياء كلها، وله القدرة الكاملة على التّصرف فيها كما يريد، وبيده مفاتح كلّ شيء، وإليه لا إلى غيره مرجع العباد بعد البعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بما عمل، فليعبده الناس جميعا وليوحّدوه ويطيعوه، تحقيقا لمصلحتهم. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- عجبا لأمر الإنسان، سواء العاص بن وائل السّهمي، أو أبيّ بن خلف الجمحي (وهو الأصح) أو أمية بن خلف أو غيرهم، كيف خلقه الله من يسير الماء، وأضعف الأشياء، ثم يصبح مخاصما ربّه، مجادلا في الخصومة، مبيّنا للحجة، أي أنه صار بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. قال أبو حيان: قبّح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة، أفضى به مهانة أصله أن يخاصم الباري تعالى، ويقول: من يحيي الميت بعد ما رمّ مع علمه أنه منشأ من موات. 2- لقد نسي هذا الإنسان الضعيف المخلوق أن الله أنشأه من نطفة، ثم جعله إنسانا حيّا سويا، فهذا دليل حاضر من نفسه على إمكان البعث، وقد احتج الله عزّ وجلّ على منكري البعث بالنشأة الأولى، فكيف يقول الإنسان: من يحيي هذه العظام البالية؟!

والجواب: أنّ النّشأة الثانية مثل النّشأة الأولى، فمن قدر على النّشأة الأولى قدر على النّشأة الثانية، وأن الله عالم بكلّ الأشياء، سواء الأجسام العظام أو الذّرات الصغار. 3- في قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ دليل على أن في العظام حياة، وأنها تنجس بالموت، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: لا حياة فيها. 4- من أدلة وحدانيته تعالى وكمال قدرته على إحياء الموتى: ما يشاهده الناس من إخراج المحروق اليابس من العود الندي الطري، فإن الشجر الأخضر من الماء، والماء بارد رطب ضدّ النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فيدلّ ذلك على أنه تعالى هو القادر على إخراج الضدّ من الضدّ، وهو على كلّ شيء قدير. 5- إنّ الذي خلق السموات والأرض التي هي أعظم من خلق الناس قادر على أن يبعثهم مرة أخرى. 6- إذا أراد الله خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة، وإنما أمره نافذ فورا، ولا يتوقف على شيء آخر. 7- إن الله تعالى نزّه نفسه عن العجز والشرك، لتعليم الناس، وإبراز الحقيقة، فبيده مفاتح كلّ شيء، ومردّ الناس ومصيرهم بعد مماتهم إليه تعالى، ليحاسب كلّ امرئ على ما قدم في دنياه من خير أو شرّ.

سورة الصافات:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الصافات مكيّة، وهي مائة واثنتان وثمانون آية. تسميتها: سميت سورة الصافات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالصّافات وهم الملائكة الأطهار الذين يصطفّون في السماء كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث: 1- وجود الشبه بين أول هذه السورة وآخر يس السورة المتقدمة في بيان قدرته تعالى الشاملة لكل شيء في السموات والأرض، ومنه المعاد وإحياء الموتى، لأن الله تعالى كما في يس هو المنشئ السريع الإنجاز للأشياء، ولأنه كما في مطلع هذه السورة واحد لا شريك له، لأن سرعة الإنجاز لا تتهيأ إلا إذا كان الخالق الموجد واحدا. 2- هذه السورة بعد يس كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال القرون الماضية، المشار إليهم وإلى إهلاكهم في سورة يس المتقدمة في قوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [31] .

مشتملاتها:

3- توضح هذه السورة ما أجمل في السورة السابقة من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين في الدنيا والآخرة. مشتملاتها: موضوع هذه السورة كسائر السّور المكية في بيان أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والوحي والنبوة، وإثبات البعث والجزاء. وقد تحدثت عن مغيبات ثلاثة: هي الملائكة، والجنّ، والبعث والجزاء في الآخرة، فابتدأت بالكلام عن الملائكة الصّافات قوائمها أو أجنحتها في السماء استعدادا لتنفيذ أمر الله، والزّاجرات السّحاب لتصريفه كيفما يشاء الله، والذين أقسم الله بهم للدلالة على التوحيد وخلق السموات والأرض، وتزيينها بالكواكب. ثم أشارت إلى الجنّ ومطاردتهم بالشّهب الثاقبة المرصودة لهذا الغرض، للرّدّ على المشركين الجاهليين الذين زعموا وجود نسب وقرابة بين الله تعالى وبين الجنّ، وأبانت موقف المشركين من البعث وإنكاره وأحوالهم في الدنيا والآخرة، وردت عليهم ردّا قاطعا حاسما بأنهم محشورون في زجرة صيحة واحدة وهم داخرون أذلة صاغرون وأنهم لا يفتنون إلا ذوي العقول الضعيفة، وتوبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله، وتنزيه الله عن ذلك. وأبانت هذه السورة أيضا سوء أحوال الكافرين في القيامة، وذكرتهم بالحوار الذي دار بينهم وبين المؤمنين في الدنيا، ثم حسمت الأمر ببيان مآل كل من الفريقين، حيث يخلد المؤمنون في الجنة التي وصف نعيمها، ويخلد الكافرون في النار التي وصف جحيمها، للعبرة والعظة وبيان العاقبة. وناسب هذا الاستعراض التذكير الموجز بقصص بعض الأنبياء السابقين،

فضل هذه السورة:

وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وموسى، وهارون، وإلياس، ولوط، ويونس عليهم السلام. ولكنها فصّلت قصة إبراهيم في موقفين حاسمين: أولهما- تحطيمه الأوثان. وثانيهما- إقدامه على ذبح ابنه، ليتجلى للناس جميعا مدى (الإيمان والابتلاء والتضحية) فإنه بادر لتنفيذ أمر ربّه، ممتحنا صبره، مجتازا بالإيمان والصدق محنة الابتلاء، مضحيّا في سبيل رضوان الله بابنه الذي رزقه، فأكرمه الله بالفداء الذي جعل سنّة في الأضحية. كذلك فصلت السورة قصة يونس عليه السلام العجيبة، وإنقاذه من بطن الحوت، لتوبته وكونه من الذاكرين الله، المصلّين له. وختمت السورة بالإشارة إلى ما بدئت به من وصف الملائكة بأنهم الصّافون المسبّحون، وبيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة، ومدح المرسلين وسلام الله عليهم، وتنزيه الله عن أوصاف المشركين، وثناؤه على نفسه وحمده لذاته بأنه رب العزة ورب العالمين. فضل هذه السّورة: أخرج النّسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله ص يأمرنا بالتّخفيف، ويؤمّنا بالصّافات» . إعلان وحدانية الله [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)

البلاغة:

البلاغة: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ التأكيد بإن واللام بسبب إنكار المخاطبين للوحدانية. المفردات اللغوية: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا أقسم الله بالملائكة التي تصف في السماء للعبادة كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا، انتظارا لتنفيذ أمر الله، ويكون ترتيبهم في الصفوف بحسب مراتبهم في التقدّم والفضيلة. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً الملائكة التي تزجر السحاب أي تسوقه. وأصل الزّجر: الدّفع بقوة الصوت، يقال: زجرت الإبل والغنم: أي أفزعتها بالصوت والصياح، ثم استعمل في السوق والحثّ على الشيء. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الملائكة التي تتلو القرآن وتقرؤه. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ هذا جواب القسم بالملائكة على أن الله واحد لا شريك له، وهو خطاب للمشركين الذين أنكروا التوحيد. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ربّ ذلك كله: أي خالقه ومالكه، والْمَشارِقِ: مشارق الشمس، أي وربّ المغارب أيضا، فللشمس كلّ يوم مشرق ومغرب. والمعنى: أن وجود هذه المخلوقات على هذا النحو البديع من أوضح الأدلّة على وجود الله وقدرته. التفسير والبيان: أقسم الله تعالى بالملائكة الصّافّات صفوفا للعبادة أو الصّافّات أجنحتها في السماء، انتظارا لأمر الله تعالى، والذين هم يقومون بوظائف متعددة، منها: أنهم يسوقون السّحب إلى مكان معين بالتدبير المأمور به فيها، أو أنهم يزجرون الناس ويردعونهم عن المعاصي بإلهام الخير، ويزجرون الشياطين عن الوسوسة والإغواء. ومنها: أنهم يتلون آيات الله على أنبيائه، أو على أوليائه. لقد أقسم الله بأن معبودكم أيها المخاطبون الذي يجب إخلاص العبادة له، هو واحد لا شريك له، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من العوالم والمخلوقات، ومالك ذلك كله، وهو ربّ مشارق الشمس ومغاربها، فأعلنوا في نفوسكم توحيد الله، وأخلصوا له العبادة، وأفردوه بالطاعة، فوجود هذه المخلوقات من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته ووحدانيته.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله تعالى بالملائكة، ولله أن يقسم على ما يشاء، في أي وقت يشاء. 2- ذكرت الآيات صفات ثلاثا للملائكة، وهي: أولا- وقوف الملائكة صفوفا إما لأداء العبادات كما أخبر تعالى عنهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصّافّات 37/ 165] ، وإما أنها تصف أجنحتها في الهواء منتظرين وصول أمر الله إليهم، وثانيا- زجر السحاب، أي سوقه وتحريكه والإتيان به من موضع إلى موضع، أو زجر الناس عن المعاصي بالإلهام والتأثير في القلوب، أو زجر الشياطين عن التّعرض لبني آدم بالشّر والإيذاء. وثالثا- قراءة كتاب الله تعالى في الصلاة، وعلى الأنبياء، والأولياء للتذكير بها وغرس الشرائع في النفوس، والصفة الثالثة مذكورة في آية أخرى هي: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات 77/ 5- 6] . هذا.. وقد ورد في السّنة النّبوية حديثان صحيحان عن كيفية صفوف الملائكة: الأول- ما أخرجه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء» . والثاني- ما أخرجه مسلم أيضا والنسائي وابن ماجه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند

تزيين السماء بالكواكب [سورة الصافات (37) الآيات 6 إلى 10] :

ربّهم؟ قلنا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربّهم؟ قال ص: يتمّون الصّفوف المتقدّمة، ويتراصّون في الصّف» . 3- كان جواب هذا القسم العظيم أن الله واحد لا شريك له، ولا ثاني له، فهو قسم مشفوع بالبرهان الذي يثبت وحدانية الله تعالى. وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد 4- الدّليل على وجود الله الصانع ووحدانيته وقدرته كونه الخالق المالك للسموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، ولمشارق الشمس ومغاربها، فللشمس كل يوم مشرق ومغرب بعدد أيام السّنة، تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب في واحد، ولها في كل عام مشرقان: أقصى مشرق في الشمال، وأقصى مشرق في الجنوب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب، لدلالتها عليه، وقد صرح بها في قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ، إِنَّا لَقادِرُونَ [المعارج 70/ 40] ، وفي آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن 55/ 17] ، يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر، فالآية الأولى لبيان مشرق الشمس الخاص كل يوم، والآية الثانية تبين أن لها في كل عام مشرقين. تزيين السماء بالكواكب [سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

الإعراب:

الإعراب: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ الْكَواكِبِ: بدل من بِزِينَةٍ، وقرئ بنصب الكواكب: إما بأن أعمل الزينة في الكواكب، أي زيّنّا الكواكب، مثل أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أن أن أطعم يتيما، وإما بنصبه على البدل من موضع بِزِينَةٍ وهو النصب، وإما بنصبه ب (أعني) . وقرئ بترك تنوين بِزِينَةٍ وجرّ الْكَواكِبِ على وجهين: الجر على الإضافة، أو بدل من بِزِينَةٍ وحذف تنوين بِزِينَةٍ لالتقاء الساكنين. والإضافة للبيان، أي المبينة ب الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً منصوب بفعل مقدر، أي حفظناها بالشّهب. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أتى ب إِلَى وإن كان يَسَّمَّعُونَ لا يفتقر إلى حرف جرّ، إما بحمل يَسَّمَّعُونَ على (يصغون) ، وإما بحذف المفعول، وتقديره: لا يسّمّعون القول، مائلين إلى الملأ الأعلى. دُحُوراً منصوب على المصدر، تقديره: يدحرون دحورا. البلاغة: كُلِّ جانِبٍ عَذابٌ واصِبٌ شِهابٌ ثاقِبٌ وكذلك في الآية بعدها طِينٍ لازِبٍ فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل أحد المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: السَّماءَ الدُّنْيا هي أقرب السموات لأهل الأرض، أي القربى منكم، وهي مؤنث الأدنى. الْكَواكِبِ هي النجوم والأجرام السماوية، وتزيين السماء إما بها أو بضوئها. مارِدٍ عات خارج عن الطاعة، وحفظ السماء من الشياطين برميها بالشهب. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كلام مستأنف مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ الله السماء منهم، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان، فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. ويَسَّمَّعُونَ أي يتسمّعون. والْمَلَإِ الجماعة المجتمعون على رأي، والمراد بهم هنا الملائكة في السماء. والْمَلَإِ الْأَعْلى أهل السماء الدنيا فما فوقها. وَيُقْذَفُونَ يرجمون بالشهب، وهم الشياطين. مِنْ كُلِّ جانِبٍ من آفاق السماء. دُحُوراً طردا وإبعادا. وَلَهُمْ في الآخرة. عَذابٌ واصِبٌ دائم أو شديد. الْخَطْفَةَ مصدر للمرة الواحدة، وهي الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة. والاستثناء في قوله: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ من ضمير يَسَّمَّعُونَ أي لا يسمع إلا الشيطان الذي سمع الكلمة من

المناسبة:

الملائكة، فأخذها بسرعة. فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ شعلة ساطعة من النار، وهي ما يرى كأن كوكبا انقض. ثاقِبٌ مضيء فيحرقه، أو يثقب ما ينزل عليه. المناسبة: هذه الآيات تتضمن دليلا آخر على وجود الله تعالى وقدرته، ذكر بعد الدليل الأول وهو خلق السموات والأرض، وتبين أنه تعالى زيّن السماء الدنيا القريبة من البشر لمنفعتين، هما: تحصيل الزينة، والحفظ من الشيطان المارد. وبالرغم من أن هذه الثوابت مركوزة- كما قال الرازي- في الكرة الثامنة، ما عدا القمر في السادسة، فإن التعبير جاء على وفق الرؤية والنظر حسب الظاهر، فأهل الأرض إذا نظروا إلى السّماء، يرونها ويشاهدونها مزينة بهذه الكواكب، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة. التفسير والبيان: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ جمّل الله سبحانه السماء الدنيا التي هي أقرب السموات إلى الأرض بزينة جميلة فائقة الجمال هي الكواكب، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي وحفظناها حفظا من كلّ شيطان عات متمرد عن الطاعة، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، لذا قال تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لا تقدر الشياطين أن يتسمّعوا لحديث الملأ الأعلى وهم الملائكة أهل السماء الدنيا فما فوقها، لأنهم يرمون بالشهب، وذلك إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى من شرعه وقدره.

وهاتان الخاصتان أو المنفعتان للسّموات، جاءت آيات كثيرة تقررهما مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك 67/ 5] ، وقوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر 15/ 16- 18] . وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي يرمون بالشّهب من كلّ جهة يقصدون السماء منها، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع. دُحُوراً، وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي يدحرون دحورا، ويطردون ويمنعون من الوصول إلى ذلك، ولهم في الآخرة عذاب دائم مستمر موجع، كما قال تعالى في الآية المتقدمة: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة، يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى من تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب، فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما جاء في الحديث. فخاطف الكلمة العارضة يتبعه الله بنجم مضيء، أو بشعلة مستنيرة، فتحرقه، وربما لا تحرقه، فيلقي إلى إخوانه الكهان ما خطفه. والخطف: أخذ الشيء بسرعة. والثاقب: المضيء. والملحوظ الثابت أن الشياطين قبل بعثة نبينا محمد ص كانت ترمى أحيانا، وأحيانا لا ترمى، وبعد البعثة تعرضوا للرمي من كل جانب، وزيد في حفظ السماء، فلم يتمكنوا من استراق السمع، إلا بأن يختطف أحدهم كلمة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض، فيلقيها إلى إخوانه، وبهذا بطلت

فقه الحياة أو الأحكام:

الكهانة، وثبتت النبوة والرسالة «1» ، وأصبح المقرر شرعا منعهم من التنصّت، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء 26/ 212] ، وقال سبحانه واصفا المرحلتين: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجنّ 72/ 8- 9] . قال الرازي: دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي ص، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ص بزمان طويل، ذكروا ذلك، وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي ص، امتنع حمله على مجيء النبي ص، والأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ص، لكنها كثرت في زمان النبي ص، فصارت بسبب الكثرة معجزة «2» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن تزيين السماء الدنيا بالكواكب لمنفعتين، هما: تحصيل الزينة، والحفظ من الشيطان المارد. 2- وصف تعالى أولئك الشياطين بصفات ثلاث: هي أنهم لا يسّمعون إلى الملأ الأعلى وهم الملائكة، وأنهم يقذفون من كل جانب دحورا، أي طردا وإبعادا، ولهم عذاب واصب، أي دائم مستمر موجع.

_ (1) تفسير القرطبي: 15/ 66 (2) تفسير الرازي: 26/ 121

وسميت الملائكة بالملإ الأعلى، لأنهم يسكنون السموات، وأما الإنس والجنّ فهم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض. واختلف العلماء على قولين: هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث؟ وقد جاءت الأحاديث عن ابن عباس بذلك، وستذكر في سورة «الجن» . ويجمع بينها كما تقدم بأنها كانت ترمى وقتا، ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب، فصاروا يرمون دائما واصبا من كل جانب. 3- قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من قوله: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي لا يسمع الشياطين شيئا مما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدره إلا الشيطان الذي خطف الخطفة، أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة. ومضمون الأحاديث الصحاح في هذا: أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، لاستراق السمع، فيقضي الله أمرا من أمور الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته، فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه، كما بيّنا، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة، فيصدّق الجاهلون جميع الكلام، فلما جاء الله بالإسلام، حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع شيئا. والكواكب الراجمة: هي التي يراها الناس تنقضّ. وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن هذه لا ترى حركتها، والراجمة ترى حركتها، لأنها قريبة منا.

إثبات المعاد - الحشر والنشر والقيامة [سورة الصافات (37) الآيات 11 إلى 21] :

إثبات المعاد- الحشر والنشر والقيامة [سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 21] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) الإعراب: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ تاء عَجِبْتَ بالفتح: تاء المخاطب. وقرئ بالضم: إما إخبارا عن الله من إنكار الكفار البعث، مع بيان القدرة على الابتداء، حتى بلغ هذا الإنكار منزلة يقال فيه: عجبت، وإما بتقدير: قل عجبت، وحذف القول في كلام العرب كثير. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ قال الزمخشري: فَإِنَّما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة. البلاغة: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ طباق بين التعجب والسخرية. المفردات اللغوية: فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبر مشركي مكة المنكرين للبعث أو بني آدم، إما على سبيل التقرير أو التوبيخ. أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أهم أقوى أجساما وأعظم أعضاء وأشق إيجادا، أم من خلقنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب؟ والإتيان بمن هنا: لتغليب العقلاء. إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي خلقنا أصلهم آدم. مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لزج يلصق باليد. والمعنى: كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف؟

المناسبة:

وإن خلقهم ضعيف، فلا يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير. بل للانتقال من غرض إلى آخر، وهو الإخبار بحال النبي ص وبحالهم عَجِبْتَ يا محمد من تكذيبهم إياك، ومن إنكارهم قدرة الله تعالى وإنكار البعث. وَيَسْخَرُونَ أي وهم يستهزئون من تعجبك ومما تقوله من إثبات البعث. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون. وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة دالة على الصدق من معجزات الرسول ص، كانشقاق القمر. يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية والاستهزاء. وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به وهو القرآن إلا سحر ظاهر واضح. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي أنبعث إذا متنا، وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعارا بأن البعث في رأيهم مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارا. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، وهو عطف بالواو على محل إن واسمها: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أو عطف على ضمير: لَمَبْعُوثُونَ والفاصل همزة الاستفهام، أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون؟. قُلْ: نَعَمْ تبعثون. وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون ذليلون. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة، وهو جواب شرط مقدر، أي إذا كان ذلك، فإنما البعث زجرة، أي صيحة واحدة هي النفخة الثانية، يقال: زجر الراعي غنمه، أي صاح عليها وأمرها بالإعادة. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا الخلائق قيام من مراقدهم أحياء، ينظرون ما يفعل بهم. وَقالُوا الكفار. يا وَيْلَنا هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، ويقال وقت الهلاك. الدِّينِ الحساب والجزاء. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الحكم والقضاء بين الخلائق وتمييز المحسن من المسيء. وهو من قول الملائكة. المناسبة: افتتح الله تعالى هذه السورة بإثبات وجود الخالق وقدرته ووحدانيته بدليل واضح وهو خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب، وأعقب ذلك بإثبات المعاد وهو الحشر والنشر والقيامة. ومن المعلوم أن المقصد الأصلي للقرآن الكريم هو إثبات الأصول الأربعة: وهي الإلهيات، والمعاد، والنبوة، وإثبات القضاء والقدر.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ أي سل أيها الرسول هؤلاء المنكرين للبعث: أيهم أشد خلقا، أي أصعب إيجادا، هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ والآية نزلت في الأشد بن كلدة وأمثاله، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته. والسؤال للتوبيخ والتقريع، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك، فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 36/ 81] . ثم أوضح الله تعالى مدى هذا التفاوت، فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي إنا خلقنا أصلهم وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد. فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا، أو من الماء الذي خالط التراب إذا مات الإنسان في الماء، ولم ينكر ذلك من هو أقوى منهم خلقا وأعظم وأكمل. والمعنى: أن هذه الأجسام قابلة للحياة، إذ لو لم تكن قابلة للحياة، لما صارت حية في المرة الأولى، والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام. ثم انتقل البيان القرآني من أسلوب لأسلوب، فقال تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أي لا حاجة لاستفتائهم، فهم قوم معاندون، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، لأنك موقن إيقانا تاما بصنع الله وقدرته، وبما أخبر الله تعالى به من إعادة الأجسام بعد فنائها،

وهم على النقيض من ذلك يسخرون ويستهزئون مما تقول لهم من إثبات البعث، ومما تريهم من الأدلة والآيات. أو عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله ورسوله، لا يتعظون ولا ينتفعون بها، لاستكبارهم وعنادهم وقسوة قلوبهم. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ أي وإذا شاهدوا دليلا واضحا، أو معجزة من معجزات الرسول ص التي ترشدهم إلى التصديق والإيمان، يبالغون في السخرية والاستهزاء، ويتنادون للتهكم والتضاحك، ومشاركة الآخرين في السخرية. وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر، فلا يؤبه له، ولا ننخدع به، وهو من تراث الأقدمين المشعوذين. ثم خصصوا إنكارهم بالبعث، فقالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أي إن من أعجب ما تقول: أنبعث أحياء بعد أن متنا، وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ وهل يبعث أيضا آباؤنا وأجدادنا الأقدمون الغابرون الذين مضى على موتهم أحقاب طويلة الأمد؟ فإن بعثهم أشد غرابة. فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ: نَعَمْ، وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي قل أيها الرسول لهم: نعم، تبعثون أحياء مرة أخرى، بعد صيرورتكم ترابا، وأنتم في هذا الحشر والنشر صاغرون

فقه الحياة أو الأحكام:

ذليلون حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] . فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي إن الأمر سهل جدا في قدرة الله، وليس البعث صعبا ولا عسيرا، فإنما البعث صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر واحد من الله عز وجل يدعوهم للخروج من الأرض، فإذا الناس قاطبة قيام من مراقدهم في الأرض، أحياء بين يدي الله تعالى، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة. ثم حكى الله تعالى ملامتهم لأنفسهم إذا عاينوا أهوال القيامة بقوله: وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي وقال منكر والبعث الذين كذبوا به في الدنيا: لنا الويل والهلاك، فقد حلّ موعد الجزاء والعقاب على ما قدمنا من أعمال من الكفر بالله والتكذيب للرسل. دعوا على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم. فأجابتهم الملائكة بقولهم: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي هذا يوم الحكم والقضاء المبرم بين الناس، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويبين المحق من المبطل، ففريق في الجنة وفريق في السعير. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- استدل الله تعالى على إثبات المعاد من وجهين: أحدهما- إنه تعالى قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق من خلق الإنسان وهو

خلق السموات والأرض والجبال والبحار، فوجب أيضا أن يقدر على إعادة خلق الإنسان. الثاني- إنه تعالى قدر على خلق الإنسان في المرة الأولى، والفاعل وهو الله والقابل للخلق وهو الإنسان باقيان كما كانا، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحال الثانية، وهي البعث أو الحشر والنشر. فدل ذلك على أن البعث والقيامة أمر جائز ممكن. 2- كان خلق آدم عليه السلام من الطين، وكذا خلق كل إنسان من الطين، لأن تكوينه من الدم، والدم يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي، وحياة الحيوان والنبات من تراب الأرض، فمنه تنتج الثمار والحبوب والأعشاب وغيرها بعد سقيها بالماء. 3- لقد تعجب الرسول ص من إنكار مشركي مكة وغيرهم للبعث، لما استقر في قلبه من مشاهدة قدرة الله العظمى، وعجيب صنعه، ومبلغ إرادته ومشيئته. 4- بعد تقرير الله تعالى الدليل القاطع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى الله تعالى أشياء عن المنكرين: أولها- تعجب النبي ص من إصرارهم على الإنكار، وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات، كما تقدم، مما يدل على أن أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد، وفي طرفي النقيض. ثانيها- أنهم إذا وعظوا بالقرآن وغيره من المسلّمات العقلية لا يتعظون ولا ينتفعون به.

ثالثها- أنهم إذا رأوا معجزة يبالغون في السخرية ويدعون غيرهم إلى مشاركتهم في السخرية والاستهزاء. رابعها- أن سبب سخريتهم من الآية والمعجزة اعتقادهم أنها من باب السحر. 5- بعد إثبات إمكان البعث والقيامة بالدليل العقلي، أقام الله تعالى الدليل السمعي القاطع على وقوع القيامة بقوله: نَعَمْ جوابا على إنكارهم البعث، بعد الموت وصيرورتهم وأسلافهم ترابا وعظاما بالية. 6- وبعد الإثبات بالدليلين العقلي والسمعي لجواز حدوث القيامة ووقوعها ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وهي ثلاث حالات: الحالة الأولى- أن القيامة ما هي إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور، بأمر الله لدعوة الناس للخروج من الأرض، فيمتثلون فورا، وإذا هم قيام من قبورهم أحياء، ينظرون إلى أهوال القيامة، وإلى بعضهم بعضا. الحالة الثانية- من وقائع القيامة أن المكذبين بعد القيام من القبور يقولون: يا هلاكنا، هذا هو الجزاء الذي نجازى فيه على أعمالنا من الكفر وتكذيب الرسل. الحالة الثالثة- تجيبهم الملائكة: هذا يوم الفصل الحاسم، يوم الحكم والقضاء، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء.

مسئولية المشركين في الآخرة وأسبابها [سورة الصافات (37) الآيات 22 إلى 37] :

مسئولية المشركين في الآخرة وأسبابها [سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 37] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) الإعراب: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ما: استفهامية، مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، ولا تَناصَرُونَ: جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في لَكُمْ مثل: مالك قائما. يَسْتَكْبِرُونَ موضع الجملة إما منصوب على أنه خبر «كان» وجملتها في موضع رفع خبر إن، وإما مرفوع على أنه خبر «إن» و «كان» ملغاة. البلاغة: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أسلوب تهكمي في الهداية، لأنها تكون إلى طريق النعيم، لا إلى صراط الجحيم. عَنِ الْيَمِينِ استعارة لجهة الخير أو للقوة والشدة أو لجهة الدين.

المفردات اللغوية:

إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ إيجاز بالحذف، أي قولوا: لا إله إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه. المفردات اللغوية: احْشُرُوا يقال للملائكة: اجمعوا، من الحشر: وهو الجمع. الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك فهم المشركون، وهو أمر من الله للملائكة بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف. وَأَزْواجَهُمْ أمثالهم وأشباههم، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الصنم، وعابد الكواكب مع عبدتها، وأصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنى معا. وقيل: أزواجهم: قرناؤهم من الشياطين. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحشر المعبودون من غير الله من الأصنام والأوثان وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء 21/ 101] . فَاهْدُوهُمْ دلوهم وعرفوهم طريقها ليسلكوه. إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ طريق النار. وَقِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف أو عند الصراط «1» إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم. ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب كحالكم في الدنيا، وهذا يقال لهم توبيخا وتقريعا. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون لعجزهم، وأصل الاستسلام: طلب السلامة، ويلزمه الانقياد عرفا. وهذا أيضا يقال لهم. يَتَساءَلُونَ يتلاومون ويتخاصمون، فيسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. وقالُوا قال الأتباع للمتبوعين. عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه، وعن جهة الخير التي نأمنكم منها، لحلفكم أنكم على الحق، فصدقناكم واتبعناكم. والمعنى: أنكم أضللتمونا. قالُوا قال المتبوعون لهم. بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إنكم كنتم في الأصل غير مؤمنين، فلم يحدث منا الإضلال الذي يؤدي إلى الرجوع عن الإيمان إلينا. مِنْ سُلْطانٍ تسلط عليكم، وقوة وقهر، نقهركم على متابعتنا. طاغِينَ مختارين الطغيان والضلال مثلنا، ومتجاوزين الحد في العصيان. فَحَقَّ عَلَيْنا وجب علينا جميعا. قَوْلُ رَبِّنا بالعذاب، وهو: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. إِنَّا لَذائِقُونَ إنا جميعا لذائقون العذاب بذلك القول. فَأَغْوَيْناكُمْ دعوناكم إلى الغيّ والضلال. غاوِينَ ضالين. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا قول الله تعالى، فإنهم يوم القيامة جميعا الأتباع والمتبوعون مشتركون في العذاب، لاشتراكهم في الغواية.

_ (1) الواو لا توجب الترتيب، فيصح أن يكون الحبس والإيقاف في الموقف، ويجوز أن يكون عند الصراط.

المناسبة:

إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمشركين غير هؤلاء، أي نعذبهم، سواء التابع منهم والمتبوع. إِنَّهُمْ كانُوا.. أي إن هؤلاء. يَسْتَكْبِرُونَ عن كلمة التوحيد أو على من يدعوهم إليها. لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا ص. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد من الله تعالى عليهم، فإن هذا النبي ص جاء بالقرآن المشتمل على الوعد والوعيد، وإثبات الآخرة. والمعنى: إن ما جاء به من التوحيد حق ثبت بالبرهان، وتوافق عليه المرسلون. المناسبة: بعد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته ووحدانيته، وإثبات القيامة، ذكر تعالى أحوال الكفار في الآخرة حيث يساقون إلى نار جهنم، دون أن يجدوا لهم نصيرا وعونا يخلصهم من العذاب، ثم يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والمتبوعون، ولكنهم جميعا متساوون في العذاب، بسبب إعراضهم استكبارا عن كلمة التوحيد في الدنيا، وافترائهم على الرسول ص بأنه لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ مع أنه جاء بالحق الثابت الذي لا محيد عنه وهو التوحيد الذي دعا إليه المرسلون جميعا. التفسير والبيان: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب: وهم الظالمون المشركون، وأزواجهم أمثالهم وأشباههم، ومعبودوهم الذين كانوا يعبدونهم من غير الله، من الأوثان والأصنام معا، زيادة لهم في الحسرة والتخجيل على شركهم ومعصيتهم. والظلم هنا: الشرك، لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] . فهذا خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات وأنواعهم وضرباءهم.

يحشر المشركون وأشباههم في الشرك ومتابعوهم في الكفر ومشايعوهم في تكذيب الرسل وقرناؤهم من الشياطين، يحشر كل كافر مع شيطانه. كذلك يحشر أصحاب المعاصي مع بعضهم، فيجمع أهل الزنى معا، وأهل الربا معا، وأصحاب الخمر معا.. وهكذا. فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي أرشدوا وعرّفوا هؤلاء المحشورين طريق جهنم، زيادة في ازدرائهم والتهكم بهم. وَقِفُوهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي احبسوهم في الموقف للحساب والسؤال عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا. وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن مسعود: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» . ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا، كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين؟. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله، لا يخالفونه، ولا يحيدون عنه، لعجزهم عن الحيلة، فلا ينازعون في شيء أبدا. وفي هذا الموقف في ساحات القيامة، يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم الأتباع والرؤساء من هؤلاء الكفار، يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة، في موقف القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، كما في آية: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [إبراهيم 40/ 48- 47] .

قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي قال الأتباع للرؤساء: إنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير، فتصدوننا عنه. وقيل: إن اليمين مجاز مستعار من القوة والقهر، أي كنتم تأتوننا من ناحية القهر والقوة وبحكم السيطرة والرياسة لكم علينا في الدنيا، حتى تحملونا على الضلال، وتقسرونا عليه. وقيل: تأتوننا من جهة الدّين، فتهونون علينا أمره وتنفروننا عنه، كما هو الشأن اليوم في كثير من الرؤساء والرفاق. وكلمة قالُوا جواب عن سؤال مقدر، فهو استئناف بياني. فأجاب الرؤساء بجوابين: 1- قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي بل إنكم أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه، مختارين الكفر، فقلوبكم هي القابلة للكفر والعصيان، وكنتم من الأصل على الكفر. وكلمة قالُوا أي المخاطبون وهم قادة الكفر أو الجن. 2- وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي لم يكن لنا عليكم من حجة وتسلط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم، بل كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر، ومجاوزة للحق الذي جاءتكم به الأنبياء، وكنتم مختارين الطغيان، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الدين الحق، وما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة اختيارا لا جبرا. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي وجب علينا وعليكم حكم ربنا، ولزمنا قول ربنا، وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فلنذوقن ما وعدنا به، ونحن ذائقو العذاب لا محالة يوم القيامة. قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: إِنَّا لَذائِقُونَ إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.

فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي إنا أضللناكم، ودعوناكم إلى الضلالة، وإلى ما نحن فيه من الغواية، فاستجبتم لنا. ثم بعد هذا النقاش والجدل بين الأتباع والرؤساء، وصف الله تعالى العذاب الذي يحل بالفريقين، فقال: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي إن التابعين والمتبوعين أو الأتباع والقادة مشتركون حينئذ جميعا في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والكفر، والجميع في النار، كل بحسبه. واشتراكهم في العذاب عدل ككل المجرمين الكافرين، لذا قال تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين، ويجازى كل عامل بما قدم. وسبب العذاب هو ما قاله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ أي إنهم كانوا إذا دعوا إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، استكبروا عن القبول، وأعرضوا عن قولها كما يقولها المؤمنون. وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون، يسرح في الخيال، ويخلط في الأقوال، يعنون رسول الله ص. وبهذا أنكروا في الكلام الأول الوحدانية، وفي الثاني أنكروا الرسالة. فرد الله عليهم تكذيبا لهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن النبي ص جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له، وأوله التوحيد، وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به

فقه الحياة أو الأحكام:

من التوحيد والوعد والوعيد وإثبات المعاد، ولم يخالفهم في تلك الأصول، ولا جاء بشيء يغاير ما أتوا به من قبله، فكيف يصح وصفه بالشاعر أو المجنون؟ قال تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت 41/ 43] وقال سبحانه: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر 35/ 31] . فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يلي: 1- يحشر الملائكة ويسوقون بأمر الله تعالى الكفار إلى موقف السؤال، وهم ثلاثة أنواع: الظالمون، وأزواجهم (أمثالهم) والأشياء التي كانوا يعبدونها. والمراد بالظالمين: الكافرون، لكونهم عابدين لغير الله تعالى. وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر، ويفهم منه أن كل وعيد ورد في حق الظالم، فالمراد منه الكفار، ويؤكده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] . وقوله تعالى: وَأَزْواجَهُمْ فسر بأقوال ثلاثة الظاهر منها أولها، ويجوز إرادتها كلها: الأول- أشباههم من الكفرة، فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا، لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة 56/ 7] . الثاني- قرناؤهم من الشياطين، لقوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف 7/ 202] . الثالث- المراد: نساؤهم اللواتي على دينهم. 2- يوقف الكفار للحساب ثم يساقون إلى النار، فيكون الإيقاف أو الحبس قبل السوق إلى الجحيم، ويكون بين الآيتين فَاهْدُوهُمْ ووَ قِفُوهُمْ تقديم

وتأخير. وقيل: يساقون إلى النار أولا، ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار، ويكون سؤالهم عن عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم. وهذا كله دليل على أن الكافر يحاسب. 3- يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، فيمنعه من عذاب الله. 4- في ذلك الموقف الرهيب لا حيلة لهم، وهم منقادون خاضعون لأمر الله، مستسلمون لعذاب الله عز وجل. 5- تظهر هناك صورة من النقاش والجدل والتخاصم والتلاوم بين الرؤساء والأتباع، لقوله سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم بعضا، والمراد بالتساؤل: التخاصم، فليس المقصود منه تساؤل المستفهمين، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم. يقول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها، أو تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح، أو تأتوننا من قبل الدّين، فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قال القرطبي عن الأخير: وهذا القول حسن جدا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدّين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة. وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات 37/ 93] أي بالقوة، وقوة الرجل في يمينه.

فيجيبهم الرؤساء: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لم تؤمنوا قط حتى ننقلكم من الإيمان إلى الكفر، بل كنتم على الكفر وألفتموه. ولم يكن لنا عليهم سلطان وقهر وحجة في ترك الحق، بل كنتم قوما ضالين متجاوزين الحد، فوجب علينا وعليكم قول ربّنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما أخبر الله على ألسنة الرسل: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] . وقالوا أيضا: لقد أغويناكم وأضللناكم، أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر، إنا كنا غاوين بالوسوسة والاستدعاء. 6- ثم أخبر الله تعالى عنهم: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي يكون القادة والأتباع جميعا في نار جهنم، سواء الضال والمضل، كل بحسبه. 7- إن مقتضى العدل الإلهي والسنن الرباني أن يعاقب المجرمون المشركون على جرمهم العظيم، وهو إنكار الوحدانية والاستكبار عن كلمة التوحيد، وتكذيب الرسل، أو التكذيب بالتوحيد، والتكذيب بالنبوة. وقد صدر منهم الأمران جميعا، أما إنكار التوحيد ففي قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ وأما تكذيب الرسل فهو في قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي لقول شاعر مجنون، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. فردّ الله عز وجل عليهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن الرسول ص جاء بالقرآن والتوحيد، وصدّق الأنبياء المرسلين قبله فيما جاؤوا به من التوحيد ونفي الشريك.

جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين المخلصين [سورة الصافات (37) الآيات 38 إلى 61] :

جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين المخلصين [سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 61] إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) الإعراب: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الْعَذابِ: مجرور بالإضافة، من إضافة الفاعل لمفعوله. وقرئ بنصب العذاب على تقدير النون في لَذائِقُوا كما يقال: ولا ذاكر الله إلا قليلا. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فَواكِهُ: بدل من رِزْقٌ في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ظرف أو حال من ضمير مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك. وكذلك عَلى سُرُرٍ إما حال أو خبر.

البلاغة:

لا فِيها غَوْلٌ غَوْلٌ: مبتدأ، وفِيها: خبره، ولا يجوز أن يبنى غَوْلٌ مع لا للفصل بينهما ب فِيها. هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بفتح نون مُطَّلِعُونَ وقرئ بالكسر، وهو ضعيف جدا، لأنه جمع بين نون الجمع والإضافة، وكان ينبغي أن يكون «مطلعيّ» بياء مشددة، لأن النون تسقط للإضافة. فَاطَّلَعَ بالتشديد، وقرئ بالتخفيف «اطلع» وهما فعلان ماضيان. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى مَوْتَتَنَا: منصوب على المصدر، كأنه قال: ما نحن نموت إلا موتتنا الأولى، كما تقول: ما ضربت إلا ضربة واحدة. البلاغة: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ التفات من الغيبة إلى الخطاب من إنهم إلى إنكم، لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم. قاصِراتُ الطَّرْفِ كناية، كنّى بذلك عن الحور العين، لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا. المفردات اللغوية: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسل إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم، أو جزاء ما عملتم إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين أخلصوا لله في العبادة، أو أخلصهم الله لعبادته واصطفاهم لدينه، وهو استثناء منقطع أُولئِكَ لَهُمْ في الجنة رِزْقٌ مَعْلُومٌ أي معروف الخصائص من الدوام والانتظام وتمحض اللذة فَواكِهُ ما يؤكل تلذذا لا لحفظ الصحة والتغذي، لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظها، بخلق أجسامهم للأبد وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولهم من الله إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه تعالى ولقائه في الجنة. وهم أيضا مكرمون في نيل الرزق، فإنه يصل إليهم من غير تعب ولا سؤال، كما عليه رزق الدنيا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي على أسرّة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، كل منهم مسرور بلقاء أخيه، لا ينظر بعضهم قفا بعض. يُطافُ عَلَيْهِمْ على كل منهم بِكَأْسٍ بإناء فيه الشراب مِنْ مَعِينٍ أي من خمر يجري على وجه الأرض، كالعيون والأنهار بَيْضاءَ

أشد بياضا من اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لمن شربها، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب، قال الحسن البصري: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، له لذة لذيذة لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، بخلاف خمر الدنيا. قرئ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: سكر، فهو نزيف ومنزوف. قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم عِينٌ أي ضخام الأعين حسانها، جمع عيناء: وهي المرأة الواسعة العين مع حسنها كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبههن في الصفاء والبياض المخلوط بشيء من الصفرة ببيض النعام المستور بريشه من الريح والغبار. والمكنون: المصون من الغبار ونحوه. وهذا اللون وهو البياض المشوب بصفرة أحسن ألوان النساء. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبل بعض أهل الجنة على بعض، حال شربهم، يسألون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة قَرِينٌ خليل وصاحب في الدنيا، كافر بالبعث، منكر له. لَمَدِينُونَ مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها، بعد أن صرنا ترابا وعظاما؟ قالَ المؤمن ذلك القائل لإخوانه مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لننظر حال ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف منزلته في النار؟ فَاطَّلَعَ ذلك المؤمن إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ رأى قرينه في وسط النار قالَ له شماتة إِنْ كِدْتَ قاربت، وإِنْ: مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة لَتُرْدِينِ لتهلكني بإغوائك وتوقعني في النار وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي ورحمته علي بالإيمان والهداية لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار، المسوقين للعذاب أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أي أنحن مخلدون غير ميتين؟ وهو قول أهل الجنة إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى غير موتتنا التي في الدنيا، وهذا قول صادر من دواعي الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فهو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى، من تأييد الحياة وعدم التعذيب وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي لسنا بمعذبين. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن ما فيه أهل الجنة من النعمة والخلود والأمن من العذاب، لهو الفوز الساحق الذي لا يقدر قدره. ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل الجنة، وأن يكون كلام الله تقريرا لما يقولون. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي هذه هي التجارة الرابحة، وهو الهدف الأمثل الذي يسعى إليه العاملون، لا العمل للدنيا الزائفة، فلنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا لحظوظ الدنيا المشوبة بالآلام، السريعة الزوال. ويحتمل أن يكون هذا أيضا من كلام أهل الجنة أو كلام الله.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى تكذيب الكفار بالتوحيد وبالنبوة، نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، مبينا أن حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال لا فائدة فيه، فإن العذاب شامل الفريقين، وأن الجزاء العدل في الآخرة على وفق العمل في الدنيا، ثم استثنى الله تعالى العباد الذين اصطفاهم لطاعته، وأخلصوا العبادة لربهم، فهم في ألوان متنوعة من النعيم المادي في الجنة من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكذا من النعيم المعنوي حيث لا يشغلهم همّ ولا نصب، ويستذكرون أحوالهم في الدنيا، وأحاديثهم مع بعض القرناء الأخلاء. التفسير والبيان: يبين الله تعالى حال المكذبين الضالين، وهو أيضا خطاب للناس، فيقول: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي إنكم أيها الكفار لتذوقن العذاب المؤلم في نار جهنم الذي يدوم ولا ينقطع. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن جزاء كم لحق وعدل لا ظلم فيه، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي، فهي سبب الجزاء: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 19] . بعد بيان حال المجرمين المتكبرين عن قبول التوحيد المصرّين على إنكار النبوة، ذكر تعالى حال المخلصين في كيفية الثواب، فقال: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولكن عباد الله الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده، وأخلصوا العمل لله، ناجون لا يذوقون العذاب ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم، كما

قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. [العصر 103/ 1- 3] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.. [المدثر 74/ 38- 39] . والْمُخْلَصِينَ صفة مدح، لأن كونهم عباد الله يلزم منه أن يكونوا مخلصين. ولهؤلاء المخلصين رزق من الله، معلوم حسنه وطيبه ودوامه دون انقطاع في الجنة، يعطونه بكرة وعشيا، وإن لم يكن ثمة بكرة وعشية، فيتمتعون بلذيذ الفواكه المتنوعة أي الثمار كلها، فهي أطيب ما يأكلونه، وذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم، فهم يخدمون ويرفهون، ولهم أيضا إكرام عظيم برفع درجاتهم في الجنة عند ربهم، ويسمعون كلامه ويلقونه في رحاب الجنان. وفي هذا دلالة على أن تناولهم الفاكهة إنما هو تلذذ لا للتغذي والقوت، لأنهم مستغنون عنه، لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد. ووصف رِزْقٌ بمعلوم، أي عندهم. وبعد بيان مأكولهم، وصف الله تعالى مساكنهم، فقال: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي إن هذا الرزق يأتيهم في جنات ذات نعيم مقيم ومتاع دائم، وهم على أسرة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، بسرور وابتهاج، لا ينظر بعضهم في قفا بعض، فصاروا يجمعون بين المتعة المادية الجسدية، والمتعة الروحية الإنسانية. وبعد بيان صفة المأكل والمسكن ذكر تعالى صفة الشراب، فقال: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي يدار عليهم بآنية من خمر تجري في أنهر، والمعين: الماء الجاري، فهي تخرج من العيون كما يخرج الماء دون انقطاع، وسمي معينا لظهوره.

ثم وصف الله تعالى خمر الجنة البعيدة عن آفات خمر الدنيا، فقال: بَيْضاءَ لَذَّةٍ «1» لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي ذات لون أبيض شديد البياض، لذيذة الطعم، طيبة الرائحة، لا كخمر الدنيا المرّة ذات النكهة المزعجة، وهي لا تذهب بالعقول، ولا تؤدي إلى صداع الرأس، ووجع البطن، وأنواع الأمراض، كما هو شأن خمر الدنيا، فهي بخلاف خمر الدنيا في جميع تلك الأوصاف، لا تضر النفس والعقل والمال والشخصية، بسبب نزع مادة الغول أي الكحول منها. وفي هذا إيماء إلى مفاسد خمر الدنيا من صداع وفساد وسكر، وعربدة وهذيان، وإفساد للدم، وجهاز الهضم كله. وبعد بيان صفة مشروبهم ذكر تعالى صفة زوجاتهم، فقال: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ أي لديهم زوجات عفيفات، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يردن غيرهم، ذوات عيون واسعة حسان. والعين جمع عيناء: وهي النجلاء الواسعة في جمال، الحسناء المنظر، وبه يتبين أنه تعالى وصف عيونهن بالحسن والعفة، كما قال تعالى في الحور العين: خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن 55/ 70] . كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي كأن ألوانهن من البياض المشوب بأدنى الصفرة، كالبيض المحصون المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي، ولم يتلوث بالريح والغبار. وهذا اللون أحسن ألوان النساء. وبعد بيان ألوان المتعة المادية لأهل الجنة في المآكل والمشارب والمساكن والأزواج، ذكر الله تعالى بعض أنواع المتع النفسية، فقال:

_ (1) لذة: صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم بعضهم حال شربهم واجتماعهم ومعاشرتهم في مجالسهم، يسأل بعضا آخر عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من تمام نعيم الجنة. ومن موضوعات التساؤل قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي قال مؤمن من أهل الجنة: كان لي صاحب في الدنيا كافر بالبعث منكر له، يقول: أنحن إذا متنا وصرنا ترابا متفتتا وعظاما بالية، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا، ومبعوثين نجازى على ما قدمنا في الدنيا؟ فذلك أمر مستحيل غير معقول ولا مقدور لأحد، فهل أنت مصدق مثل هذه الخرافات؟ قالَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ قال المؤمن لجلسائه: انظروا معي إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف يعذب، وكيف يجازى الجزاء الأوفى؟ فَاطَّلَعَ، فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي فنظر ذلك المؤمن إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسط جهنم، يتلظى بحرّها. قالَ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي قال المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ: لقد قاربت أن توقعني في الردى والهلاك بالإغواء، وتهلكني بدعوتك إياي إلى إنكار البعث والقيامة، ولولا رحمة ربي وعصمته من الضلال، وتوفيقه وإرشاده لي إلى الحق، وهدايته لي إلى الإسلام، لكنت من المحضرين معك في النار للعذاب. ثم عاد ذلك المؤمن إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بما أنعم عليهم من نعيم الجنة الدائم: أنحن مخلّدون منعّمون أبدا، فلا نموت إلا الموتة الأولى الحادثة في الدنيا، ولسنا معذّبين كما يعذّب الكفار أصحاب النار؟ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله لهم ألا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما هم فيه من العذاب يتمنون الموت كل ساعة. والمؤمن يقول هذا القول تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه توبيخا له، يزداد به عذابا، وأما المؤمن فيسعد ويغبط نفسه بالخلود في الجنة، والإقامة في النعيم، بلا موت ولا عناء. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي إن هذا النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العميم الذي نحن فيه لهو النجاح الباهر، والفوز الأكبر الذي لا يوصف، ولمثل هذا النعيم والفوز، ليعمل العاملون في الدنيا، ليحظوا به، لا أن يعملوا فحسب لحظوظ الدنيا الفانية، المقترنة بالمخاطر والآلام والمتاعب الكثيرة. والخلاصة: أن المطلوب هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة، لا أن يقصر العمل على المكاسب الدنيوية فقط. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن عذاب الكفار والمجرمين أمر حق وعدل ومؤكد الوقوع. 2- هذا الجزاء يكون بسبب العمل المنكر وهو الشرك والمعاصي، وهذا رد على من قد يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟

3- إن تنفيذ الأمر الإلهي واجتناب القبيح والمعصية يتطلبان الترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، لذا استثنى الله من الإخبار بالعذاب عباده الذين أخلصوا العمل لله تعالى، فهم ناجون غير معذبين. 4- إن ثواب المؤمنين المخلصين هو الجنة، وفيها الرزق المعلوم الصفات وهو الدائم الذي لا ينقطع، المشتمل على أطيب المآكل من الثمار المختلفة الرطبة واليابسة، في بساتين يتنعمون فيها، ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه. ولا ينظر بعضهم في قفا بعض، وإنما يجلسون على أسرّة يتكئون عليها متقابلين وجها لوجه، غير متدابرين. وذلك الرزق مشتمل أيضا على أطيب المشارب من خمور تقدم لهم بكؤوس مترعة، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها، وإنما تجري كما تجري العيون على وجه الأرض، وخمر الجنة أشد بياضا من اللبن، طيبة الطعم، وطيبة الريح، لا تغتال عقولهم، ولا تذهب بها بشربها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع، ولا يسكرون منها. ولهم أزواج من النساء العفيفات اللاتي قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، وهن حسان العيون، ذوات جمال ولون بديع كبيض النعام المصون، يخالط لونها صفرة قليلة، وهو أحسن ألوان النساء. 5- يتجاذب أهل الجنة أطراف الأحاديث المسلّية التي يتذكرونها في الدنيا، إتماما للأنس في الجنة، فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا. ومن موضوعات أحاديثهم: قصة المؤمن والكافر، يقول المؤمن من أهل الجنة: كان لي في الدنيا قرين أي صديق ملازم، فسألني متعجبا: هل أنت من

المصدقين بالبعث والجزاء؟ وهل نحن مجزيون محاسبون بعد الموت، وهل يعقل أن نعود أحياء بعد أن متنا وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟ وتتمة الموضوع أن يقول المؤمن لأهل الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين ومآله؟ فلم يفعلوا، وإنما اطلع هو، فوجد قرينه معذبا في وسط النار. فيقول له موبخا: والله، لقد قاربت أن توقعني في النار، وتهلكني، ولولا فضل ربي ورحمته وعصمته من الضلال والباطل، وإنعامه بالإرشاد والتوفيق إلى الحق، لكنت محضرا معك في النار مثلك. 6- ثم يعود ذلك المؤمن إلى خطاب جلسائه الذين هم من أهل الجنة، بعد أن يعلموا أنهم لا يموتون حين يمثل الموت بصورة كبش أملح فيذبح، بعد أن كانوا لا يعلمون بذلك في أول دخولهم في الجنة، فيقول مغتبطا مبتهجا: أنحن مخلّدون منعّمون، فما نحن بميتين ولا معذّبين؟ 7- النتيجة من القصة والحديث المتبادل: هي أن الظفر بنعيم الجنان هو الفوز الأعظم، ولمثل هذا العطاء والفضل ينبغي أن يعمل العاملون العمل الصالح المؤدي إلى تلك النعمة الكبرى. وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، ويحتمل أن يكون هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا، أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، فليعمل العاملون لمثل هذا، كما تقدم إيجازه.

جزاء الظالمين وأنواع العذاب في جهنم [سورة الصافات (37) الآيات 62 إلى 74] :

جزاء الظالمين وأنواع العذاب في جهنم [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) الإعراب: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: إما وصف لشجرة، وإما خبر بعد خبر، وإما في موضع نصب على الحال من ضمير تَخْرُجُ. وفِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: اي منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. البلاغة: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ في قوله: خَيْرٌ أسلوب تهكمي للتهكم بهم. مُنْذِرِينَ الْمُنْذَرِينَ بينهما جناس ناقص، يراد بالأول الرسل، وبالثاني الأمم. طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ تشبيه مرسل مجمل حذف منه وجه الشبه، أي في الهول والشناعة وتناهي القبح. المفردات اللغوية: أَذلِكَ المذكور لهم. خَيْرٌ نُزُلًا ضيافة، والنزل: ما يعد للنازل ضيفا وغيره من طعام وشراب. أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شجرة معدة لأهل النار، وهي شجرة صغيرة الورق تنبت

المناسبة:

بتهامة، لها ثمر مرّ كريه الرائحة، يكره أهل النار على تناوله، فهم يتزقمونه. والتزقم: البلع مع الجهد والألم. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي أنبتناها في قعر جهنم، لتكون محنة للكافرين من أهل مكة، إذ قالوا: كيف ذلك، والنار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ ولم يعلموا أن من قدر على خلق ما يعيش في النار، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق، وهناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق. فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي تنبت في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. طَلْعُها ثمرها أو حملها المشبّه بطلع النخل، وأصل الطلع: ثمر النخلة أول ظهوره، أطلق على ثمر هذه الشجرة مجازا. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ شبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئي، للدلالة على أن ثمرها في غاية القبح، ونهاية البشاعة، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، وقيل: الشياطين: حيات هائلة قبيحة المنظر، لها أعراف. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فإن الكفار لآكلون من تلك الشجرة مع قبحها لشدة جوعهم. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ الملء: حشو الوعاء بما لا زيادة عليه. لَشَوْباً الشوب: الخلط، يقال: شاب الطعام أو الشراب: خلطه بشيء آخر. حَمِيمٍ ماء شديد الحرارة، يشربونه، فيختلط بالمأكول من شجرة الزقوم، فيصير شوبا له. مَرْجِعَهُمْ مصيرهم. لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، وهذا دليل على أنهم يخرجون من النار لشراب الحميم، وأنه خارجها، لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] يوردون إليه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردون إلى الجحيم. أَلْفَوْا وجدوا. يُهْرَعُونَ يزعجون إلى اتباعهم، ويسرعون إسراعا شديدا، وهو تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. والإهراع: الإسراع الشديد. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك. أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم الماضية. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي مصير الكافرين من الأمم وهو العذاب. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلا الذين تنبهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم لله، فنجوا من العذاب، والمخلصين: بفتح اللام: هم الذين أخلصهم الله للعبادة والطاعة، وبكسر اللام: هم الذين أخلصوا في العبادة. المناسبة: بعد بيان ما أعده الله تعالى للأبرار في جنات النعيم من مآكل ومشارب وغيرها، ذكر تعالى ما أعده للأشرار في نار جهنم، من أنواع المآكل والمشارب بسبب تقليدهم الآباء في الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أهذا المذكور من نعيم الجنة وما فيها مآكل ومشارب وملاذ وغيرها خير ضيافة وعطاء، أم شجرة الزقوم ذات الطعم المرّ الشنيع، التي في جهنم؟ وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم، فهو طعام أهل النار يتزقمونه، وهو نزلهم وضيافتهم. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين، حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها، فقالوا: كيف تكون الشجرة في النار، والنار تحرق ما فيها؟ وهذا الاستبعاد لجهلهم بأن بعض الأشياء غير قابل للاحتراق، ولأنهم لم يعلموا ولم يلاحظوا أن من قدر على خلق إنسان يعيش في النار، فهو أقدر على خلق شجر فيها لا يحترق. وصفات تلك الشجرة ما قاله تعالى: 1- إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي إنها شجرة تنبت في قعر النار وقرار جهنم، وترتفع أغصانها إلى دركاتها. 2- طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي إن ثمرها وما تحملها كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره كأنه رؤوس الشياطين، تبشيعا لها وتكريها لذكرها، فشبّه المحسوس بالمتخيل غير المرئي، والعرب تشبّه قبيح الوجه بالشيطان، وتشبه جميل الصورة بالملك، كما جاء في القرآن حكاية على لسان صواحبات يوسف عليه السلام: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] . وقيل: إن الشياطين هي حيّات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات.

ثم ذكر الله تعالى أن هذه الشجرة مأكل الكفار أهل النار، فقال: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي إنهم يأكلون من ثمر هذه الشجرة السيء الريح والطعم والطبع، فيملئون بطونهم منه، بالإكراه والاضطرار، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها، كما قال تعالى: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية 88/ 6- 7] فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. روى ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ص تلا هذه الآية، وقال: «اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟» «1» . وبعد وصف طعامهم، وصف تعالى شرابهم بما هو أبشع منه، قائلا: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي ثم إن لهم بعد الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم. والمقصود من كلمة ثُمَّ بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول. ومكان هذا الماء خارج جهنم، لقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار الجحيم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، مما يدل على أن الحميم في موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردّون إلى الجحيم، كما قال تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] .

_ (1) قال الترمذي: حسن صحيح.

وبعد وصف عذابهم في أكلهم وشربهم ذكر الله تعالى علة العذاب قائلا: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي إنهم وجدوا وصادفوا آباءهم على الضلال، فاقتدوا بهم وقلدوهم، من غير تعقل ولا تدبر، ولا حجة وبرهان، فهم يتبعون آباءهم في سرعة، كأنهم حرّضوا على ذلك، وأزعجوا إلى اتباع آبائهم. ثم بيّن الله تعالى أن الكفر ظاهرة قديمة، وأتباعه كثر، تسلية للرسول ص في كفر قومه وتكذيبهم، فقال: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أي إن أكثر الأمم الماضية كانوا ضالين، يجعلون مع الله آلهة أخرى. ولكن رحمته تعالى لم تتركهم دون إنذار، فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي أرسل الله في الأمم الماضية أنبياء ورسلا ينذرونهم بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به، وعبد غيره، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلكهم الله، كما قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فانظر أيها الرسول والمخاطب كيف كان مصير الكافرين المكذبين، أهلكهم الله ودمّرهم وصاروا إلى النار، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ثم استثنى تعالى منهم المؤمنين قائلا: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن نجى الله عباده الذين اصطفاهم وأخلصهم لطاعته، بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، والعمل بأوامر الله، ففازوا بجنان الخلد، ونصرهم في الدنيا. ويفهم من هذه التسلية للرسول ص أنه يجب عليه أن يكون له أسوة بمن

فقه الحياة أو الأحكام:

تقدمه من الرسل، فيصبر كما صبروا، ويستمر على دعوته، وإن تمرد المرسل إليهم، فليس عليه إلا البلاغ. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- لا مجال للمقارنة بين ما أعده الله لعباده الأبرار من نعيم في الجنان، وما أعده للأشرار من عذاب في النيران. 2- إن طعام أهل النار هو الزقّوم الثمر المرّ الكريه الطعم والرائحة، العسير البلع، المؤلم الأكل، كما قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان 44/ 43- 46] . 3- إن الإخبار عن وجود شجرة الزقوم في قعر جهنم فتنة وابتلاء واختبار للكفار الذين قالوا: كيف تكون الشجرة في النار وهي تحرق النار؟ لكن كان هذا القول جهلا منهم، إذ إن هناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق، ولا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيّات والعقارب وخزنة النار. 4- وصف الله تعالى هذه الشجرة بصفتين: الأولى- إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. والصفة الثانية- ثمرها وحملها في قبحه وشناعته كأنه رؤوس الشياطين، وهذا الشبه متصور في نفوس العرب، وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح: هو كصورة الشيطان، ولكل صورة حسنة كصورة الملك. ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحبات يوسف: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] وهذا تشبيه تخييلي.

وقال الزجاج والفرّاء: الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيّات وأخبثها وأخفها جسما. 5- لا يكتفي أهل النار بتناول شيء قليل من الزقوم، وإنما يأكلون منه بالإكراه حتى تمتلئ منه بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. وبعد الأكل من الشجرة يشربون الماء المغلي الشديد الحرارة الذي يخالط طعام الزقوم، قال الله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [سورة محمد 47/ 15] . قيل: يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم، تغليظا لعذابهم، وتجديدا لبلائهم. 6- يشرب أهل النار من ماء الحميم ويأكلون الزقوم من مكان خارج جهنم، للآية: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ فهذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار، ثم يردون إليها. والحميم كما قال مقاتل خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، ثم يردون إلى الجحيم، لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] . 7- إن سبب عذابهم الذي استحقوه هو تقليدهم آباءهم في الكفر بالله وتكذيب الرسل وعبادة الأصنام والأوثان، فكأنهم يستحثون من خلفهم، ويسرعون إلى تقليدهم، ويزعجون من شدة الإسراع. 8- لقد كفر بالله وكذب الرسل وضل كثير من الأمم الماضية، ولكن الله أرسل إليهم رسلا أنذروهم العذاب فكفروا، فكان مصيرهم الدمار والهلاك وولوج النار. 9- ينجي الله دائما عباده المؤمنين الذين استخلصهم من الكفر، وأخلصوا لله النية والعمل، ففازوا بنعيم الجنان، ونصرهم الله في الدنيا.

قصة نوح عليه السلام [سورة الصافات (37) الآيات 75 إلى 82] :

قصة نوح عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) الإعراب: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فلنعم المجيبون نحن، كقوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص 38/ 44] أي أيوب. سَلامٌ عَلى نُوحٍ سَلامٌ: مبتدأ، وعَلى نُوحٍ: خبره، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنه في معنى الدعاء، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين 83/ 1] وقرئ سلاما بالنصب على أنه مفعول تَرَكْنا تقديره: تركنا عليه في الآخرين سلاما، أي ثناء حسنا. البلاغة: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ كناية، كنى بذلك عن الذكر الجميل والثناء الحسن. المفردات اللغوية: نادانا نُوحٌ دعانا حين أيس من قومه، فالمراد من النداء الاستغاثة، بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] . فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ له نحن، اي فأجبناه أحسن الإجابة، والتقدير: فو الله لنعم المجيبون نحن، فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه. ونوع الجواب: أنا أهلكناهم بالغرق. مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي الغرق أو أذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي أبقينا ذريته متناسلين إلى يوم القيامة، فالناس كلهم من نسله عليه السلام، وكان

المناسبة:

له ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام: وهو أبو السودان، ويافث: أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج من الصين واليابان ونحوهم. روي أنه مات كل من معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا بين الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، فمفعول وَتَرَكْنا محذوف، كما في الثناء السابق بقوله: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ هذا الكلام جيء به على الحكاية، والمعنى: يسلمون عليه تسليما، أي يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. وقيل: هو سلام من الله عليه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء الذي جازيناه نجزي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لإحسانه بالإيمان، إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي كفار قومه. المناسبة: هذه الآيات شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، فبعد ذكر ضلال كثير من الأمم السابقة في قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أتبعه بتفصيل قصص الأنبياء عليهم السلام، وهذه هي القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام مع قومه، في بيان بليغ موجز. التفسير والبيان: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي تالله لقد دعانا نوح عليه السلام، واستغاث بنا، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] بعد أن طال دعاؤهم إلى الإيمان، فكذبوه وآذوه وهموا بقتله ولم يؤمن معه إلا القليل، مع طول المدة التي لبثها فيهم وهي ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يزدهم دعاؤه إلا فرارا. فأجاب الله دعاءه أحسن الإجابة، وأهلك قومه بالطوفان. أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ص إذا

صلّى في بيتي، فمرّ بهذه الآية: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال: صدقت ربنا، أنت أقرب من دعي، وأقرب من بغي، فنعم المدعو، ونعم المعطي، ونعم المسؤول، ونعم المولى، أنت ربنا، ونعم النصير» . وبعد بيان أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه: 1- وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي ونجينا نوحا وأهل دينه، وهم من آمن معه وهم ثمانون، من الغم الشديد وهو الغرق. 2- وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة، وأهلكنا من كفر بدعائه، ولم نبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده وذريته. والآية تفيد الحصر، وهو يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا. قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك. 3- وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا له ثناء حسنا فيمن يأتي بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي وقلنا: عليك يا نوح سلام منا في الملائكة وعالمي الإنس والجن. أو معناه أن الذي أبقي عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن: أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم. ويؤيد التفسير الأول آية: قِيلَ: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود 11/ 48] . وعلة أنواع الإنعام السابقة ما قاله تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عز وجل، أو خصصنا نوحا عليه السلام بتلك النعم التي منها إبقاء ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسنا. وعلة إحسانه ما قاله سبحانه: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي إن السبب في كون نوح محسنا هو كونه عبدا لله مؤمنا. وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أغرقنا كفار قومه بالطوفان وأهلكناهم، ولم نبق منهم أحدا، وتلك عظة وعبرة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق 50/ 37] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت قصة نوح عليه السلام على الآتي: 1- أجاب الله تعالى دعاء نوح عليه السلام بإهلاك قومه، فالداعي مضطر، والمدعو وهو الله عز وجل نعم المقصود المجيب. 2- كانت النعمة العظمى هي إجابة الدعاء، وكانت مظاهر الإنعام على نوح ثلاثة: هي نجاة نوح ومن آمن معه، وجعل ذريته أصول البشر والأعراق والأجناس، وإبقاء الذكر الجميل والثناء الحسن. وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل، بدليل قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الإسراء 17/ 3] . ومما أبقي عليه: السلام الدائم في الأنبياء والأمم، أو أن الله كافأه أيضا بالسلام منه عليه سلاما يذكر بين الأمم إلى يوم القيامة.

قصة إبراهيم عليه السلام:

3- أهلك الله بالغرق قوم نوح عليه السلام، ولم يبق أثرا لذريتهم. 4- وتلك النعم على نوح لأجل أنه كان محسنا، وعلة إحسانه أنه كان عبد الله المؤمن المصدّق الموحد الموقن. قصة إبراهيم عليه السلام - 1- تحطيم الأصنام [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 101] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) الإعراب: أَإِفْكاً آلِهَةً إفكا: منصوب ب تُرِيدُونَ تقديره: أتريدون إفكا، وآلِهَةً بدل منصوب من «إفكا» .

البلاغة:

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ما: مصدرية في موضع نصب بالعطف على الكاف والميم في الفعل المتقدم، وهي مع الفعل مصدر، تقديره: خلقكم وعملكم. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع نصب ب تَعْمَلُونَ على التحقير لعملهم والتصغير له، والوجه الأول أظهر. البلاغة: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سَقِيمٌ الْجَحِيمِ حَلِيمٍ بينها ما يسمى بمراعاة الفواصل من المحسنات البديعية، زيادة في الروعة والجمال. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ في جاءَ استعارة تبعية، شبه إقباله على ربه مخلصا بمن قدم على الملك بهدية ثمينة، ففاز بالرضى والقبول. ابْنُوا لَهُ بُنْياناً بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: شِيعَتِهِ ممن سار على دينه ومنهاجه في الإيمان وأصول الشريعة، قال البيضاوي: «ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا، وكان بينهما ألفان وست مائة وأربعون سنة (2640) وكان بينهما نبيّان: هود وصالح صلوات الله عليهم» . وأصل كلمة الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر، فهم متشيعون له، ثم صارت بعد موت سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تطلق على جماعة خاصة في مواجهة أهل السنة. إِذْ جاءَ رَبَّهُ أي اذكر، فهو متعلق بمحذوف، وحقيقة المجيء بالشيء: نقله من مكانه، والمراد هنا الإقبال على الله سليم القلب مخلصا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشك وغيره، الناصح لله في خلقه، السالم من جميع العلل والآفات النفسية كالرياء وغيره من النيات السيئة إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ موبخا، وهو في هذه الحالة السليمة وإِذْ بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء. ماذا تَعْبُدُونَ ما الذي تعبدون؟. أَإِفْكاً الإفك: أسوأ الكذب آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون آلهة من دون الله للإفك، أي أتعبدون غير الله؟ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، وما ترون يصنع بكم؟ والمعنى: إنكار ما يوجب ظنا، فضلا عن قطع (أي يقين) يصدّ عن عبادته، وهو كالحجة على ما قبله. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أوهمهم أنه يعتمد على النجوم، حين سألوه أن يعبد معهم فَقالَ: إِنِّي سَقِيمٌ مريض عليل، أراد أن يتخلف عنهم في خروجهم من الغد يوم عيد لهم،

المناسبة:

فاعتل بالسقم فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي تركوه وذهبوا إلى عيدهم فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ذهب أو مال خفية إلى أصنامهم وعندها الطعام، ومنه يقال: روغان الثعلب أي الميل فَقالَ: أَلا تَأْكُلُونَ قال استهزاء وسخرية: ألا تأكلون من الطعام الذي صنعوه لكم؟ فلم ينطقوا. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ لا تجيبوني، وقد علم أنها جمادات لا تنطق فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ مال عليهم يضربهم بقوة وشدة، فكسرهم فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون المشي، لما علموا بما صنعه بها، فقالوا: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ قالَ: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي قال لهم موبخا: أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي خلقكم وخلق الذي تصنعونه، فاعبدوه وحده. قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي تشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له بنيانا من حجارة، ويملأوه حطبا، ويضرموه، ثم يلقوه فيه. والجحيم: النار الشديدة فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً بإلقائه في النار لتهلكه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين، فصارت النار بعد إلقائه عليها بردا وسلاما، ولم تؤثر فيه. ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ مهاجر من بلد قومي دار الكفر إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه وهو الشام، أو إلى حيث أتمكن من عبادته هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي ولدا صالحا يعينني على طاعتك، ويؤنسني في الغربة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي بصبي ذكر يكبر ويصير حليما، أي ذا حلم كثير. المناسبة: هذه قصة ثانية تبين مدى الصلة الوثيقة والارتباط العميق بين الأنبياء في رسالاتهم، افتتحت بأن إبراهيم عليه السلام من شيعة نوح، أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه، فهما مصدر الخير والسعادة للناس، فكانت قصة إبراهيم أبي الأنبياء بعد قصة نوح أبي البشر الثاني عليهما السلام، والأول نجاه الله من الغرق، والثاني نجاه الله من النار. التفسير والبيان: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي وإن إبراهيم عليه السلام ممن سار على دين نوح عليه السلام ومنهجه وسلك طريقه في الدعوة إلى توحيد الله والإيمان به

وبالبعث، وغير ذلك من أصول الشريعة، وإن اختلفا في الفروع، وقد يكونان متفقين فيها. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي اذكر حين أقبل على ربه بقلب مخلص صادق الإيمان، خال من شوائب الشرك والشك والرياء، ناصح لله في خلقه، كأنه جاءه بتحفة من عنده لربه، فاستحق الفوز والرضوان. ومن خصاله وأعماله المجيدة: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ماذا تَعْبُدُونَ؟ أي من مظاهر إخلاصه لربه حين قال لجماعته: ما الذي تعبدونه من هذه الأصنام من دون الله؟ وهذا إنكار على عبادتهم وتوبيخ على منهجهم وخطتهم، ولوم صريح على عبادة الأصنام والأنداد، لذا قال: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون حجة ولا دليل، وما ظنكم إذا لقيتم ربكم أنه فاعل بكم، وقد عبدتم معه غيره، وما ترونه يصنع بكم؟ فهو استفهام توبيخ وتحذير وتوعد، أي أيّ شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه إذ هو رب العالمين، حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟!! فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي نظر إبراهيم في علوم النجوم وفي معانيها لا أنه نظر إليها تعظيما وتقديسا كما كان يفعل قومه، مريدا بذلك أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون. أو أن المراد تأمل في الكون والسماء وأطال الفكر، قال قتادة: إن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة: نظر في النجوم، أي أطال الفكرة فيما هو فيه.

فَقالَ: إِنِّي سَقِيمٌ أي مريض عليل، قاصدا بذلك أنه مريض القلب من إقبال قومه على الكفر والشرك وعبادة الأوثان. والخلاصة: إن نظر إبراهيم في النجوم، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ من قبيل التورية، فإنه أراد شيئا، وفهموا منه شيئا آخر، تمهيدا لخطته التي بيّتها في أن يكايد أصنامهم، حينما سيخرجون من الغد في يوم عيد لهم، وذلك بالتخلف عن الخروج معهم، دون أن يطلعوا على ما بيّت عليه النية. وبه يتبين أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم على النظر إلى النجوم كما يفعل عبدتها، فذلك غير جائز، ولم يكن كاذبا في قوله: إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي تركوه وذهبوا إلى عيدهم ومعبدهم. فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ، فَقالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ أي فمال خفية وذهب في سرعة إلى تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها، وقد وضعوا لها الطعام في عيدهم لتباركه، وقال لها تهكما واستهزاء: ألا تأكلون من هذا الطعام المقدم إليكم؟ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ أي ما الذي يمنعكم من النطق والجواب عن سؤالي؟ ومراده التهكم والاحتقار، لأنه يعلم أنها جمادات لا تنطق. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فمال عليهم يضربهم بقوة وشدة حتى حطمهم إلا كبيرا لهم، كما في سورة الأنبياء. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي فأقبل إليه قومه بعد عودتهم من عيدهم مسرعين، يسألون عمن كسرها، وقد قيل: إنه إبراهيم، وعرفوا أنه هو، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟!! ولما جاؤوا يعاتبونه، أخذ يؤنبهم ويعيبهم، فقال: قالَ: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تصنعونها وتنحتونها بأيديكم؟

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي والله هو الجدير بالعبادة، لأنه الخالق، خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم. وفيه دلالة على أن الله خلق الإنسان وخلق أعماله. روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا قال: «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» . فلما قامت عليهم الحجة لجؤوا إلى الانتقام بالقوة والإيذاء، فقالوا: قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي ابنوا له بنيانا واسعا واملؤوه حطبا كثيرا، وأضرموا فيه النار، ثم ألقوه في تلك النار المسعرة. فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي أرادوا به سوءا بحيلة ومكر، وإحراقه في النار، فأنجيناه منها، وجعلناها بردا وسلاما عليه، ولم تؤثر فيه أدنى تأثير، وجعلنا له النصر والغلبة، وجعلناهم المهزومين المغلوبين الأذلّين حيث أبطلنا كيدهم. ولما نجا إبراهيم عليه السلام ونصره الله على قومه، وأيس من إيمانهم قرر الهجرة ومفارقتهم، كما قال تعالى: وَقالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أي إني مهاجر من بلد قومي الذين آذوني، تعصبا للأصنام، وكفرا بالله، وتكذيبا لرسله، إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه، حيث أتمكن من عبادته، وإنه سيهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياي، وهو الأرض المقدسة بالشام. وهذا دليل على وجوب الهجرة من المكان إلى مكان آخر، إذا لم يتمكن المؤمن من إقامة شعائر دينه. وفي أثناء الهجرة دعا ربه بأن يرزقه الولد، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي رب هب لي ولدا صالحا يعينني على طاعتك، ويؤنسني في الغربة. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي فبشرناه بصبي ذكر يكبر ويصير ذا حلم كثير. وهذا الغلام كما قال ابن كثير: هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد، ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة (86) وولد إسحاق، وعمر إبراهيم عليه السلام تسع وتسعون سنة (99) . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الأنبياء والرسل وإن طال الزمان بينهم مهمتهم واحدة وهي الدعوة إلى توحيد الله والإيمان بالرسل وبالبعث، وإلى أصول الأخلاق والفضائل. 2- كان إبراهيم الخليل عليه السلام ذا قلب مخلص من الشرك والشك، ناصح لله عز وجل في خلقه، عالم بأن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. 3- من جملة آثار سلامة قلب إبراهيم عليه السلام أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد، فقال: ماذا تَعْبُدُونَ؟ قاصدا بذلك الكلام تقبيح طريقتهم ولومهم على فعلهم. 4- ندد بعبادتهم الأصنام، مبينا أنها إفك وأسوأ الكذب، وحذر من سخط الله حين لقائه، وقد عبدوا غيره. 5- لجأ إلى الإيهام وأخذ بالتورية في أمرين أظهر فيهما شيئا، وأراد شيئا

آخر، وهما النظر في النجوم، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ، قاصدا بالأول أنه يعلم بعلوم النجوم، وأنه تفكر فيما يعمل لما كلّفوه الخروج معهم، وبالثاني أنه سيمرض مرض الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، فتوهموا هم أنه سقيم الآن، وهذا تورية وتعريض، كما قال للملك لما سأله عن سارّة: هي أختي، يعني أخوة الدين. وفي الصحيح الذي أخرجه أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات» والكذب تعريضا والتورية أمر جائز مباح. وقيل: أراد أنه سقيم النفس لكفرهم ووثنيتهم. 6- دبر إبراهيم عليه السلام خطة ناجحة لتحطيم الأصنام، فقد مكث في البلدة حينما خرج القوم لعيدهم ومعبدهم، بعد أن قدموا طعاما لأصنامهم لتباركه بزعمهم، أو للسدنة، فجاء إليهم، وخاطبهم كما يخاطب العقلاء قائلا على جهة التهكم والاستهزاء: أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ فلم يجيبوا، وهو يعلم ذلك، فانهال عليهم ضربا بقوة وشدة، حتى دمرهم إلا كبيرا لهم، كما في سورة الأنبياء، لإلزام القوم بالحجة، وتعريفهم خطأهم وأن هذه الأصنام لا تقدر حماية أنفسها. 7- أقبل إليه القوم مسرعين، بعد أن عرفوا أن الفاعل هو إبراهيم، فقالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال محتجا: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم، والنحت: النجر والبري. ثم قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام بالخشب والحجارة وغيرهما، وبإيجاز: خلقكم وعملكم. وقد استدل أهل السنة بهذه الآية على أن الأفعال خلق لله عز وجل، واكتساب للعباد، وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية. أخرج البخاري

عن أبي هريرة مرفوعا كما تقدم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته» وأخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته، فهو الخالق، وهو الصانع سبحانه» . 8- تشاور القوم في أمر إبراهيم عليه السلام لما غلبهم بالحجة فقالوا: ابنوا له بنيانا، تملؤونه حطبا، فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. وأرادوا بإبراهيم الكيد، أي المكر والاحتيال لإهلاكه، فجعلهم الله المقهورين المغلوبين الأذلين، إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم. 9- الهجرة والعزلة واجبة إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار قالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي، فإنه سَيَهْدِينِ فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارّة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام. 10- مشروعية الدعاء بالولد، فلما عرف إبراهيم عليه السلام أن الله مخلصه، دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته، فقال: رب هب لي ولدا صالحا من الصالحين، فبشره الله تعالى على لسان الملائكة- كما تقدم في هود- بغلام يكون حليما في كبره، فكأنه بشّر ببقاء ذلك الولد، لأن الصغير لا يوصف بذلك.

- 2 - قصة الذبيح [سورة الصافات (37) الآيات 102 إلى 113] :

- 2- قصة الذبيح [سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) الإعراب: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ مَعَهُ متعلق بمحذوف لا ببلغ، فإن بلوغهما لم يكن معا، كأنه قال: فلما بلغ السعي، فقيل: مع من؟ فقيل: معه. فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأي، وليس من رؤية العين، وماذا في موضع نصب ب تَرى. ويجوز جعل فَلَمَّا استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وذا بمعنى الذي في موضع خبر المبتدأ. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ في جواب «لمّا» ثلاثة أوجه: إما محذوف تقديره: فلما أسلما رحما أو سعدا، وإما نادَيْناهُ والواو زائدة، وإما تَلَّهُ والواو زائدة، والوجه الأول أوجه. البلاغة: مُحْسِنٌ وَظالِمٌ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي وصل إلى السن التي تمكنه من أن يسعى معه في أعماله ويعينه، قيل: بلغ سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة إِنِّي أَرى أي رأيت، ورؤيا الأنبياء حق، وأفعالهم بأمر الله تعالى. قيل: إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روّى أنه من الله أو من الشيطان، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر. من الذبيح؟ قال البيضاوي: والأظهر أن المخاطب به إسماعيل، لأنه الذي وهب له إثر الهجرة، ولأن البشارة بإسحاق معطوفة على البشارة بهذا الغلام، ولقوله ص فيما رواه الحاكم في المناقب: «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جدّه إسماعيل، والآخر أبوه عبد الله، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا، إن سهل الله له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل الله له ذلك، أقرع، فخرج السهم على عبد الله، ففداه بمئة من الإبل، ولذلك ثبتت الدية مائة، ولأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة، حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة، ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا. وما روي أنه ص سئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدّيق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله» فالصحيح أنه قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي. وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك، لم يثبت «1» . وقال ابن كثير: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائف من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه- الذبيح- إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ «2» . فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأي، شاوره ليتهيأ للذبح، وينقاد للأمر به، وليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله، فيثبت، ويسلّم الأمر لله يا أَبَتِ التاء عوض عن ياء الإضافة

_ (1) تفسير البيضاوي: 595 (2) تفسير ابن كثير: 4/ 14

المناسبة:

افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي ما تؤمر به، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح أو على قضاء الله. فَلَمَّا أَسْلَما استسلما لأمر الله، وخضعا وانقادا له وَتَلَّهُ كبّه على وجهه، لئلا يرى فيه تغيرا يرق له، فلا يذبحه، أو أضجعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض. وكان ذلك عند الصخرة بمنى. والجبين: أحد جانبي الجبهة، والجبهة: بين جبينين، واللام في قوله لِلْجَبِينِ لبيان ما صرع عليه، كقوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [الإسراء 17/ 109] . صَدَّقْتَ الرُّؤْيا حققت ما طلب منك بالعزم والإتيان بالمقدمات إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزيناك نجزي المحسنين لأنفسهم بامتثال الأمر، وهذا تعليل لتفريج تلك الشدة عنهما، وهو إحسانهما إِنَّ هذا الذبح المأمور به لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الاختبار الظاهر الذي يتميز فيه المخلص من غيره. وَفَدَيْناهُ أي المأمور بذبحه، وهو إسماعيل عليه السلام على الأرجح، وقيل: إسحاق بِذِبْحٍ بكبش يذبح بدله عَظِيمٍ عظيم الجثة، سمين. واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا في الأجيال اللاحقة سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أي سلام منا عليه كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين لأنفسهم بطاعة الله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علة الإحسان. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ بشارة بولد آخر بأن يوجد إسحاق، وهو دليل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ مقضيا نبوته، مقدرا كونه من الصالحين وَبارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم في أولاده وَعَلى إِسْحاقَ ولد إبراهيم، بأن جعلنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم، أي أكثر الأنبياء من نسله، مثل أيوب وشعيب عليهما السلام. مُحْسِنٌ مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ كافر عاص مُبِينٌ بيّن الكفر، ظاهر الظلم. قال البيضاوي: وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وإن الظلم في أعقاب إبراهيم وإسحاق لا يعود عليهما بنقيصة وعيب. المناسبة: هذه تتمة القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام، فبعد أن قال سبحانه وتعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن الطاقة على العمل. ثم أتبعه بقصة الذبيح إسماعيل والفداء، ثم بشره تعالى

التفسير والبيان:

بإسحاق نبيا من الصالحين، مباركا عليه وعلى إسحاق، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما، وأن من ذريتهما محسن فاعل للخير، وظالم لنفسه بالمعاصي. التفسير والبيان: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ ماذا تَرى أي فلما كبر إسماعيل وشبّ وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي والعمل، قال الفرّاء: «كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة» قال إبراهيم لابنه المأمور بذبحه وهو ابنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال له: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟ وقد أخبره بذلك ليستعد لتنفيذ أمر الله، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله، وليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي لازم الامتثال. وأما ما ذكر في التوراة: «اذبح بكرك وحيدك إسحاق» فكلمة إسحاق من زياداتهم وتحريفهم لكتاب الله، وإلا فإن «إسحاق» لم يكن بكر إبراهيم، ولم يكن وحيده، بل الذي كان كذلك هو إسماعيل. ثم لما بذل إبراهيم ابنه للذبح وأطاع، أعطاه الله ولدا آخر هو إسحاق. فأجابه إسماعيل معلنا الطاعة قائلا: قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي قال إسماعيل: امض لما أمرك الله من ذبحي، وافعل ما أوحي إليك، سأصبر على القضاء الإلهي، وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وهذا مصداق وصفه السابق بالحلم، ومصداق ما أخبر الله عنه بقوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم 19/ 54- 55] .

وبدأ تنفيذ أمر الله، فقال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وأطاعاه، وفوّضا أمرهما إلى الله، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه حتى لا تأخذه العاطفة فيتردد في الذبح، أو ألقاه على جنبه، فوقع جبينه (جانب الجبهة) على الأرض والموضع الذي أراد ذبحه فيه: هو المنحر بمنى عند الجمار. قال مجاهد: قال إسماعيل لأبيه: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي، عسى أن ترحمني، فلا تجهز عليّ، اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي للأرض، ففعل. روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أمر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات، وثم تلّه للجبين، وعلى إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قميص أبيض، فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه: أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا أن نتتبع ذلك الضرب من الكباش. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا لما أضجعه للذبح ناداه من خلفه من الجبل ملك: قد حصل المقصود من رؤياك، وتحقق المطلوب وصرت مصدّقا بمجرد العزم، وإن لم تذبح، وأتيت بما أمكنك. ثم عدد الله تعالى نعمه على إبراهيم وهي:

1- إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثلما جازيناك بالعفو عن الذبح، والتخلص من الشدة والمحنة، نجزي كل محسن على طاعته، ونثيبه على فعله. وهو تعليل لما أنعم الله على إبراهيم وابنه من الفرج بعد الشدة والسلامة من المحنة. ثم عظم الله تعالى شأن هذه المحنة في العادة، فقال: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي إن هذا الاختبار لهو الاختبار الصعب الواضح والمحنة التي لا محنة أصعب منها، حيث اختبره الله في مدى طاعته بذبح ولده، فصبر محتسبا الأجر عند ربه. وقيل: إن هذا لهو النعمة الظاهرة، يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء: إذا أنعم عليه. 2- وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أي جعلنا له فداء ولده بتقديم كبش عظيم الجثة سمين، أو عظيم القدر. قال الحسن البصري: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى (وعل) هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. وهذا قول علي رضي الله عنه. وفي هذا دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهو مذهب المالكية، لطيب اللحم. 3- وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أي أبقينا له في الأمم القادمة ثناء حسنا وذكرا جميلا، فأحبّه أتباع الملل كلها، اليهودية والنصرانية والإسلام، وكذا أهل الشرك، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. سلام منا على إبراهيم ومن الملائكة والإنس والجن. وقيل: السلام: هو الثناء الجميل. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل هذا الجزاء نجزي جميع المحسنين بالفرج

فقه الحياة أو الأحكام:

بعد الشدة. ولم يذكر هنا «إنا» كأمثاله اكتفاء بذكره السابق عن ذكره هنا مرة ثانية. 4- وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي ووهبناه ولدا آخر وهو إسحاق، وجعلناه نبيا صالحا من زمرة الصالحين. وهذه هي النعمة الرابعة. 5- وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي تابعنا إمدادهما بالنعم والبركات الدنيوية والأخروية، ومنها كثرة الولد والذرية، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما ونسل إسماعيل. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ أي إن بعض ذريتهما محسن فاعل للخيرات، وبعضها ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي. وهذا دليل على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن النفع ليس بالوراثة والنسب أو الانتماء، وإنما الانتفاع بالأعمال، وأنه لا يعيب الأصول ولا ينتقصهم سوء بعض ذريتهم، لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 6/ 164] . فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في المنام ثلاث ليال متتابعات، لا في اليقظة بذبح ابنه، لأنه تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقا، لتقوية الدلالة على كونهم صادقين. قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. وقال سبحانه في حق يوسف عليه السلام: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف 12/ 4] . وقال تعالى في حق محمد ص خاتم النبيين: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ.. [الفتح 48/ 27] .

2- احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، فإنه سبحانه أمر بالذبح، وما أراد وقوعه. 3- احتجوا أيضا بالآية على جواز نسخ الحكم قبل وجود زمن الامتثال. 4- إن الذبيح بحسب دلالة هذه الآيات وترتيبها هو إسماعيل عليه السلام، لأنه هو المبشر به أولا، وأما إسحاق فبشّر به بعد إسماعيل، مما يدل على أن إسماعيل هو الابن الأكبر، وهو الذي كان ذبيحا بالاتفاق عند الأكثرين. ولو كان الذبيح إسحاق، لكان الذبح يقع ببيت المقدس، لا بالمنحر من منى، وهذا موضع الذبح اتفاقا. ويؤيده أدلة أخرى منها: قول النبي ص فيما رواه الحاكم في المناقب: «أنا ابن الذبيحين» أي إسماعيل، وأبيه عبد الله الذي نذر أبوه عبد المطلب أن يذبح ولدا إذا رزق عشرة من الولد، أو إذا سهل الله عليه حفر بئر زمزم، فتم له الأمران، فأقرع، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل. ومنها: ما نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي، أين عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة. ومنها: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر، دون إسحاق، في قوله تعالى: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء 21/ 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضا بصدق الوعد في قوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم 19/ 54] لأنه وعد أباه الصبر على الذبح، فوفى به. ومنها: الآثار الصحيحة المقطوع بها بان الذبيح إسماعيل عليه السلام، وهو

منقول عن ابن عباس، وابن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وأبي الطّفيل عامر بن واثلة من الصحابة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، ومجاهد، والشعبي، ويوسف بن مهران، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وعلقمة، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح من التابعين رضي الله عنهم، قالوا: الذبيح إسماعيل «1» . قال القرطبي: وهذا القول أقوى في النقل عن النبي ص وعن الصحابة والتابعين. ولكن اليهود حسدوا العرب على هذا الفضل بأن يكون أبوهم إسماعيل هو الذبيح، فزادوا في التوراة وحرفوها، ودسّوا في روايات الآثار وبعض الأحاديث أن الذبيح إسحاق، وسرى ذلك بين بعض الصحابة وبعض المسلمين محتجين بدليلين: الأول- إنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ والمراد منه بالإجماع مهاجرته إلى الشام، ثم قال: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحاق. ثم قال بعده: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ والغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحاق. وكذلك آخر الآية يدل أيضا على ذلك، لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وإنما بشره بهذه النبوة لتحمّله هذه الشدائد في قصة الذبيح، فأول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام. الثاني- ما اشتهر من كتاب يعقوب عليه السلام ونصه: «من يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 17- 19، تفسير الرازي: 26/ 153 وبعدها، تفسير القرطبي: 15/ 100، تفسير الخازن 6/ 22.

وهذا هو المروي الصحيح عن عبد الله بن مسعود: أن رجلا قال له: يا ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله عليه السلام. وروي ذلك أيضا عن عمر، وجابر، والعباس، وكعب الأحبار من الصحابة، وعن بعض التابعين مثل قتادة، ومسروق، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدّي، وعن مالك بن أنس، كلهم قالوا: الذبيح إسحاق. لكن يلاحظ أن لكعب الأحبار في هذه الأخبار ضلعا واضحا، وهي أخبار من الكتب القديمة غير موثوقة، وتلقاها بعض المسلمين عنه، وسرت فيما بينهم. وقد نقلنا عن ابن كثير والبيضاوي تفنيد هذه الروايات. وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح؟ وهذا مذهب ثالث. 5- الحكمة في مشاورة إبراهيم ابنه بقوله: فَانْظُرْ ماذا تَرى: أن يطلع ابنه على هذه الواقعة، ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، والصبر درجة عالية، وليحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا، فقال إسماعيل: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وإنما علّق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. قال بعض أهل الإشارة: لما استثنى، وفقه الله للصبر. 6- قوله فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله: دليل على أن الأب والابن كانا في درجة واحدة من التسليم والتفويض لأمر الله تعالى. 7- عدد الله تعالى بمناسبة هذه القصة على إبراهيم عليه السلام- كما تقدم- نعما خمسا: هي جزاؤه الحسن إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي نجزيهم بالخلاص

من الشدائد في الدنيا والآخرة، والفداء العظيم بالكبش، والثناء الحسن بين الأمم والسلام من الله، وبشارته بولد آخر، وجعل أكثر الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم من ذريته وذرية إسحاق وإسماعيل. 8- الفداء بالكبش دليل- كما تقدم- على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. واختلف العلماء: هل الأضحية أفضل أو الصدقة بثمنها؟ قال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى، لأنه ليس موضع الأضحية. وقال أصحاب الرأي: إن الضحية أفضل، كذلك قال أحمد بن حنبل: الضحية أفضل من الصدقة، لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل، وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان، منها ما خرّجه الترمذي عن عائشة أن رسول الله ص قال: «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا» . والأضحية عند الجمهور ليست بواجبة، ولكنها سنة ومعروف. وقال أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر. وخالفه أبو يوسف ومحمد، فقالا: ليست بواجبة ولكنها سنة، غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. والذي يضحى به بإجماع المسلمين: الأزواج الثمانية: وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. والأخيران يجزئ الواحد منهما عن سبعة. ويتّقى من الضحايا- كما روى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن

البراء بن عازب- أربع: «العرجاء البين ضلعها (عرجها) ، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي» «1» . وفي الخبر الذي رواه أحمد والأربعة عن علي: «أمرنا رسول الله ص أن نستشرف العين والأذن..» . 9- دلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه: أنه يفديه بكبش، كما فدى به إبراهيم ابنه، قال ذلك ابن عباس. وعنه رواية أخرى: ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه. روى الشعبي عنه الروايتين. والأولى أصح. وقال الشافعي: هو معصية يستغفر الله منها. وقال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة، ولا يلزمه في غير ولده شيء. وهذا قول ابن العربي أيضا، لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة، والله تعالى يقول: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج 22/ 78] والإيمان: التزام أصلي، والنذر التزام فرعي، فيجب أن يكون محمولا عليه. 10- بشر الله بنبوة إسحاق من الأنبياء الصالحين، وكان هذا بعد إيراد قصة الذبيح، مما يدل على أنه إسماعيل. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. ثم قال: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ أي على إسماعيل وعلى إسحاق، كنى به، لأنه قد تقدم ذكره، ثم قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. والأدق أن يقال: باركنا على إبراهيم في أولاده.

_ (1) النّقي: مخّ العظام وشحمها، يريد أنه لا يوجد فيها شحم لهزالها وضعفها.

قصة موسى وهارون عليهما السلام [سورة الصافات (37) الآيات 114 إلى 122] :

11- لما ذكر تعالى البركة في الذرية والكثرة، قال: منهم محسن ومنهم مسيء، وأن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة، فاليهود والنصارى، وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء، والمؤمن والكافر. وفي التنزيل رد عليهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الآية [المائدة 5/ 18] أي أبناء رسل الله، فرأوا لأنفسهم فضلا. قصة موسى وهارون عليهما السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) المفردات اللغوية: مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ نجيناهما من تغلب فرعون واستعباده بني إسرائيل قومهما، ومن الغرق وَنَصَرْناهُمْ الضمير يعود عليهما مع القوم، والنصر على القبط فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه. وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه وفيما أتى به من الحدود والأحكام وغيره، وهو التوراة الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الموصل إلى الحق والصواب وَتَرَكْنا أبقينا عليهما ثناء حسنا سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ سلام منا عليهما إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين المطيعين لله. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ شهادة لهما بالإيمان، وهي علة الإحسان إليهما.

المناسبة:

المناسبة: هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، فبعد أن ذكر الله تعالى إنجاء إسماعيل من الذبح، ونجاة إبراهيم من النار، ذكر هنا ما منّ به على موسى وهارون من وجوه الإنعام المحصورة في نوعين: إيصال المنافع إليهما في قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ودفع المضار عنهما في قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. التفسير والبيان: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي تالله لقد أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية. أما منافع الدنيا كما ذكر الرازي: فالوجود والحياة والعقل والتربية والصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما. وأما منافع الدنيا: فالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات: النبوة الرفيعة، المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة. وتفصيل هذه النعم في قوله تعالى: 1- وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي ونجيناهما وقومهما بني إسرائيل من استعباد فرعون إياهم، بقتل الآباء واستحياء النساء وتشغيلهم في أخسّ الأشياء والصناعات والمهن، كما نجيناهما مع القوم من الغرق الذي أهلك فرعون وقومه قبط مصر. 2- وَنَصَرْناهُمْ، فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي نصرناهم على أعدائهم، فغلبوهم، وأخذوا أرضهم وأموالهم التي جمعوها طوال حياتهم، فكانوا أصحاب الدولة بعد أن كانوا رعية أذلاء. 3- وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي وأنزلنا عليهما الكتاب العظيم الواضح الجلي الشامل لأمور الدنيا والآخرة، وهو التوراة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ.. [المائدة 5/ 44] وقال

فقه الحياة أو الأحكام:

سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء 21/ 48] . 4- وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أرشدناهما إلى طريق الحق والصواب في الأقوال والأفعال، والإسلام وشرع الله. 5- وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ أبقينا لهما من بعدهما ذكرا حسنا جميلا وثناء حسنا في الأمم المتأخرة. قال ابن كثير والشوكاني وغيرهما: ثم فسره بقوله: سَلامٌ ... إلخ. وقال آخرون: الآتي كلام مستقل، وهو ما أرجحه، لكثرة الفوائد. 6- سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ أي سلام منا على موسى وهارون، ومن الملائكة والإنس والجن أبد الدهر. والسبب ما قاله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي مثل هذا الجزاء نجزي بالخلاص من الشدائد والمحن كل من أحسن عمله فأطاع الله وانقاد له، وعلة الإحسان: أنهما من زمرة عبادة الله المؤمنين إيمانا صحيحا كاملا. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- أنعم الله على موسى وهارون بنعم كثيرة دينية ودنيوية، أرفعها درجة النبوة، ثم ذكر تعالى هذه النعم وهي: أ- نجاهما وقومهما بني إسرائيل من الرق الذي لحق بني إسرائيل واستعباد فرعون لهم، وقيل: من الغرق الذي لحق فرعون. ب- نصرهما وقومهما على أعدائهم قبط مصر.

قصة إلياس عليه السلام [سورة الصافات (37) الآيات 123 إلى 132] :

ج- أنزل عليهما التوراة الكتاب المنير الواضح البليغ في بيانه الشامل لمصالح الدنيا والآخرة. د- هداهما إلى الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام بالمعنى العام القائم على التوحيد، وأرشدهما إلى طريق الحق والصواب، وأمدهما بالتوفيق والعصمة. هـ- أبقى عليهما الثناء الحسن بين الأمم، وتلك نعمة عظمي. وحظيا بالسلام من الله تعالى ومن الملائكة والإنس والجن أبد الدهر. 2- إن سنة الله تعالى الدائمة الجزاء الحسن للمحسنين أعمالهم بالخلاص من الشدائد، والسلامة من المحن، وذلك يشمل موسى وهارون عليهما السلام وأمثالهما. 3- إن سبب هذه الفضائل: الإيمان الذي هو أشرف وأعلى وأكمل من كل الفضائل. قصة إلياس عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

الإعراب:

الإعراب: اللَّهَ رَبَّكُمْ.. اللَّهَ: منصوب على أنه بدل من قوله تعالى: أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ويقرأ بالرفع على الابتداء، ورَبَّكُمْ: الخبر. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ مفعول تَرَكْنا محذوف، تقديره: وتركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن، ثم ابتدأ فقال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ سَلامٌ: مبتدأ، وخبره الجار والمجرور بعده، والجملة في موضع نصب ب تَرَكْنا. وإِلْ ياسِينَ: إما لغة في إلياس كميكال وميكائيل، وإما جمع (إلياسي) فحذف ياء النسب، كالأعجميين والأشعريين، وإنما حذفت لثقلها وثقل الجمع، وقد تحذف هذه في جمع التكسير، وفي جمع التصحيح مثل المهالبة جمع المهالبيّ. البلاغة: تَدْعُونَ وَتَذَرُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: إِلْياسَ أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو إلياس بن ياسين سبط هارون أخ موسى، بعث بعده، أرسل إلى قوم في بعلبك ونحوها. إِذْ منصوب بفعل مقدر هو: اذكر. قالَ لِقَوْمِهِ: أَلا تَتَّقُونَ أي تتقون الله، فتعبدونه، وتتركون ما ينهاكم الله عنه من الشرك والمعاصي، فتأمنون عذاب الله. أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي أتعبدون بعلا وهو اسم لصنم من ذهب، كان لأهل بعلبك، وبه سمي البلد أيضا مضافا إلى (بك) في لبنان. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ تتركون عبادة الله تعالى الذي هو أحسن المصورين الخالقين. اللَّهَ رَبَّكُمْ.. الذي يربيكم بنعمه بعد أن أوجدكم من العدم، أنتم وأجدادكم، فهو الذي تحقّ له العبادة. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين اصطفاهم الله للطاعة، وأخلصوا لله العبادة، فهم ناجون من العذاب. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي سلام منا على إلياس، أو عليه وعلى قومه الذين آمنوا معه، فجمعوا تغليبا، كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون. وقرئ: آل ياسين بالمد، والمراد به أهل إلياس. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من أحسن عمله لله. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علة الإحسان المتقدم.

المناسبة:

المناسبة: هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، والمقصود بها بيان جهود النبي إلياس عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل في الدعوة إلى توحيد الله، ومقاومة الشرك وعبادة الأصنام، كمن تقدمه من الأنبياء مثل نوح وإبراهيم عليهما السلام. التفسير والبيان: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل عليه السلام، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له (بعل) فدعاهم إلى توحيد الله تعالى، ونهاهم عن عبادة ما سواه. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَلا تَتَّقُونَ أي اذكر حين قال لقومه: هلا تخافون الله عز وجل في عبادتكم غيره، وتتركون ما ينهاكم عنه من الشرك والمعاصي. أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي أتعبدون صنما أنتم صنعتموه، وتتركون عبادة المستحق للعبادة وحده لا شريك له؟ فهو الذي صوّركم وأنشأكم، وهو أحسن المصورين الخالقين، ولا خالق سواه، وهو الذي يربيكم بنعمه بعد أن أوجدكم من العدم، أنتم وأجدادكم. ويلاحظ الترتيب أنه لما عابهم على عبادة غير الله، صرح بالتوحيد ونفي الشركاء. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي فكذبوا دعوته ونبوته، فصاروا بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب يوم القيامة، ويجازون على ما قدموا من سوء الأعمال.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم استثنى الله تعالى من كان مؤمنا من قومه، الذين وحدوا الله توحيدا خالصا وعبدوه، وأخلصوا العمل لله، فهؤلاء ناجون من العذاب، مثابون ثوابا حسنا على صالح أعمالهم، لا يحضرون العقاب المقرر للمشركين. ثم ذكر الله تعالى ما أنعم به على النبي إلياس، فقال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا عليه ثناء جميلا في الأمم المتتالية. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي سلام من الله وملائكته وإنسه وجنّه على إلياس الذي آمن بكتاب الله، وقاوم الشرك والوثنية. وفي قراءة آل ياسين أي عليه وعلى أهل دينه الذين آمنوا برسالته، واتبعوا الحق. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي كما جازيناه بالتخلص من الشدة والمحنة، نجازي كل محسن عمله لله تعالى، وعلة الجزاء الحسن: أنه مؤمن من جملة عباد الله المصدقين بوجود الله وتوحيده واتصافه بالصفات الحسنى. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن إلياس عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين إلى قومه الذين عبدوا الأصنام، وتركوا عبادة الله تعالى. 2- لقد حذّرهم إلياس من عذاب الله، وعابهم على عبادة الأصنام، وأمرهم بما فيه ترغيب وتعقل أمرا بعبادة الله الخالق الرازق المنعم، الذي يربيهم بنعمه، هم وأجدادهم المتقدمون، وكذا الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة. 3- أخبر الله تعالى عن قوم إلياس أنهم كذبوه فاستحقوا الإحضار إلى عذاب جهنم في الآخرة.

قصة لوط عليه السلام [سورة الصافات (37) الآيات 133 إلى 138] :

4- نجّى الله من العذاب الذين آمنوا بالله من قومه. 5- أبقى الله على إلياس الثناء الجميل في الأمم المتعاقبة والأجيال المتلاحقة. 6- سلام من الله وملائكته وإنسه وجنّه على إلياس على مدى الحياة. 7- يجزي الله الجزاء الأوفى كل من أحسن عمله لله تعالى، وسبب الجزاء لإلياس ومن آمن معه: أنه مؤمن بالله إيمانا صادقا خالصا من أي شائبة. قصة لوط عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) المفردات اللغوية: وَإِنَّ لُوطاً هو لوط بن هاران أخي إبراهيم عليه السلام ابن تارح، آمن بإبراهيم، وأرسله الله إلى أهل سدوم أهل المنكرات والمعاصي والفواحش. الْغابِرِينَ الباقين في العذاب. دَمَّرْنَا أهلكنا. الْآخَرِينَ كفار قومه. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم وآثارهم في أسفاركم ومتاجركم إلى الشام، فإن (سدوم) في طريقه. مُصْبِحِينَ وقت الدخول في الصباح، أي أول النهار. وَبِاللَّيْلِ أي وفي المساء. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أفليس فيكم عقل تعتبرون به يا أهل مكة؟ المناسبة: هذه هي القصة الخامسة من قصص هذه السورة، ذكرها تعالى ليعتبر بها مشركو العرب، فإن الذين كفروا وعصوا من قوم لوط عليه السلام هلكوا، والذين آمنوا نجوا.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي وإن لوطا من الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى قومه (أهل سدوم) لارتكابهم الفواحش، فنصحهم فأبوا نصحه، فأهلكهم الله بالزلزال أو بالصيحة والحجارة المحرقة، فجعل بلادهم عاليها سافلها، ونجاه وأهله الذين آمنوا به إلا امرأته، كما قال تعالى: إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي نجينا لوطا وأهله المؤمنين به جميعا، إلا امرأته، فإنها هلكت وبقيت في العذاب، لرضاها بفعل القوم، وتواطؤها معهم على القوم الذين يأتون إلى لوط عليه السلام. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي ثم أهلكنا قومه الذين كذّبوا برسالته وهم أهل الفاحشة (اللواط) عدا من نجيناهم. وهنا نبّه الله تعالى مشركي مكة إلى الاعتبار بمصير هؤلاء المكذبين العصاة، فقال: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ أي وإنكم يا أهل مكة تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب في وقت الصباح، أي بالنهار ذهابا إلى الشام، وفي الليل أثناء رجوعكم من الشام أفلا تتدبرون بعقل واع، وتتعظون بما تشاهدونه في ديارهم من آثار التدمير وعقوبة الله النازلة بهم، فتخافوا من أن يحلّ بكم نفس العذاب، وتصيروا إلى مثل المصير، لمخالفتهم رسولهم. وأشار الله تعالى إلى الصباح والليل، لأن المسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار. فقه الحياة أو الأحكام: يقص الله تعالى قصص الأنبياء السابقين للعظة والعبرة، ومن هذه

قصة يونس عليه السلام [سورة الصافات (37) الآيات 139 إلى 148] :

القصص: قصة لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم، فأرشدهم إلى عبادة الله تعالى، وترك عبادة الأصنام، واجتناب الفواحش والمنكرات، ومنها إتيان الرجال، فكذبوه وعصوا أمر ربهم، فعاقبهم الله بالزلزال، فدمر ديارهم وأهلكهم، ونجّى الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته إلا زوجته التي كانت راضية بأفعال القوم، وتدلهم على ضيوف لوط عليه السلام. هذه عبرة وأي عبرة، لذا حذّر تعالى مشركي مكة الذين يرون في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام آثار ذلك الدمار، ونبههم إلى ضرورة العظة والاعتبار بمصير هؤلاء الذين كذبوا رسولهم، حتى لا يحل بهم ما حل بغيرهم. قصة يونس عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) الإعراب: أَوْ يَزِيدُونَ أَوْ: إما للتخيير، أي يتخير الرائي في أن يعدهم مائة ألف أو يزيدون، وإما للشك من الرائي، إذا رآهم شك في عدتهم لكثرتهم، وإما بمعنى (بل) وإما بمعنى الواو، والوجهان الأولان مذهب البصريين، والوجهان الآخران مذهب الكوفيين. البلاغة: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ في أَبَقَ استعارة تصريحية، شبه خروج يونس عليه السلام بغير إذن ربه بإباق العبد، أي هربه من سيده.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِنَّ يُونُسَ هو نبي الله يونس بن متى، من أنبياء اليهود بني إسرائيل في الظاهر أرسله الله عقيب نبوته إلى مدينة كبري ليدعو أهلها (هم أهل نينوى) إلى توحيد الله، وترك الوثنية. أَبَقَ أصل الإباق: الهرب من السيد، والمراد هنا أنه ترك البلد بغير إذن ربه. الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ السفينة المملوءة في صورة المغاضب لربه، وهو في الحقيقة غاضب من قومه، لمّا لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم به، فركب السفينة، فوقفت في لجّة البحر، فقال الملاحون: هنا عبد أبق (هرب) من سيده، تظهره القرعة. فَساهَمَ فقارع من في الفلك، أي اقترع أهل السفينة. الْمُدْحَضِينَ المغلوبين بالقرعة، فقال: أنا الآبق، فألقوه في البحر. فَالْتَقَمَهُ ابتلعه. مُلِيمٌ آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر، وركوبه السفينة بلا إذن من ربه. الْمُسَبِّحِينَ الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره، وفي بطن الحوت بقوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أحياء، أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. فَنَبَذْناهُ ألقيناه من بطن الحوت، بأن حملنا الحوت على لفظه. بِالْعَراءِ بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، في الساحل، في يومه أو بعد أيام، والله أعلم، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، حتى انتهوا إلى البر، فلفظه. وَهُوَ سَقِيمٌ عليل مما ناله، قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي فوقه. شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وهو الدّباء أو القرع المعروف، غطّته بأوراقها عن الذباب، وظلّلته بساق على خلاف العادة في امتداد القرع على الأرض، معجزة له، وقيل: هو الموز يتغطى بورقه، ويستظل بأغصانه، ويفطر على ثماره، وقيل: التين. قيل لرسول الله ص: إنك لتحب القرع؟ قال: «أجل، هي شجرة أخي يونس» . ويقال: وكانت تأتيه وعلة صباحا ومساء يشرب من لبنها حتى قوي. وَأَرْسَلْناهُ بعد ذلك إلى قوم هم أهل نينوى من أرض الموصل. إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، إذا نظر إليهم قال: هم مائة ألف أو أكثر، والمراد: الوصف بالكثرة. فَآمَنُوا عند معاينة أمارات العذاب الموعودين به. فَمَتَّعْناهُمْ أبقيناهم ممتعين بما لهم في الدنيا. إِلى حِينٍ إلى أجلهم المسمى ومنتهى أعمارهم. المناسبة: هذه هي القصة السادسة والأخيرة في هذه السورة، وإنما جعلت خاتمة

التفسير والبيان:

للقصص، لأن يونس عليه السلام لما لم يصبر على أذى قومه، وأبق إلى الفلك، وقع في تلك الشدائد، وفي هذا عبرة ودرس وتعليم للنبي ص ليصبر على أذى قومه. جاء في الصحيحين عن رسول الله ص أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» ونسبه إلى أمه، وفي رواية: إلى أبيه. التفسير والبيان: ذكر الله يونس في القرآن باسمه أربع مرات «1» ، وذكره بوصفه مرتين، في سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [87] وفي سورة القلم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [48] . وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إن يونس بن متى وهو ذو النون أحد الأنبياء المرسلين إلى قومه أهل نينوى بالموصل. قال المفسرون: كان يونس قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب، خرج عنهم وقصد البحر، وركب السفينة، فكان كالفارّ من مولاه، فوصف بالإباق. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي اذكر حين هرب من قومه مغاضبا قومه إلى السفينة المملوءة بغير إذن ربه، فقارع أهل السفينة، فكان من المغلوبين في القرعة التي اقترعوها ليلقوا بعضهم في البحر، خوفا من غرق السفينة الثقيلة الحمولة، فألقوه في البحر بعد أن وقعت القرعة عليه ثلاث مرات. وأصل الإباق: هرب العبد من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه، وصف به. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فابتلعه الحوت، وهو مليم نفسه على ما فرط

_ (1) في سورة النساء (163) والأنعام (86) ويونس (98) والصافات (139) .

منها أو هو آت ما يلام عليه، من ترك قومه بغير إذن ربه، وكان عليه أن يصبر على أذى قومه. والخروج بغير إذن الله كبيرة على الأنبياء، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي لولا أنه كان في حياته من الذاكرين الله كثيرا، المسبحين بحمده، المصلين له، للبث ميتا في بطن الحوت، وصار له قبرا إلى يوم القيامة، لأن العادة أن يهضم كسائر أنواع الغذاء. جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره النووي في الأربعين النووية عن ابن عباس في رواية غير الترمذي: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وكما كان مسبّحا ربه في حياته، سبح الله في بطن الحوت، كما قال عز وجل: فَنادى فِي الظُّلُماتِ: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء 21/ 87- 88] . فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ألقيناه، بأن جعلنا الحوت يلقيه، في مكان خال ليس فيه شجر ولا نبت ولا بناء، على جانب دجلة، وهو عليل الجسم ضعيف البدن، كهيئة الصبي حين يولد. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي أنبتنا عليه شجرة فوقه تظلل عليه هي شجرة الدّبّاء وهو القرع، وهذا سريع النمو، وقدرة الله تجعل الشيء كن فيكون. ذكر بعضهم في القرع فوائد: منها سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمرته، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبّه وقشره أيضا. وقد ثبت أن رسول الله ص كان يحب الدباء، ويتتبعه من حواشي الصّحفة. وقد مكث يونس في هذه الحالة حتى اشتد لحمه ونبت شعره، ثم جاءه الأمر الإلهي: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا، فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي

فقه الحياة أو الأحكام:

أرسله الله عائدا إلى القوم الذين هرب منهم إلى البحر، وهم أهل نينوى من أرض الموصل، وعددهم مائة ألف، بل أكثر من ذلك، فهم يزيدون عن هذا العدد، فدعاهم إلى ربه مرة أخرى، فصدقوه كلهم وآمنوا به، بعد ما شاهدوا أعلام نبوته، وأمارات العذاب، فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم، كقوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 10/ 98] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت قصة يونس إلى ما يأتي: 1- وقعت حادثة التقام الحوت يونس عليه السلام بعد أن صار رسولا، لقوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك. 2- لا يصح لنبي المهاجرة عن بلد القوم الذين أرسل إليهم إلا بإذن ربه، فلما ذهب يونس عليه السلام بغير إذن ربه، وصف فعله بالإباق. قال العلماء: إنما قيل ليونس: أبق عن العبودية، لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل، مستترا من الناس. وإنما العبودية: ترك الهوى، وبذل النفس عند أمور الله عز وجل، فلما آثر هواه لزمه اسم الآبق. ولم يبين لنا القرآن الكريم سبب إباقه، وقد فهم ذلك بالأمارات. 3- القرعة جائزة شرعا، وملزمة الأثر كالقسمة، لقوله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ . لكن المستقر في تشريعنا أنه لا يجوز الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر، وإنما تطبق عليه الحدود والتعزيرات على مقدار جنايته. وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه.

4- أتى يونس عليه السلام بما يلام عليه، فأصابته القرعة ثلاث مرات، فألقوه في البحر، تخفيفا لحمولة السفينة، فالتقمه الحوت، وهو آت بما يلام عليه. 5- لم يبين القرآن الكريم مدة لبثه في بطن الحوت، لذا اختلف العلماء في تعيين المدة، فقيل: بعض يوم، أو ساعة واحدة، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: عشرين يوما، وقيل: أربعين يوما «1» . والمعول عليه أن الله أبقاه حيا في بطن الحوت، فجعله عسير الهضم عليه، في مدة قليلة أو كثيرة، معجزة له. 6- لقد نجى الله تعالى يونس عليه السلام، لأمرين: أنه كان من المسبحين الذاكرين الله كثيرا طوال عمره، ومن تعرف على الله وقت الرخاء عرفه وقت الشدة، وأنه أعلن توبته في بطن الحوت الذي حماه الله من هضمه، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. لذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. وقال الحسن البصري: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء، فذكّره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر وجد متكأ. ومن هذا المعنى قوله ص فيما رواه الضياء عن الزبير: «من استطاع منكم أن تكون له خب (أي خبيئة) من عمل صالح فليفعل» أي فليجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويسترها عن خلقه، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه. أما تسبيحه فقال القرطبي: الأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان. جاء في كتاب أبي داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي ص قال: «دعاء ذي النون

_ (1) تفسير القرطبي: 15/ 123

تفنيد عقائد المشركين [سورة الصافات (37) الآيات 149 إلى 170] :

في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له» . 7- كان من تتمة نعمة الله على يونس عليه السلام أنه بعد أن ألقاه الحوت، وهو في حال من الضعف، بساحل قرية من الموصل، أنبت عليه لحمايته وتظليله شجرة من يقطين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: طرح يونس بالعراء، وأنبت الله عليه يقطينة، قلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدّبّاء، هيأ الله له أروية «1» وحشية تأكل من خشاش الأرض- أو هشاش الأرض- فتفشج «2» عليه، فترويه من لبنها، كل عشية وبكرة حتى نبت. 8- بعد أن اشتد لحمه ونبت شعره، أعاده الله إلى قومه الذين يزيد عددهم عن مائة ألف، فدعاهم إلى ربه، فآمنوا لما رأوا أعلام نبوته، ليظهر الله إرادته وقدرته له في الإيمان، ولما آمنوا أزال الله الخوف عنهم، وآمنهم من العذاب، ومتعهم الله بمتاع الدنيا إلى منتهى أعمارهم. تفنيد عقائد المشركين [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

_ (1) الأروية: الأنثى من الوعول. [.....] (2) تفشج: تفرج ما بين رجليها.

الإعراب:

الإعراب: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ مكسورة بعد أَلا لأنها مبتدأة، ولولا اللام في لَيَقُولُونَ لجاز فتحها على أن تكون أَلا بمعنى: حقا، تقول: أحقا أنك منطلق. أَصْطَفَى الْبَناتِ.. قرئ بهمزة من غير مد، أصله «اصطفى» بهمزة وصل، فأدخلت عليه همزة الاستفهام، فاستغني بها عن همزة الوصل، فحذفت، مثل «أستغفرت» . ومن قرأه بالمد أبدل من همزة الوصل مدة كإبدال همزة لام التعريف، نحو: آلرجل عندك، ونحو آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس 10/ 59] . إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ مَنْ: في موضع نصب ب بِفاتِنِينَ وقرئ صالِ الْجَحِيمِ وفيه ثلاثة أوجه: إما حذف لام صالِ وهي الياء، وإما قلب اللام التي هي الياء من «صالي» إلى موضع العين، فصار «صايل» ثم حذف الياء، فبقيت اللام مضمومة، وفيه بعد، وإما أصله «صالون» جمع صال، حملا على معنى «من» فحذفت النون منه للإضافة، وحذف الواو لالتقاء الساكنين. وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ تقديره: وما منا أحد إلا له مقام معلوم. وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ إن: مخففة من الثقيلة، وتقديره: وإنهم كانوا ليقولون، ودخلت اللام فرقا بين المخففة والثقيلة. البلاغة: الْبَناتِ والْبَنِينَ بينهما طباق. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ: تتابع الاستفهام للتوبيخ.

المفردات اللغوية:

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأصل: وتجعلون، للإهمال والإبعاد من رحمة الله. المفردات اللغوية: فَاسْتَفْتِهِمْ استخبرهم واطلب منهم الفتيا توبيخا لهم، وهو معطوف على مثله في أول السورة، فإنه تعالى أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات، ولأنفسهم البنين، في قولهم: الملائكة بنات الله. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ بزعمهم أن الملائكة بنات الله. وَلَهُمُ الْبَنُونَ فيختصون بالأعلى، ويجعلون لله الأدنى. وَهُمْ شاهِدُونَ الخلق، لأن أمثال ذلك لا يعرف إلا بالشهود أو الحضور. أَمْ بمعنى «بل» الإضرابية، مع همزة الاستفهام. إِفْكِهِمْ الإفك: أشد الكذب. وَلَدَ اللَّهُ بقولهم: الملائكة بنات الله. لَكاذِبُونَ فيما ادعوه، وتدينوا به. أَصْطَفَى اختار، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء. وهو استفهام إنكار واستبعاد. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد الذي لا يرتضيه عقل. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أنه منزه عن ذلك من الولد والشريك والند والنظير. سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة، نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته، أو أن لله ولدا. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي أنزل عليكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعائكم أو قولكم ذلك. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي جعل المشركون بينه تعالى وبين الملائكة نسبا أي صلة وارتباطا بقولهم: إنها بنات الله، وسموا بالجنّة لاستتارهم عن الأبصار. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ إن الكفرة قائلي ذلك. لَمُحْضَرُونَ للنار للعذاب فيها. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله. عَمَّا يَصِفُونَ من الولد (بأن لله ولدا) والنسب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن عباد الله الذين اصطفاهم ربهم ينزهون الله تعالى عما يصفه هؤلاء، وهو استثناء منقطع. فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ من الأصنام، وهو عود لخطابهم. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ على الله بِفاتِنِينَ أحدا، مفسدين الناس بالإغواء، حاملين إياهم على الضلال والفتنة. وعليه: متعلق بفاتنين. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها لا محالة، يقال: صلي النار: دخلها. وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي قال جبريل للنبي ص: ما منا معشر الملائكة أحد إلا له مقام معلوم في السموات، يعبد الله فيه لا يتجاوزه. وهذا اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ صفوفا في أداء الطاعة ومنازل الخدمة. وَإِنَّا لَنَحْنُ

سبب النزول:

الْمُسَبِّحُونَ المنزهون الله عما لا يليق به. وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي وإن كان كفار مكة ليقولون. وَإِنْ مخففة من الثقيلة أي وإنهم. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ كتابا من الكتب التي أنزلت على الأمم الماضية. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له، ولم نخالف مثلهم. فَكَفَرُوا بِهِ أي لما جاءهم القرآن الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها كفروا به. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم. سبب النزول: نزول الآية (158) : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ..: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش: سليم، وخزاعة، وجهينة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشا وأجناس العرب: جهينة وبني سلمة، وخزاعة، وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا، بنات سراة الجن، فأنزل الله وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. نزول الآية (165) : وَإِنَّا لَنَحْنُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فأمرهم النبي ص أن يصفوا. المناسبة: بعد افتتاح هذه السورة بتوبيخ المشركين على إنكارهم البعث، وبعد بيان قصص الأنبياء التي هي في الأعم الأغلب درس بليغ للمشركين، بدأ الله تعالى

التفسير والبيان:

ببيان عقائد المشركين وتفنيدها وتقبيحها، ومن تلك العقائد: إثبات الأولاد لله تعالى، ونسبة البنات لله بقولهم: «الملائكة بنات الله» وجعل البنين لأنفسهم، ثم افتراؤهم بجعل الملائكة إناثا لا ذكورا، ثم أعلن تعالى حملته الشديدة على المشركين، فأبان أنهم عاجزون عن إضلال أحد إلا إذا كان هو من أهل الضلال وأصحاب الجحيم، في علم الله السابق. وناسب بعدئذ إيراد تصريح الملائكة بعبوديتهم لله للرد على المشركين الذين زعموا أنهم بنات الله. التفسير والبيان: عطف الله تعالى هذه الآيات على قوله في أول السورة: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فقال: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أي استخبرهم يا محمد على سبيل التوبيخ، وسلهم مؤنبا ومقرعا ومنكرا على هؤلاء المشركين في قسمتهم وسفه عقولهم، في جعلهم لأنفسهم البنين، وهو النوع الجيد، ولله تعالى البنات التي يكرهونها أشد الكره، كما قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل 16/ 58] أي يسوؤه ذلك، ولا يختار لنفسه إلا البنين، فكيف يجعلون لله أدنى الجنسين وهو الإناث، ولهم أعلاها وهم الذكور؟. والمراد بالآية: بيان جور القسمة وإظهار شدة الغرابة، كيف نسبوا إلى الله تعالى النوع الذي لا يختارونه لأنفسهم؟ كما في قوله عز وجل: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 21- 22] . أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ بل كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث، وما شاهدوا خلقهم؟ وهذا انتقال عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه، فكيف جعلوهم إناثا، وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا، فلم يقم لهم دليل يدل على قولهم، لا من النقل الصحيح، ولا من العقل السليم.

ونظير الآية قوله سبحانه: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف 43/ 19] أي ويسألون عن ذلك يوم القيامة. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي إن قولهم هذا هو من الكذب والافتراء، الذي لا دليل له ولا شبهة دليل. فكيف يقولون: صدر منه الولد، إنهم فيما يقولون أكذب الكاذبين. وبه يتبين أنهم ذكروا في الملائكة ثلاثة أوصاف في غاية الكفر والكذب، وهي أنهم جعلوهم بنات الله، فنسبوا الولد لله، وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون الله. ثم أنكر الله تعالى عليهم حكمهم الجائر فقال: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ المعنى: أي شيء يحمله على اختيار البنات دون البنين؟ كما قال تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الإسراء 17/ 40] أي كيف يعقل تفضيله البنات على البنين، مع أن البنين أفضل؟ أليس لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟ أفلا تعتبرون وتتفكرون فتتذكروا بطلان قولكم؟. أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ المعنى: بل ألكم حجة واضحة على هذا القول؟ فإن كان لكم برهان، فهاتوا برهانا على ذلك، مستندا إلى كتاب منزّل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه، إن صدقتم في ادعائكم.

ويلاحظ من تتابع هذه الاستفهامات وتكرارها مدى التوبيخ والتبكيت والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، فإن ما يقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوزه العقل أصلا. ثم أكد الله تعالى افتراء المشركين على الله بنسبة الملائكة إليه نسبا، فقال: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي جعل المشركون بين الله وبين الجن وهم هنا الملائكة صلة نسب، فقالوا: الملائكة بنات الله، وسموا جنا لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار. والقائل بهذه المقالة كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن، فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وما هذا إلا وهم واختراع القصاصين منهم، وقيل: القبائل هم اليهود، قالوا لعنهم الله: إن الله صاهر الجن، فكانت الملائكة من بينهم. وكل هذا بسبب تشبيه الخالق عز وجل بالبشر، ووصفه بالمادية الجسدية، وهو كفر. ثم أخبر الله تعالى عن عذابهم قائلا: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي وتالله، لقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينهم وبينه تعالى نسبا، إن أولئك المشركين لمحضرون للحساب والعذاب في النار، لكذبهم وافترائهم بقولهم المتقدم. ثم نزّه الله تعالى نفسه عن كل ما لا يليق به من نقائص البشر، قائلا. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله تعالى وتقدس عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون، وتعالى علوا كبيرا. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن عباد الله المخلصين وهم المتّبعون للحق

المنزل على كل نبي مرسل ناجون، فلا يحضرون إلى عذاب النار، وهذا استثناء منقطع. ثم تحدى الله تعالى المشركين، وأثبت عجزهم عن إضلال أحد أو فتنته، فقال مخاطبا المشركين: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ «1» الْجَحِيمِ أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بقادرين على فتنة أحد عن دينه وإضلاله إلا من هو أضل منكم ممن هو من أهل الجحيم الذي سبق في علم الله تعالى أنهم لما علم من سوء استعدادهم ممن يدخلون النار ويصلونها، وهم المصّرون على الكفر، كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] فهذا النوع من الناس: هو الذي ينقاد للشرك والضلالة، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات 51/ 8- 9] أي إنما يضل به من هو مأفوك مبطل. ثم نزه الله تعالى الملائكة مما نسبوا إليه من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله. وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هذا حكاية من الله تعالى عما تقوله الملائكة معناه: وما منا ملك إلا له مرتبة معلومة من المعرفة والعبادة والمكان، لا يتجاوزها. والمراد به الإشارة إلى درجاتهم في طاعة الله تعالى، مبالغة في العبودية لله عز وجل. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ص: «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد، أو قائم» «2» .

_ (1) هذا محمول على معنى من ومعناها جماعة، فالتقدير: صالون، ثم حذفت النون للإضافة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. (2) رواه ابن مردويه عن أنس بلفظ: «أطت السماء، ويحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر، إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبّح الله بحمده» .

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي قالت الملائكة أيضا: وإنا لنحن الصافون صفوفا في مواقف العبودية، وإنا لنحن المسبحون باللسان وبالصلاة، المنزهون الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد فقراء لله. والمقصود أن صفات الملائكة هي التذلل والعبادة لله، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله، وهو إشارة إلى درجاتهم في المعارف، كما أن الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة. ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله ص، ونحن في المسجد، فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله، كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمّون الصفوف الأوّل، ويتراصّون في الصف» . وفي صحيح مسلم أيضا عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا» . وكان عمر رضي الله عنه إذا قام للصلاة يقول: أقيموا صفوفكم، واستووا، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها، ويقرأ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر. ثم ذكّر تعالى بما كان يقول المشركون قبل البعثة النبوية: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي إن المشركين كانوا قبل بعثة النبي ص، إذا عيّروا بالجهل، قالوا: لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكفر به، فجاءهم محمد ص بالذّكر المبين فكفروا به، وسوف يعلمون عاقبة كفرهم ومغبته. وهذا وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم وبالقرآن وبالرسول ص.

فقه الحياة أو الأحكام:

وذلك كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر 35/ 42] وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ، وَصَدَفَ عَنْها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام 6/ 156- 157] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما هو آت: 1- من أكاذيب المشركين الوثنيين وافتراءاتهم أنهم قالوا: البنات لله. والملائكة بنات الله، والملائكة إناث، وكل ذلك باطل، لأنهم نسبوا لله الولد وهو الذي لم يلد ولم يولد، وكان يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه، كيف يمكن إثباته للخالق، ولم يشهدوا كيفية تخليق الله الملائكة، فكيف يزعمون أنهم إناث؟!! 2- لكل هذا وبخهم الله تعالى بجمل متتابعة متكررة من الاستفهامات المذكورة في الآيات، والتي تناقض الحس والعقل والمنطق والنظر، ولا دليل عليها من نقل يوثق به، ولا تعتمد على حجة وبرهان. 3- قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، جاعلين نسبا بينه وبينهم، والملائكة مبرؤون من هذا الزعم، ويعلمون يقينا أن أولئك الكفار محضرون للعذاب في نار جهنم. 4- نزّه الله تعالى نفسه عما قالوا من الكذب، وعما وصفوا من المزاعم،

وذلك تنزيه واجب واقع لا شك فيه، يستحق ربنا به تمام الحمد والشكر على تعريفنا بما يجب لذاته الكريمة من تقديس. 5- إن عباد الله المخلصين لله العبادة، المتبعين أوامر ربهم، هم الناجون. 6- لا يقر هؤلاء الكفار ولا آلهتهم التي يعبدون من دون الله على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان سبق في علم الله أنه من أهل النار، لإصراره على الكفر، وعدم استعداده للإيمان. قال الرازي: وهذا دليل لأهل السنة على أنه لا تأثير لإغواء الشيطان ووسوسته، وإنما المؤثر قضاء الله وتقديره، لأن قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ تصريح بأنه لا تأثير لقولهم، ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره «1» . وهي رد على القدرية. فإن حكم الله وقدره لا جبر فيه ولا إكراه. 7- وصف الملائكة أنفسهم بثلاث صفات، تعظيما لله عز وجل، واعترافا بالعبودية له، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم، وهي: أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها، ودرجة لا يتعدى عنها، وأنهم صافون صفوفا في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأنهم دائما يسبحون الله تعالى، والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به. وجاءت الصفتان الثانية والثالثة بصفة الحصر، ومعناه: أنهم في مواقف العبودية لا غيرهم، وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر، كما ذكر الرازي. ثم عقب على ذلك قائلا: فكيف يجوز مع هذا الحصر أن

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 170

نصر جند الله تعالى [سورة الصافات (37) الآيات 171 إلى 182] :

يقال: البشر تقرب درجته من الملك، فضلا عن أن يقال: هل هو أفضل منه أم لا؟!! 8- إن أخبار قريش عجيبة وغريبة، سواء قبل البعثة النبوية أم بعدها. فقد كانوا يتمنون قبل بعثة النبي ص لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى، ويأتيهم بكتاب الله، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب المهيمن على كل الكتب، وهو القرآن، فكفروا به، وكذبوا رسول الله ص، وما وفوا بما قالوا: فاستحقوا الوعيد والتهديد، وهو أنهم سوف يعلمون مغبة كفرهم، وعاقبة تكذيبهم. نصر جند الله تعالى [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) الإعراب: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ لَهُمُ: ضمير فصل بين اسم «إن» وهو «هم» وخبرها الْمَنْصُورُونَ وأدخلت اللام على الضمير. ولا يجوز أن يكون لَهُمُ صفة لاسم «إن» ، لأن اللام لا تدخل على الصفة. ويجوز جعل لَهُمُ مبتدأ، والْمَنْصُورُونَ خبره، والجملة منهما في موضع رفع خبر «إن» .

البلاغة:

البلاغة: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ استعارة تمثيلية، شبه العذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم بغتة، فلم ينتصحوا بكلام ناصح، ولا استعدوا للدفاع، حتى هزمهم وأفناهم. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي وعدناهم بالنصر والغلبة، وذلك بقوله تعالى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] وقوله هنا: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. وإنما سماها كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ الغالبون في الحرب وغيرها، وهذا باعتبار الغالب، وبشرط نصرة دين الله. إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ أي إن جندنا المؤمنين أتباع الرسل غالبون الكفار في الدنيا بالحجة والنصرة عليهم، فإن لم ينتصروا في الدنيا انتصروا في الآخرة. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم. حَتَّى حِينٍ أي إلى أن يحين موعد نصرك عليهم وهو في عهد النبوة يوم بدر أو يوم الفتح- فتح مكة. وَأَبْصِرْهُمْ انظر إليهم وارتقب ما ينالهم من الأسر والقتل في الدنيا، والتعذيب في الآخرة حين نزول العذاب بهم. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عاقبة كفرهم، وما قضينا لك من التأييد والنصر في الدنيا، والثواب في الآخرة. وسوف للوعيد لا للتبعيد. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ هذا قول من الله يتضمن التهديد لهم، روي أنه لما نزل. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا: متى هذا؟ فنزل قوله تعالى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي إذا نزل العذاب بفنائهم: وهو المكان الواسع، قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم. فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس صباحا صباح المنذرين بالعذاب. وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر لتسجيل صفة الإنذار عليهم. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ كرره تأكيدا لتهديدهم، وتسلية للنبي ص. رَبِّ الْعِزَّةِ الغلبة والقوة. عَمَّا يَصِفُونَ بأن له ولدا. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ المبلغين عن الله التوحيد والشرائع. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على نصرهم وهلاك الكافرين. سبب النزول: نزول الآية (176) : أَفَبِعَذابِنا..: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا

التفسير والبيان:

العذاب الذي تخوفنا به، عجّله لنا، فنزلت: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وهو صحيح على شرط الشيخين. التفسير والبيان: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ أي لقد سبق وعدنا بالنصر والظفر على الكفار في الدنيا والآخرة لعبادنا الرسل الذين أرسلناهم للإنذار والتبشير، ففي الدنيا: تكون الغلبة والقهر لهم بالأسر والقتل والتشريد أو الإجلاء أو بالحجة والبرهان، ونحو ذلك، وفي الآخرة: الظفر بالجنة، والنجاة من النار، وهذا في الأعم الأغلب. وجند الله: حزبه، وهم الرسل وأتباعهم. ونظير الآية قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] . وشرط النصر معروف، وهو الإيمان الصحيح بالله عز وجل، والعمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والتزام دين الله شرعا ودستورا ونظاما ومنهج حياة، قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم 30/ 47] وقال سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمد 47/ 7] وقال عز وجل: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] . فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي أعرض عنهم، واصبر على أذاهم لك، إلى مدة معلومة عند الله سبحانه، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، كالأسر والقتل، وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به

من العقاب، وما وعدناك به من النصر وانتشار دينك في الآفاق، وذلك حين لا ينفعهم الإبصار. وكرر تعالى ذلك تأكيدا. والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن حدوثها قريب، وفي ذلك تسلية للرسول ص وتنفيس عنه عما يناله من أذى كفار قومه قريش. ثم وبخهم الله تعالى وهددهم على طلبهم تعجيل العذاب قائلا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يجرءون على استعجال عذابنا الشديد؟ والواقع أنهم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك، قائلين: متى هذا العذاب؟ والعذاب نازل بهم قطعا لا محالة. فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فإذا نزل العذاب بهم أو بمحلّتهم، فبئس ذلك اليوم يومهم، لإهلاكهم ودمارهم. ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله ص خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم، ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس- الجيش- فقال النبي ص: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين» ورواه أحمد أيضا بلفظ آخر، وهو صحيح على شرط الشيخين. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر يحين فيه هلاكهم، وانظر إليهم وارتقبهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب. وهذا تأكيد لما تقدم من الأمر بالكف عنهم، والصبر على أذاهم. ثم ختمت السورة بخاتمة عظيمة فيه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، ومدحه للرسل الكرام، فقال سبحانه:

فقه الحياة أو الأحكام:

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزيها لربك أيها الرسول وتقديسا وتبرئة عما يقول الظالمون المكذبون المفترون المعتدون، فهو رب القوة والغلبة والعزة التي لا ترام، وسلام الله على الرسل الكرام الذين أرسلهم إلى أقوامهم، في الدنيا والآخرة، لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته، والحمد والشكر لله في الأولى والآخرة في كل حال، فهو رب الثقلين: الإنس والجن، دون سواه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي، والبغوي عن علي كرم الله وجهه، قال: قال رسول الله ص: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر، يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ووردت أحاديث في كفارة المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» . وذكر الثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله ص غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- سبق الوعد الإلهي بنصر المرسلين بالحجة والغلبة، ونصر جند الله وهم الرسل وأتباعه على أعدائهم، وذلك على الغالب. والنصر إما بقوة الحجة، أو بالدولة والاستيلاء، أو بالدوام والثبات.

2- كان النبي ص والمؤمنون في مكة قبل الهجرة مأمورين بالكف عن المشركين، والصفح عنهم، والصبر على أذاهم، وترك مقاتلتهم. 3- هدد الله المشركين وأوعدهم بما سينالهم من عذاب الدنيا والآخرة، وحينئذ سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار. 4- من الحماقة الشديدة استعجال الكفار وقوع عذاب الله، فإنه لا داعي للاستعجال، والعذاب واقع بهم لا محالة، وهو عذاب شديد مدمر، فإذا حلّ بهم أو بديارهم فبئس صباح الذين أنذروا بالعذاب. 5- يسن ختم الصلاة والمجلس بآية: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وفي هذه الآية أنواع ثلاثة من صفات الله تعالى: هي تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الألوهية وهو كلمة سبحان، ووصفه بكل ما يليق بصفات الألوهية وهو قوله: رَبِّ الْعِزَّةِ وكونه منزها عن الشريك والنظير. وقوله رَبِّ الْعِزَّةِ يدل على أنه القادر على جميع الحوادث التي خلقها. وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم. والمهم أن يعرف العاقل كيف يعامل نفسه ويعامل الناس في الدنيا.

سورة ص:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة ص مكيّة، وهي ثمان وثمانون آية. تسميتها: سميت سورة ص لافتتاحها بهذا الحرف العربي أحد أحرف الهجاء الثمانية والعشرين، للدلالة على أن هذا القرآن العظيم مكون ومنظوم من حروف الهجاء العربية، ومع ذلك لم يستطع العرب الفصحاء الإتيان بمثل أقصر سورة منه، فبدئ به بهذه السورة كغيرها من السور المبدوءة بحروف هجائية، بقصد تحدي العرب، وإثبات إعجاز القرآن. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجهين: الأول- أن الله تعالى حكى في آخر سورة الصافات التي قبلها قول الكفار: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ثم كفروا به، ثم افتتح هذه السورة بالقسم بالقرآن ذي الذكر، لتفصيل المجمل هناك. الثاني- أن هذه السورة بعد الصافات، كطس- النمل بعد الشعراء، وكطه والأنبياء بعد مريم، وكيوسف بعد هود، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء ممن لم يذكر في تلك، مثل داود، وسليمان، وأيوب، وآدم، وأشار إلى بقية من ذكر.

مشتملاتها:

مشتملاتها: موضوع هذه السورة كسائر السور المكية في بيان أصول العقيدة الإسلامية «التوحيد، والنبوة، والبعث» من خلال مناقشة المشركين في عقائدهم المناقضة لتلك الأصول، وإيراد قصص الأنبياء للعظة والعبرة، وبيان حال الكفار والمشركين يوم القيامة، ووصف عذاب أهل النار، ونعيم أهل الجنة. ابتدأت السورة بالوصف الناقد لصفات المشركين من الكبرياء وإباء الحق والإعراض عنه، مع تذكيرهم بعاقبة الماضين الذين حادوا عن الحق، فهلكوا، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة. ومن أهم تلك الصفات ثلاث: إنكار الوحدانية، وإنكار نبوة محمد ص، وإنكار البعث والحساب. ثم ذكرت قصة داود وسليمان وأيوب مفصلا، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل مجملا عليهم السلام. وانتقل البيان إلى الغاية الكبرى وهي إثبات البعث والحساب ووصف نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار. ثم توجهت السورة بقصة بدء الخلق- قصة آدم عليه السلام وسجود الملائكة له إلا إبليس، وطرده من الجنة، وصبّ اللعنة عليه إلى يوم القيامة، وتوعده وأتباعه بملء جهنم منهم. وختمت السورة ببيان إخلاص النبي ص في تبليغ رسالته دون طلب أجر، مما يدل على نبوته، وأردفه بإعلان كون القرآن رسالة للثقلين: الإنس والجن، وأن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.

مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة ص (38) الآيات 1 إلى 11] :

مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) الإعراب: ص قرئ «صاد» بسكون الدال وفتحها وكسرها بلا تنوين وبتنوين. فمن قرأ بالسكون فعلى الأصل، لأن الأصل في حروف الهجاء البناء، والأصل في البناء أن يكون على السكون. ومن قرأ بالفتح جعله اسما للسورة، كأنه قال: اقرأ صاد. ومن قرأ بالكسر بغير تنوين فهو إما أمر من المصاداة وهي المقابلة، أي قابل القرآن بعملك، وإما بإعمال حرف القسم مع حذفه، مثل: الله لأفعلن، وفيه ضعف. ومن قرأ بالكسر مع التنوين شبهه بالأصوات التي تنون للفرق بين التعريف والتنكير، مثل صه وصه. وَالْقُرْآنِ مجرور على القسم وجوابه إما إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ وإما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وإما إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وإما كَمْ أَهْلَكْنا وتقديره: لكم أهلكنا، فحذفت اللام، كما حذفت في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس 91/ 9] أي لقد أفلح.

البلاغة:

وَلاتَ حِينَ مَناصٍ لاتَ: حرف بمعنى ليس، وله اسم وخبر، أي ولات الحين حين مناص. والجملة حال من فاعل نادوا. ومن قرأ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع، أضمر الخبر، وهو شاذ لا يقاس عليه. وتاء لات لتأنيث الكلمة، وهي عند البصريين بمنزلة تاء الفعل، مثل: ضربت وذهبت، والوقف عليها بالتاء، وعليه خط المصحف، وهي عند الكوفيين بمنزلة تاء الاسم، نحو: ضاربة وذاهبة، والوقف عليها بالهاء، والأقيس مذهب البصريين، لأن الحرف إلى الفعل أقرب منه إلى الاسم. أَنِ امْشُوا أن مفسرة، تقديره: أي امشوا، وهو من المشاية: كثيرة النتاج، دعا لهم بكثرة الماشية. جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ جُنْدٌ مبتدأ، وما زائدة، وهُنالِكَ صفة جند، تقديره: جند كائن هنالك، ومَهْزُومٌ خبر المبتدأ. وقيل: هنالك متعلق بمهزوم، والأول أوجه. البلاغة: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي أهل قرن، فهو مجاز مرسل، والقرن: مائة عام. وَقالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير، والأصل: وقالوا، لرصد كفرهم. كَذَّابٌ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَوَّابٌ من صيغ المبالغة. إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ تأكيد الجملة الخبرية بإنّ واللام لزيادة التعجب والإنكار منهم. جُنْدٌ ما هُنالِكَ التنوين في جُنْدٌ للتقليل والتحقير، وزيادة ما لتأكيد القلة. إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ: توافق الفواصل الذي يزيد الكلام روعة وبهاء وجمالا. المفردات اللغوية: ص معناه: أن القرآن مركب من هذه الحروف العربية، وأنتم أيها العرب قادرون على تكوين الجمل والكلام منها، ولستم قادرين على معارضة القرآن والإتيان بمثله، فهو للدلالة على

التحدي والتنبيه على الإعجاز. وقيل: إن هذه الفواتح وأمثالها لها معان أخرى «1» . وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يقسم الله تعالى بالقرآن، والإقسام بالقرآن: فيه تنبيه على شرف قدره وعلوّ محله. ومعنى ذِي الذِّكْرِ: البيان، أو الشرف والشهرة، كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف 43/ 44] . وجواب القسم في رأي جماعة محذوف تقديره: إنه لكلام معجز، أو ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي لا ريب فيه قطعا، بل المشركون من أهل مكة وأمثالهم في تكبر وتجبر عن الإيمان، واعتزاز بالباطل، والعزة أيضا: الغلبة والقهر وشِقاقٍ أي خلاف وعداوة لله ولرسوله كَمْ كثير أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد قوة وأكثر أموالا فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي نادوا حين نزول العذاب بهم أي استغاثوا، وليس ذلك الوقت وقت خلاص وفرار ومنجى. وهذا وعيد على كفرهم بالقرآن استكبارا وشقاقا. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ تعجبوا من مجيء رسول من أنفسهم ينذرهم ويخوفهم بالعذاب بالنار إن استمروا على الكفر، وهو النبي ص وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قالوا ذلك لما شاهدوا المعجزات الخارجة عن قدرة البشر أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً أصيّرها إلها واحدا؟ حين قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، أي كيف يكون للخلق كلهم إله واحد؟ عُجابٌ عجيب، بالغ في العجب إلى الغاية، وإنما تعجبوا، لأنه كان لكل قبيلة إله. الْمَلَأُ الأشراف، انطلقوا من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب بعد سماعهم قول النبي ص كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب والعجم، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا الله أَنِ امْشُوا يقول بعضهم لبعض: امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ اثبتوا على عبادتها إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي إن هذا الذي يريده محمد ص بنا وبآلهتنا، من دعوته إلى التوحيد لشيء من ريب الزمان يراد بنا، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا. الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ هي ملة النصرانية اخْتِلاقٌ كذب اختلقه محمد ص وافتراه أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ أأنزل عليه القرآن، ونحن الرؤساء والأشراف، أكبر منه سنا، وأعظم منه شرفا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من القرآن أو الوحي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكهم. والمعنى: إنهم لا يصدّقون به حتى يمسهم العذاب، فيلجئهم إلى تصديقه.

_ (1) انظر تفسير الرازي: 26/ 174

سبب النزول نزول الآية (5) :

خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ مفاتيح نعم ربك الْعَزِيزِ الغالب الْوَهَّابِ من النبوة وغيرها، حتى يعطوها لمن شاؤوا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في المعارج والوسائل التي توصلهم إلى السماء والاستيلاء على العرش، حتى يحكموا بما يريدون جُنْدٌ ما جند حقير من الكفار هُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، وتكذيب النبي مَهْزُومٌ، مِنَ الْأَحْزابِ صفتان ل جُنْدٌ فهم مغلوبون، متحزبون على الأنبياء قبلك، فقهروا وهلكوا، فكذلك نهلك هؤلاء. سبب النزول: نزول الآية (5) : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ..: أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي ص، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم ص وَالْقُرْآنِ.. إلى قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. التفسير والبيان: ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ص أحد حروف الهجاء العربية، افتتح بها هذه السورة كغيرها من السور للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن، وتنبيه المخاطب للإصغاء إلى الكلام الآتي بعده. وأقسم بالقرآن ذي البيان الشامل لكل ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد من الدين الجامع للعقائد الثابتة الصحيحة، والشرائع الناظمة للحياة الإنسانية، والوعد والوعيد، وهو أيضا ذو الشرف والشهرة والرفعة، أقسم به إنه لكلام معجز منزل من الله، وإن محمدا لصادق فيما يدعيه من النبوة، والرسالة من رب العالمين إلى البشرية جمعاء، وهو أيضا تذكير كقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء 21/ 10] أي تذكيركم.

وسبب كفر المشركين هو: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي إن هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون، لأنهم في استكبار عنه، وترفع عن اتباع الحق، ومخالفة لله ولرسوله ص ومعاندة ومكابرة وحرص على المخالفة. ثم خوّفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم، فقال: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الخالية بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء، فاستغاثوا وجأروا إلى الله تعالى حين جاءهم العذاب، فلم يجدهم شيئا، لأن الوقت ليس وقت خلاص وفرار من العذاب، كما قال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ [الأنبياء 21/ 12- 13] ويَرْكُضُونَ يهربون. وقال سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [المؤمنون 23/ 64] . وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي تعجب المشركون من بعثة محمد ص بشيرا ونذيرا، وبشرا رسولا من أنفسهم، وقال الكافرون لما رأوا معجزاته الباهرة: هذا ساحر خدّاع كذاب فيما يدعيه من النبوة، وينسبه إلى الله من الوحي. ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يونس 10/ 2] . وفي الآية دلالة على أن المشركين ذوي العزة والشقاق كذبوا الرسول ص من غير حجة وبرهان، وحسدا من عند أنفسهم، وطمعا في أن يكون الرسول ص

أحد الزعماء والرؤساء، ولم يجدوا تهمة أرخص من اتهامه بالسحر والكذب، وذلك دليل الإفلاس. ثم أورد الله تعالى لهم شبهات ثلاثا في وصف النبي بالكذب: الأولى تتعلق بالألوهية أو التوحيد، والثانية بالنبوة، والثالثة بالمعاد، وهنا ذكر شبهتين، والثالثة ستأتي في آية وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ. 1- توحيد الإله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أصيّر الآلهة إلها واحدا، وقصر الألوهية على الله سبحانه، إن هذا لشيء بالغ النهاية في العجب. وإنما تعجبوا لأنه كان لكل قبيلة إله، وكانوا يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا زلفى إلى الله، والله يملكهم، فأي ضير في هذا؟ وادعوا العجب ممن رفض الآلهة المتعددة، وقالوا: إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين، ويكون «محمد ص» وحده محقّا صادقا. وهذا مجرد تقليد أعمى وإرث منقول دون دليل عقلي ولا نقلي. وسبب نزول هذه الآيات الكريمات كما تقدم: ما رواه الترمذي وغيره بلفظ آخر عن ابن عباس، قال: «مرض أبو طالب، فجاءت قريش إليه، وجاء النبي ص، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، فقال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فنزل فيهم القرآن ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ حتى بلغ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ «1» . ورواه بلفظ آخر ابن أبي حاتم وابن جرير عن السدّي.

_ (1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وفي رواية: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شقّ على قريش إسلامه، فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي ص فقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السواء «1» ، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: «وماذا يسألونني؟» قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال النبي ص: «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل: لله أبوك! لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي ص: «قولوا: لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فكيف يسع الخلق كلّهم إله واحد؟ فأنزل الله فيهم هذه الآيات، إلى قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب قائلين: امضوا على ما كنتم فيه، واثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على ذلك، إن هذا التحول عن الآلهة لأمر عظيم يريده محمد ص، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد. 2- عدم وجود التوحيد في النصرانية: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في الملة الآخرة وهي النصرانية، وما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من وحي ودين سماوي، ولا من عقل صحيح فيما يزعمون، فوجب أن يكون باطلا. 3- تخصيص النبوة في محمد: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ استفهام إنكار، أي كيف ينزل القرآن على محمد دوننا، ونحن الرؤساء والأشراف؟ فهذا أمر مستبعد، كما حكي عنهم في آية أخرى: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] فرد الله عليهم قائلا:

_ (1) أي العدل.

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف 43/ 32] . وسبب استبعادهم هذا، الناشئ عن جهلهم وقلة عقلهم: الشك في أمر القرآن وحسد النبوة: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل الحقيقة أنهم في شك من القرآن أو الوحي، بل إنما شكوا وتركوا النظر والاستدلال، لأنهم لم يذوقوا عذابي، فإذا ذاقوه صدقوا بالقرآن، وزال عنهم الشك والحسد. ولَمَّا بمعنى «لم» وما: زائدة، مثل: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون 23/ 40] وفَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء 4/ 155 أو المائدة 5/ 13] . ثم رد الله تعالى عليهم استبعادهم نبوة محمد ص وجعلها في صناديدهم قائلا: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي بل أهم يملكون مفاتيح نعم ربك القوي الغالب، المانح الواهب الكثير المواهب، حتى يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ كما في آية أخرى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً [الإسراء 17/ 100] . ثم أنكر الله تعالى ما هو أشد، فقال: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي بل أهم يملكون السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم، فإن فرض أنهم يملكون، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون. ثم أجمل الله تعالى وصفهم بالقلة والحقارة فقال: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي ما هم إلا جند مغلوبون

فقه الحياة أو الأحكام:

هنالك، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد ص، والذي يتحزبون فيه على المؤمنين. وهذه الآية كقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر 54/ 44- 46] . وهذا وعد من الله بنصر نبيه ص وأن الغلبة ستكون له. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله عز وجل بالقرآن العظيم ذي الشرف والشهرة والمجد على صدق نبوة محمد ص وأنه رسول من الله إلى الناس كافة. 2- إن سبب إعراض كفار قريش عن الإيمان برسالة النبي ص هو التكبر والتجبر والاستعلاء عن اتباع الحق، ومخالفة الله تعالى ورسوله ص ومعاداتهما وإظهار مباينتهما. 3- أنذرهم الله وحذرهم من الإهلاك كما أهلك الأمم الماضية الذين كانوا أمنع منهم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فاستغاثوا وتابوا، ولكن في وقت لا ينفع فيه التوبة، ولا ينفع العمل. 4- لقد تعجب كفار قريش بسبب جهلهم أن جاءهم رسول بشر من أنفسهم، يبشرهم وينذرهم، فلم يجدوا حجة للإعراض عنه إلا أن قالوا: ساحر كذاب، أي يجيء بالكلام المموّه الذي يخدع به الناس، ويكذب في دعوى النبوة. 5- وبالغوا في التعجب من دعوته إلى التوحيد وتصييره الآلهة إلها واحدا. 6- لم يجد هؤلاء الكفار سبيلا إلا أن أعلنوا إصرارهم على وثنيتهم، وقال

الرؤساء للأتباع: امضوا على ما كنتم فيه، ولا تدخلوا في دين محمد ص، واثبتوا على عبادة آلهتكم المخصصة لكل قبيلة، فإنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه. 7- أيدوا وثنيتهم بآخر الملل وهي النصرانية، فإن النصارى يجعلون مع الله إلها، وإن الدعوى إلى توحيد الإله ما هو في زعمهم إلا كذب وافتراء وتخرّص وابتداع على غير مثال. 8- إن شعورهم بالعزة والاستكبار دفعهم أيضا إلى إنكار اختصاص محمد ص بإنزال القرآن عليه ونزول الوحي على قلبه، دونهم، وهم في رأيهم أحق بذلك، لأنهم السادة والرؤساء والأشراف. 9- إن حقيقة أمرهم أنهم شكوا فيما أنزل الله تعالى على رسوله ص، هل هو من عنده أم لا؟ وكذلك اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذاب الله على الشرك لزال عنهم الشك، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ. 10- عجيب أمر هؤلاء المشركين، هل يملكون مفاتيح نعم الله، فيمنعون محمدا ص مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة؟ فالله المالك للنعم يرسل من يشاء، لأن خزائن السموات والأرض له. وهل يملكون عالم السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات، فإن ادّعوا ذلك، فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد ص. 11- ما هؤلاء الكفار إلا مجرد جند من الأحزاب مهزومون، متحزبون في موضع تحزّبهم لقتال محمد ص، وذلك الموضع مكة، وهم في النهاية أذلّة لا حجة لهم، ولا قدرة لأن يصلوا إلى الاستيلاء على سلطان الله وملكه، فيتصرفوا في الناس كيف يريدون.

إنذار الكفار بحال الأمم المكذبة قبلهم [سورة ص (38) الآيات 12 إلى 16] :

وهذا تأنيس للنبي ص، ووعد له بالنصر والغلبة، ولهم بالهزيمة، وقد تحقق هذا يوم بدر. قال الرازي: والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة. إنذار الكفار بحال الأمم المكذبة قبلهم [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 16] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) الإعراب: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إنما دخلت التاء في كَذَّبَتْ لتأنيث الجماعة، أي كان تأنيث قَوْمُ باعتبار المعنى. البلاغة: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ استعارة مكنية، شبه الملك بخيمة كسيرة شدّت حبالها بالأوتاد لترسخ في الأرض، ولا تقتلعها الرياح، وذكر الأوتاد تخييل. المفردات اللغوية: ذُو الْأَوْتادِ الوتد: هو الذي يدق في الأرض أو الحائط لربط الأشياء به من حبال وغيرها، والمراد هنا ذو الملك الثابت، والبناء المحكم، والحكم الراسخ الْأَيْكَةِ الغيضة من الشجر الكثير الملتف، وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام إِنْ كُلٌّ أي ما كل أحد من الأحزاب كَذَّبَ الرُّسُلَ أي إلا وقع منه تكذيب الرسل، وجمع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم، لأن دعوتهم واحدة، وهي دعوة التوحيد فَحَقَّ عِقابِ وجب عقابي عليهم بتكذيبهم، وإن تأخر. وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي ينتظر كفار مكة صَيْحَةً هي نفخة القيامة، تحل بهم العذاب

المناسبة:

فَواقٍ بضم الفاء وفتحها: أي توقف مقدار من الزمن وهو ما بين حلبتي الناقة أو الرضعتين، حتى يجتمع الحليب في الضرع، أو الفواق: الرجوع والترداد، فإن في الفواق يرجع اللبن بعد سويعة إلى الضرع، أي إذا جاءت الصيحة لا تتوقف مقدار فواق ناقة، وفي الحديث الذي رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «العيادة فواق ناقة» وَقالُوا كفار مكة استهزاء قِطَّنا قسطنا من العذاب الذي توعدنا به، أو كتاب أعمالنا، استعجلوا ذلك استهزاء. المناسبة: بعد بيان أن المشركين توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال، لأنه لم ينزل بهم العذاب، بيّن الله تعالى في هذه الآيات أن أقوام سائر الأنبياء كانوا هكذا، حتى نزل بهم العقاب. والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول ص في إخباره عن نزول العقاب بهم. التفسير والبيان: ذكر الله ستة أصناف من الكفار الذين كذبوا الرسل في الأمم الغابرة وهم: 1- 3: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ أي كذبت الرسل قبل قريش قوم نوح، وقبيلة عاد، وفرعون ذو الحكم الراسخ وقومه. أما قوم نوح عليه السلام فكذبوه وآذوه وهزئوا به، وقالوا عنه: إنه مجنون، فأهلكهم الله بالغرق والطوفان، ونجّى الله نوحا ومن آمن به، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ [القمر 54/ 9- 14] . وأما عاد قوم هود عليه السلام فكذبوه أيضا، فأهلكهم الله بالريح، كما قال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ

أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة 69/ 6- 7] . وأما فرعون الطاغية الجبار ذو الحكم الثابت الراسخ القوي، فأرسل الله تعالى إليه موسى عليه السلام بآيات أو معجزات تسع ومعه أخوه هارون، فكذب وعصى، فأهلكه الله بالغرق، ونجى موسى وقومه المؤمنين، كما قال تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات 79/ 15- 26] . وقال سبحانه: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، فَأَنْجَيْناكُمْ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 2/ 50] . 4- 6: وَثَمُودُ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، أي الغيضة، أولئك الأحزاب، أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة، كمن تحزّب عليك أيها النبي. أما ثمود قوم صالح عليه السلام فكذبوه، وعقروا الناقة المعجزة، فأهلكهم الله بالصيحة، أو بالطاغية، فصاروا كهشيم المحتظر، كما قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة 69/ 5] وقال سبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقالُوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى أن قال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر 54/ 23- 31] . وأما قوم لوط عليه السلام فكذبوه أيضا فأهلكوا بالخسف أو الزلزلة، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر 54/ 33- 34] .

وأما أصحاب الأيكة (أي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض) فهم قوم شعيب عليه السلام، كذبوه، فأهلكوا بعذاب يوم الظلّة، كما قال تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر 15/ 78- 79] . وقال سبحانه: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء 26/ 189] . وسبب إهلاكهم تكذيبهم الرسل، كما قال تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ عِقابِ أي ما كل أحد من هؤلاء الأقوام الغابرة إلا كذب الرسل، فوجب عقاب الله لهم، جزاء وفاقا. وهذا يعني أن علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر، وهذا مفاد الآية التالية: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي ما ينتظر كفار قريش إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية وهي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها، فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل. وما لها من فواق: أي ما لها من انتظار وراحة وإفاقة. وتحدث تلك النفخة بلا توقف مقدار فواق الناقة: وهو الزمن الذي بين الحلبتين. والمعنى: ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، وإذا حل هذا الموعد فلا تأخر عنه أبدا، كما قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس 36/ 49- 50] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت. ثم ذكر تعالى الشبهة الثالثة للكفار في تكذيب النبي ص وهي المتعلقة بالمعاد «1» ، فقال:

_ (1) والشبهتان الأولى والثانية في الآيات المتقدمة: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ.. (5- 8) .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ أي وقال المشركون تهكما واستهزاء حين سمعوا بالمعاد والحساب والعقاب: ربنا عجّل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب، كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . وقائل ذلك: النضر بن الحارث الذي قال الله فيه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج 70/ 1] أو أبو جهل، ورضي الآخرون بقوله. ثم أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى سفاهتهم قائلا: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر على أذى قومك المشركين، فإنهم في النهاية مقهورون أذلاء، ونبشرك على صبرك بالظفر والنصر والعاقبة الحميدة. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات عظة بليغة وعبرة مؤثرة يتأثر بها ذوو الإحساس الإنساني السليم الذي يتخلى صاحبه عن الكبر والاستعلاء. وما أعظمها عبرة وشاهدا محسوسا لكفار مكة. إن أمامهم آثار الدمار والخراب والهلاك، أو إنهم يسمعون ما حدث للأمم التي كذّبت رسلها، وما جرى على المثيل يجري على مثيله. فإن الله القوي القاهر أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك فرعون وجنوده بالإغراق في البحر، وقوم هود بالريح الصرصر العاتية، وقوم صالح بالصيحة أو بالطاغية (وهي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة) وقوم لوط بالخسف أو الزلزلة، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.

قصة داود عليه السلام [سورة ص (38) الآيات 17 إلى 26] :

وما ينتظر كفار مكة إلا صيحة القيامة ليزجّ بهم في عذاب النار التي إذا جاءت لا تؤخر أبدا، أو لا تستأخر لحظة واحدة: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 16/ 61] . ولكن اغتر الكفار بطول المهلة، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، إكراما للنبيّ ص: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال 8/ 33] وجعل عذابهم في الآخرة، قالوا سخرية واستهزاء: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة والحساب إن كان الأمر كما يقول محمد ص. وهذا غاية الجهل والسفاهة والحمق. ثم أمر الله نبيه ص بالصبر على أذاهم وسفاهتهم لما استهزءوا به، فما بعد الصبر إلا الفرج، وسيكون النصر والظفر قريبا. قصة داود عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 17 الى 26] اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)

الإعراب:

الإعراب: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا.. إِذْ الأولى تتعلق ب نَبَأُ وتَسَوَّرُوا بلفظ الجمع، لأن الخصم مصدر يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، فجمع حملا على المعنى. وإِذْ الثانية: بدل من الأولى. وخَصْمانِ خبر مبتدأ محذوف تقديره: نحن خصمان، فحذف المبتدأ. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ عزّني بالتشديد على الأصل من عزّه: إذا غلبه، وقرئ بالتخفيف على أنه مخفف من المشدد، كما يقال في «ربّ: رب» . والخطاب: مصدر خاطب أو مصدر خطب، نحو الأول: ضارب ضرابا، ونحو الثاني كتب كتابا. بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ تقديره: بسؤاله إياك نعجتك، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى، والمفعول الأول، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني الْخُلَطاءِ جمع خليط بوزن فعيل صفة فيجمع على فعلاء إلا إن كان فيه واو فيجمع على فعاة، نحو طويل وطوال. وَقَلِيلٌ ما هُمْ بَعْضُهُمْ: مبتدأ، وقَلِيلٌ: خبره، وما زائدة، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي تيقن، وقرئ فَتَنَّاهُ بالتخفيف، أراد به فتنة الملكين. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ذلِكَ منصوب ب غفرنا، ويصح جعله خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. البلاغة: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بينهما طباق، لأن المراد بهما المساء والصباح. وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ورد بأسلوب التشويق. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. ورد بأسلوب الإطناب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنه مع علوّ شأنه، واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات، لما توهم أو ظن أنه أتى صغيرة استغفر ربه وأناب، فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان؟ ذَا الْأَيْدِ القوة والجلد في العبادة، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ويصوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه أَوَّابٌ رجاع إلى الله وإلى طاعته ومرضاته. يُسَبِّحْنَ بتسبيحه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بالمساء والصباح، وأصل العشي: وقت العشاء، والْإِشْراقِ وقت شروق الشمس ووضوح ضوئها مَحْشُورَةً مجموعة إليه من كل جانب، تسبح معه كُلٌّ لَهُ من الجبال والطير لأجل تسبيحه أَوَّابٌ رجاع إلى التسبيح منقاد يسبح تبعا له وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قويناه حتى ثبت، وآزرناه بالهيبة والنصر، وبالحرس والجنود الْحِكْمَةَ النبوة وكمال العلم وإصابة الصواب في القول والعمل وَفَصْلَ الْخِطابِ البيان الشافي، والكلام الفاصل بين الحق والباطل. وَهَلْ أَتاكَ أيها الرسول أي خبرهم وقصتهم، ويراد بالاستفهام هنا التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده الْخَصْمِ جماعة الخصوم، ويطلق الخصم على المفرد والجمع، مذكرا ومؤنثا تَسَوَّرُوا أتوه من أعلى السور، ودخلوا إلى المنزل والمسجد الذي يصلي فيه، حيث منعوا الدخول عليه من الباب، لشغله بالعبادة فَفَزِعَ خاف خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان، والمشهور أنهما ملكان، والأقرب أنهما بشران عاديان صاحبا نعاج أي مواشي، والخصومة حقيقية بَغى جار وظلم وَلا تُشْطِطْ لا تجر في الحكم ولا تبعد عن الحق وَاهْدِنا أرشدنا سَواءِ الصِّراطِ وسط الطريق الصواب. إِنَّ هذا أَخِي أي على ديني نَعْجَةً أنثى الضأن أَكْفِلْنِيها اجعلني كافلها وملكنيها وَعَزَّنِي غلبني فِي الْخِطابِ في الجدال والمخاطبة والمحاجة بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ سؤاله نعجتك ليضمها إليه الْخُلَطاءِ الشركاء، والمعارف أو الأعوان الذين بينهم خلطة وامتزاج، جمع خليط وَقَلِيلٌ ما هُمْ ما زائدة لتأكيد القلة وَظَنَّ من الظن وهو رجحان تصور الشيء، أو بمعنى تيقن وعلم فَتَنَّاهُ ابتليناه أو امتحناه بتلك الحكومة، واختبرناه بهذه الحادثة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ للظن السيء بالرجلين أنهما أتياه لقتله وهو منفرد في محرابه وَخَرَّ راكِعاً ساجدا وَأَنابَ تاب ورجع إلى الله وطاعته. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي عفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين» . لَزُلْفى قرب من الله مَآبٍ مرجع في الآخرة.

المناسبة:

إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور الناس وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى هوى النفس فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدلائل الدالة على الحق بِما نَسُوا بنسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ المرتب لهم، لضلالهم عن السبيل الحق، فإن تذكر يوم الحساب يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى. المناسبة: بعد إنذار قريش بحال الكفار الغابرين، وبعد أمر النبي ص بالصبر على أذى قريش وسفاهتهم، أمره الله تعالى بتذكر حال تسعة من الأنبياء، حال ثلاثة منهم تفصيلا، وحال ستة آخرين منهم إجمالا، ليتأسى بما لاقوا من أذى قومهم، محتسبين أجرهم عند الله تعالى. وبدأ بذكر قصة داود عليه السلام، ليتذكر حال ذلك النبي الشاكر الصابر، ذي القوة في الدين والبدن معا. ويجب أن تفهم هذه القصة- قصة المحاكمة- على النحو الظاهري المبين في القرآن الكريم، وأن تستبعد الإسرائيليات منها، لمناقضتها مبدأ عصمة الأنبياء، فقد روي في الإسرائيليات أن داود عليه السلام وقع بصره على امرأة تستحم، فأعجبته وعشقها، وكانت زوجة أحد قواده واسمه «أوريا الحثي» فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها، فأرسله في إحدى المعارك وحمّله الراية، وأمره بالتقدم فانتصر، فأرسله مرارا ليتخلص منه حتى قتل، فتزوجها. قال البيضاوي: هذا هزء وافتراء، ولذلك قال علي رضي الله عنه: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين» . وهو حد الفرية على الأنبياء، أي مضاعفا «1» . وأبطل الإمام الرازي هذه الحكاية المفتراة بوجوه ثلاثة ملخصها:

_ (1) تفسير البيضاوي: 602

الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها. الثاني- أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين: السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته، وكلاهما منكر. الثالث- أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بصفات عشر، ثم وصفه أيضا بصفات كثيرة بعد هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح «1» . والرواية الصحيحة لهذه القصة: أن داود عليه السلام كان يقسم وقته الأسبوعي أثلاثا: ثلث لشؤون الملك، وثلث للقضاء بين الناس، وثلث آخر للخلوة والعبادة وترتيل الزبور في المحراب «2» ، فتجاوز خصمان هذا النظام، وتسورا عليه المحراب من فوق الجدار طلبا للمحاكمة في غير موعدها، ففزع منهما، وظن أنهما جاءا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه لعبادة ربه، والخصمان بشران لا ملكان، والنعاج: المواشي، لا النساء. إلا أنه بادر إلى الحكم والقضاء قبل سماع بينة الخصم الآخر، فعاتبه الله على ذلك، ونبهه إلى وجوب تثبت القاضي وسماع الخصم الآخر، قبل إصدار الحكم. وسأبين أن هذا أيضا محل نظر، فإنه لا يعقل أن يحكم داود عليه السلام قبل سماع قول الخصم الآخر، فهذا من مبادئ الحكم الأولية التي لا تترك.

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 189 (2) وقال ابن عباس: جزّأ أزمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيّهم، فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم، لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله، لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه. (البحر المحيط: 7/ 391) .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: تضمنت قصة داود عليه السلام في هذه السورة ثلاثة موضوعات: الأول- تعداد الصفات التي أنعم الله بها على داود والتي أهّلته لسعادة الدنيا والآخرة. الثاني- إصدار الحكم في واقعة بين خصمين. الثالث- استخلاف الله تعالى إياه بعد تلك الواقعة. الموضوع الأول- صفات داود عليه السلام ذكر الله تعالى عشر صفات لداود عليه السلام آتاه الله إياها، وهي تحقق كمال السعادة الدنيوية والأخروية. 1- 4: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، ذَا الْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا معطوف على مطلع الآية المذكور في نهاية المقطع السابق وهو وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والمعنى: اذكر أيها الرسول لقومك قصة عبدنا داود ذي القوة في العلم والعمل وطاعة الله، قال قتادة: أعطي داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام قوة في العبادة، وفقها في الإسلام، وكان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف النهار، ثبت في الصحيحين أن النبي ص قال: «أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا» . أي رجّاعا إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه. وفي تاريخ البخاري عن أبي داود قال: «كان النبي ص إذا ذكر داود وحدث عنه قال: كان أعبد البشر» . والصفات الأربع المذكورة هنا هي:

1- الصبر: فقد أمر الله تعالى محمدا ص على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله. 2- والعبودية: فقد وصفه ربه بقوله عَبْدَنا داوُدَ وعبر عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، والوصف بالعبودية لله غاية التشريف، كوصف محمد ص بها ليلة المعراج: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء 17/ 1] . فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسب الاجتهاد في الطاعة. 3- والقوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، في قوله تعالى: ذَا الْأَيْدِ. 4- والرجاع إلى طاعة الله في أموره كلها، في قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ. 5- 6: تسبيح الجبال والطير معه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ 34/ 10] قال ابن كثير: وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرّ به الطير، وهو سابح في الهواء، فسمعه، وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء، ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات، ترجّع معه، وتسبّح تبعا له» . وهذا ما قاله تعالى: 7- وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي وسخرنا له الطير، حال كونها محبوسة في الهواء، تسبح بتسبيحه، وكل من الجبال والطير مطيع، يسبح تبعا له، فكلما سبح داود جاوبته. وهذا يومئ أن داود عليه السلام كان حسن الترتيل، جميل الصوت.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 29

الموضوع الثاني - القضاء في خصومة:

8- قوة الملك: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس، وجعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك. 9- إيتاء الحكمة: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أعطيناه الفهم والعقل والفطنة، والعلم، والعدل، وإتقان العمل، والحكم بالصواب. ولما كمّل الله تعالى نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة، فقال: وَفَصْلَ الْخِطابِ. 10- حسن الفصل في الخصومات: وَفَصْلَ الْخِطابِ أي وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإيجاز البيان، بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. الموضوع الثاني- القضاء في خصومة وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قالُوا: لا تَخَفْ، خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَلا تُشْطِطْ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ هذا نبأ عجيب يشوق السامع سماعه ومعرفته، لذا ذكره الله لرسوله، ومعناه: هل علمت ذلك الخبر المهم العجيب؟ وبدأه بهذا الاستفهام، ليكون مدعاة إلى الإصغاء له والاعتبار به. إنه نبأ جماعة من الخصوم تسلقوا سور غرفة داود المخصصة للصلاة، فدخلوا عليه وهو منهمك بالصلاة وعبادة الله وترانيم الزبور، في غير موعد المحاكمة المخصص للناس، فخاف منهم ظنا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه للعبادة، في أشرف مكان في داره- وقد كان اغتيال الأنبياء معروفا في بني إسرائيل، فقد قتلوا إشعيا وزكريا، كما قال تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران 3/ 21] فقالوا له: لا تخف، نحن متخاصمان جار بعضنا على

بعض، فاحكم بيننا حكما عادلا، ولا تجر في الحكم، واهدنا إلى الطريق الحق العدل. وموضوع الخصومة هو: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ: أَكْفِلْنِيها، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية، يملك تسعا وتسعين شاة، وأملك شاة واحدة، فقال: ملكنيها وغلبني في المخاصمة والجدال والحجة، فأتى بحجج لم أستطع ردها. والنعجة: هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة. فحكم داود عليه السلام بقوله: قالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي قال داود الحاكم بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى: لقد ظلمك بهذا الطلب، وطمع عليك. ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت، فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وإن كثيرا من الشركاء في المال أو المعارف والأعوان المتعاملين ليظلم بعضهم بعضا، إلا من آمن بالله وخاف ربه وعمل صالح الأعمال، فإنه لا يظلم، وهؤلاء الصالحون قلة، كما قال تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [الأعراف 7/ 102] . وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ أي وعلم داود وأيقن أنما اختبرناه بهذه الواقعة، وهي تعرضه للاغتيال ثم نجاته منه، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين، وأنهما أتيا لاغتياله، وهو الأصح، أو أنه حكم

الموضوع الثالث - الاستخلاف في الأرض:

بين الخصمين في النعاج قبل أن يسمع بيّنه الخصم الآخر، وكان الحق له، وخر ساجدا- وعبر بالركوع عن السجود- ورجع إلى الله بالتوبة من ذنبه. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي فغفرنا له سوء ظنه أو ما كان منه مما يقال فيه: إن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وإن له عند ربه لقربا وحسن مرجع، وهو الجنة. والظاهر أن الذنب: هو همّ داود الانتقام من هذين الشخصين اللذين كانا يقصدان اغتياله، فاصطنعا هذه الخصومة، لأنهما رأيا أن الحرس سيقتلونهما ولن يفلتا من العقاب، ثم رأى داود أن العفو والصفح أقرب لمقام النبوة، فاستغفر ربه مما كان قد عزم عليه من الانتقام. الموضوع الثالث- الاستخلاف في الأرض يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يخاطب الله تعالى داود عليه السلام بأنه استخلفه حاكما بين الناس في الأرض، فله السلطة والحكم، وعليهم السمع والطاعة. ثم بيّن الله تعالى له قواعد الحكم تعليما لغيره من الناس: 1- فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض. وهذه أولى وأهم قواعد الحكم. 2- وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا، فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار، لذا قال: فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق، وما عاقبته إلا الخذلان، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي إن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل، لهم عقاب شديد يوم القيامة

فقه الحياة أو الأحكام:

والحساب الأخروي، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل. والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاه الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد. روى ابن أبي حاتم أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: أخبرني، أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت القرآن وفقهت! فقال: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قال: يا أمير المؤمنين: أنت أكرم على الله أو داود عليه السلام؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة، ثم توعده في كتابه، فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وصف الله تعالى داود عليه السلام بعشر صفات: هي كما تقدم الصبر، والعبودية لله، والقوة في الدين، وكونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وتسبيح الجبال، والطير مع تسبيحه وترنيمه، وإتيان الطير طائعة له، وتشديد ملكه في الدين والدنيا، وإيتاؤه الحكمة (الفهم والعقل والفطنة والحكم بالصواب) وحسن الفصل في الخصومات. 2- بمناسبة تسبيح الجبال معه بالعشي والإشراق، أي في المساء والصباح، ذكر القرطبي أن صلاة الضحى نافلة مستحبة، جاء في صحيح مسلم عن أبي ذرّ

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 32

عن النبي ص أنه قال: «يصبح على كل سلامي «1» من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» . وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «من حافظ على شفعة الضحى، غفر له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» . وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر» . وأقل الضحى كما في هذه الأحاديث وغيرها ركعتان، وأكثره ثنتا عشرة ركعة. 3- ذكر الله تعالى لداود بعد قصة المحاكمة عشر صفات منها سؤال المغفرة من ربه فغفر له، ومنها السجود شكرا لله والإنابة، ومنها: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ومنها يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ. قال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى: الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. 4- ليس الحاكم ملزما كل يوم بالاستعداد لفصل القضاء في الخصومات بين الناس، وإنما له تخصيص أيام في الأسبوع لتلك المهمة الخطيرة. 5- الفزع ظاهرة إنسانية في المفاجآت، وقد فزع النبي داود عليه السلام من الرجلين اللذين أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم، أو لدخولهم عليه بغير إذنه، أو لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. وقد شاع بين بني إسرائيل قتل الأنبياء وإيذاؤهم.

_ (1) أصل السلامى: عظام الأصابع والأكفّ والأرجل، ثم استعمل هنا في سائر عظام الجسد ومفاصله، وهي كما في حديث آخر ثلاث مائة وستون مفصلا. [.....]

6- إن القصة التي يرويها بعض المفسرين بما يتعارض مع مبدأ «عصمة الأنبياء» لا أصل لها، ولا مستند عليها، وإنما هي من الإسرائيليات الدخيلة. 7- لم يكن خطأ داود عليه السلام في أنه قضى لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، فهذا من أصول الحكم التي لا يمكن تجاوزها، قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر، وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادّعى، والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى «1» . وقد قال النبي ص لعلي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر» . 8- أجمع العلماء على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر، وفي الصغائر اختلاف، الأصح كما قرر ابن العربي وغيره أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر. 9- استدل العلماء على مشروعية الشركة بأدلة، منها: ما ورد على لسان داود عليه السلام: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي الشركاء في المال كما تقدم. 10- الصلحاء في كل زمان قليلون، لقوله تعالى: وَقَلِيلٌ ما هُمْ يعني الصالحين. سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: أردت قول الله عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر. 11- اختلف العلماء في سجدة داود، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أو لا؟ أي هل هي سجدة تلاوة؟

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1625

فقال المالكية والحنفية: ليست موضع سجود، لما في البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «ص، ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي ص يسجد فيها» . وأنكر المالكية أيضا سجدة الشكر. وقال الشافعية والحنابلة: إنها ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، استدلالا بفعل النبي ص، كما نص الحديث المتقدم، وروى النسائي أن النبي ص قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا» . 12- ليس في استغفار داود ما يشعر بارتكاب ذنب أو أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة. 13- الأصل في مشروعية الأقضية أو التقاضي قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة 5/ 49] وقوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء 4/ 105] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء 4/ 135] . 14- إن قاعدة الحكم الأساسية الحكم بالعدل والحق: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ومن قواعده: أن القاضي لا يحكم في الوقائع إلا بالدعوى ورفع الأمر إليه، فيجب الحكم بالحق، وألا يميل القاضي إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرهما. 15- هذه الآية: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.. تمنع الحاكم من القضاء بعلمه الشخصي في الحوادث، لأن الحكام لو مكّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه (صديقه) ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. وبذلك يمنع من هذا القضاء للتهمة، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلا على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.

إثبات البعث والثواب والعقاب وبيان فضل القرآن [سورة ص (38) الآيات 27 إلى 29] :

وروي أن امرأة جاءت إلى عمر، فقالت له: احكم لي على فلان بكذا، فإنك تعلم ما لي عنده، فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم، وأما الحكم فلا. وأخرج أبو داود وغيره عن النبي ص أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم بعلمه، وقال: «من يشهد لي؟» فقام خزيمة فشهد فحكم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله ص قضى بيمين وشاهد. إثبات البعث والثواب والعقاب وبيان فضل القرآن [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) الإعراب: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب. البلاغة: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية: مقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار، وهذا من المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: باطِلًا عبثا ولعبا ذلِكَ أي خلق السماء والأرض باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مظنون كفار مكة فَوَيْلٌ هلاك وعذاب شديد، أو هو واد في جهنم أَمْ بمعنى همزة الإنكار، أي إنكار التسوية بين الفريقين أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا.. نزل لما قال كفار مكة للمؤمنين: إنا

المناسبة:

نعطى في الآخرة مثلما تعطون. والآية تدل على صحة القول بالحشر والمعاد، والفجار: الأشقياء مُبارَكٌ كثير الخير والبركات والمنافع الدنيوية والأخروية لِيَدَّبَّرُوا ليتدبروا أي ليتفكروا وينظروا في معاني الآيات، فيؤمنوا وَلِيَتَذَكَّرَ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول، جمع لب: وهو العقل. المناسبة: بعد تهديد الضالين عن سبيل الله بالعذاب الشديد يوم الحساب في القيامة، أخبر تعالى بأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه خلق الخلق لهدف معين، ثم يحاسبهم في نهاية الأمر، ثم بيّن عدم المساواة في الحساب بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار، ثم أخبر عن فضل القرآن العظيم، وأنه كثير المنافع الدينية والدنيوية. التفسير والبيان: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي ما أوجدنا السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثا لا حكمة فيه، أو لهوا ولعبا، بل خلقناهما للدلالة على قدرتنا العظيمة، وليعمل فيهما بطاعتنا وعبادتنا وتوحيدنا، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] . ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي إن الذين كفروا يظنون أن هذه الأشياء خلقت عبثا لغير غرض، فلا قيامة ولا حساب، فيا هلاك هؤلاء الكافرين في النار يوم المعاد والنشور، جزاء ما قدموا من الشرك والمعصية، وكفران نعم الله، وإنكار البعث، وظنهم الباطل. ونظير القسم الأول من الآية قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] .

ونظير القسم الثاني قوله سبحانه: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم 14/ 2] وقوله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم 19/ 37] . ثم أبان الله تعالى منهج الحساب أو عدم التسوية بين المؤمنين والكافرين، فقال: أَمْ «1» نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه، وأصلحوا أعمالهم، فأدّوا ما يجب للخالق والمخلوق، كالمفسدين في الأرض بالمعاصي، أم نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله من المسلمين؟!! فليس ذلك إن فعلناه عدلا، ولا يتفق مع الحكمة، ومقتضى أي نظام. أي ليس من عدل الله وحكمته التسوية بين المؤمنين والكافرين، فلا يستوي الفريقان عند الله، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها الفاجر، إذ لولا البعث والحساب والجزاء لكان الفريقان سواء. ويؤيد هذا المبدأ العقول السليمة والفطر المستقيمة أنه لا بد من معاد وجزاء، فلا يعقل أن يكون جزاء المحسن كجزاء المسي، ولا تتقبل النفس الإنسانية أن يترك الظالم دون عقاب، وألا ينصف المظلوم أو المحزون أو المعدم من الظالم الباغي المترف، وألا يعوض عن كمده وحرمانه في الدنيا. ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟! [القلم 68/ 34- 36] .

_ (1) هذه أَمْ المنقطعة التي هي بمعنى «بل» للإضراب الانتقالي، ويراد بالهمزة الاستفهامية: الإنكار.

فقه الحياة أو الأحكام:

وإذا ثبت قرآنا ودينا وعقلا وفطرة أن هنالك فرقا واضحا بين المؤمن وغيره، وأن للمؤمن حياة سعيدة دائمة في الجنان، وأن للكافر عذابا أليما في النيران، فما الطريق إلى السعادة؟ الطريق قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إن طريق السعادة الأبدية هو اتباع القرآن الذي أنزله الله هدى ورحمة للمؤمنين، وهو كثير الخير والبركة، فيه الشفاء لمن تمسك به، والنجاة لمن تبعه، وقد أنزله تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه. قال الحسن البصري: والله ما تدّبره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- ليس خلق السموات والأرض عبثا وهزلا ولعبا، وإنما له غاية عظمي وهدف صحيح وهو الدلالة على قدرة الله. والذين يظنون أن الله خلقهما باطلا عبثا هم الكفار، فيا ويلهم من عذاب النار. 2- تدل هذه الآية: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ.. على إثبات الحشر والنشر والمعاد (أو القيامة) لأنه إذا لم يكن خلقهما باطلا، كان القول بالحشر والنشر لازما، وكان كل من أنكر القول بالحشر والنشر شاكّا في حكمة الله في خلق السماء والأرض. 3- إذا لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدنى من حال العاصي، لذا وبّخ تعالى الشاكين في الحشر والنشر، وأنكر عدم التسوية بين المؤمن والكافر، وبين الصالح والمفسد.

قصة سليمان عليه السلام [سورة ص (38) الآيات 30 إلى 40] :

4- الآية هذه: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ رد واضح على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد. 5- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذّ (سرعة القراءة) ، إذ لا يصح التدبر مع الهذّ. وقال الحسن البصري: تدبر آيات الله اتباعها. 6- القرآن الكريم ذكرى وعظة لأولي الألباب، أي أصحاب العقول الراجحة، فالعاقل هو المستفيد من آي القرآن، والقرآن هو الذي يذكره بضرورة التوبة والإنابة إلى الله إذا زاغ أو انحرف. قصة سليمان عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

الإعراب:

الإعراب: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ المقصود بالمدح محذوف، وهو سليمان أو داود، وهو إلى سليمان أقرب. الصَّافِناتُ الْجِيادُ الأول نائب فاعل عُرِضَ والثاني صفته، والْجِيادُ: جمع جواد، أو جمع جائد. حُبَّ الْخَيْرِ منصوب على أنه مفعول به، والمعنى: أنه آثر حب الخير، لا أنه أحبّ حبّا، أو منصوب على المصدر، بوضع حُبَّ الاسم موضع الاحباب الذي هو المصدر، والوجه الأول أوجه. حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي الشمس، وإنما أضمر لدلالة الحال، مثل كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن 55/ 26] أي الأرض، لدلالة الحال، وإن لم يجر لها ذكر. البلاغة: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ المسح هنا حقيقة أي مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وقيل: المسح كناية عن العقر والذبح. فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بينهما طباق، لأنهما بمعنى أعط من شئت، وامنع من شئت. المفردات اللغوية: نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان، إذ ما بعده تعليل للمدح وهو أواب أَوَّابٌ رجّاع إلى الله بالتسبيح والذكر في جميع الأوقات، أو بالتوبة بِالْعَشِيِّ ما بعد الزوال عُرِضَ عَلَيْهِ على سليمان الصَّافِناتُ القائمات، أو القائمة على ثلاث وطرف الحافر الرابع، أي يرفع إحدى يديه أو رجليه، ويقف على مقدم حافرها، مع القوائم الأخرى، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يكون إلا في العرب الخلّص، مأخوذ من صفن يصفن صفونا. الْجِيادُ جمع جواد، وهو الذي يسرع في عدوه أو جريه، والجواد من الناس: السريع البذل. والمعنى: أن الخيول إذا استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت، وكانت ألف فرس عرضت عليه، كالعرض العسكري اليوم. أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت أو أردت حب الخير وهو هنا الخيل، وأصل الخير: المال الكثير، ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها، قال ص فيما أخرجه أحمد عن جابر: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» .

عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي أحببت الخيل وحصل حبها عن ذكر ربي وأمره، لا عن الشهوة والهوى. وليس المراد كما يذكر القصاصون: أنه آثر رؤية الخيل عن صلاة العصر حتى غابت الشمس تَوارَتْ بِالْحِجابِ اختفت وغابت الشمس، واستترت بما يحجبها عن الأبصار. والحجاب: بالحاجز أو بالليل. رُدُّوها عَلَيَّ ردوا الخيل الصافنات علي استمتاعا بالنعمة، أي كفاها ركضا وعدوا فَطَفِقَ مَسْحاً شرع يمسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وليس المعنى: جعل يذبحها ويعقرها بالسيف لتفويت صلاة العصر عليه، فهذا لا يليق بالنبوة. بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي بسيقانها وأعناقها، فيربّت عليها ويدللها ويمسح نواصيها بيده، لا أنه ذبحها وعرقب أرجلها تقربا إلى الله تعالى، حيث اشتغل بها عن الصلاة، وتصدق بلحمها، فعوضه الله خيرا منها وأسرع، وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، فهذا من الإسرائيليات الدخيلة. فَتَنَّا سُلَيْمانَ ابتليناه واختبرناه بمرض، وقال البيضاوي: وأظهر ما قيل فيه: ما روي مرفوعا أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فرسانا» «1» . ومن الإسرائيليات في تفسير الابتلاء: أن الله ابتلاه بسلب ملكه، وذلك لتزوجه بامرأة عشقها، وكانت تعبد الصنم في دار من غير علمه، وكان ملكه في خاتمه، فنزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة، على عادته، فجاءها جنّي في صورة سليمان، فأخذه منها. وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، وقيل: الجسد: هو نصف الإنسان الذي ولدته امرأته، وقيل: هو ذلك الجني، وهو صخر أو غيره، جلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير وغيرها، فخرج سليمان في غير هيئته، فرآه على كرسيه، وقال للناس: أنا سليمان، فأنكروه. وهذان التفسيران المقولان غير صحيحين في الظاهر والثاني منهما من تتمة القصة الدخيلة من الإسرائيليات. ثُمَّ أَنابَ رجع تائبا إلى الله من ترك الأفضل وهو عدم تعليق الأمر بمشيئة الله، وهذا عظيم على نبي، لأن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صدر عني من الذنب وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي امنحني ملكا لا يكون لأحد من بعدي أن يملك مثله.

_ (1) أخرجه البخاري، دون أن يذكر أنه تفسير للآية.

المناسبة:

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ جعلناها منقادة لأمره رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها، فلا تزعزع ولا تعصف حَيْثُ أَصابَ قصد وأراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر لاستخراج الدر واللؤلؤ منه وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وآخرين منهم مشدودين في القيود والسلاسل، وهم مردة الشياطين. هذا عَطاؤُنا أي هذا ما أعطيناك من الملك العظيم الذي طلبته، من السيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فأعط من شئت، وامنع من شئت بِغَيْرِ حِسابٍ لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال لك: كم أعطيت ولم منعت؟ لَزُلْفى قربة في الآخرة وَحُسْنَ مَآبٍ وحسن مرجع، وهو الجنة. المناسبة: هذه هي القصة الثانية- قصة سليمان بن داود عليهما السلام، فيها تعداد النعم التي أنعم الله بها على سليمان، كما أنعم على أبيه داود من قبل، ليشكر المحسن، ويتعظ المسيء الذي يرى في قصتي داود وسليمان عظة وعبرة، فإنهما ملكا ملكا عظيما، لم يحجبهما عن شكر الله، وعبادته وطاعته، وتقدير نعمه الكثيرة، فأين ملكهما من زعامة قريش وأمثالهم؟!. التفسير والبيان: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي وآتينا داود ابنا نبيا، كما قال عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل 27/ 16] وإلا فقد كان له بنون غيره، وهذا الابن ما أحقّه بالمدح والثناء، فهو نعم العبد، لأنه توّاب رجّاع إلى الله، كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات. روى ابن أبي حاتم عن مكحول قال: لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له: يا بني ما أحسن؟ قال: سكينة الله والإيمان، قال: فما أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان، قال: فما أحلى؟ قال: روح الله بين عباده- أي رحمته- قال: فما

الواقعة الأولى:

أبرد؟ قال: عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض، قال داود عليه السلام: فأنت نبي. ثم ذكر الله واقعتين لسليمان من وقائع توبته فقال: الواقعة الأولى: قصة عرض الخيل: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي اذكر أيها الرسول مادحا حين عرض على سليمان عليه السلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول الصافنات (أي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة) والجياد: السراع في العدو، لينظر إليها ويتعرف أحوالها ومدى صلاحيتها لمهامها، وليستمتع بما أنعم الله عليه منها. فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي قال سليمان: إنني أحببت هذه الخيل وآثرتها عن غيرها حبا حصل عن ذكر ربي وأمره، لا بهواي وشغفي، وكانت ذات أعداد كثيرة، تعدو حتى غابت عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وبه يتبين أن حبه لها لم يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل للجهاد في سبيل الله، وتقوية دينه، وتثبيت دعائمه، وقد كان ذلك مندوبا إليه في دينهم. هذا هو التفسير المتعين الذي يتفق مع مركز النبوة وشرف الرسالة ودلالة الحال في تعداد النعم لا النقم على سليمان، فلا يصح التفسير بشيء يتنافى مع هذا، لا سيما وقد أمر الله تعالى نبينا ص أن يتأسى بداود وسليمان، كما في مطلع الآيات. واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ... ثم أعاد سليمان عرض الصافنات أمامه قائلا: رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي أعيدوا هذه الخيل

الواقعة الثانية:

إلي، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها، تشريفا لها وتكريما وتدليلا وسرورا بها، وتفحصا لأحوالها وإصلاح ما قد يطلع عليه من عيوبها، لأنها عدة الجهاد، ووسيلة الحرب، لرد العدوان، ودفع غارات المعتدين. وقال أكثر المفسرين: معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها، أي قطعها، لأنها شغلته عن صلاة العصر. وهذا بعيد على نبي شاكر نعم ربه، يعاقب ما ليس أهلا للعقاب. الواقعة الثانية: إلقاؤه جسدا على كرسيه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أي تالله لقد اختبرنا سليمان عليه السلام باختبار آخر، وهو الفتنة في جسده، كما اختار الرازي، حيث ابتلاه الله بمرض شديد في جسمه، حتى نحل جسمه، وأصبح هزيلا، ثم أناب، أي رجع إلى حال الصحة «1» . وبعض المفسرين كما ذكرت عن البيضاوي وكذا أبو حيان «2» يفسر هذه الفتنة بما عزم عليه من الطواف على سبعين من نسائه، تأتي كل واحدة بفارس مجاهد في سبيل الله، دون أن يقول: إن شاء الله، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، هو الذي ألقي على جسده، فالجسد الملقى هو المولود شق رجل. وقيل: إن الملقى شيطان، وهذا قول باطل من الزنادقة. قال ابن كثير: وهذا وغيره من الإسرائيليات، وهي من المنكرات، من أشدها ذكر النساء «3» .

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 209 (2) البحر المحيط: 7/ 397 (3) تفسير ابن كثير: 4/ 35 وما بعدها.

قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي قال سليمان: ربّ اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله، وهذا من سمو الإحساس بالخطيئة، فقد تكون شيئا لا يخلو عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن الأنبياء أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما قال ص فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وامنحني ملكا عظيما لا يتأتى لأحد غيره مثله، إنك يا ربّ أنت الكثير الهبات والعطايا، فأجب دعائي. قال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة، ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربّه معجزة، فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك، زيادة خارقة للعادة، بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه «1» . فأجاب الله تعالى دعاءه وأعطاه نعما خمسة، فقال: 1- فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ أي فذلّلنا له الرّيح، وجعلناها منقادة لأمره، تجري ليّنة طائعة في قوّة وسرعة، دون عواصف مضطربة ولا أعاصير، تحمله إلى أي جهة قصد وأراد. ووصف الرّيح هنا بكونها رخاء لا يتعارض مع آية أخرى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ [الأنبياء 21/ 81] لأن المراد بالعاصفة هنا القوية الشديدة، لا الهائجة

_ (1) الكشاف: 3/ 15

فقه الحياة أو الأحكام:

المضطربة، فهي في قوة الرياح العاصفة، لكنها كانت طيّبة غير خطرة، أو أنها كانت بحسب الحاجة، ليّنة مرة، وعاصفة أخرى. 2- وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي وذلّلنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره، إما في بناء المباني الشاهقة، وإما في الغوص في البحار لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان، وإما في أعمال أخرى. 3- وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وسخرنا له شياطين آخرين هم مردة الشياطين، سخّروا له حتى قرنهم في القيود والسلاسل، قمعا لشرّهم، وعقابا لهم. 4- هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذه نعمة رابعة هي حرية التصرف فيما أعطاه الله إياه من الملك العظيم، والثراء والغنى، والسيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم، فقد أذن له ربّه بأن يمنح من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا حساب عليه في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال له: كم أعطيت، ولم منعت؟ 5- وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي وإن له في الآخرة لقربة وكرامة عند الله، وحسن مرجع، وهو الجنة، وفيض ثواب، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- من مزيد فضل الله على عبده داود عليه السلام أن وهبه ولدا ورث عنه الملك والنبوة. 2- ومن نعم الله على عبده سليمان عليه السلام أنه أنعم عليه بالخيل

الصّافنات الجياد، التي تعدّ عدّة الحرب، وآلة القتال المهمة في مواجهة الأعداء، وكان عددها ألف فرس يجاهد عليها في سبيل الله تعالى. 3- لقد أحبها سليمان عليه السلام، لأنها حققت له تنفيذ أوامر ربّه في ربطها للجهاد، فكان يعرضها أمامه في عرض عسكري مهيب، يرهب العدو، وكانت تمتاز بسرعة الجري أو العدو، حتى إنها غابت عنه بسبب شدة الغبار وبعد المسافة. 4- لم يقتصر سليمان عليه السلام على عرضها أمامه للمرة الأولى، وإنما طلب إعادتها إليه، فشرع في مسح سيقانها ونواصيها بيده، تكريما لها، وتفحّصا لأحوالها حتى يعالج ما قد يكون بها من عيوب. 5- امتحن الله تعالى سليمان عليه السلام بالمرض، كما يمتحن عباده المؤمنين، قيل: كان ذلك بعد عشرين سنة من ملكه، ثم ملك بعد الاختبار عشرين سنة أخرى، كما ذكر الزمخشري. واشتدّ به المرض حتى أصبح لشدّة ضعفه- كما تقول العرب: لحما على وضم، وجسما بلا روح، ثم عاد إلى صحته وحالته الأولى. وطلب المغفرة من ربّه على ما قد يكون من ذنب في تقديره كان سببا لمرضه، وهذا من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فقد يكون ترك الأفضل والأولى عند أصحاب السمو والدرجة العالية، وعلى رأسهم الأنبياء، بمثابة ذنب عندهم، وهو عند غيرهم ليس بذنب. 6- أجاب الله دعاء سليمان عليه السلام، فأمده بنعم عظمي، هي: تسخير الرّيح له، تحمله إلى أي مكان أراد، وتسخير الشياطين للخدمة في مجالات الحياة المختلفة من بناء وغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، والتسلّط على مردة الشياطين، حتى يقيّدهم بالأغلال والسلاسل، كفّا لشرّهم ومنع أذاهم.

قصة أيوب عليه السلام [سورة ص (38) الآيات 41 إلى 44] :

ومنحه حرية التّصرّف في الملك والمال، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، دون حساب ولا رقيب، ودون مراجعة أو نقص. وكذلك جعله مقرّبا عند الله، مكرّما عند ربّه في الجنة، مغمورا بالثواب الجزيل، فائزا برضا ربّه. والخلاصة: لقد منح الله سليمان خيري الدنيا والآخرة، وجمع له بين الملك والنبوة كأبيه داود عليهما السلام، وسخّر الله له ملكا عظيما وسلطة شاملة على الإنس والجن والشياطين. وهذا لم يتأت لأحد قبله ولا بعده. قصة أيوب عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) الإعراب: أَيُّوبَ إِذْ نادى أَيُّوبَ: عطف بيان، وإِذْ: بدل اشتمال منه. رَحْمَةً مِنَّا منصوب إما لأنه مصدر، أو لأنه مفعول لأجله. البلاغة: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ في هذا الإسناد مراعاة الأدب مع الله تعالى، فإنه أسند المرض والضرر الذي أصابه إلى الشيطان أدبا، وإن كان الخير والشر بيد الله تعالى لحكمة يعلمها.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَيُّوبَ هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وامرأته ليا بنت يعقوب، الراجح أنه قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، وكان موطنه أرض عوص: جزء من جبل سعير، أو بلاد أدوم. أَنِّي بأني. بِنُصْبٍ بضرّ، والنّصب (بالضّم) والنّصب (بفتحتين) كالرّشد والرّشد: المشقة والتعب. وَعَذابٍ ألم مضرّ، كما في آية أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء 21/ 83] . ونسب ذلك إلى الشيطان- وإن كانت الأشياء كلها من الله- تأدّبا مع الله تعالى. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اضرب بها الأرض، فضرب فنبعت عين ماء. مُغْتَسَلٌ ماء تغتسل به وتشرب منه. بارِدٌ وَشَرابٌ تغتسل وتشرب منه، فاغتسل وشرب، فذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرّقهم، أو أحييناهم بعد موتهم. وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي ورزقه مثلهم. رَحْمَةً مِنَّا أي لرحمتنا عليه. وَذِكْرى عظة وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجوء إلى الله فيما يحيق بهم. لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول. ضِغْثاً حزمة صغيرة من الحشيش والريحان ونحوهما، أو قضبان. فَاضْرِبْ بِهِ زوجتك. وَلا تَحْنَثْ بترك ضربها، والحنث في اليمين: إذا لم يفعل ما حلف عليه. روي أن زوجته ليا بنت يعقوب عليه السلام ذهبت لحاجة، وأبطأت، فحلف إن برئ ليضربنّها مائة ضربة، فحلّل الله يمينه بذلك، وهي رخصة باقية في الحدود للضرورة كمرض ونحوه. نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة. المناسبة: هذه هي القصة الثالثة من قصص الأنبياء في هذه السورة، والمقصود بها كغيرها الاعتبار، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام ممن أفاض الله عليهما أصناف النعم، فكانت قصتهما لتعليم الشكر على النعمة، وأيوب كان ممن خصّه الله تعالى بأنواع البلاء، فكانت قصته لتعليم الناس الصبر على الشدائد، كأن الله تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب

التفسير والبيان:

عليه السلام، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره. التفسير والبيان: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ أي واذكر أيها الرسول لقومك صبر أيوب على مرضه مدة طويلة هي نحو من ثماني عشرة سنة، حين نادى ربّه بأني قد مسني الضّر ومسّني الشيطان بمشقة وألم مضر، وإنما نسب ذلك الضر إلى الشيطان أدبا مع الله تعالى كما تقدم. والذي يجب اعتقاده أن هذا المرض لم يكن منفّرا الناس منه، وإنما هو مجرد مرض جلدي يشفى بالمياه المعدنية أو الكبريتية، لأن شرط الأنبياء: السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا. روى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله ص قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين «1» ، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنبا، ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة، لم يرحمه الله تعالى، فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب عليه السلام: لا أدري ما تقول، غير أن الله عزّ وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله تعالى، فأرجع إلى بيتي، فأكفّر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق.

_ (1) يمكن تأويل هذا الرفض بالبعد المعتاد عن كل مريض، شفقة ورحمة، لا نفورا من المرض.

قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها، أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم، أبطأ عليها، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه السلام أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فاستبطأته، فالتفتت تنظر، فأقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته، قالت: أي، بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فو الله القدير على ذلك، ما رأيت رجلا أشبه به منك، إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا هو، وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض» . ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي قلنا له: اضرب برجلك الأرض، فركض (ضرب) فنبعت عين جارية، فاغتسل فيها، وشرب منها، فخرج صحيحا معافى، بريئا من المرض. وهذا دليل على أن مرضه كان من الأمراض الجلدية غير المعدية ولا المنفّرة، وإنما كانت مؤذية متعبة تحت الجلد، كالإكزيما والحكة ونحوهما، مما يمكن شفاؤه بالمياه المعدنية أو الكبريتية المفيدة في تلك الأمراض. وكما تمّ الشفاء من المرض أعاد الله له أهله وولده وماله، فقد كان ذا مال جزيل وأولاد كثيرين وسعة من الدنيا، فقال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، رَحْمَةً مِنَّا، وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي منحناه أهله وضاعفناهم، إما أن الله تعالى أحياهم بعد أن أماتهم، والله قادر على كل شيء، وإما أنه تعالى جمعهم له بعد تفرقهم، وأكثر نسلهم، وزادهم، فكانوا مثلي ما كانوا قبل ابتلائه، رحمة من الله به، وتذكرة لأصحاب العقول السليمة، والإيمان أن عاقبة الصبر الفرج، وأن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر الله تعالى له رخصة في التّحلل من يمينه، فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ، وَلا تَحْنَثْ أي وخذ بيدك حزمة كبيرة من القضبان، فاضرب بها زوجتك التي حلفت أن تجلدها مائة جلدة إن برئت من مرضك، ولا تحنث في يمينك، أي لا تترك العمل بمقتضى اليمين، بسبب إبطائها في الرجوع، وهي ليا بنت يعقوب، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف. ثم أثنى الله سبحانه على أيوب عليه السلام قائلا: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده، وذهاب ماله وأهله وولده، نعم العبد أيوب، إنه رجّاع إلى الله بالتوبة والاستغفار، زيادة في حسناته ورفع درجته، لا بسبب ذنب جناه، فجازيناه بتفريج كربته، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، ولكن إيمان الأنبياء المطلق التام الذي يعرّفهم أن الله عليم بهم، قد لا يطلبون من الله شيئا لإذهاب همهم وغمهم. روي عن أيوب عليه السّلام أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: «اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت» ، وكان يقول في مناجاته: «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا، ومعي جائع أو عريان» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية: 1- لا مانع من دعاء الله تعالى والشكوى إليه عند المصاب، وإن كان أيوب عليه السلام صبر مدة طويلة على المرض، ثم دعا ربّه لتفريج نوعين من المكروه: الألم الشديد في الجسم، والغمّ الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات، لذا ذكر الله تعالى لفظين وهما النّصب والعذاب.

الرأي الأول:

2- على المؤمن أن يتدرّع بالصّبر عند الشدائد، فقد أمر الله النّبي ص بالاقتداء بأيوب عليه السلام في الصبر على المكاره، وكذلك بغيره من الأنبياء مثل داود وسليمان عليهما السلام. 3- لم يكن مرض أيوب عليه السلام منفّرا، لأن شرط النّبوة: السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا، وإنما كان مرضه تحت الجلد، كأمراض الحكمة، مما ليس بمعد، وإن كان مؤلما ومزعجا. وهو مرض حسي، تناول البدن بدليل قوله مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء 21/ 83] ، ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، وفَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء 21/ 84] ، وارْكُضْ بِرِجْلِكَ وهذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. 4- في هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا، بدليل حلف أيوب على ضرب امرأته. والذي أباحه القرآن هو ضرب النساء حال النشوز، لقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إلى أن قال: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء 4/ 34] . كذلك دلّ قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء 4/ 34] ، على أن للزوج ضرب امرأته تأديبا لغير نشوز. 5- إن الضرب بالضغث رخصة من الله تعالى لأيوب عليه السلام تحلّة اليمين، جزاء على تلك الخدمة الطويلة التي قدمتها له زوجته أثناء مرضه. واختلف العلماء بعدئذ، هل هذا الحكم عام أو خاص بأيوب وحده؟ للعلماء في ذلك رأيان: الرأي الأول: قالت الحنفية- الذين يقولون: شرع من قبلنا شرع لنا-: إن الحكم عام، فمن حلف ليضرب مائة ضربة، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مائة، فضرب بها، برّ في يمينه، ولا كفّارة عليه، لأن الله قد رخّص لأيوب عليه السلام هذا،

الرأي الثاني:

وجعله غير حانث به، وما دام غير حانث فهو بارّ. وهذا في المريض العليل غير الصحيح السليم «1» . وكذلك قالت الشافعية والحنابلة: يجوز إقامة الحدّ في المرض الذي لا يرجى برؤه، بأن يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة، لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن سهل بن حنيف: «أنّ النّبي ص أمر في رجل أضنى أن يأخذوا له مائة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة» . قال الشافعي: إذا حلف ليضربنّ فلانا مائة جلدة، أو ضربا، ولم يقل: ضربا شديدا، ولم ينو ذلك بقلبه: يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، ولا يحنث. والشافعي الذي لا يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا اعتمد في ذلك على ما ثبت في السّنّة النّبوية. وأما الإمام أحمد فيقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا. الرأي الثاني: قالت المالكية الذين يرون أن شرع من قبلنا شرع لنا: إن هذه رخصة خاصة بأيوب عليه السلام، بدليل توجيه الخطاب وبما ذكر للترخيص من العلة. قال ابن العربي: وإنما انفرد مالك في هذه المسألة عن القاعدة لتأويل بديع: هو أن جريان الأيمان عند مالك في سبيل النّيّة والقصد أولى، لقول رسول الله ص فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنّيّات» والنّيّة أصل الشريعة وعماد الأعمال ومعيار التكليف. وقصة أيوب هذه لم يصح كيفية يمين أيوب فيها، حتى نلتزم شريعته فيها «2» . وهذا قول الليث أيضا. ونهج ابن القيم في (أعلام الموقعين) الذي حارب فيه الحيل منهج المالكية، وقرر أن هذه الفتيا خاصة الحكم، فإنها لو كانت عامة الحكم في حقّ كل أحد، لم

_ (1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 4/ 382 وما بعدها. (2) أحكام القرآن: 4/ 1640

قصة إبراهيم وذريته عليهم السلام - إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل -[سورة ص (38) الآيات 45 إلى 54] :

يخف على نبي كريم موجب يمينه، ولم يكن في قصها علينا كبير عبرة، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره لنعتبر به، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا. ويدلّ عليه اختصاص قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل، كما في نظائرها، فعلم أن الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره، وتخفيفا عن امرأته، ورحمة بها. وأيضا فإنه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما قال: وَلا تَحْنَثْ. 6- فضيلة الصبر عظيمة، لذا وصف الله نبيه أيوب بأنه صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله، وبأنه أوّاب، أي كثير التأويب والرجوع إلى الله في كل أموره. قصة إبراهيم وذريته عليهم السلام- إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل- [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) الإعراب: إِبْراهِيمَ بدل من عِبادَنا أو (عبدنا) أو عطف بيان.

البلاغة:

بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ على قراءة التنوين هذه تكون ذِكْرَى بدلا من بِخالِصَةٍ وتقديره: إنا أخلصناهم بذكرى الدار، ويجوز نصبه ب بِخالِصَةٍ لأنه مصدر كالعافية والعاقبة. وقرئ بترك التنوين بجعل ذِكْرَى مجرورا بالإضافة وهي إضافة بيان. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ جَنَّاتِ: بدل منصوب من لَحُسْنَ مَآبٍ. ومُفَتَّحَةً صفة لجنات، وفيه ضمير عائد إلى جَنَّاتِ وتقديره: جنات عدن مفتحة هي، أو حال وعامله ما في المتقين من معنى الفعل. والْأَبْوابُ إما مرفوع ب مُفَتَّحَةً وإما مرفوع بدلا من ضمير مُفَتَّحَةً. تقول: فتحت الجنان: إذا فتحت أبوابها، قال تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 78/ 19] . مُتَّكِئِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا، ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ما لَهُ: حال من: لَرِزْقُنا، أو خبر ثان ل إِنَّ. البلاغة: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ استعارة تصريحية، استعار الْأَيْدِي للقوة في العبادة، والْأَبْصارِ للتبصر في الدين. هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ بينها وبين ما يأتي في المقطع الآتي مقابلة وهي: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا ما تُوعَدُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب للعناية بهم. المفردات اللغوية: عِبادَنا وقرئ: عبدنا. أُولِي الْأَيْدِي أصحاب القوة في العبادة. وَالْأَبْصارِ أصحاب البصائر في الدين والفقه فيه ومعرفة أسراره. أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين لنا. بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها هي ذِكْرَى الدَّارِ أي تذكر الدار الآخرة والعمل لها. الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من أبناء جنسهم، جمع مصطفى. الْأَخْيارِ المفضلين عليهم في الخير، جمع خيّر: وهو المطبوع على فعل الخير. إِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم الخليل. وَالْيَسَعَ اللام زائدة، وهو نبي، ابن اخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم صار نبيا. وَذَا الْكِفْلِ ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب، واختلف في نبوته ولقبه، والأصح أنه نبي،

المناسبة:

قيل: فرّ إليه مائة نبي من القتل فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفّل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة. كُلٌّ كلهم. مِنَ الْأَخْيارِ جمع خيّر، كما تقدّم. هذا ذِكْرٌ هذا ذكر وشرف وتنويه لهم بالثناء الجميل، أو هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر وهو القرآن. لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع في الآخرة. جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات استقرار وثبات، يقال: عدن بالمكان: أقام به. مُتَّكِئِينَ فِيها أي على الأرائك، كما في آية أخرى. قاصِراتُ الطَّرْفِ لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أَتْرابٌ جمع ترب، أي لدات متساوون في السّنّ، بنات ثلاث وثلاثين سنة، حتى لا تحصل الغيرة بينهنّ، ولأن التّحاب بين الأقران أثبت. هذا المذكور. ما تُوعَدُونَ به. لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل الحساب، فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء. نَفادٍ انقطاع، أي دائم له صفة الدوام. المناسبة: هذه مجموعة قصص من الأنبياء في هذه السورة، ذكر الله فيها قصص إبراهيم وذريته الأنبياء، يراد بها العظة والعبرة، والتعليم لنا، والتّخلق بأخلاقهم، والعمل بأعمالهم التي من أجلها استحقوا ما أعدّ الله لهم ولأمثالهم في هذه الآيات من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. وهي معطوفة على بداية القصص في هذه السورة، كأنه تعالى قال: «فاصبر على ما يقولون، واذكر عبدنا داود» [الآية 17] إلى أن قال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحاق في دعوة بني إسرائيل إلى الرشاد، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره، وصبر إسماعيل للذبح، وصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين، فيقول: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي واذكر العمل الصالح وصبر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي القوة في العبادة

والبصيرة النافذة، فإنهم دأبوا على الطاعة، وقويناهم على العمل المرضي، وأحسنوا وقدموا خيرا، وآتيناهم البصيرة في العلم والفقه في الدين، والعمل النافع فيه. وعلة ذلك: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ أي خصصناهم بخصلة خالصة هي العمل للآخرة، والتزام أوامرنا ونواهينا، لتذكرهم الدار الآخرة والإيمان بها، وذلك شأن الأنبياء. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ أي وإنهم لمن المختارين من أبناء جنسهم، المطبوعين على فعل الخير، فلا يميلون للأذى، ولا تنطوي قلوبهم على الضغينة والحقد والحسد والبغض لأحد، ولا يرتكبون شرّا ومعصية، فهم أخيار مختارون. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ أي واذكر أيضا صبر إسماعيل واليسع وذي الكفل وأعمالهم الصالحة، فكل منهم من الأخيار المختارين للنبوة. وبعد أن أمر الله تعالى رسوله بالصبر على سفاهة قومه وذكر جملة من الأنبياء، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين وحال الكافرين من الجزاء، ومقرّ كل واحد من الفريقين، فقال تعالى: هذا ذِكْرٌ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ هذه الآيات القرآنية التي تعدد محاسنهم تذكّر لهم وتنويه، وذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به أبدا، وإن لهم وللمتقين أمثالهم لحسن مرجع يرجعون فيه في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنّته. وهذا شروع فيما أعدّ لهم ولأمثالهم من النعيم والسعادة في الدار الآخرة.

ثم فسّر الله تعالى المقصود بالمرجع والمآب الحسن قائلا: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي إن ذلك المآب هو في جنات إقامة دائمة، مفتحة لهم أبوابها، فإذا جاءوها فتحت لهم أبوابها إكراما لهم، تفتحها لهم الملائكة ليدخلوها مكرمين. وفي هذا إيماء بتخصيصها لهم وبسعتها وروعتها وبهائها الذي تسرّ به النفوس. مُتَّكِئِينَ فِيها، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ أي تراهم متكئين في الجنات على الأرائك والأسرّة، يطلبون ما لذّ وطاب مما شاؤوا من أنواع الفاكهة الكثيرة المتنوعة، وأنواع الشراب الكثير العذب الطيب، وغيرهما، فمهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة 56/ 18] . والسبب في تخصيص الفاكهة والشراب بالذكر: ترغيب العرب فيها، لأن ديارهم حارة قليلة الفواكه والأشربة، وفيه إيماء بأن طعامهم لمجرد التّفكّه والتّلذّذ لا للتّغذي، لعدم حاجتهم إليه بسبب خلق أجسامهم للدوام، فلا تحتاج لبدائل المتلفات والتّحللات. وبعد وصف المسكن والمأكول والمشروب، ذكر تعالى الأزواج، فقال: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي ولهم زوجات قاصرات طرفهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غيرهم، وهم لدات متساويات في السّن، متساويات في الحسن والجمال، يحب بعضهنّ بعضا، فلا تباغض ولا غيرة عندهنّ. ثم ذكر الله تعالى ما وعد به المتقين من الثواب قائلا: هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي هذا المذكور من صفات الجنة هو الذي وعد به تعالى عباده المتقين، وهو الجزاء الأوفى الذي وعدوا به، وأجلّ ليوم الحساب في الآخرة بعد البعث والنشور من القبور.

فقه الحياة أو الأحكام:

وصفة هذا النعيم الدوام، فقال تعالى: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي إن هذا الذي أنعمنا به عليكم لرزق دائم لا انقطاع له، ولا فناء أبدا، كقوله عزّ وجلّ: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 16/ 96] ، وقوله جلّ وعلا: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108] ، وقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق 84/ 25] ، أي غير منقطع، وقوله سبحانه: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [الرعد 13/ 35] . فقه الحياة أو الأحكام: جعل الله تعالى هؤلاء الصّفوة المختارة من الأنبياء مع من تقدّمهم قدوة طيبة وأسوة حسنة للنبي ص وللمؤمنين من بعده، في الصّبر والعمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والفقه في الدين. وسبب اصطفائهم إيمانهم بالدار الآخرة وتذكرهم لها، وعملهم المحقق لرضوان الله ومغفرته ودخول جنانه فيها، فهم يذكرون الآخرة، ويرغبون فيها، ويزهدون في الدنيا. وذكرهم في القرآن المتلو إلى يوم القيامة إشادة بهم، وذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به فيها أبدا. ولهم ولكلّ المتقين مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة، إذ لهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، مفتحة الأبواب، تفتحها الملائكة تكريما لهم. يتمتعون بنعيم الجنان في مسكن مريح يتكئون فيه على الأرائك، ولهم ما يطلبون من أنواع الفاكهة الكثيرة والشراب الكثير.

عقاب الطاغين الأشقياء [سورة ص (38) الآيات 55 إلى 64] :

ولهم أيضا أزواج قاصرات الطّرف لا ينظرن إلى غيرهم، وهنّ لدات أتراب على سنّ واحدة، متساوين في الحسن والجمال والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة. ثم ذكر الله تعالى أن هذا الموصوف بهذه الصفات هو الجزاء والثواب الذي وعد به المتقين، ثم أخبر تعالى عن دوام هذا الثواب. وهذا دليل على أن نعيم الجنة لا ينقطع. عقاب الطاغين الأشقياء [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) الإعراب: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ.. هذا: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر هذا. هذا فَلْيَذُوقُوهُ.. هذا يجوز فيه النصب والرفع، أما النصب فبتقدير فعل يفسره فَلْيَذُوقُوهُ أي فليذوقوه هذا فليذوقوه، والفاء زائدة في مذهب أبي الحسن الأخفش، مثل: هذا زيد فاضرب. وأما الرفع: فهو على أنه مبتدأ، وخبره: حَمِيمٌ، وفَلْيَذُوقُوهُ اعتراض، والفاء للتنبيه، أو هو المخصوص بالذم، أي بئس المهاد هذا المذكور، أو مبتدأ وخبره فَلْيَذُوقُوهُ ويرفع حَمِيمٌ على تقدير (هو حميم) ، أو خبر مبتدأ، تقديره: الأمر هذا، ويرفع حَمِيمٌ على تقدير: هو حميم.

البلاغة:

وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ: آخَرُ مبتدأ، ومِنْ شَكْلِهِ صفة له، ولهذا حسن أن يكون مبتدأ، مع كونه نكرة، وأَزْواجٌ خبر المبتدأ. ويجوز جعل أَزْواجٌ مبتدأ ثانيا، ومِنْ شَكْلِهِ خبر ل أَزْواجٌ والجملة منهما خبر المبتدأ الأول الذي هو آخَرُ. ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ: ما في موضع رفع بالابتداء، ولَنا خبره، ولا نَرى حال من ضمير لَنا. وكُنَّا نَعُدُّهُمْ صفة ل رِجالًا. ومِنَ الْأَشْرارِ في موضع نصب، لتعلقه ب نَعُدُّهُمْ. وتجوز إمالة مِنَ الْأَشْرارِ لوجود الراء المكسورة. إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ: تَخاصُمُ إما بدل من لَحَقٌّ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره (هو تخاصم) أو خبر بعد خبر ل إِنَّ أو بدل من ذلِكَ على الموضع. البلاغة: الْأَشْرارِ الْأَبْصارُ أَهْلِ النَّارِ فيها مراعاة الفواصل من المحسنات البديعية. فَبِئْسَ الْمِهادُ شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم. المفردات اللغوية: لِلطَّاغِينَ الكفار الذين كذبوا بالله ورسله، وتجاوزوا حدود الله. مَآبٍ مرجع ومصير. يَصْلَوْنَها يدخلونها. الْمِهادُ الفراش. هذا العذاب، المفهوم مما بعده. حَمِيمٌ ماء شديد الحرارة. وَغَسَّاقٌ شديد البرودة، وهو ما يسيل من صديد أهل النار. وَآخَرُ أي وعذاب آخر، وقرئ: «وأخر» بالجمع، أي وأنواع عذاب آخر. مِنْ شَكْلِهِ مثل المذوق في الشدة والكراهية، أو مثل المذكور من الحميم والغساق. أَزْواجٌ أصناف أو أجناس عذابهم. هذا فَوْجٌ أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، والفوج: الجمع الكثير من أتباع الضلال. مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ داخل معكم النار بشدة. لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا سعة عليهم ولا ترحيب بهم، وهذا ما يقوله الرؤساء لأتباعهم. صالُوا النَّارِ داخلون النار بأعمالهم مثلنا. قالُوا: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم أحق بما قلتم. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي الكفر. فَبِئْسَ الْقَرارُ المقر وهو جهنم، فلنا ولكم النار. قالُوا أي الأتباع أيضا. عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا أي ذا ضعف، بأن يزيد على العذاب مثله، فيصير ضعفين، كقوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الأحزاب 33/ 68] . وَقالُوا أي الرؤساء الطاغون، وهم في النار. مِنَ الْأَشْرارِ الأراذل

المناسبة:

الذين لا خير فيهم، يريدون بهم فقراء المسلمين الذين يحتقرونهم ويسترذلونهم ويسخرون بهم. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا استفهام إنكاري، إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في تسخيرهم في الدنيا، أي الأجل أنا قد اتخذناهم مسخرين في أعمالنا، ولم يكونوا كذلك، لم يدخلوا النار؟ وقرئ بضم السين، أي كنا نسخر بهم. أَمْ زاغَتْ مالت. عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي أم هم معنا، ولكن لم ترهم أعيننا، وهم فقراء المسلمين كعمار وبلال وصهيب وسلمان. إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ ذلك الذي حكينا عنهم واجب وقوعه، لا بد أن يتكلموا به، ثم بيّن ما هو، فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي تنازعهم ومخاصمة بعضهم بعضا. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى ثواب المتقين ومآل السعداء، وصف بعده عقاب الطاغين وحال الأشقياء المحرومين، ليتم التقابل والمقارنة بين الفريقين، ويقترن الوعد بالوعيد، فيقبل على الطاعة، ويجتنب المعصية، ويتحقق الهدف المنشود وهو الإصلاح والتهذيب. التفسير والبيان: هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أي هذا المذكور هو جزاء المؤمنين، أو الأمر هذا كما ذكر، وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله عز وجل، المكذبين لرسله، لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله عز وجل: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي إنهم يدخلون جهنم ويلفحهم حرها من كل جانب، فبئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، أي بئس ما تحتهم من نار جهنم، مشبها النار بالمهاد، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف 7/ 41] . هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أي هذا حميم فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، وهو أمرتهكم وسخرية بذوق العذاب، وهو ماء حار شديد الحرارة

يشوي الجلود، وماء بارد مؤلم لا يستطاع شربه لشدة برودته، أو هو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أي ولهم أنواع أخرى من العذاب مثل الحميم والغساق، أشد كراهية وإيلاما كالزقوم، والصعود والسّموم، والزمهرير، يعاقبون بها، من الشيء وضده. فقوله: أَزْواجٌ أي ألوان من العذاب المختلفة المتضادة. ثم وصف الله تعالى كلام أهل النار مع بعضهم بعضا، فقال: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي تقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كبير داخل معكم، فلا مرحبا بهم، أي لا كرامة لهم، وهم يدخلون النار كما دخلناها، ويستحقونها كما استحققناها. والمراد من قولهم: لا مَرْحَباً بِهِمْ الدعاء عليهم. وهذا قول صادر من السادة أو الرؤساء والقادة عن الأتباع المنبوذين في الدنيا، والمراد به الإخبار من الله تعالى عن انقطاع المودة بين الكفار، بل إن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة. فيجيبهم الأتباع قائلين: 1- بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، فَبِئْسَ الْقَرارُ أي قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم لا كرامة لكم، وأنتم أحق بهذا منا، فإنكم أضللتمونا ودعوتمونا إلى هذا المصير وأوقعتمونا فيه، فبئس المقر جهنم لنا ولكم. والمراد من هذا الكلام التشفي منهم، كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف 7/ 38] . 2- قالُوا: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي قال الأتباع أيضا عن الرؤساء داعين عليهم: ربنا عاقب الذين أوردونا هذا المورد في

النار وقدموا لنا هذا العذاب عقابا مضاعفا في النار، عقابا على الكفر، وعقابا على الإضلال، كما قال تعالى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أي لكل منكم عذاب بحسبه [الأعراف 7/ 38- 39] وقال سبحانه: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 33/ 67- 68] . ويؤيده الحديث الصحيح عند مسلم عن جرير بن عبد الله: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» . ثم تحدث الكفار عن أناس كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة، فقال تعالى: وَقالُوا: ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟ أي قال المشركون بعضهم لبعض تعجبا وتحسرا: إننا نفتقد في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم، فما لنا لا نراهم معنا في النار؟ يعنون في زعمهم فقراء المؤمنين، كعمّار وخبّاب وصهيب وبلال وسالم وسلمان. قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول: ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا؟ وهذا ضرب مثل، وإلا فكل الكفار، هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار. فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم، فقالوا هذا القول. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي الأجل أنا قد سخرناهم في الدنيا في أعمالنا، أو سخرنا منهم، وكانوا أهل الكرامة فأخطأنا، فلم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم نعلم مكانهم في النار؟ قال الحسن البصري: كل ذلك قد فعلوه، اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم، أي وهم في الجنة. وقوله: سِخْرِيًّا بضم السين وكسرها، قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: بالكسر هو الهزء، وبالضم: هو التذليل والتسخير.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على اتخاذهم سخريا في الدنيا. ثم أكد الله تعالى حدوث هذا التخاصم والتنازع قائلا: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بدّ أن يتكلموا به، أو هذا الذي أخبرناك به يا محمد أمر واقع حتما يوم القيامة، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للأتباع، وما قالته الأتباع لهم. فقه الحياة أو الأحكام: ذكر الله تعالى ألوانا من العذاب في النار للكفار يوم القيامة، وتلك الألوان أو الأنواع هي ما يأتي: 1- إن مصير الظالمين الكافرين شر مرجع ومآب ومنقلب يصيرون إليه. 2- إنهم يصلون جهنم، أي يدخلونها، وبئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم، وهو ما تحتهم من النار. 3- إن شرابهم الحميم والغسّاق، والحميم: الماء الحار الشديد الحرارة، والغساق: ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد. 4- لهم أصناف وألوان أخرى من العذاب كالزمهرير والسموم وأكل الزقوم والصعود والهوي، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة، والجميع مما يعذبون به، ويهانون بسببه. 5- قال ابن عباس: إن القادة إذا دخلوا النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: هذا فَوْجٌ يعني الأتباع، والفوج: الجماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي داخل النار معكم، فقالت السادة: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا اتسعت منازلهم في النار، والمراد به الدعاء. فقال القادة أو الملائكة: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كما صليناها.

بعض أدلة صدق النبي ص [سورة ص (38) الآيات 65 إلى 70] :

قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ من قول رؤسائهم بعضهم لبعض. 6- رد الأتباع على الرؤساء بقولهم: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أنتم دعوتمونا إلى العصيان فبئس القرار لنا ولكم. وقالوا أيضا: ربنا من سوّغ لنا هذا وسنّه وتسبب في عذابنا هذا فضاعف عذابه، عذابا على الكفر، وعذابا على الإضلال. وكل كلام من الفريقين فيه زيادة تبكيت وإيلام وإزعاج للفريق الآخر. 7- زعم الكفار في الدنيا أن أعداءهم في الدنيا وهم فقراء المؤمنين العرب أو الموالي غير العرب، كبلال وصهيب وسلمان من أهل النار، فافتقدوهم بحسب زعمهم في النار معهم، فلم يجدوهم، فلاموا أنفسهم على خطئهم باتخاذهم سخريا في الدنيا. وهذا لون آخر من التعذيب النفسي الداخلي. قال مجاهد وغيره: يسألون أين عمار، أين صهيب، أين فلان، يعدون ضعفاء المسلمين، فيقال لهم: أولئك في الفردوس. 8- إن هذا التخاصم والتنازع الذي يزعج أهل النار أمر واقع حتما في النار، وهو حق ثابت، يجب الإيمان به. بعض أدلة صدق النبي ص [سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

الإعراب:

الإعراب: قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ: هُوَ نَبَأٌ مبتدأ وخبر، وعَظِيمٌ صفة، وأَنْتُمْ مبتدأ، وخبره مُعْرِضُونَ، وعَنْهُ متعلق بالخبر وهو مُعْرِضُونَ. إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ: أَنَّما إما مرفوع نائب فاعل ل يُوحى وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأنما أنا نذير، وإِلَيَّ يقوم مقام نائب الفاعل ل يُوحى والوجه الأول أوجه. المفردات اللغوية: قُلْ يا محمد لكفار مكة. مُنْذِرٌ مخوف بالنار. الْقَهَّارُ لخلقه. الْعَزِيزُ الذي لا يغلب أو الغالب على أمره. الْغَفَّارُ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء. قُلْ يا محمد للمشركين. هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ خبر مهم جدا. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي إن القرآن الذي أنبأتكم به وجئتكم فيه بما لا يعلم إلا بوحي هو مهم جدا، وأنتم معرضون عنه لتمادي غفلتكم، فإن العاقل لا يعرض عن مثله. بِالْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة، وهم أشراف الخلق، أي ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى. إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم حين قال الله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة 2/ 30] . إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا أني بيّن الإنذار. المناسبة: هذه الآيات عود على بدء السورة الداعية إلى التوحيد وإثبات نبوة النبي ص، والمعاد، فهي تقرير للتوحيد، ووعد ووعيد للموحدين والمشركين بسبب الإعراض عن دعوة النبي محمد ص، وإثبات للبعث الذي يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين بعد إنذار النبي ص في الدنيا بعقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد. وهذا دليل على أن السورة إلى آخرها في أحسن وجوه الترتيب والنظم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: قُلْ: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي قل أيها الرسول للكفار بالله، المشركين به من أهل مكة وغيرهم، المكذبين لرسوله ص: إنما أنا مخوف لكم من عقاب الله وعذابه، مبلّغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد، مثل عقاب الأمم السابقة في الدنيا كعاد وثمود، وأحوال عذاب جهنم في الآخرة. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي ليس هناك إلا إله واحد لا شريك له، قهار لكل شيء سواه، قد قهر كل شيء وغلبه. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أي مالك جميع السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، ومتصرف فيه، وهو الذي يغلب ولا يغلب، فلا يغالبه مغالب إذا عاقب العصاة، وهو غفار الذنوب لمن أطاعه، ولمن شاء من عباده إذا تاب، ولمن التجأ إليه. ثم توعدهم تعالى على مخالفة أمر الله تعالى ورسوله ص والإعراض عن القرآن، فقال: قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي قل أيها الرسول لمشركي مكة وغيرهم: إن هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا، وأن الله واحد لا شريك له، وأن القرآن وحي منزل من عند الله، هو خبر عظيم مهم جدا، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، فهو ينقذكم من الضلالة إلى النور، لكنكم أنتم معرضون عما أقول، لا تتفكرون فيه. وفي هذا توبيخ لهم وتقريع، لكونهم أعرضوا عنه، فعليهم العدول عن خطأهم. ثم ذكر تعالى ما يدل على نبوة محمد ص، فقال: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى، إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي ما كان لي قبل أن

فقه الحياة أو الأحكام:

يوحى إلي علم باختلاف الملأ الأعلى في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه، فلولا الوحي من أين كنت أدري بتلك المغيبات. إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا للإنذار الواضح، والتبليغ البيّن، لا لأمر آخر من تسلط أو ملك. فقه الحياة أو الأحكام: أبان الله تعالى في هذه الآيات بعض أدلة صدق النبي ص في نبوته، وأوضح بعض مهامه وواجباته. أما مهمته: فهي إنذار من عصاه بالنار، وتخويف عقاب الله من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد. وكذلك تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله، المنزه عن الشريك والنظير، وأنه سبحانه القهار لكل شيء، وهذا يدل على كونه واحدا، وأن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء أصلا، مثل هذه الأوثان والجمادات التي لا تضر ولا تنفع. ولما كانت صفة الْقَهَّارُ توجب الخوف الشديد، أردفه تعالى بذكر صفات ثلاث له دالة على الرحمة والفضل والكرم: أولها- كونه ربا للسموات والأرض والعناصر الأربعة (الماء، والهواء، والنار، والتراب) والمواليد الثلاثة (الإنس والجن والحيوان) . ثانيها- كونه عزيزا (أي منيعا قويا لا مثل له) فهو قادر على كل الممكنات، فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء.

قصة آدم عليه السلام [سورة ص (38) الآيات 71 إلى 85] :

ثالثها- كونه غفارا لذنوب عباده المطيعين المخلصين في العبادة. والمنذر به: هو الحساب والثواب والعقاب والنبوة والقرآن، وهذا خبر عظيم القدر، فلا ينبغي أن يستخف به. وليس من مهام النبي التسلط أو التجبر أو تحقيق النفوذ. وأما بعض أدلة النبوة وإنزال الوحي عليه: فهو ما يخبر عنه القرآن الكريم من أنباء الملأ الأعلى وهم الملائكة حين اختصموا في أمر آدم حين خلق فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة 2/ 30] وقال إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف 7/ 120] فهذا البيان من محمد ص عن قصة آدم وغيره من الغيبيات لا يتصور إلا بتأييد إلهي، وحينئذ قامت المعجزة على صدقه. فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه. وقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال في العقائد ومنع التقليد. قصة آدم عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

الإعراب:

الإعراب: قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ الحق الأول بالرفع: إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: أنا الحق أو فالحق قسمي أو مني، وإما مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: فالحق متى، ويقرأ بالنصب على تقدير فعل، تقديره: الزموا الحق أو اتبعوا الحق، أو بتقدير حذف حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، والدليل على أنه قسم: قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ. وفَالْحَقُّ الثاني: منصوب ب أَقُولُ أي أقول الحق، وهو اعتراض بين القسم وجوابه. وقرئ: فالحقّ والحقّ أقول، بالجر فيها على القسم، وإعمال حرف الجر في القسم مع الحذف، كما تقول: الله لأفعلن، (و) الله لأذهبن، وهي قراءة شاذة. البلاغة: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيد بمؤكدين: لفظ كل، ولفظ أَجْمَعُونَ. المفردات اللغوية: إِذْ قالَ رَبُّكَ أي اذكر حين ذلك. إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ هو آدم. سَوَّيْتُهُ أتممته وعدّلت وأكملت خلقته. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته بنفخ الروح فيه، وأضاف الروح إلى نفسه لشرفه وطهارته، والروح: جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه. فَقَعُوا لَهُ فخروا له أو اسقطوا له. ساجِدِينَ تكرمة وتبجيلا له، وهو سجود تحية بالانحناء، لا سجود عبادة. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيدان، الأول لإفادة العموم، والثاني لإفادة الاجتماع في السجود. إِبْلِيسَ هو أبو الجن، وكان من الملائكة. اسْتَكْبَرَ تعاظم. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، أو باستكباره عن أمر الله تعالى، واستنكافه عن الطاعة. ما مَنَعَكَ ما صرفك وصدك. خَلَقْتُ بِيَدَيَّ خلقته بنفسي من غير توسط أب وأم، واليد: القدرة، وهو تمثيل

المناسبة:

للخلق المستقل وللدلالة على أنه معتنى بخلقه، فهذا تشريف لآدم، فإن كل مخلوق تولى الله خلقه. أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟ أي تكبرت الآن عن السجود من غير استحقاق، أم كنت من المتكبرين المتفوقين المستحقين للترفع عن طاعة الله، فتكبرت عن السجود، لكونك منهم، وهو استفهام توبيخ. قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إبداء للمانع. فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة أو من السموات. رَجِيمٌ مرجوم مطرود من الرحمة. لَعْنَتِي طردي. فَأَنْظِرْنِي فأمهلني. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يبعث الناس. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وقت النفخة الأولى. فَبِعِزَّتِكَ بسلطانك وقهرك. لَأُغْوِيَنَّهُمْ لأضلنهم. الْمُخْلَصِينَ المؤمنين الذين أخلصتهم للعبادة وعصمتهم من الضلالة. فَالْحَقُّ المراد بالحق: إما اسمه عز وجل أو الحق الذي هو نقيض الباطل، عظمه الله باقسامه به، أي فالحق مني أو فالحق قسمي، وجواب القسم: لَأَمْلَأَنَّ. وَالْحَقَّ أَقُولُ أحق الحق وأقوله. مِنْكَ أي من ذريتك وجنسك. وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أي من ذرية آدم. المناسبة: هذه هي القصة الأخيرة في هذه السورة، وقد ذكرت في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف. والمقصود منها منع الحسد والكبر، لأن امتناع إبليس عن السجود كان بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا ص بسبب الحسد والكبر، وذكرت هنا لتكون زاجرا للكفار عن هاتين الخصلتين المذمومتين. التفسير والبيان: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي اذكر يا محمد قصة خلق آدم أبي البشر، حين قال الله للملائكة: إني سأخلق بشرا هم آدم وذريته، مِنْ طِينٍ تراب مخلوط بالماء، كما في آية أخرى: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر 15/ 26] .

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فإذا أتممت خلقه وعدلته وأكملته، وجعلته حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه، فاسجدوا له، أي سجود التحية والتكريم، لا سجود العبادة. وهو أمر واجب بالسجود. والنفخ تمثيل لإفاضة مادة الحياة فيه، فليس هناك نافخ ولا منفوخ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أي فامتثل الملائكة كلهم لأمر الله، وسجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وسجدوا مجتمعين في آن واحد، لا متفرقين. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي سجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع مستكبرا متعاظما ولم يكن من الساجدين، جهلا منه بأنه طاعة، وكان استكباره استكبار كفر، فصار من الكافرين بمخالفة أمر الله وأنفته من السجود واستكباره عن طاعة الله، أو إنه كان من الكافرين في علم الله. قالَ: يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قال الله له: يا إبليس ما الذي صرفك وصدك عن السجود لآدم، الذي توليت بنفسي خلقه من غير واسطة أب وأم، هل استكبرت عن السجود الآن، أم أنك كنت من القوم المتعالين عن ذلك؟ والمراد إنكار الأمرين معا. فأجاب قائلا: قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي إنني خير من آدم، فإني مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار خير وأشرف من الطين في زعمه، لما فيها من صفة الارتفاع والعلو، وأما التراب فهو خامد هابط لا ارتفاع فيه. قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ قال الله تعالى: فاخرج من الجنة أو

من السموات أو من زمرة الملائكة، فإنك مرجوم بالكواكب، مطرود من رحمة الله ومحل أنسه ومن كل خير. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي وإن طردي مستمر دائم ما دامت الدنيا إلى يوم الجزاء والقيامة، ثم في الآخرة يلقى من عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق. قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي قال إبليس: رب أمهلني حيا، ولا تعاجلني بالإماتة إلى اليوم الذي يبعث فيه الناس، أي آدم وذريته بعد موتهم. طلب هذا ليوسوس لآدم وذريته، فيثأر من آدم الذي كان سببا لطرده من رحمة الله. قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قال الله تعالى: فإنك من الممهلين، إلى اليوم الذي قدره الله لفناء الخلائق، وهو عند النفخة الأولى. وقد طلب إبليس الإنظار (الإمهال) إلى يوم البعث، ليتخلص من الموت، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث، لم يمت، فأنظره الله إلى وقت الصعق لا إلى البعث. فلما أمن الهلاك تمرد وطغى وتحدى قائلا: قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي فإني أقسم بعزتك (سلطانك وقهرك) أن أضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم، وإدخال الشبه عليهم، إلا الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم من الضلالة والهوى والشيطان، فهؤلاء لا أقدر على إضلالهم وإغوائهم، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر 15/ 42] . فأجابه الله تعالى: قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ

فقه الحياة أو الأحكام:

أي قال الله: أنا الحق أو الحق مني ملء جهنم من إبليس وأتباعه، وأقول الحق: لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين، وممن تبعك من ذرية آدم، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية. فهذا قسم من الله تعالى لإبليس أنه سيدخله وأتباعه النار حتى تمتلئ منهم. وقال الزمخشري: وَالْحَقَّ أَقُولُ أي ولا أقول إلا الحق، على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد. فقه الحياة أو الأحكام: قصة آدم عليه السلام هذه مع إبليس اللعين: تصوير بالغ للأمر الإلهي، وبيان مدى طاعته، وتقرير العقاب على المخالف، وعناصر القصة هي: - لقد أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشرا من التراب، فإذا خلقه وأحياه، فيجب عليكم أن تسجدوا له إكراما وتحية، لا عبادة وتأليها. - فامتثل الملائكة وسجدوا كلهم مجتمعين لآدم خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه إلا إبليس الذي كان من جنس الجن، فخانه طبعه وجبلته، فأنف من السجود لآدم، جهلا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى. - سأله ربه سؤال تقرير وتوبيخ عن سبب امتناعه من السجود لما خلق الله، أكان ذلك استكبارا عن السجود أم كان من المتكبرين على ربه، فتكبر لهذا؟ - أجاب إبليس بأنه خير من آدم، لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، والنار في زعمه أشرف من الطين لما فيها من خاصية الارتفاع والاندفاع والتعالي. وهذا جهل منه، لأن الجواهر أو العناصر متجانسة متساوية، فقاس وأخطأ القياس.

حال الداعي وحال الدعوة ومعجزة القرآن [سورة ص (38) الآيات 86 إلى 88] :

- كان عقابه الإخراج من الجنة، والرجم بالكواكب والشهب، والطرد والإبعاد من رحمة الله إلى يوم القيامة، لأن اللعن منقطع حينئذ. - أراد الملعون ألا يموت، فطلب تأخيره إلى يوم البعث، فلم يجبه الله إلى ذلك، وإنما أخره إلى الوقت المعلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخّر إليه استهانة به. - لما أمن إبليس الهلاك طغى وتمرد وتحدى ربه، وأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات والمعاصي، وإدخال الشبه عليهم، ودعوتهم إلى المعاصي، وقد علم أنه لا يتمكن إلا من الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه. لهذا استثنى من تسلطه عباد الله الذين أخلصهم لطاعته وعبادته وعصمهم منه. - أقسم الله بذاته، وأخبر أنه لا يقول إلا الحق أنه سيملأ جهنم من إبليس وأتباعه، عقابا على مخالفتهم أوامر الله، وإصرارهم على ارتكاب المعاصي. حال الداعي وحال الدعوة ومعجزة القرآن [سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) الإعراب: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أصله: (لتعلمون) إلا أنه لما اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أوجبت بناءه، لأنها أكدت الفعلية، فردته إلى أصله في البناء، فحذفت النون، فاجتمع ساكنان: الواو والنون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة قبلها. والمعنى: لتعرفنّ، لذا تعدى إلى مفعول واحد. واللام: لام قسم مقدر، أي والله لتعلمن.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة والوحي والقرآن. مِنْ أَجْرٍ جعل أو عوض. الْمُتَكَلِّفِينَ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي أو المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فأنتحل النبوة والقول على الله. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ما القرآن إلا عظة بليغة للإنس والجن والعقلاء، دون الملائكة. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ لتعرفن يا كفار مكة وغيركم خبر صدقه وعاقبة خبره وهو ما فيه من الوعد والوعيد، بإتيانه يوم القيامة، وذلك لمن آمن به ومن أعرض عنه. المناسبة: هذه خاتمة شريفة لهذه السورة، يتبين فيها حال الداعي وهو الرسول ص وهو أنه لا يأخذ أجرا ومالا على هذه الدعوة، ويظهر فيها كيفية الدعوة وهي أنها لا تقوّل فيها وإنما هي وحي من عند الله، ودين يشهد بصحته العقل، وتتحدد فيها مهمة القرآن بأنه عظة للعالمين، وستظهر معجزته ووعده ووعيده يوم القيامة. التفسير والبيان: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: ما أطلب منكم من جعل أو مال تعطونيه على تبليغ رسالتي ووحي الله والنصح بالقرآن وغيره من الوحي، وما أنا من المتقوّلين على الله، حتى أقول ما لا أعلم، أو أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه. والتكلف: التصنع والتقول والاختلاق. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما هذا القرآن، أو ما أدعوكم إليه إلا موعظة للخلق أجمعين، والعاقل من يشهد بصحته. ولِلْعالَمِينَ الإنس والجن. ونحو الآية: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام 6/ 19] وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود 11/ 17] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ لتعرفن أيها الكفار خبره وصدقه، من الدعوة إلى الله وتوحيده، والترغيب في الجنة، والتحذير من النار، بعد زمان قريب، إما بعد الموت، وإما يوم القيامة. قال الحسن البصري: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لم يطلب النبي ص على تبليغ دعوته عوضا ماديا، ولم ينشد تحقيق مكسب مالي أو مطمع دنيوي كالحكم والسلطة والجاه، وهذا دليل على صدقه في نبوته، لأن من الظاهر أن الكذاب لا بدّ من أن يظهر طمعه في طلب الدنيا، وكان ص بعيدا عن الدنيا، عديم الرغبة فيها. 2- لم يكن النبي ص متكلفا متقوّلا ولا متخرّصا ما لم يؤمر به من عند ربه، فهو مبلّغ وحي الله بأمانة متناهية دون زيادة ولا نقص. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيكم ص: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: قال رسول الله ص: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: هم الرحماء بينهم، قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى، قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلّفون» . 3- تتلخص دعوة النبي ص في أصول ثمانية، هي الأصول المعتبرة في دين الله، ويشهد بصحتها كل ذي عقل سليم وطبع مستقيم وهي:

أولا- الدعوة إلى الإقرار بوجود الله. ثانيا- الدعوة إلى تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 42/ 11] . ثالثا- الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة. رابعا- الإقرار بكونه منزها عن الشركاء والأضداد. خامسا- الامتناع عن عبادة الأوثان التي هي مجرد جمادات، ولا منفعة في عبادتها، ولا مضرة في الإعراض عنها. سادسا- تعظيم الأرواح الطاهرة المقدسة، وهم الملائكة والأنبياء. سابعا- الإقرار بالبعث والقيامة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم 53/ 31] . ثامنا- الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة «1» . 4- إن ما دعا إليه النبي ص من الوعد والوعيد والإيمان بالقرآن هو عظة بليغة للعالمين، أي الجن والإنس. وسيعلم الكفار نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق وصدق بعد زمان قريب، إما بعد الموت وإما يوم القيامة.

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 236

سورة الزمر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الزّمر مكيّة، وهي خمس وسبعون آية. تسميتها: سميت سورة الزمر لأن الله تعالى ذكر في آخرها زمرة الكفار الأشقياء مع الإذلال والاحتقار [71- 72] وزمر المؤمنين السعداء مع الإجلال والإكرام [73- 75] . مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة ص من وجهين: الأول- إنه تعالى ختم سورة ص واصفا القرآن بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وابتدأ هذه السورة بقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل، فهما كالآية الواحدة، بينهما اتصال وتلاحم شديد. الثاني- ذكر تعالى في آخر ص قصة خلق آدم عليه السلام، وذكر في القسم الأول من هذه السورة أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلا بخلق آدم المذكور في السورة المتقدمة.

مشتملاتها:

مشتملاتها: موضوع هذه السورة الحديث عن التوحيد وأدلة وجود الله ووحدانيته، وعن الوحي والقرآن العظيم. ابتدأت هذه السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من الله تعالى على رسوله ص، وأمر الرسول ص بإخلاص الدين لله، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، وتوضيح شبهة المشركين في اتّخاذ الأصنام آلهة شفعاء، وعبادتها وسيلة إلى الله تعالى، والنّعي عليهم في عبادة الأوثان. وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية الله، من خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة، ثم نددت بطبيعة المشرك وتناقضه حين يدعو الله حال الضر، وينساه حال الرخاء. ثم عادت لإيراد بعض هذه الأدلة كإنزال المطر وإنبات النبات. ثم ذكرت مقارنة بين المؤمنين وبين الكافرين، حيث يسعد الأوائل في الدنيا والآخرة، ويشقى الآخرون فيهما، ويتمنون الفداء حين يرون العذاب. وأشادت بعظمة القرآن الكريم حيث تقشعر من آياته جلود المؤمنين الخائفين، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله، على عكس المشركين الذين تنقبض قلوبهم عند سماع توحيد الله، كما أن القرآن يتضمن أمثالا للناس لعلهم يتذكرون. ومن هذه الأمثال يتضح الفرق بين من يعبد إلها واحدا، وبين من يعبد آلهة متعددة لا تسمع ولا تجيب، كالعبد المملوك لسيد واحد، والمملوك لعدة شركاء متخاصمين فيه. ثم رد تعالى على المشركين الذين يتخذون الأصنام شفعاء من دون الله، ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون.

فضلها:

وأخبر الله تعالى عن موت النّبي ص وموت أصحابه، وأن الله هو المهيمن على الأرواح، فيتوفّى بعضها في أجلها، ويترك بعضها إلى أجل آخر. ثم فتح باب الأمل أمام المسرفين، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم إذا تابوا، وأوضح ما يرى على وجوه الذين كذبوا على الله أهل النار يوم القيامة من كآبة وحزن. وأعقب ذلك ببيان أحوال القيامة، وحدوث نفختين: الأولى للإماتة، والثانية للإحياء من القبور، ثم يأتي الحساب والقضاء بالحق، وإيفاء كل نفس ما عملت. وختمت السورة بتقسيم الناس يوم القيامة فريقين: فريق الكافرين الذين يساقون زمرا وجماعات إلى جهنم، ويشاهدون من أهوال المحشر، وفريق المؤمنين الذين يساقون إلى الجنان وتحييهم الملائكة، ويشاهدون في الجنة النعيم المقيم الذي يستدعي الحمد التام لله رب العالمين، ويرون الملائكة حافين حول العرش يسبحون بحمد ربهم. فضلها: أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ص يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان ص يقرأ في كل ليلة: بني إسرائيل- أي الإسراء- والزّمر.

مصدر القرآن والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى [سورة الزمر (39) الآيات 1 إلى 4] :

مصدر القرآن والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) الإعراب: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، ومِنَ اللَّهِ: خبره، ويجوز كونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل. وقرئ تَنْزِيلُ بالنصب، على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ.. وَالَّذِينَ: مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: يقولون: ما نعبدهم، ويجوز جعل الخبر: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. ويكون «يقولون» المحذوف حال في ضمير اتَّخَذُوا تقديره: والذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين: ما نعبدهم. وجملة ما نَعْبُدُهُمْ في موضع نصب ب «يقولون» المقدر، لأن الجمل تقع بعد القول محكية في موضع نصب. المفردات اللغوية: الْكِتابِ القرآن الْعَزِيزِ القوي في ملكه الْحَكِيمِ في صنعه، يضع الأشياء في موضعها المناسب إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ بِالْحَقِّ بالحق متعلق ب أَنْزَلْنا أي ملتبسا بالحق، قائما عليه، أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين، خاليا من الشرك والرياء، أي موحدا الله.

سبب النزول نزول الآية (3) :

أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي لله وحده الدين صافيا نقيا، لا يستحقه غيره، لأنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي المتخذون من دون الله نصراء وهم كفار مكة الذين اتخذوا الأصنام آلهة. ما نَعْبُدُهُمْ يقولون: ما نعبدهم. زُلْفى قربى، مصدر بمعنى التقريب. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبين المسلمين. فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار. لا يَهْدِي لا يوفق للاهتداء إلى الحق. مَنْ هُوَ كاذِبٌ في نسبة الولد إليه. كَفَّارٌ شديد الكفر بعبادته غير الله. لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما قال المشركون: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ لاختار من خلقه ما يشاء غير ما قالوا: إن الملائكة بنات الله، وعزيز ابن الله، والمسيح ابن الله. سُبْحانَهُ تنزيها له عن اتخاذ الولد. الْقَهَّارُ القاهر كل شيء من خلقه. سبب النزول: نزول الآية (3) : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا: أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. التفسير والبيان: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي هذا الكتاب العظيم وهو القرآن تنزيل من الله تعالى، العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه، يضع الأشياء في مواضعها المناسبة، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، كما قال عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] .

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن مقترنا بالحق، أي إن كل ما فيه حق، من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف الشرعية، ولم ننزله باطلا لغير شيء. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا نصلح العبادة إلا لله وحده، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد. والإخلاص: أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، ولا يقصد شيئا آخر. والدين: العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله، واعتقاد أنه لا شريك له. ولهذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا لله العبادة والطاعة الخالصة من شوائب الشرك والرياء وغيره. وأما ما سواه من الدين فليس بدين الله الخالص الذي أمر به، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له. وقوله: أَلا لِلَّهِ يفيد الحصر، أي أن يثبت الحكم في المذكور، وينتفي عن غيره. وإذا كان رأس العبادة الإخلاص لله، فطريق المشركين مذموم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي وأما المشركون الذين والوا غير الله تعالى، وهي الأصنام التي عبدوها من دونه، فيقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله تقريبا، ويشفعوا لنا عنده في حوائجنا. وهؤلاء عاقبتهم وخيمة كما قال تعالى مهددا لهم: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان

فقه الحياة أو الأحكام:

يوم القيامة، ويفصل في خلافاتهم، ويجزي كل عامل بعمله، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يرشد لدينه، ولا يوفق للاهتداء إلى الحق، من هو كاذب مفتر على الله، في زعمه أن لله ولدا، وأن الآلهة تشفع له وتقربه إلى الله، مغال في كفره باتخاذ الأصنام آلهة، وجعلها شركاء لله، من غير دليل عقلي ولا نقلي مقبول. ثم رد الله تعالى على زعمهم اتخاذ الله ولدا، فقال: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لو شاء الله اتخاذ ولد، وهو لا يحتاج لذلك، لاختار من جملة خلقه ما يشاء أن يختاره، ولكان الأمر على خلاف ما يزعمون، فيختار أكمل الأولاد وهم الأبناء، لا البنات كما زعموا، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق، فلم يبق إلا أن يختار ما يريد هو، لا ما يزعمون. ثم نزّه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد، فقال: سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي تنزه الله وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي يفتقر إليه كل شيء، وهو الغني عما سواه، قهر الأشياء فدانت له وخضعت وذلت، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية: 1- إن القرآن العظيم تنزيل من رب العالمين، وكل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف حق لا مرية فيه، وصدق يجب العمل

به. والدليل على نزوله من عند الله: أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزا، لأنه كلام الله الموحى به إلى رسوله ص، لما عجزوا عن معارضته. 2- العبادة والطاعة لا تكون إلا لله وحده، فلله الدين الخالص الذي لا يشوبه شيء. روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء، أريد به وجه الله، وثناء الناس، فقال رسول الله ص: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه» ثم تلا رسول الله ص: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ. وروى ابن جرير عن أبي هريرة حديثا قدسيا بلفظ: «من عمل عملا أشرك فيه غيري، فهو له كله، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك» . 3- قال ابن العربي عن آية: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ: هي دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان: إن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطره، ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر، بغير نية «1» . 4- اعتمد المشركون في عبادتهم الأصنام واتخاذها شفعاء عند الله على وهم لا يعتمد أصلا على أساس مقبول من العقل والنقل، إذ كيف يعقل أن تكون الأصنام والجمادات وسيلة تقرب إلى الله؟ وكذلك لا يعقل أن تكون هذه الأصنام تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون المقصود من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى من جعلت تماثيل لها، لأن هذه المخلوقات عاجزة عن جلب الخير لنفسها أو دفع الضر عنها، فكيف تحقق ذلك لغيرها؟!!

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1644

من أدلة التوحيد وكمال القدرة وكمال الاستغناء [سورة الزمر (39) الآيات 5 إلى 7] :

ويلاحظ أن ظاهرة الشرك قديمة، وجاءت الرسل لتفنيدها وإبطالها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] . 5- أجاب الله تعالى عن شبهة المشركين مقتصرا في الجواب على مجرد التهديد، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة، فيجازي كلا بما يستحق. ثم قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يوفق للدين الذي ارتضاه، وهو دين الإسلام، ولا يرشد إلى الهداية من كذب على الله وافترى عليه، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه. 6- أبان الله تعالى بعدئذ أنه لا ولد له كما يزعم جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى، فلو أراد تعالى أن يسمي أحدا من خلقه بأنه ولد، ما جعله عز وجل إليهم، سبحانه، أي تنزه وتقدس ربنا عن الولد، فهو الله الواحد الأحد، القهار لكل شيء. من أدلة التوحيد وكمال القدرة وكمال الاستغناء [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

الإعراب:

الإعراب: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ متعلق ب خَلَقَ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ذلِكُمُ: مبتدأ، ورَبُّكُمْ: خبره، ولَهُ الْمُلْكُ: خبر آخر، والْمُلْكُ: مرفوع بالجار والمجرور، وتقديره: ذلكم ربكم كائن له الملك. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيه وجهان: الرفع على أنه خبر آخر للمبتدأ، والنصب على أنه منصوب على الحال، وتقديره: منفردا بالوحدانية. البلاغة: تَكْفُرُوا تَشْكُرُوا بينهما طباق. المفردات اللغوية: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ يلقي هذا على هذا، والتكوير: اللف على الجسم المستدير، وهذا يدل على كروية الأرض، ومنه كوّر المتاع والعمامة: ألقى بعضه على بعض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذلل وطوع، وجعلهما منقادين له يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى لوقت معين محدود هو يوم القيامة الْعَزِيزُ القوي الغالب على كل شيء الْغَفَّارُ لذنوب عباده إذا شاء وإذا تابوا. والآية دليل على وجود الله ووحدانيته وقدرته. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فيه ثلاث دلالات على وجود الله وتوحيده وقدرته: خلق آدم عليه السلام أولا من غير أب وأم، ثم خلق حواء منه أو من جنسه، ثم شعّب الخلق منهما. وثُمَّ معطوف على محذوف تقديره: مثل خلقها، للدلالة على مباينتها لها في الفضل والمزية، فهو- كما قال الزمخشري- من التراخي في الحال والمنزلة، لا من

المناسبة:

التراخي في الوجود «1» وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى لكم وقسم، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم- الضأن والمعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكرا وأنثى. وهي جمع أزواج، والزوج: اسم لكل واحد معه غيره، فإن انفرد فهو فرد خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي بالتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحما فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة أو الصلب ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحق للعبادة والمالك لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره. غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رحمة عليهم وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ لأنه سبب فلا حكم، أي وإن تشكروا الله فتؤمنوا يرض الشكر لكم وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بحديث النفس، فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى في الآية المتقدمة كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا غالبا، أي كامل القدرة، أعقبه ببيان الأدلة الدالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه، فذكر ثلاثة أدلة: خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم، وتذليل الشمس والقمر لقدرته، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكرا وأنثى، وفي كل دليل من هذه الأدلة أدلة ثلاثة أبينها بمشيئة الله هنا.

_ (1) يعني أن ثُمَّ كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي، تكون أيضا لمطلق الترتيب. والمعطوف عليه هنا مقدر هو خلقها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي: أ- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أبدع وأوجد العالم العلوي من السموات والأرض إبداعا قائما على الحق والصواب، لأغراض ضرورية وحكم ومصالح، فلم يخلقهما باطلا وعبثا، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدل على وجود الإله القادر، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، فهو واحد، كامل القدرة، كامل الاستغناء عن غيره. ب- يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي يغشي كلا منهما الآخر، حتى يذهب ضوءه أو ظلمته، أو يجعلهما متتابعين متعاقبين، يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، كقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف 7/ 54] وقوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد 57/ 6] . وهذا دليل على كروية الأرض أولا: لأن التكوير: اللف على الجسم المستدير، وعلى دورانها حول نفسها ثانيا، لأن تعاقب الليل والنهار والنور والظلمة لا يتم دون دوران. ج- وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وجعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ومصالحهم، وكل منهما يسير في فلكه إلى منتهى دورته، وإلى وقت معين محدود في علم الله، وهو انتهاء الدنيا، ومجيء القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء 21/ 104] . وذيّل الآية بالدلالة على المراد وهو إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة، فقال:

الدليل الثاني وأقسامه من العالم السفلي:

أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أَلا: تنبيه، أي تنبهوا، أي إن خلق هذا العالم العلوي وأجرامه العظيمة من غالب قادر على الانتقام ممن عاداه، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة، ولا أحد مثله في ذلك، والجمع بين هاتين الصفتين للدلالة على أنه مع عزته وعظمته وكبريائه وكمال قدرته، هو غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، يغفر لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه، فإن الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة، فأتبعه بوصف الْغَفَّارُ الذي يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة لا تعني الطمع من دون فعل، وإنما توجب الرجاء والرغبة في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له. والخلاصة: إن هذا التذييل للترغيب في العمل الموجب للمغفرة، بعد الترهيب الموجب للحذر. ثم أتبعه بدليل آخر: الدليل الثاني وأقسامه من العالم السفلي: أ- خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام، ثم جعل من جنسها «1» زوجها، وهي حواء، ثم شعّب الخلق منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء 4/ 1] وهذا الجزء من الدليل في عالم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلة ثلاثة. والمشهور في قوله: مِنْها أنه خلق حواء من ضلع آدم، ولم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها. ب- وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي وقضى لكم وقسم وخلق وأعطاكم من ظهور الأنعام (وهي الإبل والبقر والضأن والمعز) ثمانية أزواج من كل صنف ذكرا وأنثى، كما قال تعالى:

_ (1) وهذا رأي الرازي. [.....]

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام 6/ 143] أي ذكر وأنثى لكل منها. ج- يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ أي يبتدئ خلقكم ويقدره في بطون أمهاتكم في مراحل متدرجة من الخلق، حيث يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يتكون العظام، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب، ثم تنفخ فيه الروح، فيصير إنسانا خلقا آخر في أحسن تقويم. وتكون مراحل الخلق في ظلمات أغشية ثلاثة، هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، والأغشية- كما يقول الأطباء-: هي الغشاء المنباري، والخربون، والغشاء اللفائفي. ثم ذيّل هذه الآية كالآية السابقة بما يشير إلى الهدف وهو الإيمان بالموجد الخالق المنشئ، فقال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان هو الرب المربي لكم، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، ولا يشاركه أحد فيه، فلا تنبغي العبادة إلا له، فكيف تصرفون عن عبادته، مع ما يوجب استحقاقه لها، إلى عبادة غيره؟ أو كيف تعبدون معه غيره، وكيف تتقبل عقولكم ذلك؟ ثم أبان الله تعالى أن ثمرة هذه العبادة لكم، والله غني على الإطلاق، فقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي إن تكفروا بالله بعد توافر أدلة وجوده وتوحيده وقدرته، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال

تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] . وفي صحيح مسلم: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا» . ثم ذكر الله تعالى ما يأمر به ويرضاه وما ينهى عنه ولا يرضاه، فقال: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي لا يحب الله تعالى الكفر ولا يأمر به، لأنه مرتع الضلال والانحراف والذل لمعبودات لا ضرر منها ولا نفع فيها، وهو سبب الشقاوة في الدارين. وإن تشكروا الله على نعمه، يرض لكم الشكر ويحبه ويزدكم من فضله، لأن الله عز وجل هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة. ثم أعلن الله تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام، فقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا من الآثام والذنوب والجرائم، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شر. وقد وردت هذه الآية في القرآن الكريم خمس مرات. وهي كقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر 74/ 38] . والجزاء على قدر العمل، فقال تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي ثم مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة، فيخبركم بأعمالكم من خير وشر، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره أي مكنونات النفوس، فلا تخفى عليه خافية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الكريمات على الآتي: 1- الأدلة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد: هي خلق السموات والأرض وما بينهما، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر لمصالح العباد والمخلوقات، وخلق الإنسان في أصله أو باتخاذ الأسباب الظاهرية، وخلق ثمانية أزواج أو أصناف من الأنعام، من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن المعز اثنين، كل واحد زوج، والأزواج ثمانية تشمل الذكر والأنثى. 2- دل تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها. 3- ودل تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة، على كمال قدرة الله ودقة نظامه ومراعاته مصالح العباد. 4- ينبه الله تعالى على أنه عزيز غالب، غفار ستّار لذنوب خلقه برحمته، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة، رهبة من الله عز وجل، ورغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله تعالى. 5- مراحل خلق الإنسان تحدث متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظم ثم لحم. ويبدأ تكون الإنسان في داخل ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. 6- إن الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم، وهو المالك الواحد الأحد، كما قال تعالى: رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.

فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ 7- إذا كفر جميع الناس فلا يضرّون الله، والله هو الغني عنهم، لكن لا يرضى الله الكفر لعباده ولا يحب ذلك منهم، وإن شكروه رضي بالشكر وأمر به، ومصير جميع الخلائق إلى ربهم، فيخبرهم بما قدموا من خير أو شر. والآية دليل على أن الإرادة غير الرضا، وهو مذهب أهل السنة، فقد يريد الله شيئا، لكن لا يرضى به، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس، وهو لا يرضاه، والرضا: ترك اللوم والاعتراض، وليس هو الإرادة. 8- من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وذلك يدفع إلى العمل، ويمنع الخمول والكسل، ويخلّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه، دون تأثر بأفعال الآخرين، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان. 9- دل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ على إثبات البعث والقيامة، ودل قوله سبحانه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ على شمول علم الله بالكليات والجزئيات، وبالكبائر والصغائر، وبالفعل الحاصل والقول المقول، وبما يسبقه من نية وحديث نفس وعزم وهمّ وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول.

تناقض الكفار واستقامة المؤمنين [سورة الزمر (39) الآيات 8 إلى 9] :

تناقض الكفار واستقامة المؤمنين [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) الإعراب: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أَمَّنْ بالتشديد: بإدخال «أم» بمعنى بل والهمزة على «من» بمعنى الذي، وليس بمعنى الاستفهام، لأن «أم» للاستفهام، فلا يدخل على ما هو استفهام. وفي الكلام محذوف تقديره: العاصون ربهم خير أم من هو قانت، ودخل على هذا المحذوف أيضا: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وقرئ بالتخفيف على أن تكون الهمزة للاستفهام بمعنى التنبيه، ويكون في الكلام محذوف تقديره: أمن هو قانت يفعل كذا كمن هو على خلاف ذلك. ودخل على هذا المحذوف: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي.. أو أن تكون الهمزة للنداء، وتقديره: يا من هو قانت أبشر فإنك من أهل الجنة، لأن ما قبله يدل عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. ويَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في موضع الحال، أو الاستئناف للتعليل. البلاغة: يَرْجُوا يَحْذَرُ بينهما طباق. قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أمر أريد به التهديد، مثل اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام 6/ 135 ومواضع أخرى] . أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إيجاز بالحذف، أي كمن هو كافر.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي الكافر ضُرٌّ شدة دَعا رَبَّهُ تضرع مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه خَوَّلَهُ نِعْمَةً أعطاه إنعاما وملكه نَسِيَ ترك الضر ما كانَ يَدْعُوا الذي يتضرع إلى كشفه إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وهو الله، من قبل النعمة أَنْداداً شركاء، جمع ندّ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عن سبيل دين الإسلام، وقرئ ليضل وكل من الضلال والإضلال نتيجة، وليسا غرضين. قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا بقية أجلك، وهو أمر تهديد، فيه إشعار بأن الكفر نوع تشهي لا سند له، وإقناط للكافر من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هذا استئناف على سبيل المبالغة. قانِتٌ طائع خاشع آناءَ اللَّيْلِ ساعاته وَقائِماً للصلاة يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يخاف عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي جنته، وفي الكلام محذوف تقديره: كمن هو عاص بالكفر أو غيره قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ نفي لاستواء الفريقين، أي لا يستويان، وكما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول. سبب النزول: نزول الآية (9) : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ؟: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ الآية، قال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة. المناسبة: بعد بيان فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنه لا دليل لهم على عبادتها، وبيان أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، وأن الله غني عما سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر الله تعالى هنا تناقض الكفار بالرجوع إلى

التفسير والبيان:

الله وقت الشدة، وتركه وقت الرخاء. ثم أردفه ببيان مدى صلابة المؤمنين في دينهم، وتمسكهم بمبدئهم، فهم لا يرجعون إلا إلى الله، ولا يعتمدون إلا على فضل الله. التفسير والبيان: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ، نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ هذا موقف متناقض من الكفار، فإذا أصاب الكافر شدة من مرض أو فقر أو خوف، تضرع إلى ربه، راجعا إليه تائبا، مستغيثا به في تفريج كربته، وكشف ما نزل به، ثم إذا منحه نعمة أو أعطاه وملكه، وصار في حال رخاء ورفاهية، نسي ذلك الدعاء والتضرع، أو نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل. وجعل لله شركاء من الأصنام أو غيرها، يعبدها، ليصير وتكون نتيجته وعاقبته الضلال والإضلال، يضل بنفسه، ويضل الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله والدخول في الإسلام، فسبيل الله: الإسلام والتوحيد، والأنداد الأوثان والأصنام، ولام لِيُضِلَّ لام العاقبة. والمعنى الأول (وهو أنه عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله) مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء 17/ 67] . والمعنى الثاني (وهو أنه في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع) مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس 10/ 12] .

والمعنى الثالث (جعل الأنداد الشركاء لله) كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] . لكل هذا هدد الله وأوعد ذلك الكافر المتناقض على ما فعل، فقال: قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قل أيها الرسول لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه: استمتع أيها الإنسان بكفرك تمتعا قليلا أو زمانا قليلا هو مدة أجلك، فمتاع الدنيا قليل، فإنك في الآخرة من أصحاب النار الخالدين فيها أبدا، ومصيرك إليها عن قريب، كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم 14/ 30] وقوله سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . ثم ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون دائما إلا على ربهم، فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا، أم المؤمن بالله، الذي هو مطيع خاشع يصلي الله في ساعات الليل، وخشوعه مستمر حال سجوده وحال قيامه، يخاف الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فيجمع بين الخوف والرجاء، وتلك هي العبادة الكاملة، التي يفوز بها صاحبها؟! الجواب واضح. قال أبو حيان: وفي الآية دليل على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار. قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هل يستوي العلماء والجهال؟ إنما يتعظ بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة، لا الجهلاء، وإنما يعرف الفرق بين الصنفين العاقل، لا الجاهل. لا يستوي الفريقان، فإن العالم الذي يدرك الحق ويعرف منهج

فقه الحياة أو الأحكام:

الاستقامة، فيتبعه ويعمل به، لا يستوي أبدا مع الجاهل الذي يخبط خبط عشواء، ويسير في متاهة وضلال. والمراد بالإتيان بهذه الآية لنفي استواء الفريقين بطريق الاستفهام: هو تأكيد نفي المساواة بين الفريقين الأولين: الكافر المتناقض والمؤمن المطيع الخاشع، فكما أنه لا يستوي العالم والجاهل، لا يستوي المؤمن والمشرك الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيل الله، الأول في قمة الخير والعلم، والآخر في أسفل دركات الشر والجهل. قال أبو حيان: دلت الآية على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين: العلم والعمل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله، ونجاة العبد من سخطه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى وجود موقفين متعارضين بين الناس، فريق الكافرين وفريق المؤمنين. أما الكافر: فهو متناقض، تراه يستغيث بالله راجعا إليه مخبتا مطيعا له إذا أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف، لإزالة تلك الشدة عنه، فإن سلم ونجا وعوفي، وصار في حال اطمئنان واستقرار ورخاء ورفاهية، بفضل من الله وحده، نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه. ولا يقتصر أمره على مجرد النسيان والهجر أو الترك، وإنما يتجاوز ذلك إلى اعتقاد الشرك بالله، واتخاذ الأوثان والأصنام شركاء لله.

بل لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه، بل يضل غيره بفعله أو قوله، ويدعوه إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثما على إثمه. لهذا حق أن يوجّه له التهديد الشديد والوعيد الأكيد بأن يتمتع بكفره زمنا قليلا، فإن مصيره في النهاية إلى النار. وأما المؤمن: فهو سوي غير متناقض، مستقيم غير مضطرب، صلب في دينه غير متزعزع، يثبت في جميع أحواله على حال واحدة، من الإيمان الراسخ بالله، والاستقامة على أمر الله، فهو إذن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. تراه مصليا خاشعا لربه في جنح الظلام، والناس نيام، يناجي ربه، جامعا بين الخوف والرجاء. ثم أكد الله تعالى وجه الفرق بين المؤمن والكافر بالمقارنة بين العالم والجاهل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. ثم إن الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فهو بمنزلة من لم يعلم، وفي هذا إشارة إلى أن الكافر أو المشرك أو العاصي جاهل وإن كان عالما بعلوم الدنيا، فإنما يتذكر ويعتبر ويتعظ بهذه المقارنات أصحاب العقول من المؤمنين. ويلاحظ الترتيب في تعداد أوصاف المؤمن، بدأ فيها بذكر العمل في وصفه بكونه قانتا ساجدا قائما، ثم ختمها بذكر العلم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في العمل والعلم، فالعمل هو البداية، والعلم هو النهاية. ثم إنه تعالى نبّه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل بالمواظبة عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما دائما بما يجب عليه من الطاعات.

نصائح للمؤمنين في العبادة ووعدهم ووعيد عبدة الأصنام [سورة الزمر (39) الآيات 10 إلى 20] :

وقوله تعالى: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ.. تنبيه عظيم على فضيلة العلم وفضل العلماء. وقوله سبحانه: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أن إدراك التفاوت بين العلماء والجهال ومعرفته لا يكون إلا من أولي الألباب، أي العقول السليمة. قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع، فلا جرم تركوه «1» . نصائح للمؤمنين في العبادة ووعدهم ووعيد عبدة الأصنام [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 20] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 251

الإعراب:

الإعراب: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ حَسَنَةٌ: مبتدأ، وخبره: الجار والمجرور قبله، وفِي يتعلق ب أَحْسَنُوا إذا أريد بالحسنة: الجنة، وب حَسَنَةٌ إذا أريد بالحسنة ما يعطى للعبد في الدنيا، مما يستحب فيها، والوجه الأول أوجه، لأن الدنيا ليست بدار جزاء. قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي اللَّهَ: منصوب ب أَعْبُدُ ومُخْلِصاً: حال من ضمير أَعْبُدُ أو من ضمير قُلِ ودِينِي مفعول مُخْلِصاً وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها أَنْ: مصدرية في موضع نصب بدل من مفعول اجْتَنَبُوا تقديره: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت. ولَهُمُ الْبُشْرى لَهُمُ: في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو الَّذِينَ والْبُشْرى مرفوع ب لَهُمُ لوقوعه خبرا للمبتدأ. البلاغة: فَوْقِهِمْ وتَحْتِهِمْ بينهما طباق. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ جناس اشتقاق. لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أسلوب تهكمي، لأن إطلاق الظلة على النار المحرقة تهكم. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ.. وضع فيه الظاهر موضع ضمير الَّذِينَ اجْتَنَبُوا للدلالة على مبدأ اجتنابهم والتمييز بين الحق والباطل. مَنْ فِي النَّارِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أنه واقع في العذاب. لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مقابلة بين حال أهل النار وحال أهل الجنة. أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مجاز مرسل، أطلق المسبب (دخول جهنم) وأراد السبب (الكفر والضلال) ، لأن الضلال سبب لدخول النار.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذاب ربكم بلزوم طاعته. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة، وقيل: حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسر عليه الإحسان بالطاعة في وطنه، فليهاجر إلى مكان يتمكن فيه من الطاعة وترك المنكرات ومخالطة الكفار. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لأجل الطاعة. أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير مكيال ولا ميزان. مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء، موحدا له. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ بأن أكون. أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه. قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي من الشرك، وهو أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصا له دينه، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم، ولذا رتب عليه قوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ غيره، وهذا تهديد لهم. الْخاسِرِينَ أي الكاملين في الخسران الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ بالضلال وَأَهْلِيهِمْ بالإضلال، ونوع الخسارة: التخليد في النار وعدم الوصول إلى الجنة. الْمُبِينُ البيّن الواضح ظُلَلٌ طبقات من النار، جمع ظلّة. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الذي يخوف به عباده المؤمنين ليتقوه، بدليل نهاية الآية: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ. الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان، فهو مشتق من الطغيان للمبالغة، والتاء فيه مزيدة للتأكيد مثل رحموت وملكوت (واسع الرحمة والملك) والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها. أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أقبلوا ورجعوا. لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة والثواب. هَداهُمُ اللَّهُ لدينه. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول. أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟ حَقَّ ثبت ووجب، وتُنْقِذُ تخرج، والهمزة للإنكار، والكلام جملة شرطية معطوفة على محذوف، دل عليه الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب، فأنت تنقذه. والمعنى: لا تقدر على هدايته، فتنقذه من النار. اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه. غُرَفٌ جمع غرفة وهي الحجرة. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت تلك الغرف. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، منصوب بفعله المقدر، لأن

سبب النزول:

قوله: لَهُمْ غُرَفٌ في معنى الوعد. لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الوعد، لأن الخلف نقص، وهو على الله تعالى محال. سبب النزول: نزول الآية (17- 18) : فَبَشِّرْ عِبادِ: أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ الآية، أتى رجل من الأنصار النبي ص، فقال: يا رسول الله، إني لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكا، فنزلت فيه الآية: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. نزول الآية (17) : وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ: زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي. المناسبة: بعد نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أمر الله تعالى رسوله ص بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، والأمر بإخلاص الدين لله في العبادة، حتى تكون خالية من الشرك والرياء، والتحذير من خسارة النفس والأهل لئلا يصلوا نار جهنم، ثم ذكر الله تعالى تهديده ووعيده لعبدة الأصنام، وأردفه بوعد المبتعدين عن عبادتها وعن كل ألوان الشرك، ليقترن الوعد بالوعيد، والترهيب بالترغيب، كما هي عادة القرآن. التفسير والبيان: قُلْ: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا، اتَّقُوا رَبَّكُمْ قل أيها الرسول: يا عباد الله

الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا، اتقوا عذاب ربكم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والاستمرار على طاعته وتقواه. وعلة الأمر: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي الصحة والعافية والظفر والغنيمة والعزة والسلطان، وفي الآخرة وهي الجنة والمثوبة الطيبة الجزيلة. وتنكير حَسَنَةٌ للتعظيم للدلالة على كمالها. ثم رغبهم في الهجرة للتمكن من التقوى والطاعة، فقال: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أي إذا لم تتمكنوا من التقوى في بلد، فهاجروا إلى حيث تمكن طاعة الله، والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان ومستنقعات الكفر، أسوة بالأنبياء والصالحين، كما قال تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء 4/ 97] . ثم ذكر أجرهم على الهجرة والصبر على مفارقة الأوطان، فقال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إنما يوفيهم الله أجرهم في الجنة في مقابلة صبرهم على الهجرة وترك الأوطان بغير حساب، أي بغير كيل ولا وزن، وبما لا يقدر على حصره وحسبانه حاصر وحاسب. وهذا دليل على أن مجرد الإيمان بالقلب أو إعلان الإسلام دون تقوى ولا عمل بأوامر الله واجتناب نواهيه لا يكفي إطلاقا. ثم ضم تعالى إلى الأمر بالتقوى الأمر بالإخلاص في العبادة والطاعة، فقال: قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده، إخلاصا خاليا من الشرك والرياء وغير ذلك. وهذا وإن كان

أمرا للرسول ص، فهو لوم على عبادة الأوثان، من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرت بأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة في مخالفة دين الآباء الوثنيين، وتوحيد الله، وأول من انقاد لله تعالى من أهل العصر أو القوم، لأنه أول من خالف عبّاد الأصنام. قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي قل لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان: إني أخشى إن عصيت ربي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده، وترك الدعوة المعادية للشرك وتضليل أهله عذاب يوم شديد الهول، وهو يوم القيامة. وهذا تعريض بهم بطريق الأولى والأحرى. ثم أكد الأمر بالإخلاص في الطاعة للدلالة على أنه يعبد الله وحده، ولترسيخ المعنى في الأذهان، فقال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مرة أخرى: أمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له «1» ، وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، فلا أعبد غيره، لا استقلالا، ولا على جهة الشركة. ثم هددهم وأوعدهم قائلا: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي اعبدوا ما أردتم أن تعبدوه من غير الله، من الأوثان والأصنام، فسوف تجازون بعملكم، وهذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ والتبرؤ منهم.

_ (1) إن تقديم المفعول في الآية: اللَّهَ أَعْبُدُ على الفعل يفيد القصر، أي لا أعبد أحدا غير الله.

ثم حذرهم من عاقبة الخسران يوم القيامة قائلا: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي قل لهم أيها الرسول: إنما الخاسرون كل الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بالضلال والشرك والمعاصي، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أضلوهم وأوقعوهم في العذاب الدائم يوم القيامة، وهذا هو الخسران البيّن الظاهر الواضح، فلا خسران أعظم منه، إذ لا مجال لتعويض الخسارة. ثم وصف حالهم في النار لبيان نوع الخسران فقال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي لهم أطباق متراكمة من النار الملتهبة عليهم، من فوقهم ومن تحتهم، أي أن النار محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف 7/ 41] وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت 29/ 55] . وسمى ما تحتهم ظللا، لأنها تظلل من تحتها من أهل النار، ففي كل طبقة من طبقات النار طائفة من طوائف الكفار. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي ذلك العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ليرهب به عباده، لينزجروا عن المعاصي والمآثم والمحارم، فيا عبادي اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي. وهذا التحذير والتنبيه نعمة عظمي صادرة من فيض رحمة الله وفضله، حتى لا يفاجأ الناس بالعذاب، ومن أنذر فقد أعذر. وبعد إيراد هذا الوعيد لعبدة الأصنام، ذكر الله تعالى وعده لمن اجتنب عبادتها، فقال:

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ، لَهُمُ الْبُشْرى أي والذين أعرضوا عن عبادة الأصنام والشيطان، وأقبلوا على عبادة الله معرضين عما سواه، لهم البشارة العظمى بالثواب الجزيل، وهو الجنة، إما على ألسنة الرسل، أو حين الموت أو عند البعث. وهي بشارة شاملة لمن نزلت الآية في حقهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية كقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس 10/ 64] . والطاغوت «1» : يطلق على الواحد والجمع، ويشمل عبادة الأوثان والشيطان، لأن الشيطان هو الآمر بتلك العبادة والمزيّن لها، فهو سبب الكفر والعصيان. فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي بشر بالجنة أيها الرسول عبادي المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، والذين يستمعون القول الحق، من كتاب الله وسنة رسوله، فيفهمونه، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه، كما قال تعالى لموسى عليه السلام: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف 7/ 145] . وهذا مدح لهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الذين وفقهم للصواب في الدنيا والآخرة، وهم ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة.

_ (1) وقرئ: الطواغيت.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي أأنت مالك أمر الناس، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده، فأنت تخلصه من النار؟ والمعنى: إنك لا تقدر على هدايته، فتنقذه من عذاب النار. والآية تسلية لرسول الله ص، لأنه كان حريصا على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من كان من أهل الضلالة والهلاك، لا تستطيع هدايته. ثم أعاد الله تعالى الإخبار عن جزاء المتقين السعداء للحض على التقوى، فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية، لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض، والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها، ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء، فأخبر أنه وعد من الله وعده للمتقين المؤمنين، ووعد الله حق ثابت، لا ينقض ولا يخلف. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أمر الله المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى: وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، مما يدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، كما يدل على أن الإيمان يبقى مع المعصية. 2- للتقوى فوائد جلّى، فللمتقين حسنة في الدنيا من صحة وعافية ونصر

وسلطان وجاه وغنى، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم. 3- لا عذر للمقصرين في الإحسان والطاعة، فمن صد عن طاعة الله في بلد، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات، اقتداء بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم. والمقصود من الآية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ الترغيب في الهجرة من مكة حيث كانت واجبة في صدر الإسلام، والصبر على مفارقة الأوطان. 4- الصبر: هو الرضا بمفارقة الأوطان والأهل، واحتمال البلايا وفجائع الدنيا في طاعة الله تعالى. وثواب الصبر مفتوح غير مقيد بحدود، فكل من رضي بما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجره. وهذا يشابه ثواب الصوم، لقوله ص عن ربه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الصوم لي وأنا أجزي به» . عن الحسين رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله ص يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا» ثم تلا النبي ص: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. قال النحاس: لفظ صابر يمدح به، وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت: صابر على كذا. ثم إن الأجر على الصبر إنما هو بحسب الوعد من الله، لا بحسب الاستحقاق. 5- أمر الله تعالى رسوله ص مرتين في هذه الآيات للتأكيد بإخلاص

العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، دون أن تكون مشوبة بشائبة الشرك أو الرياء أو غير ذلك. وأمة الرسول ص من بعده مأمورة بذلك، لأن أمر الرسول ص أمر للأمة، والبدء به تعليم وإرشاد وجعله قدوة لأمته. كذلك أمر الله تعالى رسوله ص بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة، وكان ذلك فعلا، فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى ذلك. وأمر الرسول ص أيضا بأن يخاف عذاب يوم القيامة. وكل هذه الأوامر تعريض بالمشركين وتعليم وإرشاد للمؤمنين. 6- قوله تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس إباحة ولا إذنا وإقرارا لعبادتهم الأصنام، وإنما هو أمر تهديد ووعيد وتقريع، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] وقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام 6/ 135] . 7- إن الخسارة الكبرى التي لا تعوض للمشركين والكافرين هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بسبب الضلال عن الدين الحق، والإضلال للأتباع عن دين الله. قال ابن عباس: ليس من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. ومن عمل بطاعة الله، كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [المؤمنون 23/ 10] . 8- للكفار عذاب يحيط بهم من كل جانب في نار جهنم يوم القيامة. وهو عذاب شديد، لذا خوّف الله به عباده المؤمنين وأولياءه المتقين، فيا أولياء الله، اتقوا الله ربّكم من هذا العذاب، بإخلاص التوحيد والطاعة. وهذا وعيد شديد لعبدة الأصنام.

9- وعد الله بالجنة المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين الذي زين لهم تلك العبادة، والذين أنابوا إلى الله، أي رجعوا بالكلية إلى عبادته وطاعته. وهؤلاء فعلا هم الذين انتفعوا بعقولهم، وهم الذين ميّزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، ففهموا أوامر الله، واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله ص. 10- الهداية بيد الله تعالى وحده، لذا خاطب الله رسوله ص مسليا له: أفأنت تنقذ من النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ويلاحظ أن الهداية والضلال من خلق الله تعالى وإيجاده، كخلق جميع أعمال الإنسان، أما تحصيلهما واكتسابهما واختيارهما فمن العبد، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف 18/ 17] . 11- لما بيّن الله تعالى أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم، بيّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف، أي علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية كبناء منازل الأرض، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض. والجنة مزدانة بأبهى أنواع الجمال، فهي تجري من تحت غرفها الأنهار، أي هي جامعة لأسباب النزهة، وقد وعد الله بها عباده الأتقياء وعدا محققا كائنا لا شك فيه، كما أوعد الكافرين بالنار، وإن الله لا يخلف الميعاد الذي وعد به الفريقين.

حال الدنيا [سورة الزمر (39) آية 21] :

حال الدنيا [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) الإعراب: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً يَجْعَلُهُ: فعل مضارع مرفوع، وقرئ بالنصب، وهي قراءة ضعيفة. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ تعلم مِنَ السَّماءِ ماءً من السحاب مطرا فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ أدخله عيونا وأمكنة نبع، والينابيع: جمع ينبوع: وهو عين الماء يَهِيجُ ييبس ويجف فَتَراهُ مُصْفَرًّا تشاهده بعد الخضرة مثلا مصفرا أَلْوانُهُ أنواعه وأصنافه حُطاماً فتاتا مكسرا لَذِكْرى تذكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسوّاه لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول، فهم لا غيرهم الذين يتذكرون به للدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها، وفي طاعة الله، وصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها، وهي قصر مدتها وسرعة زوالها. وإنما قدم وصف الآخرة، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود عرضا. التفسير والبيان: ألم تشاهد أيها الرسول وكل مخاطب أن الله أنزل من السحاب مطرا، فأدخله

فقه الحياة أو الأحكام:

وأسكنه في الأرض، ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء، ثم تسقى به الأرض، فيخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا أنواعه، كبّر وشعير وخضار وغيرهما، ومختلفا ألوانه، من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر وغيرها من الألوان البديعة الأخاذة. ثم ييبس ويجف، فتراه مصفرا بعد خضرته ونضارته، ثم يصير متفتتا متكسرا، وإنّ فيما تقدم ذكره من إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة، وتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته. فهؤلاء يعلمون بأن حال الحياة الدنيا كحال هذا الزرع في سرعة الزوال والانقطاع، وذهاب بهجتها، وتلاشي رونقها ونضارتها، ولم يبق لديهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر. ونظير الآية قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف 18/ 45] . فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية تدل على قدرة الله في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، فهو قادر على ذلك، كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء، أي إنزال المطر من السحاب. وهي أيضا ترغب في الآخرة لخلودها، وتنفر من الدنيا لتوقيتها وقصر مدتها وسرعة زوالها وانقضائها. فهذه الدنيا الفانية متاعها زائل، وزخرفها باهت، وهي متحولة متغيرة لا تبقى على حال واحدة، ونهايتها محتومة، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها

الهداية للإسلام [سورة الزمر (39) الآيات 22 إلى 26] :

فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 26- 27] وقال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] . والخلاصة: أن الآية مثل لحال الدنيا، يتعظ بها كل ذي عقل سليم، بعيد النظر، عميق الفكر والتأمل، ينظر إلى المستقبل الحتمي نظرة اليقظ الحذر، المستعدّ العامل. الهداية للإسلام [سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 26] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) الإعراب: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً كتابا بدل من أحسن. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ الواو للحال، وقد: مقدّرة.

البلاغة:

البلاغة: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ؟ إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ل حذف خبره وتقديره: كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ وجوابه كمن أمن منه بدخول الجنة. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي وقيل لهم، وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا للظلم عليهم وإشعارا بما يوجب القول لهم، وهو: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. يَهْدِي ويُضْلِلِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: شَرَحَ فتح وبسط، والمراد: خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبول الإسلام صَدْرَهُ أي قلبه، فاهتدى، من حيث إن الصدر محل القلب منبع الروح المتعلق بالنفس القابلة للإسلام، وجواب الاستفهام محذوف تقديره: كمن طبع الله على قلبه، بدليل ما بعده وهو: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ويل: كلمة عذاب، والقاسية قلوبهم: المعرضة عن قبول القرآن، والقسوة: جمود القلب وصلابته. وقوله المتقدم: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني نور المعرفة والاهتداء إلى الحق، والنور: البصيرة والهدى، قال ص: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» وسيأتي الحديث بتمامه مُبِينٍ بيّن واضح. أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أي القرآن كِتاباً قرآنا مُتَشابِهاً في النظم والمعنى، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز، وحسن النظم، والدقة، وصحة المعنى والإحكام مَثانِيَ جمع مثنى، من التثنية: التكرار، أي ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرهما تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تضطرب وتتحرك وترتعد خوفا عند ذكر وعيده يَخْشَوْنَ يخافون تَلِينُ تطمئن وتسكن إِلى ذِكْرِ اللَّهِ عند ذكر وعده ذلِكَ الكتاب هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخرجه من الضلالة. أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يجعله درقة (ترسا) يقي به نفسه أشد العذاب، بأن يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه، والجواب محذوف تقديره: كمن أمن منه بدخول الجنة لِلظَّالِمِينَ كفار مكة وأمثالهم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ذوقوا وباله وجزاءه. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذبوا رسلهم في إتيان العذاب فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها الْخِزْيَ الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالقتل والسبي والإجلاء والخسف والمسخ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كان المكذبون يعلمون عذاب الآخرة ما كذبوا.

سبب النزول نزول الآية (23) :

سبب النزول: نزول الآية (23) : اللَّهُ نَزَّلَ: روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: نزل على النبي ص القرآن، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا؟ فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ. وعن ابن عباس: أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدّثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر، فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى، وما يوجب الإعراض عن الدنيا، أوضح أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوّر القلوب، ثم أوضح أن من أضله الله فلا هادي له، وأن من يلقى في النار ليس كمن آمن وأمن، فدخل الجنة، وأن مكذبي الرسل لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة. التفسير والبيان: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟ أي أفمن وسّع الله صدره للإسلام، فقبله واهتدى بهديه، فهو بسبب هذه الهداية على بصيرة ونور من ربه يفيض عليه، أي نور المعرفة والاهتداء إلى الحق، كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته، فصار في ظلمات الضلالة وبليّات الجهالة؟!. والمعنى: أنه لا يستوي المهتدي المهدي الموفق للإسلام والحق ومن هو قاسي القلب، البعيد عن الحق، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً، فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا

لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام 6/ 122] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله، قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ كيف انشرح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر: أن رجلا قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» . ثم ذكر عقاب قساة القلوب للدلالة على الكلام المحذوف الذي قدر، فقال: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي فالعذاب الشديد لمن لا تلين قلوبهم عند ذكر الله، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، أولئك قساة القلوب في ضلال واضح عن الحق، وغواية ظاهرة لكل الناس. أخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» . وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص قال: «قال الله تعالى: اطلبوا

الحوائج من السّمحاء، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي» . وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم. ثم وصف الله القرآن الذي يشرح الصدر، فقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي الله «1» نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز، وصحة المعاني، وقوة المباني، وبلوغه أعلى درجات البلاغة، وتثنى فيه القصص وتردد، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، ويثنى في التلاوة فلا يملّ سامعه، ولا يسأم قارئه. إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، كما قال الزجاج، وتضطرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد. ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة، قال قتادة: هذا نعت أولياء الله، نعتهم بأنها تقشعر جلودهم، ثم تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان. عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي ص إذا قرئ عليهم القرآن، كما نعتهم الله، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.

_ (1) الابتداء باسم الله وإسناد ضمير نَزَّلَ إليه: فيه تفخيم للمنزّل ورفع منه، كما تقول: الملك أكرم فلانا.

قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الكتاب أو القرآن هو هداية الله يهدي به من يشاء هدايته ويوفقه للإيمان، وهذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك، فهو ممن أضله الله. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من يخذله الله عن الإيمان بالقرآن من الفساق والفجرة، فلا مرشد له. ثم أبان الله تعالى سبب التفرقة بين المهتدي والضال، فقال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ هذا مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فصلت 41/ 40] . والمعنى: أمن يتقحم نار جهنم، فلا يجد ما يتقي به سوى وجهه، ليتقي العذاب الشديد يوم القيامة، كمن هو آمن لا يعتريه شيء من المخاوف أو المكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء المخاوف، بل هو سالم من كل سوء، مطمئن في جنة الله؟! أي لا يستوي هذا وذاك، كما قال عز وجل: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك 67/ 22] . وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وحين يقال للكافرين: ذوقوا جزاء كسبكم من المعاصي في الدنيا، كقوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة 9/ 35] . ثم ذكر تعالى عذاب مكذبي الرسل من الأمم الماضية في الدنيا، فقال: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي إن بعض

فقه الحياة أو الأحكام:

الأمم الماضية الذين كذبوا الرسل، أهلكهم الله بذنوبهم، وأتاهم العذاب من جهة لا يترقبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم، فأذاقهم الله الذل والهوان بما أنزل بهم من العذاب والنكال، كالخسف والمسخ والقتل والسبي والأسر وغير ذلك. ثم إن عذاب الآخرة أشد وأنكى وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لكونه في غاية الشدة والدوام، لو كانوا ممن يعلم ويتفكر ويعمل بمقتضى علمه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لا يستوي المهتدي الذي شرح الله صدره للإسلام، فهو على هدى من ربه، ومن طبع على قلبه وحرم الهداية، فالويل ثم الويل لقساة القلوب المعرضين عن ذكر الله، فهم في ضلال واضح. 2- القرآن الكريم هو أحسن الحديث، أي أن أحسن ما يسمع هو ما أنزله الله وهو القرآن، وهذه هي الصفة الأولى للقرآن. ومن خصائصه وصفاته: أنه متشابه بعضه مع بعض في الحسن والحكمة والإحكام أي في النظم والمعنى، ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وأنه مثاني أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام، وتثنى تلاوته فلا يملّ منه، وأنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فالنفس المؤمنة به تضطرب وتخاف مما فيه من الوعيد، ثم تطمئن وتسكن عند سماع آيات الرحمة. وأنه هدى الله الذي يهدي به من يشاء هدايته، وأما من يضله ويخذله من الفساق والفجار المعرضين عنه، فلا مرشد له. فهذه صفات خمس للقرآن المجيد. 3- لا يستوي عقلا وعدلا وواقعا رجلان: أحدهما يرمى به مكتوفا في

عربية القرآن وضرب الأمثال فيه [سورة الزمر (39) الآيات 27 إلى 31] :

النار، فأول شيء تمس منه النار وجهه، ومن هو آمن من العذاب لا يتعرض لشيء من المكروه والمخاوف. ويقال للظالمين الكافرين تبكيتا وتوبيخا: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. 4- إن عقاب الأمم الماضية المكذبة بالرسل نوعان: عقاب في الدنيا بالمسخ والخسف والزلزلة والصيحة والريح الصرصر والغرق والقتل والأسر والتشريد والذل والهوان ونحو ذلك، مما أتاهم من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وعقاب آخر أشد وأنكى وأكبر وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لو علموا به وتفكروا وتأملوا، وعملوا بمقتضى علمهم. والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب. عربية القرآن وضرب الأمثال فيه [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الإعراب: قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً: توطئة للحال أو حال مؤكدة، وعَرَبِيًّا: حال من القرآن. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا.. بدل من مَثَلًا تقديره: ضرب الله مثلا مثل رجل، فحذف المضاف.

المفردات اللغوية:

وفِيهِ شُرَكاءُ مرفوع بالظرف على المذهبين: البصري والكوفي، لأن الظرف وقع صفة لقوله: رَجُلًا. ورَجُلًا سَلَماً معطوف على قوله: رَجُلًا الأول، أي مثل رجل سالم. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا تمييز. المفردات اللغوية: ضَرَبْنا جعلنا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه يَتَذَكَّرُونَ يتعظون غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه، ولا لبس ولا اختلاف يَتَّقُونَ الكفر. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد، وضرب المثل: تشبيه حال غريبة بحال أخرى مثلها مُتَشاكِسُونَ متنازعون مختلفون لسوء أخلاقهم وطباعهم سَلَماً سالما خالصا هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي لا يستوي العبد المملوك لجماعة، والعبد لواحد، فإن الأول يحتار فيمن يخدم من أسياده إذا طلبوه وهو مثل للمشرك، والثاني مثل للموحد. الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له وحده، لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر أهل مكة والكفار لا يعلمون ما ينتظرهم من العذاب، فيشركون بالله غيره، لفرط جهلهم. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك يا محمد ميت، والكل سواء في الموت، ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت. نزلت الآية لما استبطؤوا موته ص. والميّت (بالتشديد) من سيموت، والميت (بالتخفيف) من مات ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها الناس، فيه تغليب المخاطب على الغائب تَخْتَصِمُونَ تحتكمون للقضاء فيما حدث بينكم من المظالم. المناسبة: بعد بيان صفات القرآن الخمس المتقدمة والتي على رأسها أنه أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ذكر تعالى خواص أخرى للقرآن: هي أنه يضرب فيه الأمثال للناس تخويفا وتحذيرا، وأنه قرآن متلو إلى يوم القيامة، وأنه عربي اللسان، وغير ذي عوج، أي بريء من التناقض.

التفسير والبيان:

ثم ذكر فيه مثلا عجيبا للمؤمن الموحد والمشرك، يدل على فساد مذهب المشركين، بعد أن أفاض تعالى في شرح وعيد الكفار في هذه السورة. التفسير والبيان: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لقد بيّنا للناس المطلوب فيه بضرب الأمثال، من كل مثل يحتاجون إليه في أمر دينهم، ومن أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن، لعلهم يتعظون، فيعتبرون. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت 29/ 43] . والخلاصة: أن الحكمة في ضرب الأمثال للناس هي أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرتدعوا عن غيهم. ووصف القران بصفات ثلاث: هي كونه قرآنا أي كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر 15/ 9] . وكونه عربيا بلسان عربي مبين، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته، كما قال سبحانه: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 17/ 88] . وكونه غير ذي عوج، أي براءته من التناقض، كما قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] . وذلك لعلهم يتقون ما حذرناهم منه من بأس الله وسطوته. وإنما قدم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ على لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لأن التذكر متقدم على الاتقاء، لأنه إذا اتعظ به وفهم معناه، حصل الاتقاء والاحتراز. ثم ذكر تعالى مثلا للمؤمن الموحد والكافر المشرك، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا، فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ، وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ

يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ؟ أي ضرب الله مثلا للمشرك في صنعه لا في معبوده، الذي يعبد أكثر من إله، بحالة رجل عبد مملوك يملكه عدد من الرجال، مختلفون فيما بينهم، متنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، متعاسرون، لسوء أخلاقهم وطباعهم، كل له رأي وحاجة، فإذا طلب كل واحد من السادة من هذا العبد شيئا أو حاجة، فماذا يفعل، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك المشرك في عبادته آلهة متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة. وضرب الله مثلا آخر للمؤمن الموحد بحالة رجل آخر مملوك لشخص واحد، لا يشاركه فيه غيره، فإذا طلب منه شيئا لبّاه دون ارتباك ولا حيرة، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله، ولا يسعى لإرضاء غير ربه، فهل يكون في طمأنينة أم في حيرة؟ هذان المملوكان هل يستويان صفة وحالا؟ أي لا يستوي هذا وهذا، فكذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟ ولما كان هذا المثل ظاهرا بيّنا جليا، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي الحمد لله على إقامة الحجة عليهم، وعلى أن الحمد لله لا لغيره، وعلى التوفيق للإسلام والحق، بل أكثر الناس لا يعلمون هذا الفرق، فيشركوا مع الله غيره. ونظرا لجهل أكثر الناس بالحق وعدم انتفاعهم بهذا المثل، أخبر تعالى تهديدا بالموت بأن مصير الخلائق كلهم إلى الله، وهناك يتقاضون في المظالم بين يدي الله، فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أي إنك أيها الرسول ستموت، وهم سيموتون، ثم يحصل التقاضي عند الله، فيما اختلفتم

فيه في الدنيا من التوحيد والشرك، وسيحكم الله بينكم يوم القيامة، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين. وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ.. نعي أجل رسول ص وإعلام الصحابة بأنه يموت ولا يخلد في الدنيا، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت، وهو أيضا حث لكفار قريش على انتهاز الفرصة، والمسارعة إلى الإيمان، وتلقي الوحي عن النبي ص، لأن إقامته فيهم قليلة، وليس خالدا بينهم. وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ليس خاصا بالمؤمنين والكافرين في التخاصم بينهم في الدار الآخرة، وإنما هي شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الآخرة. وهو دليل على أن محمدا ص سيخاصم قومه ويحتج عليهم بأنه قد بلغهم الرسالة وأنذرهم، وهم يخاصمونه، ويعتذرون بما لا معنى له. روى الترمذي- وقال: حسن صحيح- عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله ص: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير رضي الله عنه: أي، رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا، مع خواص الذنوب؟ قال ص: «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» . وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أول الخصمين يوم القيامة جاران» . وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «والذي نفسي بيده، إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا» . وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله

فقه الحياة أو الأحكام:

ص: «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية، فيفلحون عليه، فيقال له: سدّ ركنا من أركان جهنم» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الآتي: 1- القرآن الكريم كتاب شامل كامل لم يترك شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلا بينه وأجلاه، حتى بالأمثال الموضحة للناس معانيه ومراميه، قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] . والقرآن الكريم عظة وتذكير، وسبب اتقاء الكفر وتكذيب الرسل. وخواصه: أنه قرآن متلو في المحاريب وغيرها إلى يوم القيامة، ونزل بلسان عربي مبين، ولا تناقض ولا اختلاف فيه. 2- إن مذهب المشركين في عبادة الأوثان وتعدد الآلهة فاسد باطل لا يقبله عاقل صحيح العقل، ومن عوامل بطلانه وتهافته أنه لا يحقق لذويه غاياتهم، وأبسط دليل على ذلك هو هذا المثل الذي ضربه القرآن هنا للمؤمن الموحد والكافر المشرك. مثل الأول الذي يعبد الله وحده: مثل رجل عبد مملوك لسيد واحد، يستطيع إرضاءه وتحقيق مراده. ومثل الثاني الذي يعبد آلهة متعددة: مثل رجل عبد مملوك لعدة شركاء، يطلبون منه في الخدمة مطالب متعارضة، فكيف يستطيع إرضاء الكل؟ وأخلاقهم متباينة، ونياتهم متغايرة، لا يلقاه أحد إلا استخدمه في حوائجه الخاصة، فتراه يلقى منهم العناء والنصّب والتعب الشديد، وهو مع ذلك لا يرضي واحدا منهم بخدمته، لكثرة الحقوق والواجبات الملقاة على عاتقه، مما يجعله ينفر ويأبق ويهرب ولا يستمر على هذا النحو من العذاب.

أما الذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده، عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم؟! لذا ختم الله تعالى بيانه بتعليمنا فضله علينا، وإرشادنا إلى حمده وشكره والثناء عليه على أن هدانا للإسلام، ووفقنا للحق، بعد ظهور الحجة على الكافرين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق، فيتبعونه. 3- إن مصير جميع الخلائق إلى الله لحسابهم وتصفية منازعاتهم والقضاء العدل فيهم، سواء المؤمنون والكافرون، فيتخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم، وورد في خبر عن ابن منده عن ابن عباس: «إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاجّ الروح الجسد» . وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحملت عليه» . وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله ص قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله ص: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» . وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.

وعيد المكذبين ووعد المصدقين [سورة الزمر (39) الآيات 32 إلى 37] :

[الجزء الرابع والعشرون] [تتمة سورة الصافات] وعيد المكذبين ووعد المصدقين [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) الإعراب: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ: الَّذِي: مبتدأ، وخبره: أُولئِكَ. وإنما جاز أن يقع أُولئِكَ خبرا للذي، وأُولئِكَ جمع، والَّذِي واحد، لأن الَّذِي يراد به الجنس، فلهذا جاز أن يقع خبره جمعا. البلاغة: مَثْوىً لِلْكافِرِينَ فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم. يُضْلِلِ وهادٍ ويَهْدِ ومُضِلٍّ بينهما طباق. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟ استفهام إنكار للنفي، مبالغة في الإثبات، والعبد: رسول الله ص، ويحتمل إرادة الجنس، وفسر بالأنبياء. وهكذا كل استفهام إنكاري مثل: أَلَمْ نَشْرَحْ [الشرح 94/ 1] ، أَلَمْ أَعْهَدْ [يس 36/ 60] دخل على نفي، يفيد معنى التقرير والتثبيت بالدليل، إذ نفي النفي إثبات.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَمَنْ أَظْلَمُ.. أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بنسبة الشريك والولد إليه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ وهو القرآن الذي جاء به محمد ص مَثْوىً مقاما ومأوى لِلْكافِرِينَ اللام تحتمل العهد (أي كفار قريش) والجنس: جميع الكفار، وذلك يكفيهم جزاء لأعمالهم. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو النبي ص وَصَدَّقَ بِهِ هم أتباعه المؤمنون، كأبي بكر الصديق، فالذي: بمعنى الذين، لذا قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الشرك جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ.. أسوأ وأحسن بمعنى السيء والحسن، كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان. وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ: ويعطيهم ثوابهم على الطاعات في الدنيا. والَّذِي عَمِلُوا: ما عملوه من المعاصي. وخص الأسوأ للمبالغة، فإنه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. ويقابلهم بالأحسن في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم في أعمالهم. بِكافٍ عَبْدَهُ أي يكفي عبده النبي ص وعيد المشركين وكيدهم وَيُخَوِّفُونَكَ الخطاب للنبي ص، والتخويف من قريش بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام، بأن تقتله أو تخبله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ تركه في الضلال والاعتقاد بما لا ينفع ولا يضر فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم إلى الرشاد وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ يوفقه للإيمان بِعَزِيزٍ غالب منيع قوي قاهر ذِي انْتِقامٍ أي ينتقم ممن عاداه وعادى رسوله ص. ويقال: «بلى» بعد كل من الاستفهامات الثلاثة في الآيات: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟ سبب النزول: نزول الآية (36) : وَيُخَوِّفُونَكَ: أخرج عبد الرزاق عن معمر: قال لي رجل: قالوا للنبي ص: لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبّلنّك، فنزلت: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بالغ واستقصى الله تعالى في بيان وعيد الكفار، وأردفه بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا.. أتى هنا بأسوأ اعتقادهم وهو تكذيب الله بإثبات ولد له أو شريك، وتكذيب الرسول ص بعد إثبات صدقه بالأدلة القاطعة، وختمه بوعيدهم في جهنم. ثم أتبعه بوعد الصادق المصدوق ووعد أتباعه المصدقين المؤمنين من تكفير السيئات ومنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد. التفسير والبيان: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ هذا نوع آخر من قبائح أفعال الكفار المشركين، وهو أنهم يكذبون الله، ويكذبون القائل المحق وهو رسوله الكريم ص، والمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة وحرّم وحلل من غير أمر الله، وكذب بما جاء به رسول الله ص من دعوة الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث والنشور. فهم جمعوا بين طرفي الباطل: كذب على الله تعالى، وتكذيب رسول الله ص بعد قيام الأدلة القاطعة على كونه صادقا في ادعاء النبوة. وقوله: إِذْ جاءَهُ أي وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ترو ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به. ثم أردفه بوعيدهم فقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ بلى، أي أليس في نار جهنم الواسعة

العريضة مقام ومأوى وسكنى لهؤلاء الكافرين. وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم، وهو الكفر. والمراد: ألا يكفيهم العذاب في جهنم جزاء على أعمالهم؟ وهو استفهام تقرير وإثبات، لا نفي. ثم أتبع الوعيد السابق بوعد الصادقين المصدقين، فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي أما الذي جاء بالصدق والقول الحق وهو رسول الله ص وخاتم الأنبياء وإمام الرسل، والذين صدقوا به وآمنوا بأنه رسول من عند الله وهم أتباعه المؤمنون، وأيقنوا أن القرآن كلام الله تبيان كل شيء وخير وسعادة للبشرية جمعاء، فأولئك هم الذين اتقوا الله، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان. وثواب هؤلاء ما قال تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي لهم ما يطلبون عند ربهم في الجنان، من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، فضلا عن أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم. والإحسان كما ثبت في الصحيح لدى الشيخين عن عمر عن رسول الله ص، قال: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» . وعلة هذا الجزاء: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وعدهم الله بما سبق ليكفر عنهم سيء ما عملوا، ويجزيهم أجرهم كاملا بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ. وإذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى.

وقوله: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه. ثم ذكر تعالى أنه يكفي المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ويمنع عنهم ما يخوفونهم به، فقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي أن الله سبحانه يكفي من عبده وتوكّل عليه، فيدفع عنه الويلات والمصائب، ويعطيه جميع المرغوبات، كقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 137] . وعبر بلفظ الاستفهام لإنكار النفي، مبالغة في الإثبات، والمراد تقرير ذلك في النفوس، والإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه وأظهره بحيث لا ينكره أحد، لأنه ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، فهو تعالى عالم بحاجات العباد، وقادر على توفيرها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء عبده ما يريد. والمراد بعبده: النبي ص وجميع عباد الله، بدليل قراءة «عباده» . روى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ص يقول: «أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع به» . وبعد أن ذكر الله تعالى المقدمة وهي كفاية العباد، رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي ويخوفك أيها الرسول المشركون ويتوعدونك بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا، فلا تخف مما يخوفونك به من آلهتهم وجنودهم، فإن الله يحميك مما يضرك، وليس عند آلهتهم نفع ولا ضرر. وقد عرفنا في سبب النزول أن المشركين خوفوا

النبي ص مضرّة الأوثان، فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنك بسوء. ولما بعث النبي خالدا إلى كسر العزّى قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقدم لها شيء، فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف. والآية دليل على أن الله يحمي نبيه ص من السوء، ويكفيه وأتباعه الدين والدنيا، إذ لما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثا باطلا. ثم أبان الله تعالى مدى قدرته وسلطانه ليبطل توعد المشركين ويبين جهلهم، فقال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أي من حق عليه القضاء بضلالة، لسوئه وفسقه وعصيانه، فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما. فلا مضل له أبدا. والمراد أن خلق المهتدين والضالين بيد الله، فهو الفاعل، وليس لمن عداه أي تأثير في ذلك، فلا راد لفضله، ولا مانع لمراده، لذا هدد كفار قريش قائلا: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟ أي أليس الله بغالب لكل شيء قاهر له، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو منيع الجناب، لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه القوي الذي لا أقوى منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله ص. والخلاصة: إن الآية وعد للمؤمنين، وعيد لكفار قريش وأمثالهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- لا أحد عند الله أظلم ممن كذب عليه، فزعم أن له ولدا وشريكا، وكذّب بالقرآن الذي جاء به النبي المصطفى ص. 2- يكفي هؤلاء الجاحدين مقرا ومقاما جهنم، وساءت مصيرا. 3- إن النبي ص الذي جاء بالصدق والحق، وأتباعه الذين صدقوا به كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، هم المتقون الله حق التقوى، الذي وحّدوه فلم يشركوا به شيئا، وتجنبوا عذابه وعقابه ومعاصيه. 4- قد أثبت الله تعالى للذي جاء بالصدق وصدق به أربعة أحكام: الأول- أنهم هم المتقون، كما تقدم. الثاني- أن لهم ما يشاءون عند ربهم من الكرامة والنعيم في الجنة، ذلك جزاء المحسنين وهو الثناء في الدنيا، والثواب في الآخرة. وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب الإنسان فيه، ويدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه. الثالث- أن الله يكرمهم ولا يؤاخذهم بسيئاتهم، ويثيبهم على الطاعات في الدنيا بأحسن أعمالهم وهي الجنة. وهذا يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه. الرابع- بدد الله كل تخويفات المبطلين التي يرددونها ويشيعونها كثيرا، بإثبات كفايته عباده وحمايته لهم من كل سوء أو شر، سواء أكان مصدر الجن أو الإنس الأشرار، أو الأصنام في زعم عبدتها مع أنها لا تضر ولا تنفع. قال إبراهيم عليه السلام فيما حكى القرآن عنه: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ

تزييف طريقة عبدة الأصنام وتهديدهم [سورة الزمر (39) الآيات 38 إلى 40] :

أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الأنعام: 6/ 81] . 5- قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ دليل على خلق الأعمال وإرادة الكائنات من الله الذي ينتقم ممن عاداه أو عادى رسله. ودليل أيضا على أن من يضله الله بتركه في غيه وضلالته، فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا، ومن يهديه الله إلى الحق والصواب، فما له من مضل أبدا. تزييف طريقة عبدة الأصنام وتهديدهم [سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 40] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) الإعراب: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ.. ما تَدْعُونَ هو المفعول الأول، وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية. وفيها العائد على ما وهو لفظ «هن» . كاشِفاتُ.. مُمْسِكاتُ كل منهما خبر المبتدأ، ويقرأ كل منهما بالتنوين وترك التنوين، فمن نوّن نصب «ضرّه» و «رحمته» باسم الفاعل، ومن ترك التنوين جرهما بالإضافة، وهي لا تفيد هنا تعريفا، لأنها في نية الانفصال، لأن اسم الفاعل ليس بمعنى الماضي، والأصل هو التنوين، وإنما يحذف للتخفيف. البلاغة: ضُرِّهِ ورَحْمَتِهِ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَلَئِنْ اللام لام القسم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. قُلْ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ.. أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله وليست آلهتكم، إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه، أو أرادني بنفع هل يمسكنه عني؟ لا، وتَدْعُونَ تعبدون، ومِنْ دُونِ اللَّهِ الأصنام. والضر: الشدة والبلاء، والرحمة: النعمة والرخاء. وقال: كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ: لما يصفونها به من الأنوثة، تنبيها على ضعفها. حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا في إصابة الخير ودفع الضر، وتقرر بهذا أن الله هو القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يثق الواثقون لعلمهم بأن الكل منه تعالى. عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم، وهو اسم للمكان أستعير للحال. إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي على حالتي، فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإن خزي أعدائه دليل غلبته، وقد أخزاهم الله يوم بدر وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ عذاب دائم، وهو عذاب النار. سبب النزول: نزول الآية (38) : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: روي عن مقاتل أن النبي ص سألهم، فسكتوا، فنزل ذلك. وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع، فنزلت. المناسبة: بعد أن أوضح الله تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام، معتمدا على أصلين: الأول- أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم. والثاني- أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أقام الله تعالى الدليل على وحدانيته بإقرار المشركين أنفسهم بذلك، فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ أي إذا سألت المشركين عن خالق السموات والأرض، اعترفوا بأنه هو الله سبحانه، مع عبادتهم للأوثان. وإذا اعترفوا، فكيف قبلت عقولهم عبادة غير الخالق، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ مع أن هذه المعبودات لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا، كما قال موبخا لهم: قُلْ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ، هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ، هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟ أي إذا أقررتم بأن الله تعالى خلق الأشياء كلها، فأخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الشدة والضرر، أو هل تستطيع أن تمنع عني ما أراده الله لي من الخير والنعمة والرخاء؟ وإذا كانت في الواقع لا تملك شيئا ولا قدرة لها على شيء، فكيف تجوز عبادتها؟! وأنث قوله: هُنَّ كاشِفاتُ وهُنَّ مُمْسِكاتُ وهي الأصنام للتنبيه على كمال ضعفها وتحقيرها وتعجيزها، فإن الأنوثة مظنة الضعف، ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويسمونها: اللات والعزى ومناة. قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قل أيها النبي: الله كافيني أو كافيّ في جميع أموري من جلب النفع ودفع الضر، فلا أخاف تلك الأصنام التي تخوفونني بها، وإنما أخاف الله الذي عليه لا على غيره يتوكل المؤمنون، ويعتمد المعتمدون. وذلك كما قال هود عليه السلام: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ

لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود 11/ 54- 56] . أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي ص فقال: «يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف. واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا، رفع الحديث إلى رسول الله ص قال: «من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس، فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل» . ثم هدد الله المشركين وأوعدهم بقوله: قُلْ: يا قَوْمِ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي قل أيها النبي: يا قومي، اعملوا ما شئتم، اعملوا على حالتكم وطريقتكم التي أنتم عليها من عداوة رسالتي، واعتداد بالقوة والشدة، واجتهدوا في أنواع المكر، فإني على حالتي ومنهجي وطريقتي التي أنا عليها في الدعوة إلى توحيد الله ونشر دينه بين الناس، فسوف تعلمون وبال ذلك، ومن سيأتيه عذاب يهينه ويذله في الدنيا بعد افتخاره واستكباره، فيظهر

فقه الحياة أو الأحكام:

عندئذ أنه المبطل وخصمه المحقّ، ويحل عليه عذاب دائم مستمر لا محيد له عنه يوم القيامة، وهو عذاب النار. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات تدرجت في الإثبات من وجوب الاعتقاد بوحدانية الله إلى ضرورة عبادته وحده، إلى معرفة علمه وقدرته وتمكنه من إنفاذ تهديده ووعيده في الوقت المناسب. ولكن ما أغبى المشركين وأجهلهم وأحمقهم وأسخفهم!! إنهم مع عبادتهم الأوثان مقرّون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق القادر العالم الحكيم الرحيم، فكيف يعبدون سواه؟ وكيف يخوفون رسول الله ص بآلهتهم الخرقاء العاجزة التي هي مخلوقة لله تعالى، وهو رسول من عند الله الذي خلقها وخلق السموات والأرض؟! وبعد اعترافهم بهذا، ألا يدركون أن هذه الأصنام جمادات صماء، لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر؟ فإن أراد الله عبده بشدة وبلاء، فلا تستطيع هذه الأصنام دفعه ورفعه وإزالته، وإذا أراد الله إمداد عبده بنعمة ورخاء، فلا تتمكن من حجب رحمته وإمساكها ومنعها، وترك الجواب لدلالة الكلام عليه، يعني فسيقولون: لا تكشف ولا تمسك. وأما المؤمن أو العاقل، فإنه لا يلتفت إلى تخويف المشركين بالأصنام الصماء كما في الآية السابقة: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، ويعلن أنه معتمد على الله، متوكل عليه، ويجب أن يعتمد عليه المعتمدون. كذلك يصر المؤمن بالبقاء على منهجه وطريقته في عبادة الله وحده ويهزأ بكل من ضل عن هذا المنهج، وسوف تنجلي الحقائق، وتتبين ما تتمخض عنه

مظاهر القدرة التامة والعلم الكامل لله عز وجل [سورة الزمر (39) الآيات 41 إلى 48] :

الأحداث والأيام، ويدرك الكفار أنهم مهزومون، واقعون في عذاب مهين مذل في الدنيا، وعذاب شديد دائم في الآخرة. والخلاصة: كما يقول المثل: «من فمك أدينك يا إسرائيل» : إنه تعالى انتزع منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله، ثم سألهم أو استخبرهم عن أصنامهم: هل تدفع شرا وتجلب خيرا؟ لبيان عدم صلاحيتها للألوهية والربوبية، وللتنبيه على الجواب عن قوله تعالى المتقدم: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فهي معدومة الهيبة والإخافة. مظاهر القدرة التامة والعلم الكامل لله عز وجل [سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 48] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)

الإعراب:

الإعراب: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها: الَّتِي معطوف بالنصب على الْأَنْفُسَ أي ويتوفى التي لم تمت في منامها. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي الأنفس الأخرى: وهي التي لم يقض عليها الموت، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وإِلى أَجَلٍ مُسَمًّى منصوب ب يُرْسِلُ. .. الشَّفاعَةُ جَمِيعاً جَمِيعاً حال من الشَّفاعَةُ. وإنما قال جَمِيعاً والشَّفاعَةُ واحد في لفظه، لأنه مصدر، والمصدر يدل على الجمع، كما يدل على الواحد، فحمل جميع على المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم. وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ إما منصوب على المصدر، بحذف الزيادة، لأن أصله «أوحد إيحادا» أو على الحال أو على الظرف، والوجه الأول أوجه الوجوه. وإِذا الأولى والثانية شرطيتان، والثانية فجائية كالفاء التي تربط الجواب بالشرط. البلاغة: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ استفهام إنكار. الْغَيْبِ والشَّهادَةِ بينهما طباق، وكذا بين اهْتَدى وضَلَّ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ.. فيها مقابلة بين الله تعالى والأصنام، وبين الاستبشار والاشمئزاز. والمقابلة: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، وهو من المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ نزلنا عليك القرآن لأجل الناس، ليحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية. بِالْحَقِّ متعلق بانزلنا أي ملتبسا بالحق ملازما له.

فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي فاهتداؤه نفع به نفسه. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها على نفسه، أي فإن وباله لا يتخطاها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكّل عليهم لتجبرهم على الهدى، بل عليك البلاغ فحسب. اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ يقبضها عند انتهاء آجالها. وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي ويتوفى غير الميتة وقت النوم، وهي التي لم يحضر أجلها، يتوفاها في منامها. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ولا يردها إلى البدن الذي خرجت منه. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي النائمة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت موتها. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من التوفي والإمساك والإرسال. لَآياتٍ دلالات على كمال قدرة الله وحكمته. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الحياة والموت، فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، وقريش لم يتفكروا في ذلك. أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذت قريش. مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي اتخذوا الأصنام آلهة عند الله بزعمهم، تشفع لهم عند الله. قُلْ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً قل لهم: أيشفعون، ولو لم يملكوا الشفاعة وغيرها؟ لا وَلا يَعْقِلُونَ أنكم تعبدونهم، ولا يعقلون غير ذلك. قُلْ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي هو مختص بها ومالك الشفاعة كلها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، ولا يستقل بها أحد. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيكون الملك له أيضا حينئذ. وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي دون آلهتهم. اشْمَأَزَّتْ نفرت وانقبضت، والاشمئزاز: أن يمتلئ غما، فيحدث انقباض في القلب، وضيق في النفس، يظهر أثره في الوجه وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام. يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: امتلاء القلب سرورا، حتى تنبسط له بشرة الوجه. ويستبشرون هنا لفرط افتتانهم بالأصنام ونسيانهم حق الله تعالى. اللَّهُمَّ أي يا الله. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعها. عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما شوهد. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم، في أمر الدين، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وأحاط بهم جزاؤه.

سبب النزول نزول الآية (45) :

سبب النزول: نزول الآية (45) : وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ: أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها نزلت في قراءة النبي ص النجم عند الكعبة وفرحهم عند ذكره الآلهة. أي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. الآيات من سورة النجم [19- 23] . المناسبة: بعد بيان أدلة وحدانية الله وقدرته، وتوضيح فساد مذاهب المشركين بالأدلة والبراهين، وإتباعه بالوعد والوعيد، سرّى الله عن قلب نبيه ص ضيقه وانزعاجه لإصرارهم على الكفر، وأزال عنه الخوف، فأعلمه بإنزال القرآن العظيم عليه بالحق لنفع الناس واهتدائهم به، وهذا أول مظاهر قدرته. ثم أتبعه بمظهرين آخرين للقدرة هما قبضه الأرواح بانتهاء آجالها، وكونه مالك الشفاعة، ثم ذكر بعدهما بعض قبائح المشركين وعيوبهم واشمئزازهم من ذكر الله. ثم أردف كل ذلك بأمور ثلاثة: الأول- ذكر الدعاء العظيم المتضمن وصف الله بالقدرة التامة في قوله: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم وصفه بالعلم الكامل في قوله عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. الثاني- ظهور أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم في قوله: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. الثالث- ظهور آثار تلك السيئات التي اكتسبوها في قوله: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخاطب الله رسوله محمدا ص بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي إنا نحن رب العزة وإله الكون نزّلنا عليك يا محمد القرآن العظيم، لأجل الناس، أي والجن، ولبيان ما كلّفوا به، وإنذارهم به، أنزله ربك مقرونا مصحوبا بالحق ملتبسا به، وهو دين الإسلام. قال الزمخشري: لِلنَّاسِ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشّروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغني، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها «1» ، قال تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي فمن عرف طريق الحق وسلكها، فاهتداؤه لنفسه، ويعود نفع ذلك إلى نفسه، ومن حاد عن طريق الحق، فضلاله على نفسه، ويرجع وبال ذلك على نفسه، وما أنت أيها الرسول بموكل أن يهتدوا، ولا بمكلف في حملهم على الهداية، بل عليك البلاغ، وقد فعلت، كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود 11/ 12] وقوله سبحانه: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقوله عز وجل: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من أنواع قدرته وتصرفه في الوجود، بعد إنزال القرآن، فقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي إن الله هو

_ (1) الكشاف: 3/ 33

واختلف العلماء في النفس والروح:

الذي يقبض الأنفس أو الأرواح حين انقضاء آجالها بالموت، الوفاة الكبرى، بما يرسل من الملائكة الذين يقبضونها من الأبدان، ويقطع تعلقها بالأجساد. وكذلك يتوفى الأنفس التي لم يأت أجلها الوفاة الصغرى عند المنام، تشبيها للنائمين بالموتى، حيث يمنعهم من التمييز والتصرف كالموتى بالفعل، مع بقاء الأرواح في أبدانهم. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي يمسك الأنفس والأرواح التي قضى عليها الموت الحقيقي، أي لا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل النفس النائمة إلى الأجساد حين اليقظة، بأن يعيد إليها إحساسها، إلى أجل مسمى، هو وقت الموت. إن في ذلك المذكور من التوفي التام والإمساك لنفوس، والإرسال لنفوس أخرى لعلامات عجيبة دالة على كمال قدرة الله الباهرة، وحكمته البديعة. ونظير الآية قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا، وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام 6/ 60- 61] فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، وفي هذه الآية هنا ذكر الكبرى ثم الصغرى، وقال النبي ص: «لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تصحون» . واختلف العلماء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان؟ قال ابن عباس: إن في ابن آدم نفسا وروحا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس: التي بها العقل والتمييز، والروح:

هي التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم. والأظهر أنهما شيء واحد، كما تدل الآثار الصحاح الآتية في استنباط الأحكام. وقال الرازي: النفس الإنسانية: عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء، وهو الحياة. ففي وقت الموت: ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه، وذلك هو الموت. وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن دون باطنه، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد، إلا أن الموت انقطاع تام كامل، والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه «1» . ونظرا لشبه النوم بالموت في بعض الأوجه، إذ النوم موت أصغر، والموت نوم أكبر، يسنّ عند النوم الدعاء التالي، ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» . وخرج البخاري عن حذيفة قال: كان رسول الله ص إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» . ثم ذم الله تعالى اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئا من الأمر، إذ هي جمادات لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، فقال:

_ (1) تفسير الرازي: 26/ 286

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي بل هل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله؟ أي لا ينبغي لهم ذلك، وردّ الله عليهم بقوله: قُلْ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أي قل لهم أيها النبي وأخبرهم: كيف تتخذون تلك الأصنام شفعاء لكم، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها، ولا يعقلون شيئا من شفاعة أو غيرها، ولا يدركون أنكم تعبدونهم؟ ثم أعلمهم الله تعالى بصفة جازمة عن ملكه بنفسه جميع أنواع الشفاعات قائلا: قُلْ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إن الله تعالى هو مالك جميع أنواع الشفاعة، وليس لأحد منها شيء، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن ارتضاه وأذن له، كما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] . والسبب أن الله تعالى هو مالك السموات والأرض، وهو المتصرف في جميع شؤونها، وإليه مصيركم بعد البعث. وعليه، تجب العبادة لمالك النفع والضر في الدنيا، ومالك الجزاء والحساب في الآخرة على جميع الأعمال. وفي هذا تهديد ووعيد بالاعتماد على من دون الله في أي شيء. ثم ذكر الله تعالى بعض قبائح المشركين وغرائبهم، فقال: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي إن من سيئات المشركين الكبرى أنه إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، انقبضوا ونفروا واغتاظوا، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالبعث بعد الموت، وإذا ذكر الذين من دونه، أي الأصنام والأنداد، أو الآلهة المزعومة، كاللات والعزّى ومناة، كما ورد في سورة النجم، إذا هم يفرحون ويسرّون. ومدار المعنى على قوله: وَحْدَهُ أي إذا أفرد الله بالذكر، ولم

يذكر معه آلهتهم، اشمأزوا، أي نفروا وانقبضوا، وإذا ذكرت آلهتهم مع الله سروا وفرحوا. وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله أساس السعادة وعنوان الخير، وأما ذكر الأصنام وهي الجمادات، فهو رأس الجهالة والحماقة. قال الزمخشري: ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل واحد منهما غاية في بابه، لأن الاستبشار: أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. وبعد بيان مذمة المشركين وفساد عقولهم في حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد، أمر الله نبيه بالالتجاء إليه والدعاء المنجي من لوثاتهم، فقال: قُلِ: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي ادع الله قائلا: يا الله خالق السموات والأرض، ويا عالم السر والعلانية، أنت تفصل بين عبادك، يوم المعاد، فتجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءته، حتى يظهر المحق من المبطل، وترتفع خلافاتهم التي كانت بينهم في الدنيا. وفطر السموات والأرض: جعلها على غير مثال سابق. وقوله: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دليل على صفة الله بالقدرة التامة، وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ دليل على وصف الله بالعلم الكامل، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما. أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ص إذا قام من الليل، افتتح صلاته: اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين

عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . وأخرج الإمام أحمد الحديث المتقدم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله ص قال: «من قال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، إلا قال الله عز وجل لملائكته يوم القيامة: إن عبدي قد عهد إلي عهدا، فأوفوه إياه، فيدخله الله الجنة» . وأخرج أحمد أيضا والترمذي عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق: «أمرني رسول الله ص أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، ربّ كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه على نفسي» . ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أشياء في وعيد هؤلاء المشركين، فقال: 1- وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ولو أن هؤلاء الكفار المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال والذخائر، وملكوا مثله معه أي منضما إليه، لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد يوم القيامة، جزاء ظلمهم. وهذا وعيد شديد وإقناط نهائي من الخلاص. 2- وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي وظهر لهم من أنواع العقاب والسخط والعذاب المعد لهم، ما لم يكن في حسابهم ولا خطر في بالهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا يقابل صفة الثواب في الجنة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وهو مأخوذ من الآية: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] . 3- وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وظهر لهم جزاء وآثار تلك السيئات والمآثم التي اكتسبوها في الدنيا، وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا، من إنذار الرسول ص الذي كان ينذرهم به. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- سلّى الله نبيه عما كان يعظم عليه ويحربه من عدم إيمان قومه، وأخبره أنه أنزل عليه النعمة العظمى، وهو القرآن المجيد مصحوبا بالحق، وهو دين الإسلام، لينتفع به الناس، ويحققوا حاجاتهم. فمن اهتدى، فثواب هدايته إنما هو له، ومن ضل عن الحق، فعقاب ضلاله إنما هو عليه. وليس النبي ص بموكل عليهم ولا ذا سلطان قاهر، حتى يجبرهم على الإيمان. 2- من مظاهر قدرة الله تعالى العظيمة أنه يقبض الأنفس والأرواح عند انتهاء آجالها، ويقبض الأنفس عن التصرف في الأجسام، ويمسك أرواح الموتى في الملأ الأعلى، ويرد الأنفس إلى الأجساد بعد النوم، فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي

في المنام، فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. والأظهر أن النفس والروح شيء واحد كما تقدم، لما دلت عليه الآثار الصحاح، منها حديث مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله ص على أبي سلمة، وقد شقّ بصره «1» فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وحديث مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، فذلك حين يتبع بصره نفسه» . وحديث ابن ماجه عن النبي ص قال: «تحضر الملائكة، فإذا كان الرجل صالحا، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وابشري بروح وريحان وربّ راض غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء» . وفي صحيح مسلم عند أبي هريرة قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقّاها ملكان يصعدان بها» . وقال بلال في حديث الوادي: «أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك» . والصحيح أن الروح: جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة. 3- إن في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت لدلالات على قدرة الله لقوم يتفكرون في خلق الله. 4- لم يتفكر الكفار بنحو صحيح، بل اتخذوا الأصنام شفعاء، مع أنها لا تملك شيئا من الشفاعة ولا تعقل، لأنها جمادات. 5- الله تعالى هو مالك الشفاعة كلها، ومالك السموات والأرض، وإليه مصير الخلائق وحسابهم يوم البعث والمعاد.

_ (1) أي انفتح.

دعاء الإنسان عند الضر وجحوده عند النعمة وإعلامه بأن الرزق بيد الله [سورة الزمر (39) الآيات 49 إلى 52] :

6- تميز المشركون بالجهل والحماقة، فإذا ذكر الله وحده دون أصنامهم انقبضوا ونفروا، وإذا ذكرت الأوثان ظهر في وجوههم البشر والسرور. 7- الله تعالى مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وعالم الغيب والشهادة، أي السر والعلانية، والحاكم الفصل بين العباد في خلافاتهم الدنيوية. 8- لو ملك المكذبون المشركون جميع ما في الأرض من أموال وثروات لقدموه فداء رخيصا لافتداء أنفسهم من سوء عذاب يوم القيامة. 9- يفاجأ الكفار بأنواع من العقاب لم تخطر ببالهم، ولا جرى تقديرها في حسابهم. 10- يظهر للكفار يوم القيامة آثار المحارم والآثار والكفر والمعاصي، من ألوان العقاب، ويحيط بهم وينزل جزاء ما كانوا به يستهزئون في الدنيا من الإنذارات والبعث والعذاب والحساب الشديد. دعاء الإنسان عند الضر وجحوده عند النعمة وإعلامه بأن الرزق بيد الله [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

البلاغة:

البلاغة: يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي أصاب جنس الإنسان، وهو معطوف على قوله: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ لبيان تناقضهم، بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضرّ، دعوا من اشمأزوا من ذكره، دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. خَوَّلْناهُ أعطيناه وملكناه تفضلا نِعْمَةً إنعاما عَلى عِلْمٍ على علم مني بوجوه كسبه، أو علم من الله بأني له أهل ومستحق، وضمير أُوتِيتُهُ عائد على النعمة، وذكّر الضمير، لأن المراد شيء من النعمة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي بل النعمة امتحان له، أيشكر أم يكفر، وتأنيث هي مراعاة للفظ النعمة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن تخويل النعمة استدراج وامتحان. وهو دليل على أن المراد بالإنسان الجنس. قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كقارون وقومه الراضين بها، وأنث ضمير قالَهَا لأن المراد هو الجملة أو الكلمة التي هي: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء سيئات أعمالهم وجزاء أعمالهم، وسماه سيئة، لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة، رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو مِنْ هؤُلاءِ المشركين، ومِنْ للبيان، أو للتبعيض سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء كسبهم كما أصاب أولئك، وقد أصابهم، فإنهم قحطوا سبع سنين، وقتل صناديدهم في بدر وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين عذابنا. يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء ابتلاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأن الحوادث كلها من الله، سواء بالبسط أو بالتضييق. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى بعض قبائح المشركين، أتبعه بحكاية نوع آخر من القبائح، وهو أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى، وفي حال النعمة وهي السعة في المال أو العافية في النفس، يزعمون أن

التفسير والبيان:

حصول ذلك بكسبهم وجهدهم وجدّهم، وهذا تناقض قبيح صارخ. والحقيقة أن ما أوتوه من النعمة فتنة واختبار ليعرف شكرهم أو كفرهم، وأما مقالتهم فهي قديمة قالها كثير قبلهم كقارون وغيره. ثم أبان تعالى أن الله وحده مصدر الرزق، يوسعه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، بدليل اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، سواء من المؤمنين والكافرين، وليس جمع الثروة أو ضعفها بعقل الرجل وجهله، أو كياسته وخبرته وغباوته، وإنما بتوفيق الله وتيسيره. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن سوء طبع الإنسان وحاله، فيقول: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي إذا أصاب الإنسان المشرك وغيره ضر من فقر أو مرض أو غيرهما، تضرع إلى الله عز وجل، واستعان به لكشف الضر عنه، وإذا أعطاه الله نعمة من مال أو جاه أو غيرهما، بغى وطغى، وقال: إنما أعطيته على علم ومهارة مني بوجوه المكاسب، أو لما يعلم الله تعالى من استحقاقي وتأهلي له. قيل: نزلت في حذيفة بن المغيرة. والحقيقة: ليس الإعطاء لما ذكرت، وليس الأمر كما زعمت، بل هو محنة لك، واختبار لحالك، وقد أنعمنا عليك بهذه النعمة لنختبرك فيما أنعمنا عليك، أتشكر أم تكفر؟ أتطيع أم تعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدّعون ما يدّعون. ويلاحظ أن لفظ النعمة مؤنث، ومعناه مذكر، لذا حينما قال: بَلْ

هِيَ فِتْنَةٌ راعى التأنيث، وحينما قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ راعى التذكير، وكلا الأمرين جائز. ثم أوضح الله تعالى قدم مقالتهم وسبقهم بها، فقال: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي قد قال هذه المقالة أو الكلمة، وهي قولهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم، كقارون وغيره، فما صح قولهم، ولم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا، ولا نفعهم جمعهم المال الكثير، لذا قال تعالى: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوقبوا في الدنيا كالخسف بقارون وبداره الأرض، وسيعاقبون أشد العذاب في الآخرة. ونظير الآية قوله تعالى عن قارون: قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص 28/ 78] . وقوله سبحانه: وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ 34/ 35] . ثم هدد الله تعالى وأوعد مشركي مكة بعقاب مماثل، فقال: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي والذين ظلموا من هؤلاء الموجودين من الكفار، ومنهم مشركو مكة، سيصيبهم أيضا وبال كسبهم الأعمال المنكرة، كما أصاب من قبلهم، من القحط والقتل والأسر والقهر، وما هم بفائتين على الله، هربا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة، ودليل قدرته العظمى ما قال:

فقه الحياة أو الأحكام:

أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي أو لم ير هؤلاء المشركون أن الله يوسع الرزق لمن يشاء توسعته له، ويقبضه لمن يشاء قبضه وتضييقه عليه، إن في ذلك لدلالات عظيمة وعلامات مؤثّرة لقوم يؤمنون بالله وحده وبسلطانه وبقدرته. وقد خص المؤمنين، لأنهم المنتفعون بالآيات. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- إن حال الإنسان قلق مضطرب، لا وفاء عنده، ولا ثبات لديه على المبدأ، فتراه عند الشدة يستجير بالله ويستغيث به لينجو من محنته، وعند النعمة يبغي ويطغى ويبطر ويزعم أن النعمة بجهده ومهارته واستحقاقه وأهليته لها. 2- الحق أن الثروة والغنى والفقر ليست ميزان قربى العبد من ربه، فقد يمنح الله المؤمن ويمنع الكافر، وقد يفعل العكس، لحكمة بالغة له في ذلك، والنعمة مع الكفر والمعصية استدراج وابتلاء واختبار، ليعرف كون العبد شاكرا أم جاحدا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار. 3- لقد زعم كثير من الناس قديما وحديثا أن إعطاءهم المال لعلم ومهارة لديهم، وعلم من الله باستحقاقهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، وأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، وسيصيب الذين أشركوا من أمة النبي ص وهم كل الأمم جزاء كسبهم في الدنيا بالجوع والقتل مثلا، وفي الآخرة بعذاب جهنم، وما هم فائتين الله ولا سابقيه. 4- إن الله تعالى وحده هو مصدر الرزق، يمنح منه ما يشاء، ويمنعه عمن يشاء، وفي ذلك عبرة للمؤمنين، وخص المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر

مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل [سورة الزمر (39) الآيات 53 إلى 59] :

الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد تكون استدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما. مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) الإعراب: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى: أَنَّ وصلتها: في موضع نصب، مفعول لأجله. بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي جواب قوله تعالى: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ والجواب ببلى لأنها تأتي في جواب النفي، لأن المعنى: ما هداني الله وما كنت من المتقين، فقيل له: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي، فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ، فلولا أن معنى الكلام النفي، وإلا لما وقعت بَلى في جوابه. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَنْ: مخففة من الثقيلة.

البلاغة:

البلاغة: آية قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا.. فيها: إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، وإضافة عباد إليه للتشريف، والتفات من التكلم إلى الغيبة، إذ الأصل: تسرفوا، ولا تقنطوا من رحمتي، وإضافة الرحمة في قوله مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى الله باعتبار لفظ الجلالة جامعا لجميع الأسماء والصفات، وقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ جملة معرّفة الطرفين، مؤكدة بإن وضمير الفصل، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ وضع فيه الاسم الظاهر موضع الضمير، لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ قوله: جَنْبِ اللَّهِ: كناية عن حق الله وطاعته. المفردات اللغوية: عِبادِيَ هذه الإضافة مخصوصة بالمؤمنين في عرف القرآن. أَسْرَفُوا أي تجاوزوا الحد في أفعالهم، بالإسراف أو الإفراط في المعاصي لا تَقْنَطُوا لا تيأسوا من مغفرته وتفضله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عفوا منه، ولو بعد تعذيب، وتقييد المغفرة بالتوبة خلاف الظاهر، كما قال البيضاوي، ويدل على إطلاقها فيما عدا الشرك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] والتعليل بقوله هنا: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. لكن هذا متروك لمشيئة الله وتفضله، وليس هو القانون العام. وَأَنِيبُوا ارجعوا وتوبوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا أخلصوا العمل لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ بمنعه، إن لم تتوبوا، وذكر الإنابة بعد المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم، لا تحصل بدونه، كما قال الزمخشري، أي إن المغفرة لا تحصل لكل أحد من غير توبة وإخلاص في العمل، وهو القانون العام. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن بَغْتَةً فجأة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه، فتتداركون التقصير في الأعمال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول نفس، وتنكير نفس لأن القائل بعض الأنفس، أو للتكثير يا حَسْرَتى أي يا حسرتي وندامتي فَرَّطْتُ قصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ جانبه أي طاعته وعبادته وطلب مرضاته وَإِنْ وإني السَّاخِرِينَ المستهزئين بدينه وكتابه وأهله.

سبب النزول نزول الآية (53) :

لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالطاعة والإرشاد إلى الحق فاهتديت الْمُتَّقِينَ عذابه، باتقاء الشرك والمعاصي كَرَّةً رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المؤمنين الذين أحسنوا العقيدة والعمل بَلى، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي القرآن، وهو سبب الهداية، وهو رد من الله على القائل: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي الذي في قوله معنى النفي أي أن بَلى حرف لا يجاب به إلا بعد النفي. وَاسْتَكْبَرْتَ تكبرت عن الإيمان بها. وتذكير الخطاب على المعنى، وقرئ بالتأنيث عودا للنفس. سبب النزول: نزول الآية (53) : قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا: أخرج الشيخان: البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا ص، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لنا توبة- أو أن لما عملنا كفارة-؟ فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 68- 70] ونزل: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية. والمراد من آيات الفرقان: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآية. وأخرج الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله ص قال: سمعت رسول الله ص يقول: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي ص، ثم قال: «ألا، ومن أشرك- ثلاث مرات» . وأخرج أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ص شيخ كبير، يدعم على عصا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غدرات

المناسبة:

وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال ص: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله، فقال ص: قد غفر لك غدراتك وفجراتك. وأخرج الحاكم والطبراني عن ابن عمر قال: كنا نقول: ما لمفتتن توبة، إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله ص المدينة، أنزل فيهم: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله، لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم، وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس، ونحن أهل شرك؟ فأنزل الله: قُلْ: يا عِبادِيَ.. الآية. المناسبة: بعد أن أوعد الله تعالى الكافرين بشتى أنواع الوعيد، أردفه ببيان كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق عباده المؤمنين، بغفران ذنوبهم إذا تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا العمل له، لترغيب الكفار في الإيمان بالله تعالى وترك الضلال، وكثيرا ما تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. قال أبو حيان: وهذه الآية: قُلْ: يا عِبادِيَ عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته. التفسير والبيان: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي قل أيها الرسول: يا عباد الله الذين أفرطوا في المعاصي واستكثروا منها، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى، فإن الله يغفر كل ذنب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] إن الله كثير

المغفرة والرحمة، فلا يعاقب بعد التوبة. قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها، ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه «1» . وقال الشوكاني: وهذه الآية أرجى آية في كتاب الله، لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه، لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقّب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ... وتقييد المغفرة بالتوبة والإنابة وإخلاص العمل مأخوذ من الآية التالية: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ.. الآية ومن الأحاديث المتقدمة في سبب النزول، فباب الرحمة واسع، كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة 9/ 104] وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء 4/ 110] . أخرج الطبراني عن سنيد بن شكل قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 2/ 255 وآل عمران 3/ 2] . وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل 16/ 90] . وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف (أي الزمر) : قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 58

وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق 65/ 2- 3] فقال له مسروق: صدقت «1» . وروى ابن أبي حاتم عن أبي الكنود قال: مرّ عبد الله- يعني ابن مسعود- رضي الله عنه على قاض، وهو يذكّر الناس، فقال: يا مذكّر، لم تقنط الناس من رحمة الله؟ ثم قرأ: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. ثم ذكر الله تعالى تقييد المغفرة بشرطين، فقال: 1- الإنابة والتوبة: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي ارجعوا إلى الله بالتوبة والطاعة، واجتناب المعاصي، والاستسلام لأمره، والخضوع لحكمه، من قبل مجيء عذاب الدنيا بالموت، ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا يمنع عذابه عنكم، أي قبل حلول النقمة. 2- اتباع القرآن: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي واتبعوا القرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، والتزموا طاعته واجتنبوا معاصيه، أي اتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، والقرآن كله حسن. وذلك من قبل مجيء العذاب فجأة، وأنتم غافلون عنه، لا تشعرون به. وهذا تهديد ووعيد شديد واضح. ثم حذر الله تعالى من التعلل بالأماني والتحسر على الماضي في وقت لا ينفع فيه ذلك، فقال:

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 59

فقه الحياة أو الأحكام:

1- أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي بادروا إلى التوبة والعمل الصالح، واحذروا أن تقول نفس مجرمة مفرطة في التوبة والإنابة: يا ندامتي وحسرتي على تقصيري في الإيمان بالله، وطاعته، وبالقرآن والعمل به، وإنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين، غير موقن ولا مصدّق بشيء من ذلك. 2- أَوْ تَقُولَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي أو أن تقول: لو أن الله أرشدني إلى دينه، لكنت ممن يتقي الله، ويجتنب الشرك والمعاصي. 3- أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي أو أن تقول حين معاينة العذاب: ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا، فأكون من المؤمنين بالله، الموحّدين له، المحسنين في أعمالهم، وبإيجاز: تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. فرد الله تعالى بقوله: بَلى، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي، فَكَذَّبْتَ بِها، وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي نعم، لقد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي المنزلة في القرآن في الدار الدنيا، وقامت حججي عليك، فكذبت بها، واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الجاحدين لها، والمعنى: قد كنت متمكنا من التصديق والمتابعة، فلماذا تطلب الرجعة إلى الدنيا الآن؟! ولن تنفعك الرجعة ولا فائدة منها لقوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام 6/ 28] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية:

1- إن لله تعالى أن يغفر جميع الذنوب الصادرة من المؤمنين، ويعفو عن الكبائر منها أيضا. وهذا متروك لمشيئة الله وفضله. 2- يغفر الله تعالى الذنوب بالتوبة من الشرك والكفر والمعاصي، والإنابة والرجوع إلى الله بالإخلاص والعمل الصالح، والخضوع له والطاعة لأوامره واجتناب نواهيه. ومحل ذلك كله في الدنيا قبل مجيء العذاب بالموت، وتعذر التخلص منه، أو المنع منه بناصر أو معين. 3- العمل: هو اتباع القرآن العظيم، بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، والتزام أوامره وطاعته، واجتناب نواهيه ومعصيته. ويلاحظ أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بشيئين: الأول: الإنابة والتوبة. الثاني: متابعة الأحسن، وهو القرآن، كما قال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 39/ 23] والقرآن كله حسن، واتباعه: العمل بما أمر الله في كتابه، واجتناب معصيته. 4- يأتي المقصر يوم القيامة بثلاثة أشياء: أولها- الحسرة على التفريط في الطاعة، وأنه ما كان إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول وبأولياء الله المؤمنين في الدنيا. ثانيها- التعلل بفقد الهداية، وهذا قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الله عنه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 148] فهي كلمة حق أريد بها باطل.

حال المشركين المكذبين وحال المتقين يوم القيامة [سورة الزمر (39) الآيات 60 إلى 61] :

ثالثها- تمني الرجعة إلى الدنيا، كما قال: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا، إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون 23/ 99- 100] . 5- أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال: التعلل بفقد الهداية باطل، لأن الهداية كانت حاضرة، والأعذار زائلة، ولكن العبد كذب بالقرآن، وتكبر عن اتباع آياته، وكان من الكافرين بها، الجاحدين لها. حال المشركين المكذبين وحال المتقين يوم القيامة [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) الإعراب: تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ الَّذِينَ: مفعول تَرَى ووُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال، واستغني عن الواو لمكان الضمير في قوله: وُجُوهُهُمْ. ولو نصب وُجُوهُهُمْ على البدل من الَّذِينَ لكان جائزا حسنا. لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ حال، أو استئناف لبيان المفازة. المفردات اللغوية: كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بنسبة الولد والشريك إليه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ لما ينالهم من الشدة، ويعتريهم من الذل والحسرة مَثْوىً مقام أو مأوى لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان والطاعة. والاستفهام: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ تقرير وإثبات لأنهم يرون كذلك.

المناسبة:

وَيُنَجِّي اللَّهُ من جهنم الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك الذي هو الكذب على الله بِمَفازَتِهِمْ بفوزهم بالجنة وفلاحهم، بأن يجعلوا في الجنة، وتفسيرها بالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب، فإن سبب منجاتهم العمل الصالح، ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها. المناسبة: بعد وعيد المشركين بما سبق من أهوال القيامة، ووعد المتقين بالعفو والمغفرة والنعيم، ذكر الله تعالى نوعا آخر من الوعيد والوعد، وهو حال الفريقين يوم القيامة، حال المكذبين، وحال المتقين، فتسودّ وجوه الفريق الأول، وتبيضّ وجوه الفريق الثاني. التفسير والبيان: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي واذكر أيها الرسول خبرا مهما هو حين ترى يوم القيامة الذين كذبوا على الله في دعواهم له شريكا وصاحبة وولدا، وجوههم مسودة بكذبهم وافترائهم، لما أحدق بهم من شدة وحزن وكآبة، ولما شاهدوه من العذاب وغضب الله ونقمته. إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله، الذين أبوا الانقياد للحق. والكبر: هو بطر الحق وغمط الناس، كما في الحديث الصحيح. وفي حديث آخر أخرجه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ص: «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذّرّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم..» . وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ هذا حال الفريق الآخر في مواجهة فريق المشركين المكذبين، وهو أن الله ينجي الذين اتقوا الشرك ومعاصي الله من عذاب جهنم، ينجيهم بفوزهم، أي بنجاتهم

فقه الحياة أو الأحكام:

من النار، وفوزهم بالجنة، وينفي السوء والحزن عنهم يوم القيامة، بل هم آمنون من كل فزع. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على شيئين: الأول- اسوداد وجوه الكفار المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه، مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته، والزج بهم في نار جهنم، في أشد حالات الذل والمهانة والصغار. الثاني- نجاة المتقين الشرك والمعاصي من النار، وفوزهم بالجنة. والآية الثانية في شأنهم تدل على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب يوم القيامة، وتأكد هذا بقولهم: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 21/ 103] . وقد فسر النبي ص هذه الآية في حديث أبي هريرة، قال: «يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة، وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف، قال له: لا ترع، فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به، فإذا كثر ذلك عليه قال: فما أحسنك! فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ أنا عملك الصالح، حملتني على ثقلي، فو الله لأحملنك، ولأدفعنّ عنك، فهي التي قال الله: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.

دلائل الألوهية والتوحيد [سورة الزمر (39) الآيات 62 إلى 67] :

دلائل الألوهية والتوحيد [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) الإعراب: أَفَغَيْرَ اللَّهِ؟ «غير» : إما منصوب ب أَعْبُدُ أي أعبد غير الله فيما تأمروني به، وإمّا منصوب ب تَأْمُرُونِّي لأنه يقتضي مفعولين: الثاني منهما بحرف جر، كقولك: أمرتك الخير، أي بالخير. فالياء: هي المفعول الأول، وغير: مفعول ثان. وأعبد: في موضع البدل من «غير» تقديره: أتأمروني بغير الله أن أعبد. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ: منصوب باعبد أو منصوب بتقدير فعل، أي بل اعبد الله فاعبد. والفاء: زائدة عند الأخفش، وغير زائدة عند غيره. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ.. الْأَرْضُ: مبتدأ، وقَبْضَتُهُ: خبره، وجَمِيعاً: حال. البلاغة: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استعارة، شبه الخيرات والبركات والأرزاق بخزائن، واستعار لها لفظ المقاليد أي المفاتيح، والمعنى: خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.

المفردات اللغوية:

وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ استعارة تمثيلية، مثّل لعظمته وكمال قدرته وحقارة السموات والأرض بالنسبة للقدرة بمن قبض شيئا عظيما بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية. المفردات اللغوية: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ قيّم يتولى التصرف فيه لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مفاتيح خزائنها من المطر والنبات وغيرهما، لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ القرآن ودلائل قدرة الله أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أنفسهم، وهذا عائد على فريق المكذبين الذين نسبوا لله ولدا وشريكا، وما قبله اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد، مطلع على أفعالهم، مجاز عليها. قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد، وتَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك. وقرئ تَأْمُرُونِّي بتخفيف النون، مثل: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي تبشرونني. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. كلام على سبيل الفرض، والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة، وتنبيه الأمة. وأفرد الخطاب: باعتبار كل واحد. واللام الأولى: موطئة للقسم، والأخيرتان للجواب. وعطف الخسران على إحباط: الأعمال: من عطف المسبب على السبب. ولَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ليذهبن هباء منثورا. والإحباط: الإبطال. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ.. رد لما أمروه به وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظّموه حق التعظيم اللائق به، حيث جعلوا له شريكا ووصفوه بما لا يليق به وَالْأَرْضُ جَمِيعاً أي الأراضي السبع قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مقبوضة له في ملكه وتصرفه، والقبضة: المرة من القبض وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مجموعات بقدرته. وهذه الآية تنبيه على عظمة الله وكمال قدرته وحقارة الأجرام العظام بالنسبة لقدرته، وفيها دلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه. والآية على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا، كما ذكر الزمخشري والبيضاوي. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه وتقدس وتعاظم الله عما يشركون معه، فما أبعد ما ينسب إلى الله من الولد والشريك عن قدرته وعظمته. هذا واليمين تطلق على اليد، وعلى القدرة والملك، وعلى القوة: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة 69/ 45] أي بالقوة والقدرة، والمعنى لأخذنا قوته وقدرته. قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (64) : قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ..؟: أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال: قال المشركون للنبي ص: أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ إلى قوله: مِنَ الشَّاكِرِينَ. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله ص إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ.. الآية. نزول الآية (67) : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: مرّ يهودي بالنبي ص فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه- أي على إصبع-، والأرضين على ذه- أي على إصبع-، والماء على ذه- أي على إصبع-، والجبال على ذه- أي على إصبع-، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: غدت اليهود، فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فزعوا أخذوا يقدرونه، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قالوا: يا رسول الله، هذا الكرسي، فكيف العرش؟ فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ.. الآية. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل

التفسير والبيان:

الشرك، عاد إلى تبيان دلائل الألوهية والتوحيد. ثم نعى على الكافرين أمرهم رسول الله ص بعبادة الأصنام، وأنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، إذ لو عرفوه لما جعلوا الجمادات شركاء له في العبودية. التفسير والبيان: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي إن الله تعالى هو مبدع الأشياء كلها وخالقها جميعها، الموجودة في الدنيا والآخرة، لا فرق بين شيء وآخر، وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها والقائم بحفظها وتدبيرها، فهي محتاجة إليه في وجودها وبقائها معا. وهذا دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو مالك أمرها وحافظها، وهذا استعارة لملكه خيراتها وأرزاقها، أو كناية عن انفراده تعالى بحفظها وتدبيرها وملك مفاتيحها، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، أي مفاتيحها. وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أو عطف بيان، أو تعليل لها، ورأى بعضهم أنها جملة مستأنفة. والمعنى الجامع للجملتين: أن السلطان والملك، والتصرف في كل شيء، والتدبير والحفظ هو لله تعالى. وروى ابن أبي حاتم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله ص عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان، تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير..» يعني أن قائل ذلك تفتح له خزائن السموات والأرض، ويصيبه خير كثير، وأجر كبير.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي والذين جحدوا آيات الله في القرآن وبراهينه في الأكوان الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وأنه مالك السموات والأرض ومدبرهما، أولئك هم الذين خسروا أنفسهم، وخلدوا في نار جهنم، جزاء كفرهم. ثم أمر الله رسوله بتوبيخ المشركين على الدعوة لعبادة الأصنام، فقال: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي قل أيها الرسول لكفار قومك الذين دعوك إلى عبادة الأصنام قائلين: هو دين آبائك: أتأمروني أيها الجهلة بعبادة غير الله بعد أن قامت الأدلة القطعية على تفرده بالألوهية، فهو خالق الأشياء كلها وربها ومدبرها، فلا تصلح العبادة إلا له سبحانه. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي إن أمركم لعجيب، فلقد أوحي إلي وإلى من قبلي من الرسل أن الإله المعبود هو الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أشرك نبي- على سبيل الفرض والتقدير- ليحبطن ويبطلن عمله، وليكونن من الذين خسروا أنفسهم، وضيعوا دنياهم وآخرتهم. وإذا كان الشرك موجبا إحباط عمل الأنبياء فرضا، فهو محبط عمل غيرهم بطريق الأولى، كما قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام 6/ 88] . ثم انتقل من النهي عن الشرك إلى الأمر بعبادة الله وحده، فقال تعالى: بَلِ، اللَّهَ فَاعْبُدْ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدّقك، واعبده وحده، ولا تعبد معه أحدا سواه، وكن من الشاكرين إنعامه عليك بالتوفيق والهداية للإيمان بالله وحده، وتشريفك بالرسالة والدعوة إلى دين الله تعالى.

وبعد أن نعى الله تعالى ما أمر به المشركون نبيّ الله من عبادة الأوثان، نعى عليهم أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، فقال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموا الله حق تعظيمه، وما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه إلها غيره، وهو الذي لا أعظم ولا أقدر منه. روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ص، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله ص حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ص: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية. وروى أحمد ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله ص قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ورسول الله ص يقول هكذا بيده، يحركها يقبل بها ويدبر: يمجّد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله ص المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به» . وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي والحال أن الأرض تحت تصرف الله وملكه، والسموات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته وإرادته، تنزه وتقدس الله عما يشركون به من المعبودات التي جعلوها شركاء لله، فالمراد باليمين: القدرة. وهذه الجملة في رأي الخلف تمثيل لحال عظمة الله تعالى وكمال تصرفه ونفاذ

فقه الحياة أو الأحكام:

قدرته بحال القابض على الأرض كلها والسموات جميعها. ويرى السلف وجوب الإيمان بهذه الظواهر، والاعتقاد بالقبضة واليمين، لأن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، ويقولون: رأي السلف أسلم، ورأي الخلف أحكم. وإني أميل إلى الأسلم. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، سمعت رسول الله يقول: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن الله تعالى خالق الأشياء كلها، ومنها أعمال العباد. 2- إن الله سبحانه هو القائم بحفظ الأشياء وتدبيرها من غير مشارك، وهو سبحانه مالك أمر السموات والأرض وحافظها، وهذا التعبير من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها. 3- إن الذين كفروا بالقرآن والحجج والدلالات الدالة على وجود الله ووحدانيته وكمال عظمته وقدرته هم الخاسرون أنفسهم في الدنيا والآخرة. وصريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر. 4- من العجب العجاب صدور أمرين من المشركين: أولهما- أن يطلبوا من النبي ص عبادة أصنامهم، ليعبدوا معها إلهه. وثانيهما- أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، ولم يعظموه حق التعظيم، إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها. 5- وصف الله تعالى المشركين بالجهل، لأنهم لم يتفكروا بخالق الأشياء

نفختا الصور والفصل في الخصومات وإيفاء كل واحد حقه [سورة الزمر (39) الآيات 68 إلى 70] :

ولا بكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض، وعبدوا أصناما جمادات لا تضر ولا تنفع، ومن فعل مثل ذلك فهو في غاية الجهل. 6- إن الشرك والكفر محبط مبطل لجميع أعمال الكفار والمشركين، ولو كانت صالحة، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة، بسبب أرضية الكفر التي قامت عليها. ومن ارتد أيضا ومات على الكفر، لم تنفعه طاعاته السابقة، وحبطت أعماله كلها، لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [البقرة 2/ 217] . وعليه من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج. 7- السموات والأرض كلها تحت ملك الله وقدرته وتصرفه، وليس ذلك بجارحة لأنه نزه نفسه عنها فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية. نفختا الصور والفصل في الخصومات وإيفاء كل واحد حقه [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

الإعراب:

الإعراب: يَنْظُرُونَ حال من ضميره. البلاغة: يَنْظُرُونَ يُظْلَمُونَ يَفْعَلُونَ بينها توافق الفواصل في الحرف الأخير، مما يوحي بروعة البيان وكمال الجمال. المفردات اللغوية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى التي يموت بها الخلائق كلهم، والصُّورِ بوق أو قرن ينفخ فيه فَصَعِقَ مات أو غشي عليه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فإنهم يموتون بعد ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى النفخة الثانية للبعث من القبور فَإِذا هُمْ جميع الخلائق الموتى قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ ينتظرون ما يفعل بهم. وَأَشْرَقَتِ أضاءت بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، وما قضى به من الحق وَوُضِعَ الْكِتابُ وضع كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال للحساب وَالشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقضي بين العباد بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وصلت كل نفس إلى حقها، وحصلت على الجزاء وَهُوَ أَعْلَمُ عالم بِما يَفْعَلُونَ فلا يحتاج إلى شاهد. المناسبة: بعد بيان أدلة عظمة الله وكمال قدرته بتصرفه في الكون وتدبيره، وخلقه كل شيء، ذكر الله تعالى مقدمات يوم القيامة الدالة أيضا على تمام القدرة وعظمة السلطان، وهي نفختا الصور مرتين، الأولى للإماتة، والثانية للبعث من القبور، ثم الفصل بالحق والعدل بين الخلائق للحساب والجزاء، وإيصال الحق إلى كل واحد.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وما فيه من الآيات العظيمة الباهرة الدالة على كمال القدرة وتمام العظمة الإلهية، فيقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي هذه هي النفخة الأولى للموت، حيث ينفخ إسرافيل في الصور الذي هو بوق أو قرن، فيموت من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض، والصعق: الموت في الحال. إلا من شاء الله ألا يموت حينئذ كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل نفسه الذين يموتون بعد ذلك. قال قتادة: لا ندري من هم؟. ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للبعث من القبور، فيقوم الخلق كلهم أحياء على أرجلهم ينظرون أهوال القيامة وما يقال لهم أو ينتظرون ما يفعل بهم، بعد أن كانوا عظاما ورفاتا، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات 79/ 13- 14] وقال سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 17/ 52] وقال جل وعلا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ، إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم 30/ 25] . ثم ذكر الله تعالى بعض أحوال يوم القيامة: 1- وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي أضاءت أرض المحشر وأنارت بتجلي الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء، وبما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق بين عباده. 2- وَوُضِعَ الْكِتابُ أي وضعت كتب وصحائف أعمال بني آدم بين

يدي أصحابها، إما باليمين وإما بالشمال، كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء 17/ 13] وقال سبحانه: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف 18/ 49] . 3- 4: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ أي وجيء بالأنبياء إلى الموقف، ليسألوا عما أجابتهم به أممهم، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء 4/ 41] وجيء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم من الملائكة الحفظة التي تقيد أعمال العباد كما قال تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق 50/ 21] والسائق: يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها، وكذا من أمة محمد ص الذين يشهدون على الأمم بما بلغتهم به رسلهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة 2/ 143] . وكذلك يجاء بالشهداء المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة بالبلاغ على من بلّغوه، فكذّب بالحق. وبعد فصل الخصومات، بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل شخص حقه، فقال معبرا عن هذا المعنى بأربع عبارات: 1- وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي وقضي بين العباد بالعدل والصدق. 2- وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد في عقابهم، ويكون جزاؤهم على قدر أعمالهم، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40]

فقه الحياة أو الأحكام:

3- وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي وفيت وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر. 4- وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أي والله عالم بما يفعل العباد في الدنيا، من غير حاجة إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة، وقطع المعذرة. وأتى بهذا الحكم للدلالة على أنه تعالى يقضي بالحق عن علم تام، فلا يحتمل وجود أي خطأ في ذلك الحكم. والمقصود: بيان أن كل مكلف يصل إلى حقه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- يكون يوم القيامة نفختان: النفخة الأولى منهما يموت بها الخلق، ويحيون في الثانية. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل: إنه يكون معه جبريل، لحديث ابن ماجه في السنن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ص: «إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران» وحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري أيضا قال: «ذكر رسول الله ص صاحب الصور، وقال: عن يمينه جبرائيل، وعن يساره ميكائيل» . 2- اختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلّدين أسيافهم حول العرش، لحديث مرفوع عن أبي هريرة ذكره القشيري، وحديث عبد الله بن عمر الذي ذكره الثعلبي. وقيل: إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، لحديث أنس الذي ذكره الثعلبي والنحاس أن النبي ص تلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فقالوا: يا نبيّ الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: «هم جبريل وميكائيل

وإسرافيل وملك الموت» ثم ذكر أنه يؤمر جبريل بإماتة نفس إسرافيل وميكائيل وملك الموت، ثم يميت الله جبريل، ففي هذا الحديث: «إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام» . قال القرطبي: وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه، أي استثنائه. 3- يكون البعث: بأن يبعث الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء من قبورهم، وتعاد إليهم أبدانهم وأرواحهم، فيقومون ينظرون، ماذا يؤمرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم. 4- تستنير أرض المحشر وتضيء بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده، والظلم ظلمات، والعدل نور. أو إنها تستنير بنور خلقه الله تعالى، فيضيء به الأرض. وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح: «تنظرون إلى الله عز وجل، لا تضامّون في رؤيته» «1» أي لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك. 5- إن أحوال الحكم والقضاء سبع: أن يوضع كتاب الأعمال بين آخذ بيمينه وآخذ بشماله، ويجاء بالنبيين والشهداء، فيسألون عما أجابت الأمم أنبياءها، ويقضى بين الناس بالصدق والعدل، ولا يظلمون، فلا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم، وتوفى كل نفس ما عملت من خير أو شر، والله أعلم بما فعلت كل نفس في الدنيا.

_ (1) وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون، ولا تضارون، ولا تضامّون، ولا تضارّون. أي لا يلحقكم ضير.

أحوال أهل العقاب وأهل الثواب [سورة الزمر (39) الآيات 71 إلى 75] :

أحوال أهل العقاب وأهل الثواب [سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) الإعراب: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ (73) جواب إِذا: إما محذوف تقديره: حتى إذا جاءوها فازوا أو نعموا، والواو فيه للحال بتقدير: قد، أو قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، أو قوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها. والوجه الأول أوجه. طِبْتُمْ حال. حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ حَافِّينَ: حال، لأن المراد ب تَرَى رؤية البصر لا رؤية القلب. وواحد حافين: حاف. وقال الفراء: هذا لا واحد له، لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلا مجتمعين.

البلاغة:

يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ الجملة حال ثانية. البلاغة: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً مقابلة بينهما، قابل بين حال السعداء وحال الأشقياء. والمقابلة كما تقدم: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب. حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ استعارة، تشبيها بحال الوارث وتصرفه في إرثه. المفردات اللغوية: وَسِيقَ من السوق: وهو الحث على السير بعنف وشدة وإزعاج، بقصد الإهانة والاحتقار زُمَراً الزمر: جماعات أو أفواجا متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، بمقدار تفاوتهم في الضلالة والشر فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها، وهو جواب إذا، وفتح أبواب جهنم عند مجيئهم ليبقى حرها إليهم، إهانة لهم. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا وتوبيخا رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم آياتِ رَبِّكُمْ القرآن وغيره وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ويخوفونكم وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار، قال البيضاوي: وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وجبت عليهم كلمة الله بالعذاب، وهو الحكم عليهم بالشقاوة بسبب أعمالهم، وأنهم من أهل النار، وقيل: هو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 119] . قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس، والمخصوص بالذم محذوف سبق ذكره، أي بئس المأوى جهنم، وهذا دليل على أن تكبرهم عن الحق سبب لدخول النار. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي أسرع بهم بلطف إلى دار الكرامة جماعات، على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي والحال أنه قد فتحت لهم الأبواب قبل مجيئهم تكريما وتعظيما، وحذف جواب إِذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم منتظرين استقبالهم، والجواب المقدر: دخلوها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي

المناسبة:

فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي مخلدين فيها على الدوام أو مقدّرين الخلود، والفاء للدلالة على ان طِبْتُمْ سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه تعالى، لأنه يطهره. وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ عطف على الفعل المقدر جوابا ل إِذا وهو: دخلوها صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب والجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، يريدون المكان الذي استقروا فيه، وقد أورثوها، أي ملكوها وجعلوا ملاكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، على سبيل الاستعارة نَتَبَوَّأُ ننزل مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ننزل في أي مقام أردنا من الجنة الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة. حَافِّينَ محدقين من حول العرش ومحيطين حوله. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ من كل جانب. ومِنْ مزيدة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهون ربهم من كل نقص، ملتبسين بحمده، قائلين: سبحان الله وبحمده، والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به. وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ حكم بين جميع الخلائق بالعدل، فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بيننا من الحق، والقائلون هم المؤمنون المقضي بينهم، أو الملائكة، وقد طوي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم. والخلاصة: لقد ختم استقرار الفريقين بالحمد لله. المناسبة: بعد بيان أحوال أهل القيامة مجملا، بقوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أبان الله تعالى بالتفصيل أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب، ثم وصف ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة المحدقين الحافين حول العرش، الذين يسبحون بحمد ربهم، ينزهونه عن النقائص، ويشكرونه، ويقولون بعد استقرار الفريقين في الجنة والنار: الحمد لله رب العالمين على ما أنعم به، وقضى بالحق بين الخلائق.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء الكفار، كيف يساقون إلى النار، فيقول: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي يساق الكافرون بربهم إلى النار، سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد، جماعات متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، لكل جماعة قائد: هو رأسهم في الكفر وداعيتهم إليه. ونظير الآية: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور 52/ 13] أي يدفعون إليها دفعا. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إليها، فتحت لهم أبوابها السبعة سريعا ليدخلوها ولتعجل لهم العقوبة، ويختصوا بنارها. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ أي وقال لهم خزنتها من الملائكة الزبانية الأشداء القوى حفظة النار والقائمين عليها، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل: ألم يأتكم رسل من جنسكم وأنفسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، يتلون عليكم آيات ربكم التي أنزلها لإقامة الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، ويحذرونكم من شر هذا اليوم، ويخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم إليه. قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي أجابهم الكفار معترفين قائلين لهم: بلى، قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكن كذبناهم وخالفناهم، ووجبت كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 119] . ونظير الآية: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي

ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك 67/ 8- 10] . وبعد هذا الإقرار أجيبوا بإصدار حكم الجزاء، فقال تعالى: قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي تقول لهم الملائكة الحفظة على النار: ادخلوا في أبواب جهنم التي فتحت لكم، مقدّرا لكم فيها من قبل الله الخلود والبقاء، ماكثين فيها إلى الأبد، لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها، فبئس المسكن الدائم جهنم، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه. وإنما أبهم القائل وأطلق، ولم ينسب إلى قائل معين، ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه، بما حكم العدل الخبير عليهم به. ثم يخبر الله تعالى عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون إلى الجنة مكرّمين، فيقول: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي وتسوق الملائكة المؤمنين بإعزاز وتشريف وتكريم وفدا إلى الجنة، جماعة بعد جماعة: المقربون، فالأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع أمثالهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع الصديقين، والشهداء مع بعضهم، والعلماء مع أقرانهم. حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية، بعد مجاوزة الصراط، واقتص لهم من مظالم الدنيا، وكانت قد فتحت أبوابها لاستقبالهم بالحراس. ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ: «وأنا أول من يقرع باب الجنة» .

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال ص: سبقك بها عكاشة» . وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء» . وأخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمّى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» . وروى أحمد عن الحسن عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «مفاتيح الجنة: شهادة أن لا إله إلا الله» . وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي وقال خزنة الجنة للمؤمنين: سلامة لكم من كل آفة ومكروه، طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي، وطاب جزاؤكم في الآخرة، كما أمر رسول الله ص أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم عن علي: «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة- أو مؤمنة» فادخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، لا زوال ولا تحول عنها، ولا موت ولا فناء فيها. وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي وقال المؤمنون الأتقياء الذين عملوا

الصالحات إذا عاينوا الجنة وما فيها من نعيم مقيم وثواب وافر: الحمد والشكر لله العظيم الذي أنجزنا وعده بالبعث والثواب بالجنة، والذي وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران 3/ 194] ، وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر 35/ 34- 35] . وجعلنا ملاك الجنة المتصرفين فيها، نرث أرض الجنة، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] . وأين شئنا حللنا، نتخذ في الجنة من المنازل ما نشاء حيث نشاء، فنعم الأجر أجرنا على عملنا، ونعم أجر العاملين: الجنة. جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج، قال النبي ص: «أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ «1» ، وإذا ترابها المسك» . ثم أخبر الله تعالى عن حال الملائكة المحدقين حول العرش، فقال: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي وترى أيها السعيد المؤمن جماعات الملائكة محيطين محدقين بالعرش المجيد، يسبّحون الله (ينزهون الله عن كل نقص وجور) ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه، ويحمدونه ويشكرونه على أفضاله ونعمه، قائلين: سبحان الله وبحمده.

_ (1) أي قباب اللؤلؤ، مفرده جنبذة: وهي ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة، يقال: مكان مجنبذ: مرتفع (لسان العرب) .

فقه الحياة أو الأحكام:

والحال أيضا أنه قد قضي بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار، ونطق المؤمنون والملائكة والكون أجمعه بالحمد والشكر لله ربّ العالمين من الإنس والجن، في حكمه وعدله وقضائه بين المؤمنين وبين أهل النار بالحق المطلق الذي لا خطأ فيه. وأبهم القائل وأطلق هنا كالسابق للدلالة على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد. قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام 6/ 1] ، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ويلاحظ أن المؤمنين حمدوا ربّهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم أرض الجنة، يتبوّءون منها حيث يشاءون، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق، والحكم بالعدل بين الناس جميعا. فقه الحياة أو الأحكام: أبانت الآيات ما يأتي: 1- توفى كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار، والمؤمن إلى الجنة. 2- يساق أهل النار إليها بسرعة وعنف، إهانة لهم واحتقارا، وهم حينذاك جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، وتفتح أبواب جهنم عند وصولهم إليها، وتقول لهم سدنتها تقريعا وتوبيخا: ألم تأتكم الرسل من جنسكم لتبليغكم الكتب المنزلة عليكم، وإنذاركم وتخويفكم لقاء وقتكم هذا؟ 3- يجيب أهل النار: نقر ونعترف بقيام الحجة علينا بمجيء الرسل، ولكن وجب العذاب على الكفار، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود 11/ 119] .

4- دلّت هذه الآية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ.. على أنه لا تكليف ولا إيجاب لشيء من الشرائع والأحكام قبل مجيء الشرع، لأن الملائكة بيّنوا أنه ما بقي للكفار علّة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب، لما بقي في هذا الكلام فائدة. 5- تقول الملائكة بعد سماع جواب الكافرين: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. 6- يقاد الأتقياء بلطف وإعزاز وإكرام، من الشهداء والزهاد والعلماء والقرّاء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته، ويؤتى بهم إلى الجنة، فيجدون أبوابها مفتحة لهم: جَنَّاتِ عَدْنٍ، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص 38/ 50] ويذكر خزنة الجنة لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث: الأولى- قولهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ يبشّرونهم بالسلامة من كل الآفات. الثانية- قولهم: طِبْتُمْ من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا. الثالثة- قولهم: فَادْخُلُوها خالِدِينَ والتعليل بالفاء يدلّ على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة. 7- سبب التفرقة بين أهل النار وأهل الجنة في فتح الأبواب، حيث فتحت أبواب النار بغير الواو، وفتحت أبواب الجنة بالواو: هو احتقار الفريق الأول وتخصيصهم بالنار، وإعزاز الفريق الثاني وإكرامهم بالاستقبال والاستعداد، فلا تفتح أبواب النار إلا عند دخول أهلها فيها، وتفتح أبواب الجنة قبل وصول أهلها إليها، ولذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها. 8- إذا خاطبت الملائكة المتقين بالكلمات الثلاث السابقة، قال المتقون عند

ذلك وبعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده بنعيم الجنة، وأورثنا أرض الجنة، فنعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتنا. 9- يكون الملائكة في جوانب العرش وأطرافه، قائلين: سبحان الله وبحمده، متلذذين بذلك لا متعبدين به، أي يصلون حول العرش شكرا لربهم، بعد أن قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل، ويقول المؤمنون والملائكة ونحوهم: الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه، ونصرنا على من ظلمنا. ويرى الرازي أن قوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين الملائكة، وهو دليل على أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حدّ محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 24

سورة غافر أو المؤمن:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة غافر أو: المؤمن مكيّة، وهي خمس وثمانون آية. تسميتها: تسمى هذه السورة سورة غافر، لافتتاحها بتنزيل القرآن من الله غافر الذنب وقابل التوب، والغافر من صفات الله وأسمائه الحسنى. وتسمى أيضا سورة (المؤمن) ، لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبه هذه السورة لما قبلها من ناحيتين: الأولى- التشابه في الموضوع: فقد ذكر في كل من السورتين أحوال يوم القيامة وأحوال الكفار في يوم المحشر. الثانية- الترابط بين خاتمة السورة السابقة ومطلع هذه السورة، فقد ذكر في نهاية سورة الزمر أحوال الكفار الأشقياء والمتقين السعداء، وافتتحت سورة غافر بأن الله غافر الذنب لحث الكافر على الإيمان وترك الكفر. ومناسبة الحواميم السبع لسورة الزمر: تشابه الافتتاح بتنزيل الكتاب ورتبت الحواميم إثر بعضها، لاشتراكها بفاتحة حم وبذكر الْكِتابِ بعد حم وأنها مكية، بل ورد في حديث أنها نزلت جملة واحدة، وفيها شبه من ترتيب ذوات (الراء) الست. ذكر السيوطي عن

مشتملاتها:

ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ولم يتخللها نزول غيرها، وذلك مناسبة واضحة لوضعها هكذا. ويقال لها أيضا: آل حم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم، أو قال: الحواميم. وقال النبي ص: «لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هنّ روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم» . وقال رسول الله ص لأصحابه في بعض الغزوات- فيما رواه أبو عبيد-: «إن بيّتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون- أو لا تنصرون» . وروى الحافظ أبو بكر البزار والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «من قرأ آية الكرسي، وأول حم المؤمن، عصم ذلك اليوم من كل سوء» . مشتملاتها: سورة غافر والحواميم السبع مكية، فهي تعنى بأصول العقيدة كسائر السور المكية، لذا جاءت آياتها عنيفة شديدة التأثير لإثبات وحدانية الله وتنزيل القرآن والبعث، ووصف ملائكة العرش، وإنهاء الصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل أو فريق الهدى وفريق الضلال. وقد ابتدأت بإعلان تنزيل الكتاب الكريم من الله المتصف بالصفات الحسنى، وهاجمت الكفار الذين يجادلون بالباطل، ثم وصفت مهام ملائكة العرش.

وأخبرت عن طلب أهل النار الخروج منها لشدة العذاب، ورفض هذا الطلب، وأقامت الأدلة على وجود الله القادر، وخوّفت من أهوال القيامة، وأنذرت الكفار من شدائد ذلك اليوم. ثم لفتت الأنظار لموضع العبرة من إهلاك الأمم الغابرة وهو كفرهم بالآيات البيّنات التي جاؤوا بها، وخصّت بالذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون، وما دار من حوار بين فرعون وقومه وبين رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، وما فعله فرعون الطاغية من قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، خشية انتشار الإيمان في قومه، وانتهاء القصة بهلاك فرعون بالغرق في البحر مع جنوده، ونجاة موسى وقومه جند الإيمان في ذلك العصر. وتلك هي قصة الإيمان والطغيان. وقد أردف ذلك بإعلان خذلان الكافرين، ونصر الرسل والمؤمنين نصرا مؤزرا في الدنيا والآخرة. وختمت القصة بأمر النبي ص بالصبر على أذى قومه كما صبر موسى وغيره من أولي العزم. ثم أوردت السورة الأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته، وضربت المثل للمؤمن بالبصير، وللكافر بالأعمى، فالمؤمن نيّر القلب والبصيرة بنور الله، والكافر مظلم النفس يعيش في ظلمة الكفر. وأتبعت ذلك ببيان نعم الله على عباده من الأنعام والفلك وغيرها. وختمت السورة بما يؤكد الغرض المهم منها: وهو الاعتبار بمصرع الظالمين المكذبين، وما يلقونه من أصناف العذاب، ومبادرتهم إلى الإيمان حين رؤية العذاب، ولكن لا ينفعهم ذلك، فإن سنّة الله الثابتة ألا يقبل إيمان اليأس أو حال رؤية البأس.

مصدر تنزيل القرآن وحال المجادلين في آياته [سورة غافر (40) الآيات 1 إلى 6] :

مصدر تنزيل القرآن وحال المجادلين في آياته [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الإعراب: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الرازي: الأقرب ها هنا أن يقال حم اسم للسورة، فقوله حم مبتدأ، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خبر، والتقدير: إن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب، فقول: تَنْزِيلُ مصدر، لكن المراد منه: المنزل. ويرى القرطبي وغيره أن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ، والخبر مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. ويجوز أن يكون تَنْزِيلُ خبرا لمبتدأ محذوف، أي هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ ويجوز أن يكون حم مبتدأ، وتَنْزِيلُ خبره، كما قال الرازي، والمعنى: إن القرآن أنزله الله وليس منقولا، ولا مما يجوز أن يكذّب به. وغافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ إما نعتان أو بدلان، ويجوز النصب على الحال. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو نكرة ويكون خفضه على البدل. وحم: قرئ بالسكون، وهو المشهور على الأصل في الحروف المقطعة، وقرئ «حاميم»

البلاغة:

بفتح الميم، والفتح إما لالتقاء الساكنين، لأنه أخف الحركات، أو أن يكون فتح الميم علامة النصب بتقدير فعل، أي اتل حم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل الكل من اللفظ أو الاشتمال من المعنى. البلاغة: الذَّنْبِ والتَّوْبِ بينهما طباق. ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وارد بصيغة الحصر. المفردات اللغوية: حم تقرأ هكذا: حاميم بالسكون، أو بالفتح حاميم، وهذه الحروف المقطعة المبدوء بها بعض السور للتنبيه على إعجاز القران وتحدي العرب أن يأتوا بمثله، وللدلالة على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات والجمل العربية. الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ القوي في ملكه، العليم بخلقه، قال البيضاوي: لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم، الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة. غافِرِ الذَّنْبِ للمؤمنين التائبين. وَقابِلِ التَّوْبِ يقبل منهم التوبة فضلا منه ورحمة. شَدِيدِ الْعِقابِ للكافرين. ذِي الطَّوْلِ صاحب الفضل والإنعام على عباده، وذو الغنى والسعة أيضا، وإيراد هذه الصفات للترغيب والترهيب والحثّ على الإيمان. الْمَصِيرُ المرجع، فيجازي المطيع والعاصي. ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ القرآن. إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكة وأمثالهم، فيه تسجيل صفة الكفر على المجادلين في القرآن بالباطل والطعن فيه لإدحاض الحق. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ لا تغترّ بإمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات الرابحة بقصد المعاش، فإن عاقبتهم النار والهلاك. والتقلب في البلاد: التصرف والتنقل. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ كذبت قوم نوح بالرسل وعادوهم، وكذلك كذبت الأحزاب (الجماعات) من بعدهم كعاد وثمود وغيرهما. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء هَمَّتْ عزمت. لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه بما أرادوا من تعذيب وقتل، فيحبسوه ويأسروه ويعذبوه ويقتلوه. بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له. لِيُدْحِضُوا يزيلوا به الحق. فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك والعقاب. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم، بأن وقع موقعه. حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت كلمته أي حكمه بالهلاك وقضاؤه بالعذاب. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لكفرهم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي وتلك الكلمة هي أنهم مستحقون للنار.

سبب النزول نزول الآية (4) :

سبب النزول: نزول الآية (4) : ما يُجادِلُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي. التفسير والبيان: موضوع هذه الآيات بيان مصدر نزول القرآن: وهو أنه من عند الله، الذي وصف نفسه بصفات ست، ثم مناقشة الكفار الذين جادلوا في آيات الله بالباطل أي بقصد الطعن فيها وإدحاض الحق، فاستحقوا التهديد بعذاب الله وهو أنهم في النار. حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ حم: من الحروف المقطعة في فواتح السور، للتنبيه على مضمون السورة وعلى إعجاز القرآن المكون نظمه من حروف اللغة العربية التي ينطق بها العرب وينظمون بها الأشعار ويدبّجون بها الخطب الرنانة، ومع ذلك لا يستطيعون معارضته، لأنه كلام الله تعالى. والقرآن المتلو بين الناس على الملأ منزّل من عند الله، ليس بكذب عليه، والله الذي أنزله هو العزيز أي الغالب القوي القادر القاهر، والعليم أي البالغ العلم التام بخلقه وما يقولونه ويفعلونه، الذي يعلم السر وأخفى. ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقال: غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ،

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي إن الله منزل القرآن هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة بمشيئته، وقابل توبتهم المخلصة، وشديد العقاب لأعدائه، وذو التفضل والإنعام والسعة والغنى، ينعم بمحض إحسانه تعالى، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا صاحبة ولا ولد، وإليه المرجع والمآب في اليوم الآخر، لا إلى غيره. ثم ذكر تعالى أحوال المجادلين في القرآن بقصد إبطاله وإطفاء نوره، فقال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، فهم يجادلون بالباطل بقصد دحض الحق، كوصفهم القرآن بأنه شعر أو سحر أو أساطير الأولين، فلا تغترّ أيها النبي وكل مؤمن بشيء من رفاهية الدنيا التي تراهم فيها، كالتجارة في البلاد، وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية الدمار والهلاك، وهذا تسلية للنبي ص، كما قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران 3/ 196- 197] ، وقال سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . ويلاحظ أن الجدال نوعان: جدال في تقرير الحق، وجدال في تقرير الباطل، أما الجدال بالحق لبيان غوامض الأمور والوصول إلى فهم الحقائق: فهو جائز مشروع، اتخذه الأنبياء أسلوبا في دعوتهم إلى الدين الحق، قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود 11/ 32] ، وقال تعالى لنبيه محمد ص: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] . وأما الجدال بالباطل كالمذكور هنا فهو مذموم، كما قال تعالى: ما ضَرَبُوهُ

لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف 43/ 58] ، وهو المشار إليه في قوله ص: «لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر» ، «إن جدالا في القرآن كفر» . قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن، قوله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [البقرة 2/ 176] . ثم أخبر الله تعالى عن تشابه أقوام الأنبياء في تكذيب رسلهم، فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي كذبت قبل قوم قريش قوم نوح (وهو أول رسول بعثه الله للنهي عن عبادة الأوثان) والجماعات الذين تخربوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وأصحاب لوط وقوم فرعون، بتكذيب رسلهم، فعوقبوا أشد العقاب. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي وعزمت وحرصت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه، لحبسه وتعذيبه وإصابة ما يريدون منه أو قتله، فمنهم من قتل رسوله، وخاصموا رسولهم بالشبهة وبالباطل من القول، ليردوا الحق الواضح الجلي، وليبطلوا الإيمان. روى أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ص قال: «من أعان باطلا ليدحض به حقا، فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله ص» . وقال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل بالعذاب، وأهلكتهم، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج 22/ 44] . فانظر كيف عقابي الذي عاقبتهم

فقه الحياة أو الأحكام:

به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا، وليعتبر قومك يا محمد بهذا، فإني أعاقبهم بعقاب مماثل، وإنهم يمرون على بلادهم ومساكنهم، فيعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب، وأكّد هذا المعنى بقوله: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي ومثل ذلك عذاب كل كافر، والمعنى: وكما وجب العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم، وجب على الذين كفروا بك يا محمد، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، فالسبب واحد والعلة واحدة، وذلك العذاب هو استحقاقهم النار. والمراد بكلمة العذاب هي أنهم مستحقون النار. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- إن تنزيل القرآن من الله ذي العزة والعلم، فهو ليس منقولا ولا مما يصحّ أن يكذّب به. 2- وصف الله تعالى نفسه بستّ صفات تجمع بين الترغيب والترهيب، وتفتح باب الأمل للعصاة والكفار للمبادرة إلى ساحة الإيمان والتزام جادة الاستقامة على أمر الله ومنهجه. وتشير القصتان التاليتان إلى مدى فعالية هذا الأسلوب القرآني في إصلاح البشرية. روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ.. الآية، وقال: اعمل ولا تيأس.

وروى ابن أبي حاتم أيضا والحافظ أبو نعيم عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر، فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، تتابع في هذا الشراب. فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه. فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قد حذّرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي. فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع. فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زلّ زلّة، فسدّدوه ووثّقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه. 3- قد يعفو الله تعالى عن الذنوب الصغائر بتوبة أو بغير توبة، وقد يعفو أيضا عن الكبائر كالقتل والسرقة والزنى بعد التوبة، وإطلاق الآية غافِرِ الذَّنْبِ يدل على كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة، إذا شاء وأراد. ولكن قبول التوبة من الذنب يقع على سبيل التفضل والإحسان من الله، وليس بواجب على الله، لأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل. وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله بإيجاب منه على نفسه، لا بإيجاب غيره عليه.

4- في الآية إيماء بترجيح جانب الرحمة والفضل على جانب الغضب والعدل، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شَدِيدِ الْعِقابِ ذكر قبله أمرين، كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وذكر بعده ما يدلّ على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله: ذِي الطَّوْلِ. 5- إن الجدال لتقرير الباطل لدحض الحق وإبطال الإيمان، بالاعتماد على الشبهات، بعد البيان القرآني وظهور البرهان الإلهي: كفر وضلال وجحود لآيات الله وحججه وبراهينه. والجدال في آيات الله أن يقال مثلا عن القرآن: إنه سحر أو شعر أو من قول الكهنة، أو أساطير الأولين، أو إنما يعلّمه بشر، ونحو ذلك. أما الجدال لتوضيح الحق ورفع اللّبس والرّد إلى الحق، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقرّبون، قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت 29/ 46] . 6- لا يغترن أحد بإمهال الكفرة والعصاة وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يترددون في البلاد للتجارة وطلب المعاش، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإنه وإن أمهلهم فإنه سينتقم منهم كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية. 7- المثال المتكرر في القرآن الكريم: هو أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة برسلها، الذين جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان، وقد لمس الناس آثار ذلك الهلاك في ديارهم ومساكنهم، لذا قال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي كيف كان عقابي إياهم، أليس وجدوه حقا؟! 8- إن مثل الذي وجب (حق) على الأمم السالفة من العقاب، يجب

محبة الملائكة حملة العرش للمؤمنين ونصرتهم [سورة غافر (40) الآيات 7 إلى 9] :

(يحق) على الذين كفروا في كل زمان ومكان، سواء من قريش وغيرهم، فهم على وشك نزول العقاب بهم. محبة الملائكة حملة العرش للمؤمنين ونصرتهم [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) الإعراب: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ مبتدأ، وخبره: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. وَمَنْ صَلَحَ معطوف على هم ضمير وَأَدْخِلْهُمْ. وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ مَنْ اسم موصول، مبتدأ، وخبره جملة فَقَدْ رَحِمْتَهُ. المفردات اللغوية: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هم الملائكة الكروبيون الذين هم أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا، وحملهم العرش عند بعضهم: مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، والْعَرْشَ مركز تدبير العالم، وهو حقيقة، الله أعلم به. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يقرنون التسبيح (تنزيه الله عن كل النقائص) بالحمد والشكر، فيقولون: سبحان الله وبحمده. وَيُؤْمِنُونَ بِهِ بالله تعالى، أي يصدقون ببصائرهم بوحدانية الله. وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يطلبون المغفرة لهم، فهم يشفعون لهم ويلهمون المؤمنين ما يوجب المغفرة، ويحملونهم على التوبة، وفيه تنبيه على أن المشاركة في

المناسبة:

الإيمان توجب النصح والشفقة. رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي يقولون ربّنا، وهو بيان لقوله: يَسْتَغْفِرُونَ. والمعنى: يا ربنا، لقد وسعت رحمتك كل شيء، ووسع علمك كل شيء. فَاغْفِرْ المغفرة: الستر. تابُوا من الشرك. وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ دين الإسلام. وَقِهِمْ احفظهم واصرف عنهم. عَذابَ الْجَحِيمِ عذاب النار. جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة دائمة. الْعَزِيزُ القوي الغالب القاهر. الْحَكِيمُ في صنعه. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ احفظهم من عذابها أي جزاء السيئات. وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة للمؤمنين، بيّن هنا أن أشرف المخلوقات وهم حملة العرش والذين هم حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، فلا تبال بالكفرة أيها الرسول، ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا، فإن حملة العرش ومن حوله ينصرونك. التفسير والبيان: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إن الملائكة حملة العرش ومن حوله من الملائكة الكروبيين الذين هم أفضل الملائكة يقرنون بين التسبيح (التنزيه) الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات الثناء والتمجيد، ويصدقون بوجود الله ووحدانيته ولا يستكبرون عن عبادته، فهم خاشعون له، أذلاء بين يديه، ويطلبون المغفرة للذين آمنوا من أهل الأرض ممن آمن بالغيب. ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم السلام، فهم يؤمّنون على دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب، قال الملك: آمين، ولك بمثله» . ونحن نؤمن بحمل الملائكة العرش، ونترك الكيف والعدد لله عز وجل،

ورأى بعض المفسرين أن المراد بالحمل: التدبير والحفظ، والعرش أعظم المخلوقات، ونؤمن به كما ورد. وذكر ابن كثير أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كانوا يوم القيامة كانوا ثمانية، كما قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة 69/ 17] «1» . وفائدة وصف الملائكة بالإيمان، مع أن التسبيح والتحميد يكون مسبوقا بالإيمان: هو إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتاب الله بالصلاح لذلك، وكما عقّب أعمال الخير بقوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد 90/ 17] فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى هي التنبيه على أن إيمانهم كغيرهم سواء بطريق النظر والاستدلال لا غير، لا بالمشاهدة والمعاينة «2» . وصيغة استغفارهم للمؤمنين هي: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، فاستر واصفح عن الذين تابوا عن الذنوب، واتبعوا سبيل الله وهو دين الإسلام، واحفظهم من عذاب الجحيم- عذاب النار. قال خلف بن هشام البزار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بكى، ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله، نائما على فراشه، والملائكة يستغفرون له.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 71 (2) الكشاف: 3/ 45، تفسير الرازي: 27/ 32 [.....]

رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ربنا وأدخلهم جنات الإقامة الدائمة التي وعدتهم بها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، بأن كان مؤمنا موحدا قد عمل الصالحات، اجمع بينهم وبينهم، تكميلا لنعمتك عليهم، وتماما لسرورهم، فإن الاجتماع بالأهل أكمل للبهجة والأنس، إنك أنت القوي الغالب الذي لا يغالب، الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك. ونظير الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 52/ 21] . قال مطرّف بن عبد الله الشّخيّر: أنصح عباد الله للمؤمنين: الملائكة، ثم تلا هذه الآية: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ الآية، وأغشّ عباده للمؤمنين: الشياطين. وقال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة، سأل عن أبيه وابنه وأخيه، أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم قرأ سعيد بن جبير هذه الآية: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ودعاؤهم إيجابي وسلبي، يشمل دخول الجنان ومنع العقاب، فقال تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي واحفظهم من العقوبات أو العذاب وجزاء السيئات التي عملوها، بأن تغفرها لهم، ولا تؤاخذهم بشيء منها، وأبعد عنهم ما يسوؤهم من العذاب،

فقه الحياة أو الأحكام:

ومن تقيه السيئات يوم القيامة، فقد رحمته من عذابك، وأدخلته جنتك، وهذا هو الفوز الساحق الأكبر الذي لا فوز أفضل منه. وفائدة استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الصالحين الموعودين المغفرة وعدا لا خلف فيه: زيادة الكرامة والثواب. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- أخبر الله تعالى عن الملائكة حملة العرش بثلاثة أشياء: التسبيح المقرون بالتحميد، والإيمان الكامل بالله تعالى وحده لا شريك له، والاستغفار للمؤمنين شفقة عليهم. ويلاحظ أنه قدم التسبيح والتحميد على الاستغفار، لأن التعظيم لأمر الله مقدم على الشفقة على خلق الله. والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق، والتحميد: الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق، والأول إشارة إلى الجلال، والثاني إشارة إلى الإكرام، كما قال تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 78] . والعرش أعظم المخلوقات، نؤمن به، وندع أمر وصفه لله عز وجل. لكن يجب تنزيه الله عن التحديد والتجسيم والتكييف والحصر في مكان معين. 2- احتج كثير من العلماء بهذه الآية: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ.. في إثبات أن الملك أفضل من البشر، لأن الملائكة لما فرغوا من الثناء على الله والتقديس، اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم، وهم المؤمنون. وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم، وإلا لبدؤوا بأنفسهم قبل غيرهم، بدليل قوله ص: فيما رواه النسائي عن جابر «ابدأ بنفسك» وقوله تعالى لنبيه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد 47/ 19] فأمر محمدا ص أن يستغفر لنفسه، ثم لغيره.

3- تدل هذه الآية أيضا على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين، لأن الاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب، أما طلب النفع الزائد وهو زيادة الثواب للمؤمنين، فإنه لا يسمى استغفارا. 4- قال أهل التحقيق: إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن زلة سبقت. 5- إن الدعاء في أكثر الأحوال يبدأ بلفظ «ربنا» كما فعل الملائكة في دعائهم: رَبَّنا وَسِعْتَ.. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ.. ومن أرضى الدعاء: أن ينادي العبد ربه بقوله: «يا رب» . 6- السنة في الدعاء: أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى، ثم يذكر الدعاء عقيبه، بدليل هذه الآية، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين، بدؤوا بالثناء، فقالوا: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وكذلك بدأ إبراهيم الخليل بالثناء أولا على الله الهادي، الرزاق، الشافي، المحيي، الغفار، ثم قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء 26/ 78- 83] . والعقل والأدب يدلان أيضا على هذا الترتيب. 7- وصف الملائكة الله تعالى في ثنائهم بقولهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً بثلاث صفات: الربوبية والرحمة والعلم، والربوبية إشارة إلى الإيجاد والإبداع، والرحمة إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر، وأنه تعالى خلق الخلق للرحمة والخير، لا للإضرار والشر. 8- قوله سبحانه: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً دليل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات. 9- اشتمل دعاء الملائكة على الخير كله وعلى أشياء كثيرة للمؤمنين وهي:

اعتراف الكفار بذنوبهم وباستحقاقهم العقاب الأخروي والتذكير بقدرة الله وفضله [سورة غافر (40) الآيات 10 إلى 17] :

أ- طلب الغفران للتائبين من الشرك والمعاصي، الذين اتبعوا دين الإسلام. ب- الوقاية من عذاب جهنم حتى لا يصل إليهم. ج- إدخالهم جنات عدن، قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصدّيقون والشهداء وأئمة العدل. وإدخال أقاربهم معهم أيضا من الآباء والأزواج والذريات. د- إن صونهم من جزاء السيئات، أي وقايتهم في الدنيا من العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة والوقاية من عذاب السيئات دليل على رحمة الله بدخول الجنة، وتلك هي النجاة الكبيرة. والخلاصة: إن أكمل الدعاء: ما طلب فيه ثواب الجنة، والنجاة من النار. اعتراف الكفار بذنوبهم وباستحقاقهم العقاب الأخروي والتذكير بقدرة الله وفضله [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

الإعراب:

الإعراب: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مبتدأ وخبر، واللام لام الابتداء، وقعت بعد يُنادَوْنَ لأنها في معنى: يقال لهم. إِذْ تُدْعَوْنَ إِذْ: ظرف زمان، وعامله: إما: لَمَقْتُ اللَّهِ أو مَقْتِكُمْ أو تُدْعَوْنَ أو فعل مقدر، تقديره: مقتكم إذ تدعون، أي حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم، وقيل: تقديره: اذكروا إذ تدعون. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ يَوْمَ: بدل منصوب من قوله يَوْمَ التَّلاقِ وهذا منصوب على أنه مفعول به لفعل: ينذر، لا الظرف، لأن الإنذار لا يكون في يوم التلاق، وإنما يكون الإنذار به، لا فيه. وهُمْ بارِزُونَ: جملة اسمية في موضع جر بإضافة يَوْمَ إليها. ولِمَنِ الْمُلْكُ مبتدأ وخبر والْيَوْمَ منصوب متعلق بمدلول قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ أي لمن استقر الملك في هذا اليوم، أو متعلق بنفس الْمُلْكُ. أو يوقف على الْمُلْكُ، ويبتدأ: الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي هو مستقر لله الواحد القهار في هذا اليوم. البلاغة: أَمَتَّنَا. وأَحْيَيْتَنَا بينهما طباق. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ.. استفهام يراد به التمني، وأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون. ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بينهما مقابلة، قابل بين التوحيد والشرك، والكفر والإيمان.

المفردات اللغوية:

وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً مجاز مرسل، أطلق الرزق الذي هو مسبب وأراد المطر الذي هو سبب في الأرزاق. يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ الرُّوحَ كناية عن الوحي، لأنه كالروح للجسد. المفردات اللغوية: يُنادَوْنَ يوم القيامة من قبل الملائكة، فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم، وهو أشد البغض. أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الأمارة بالسوء. إِذْ تُدْعَوْنَ أي إن مقت الله حين دعيتم إلى الإيمان به في الدنيا، فكفرتم. أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين، بأن خلقتنا أمواتا أولا، ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا، فإن الإماتة: جعل الشيء عادم الحياة، إما ابتداء، أو انتقالا من الحياة إلى الموت. وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا بالشرك والكفر بالبعث. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع من الخروج من النار لنطيع ربنا. مِنْ سَبِيلٍ طريق، فنسلكه. جوابهم: لا. ذلِكُمْ أي العذاب الذي أنتم فيه. بِأَنَّهُ بسبب أنه. إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ عبد الله وحده دون غيره. كَفَرْتُمْ بالتوحيد. وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ يجعل له شريك في العبادة. تُؤْمِنُوا تصدقوا بالإشراك. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ فالقضاء لله في تعذيبكم بالعذاب السرمدي. الْعَلِيِّ عن أن يشرك به أحد من خلقه ويسوّى به. الْكَبِيرِ العظيم الكبير على من أشرك به بعض مخلوقاته في العبادة. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائل قدرته وتوحيده وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب الرزق وهو المطر. وَما يَتَذَكَّرُ يتعظ بالآيات المستقرة في الفطر والعقول. إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الشرك. فَادْعُوا اللَّهَ اعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم له وشق عليهم. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي الله عظيم الصفات، المنزه عن مشابهة المخلوقات. ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه. يُلْقِي الرُّوحَ الوحي سمي روحا، لأنه كالروح للجسد. مِنْ أَمْرِهِ من قوله، وهذه أخبار ثلاثة بعد قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ. لِيُنْذِرَ يخوف النبي الملقى عليه الوحي الناس. يَوْمَ التَّلاقِ يوم اجتماع وتلاقي الخلائق للحساب أمام الله، فإنه يوم يلتقي فيه أهل السماء والأرض والعابد والمعبود والظالم والمظلوم والأعمال والعمال. بارِزُونَ ظاهرون لا يسترهم شيء، أو خارجون من قبورهم. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لسؤال وما يجاب به، يسأله تعالى ويجيب نفسه، فهو القهار لخلقه.

المناسبة:

لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسب الخلائق سريعا، يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما ورد في الحديث. المناسبة: بعد بيان أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله، بيّن الله تعالى أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم، ويسألون الرجوع إلى الدنيا، ليتلافوا ما فرط منهم. وبعد ذكر ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، ذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، بإظهار البيّنات والآيات، وإنزال الرزق من السماء، وإلقاء الوحي على من يشاء من عباده، لإنذار الناس بالعذاب يوم الحساب. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن مناداة الكفار يوم القيامة وهم يتلظون في النار، فيقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي تنادي الملائكة الكافرين يوم القيامة، وهم يعذبون في نار جهنم، فيمقتون أنفسهم، ويبغضونها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار، قائلين لهم: أيها المعذّبون أنفسهم في هذه الحالة، إن بغض الله لكم حين عرض عليكم الإيمان في الدنيا من طريق الأنبياء، فتركتموه وكفرتم وأبيتم قبوله، أشد من بغضكم أنفسكم حين عاينتم عذاب النار يوم القيامة، ففي الآية حذف وتقديم وتأخير، أي لمقت الله إياكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم.

فيجيبون بقولهم: قالُوا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي قال الكفار المعذبون: ربنا أمتنا مرتين، حين كنا نطفا في أصلاب الآباء قبل الحياة الظاهرة، وحين أصبحنا أمواتا بعد حياتنا الدنيوية، وأحييتنا مرتين أيضا: الأولى في الدنيا، والثانية عند البعث، كما قال تعالى في آية أخرى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة 2/ 28] . فاعترفنا بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا، من تكذيب الرسل، والإشراك بالله وترك توحيده، وإنكار البعث، ولكنه اعتراف وندم في وقت لا ينفعهم فيه الندم، فهل لنا طريق إلى الخروج من النار والرجوع إلى الدنيا، لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة 32/ 12] وقال سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام 6/ 27] وقال عز وجل: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ، قالَ: اخْسَؤُا فِيها، وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون 23/ 108] . فأجيبوا بالرفض مع بيان السبب، فقال تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي أنتم هكذا على وضعكم، وإن رددتم إلى الدار الدنيا: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام 6/ 28] فلا رجعة لكم، وتظلمون في العذاب، بسبب أنكم كنتم إذا دعي الله وحده دون غيره في الدنيا، كفرتم به وتركتم توحيده باستمرار، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها، تؤمنوا بالإشراك به وتجيبوا

الداعي إليه، فالحكم لله وحده دون غيره، ولا يحكم إلا بالحق وبمقتضى الحكمة، وهو المتعالي عن المماثل في ذاته وصفاته، والأكبر من أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك، فقوله: الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ دلالة على الكبرياء والعظمة. ثم ذكر الله تعالى ما يدل على كمال قدرته وكبريائه وعظمته، فقال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً، وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ الله تعالى هو الذي يظهر لكم دلائل توحيده وعلامات قدرته، بما أودع في سمائه وأرضه من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، وهو سبحانه الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه، مع أنه من ماء واحد وتراب واحد، مما يدل على قدرته وعظمة صنعه، ولكن ما يتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة إلا من يرجع إلى ربه، بالتأمل والتفكر والنظر في آيات الله، ثم بالطاعة والإذعان إليه. ولما قرر الله تعالى ما يوجب توحيده، صرح بالمطلوب وهو الإقبال بالكلية على الله تعالى، والإعراض عن غير الله، فقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم، ولو كره الكافرون منهجكم ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم. ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله ص كان يقول عقب الصلوات المكتوبات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» .

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ص قال: «ادعوا الله تبارك وتعالى، وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» . ثم ذكر تعالى أيضا ثلاث صفات أخرى من صفات الجلال والعظمة، فقال: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ أي هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الصفات، وهو صاحب العرش ومالكه وخالقه والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، وهو الذي ينزل الوحي على من يريد من عباده الذين يختارهم لرسالته وتبليغ أحكامه، وهم الأنبياء، ليقوموا بإنذار الناس بالعذاب يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، ويلتقي الأولون والآخرون. وسمي الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيى الأبدان بالأرواح. والمراد بقوله: مِنْ أَمْرِهِ أي من شرائعه التي يوحي بها إلى أنبيائه ليمتثلوا ويسيروا في حياتهم بموجبها. ونظائر الآية كثيرة، مثل قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل 16/ 2] ونحو قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء 26/ 193- 195] . ومن صفات يوم القيامة أيضا ما يلي: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي إن يوم التلاق هو اليوم الذي هم فيه ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لاستواء الأرض، وهم خارجون من قبورهم في العراء،

لا يخفى على الله شيء من أعمال العباد التي عملوها في الدنيا، سرا أو علانية، كما في آية أخرى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ، لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة 69/ 18] . ويكون فيه الملك المطلق والسلطان الشامل لله الواحد الأحد، القاهر عباده وكل شيء بقدرته، قهرهم بالموت، ثم بالبعث الشامل. وقد أورد هذا المعنى لتقريره في الأذهان بصورة سؤال يسأل فيه الرب تعالى، يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ أي يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه، فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. والخلاصة: ذكر تعالى هنا أربع صفات ليوم القيامة: هي كونه يوم التلاق، وكون الخلق فيه ظاهرين جميعا أمامه لا يسترهم شيء، وكونه يوما لا يخفي الله فيه من الأعمال شيئا، والمقصود بذلك الوعيد، فإنه تعالى إذا جمع الخلق، يجازي كلا بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكون الملك المطلق فيه لله عز وجل. ثم ذكر تعالى صفة خامسة وسادسة ليوم القيامة، تبينان صفات عدل الله في حكمه بين خلقه، وفضله ورحمته، فقال: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إن يوم القيامة هذا هو يوم الجزاء وثواب كل عامل بعمله، من خير وشر، ولا ظلم في الحكم فيه على أحد، بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه، وإن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة كما قال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] وقال: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] ولأنه تعالى لا يحتاج إلى تفكر، ويحيط علمه بكل شيء، فلا يغيب عنه مثقال ذرة. وذكر سرعة الحساب في هذا الموضع لائق جدا، لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم، بيّن

فقه الحياة أو الأحكام:

أنه سريع الحساب، وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال. وقد روى مسلم في صحيحة حديثا في بيان منع الظلم في الحساب عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ص، فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا- إلى أن قال- يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- إن الله تعالى يحب الخير لعباده ويكره الكفر والشر لهم، لذا كان مقته وبغضه للكفار في وقت تعذيبهم بالنار أشد من بغضهم أنفسهم في ذلك الوقت، لأنها أوبقتهم في المعاصي. 2- احتج أكثر العلماء بآية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ في إثبات عذاب القبر، بناء على تفسير السدّي: أنهم أميتوا في الدنيا، ثم أحياهم في القبور للسؤال، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما جنح إلى هذا التفسير، لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة؟. كذلك تدل هذه الآية على حصول الحياة في القبر. 3- يعترف الكفار بذنوبهم واستحقاقهم العقاب يوم القيامة، ويندمون على ذلك، لكن لا ينفعهم فيه الندم والاعتراف. 4- يطلب الكفار الرجوع إلى الدنيا للإيمان والطاعة، ولكن لا رجعة لهم.

5- إن تعذيب الكفار بسبب إعراضهم عن الإيمان بالله وبالبعث وبالرسل في الدنيا التي هي دار التكليف والعمل، وتركهم التوحيد، واختيارهم الشرك والمعاصي. 6- أقام الله تعالى آيات وأدلة كثيرة على وجوده وتوحيده وقدرته وحكمته، ومنها هنا آيات السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبحار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا، ومنها إنزال الرزق بإنزال المطر سبب الحياة والبركة والخير. ويلاحظ أنه جمع في هذه الآية بين رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبإنزال الرزق من السماء قوام الأبدان. ولكن ما يتعظ بهذه الآيات، فيوحد الله إلا من ينيب ويرجع إلى طاعة الله، والمعنى: إنّ لمس وإدراك دلائل توحيد الله كالشيء المستقر في العقول، والاشتغال بالشرك وبعبادة غير الله مانع يحجب أنوار العقل والفكر، فإذا تخلى العبد عن الشرك، وأناب إلى الله، زال الغطاء، واستنار القلب، فحصل الفوز التام، وظهرت سبيل النجاة. 7- وكما أن من صفات كبرياء الله وإكرامه: كونه مظهرا للآيات، منزلا للأرزاق، فله صفات ثلاث أخرى من صفات الجلال والعظمة، وهي كونه رفيع الصفات، خالق العرش ومدبره ومالكه، منزل الوحي والنبوة على من يشاء من عباده. وسمي الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح، كما تقدم. 8- ما على العباد أمام هذه الصفات العليا إلا عبادة الله وحده لا شريك له، مخلصين له العبادة والطاعة، حتى ولو كره الكافرون عبادة الله، فلا تعبدوا أيها المؤمنون غيره.

9- إنما يبعث الله الرسل لإنذار يوم البعث يوم تلاقي الخلائق جميعهم في أرض المحشر، ويوم يكونون ظاهرين في صعيد واحد، لا يسترهم شيء، لاستواء الأرض، وذلك اليوم لا يخفى على الله شيء من العباد ومن أعمالهم، وهو اليوم الذي يظهر فيه السلطان المطلق والملك التام لله الواحد القهار، ويقول سبحانه بعد فناء الخلق وهلاك كل من في السموات ومن في الأرض: لمن الملك في هذا اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: لله الواحد القهار. وفي تفسير آخر: أن السائل غير الله، والمجيب هم أهل المحشر، ورجح هذا القرطبي، فقال: أصح ما قيل فيه: ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر مناد ينادي: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا. ثم أردف القرطبي قائلا: والقول الأول ظاهر جدا، لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدّعين وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبهم ودعاويهم. ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطيّ السماء: «أنا الملك، فأين ملوك الأرض» كما في حديثي أبي هريرة وابن عمر، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟! «1» . 10- ومن صفات ذلك اليوم: أن تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وأنه لا ظلم فيه، فلا ينقص أحد شيئا من عمله، وإن الله سريع الحساب، فلا يحتاج إلى تفكر واستدلال، لأنه تعالى العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك

_ (1) تفسير القرطبي: 15/ 300- 301

أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة [سورة غافر (40) الآيات 18 إلى 22] :

في ساعة واحدة. جاء في الخبر: «ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» . والخلاصة: ذكر الله تعالى ست صفات ليوم القيامة: وهي كونه يوم التلاق، وكون الخلق بارزين ظاهرين فيه، ولا يخفى على الله منهم شيء، ويظهر فيه الملك التام لله الواحد القهار، وتجزى فيه كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا ظلم في الحساب الذي هو سريع الإجراء والتنفيذ وتحقيق المطلوب. أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة [سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 22] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) الإعراب: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ إِذِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ الذي هو مفعول به ل أَنْذِرْهُمْ لا ظرف، لأن الإنذار لا يكون يوم الآزفة. والْقُلُوبُ مبتدأ، ولَدَى الْحَناجِرِ خبر. وكاظِمِينَ

البلاغة:

حال من ضمير لَدَى أو حال من أصحاب القلوب. و: من في مِنْ حَمِيمٍ زائدة، تقديره: ما للظالمين حميم ولا شفيع. ويُطاعُ جملة فعلية صفة ل شَفِيعٍ. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا.. فَيَنْظُرُوا إما منصوب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن» أو مجزوم عطفا على يَسِيرُوا وكَيْفَ في موضع نصب، لأنها خبر كانَ وعاقِبَةُ: اسم كان المرفوع، وفي كَيْفَ ضمير يعود على العاقبة. ويجوز جعل كانَ تامة، فلا تحتاج إلى خبر، فيكون كَيْفَ ظرفا ملغى لا ضمير فيه. وكذلك كانُوا في قوله: الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ يجوز فيها الوجهان، ويكون أَشَدَّ إذا جعلت كانَ بمعنى «وقع» حالا. وقُوَّةً تمييز. وجملة كان واسمها وخبرها مفعول: ينظروا. وكانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً جواب كَيْفَ. البلاغة: ما لِلظَّالِمِينَ أي الكفار، فيه وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بهم، وإنه لظلمهم. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ استفهام إنكاري. السَّمِيعُ الْبَصِيرُ من صيغ المبالغة. المفردات اللغوية: يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة، سميت بها لأزوفها، أي قربها، يقال: أزف الرحيل يأزف أزفا: قرب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ ترتفع خوفا عند الحناجر أي الحلوق، جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى. لِلظَّالِمِينَ الكفار كاظِمِينَ ممتلئين غما حَمِيمٍ قريب نافع أو محب وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ مشفع أي تقبل شفاعته، ولا مفهوم للوصف: يُطاعُ إذ لا شفيع لهم أصلا كما قال تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ [الشعراء 26/ 100] أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا. يَعْلَمُ الله خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة، كالنظرة الثانية إلى الحرام، واستراق النظر إليه، فالمراد الأعين الخائنة: وهي التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه وَما تُخْفِي الصُّدُورُ القلوب، أي ما تكتمه الضمائر. والجملة خبر خامس للقلوب، للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلّق العلم والجزاء.

المناسبة:

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق، فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون، أي كفار مكة مِنْ دُونِهِ أي الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فكيف يكونون شركاء لله؟ وهذا تهكم بهم، لأن الجماد لا يقال فيه: إنه يقضي أو لا يقضي إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم، وهذا تعليل وتقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق، ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، وتعريض بحال ما يدعونه من دونه. عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ من قلاع ومصانع وقصور ومدائن حصينة فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أهلكهم واقٍ حافظ يدفع عنهم السوء أو العذاب. بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والأحكام الواضحة إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ ليس هناك عقاب أشد منه. المناسبة: بعد بيان كون الأنبياء ينذرون الناس يوم التلاق، أتى بأوصاف هائلة رهيبة أخرى ليوم القيامة، لتخويف الكفار بعذاب الآخرة، ثم خوفهم بعذاب الدنيا المماثل لإهلاك الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل. التفسير والبيان: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ أي خوف أيها الرسول الكفار يوم القيامة، ليؤمنوا ويقلعوا عن الشرك، ذلك اليوم الذي لكأن القلوب تزول من مواضعها من الخوف، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق، حال كون أصحابها مكروبين ممتلئين غما. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي وحال كون أولئك الكافرين ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع مشفع تقبل شفاعته لهم. والمقصود بالآية تخويف الكفار وترويعهم من شدة الخوف وأهوال يوم

القيامة. وفي الآية إشارة إلى أن الكفار يوم القيامة يشتد خوفهم، حتى لكأن قلوبهم لدى حلوقهم، وفيها تصريح بعدم جدوى شفاعة الأصنام كما زعموا وتأملوا. والقيامة وإن طال زمانها في تقدير الناس إلا أنها آتية من غير أي شك فيها، وكل آت قريب، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وقال جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء 21/ 1] وقال سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] وقال عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً، سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك 67/ 27] . ثم أعلمهم تعالى بشمول علمه وضبطه ودقته، فقال: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي إن الله يعلم النظرة الخائنة التي ينظرها العبد إلى المحرّم، ويعلم ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة، حتى حديث النفس أو خواطر النفس. وهذا يعني أن علم الله تام محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها، ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حق الحياء، ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة، وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر، أي مضمرات القلوب. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمرّ به وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطّلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها «1» .

_ (1) رواه ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر.

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي والله يحكم بالحكم العادل، فيجازي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة، ويجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي والذين يعبدونه من الأصنام من غير الله، لا يتمكنون من القضاء بشيء، أي فلا يحكمون بشيء، ولا يملكون شيئا، لأنهم لا يعلمون شيئا، ولا يقدرون على شيء، فالذي تجب عبادته هو القادر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فإن الله سميع لأقوال خلقه، بصير بأفعالهم، فيجازيهم عليه يوم القيامة. وهذا وعيد لهم على أقوالهم وأفعالهم وأنه يعاقبهم عليه، وتصريح بعدم جدوى عبادة الأصنام والأوثان والأنداد وغيرها من المعبودات، وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضي أو لا يقضي. هذه موجبات التخويف من عذاب الآخرة، ثم خوفهم الله تعالى بعذاب الدنيا، فقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي أرشدهم الله تعالى إلى الاعتبار بغيرهم، والمعنى: أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد، فينظروا مآل حال الذين مضوا من الكفار المكذبين بالأنبياء، وما حل بهم من العذاب والنكال، مع أنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من كفار مكة وأمثالهم، وأبقى آثارا في الأرض، بما عمروا فيها من الحصون والقصور، وأقاموا من المدن والحضارات. فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وما كان لهم من دافع يدفع عنهم العذاب، وللكافرين أمثالها. وهذا تحذير واضح للكافرين في كل زمان بما حل بالأمم الغابرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير بعض الآية: قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف 46/ 26] وقال سبحانه: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الروم 30/ 9] . ثم ذكر الله تعالى علة إهلاكهم وتدميرهم، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَكَفَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي ذلك الأخذ والإهلاك بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق، فكفروا بما جاءوهم به، فأهلكهم الله ودمّر عليهم، إن الله ذو قوة عظيمة وبطش شديد، يفعل كل ما يريده، لا يعجزه شيء، وعقابه أليم شديد وجيع لكل من عصاه، فيا أيها الكفار والعصاة اعتبروا واتعظوا بغيركم، فالسعيد من وعظ بغيره. فقه الحياة أو الأحكام: موضوع الآيات شيئان: التخويف من عذاب الآخرة، والتحذير من عذاب الدنيا. أما عذاب الآخرة: فقد ذكر الله تعالى ثمانية أسباب موجبة للخوف وهي «1» : 1- أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من العذاب لمن أذنب. 2- أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن زال القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة. 3- لا يمكنهم أن ينطقوا لشدة ما اعتراهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب القلق والاضطراب. 4- ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع يطاع فيهم، فتقبل شفاعته.

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 52

قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان:

5- أنه سبحانه عالم بكل شيء صغير أو كبير، دقيق أو جليل، وهذا يوجب شدة الخوف. 6- الله يقضي بالحق المطلق والعدل التام، وهذا أيضا يوجب عظم الخوف. 7- لا فائدة مما عول عليه المشركون من شفاعة الأصنام، فهم لا يقضون بشيء. 8- إن الله يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ونحوها من المعبودات الباطلة، ويبصر خضوعهم وسجودهم لها. وأما عذاب الدنيا: فأمام هؤلاء الكفار المكذبين لرسول الله محمد ص نماذج وألوان من عذاب الأمم القديمة المكذبة رسلها، وقد نزل بهم العذاب لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل، وهؤلاء الحاضرون يشاهدون آثار دمارهم وهلاكهم، والله يحذر الكفار قوم الرسول من مثل أفعال أولئك الماضين، وقد ختم الكلام بقوله: إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ مبالغة في التحذير والتخويف. قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان - 1- تعذيب بني إسرائيل والتهديد بقتل موسى [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)

البلاغة:

البلاغة: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فيه وضع الظاهر وهو الْكافِرِينَ موضع الضمير أي كيدهم لتعميم الحكم والدلالة على العلة وهي الكفر. كَذَّابٌ صيغة مبالغة. المفردات اللغوية: بِآياتِنا أي المعجزات وَسُلْطانٍ حجة وبرهان مُبِينٍ ظاهر واضح، والعطف بين الآيات والسلطان لتغاير الوصفين فِرْعَوْنَ ملك مصر وَهامانَ وزير فرعون وَقارُونَ كان ثريا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعنون موسى عليه السلام، وفيه تسلية لرسول الله ص وبيان عاقبة من هو أشد بطشا من الذين كانوا من قبلهم وأقربهم زمانا. بِالْحَقِّ بالصدق قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ استبقوهم أحياء، والمعنى: أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من قتل الأولاد الذكور وإبقاء النساء أحياء للخدمة وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع. وَقالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فيه غاية الكيد والحقد والتجلد وعدم المبالاة بدعاء ربه ليمنعه منه إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام. أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي ما يفسد دنياكم من القتل والتجارب وإثارة الفتن إن لم يقدر أن يبطل دينكم وَقالَ مُوسى لقومه لما سمع كلام فرعون إِنِّي عُذْتُ استعذت واستجرت واستعنت، وبدأ ب «إن» للتأكيد والدلالة على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ خص اسم الرب، لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وقوله: وَرَبِّكُمْ للحث على الاقتداء به، فيتعوذوا بالله مثله ويعتصموا بالتوكل عليه مثله

المناسبة:

مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لم يسم فرعون، وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة بحيث تشمل فرعون وغيره من الجبابرة، ولاستخدام طريقة التعريض التي هي أبلغ. والتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ذكر هذا لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، استكمل وصف القسوة والجرأة على الله وعلى عباده. المناسبة: لما سلّى الله تعالى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضا بذكر قصة موسى عليه السلام التي دلت على أنه مع قوة معجزاته، كذبه فرعون وهامان وقارون، وقالوا عنه: هو ساحر كذاب. ولكن في النهاية انتصر عليهم، وتلك بشارة لنبينا ص بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام. التفسير والبيان: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي تالله لقد أرسلنا موسى بالمعجزات التي هي الآيات التسع كاليد والعصا، وبحجة بينة واضحة وبرهان قوي. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ، فَقالُوا: ساحِرٌ كَذَّابٌ أرسلنا موسى إلى فرعون ملك مصر، وهامان وزيره، وقارون أغنى أهل زمانه، فقالوا عنه: إنه ساحر مخادع مجنون مموه، كذاب فيما زعم أن الله أرسله، كما قال تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات 51/ 52- 53] . وخص هؤلاء الطغاة بالذكر، لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، وغيرهم تابع لهم. وشأن الجبابرة عدم الإصغاء للحجة والمنطق واللجوء إلى القوة، كما قال

تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم، وهي معجزاته الظاهرة الواضحة. قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي قال أولئك الطغاة: عودوا إلى قتل الذكور وترك النساء، لئلا يكثر جمعهم، ولكي يضعف شأنهم. وهذه هي المرة الثانية بالأمر بذلك بعد بعثة موسى، وكانت المرة الأولى قبل ولادة موسى، لأجل تفادي وجوده، ولإذلال الشعب الإسرائيلي، ولتقليل عددهم، لئلا ينصروا عليهم. ولكن الله تعالى أحبط كيدهم وأفشل خطتهم كما قال: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي وما مكرهم وقصدهم تقليل عدد بني إسرائيل إلا في ضياع وذهاب سدى، لم يحقق فائدة لهم، فإنهم لما باشروا قتلهم أولا، فما أفادهم، وعاش موسى، فكذلك لا يفيدهم تجديد مأساة القتل الجماعي، وسيكون النصر للمؤمنين. ولكنه زاد في هذه المرة العزم على قتل موسى، فقال: وَقالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى، وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي قال فرعون لقومه: دعوني أقتل موسى، وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، ولا أبالي به. وهذا في الظاهر استهانة بدعاء رب موسى، وفي الباطن كان يرتعد من دعائه، فقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه. وسبب القتل ما قال تعالى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي إني أخشى أن يغير منهاج دينكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام، ويدخلكم في

فقه الحياة أو الأحكام:

دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو أن يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، فتكثر الخصومات والمنازعات، وتثار القلاقل والاضطرابات. والمراد: إظهار الخوف من تبديل الدين أو إفساد أمر الدنيا. وإذا كان فرعون اعتز بجبروته وقوته، فإن موسى عليه السلام اعتصم بالله، فقال: وَقالَ مُوسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ، لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ أي لما بلغ موسى قول فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى.. قال: إني استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله من كل متعاظم متعال مستكبر عن الإذعان للحق، كافر مجرم لا يؤمن بالبعث والحساب والجزاء. وقد استعاذ موسى ممن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء، لأنهما عنوان الجرأة على الله وعلى عباده. وقال موسى بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ لحث قومه على مشاركته في الاستعاذة بالله من شر فرعون وملئه. وقد ثبت في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله ص كان إذا خاف قوما قال: «اللهم انا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- يشترك الأنبياء في أمور هي تأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وإعراض أقوامهم عنهم، واتهامهم بالكذب والتمويه والسحر، والتهديد بالطرد والتشريد أو القتل والتعذيب، ولكن النصر في النهاية للأنبياء والمؤمنين.

2- وهذا المنهج هو ما عرف عن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، أيده الله بالمعجزات وهي الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء 17/ 101] . وكان ابتلاء الله موسى برؤوس الطغيان والكبرياء وهم فرعون الملك، وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال والكنوز الذي اتفق مع فرعون وهامان في الكفر والتكذيب، فلما عجزوا عن معارضته بالحجة، وأبوا الإذعان للمنطق، وصفوا المعجزات بالسحر، ووصفوه بالكذب. 3- وزاد طغيان فرعون، وامتد إلى القتل الجماعي لبني إسرائيل، وإبادة الأولاد الذكور بعد الولادة، وإبقاء النساء أحياء للإذلال والخدمة والإهانة، لئلا ينشأ الأطفال على دين موسى، فيقوى بهم، وتلك عودة منه إلى عادته القديمة بارتكاب هذه المنكرات. قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى، أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم، فيمتنع الإنسان من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم، فيعتضدوا بالذكور من أولادهم، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع والقمّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله تعالى. 4- تحقق نصر الله تعالى لموسى عليه السلام، وأحبط مكائد فرعون وقومه، وجعل مكرهم في خسران وضياع، فإن الناس لا يمتنعون من الإيمان، وإن فعل بهم مثلما فعل فرعون أو أشد. 5- عزم فرعون أيضا على قتل موسى غير مبال ببطش الله وقوته، وأبان لقومه السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يؤدي إلى أحد أمرين أو كليهما: إما فساد الدين أو فساد الدنيا. والمراد بالدين: هو عبادة فرعون والأصنام،

والمقصود بفساد الدنيا: إيقاع الخصومات، وإثارة الفتن والقلاقل والاضطرابات. 6- لما هدد فرعون بالقتل، لجأ موسى إلى ربه مستعيذا به من كل متعظم عن الإيمان، ولا يؤمن بالآخرة. 7- استنبط الرازي من كلمات موسى ودعائه ثماني فوائد هي بإيجاز: الأولى- إن قول موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مستخدما لفظة إِنِّي الدالة على التأكيد، للدلالة على أن الطريق المؤكد المفيد في دفع الشرور والآفات عن النفس، الاعتماد على الله، والتوكل على عصمة الله تعالى. الثانية- الاستعاذة بالله تصون الإنسان من شياطين الإنس والجن، فإذا قال المسلم: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن، فكذلك إذا قال المسلم: أعوذ بالله، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات. الثالثة- قوله بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ: لما كان المولى ليس إلا الله، وجب ألا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى، فهو المربي والحافظ. الرابعة- قوله وَرَبِّكُمْ فيه بعث أو حث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة بالله. الخامسة- لم يذكر موسى فرعون في دعائه، رعاية لحق تربيته له في الصغر. السادسة- بالرغم من عزم فرعون على قتل موسى، فلا فائدة في الدعاء عليه بعينه، بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفا بصفة التكبر والكفر بالبعث، حتى يشمل كل من كان عدوا ظاهرا أو خفيا.

- 2 - قصة مؤمن آل فرعون ودفاعه عن موسى عليه السلام [سورة غافر (40) الآيات 28 إلى 35] :

السابعة- إن الجرأة على إيذاء الناس أمران: أحدهما- كون الإنسان متكبرا قاسي القلب، والثاني- كونه منكرا للبعث والقيامة، وقد اتصف فرعون بالأمرين. الثامنة- أجاب موسى عن استهزاء فرعون بقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ: بأن ما ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين الحق، وأنا أدعو ربي، وأطلب منه أن يدفع شرك عني، وسترى كيف أن ربي يقهرك، وكيف يسلطني عليك. وهو رد قولي وفعلي. الخلاصة من هذا الدعاء: أن طريق دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم هو الاستعاذة بالله، والرجوع إلى حفظ الله تعالى. - 2- قصة مؤمن آل فرعون ودفاعه عن موسى عليه السلام [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 35] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

الإعراب:

الإعراب: أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ منصوب بنزع الخافض، أي بأن يقول. وَإِنْ يَكُ كاذِباً حذفت النون من يَكُ لكثرة الاستعمال، وهو رأي جمهور النحاة، أو تشبيها لها بنون الإعراب في نحو «يضربون» وهو قول المبرّد، والوجه الأول أوجه. ظاهِرِينَ حال. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ مِثْلَ: بدل منصوب من مِثْلَ الأول في قوله تعالى: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يَوْمَ بدل منصوب من يَوْمَ الأول في قوله تعالى: يَوْمَ التَّنادِ. الَّذِينَ يُجادِلُونَ.. الَّذِينَ: بدل منصوب من مِنْ في قوله تعالى: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ويجوز جعله خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين. ورأى السيوطي أن الَّذِينَ مبتدأ، وكَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ.. هو الخبر. البلاغة: كاذِباً وصادِقاً بينهما طباق. أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا.. استفهام على سبيل الإنكار. كَذَّابٌ جَبَّارٍ من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ من أقاربه، فهو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته، وهو الظاهر، وقيل: إنه رجل إسرائيلي أو غريب موحد كان يجاملهم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أتقصدون قتله؟ أَنْ يَقُولَ لأن يقول: رَبِّيَ اللَّهُ وحده، وذلك من غير روية وتأمل في أمره وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والبراهين الواضحات على وحدانية الله والدالة على صدقه مِنْ رَبِّكُمْ نسب الرب إليهم استدراجا لهم إلى الاعتراف به، ثم احتج عليهم بقوله: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ: لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فلا حاجة إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعضه. قال البيضاوي: وفيه مبالغة في التحذير، وإظهار للإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذبا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ مشرك مفتر، فالمسرف: المقيم على المعاصي المكثر منها، والكذاب: المفتري. وهو احتجاج ثالث من وجهين: أحدهما- أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات، ولما عضده بتلك المعجزات، وثانيهما- أن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. وفيه تعريض بفرعون وتكذيب ربوبيته. ظاهِرِينَ غالبين عالين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ من يمنعنا من عذاب الله إن قتلتم أولياءه؟ أي لا ناصر لنا، وإنما أدرج نفسه في ضميري الفعلين لأنه كان قريبا لهم، وليريه أنه معهم قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي، وهو قتل موسى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أدلكم إلا على طريق الصواب. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ في تكذيبه والتعرض له مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي مثل أيام الأمم الماضية، يعني وقائعهم، والْأَحْزابِ الأقوام الذين تحزّبوا على أنبيائهم وكذبوهم، وكلمة يَوْمِ مفرد مضاف فيعم، فقد أغنى جمع الأحزاب عن جمع اليوم مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ... أي مثل عادة وجزاء ما كانوا عليه من الكفر وإيذاء الرسل، بتعذيبهم في الدنيا واستئصالهم وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام، وهو أبلغ من قوله: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لأن المنفي فيه عدم تعلق إرادته بالظلم. يَوْمَ التَّنادِ يوم القيامة، ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة، ويكثر فيه نداء أصحاب الجنة وأصحاب النار وبالعكس، فينادى بالسعادة لأهل الجنة، وبالشقاوة لأهل النار وغير ذلك

المناسبة:

مُدْبِرِينَ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ من عذابه مِنْ عاصِمٍ مانع يعصمكم من عذابه. وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ يوسف بن يعقوب عليه السلام، من قبل موسى عليه السلام بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات الدالة على صدقه هَلَكَ مات يوسف لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا فيه تكذيب رسالته في حياته والكفر بها، وتكذيب رسالة من بعده كَذلِكَ مثل إضلالكم يُضِلُّ اللَّهُ في العصيان مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في معاصي الله مستكثر منها مُرْتابٌ شاك فيما شهدت به البينات على وحدانية الله ووعده ووعيده. سُلْطانٍ حجة قوية وبرهان ظاهر مَقْتاً المقت: أشد البغض كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ أي مثل إضلالهم يطبع (يختم) الله بالضلال على قلوب المتجبرين، ومتى تكبر القلب تكبر صاحبه، وبالعكس. وقرئ بتنوين قَلْبِ وكُلِّ على القراءتين يراد به عموم الضلال جميع القلب، لا عموم القلب. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع شر فرعون الذي عزم على قتله، على الاستعاذة بالله، أبان تعالى أنه قيّض له رجلا من آل فرعون يدافع عنه، لتسكين الفتنة وإزالة الشر. واشتمل دفاعه على أمور ثلاثة كبري هي: الأول- استنكار قتل موسى المؤمن بربه، المستضعف مع قومه في مواجهة قوم فرعون. الثاني- تحذيرهم بأس الله في الدنيا والآخرة في المكذبين للرسل وهم جماعات الأحزاب كقوم نوح وعاد وثمود. الثالث- تذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليه السلام من تكذيب رسالته ورسالة من بعده.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ أي قال رجل من أقارب فرعون ورجال دولته: كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أن قال: الله ربي، والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والأدلة الدالة على نبوته وصحة رسالته وصدقه؟ فهذا لا يستدعي القتل، فتوقف فرعون عن قتله، بسبب صدقه في الدفاع. قال ابن عباس رضي الله عنهما- فيما رواه ابن أبي حاتم-: «لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل، وامرأة فرعون، والذي قال: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص 28/ 20] . والحق أنه كان لهذه الكلمة: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ تأثير عظيم في نفس فرعون، وقد كررها أبو بكر في محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله ص، أخرج البخاري في صحيحة عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ص، قال: بينا رسول الله ص يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله ص، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي ص، ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟. وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أيها الناس، أخبروني من أشجع الناس؟ قال: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس، قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله ص، وأخذته قريش، فهذا

يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا!! قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع- أي علي- بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: أنشدكم، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه، وبذل ماله ودمه» . ثم أورد مؤمن آل فرعون ست حجج أخرى مفصلة لتأييد رأيه، فقال تعالى: 1- وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي إن كان هذا الرجل كاذبا في دعوته، كان وبال كذبه وإثمه عليه يجازيه الله في الدنيا والآخرة، فاتركوه، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقوبة الدنيوية والأخروية، فاتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه. وإنما قال: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلأنه ص كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا أصابهم عذاب الدنيا، فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به. والمراد أنه إذا لم يصبكم كل العذاب المتوعد به، فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفي بعض ذلك هلاككم. 2- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي لو كان موسى مسرفا في قوله، متجاوزا حده، كذابا في دعواه النبوة، لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، ولو كان كاذبا على الله، خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.

3- يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ أي يا قومي، قد أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع، وأنتم الغالبون العالون على بني إسرائيل في أرض مصر، فلكم الكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله وتصديق رسوله ص، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله ص، فمن الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟ ولا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء. وإنما قال: يَنْصُرُنا وجاءَنا لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم، وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه، وأنه حريص على دفع الشر عنهم، ليتأثروا بنصحه. فرد فرعون بنصيحة فيها مراوغة، مظهرا أنه أخلص نصحا لقومه من هذا الرجل، فقال تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي قال فرعون مجيبا الرجل المؤمن: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، وما أدلكم وأدعوكم إلا إلى طريق الصواب الذي يؤدي إلى الفوز والنجاة والغلبة وهو قتل موسى. وقد كذب فرعون وافترى في قوله: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة، وكذب أيضا في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، ولكن قومه مع ذلك قد أطاعوه واتبعوه بسبب سلطانه ونفوذه، قال تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود 11/ 97] وقال سبحانه: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه 20/ 97] جاء في الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن معقل بن يسار: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت، وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام» .

4- وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي لقد حذر هذا الرجل المؤمن الصالح قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، فبدأ بتخويف العذاب الدنيوي، فقال: يا قومي، إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثلما أصاب الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوا رسلهم من الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط، فقد حل بهم بأس الله، ولم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم، ولا عاصما يحميهم. فقوله مِثْلَ دَأْبِ.. أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي لا يريد الله إلحاق ظلم بعباده، فلم يهلكهم بغير جرم، إنما أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره. ثم خوفهم العذاب الأخروي، فقال: 5- وَيا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ويا قومي، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضا مستغيثا به من الأهوال، أو حين ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، كما قال تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قالُوا: نَعَمْ [الأعراف 7/ 44] وقال سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ [الأعراف 7/ 48] . وقال عز وجل: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف 7/ 50] . وحين تفرّون هاربين من النار، أو منصرفين عن الموقف إلى النار، لا تجدون واقيا ولا مانعا ولا عاصما يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه، وهذا تأكيد للتهديد.

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من أضله الله، فلم يوفقه ولم يلهمه رشده، فلا هادي له غيره يهديه إلى الصواب والنجاة. 6- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي أذكركم بأن تكذيب الرسل موروث لديكم من الآباء والأجداد، فلقد بعث الله لكم أي لآبائكم يا أهل مصر رسولا من قبل موسى عليه السلام هو يوسف بن يعقوب، وجاءكم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه، والآيات الواضحات المبينة لدين الله وشرائعه، فكذبتموه وكذبتم من جاء بعده من الرسل، وما زلتم في شك من البينات ولم تؤمنوا به، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده، فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، مما يدل على توارث التكذيب، واستمرار العناد في مواجهة الرسل، والكفر برسالاتهم. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي مثل هذا الضلال وسوء الحال، يكون حال من يضله الله لإسرافه في المعاصي والاستكثار منها، وارتياب قلبه في دين الله، وشكه في وحدانية الله ووعده ووعيده. وصفة هؤلاء المسرفين المرتابين ما حكاه تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن أولئك المسرفين المرتابين هم الذين يجادلون في آيات الله ليبطلوها، بغير حجة واضحة ولا دليل بيّن، ويحاربون الحق بالباطل، كبر ذلك الجدل بغضا عند الله والمؤمنين، لأنه جدال بالباطل لا أساس له، أما مقت الله فهو تعذيبه العصاة، وأما مقت المؤمنين فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين المسرفين، فكذلك يطبع ويختم على جميع قلوب المتكبرين الجبارين، الذين يتكبرون على اتباع الحق، ويتجبرون على الضعفاء بالإذلال والتسخير، والإهانة والقتل بغير حق. قال الشعبي وغيره: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين. وقال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق. وقال مقاتل: مُتَكَبِّرٍ عن قبول التوحيد جَبَّارٍ في غير حق. فهو في الأول يعادي الله، وفي الثاني يقسو على خلق الله. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لقد كان دفاع هذا الرجل المؤمن الصالح من آل فرعون في مجلس فرعون وسلطانه في غاية القوة والجرأة والعقل والمنطق. 2- لا مسوغ لإنسان مهما كان أن يعتدي على الحرية الدينية ويصادرها، فكيف يصح أن يقتل رجل لا جرم له إلا أنه يقول: ربي الله؟ 3- لا عذر للناس في تكذيب الرسل والكفر بهم بعد أن يأتوهم بالمعجزات الباهرات والأدلة الواضحات على صدقهم. 4- عجبا من مكذبي الرسل فإن منطقهم أعوج وتفكيرهم أخرق، فإن الرسول إذا كان كاذبا فعليه وزر كذبه ولا يتضرر به من لا يتبعه، وإن كان صادقا نفعهم صدقه، وسلموا من الآفات وألوان العذاب الذي يهدد به. وقد استخدم المؤمن هذا الأسلوب: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ.. لا لشك منه في صحة رسالة موسى وصدقه، ولكن تلطفا في الدفاع، وبعدا عن الأذى، وإظهار للتجرد والموضوعية.

5- إن الله تعالى لا يهدي أبدا إلى الحق أهل الإسراف في المعاصي والكذب، وإنه تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا كذابا، وهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين. 6- إن من المستغرب حقا أن يخشى أصحاب السلطان والقهر المعتمدين على الجند أو الجيش أو العسكر المدجج بأنواع الأسلحة الفتاكة، من الأنبياء والرسل والقادة المصلحين الذين ليس لهم إلا البيان القوي، والحجة الهادفة، والكلمة المؤثرة. وما ذاك إلا لأن الحق فوق القوة وأثبت منها وأنفذ، لذا تهتز العروش بصوت الحق، ولا يتأثر أصحابها ببأس الأقوياء، وقوة الشجعان. فهذا فرعون الطاغية ملك مصر يحذر رجلا عاديا هو موسى عليه السلام لا سند له من قوة مادية أو سلاح أو عسكر. 7- كذلك لقد خوف هذا الرجل المؤمن قومه بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضا بهلاك الآخرة بقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فاهتز قلب فرعون. 8- زاد هذا المؤمن في الوعظ والتخويف، وأفصح عن إيمانه، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم، بقوله الحق: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا [غافر 40/ 45] وصرح بالخوف من عذاب يوم القيامة- يوم التناد، حيث ينادي الناس بعضهم بعضا للاستغاثة، وينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار. 9- وذكّرهم أيضا بالماضي السحيق، حيث جاء أسلافهم نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وذكّرهم قديم عتوهم على الأنبياء، فجاءهم يوسف بالشواهد القاطعة الدالة على صدقه، فكفروا به وكذبوه في حياته، وكفروا بالأنبياء من بعده، فأضلهم الله بعدئذ عن الحق والصواب.

10- ثم ختم المؤمن كلامه بالتحذير من بقاء قومه بالشك والإسراف، بسبب الجدال في حجج الله الظاهرة بغير حجة وبرهان، إما بناء على التقليد المجرد، وإما بناء على شبهات واهية، وهؤلاء المجادلون يغضب الله عليهم ويعذبهم في جهنم، ويبغضهم المؤمنون أشد البغض، وتصبح قلوبهم مغلقة لا ينفذ إليها الخير. 11- ما أروع تلك الكلمات التي كان مؤمن آل فرعون يختم بها حججه وبراهينه!! فهي كما حكاها تعالى مع إقرارها دستور الحق، وسنة الله، وسبيل إقامة العدل، وأساس الحساب في الدار الآخرة، وتلك هي: أ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض، أو إلى أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى، كذاب في إقدامه على ادعاء الألوهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يدمره ويهدم بنيانه. ب- وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني أن تدمير الأحزاب الذين تحزنوا على الرسل، فكذبوهم وكفروا بهم، كان عدلا، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء. ج- وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تنبيه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم بعد أن أكد التهديد بقوله: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ. د- كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي مثل ذلك الضلال في الآباء والأجداد يضل الله من هو مشرك، شاكّ في وحدانية الله تعالى، مثل قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم 14/ 27] وقول سبحانه: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة 2/ 26] .

- 3 - بحث فرعون عن إله موسى استهزاء به وإنكارا لرسالته [سورة غافر (40) الآيات 36 إلى 37] :

هـ- كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين في آيات الله بالباطل من غير حجة ولا برهان، كذلك يختم الله على جميع قلوب المتكبرين الجبابرة، حتى لا تعقل الرشاد ولا تقبل الحق. - 3- بحث فرعون عن إله موسى استهزاء به وإنكارا لرسالته [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) الإعراب: أَسْبابَ السَّماواتِ بدل من الْأَسْبابَ الأولى. فَأَطَّلِعَ بالنصب جواب لَعَلِّي بالفاء، بتقدير «أن» ، ويقرأ بالرفع عطفا على لفظ أَبْلُغُ. المفردات اللغوية: فِرْعَوْنُ ملك القبط في مصر. يا هامانُ وزير فرعون. صَرْحاً بناء ضخما عاليا كالأبراج العالية اليوم. الْأَسْبابَ الطرق الموصلة إلى المطلوب، جمع سبب: وهو ما يتوصل به إلى شيء كحبل وسلّم وطريق، والمراد هنا: الأبواب. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أنظر إليه، متأثرا بدين المشبهة الذين يعتقدون أن الله في السماء لا أنه سمع ذلك من موسى عليه السلام، قال البيضاوي: ولعله أراد أن يبني له مرصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إيّاه، أي موسى. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً لأظن موسى كاذبا في دعوى الرسالة أو في ادّعاء إله غيري، قال

المناسبة:

فرعون ذلك تمويها. وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ أي ومثل ذلك التزيين، زين له الشرك والتكذيب. وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ صدّ عن سبيل الرشاد وطريق الهدى. تَبابٍ خسار وهلاك، ومنه قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [اللهب 111/ 1] وقوله سبحانه: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود 11/ 101] . المناسبة: بعد وصف فرعون بأنه متكبر جبار، أخبر الله تعالى عن عتوه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى عليه السلام، حتى بلغ به الأمر أن أمر وزيره ببناء قصر عال منيف شاهق من الآجر، ليصعد به إلى السماء، للاطلاع على إله موسى، قاصدا بذلك التحدي والتمويه، والاستهزاء بموسى وإنكار رسالته. التفسير والبيان: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً، لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً أي قال فرعون الملك لوزيره هامان بعد سماع دفاع الرجل المؤمن عن موسى: يا هامان، ابن لي قصرا مشيدا منيفا عاليا، لعلي أصل إلى أبواب السماء وطرقها، فإذا وصلت إليها بحثت عن إله موسى. وهو لا يريد بذلك إلا الاستهزاء منه، وإنكار رسالته. ثم أكّد ذلك بقوله: وإني لأظن موسى كاذبا في ادّعائه بأن له إلها غيري، وأنه أرسله إلينا. وقد قصد بذلك التمويه والتلبيس على قومه، من أجل إبقائهم في الكفر، واعتقادهم بأنه هو الإله، والاستخفاف بعقولهم، وإيهامهم بما يريد. وهذا تصريح من فرعون بتكذيب موسى عليه السلام في أن الله أرسله إليه، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا

فقه الحياة أو الأحكام:

فِي تَبابٍ أي ومثل ذلك التزيين المفرط في الحماقة والبلادة والغباوة، زيّن لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه، من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي، واستمر على الطغيان، أي زيّن له الشيطان عمله السيء، فصده عن سبيل الهدى والرشاد، وحجبه عن طريق الحق والعدل والسداد، وما كان كيده واحتياله وعمله الذي يوهم به الناس إلا في خسار وضياع مال، لذهاب نفقته سدى دون التوصل إلى شيء مما أراد. والخلاصة: أن فعل فرعون وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة كفرهم وضلالهم وتكذيبهم الهلاك والخسران، وأن تدبير فرعون الذي دبّره ليصرف الناس عن الإيمان بموسى عليه السلام مبدّد ضائع لا فائدة فيه. فقه الحياة أو الأحكام: تدلّ هذه الآيات على نوع من التمويه والمكر والخداع الذي لجأ إليه فرعون، لإنكار ألوهية الله ووجوده، وتكذيب رسالة موسى عليه السلام، لما خاف أن يتمكن كلام الرجل المؤمن في قلوب القوم، وقد أدرك قوة حجته، وأصالة فكره، وسلامة منطقه. أوهم الناس أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن نجح تحقق غرصه، وإن خاب ثبّتهم على دينهم، فأمر هامان ببناء الصّرح. ونحن نثق بوجود هذا الوزير في عهد فرعون، وإن لم يعرف هذا الاسم في تاريخ الفراعنة، لأن كلام الله تعالى حجة قطعية. وأغلب المفسرين الظاهريين على أن فرعون قصد فعلا بناء الصرح ليصعد إلى السماء، فيرى إله موسى إن كان موجودا، وإلا أخبر قومه بعدم وجوده، وأنه هو الإله والرّب الأعلى. واستبعد الرازي على فرعون الذكي الحاكم القوي لجوءه إلى

مثل ذلك، لأن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي. والراجح أن فرعون كان من الدهرية، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة تشغل الناس في نفي الإله الخالق الصانع. وكأنه يقول: لو كان إله موسى موجودا لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، وإذا لم نره في الأرض، فهو في السماء، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلّم، فيجب بناء صرح للوصول إليه. وأبطل الرازي هذه الشبهة، لأن طرق العلم بالأشياء ثلاثة: الحس، والخبر، والنظر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد هو الحس، انتفاء المطلوب، وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق إلى معرفته تعالى إنما هو الحجة والدليل، كما قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء 26/ 26] ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشعراء 26/ 28] إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل «1» . ولقد توهم فرعون أن الله في السماء، فهذا دين المشبّهة، ولعله كان على دينهم، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه، لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام. وربما فهم خطأ من قول موسى عليه السلام: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنه ربّ السموات بمعنى كونه فيها، كما يقال: ربّ الدار بمعنى كونه ساكنا فيها. وأما عقيدتنا فهي كما أخبر الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 84] . ويتلخص أمر فرعون في أن الشيطان زيّن له عمله وهو الشرك والتكذيب، فصده عن سبيل الحق والرشاد، وأصبح كيده واحتياله في دمار وخسران وضلال.

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 65- 66

- 4 - متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه [سورة غافر (40) الآيات 38 إلى 46] :

- 4- متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 46] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) الإعراب: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ.. الجملة بدل أو عطف بيان. والدعاء كالهداية في التعدية ب «إلى» واللام. لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ.. فيه محذوف، أي ليس له إجابة دعوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

البلاغة:

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها النَّارُ: إما بدل مرفوع من قوله تعالى: سُوءُ الْعَذابِ وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو النار، وإما مبتدأ، وخبره: يُعْرَضُونَ عَلَيْها. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ آلَ فِرْعَوْنَ: مفعول به لفعل أَدْخِلُوا وقرئ بوصل همزة أَدْخِلُوا وضمها وضم الخاء، فيكون آلَ فِرْعَوْنَ منادى مضاف، أي ادخلوا يا آل فرعون. البلاغة: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها استعارة تمثيلية، حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع، وجعل النار كالطالب الراغب في الكفار. غُدُوًّا وعَشِيًّا بينهما طباق. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ بينهما ما يسمى بالمقابلة في علم البديع. وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ فيها توافق أواخر الآيات مع السجع البديع، والبيان الرائع الذي يهز أعماق النفس الإنسانية. المفردات اللغوية: اتَّبِعُونِ بإثبات الياء: اتبعوني. أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أدلكم على طريق الصواب والسداد، والرَّشادِ: وهو ضدّ الغي والضلال، وهو السبيل الذي يصل سالكه إلى المقصود الأسمى والنجاة. وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. مَتاعٌ تمتع يسير، لسرعة زوالها، يستمتع به زمنا قليلا ثم يزول. دارُ الْقَرارِ دار البقاء والدوام والخلود. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلا من الله، وفيه دليل على أن الجنايات في الأبدان والأموال تغرم بمثلها. بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير ولا تقنين ولا موازنة بالعمل، فهو رزق واسع لا حدود له، فضلا من الله ورحمة. وقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ قيد أو شرط في اعتبار العمل، وأن ثوابه أعلى من ذلك. والتعبير في جانب الثواب على العمل الصالح مع الإيمان بالجملة الاسمية. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ للدلالة على الثبوت والاستمرار، وتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة.

المناسبة:

وَيا قَوْمِ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ.. أي إلى الإيمان بالله الذي يؤدي إلى النجاة، وقد كرر نداءهم إيقاظا لهم من الغفلة، واهتماما بهم، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه من إدبار وإعراض. وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ إلى الكفر وعبادة الأوثان الموجبة لدخول النار. وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أشرك بما لا وجود له، ولم يقم على ربوبيته دليل ولا برهان. وفيه إيماء بأن الألوهية لا بدّ لها من برهان واعتقاد بيقين. لا جَرَمَ أي حق، وفاعله: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.. لأعبده لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ليس له إجابة دعوة لمن يدعو إليه، والمعنى: حقّ عدم استحقاق آلهتكم العبادة، لأنها جمادات، ولأنّها ليس لها دعوة مستجابة. مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ مرجعنا بالموت إلى لقاء الله. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحدّ، الذين يغلب شرهم على خيرهم، الواقعين في الضلالة والطغيان، كالإشراك والكفر وسفك الدماء. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها. فَسَتَذْكُرُونَ تتذكرون عند معاينة العذاب. ما أَقُولُ لَكُمْ من النصيحة. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرسهم. وكان هذا جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا حماه الله وحفظه من شدائد مكرهم الذي مكروا به من القتل. وَحاقَ نزل. بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون وقومه. سُوءُ الْعَذابِ بالغرق في الدنيا والموت، والنار في الآخرة. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها مثل يصلونها، أي يحرقون بها، فإن عرضهم على النار: إحراقهم بها، مأخوذ من قولهم: عرض الحاكم الأسارى على السيف: إذا قتلهم به. غُدُوًّا وَعَشِيًّا صباحا ومساء، وذكر هذين الوقتين يفيد التأبيد والدوام ما دامت الدنيا، فإذا قامت القيامة قيل لهم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنم، فإنه أشدّ مما كانوا فيه، أو أشدّ عذاب جهنم. والمعنى: أن أرواح الكفار وهم في القبور تعرض على النار صباح مساء، أي تحرق بها، مما يدلّ على بقاء النفس، وثبوت عذاب القبر، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: «أن أرواحهم في أجواف طير سود، تعرض على النار، بكرة وعشيا إلى يوم القيامة» وقد يراد بهذين الوقتين التخصيص، فيعذبون بالنار فيهما، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم: فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفّس عنهم. المناسبة: هذا بقية كلام مؤمن آل فرعون، فإنه أعاد عليهم النصح مرة أخرى حينما رآهم يتمادون في كفرهم وبغيهم، ونادى قومه ثلاث مرات، في المرة الأولى دعاهم

التفسير والبيان:

في الآيات السابقة إلى قبول الدين الذي دعا إليه موسى، على سبيل الإجمال، وفي المرتين الأخريين على سبيل التفصيل. فدعاهم إلى الإيمان بالله سبحانه طريق الرشاد، ثم حذّرهم من الاغترار بالدنيا، وحثّهم على العمل للآخرة لدوامها، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة، وبين دعوتهم له إلى عبادة الأصنام طريق النار. ثم أخبر سبحانه عن وقايته وعصمته من السوء الذي دبّروه له، وإغراق آل فرعون، وإدخالهم في جهنم يوم القيامة. التفسير والبيان: وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ قال مؤمن آل فرعون يعظ قومه: يا قوم، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، أدلكم على طريق الرشاد والخير والسداد، وهو اتباع دين الله الذي جاء به موسى. وفيه تعريض بأن سبيل فرعون وآله سبيل الغي والضلال والفساد. ثم حذرهم من الافتتان بنعيم الدنيا والاغترار بزخارفها، فقال: يا قَوْمِ، إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ أي يا قوم، ما هذه الحياة الدنيوية إلا مجرد متاع يستمتع به قليلا ثم يزول وينتهي بالموت، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود، فهي دائمة باقية لا زوال عنها، ولا انتقال منها، والناس إما في النعيم وإما في الجحيم، ولا ثالث غيرهما، فالسعيد من سعى إلى النعيم، والشقي من سعى إلى الجحيم، لأن النعيم فيها دائم، والعذاب فيها دائم. وهذا نعى للدنيا الزائلة الفانية عما قريب، وبشارة بالآخرة الدائمة الباقية.

ثم أبان تعالى طريق تقسيم العباد وكيفية المجازاة في الآخرة، مشيرا إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب، فقال: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ، أي من ارتكب معصية من المعاصي، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها، عدلا من الله، ومن عمل العمل الصالح وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله، وكان مصدقا بالله وبرسله، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يتمتعون بنعيمها ورزقها أضعافا مضاعفة، بغير تقدير ولا تساو مع العمل، فضلا من الله ونعمة ورحمة. وهذا دليل على أن جزاء السيئة مقصور على المثل، وجزاء الحسنة خارج عن الحساب، غير مقصور على المثل. والآية أيضا أصل كبير في أحكام الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات، فإن مقتضى الآية أن يكون المثل مشروعا، وأن الزائد عن المثل غير مشروع، أي إن الواجب في الجنايات على الأنفس والأموال هو إما المثل في المثليات كالحبوب، وإما القيمة في القيميات كالأمتعة والأثاث واللآلئ والجواهر. ثم أكّد وكرر الرجل المؤمن دعوته إلى الله، وصرّح بإيمانه بالله وحده لا شريك له، فقال: وَيا قَوْمِ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أي ما لكم يا قوم؟ أخبروني عنكم، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة، بالإيمان بالله تعالى، وعبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسوله المبعوث إليكم من عند ربكم، وتدعونني إلى عمل أهل النار، بما تريدون مني من الشرك وعبادة الأصنام؟ ثم فسّر الدعوتين قائلا:

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أي تدعونني لأمر خطير جدا هو الكفر بالله، والإشراك به في عبادته جهلا ولم يقم أي دليل على ألوهيته، ولا علم لي من وجه صحيح بكونه شريكا لله، وأنا أدعوكم إلى الإيمان بمن اتصف بصفات الألوهية الحقة، من العزة والقدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المغفرة والتعذيب، فآمنوا به يغفر لكم ويعزّكم، فهو القوي الغالب في انتقامه ممن كفر، الغفار في عزته وكبريائه لذنب من آمن به وتاب إليه. ثم أكّد تفنيد دعوتهم وفساد منهجهم، فقال: لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي قد حقّ وثبت وصحّ عقلا وواقعا أن الذي تدعونني إليه من عبادة الأصنام والأنداد ليس له أي دعوة مستجابة، فلا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضرّ، كما في آية أخرى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف 46/ 5- 6] ، وقال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [غافر 40/ 14] . وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي والواقع الحتمي أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ثم بالبعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بعمله، وأن المسرفين في المعاصي، المستكثرين منها، المتعدّين حدود الله، المنغمسين في الشرك والوثنية والكفر، هم أهل النار الذين يصيرون إليها، الخالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزّ وجلّ. ثم ختم كلامه بخاتمة لطيفة مؤثّرة فيها تذكير بالمستقبل وبعد نظر، فقال:

فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي سوف تعلمون صدق قولي لكم من أمر ونهي ونصح وإيضاح وتذكير في وقت لا ينفع فيه الندم، حين ينزل بكم العذاب الشديد في الآخرة، وأتوكل على الله وأستعين به ليعصمني من كلّ سوء في مقاطعتي لكم ومباعدتكم، فإن الله بصير بعباده، خبير بهم، فيهدي من يستحق الهداية، ويضلّ من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدرة النافذة. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه. ثم أخبر الله تعالى عن مصير هذا الرجل المؤمن الجريء الناصح الفصيح، فقال: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أي حفظه الله وحماه في الدنيا من سوء وشرّ ما أرادوا به من قتل، ونجّاه من بأس فرعون، كما نجّى موسى عليه السلام، كما نجّاه في الآخرة من النار، وأنعم عليه بالجنة، ونزل بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق جميعا في البحر، وسيعذبون في الآخرة بالنار. ثم أوضح الله تعالى ذلك العذاب السيء، فقال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ أي إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ويقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون في جهنم، حيث يكون العذاب فيها أشد ألما وأعظم نكالا أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة

فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» . وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار، بالغداة والعشي، فيقال: هذه داركم» . وفي حديث آخر عنه تقدّم: «إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها» . وهذه الآية والأحاديث أصل أساسي في إثبات عذاب البرزخ في القبر، وأن عذاب القبر حقّ واقع لا شكّ فيه. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله ص عن عذاب القبر، فقال: «نعم عذاب القبر حقّ» ولكن ليس في الآية دلالة على أن الأجساد في القبور تتألم مع الروح، وتتعذب معها، وإنما دلّت السنّة على ذلك، كالحديث المتقدّم: «نعم عذاب القبر حقّ» وكذلك اقتصرت دلالة الآية على عذاب الكفار في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب، ولكن يفهم ذلك من الأحاديث النّبوية المتقدّمة، لكن العذاب متفاوت بدليل ما رواه ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبي ص قال: «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى، قلنا: يا رسول الله، ما إثابة الله الكافر؟ فقال: إن كان قد وصل رحما أو تصدّق بصدقة أو عمل حسنة، أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: فما إثابته في الآخرة؟ قال ص: عذابا دون العذاب» وقرأ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كان مؤمن آل فرعون في نصحه لقومه من أشدّ الناس إخلاصا لهم وحبّا وحرصا على إنقاذهم من ورطة الكفر، والدخول في ساحة الإيمان بالله عزّ وجلّ وحده لا شريك له. 2- لقد كرّر النّصح وأكّده، ونوّع الخطاب والترغيب والترهيب، مبتدئا بالدعوة إلى الإيمان بالله، وسلوك طريق الهدى وهو الجنة، ونادى قومه بلطف هنا للمرة الثانية. 3- ثم حذّر من الاغترار بزخارف الدنيا ولذائذها وشهواتها، وزهّدهم فيها بعد أن آثروها على الأخرى، ولا يسع العاقل البصير إلا عدم التعلق الشديد بالدنيا الفانية، وإيثار الآخرة دار الاستقرار والخلود. 4- وأبان لقومه كيفية المجازاة في الآخرة، فمن اقترف معصية- وأكبرها الشرك- فلا يجزى إلا مثلها من العذاب عدلا من الله، ومن عمل بما أمر الله به واجتنب ما نهى عنه، وهو مصدق بقلبه بالله وبالأنبياء، فهو من أهل الجنة، فضلا ورحمة من الله، ورزق الجنة دائم واسع لا تقدير فيه. 5- ثم نادى قومه للمرة الثالثة مؤكّدا دعوتهم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة، وترك الكفر الذي يوجب النار، علما بأنه لا دليل ولا برهان يقبل على صحة الدعوة إلى الشرك، وإنما الدليل القاطع والبرهان الساطع متوافر في صحة الدعوة إلى الإيمان بالله المتصف بصفات الألوهية الحقّة من الخلق والقدرة والإرادة والعلم والعزّة والمغفرة والتعذيب.

6- حقا إن ما يعبد من دون الله من البشر أو الأصنام ليس له استجابة دعوة تنفع، وليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة. وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، ثم دعاهم إلى عبادة البقر، فكانت تعبد ما كانت شابة، فإذا هرمت أمر بذبحها، ثم دعا بأخرى لتعبد، ثم لما طال عليه الزمان قال: أنا ربّكم الأعلى. 7- إن المسرفين وهم المشركون، والسفهاء، وسفاكو الدماء بغير حقها، والجبارون والمتكبرون، والذين تعدّوا حدود الله، هم أصحاب النار. 8- ثم لجأ مؤمن آل فرعون إلى نوع من التهديد والوعيد، مبينا أن قومه سيتذكرون يوم القيامة وحين حلول العذاب بهم، ما قاله لهم، وأما هو فقد توكّل على الله وأسلم أمره إليه، لأنهم أرادوا قتله، ولكن من يتوكل على الله فهو حسبه. 9- لقد حفظ الله هذا المؤمن من إلحاق أنواع العذاب به، فطلبوه فما وجدوه، لأنه فوّض أمره إلى الله تعالى. 10- وأما آل فرعون فإنه نزل بهم العذاب الشامل في الدنيا وهو الغرق، وسيعذبون في الآخرة، ويعرضون أيضا في البرزخ في القبور على النار صباح مساء. وهذا كما تقدّم يدلّ على إثبات عذاب القبر، لقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ما دامت الدنيا. قال جمهور المفسرين: هذه الآية تدلّ على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. ورأى الرازي أن الآية لا تدلّ على عذاب القبر، وإنما ذكر الغدوة والعشية

المناظرة بين الرؤساء والأتباع في النار [سورة غافر (40) الآيات 47 إلى 50] :

كناية عن الدوام في عذاب النار، كقوله تعالى بالنسبة لأهل الجنة: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم 19/ 62] «1» . المناظرة بين الرؤساء والأتباع في النار [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 50] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) الإعراب: تَبَعاً أورده بلفظ الواحد، وإن كان خبرا عن جماعة، لأنه مصدر، والمصدر يصلح للجميع. مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مفعول به ل مُغْنُونَ. إِنَّا كُلٌّ فِيها كُلٌّ: مبتدأ، وهو في تقدير الإضافة، وفِيها: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر (إن) . ولا يجوز أن ينصب كُلٌّ على البدل من ضمير إِنَّا، لأن ضمير المتكلم لا يبدل منه، لأنه لا لبس فيه، حتى يوضح بغيره. وقرئ «كلّا» على التأكيد، لأنه بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه. ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ جواب مجزوم، والأكثر في كلام العرب أن يكون جواب الأمر وشبهه بغير فاء، وهو الأفصح.

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 73

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ واذكر يا محمد وقت تخاصم الكفار في النار، والمحاجّة: المجادلة والتخاصم بين اثنين فأكثر. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أتباعا جمع تابع، كخدم جمع خادم. مُغْنُونَ دافعون أو حاملون. نَصِيباً جزءا وقسطا، أي فهل أنتم حاملون عنّا جزءا من العذاب أو دافعون جزءا؟ إِنَّا كُلٌّ فِيها نحن وأنتم، فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ فأدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار. وحَكَمَ قضى، ولا معقّب لحكمه. لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ هم القوّام بتعذيب أهل النار، جمع خازن. يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قدر يوم مِنَ الْعَذابِ شيئا من العذاب. قالُوا أي الخزنة تهكّما. بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات. قالُوا: بَلى أقروا بإرسال الرسل، لكنهم كفروا بهم. قالُوا: فَادْعُوا قال الخزنة لأهل النار: فادعوا أنتم، فإنه لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، وإننا لا نشفع للكافرين، وفيه إقناط من الإجابة، فقال تعالى حاكيا ما أخبروهم به: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ خسار وضياع وانعدام. المناسبة: هذا ابتداء قصة لا تختص بآل فرعون، فبعد أن أوضح الله تعالى أحوال النار في عظة مؤمن آل فرعون، ذكر تعالى عقيبها قصة المناظرة والجدل التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار. التفسير والبيان: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أي واذكر أيها الرسول لقومك للعظة والعبرة وقت تخاصم الكفار أهل النار وهم فيها، ومنهم فرعون وقومه، فيقول الضعفاء الأتباع للرؤساء والسادة والقادة الذين استكبروا عن اتّباع

الأنبياء، ومكروا لصدّ الناس عن الإيمان: إنا كنّا تابعين لكم، وقد أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، ودخلنا النار بسبب اتّباعكم، فهل تدفعون عنّا قسطا أو جزءا من العذاب، أو تتحملونه عنّا؟ فأجابهم الرؤساء بما حكاه تعالى: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قال المستكبرون للمستضعفين: إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم، فكيف نغني عنكم؟ فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعناه عن أنفسنا، إن الله قضى قضاءه العادل المبرم بين العباد، بأن فريقا في الجنة، وفريقا في السعير، وقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كلّ منّا، كما قال تعالى: قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] . ولما يئسوا من السادة اتّجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء، فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ أي وقال أهل النار من الأمم الكافرة لسدنة جهنم وقوّامها (وهم الملائكة القائمون عليها لتعذيب أهل النار) : ادعوا الله ربّكم لعله أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب، بأن تشفعوا لنا عند الله تعالى لتخفيف يسير، وذلك لما علموا أن الله عزّ وجلّ لا يستجيب منهم، ولا يستمع لدعائهم. فردّت الخزنة عليهم موبّخين ملزمين لهم الحجة، كما قال تعالى: قالُوا: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالت الخزنة لأهل النار: أو ما جاءتكم الرسل في الدنيا بالحجج والأدلة الواضحة على توحيد الله، والتحذير من سوء العاقبة؟! أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الزمر 39/ 71] .

فقه الحياة أو الأحكام:

قالُوا: بَلى قال أهل النار: بلى قد جاءتنا الرسل، فكذبناهم، ولم نؤمن بهم ولا بما جاؤوا به من الحجج. فلما اعترفوا قالت لهم الخزنة تهكّما: قالُوا: فَادْعُوا، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي قالت الخزنة لأهل النار: إذا كان الأمر كما ذكرتم، فادعوا أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لمن كفر بالله وكذّب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة، ونحن برآء منكم، ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئا، فما دعاء الكافرين بالله ورسله إلا في ضياع وبطلان وذهاب لا يقبل ولا يستجاب. أخرج الترمذي وغيره عن أبي الدرداء قال: «يلقى على أهل النار الجوع، حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه، فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيغصّون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فيجيبوهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، قالُوا: بَلى، قالُوا: فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ- أي خسار وتبار» . فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- يشتدّ الجدال والخصام يوم القيامة في نار جهنم بين الأتباع الضعفاء والمتبوعين الرؤساء الذين استكبروا عن الانقياد للأنبياء، فيقول الأولون: إنّا

كنّا أتباعا لكم في الدنيا فيما دعوتمونا إليه من الشرك، فهل أنتم الآن متحملون عنّا جزءا من العذاب؟ 2- أجاب الكبراء: إنا نحن وأنتم جميعا في نار جهنم، وإن الله قضى بين العباد، وأخذ كل واحد منا ما يستحقه، ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره، فكل منا كافر. 3- لما يئس الكفار من بعضهم طلبوا من خزنة جهنم وهم ملائكة العذاب أن يدعوا لهم ربّهم بأن يخفف عنهم شيئا من عذاب جهنم، ولو يوما واحدا. فردت عليهم الخزنة: ألم تأتكم الرسل بالبيّنات الدالة على طريق النجاة، والحيلولة بينكم وبين سوء العاقبة؟! وهذا دليل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع، فلا تكليف قبل إرسال الرسل وإنزال الشرائع، ولا عقاب أيضا، كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] . 4- ثم قال الملائكة خزنة جهنم للكفار: ادعوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك، ولا نشفع إلا بشرطين: أحدهما- كون المشفوع له مؤمنا. والثاني- حصول الإذن في الشفاعة، ولم يوجد واحد من هذين الشرطين. لكن ادعوا أنتم، للدلالة على الخيبة، لا لرجاء النفع، ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي خسار وبطلان وزوال.

نصر الرسل على أعدائهم في الدنيا والآخرة [سورة غافر (40) الآيات 51 إلى 56] :

نصر الرسل على أعدائهم في الدنيا والآخرة [سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 56] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) الإعراب: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ: معطوف بالنصف على موضع الجار والمجرور، وهو فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مثل: جئتك في أمس واليوم. ويَوْمَ لا يَنْفَعُ بدل من الأول. وَأَوْرَثْنا.. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ هُدىً حال من الْكِتابَ، وَذِكْرى: معطوف عليه، وعامل الحال: أَوْرَثْنا. بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ بكسر الهمزة: مصدر «أبكر إبكارا» وقرئ بفتحها على أنه جمع بكر، مثل سحر وأسحار. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إن بمعنى «ما» مثل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وكِبْرٌ مرفوع بالظرف، وهو فِي صُدُورِهِمْ لأن الظرف قد فرّغ له، مثل: ما في الدار إلا زيد. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هُوَ ضمير فصل، ويصح كونه مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة خبر (إن) .

البلاغة:

البلاغة: بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ بينهما طباق. السَّمِيعُ الْبَصِيرُ صيغة مبالغة. المفردات اللغوية: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا بالحجة والظفر على الكفرة. وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ هو يوم القيامة، والْأَشْهادُ جمع شاهد، مثل أصحاب وصاحب، وهم الذين يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب، وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنون، فيكون نصر الرسل في الدارين. مَعْذِرَتُهُمْ عذرهم، وعدم نفع العذر، لأنه باطل، أو لأنه لا يؤذن للظالمين فيعتذرون. اللَّعْنَةُ الطرد والبعد من الرحمة. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي الدار الآخرة، وهو شدة عذابها في جهنم. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به في الدين من التوراة المشتملة على الشرائع والمعجزات المثبتة للصدق. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي تركنا التوراة من بعد موسى لهم. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ هداية وتذكرة لأصحاب العقول، أو هاديا ومذكرا. فَاصْبِرْ يا محمد على أذى المشركين. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بالنصر، لا يخلفه أبدا. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أمر له بالاستغفار للاستنان والتأسي به، أو المعنى أقبل على أمر دينك، وتدارك زلاتك، كترك الأولى، فإنه تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزه الله مع حمده وشكره، أي دم على التسبيح والتحميد لربك. بِالْعَشِيِّ في المساء وَالْإِبْكارِ في الصباح، وقيل: إن هذا الأمر بالصلاة في هذين الوقتين، لأن الواجب كان بمكة ركعتين بكرة، وركعتين عشيا. وفسره آخرون بأن ذلك يشمل الصلوات الخمس، لأن الإبكار: صلاة الفجر، والعشي وهو ما بعد الزوال ويشمل الصلوات الأربع الباقية. فِي آياتِ اللَّهِ القرآن. بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجة وبرهان. كِبْرٌ تكبر عن الحق، وطمع في الاستعلاء عليك، وتعظم عن التفكر والتعلم. ما هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي دفع الآيات أو ببالغي مرادهم. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه من شرهم. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم. الْبَصِيرُ بأحوالهم وأفعالهم. قال السيوطي: ونزل ذلك في منكري البعث.

سبب النزول نزول الآية (56) :

سبب النزول: نزول الآية (56) : إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: جاءت اليهود إلى رسول الله ص، فذكروا الدجال، فقالوا: يكون منا في آخر الزمان، فعظّموا أمره، وقالوا: يصنع كذا ويملكون به الأرض، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال. ومع أن الآية نزلت في مشركي مكة منكري البعث أو في اليهود كما تبين، فهي عامة في كل مجادل مبطل. لكن قال ابن كثير عما ذكره أبو العالية: وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. والأصح أن الآية نزلت في المشركين والكفار عامة. التفسير والبيان: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي إننا لنؤيد رسلنا والمؤمنين، بأن نجعلهم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، في الدنيا، وفي الآخرة حين يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، بأن يشهدوا للرسل بإبلاغ رسالاتهم، وعلى الأمم بتكذيبهم. والنصر في الدنيا إما معنوي وإما حسي، فالمعنوي: كالنصر بالحجة والبرهان، أو بالمدح والتعظيم، أو بإعلاء الجاه وعزة السلطان، وانتشار الدين، كنصر داود وسليمان على من كذبوهم، ونصر محمد ص على من كذبه من قومه، وجعل الدولة والسلطة له في الجزيرة العربية. والنصر الحسي يكون بالقهر والانتقام من المكذبين كإغراق قوم نوح وآل فرعون، وقتل زعماء قريش في بدر

وأسر بعضهم، وسلب أموالهم، وقد يكون الانتقام بعد الموت، كنصر أشعياء بعد هلاكه بتسليط الظلمة على أعدائه، ونصر يحيى بن زكريا لما قتل، قتل به سبعون ألفا. والنصر في الآخرة: بإعلاء الدرجات في مراتب الثواب، والتكريم بالكرامات في الجنة، وصحبة الأنبياء، كما قال تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء 4/ 69] ومجازاة أهل الإيمان بأعمالهم، ومجازاة الكفار بأعمالهم، باللعن ودخول النار، كما في الآية التالية: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي حين يقوم الأشهاد يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا يقبل من المشركين اعتذارهم ولا تقديم فدية منهم، لأن معذرتهم باطلة، وشبهتهم زائفة، ولهم الطرد والبعد من الرحمة، ولهم سوء الدار وشر ما في الآخرة وهو النار، والعذاب الأليم فيها. وبعد بيان نصر الأنبياء في الدنيا والآخرة، ذكر تعالى بعض مظاهر النصر في الدنيا، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى، وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي تالله لقد أعطينا موسى التوراة والنبوة، فاشتملت التوراة على الأحكام والشرائع الهادية لقومه، وتأيدت نبوته بالمعجزات الظاهرة كاليد والعصا، ثم أبقينا التوراة بعد موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، يتوارثها الخلف عن السلف، هداية لهم وتذكرة لذوي العقول الصحيحة السليمة، أو هاديا ومذكرا لأهل العقول، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [المائدة 5/ 44] . وإذا كان النصر مقررا للرسل والأنبياء، فما عليهم إلا الصبر، لذا أمر الله به نبيه قائلا:

فَاصْبِرْ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أي إذا كان الأمر كذلك وهو تقرير النصر للرسل وأتباعهم، فاصبر أيها الرسول على أذى المشركين، كما صبر من قبلك من الرسل، فإن عاقبة الصبر خير، فالله ناصرك وعاصمك من الناس، ووعد الله بالنصر وغيره حق ثابت لا يخلفه أبدا، وداوم على الاستغفار لذنبك كترك الأولى، أو لزيادة الثواب، أو لإرشاد المؤمنين والتأسي بك، فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ودم على تنزيه الله مقرونا بحمده في أواخر النهار وأوائل الليل، وقيل: المراد: صل في الوقتين: صلاة العصر وصلاة الفجر، أو صل الصلوات الخمس، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود 11/ 114] . وهذا دليل على ضرورة الصبر والاستغفار من الأمة، وإنما خوطب به النبي ص للإرشاد والتعليم، وهو دليل أيضا على ملازمة التسبيح والتحميد أو أداء الصلوات المفروضة. ويلاحظ أنه تعالى قدم التوبة والمغفرة على العمل، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد التوبة الخالصة، والتوبة قد تكون من خلاف الأولى الذي هو ذنب إذا قيس مع درجة النبي ص، ولا يعد شيئا في حق غيره. ثم عاد البيان إلى توضيح سبب مجادلة المشركين في آيات الله، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي إن الذين يناقشون ويجادلون في آي القرآن، ويدفعون الحق بالباطل، بغير برهان ولا حجة أتتهم من الله، ما في قلوبهم إلا تكبر وتعاظم عن قبول الحق والتفكر فيه، وطمع أن يغلبوا محمدا ص وتكون لهم الرياسة والنبوة بعده، ولكن ما هم ببالغي ذلك، ولا بحاصل لهم، ولا محققي المراد، بل إن راية الحق ستظل مرفوعة، وقول المبطلين وفعلهم موضوع ذليل. والمعنى بإيجاز: إن سبب تكذيب المشركين هو ما تنطوي عليه نفوسهم من الكبر والحسد، وما هم بمحققي الآمال ولا بالغي المراد.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي إن طريق العصمة من باطل هؤلاء المجادلين المستكبرين هو الاستعاذة بالله من شرهم، واللجوء إليه والاستعانة به لدفع كيدهم، فهو السميع لأقوالهم، البصير بأفعالهم، لا تخفى عليه خافية، وهو لهم بالمرصاد، وسيقهرون عما قريب. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- إن الله تكفل بنصر عباده المرسلين وأوليائه المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال السّدّي: ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله عز وجل من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها، وإن قتلوا. 2- قال مجاهد والسدي: تشهد الملائكة للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب، وقال قتادة: الملائكة والأنبياء. 3- إن الإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب يكون أتم وأبهج وأمتع. 4- قد يكون النصر والتكريم بسبب الدفاع عن المسلم، جاء في الحديث الثابت الذي رواه البيهقي عن أبي الدرداء، يقول النبي ص: «من ردّ عن عرض أخيه المسلم، كان حقا على الله عز وجل أن يردّ عنه نار جهنم، ثم تلا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا وعنه ص أنه قال فيما رواه أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكا يحميه من النار، ومن ذكر مسلما بشيء يشينه به، وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال» . 5- من أنواع نصر الرسل في الدنيا والآخرة: إيتاء موسى عليه السلام

من دلائل وجود الله وقدرته وحكمته [سورة غافر (40) الآيات 57 إلى 65] :

التوراة والنبوة، وسميت التوراة هُدىً بما فيها من الهدى والنور. ثم جعل الله التوراة ميراثا لبني إسرائيل، وموعظة لأصحاب العقول. 6- أمر الله نبيه بأمور ثلاثة: الصبر على أذى المشركين، والاستغفار للذنب الصغير أو ما هو خلاف الأولى، أو ما صدر منه قبل النبوة أو محض التعبد، والتسبيح المقرون بالتحميد بالشكر له والثناء عليه، أو المواظبة على صلاة الفجر وصلاة العصر، قيل: هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس: ركعتان غدوة وركعتان عشية. وبعد نسخ ذلك لا بد من المواظبة على الصلوات الخمس. والأصح حمل الاستغفار على التوبة عن ترك الأولى والأفضل، أو على ما كان قد صدر عنه قبل النبوة. 7- إن مجادلة المشركين في آيات الله هي بغير حجة عقلية أو نقلية، ودافعهم إليها الكبر عن اتباع الحق، وقصدهم إبطال آيات الله، وإثارة الشبهات حولها، ولكن لن يحقق الله آمالهم. وما على النبي ص وأتباعه إلا الاستعاذة بالله من شر الكفار، والاعتصام به، والاستعانة بعزته وقدرته. من دلائل وجود الله وقدرته وحكمته [سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 65] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)

الإعراب:

الإعراب: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ مبتدأ أو خبر. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قَلِيلًا: صفة مصدر محذوف، تقديره: تذكرا قليلا تتذكرون، وما: زائدة، والمعنى: لا تذكّر لهم، لأنه قد يطلق لفظ القلة، ويراد بها النفي، كقولك: قلما تأتيني، وتريد: ما تأتيني. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ اسم إن وخبرها، واللام لام المزحلقة. البلاغة: الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ بينهما طباق، وكذا بين اللَّيْلَ والنَّهارَ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ استعارة، استعار الأعمى للكافر، والبصير للمؤمن. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ تأكيد بإن واللام. وَالنَّهارَ مُبْصِراً مجاز عقلي، من إسناد الشيء إلى زمانه، وهو إسناد الإبصار إلى وقته. صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ جناس ناقص.

المفردات اللغوية:

لا يَعْلَمُونَ تَتَذَكَّرُونَ يُؤْمِنُونَ لا يَشْكُرُونَ تُؤْفَكُونَ يَجْحَدُونَ سجع وتوافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي إن خلقها مع عظمها أولا في ابتداء خلق الكون من غير أصل: أكبر وأعظم من خلق الناس مرة ثانية في حال الإعادة للبعث، فالقادر على الأكبر قادر على الأصغر. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الغافل والمستبصر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي ولا يستوي المحسن والمسيء، ولَا زائدة في قوله: وَلَا الْمُسِيءُ وزيادتها، لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن فيما له من الفضل والكرامة. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ تتعظون أيها الناس، والمراد أن تذكرهم قليل جدا في حكم المعدوم، فكأنه لا تذكر لهم. وقراءة ما تَتَذَكَّرُونَ بالتاء لتغليب المخاطب أو الالتفات، وقرئ بالياء: «يتذكرون» . لا رَيْبَ فِيها لا شك في مجيئها، لوضوح الدلالة على حدوثها وإمكانها. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بها لقصور نظرهم على ظاهر المحسوسات التي يحسون بها. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ادعوني أثبكم، بقرينة ما بعده: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين أذلاء، ويصح أن يراد بقوله: ادْعُونِي الدعاء والسؤال، ويكون المراد بقوله عِبادَتِي الدعاء. لِتَسْكُنُوا فِيهِ، لتستريحوا فيه، بأن خلق الليل باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات، وهدوء الحواس. وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به، وإسناد الإبصار إليه مجاز. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، الله، فلا يؤمنون، لجهلهم بالمنعم، وتكرار الناس لتخصيص الكفر بهم. ذلِكُمُ المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. اللَّهُ رَبُّكُمْ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة يخصص اللاحق منها السابق ويقرره. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادة الله والإيمان به إلى عبادة غيره. كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي مثل إفك هؤلاء وانصرافهم إلى عبادة الأصنام يؤفك ويصرف كل من جحد بآيات الله ومعجزاته ولم يتأملها. قَراراً مستقرا. وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا قائما ثابتا مثل القبة في أبنية العرب. وَصَوَّرَكُمْ خلقكم في تناسب واستعداد لمزاولة أعمال الحياة. الطَّيِّباتِ اللذائذ. فَتَبارَكَ اللَّهُ تقدس وتنزه. هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية غير المستمدة من آخر. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

المناسبة:

أي هو الواحد، إذ لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته. فَادْعُوهُ فاعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مخلصين له الطاعة، الخالية من الشرك والرياء. المناسبة: بعد الرد على المجادلين في آيات الله بتعريفهم أن جدلهم بغير سلطان ولا حجة، وكان من جدلهم إنكار البعث، ذكر الله تعالى في هذه الآيات وما يليها عشرة أدلة على وجود الله وقدرته وحكمته، للدلالة على إمكان يوم القيامة ووجوده بالفعل، منها هنا خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجعل الأرض قرارا والسماء بناء، وخلق الإنسان في أحسن صورة، ورزقه من الطيبات، واتصافه تعالى بالحياة الذاتية والوحدانية، وكان يردف بعض هذه الأدلة بالأمر بعبادة الله وطاعته، والإخلاص فيها. التفسير والبيان: 1- لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إن خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم وأفلاك وكواكب وذخائر أكبر وأعظم من خلق نفوس الناس بدءا وإعادة، فمن قدر على ذلك، فهو قادر على ما دونه، بطريق الأولى والأحرى، عملا بمقاييس الناس وتقديراتهم، وإلا فالبدء والإعادة سواء على الله تعالى، فكيف ينكرون البعث؟ كما قال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 36/ 81] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] . ولكن أكثر الناس لا يعلمون بعظيم قدرة الله، ولا يتفكرون ولا يتأملون بهذه الحجة الدامغة. وهذا أول دليل على قدرة الله تعالى.

ثم ذكر الله تعالى مثلا للغافل والمجادل بالباطل، وشبهه بالأعمى، ومثلا للمتأمل المفكر المجادل بالحجة والبرهان، وشبهه بالبصير، لاستبصاره، فقال: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي لا يتساوى الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق، ولا يتساوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله وبيناته فيتدبرها، والمؤمن الذي يتفكر فيها ويتعظ بها، فالأول شبيه بالأعمى الذي تعطلت عنده حاسة البصر، والثاني شبيه بالبصير الذي تفتحت عيناه، فتأمل في الكون واتعظ، وهذا تشبيه بالمحسوسات، وبينهما فرق عظيم. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَلَا الْمُسِيءُ، قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي وكذلك لا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح، والمسيء بالكفر وارتكاب المعاصي، فما أقل ما يتذكر كثير من الناس ويتعظ بهذه الأمثال، ويدرك الفرق الواضح بين المؤمنين الأبرار المطيعين لربهم، وبين الكفرة الفجار المخالفين أمر ربهم. وبعد تقرير الدليل الدال على إمكان وجود القيامة، أردفه بالإخبار عن وقوعها حتما، فقال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي إن يوم القيامة آت لا ريب في مجيئه ووقوعه وحصوله، فآمنوا بذلك إيمانا قاطعا لا شك فيه، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يصدقون بالبعث، بل يكذبون بوجوده، لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة. ولما أثبت الله تعالى أن القيامة حق وصدق، أوضح طريق النجاة فيها وهو طاعة الله تعالى، فقال: وَقالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي وأخبر الله أنه إن دعاه العبد وعبده بحق، استجاب له، فإن «الدعاء مخ العبادة» كما في الحديث الآتي تخريجه، فالدعاء في نفسه عبادة، والدعاء: هو السؤال بجلب النفع ودفع الضر. ودعاء غير الله لا يفيد شيئا، فإن القادر على إجابة الدعاء هو الله، والله سبحانه هو الذي أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق. وإن الذين يتكبرون ويتعظمون عن دعاء الله وعبادته وحده، سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء. والآية اشتملت على أمر العبادة بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلا من الله وكرما، وهذا وعد، كذلك اشتملت أيضا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة. أخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب والحاكم وأصحاب السنن (الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه) وغيرهم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. الآية. وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ص: «الدعاء مخ العبادة» لكنه ضعيف وفي حديث آخر صحيح أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: «أفضل العبادة الدعاء» . وأخرج أحمد والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «من لم يدع الله عز وجل غضب عليه» وفي رواية أخرى لأحمد والبزار: «من لم يسأل الله يغضب عليه» . ثم تابع الله تعالى إيراد أدلة أخرى على قدرته، والتذكير بنعمته على عباده، فقال: 2- 3: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي إن الله تعالى أوجد تعاقب الليل والنهار، فجعل الليل باردا مظلما للسكون والنوم

والراحة وتجديد النشاط والحيوية من عناء النهار، وجعل النهار مضيئا بالشمس لإبصار الحوائج، وطلب المعايش، ومزاولة الصناعة والتجارة والزراعة، والتنقل بالأسفار وزيارة الأقطار، وغير ذلك من مصالح العباد. ويلاحظ أن جَعَلَ هنا بمعنى: خلق، لأنها متعدية إلى مفعول واحد، فإذا لم تكن بمعنى: خلق عديت إلى مفعولين مثل إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف 43/ 3] . إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي إن الله تعالى بهذه النعمة وغيرها مما لا يحصى هو المتفضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون النعم ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها مثل الكفار، وإما لإهمالهم النظر وما يجب من شكر المنعم، مثل الجهال، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الحج 22/ 66] . إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم 14/ 34] . إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات 100/ 6] . وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ 34/ 13] . ثم ذكر الله تعالى أنه الخالق وحده، فتجب عبادته وحده، فقال: 4- 5: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ أي ذلكم الذي فعل كل هذا المذكور وأنعم بهذه النعم هو الله المربي المدبر، فلا رب سواه، وهو خالق الأشياء كلها، لم يعاونه في الخلق أحد، وهو الإله الواحد الذي لا إله سواه، فكيف تنقلبون عن عبادته، وتنصرفون عن توحيده، وتعبدون غيره من الأصنام وغيرها مما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يخلق شيئا، بل هو مخلوق؟! وهذا الضلال مرض قديم، فقال تعالى: كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي مثل هذا الإفك

والضلال بعبادة غير الله، ضل وأفك الجاحدون لآيات الله، المنكرون لتوحيده، وصرفوا عن اتباع الصراط القويم، من غير حجة ولا برهان، بل بمجرد الجهل والهوى. ثم أضاف الله تعالى دليلا آخر على قدرته وحكمته، فقال: 6- 7: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً أي إن الله هو الذي جعل الأرض موضع استقرار وثبات، تستقر عليها المباني والأمتعة، ويحيى فيها الأشخاص ويموتون، ويمشون ويتصرفون في أنحائها، وجعل أيضا السماء سقفا للعالم محفوظا قائما ثابتا أيضا، لا ينهدم ولا يتصدع، وزيّنه بالكواكب والنجوم. وبعد بيان بعض دلائل الآفاق والأكوان (وهي كل ما هو غير الإنسان من هذا العالم) وهي اثنان (أحوال الليل والنهار، وأحوال الأرض والسماء) ذكر الله تعالى دلائل الأنفس على وجوده وقدرته وهي ثلاثة (إحداث صورة الإنسان، وتحسينها، والرزق من الطيبات) فقال: 8- 9: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي وخلقكم في أحسن صورة، وأجمل شكل، وأبدع تقويم في انتصاب القامة، وتناسب الأعضاء، والتهيؤ لمزاولة مختلف أنواع المكاسب والمعاشات، ورزقكم من طيبات الرزق ولذائذه من الطعام والشراب. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلكم المتصف بهذه الصفات الجليلة، المنعم بهذه النعم العظيمة، هو الرب الذي لا تصلح الربوبية لغيره، فتقدس وتنزه الله رب العالمين من الإنس والجن عن صفات النقص وعما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة. وبعد إثبات توحيد الربوبية أثبت توحيد الألوهية، فقال تعالى:

فقه الحياة أو الأحكام:

10- هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي إن هذا الرب المدبر المتصرف في الكون هو الحي حياة ذاتية، الباقي الذي لا يفنى، الأول والآخر والظاهر والباطن، المنفرد بالألوهية، فلا تصلح الألوهية لسواه، فاعبدوه مخلصين له الطاعة والعبادة، موحدين له، مقرين بأنه لا إله إلا هو. وهو سبحانه المستحق الحمد والثناء والشكر على نعمه، فقال آمرا ومعلما عباده: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إنه صاحب الحمد، المستحق الشكر والثناء، رب العالمين من الملائكة والإنس والجن. والجملة خبر فيها إضمار أمر، أي ادعوه واحمدوه. روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين» ثم قرأ هذه الآية: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله ص يقول في دبر كل صلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إثبات البعث والاحتجاج على منكريه، فإن خلق السموات والأرض أكبر وأعظم من إعادة خلق الناس، والقادر على الأكبر قادر على الأصغر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.

2- لا تساوي إطلاقا بين المؤمن والكافر والضال والمهتدي، والذي يعمل الصالحات والذي يعمل السيئات، كما لا تساوي بين البصير والأعمى، ولكن لا تذكر ولا اتعاظ ولا اعتبار. 3- إن الساعة آتية لا ريب فيها، فكما أن القيامة ممكنة الوجود، فهي واقعة فعلا وحادثة حتما، ولكن أكثر الناس لا يصدقون بذلك، وعندها يبين الفرق ما بين الطائع والعاصي. 4- لا ينتفع أحد في يوم القيامة الذي هو حق وصدق إلا بطاعة الله تعالى، وأشرف أنواع الطاعات: الدعاء والتضرع، جاء في الحديث المتقدم: «الدعاء هو العبادة» فما على الناس إلا توحيد الله وعبادته، والله- تفضلا وكرما- يتقبل العبادة ويغفر للعابدين. جاء في الحديث عن أنس بن مالك فيما رواه الترمذي وابن حبان: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع» . والشسع: زمام النعل. 5- من إحسان الله العظيم أنه ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ. 6- الله خلق الليل للسكن والراحة، وخلق النهار مضيئا لإبصار الحوائج فيه والتصرف في طلب المعايش، والله ذو الفضل العظيم على عباده، ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضله وإنعامه. 7- الأدلة على وحدانية الله وقدرته بيّنة واضحة، فهو الله المربي والمدبر، وخالق كل شيء، والواحد الأحد، فمن العجب كيف ينصرف الناس عن الإيمان بعد توافر أدلته؟ وكما يصرف هؤلاء عن الحق مع قيام الدليل عليه يصرف عن الحق الجاحدون بآيات الله تعالى.

النهي عن عبادة غير الله وسبب النهي [سورة غافر (40) الآيات 66 إلى 68] :

8- الله تعالى خلق الأرض لعباده مستقرا لهم في حياتهم وبعد الموت، وخلق السماء سقفا محفوظا ثابتا، وخلق الناس في أحسن صورة وتقويم. 9- والله هو رازق الطيبات اللذائذ، وهو الحي الباقي الذي لا يموت، فما على الناس إلا عبادته بإخلاص، وحمده وشكره والثناء عليه. 10- يلاحظ أن الآيات انتهت بنهايات قوية مؤثرة تناسب المقام: وهي وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لا يُؤْمِنُونَ لا يَشْكُرُونَ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يَجْحَدُونَ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. النهي عن عبادة غير الله وسبب النهي [سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) المفردات اللغوية: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون. الْبَيِّناتُ الحجج ودلائل التوحيد أو الآيات القرآنية، فإنها مقوّية لأدلة العقل، منبهة عليها. أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أنقاد له نُطْفَةٍ مني. عَلَقَةٍ دم غليظ. ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالا، والإفراد لإرادة الجنس. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا

سبب النزول نزول الآية (66) :

أَشُدَّكُمْ أي لتصلوا إلى تكامل قوتكم من الثلاثين إلى الأربعين سنة، واللام متعلقة بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي ويفعل ذلك لتبلغوا وقتا محددا، هو وقت الموت. وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج والعبر ودلائل التوحيد، فتؤمنوا. قَضى أَمْراً أراد إيجاد شيء. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ بتقدير أن، أي يوجد عقب الإرادة التي هي معنى القول المذكور. والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق، من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على عدّة أو مادّة. سبب النزول: نزول الآية (66) : قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ..: أخرج جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول بدين آبائك، فأنزل الله: قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية. المناسبة: بعد إيراد دلائل القدرة والتوحيد وصفات الجلال والعظمة، نهى الله عن عبادة غيره، بقول لين لطيف، لصرف المشركين عن عبادة الأوثان، ثم أبان سبب النهي وهو البينات التي جاءت النبي من ربه، من دلائل الآفاق والأنفس، أما الأولى فهي أربعة: الليل والنهار والأرض والسماء، وأما الثانية فذكر منها سابقا ثلاثة وهي: تكوين الصورة، وحسن الصورة، ورزق الطيبات. وذكر منها هنا كيفية تكون الإنسان ومراحل تدرجه وأطوار حياته من الاجتنان إلى الولادة والطفولة، إلى الشباب والكهولة، ثم الشيخوخة، ثم الموت. التفسير والبيان: قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي قل أيها الرسول لمشركي قومك في مكة وغيرها: إن الله ينهى أن يعبد

حد من غير الله من الأصنام والأنداد والأوثان، حين جاءتني الأدلة النقلية والعقلية من عند ربي، وهي آي القرآن، وما أودع في العقول السليمة من البراهين الدالة على التوحيد، وأمرت أن أستسلم وأنقاد وأخضع لله رب العالمين، وأخلص له ديني. ومن الآيات التي تنهى عن عبادة الأوثان قوله تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 95- 96] . ثم ذكر الله تعالى من دلائل الأنفس ما يدل على توحيد الله وهو كيفية تكون الإنسان ومراحل نشأته، فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي إن الله هو الذي خلق أباكم الأول آدم من التراب، وجعل ذريته أيضا من تراب، إذ كل مخلوق من المني ناشئ من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات، والنبات من الماء والتراب، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب، ثم صيّر الله ذلك التراب نطفة (منيا) ثم علقة (قطعة دم متجمدة) ثم ولدتم وأخرجتم أطفالا، ثم وصلتم إلى بلوغ الأشد أي مرحلة اكتمال القوة والعقل، ثم تصيرون شيوخا (والشيخ: من جاوز الأربعين) . ومن الناس من يتوفى من قبل الشيخوخة أو الشباب أو الولادة، وقد فعل ذلك لتبلغوا الأجل المحدود وهو وقت الموت أو يوم القيامة، واللام لام العاقبة أو الصيرورة، ولكي تعقلوا ما في هذا التدرج والتطور في المراحل المختلفة من دليل دال على قدرة الله البالغة على البعث وغيره، وعلى توحيد ربكم، في خلقكم على هذه الأطوار: طور الاجتنان، وطور الطفولة، وطور بلوغ الأشد، وطور الشيخوخة،

فقه الحياة أو الأحكام:

ففي هذا التغير والانتقال دلالة على وجود الله، ثم أتبع ذلك بدليل آخر من التغير والانتقال فقال: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي وإن الله هو القادر على الإحياء والإماتة، والمتفرد بذلك لا يقدر عليه أحد سواه، فإذا قضى وقدر أمرا من الأمور التي يريدها، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي يحدث فور الإرادة من غير توقف على شيء، ولا معاناة ولا كلفة. وهذا أقصى ما يمكن به تقريب الخلق إلى الأذهان، فإن المخلوق يوجد بسرعة فائقة جدا بمجرد تعلق الإرادة به. فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات أمورا ثلاثة هي: 1- النهي الجازم عن عبادة غير الله بعد قيام الأدلة على وجود الله وتوحيده، مما صرح به القرآن في آياته، ومما أرشد إليه العقل الصحيح في تفكيره، والعبادة تقتضي الانقياد التام والخضوع وإخلاص الدين لله رب العالمين، فلا أمل في عبادة الأصنام والأوثان وغيرها من أنواع الشرك. والخلاصة: نهى تعالى عن عبادة الأوثان، ثم أمر بالاستسلام لله تعالى، ثم أقام الدليل على الوحدانية والألوهية فيما، مع العلم بأن والتي أصنامهم عارية عن شيء منهما بدليل تدرج ابن آدم. 2- بيان مراحل تطور الإنسان وتدرجه في التكوين والخلقة، فأصله من تراب، ثم يصبح نطفة فعلقة فمضغة، ثم يولد طفلا، ثم يشب ويقوى بدنه وعقله، ثم يهرم ويشيخ، وقد يموت من قبل هذه الأحوال، ثم يحدث موت الكل. والإخبار عن تلك المراحل الانتقالية ليعقل الإنسان أنها ترشده وتعلمه أن لا إله إلا الله. آمنت بالله وحده.

جزاء المجادلين بالباطل في آيات الله [سورة غافر (40) الآيات 69 إلى 76] :

3- التنبيه على قدرة الله في الإحياء والإماتة، وعلى سرعة إنجاز الخلق والتكوين بمجرد إرادة الله الفعل. جزاء المجادلين بالباطل في آيات الله [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) الإعراب: الَّذِينَ كَذَّبُوا بدل من الَّذِينَ الأولى، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على الذم. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ السَّلاسِلُ: مرفوع معطوف على الْأَغْلالُ وتقديره: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم. ومنهم من وقف على أَعْناقِهِمْ وابتدأ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ وتقديره: والسلاسل يسحبون بها في الحميم، فحذف الجار والمجرور. وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب اللام وفتح ياء الفعل، على أنه مفعول يُسْحَبُونَ أي يسحبون السلاسل. وقرئ «والسلاسل» بالجر، بالعطف على أعناقهم، وهي قراءة ضعيفة، لأنه يصير المعنى: الأغلال في الأعناق والسلاسل، ولا معنى للأغلال في السلاسل.

البلاغة:

البلاغة: بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ التفات عن الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ. ويوجد جناس ناقص بين تَفْرَحُونَ وتَمْرَحُونَ. المفردات اللغوية: يُجادِلُونَ كرر ذم المجادلة لتعدد المجادل أو المجادل فيه، أو للتأكيد آياتِ اللَّهِ القرآن أَنَّى كيف يُصْرَفُونَ يبعدون عن الإيمان بالله. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب والوحي والتوحيد والبعث والشرائع فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عقوبة تكذيبهم. إِذِ الْأَغْلالُ إِذِ: ظرف للفعل المتقدم يَعْلَمُونَ بمعنى إذا للاستقبال، أي ليعلمون إذ الأغلال، وعبر ب إِذِ التي هي ظرف للماضي عن المستقبل، لتيقن وقوع الأمر المخبر به وكونه مقطوعا به والْأَغْلالُ: جمع غل: وهو القيد الذي يوضع في العنق يُسْحَبُونَ يجرّون بعنف بالسلاسل فِي الْحَمِيمِ جهنم، وهي الماء الحار يُسْجَرُونَ يحرقون ويوقدون، يقال: سجّر التنور: ملأه بالوقود، ومنه وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ يقال لهم توبيخا وتقريعا: أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا ضَلُّوا عَنَّا غابوا واضمحلوا، فلا نراهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أنكروا عبادتهم إياها، ثم أحضرت كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين، حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة. ذلِكُمْ العذاب تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون وتتكبرون بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والطغيان وإنكار البعث وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تختالون أشرا وبطرا وتتوسعون في الفرح أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها مقدّرا لكم الخلود فيها مَثْوَى مأوى. المناسبة: عاد الحق تعالى في هذه الآيات إلى ذم المجادلين في آيات الله، مبينا عظيم جرمهم في تكذيب القرآن وجزاءهم على ذلك، فليس فيه تكرار، إذ السابق لبيان منشأ الجدل وسببه، وهذا تعجيب من حال المجادلين وآرائهم الفاسدة، مع

التفسير والبيان:

بيان عاقبتهم، والظاهر- كما ذكر أبو حيان- أنها في الكفار المجادلين في رسالة الرسول ص والكتاب الذي جاء به. التفسير والبيان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ أي ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين المشركين المجادلين بالباطل في آيات الله الواضحة الموجبة للإيمان بها، كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي إنهم هم الذين كذبوا بالقرآن وبالذي أرسلنا به الرسل من التوحيد وإخلاص العبادة لله والشرائع الصالحة لحياة الإنسان في الدنيا، والتبرؤ من الشرك والوثنية، والإيمان بالبعث، ثم هددهم وأوعدهم بقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم ووبال كفرهم. ثم ذكر مضمون التهديد الشديد والوعيد الأكيد بقوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حين تجعل القيود في أعناقهم، ويسحبون بالسلاسل في الحميم: وهو الماء المتناهي في الحرارة، فتتقطع جلودهم وتنسلخ لحومهم، ثم يحرقون في النار التي توقد بهم وتحيط بهم، كما قال تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] وقال سبحانه بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات 37/ 68] وقال عز وجل: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان 44/ 47- 50] .

ثم يسألون سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ عن أصنامهم المعبودة، فقال تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي يقال لهم من قبل الملائكة تقريعا لهم وتوبيخا: أين الأصنام والشركاء التي كنتم تعبدونها من دون الله، ما لهم لا ينقذونكم مما أنتم فيه، وينصرونكم اليوم وقت المحنة؟ قالوا مجيبين: غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا، وفقدناهم فلا نراهم، والحق أننا لم نكن نعبد شيئا، أي تبينا أننا لم نكن نعبد شيئا ينفع، لأنه لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وذاك الذي صدر عنهم اعتراف صريح بأن عبادتهم إياها كانت باطلة. ومثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار، أي هكذا يتبين بطلان جميع أعمال الكافرين، وتنقطع العلائق والصلات بين العابدين والمعبودين. ثم أبان الله تعالى سبب تعذيبهم فقال: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي ذلكم العذاب والإضلال بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالقة رسله وكتبه، وبسبب ما كنتم تبطرون وتأشرون وهو جزاء المرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان. ثم أوضح لهم نوع الجزاء تبكيتا وتوبيخا وتيئيسا لهم من تفادي العذاب، فقال: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، كما قال تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، لِكُلِّ

فقه الحياة أو الأحكام:

بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر 15/ 44] وإنكم مخلدون فيها أبدا على الدوام، فبئس المنزل والمأوى الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- من العجب العجاب أن المشركين الذين يجادلون في آيات الله بغير حق ويكذبون بها يصرفون عن الهدى إلى الضلال، وعن الحق إلى الباطل. 2- سيعلمون عما قريب بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار، وغلّت أيديهم إلى أعناقهم، وسحبوا بالسلاسل في الحميم، أي الماء المسخن بنار جهنم، وأحاطت بهم النار إحاطة تامة. 3- تقول لهم الملائكة بعد دخولهم النار تقريعا وتوبيخا: أين أصنامكم التي كنتم تعبدونها من دون الله، ما لكم لا تنصرون بها اليوم؟ فأجابوا: لقد هلكوا وذهبوا عنا، وتركونا في العذاب، فلا نراهم ولا نستشفع بهم. ثم اعترفوا بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة، فإنها ليست بشيء، لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وهكذا تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا، كما تقول: حسبت أن فلانا شيء، فإذا هو ليس بشيء، إذا جربته، فلم تجد عنده خيرا «1» . وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] . 4- قال الله تعالى عقب هذا الاعتراف: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال، يفعل بكل كافر، وهو إضلال لا توفيق فيه عن

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 87

الصبر والنصر [سورة غافر (40) الآيات 77 إلى 78] :

طريق الجنة بعد اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه، لا عن الحجة، إذ قد هداهم في الدنيا إليها. 5- ذلكم العذاب وسببه هو ما كانوا يفرحون به من المعاصي، ويظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة، وهو أيضا بسبب بطرهم وتكبرهم عن اتباع الحق وقبوله، واختيارهم الشرك وعبادة الأصنام. 6- ويقال لهم يوم القيامة: ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، فبئس المأوى مأوى المتكبرين عن آيات الله واتباع دلائله على توحيده وقبول شرائعه. الصبر والنصر [سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الإعراب: فَإِمَّا إن الشرطية مدغمة، وما: زائدة تؤكد معنى الشرط أول الفعل، والنون تؤكد آخره، وقد لحقت الفعل بناء على وجود «ما» ولا تلحقه النون مع «إن» وحدها. وجواب الشرط محذوف مثل: فذاك. البلاغة: أَرْسَلْنا رُسُلًا جناس الاشتقاق. مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ طباق السلب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالعذاب وهلاك الكافرين حَقٌّ كائن لا محالة بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي بعض ما نعدهم به من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه أي قبل رؤية تعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ للعذاب الشديد يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ. وهو يدل على شدة العذاب للاقتصار على ذكر الرجوع. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا.. قيل: إن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وروي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي: أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. والمذكور قصتهم: أشخاص معدودة. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لأنهم عبيد مربوبون لله، والمعجزات عطايا من الله بحسب حكمته فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بنزول العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة قُضِيَ بِالْحَقِّ بين الرسل ومكذبيهم، بإنجاء المحق وتعذيب المبطل وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي ظهرت خسارة المعاندين باقتراح الآيات، بعد وجود ما يغنيهم عنها. المناسبة: كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله، ثم أمر الله تعالى هنا رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، ووعده بالنصر عليهم، وإنزال العذاب على أعدائه. التفسير والبيان: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فاصبر أيها الرسول على تكذيب بعض قومك، فإن وعد الله بالنصر عليهم والانتقام منهم كائن لا محالة، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي إن نرك في حياتك أيها الرسول بعض ما نعدهم به من العذاب، كالقتل والأسر يوم بدر، ثم فتح مكة وسائر جزيرة العرب، فذاك ما يستحقونه، وقد تحقق ذلك في

حياته ص. أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم، فإلينا مصيرهم يوم القيامة، فنذيقهم العذاب الشديد حينئذ، ونجازيهم على أعمالهم. ونظير الآية: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف 43/ 42] . ثم قال الله تعالى مسليا رسوله ص: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين من قبلك إلى أقوامهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من قومهم وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك خبره، وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف، كما قال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.. [النساء 4/ 164] . وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال: «قلت: يا رسول الله، كم عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر، جمّا غفيرا» . والذين ذكرهم الله في القرآن من الرسل قريب من خمسة وعشرين رسولا. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بمعجزة خارقة للعادة إلا أن يأذن الله له في ذلك، فيستدل حينئذ على صدقه فيما جاءهم به. والمراد بالآية: المعجزة الدالة على نبوته. وكان أقوام الأنبياء يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات عنادا وتعنتا. فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي إذا حان الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة، قضي بالعدل فيما بينهم، فينجي الله بقضائه الحق عباده المرسلين المحقين والذين آمنوا معهم، ويهلك الكافرين الذين

فقه الحياة أو الأحكام:

يتبعون الباطل ويعملون به. فما عليك يا محمد ص إلا الصبر، تأسيا بالأنبياء قبلك، وإذا جاء أمر الله بالفصل بينك وبين قومك، قضي بينكم بالحق، فنصرت، وخسر المبطلون من ملأ قريش الذين يصدّون عن دعوتك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على أمور أربعة: 1- الأمر بالصبر للنبي ص تسلية له، وإعلامه بأن الله سينتقم له من قومه المكذبين لرسالته، إما في حياته، أو في الآخرة. وأمة النبي ص مأمورة مثله بالصبر. 2- أرسل الله تعالى للأمم المتقدمة رسلا وأنبياء كثيرين، منهم من أخبر الله نبيه بأخبارهم وما لقوا من قومهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ومنهم من لم يخبره الله بهم. 3- ليس لنبي من قبل نفسه أن يأتي بآية بيّنة أو معجزة لإثبات نبوته وصدقه، إلا بإذن من الله وتيسير له بذلك، فإن المعجزة وهي الأمر الخارق للعادة لا يستطيعها إلا من اتصف بالقدرة الإلهية، وهو الله وحده الذي يظهر المعجز على يد نبي أو رسول لما يرى من الحكمة والصلاح. 4- إذا جاء الوقت المسمى لعذاب المكذبين برسالة النبي في الدنيا أو في الآخرة، أهلكهم الله في الدنيا، وخسر في الآخرة المبطلون الذين يتبعون الباطل والشرك، وهذا وعيد شديد لهم. وإنما يؤخر الله عنهم العذاب أحيانا ليترك الفرصة والمجال لإسلام من علم الله إسلامه منهم، ولمن في أصلابهم من المؤمنين.

دلائل أخرى كثيرة على وجود الله ووحدانيته [سورة غافر (40) الآيات 79 إلى 81] :

دلائل أخرى كثيرة على وجود الله ووحدانيته [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) الإعراب: َيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أَيَ : استفهام، وهي منصوب بنْكِرُونَ والاستفهام إنما ينصب بما بعده، لأن له صدر الكلام. وهو استفهام توبيخ. وتذكيرأَيَ أشهر من تأنيثه، وهنا جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك «فأية آيات الله» قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة: غريب، وهي في أَيَ أغرب، لإبهامه. المفردات اللغوية: الْأَنْعامَ هي الإبل والبقر والغنم والمعز لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ منها ما يؤكل كالغنم، ومنها ما يؤكل ويركب كالإبل وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان والجلود والأصواف والأوبار وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالمسافرة عليها وحمل الأثقال إلى البلاد، والحاجة: الأمر المهم وَعَلَى الْفُلْكِ السفن في البحر، وإنما قال: عَلَى الْفُلْكِ ولم يقل: في الفلك، كما في قوله تعالى: قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود 11/ 40] للمزاوجة والمطابقة بينها وبين ما قبلها وهو: وَعَلَيْها ولأن راكب السفينة يستعليها، فيصح كونه فيها، لأنها وعاء له، ويصح كونه عليها لاستعلائها. يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته ووحدانيته أَيَّ آياتِ اللَّهِ الدالة على ما ذكر من تلك الآيات نْكِرُونَ فإنها لوضوحها وظهورها لا تقبل الإنكار.

المناسبة:

المناسبة: بعد الإطناب في وعيد المكذبين المجادلين في آيات الله، بما فيه العبرة والكفاية، عاد الحق تعالى إلى إيراد دلائل أخرى تدل على وجود الله ووحدانيته، ويصلح تعدادها نعما على العباد، ثم أجمل في الإحالة على أدلة كثيرة تحيط بالناس. التفسير والبيان: يمتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام ذات المنافع الكثيرة والدالة على قدرة الله فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي إن الله تعالى هو الذي خلق لأجلكم الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز، لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها، فالإبل: تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الأثقال في الأسفار، والبقر: تؤكل ويشرب لبنها، ويحرث عليها الأرض، والغنم تؤكل ويشرب لبنها، والجميع تتناسل وتجز أصوافها وأشعارها وأوبارها، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة، لذا قال تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي ولكم فيها منافع أخر غير الركوب والأكل، كأخذ الوبر والصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك مما يستعمل للثياب والأمتعة والمأكولات، ولتحمل أثقالكم إلى البلاد النائية بيسر وسهولة، وعلى الإبل في البر، وعلى السفن في البحر تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر، ومن موضع إلى آخر، وقد قيل: «الجمل سفينة الصحراء» . ويلاحظ أنه تعالى قرن بين الامتنان بنعمة الركوب في البر، ونعمة الامتنان بركوب البحر.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونحو الآية قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. إلى أن قال: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ.. [الأنعام 6/ 143- 144] وقوله سبحانه: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل 16/ 5- 7] . ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثيرة الدالة على قدرة الله التي لا تنكر قال: يُرِيكُمْ آياتِهِ، فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أي إن الله تعالى يري عباده عيانا هذه الآيات والبراهين التي عددها في الآفاق والأنفس، والتي هي كلها ظاهرة باهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته، فما الذي تنكرونه منها؟ وهي كلها ظاهرة واضحة، بحيث لا ينكرها ذو بصيرة نيّرة إن كان منصفا، أي إنكم في الواقع لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا، كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد والسبب في إدخال اللام على لِتَرْكَبُوا ولِتَبْلُغُوا وعدم دخولها على البواقي: هو الاهتمام بجل المنافع وهو الركوب والحمل عليها، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والأشعار فهو غرض أقل وأبسط. فقه الحياة أو الأحكام: هذه ادلة أخرى على كمال قدرة الله ووحدانيته، وتشير إلى عظم نعم الله على عباده، وهي تتمثل في خلق الأنعام للأكل والركوب، والانتفاع بها في منافع كثيرة للثياب والأمتعة والمأكولات، وحمل الأثقال، والتنقل عليها في الأسفار وقطع المسافات، سواء في البر والبحر.

تهديد المكذبين المجادلين في آيات الله وتركهم الشرك حين رؤية العذاب [سورة غافر (40) الآيات 82 إلى 85] :

وتتمثل أيضا في إظهار الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته، فكيف يسوغ لإنسان عاقل إنكار هذه الآيات الباهرة؟ وإذا كنتم أيها المشركون لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله، فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر؟! أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النازعات 79/ 27- 28] ؟! وإن تلك الآيات كثيرة لا يمكن إنكار شيء منها عقلا. تهديد المكذبين المجادلين في آيات الله وتركهم الشرك حين رؤية العذاب [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) الإعراب: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَيْفَ: خبر مقدم لكان وعاقِبَةُ: اسمها المؤخر، ومِنْ قَبْلِهِمْ صلة الموصول.

البلاغة:

فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما الأولى: نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية: موصولة أو مصدرية مرفوعة به. فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ: للتبيين، أي تبيين «ما» أي فرحوا بالشيء الذي عندهم من العلم. أو تبيين «البينات» وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات من العلم، فرحوا بما عندهم. والأوجه هو الأول. سُنَّتَ اللَّهِ منصوب على المصدر، بفعل مقدر من لفظه، أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد، وهي من المصادر المؤكدة بمنزلة «وعد الله» وما أشبهه من المصادر المؤكدة. البلاغة: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..؟ استفهام للإنكار، إنكار عدم السير المترتب عليه النظر السليم. المفردات اللغوية: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ.. استئناف مبين لحالهم وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ما أبقوه من القصور والمصانع والحصون ونحوها بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والآيات الواضحات فَرِحُوا أي الكفار فرح استهزاء وضحك، متنكرين له بِما عِنْدَهُمْ عند الرسل مِنَ الْعِلْمِ أي واستحقروا علم الرسل، والمراد بالعلم: عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم، والآية كقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النحل 16/ 66] أي تكامل واستحكم علمهم بأحوالها في الآخرة، وهو تهكم بهم لفرط جهلهم بها، وعلمهم: هو قولهم: لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة، ونحوها. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي نزل بهم ما هزئوا به من العذاب، وهذا يؤيد أن المراد بفرحهم: استهزاؤهم بالرسول وضحكهم منه بَأْسَنا شدة عذابنا وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ أي لم يصح ولم يستقم، لامتناع قبوله سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد أو الأمم ألا ينفعهم الإيمان وقت نزول العذاب وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ تبين خسرانهم لكل أحد، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك. وهُنالِكَ أي وقت رؤيتهم البأس، وهو اسم مكان أستعير للزمان. وسبب ترادف الفاءات هو كما أبان الزمخشري: أما قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ فهو نتيجة لقوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ. وأما قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فهو كالتفسير

المناسبة:

والبيان لقوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا، فلما رأوا بأسنا آمنوا، لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل. وكذلك فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله، وامتناع نفع الإيمان مسبب عن رؤية البأس «1» . المناسبة: اشتملت السورة على فصلين: فصل في دلائل الألوهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة، وفصل في التهديد والوعيد، وهذه الآيات التي ختمت بها السورة متعلقة بالفصل الثاني في تهديد الكفار الذين يجادلون في آيات الله، المتكبرين على رسله المكذبين لهم، اغترارا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم، وطلبا للرياسة والجاه، وهو تهديد يبين نهاية من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حلول بأس الله، بل إن إيمانهم بالله وتركهم الشرك حين رؤية البأس لم ينفعهم أيضا. التفسير والبيان: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أفلم يسر في البلاد هؤلاء المجادلون في آيات الله من المشركين، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله، وكذبت رسلها، ويشاهدوا آثارهم الموجودة في ديارهم التي تدل على ما نزل بهم من عقوبة وعذاب شديد، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا، وأقوى منهم أجسادا، وأوسع منهم أموالا، وأبقى في الأرض آثارا بالعمائر والمصانع والحصون والمزارع والسدود، ونحو ذلك من مظاهر الحضارة والعمران والفن والعلوم.

_ (1) الكشاف: 3/ 62

فلما حل بهم العذاب لم يغن عنهم كل ما عملوه في دنياهم من مكاسب وجاه، ولم ينفعهم ما لهم ولا أولادهم، ولا رد عنهم أمر الله، أو نزول العذاب الشديد بهم، ولا أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي فلما جاءت الرسل بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات إلى تلك الأمم المكذبة، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم، أي الشبهات الداحضة والدعاوي الزائغة التي ظنوها علما نافعا لهم، مثل قولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية 45/ 24] وقولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام 6/ 148] وقولهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس 36/ 78] وفرحوا بهذه الترهات والأباطيل، لأنهم كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم 30/ 7] . ولكن نزل وأحاط بهم ما كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه وهو العذاب، استهزاء وسخرية، أي نزل بالكفار عقاب استهزائهم برسالات الرسل. وقد سمى الله تعالى ما عندهم من العقائد الزائفة والشبه الداحضة «علما» تهكما بهم واستهزاء منهم، كما تقدم. ثم صوّر تعالى ما يكون من شأن الإنسان حين تطبيق العقاب عليه، فقال: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي فلما عاينوا وقوع العذاب بهم، صدقوا بالله ووحدوه، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها، ولكن لم ينفعهم ذلك الإيمان، ولم تنفعهم المعذرة، كما قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي لم يصح ولم يستقم أن إيمانهم ينفعهم عند معاينة عذابنا، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فهو

فقه الحياة أو الأحكام:

إيمان اضطراري عن إكراه، وإنما ينفع الإيمان الاختياري، لا الإيمان الاضطراري، لأنه عند معاينة الأمر الحتمي لا يبقى للتكليف مجال، فالكل يؤمن حينئذ، وهكذا لا ينفع الإيمان عند رؤية العذاب أو الموت أو الغرق أو في الآخرة، ولم يكن الشخص آمن في الدنيا. وهذا كما فرعون حين أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقال الله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس 10/ 90- 91] فلم يقبل الله منه إيمانه. ثم ذكر الله تعالى حكما عاما، فقال: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي إن هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وإن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. وخسر الكفار وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب. جاء في الحديث الثابت: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1» أي فإذا غرغر، وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ، ولهذا قال تعالى هنا: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وقال: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر 40/ 78] . فليحذر الكافر والمقصر، وليتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن آثار تدمير الأمم الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل عبرة

_ (1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.

للمعتبر، فلو سار الناس في نواحي الأرض، لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين، ليست إلا الهلاك والبوار والدمار، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين، والدنيا كلها فانية ذاهبة، فلا يغترن أحد بمال ولا جاه ولا سلطان. 2- كان سبب تدمير أولئك الأقوام في الماضي هو تكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والآيات الواضحات، وفرحهم بعقائدهم الزائفة وشبههم الباطلة، مثل قولهم: لن نعذب ولن نبعث، واستهزاؤهم بما جاء به الرسل، فأحدق بهم العقاب من كل جانب. 3- لقد آمن هؤلاء المشركون بالله وحده، وكفروا بالأوثان التي أشركوها في العبادة مع الله، عند رؤية العذاب. 4- ولكن الإيمان بالله عند معاينة العذاب، وحين رؤية البأس لا ينفع ولا يفيد صاحبه. 5- سنّ الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وأضحى عدم قبول الإيمان حال اليأس من النجاة سنة الله المطردة في كل الأمم. 6- والغاية أن يحذر أهل مكة وغيرهم من المشركين سنة الله في إهلاك الكفرة، وأن يعلموا أن الإيمان وقت رؤية الهلاك لا ينفع، وأن ما يدّعونه من علم وحضارة لا يغني عن دين الله ورسالة الأنبياء، فشريعة الله هي الأصح. 7- ليعلم أولئك الذين يصفون شريعة الإسلام بالهمجية والوحشية والقسوة، وهم الذين احتضنوا أفكار الغرب غير الدينية، وآمنوا بالقوانين الوضعية الحديثة، وأحلوها محل شريعة الله تعالى، ليعلموا أنهم جهلة بهذه الشريعة، وأنهم كفروا بالإسلام من حيث لا يشعرون، وأن بواعث تحضّرهم،

وادعاءهم إرادة التقدم والمدنية والأخذ بمعطيات الحضارة الحديثة يؤدي لهدم شرع الله تعالى. ولو فهموا هذا الشرع بدقة لحقق لهم كل ما يريدون ضمن ضوابط شاملة، ولم يتورطوا بوصف الشريعة الإسلامية بأنها من الشرائع البدائية أو التقليدية في أنظمة المعاملات المدنية أو الجنائية أو قواعد الإثبات، فإن التزام قواعد الشريعة خير وأحكم وأمنع مما يعيش به مجتمع القرن العشرين من فقد الأمن وكثرة الجريمة وانحلال القيم والأخلاق، وإن قواعد الإثبات فيها أولى من إعطاء حرية الإثبات المطلقة لتقدير القاضي وقناعته الشخصية، فذلك قد يؤدي إلى إهدار الحقوق، وتجريم البريء.

سورة فصلت أو السجدة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة فصّلت أو: السجدة مكيّة، وهي أربع وخمسون آية. تسميتها: سمّيت سورة فصلت لافتتاحها بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ.. وقد فصّل الله تعالى فيها الآيات، وأوضح الأدلة والبراهين على وجوده وقدرته ووحدانيته، من خلقه هذا الكون العظيم وتصرفه فيه. وتسمى أيضا حم، السجدة لأن رسول الله ص عند قراءة أولها على زعماء قريش حتى انتهى إلى السجدة منها، سجد. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبتها لما قبلها وهي سورة غافر من وجهين: الأول- افتتاح كلتيهما بوصف الكتاب الكريم وهو القرآن العظيم. الثاني- اشتراكهما في تهديد ووعيد وتقريع المشركين المجادلين في آيات الله في مكة وغيرها، ففي آخر السورة المتقدمة توعدهم بقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [82] ، وفي القسم الأول من هذه السورة هددهم مرة أخرى بقوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [13] . وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذّبي الرّسل حين رؤية العذاب، كما

مشتملاتها:

أن قريشا لم ينتفعوا حينما حلّ بصناديدهم القتل والأسر والنهب والسّبي، واستؤصلوا مثلما حلّ بعاد وثمود من استئصال. مشتملاتها: موضوع هذه السورة مثل موضوع باقي السّور المكية وهو إثبات أصول العقيدة: «الوحدانية، الرّسالة والوحي، البعث والجزاء» . ابتدأت بوصف القرآن العظيم بأنه المنزّل من عند الله بلسان عربي مبين، والذي يبيّن أدلة قدرة الله وتوحيده، وكونه المبشّر المنذر، والذي يثبت صدق النّبي محمد ص فيما جاء به من عند ربّه. وأبانت موقف المشركين وإعراضهم عن تدبّره، وقررت حقيقة الرسول ص وأنه بشر خصّه الله تعالى بالوحي المتضمن إعلان وحدانية الله عزّ وجلّ، وإيضاح جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات. ثم أنكرت على المشركين الكفر، وأقامت الأدلة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض، وأنذرتهم بإنزال عقاب مماثل لعقوبة الأمم الغابرة، كعاد وثمود الذين أهلكوا ودمرت ديارهم بسبب تكذيب رسل الله، ولكن بعد إنجاء المؤمنين المتّقين. وحذّرت من حساب القيامة، وأخبرت بأن أعضاء الإنسان تشهد عند الحشر على أصحابها، وأن قرناء السوء زيّنوا لهم أعمالهم، وأنّهم هم صدّوا عن سبيل الله ودينه، وقالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وطلبوا إهانة من أضلوهم ليكونوا من الأسفلين. وفي مواجهة أولئك أشاد تعالى بأهل الاستقامة وبشّرهم بالجنة والكرامة، ووصف من يلقّى الجنة وهم الصابرون على طاعة الله تعالى.

فضلها:

ثم عاد الله تعالى إلى إيراد أدلة أخرى من إيجاد العالم العلوي والسفلي على وجود الله ووحدانيته وقدرته، وبيان إحكام القرآن وكونه كتاب هداية وشفاء ورحمة، وأن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها دون جور ولا ظلم. وأعقب ذلك التعريف بعلم الله المحيط بكل شيء، والإشارة لعظيم قدرته، والكشف عن طبع الإنسان من التّكبر عند الرّخاء، والتّضرع عند الشدة والعناء. وختمت السورة بوعد الله أن يطلع الناس في كل زمان على بعض أسرار الكون والتّعرف على آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على الوحدانية والقدرة الإلهية، ثم ذكرت أن المشركين يشكون في البعث والحشر، ولكن الله محيط بهم وبكل شيء، وذلك ردّ حاسم عليهم. فضلها: أخرج الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده وأبو يعلى والبغوي وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «اجتمعت قريش يوما، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يردّ عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: ائته يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله ص، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله ص، فقال عتبة: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلّم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن

في قريش كاهنا، والله، ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفاني. أيها الرّجل، إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا، وإن كان إنما بك الباءة «1» ، فاختر أي نساء قريش شئت، فلنزوجك عشرا؟ فقال رسول الله ص: فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ..- حتى بلغ-: فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ فقال رسول الله ص: لا. فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا، والذي نصبها بنية (أي الكعبة) ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك، يكلّمك الرجل بالعربية، لا تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة» . وفي رواية البغوي: «والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» . وفي رواية محمد بن إسحاق في سيرته: «قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

_ (1) الميل إلى النساء.

القرآن الكريم وإعراض المشركين عنه وبشرية الرسول ص [سورة فصلت (41) الآيات 1 إلى 8] :

قال: ورائي أني سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم» . القرآن الكريم وإعراض المشركين عنه وبشرية الرسول ص [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) الإعراب: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ تَنْزِيلٌ: مبتدأ، ومِنَ الرَّحْمنِ: صفة له، وكِتابٌ: خبره، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل. قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً: حال وعامله: فُصِّلَتْ أو منصوب بفصلت أو منصوب على المدح، أي أمدح قرآنا عربيا. ولِقَوْمٍ.. متعلق بفصلت.

البلاغة:

بَشِيراً وَنَذِيراً حال من الآيات وعامله: فُصِّلَتْ أو حال من كِتابٌ لأنه قد وصف، وعامله «هذا» إذا قدرت، لما فيه من معنى التنبيه أو الإشارة، أي هذا كتاب فصلت آياته. يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ.. إِنَّما: مرفوع بيوحى على أنه مفعول الفعل المبني للمجهول. البلاغة: بَشِيراً وَنَذِيراً بينهما طباق. وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ استعارة تصريحية، شبّهوا إعراضهم عن القرآن ونفرتهم ومباعدتهم عنه وشدّة كراهيتهم بمن حجبت قلوبهم عن العلم، وأسماعهم عن الفهم والإدراك. المفردات اللغوية: حم للتنبيه على إعجاز القرآن وتحديه، وعلى خطر ما يذكر في السورة من أحكام. فُصِّلَتْ بيّنت وميّزت أتمّ بيان وأوضح تفصيل للأحكام والقصص والمواعظ. قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب كله، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم يفهمون ذلك، وهم العرب. بَشِيراً وَنَذِيراً صفة القرآن، فهو مبشّر للعاملين به، ومنذر للمخالفين له. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبّره وقبوله. فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمل وطاعة وقبول، أي لا يقبلون ولا يطيعون. وَقالُوا للنبي ص قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية، جمع كنان، كغطاء وأغطية، والكنان: جعبة (أو خريطة) السهام، والمراد أنها في أغطية سميكة متكاثفة. وَقْرٌ صمم أو ثقل سمع. حِجابٌ ستار أو ساتر يمنعنا عن التواصل، والمراد: خلاف في الدين، وقوله: وَمِنْ بَيْنِنا.. للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه، بحيث استوعب المسافة المتوسطة، ولم يبق فراغ. فَاعْمَلْ على دينك. إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا. أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي لست ملكا أو جنّيا لا يمكنكم الالتقاء به. أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي إنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ توجهوا إليه بالإيمان والطاعة. وَاسْتَغْفِرُوهُ اطلبوا المغفرة مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله، والويل: كلمة عذاب، وهو كلمة تهديد لهم، أو واد في جهنم. لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق، وذلك من أعظم الرّذائل. وفيه دليل على

التفسير والبيان:

أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ هُمْ الثانية تأكيد، والجملة حالية مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع، ولا يمنّ به عليهم، من المنّ. التفسير والبيان: حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وللدلالة على خطر ما يتلى بعدها، هذا القرآن منزّل من الله تبارك وتعالى ذي الرحمة الواسعة لعباده، فهو المنعم بعظائم النّعم ودقائقها، إنه منزّل على عبده ونبيّه محمد ص. وتخصيص هذين الوصفين الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بالذّكر هنا للدلالة على أن هذا القرآن هو البلسم الشافي للأمم والأفراد والجماعات، وهو الرّحمة الكبرى للعالم، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] . ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل 16/ 102] ، وقوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] . كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وهو كتاب بيّنت آياته بيانا شافيا، وأوضحت معانيه، وأحكمت أحكامه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود 11/ 1] ، وقد أنزلناه بلغة العرب، ليسهل فهمه، فمعانيه مفصّلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، وإنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون الذين يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، ويعلمون معانيه، لنزوله بلغتهم، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف 12/ 2] ، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 14/ 4] .

بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي إن هذا القرآن يبشّر المؤمنين أولياء الله بالجنة لاتّباعهم له وعملهم به، وينذر الكافرين أعداء الله بالنار لمخالفتهم أحكامه، وإصرارهم على التكذيب به حتى الموت، ولكن أعرض أكثر الكفار المشركين عمّا اشتمل عليه من الإنذار، وعن الإصغاء إليه، فهم لا يسمعون آياته سماع تدبّر وانتفاع، ولم يقبلوه ولم يطيعوا أحكامه، لإعراضهم عنه، بالرغم من بيانه ووضوحه. ثم صرّحوا بأسباب ثلاثة لنفرتهم ومباعدتهم عنه، كما حكى تعالى: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ أي وقال أولئك المشركون: قلوبنا في أغطية، فهي لا تفقه ما تقول، ولا يصل إليها قولك ودعوتك إلى الإيمان بالله وحده، وترك عبادة الآباء والأجداد، وفي آذاننا صمم وثقل سمع يمنعها من استماع قولك، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك، ويمنعنا من إجابتك. وهذه تمثيلات ثلاثة منهم لنبو قلوبهم عن إدراك الحق، ومجّ أسماعهم له، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله ص. قيل: إن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه. فاعمل على دينك وطريقتك، إننا عاملون على ديننا وطريقتنا، لا نتابعك، واعمل في هلاكنا وإبطال أمرنا، فإنا عاملون في هلاكك وإبطال أمرك وفضّ الناس من حولك. وأذكر هنا رواية أخرى لما ذكرت في فضل هذه السورة، روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله ص ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلّم عتبة، قرأ رسول الله ص حم ومرّ في صدرها حتى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ

صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأرعد الشيخ، ووقف شعره، فأمسك على فم رسول الله ص بيده، وناشده بالرّحم أن يمسك وقال حين فارقه: «والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي» . وبعد أن ذكروا أسباب إبائهم الإيمان بالله وحده، أجيبوا بأن محمدا مجرد بشر لا يقدر على جبرهم على الإيمان، فقال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ أي قل أيها الرسول مجيبا قومك المكذبين المشركين عن شبهتهم: ما أنا إلا بشر كواحد منكم لولا الوحي، وإني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا، فإني بشر مثلكم، لكني أبلغكم ما أوحي إليّ به، وخلاصة ذلك الوحي أمران: العلم والعمل، أما العلم فأساسه معرفة التوحيد، لأن الحق هو أن الله واحد، وليس معه شريك من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرّقين، وهو المراد بقوله: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ والحق يجب علينا أن نعترف به، والعمل أساسه: الاستقامة والاستغفار والتوبة من الذنوب، أي الطاعة وإخلاص العبادة، وطلب العفو عن الذنوب السالفة، ورأسها الشرك، لذا أعقبه بتهديد المشركين، فقال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي الهلاك والدمار والخسارة للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها آخر، والذين تجرّدوا من حبّ الإنسانية والشفقة على خلق الله فلا يؤدون الزكاة، ويمنعونها عن الفقراء، ولا ينفقون في الطاعة، وهم جاحدون الآخرة، منكرون البعث والحساب والجزاء. فالله تعالى أثبت الويل لمن اتّصف بصفات ثلاث:

أولها- أن يكون مشركا، وهو ضدّ التوحيد. وثانيها- كونه ممتنعا من أداء الزكاة، وهو ضدّ الشفقة على خلق الله تعالى. وثالثها- كونه منكرا للقيامة، مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها. وإنما ذكر الله تعالى هذه الأوصاف، لأن الإيمان أساس العقيدة، والشرك هدم لها، ولأن الزكاة دليل الإيمان، لأنها اقتطاع جزء من أحب الأشياء إلى النفس وهو المال قرين الروح، لذا قيل: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلّف عنها هلك. ومنع الزكاة قسوة على عباد الله، وبذلها دليل على صدق النّية. وأما الإيمان بالآخرة: فهو خلاصة الإيمان وهدفه وتقرير للمصير. وإنكار البعث والقيامة: تدمير لكل الأعمال في الدنيا، وانصراف إليها وإعراض عن الآخرة. وهذه الآية تهديد لمن يشرك بالله، ويمنع الزكاة التي تطهّر النّفس من داء الشّح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة وينصرف إلى الدنيا ولذاتها. ونحو الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10] . ثم أعقب وعيد الكفار بوعد المؤمنين للجمع المألوف في القرآن بين الترهيب والتّرغيب، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهى عنه، لهم عند ربّهم أجر وثواب غير مقطوع ولا ممنوع، ولا يمنّ عليهم به، لأن المنّة بالتّفضل، وأما

فقه الحياة أو الأحكام:

الأجر فحقّ أداؤه، كما قال تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108] ، وقال سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق 84/ 25] . قال السّدّي: نزلت في الزّمنى والمرضى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة، كتب لهم من الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون فيه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- وصف الله تعالى القرآن في مطلع هذه السورة بصفات عشر: هي كونه تنزيلا، وكون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم، وكونه كتابا، وفصّلت آياته، وكونه قرآنا، وكونه عربيا، ولقوم يعلمون ليفهموا منه المراد، وبشيرا، ونذيرا، وكونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه. 2- ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلّف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية، وحملها على معان أخر بغير هذا الطريق باطل قطعا. 3- ليس في القرآن الكريم لفظ غير عربي، وهذا ردّ على من قال: اشتمل القرآن على سائر اللغات، مثل إِسْتَبْرَقٍ وسِجِّيلٍ من اللغة الفارسية، وكَمِشْكاةٍ من لغة الحبشة، وبِالْقِسْطاسِ من لغة الروم. 4- إن ألفاظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج هي ألفاظ عربية لغوية، لا شرعية، وإنما خصصها الشرع ببعض أنواع مسمياتها، فالإيمان مثلا خصصه الشرع بنوع معين من التصديق، والصلاة خصصها الشرع بنوع معين من الدعاء، وهكذا البواقي، لقوله تعالى السابق: قُرْآناً عَرَبِيًّا وقوله المتقدم: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ.

5- إن وصف القرآن بكونه عَرَبِيًّا في معرض المدح والتعظيم دليل على أن لغة العرب أفضل اللغات. 6- دلّ قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ على أنه لا يجوز أن يحصل في القرآن شيء غير معلوم، لأن المعنى: إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما. 7- دلّ قوله تعالى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ على أن الهادي من هداه الله، وأن الضّال من أضلّه الله. وهذا بعد اختيار أصل الهداية وأصل الكفر والضّلال، فليس المعنى: هو الجبر على الهداية أو الجبر على الضّلالة، فإن المشركين أعرضوا عن القرآن بعد توافر موجبات ثلاثة للإيمان، وهي: كون القرآن نازلا من عند الله الرّحمن الرّحيم، وكونه عربيا، وكونه بشيرا ونذيرا. 8- دلّت آية: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ.. الآية على أن الكفار كانوا في غاية النّفرة والمباعدة عن القرآن باختيارهم وتصريحهم. 9- لا يختلف النّبيّ ص وغيره من الأنبياء عن سائر الناس إلا بإنزال الوحي عليهم، فهم بشر عاديون كسائر البشر، لكن اصطفاهم ربّهم للنّبوة والرسالة وتبليغ وحيه إلى الناس. 10- إن مناط السعادة تعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله، ولقد أخلّ المشركون بالأمرين معا، فكانوا أشقياء، فهم لم يعظموا الله بتوحيده، ولم يخلصوا العبادة والطاعة، ولم يبادروا إلى الاستغفار من الشرك، ولم يرحموا عباد الله بمنعهم الزكاة، ولم ينفقوا في الطاعة، ولم يستقيموا على أمر الله، وأنكروا البعث والحشر والحساب والجزاء. وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره مع منع وجوب الزكاة عليه، فإنه تعالى ألحق الوعيد الشديد له على أمرين: كونه مشركا، وأنه لا يؤتي الزكاة، فدلّ على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد.

دليل وجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته [سورة فصلت (41) الآيات 9 إلى 12] :

11- إن الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأدّوا الفرائض والطاعات، واجتنبوا المنكرات والمحظورات، لهم عند ربّهم أجر وثواب لا ينقطع أبدا. دليل وجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) الإعراب: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً الواو: واو الحال من ضمير خَلَقَ وتقديره: قل: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين مجعولا له أندادا. سَواءً لِلسَّائِلِينَ سَواءً بالنصب على المصدر، بمعنى (استواء) وتقديره: استوت استواء. وقرئ بالرفع (سواء) لأنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره: هي سواء، وقرئ بالجر مجرورا على الوصف لأيام أو لأربعة والمشهور: النصب. طَوْعاً أَوْ كَرْهاً حال. قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ جمعها جمع العقلاء، لأنه وصفها بالقول والطاعة، مثل: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فقد وصفها بالسجود، وهو من صفات العقلاء، وجمعها جمع من يعقل.

البلاغة:

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ سَبْعَ سَماواتٍ: في موضع نصب على البدل من هاء ونون فَقَضاهُنَّ. البلاغة: أَإِنَّكُمْ استفهام إنكاري، ولام لَتَكْفُرُونَ لتأكيد الإنكار، وتقديم الهمزة لصدارتها. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً استعارة تمثيلية، مثل تأثير قدرته في السموات والأرض بأمر السلطان أحد رعيته بتنفيذ شيء، وامتثال الأمر بسرعة. طَوْعاً وكَرْهاً بينهما طباق. المفردات اللغوية: لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الكفر به: إلحادهم في ذاته وصفاته. فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين أو بنوبتين، وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. أَنْداداً شركاء، جمع ندّ، أي شريك. ذلِكَ الذي خلق الأرض في يومين. رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات ومالكها ومربّيها، والْعالَمِينَ: جمع عالم: وهو ما سوى الله، وجمع لاختلاف أنواعه تغليبا للعقلاء. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، وهو كلام مستأنف غير معطوف على خَلَقَ للفصل بما هو خارج عن صلة بِالَّذِي. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها. وَبارَكَ فِيها أكثر خيرها، بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوانات والمياه. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قسم فيها أقواتها للناس والبهائم. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تمام أربعة أيام تمّ الجعل والتقدير، أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدمين. سَواءً لِلسَّائِلِينَ أي استوت الأربعة استواء لا تزيد ولا تنقص، أي إنها أربعة أيام كاملة لا زيادة فيها ولا نقصان، ولِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف تقديره: هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو متعلق بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد وعمد نحوها، أي تعلقت إرادته بها. وَهِيَ دُخانٌ أي مادة غازية مظلمة، تشبه الدخان في رأى العين. ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي ائتيا في الوجود، إذا كان الخلق السابق بمعنى التقدير، أو اخضعا لمرادي منكما من التأثير والتأثر، حال كونكما طائعتين أو مكرهتين. قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين بالذات، وفيه تغليب المذكر العاقل. قال البيضاوي: والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيها، وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع، وإجابة المطيع الطائع، كقوله: كُنْ فَيَكُونُ.

المناسبة:

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ خلقهنّ خلقا إبداعيا وصيّرهنّ وأكملهنّ وفرغ منهنّ، والضمير يرجع إلى السماء، لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه. فِي يَوْمَيْنِ فرغ منها في تمام يومين، وهذا موافق لآيات خلق السموات والأرض في ستة أيام. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها شأنها وما يتأتى منها من الطاعة والعبادة. بِمَصابِيحَ نجوم. وَحِفْظاً منصوب بفعل مقدر، أي حفظناها حفظا من استراق الشياطين السمع، بالشّهب، أو من الآفات. ذلِكَ الخلق. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ تقدير البالغ التمام في القدرة والعلم، فهو القوي القادر في ملكه، العليم بخلقه. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بتوحيده في الألوهية والربوبية، أردفه بما يدلّ على وجوده: وهو الخلق والتقدير للسموات والأرض في مدة قليلة، وفي ذلك أيضا ما يدلّ على كمال قدرته وحكمته، فمن كانت هذه صفته، فكيف يسوغ جعل الأصنام والأوثان شركاء له في الألوهية والعبودية، وهي عاجزة عن الخلق والتقدير؟! التفسير والبيان: قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ قل أيها الرسول لقومك المشركين توبيخا وتقريعا: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في مقدار يومين، قيل: هما يوم الأحد ويوم الاثنين، أو في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية، ونوبة جعلها طبقات بذخائرها المائية والمعدنية. وتجعلون له أمثالا وأضدادا مساوين له في القدرة من الملائكة والجنّ والأصنام والأوثان، فذلك المتصف بالخلق والإبداع هو ربّ العالمين كلهم، أي مربّي الإنس والجنّ ومالكهم وخالقهم ومدبّرهم، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته؟! ومن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به؟!

إنه تعالى خلق الأرض في يومين، وتمّم بقية مصالحها في يومين آخرين، وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين. والمراد باليوم: الوقت مطلقا، لا اليوم المعروف، لأنه لم يكن هذا النظام قد وجد بعد. والخلاصة: إن الآية إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقتدر على كل شيء. ثم أتمّ تعالى ما يقتضيه حسن العيش في الأرض بإيجاد ثلاثة أنواع فيها، فقال: 1- وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها أي جعل في الأرض جبالا ثوابت مرتفعة عليها، فهي التي تحفظ الأرض من الاضطراب، وتخزن المياه والمعادن، وترشد إلى الطرق، وتحفظ الهواء والسحاب، وهذا كقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [المرسلات 77/ 27] . 2- وَبارَكَ فِيها أي جعل الأرض مباركة كثيرة الخير، بما خلق فيها من منافع العباد، إذ جعل تربتها مصدرا للخير والرزق بإنبات النباتات المختلفة فيها، وإيداعها الثروة المعدنية والنفطية والمائية. 3- وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي قدّر فيها أرزاق أهلها، وما يصلح لمعاشهم من الأشجار والمنافع، وجعل في أقطارها ما يناسب سكانها من أطعمة ونباتات، وأوجد في كل أرض ما لا يصلح في غيرها. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ أي إنه تعالى أتمّ معايش أهل الأرض في تتمة أيام أربعة باليومين المتقدّمين. وإنما ذكر هذه الأيام الأربعة للدلالة على أنها كانت مستغرقة بالأعمال من غير زيادة ولا نقصان، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين السابقين أربعة.

فإتمام حوائج الأرض ومتطلباتها في أيام أربعة كاملة لأجل السائلين، أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها، أو جوابا على سؤال السائلين القائلين بطبيعتهم: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ وإنما قال: سَواءً للدلالة على أن تلك الأيام الأربعة كانت متساوية غير مختلفة. وتخصيص الأرض بالأنواع الثلاثة: الرواسي والبركة وتقدير الأقوات إشارة إلى الاعتناء بأمر المخاطبين، فكان الأجدر بهم ألا يحصل منهم كفر أو شرك. ثم ذكر الله تعالى خلق السماء، فقال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ أي ثم عمد وقصد وتوجه توجّها كاملا إلى السماء حسبما تقتضي الحكمة، وهي كتلة غازية مظلمة تشبه الدخان أو السحاب أو السديم (وهو عالم السديم في اصطلاح العلماء) فأمر بأن تكون بشمسها وقمرها ونجومها، كما أمر بتكوين ما في الأرض من أنهار وثمار ونبات، فتمّ خلقهما، وأتت السماء والأرض منقادتين خاضعتين للأمر الإلهي طائعين أو مكرهين. وهذا هو المراد بقوله تعالى لتلك العوالم السماوية والأرضية: ائتيا طائعتين أو كارهتين، فأجابتا بقولهما: أتينا طائعين. قيل: إن خلق السموات وما فيها تمّ في يوم الخميس والجمعة. وفائدة قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ.. إظهار كمال القدرة والتقدير. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ..: قال الله تبارك وتعالى للسموات: أطلعي شمسي وقمري ونجومي، وقال للأرض: شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك، قالتا: أتينا طائعين. وبه يتبين أن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. هو كناية عن إيجاد السماء والأرض. وإنما

خصص الاستواء بالسماء دون الأرض مع توجهه توجها كاملا لخلقهما هو رعاية السماء في مقابل تقدير الأرض. والتوفيق بين هذه الآية: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ.. وآية وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] ، المشعر بأن خلق الأرض حصل بعد خلق السماء: هو أن يقال- كما ذكر الرازي-: إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولا، ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض أي بسطها، فيزول التناقض «1» . ثم ناقش الرازي هذا الجواب واستشكله من وجوه. وقال أبو حيان: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقّه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بأن سيحدث كذا في مدة كذا: لا يقتضي حدوثه في ذلك الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء «2» . والمقصود بهذا أن المراد من خلق الأرض، وجعل الرواسي فيها، والمباركة فيها، وتقدير أقواتها فيها هو التقدير، أي قدر خلق الأرض والسماء، ويكون الإتيان طوعا أو كرها بيانا لكيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير. وعلى كل حال يمكن فهم قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ بأن الترتيب في الذكر فحسب، لا الترتيب في الواقع، فإن خلق السماء كان في رأي أبي حيان قبل خلق الأرض. والسبب في ذكر السماء مع الأرض وأمرهما بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين: هو أن الله قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة أي غير

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 104- 105 (2) تفسير البحر المحيط: 7/ 487- 488

منبسطة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] ، والمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائت يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفا لهم، ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع. ودحو الأرض وبسطها إنما هو بالنسبة لنظر الناظر وموقع الإنسان الذي يعيش عليها، والحقيقة أن الأرض كرة منذ أول حدوثها. وإتيان الأرض طائعة يدلّ على حركتها المستمرة الطائعة على وفق قانون الجاذبية الأرضية، فهي مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا، وإتيان الأرض والسماء دليل على حركتهما، فالأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، والشمس تدور حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها. وبعد أن ذكر الله تعالى تمام خلق الأرض، ذكر كيفية تكوين السموات السبع وبيان نظامها، فقال: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي فأتمّ خلق السموات السبع وأحكمهنّ وفرغ منهن في مقدار يومين أو نوبتين سوى الأيام الأربعة التي خلق فيها الأرض، فأصبح خلق السموات والأرض في أيام ستة كما قال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «1» . قال مجاهد: ويوم من الأيام الستّة كألف سنة مما تعدّون. وأوحى في كل سماء أمرها، أي جعل فيها النظام الذي تجري عليه الأمور فيها، قال قتادة: أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها (مداراتها) وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج.

_ (1) [الأعراف: 54، يونس: 3، هود: 7، الفرقان: 59، السجدة: 4، ق: 38، الحديد: 4] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي وزيّنّا سماء الدنيا بكواكب منيرة مضيئة مشرقة على أهل الأرض، متلألئة عليها كتلألئ المصابيح، وخلقنا المصابيح زينة وحفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع، وحفظناها من الاضطراب في سيرها، ومن اصطدام بعضها ببعض، فهي تسير في نظام محكم وعلى منهج ثابت. ذلك النظام البديع هو من ترتيب الله القادر على صنع كل شيء، والذي يعلم كل شيء، فهو القوي القاهر الذي غلب كل شيء وقهره، وهو العليم بمصالح العباد وبحركاتهم وسكناتهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- أمر الله تعالى بتوبيخ الكفار المشركين والتّعجب من فعلهم وكفرهم بالله الذي هو خالق السموات والأرض، واتّخاذهم الأضداد والشركاء من الأصنام وغيرها معبودات مع الله الذي خلقها وخلق جميع العوالم من الملائكة والإنس والجن وغيرهم، وخلق الأرض في يومي الأحد والاثنين. 2- إن الخلق والتكوين والإبداع هو دليل قاطع على وجود الله وكمال قدرته وحكمته وعلمه الشامل. 3- والله تعالى أيضا هو الذي جعل في الأرض جبالا ثوابت مرتفعة عليها، وبارك فيها بما خلق فيها من المنافع، وقدّر أرزاق أهلها ومصالحهم، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء، فذلك تمام الأيام الأربعة مع اليومين المتقدمين في خلق الأرض، وهي أيام أربعة مستوية لا زيادة فيها ولا نقصان، للسائلين وغير السائلين، أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لا يسأل.

4- ثم عمد تعالى إلى السموات وهي في حالة دخان أي كتلة غازية مظلمة، فنقلها من صفة الدخان إلى حال الكثافة، وتمّ الأمر الإلهي للأرض والسماء بأن يجيئا بما خلق فيهما من المنافع والمصالح والخروج للخلق، فاستجابتا للأمر وانقادتا له. 5- أكمل الله تعالى خلق السموات السبع وفرغ منهن في مقدار يومين هما يوما الخميس والجمعة، سوى الأيام الأربعة التي خلق فيها الأرض، فصار خلق السموات والأرض في أيام ستة، كما قال تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. 6- لم يكن خلق السموات خاليا من النظام، وإنما نظم تعالى أمرها، فخلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وأوجد في كل سماء ملائكة، وأودع فيها خزائن المطر، وجعل لها نظاما بديعا تسير عليه دون توقّف ولا تعثّر ولا تصادم مع غيرها، وجعل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا، وحفظها من كل اضطراب ومن الشياطين الذين يسترقون السمع. 7- ظاهر هذه الآية يدلّ على أن الأرض خلقت قبل السماء، وقال تعالى في آية أخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 27- 30] ، وهذا يدلّ على خلق السماء أولا. فقال ابن عباس: خلقت الأرض قبل السماء، فأما قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فالدّحو غير الخلق، فالله خلق الأرض، ثم خلق السموات، ثم دحا الأرض، أي مدّها وبسطها. وأيّده ابن كثير قائلا: ففصل ها هنا في هذه الآيات ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولا، لأنها كالأساس، والأصل أن يبدأ بالأساس، ثم بعده بالسقف، كما قال عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة 2/ 29] .

تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود [سورة فصلت (41) الآيات 13 إلى 18] :

وأما آية دحو الأرض فكان بعد خلق السماء، وأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنّص، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه «1» . وهذا مفاد كلام الرازي المتقدم. وقال مقاتل: خلق الله السموات قبل الأرض، وتأويل قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان، وقال لها قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه (كان) كما قال تعالى: قالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف 12/ 77] ، معناه: إن يكن سرق. وردّ عليه الرّازي بأن كلمة (ثم) تقتضي التأخير «2» . تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 92 (2) تفسير الرازي: 27/ 105 [.....]

الإعراب:

الإعراب: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أَمَّا: حرف تفصيل فيه معنى الشرط، لذا جاءت الفاء في فَهَدَيْناهُمْ الذي هو خبر المبتدأ، الذي هو ثَمُودُ. والأصل في الفاء أن تكون مقدّمة على المبتدأ، إلا أنهم أخروها إلى الخبر، لئلا يلي حرف الشرط فاء الجواب، فهي في تقدير التقديم، لذا جاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، مثل: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى 93/ 9- 10] فنصب اليتيم والسائل بما بعد الفاء، لأنها في تقدير التقديم. ومن قرأ ثَمُودُ بالنصب، نصبه بفعل مقدر، يفسره هذا الظاهر، تقديره: مهما يكن من شيء، فهدينا ثمود فهديناهم. وقرئ «ثمود وثمود» بالصرف وترك الصرف، فمن صرفه «ثمود» جعله اسم الحي، ومن لم يصرفه «ثمود» جعله اسم القبيلة، فلم يصرفه للتعريف والتأنيث. أَلَّا تَعْبُدُوا أن: مفسرة، لأن مجيء الرسل بالوحي فيه معنى القول، ولا: ناهية، أو مصدرية ولا: ناهية، أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. البلاغة: فَإِنْ أَعْرَضُوا بعد قوله: قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ التفات من الخطاب إلى الغيبة، إظهارا لعدم المبالاة بهم والاستخفاف بشأنهم، ففي دعوتهم للإيمان خوطبوا اجتذابا لهم، وفي حال إعراضهم عن الإيمان بعد البيان، أهملوا. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَإِنْ أَعْرَضُوا أي كفار مكة عن الإيمان بعد هذا البيان. أَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم بنزول العذاب. صاعِقَةً عذابا شديدا يهلكهم كأنه صاعقة. مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي مثل العذاب الذي أهلكهم. والصاعقة في الأصل: صيحة الهلاك أو قطعة النار النازلة من السماء مع رعد شديد. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِذْ هنا: ظرف صاعِقَةً الثانية، لأنها بمعنى عذاب، أو حال منها لإضافتها، وقد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما، وبجميع الرسل ممن جاء. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي من قبلهم ومن بعدهم، فكأن الرسل جميعا قد جاءوهم. أَلَّا تَعْبُدُوا «أن» مفسرة بمعنى أي، أو أنها مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه

المناسبة:

لا تعبدوا، أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم: أَلَّا تَعْبُدُوا. لَوْ شاءَ رَبُّنا مفعول شاء محذوف، أي لو شاء ربنا إرسال الرسل. لَأَنْزَلَ علينا. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي فإذا أنتم بشر، ولستم بملائكة، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به. وقوله بِما أُرْسِلْتُمْ ليس إقرارا منهم بالإرسال، وإنما هو على حسب كلام الرسل، أي في زعمكم، وفيه تهكم، كما قال فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء 26/ 27] وقولهم: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فتعظموا فيها على أهلها بغير استحقاق. مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي لا أحد، وهذا اغترار بقوتهم وعزيمتهم، كان واحدهم يقلع الصخرة العظيمة من الجبل بيده، ثم يجعلها حيث يشاء. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا. أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي قدرة، فإنه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه غيره. وَكانُوا بِآياتِنا المعجزات. يَجْحَدُونَ ينكرونها مع معرفتهم بأنها حق، وَكانُوا معطوف على قوله: فَاسْتَكْبَرُوا. رِيحاً صَرْصَراً شديدة البرد، تهلك بشدة بردها، مأخوذ من الصرّ: وهو البرد الذي يصرّ، أي يجمع، أو هي شديدة الصوت في هبوبها، من الصرير، فهي باردة شديدة الصوت بلا مطر. نَحِساتٍ مشؤومات عليهم. عَذابَ الْخِزْيِ عذاب الذل. أَخْزى أشد ذلا. وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ بمنعه عنهم. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي بينا لهم طريق الهدى والحق، بإرسال الرسل وبيان الحجج والأدلة. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي فاختاروا الضلالة والكفر على الإيمان. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ صاعقة من السماء فأهلكتهم، والهون: المهين أو الذل. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة. المناسبة: بعد بيان إعراض عبدة الأوثان عن الإيمان بالله بالرغم من الأدلة الدالة على وجوده وتوحيده وقدرته من خلق السموات والأرض، أمر الله تعالى رسوله ص بأن ينذرهم بعذاب شديد مماثل للعذاب الذي نزل بعاد وثمود من قبلهم، مع بيان سبب العذاب النازل بكل قبيلة على حدة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عن الإيمان بالله وبرسالتي، ولم تتدبروا وتتفكروا في هذه المخلوقات الكونية العظيمة، فإني أخوفكم بعذاب شديد قاتل في الحال مشابه لعذاب الأمم الماضية المكذبين بالرسل، كعاد وثمود ونحوهما ممن فعل فعلهما. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ عذبوا بعد أن جاءتهم الرسل المتقدمون الذين بلغتهم رسالاتهم وكلامهم والرسل المتأخرون الذين رأوهم بأنفسهم، وأمروهم بعبادة الله وحده، فكذبوهم وأدبروا عنهم، وتذرعوا بأن الرسل ملائكة لا بشر كما قال تعالى: قالُوا: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قالوا لرسلهم: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأرسل إلينا ملائكة، ولم يرسل إلينا بشرا من جنسنا لا فضل لهم علينا، فإنا بما أرسلتم به أيها البشر- في زعمكم- كافرون منكرون، فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا. ولا بأس من إعادة قصة عتبة هنا برواية أخرى مفيدة لمعرفة مدى تأثير القرآن وهذه الآيات بالذات في النفوس إذا تجردت عن الأهواء والعصبيات، أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: «قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلّمه، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه، فقال: يا محمد، أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد

الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة (الميل للنساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن، أيّ بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ، قال ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا- إلى قوله- فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه، وقالوا: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته، فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أمسكت بفيه، وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب» . ثم بدأ الله تعالى بتفصيل ما حصل من قوم عاد وثمود، بعد الإجمال، فقال: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي فأما قوم عاد فتكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله، واستعلوا على من في الأرض بغير استحقاق، وبغوا وعتوا وعصوا ربهم، وقالوا: لا أحد أقوى منا، حتى يقهرنا، وقد كانوا ذوي أجسام طوال وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود عليه السلام بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب. فرد الله عليهم موبخا، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي أو لم يعلموا ويتفكروا فيمن يبارزون بالعداوة؟ فإنه العظيم الذي

خلق الأشياء وما فيها من القوى، وإن بطشه لشديد، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله: كُنْ فَيَكُونُ وهم يعرفون مدى أحقية آياتنا وثبوتها، ولكنهم يجحدون بها ويعصون الرسل، وينكرون معجزاتهم والأدلة الدامغة التي هي حجة عليهم. ثم ذكر الله تعالى نوع عقابهم، فقال: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ، لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى، وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أي فأرسلنا عليهم ريحا شديدة البرد وشديدة الصوت تحرق وتدمر ما أتت عليه في فترة أيام مشؤومات متتابعات، كما قال تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 7] . وغاية ذلك العذاب أن نذيقهم عذاب الذل والهوان في الدنيا بسبب استكبارهم، وإن عذاب الآخرة أشد إهانة وإذلالا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون ناصرا ينصرهم ولا دافعا يدفع عنهم العذاب، لا في الآخرة ولا في الدنيا. ثم فصل تعالى جناية ثمود، فقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي وأما قبيلة ثمود، فبيّنا لهم طريق الحق والهدى والنجاة، بإرسال الرسل إليهم، وبيان الأدلة الكونية من مخلوقات الله على توحيدنا، فاختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا العصيان على الطاعة، وكذبوا رسولهم، وعقروا ناقة الله التي هي دليل صدق نبيهم. فكان عذابهم ما أخبر عنه تعالى: فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي فبعثنا عليهم

فقه الحياة أو الأحكام:

صيحة ورجفة وعذابا مهينا بسبب كسبهم وهو التكذيب والجحود. وقوله: صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي داهية العذاب الهوان. وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي وأنقذنا من العذاب صالحا عليه السلام ومن معه من المؤمنين برسالته، المتقين ربهم بإقامة فرائضه وترك معاصيه، لم يمسهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر ولا مكروه. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- إن الإصرار على الكفر سبب لعذاب الدنيا والآخرة، فلما أصر كفار قريش على الكفر والجهل، لم يبق علاج في حقهم إلا إنزال العذاب عليهم، ولكن الله برحمته أراد إنذارهم أولا وتخويفكم هلاكا مثل هلاك عاد وثمود. 2- لم يترك الله سبيلا لثني كفار عاد وثمود عن كفرهم، فأرسل إليهم كما أرسل إلى من قبلهم رسلا يدعونهم إلى عبادة الله وحده، فتذرعوا بأن الرسول ينبغي أن يكون من الملائكة، والله قادر على إنزال ملائكة بدل الرسل، وأضافوا بأنهم كافرون بما جاء به الرسل من الإنذار والتبشير. 3- كان من جناية عاد أنهم تكبروا في الأرض على عباد الله: هود ومن آمن معه، بغير حق ولا موجب للتكبر، واغتروا بأجسامهم حين تهدّدهم هود عليه السلام بالعذاب. ولكنهم قوم حمقى فإن الله أقدر منهم وأقوى، فلم يتفكروا في ذلك، وكفروا بالمعجزات. وتضمن استكبارهم أمرين: الأول- إظهار الكبر وعدم الالتفات إلى الغير. والثاني- الاستعلاء على الغير. 4- تدل الآية على إثبات القدرة والقوة لله تعالى، كما قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ

الرَّزَّاقُ، ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات 51/ 58] وقدرة العبد متناهية محدودة، وقدرة الله لا نهاية لها وغير محدودة. فقوله تعالى: أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ليس المراد به المفاضلة أو النسبة التفضيلية، وإنما هو على منوال قولنا: (الله أكبر) فلا يراد بالتفضيل معناه المعروف، فهو كما يقولون: ليس على بابه. 5- عذّب الله في الدنيا قبيلة عاد بإرسال ريح باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، في مدى سبعة أيام مشؤومات متتابعات، وسيكون عذابهم يوم القيامة في النار أشد وأعظم من عذاب الدنيا، ولا يجدون ناصرا ينصرهم من العذاب. 6- لقد بيّن الحق تعالى لقبيلة ثمود الهدى والضلال، فاختاروا الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، والضلالة على الرشد، فأرسل الله عليهم قارعة صاعقة مدمرة محرقة هي الصيحة والرجفة والذل والهوان بسبب تكذيبهم صالحا عليه السلام وعقرهم الناقة. 7- جرت سنة الله عدلا وفضلا ورحمة على إنجاء المؤمنين، فقد نجّى الله تعالى صالحا عليه السلام ومن آمن به، وميّزهم عن الكفار، فلم يحلّ بهم ما حلّ بالكفار، وهذا كعادة القرآن في قرن الوعد بالوعيد. والعبرة من إيراد قصة عاد وثمود: العظة والعبرة والتخويف والتحذير، وتهديد مكذبي الرسل، والإخبار بأنه تعالى يفعل بمؤمني قوم النبي ص وكفارهم ما فعل بعاد وثمود، وكل ذلك بقصد التخويف للإقلاع عن موجبات العذاب. أما في الواقع فإن مثل ذلك العذاب لا يقع في أمة محمد ص، لقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال 8/ 33] وجاء في الأحاديث الصحيحة: أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات الشاملة.

كيفية عقوبة الكفار في الآخرة [سورة فصلت (41) الآيات 19 إلى 25] :

كيفية عقوبة الكفار في الآخرة [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 25] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) الإعراب: وَيَوْمَ يُحْشَرُ.. يَوْمَ: منصوب بفعل دل عليه. يُوزَعُونَ وتقديره: يساق الناس يوم يحشر، أو منصوب بتقدير: اذكر. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أن وصلتها: في موضع نصب، بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: وما كنتم تستترون عن أن يشهد عليكم، فحذف «عن» فاتصل الفعل به. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ذلِكُمْ: مبتدأ، وظَنُّكُمُ: خبره، وأَرْداكُمْ: خبر ثان.

البلاغة:

البلاغة: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أي واذكر حين يجمع، فعل مبني للمجهول أو للفاعل وهو الله تعالى، وقرئ: (نحشر أعداء) . يُوزَعُونَ يساقون بعد أن يحبس أولهم ليلحق آخرهم لئلا يتفرقوا، من وزعته: كففته، والمراد: كثرة أهل النار. حَتَّى إِذا ما حَتَّى غاية لقوله: يُوزَعُونَ وما صلة زائدة لتأكيد ارتباط المجيء بشهادة الأعضاء، واتصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها الله فعلا، أو تظهر عليها آثار تدل على ما اقترف بها، فتنطق بلسان الحال. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ سؤال توبيخ أو تعجب، والجلود: الجلود المعروفة، وقيل: هي الجوارح أو الفروج. قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الذي أراد نطق كل شيء، ولو كان النطق مؤوّلا بدلالة الحال، بقي الشيء عاما في الموجودات الممكنة. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود، وأن يكون استئنافا من كلام الله تعالى، كالذي بعده. والمعنى: إن القادر على إنشائكم ابتداء، وإعادتكم بعد الموت أحياء، قادر على إنطاق جلودكم وأعضائكم. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ.. أي ما كنتم تتسترون وتستخفون عند ارتكاب الفواحش من أن تشهد عليكم أعضاؤكم، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم، لأنكم لم توقنوا بالبعث. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يشعر في كل حال بوجود رقيب عليه. وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ظننتم ألا يعلم الله بكم، فلذلك اجترأتم على المعاصي. ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم هذا. أَرْداكُمْ أهلككم. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة. فَإِنْ يَصْبِرُوا على العذاب. فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ مأوى. وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يطلبوا العتبى، أي الرضا. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المرضيين المجابين إلى ما يطلبون، أي المقبولين عتابهم، يقال: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته فأرضاني، وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة. وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ هيأنا لهم ويسرنا شياطين الإنس والجن، يستولون عليهم. فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا واتباع الشهوات. وَما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة، بقولهم: لا بعث ولا حساب. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ثبت ووجب عليهم القول بالعذاب، وهو: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.. الآية [هود 11/ 119] وهو القضاء المحتم. فِي أُمَمٍ في جملة أمم. قَدْ

سبب النزول نزول الآية (22) :

خَلَتْ هلكت. مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم الذين عملوا مثل عملهم. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب. سبب النزول: نزول الآية (22) : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنت مستترا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر: قرشيّ وختناه «1» ثقفيّان- أو ثقفيّ وختناه قرشيان- كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كلّه- قال-: فذكرت ذلك للنبي ص، فأنزل الله عز وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ إلى قوله: مِنَ الْخاسِرِينَ. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار الجاحدين في الدنيا، أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم في الزجر والتحذير. ثم ذكر تعالى بقوله: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ.. سبب بقائهم في الكفر. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه: أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين، والدليل عليه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] «2» .

_ (1) الختن: الصهر، والثقفي: عبد ياليل، وختناه: ربيعة وصفوان بن أمية. (2) الكشاف: 3/ 70

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك قريش حال الكفار يوم القيامة ليرتدعوا وينزجروا حين يساقون جميعا إلى النار بعنف، بعد إيقاف أولهم ليلحق بهم آخرهم كيلا يتفرقوا، وليتلاحقوا ويجتمعوا، فتجمع الزبانية أولهم على آخرهم، كما قال تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم 19/ 86] . وأعداء الله تعالى: كل من كذب رسله واستكبر عن عبادته. وفي الآية إشارة إلى جموع الكفار وكثرتهم وإهانتهم في سوقهم. حَتَّى إِذا ما جاؤُها، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يوزعون إلى أن يصلوا إلى النار ويقفوا عليها، فيسألون عما أجرموا، فإذا أنكروا تشهد عليهم جوارحهم بما اقترفت من الشرك والمعاصي وما عملوا في الدنيا، بأن ينطقها الله بما كتمت الألسن كما أنطق الشجرة، بأن يخلق فيها كلاما، والجلود: هي جلودهم المعروفة، وقيل: المراد بالجلود: الجوارح (الأعضاء) وشهادة الجلود: بالملامسة للحرام وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات. واقتصر من الحواس الخمس على ثلاث منها وهي السمع والبصر واللمس، فإن آلة اللمس: هي الجلد، باعتبارها وسائل قوية للعصيان. أما الذوق فهو داخل في اللمس، وأما الشم فهو حسّ ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي. وقوله سَمْعُهُمْ مفرد مضاف فيعم، ويصبح نظير جمع الأبصار والجلود. فيحدث التعجب من الإنسان، كما حكى تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي يقول هؤلاء على جهة اللوم والمؤاخذة لأعضائهم وجلودهم حين شهدوا

عليهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ فتجيبهم الأعضاء معتذرين: لقد أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته، فإنه كما أنطق الألسن في الدنيا، فكذلك أنطقنا في الآخرة، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يس 36/ 65] . وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي من قدر على خلقكم وإنشائكم في ابتداء الأمر، قدر على إعادتكم ورجوعكم إليه، فإليه المصير بعد الموت، فيحاسب ويجازي كل نفس بما كسبت. وهذا إما تتمة كلام الجلود، أو من كلام الله تعالى. أخرج مسلم في صحيحة والبزار وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله ص، فضحك، فقال: هل تدرون ممّا أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول- أي العبد لربه-: ألم تجرني من الظلم «1» ؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه (فمه) فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» . وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ هذا إما من كلام الجلود أو من كلام الله سبحانه كسابقه أو من كلام الملائكة، أي ما كنتم تتسترون وتستخفون حين فعل الأعمال القبيحة ومباشرتكم الفواحش، حذرا أو مخافة من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي.

_ (1) هذه رواية مسلم، ورواية البزار: «يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني» ؟.

ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية، كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، خوفا من هذه الشهادة. وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ولكنكم ظننتم ظنا مخطئا أن الله حال ارتكابكم المعاصي لا يعلم كثيرا مما تعملون من المعاصي، فاجترأتم على فعلها. وفي الآية إيماء إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يفكر دائما بوجود رقيب عليه. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي إن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وهو ظن فاسد، جرّأكم على المعصية، فتسارعتم فيها، وذلك أهلككم وطرحكم في النار، فصرتم من الخاسرين، إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة. أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، أو لم يصبروا، هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، فهي مأواهم ومحل استقرارهم، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا عن ذنوبهم، فما لهم أعذار، ولا يقبل منهم الاعتذار والاسترضاء، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل والتكليف، قال عليه الصلاة والسلام فيما ذكره ابن الأثير وغيره عن ابن عباس: «ولا بعد الموت من مستعتب» أي ليس بعد الموت من معذرة أو استرضاء، لأن الآخرة دار جزاء، لا دار عمل. ثم أبان الله تعالى سبب بقائهم في الكفر، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي وسلّطنا عليهم قرناء من شياطين الإنس والجن، فحسّنوا لهم أعمالهم في الماضي والمستقبل، وزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وأغروهم بالمعاصي، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف 43/ 36- 37] . وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي وثبت لهم العذاب في جملة أمم كافرة مضت على الكفر قبلهم، فعلوا كفعلهم من الجن والإنس، فوجب لهم العذاب نفسه، وإنهم كانوا وإياهم متساوين في الخسارة والدمار، بتكذيبهم وسوء أفعالهم، ولم يربحوا شيئا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية: 1- يجمع الكافرون جمعا واحدا يوم القيامة، فيحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يساقون ويدفعون جميعا إلى جهنم. 2- إذا جاؤوا إلى النار شهدت عليهم جوارحهم وأسماعهم وأبصارهم وجلودهم، وهي الجلود المعروفة بأعيانها في قول أكثر المفسرين. وكيفية الشهادة: أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها، فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، وهذا هو الظاهر المناسب للآية بعدها، وقيل: أن يظهر على تلك الأعضاء أمارات وأحوال تدل على صدور تلك الأعمال من الإنسان. 3- يتعجب الكفار من شهادة أعضائهم عليهم، فيسألونهم: لم شهدتم علينا، وإنما كنا نجادل عنكم؟ فيجيبون: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء،

فالذي قدر على إحيائكم في المرة الأولى في الدنيا ثم إعادتكم أحياء في الآخرة، قادر على أن ينطق الجلود وغيرها من الأعضاء. 4- يجيبون أيضا: ما كنتم تستخفون من أنفسكم، حذرا من شهادة الجوارح عليكم، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية. ولقد ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم، فجادلتم على ذلك، حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. وكما تكون الشهادة بالشر والسوء تكون بالخير. ذكر أبو نعيم الحافظ عن معقل بن يسار عن النبي ص قال: «ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد، فاعمل فيّ خيرا أشهد لك به غدا، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك» . 5- وإن ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم هو الذي أهلككم، فأرداكم النار، قال قتادة: «الظن هنا بمعنى العلم» والظن هنا قبيح فاسد. والظن الفاسد: هو أن يظن بالله تعالى أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة أيضا: الظن نوعان: ظن منج وظن مرد، فالمنجي: قوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة 69/ 20] وقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة 2/ 46] . وأما الظن المردي: فهو قوله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ. وقال العلماء: الظن قسمان: أ- حسن: وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، قال الله تعالى في الحديث القدسي فيما أخرجه مسلم والحاكم عن أنس: «أنا عند ظن عبدي بي» .

ب- قبيح: وهو أن يظن أن الله لا يعلم بعض الأفعال. وقال الحسن البصري: إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وقد كذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. 6- سواء صبر الكفار على العذاب أم لم يصبروا، فالنار مثواهم ومأواهم ومستقرّهم، وإن أرادوا الاعتذار عن كفرهم واسترضاء ربهم، لم يجابوا إلى طلبهم. 7- سلّط الله على الكفار قرناء من الجن والشياطين، ومن الإنس أيضا، فحسّنوا وزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة، وزينوا وحسنوا لهم ما بعد مماتهم، ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة، ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم، وخسروا أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وهذا يدل على أن الله تعالى يريد الكفر من الكافر، لكن لم يأمره به ولم يرضه له، وحذره منه ومن الإصرار عليه. والإرادة للدلالة على أنه لا يقع شيء في الكون من دون إرادة الله، وإلا كان وقوع الشيء قهرا وعجزا، والله لا يقهر ولا يغلب.

الصد عن سماع القرآن الكريم [سورة فصلت (41) الآيات 26 إلى 29] :

الصد عن سماع القرآن الكريم [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 29] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) الإعراب: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ ذلِكَ جَزاءُ: مبتدأ وخبر، والنَّارُ: إما بدل من جَزاءُ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو النار، وتكون هذه الجملة بيانا للجملة الأولى، أو مبتدأ وخبره: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ. جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا جَزاءُ منصوب على المصدر بفعله، أي يجازون جزاء. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إذا قرأ النبي ص القرآن. وَالْغَوْا فِيهِ عارضوه بالكلام اللغو الذي لا معنى له، وارفعوا أصواتكم بذلك في زمن قراءته لتشوشوا على القارئ. وقرئ بضم الغين والمعنى واحد، يقال: لغي يلغى، ولغا يلغو وألغى: إذا هذى. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ تغلبونه على قراءته، فيسكت عن القراءة. فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً المراد بهم هؤلاء القائلون وعامة الكفار. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي لنجازينهم بسيئات أعمالهم أو أعمالهم السيئة، أو المراد لنجازينهم بأقبح جزاء عملهم. ذلِكَ جَزاءُ.. أي ذلك العذاب الشديد وأسوأ الجزاء هو جزاء أعداء الله الذين كذبوا رسله واستكبروا عن عبادته. دارُ الْخُلْدِ دار الإقامة المستمرة التي لا انتقال فيها. بِآياتِنا القرآن. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وهم في النار. رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي إبليس وقابيل اللذان منّا الكفر والقتل. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما بالأقدام في النار انتقاما منهما. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ الأذلين المهانين.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان الوعيد الشديد للكفار في الدنيا والآخرة، وبيان سببه الذي أوقعهم في الكفر وأبقاهم فيه، ذكر الله تعالى موقفا معاديا آخر لهم، وهو صد الناس عن سماع القرآن والتشويش عند قراءته، لينصرفوا عنه، وهم أنفسهم عند الوقوع في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن صيّرهم إلى هذا المصير المشؤوم. التفسير والبيان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي وقال بعض الكفار لبعض: لا تنصتو لسماع هذا القرآن عند تلاوته أو لا تطيعوه ولا تنقادوا لأوامره، وعارضوه باللغو الذي لا معنى له، من إنشاد الأشعار، ورفع الأصوات والتصفيق والتصفير، والتخليط بالخرافات، حتى تشوشوا على القارئ، ولكي تغلبوه على قراءته، فيسكت. وقد كان النبي ص وهو في مكة يجهر بتلاوة القرآن لإسماعه الكفار لعلهم يؤمنون به، فكانت قريش يوصي بعضهم بعضا بالتصفيق والتصفير وإنشاد الشعر. قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد، فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول. وهذا دليل على تكذيب مشركي قريش بالقرآن وكفرهم، مثل كفر قوم هود وصالح وغيرهم. وبعد بيان ذلك هدّدهم الله تعالى بالعذاب الشديد، فقال: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي فلنجازين جميع الكفار بعذاب شديد، ومنهم كفار قريش في مقابلة معاداتهم لسماع القرآن، ومحاولة صد الناس عن استماعه، ولنجازينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وهو الشرك، ونهمل ما عملوا من

محاسن الأعمال، كصلة الرحم، وإكرام الضيف، لأن ذلك باطل لا أجر لهم فيه مع حالة الكفر. وهذا وعيد شديد لجميع الكفار، وتعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن، فقد أمر الله عباده المؤمنين بالاستماع للقرآن والإنصات له، فقال: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف 7/ 204] . ثم ذكر الله تعالى صفة ذلك العذاب قائلا: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ، لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ذلك الجزاء لأقبح أعمال الكفار وهو دخول النار، هو جزاء أعداء الله الذين كذبوا رسله، واستكبروا عن عبادته، لهم في النار دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها، ويجزون ذلك جزاء بسبب جحدهم أن القرآن من عند الله تعالى، وإنكارهم صحة آياته وسلامتها. ثم بيّن الله تعالى ما يطلبه الكفار من الانتقام ممن أضلوهم عند الوقوع في العذاب الشديد، فقال: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي طلب الكفار من ربهم أن يريهم من أضلهم من فريقي شياطين الجن والإنس الذين كانوا يزينون لهم الكفر والمعاصي، لكي يدوسوهم بأقدامهم، تشفيا وانتقاما منهم، وليكون الفريقان من الأذلين المهانين، في الدرك الأسفل من النار، أشد عذابا منهم، فأجابهم تعالى في موضع آخر: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 38] . والشياطين: إما جني وإنسي، قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام 6/ 112] وقال سبحانه: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس 114/ 6] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وقيل: هما إبليس وقابيل، لأنهما سنّا الكفر والقتل بغير حق، ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع عند الترمذي: «ما من مسلم يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ذنبه، لأنه أول من سنّ القتل» وقال علي رضي الله عنه: هما ابن آدم الذي قتل أخاه، وإبليس ، أي لأنهما هما اللذان سنّا المعصية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يلي: 1- لم يترك كفار قريش سبيلا لمعارضة القرآن بالباطل، بعد أن عجزوا عن معارضته بالحق، فلجئوا إلى الغوغائية والتخليط في الكلام والتصفيق والتصفير عند سماع القرآن، وهذا شأن الجهلة والسفلة أمام صيحة الحق في كل زمان يستخدمون أسلوب اللغو في طمس الحقائق، واللغو: ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل. 2- كان جزاؤهم بسبب كفرهم وتكذيبهم رسول الله ص هو أن يذوقوا في الآخرة العذاب الشديد الذي يتوالى فلا ينقطع، ويحيط بهم في جميع أجزائهم، وأن يجزوا في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وأسوأ الأعمال: الشرك. 3- ذلك العذاب الشديد وهو النار هو جزاء جميع الكفار أعداء الله الذين كذبوا الرسل واستكبروا عن عبادة الله تعالى. 4- طلب الكفار وهم في النار أن يريهم الله من أضلهم من الجن والإنس، ليدوسوهم تحت أقدامهم في جهنم، وليكونوا من الأذلين المهانين، وفي الدرك الأسفل من النار، تشفيا وانتقاما منهم، ومرادهم أن يضعّف الله عذاب من كان سبب ضلالتهم من الجن والإنس. وهذا مطابق لما قضى به الله من مضاعفة عذاب

ما وعد الله به أهل الاستقامة [سورة فصلت (41) الآيات 30 إلى 32] :

الرؤساء الذين يدعون إلى الضلال، فيعطي كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال، بحسب عمله وإفساده، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 16/ 88] . ما وعد الله به أهل الاستقامة [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) الإعراب: أَلَّا تَخافُوا إِنَّ: مفسرة بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة، وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء: ضمير الشأن. وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ما : اسم موصول، وعائده محذوف تقديره: تدّعونه. ونُزُلًا: إما منصوب على المصدر، وإما منصوب على الحال من الكاف واللام في وَلَكُمْ . وهو جمع «نازل» كشارف وشرف، وتقديره: ولكم فيها نازلين. والأظهر أن يكون نُزُلًا في هذه كقوله تعالى: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة 56/ 56] لا جمع «نازل» أي ما أعدّ لهم من الجزاء، وهو حال من ما تَدَّعُونَ. المفردات اللغوية: قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته ثُمَّ اسْتَقامُوا ثبتوا وداوموا على الاستقامة في العمل الصالح والإقرار بالوحدانية ومقتضياته. وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى

سبب النزول نزول الآية (30) :

الاستقامة من الثبات على الإيمان، وإخلاص العمل، وأداء الفرائض فجزئياتها. وقوله ثُمَّ للتراخي عن الإقرار بالربوبية في المرتبة والفضل، من حيث إن الإيمان مبدأ الاستقامة تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن، أو تتنزل بالبشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم بألا تخافوا ولا تحزنوا، لا تخافوا من الموت وما بعده، ولا تحزنوا على ما خلّفتم من أهل وولد، ونحن نخلفكم فيه، والخوف: غم يطرأ على النفس لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن: غم يطرأ على النفس لفوات نفع في الماضي. أَوْلِياؤُكُمْ أعوانكم في شؤونكم، نحفظكم ونوفقكم لما فيه الخير، ونلهمكم الرشد والحق فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بدل ما يفعل الشيطان بالكفرة وَفِي الْآخِرَةِ بالشفاعة والكرامة حتى تدخلوا الجنة، وحيثما تتعادى الكفرة وقرناؤهم وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذائذ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ تتمنون وتطلبون، مأخوذ من الدعاء بمعنى الطلب، وهو أعم من الأول نُزُلًا ما أعدّ لهم من الجزاء الحسن، وأصل النزل: الطعام المعدّ للضيف. سبب النزول: نزول الآية (30) : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد ص عبده ورسوله، فاستقام. وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك: أن رسول الله ص قرأ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: «قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام» . المناسبة: هذه الآية شروع في بيان أحوال المؤمنين ومصيرهم، بعد بيان أحوال المشركين وعاقبتهم، ليتبين الفرق بين المؤمن والكافر، وبين الطيب والخبيث.

التفسير والبيان:

فبعد أن أطنب الله تعالى في وعيد الكفار، أردفه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين، كما هي سنة القرآن في إقران وإتباع أحدهما بالآخر، مثل نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] . التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي إن الذين أقروا بربوبية الله وتوحيده، فهو الله وحده لا شريك له، ثم داموا على التوحيد، فلم يلتفتوا إلى إله غير الله، واستقاموا وثبتوا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته، حتى ماتوا، وهذا يشمل التزام أحكام الشرع الحنيف في العقائد والعبادات والمعاملات والمحظورات قولا وفعلا، لأن الاستقامة لفظ عام. وقد ذكر في حديث بعض مظاهرها، أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، فقال: «قل: ربي الله، ثم استقم» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تخاف علي؟! فأخذ رسول الله ص بطرف لسان نفسه ثم قال: «هذا» . وكذلك ورد عن الخلفاء الراشدين تفسير الاستقامة ببعض جزئياتها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وقال أيضا: ثُمَّ اسْتَقامُوا: لم يشركوا بالله شيئا. وقال عمر رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر: استقاموا والله على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب. وقال عثمان رضي الله عنه: ثم أخلصوا العمل لله. وقال علي رضي الله عنه: ثم أدّوا الفرائض. وأقوال التابعين بمعنى ما ذكر. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ

تُوعَدُونَ أي تتنزل عليهم الملائكة بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم المخاوف والأحزان، كالبشارة بالنجاة في مواطن ثلاثة: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وإزالة الخوف من أمور الآخرة، وإذهاب الحزن عما فاتهم من أمور الدنيا من أهل ومال وولد. وإذا أزيلت مخاوف المستقبل وأحزان الماضي، فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، وحدثت الطمأنينة والسعادة. وتقول لهم الملائكة: أبشروا بدخول الجنة التي وعدتم بها في الدنيا على ألسنة الرسل، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها. ثم أخبر عما تقوله الملائكة للمؤمنين، فقال تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤنسكم من وحشة القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم. وهذا من قول الملائكة أو من قول الله تعالى، وهو في مقابلة ما ذكر سابقا في وعيد الكفار حيث قال تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ أي ولكم في الجنة من جميع ما تختارونه من صنوف اللذات وأنواع الطيبات، ومهما طلبتم وجدتم، وكل ما تتمنون حصلتم عليه، حال كونه معدا لكم ضيافة وعطاء وإنعاما، من غفور لذنوبكم، رحيم بكم، رؤف بأحوالكم، حيث غفر وستر، ورحم ولطف. وقد تقدم أن قوله: وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ أعم مما سبقه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت هذه الآيات دلالة قطعية على أن الجزاء منوط بالعمل، فمن أقر بالربوبية والوحدانية والألوهية لله عز وجل، واستقام على أوامر الله وطاعته، واجتنب معاصيه وسخطه وغضبه، له الجزاء المفضل في الدنيا والآخرة. فتلهمه الملائكة ما تقرّ به نفسه وينشرح له صدره، ويزيل مخاوفه، ويبدد أحزانه، وتقول له الملائكة الذين تتنزل بالبشارة: نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، نحفظكم ونلهمكم الحق، وإذا كان يوم القيامة لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وهذا إما من قول الملائكة، أو من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم، ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب، ونجا من كل مخافة. ولكم في الآخرة كل ما تشتهيه أنفسكم من الملاذ، ولكم كل ما تسألون وتتمنون، رزقا طيبا، وضيافة كريمة، ونعمة عظيمة، من الله الغفار الستّار لذنوب عباده التائبين، الرحيم الرحمن الرؤوف بعباده في جميع الأحوال. وقد دلت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل، والكريم إذا أعطى النّزل، فلا بد وأن يحقق السعادة للمعطي، وتلك السعادة تحدث عند رؤية الله عز وجل والتجلي والكشف التام.

الدعوة إلى الله تعالى وآداب الدعاة [سورة فصلت (41) الآيات 33 إلى 36] :

الدعوة إلى الله تعالى وآداب الدعاة [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) الإعراب: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ الَّذِي: مبتدأ، وكَأَنَّهُ: الخبر، وإذا الفجائية: ظرف مكان لمعنى التشبيه، والفاء للسببية. وَإِمَّا أدغمت نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة. البلاغة: الْحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ بينهما طباق. كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ تشبيه مرسل مجمل أي ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه. المفردات اللغوية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا أي لا أحد أحسن قولا دَعا إِلَى اللَّهِ أي دعا إلى توحيده وعبادته وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين ربه من إقامة الفرائض واجتناب المنكرات وَقالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال ذلك اعتزازا وتفاخرا باتخاذ الإسلام دينا ومذهبا، وصرح أنه من المستسلمين لأمر الله، المنقادين له، قال أبو حيان: والظاهر العموم في كل داع إلى الله، أي فهي عامة لمن استجمع تلك الصفات، وقيل: نزلت في النبي ص، وقيل: في المؤذنين.

سبب النزول:

وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ لا تستويان في الجزاء وحسن العاقبة، ولا الثانية: مزيدة لتأكيد النفي، والْحَسَنَةُ ما ترضي الله ويتقبلها، والسَّيِّئَةُ ما يكرهها الله ويعاقب عليها ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع وردّ السيئة حيث اعترضتك بالخصلة التي هي أحسن منها وهي الحسنة، كمقابلة الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإساءة بالعفو، والمراد بالأحسن: الزائد مطلقا، فيكون القصد منه: الحسنة التي وضع الأحسن موضعها. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ إذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب في محبته، فالحميم: الصديق وَما يُلَقَّاها ما يؤتى هذه السجية ويحتملها وهي مقابلة الإساءة بالإحسان إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا لأن الصبر يحبس النفس عن الانتقام وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي ما يؤتاها ويتقبلها إلا صاحب الحظ العظيم من الخير وكمال النفس. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي إن يصرفك وسواس من الشيطان عن الخصلة الخيّرة فاستعذ، وأصل النزغ: النخس، شبه وسوسة الشيطان بالنخس، لأنها بعث على ما لا ينبغي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ التجئ إليه من شره ولا تطعه، وجواب الأمر محذوف: أي يدفعه عنك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك أو قولك الْعَلِيمُ بنيتك وفعلك. سبب النزول: نزول الآية (33) : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا..: قال ابن عباس: هو رسول الله ص، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة: وقال أيضا: هم أصحاب رسول الله ص. وقالت عائشة وعكرمة ومجاهد: نزلت في المؤذنين. قال أبو حيان: وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم- أي المؤذنون- داخلون في الآية، وإلا فالسورة بكاملها مكية بلا خلاف، ولم يكن الأذان بمكة، إنما شرع بالمدينة، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة.

نزول الآية (34) :

نزول الآية (34) : فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ..: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوّا مؤذيا لرسول الله ص، فصار وليا مصافيا. وروي أيضا أنها نزلت في أبي جهل، كان يؤذي النبي ص، فأمر ص بالعفو عنه، وقيل له: فَإِذَا الَّذِي.. «1» . المناسبة: بعد بيان ما يفعله قرناء السوء من الدعوة إلى المعاصي، ذكر الله تعالى حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، وأبان آدابهم وأوصافهم من مقابلة السيئة بالحسنة، والاستعاذة من شر الشيطان واللجوء إلى الله إذا حاول الشيطان صرف الإنسان عن حكم شرعه الله تعالى. التفسير والبيان: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ، وَعَمِلَ صالِحاً، وَقالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي لا أحد أحسن ممن اتصف بالخصال الثلاث التالية: 1- الدعوة إلى توحيد الله وطاعته وعبادته، فذلك خير ما يقوله إنسان لإنسان. وهذا نص عام يشمل كل داعية مخلص إلى الله، سواء الداعية الأول وهو رسول الله ص، والمؤذنون، والقائمون بالدعوة إلى الإسلام في كل زمان ومكان بالقول أو الخطابة أو الكتابة.

_ (1) أحكام القران لابن العربي: 4/ 1651

2- العمل الصالح: وهو تأدية ما فرض الله على الإنسان، مع اجتناب ما حرّمه عليه. 3- اتخاذ الإسلام دينا ومنهجا ومذهبا، فلا شيء أحسن منه قولا، ولا أصح منه عقيدة، ولا أوضح منه طريقة، ولا أكثر من عمله ثوابا. وبعد بيان أصول الدعوة إلى الله وتوثيق العلاقة بين العبد وربه، ذكر الله تعالى آداب الدعاة وتحسين العلاقة بين العباد بعضهم ببعض، فقال: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، وبين الفعلة السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها، والمداراة من الحسنة، والغلظة من السيئة. ادفع أيها الداعية من أساء إليك بالإحسان إليه، من الكلام الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، واحتمال المكروهات. قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. ثم أبان الله تعالى نتيجة الإحسان وأثره البعيد، فقال: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي إنك إن فعلت ذلك، فقابلت الإساءة بالإحسان، صار العدو كالصديق. وما أحسن هذه النتيجة أن يتحول الناس الأعداء أو الحساد إلى أصدقاء أو كالأقارب يستعان بهم عند المحنة، بسبب الشفقة والإحسان. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها، ويؤتى القدرة على هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، والصبر شاقّ

فقه الحياة أو الأحكام:

على النفوس، وما يتقبلها ويحتملها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ في الثواب والخير. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم، كأنه ولي حميم. ثم ذكر الله تعالى طريق علاج الوساوس والأهواء ونزعات الشيطان، فقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن وسوس إليك الشيطان، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها، فاستعذ بالله من شره، والتجئ إلى الله لكفه عنك ورد كيده، فالله هو السميع لاستعاذتك منه، والتجائك إليه، العليم بوساوس الشيطان وبما يعزم عليه الإنسان وبصدق الطلب والرجاء. وقد كان رسول الله ص إذا قام إلى الصلاة يقول فيما رواه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه» . ونظير الآية قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف 7/ 199- 201] . فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- لا كلام أحسن من القرآن، والدعوة إلى توحيد الله وطاعته أحسن من

كل ما سواها، والنبي ص هو الأنموذج الأول للدعاة، والقدوة الحسنة لهم، كان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه «1» . وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين. والحق أن هذه الآية كما تقدم وكما قال الحسن: عامة في كل من دعا إلى الله، نزلت في كل مؤمن. والدعوة إلى الله: بإقامة الأدلة والبراهين القطعية على صحة العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية. 2- لا بد من أن يجمع الداعية بين العمل الصالح (وهو اجتناب المحارم، وكثرة المندوبات، وأداء الفرائض) وبين التصريح بالاعتقاد بالله في ذلك كله، وإخلاص العمل لوجه الله تعالى. وقوله تعالى: وَقالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ رد على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله «2» . 3- هناك فرق عظيم بين الحسنة والسيئة وأثر كل منهما، والحسنة: دعوة الرسول ص إلى دين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم. والسيئة: ما أظهره المشركون من الجلافة في قولهم المتقدم أوائل السورة: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وأمثلة الحسنة: قول لا إله إلا الله، والطاعة لله تعالى ورسوله ص، والمداراة، والعفو، والعلم، وحبّ

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1650 (2) المرجع والمكان السابق.

آل الرسول ص ونحو ذلك. وأمثلة السيئة أضداد ذلك كالشرك، والغلظة، والانتقام، والفحش، وبغض آل الرسول ص. 4- الحكمة والسياسة في الأخلاق الاجتماعية: دفع السيئة بالإحسان، كالكلمة الطيبة والمصافحة، جاء في الأثر الذي رواه ابن عدي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «تصافحوا يذهب الغلّ» فإذا أحسنت إلى من أساء إليك، قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي حميم، أي قريب إليك، من الشفقة عليك، والإحسان إليك. قال ابن عباس- كما تقدم-: أمره (أمر نبيه) الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وقيل: كان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ به، والظاهر دوام العمل بهذه الآية، فهي تقرر أمرا خلقيا محمودا وفضيلة سامية، بدليل قوله بعدها: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا.. الآية. 5- لا يتخلق بهذه الفضيلة إلا من صبر على الإساءة بكظم الغيظ واحتمال الأذى، وذو النصيب الوافر من الخير، فهذا أسلوب دفع الغضب والانتقام وترك الخصومة. ويضم إليه أسلوب آخر في الوقاية من الشر قبل حدوثه: وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والالتجاء إلى الله من كيده وشره ووساوسه، والله حتما سميع للاستعاذة، عليم بصير بالأفعال والأقوال.

الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وقدرته وحكمته [سورة فصلت (41) الآيات 37 إلى 39] :

الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وقدرته وحكمته [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) الإعراب: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ.. اللَّيْلُ: مبتدأ، وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ: عطف عليه. وَمِنْ آياتِهِ: الخبر. وقوله: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الهاء والنون في خَلَقَهُنَّ تعود على الآيات، ولا تعود على الشمس والقمر والليل والنهار، لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث. وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً..: أن وما عملت فيه: في موضع رفع بالظرف، على مذهب سيبويه والأخفش، لأن «أن» المصدرية إذا وقعت بعد الظرف ارتفعت به، كما يرفع الظرف إذا وقع خبرا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو صلة لموصول، أو حالا لذي حال، أو معتمد على همزة الاستفهام أو حرف النفي، فالخبر مثل فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ فجزاء: مرفوع بالظرف، والصفة مثل: مررت برجل في الدار أبوه، والصلة مثل: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد 13/ 43] والحال مثل وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [المائدة 5/ 46] فهدى: مرفوع بالظرف، لأنه حال من الإنجيل، والمعتمد على همزة الاستفهام مثل أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم 14/ 10] وحرف النفي مثل: ما في الدار أحد. وخاشِعَةً: حال من الْأَرْضَ لأن تَرَى من رؤية العين. وَرَبَتْ: أصله ربوت، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وحذفت الألف لسكونها وسكون تاء التأنيث. وقرئ: «ربأت» أي ارتفعت.

البلاغة:

البلاغة: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً.. هذه الآية في قمة البلاغة والبيان وجمال الأسلوب والتناسق الفني في التعبير والأداء، فكأن الحركة ولمس معالم القدرة الإلهية وبعث الحياة تتمثل في جنباتها. المفردات اللغوية: وَمِنْ آياتِهِ جمع آية: وهي البرهان والحجة الدالة على وحدانية الله وقدرته الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي خلق الآيات الأربع وسواها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أمر بالسجود ثم ذكر العبادة، لأن السجود أخص العبادات، وهو موضع سجدة التلاوة عند الشافعية، لاقتران الأمر به، وعند أبي حنيفة: آخر الآية الأخرى، لأنه تمام المعنى. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال أو السجود لله وحده فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يصلون له دائما، لقوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون. خاشِعَةً جامدة يابسة لا نبات فيها، وأصل الخشوع: التذلل، أستعير لحال الأرض الجدبة اليابسة اهْتَزَّتْ تحركت وَرَبَتْ انتفخت وعلت بالنبات إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء والإماتة. المناسبة: بعد بيان أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى، ذكر الله تعالى الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، كمادة للدعوة إلى الله، وتنبيها على أن الدعوة إليه تعالى هي تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته. وقد ذكر هنا الدلائل الكونية الفلكية الأربعة وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثم أتبعها بآية أرضية في مرأى العين، وهي إنبات النباتات بالمطر في الأرض.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي ومن العلامات الدالة على قدرة الله وعظمته وحكمته وجود الليل والنهار وتعاقبهما، وخلق الشمس المضيئة والقمر المنير، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في مداريهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام، وتعرف أوقات العبادة وآجال الحقوق والديون والمعاملات. ولما كانت الشمس والقمر أنفع وأحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبّه الله تعالى إلى أنهما مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره، فلا يعظمان وإنما يعظم خالقهما، فقال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إياكم من السجود للشمس والقمر، لأنهما مخلوقان من مخلوقات الله، فلا يصح أن تكونا شريكين له في ربوبيته، ولا تصح عبادتهما فهي لا تنفع مع عبادة الله، وتكون عبادتهما شركا. وإنما الواجب السجود لمن خلق هذه الآيات الأربع وغيرها، إن كنتم تريدون العبادة الصحيحة الخالصة لله تعالى. وآخر الآية رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب، وعبدة الشمس في عصرنا، الذين زعموا أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك وأمروا ألا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء. وموضع سجود التلاوة في مذهب الشافعي رضي الله عنه كما تقدم هو قوله: تَعْبُدُونَ لأن قوله: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ متصل به. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو قوله: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ الآتي، لأن الكلام إنما يتم عنده.

وبعد أن أمر الله تعالى بالسجود له، قال بعده: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن الامتثال وإفراد العبادة لله، وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، فلا يهم أمرهم، فالملائكة عند ربك الذين هم خير منهم- عندية مكان لا قرب مكان- لا يستكبرون عن عبادته تعالى، بل يواظبون على تسبيح الله سبحانه بالليل والنهار، وهم لا يملون ولا يفترون، كقوله عز وجل: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام 6/ 89] . وهذه الآية: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا.. تدل على أن الملائكة أفضل من البشر. وبعد ذكر الدلائل الفلكية، ذكر تعالى الدلائل الأرضية، فقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ومن دلائل قدرته تعالى على البعث وإعادة الموتى أحياء أنك ترى الأرض هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات، وانتفخت وعلت، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار. إن الذي أحيا هذه الأرض الجدبة بالنبات والزرع، قادر على أن يحيي الأموات، فإنه الرب القدير الذي لا يعجزه شيء كائنا ما كان. وقوله تعالى: أَنَّكَ تَرَى الخطاب لكل عاقل. وهذا دليل حسي متكرر في القرآن يقرب للأذهان صورة الإحياء بعد الإماتة، والمعول عليه هو قدرة الله الخالق ابتداء وانتهاء وكل وقت.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- من الآيات الواضحة والعلامات الظاهرة على وحدانية الله وقدرته خلق الليل والنهار والشمس والقمر. 2- هذه المخلوقات ذات المنافع الكثيرة لا تستحق العبادة مع الله، وإنما المستحق للعبادة هو موجدها، لأنه تعالى هو الخالق، ولو شاء لأعدم الشمس والقمر، أو طمس نورهما، فهما مخلوقان يدلان على وجود الإله، والسجدة التي هي نهاية التعظيم لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات. 3- إن الله غني عن عباده، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وإذا أحجم الناس عن عبادته، وأعرض الكفار عن السجود لله، فهناك خلق آخر وهم الملائكة مواظبون على التسبيح، لا ينفكون عنه لحظة واحدة، ولا يملّون عبادته، ولا يشتغلون بأمر آخر سوى العبادة. 4- لا خلاف في أن آية لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ.. آية سجدة، وإنما الخلاف كما تقدم في موضع السجود، فقال لجمهور: موضعه: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنه متصل بالأمر: اسْجُدُوا. وقال أبو حنيفة: موضعه: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. 5- تضمنت هذه الآية صلاة كسوف القمر والشمس، لأن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبي ص صلاة الكسوف، وهي ثابتة في صحاح البخاري ومسلم وغيرهما. 6- ومن الآيات الدالة على قدرة الله وإحياء الموتى والبعث: إحياء الأرض

تهديد الملحدين في آيات الله تعالى وتنزيه القرآن العظيم عن الطعن فيه [سورة فصلت (41) الآيات 40 إلى 43] :

اليابسة التي لا زرع فيها ولا نبات بنزول الغيث عليها، فإن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها. وقد تكرر هذا الدليل مرارا في القرآن، والدليل الأصلي هو قوله: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وتقديره كما ذكر الرازي: أي عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته، والله تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء، مما يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه «1» . تهديد الملحدين في آيات الله تعالى وتنزيه القرآن العظيم عن الطعن فيه [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 43] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 130

الإعراب:

الإعراب: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ.. خبر إِنَّ فيه وجهان: إما أنه محذوف، وتقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يعذبون أو نجازيهم. وإما قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الآية: 44] قال الرازي: والأول أصوب. وجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: بدل من قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ... ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ.. ما قَدْ قِيلَ: في تأويل مصدر، نائب فاعل ل يُقالُ. البلاغة: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ بينهما مقابلة، والمراد بالهمزة هنا التي هي للاستفهام: الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار، وأن المؤمنين يأتون آمنين. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر يراد به التهديد والوعيد.. مَغْفِرَةٍ وعِقابٍ بينهما طباق. المفردات اللغوية: يُلْحِدُونَ يميلون عن الحق والاستقامة، أي يؤولون الآيات تأويلا باطلا، ويطعنون فيها ويحرّفونها عن مواضعها فِي آياتِنا آيات القرآن والدلائل الدالة على قدرة الله وحكمته لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي فنجازيهم على إلحادهم أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً؟ قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا، مبالغة في الإشادة بحال المؤمنين اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعيد بالمجازاة. بِالذِّكْرِ القرآن وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته سواء الأخبار الماضية أو الأحكام التشريعية حَكِيمٍ في جميع أفعاله، يضع الأمور في نصابها الصحيح حَمِيدٍ يحمده جميع خلقه بما أنعم من النعم الكثيرة عليهم. ما يُقالُ لَكَ أي ما يقول لك كفار قومك من تكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ

سبب النزول نزول الآية (40) :

قَبْلِكَ أي إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم لَذُو مَغْفِرَةٍ للمؤمنين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مؤلم للكافرين أعداء الله والمؤمنين. سبب النزول: نزول الآية (40) : أَفَمَنْ يُلْقى..: أخرج ابن المنذر عن بشير بن فتح قال: نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ المناسبة: بعد الأمر بالدعوة إلى دين الله تعالى، وبيان أسلوب الدعوة بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، هدد الله تعالى من ينازع في تلك الآيات والدلائل، ويحاول إلقاء الشبهات فيها. ثم نوّه بوصف القرآن، وسلّى نبيه ص على آلامه من تكذيب قومه، وأمره بأن يصبر على أذاهم، وألا يضيق قلبه بإعراضهم عن رسالته، فتلك عادة الأمم مع الأنبياء والرسل. التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي إن الذين يميلون عن الحق، فيضعون الكلام في غير موضعه، ويحرّفون كلام الله تعالى وآياته الدالة على قدرته وحكمته، لا يخفون علينا، بل نحن نعلمهم، فنجازيهم بما يعملون بالعقوبة والنكال. وفي هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، يقتضي الحذر والخوف.

ونوع الجزاء هو: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ أي هل يستوي من يلقى في النار قسرا وقهرا لإلحاده بالآيات وتكذيبه للرسول ص، ومن يكون آمنا يوم القيامة من العذاب؟ وهذا استفهام بمعنى التقرير، والمراد أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بها يأتون يوم القيامة، فاحكموا أيها العقلاء أيّ الحالين أفضل؟! ثم أكد التهديد للكفرة بقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اعملوا أي شيء تريدون فعله من خير أو شر، فإن الله عالم بكم، وبصير بأعمالكم، ومجازيكم بحسب ما تعملون، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا وعيد وتهديد، صرف فيه الأمر إلى التهديد، قال الزجاج: لفظ اعْمَلُوا لفظ الأمر، ومعناه الوعيد. ثم أبان صفة أولئك الملحدين وجزاءهم فقال وهو أيضا تهديد: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم، وكذبوا به، معذبون هالكون يجازون بكفرهم. ثم أشاد بأوصاف ثلاثة للقرآن تنبيها للأنظار والعقول، فقال: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي وإن القرآن الذي يلحدون فيه عزيز عن المعارضة أو الطعن، منيع عن كل عيب، لا يتأتى لأحد أن يأتي بمثله، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه، ولا يكذبه كتاب سابق قبله، ولا لاحق بعده، محفوظ من النقص والزيادة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر 15/ 9] ، وإنه تنزيل من حكيم في أقواله وأفعاله، محمود في

فقه الحياة أو الأحكام:

جميع ما يأمر به وينهى عنه، مشكور من جميع خلقه على كثرة نعمه وأفضاله، وأجلها بحق: تنزيل هذا الكتاب، فهو النعمة العظمى والرحمة الكبرى، الذي بيّن للناس طريق الهداية، وعرفهم محذرا سبيل الغواية والضلالة. ثم سلّى الله تعالى رسوله ص على ما يناله من أذى المشركين وطعنهم في كتابه وتكذيبهم لرسالته، وأمره بالصبر والثبات على دعوته، فقال: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي ما يقال لك من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك بالسحر والكذب والجنون إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك، فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثلما يقول لك هؤلاء، فكما كذبت كذّبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك، وإن ربك لغفار لمن تاب إليه، ومعاقب بعقاب مؤلم لمن استمر على كفره، وأصر على طغيانه وعناده، ومات كافرا ولم يتب. ونظير الآية كثير مثل: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات 51/ 39] . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ قال رسول الله ص: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنا أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أورد تعالى تهديدات أربعة متعاقبة في هذه الآيات، فقال: إِنَّ

الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا.. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ.. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ... 2- هدد الله تعالى أولا الملحد في آيات القرآن، وهو المنحرف عن الحق إلى الباطل فقال: ليس القرآن من عند الله، أو هو شعر أو سحر، وحاول الصد عن سماعه بالتصفيق والتصفير واللغو والغناء، وبدّل الكلام ووضعه في غير موضعه. موضعه. 3- الغرض من قوله: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ.. التنبيه على أن الذين يلحدون في آيات الله، يلقون في النار، والذين يؤمنون بآيات الله يأتون آمنين يوم القيامة. وهذا هو التهديد الثاني. 4- والتهديد الثالث: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أي بعد ما علمتم أن الملحد الكافر والمؤمن لا يستويان، فلا بد لكم من الجزاء، فمن اختار لنفسه طريق الكفر عوقب بالنار، ومن اختار منهج الإيمان جوزي بالجنة. 5- والتهديد الرابع: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ.. أي إن الذين جحدوا بالقرآن وكونه منزلا من عند الله تعالى يجازون بكفرهم، لأن القرآن اشتمل على جميع ما يحتاج إليه الناس من العقائد الصحيحة، والشرائع المحكمة، والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان. 6- ذكر الله تعالى هنا للقرآن الكريم أوصافا ثلاثة هي: أولا- إنه كتاب عزيز منيع الجانب، لا نظير له، ولا يطعن فيه، ولا يعارضه أحد، كريم على الله تعالى، محفوظ من الله سبحانه. ثانيا- لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه، ولا يستطيع أحد أن يزيد

التأكيد على عروبة القرآن الكريم [سورة فصلت (41) الآيات 44 إلى 46] :

فيه أو ينقص منه، ولا باطل فيما أخبر عنه في الماضي والمستقبل، وما حكم بكونه حقا لا يصير باطلا، وما حكم بكونه باطلا لا يصير حقا. ثالثا- تنزيل من حكيم في جميع أحواله وأفعاله، حميد أي محمود على ما أسدى لجميع خلقه بسبب كثرة نعمه. 7- ما يتعرض له الرسول ص من الأذى والتكذيب، تعرض له الأنبياء والرسل السابقون عليه، فلا بد من الصبر على الأذى، وألا يضيق القلب بسبب الإعراض عن رسالته. 8- إن الله تعالى تام العدل، فهو ذو مغفرة للمؤمنين التائبين، وذو عقاب مؤلم وجيع لأعدائه الكفار الذين كذبوا رسله. التأكيد على عروبة القرآن الكريم [سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوافُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

الإعراب:

الإعراب: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ الَّذِينَ: اسم موصول مبتدأ، وصلته لا يُؤْمِنُونَ وخبره جملة: فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ووَقْرٌ: مبتدأ، وفِي آذانِهِمْ خبره، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول. البلاغة: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بينهما طباق. والاستفهام: استفهام إنكار. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ استعارة، شبّه حالهم في إعراضهم عن سماع القرآن وقبوله بحال من ينادى من مكان بعيد، بجامع عدم السماع وعدم الفهم في كل منهما. المفردات اللغوية: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي القرآن- الذّكر. أَعْجَمِيًّا أي كلاما لا يفهم، سواء بلغة العرب أو العجم. هلا. فُصِّلَتْ آياتُهُ بينت آياته بلغتنا، حتى نفهمها. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟ والمقصود: الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. هُدىً من الضلالة إلى الحق. وَشِفاءٌ من الجهل والشك والشبهة. وَقْرٌ ثقل، فلا يسمعون. وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى معمّى فلا يفهمونه، لتعاميهم عما يريهم من الآيات. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هذا تمثيل لحالهم في عدم قبولهم واستماعهم له بحال من يصيح بهم من مسافة بعيدة، أي فهم كالمنادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به. آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة. فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فيما اختلفوا فيه. وَإِنَّهُمْ أي وإن المكذبين به وهم اليهود أو الذين لا يؤمنون. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من التوراة والقرآن. مُرِيبٍ موجب للاضطراب موقع في الريبة. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أي يعود نفع عمله لنفسه. وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي يعود ضرر إساءته على نفسه. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي بذي ظلم، فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء 4/ 40] .

سبب النزول نزول الآية (44) :

سبب النزول: نزول الآية (44) : لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ: أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا؟ فأنزل الله: لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ الآية. والمراد أن نزول هذه الآية بسبب تعنت الكفار. المناسبة: الواقع أن سبب النزول هذا لا يقبل، لأنه- كما ذكر الرازي- يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، مما قد يؤدي إلى الطعن في عدم انتظام القرآن، فضلا عن ادعاء كونه معجزا. والحق أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد، على ما حكى الله تعالى عنهم من قولهم: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وهذا الكلام متعلق به، وجواب له. والتقدير: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم، لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي من هذا الكلام. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ منه، لأنا لا نفهم ولا نحيط بمعناه. والمراد تأكيد عروبة القرآن، إذ لو فرض نزوله بلغة أعجمية لحق للعرب أن يقولوا: لا نفهم، أما وإنه نزل بلغتهم وبألفاظهم، فلم يبق لهم عذر في الإعراض عنه، وقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ من هذه اللغة. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ من تلك اللغة «1»

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 133

التفسير والبيان:

التفسير والبيان وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ أي لو فرض أن جعلنا هذا القرآن بغير لغة العرب أي بلغة العجم، لقال كفار قريش: هلا بينت آياته بلغتنا حتى نفهمه، فإنا عرب لا نفهم لغة العجم؟ وقالوا أيضا: أكلام أعجمي ومرسل إليه عربي؟ والمقصود أن القرآن عربي فلم لا يفهمونه ولا يعملون به؟! ولو نزل بلسان أعجمي لأنكروا ذلك، وقالوا: هلا بينت آياته باللغة التي نفهمها؟ وقالوا أيضا: أكلام أعجمي والمرسل إليهم عرب؟ أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟! ولما كان جميع القرآن عربيا في لفظه ومعناه، ومع هذا لم يؤمن به المشركون، دل على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت، كما قال عز وجل: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 198] . ثم أبان الله تعالى هدف القرآن الكريم وغايته، فقال: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ: إن هذا القرآن هداية لقلب من آمن به، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والرّيب، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء 17/ 82] . ثم أوضح موقف المشركين من القرآن الكريم، فقال: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أي والذين لا يصدقون بالله ورسوله ورسالته: في آذانهم صمم عن سماعه وفهم معانيه، فهم

لا يفهمون ما فيه، ولهذا تواصوا باللغو فيه، وهو عليهم معمّى، لا يهتدون إلى ما فيه من البيان، ولا يبصرون ما اشتمل عليه من براهين ومواعظ. وهذا كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة 2/ 171] . ثم أكد الله تعالى عدم استعدادهم لفهم القرآن، فقال: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي إن حالهم كحال من ينادى من مسافة بعيدة، يسمع صوت من يناديه منها، ولا يفهم أو لا يفقه ما يقال له، لأنهم أعرضوا ولم يريدوا سماع القرآن. ثم أوضح تعالى أن التكذيب بكتاب الله عادة قديمة في الأمم، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي لا تستغرب يا محمد، فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم، والمثال على ذلك: أننا أرسلنا موسى وآتيناه التوراة، فاختلفوا فيها بين مصدّق ومكذب، وكذّب موسى وأوذي، فلا تأس على فعل قومك، واصبر على الأذى، واستعن بالله ولا تعجز، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 35] . ثم بيّن الله تعالى سبب تأخير العذاب عنهم فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي ولولا ما سبق من حكم الله بتأخير العذاب والحساب عن المكذبين من أمتك إلى يوم المعاد، لعجل لهم العذاب، كما فعل بالأمم المكذبة، وكما قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] وقال سبحانه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى

ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.. [فاطر 35/ 45] . ووردت آيات أخرى في تأخير العذاب مثل: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر 54/ 46] ومثل: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل 16/ 61] . وموجب الهلاك قائم فيهم، فقال تعالى: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي وإن كفار قومك لفي شك من القرآن، موقع في الريبة والقلق، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا: بل كانوا شاكين فيما قالوه، غير متحققين لشيء كانوا فيه. ثم حدد الله تعالى قانون الجزاء، فقال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي من عمل عملا صالحا في الدنيا، فائتمر بأمر الله، وانتهى عما نهى الله عنه، فإنما يعود نفع ذلك على نفسه، ويجازى على وفق عمله، ومن أساء فعصى الله، فإنما يرجع وبال ذلك عليه، ويعاقب على جرمه، كما قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم 53/ 39] . وعليه، فإن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم. والجزاء للفريقين حق وعدل مطلق، فلا ينقص المحسن شيئا من ثوابه، ولا يعاقب أحدا من الناس إلا بذنبه، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن القرآن عربي، نزل بلغة العرب، وليس أعجميا، فإذا ترجم إلى لغة أخرى، لم يكن قرآنا. 2- إن نزول القرآن بلغة العرب كان بقصد التحدي ليتقرر به الإعجاز، إذ العرب هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا، وإذا عجزوا عن معارضته، كان من أدل الأدلة على أنه من عند الله تعالى، ولو كان بلسان العجم لقالوا: لا علم لنا بهذا اللسان، وإذا كان كلامه بلسانهم ولغتهم، لا بلغة أجنبية، فلا يعذرون بعدم الإيمان به، ولا يصح لهم أن يقولوا: إن قلوبنا في أكنة منه، بسبب جهلنا بهذه اللغة. 3- وهذا أمر منطقي، لأن فهم الخطاب التشريعي أساس التكليف، ولا يعقل كما قال تعالى. ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ أن يكون القرآن أعجميا، والأمة المخاطبة به عربية. والعجمي: الذي ليس من العرب، كان فصيحا أو غير فصيح. والأعجمي: الذي لا يفصح، كان من العرب أو من العجم. 4- إن القرآن هدى للناس من الضلالة، وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع، وكونه هدى، لأنه دليل على الخيرات، مرشد إلى كل السعادات، وكونه شفاء، لأنه إذا حصل الاهتداء تحقق الشفاء من مرض الكفر والجهل. 5- لكن غير المؤمنين بالقرآن في آذانهم صمم عن سماع القرآن، ولهذا تواصوا باللغو فيه، وهو عليهم عمى لا يفهمونه ولا يدركون مقاصده، فهم أو كل واحد منهم كالمنادى له من موضع بعيد، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه، فلا خير فيه.

6- إن تكذيب الأمم للرسل عادة قديمة غير جديدة في عهد النبي ص، فلقد أنزل الله التوراة على موسى عليه السلام، وسمع نخبة من قومه كلام الله له، فمنهم من آمن به، ومنهم من كذب به، فلا يحزنك يا محمد اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم. وقبل بعضهم هذا الكتاب، وهم أصحابك، ورده الآخرون، وهم يقولون: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. 7- لولا قضاء الله القديم المحكم، وحكمه المبرم في إمهال الكفار وتأخير عذاب الاستئصال عنهم إلى يوم القيامة، لقضي بينهم بتعجيل العذاب، لأنهم في شك من القرآن شديد الريبة. قال الكلبي في هذه الآية: لولا أن الله أخر عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة، لأتاهم العذاب كما فعل بغيرهم من الأمم. 8- إن الجزاء من جنس العمل، فمن أطاع الله فالثواب له، والله عز وجل مستغن عن طاعة العباد، ومن أساء فالعقاب عليه. 9- نفى الله تعالى الظلم عن نفسه، قليله وكثيره، فقال هنا: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس 10/ 44] وجاء في الحديث القدسي الثابت الذي أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا» . وأيضا فالله تعالى هو الحكيم المالك، وما يفعله المالك في ملكه لا اعتراض عليه، إذ له التصرف في ملكه بما يريد. آمنت بالله

اختصاص علم الساعة بالله تعالى وانتهاء أسطورة الشرك فيها [سورة فصلت (41) الآيات 47 إلى 48] :

[الجزء الخامس والعشرون] [تتمة سورة فصلت] اختصاص علم الساعة بالله تعالى وانتهاء أسطورة الشرك فيها [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) الإعراب: آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ما: نافية علّقت الفعل آذَنَّاكَ أي أعلمناك عن العمل. وكذلك: وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ما: علقت الفعل ظَنُّوا عن العمل. وكأنه إذا وقع النفي بعد الظن جرى مجرى القسم، فيكون حكمه حكم القسم. البلاغة: تَحْمِلُ تَضَعُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى الله وحده يرجع علم الساعة، متى تكون، لا يعلمها إلّا هو، والساعة: يوم القيامة. مِنْ ثَمَراتٍ جمع لاختلاف الأنواع، وقرئ: من ثمرة. أَكْمامِها أوعيتها، جمع كمّ- بكسر الكاف: وهو وعاء الثمرة، وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره، وما في قوله: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ نافية، ومن: مزيدة للاستغراق، أي لا تخرج ثمرة إلا بعلمه تعالى. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ما أيضا: نافية، أي إلا مقرونا بعلمه. أَيْنَ شُرَكائِي؟ بزعمكم. آذَنَّاكَ أعلمناك وأخبرناك. ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي من أحد يشهد لهم بالشركة إذا تبرأنا منهم لما عاينا الحال، فيكون السؤال عنهم للتوبيخ. وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم فلا ينفعهم أو لا يرونه. يَدْعُونَ يعبدون. مِنْ قَبْلُ

المناسبة:

في الدنيا من الأصنام. وَظَنُّوا أيقنوا. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب من العذاب، وما نافية علقت الفعل. ظَنُّوا عن العمل، وجملة النفي سدّت مسد المفعولين. المناسبة: بعد تهديد الكفار بأن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة في قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أوضح الله تعالى بأن علم هذا اليوم مختص به سبحانه، فلا يعلمه إلا هو، كما لا يعلم الإنسان بأمور أخرى. ثم ذكر انتهاء أسطورة الشرك في ذلك اليوم، إذ يتيقن الناس أن الله واحد لا شريك له، وتتبدد كل الآمال بأن الأصنام والأنداد تنفعهم. التفسير والبيان: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إن علم يوم القيامة مرده إلى الله، لا إلى غيره، وهذا جواب سؤال، فكأن سائلا قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ ونحو الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها [النازعات 79/ 42- 44] وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان 31/ 24] . ولذا أجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام في حديث البخاري ومسلم عن عمر بقوله حينما سأله عن الساعة: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» . ثم ذكر تعالى أنه مختص أيضا بغيب المستقبل، فقال: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي ويعلم سبحانه كل ثمرة تخرج من وعائها، ووقت ظهورها تماما، ويعلم كل

ما تحمله الحامل وما تضعه، وزمن الحمل والوضع بدقة، فإليه يردّ علم الساعة، كما يرد إليه علم هذه الأمور. ونظير مقدمة الآية: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام 6/ 59] ونظير القسم الثاني: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ، وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد 13/ 8- 9] وقوله سبحانه: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر 35/ 11] . ثم يبين الله تعالى انتهاء أسطورة الشرك، فيقول للرد على المشركين الذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد والتبرؤ من عبادة الأصنام والأوثان في بدء السورة. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا: آذَنَّاكَ، ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي واذكر أيها الرسول يوم ينادي الله سبحانه المشركين في يوم القيامة متسائلا على سبيل التهكم والتوبيخ: أين شركائي الذين كنتم تزعمون من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو يدفعوا عنكم العذاب؟ فيجيبون: لقد أعلمناك أو أسمعناك أن ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا. ونفي الشهادة يراد به التبرؤ من الشركاء، كما قال تعالى عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] . وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ، وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي ذهبت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فلم تنفعهم، وتيقنوا وعلموا ألا مهرب لهم ولا ملجأ من عذاب الله كقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف 18/ 53] . وهذا وعيد وتهديد للمشركين.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- استأثر الله تعالى بعلم الغيب مطلقا علما قطعيا يقينيا جازما، فهو وحده العالم بوقت يوم القيامة، وبزمان خروج الثمرة من أوعيتها أي تحول الزهرة إلى ثمرة ومعرفة نوعها، وبلحظة حمل الأنثى ووضعها، ونوع الحمل وخصائصه وصفاته. أما علم المنجمين فهو علم محدود جدا، ومن الحدس والتخمين والظن، لا من باب العلم واليقين، فإن العلم الذي هو الجزم واليقين مختص بالله تعالى، وعلم هؤلاء قد يصادف الواقع، والغالب أنه لا يتفق مع الواقع. وكذلك علم الأطباء بنوع الحمل أو تاريخ الوضع هو علم ظني، وليس في دقة علم الله، وليس شاملا شمول علم الله، فالله هو المنفرد بعلم خصائص الحمل والمولود. 2- انتهاء أسطورة الشرك والتعلق بشفاعة الأصنام والأوثان في يوم القيامة، ففي هذا اليوم يعلن المشركون أن الله واحد لا شريك له، وأنّه لا أمل بنفع الشركاء وشفاعتهم، وألا محيد ولا مهرب ولا فرار من عذاب النار. لقد بدؤوا بنفي الشرك لما عاينوا القيامة، وتبرؤوا من الأصنام وتبرأت الأصنام منهم، ثم أدركوا ألا نفع منها، ثم تيقنوا وعلموا أنهم واقعون حتما في عذاب النار دون إمكان الفرار أو الهرب. وهذا منسجم مع الموضوع الأساسي للسورة وهو إثبات التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، والإقرار بيوم البعث، فقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك كله، كما جاء في بدء السورة: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ولكن المشركين أعرضوا عن دعوته في الدنيا، وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ...

تبدل أحوال الإنسان وتغير أطواره [سورة فصلت (41) الآيات 49 إلى 51] :

تبدل أحوال الإنسان وتغير أطواره [سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) الإعراب: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ دُعاءِ الْخَيْرِ: مضاف ومضاف إليه، والتقدير: لا يسأم الإنسان من دعائه الله بالخير، فحذف الفاعل والمفعول به الأول، والياء من المفعول الثاني، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني. اللام في ولئن الأولى، ولئن الثانية، فَلَنُنَبِّئَنَّ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ لام القسم. البلاغة: الْخَيْرِ والشَّرُّ بينهما طباق. وَنَأى بِجانِبِهِ مجاز عن النفس. عَذابٍ غَلِيظٍ استعارة، استعار الغلظ لشدة العذاب. فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ استعارة، شبه الدعاء بماله عرض متسع، للإشعار بكثرته واستمراره. المفردات اللغوية: لا يَسْأَمُ لا يملّ ولا يفتر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ طلب السعة في النعمة من المال والصحة وغيرهما وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيق من فقر وشدة ومرض ونحوها فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ من فضل الله ورحمته. واليأس: انقطاع الرجاء من حصول الخير، والقنوط: ظهور أثر اليأس على الإنسان من الذل والانكسار، والقنوط: من اتصف بالقنوط، وهو كثير اليأس من روح الله.

سبب النزول:

وَلَئِنْ أَذَقْناهُ آتيناه، واللام: لام القسم رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ سعة بعد شدة، والرحمة هنا: سعة العيش والصحة، والضراء ضيق العيش والمرض ونحوهما هذا لِي بعملي أي هذا ما أستحقه لما لي من العمل والجهد الحسنى الجنة والكرامة فَلَنُنَبِّئَنَّ لنخبرن غَلِيظٍ شديد لا يمكنهم التخلص منه. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ جنس الإنسان أَعْرَضَ عن الشكر وَنَأى بِجانِبِهِ تكبر وانحرف وتباعد، والجانب: مجاز عن النفس كالجنب في قوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 39/ 56] . فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير مستمر، وهو أبلغ من الطويل، إذ الطول قد يشمل الشيء الدقيق. سبب النزول: هذه الآيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة، وكثير من المسلمين وغيرهم يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى تبدل أحوال الكفار بين الدنيا والآخرة، الذين كانوا في الدنيا مصرّين على إثبات الشركاء والأضداد لله، ثم تبرؤوا عن تلك الشركاء في الآخرة، أردفه ببيان أحوال الإنسان في جميع الأوقات، وتغير أطواره ومناهجه، فإن جاءه خير تعاظم، وإن تعرض لبلاء ومحنة تصاغر وذبل، وهذا دليل الطيش، والحرص على جمع المال، والجهل، وضعف الإيمان. التفسير والبيان: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي لا يملّ الإنسان من دعاء ربه بالخير، كالمال والصحة والسلطان والرفعة ونحوها، وإن أصابه الشر من بلاء وشدة أو فقر أو مرض، كان شديد اليأس من

روح الله، بالغ القنوط من رحمة الله، حتى يظن أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير، أو يظن عدم زوال ما به من المكروه. والآية تصوّر طبع الإنسان، وإن ظهر ذلك كثيرا في الكافر، كما قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف 12/ 87] وقد جعل بعض المفسرين الآية خاصة بالكافر، وقال: هذه صفة الكافر، بدليل الآية المتقدمة: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ.... والظاهر إرادة الجنس، فكثير من المسلمين يصدر منهم هذا التغير والتبدل، كما تقدم بيانه. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود 11/ 9- 11] . ثم ذكر الله تعالى خصالا ثلاثا أقبح مما سبق، فقال: 1- وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: هذا لِي أي ولئن آتيناه خيرا بتفريج كربه من بعد شدة أصابته، كغنى بعد فقر، وصحة أو عافية بعد مرض، وجاه بعد ذل، ليقولن: هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي وجهدي وخبرتي، متناسبا فضل الله وإحسانه، جاهلا أن الله يبتلي عباده بالخير والشر، ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع. وهذا دليل على أن ذلك اليائس القانط لو عاودته النعمة، لعاد إلى الجحود والكفر. 2- وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي وما أعتقد أن القيامة ستقوم، كما يخبرنا به الأنبياء، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على ذنب في الدنيا. ولأجل أنه رزق نعمة يبطر ويفخر ويكفر، كما قال تعالى: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6- 7] .

والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المنافقين المظهرين الإسلام المبطنين الكفر. 3- وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي ولئن كان ثمّ معاد على فرض صدق الأنبياء بما أخبروا به من حصول البعث والنشور، فليحسنن إلى ربي كما أحسن إلي في هذه الدار، والحسنى الكرامة والجنة. واللام فيها للتأكيد. والآية تدل على تيقن الكافر بوصول الثواب إليه من وجوه خمسة: الأول- كلمة إن تفيد التأكيد، الثاني- تقديم كلمة لي يفيد التأكيد، الثالث- قوله عِنْدَهُ يدل على أن الخيرات حاضرة مهيأة عنده، الرابع- لام لَلْحُسْنى للتأكيد، الخامس- لَلْحُسْنى تفيد الكمال في الحسنى. والمعنى: لقد ظن أنه استحق خير الآخرة بما أوتيه من خير الدنيا، وتمنى على الله عز وجل، مع إساءته العمل وعدم اليقين، وهذا غالب على الكافر. فأجيب بمفاجأة نقيض ما يظن، فقال الله تعالى مهددا من كان هذا اعتقاده: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي فلنخبرن هؤلاء يوم القيامة بما عملوا من المعاصي، ولنجازينهم بعذاب شديد كثير لا يمكنهم التخلص منه وهو عذاب جهنم. ثم أكد الله تعالى تردد الإنسان فعلا كتردده قولا في آية لا يَسْأَمُ فقال: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي وإذا رزقنا الإنسان- من حيث هو إنسان- رزقا حسنا، وأمددناه بنعمة من النعم كالصحة والولد والمال، أعرض عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عز وجل، وإذا تبدل الحال وأصيب بشر، أي بلاء وجهد أو فقر أو مرض، أطال السؤال والدعاء، والتضرع إلى الله والاستغاثة به أن يكشف ما به من شدة.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا دليل الانتهازية وحب المصلحة أو المنفعة، إذ يتعرف الإنسان على الله وقت الشدة، وينساه حال الرخاء، ويستغيث به عند النقمة، ويتركه عند النعمة، وهذا يشبه تماما حال المشركين، وهو صنيع الكافرين والمترددين في الإسلام. ونظير الآية قوله سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ، دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [يونس 10/ 12] وقوله عز وجل: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزّمر 39/ 49] . فقه الحياة أو الأحكام: لقد وصف الله الإنسان بأوصاف تبين حقيقته وطبعه، وهي: 1- الطمع واليأس: فلا يمل الإنسان من طلب الخير والزيادة، والخير هنا: المال والصحة والسلطان والعز، وهذا دليل على حبه المال والدنيا والمادة، وإذا أصيب بشرّ كالفقر والمرض، يئس من روح الله، وقنط من رحمته، وهذا برهان على عدم الإيمان بالله والكفر به، فاليأس والإيمان لا يجتمعان في قلب واحد. 2- فساد الاعتقاد والقول: إذا عادت النعمة والعزة لليائس القنوط، أتى بالأباطيل الموقعة في الكفر والبعد عن الله، وهي ثلاثة أنواع: الأول- ادعاؤه أحقية النعمة، وأنها أتته بجهده وعمله، لا بفضل الله وإحسانه. الثاني- إنكاره الساعة أي يوم القيامة والبعث والنشور.

ضرورة التأمل في الآيات والأنفس [سورة فصلت (41) الآيات 52 إلى 54] :

الثالث- تمني الأماني بلا عمل، فيحسب أن له الجنة والكرامة مع سوء وضعه. 3- استحقاق العذاب: أقسم الله قسما غليظا لا حنث فيه أنه سيجزي الكافرين بما عملوا من المعاصي، وأنه سيذيقهم العذاب الشديد. 4- سوء الأفعال: ترى الإنسان حال النعمة يترفع عن الانقياد إلى الحق، ويتكبر على أنبياء الله، وإذا أصيب بمكروه، أكثر في الدعاء، وهذا يدل على أن الكافر يعرف ربه في البلاء، ولا يعرفه في الرخاء. ضرورة التأمل في الآيات والأنفس: [سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) الإعراب: مَنْ أَضَلُّ من: استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وأَضَلُّ: الخبر، والجملة منهما سدّت مسدّ مفعولي أَرَأَيْتُمْ. وقرئ «أريتم» بحذف الهمزة الثانية للتخفيف. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّهُ الْحَقُّ: في موضع رفع فاعل يَتَبَيَّنَ. وهاء أَنَّهُ إما لله تعالى، أو للقرآن، أن للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والظاهر الثاني. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ الباء زائدة ولا تزاد في الفاعل إلّا مع كفى، ومفعول يَكْفِ محذوف تقديره: أو لم يكفك ربّك. وأَنَّهُ إما في موضع جر على البدل من ربك على اللفظ، أو في موضع رفع على البدل من ربك على الموضع، أو في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنه على كل شيء شهيد.

البلاغة:

البلاغة: أَرَأَيْتُمْ فيها مجازان: مجاز استعمال رأى بمعنى أبصر في الإخبار، لأن الرؤية طريق للعلم بالشيء، والعلم به طريق إلى الإخبار عنه، فاستعملت صيغة طلب الرؤية في طلب الإخبار بجامع مطلق الطلب. ومجاز استعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر واتباع دليل مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي لا أحد أضل منكم أي أكثر ضلالا ممن هو في خلاف كبير بعيد عن الحق. وقد أوقع هذه الجملة: مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ موقع (منكم) لبيان حالهم، وتوضيح مزيد ضلالهم. والمعنى: إذا كفرتم بالقرآن فليس هناك في الدنيا أكثر ضلالا منكم يا قريش بسبب مخالفتكم الشديدة المغرقة في البعد عن الحق. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ سنطلعهم على عظمة آياتنا وصدقها في أقطار السماء والأرض، وسيتبين لهم في المستقبل واقع ما أخبرناهم بهم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يحققه المسلمون من فتوحات في أرجاء الدنيا على وجه خارق للعادة. والْآفاقِ نواحي الأرض والسموات وَفِي أَنْفُسِهِمْ من إبداع الصنع وعظمة التركيب وما حل بأهل مكة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ حتى يظهر لهم أن القرآن هو الحق الثابت المنزّل من الله المشتمل على نظام الدنيا الأصلح، ومعرفة حقائق الآخرة من البعث والحساب والعقاب أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أي أولم تحصل الكفاية بربك، أو أو لم يكفهم في أنه حق وفي صدقك أن ربك على كل شيء شهيد، أي لا يغيب عنه شيء ما. والمعنى: إن هذا الموعود به من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل من المطّلع المهيمن على كل شيء، حاضره وغائبه، فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عند الله. وقوله: شَهِيدٌ أي شاهد على كل ما يفعله الخلق. مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي من البعث بعد الموت أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي إنه تعالى عالم بكل الأشياء مجملها وتفصيلها، وعالم بمقدارها، فيجازيهم بكفرهم.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان وعيد المشركين، على الشرك، ورجوعهم عنه في يوم القيامة، وإظهار تبدل أحوال الإنسان، بالتعاظم عند القوة، والتصاغر والذل عند الضعف، أوجب الله تعالى التأمل والتفكر في آيات الله وفي الأنفس، ليعلموا أن القرآن حق منزّل من عند الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. التفسير والبيان: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: أخبروني عن حالكم ماذا أنتم فاعلون، إن كان هذا القرآن من عند الله حقا، ثم كذبتم به ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه، أفلا تكونون أعداء للحق والصواب؟ بل لا أحد أضلّ منكم لشدة عداوتكم، وإمعانكم في الكفر والعناد ومجانبة الحق ومخالفته. ثم دعاهم إلى التأمل والتفكر في الآيات والأنفس، فقال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي سنظهر لهم دلالات صدق القرآن، وعلامات كونه من عند الله في أقطار السموات والأرض المشتملة على خلق الشمس والقمر والنجوم، وتعاقب الليل والنهار، وأحداث الكون الرهيبة من الأعاصير والبراكين والصواعق، وعظمة الجبال والبحار، وإبداع صنع النباتات والأشجار، وما يحدث في الأرض من فتوحات كبري على أيدي المسلمين في أرجاء الأرض المحيطة بمكة والجزيرة العربية. وهذا الإخبار عن الغيب معجزة. وسنظهر صدق القرآن وأنه منزل من عند الله أيضا في خلق أنفس البشر، وما فيها من إبداع الصنعة، وعظمة التركيب: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ

فقه الحياة أو الأحكام:

[الذاريات 51/ 21] ، وفي مصائر الناس وتبدل أحوال أهل مكة العتاة من سادة متكبرين إلى أذلة صاغرين. كل ذلك ليعرفوا من هذه الوقائع والأحداث والخلائق ويتبينوا بجلاء أن القرآن ومنزله ومن أنزل عليه حق وصدق لا شك فيه. وإذا لم ينظروا ويتأملوا، فتكفي شهادة الله بأن القرآن حق، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟ أي كفى بالله شاهدا على أفعال عباده وأقوالهم، من الكفار وغيرهم، وكفى به شاهدا على أن القرآن منزل من عنده. ثم أوضح الله تعالى سبب عنادهم وإصرارهم على كفرهم، فقال: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. ألا أيها المخاطب، إن كفار قريش وأمثالهم في شك من البعث والحساب والثواب والعقاب، ألا أيها الإنسان، إن الله قد أحاط علمه بجميع المعلومات، وأحاطت قدرته بجميع المقدورات، فهو محيط بكل شيء علما وقدرة، والمخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وفي مرصد علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمة، وسيجازي الكفار وغيرهم على أعمالهم، فما لهم يشكون في البعث والنشور، وقد علموا أن الله خلقهم أول مرة؟! فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- بما أن القرآن نزل بلغة العرب، وهم أدرى الناس به وبصحته، فلا أحد أضل منهم في الإعراض عنه، لفرط الشقاق والعداوة.

2- أقام الله تعالى أدلة وعلامات كثيرة على وحدانيته وقدرته، منها آيات الآفاق والأنفس، وآيات الآفاق: هي الآيات الفلكية والكوكبية، وآيات الليل والنهار، وآيات الأضواء والظلمات، وآيات عالم العناصر الأربعة (الماء والتراب والهواء والنار) وكذا فتح البلاد المحيطة بمكة. وآيات الأنفس: كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام، وتخلق الأعضاء العجيبة، والتركيبات والخواص الغريبة، وكذا فتح مقر الشرك مكة. فإبداع الكون سمائه وأرضه، وإبداع خلق الإنسان وما يطرأ على البلاد من تغيرات الفتوح والممالك والسلاطين، وعلى الناس من تبدل من عزة إلى ذلة وبالعكس، دليل على وجود الله المتصرف في مخلوقاته، المهيمن على عباده، المدبر لكل شيء يحدث في الوجود. 3- كفى بالله شاهدا على أنه خلق الدلائل على الأشياء، وعلى أفعال وأقوال عباده، وكفى به شاهدا على أن القرآن من عند الله، كما قال تعالى: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ [الأنعام 6/ 19] وقال سبحانه: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 4/ 166] . والمقصود: ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وغيرها من سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة؟! 4- إن مشركي مكة وأمثالهم في شك عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة، ولكن الله تعالى عالم بكل شيء، فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

والخلاصة: أن سبب الكفر والشرك هو إنكار يوم القيامة، وحجب الأنظار عن التأمل في آيات الكون والأنفس، ولكن الزمن كفيل ببيان صدق الآيات، وأن الكفار مخطئون فيما اعتقدوا.

سورة الشورى:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشورى مكيّة، وهي ثلاث وخمسون آية. تسميّتها: سميت (سورة الشورى) لوصف المؤمنين فيها بالتشاور في أمورهم: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [38] ولأن الشورى في الإسلام قاعدة النظام السياسي والاجتماعي بل والخاص في الحياة، لما لها من مكانة، وأهمية بالغة في تحقيق المصلحة والغاية الناجحة، ولأن الاستبداد يؤدي دائما إلى أوخم العواقب: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به على الدوام ورأي الفرد يشقيها «1» مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها فيما يلي: 1- وصف الكتاب العزيز، وتأكيد نزول الوحي به على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإثبات الساعة (يوم القيامة) . 2- مناقشة عقائد الكفار وتهديدهم ووعيدهم، وإثبات وجود الله ووحدانيته وحكمته وقدرته بالأدلة الكونية المشاهدة، وبالمخلوقات الأرضية الصناعية وغيرها.

_ (1) للشاعر المرحوم حافظ إبراهيم.

ما اشتملت عليه السورة:

3- ترغيب المؤمنين بالاستقامة المؤدية إلى الجنة ونعيمها، وتحذير الكافرين من الانحراف أو الإعراض عن هداية الله المؤدي إلى النار وأهوالها. 4- تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من أذى قومه ومطاعنهم. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر السور المكية مختص بالعقيدة القائمة على الإيمان بوحدانية الله، وصحة الرسالة النبوية، والتصديق بالبعث والجزاء، ومحورها الأساسي الكلام عن ظاهرة الوحي. لذا ابتدأت بالحديث عن الوحي الذي أنزله الله على جميع الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله لتبليغ رسالته إلى الناس. ثم عرضت لما لله من هيبة وجلال تكاد السموات تتفطر منهما، وأن الملائكة تستغرق في تسبيحه وتمجيده، وأنه الرقيب على أعمال المشركين، ثم انتقلت إلى بيان كون القرآن عربيا، وأن الإيمان بالله اختياري لا قسري. ثم أبانت أسباب الاختلاف في الأمة المسلمة وطريق علاجها بتحكيم كتاب الله، وأوضحت ضرورة اختلاف الشرائع الإلهية الموحى بها في الجزئيات حسبما يتفق مع مصلحة البشر، مع اتفاقها في الأصول الاعتقادية والإصلاحية والعبادات، ثم نددت بالمختلفين في الأديان وجعلت خلافهم بغيا وعدوانا وظلما، فالدين واحد في أصله، ورسالات الأنبياء تكمل بعضها بعضا، وبينها قدر مشترك هو الإسلام، أي الانقياد والخضوع لله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ... الآية [13] . ثم فنّدت حجة المنكرين لرسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن تبين صدقها وصحتها، وهددت باقتراب الساعة التي يستعجل بها المشركون ويشفق منها

المؤمنون، وقرنت التفنيد والتهديد بتهويل العذاب الشديد المنتظر يوم القيامة، وبوصف نعيم الجنان وروضاتها لتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات. وتحدثت عن مبدأين ضروريّي المعرفة لكل إنسان في الدنيا: وهما أن الرزق بيد الله ينزله بحسب المصلحة، وأن العامل للدنيا وحدها يحرم خير الآخرة، والعامل للآخرة يمنح خير الدنيا معها. ثم أقامت الأدلة على وجود الله من خلق السموات والأرض وما فيهما والتصرف بهما والقدرة عليهما، وإجراء السفن في البحار، فكل ذلك أثر صنع الله. وأعقبت ذلك بالإشادة بمن يعمل للآخرة، ويجتنب الفواحش، ويعفو عند المقدرة، ويستحب لربه، ويقيم الصلاة، ويستشير أهل الخبرة والمعرفة، وينتصر من أهل البغي والعدوان، ويؤثّر العفو والصفح والصلح، ويقتصر على الجزاء بالمثل، ويصبر في المحنة. وأردفت ذلك ببيان أهوال النار وخسارة أهلها، وفقدانها النصر، وتمنيهم العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب، وهم أذلة صاغرون. وناسب هذا دعوة الناس جميعا إلى الاستجابة لدعوة الله والانقياد لحكمه وشرعه قبل المفاجأة بيوم القيامة الذي لا شك فيه ولا مرد له: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ ... [47] . والاستجابة تكون تلقائية اختيارية لا قهر فيها، وما على الرسول إلا البلاغ. ثم ختمت السورة أولا بتأكيد كون ملك السموات والأرض لله، يهب الأولاد أو لا يهب بحسب المشيئة، وثانيا ببيان أقسام الوحي، وعظمة القرآن خاتم

إنزال الوحي وعظمة الله ورقابته أحوال المشركين [سورة الشورى (42) الآيات 1 إلى 6] :

الكتب السماوية، والذي هو نور الله الهادي إلى صراط مستقيم، ليتناسق الختام مع مطلق السورة بالحديث عن هذا الكتاب العزيز: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [52] . إنزال الوحي وعظمة الله ورقابته أحوال المشركين [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) الإعراب: كَذلِكَ يُوحِي ... اللَّهُ كَذلِكَ: الكاف بمعنى المثل، وكَذلِكَ مفعول مطلق ل يُوحِي واللَّهُ: فاعل يُوحِي. ومن قرأ «يوحى» كان لفظ الجلالة اللَّهُ إما مرفوع بفعل مقدر دل عليه «يوحى» كرفع كلمة رِجالٌ في قراءة من يقرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور 24/ 36- 37] بفعل مقدر، أي يسبحه رجال، وإما مرفوع بالابتداء، ويكون الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خبرين عن الله تعالى، ويجوز جعلهما وصفين، ولَهُ ما فِي السَّماواتِ الخبر، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الله. أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ توالي المؤكدات وهي ألا، وإن، وضمير الفصل. البلاغة: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ توالي المؤكدات وهي: ألا، وإن، وضمير الفصل. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.. الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.. بِوَكِيلٍ صيغ مبالغة، وسجع لطيف.

المفردات اللغوية:

كَذلِكَ يُوحِي استعمل الفعل المضارع في حقيقته بالنسبة لما ينزل من القرآن، وفي مجازه بالنسبة لما أنزل من الكتب السابقة وما أنزل من القرآن. وهذا تشبيه للمشبه، والمشبه به هذه السورة. المفردات اللغوية: حم عسق تقرأ هكذا بأسمائها: حا، ميم، عين، سين، قاف بإدغام السين في القاف، وقد انفردت هذه السورة بآيتين من الحروف، لعلهما اسمان للسورة. وهذه الحروف المقطعة كما تقدم للتنبيه على إعجاز القرآن، ولفت النظر إلى ما تشتمل عليه السورة من عظائم الأمور كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ أي مثل ذلك الإيحاء إلى الأنبياء السابقين من الكتب الإلهية يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ أي مثل ذلك الإيحاء إلى الأنبياء السابقين من الكتب الإلهية يوحي الله إليك أيها الرسول، كما أوحي إلى من قبلك الأنبياء. وإنما ذكر الإيحاء بلفظ المضارع: يُوحِي لحكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي، وكون إيحاء مثله عادة الله. الْعَزِيزُ أي القوي الغالب في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه، وهما صفتان. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا وَهُوَ الْعَلِيُّ المتعالي فوق خلقه الْعَظِيمُ المتفرد بالكبرياء والعظمة يَتَفَطَّرْنَ يتشققن والفطور: الشقوق، وقرئ «ينفطرن» وقرئ «يتفطّرنّ» . مِنْ فَوْقِهِنَّ أي تكاد السموات يتشققن من هيبة وعظمة الله وجلاله، الذي هو فوقهن بالألوهية والقدرة، أو يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية بسبب وجود العرش والكرسي وصفوف الملائكة وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة يلازمون ويداومون خضوعا لعظمة الله على عبادته وتنزيهه عما لا يليق به، وتحميده وشكره على نعمه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي للمؤمنين فهي عموم يراد به الخصوص، بدليل آية أخرى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [المؤمن 40/ 7] وحكايته عنهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [المؤمن 40/ 7] أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لأوليائه المؤمنين الرَّحِيمُ بهم. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء وأندادا وهم الأصنام حَفِيظٌ رقيب على أحوالهم وأعمالهم، محص لها، فيجازيهم عليها وَما أَنْتَ يا محمد بِوَكِيلٍ بموكل بهم تحصل المطلوب منهم وهو هدايتهم، فما عليك إلا البلاغ فقط. التفسير والبيان: حم، عسق هذه الحروف الهجائية السبعة المفصولة بمقطعين أو آيتين مما اختصت به هذه السورة، والمعروف ألا يفصل بين هذه الحروف، مثل

كهيعص أول مريم والمر أول الرعد، بدئ بها للدلالة على تكوين القرآن من أجزاء أمثال هذه الحروف التي تتركب منها لغة العرب بقصد الإعجاز والتنبيه إلى خطورة ما فيها من أمور. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي مثل ذلك الإحياء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة، يوحي إليك أيها الرسول في هذه السورة، من الدعوة إلى التوحيد وإثبات النبوة، والإيمان بالبعث أو اليوم الآخر والثواب والعقاب، والعمل بفضائل الأخلاق، والبعد عن رذائلها، وإسعاد الفرد والمجتمع، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى 87/ 18- 19] وهو إشارة إلى ما تضمنته السورة من إقرار مبدأ التوحيد، والنبوة، والمعاد، فليس الهدف من إنزال جميع الكتب الإلهية إلا الإيمان بهذه الأمور الثلاثة. والذي يوحي إليك هو الله، العزيز في ملكه، الغالب بقهره، الحكيم في صنعه، يضع الأمور في موضعها الصحيح. والمقصود بالآية تقرير المماثلة في دعوات الأنبياء إلى التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، والتحذير من الاغترار بالدنيا، والترغيب في التوجه إلى الآخرة. ومن أوصاف الموحي أيضا ما قاله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أي له جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهي مملوكة له، مخلوقة منه، متصرف فيها كما يشاء إيجادا وإعداما، وهو المتعالي فوق خلقه، صاحب الكبرياء والعظمة، ليس كمثله شيء، فليس المراد العلو في الجهة والمكان، ولا عظمة الجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض، وذلك ينافي قوله: اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص 112/ 1] .

والمقصود بالآية الدلالة على كمال قدرة الله، ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي تقارب السموات يتشققن من عظمة وجلال وهيبة من هو فوقها بالألوهية والقهر والقدرة، وهذا هو الظاهر، والأدق أن يقال: من الجهة الفوقانية التي هن فيها. ويحتمل أن المراد: يتفطرن لكثرة ما عليهن من الملائكة، كما في حديث أحمد والترمذي: «أطّت السماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد» . وقيل: إن المراد: كدن يتفطرن من قول المشركين: اتخذ الله ولدا، كما في قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا «1» ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم 19/ 88- 91] . وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة يداومون على تنزيه الله عما لا يليق به ولا يجوز عليه، قارنين التسبيح بالتحميد وشكر النعم التي لا تحصى، كقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء 21/ 20] . وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي ويطلبون المغفرة لعباد الله المؤمنين، ثم أورد الله تعالى ما يكون طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق، فذكر أنه سبحانه كثير المغفرة والرحمة، وفيه إيماء إلى قبول استغفار الملائكة، لضم الرحمة إلى المغفرة، وإشارة إلى أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة لله تعالى. قال بعض العلماء: هيّب وعظّم جل وعز في الابتداء، وألطف وبشّر في الانتهاء «2» .

_ (1) إدّا: أي منكرا فظيعا. (2) تفسير القرطبي: 16/ 5.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [المؤمن 40/ 7] . ثم حذر الله تعالى من الشرك قائلا: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي إن المشركين الذين اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها من دون الله، الله هو الرقيب على أحوالهم وأعمالهم، يحفظها ويحصيها عليهم ليجازيهم بها، وما أنت أيها الرسول بموكل إليك هدايتهم ومؤاخذتهم بذنوبهم، ولست مكلفا بحملهم وقسرهم على الإيمان، وإنما عليك البلاغ فحسب. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- هناك مماثلة تامة في أصول العقيدة والأخلاق والفضائل بين رسالات الأنبياء، فالموحى به إليهم واحد يدور حول إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تبيان أنواع الوحي، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه صلّى الله عليه وسلّم ليتفصّد عرقا. 2- لله ملك السموات والأرض ومن فيهما، فهو كامل القدرة، نافذ التصرف في جميع مخلوقاته، وقد اشتملت الآيات على ثمان صفات لله تعالى وهي:

مقاصد الوحي الإلهي [سورة الشورى (42) الآيات 7 إلى 12] :

العزيز، الحكيم، مالك السموات والأرض ومن فيهما، العلي، العظيم، الغفور، الرحيم، الحفيظ. 3- تكاد السموات يتشققن من عظمة الله وجلاله فوقهن. 4- تلازم الملائكة التسبيح (أي تنزيه الله عما لا يجوز في وصفه وما لا يليق بجلاله) والتحميد، خضوعا لما يرون من عظمة الله، ويستغفرون للمؤمنين من الذنوب والخطايا، والله سبحانه له المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة. 5- الله هو الذي يحفظ أعمال المشركين الذين اتخذوا أصناما من غير الله يعبدونها، ليجازيهم بها، وليس النبي صلّى الله عليه وسلّم بموكل على أحد في هدايته وقسره على الإيمان، وإنما الإيمان أمر اختياري، والرسول مجرد مبلّغ ناصح، وليس في قدرته أن يحملهم على الإيمان. مقاصد الوحي الإلهي [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 12] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

الإعراب:

الإعراب: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا الكاف في كَذلِكَ مفعول به، وقُرْآناً عَرَبِيًّا: حال منه. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ذلِكُمُ: في موضع رفع مبتدأ، واللَّهِ: عطف بيان، ورَبِّي: صفة لله، وخبر المبتدأ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. وفاطِرُ السَّماواتِ ... مرفوع إما خبر بعد خبر، أو صفة، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو فاطر السموات والأرض، أي مبدعهما. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف: إما زائدة، أي ليس مثله شيء، أو غير زائدة والمراد بالمثل الذات، يقال: مثلي لا يفعل هذا، أي أنا لا أفعل هذا. البلاغة: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى مجاز مرسل، أي لتنذر أهل مكة. وكما حذف كلمة «أهل» حذف المنذر به وهو العذاب، أي لتنذر أهل مكة العذاب، وهذا يقال له (احتباك) وهو حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. الْجَنَّةِ والسَّعِيرِ، يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإيحاء، فالإشارة إلى مصدر يوحي أو إلى معنى الآية المتقدمة لِتُنْذِرَ تخوف به أُمَّ الْقُرى أي أهل أم القرى وهي مكة، كأنها أصل للقرى التي حولها، وقد ثبت علميا أنها فعلا في مركز قطب الدائرة الأرضية وَمَنْ حَوْلَها من العرب وسائر الناس يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة الذي تجتمع فيه الخلائق لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه وهو جملة اعتراضية فَرِيقٌ منهم أي جماعة فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي النار المستعرة، أي بعد جمعهم في الموقف يفرقون فريقين. أُمَّةً واحِدَةً على دين واحد إما مهتدين أو ضالين وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي بالهداية والتوفيق إلى الطاعة وَالظَّالِمُونَ الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي لا يدعمهم

المناسبة:

ولي يتولى أمورهم، ولا نصير يدفع عنهم العذاب. وتغيير الجملة من فعلية إلى اسمية، للمبالغة في الوعيد. أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذوا، أي أن أَمِ منقطعة بمعنى «بل» للانتقال من كلام إلى كلام أو من معنى إلى معنى، والهمزة: استفهامية يراد بها الإنكار، أي ليس المتخذون أولياء مِنْ دُونِهِ أي الأصنام ونحوها وأَوْلِياءَ نصراء أعوان فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي المعين الناصر للمؤمنين، وهذا جواب شرط محذوف مثل: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لاولي سواه وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما اختلفتم أنتم والكفار في أمر من أمور الدين أو الدنيا فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي حكمه مردود إلى الله يوم القيامة، يفصل بينكم بالإثابة والمعاقبة، أو مفوض إلى الله يميز الحق من المبطل بالنصر في الدنيا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت في مجامع الأمور، ورد كيد أعداء الدين وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في المشكلات وفي كفاية شرهم. فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما لا على مثال سبق مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا، واقتصر على الأنعام للتغليب على سائر الحيوانات يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: كثرهم، وفِيهِ في هذا التدبير وهو جعل الأزواج للناس والأنعام، وضمير يَذْرَؤُكُمْ راجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه العقلاء. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف زائدة، أي ليس مثله شيء في ذاته وصفاته وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لكل ما يسمع ويبصر، أو يقال ويفعل. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ مفاتيح خزائنها من المطر والنبات وغيرهما يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسعه لمن يريد امتحانا وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يريد ابتلاء. المناسبة: بعد بيان كون الله هو الرقيب على أحوال المشركين وأعمالهم، ذكر الله تعالى توجيهات لنبيه والمؤمنين، وهي إنزال القران بلغة العرب ليفهمه أهل مكة ومن حولها، وقسمة الناس في الآخرة فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وجعل الإيمان اختياريا غير قسري ولا جبري، ورد المختلف فيه إلى الله،

التفسير والبيان:

والاستدلال على قدرته بخلق السموات والأرض، وتصرفه فيهما وانفراده بملك خزائنهما، وخلق الأزواج ذكورا وإناثا من الناس والأنعام وغيرها. التفسير والبيان: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أي ومثل ذلك الإيحاء إلى الأنبياء السابقين بلغات أقوامهم، أوحينا إليك قرآنا عربيا، لتخوف به من عذاب الله وشؤون الدنيا والآخرة أهل مكة (أم القرى) ومن حولها من العرب وسائر الناس، لأن رسالتك عامة للبشرية قاطبة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ 34/ 28] . وإنما خص أهل مكة ومن حولها، فلأنهم المخاطبون بالرسالة أولا ليكونوا حملتها إلى الناس جميعا. وأما تأييد الآية في تنوع الرسالات على وفق لغات الأقوام والأمم، فهو قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 14/ 4] . وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي وتنذر به أيضا يوم القيامة الذي تجتمع الخلائق فيه، وتقترن الأرواح بالأجساد، والذي لا شك في وقوعه، ثم إنهم بعد الجمع والحساب يفرّقون فريقين: فريق يدخل الجنة لإيمانه بالله ورسوله وكتابه، والإحسان عمله في الدنيا، وفريق آخر يزجّ به في نار جهنم المسعرة على أهلها، لكفرهم بالله ورسوله وقرآنه. ونظير الآية قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التغابن 64/ 9] أي يغبن في الكافر بتركه الإيمان، والمؤمن بتقصيره في الإحسان وقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ

النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود 11/ 103- 105] . ثم أبان الله تعالى مبدأ حرية الإيمان لتسلية رسوله عما يقاسي من كفر قومه، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي لو أراد الله لجعل الناس جميعا أهل دين واحد، إما على هدى، وإما على ضلالة، ولكن اختلفوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وبمقتضى العلم الأزلي بما يختاره الإنسان، فيكون إما مؤمنا وإما كافرا، والله تعالى حكيم لا يفعل إلا ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى والدين الحق وهو الإسلام، هداه ووفقه إليه، فيدخله بذلك في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال والكفر، أضلّه، فيدخله بذلك في السعير، وهؤلاء هم الظالمون الكافرون المشركون الذين ليس لهم ولي يدفع عنهم العذاب، ولا نصير ينصرهم يوم الحساب والعقاب. وهذه الآية تقرير للآية السابقة: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي ليس في قدرته حملهم على الإيمان، وإنما القادر على ذلك هو الله تعالى. والآية أيضا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يكابده ويعانيه من كفر قومه وإعراضهم عن دعوته، وكأنه تعالى يقول له: لا تأس ولا تحزن على عدم إيمانهم، فالهداية والضلالة تابعتان للمشيئة الإلهية، فمن سبقت له السعادة فهو السعيد، ومن سبقت له الشقاوة فهو الشقي. ويكون موضوع الآية مثل آية: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف 18/ 6] . لهذا أمر الله نبيه بعدم الاهتمام بهم بسبب وثنيتهم وشركهم، فقال:

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي بل اتخذ هؤلاء الكافرون آلهة يعبدونها من دون الله، من الأصنام والأوثان، زاعمين أنهم أعوان لهم ونصراء، فإن أرادوا وليا ناصرا بحق، فالله هو الولي الحقيق بأن يتخذوه معينا وناصرا، لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه الخالق الرازق الضار النافع الناصر لمن أراد، وهو القادر على إحياء الموتى، وهو قدير بالغ القدرة على كل شيء مقدور. أما الأصنام وكل من عدا الله فلا تملك في الحقيقة نفعا ولا ضرا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً، لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج 22/ 73] . ثم بعد هذا النبذ للكفار، نهى الله تعالى عن منازعتهم في الدين، فقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي مهما اختلفتم في شيء من جميع أمور الدين والدنيا، فإن حكمه ومرجعه إلى الله، فهو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، وسوف يفصل فيه يوم القيامة بحكمه، فيظهر المحق من المبطل. والمقصود أن المؤمنين ممنوعون من الشروع مع الكفار في الخصومات والمنازعات، كما منع الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحمل الكفار على الإيمان قهرا. والآية مثل قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 4/ 59] . ثم أمر الله نبيه أن يقول لهم: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي ذلكم الحاكم بهذا الحكم هو الله ربي، عليه وحده اعتمدت في جميع أموري، لا على غيره، وفوضته في كل شؤوني، وأرجع إليه تائبا من الذنوب، لا إلى غيره.

وهذا تعريف لهم بمصدر الخير الحقيقي ودفع الضرر، لا أصنامهم الجمادات. وأسباب ذلك قدرته الخارقة، فقال تعالى: 1- فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومبدعهما من العدم، لا على مثال سبق، فهو الجدير بالعبادة. 2- جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي أوجد وخلق لكم من جنسكم نساء لتسكنوا إليها، ويحدث التكاثر والتوالد، ويستمر بقاء النوع الإنساني، وخلق أيضا للأنعام من جنسها إناثا، حتى تتكاثر موارد المعيشة لبني الإنسان. أو خلق من الأنعام أصنافا من الذكور والإناث، لذا قال: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي يبثكم ويكثركم به أي بجعل الأزواج سبيلا للتكاثر. وقوله: فِيهِ أي في هذا التدبير، وهو جعل الأزواج من الناس والأنعام، فكأن هذا الجعل منبع التكاثر ومصدره. 3- 4- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي ليس مثل الله شيء في ذاته وصفاته وحكمته وقدرته وعلمه، ومن حكمته التكاثر بالتزاوج، وهو السميع لكل الأصوات، البصير بالأمور، يسمع ويبصر الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، ظاهرها وخفيها. وهذه الآية حجة في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلا في المكان والجهة، إذ لو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام. والآية أيضا حجة في نفي المثل لله تعالى. أما قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم 30/ 27] ، فلا يعني إثبات المثل، لأن المراد بالمثل: هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الحقيقة والماهية، والمثل: هو الذي يكون مساويا للشيء في بعض الصفات الخارجة عن

فقه الحياة أو الأحكام:

الماهية، وإن كان مخالفا في الماهية «1» . 5- لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي له سبحانه خزائن السموات والأرض أو مفاتيحهما، يوسع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويضيقه على من يشاء، وإنه تعالى عليم بكل شيء يحدث في الوجود، من إغناء وإفقار، وآثار ذلك على النفس والمجتمع، لا يريد بذلك إلا إجراء الحكمة والمصلحة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الحقائق التالية: 1- القرآن الكريم كما هو واضح عربي مبين، أوحى الله به إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم. 2- غاية القرآن الإنذار والتبشير، إنذار الكفار بالنار، وتبشير المؤمنين بالجنة. ويشمل الإنذار أيضا مخاوف وأهوال يوم القيامة الذي لا شكّ في وقوعه، فهو كائن لا محالة، ولكن بعلم الله، وما أقرب حدوث القيامة إن نشبت حرب ذريّة عالمية، فالذّرة كفيلة بالقضاء على الأخضر واليابس. 3- الناس يوم القيامة فريقان: فريق الجنة، وفريق النار، ولا ثالث لهما. 4- إن مكة المكرمة هي أم القرى وعاصمة المدن، وأشرف سائر البلاد، وهي كما أثبت العلماء الحديثون في مركز قطب الدائرة للكرة الأرضية، وكانت أحبّ البلاد إلى قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم. أخرج الإمام أحمد والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه عن عبد الله بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول- وهو واقف

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 153.

بالحزورة في سوق مكة-: «والله إنك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» . 5- الله قادر على جعل الناس على دين واحد وملّة واحدة، أهل ضلالة أو أهل هدى، ولكن يدعهم وشأنهم في اختيار أي المنهجين شاؤوا، فأهل الهداية في الجنة، وأهل الضلالة في النار، وليس لهم ناصر ولا معين يدفع عنهم العذاب. 6- لقد استحبّ المشركون الكفر على الهدى، واتّخذوا الأصنام معبودات وآلهة لهم من دون الله، ولكنهم خابوا وخسروا وأخطئوا، فالله هو المعبود بحقّ، لأنّه الناصر الولي الذي لا ولي سواه، وهو القادر على البعث، والقادر على كلّ شيء، وغيره عاجز لا يقدر على شيء، وليس محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم رقيبا ولا حافظا ولا مكلفا بأن يحملهم على الإيمان شاؤوا أم أبوا. 7- لا داعي للاختلاف والتنازع بين أهل الأديان، لأن ذلك يورث العداوة، ويزرع الأحقاد، ويجعل الحكم إلى السلاح، وما على المؤمنين إلا أن يقولوا لمن خالفهم من أهل الكتاب والمشركين: الحكم إلى الله لا إليكم، وقد حكم أن الدّين هو الإسلام لا غيره، والشرائع إنما تتلقّى من بيان الله، ومرجع الحكم وإزالة الخلاف: القرآن والسّنة. وقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لقومه: ذلكم الله الذي يحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي، عليه اعتمدت، وإليه أرجع، لا إلى غيره من المعبودات الأخرى. 8- احتجّ نفاة القياس بالآية: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي إلى النص من قرآن أو سنّة. والجواب: المراد من الآية: الرّدّ إلى بيان الله، سواء كان البيان بالنّص أو بالقياس، والقياس في معنى المنصوص عليه.

وحدة الأديان في أصولها [سورة الشورى (42) الآيات 13 إلى 14] :

9- استدلّ الله تعالى على قدرته الفائقة بأنه خالق السموات والأرض من العدم، وخالق الزوجين الذكر والأنثى من الناس والأنعام، وأنه ليس مثله شيء في ذاته وصفاته من عظمته وكبريائه وقدرته وملكوته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبّه به، وهو الذي يملك مفاتيح السموات والأرض ويملك الخزائن، وهو الرّازق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، وهو بكلّ شيء عليم. وفي الجملة: هو الموصوف بكل كمال، المنزّه عن كل نقصان، الخالق لكل المخلوقات، المتصرّف في هذا الكون كله. والمقصود من إيراد هذه الصفات بيان أن الأصنام لا تتصف بشيء منها، فلا تكون أهلا للعبادة. وحدة الأديان في أصولها [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 14] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) الإعراب: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ منصوب على البدل من مفعول شَرَعَ أو مرفوع على الاستئناف، كأنه جواب سؤال تقديره: وما ذلك المشروع؟ أو مجرور على البدل من هاء بِهِ. المفردات اللغوية: شَرَعَ لَكُمْ أوضح وبيّن وسنّ الشريعة. ما وَصَّى بِهِ نُوحاً أي ما أمر به نوحا. ونوح: أول أنبياء الشريعة، واستعمل وَصَّى بمعنى (أمر) للاعتناء بشأن المأمور به وتأكيده،

المناسبة:

أي شرع لكم من الدّين دين نوح ومحمد ومن بينهما عليهم السّلام من أرباب الشرع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم، المفسّر بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي حافظوا عليه، والدّين: هو التوحيد والإيمان بما يجب تصديقه، والطاعة في أحكام الله أي توحيد الله وطاعته، وهو الإسلام بالمعنى العام. وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ولا تختلفوا في هذا الأصل، أما فروع الشرع فيمكن أن تختلف، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] . كَبُرَ عظم وشقّ عليهم. ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد. يَجْتَبِي إِلَيْهِ يصطفي ويختار، وضمير إليه عائد على ما تدعوهم إليه، أو على الدّين. وَيَهْدِي إِلَيْهِ بالإرشاد والتوفيق. مَنْ يُنِيبُ يقبل ويرجع إلى طاعته. وَما تَفَرَّقُوا أي أهل الأديان في الدّين، بأن وحّد بعض، وكفر بعض. الْعِلْمُ اليقين بالتوحيد أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. بَغْياً أي ظلما وتجاوزا للحدّ من الكافرين. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بالإمهال وتأخير الجزاء. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بتعذيب الكافرين المبطلين في الدنيا، حين افترقوا. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ لفي حيرة من أمرهم وكتابهم الذي لم يؤمنوا بحقيقته. مُرِيبٍ مقلق موقع في الرّيبة، شديد الرّيب والشكّ. المناسبة: بعد أن عظّم الله تعالى وحيه إلى نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ... وبعد أن عدّد تعالى نعمه على الناس، فصّل أمر الوحي، وذكر نعمته العامة وهو ما شرع لهم من العقيدة المتفق عليها من توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر والجزاء فيه، وذكر أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد وترك الأوثان، وأنهم ما اختلفوا إلا بعد قيام الحجة عليهم، وهم متأثرون ببواعث البغي والعدوان والحسد، وأنه لولا القضاء الإلهي السابق بإمهالهم وتأخير عذابهم، لعجلت لهم العقوبة في الدنيا.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي بيّن وأوضح لكم من الدّين أيها المسلمون ما أمر به وشرع لنوح أول الرّسل بعد آدم عليهما السلام من التوحيد وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرّسل وتوافقت عليها الكتب، وما أوحى به إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين من القرآن وشرائع الإسلام ونبذ الشرك، وما أمر به إبراهيم وموسى وعيسى مما تطابقت عليه الشرائع، أن حافظوا على الدّين (وهو توحيد الله والإيمان به، وطاعة رسله وقبول شرائعه) ولا تختلفوا في هذه الأصول التشريعية، فإن هذه الأصول لا ينبغي ولا يصح الخلاف في مثلها. والخلاصة: شرعنا لكم في هذه الشريعة ما اتفقت عليه الشرائع والأديان كلها في أصول العقيدة من الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر والملائكة، وأصول العبادة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الله، قال مجاهد: «لم يبعث الله نبيّا قط إلّا وصّاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم» . وكذا أصول الأخلاق وأسس الفضائل كالصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الزنى والسرقة والاعتداء على الأموال والنفوس. ووصّى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وأساس الدين الذي جاءت به الرّسل كلّهم: هو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عزّ وجلّ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] . وجاء في الحديث الثابت الذي أخرجه

أحمد والشيخان وأبو داود عن أبي هريرة: «الأنبياء أولاد علات «1» ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» أي أن القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له. أما اختلاف الأديان في الشعائر الفرعية وأنواع العبادات وتفاصيلها ومناهجها المختلفة من شريعة إلى أخرى، فهذا لا شيء فيه، وإنما اقتضاه التّطور ومراعاة الحاجات والمصالح، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة 5/ 48] . وهذه الآية انتظمت ذكر الرّسل الخمسة أولي العزم: وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصّلاة والسّلام. وإنّما خصّهم بالذّكر، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي عظم وشقّ على المشركين دعوتهم إلى توحيد الإله ورفض الأصنام والأوثان، وأنكروا واشتدّ عليهم: أن لا إله إلا الله وحده، وأبى الله إلا أن ينصرها. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي إن الله يختار لتوحيده والدّخول في دينه من يشاء من عباده، ويوفّق لدينه وعبادته من يرجع إلى طاعته ويقبل إلى عبادته. وهذا يبيّن فضل الله على عبادة المؤمنين أنه هداهم لدينه، بعد أنّ أمرهم بالتّمسك بالدّين القديم الذي أجمع عليه الرّسل. وسبب التّفرق في الدّين بالرغم من وحدته، هو ما قال تعالى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ما تفرّق أتباع الأديان في اتّباع الحقّ إلّا بعد قيام الحجة عليهم، وبعد ما علموا أن الفرقة ضلالة، وما حملهم على ذلك إلا العناد والمشاقة والبغي بينهم بطلب الرّياسة، وشدّة الحمية، والحفاظ على مراكز النّفوذ والمكاسب المادية.

_ (1) بنو العلّات: هم الإخوة والأخوات لأب.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي ولولا القضاء السابق من ربّك بتأخير العقوبة والحساب إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا، بسبب ما اقترفوا من آثام عظام. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي وإن لجيل المتأخّر من أهل الكتاب الذين توارثوا التوراة والإنجيل عمن سبقهم لفي شكّ من كتابهم ودينهم وإيمانهم، وهو شكّ مقلق موقع في الرّيب بشدة، لأنّهم لم يتّبعوا الحق، وإنّما قلّدوا رؤساء الدّين المتأخرين الذين صوّروا لهم الدّين بصورة مغايرة لحقيقته الأولى، واتّبعوا الآباء والأسلاف بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، ولذلك لم يؤمنوا برسالة خاتم الأنبياء، وأصبحوا مكذّبين القرآن ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم الذي صدّق كتابهم في أصله الأوّل. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن الرّسالات السماوية متحدة في أصولها، وإن اختلفت في فروعها. 2- شرع الله لأمة الإسلام ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السّلام، من توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وباليوم الآخر، وغيرها من أصول العقيدة والعبادة والأخلاق. أما أحكام الشرائع التي هي متبدلة متغيرة بحسب أحوال الأمم ومصالح الأقوام، فهي مختلفة متفاوتة، وهذا أمر حسن يتناسب مع الأحوال والبيئات والظروف، فالمشرع كامل العلم والحكمة، والإسلام دين قديم أجمع عليه الرّسل، والشرائع قسمان: منها ما لا نسخ فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كحسن الصدق والعدل والإحسان، وقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان. والشرع حريص على القسم الأول باعتباره الجوهر أكثر من حرصه على القسم الثاني.

الأمر بالدعوة والاستقامة على المتفق عليه ودحض حجة المجادلين فيه [سورة الشورى (42) الآيات 15 إلى 19] :

3- إن الأديان قائمة على توحيد الله، فلا تلتقي مع الشرك والمشركين، وإنما ترفض الشرك والوثنية، وتقبّح عقائد المشركين، لذا كان يشقّ على المشركين سماع كلمة التوحيد- شهادة أن لا إله إلا الله. 4- يستخلص الله لدينه من رجع إليه، ويهدي إليه من وجد فيه الخير. 5- لم تتفرّق الأمم في أديانها إلا بعد علمهم بالحقّ والحقيقة، وآثروا الفرقة والاختلاف على الوحدة والجماعة للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا، فما على المسلمين إلا أن يحذروا الفرقة والتّشتت ويحرصوا على الجماعة والوحدة، وينبذوا الخلافات والعصبيات المذهبية الضّارة. 6- اقتضت الحكمة الإلهية تأخير العذاب إلى يوم القيامة، وتأخير الفصل بين المختلفين إلى يوم المعاد والحساب. 7- إن الذين توارثوا التوراة والإنجيل لفي شكّ من كتبهم ومما أوصى به الأنبياء. الأمر بالدعوة والاستقامة على المتفق عليه ودحض حجة المجادلين فيه [سورة الشورى (42) : الآيات 15 الى 19] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)

الإعراب:

الإعراب: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ.. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ الَّذِينَ: مبتدأ، وحُجَّتُهُمْ: مبتدأ ثان، وداحِضَةٌ: خبره، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ. لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ذكّر قَرِيبٌ من أربعة وجوه: ذكّره على النّسب، أي ذات قرب، مثل إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف 7/ 56] أي ذات قرب، أو لأن التقدير: لعل وقت الساعة قريب، أو حملا على المعنى، لأن الساعة بمعنى البعث، أو للفرق بينه وبين قرابة النسب. وقال الكسائي: قَرِيبٌ نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد. ولَعَلَّ علق فعل يُدْرِيكَ عن العمل، وسدّ ما بعده مسدّ المفعولين. البلاغة: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها بينهما طباق السلب. المفردات اللغوية: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ اللام في موضع إلى، أي فلذلك الائتلاف والاتّفاق على الملّة الحنيفية ادع الناس يا محمد، واستقم عليه وداوم واثبت. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تركه. آمَنْتُ صدقت. لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم والقضاء دون حيف ولا ميل لجانب: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فيجازي كلّا بعمله. لا حُجَّةَ لا احتجاج ولا خصومة، إذ الحق قد ظهر. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة لفصل القضاء. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع. يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يخاصمون في دينه. اسْتُجِيبَ لَهُ استجاب الناس لدينه، ودخلوا فيه لظهور حجته ومعجزاته. داحِضَةٌ زائفة باطلة. وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ بمعاندتهم. وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم. اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ القرآن أو جنس الكتاب. وَالْمِيزانَ العدل والمساواة بين الناس. وَما يُدْرِيكَ يعلمك. لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ لعل إتيانها قريب. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها يتساءلون استهزاء: متى تأتي؟ وظنّا منهم أنها غير آتية. مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها مع العناية والاهتمام، والفعل (أشفق) إذا عدّي بمن كما هنا فالخوف أظهر، وإذا عدّي

سبب النزول نزول الآية (16) :

بعلى، مثل: أشفقت على اليتيم، فالعناية أظهر. الْحَقُّ الأمر المحقق الكائن حتما. يُمارُونَ يجادلون. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق، فإن البعث أشبه الغيبيات إلى المحسوس، فمن لم يهتد إليه لتوافر الدواعي على الاعتقاد به، فهو أبعد عن الاهتداء إلى غيره. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يتلطّف بهم جميعا، سواء البرّ منهم والفاجر، حيث رزقهم ولم يهلكهم بمعاصيهم. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من يريد، كما يشاء ويريد. الْقَوِيُّ الباهر القدرة. الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب. سبب النزول: نزول الآية (16) : وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين. قد دخل الناس في دين الله أفواجا، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية قال: هم اليهود والنصارى قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبيّنا قبل نبيّكم، ونحن خير منكم. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى وحدة الدّين في أصوله الأولى، أمر نبيّه بالدعوة إلى الاتفاق على الملّة الحنيفيّة، والاستقامة عليها والثبات على أحكامها، وأنهى المحاجّة والمخصومة بين المؤمنين والمشركين لوضوح الحجّة، ثم ذكر أن الذين يخاصمون في الدّين بعد الاستجابة إليه، حجّتهم زائفة باطلة، وأردفه استعجال المشركين استهزاء وإنكارا بيوم القيامة، وإيمان المؤمنين به حتما واستعدادهم له، وأن المماراة والشكّ فيه ضلال واضح، لكثرة الأدلّة على وقوعه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: اشتملت الآية الأولى: فَلِذلِكَ فَادْعُ.. على عشرة أوامر ونواه، كلّ منها مستقل بذاته، ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنّها أيضا عشرة موضوعات. والأمر بهذه الأوامر والنهي عن هذه النواهي، وإن وجه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهي له ولأمته. 1- 2: فَلِذلِكَ فَادْعُ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي ادع أيها الرسول إلى ذلك الأمر المتفق عليه، واثبت وداوم واستمر على عبادة الله وتبليغ الرسالة، كما أمرت من ربّك، فيكون قوله: فَلِذلِكَ أي إلى ذلك، وتكون اللام بمعنى إلى، كقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة 99/ 5] . ويصحّ أن يكون المراد باللام التعليل، أي فلأجل ذلك التّفرق والشّك المذكورين، ولأجل تلك الاختلافات المتشعبة في الدين، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفية القديمة، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله، فتكون اللام على بابها للتعليل، والمعنى: فمن أجل ذلك المتقدّم ذكره فادع واستقم. أو فلأجل ما شرعه الله من الدّين الواحد، فادع إلى الله وإلى توحيده، واستقم على ما دعوت إليه، واستمر على تبليغ الرسالة كما أمرت بذلك. 3- وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما اختلقوه وافتروه من عبادة الأوثان، ولا تتبع أيضا أهواء الذين أورثوا الكتاب فيما وقعوا فيه من شكوك وحيرة وتحريف وتبديل. 4- وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي وقل أيها الرسول: صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، من

التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى، لا نفرّق بين أحد منهم، فلست من الذين آمنوا ببعض الكتب، وكفروا ببعض، وهذا تعريض بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين حصل منهم ذلك. 5- وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي وأمرني الله بأن أعدل بينكم في الحكم والقضاء إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة أو نقص. 6- اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي الله هو المعبود بحقّ، لا إله غيره، فنحن نقرّ بذلك اختيارا، فهو إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم. 7- لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي إن ثواب أعمالنا وعقابها خاص بنا، ولكم ثواب أعمالكم وعقابها، فهو خاص بكم، ونحن برآء منكم ومن أعمالكم، كما قال تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ 34/ 25] ، وقال سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] . 8- لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا خصومة بيننا وبينكم ولا احتجاج، لأن الحقّ قد ظهر ووضح كالشمس. 9- 10: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي الله يجمع بيننا في المحشر يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحق في خلافتنا، كما قال تعالى: قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ 34/ 26] . وإليه وحده سبحانه المرجع والمآب يوم الحساب والقيامة، فيجازي كل نفس بما كسبت. قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، وقد سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش، على أن يعطيه الوليد نصف ماله، ويزوجه شيبة بابنته.

ثم بيّن الله تعالى بطلان حجة المجادلين في دين الله، فقال: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه، حجّتهم باطلة عند ربّهم، أي لا ثبات لها، كالشيء الذي يزلّ عن موضعه، وعليهم غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. وسميت دعاويهم الزائفة وأباطيلهم حجّة ودليلا، مجاراة لهم على زعمهم. قال مجاهد: وهؤلاء قوم توهّموا أن الجاهلية تعود، فجادلوا الذين استجابوا للإسلام، لعلهم يردّونهم إلى الجاهلية. وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، ومحاجّتهم قولهم: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم. والظاهر هذا الرأي، روي أن اليهود قالوا للمؤمنين: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق، ونبوّة محمد ليست متّفقا عليها، فوجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى، فدحض تعالى هذه الحجة، لأن الإيمان بموسى عليه السلام إنما وجب لظهور المعجزات على يديه، للدلالة على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوجب الإقرار بنبوّته. ثم ردّ تعالى عليهم بقوله: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أي لقد أنزل الله جميع الكتب المنزلة على الرّسل إنزالا مشتملا على الحقّ مقترنا به، وعلى أنواع الدلائل والبيّنات، وأنزل الميزان في كتبه المنزلة، أي العدل والتسوية والإنصاف، ليحكم به بين البشر، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف والتّسوية بين الناس

في بيعهم وشرائهم، كقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 57/ 25] . وبعد تقرير هذه الدلائل خوّف الله تعالى المنكرين بعذاب القيامة، فقال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي وما يعلمك أيها الرسول والمخاطب أن مجيء الساعة عسى أن يكون قريبا حصوله. وفي هذا ترغيب باتباع شرع الله، وترهيب من القيامة، وطلب الاستعداد لها. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها أي يتعجّل بقدوم الساعة الذين لا يصدّقون بها، قائلين استهزاء وإنكارا وتكذيبا وعنادا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي والمؤمنون خائفون وجلون من وقوعها، ويعلمون أنها كائنة لا محالة، فهم عاملون من أجلها، مستعدون لها، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون 23/ 60] . ثبت في حديث متواتر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصورت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فناداه، فقال: يا محمد، فقال له نحوا من صوته: «هاؤم» ، فقال له: متى الساعة؟ فقال له: «ويحك إنها كائنة، فما أعددت لها؟» فقال: حبّ الله ورسوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت مع من أحببت» أو «المرء مع من أحب» . أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي ألا أيها السامع، إن الذين يجادلون في وجود القيامة، ويخاصمون فيها مخاصمة شكّ وريبة، لفي جهل بيّن. وانحراف شديد عن الحقّ، ولو تفكّروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء

فقه الحياة أو الأحكام:

قادر على الإعادة، ومن خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] . اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي إن الله تعالى كثير اللطف بعباده، بالغ الرأفة بهم، فيوصل إليهم أعظم المنافع ومنها إنزال الكتاب المقترن بالحقّ، ويدفع عنهم أعظم المضار والبلايا ومنها تأخير العذاب عن الخلق، كما في الآيات المتقدمة، ومن ألطافه ومنافعه أنه يرزق جميع عباده، البرّ منهم والفاجر، يرزق من يشاء منهم كيف يشاء، فيوسع على هذا، ويضيق على هذا، وهو العظيم القوة، الباهر القدرة، الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء، فلا يعجزه شيء. ونحو الآية في الإمداد بالأرزاق قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] ، ونظائر أخرى كثيرة. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده كل مؤمن مأمور بالدعوة إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصّاهم به، وإلى القرآن المتضمن تلك الشرائع، وهو مأمور أيضا بالاستقامة والثبات على تبليغ الرسالة والعمل بها، ومنهي عن اتّباع الأهواء والحظوظ النفسية وعدم الاهتمام بخلاف من خالف. وهو مأمور كذلك بالعدل في الأحكام كما أمر الله، وبإعلان أن الله ربّ الناس جميعا، لا ربّ المسلمين وحدهم، ولا ربّ فئات أخرى وحدها، وأن كل

واحد مخصوص بعمل نفسه، وأن كل إنسان مسئول عن عمله، فلنا ديننا ولكم دينكم، ولا خصومة بيننا وبينكم، لأن البراهين قد ظهرت، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجّة ولا جدال. والله سيجمع جميع الخلائق إليه يوم القيامة، وإليه المرجع، فهو يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويجازي كلّا بما كان عليه. 2- إن المشركين واليهود والنصارى الذين يجادلون في دين الله، بعد انتشاره في الآفاق أو المشارق والمغارب، حجتهم باطلة زائفة لاثبات لها، وعليهم غضب من الله في الدنيا، ولهم عذاب شديد دائم في الآخرة. 3- إن الله تعالى هو منزّل القرآن وسائر الكتب المنزلة مقترنة بالحق والصدق، ومنزل في كتبه العدل، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان- كما تقدم- آلة الإنصاف والعدل. 4- وردت في القرآن آيات كثيرة للترغيب والترهيب تدلّ على قرب يوم القيامة وتحقق وقوعها حتما لا محالة. 5- إن شاء الكفار دائما ومعهم الملاحدة والماديون والطبيعيون ينكرون وقوع القيامة استهزاء وكفرا وعنادا وتكذيبا بها، ظنّا منهم أنها غير آتية، أو إيهاما للضّعفة أنها لا تكون. وعقيدة المؤمن: الإيمان الجازم بمجيء القيامة، فهي الحقّ الذي لا شكّ فيه، وهم دائما يعملون لها ويستعدون من أجلها، خوفا من أهوالها، وحساب الله الشديد فيها. وإن الذين يشكون ويخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق

حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين وقبول التوبة [سورة الشورى (42) الآيات 20 إلى 26] :

والفكر الصحيح، إذ لو تفكّروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب، ثم من نطفة، إلى أن صاروا رجالا، قادر على أن يبعثهم. 6- إن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، ينعم عليهم جميعا، ويرزق المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر كيف يشاء، ويحرم من يشاء، وهو البالغ القوة، القاهر الذي لا يغلب. حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين وقبول التوبة [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 26] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)

الإعراب:

الإعراب: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّ بالكسر: على الابتداء، ويقرأ بالفتح بالعطف على كلمة الْفَصْلِ وتقديره: ولولا كلمة الفصل وأن الظالمين. تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ ... حال من الظالمين، لأن تَرَى من رؤية العين، لا من رؤية القلب. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ بحذف الباء والهاء، أي: ذلك الذي يبشر الله به عباده، ثم حذف الباء والهاء تخفيفا. وذلِكَ بمبتدإ، وخبره اسم موصول، والعائد عليه محذوف، أي يبشر الله به عباده كما ذكره. قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ ... الْمَوَدَّةَ: منصوب على الاستثناء من غير الجنس. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ ... يَمْحُ: ليس معطوفا على يَخْتِمْ المجزوم، وإنما هو مستأنف مرفوع، وإنما حذفت الواو منه، كما حذفت في سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق 96/ 18] ووَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء 17/ 11] وإن كان في موضع رفع، لأن محو الله الباطل واجب، وليس معلقا بشرط. وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ: منصوب على أنه مفعول به، أي ويجيب الله الذين آمنوا، أو على تقدير حذف حرف الجر، أي ويستجيب للذين آمنوا، فحذفت اللام، فاتصل الفعل به. وقال أبو حيان: والظاهر أن الَّذِينَ فاعل يستجيب الذي هو بمعنى يجيب. البلاغة: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ استعارة تمثيلية، شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة. وبين الآخرة والدنيا طباق. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ بينهما مقابلة. المفردات اللغوية: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله. حَرْثَ الْآخِرَةِ أي ثوابها، والأصل في الحرث: إلقاء البذر في الأرض، وقد يطلق على الثمر، شبه ثمرة العمل ونتيجته بثمرة المزروع، وهذا يتضمن تشبيه الأعمال بالبذور. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ نضاعف له الحسنة إلى عشر أمثالها وأكثر. حَرْثَ

الدُّنْيا لذاتها وطيباتها. نُؤْتِهِ مِنْها بلا مضاعفة ما قسم له، أي نعطه شيئا منها على ما قسمنا له. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ من حظ. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل لكفار مكة وأمثالهم شركاء في الكفر، وهم الشياطين، وأم: أي بل ألهم شركاء؟ والهمزة للتقرير والتقريع، فهو استفهام تقرير وتوبيخ. شَرَعُوا لَهُمْ شرع الشركاء بالتزيين للكفار. مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي من النظام الفاسد كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فقط. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ليوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين والمؤمنين بتعذيب الأوائل في الدنيا. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. تَرَى الظَّالِمِينَ في يوم القيامة. مُشْفِقِينَ خائفين. مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من السيئات أن يجازوا عليها. وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي والجزاء واقع بهم يوم القيامة، لا محالة. فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في أطيب بقاعها وأنزهها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي إن ما يشتهونه ثابت عند ربهم. ذلِكَ جزاء المؤمنين. هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ هو الفضل الإلهي العظيم الذي يصغر أمامه أي فضل في الدنيا. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ.. ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به، فحذف الجارّ، ثم العائد، والبشارة: الإخبار بحصول ما يسرّ في المستقبل. لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً لا أطلب على التبليغ أو البشارة نفعا منكم وخصصه العرف بالنفع المالي. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى استثناء منقطع، أي لكن أسألكم أن تودّوا قرابتي منكم، فإن له في كل بطن من قريش قرابة، أو لكن أسألكم المودّة حال كونها في القربى، أي إلا المودة ثابتة في ذوي القربى أو في حق القرابة، روي بسند ضعيف أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. فالقربى هنا: قرابة الرحم، كأنه قال: اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يكتسب طاعة، سيما حب آل الرسول. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً نضاعف له الثواب في الحسنة. غَفُورٌ للذنوب. شَكُورٌ كثير الشكر للقليل ولمن أطاع بإيفاء الثواب والتفضل عليه بالزيادة. أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون. افْتَرى ادعى محمد النبوة أو القرآن. يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يطبع عليه بالخاتم حتى تجترئ على الافتراء، والمراد استبعاد الافتراء على مثله، فإنما الذي يجترئ عليه ما كان مختوما على قلبه جاهلا بربه، أو المراد: يربط عليه بالصبر، فلا يشق عليك أذاهم بهذا القول وغيره. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ يزيله، وهو استئناف لنفي الافتراء عما يقوله النبي. وَيُحِقُّ الْحَقَّ يثبته. بِكَلِماتِهِ هي حججه وبراهينه. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب.

سبب النزول نزول الآية (23) :

يَقْبَلُ التَّوْبَةَ يثيب عليها وهو تعريض لهم بالتوبة. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغيرها وكبيرها لمن يشاء. وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فيجازي عن يقين وحكمة. سبب النزول: نزول الآية (23) : قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ.. قال قتادة: قال المشركون: لعلّ محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودّة أقربائه. قال الثعلبي: وهذا أشبه بالآية، لأن السورة مكية. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى كونه لطيفا بعباده، كثير الإحسان إليهم، رغّب في فعل الخير، والاحتراز عن القبائح بالعمل للآخرة، وأوضح قانون العمل للآخرة والدنيا، ثم أردفه ببيان سبب الضلالة عند المشركين، واستحقاقهم العذاب العاجل على الشرك بالله وإنكار البعث، لولا تأخيره في الحكم الأزلي السابق إلى الآخرة، وإخبارهم بوقوع عذاب الآخرة، وحصول الثواب في رياض الجنة للمؤمنين. ثم عظّم تعالى حال الثواب، وأمر رسوله بأن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم على تبليغ الرسالة نفعا عاجلا، وإنما يطلب منهم صلة الرحم والقرابة التي هي شأن قريش، وهذا دليل النبوة. ثم رد عليهم قولهم بأن القرآن مفترى: بأنه لا يفتري الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه، فلو كان محمد مفتريا لكشف الله باطله. ثم رغبهم في التوبة، ووعد تعالى بإجابة دعاء المؤمنين الصالحين، وأوعد الكافرين بشديد العقاب.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة، نقويه ونغنيه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى ما شاء الله. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي ومن كان سعيه للحصول على شيء من شؤون الدنيا، وطلب لذائذها وطيباتها، وإهمال شؤون الآخرة، نعطه ما قضت به مشيئتنا، وقسمناه له في قضائنا، ولكن ليس له في الآخرة حظ، لأنه لم يعمل للآخرة، فلا نصيب له فيها. وهذه الآية بإطلاقها مقيدة بآية الإسراء: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء 17/ 18- 19] . أخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه وغيرهما عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر هذه الأمة بالسّناء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب» . وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الآية، ثم قال: يقول الله: ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك» . ولما ذكر تعالى ما شرع للناس، وهو ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية، أخذ ينكر ما شرع غيره وهو سبب ضلال المشركين، فقال:

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي بل إن المشركين لهم أعوان من الشياطين شرعوا ما لم يشرعه الله، فلم يتبعوا ما شرع الله لك يا محمد من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، كتحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ونحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة التي اخترعوها في الجاهلية، من التحليل والتحريم والعبادات والأموال. فالشركاء: هم شياطين الجن والإنس، وضمير شَرَعُوا عائد على الشركاء، وضمير لَهُمْ عائد على الكفار المعاصرين للرسول. ثبت في الصحيح لدى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة يجرّ قصبه- أي أمعاءه- في النار» لأنه أول من سيب السوائب، وسنّ للعرب عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة، لذا قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ولولا الحكم والقضاء السابق من الله تعالى بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بين المؤمنين والمشركين، وعجلت العقوبة في الدنيا لأئمة الشرك، وإن للظالمين العذاب المؤلم الشديد الموجع في جهنم، وبئس المصير. وتأخير العذاب بموجب قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر 54/ 46] . ثم ذكر تعالى أحوال الجزاء الأخروي لكل من الظالمين والمؤمنين، فقال: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي ترى رأي العين أو تبصر الكفار (لمقابلته بالمؤمنين) خائفين وجلين يوم القيامة مما عملوا من

السيئات في الدنيا، وجزاء ما كسبوا واقع بهم نازل عليهم لا محالة، سواء خافوا أو لم يخافوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وأطاعوا ربهم فيما أمر به ونهى عنه، هم في رياضى الجنة وأطيبها وأنزهها، ولهم ما يشتهون عند ربهم من أصناف النعم وأنواع الملذات، ذلك الجزاء الممنوح لهم الذي لا يوصف ولا تعرف حقيقته هو الفضل الذي يفوق كل فضل في الدنيا، وهو النعمة التامة الشاملة. وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ العندية عندية المكانة والتشريف، لا عندية المكان. ثم أخبر تعالى عن حتمية وقوع هذا الجزاء، فقال: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي إن هذا الجزاء في روضات الجنات والنعيم الشامل حاصل لهم، كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به، وتلك البشارة لهؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه. فقوله ذلِكَ إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة. ثم أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يظهر ترفعه وسموه عن أعراض الدنيا ومنافعها، فقال: قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا، ولكن أطلب تقدير صلة الرحم والقرابة التي بيني وبينكم، وإكرام آل بيتي وقرابتي، فتكفّوا شركم عني، وتذروني أبلّغ رسالات ربي. فقوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ استثناء منقطع، لأن المودة ليست أجرا.

أخرج أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» والحق العمل في هذا برواية البخاري «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» . وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقرّبوا إليه بطاعته» . وهذا قول للحسن البصري، وهو تفسير ثان للمودة في القربى، أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. والظاهر لدى جماعة هو التفسير الأول، وأن مودة قرابته داخلة في الآية، والتقدير: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها، قال أبو حيان: وهو حسن، وفيه تكثير. قال عكرمة: وكانت قريش تصل أرحامها، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم قطعته، فقال: «صلوني كما كنتم تفعلون» . وثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض» وفسرت العترة في رواية الترمذي عن جابر فقال صلّى الله عليه وسلّم: «عترتي أهل بيتي» . ثم رغّبهم الله تعالى في الإحسان والإيمان، فقال: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أي ومن يعمل حسنة، نزد له فيها حسنا، أي أجرا وثوابا، إن الله يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، ويضاعف ويشكر المحسن. ونحو الآية قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء 4/ 40] . ثم وبخهم على افترائهم على الرسول، فقال:

أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي بل أيقولون: افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة ونزول القرآن عليه، وهذا أقبح من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم، أي أنه تعالى أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال، ثم استفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة، فمثله لا ينسب إليه الكذب على الله، مع اعترافكم له قبل ذلك بالصدق والأمانة. ثم أكد ذلك فرد الله عليهم مستبعدا الافتراء من مثل محمد الرسول، فقال: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ، وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لو افتريت على الله كذبا، لطبع على قلبك إن شاء، وسلبك ما آتاك من القرآن، فلا يجرأ على مثل هذا إلا من كان مثلهم قد ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا يجرأ على ذلك، وهذا هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لم يفتر على الله كذبا، فأيده الله. وهذا كقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة 69/ 44- 47] . وقال أبو السعود: والآية استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان أنه صلّى الله عليه وسلّم لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعا، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه «1» . ثم أكد الله تعالى ذلك بإبطال الباطل وإحقاق الحق، فالله سبحانه وتعالى لا يدع الباطل يستمر، فلو كان ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم باطلا لمحاه، كما جرت به عادته في المفترين، وإنما يثبّت الحق، أي الإسلام، فيبينه بما أنزل من القرآن،

_ (1) تفسير أبي السعود: 5/ 34. [.....]

وبما أيّد به نبيه من المعجزات والحجج والبراهين، إنه تعالى واسع العلم بما في قلوب العباد. ثم فتح تعالى أمامهم باب الأمل والتوبة، فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي إن الله عز وجل يقبل في المستقبل من عباده المذنبين توبتهم عما عملوا من المعاصي، ويعفو عن السيئات في الماضي، ويعلم الذي تفعلونه من خير أو شر، فيجازي كلا بما يستحق من الثواب والعقاب. ونحو الآية: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء 4/ 110] وثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك- أخطأ من شدة الفرح» . وأكد قبول التوبة بقبول الدعاء، فقال تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي ويستجيب الله للذين آمنوا، وأطاعوا ربهم، ويعطيهم ما طلبوه منه، ويزيدهم على ما طلبوه منه، أو على ما يستحقونه من الثواب، تفضلا منه ونعمة. أو يجيب الله الذين آمنوا إذا دعوه، أو يجيب الذين آمنوا لربهم، مثل اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال 8/ 24] فيكون المراد بقوله:

فقه الحياة أو الأحكام:

ويستجيب أي يجيب، قال الزجاج: استجاب وأجاب بمعنى واحد «1» . وبعد أن وعد المؤمنين بالثواب أو عد الكافرين بالعذاب، فقال: وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي وللكافرين الذين لم يؤمنوا بالله رسوله يوم القيامة عذاب مؤلم موجع. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات الكريمات ما يأتي: 1- إن مبدأ الإسلام هو العمل للدنيا والآخرة معا، كما قال تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص 28/ 77] . وقال عبد الله بن عمر: «واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . والحرث: العمل والكسب. 2- فضّل الله تعالى من أراد الآخرة على من أراد الدنيا في الآية من وجوه ستة هي: الأول- أنه قدم تعالى مريد حرث الآخرة في الذّكر على مريد حرث الدنيا. الثاني- أنه قال في مريد حرث الآخرة: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وقال في مريد حرث الدنيا: نُؤْتِهِ مِنْها وكلمة «من» للتبعيض، أي نعطيه بعض ما يطلبه، ولا نؤتيه كله.

_ (1) تبين بهذا أن قوله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ.. الَّذِينَ إما فاعل مرفوع تقديره: ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه، وإمّا مفعول محله النصب، والفاعل مضمر وهو الله، وتقديره: ويستجيب الله للمؤمنين، إلا أنه حذف اللام، كما حذف في قوله: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين 83/ 3] والثاني أولى كما ذكر الرازي.

الثالث- أنه تعالى سكت عن طالب حرث الآخرة، ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا، أما طالب حرث الدنيا، فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئا من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يعني أن الآخرة أصل والدنيا تبع، وواجد الأصل يكون واجدا للتبع بقدر الحاجة. الرابع- أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه، وأما طالب الدنيا فيعطى بعض مطلوبه من الدنيا، ويحرم من نصيب الآخرة. الخامس- إن الآخرة نسيئة، والدنيا نقد، والنسيئة مرجوحة بالنسبة إلى النقد، لأن الناس يقولون: النقد خير من النسيئة، فبين تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا، فالأولى متجهة للزيادة والنمو، والثانية آيلة إلى النقصان. السادس- الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا تحتاج إلى حرث وعمل وتعب، وصرف المتاعب إلى ما يؤدي إلى التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يؤدي إلى النقصان والانقضاء والفناء «1» . 3- استنبط ابن العربي من هذه الآية: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أن الوضوء تبردا الذي هو من حرث الدنيا، لا يجزئ عن فريضة الوضوء الذي هو من حرث الآخرة، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى «2» . 4- إن شرع الله الدائم هو ما أنزله على أولي العزم من الرسل، والله لم يشرع الشرك، فمن أين يدين المشركون به؟ 5- من رحمة الله بالمشركين تأخير العذاب عنهم إلى القيامة، ليعطوا فرصة

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 162. (2) أحكام القرآن: 4/ 1655.

كاملة في أيام العمر كله للإقلاع عن الشرك والكفر، والدخول في ساحة الإيمان والرضا الإلهي. فإن ماتوا مشركين فلهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع. 6- يبصر الناس الكافرين الظالمين خائفين في يوم القيامة من جراء ما كسبوا، والجزاء حتما نازل بهم. والمراد بالظالمين هاهنا الكافرون، بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر. أما المؤمنون الطائعون لربهم فهم في روضات الجنان، ولهم ما يشتهون من النعيم والثواب الجزيل، وذلك هو الفضل الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى حقيقته، لأن الله إذا وصف الفضل بأنه الْكَبِيرُ فمن ذا الذي يقدر قدره. قال الرازي: وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة، إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات، وهي البقاع الشريعة من الجنة. 7- يبشر الله عباده المؤمنين بالثواب العظيم حثا لهم على الطاعة، وليتعجلوا السرور، ويزدادوا منه. ولكن هذا الجزاء والبشارة، إنّما هو على الإيمان والأعمال الصالحات. 8- عظّم الله تعالى ثواب المؤمنين من وجوه أربعة هي: الأول- أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصالحات روضات الجنات، وترتيب هذا الجزاء من الله صاحب السلطان الأعظم دليل على أن ذلك الجزاء قد بلغ النهاية التي لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى. الثاني- أنه تعالى قال: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهذا يدخل في باب غير المتناهي. الثالث- أنه تعالى قال: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وإذا كان هذا من الله الأكبر كان في غاية الكبر.

الرابع- أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم، فقال: الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ وذلك يدل على غاية العظمة. 9- إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يطلب من قومه أي منفعة مادية على تبليغ الرسالة، وهذا دليل على صدقه وإخلاصه، والحد الأدنى الذي طالب به هو مراعاة قرابته من قريش. قال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوسط الناس في قريش، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، فقال الله له: قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي لكن أذكركم قرابتي منكم. وقد صرح أكثر الأنبياء، بنفي طلب الأجر على تبليغ الرسالة، فقال نوح عليه السلام: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء 26/ 109] وكذا قال هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام «1» . 10- إن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يشمل قرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وآل بيته الأقارب، وهم كما جاء في بعض الأحاديث: علي وفاطمة والحسن والحسين، فمراعاة قرابته وحبهم واحترامهم واجب بالنص القرآني المذكور، لذا شرع الدعاء لهم في خاتمة التشهد في الصلاة، وهو منصب عظيم، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد» وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، مما يدل على أن حب آل محمد واجب. ذكر الزمخشري حديثا طويلا في حب آل البيت جاء فيه: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد، مات مؤمنا مستكمل الإيمان.. ألا ومن مات على بعض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله» «2» .

_ (1) الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180 (2) الكشاف: 3/ 82

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: يا راكبا قف بالمحصّب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حبّ آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي 11- من يكتسب حسنة أو خصلة من خصال الخير، ومنها مودة القربى تأكيدا للآية السابقة، ضاعف الله له الحسنة بعشر فصاعدا، ومن فضله ورحمته تعالى أنه غفور للذنوب، شكور للحسنات. والشكور في حق الله مجاز، والمعنى: إنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي زيادة الأفضال عليهم. 12- أنكر القرآن الكريم على المشركين قولهم: إن هذا ليس وحيا من الله تعالى، وكان قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً متعلقا بالمذكور، أول السورة، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ.... وكان إنكاره في هذه الآية متكررا، فوبخهم أولا بقوله: أَمْ يَقُولُونَ.. وثانيا بقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ قال قتادة: يطبع على قلبك فينسيك القرآن، فأخبرهم الله أنه لو افترى عليه لفعل بمحمد ما أخبرهم به في هذه الآية. وثالثا بقوله: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي بما أنزله من القرآن، ورابعا بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وهو نص عام، أي بما في قلوب العباد. 13- فتح الله تعالى باب الأمل والرجاء والتوبة لعباده جميعا ليتداركوا أمرهم، فيؤمنوا ويطيعوا ربهم، فذكر أنه يقبل التوبة في المستقبل عن عباده، ويعفو عن سيئات الماضي، ويعلم ما يفعل الناس من الخير والشر، فيثيب على الحسنات، ويعاقب على السيئات. روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: اللهم إني

من مظاهر حكمة الله في خلقه وآياته على قدرته [سورة الشورى (42) الآيات 27 إلى 36] :

أستغفرك وأتوب إليك، وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، فتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ فقال: اسم يقع على ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندم، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما ربّيتها في المعصية، وإذاقة النفس ومرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. 14- أكد الله تعالى قبول التوبة بأنه يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه أو استحقوه. 15- جرت عادته تعالى على إقران الوعد بالوعيد، لذا ذكر بعد وعد المؤمنين بالثواب، وعيد الكافرين بالعذاب الشديد. من مظاهر حكمة الله في خلقه وآياته على قدرته [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 36] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

الإعراب:

الإعراب: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ فِيهِما: أي في أحدهما، فحذف المضاف، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ [الرحمن 55/ 22] أي من أحدهما، فحذف المضاف. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ.. فَبِما: الفاء في جواب الشرط، وقرئ بغير فاء، وحذفت إما لأن ما بمعنى الذي، فحذفت كما تحذف مع الذي، أو أن ما الشرطية لا تعمل في الفعل شيئا، لأنه فعل ماض، فحذفت الفاء، وهذا أولى من الأول، لأنها أعم في كل مصيبة، فكان المعنى أقوى. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ... وَيَعْلَمَ يُوبِقْهُنَّ: مجزوم بالعطف على قوله تعالى: فَيَظْلَلْنَ المعطوف على جواب الشرط. ويَعْلَمَ: بتقدير «أن» بعد الفاء، ونصب الفعل بها، لأنه غير معطوف على ما قبله، ويقرأ بالرفع: «ويعلم» على الاستئناف. وجملة ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سدت مسد مفعولي يَعْلَمَ لأن النفي يعلق الفعل عن العمل. فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ.. فَما: موصولة تضمنت معنى الشرط، لأن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا، فجازت الفاء في جوابها. البلاغة: يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ: عطف عام على خاص، فالغيث خاص، والرحمة عام. وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ: تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، أي كالجبال في الضخامة والعظم.

المفردات اللغوية:

صَبَّارٍ شَكُورٍ من صيغ المبالغة. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ جناس الاشتقاق. المفردات اللغوية: بَسَطَ وسع لِعِبادِهِ لجميعهم لَبَغَوْا جميعهم أي طغوا وتجاوزوا الحد، والبغي: الظلم ومجاوزة الحد يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير معين ما يَشاءُ ما اقتضته مشيئته إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي إنه يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم. الْغَيْثَ المطر الذي يغيث من الجدب قَنَطُوا يئسوا من نزوله وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يعم رحمته كل شيء من السهل والجبل والنبات والإنسان والحيوان الْوَلِيُّ المتولي عباده بالإحسان الْحَمِيدُ المستحق للحمد على نعمه. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهي بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم وَما بَثَّ فِيهِما نشر وفرّق، وهو معطوف على السموات أو على كلمة خَلْقُ أي وخلق ما بث دابَّةٍ كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم جَمْعِهِمْ للحشر والحساب، وفي الضمير: تغليب العاقل على غيره إِذا يَشاءُ في أي وقت يشاء قَدِيرٌ متمكن منه. وإذا: تدخل على الماضي وعلى المضارع. مُصِيبَةٍ بلية وشدة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم، وعبر بالأيدي، لأن أكثر الأفعال تزاول بها وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب، فلا يعاقب عليه، وهو تعالى أكرم من أن يثنّي الجزاء في الآخرة. أما ما يصيب غير المذنبين فلرفع درجاتهم وتعريضهم للأجر العظيم في الآخرة. وَما أَنْتُمْ أيها البشر بِمُعْجِزِينَ فائتين الله هربا في الأرض، أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه دُونِ اللَّهِ غيره وَلِيٍّ يحرسكم نَصِيرٍ يدفع عذاب الله عنكم الجواري السفن الجارية، جمع جارية: وهي السفينة التي تجري على الماء: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة 69/ 11] كَالْأَعْلامِ كالجبال في العظم، جمع علم: وهو الجبل. يُسْكِنِ الرِّيحَ يجعلها ساكنة لا تتحرك، وقرئ «الرياح» . رَواكِدَ ثوابت سواكن صَبَّارٍ كثير الصبر شَكُورٍ كثير الشكر، وهما صفتان للمؤمن الكامل، لأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، والمؤمن يصبر في الشدة، ويشكر في الرخاء يُوبِقْهُنَّ يهلكهن أو يغرقهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة والمراد: إهلاك أهلها، لقوله: بِما كَسَبُوا

سبب النزول:

اقترفوا من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي يتجاوز عن الكثيرين وينجيهم من الهلاك بالعفو عنهم. وَيَعْلَمَ عطف على علة مقدرة، مثل ليغرقهم وينتقم منهم ويعلم مَحِيصٍ مهرب من العذاب، وجملة النفي ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سدت مسد مفعولي يَعْلَمَ والنفي يعلّق الفعل عن العمل، كما تقدم. فَما أُوتِيتُمْ أيها الناس المؤمنون وغيرهم، وآتاه الشيء: أعطاه إياه مِنْ شَيْءٍ من أمتعة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو مجرد متاع مؤقت تتمتعون به فيها، ثم يزول. والمتاع: ما ينتفع به ويتمتع من أثاث وغيره وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب الأخروي خَيْرٌ وَأَبْقى لخلوص نفعه ودوامه يَتَوَكَّلُونَ يفوضون إليه أمورهم بعد اتخاذ الأسباب. سبب النزول: نزول الآية (27) : وَلَوْ بَسَطَ: أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصّفّة: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية- أي في أهل الصفّة- وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها. نزول الآية (36) : فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ: عن علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفا. المناسبة: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ: عن علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفا. المناسبة: بعد أن قال الله تعالى في الآية السابقة: إنه يجيب دعاء المؤمنين، ذكر هنا أنه لا يعطيهم من الأرزاق إلا بقدر وحكمة، حسبما يعلم من مصلحتهم، وإلا

التفسير والبيان:

فإنهم يبغون ويقدمون على المعاصي. ولو احتاجوا أمدهم بالرزق، لأنه المتولي أمورهم بإحسانه، المستحق الحمد على نعمه. ثم أقام الله تعالى الأدلة على ألوهيته بخلق السموات والأرض وما فيهما، ثم جمعهم للحساب في الآخرة. ثم أوضح أن المصائب والأحوال المكروهة كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والفقر ونحوها تكون عقوبات على الذنوب لمن يرتكبها، أو من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء. ثم ذكر تعالى دليلا آخر على ألوهيته وهو إجراء السفن العظيمة على وجه البحر، وتأثير الرياح فيها إما بالتسيير وإما بالإغراق. والخلاصة: بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من دلائل وحدانيته، ذكر بعدها العالم الأكبر وهو السموات والأرض، ثم العالم الأصغر، وهو الحيوان، ثم أتبعه بذكر المعاد وذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة. التفسير والبيان: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي لو وسع الله على عباده رزقهم، وأعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وعصوا في الأرض، وبطروا النعمة، وتكبروا، وطلبوا ما ليس لهم طلبه مثل قارون وفرعون، ولكنه تعالى ينزل من الرزق لعباده بتقدير معين، على حسب مشيئته، وما تقتضيه حكمته البالغة، ويختار لهم مما فيه صلاحهم، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، إنه بعباده خبير بأحوالهم، بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه، كما جاء في الحديث القدسي عن انس: «إن من

عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه» . قال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يهليك ولا يطغيك. ثم ذكر الله تعالى أنه لو احتاج الناس إلى الخير أمدهم به، فقال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي وهو سبحانه الذي ينزل المطر من بعد إياس الناس في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، والمطر أنفع أنواع الرزق، وأكثرها فائدة ونفعا، ويعم الوجود كله برحمته، ويفيض على أهل ذلك القطر أو الناحية فيضه، وهو المتولي لأمور عباده بالإحسان إليهم، وجلب النفع لهم، ودفع الشر عنهم، وهو المستحق للحمد منهم على إنعامه. ونظير الآية في إنزال المطر بعد اليأس قوله تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم 30/ 49] . قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر: مطرتم، ثم قرأ الآية: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ. ثم ذكر تعالى الأدلة على ألوهيته، فقال: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه: خلق السموات والأرض على هذا النحو البديع، وخلق ما نشر وفرق فيهما، أي في السموات والأرض مما يدب ويتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم

وطباعهم. وربما يكون في الكواكب الأخرى أحياء، فتدل الآية عليهم. وقيل: أراد ما بث في الأرض دون السماء، لأن المراد من فِيهِما في أحدهما، كما جاء في آية أخرى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ [لقمان 31/ 10] . وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وهو على جمع سائر الخلائق من السموات والأرض في صعيد واحد، وحشرهم يوم القيامة، إذا أراد، قادر كل القدرة، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل الحق. والمقصود بالآية أنه تعالى خلق الكائنات الحية متفرقة، لا لعجز، ولكن لمصلحة، فلهذا قال: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ «1» قَدِيرٌ يعني الجمع للحشر والمحاسبة، وإنما قال: عَلى جَمْعِهِمْ ولم يقل: على جمعها، لأن المقصود من هذا الجمع المحاسبة، فكأنه تعالى قال: وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير. ثم ذكر تعالى أسباب الذنوب والآثام، فقال: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي ما أصابكم أيها الناس من المصائب (وهي الأحوال المكروهة) كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والزلازل ونحوها، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها، ومعاص اقتحمتموها، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها، ويعفو الله عن كثير من معاصي العباد، فلا يعاقب عليها، وقد يكون المصاب لغير ذنب، وإنما لزيادة الأجر ورفع الدرجة. ونظير مقدمة الآية قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء 4/ 160]

_ (1) إذا كما بينا تدخل على المضارع، كما تدخل على الماضي، قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل 92/ 1] ومنه إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.

وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء 4/ 123] . ونظير آخر الآية: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] . وورد في الحديث الصحيح عن الشيخين والموطأ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفّر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها» وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها» . ولما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . وفي حديث آخر: «ما ينزل العقاب إلا بذنب، ولا يرتفع إلا بتوبة» . وروى الواحدي في البسيط: «ما عفا الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة، وما عاقب عليه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة» . وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي ما أنتم أيها المذنبون الكافرون بمعجزين الله حيثما كنتم، ولا بفائتين عليه هربا في الأرض، بل ما قضاه عليهم من المصائب، واقع عليهم، نازل بهم، وليس لكم من غير الله ولي يتولى أموركم، فيمنع عنكم ما قضاه الله، ولا نصير ينصركم من عذاب الله. ثم ذكر الله تعالى آيات أخرى دالة على قدرته وعظمته، فقال: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه إجراء السفن السائرة في البحر كالجبال. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي إن يرد الله

إيقاف السفن التي تجري، يجعل الرياح ساكنة، فتصبح السفن ثوابت سواكن على ظهر البحر، واقفة على وجه الماء لا تتحرك. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي إن في أمر السفن المذكور وجريها في البحر لدلالة عظيمة على قدرته تعالى، لكثير الصبر على الشدائد والبلايا وعلى طاعة الله، كثير الشكر على النعماء. وهذه جملة معترضة. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي وإن يشأ يهلكهنّ بالغرق بما كسبوا من الذنوب، ويعف عن كثير من ذنوبهم، أو عن كثير منهم، فينجيهم من الغرق، ولو آخذهم بجميع ذنوبهم، لأهلك كل من ركب البحر. وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لينتقم منهم ويعلم حينئذ الذين ينازعون في آيات الله مكذبين بها أنه لا مفر ولا مهرب ولا ملجأ من عذاب الله، فإنهم مقهورون بقدرة الله وسلطانه. وبعد بيان أدلة التوحيد حذر الله تعالى من الاغترار بالدنيا، فقال: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي إن كل ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان، فإنما هو متاع قليل في الدنيا يتمتع به في زمن قصير، ثم سرعان ما ينقضي ويذهب، لأن الدنيا فانية زائلة لا محالة، ويلاحظ أن الذي يمنع من قبول دلائل التوحيد إنما هو الرغبة في الدنيا ومطامعها بسبب الرياسة وطلب الجاه، لذا حذر تعالى من الاغترار بالدنيا، ورغّب في الآخرة، فقال: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي وما عند الله من ثواب الطاعات وجزاء الجنات خير من متاع الدنيا، وأبقى وأدوم، لأنه لا ينقطع، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة، فلا تقدموا الفاني على الباقي. وهو خير

فقه الحياة أو الأحكام:

وأبقى للذين صدّقوا بالله ورسوله، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم، ويفوضون إليه أمورهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن الإمداد بالرزق يخضع لحكمة الله ومشيئته، فيعطي بقدر الحاجة، وعلى وفق المصلحة، فلو بسط الله الرزق لعباده، لوقعوا في المعاصي، وبغى بعضهم على بعض، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بقارون وفرعون عبرة، ولذا قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق 96/ 6- 7] وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» . 2- قال المالكية: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه، قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا، ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل، لكانوا أقرب إلى الصلاح، والأمر على الجملة مفوّض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى. 3- يتولى الله أمور عباده بالإحسان والإنعام، فلو احتاجوا أغناهم بقدر الحاجة، وأنزل عليهم المطر الذي يكون سببا لوفرة الخيرات والغلال والثمار، وعمهم بالرحمة، وهو سبحانه الولي المتولي شؤون عباده وناصر أوليائه المؤمنين، والمحمود على كل لسان. 4- من دلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته: خلق السموات والأرض

وما فيهما من المخلوقات التي لا يعلم حصرها إلا الله تعالى، وأنه قادر على جمعهم للحشر والحساب يوم القيامة. ويرى بعض العلماء استدلالا بقوله تعالى: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أنه لا يستبعد وجود مخلوقات في الكواكب والعوالم العلوية غير الملائكة، كما تدل الدلائل الفلكية- وربما اكتشاف سفن الفضاء الحديثة- على وجود حياة في كوكب المرّيخ. وليس في هذا دلالة قطعية، لأن في تفسير الآية وجها آخر كما تقدم. 5- المصائب في الغالب تكون بسبب الذنوب والمعاصي، فهي عقوبات على السيئات، وقد تكون للابتلاء كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل» والقصد من الابتلاء رفع الدرجات، لأن الأنبياء معصومون عن الذنوب والآثام، ويكون حصول المصيبة من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة، كما في حق الأنبياء والأولياء. والعقوبة عن الذنب في الدنيا كفارة له في الآخرة، وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن آية: وَما أَصابَكُمْ ... : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. وإذا كان يكفّر عني بالمصائب، ويعفو عن كثير، فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟! 6- إن قدرة الله عامة شاملة لكل شيء، ومهيمنة على كل شيء، فلن يستطيع الكفار والمشركون أن يعجزوه أو يفوتوه هربا من سلطانه، ولن يجدوا لهم في الآخرة وليا يتولى أمورهم، ويتعهد مصالحهم، ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله وانتقامه، فهم في الدنيا والآخرة في قبضة القدرة الإلهية.

7- من آيات الله تعالى أيضا على قدرته، ونعمته على العباد، هذه السفن السائرة في عرض البحر على سطح الماء عند هبوب الرياح، أو ما حل محلها من الطاقة الدافعة لمحركاتها، مما صنعه الإنسان بإلهام الله وتعليمه والتمكن من اكتشافه، وشأن الأجسام الثقيلة الكثيفة الغرق في الماء، لكنه تعالى جعل للماء قوة لحمل السفن ومنع الغوص، ثم جعل الرياح سببا لسيرها، فإذا أراد أن ترسو أسكن الريح. والله قادر على جعل الرياح ساكنة هادئة، فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر، وقادر على تعطيل آلاتها وإيقاف محركاتها بأيسر الأشياء، وهو قادر أيضا على جعل الرياح عواصف فيوبق السفن، أي يغرق ركابها بذنوبهم، ويعفو عن كثير من أهلها فلا يغرقهم معها، وحينئذ يعلم الكفار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد أنه لا ملجأ لهم سوى الله تعالى، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة. إن في أمر السفن دلالات وعلامات لكل صبار على البلوى، شكور على النعماء، قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وقال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر. وكم من مبتلى غير صابر. 8- لا ينبغي التفاخر بمظاهر الدنيا، فإن كل ما فيها من ثروات وقصور ومبان وآلات، هو متاع يستمتع به في أيام قليلة تنقضي وتذهب. وما عند الله من الثواب على الطاعة خير وأدوم للذين صدّقوا بالله ووحّدوه، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم.

صفات المؤمنين الكمل أهل الجنة [سورة الشورى (42) الآيات 37 إلى 43] :

صفات المؤمنين الكمّل أهل الجنة [سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 43] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الإعراب: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. الَّذِينَ معطوف مجرور على «الذين» في قوله تعالى: خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وكذلك أيضا قوله تعالى وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ في موضع جرّ أيضا بالعطف عليه. هُمْ يَغْفِرُونَ هُمْ: إما تأكيد لضمير غَضِبُوا ويَغْفِرُونَ: جواب إذا، وإما مبتدأ، خبره: يَغْفِرُونَ والتقدير: فهم يغفرون، فحذف الفاء في جواب الشرط. وكذلك قوله تعالى: هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ لَمَنْ: اسم موصول مبتدأ، وإِنَّ ذلِكَ في حكم المبتدأ الثاني، والعائد محذوف تقديره: إن ذلك الصبر منه، وحذف للعلم به، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ الأول.

البلاغة:

البلاغة: كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ عطف البعض على الكل. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها من قبيل المشاكلة، سمي جزاء السيئة سيئة للتشابه بينهما في الصورة. المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ معطوف مع ما بعده على لِلَّذِينَ آمَنُوا. كَبائِرَ الْإِثْمِ ما رتب عليه وعيد شديد، كشهادة الزور وعقوق الوالدين، أو كل ما يوجب حدا، كالقتل العمد والقذف والسرقة والزنى ونحوها وَالْفَواحِشَ ما فحش وعظم قبحه كالزنى والقتل ونحوهما، جمع فاحشة، وهو من عطف البعض على الكل يَغْفِرُونَ يعفون ويتجاوزون. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أجابوا إلى ما دعاهم إليه ربهم من التوحيد والعبادة، وأداء الفرائض وترك النواهي وَأَقامُوا الصَّلاةَ داوموا على إقامتها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشورى: مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، أي أمرهم ذو شورى، يتشاورون، ولا ينفردون برأي حتى يتشاوروا وذلك من فرط تيقظهم في الأمور، وإحكام الخطط، والظفر بالمطلوب، والشورى: تبادل الآراء لمعرفة الصواب منها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم يُنْفِقُونَ في طاعة الله. الْبَغْيُ الظلم يَنْتَصِرُونَ ينتقمون ممن ظلمهم، وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بأكمل الفضائل، لأن الحلم على العاجز محمود، وعلى الظالم مذموم، منعا من الإغراء على البغي وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ هي الفعلة التي تسيء مرتكبها وهي الفعل القبيح سَيِّئَةٌ مِثْلُها سميت الثانية (وهي الجزاء) سيئة لمشابهتها للأولى (الجريمة) في الصورة. وهذه المماثلة في العقوبة ظاهرة في الجراحات، فإنما يقتص فيها بمثلها. عَفا عن ظالمة وَأَصْلَحَ بالود ما بينه وبينه من عداوة فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي فثوابه على الله حتما، وهذا وعد يدل على عظم الموعود إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ البادئين بالظلم، فيعاقبهم. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ قابل الظالم بمثل فعله بعد أن ظلمه ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ مؤاخذة أو عتاب ومعاقبة يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدءونهم بالإضرار أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم على ظلمهم وبغيهم وَلَمَنْ صَبَرَ على الأذى. فلم ينتصر وَغَفَرَ تجاوز إِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معزومات الأمور، بمعنى المطلوبات شرعا أو المشكورة المندوب إليها.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (37) : وَإِذا ما غَضِبُوا.. قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة، وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شتم فحلم. نزول الآية (38) : وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا..: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة. نزول الآيات (41- 43) : ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضا في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك. المناسبة: بعد بيان دلائل التوحيد والقدرة الإلهية، والتنفير من الدنيا، رغّب تعالى في الآخرة، فإنها خير وأبقى، ثم بيّن أن الخيرية تحصل لمن اتصف بصفات معينة، ذكر أولا منها صفتين وهما الإيمان بالله والتوكل عليه، وتابع هنا إيراد الصفات الأخرى للمؤمنين وهي: اجتناب كبائر الذنوب والفواحش، وإطاعة الله تعالى وترك نواهيه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والتشاور في الأمور العامة والخاصة، والشجاعة والبأس لاسترداد الحقوق المغتصبة. التفسير والبيان: وصف الله تعالى أهل الجنة بالإيمان بالله والتوكل عليه، وبالصفات التالية:

1- اجتناب الكبائر: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ أي الذين يجتنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيدا شديدا، كالشرك والقتل العمد وعقوق الوالدين، والفواحش وهي كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع السليم من قول أو فعل، كالغيبة والكذب، والزنى، والسرقة والحرابة (الإفساد في الأرض) . 2- العفو عند المقدرة: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم، ويكظمون الغيظ، ويحلمون عن ظلمهم، لأن سجيتهم العفو والصفح وليس الانتقام من الناس. وهذا من محاسن الأخلاق يشفقون على ظالمهم، ويصفحون عمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله وعفوه. جاء في الحديث الصحيح: «ما انتقم النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله» . 3- تمام الانقياد والطاعة لله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه، من توحيده والتبرؤ من الشرك، وأطاعوا الرسل فيما أمر الله به وزجر عنه. 4- إقام الصلاة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوا الصلاة المفروضة كاملة بإتمام أركانها وشروطها وخشوعها في مواقيتها المفروضة، وخصت الصلاة هنا بالذكر مع أمهات الفضائل، لأنها أعظم العبادات لله عز وجل، فهي معراج الوصول إلى الله، أو صلة بين العبد وربه. 5- الأخذ بنظام الشورى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي يتشاورون فيما بينهم في الأمور الخاصة والعامة، ولا ينفردون برأي في كل أمر من القضايا العامّة، كتولي الحكم (أو الخلافة) وشؤون تدبير الدولة والتخطيط لمصالحها، وإعلان الحرب، وتولية الولاة والحكام والقضاة وغيرهم. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر

الناس مشاورة لأصحابه، وسلك الصحابة طريقه ومنهجه في عظائم الأمور كتولية الخلافة وحروب الردة واستنباط الأحكام الشرعية للقضايا والحوادث المستجدة، وشاور عمر رضي الله عنه الهرمزان حين وفد عليه مسلما «1» ، ولما طعن عمر جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فاتفقوا على تقديم عثمان رضي الله عنه للخلافة الثالثة. وإذا كانت الآية هنا تقرر وصفا ثابتا للمؤمنين، فقد أمر الله تعالى بالشورى في آية أخرى، فقال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران 3/ 159] وقال الحسن البصري رحمه الله: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم» . وقال ابن العربي «2» : الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا، وقد قال حكيم: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو مشورة حازم ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقوادم 6- الإنفاق: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون في سبيل الله وطاعته بعض ما رزقناهم من أموال وخيرات، فالإنفاق من الأغنياء قوة للأمة، وعلاج لضعفها، وسبيل للحفاظ على هيبة الدولة ورفعة شأن أفرادها وعزها، وذلك بالإحسان إلى الأقرب فالأقرب، ثم للمصالح العامة، كإغناء المحاويج، وإعداد القوى الحربية لمجابهة الأعداء. 7- الشجاعة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي إذا تعرضوا للظلم والاعتداء انتصروا ممن ظلمهم، لأن الانتصار عند البغي واجب وفضيلة،

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1656 (2) أحكام القرآن 4/ 1656.

ولأن التذلل لمن بغى يتنافى مع عزة المؤمنين، إذ العجز والاستضعاف يؤدي إلى إغراء العدو على إلحاق صنوف أخرى من العدوان، فالمؤمنون أعزة كرام يحافظون على الحقوق والحرمات والكرامة، وليسوا بالعاجزين والأذلّين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، فإذا قدروا عفوا. ولا تعارض بين هذه الآية وبين ما سبقها وهي: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فإن كل آية لها مجال وموضع، فالسابقة في موضع، واللاحقة في موضع، وذلك لأن العفو قسمان «1» : الأول- أن يكون سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ورجوع الجاني عن جنايته، وهذا محمود، تحمل عليه آيات العفو، مثل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] . وهذا مرغب فيه في داخل الأمة الواحدة. الثاني- أن يكون سببا لتجرؤ الظالم وتماديه في غيه واستضعافه الأمة، وهذا مذموم، تحمل عليه آيات الحث على الانتقام، وهذا واجب في مقاومة العدو الخارجي، وعند اغتصاب الحقوق، ويتوقف على توافر القوة المكافئة أو القدرة المطلوبة في نظام الإسلام بإلزام المؤمن الصمود أمام اثنين من العدو. والأمثلة الموضحة كثيرة، منها: عفا يوسف عليه السلام عن إخوته وقال كما حكى القرآن: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف 12/ 92] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه. وعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أهل مكة بعد فتحها، وعفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام: وعفا عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه- سيف النبي صلّى الله عليه وسلّم-

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 177.

وهو نائم، فاستيقظ صلّى الله عليه وسلّم، وهو في يديه مصلتا، فانتهره، فوقع من يده، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السيف في يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل، وعفا عنه. وكذلك عفا صلّى الله عليه وسلّم عن المرأة اليهودية- وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة، التي سمّت الذراع يوم خيبر- فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على هذا» ؟ قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك، فأطلقها صلّى الله عليه وسلّم ، ولكن لما مات منه- من السم- بشر بن البراء رضي الله عنه، قتلها به. وروي أن زينب أقبلت على عائشة، فشتمتها، فنهاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها، فلم تنته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دونك فانتصري» «1» وهذه تطبيق لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] . أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستبّان ما قالا من شيء، فعلى البادي حتى يعتدي المظلوم» ثم قرأ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. ثم إن الله تعالى لم يرغب دائما في الانتصار، بل بيّن أنه مشروع فقط، ثم بيّن بعده أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة، ثم أبان أن العفو أولى بقوله: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وشرط الله تعالى المماثلة بين الجناية والعقوبة في قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي إن عقاب السيئة عقاب مماثل للجرم، وإن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة، فإذا قال المسيء: أخزاك

_ (1) أخرجه مسلم، وأخرجه بلفظ آخر النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة، وجاء فيه: «فقال لي: سبّيها، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها» .

الله، يقول: أخزاك الله، من غير أن يعتدي. وسمى جزاء السيئة سيئة، لأنها تسوء من تنزل به. ونظير الآية قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة 2/ 194] وقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل 16/ 126] وقوله عز وجل: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام 6/ 160] . وهكذا فإن جميع العقوبات المدنية والجنائية في الإسلام تجب فيها المماثلة، فالقصاص مثلا من القاتل عمدا أو في الجروح واجب بقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة 2/ 194] وقوله عز وجل: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة 2/ 194] وقوله سبحانه: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة 5/ 45] لكن رغّب تعالى بالعفو في آخر الآية الأخيرة، فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وهنا قال: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي من عفا عن الظالم المسيء، وأصلح بالود والعفو ما بينه وبين معاديه، فثوابه على الله، يعطيه جزاء أعظم، كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا» . ووصف الله المتقين بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران 3/ 134] . إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي إنه تعالى لا يحب المبتدئين بالظلم، ولا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد فيه، لأن المجاوزة ظلم. والمراد أنه تعالى يعاقب المتجاوز حده. وهذا تأكيد لمطلع الآية في اشتراط المماثلة نوعا ومقدارا. ثم أكد الله تعالى مشروعية دفع الظلم والبغي، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي والله إن المنتصر من الظالم بعد ظلمه له، لا سبيل عليه بمؤاخذة أو عقوبة، لأن الانتصار بحق، فيشرع القصاص في الجنايات العمدية، والضمان في جنايات الخطأ والإتلافات، ويجوز الشتم والسب بالمثل دون اعتداء ولا تجاوز. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي إنما المؤاخذة والعقوبة على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يتعدّون مبدأ المماثلة، ويتجاوزون الحد في الانتقام، ويجنون على النفوس والأموال بغير الحق، ويتكبرون ويتجبرون بظلم الناس، وسلب الحقوق. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود لهم عذاب مؤلم شديد بسبب اعتدائهم. ثم أكد الله تعالى الترغيب في العفو والصفح عند المقدرة، فقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي بعد أن ذم تعالى الظلم وأهله وشرع القصاص، ندب إلى العفو والصفح، فقال: إن من صبر على الأذى، وستر السيئة، وغفر خطأ من ظلمه، فإن ذلك الصبر والمغفرة لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة، التي يثاب عليها بالثواب الجزيل والثناء الجميل، لأن الإنسان الغاضب يثبت فيها ويرسخ، ولا ينطلق وراء شهوة الانتقام. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يأتي: 1- ترغيب المؤمنين بالاتصاف بأمهات الفضائل التي ذكرت في الآيات ليكونوا ورّاث الجنة وأهلها، وتلك الصفات سبع هي: اجتناب كبائر الإثم والفواحش، وهي كل ما توعد الله عليه بالعذاب أو أوجب فيه حدا من الحدود

المقدرة شرعا، والتجاوز والحلم عمن ظلمهم، والانقياد والطاعة لأوامر الله تعالى، وإقام الصلاة، والتشاور فيما بينهم، والبذل والإنفاق في طاعة الله، والجرأة والشجاعة في دفع البغي والظلم. 2- قال ابن العربي: مدح الله المشاورة في الأمور، ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآثار كثير، ولم يشاورهم في الأحكام، لأنها منزّلة من عند الله على جميع الأقسام: من الفرض، والندب، والمكروه، والمباح، والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا، فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينصّ عليها، حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما هو معروف، وقال عمر: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا، وتشاوروا في أمر الردّة، فاستقر رأي أبي بكر على القتال، وتشاوروا في الجدّ وميراثه، وفي حد الخمر وعدده، وتشاوروا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحروب، حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي قائلا: فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى «1» . وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» . 3- إن آية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ هي غالبا في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم، فقد أصابهم بغي المشركين في الماضي،

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1656.

قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه، وآذوهم وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج ومكّن لهم في الأرض، ونصرهم على من بغى عليهم، وذلك قوله في سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.. الآيات [39- 41] . وليست الآية مقصورة على الماضي، وإنما هي عامة في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذا إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود «1» ، وإشارة إلى أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة وإباء الذل والشمم، والاعتزاز بقوة الله والثقة بنصره. 4- أما إذا كان الظلم بين المسلمين فقط أو بين المسلمين وغيرهم، فإذا كان الباغي معلنا الفجور، وقحا يؤذي الصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، قال إبراهيم النّخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفسّاق. أي أنّه في حال وقوع الأذى أو الضرر العام يكون الانتقام. وإذا وقعت الجناية خطأ أو فلتة أو تعمدها صاحبها ثم طلب المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزلت: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 2/ 237] وقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة 5/ 45] وقوله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور 24/ 22] . 5- إن آية: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أصل كبير في علم الفقه وهو مقابلة الجناية بمثلها، سواء في العقوبات البدنية أو المالية. وتأول الشافعي في هذه الآية: أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه،

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 38- 39.

واستشهد في ذلك بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لهند زوج أبي سفيان في الحديث المتفق عليه عن عائشة: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك» فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه. 6- اختلف اجتهاد المجتهدين فيما إذا لم يمكن استيفاء الحق إلّا باستيفاء الزيادة، بسبب التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني، وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه، فأيهما أولى؟ وذكر الرازي أمثلة عشرة لهذا الخلاف «1» أشير إليها بإيجاز: المثال الأول- احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد: بأن قال: المماثلة شرط لجريان القصاص، وهي مفقودة في هاتين المسألتين، فوجب ألا يجري القصاص بينهما. المثال الثاني- احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحدة، فقال: لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم، فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله، لهذه النصوص. المثال الثالث- شريك الأب يشرع في حقه القصاص، لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله، لقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة 5/ 45] . المثال الرابع- قال الشافعي رضي الله عنه: من حرّق حرقناه، ومن غرّق غرقناه، والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله. المثال الخامس- شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا الكذب، يلزمهم القصاص، لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه، فوجب أن يصير دمهم مهدرا لقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 179- 180.

المثال السادس- قال الشافعي رضي الله عنه: المكره يجب عليه القود (القصاص) لأنه صدر عنه القتل، فوجب أن يجب عليه مثله، أي كالمكره. المثال السابع- قال الشافعي رضي الله عنه: القتل بالمثقل كالحجر والخشب يوجب القود، لهذه الآية: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ ... المثال الثامن- الحر لا يقتل بالعبد قصاصا، كما تقدم، ولأن القاتل أتلف على مالك العبد شيئا، فيجب ضمانه، وإذا وجب الضمان، وجب ألا يجب القصاص، إذ لا فرق. المثال التاسع- منافع الغصب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه، لأن الغاصب فوّت على المالك منافع تقابل في العرف بمال، فوجب أن يفوت على الغاصب مثله من المال، لهذه الآية: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ ... المثال العاشر- الحر لا يقتل بالعبد قصاصا لعلة ثالثة وهي أنه لو قتل بالعبد لكان هو مساويا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص، لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غافر 40/ 40] . والخلاصة: أن قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يقتضي وجوب رعاية المماثلة مطلقا في كل الأحوال إلا ما استثني وخص بدليل. 7- لمن عفا وأصلح النزاع بينه وبين الظالم بالعفو: أجر كبير عند الله تعالى. والمقصود من قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم، لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم، والانتصار قد يؤدي إلى تجاوز المساواة، والتعدي، خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالما. 8- للمظلوم الانتصار من الظالم دون مؤاخذة ولا عقوبة ولا حرج وهل له

أن يستوفي ذلك بنفسه؟ هناك ثلاثة أقسام «1» : الأول- القصاص بالنفس إذا ثبت الحق فيه عند الحكام يجوز استيفاؤه من ولي الدم، لكن يزجره الإمام لجرأته على سفك الدم. أما إذا لم يثبت حقه عند الحاكم، فيجوز له استيفاؤه ديانة بينه وبين الله، لكن يؤاخذ قضاء ويعاقب على فعله. الثاني- الحد الخالص لله تعالى الذي لا حق فيه للآدمي كحد الزنى وقطع السرقة: إن لم يثبت عند حاكم عوقب به، وإن ثبت عند حاكم، فإن كان قطع يد أو رجل، سقط به الحد، ويعزر، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد، لتعدّيه، فيؤاخذ بحكمه. الثالث- الحقوق المالية: يجوز أخذها مغالبة ممن هو عالم بها، أما غير العالم بها، فإن أمكن أخذها منه بالمطالبة القضائية وجبت، ويجوز أخذها سرا، وإن لم يكن أخذها منه بالمطالبة القضائية، لجحود من هي عنده، ولا بينه تشهد بالحق، فيجوز أخذها سرا عند مالك والشافعي، ولا يجوز ذلك عند أبي حنيفة. 9- يؤاخذ الظلمة بعدوانهم، فيعاقبون في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة، وذلك سواء أكان الظلم في النفوس أم في الأموال. والحاكم هو الذي يؤاخذ. 10- قال ابن العربي في آية إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ..: هذه الآية في مقابلة الآية المتقدمة في براءة، وهي قوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [92]

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 41. [.....]

فكما نفى الله السبيل عمن أحسن، فكذلك أثبتها على من ظلم «1» . 11- اختلف العلماء في فرض الحاكم الرسوم والضرائب والأموال على الناس، هل يجوز الخلاص منها لمن قدر على ذلك، مع أنه يستوفي جميع المطلوب من الآخرين؟ قال سحنون من المالكية: لا، وقال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المالكي: نعم له ذلك إن قدر على الخلاص، لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد بظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ. 12- اختلف العلماء في التحليل «2» والمسامحة عن العرض والمال، فأجازه على العرض والمال سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين من التابعين. ورأى مالك التحليل من المال دون العرض. ورأى سعيد بن المسيب: ألا يحلله بحال. وجه الرأي الأول: أنه حقه، فله أن يسقطه كما يسقط دمه وعرضه. ووجه الرأي الثاني: أن التحليل في المال رفق، وفي العرض يتجرأ الظلمة ويغترون ويسترسلون في أفعالهم القبيحة. ووجه الرأي الثالث: أنه تحليل ما حرّم الله، فيكون كالتبديل لحكم الله. والصحيح الجواز بدليل قصة أبي ضمضم الذي كان قد استحل عرضه، أي سامح من يؤذيه ويشتمه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيما روى مسلم في صحيحة: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ 13- إن ثواب المال المأخوذ ظلما لصاحبه طوال حياته وإلى موته، ثم يرجع الثواب إلى ورثته، لأن المال يصير لهم بالإرث.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1658. (2) التحليل هنا: أن يجعل من ظلمه في حلّ.

أحوال الكفار أمام النار [سورة الشورى (42) الآيات 44 إلى 46] :

14- من صبر على الأذى، وغفر بأن ترك الانتصار لوجه الله إذا كان الظالم مسلما، كان صبره من عزائم الله التي أمر بها، ومن عزائم الصواب التي وفق لها. أحوال الكفار أمام النار [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) الإعراب: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ مِنَ: ابتدائية، أو بمعنى الباء. إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا الْخاسِرِينَ: اسم إن، والَّذِينَ: خبرها. المفردات اللغوية: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذل الله، فلا يوفقه إلى الإيمان ويضله بسبب رضاه بالكفر فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ فليس له أحد يلي هدايته مَرَدٍّ رجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ طريق. يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار خاشِعِينَ خائفين ذليلين يَنْظُرُونَ إليها مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ضعيف النظر مسارقة، والطرف: العين، أو مصدر معناه إطباق أحد جفني العين على الآخر، والمرة منه: طرفة، ومِنَ ابتدائية، أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك ضعيف لأجفانهم خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعريض لعذاب الخلد إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم. وقوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ تمام كلام المؤمنين، أو تصديق من الله لهم.

المناسبة:

مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره أَوْلِياءَ نصراء وأعوان يدفع عذابه عنهم فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ طريق إلى الهدى والنجاة والجنة في الآخرة. المناسبة: بعد بيان أن الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض لهم عذاب أليم على بغيهم وعدوانهم، ذكر الله تعالى أحوال الكفار عند رؤية عذاب النار، فهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا، ويقفون أمام النار ذليلين خائفين، وتتبين خسارتهم الفادحة بخلودهم في العذاب، دون أن يجدوا أنصارا يخلصونهم من العذاب. وقد بدئت الآيات وختمت ببيان أن الإضلال من الله تعالى، وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى. التفسير والبيان: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من يخذله الله بإضلاله إياه، لعلمه بسوء استعداده للخير والإيمان، واقترافه المعاصي والآثام، فما له من أحد يتولى هدايته ونصره، والأخذ بيده إلى طريق الهدى والرشاد والفوز، كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف 18/ 17] وهذا تحقير لأمر الكفرة، وبيان أنه لا يقع شيء في الكون من الهدى والضلال وغيرهما إلا بإرادة الله ومشيئته، حتى لا يوصف بالعجز، وكشف لأحوال الذين أعرضوا عن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان بالله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ثم أخبر الله تعالى عن أحوال الظالمين في الآخرة، وهم المشركون بالله، فقال: 1- وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟ أي وتبصر المشركين الكافرين بالله المكذبين بالبعث، حين نظروا إلى النار،

وعاينوا العذاب، يتمنون الرجوع إلى الدنيا من أي طريق، قائلين: هل من سبيل إلى الرجعة؟ ونظير الآية قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام 6/ 27- 28] . 2- وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي وتبصرهم أيضا يعرضون على النار، وهم خائفون أذلاء، يسارقون النظر إليها من شدة الخوف. وهذا شأن الرهبة من العقاب. 3- وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ويقول المؤمنون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة: إن الخاسرين الخسار الأكبر، هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، بدخول النار والخلود فيها، وعلى هذا التأويل يكون يَوْمَ الْقِيامَةِ متعلقا ب قالَ ويصح أن يتعلق ب خَسِرُوا ويكون قول المؤمنين واقعا في الدنيا، والظاهر: الأول. أما خسرانهم لأنفسهم، فلكونهم صاروا معذبين في النار، دون أمل في النّجارة، وأما خسرانهم لأهليهم، فإن كانوا معهم في النار، فلا ينتفعون بهم، ولأنهم كانوا هم السّبب في تعذيبهم، وإن كانوا في الجنة فقد فرّق بينهم وبيتهم. 4- أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ أي ألا إن الكافرين في عذاب دائم لا ينتهي، ولا يخرجون منه، ولا محيد لهم عنه، وهذا تتمة كلام المؤمنين أو تصديق من الله لهم فهو من كلامه. 5- وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وليس لهم أعوان وأنصار من غير الله، ينقذونهم مما هم فيه من العذاب.

فقه الحياة أو الأحكام:

6- وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي ومن يحجب الله عنه توفيقه إلى الإيمان بسبب علم الله السابق بما سيختاره ويقترفه من الآثام، فلا طريق له إلى النّجاة والجنّة. أي فلا غرابة في وقوع تلك الظّواهر، لأنهم ضالّون منحرفون عن سبيل الإيمان والحقّ. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- لا هادي ولا منقذ ولا ناصر لمن خذله الله، بسبب إعراضه عن الإيمان بالله، والمودّة في القربى، والتّكذيب بالبعث، وعدم إدراكه أن متاع الدنيا قليل. 2- يرى المؤمنون الظالمين الكافرين عند عرض النار عليهم، حال كونهم حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذّلّ، يرونهم قائلين طالبين أن يردّوا إلى الدنيا، ليعملوا بطاعة الله، فلا يجابون إلى ذلك. 3- ويرونهم أيضا حين يعرضون على النار أذلّة صاغرين لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تامّا، لأنّهم ناكسوا الرؤوس، والعرب تصف الذّليل بغضّ الطّرف. 4- يقول المؤمنون في الجنة، لما عاينوا ما حلّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم، لأنهم في العذاب المخلّد، وخسروا أهليهم، لأن الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة، فقد حدثت القطيعة الدائمة بينهم وبينهم، ألا إن الظالمين في عذاب دائم لا ينقطع. 5- ليس لأولئك الكافرين الظالمين أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب

الاستجابة لنداء الله مالك السموات والأرض [سورة الشورى (42) الآيات 47 إلى 50] :

الله، وليس للأصنام التي كانوا يعبدونها بقصد الشافعة لهم عند الله أي مجال في الشفاعة: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر 40/ 18] ، ومن أضلّه الله وخذله، فلا طريق له يصل به إلى الحق في الدنيا والجنة في الآخرة، لانسداد طريق النّجاة عليه. الاستجابة لنداء الله مالك السموات والأرض [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الإعراب: لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا: نافية للجنس، ومَرَدَّ: اسمها المبني على الفتح، والجارّ والمجرور الأول: صفة له، والآخر: خبره. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يَجْعَلُ: بدل من يَخْلُقُ بدل البعض من الكلّ. البلاغة: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فيها ما يسمى بالتّقسيم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أجيبوا نداء ربّكم إلى ما فيه نجاتكم بالتّوحيد والعبادة الخالصة لله. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة. لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا يردّه الله بعد ما حكم به، فيكون مِنَ اللَّهِ صلة لا مَرَدَّ ويصح كونه صلة ل: يَأْتِيَ أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه. مَلْجَإٍ مأمن أو منجى أو ملاذ تلجؤون إليه. نَكِيرٍ إنكار لذنوبكم يومئذ. فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا أو محاسبا لأعمالهم. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ما عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد بلّغت. رَحْمَةً نعمة كالصحّة والغنى. وَإِنْ تُصِبْهُمْ الضمير يعود لجنس الإنسان. سَيِّئَةٌ بلاء من مرض أو فقر أو خوف أو موت عزيز مثلا. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بما قدّموا لأنفسهم من ذنوب وآثام، وعبّر بالأيدي، لأن أكثر الأفعال تزاول بها. كَفُورٌ جحود للنّعمة، نسّاء لها، ذكّار للبلية، يذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها. وهذا وإن اختصّ بالمجرمين من الناس، جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه. يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً الله المالك يهب ويمنح بعض الناس إناثا فقط أو ذكورا فقط، أو يجعل لهم الذّكور والإناث، أو يجعل من يشاء عقيما، فلا يلد ولا يولد له. والمعنى: يجعل أحوال العباد في الأولاد أربعة أصناف مختلفة على مقتضى المشيئة، ولعل تقديم الإناث، لتكثير النسل وتطييب قلوب الآباء، والتّكريم والاهتمام ردا على العرب الذين يعدّونهن بلاء. وعرف الذُّكُورَ للمحافظة على فواصل الآيات على نسق واحد: نَكِيرٍ، كَفُورٌ، الذُّكُورَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إنه تعالى يفعل بحكمه واختيار، عليم بما يخلق، قدير على ما يشاء. المناسبة: بعد الإفاضة في وعد المؤمنين ووعيد الكافرين وبيان أحوال الكفار أمام النار، ذكر الله تعالى الهدف والغاية، وهو الاستجابة لدعوة الله إلى التوحيد والعبادة الخاصة، محذّرا من أهوال القيامة، ومبيّنا أنهم إن أعرضوا عن دعوته، فلا يؤبه بهم، وأن من شأن الإنسان جحود النعمة، لبيان سبب إعراضهم

التفسير والبيان:

وإصرارهم على مذاهبهم الباطلة، ثم ذكر تعالى مثلا من تقسيم هبات الأولاد ليكون دليلا على تصرف الله في العالم. التفسير والبيان: يحذّر تعالى من أهوال يوم القيامة، ويأمر بالاستعداد له، فيقول: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي أجيبوا دعوة ربّكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله، واتّبعوا ما جاءكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من قبل مجيء يوم يكون كلمح البصر، ليس له دافع، ولا مانع، فلا يردّه أحد، أو لا يردّه الله بعد أن حكم به، وهو يوم القيامة. واستجاب وأجاب بمعنى واحد. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي ليس لكم فيه حصن أو ملجأ تتحصّنون أو تلجؤون إليه، ولا تجدون يومئذ من ينكر ما ينزل بكم من العذاب، ولا تقدرون إنكار شيء مما اقترفتموه من السّيئات، لرصده في صحفكم، وشهادة ألسنتكم وجلودكم به، فلا ملجأ من الله إلا إليه، كما قال تعالى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. والنّكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم، أو بمعنى الإنكار، أي إنكار ما ينزل بهم من العذاب، والنّكير والإنكار: تغيير المنكر. فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي فإن أعرض المشركون عن إجابة دعوة الله ورسوله، فما أرسلناك أيها الرّسول موكّلا بهم، رقيبا عليهم، تحفظ أعمالهم وتحصيها، حتى تحاسبهم عليها، فما عليك إلا تبليغ ما أرسلناك به، وليس عليك غيره. ونظائر الآية كثير، مثل: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 22] ،

ومثل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] ، ومثل: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرّعد 13/ 40] . وهذا كله تسلية من الله تعالى لرسوله، ثم بيّن الله تعالى سبب إصرارهم على مذاهبهم الباطلة وهو طبع الإنسان، فقال: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي وإننا إذا أعطينا الإنسان منا نعمة، وغمرناه بالرّخاء كالصّحة والأمن وسعة الرّزق، فرح بذلك، وإن أصيب الناس بسيئة، كجدب ونقمة، وبلاء وشدّة، ومرض أو فقر، بسبب ما اقترف من المعاصي والذنوب، فإن الإنسان جحود ما تقدّم من النّعم، ينساها ولا يذكرها بسبب الضّر الواقع عليه، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة بطر وأشر، وإن أصابته محنة يئس وقنط. والكفور: المبالغ في كفران النّعم. ويظهر أثر هذا في الواقع المتكرر من أكثر النّساء، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنّساء فيما أخرجه مسلم وابن ماجه عن ابن عمر: «يا معشر النّساء، تصدّقن، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار، فقالت امرأة: ولم يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: لأنكنّ تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير- الزوج-، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهر، ثم تركت يوما قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ» . أما المؤمن الصالح فشأنه كما قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد ومسلم عن صهيب: «إن أصابته سرّاء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء، صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» . ثمّ حذّر تعالى من الاغترار بالدنيا، وما ملكه الإنسان من المال والجاه، فقال مبيّنا أن الكلّ ملك الله ونعم الله:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إنه تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرّف فيهما بما يريد، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. يَخْلُقُ ما يَشاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي إنه تعالى يخلق ما يشاء من الخلق والأولاد، فيرزق من يشاء البنات فقط، ويرزق من يشاء البنين فقط، ويعطي من يشاء من الناس الصنفين معا الذّكر والأنثى، فالتّزويج هنا: الجمع بين البنين والبنات، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له، لأن الملك ملكه، ويمنح على وفق الحكمة والمصلحة، فإنه سبحانه عليم بمن يستحق كلّ صنف أو قسما من هذه الأقسام، بليغ عظيم القدرة على ما يريد من تفاوت الناس في ذلك، على حسب الحكمة والعلم. يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم. وإنما قدّم الله تعالى أولا الإناث اهتماما وعناية من الله بهنّ بسبب ضعفهنّ، وردّا على العرب في النّفور من الأنثى، والفرح بالذّكور. وعبّر عن الإناث بالتّنكير وعن الذّكور بالتّعريف، للتّنبيه على كون الذّكر أفضل من الأنثى. وقال في إعطاء الإناث وحدهنّ، وفي إعطاء الذّكور بلفظ الهبة: يَهَبُ وقال في إعطاء الصّنفين معا: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ للدلالة على الاقتران، أي أنه تعالى يقرن الإناث والذّكور فيجعلهم أزواجا، وكل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان. وأما التّعبير بالعقم فللدلالة على قدرة الله في منع الولد مع توافر الأسباب الظاهرة. وأكثر المفسّرين على أن هذا الحكم عام في حقّ كلّ الناس، إذ لا معنى

فقه الحياة أو الأحكام:

للتّخصيص، ولأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد، لكنهم ذكروا أمثلة لكل حالة، لتكون سلوة المكروب والمحزون، فمثال الحالة الأولى: لوط وشعيب عليهما السّلام لم يكن لهما إلا البنات فكان للوط بنتان، ومثال الحالة الثانية: إبراهيم عليه السّلام لم يكن له إلا الذّكور وهم ثمانية، ومثال الحالة الثالثة: محمد صلّى الله عليه وسلّم كان له من البنين أربعة: القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم، ومن البنات أربعة: زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، ومثال الحالة الرابعة: عيسى ويحيى عليهما السّلام. قال واثلة بن الأسقع: إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر، وذلك أن الله تعالى قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فبدأ بالإناث. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- على البشر كافة إجابة ما دعاهم الله إليه من الإيمان به والطاعة، قبل مفاجأتهم بيوم القيامة الذي لا يردّه أحد بعد ما حكم الله به، وجعله أجلا ووقتا معلوما لديه، ولا منجا ينجي أحدا من العذاب، ولا ناصر ينصر. 2- إن أعرض الناس عن الإيمان، فليس الرّسول صلّى الله عليه وسلّم موكّلا بهم يستطيع إكراههم على الإيمان، ولا حافظا لأعمالهم حتى يحاسبهم عليها، إنما عليه التبليغ فقط. 3- طبع الإنسان الكافر عجيب غريب، يفرح ويبطر عند الرحمة والرخاء والصحة والمتعة، ويجحد النعمة عند البلاء والشدّة بسبب ما اقترف من الذّنوب، فيعدد المصائب وينسى النّعم.

أنواع الوحي [سورة الشورى (42) الآيات 51 إلى 53] :

4- إن الله تعالى مالك السموات والأرض وما فيهما، يفعل ويتصرّف في ملكه ما يشاء بمقتضى علم تام دقيق، وحكمة بالغة، فيهب الإناث فقط لمن يريد، والذّكور فقط لمن يريد، والذّكور والإناث معا لمن يريد، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له. جاء في الحديث الصحيح: «إذا سبق ماء الرّجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرّجل آنثا» وفي لفظ آخر: «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله» . أما الخنثى ففيه الذّكورة والأنوثة، ويغلّب إحداهما بعمل جراحي، وفي الماضي من حيث يبول، روى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن مولود له قبل وذكر، من أين يورّث؟ قال: «من حيث يبول» واقتصر النّص القرآني على الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول عن غير العقيم. أنواع الوحي [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

الإعراب:

الإعراب: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ: اسم كان، ولِبَشَرٍ: خبرها، وإِلَّا وَحْياً: منصوب على المصدر في موضع الحال من اسمه تعالى اللَّهُ، ومِنْ متعلّقة بمقدر، أي إلا موحيا أو مكلّما من وراء حجاب. أَوْ يُرْسِلَ معطوف بالنّصب على معنى قوله: إِلَّا وَحْياً تقديره: أو أن يرسل رسولا، لأن كانَ مع الفعل في تأويل المصدر، فيكون عطف مصدر على مصدر، ويقرأ بالرفع: أَوْ يُرْسِلَ على الاستئناف تقديره: أهو يرسل رسولا. ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ النّفي على الفعل تَدْرِي عن العمل، وكان ما بعده سادّا مسدّ المفعولين. صِراطِ اللَّهِ بدل من الأوّل. البلاغة: حَكِيمٌ مُسْتَقِيمٍ وغير ذلك من مقاطع السورة: فيها ما يسمى توافق الفواصل. المفردات اللغوية: وَما كانَ لِبَشَرٍ وما صحّ وما استقام له. إِلَّا وَحْياً الوحي: كلام خفي يدرك بسرعة، أو إلقاء شيء في القلب بإلهام في اليقظة أو في المنام. وهو يشمل المشافة به كما في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية، والمهتوف به كما حدث لموسى عليه السّلام في الطّور وطوى أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يسمعه كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه السّلام، فالآية دليل على جواز رؤية الله في الآخرة، لا على امتناعها. أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي إلا أن يرسل رسولا ملكا كجبرئيل عليه السّلام. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ يوحي الرّسول إلى المرسل إليه بأن يكلّمه، بإذن الله، ما يشاء الله. إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين. حَكِيمٌ يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلّم تارة بوسيط وتارة بغير وسيط، إما عيانا، وإما من وراء حجاب. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل. أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد. رُوحاً ما أوحى به، وهو القرآن كالرّوح، وسمّي الوحي روحا، لأن القلوب تحيا به. مِنْ أَمْرِنا أي من بعض أمرنا الذي نوحيه إليك. ما كُنْتَ تَدْرِي تعرف قبل الوحي إليك. مَا الْكِتابُ القرآن. وَلَا الْإِيمانُ ولا حقيقة الإيمان الصحيح المشتمل على الشرائع والأحكام

سبب النزول نزول الآية (51) :

الموحى بها. وَلكِنْ جَعَلْناهُ الرّوح أو الكتاب أو الإيمان. لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تدعو بالوحي إليك إلى الإسلام. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ترجع الأمور، من غير وسائط، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين. سبب النزول: نزول الآية (51) : وَما كانَ لِبَشَرٍ.. سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّا، كما كلّمه موسى؟ فنزلت، وقال: لم ينظر موسى إلى الله تعالى. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى دلائل كمال قدرته وعلمه وحكمته ونعمته مما هو محسوس، أتبعه ببيان أنواع وحيه وكلامه إلى أنبيائه من النّعم الروحية، التي اختصّ بها الأنبياء والرّسل من سائر الناس. وأوضح أن الوحي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المشتمل على الشرائع التي تصلح البشر وتهديهم إلى الحق هو مثل الوحي إلى الأنبياء السابقين. وهذا الختام للسورة مشابه لما بدئت به، لينسجم البدء والختام. التفسير والبيان: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ أي ما صحّ لبشر تكليم الله إلا بوحي يوحى، أو بسماع كلام من وراء ستار، أو بواسطة ملك. وقد نفى الله تعالى تكليم أحد من البشر إلا بأحد ثلاثة أوجه تحدث في الدنيا.

الأول- الوحي: وهو الإلهام والقذف بمعان تلقى في القلب يقظة في الغالب، أو في المنام، كرؤيا إبراهيم الخليل عليه السّلام ذبح ولده. وقد يطلق الوحي على الإلهام المجرد، كما أوحى إلى أم موسى. الثاني- سماع كلام من وراء حجاب: بأن يسمعه النّبي من غير واسطة متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى، كما كلّم موسى عليه السلام ربّه، وسمّاه الله وحيا بقوله: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه 20/ 13] . وكان موسى قد سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها. الثالث- إرسال رسول: وهو إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو غيره فيوحي ذلك الملك إلى الرّسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه، كما كان جبرئيل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام. إن الله عليّ عن صفات المخلوقين وصفات النّقص، يفعل ما تقتضيه حكمته حكيم في كل أحكامه، فيجعل الوحي معتمدا على وسيط، أو بغير وسيط. وهذه الأنواع الثلاثة يتيقن النّبي في كلّ منها أن الله تبارك وتعالى هو مصدر الوحي، دون أي شكّ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي «1» أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتّقوا الله، وأجملوا في الطلب» . وقد جاء في السّنّة بيان أنواع الوحي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، روى البخاري في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها- كما تقدّم- «أن الحارث بن هشام رضي الله عنه، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال

_ (1) الرّوع- بالضّم: القلب والعقل. والرّوع- بالفتح: الفزع.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» أي يسيل عرقا. ثم ذكر تعالى تشابه الوحي بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الأنبياء السابقين، فقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء، أوحينا إليك هذا القرآن، الذي هو من أمر الله، وهو روح، لأنه يهتدى به، ففيه حياة سعيدة بعد موت الكفر، وكان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين، استيقظ به العرب والمسلمون من رقدتهم، وصنعوا حضارة سامقة ومجدا. ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي ما كنت أيها النّبي قبل إنزال الوحي عليك تعرف ما القرآن، ولا معنى الإيمان، ولا تفاصيل الشرائع، ولا تهتدي إلى معالمها الصحيحة، وخصّ الإيمان، لأنه رأس الشريعة. ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا نهدي به من نشاء هدايته، وتخرجه من ظلمات الجهالة والضلال إلى الهداية والمعرفة، ونرشده إلى الدين الحق، كما قال تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصّلت 41/ 40] ، وقال سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء 17/ 82] ، وقال عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس 10/ 57] . وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ

فقه الحياة أو الأحكام:

وَما فِي الْأَرْضِ أي وإنك يا محمد لتهدي بذلك النوع إلى المنهج السليم، والحق القويم، الذي هو شرع الله الذي أمر به، وطريق الله الذي له ملك السموات والأرض، وربّهما المتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه. وفي إضافة الصراط إلى اسم الجلالة تعظيم له وتفخيم لشأنه. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي ألا أيها الخلائق ترجع الأمور كلها يوم القيامة إلى الله تعالى، لا إلى غيره، فيحكم فيها بقضائه العدل. وهذا وعد للمتّقين المهتدين، ووعيد للظالمين الكافرين. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- إن مظاهر الوحي إلى الأنبياء والرّسل منحصرة في ثلاثة أنواع هي: الأول- الإلهام المباشر والإلقاء في القلب معاني ذات دلالة عامة وصبغة تشريعية، تستقر في النفس. الثاني- إسماع الله كلامه للنّبي من غير واسطة. الثالث- إرسال رسول من الملائكة لتبليغ الرسالة، كإرسال جبريل عليه السّلام. 2- فهم المعتزلة من حصر الوحي بهذه الأنواع أن رؤية الله غير جائزة في الآخرة، إذ لو صحّت رؤية الله تعالى، لصحّ من الله تعالى أن يتكلّم مع العبد حالما يراه العبد، فيكون ذلك قسما رابعا زائدا، وقد نفاه الله تعالى بقوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ.. إلا على هذه الأوجه الثلاثة. والجواب أن في الآية قيدا: هو ما كان لبشر أن يكلّمه الله في الدنيا إلا على

هذه الأقسام الثلاثة، وزيادة هذا القيد مفهومة من السياق، ويجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآية وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة، مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] . 3- احتجّ بهذه الآية: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا الإمام مالك والنّخعي على أن من حلف ألا يكلّم رجلا، فأرسل إليه رسولا، أنه حانث، لأن المرسل قد سمّي مكلّما للمرسل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن عبد البرّ: ومن حلف ألا يكلّم رجلا فسلّم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلّم على جماعة هو فيهم، فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلّم عليه في الصلاة، لم يحنث. 4- الصحيح عند أهل الحق أن الملك عند ما يبلّغ الوحي إلى الرسول، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي. والملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة. ولا يسمى كلام الله مع إبليس من غير واسطة وحيا من الله تعالى إليه. 5- حقيقة الوحي واحدة بالنسبة لجميع الأنبياء، ومظاهرها وأنواعها متعددة، ذكرت الآية منها هنا ثلاثة فقط. 6- ظاهر الآية: ما كُنْتَ تَدْرِي.. يدلّ على أنه لم يكن النّبي قبل الإيحاء متّصفا بالإيمان، والصّواب أن الأنبياء معصومون قبل النّبوة من الجهل بالله وصفاته والتّشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان. وإنما المراد بالإيمان هنا: الشرائع والأحكام المعتمدة على الوحي الإلهي، فقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة 2/ 143] .

والآية دليل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن قبل النّبوة متعبّدا بشرع ما. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بدّ أن يكون على دين، ولكن عين الدّين غير معلومة عندنا. وهذا وإن كان جائزا عقلا، لكن ليس عليه دليل قاطع. قال القرطبي: والذي يقطع به أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته، ومخاطبا بكلّ شريعته، بل شريعته مستقبلة بنفسها، مفتتحة من عند الله الحاكم جلّ وعزّ. وأنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى، ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر «1» ، ولا حضر حلف المطيّبين «2» ، بل نزهه الله وصانه عن ذلك «3» . ولكنه صلّى الله عليه وسلّم حضر حلف الفضول، فقال: «شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت» . 7- لم يكن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة عالما بالقرآن، فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا بالإيمان، أي شرائع الإيمان ومعالمه، لا أصل الإيمان فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ من حين نشأ إلى حين بلوغه، كما تقدّم. 8- إن القرآن العظيم الذي أوحى الله به إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو نور وهداية، يدعو ويرشد إلى دين قويم لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام. والمقصود بالهداية: الدعوة إلى الدّين الحقّ وإيضاح الأدلّة.

_ (1) السامر: الموضع الذي يجتمعون فيه للسّمر. (2) حلف المطيبين: حدث حينما اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التّناصر والأخذ من المظلوم للظالم، فسمّوا المطيبين. (3) تفسير القرطبي: 16/ 59.

والله الذي أنزله له جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبدا وخلقا وإليه مصير الخلائق جميعهم. وهذا وعيد بالبعث والجزاء، ووعد بالثواب للمؤمنين الصالحين، وتنبيه إلى أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله، والإفادة بأنه تعالى يجازي كلّ إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب. 9- دلّ قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على أنه كما أن القرآن يهدي، فكذلك الرسول يهدي، أي يرشد.

سورة الزخرف:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الزخرف مكيّة، وهي تسع وثمانون آية. تسميتها: سميت (سورة الزخرف) لاشتمالها على وصف بعض مظاهر الحياة الدنيا ومتاعها الفاني وهو الزخرف، أي الذهب أو الزينة المزوقة ومقارنته بنعيم الآخرة الخالد في قوله تعالى: ... وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [34- 35] . مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين: الأول- تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة في وصف القرآن الكريم، وبيان مصدره: وهو الوحي الإلهي. الثاني- التشابه في إيراد الأدلة القاطعة على وجود الله عز وجل ووحدانيته، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها وأهوال النار التي يتعرض لها الكفار، ومقارنته بنعيم الجنة وإعداده للمؤمنين المتقين. مشتملاتها: موضوع هذه السورة كسائر السور المكية يتعلق بغرس أصول العقيدة

الإسلامية في النفوس، وهي: الإيمان بالله عز وجل وحده لا شريك له، والرسالة والنبوة والوحي، والبعث والجزاء. بدأت السورة ببيان مصدر القرآن العظيم وهو الوحي الإلهي وتأكيد عربيته ومصداقيته، وجعله معجزة الإسلام والنبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وكونه أداة إنذار قريش وقبائل العرب الذين أسرفوا في متع الدنيا، وكذبوا رسولهم كتكذيب من سبقهم من الأمم. ثم أبانت بنحو قاطع أدلة وجود الله عز وجل وقدرته ووحدانيته من خلق السموات، والأرض وتذليلها وتمهيدها وإيجاد طرقها، وإنزال الغيث النافع عليها، وخلق أصناف (أزواج) الأشياء والفلك (السفن) والأنعام لأهلها، واعتراف المشركين صراحة بأن الخالق هو الله عز وجل. ولكنهم لوثوا ذلك الاعتراف بالوثنية والخرافة، فعبدوا الأصنام والأوثان، وزعموا أن الملائكة بنات الله، ولم يجدوا مسوغا لتدينهم الفاسد إلا تقليد الآباء والأجداد، فصححت لهم آي القرآن انحرافهم، ونعت جهلهم وسفههم بتلك العبادة الباطلة، والزعم الذي لا دليل عليه، وحذرتهم من إنزال مثل العقاب الذي أهلك به الله أمثالهم من الأمم الغابرة. وأوردت قصص بعض الأنبياء من أولي العزم كإبراهيم الخليل وموسى وعيسى عليهم السلام ليعتبروا بها ويتعظوا بأحداثها ونتائجها. وأردفت قصة إبراهيم بتفنيد شبهة المشركين حول رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث اقترحوا إنزالها على أحد رجلين عظيمين من أهل الجاه والثراء في مكة والطائف، لا على يتيم فقير، فرد الله عليهم بأن ميزان الاصطفاء للنبوة هو مقومات أدبية خلقية إنسانية، لا مادية رخيصة، فالدنيا لا تساوي شيئا عند الله تعالى، وأنه خشية أن يكون الناس أمة واحدة على ملة الكفر، لمنحها بجميع زخارفها وأمتعتها الكفار، ومنعها المؤمنين.

القرآن كلام الله بلغة العرب وعقاب المستهزئين بالأنبياء [سورة الزخرف (43) الآيات 1 إلى 8] :

وحذرتهم عقب ذلك من الإعراض عن ذكر الله، ورغّبتهم في النعيم الأبدي في الآخرة، وامتنّت عليهم بأن القرآن شرف لنبي الله صلّى الله عليه وسلّم ولهم على السواء: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [44] . ثم ختمت السورة ببيان وصف نعيم الجنة الذي لا مثيل له، والمخصّص للمؤمنين بآيات الله المسلمين المنقادين لربهم، وإيضاح أهوال القيامة وشدائد الأشقياء أهل النار حيث يتقلّبون في عذاب جهنم، وإفلاسهم من شفاعة الأصنام والآلهة المزعومة، وإعلان اليأس من إيمان هؤلاء المشركين والإعراض عنهم، فسوف يعلمون ما يلقونه من العذاب. القرآن كلام الله بلغة العرب وعقاب المستهزئين بالأنبياء [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) الإعراب: جَعَلْناهُ قُرْآناً بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، وقُرْآناً حال.

البلاغة:

وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: خبران ل «إن» وفِي أُمِّ الْكِتابِ متعلق ب «علي» أو حال منه، ولَدَيْنا بدل من أُمِّ الْكِتابِ أو حال من الْكِتابِ. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ.. صَفْحاً: منصوب على المصدر، لأن معنى أَفَنَضْرِبُ أفنصفح. وأَنْ كُنْتُمْ بالفتح بتقدير لأن كنتم، وقرئ بالكسر: «إن» على أنها شرطية. وفاء أَفَنَضْرِبُ للعطف على محذوف، أي أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَشَدَّ: مفعول به، أو حال، وبَطْشاً: تمييز. البلاغة: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ... استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، يعني أنا لا نترك هذا التذكير والإنذار بسبب كونكم مسرفين. المفردات اللغوية: حم هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة الأحكام المبينة في السورة وَالْكِتابِ أي أقسم بالقرآن على أنه مجعول قرآنا عربيا الْمُبِينِ الموضح لطريق الهدى والشرائع والأحكام إِنَّا جَعَلْناهُ أوجدنا القرآن- الْكِتابِ- قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه أيها العرب. وَإِنَّهُ مثبت، معطوف على إِنَّا فِي أُمِّ الْكِتابِ اللوح المحفوظ، فإنه أصل الكتب السماوية لَدَيْنا عندنا لَعَلِيٌّ رفيع الشأن لكونه معجزا من بينهما، مهيمنا على الكتب قبله حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي أنهملكم ونترككم فنمسك عنكم القرآن إمساكا، فلا تؤمرون ولا تنهون لأجل ما. أو أننحي عنكم القرآن، وتنحيته عنهم إعراض، يقال: ضربت وأضربت عنه: تركته، والذِّكْرَ: القرآن، وصَفْحاً: إعراضا. والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب بلغتهم ليفهموه. أَنْ كُنْتُمْ أي لأن كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ متجاوزين الحد في الإسراف، مشركين بالله، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم، أي لا نترككم لكونكم مشركين وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي ما أتاهم نبي إلا استهزءوا به، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه.

الغاية والهدف من الآيات:

فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أشد من قومك قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سبق وسلف في آيات الله بيان قصتهم العجيبة وإهلاكهم، فكذلك يكون قومك مثلهم، والآية وعد للرسول، ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين. الغاية والهدف من الآيات: يريد الله تعالى أن يؤكد كون القرآن بلغة العرب، مما يقتضي إيمان العرب قاطبة به، فهم أقدر الناس على فهمه وإدراك معانيه، ويؤكد أيضا أن القرآن كلام الله ومن عنده، فهو محفوظ مصون في اللوح المحفوظ، وليس من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم كما تزعمون، وأن الإعراض عنه لا يكون سببا لترك تذكيرهم به، فضلا من الله ونعمة ورحمة، وليعتبروا بمصائر أمثالهم من الأمم التي أهلكها الله. التفسير والبيان: حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ تقدم بيان المراد من حم. ثم يقسم الله بالقرآن نفسه البيّن الواضح الجلي المعاني والألفاظ، المبين طريق الهدى وكل ما يحتاج إليه الناس في الدنيا والآخرة. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي إنا أنزلنا هذا القرآن بلسان العرب أو اللغة العربية التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، وقد جعلناه بلغة العرب فصيحا واضحا، لتفهموه أيها العرب، وتتدبروا معانيه، كما جاء في آية أخرى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 195] . والآية جواب القسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد. ولعل: للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالما بعواقب الأمور، فكان المراد هاهنا كما ذكر الرازي وغيره: أنزلناه قرآنا عربيا لكي تعقلوا معناه، وتحيطوا بفحواه. هذا في الأرض، وأما في السماء فقال تعالى:

وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أي وإن هذا القرآن في اللوح المحفوظ عندنا رفيع القدر، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك «1» ، عظيم الشرف والمكانة، ذو حكمة بالغة، ومحكم النظم لا يوجد فيه لبس واختلاف ولا تناقض، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة 56/ 77- 80] وقال سبحانه: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس 80/ 11- 16] «2» . أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟ أي أنترككم دون إنذار، ونطوي عنكم القرآن طيا دون تذكير، ولا وعظ ولا أمر ولا نهي، لأنكم قوم منهمكون في الإسراف، مصرّون على الشرك؟ لا نفعل ذلك لطفا ورحمة منا بكم، فلا نترك دعوتكم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن، وإن كنتم مسرفين معرضين عنه، بل نأمر به ليهتدي المهتدون في قدر الله وعلمه، وتقوم الحجة على الأشقياء «3» . ثمّ سلّى الله رسوله عما يلقاه من صدود قومه، فقال: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ كَمْ: هنا خبرية، أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة، فكذبوهم، كما قال تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وما أتاهم من نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون، كتكذيب قومك واستهزائهم بك.

_ (1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري: 25/ 43 (2) وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف، تشبها بالملائكة الأطهار، لتعظيمه. (3) تفسير ابن كثير: 4/ 122.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي فدمرنا وأهلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك يا محمد، وقد سلف في القرآن ذكرهم أكثر من مرة وعرفت سنة الله فيهم، وإذا علمتم ما آل إليه أمرهم بسبب تكذيب الرسل، فاحذروا الوقوع في مثل مصائرهم. فالمثل: سنتهم أو عقوبتهم كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [غافر 40/ 82] . أو المثل: عبرتهم، أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف 43/ 56] وقوله سبحانه: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر 40/ 85] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية: 1- القرآن الكريم أنزله الله بلسان العرب، لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، وجميع ما في القرآن عربي مادة ومعنى، لفظا ونظما، فقد أقسم الله سبحانه بالقرآن أنه جعله عربيا، وأنه جعله مبيّنا، فهو المبيّن للذين أنزل إليهم، لأنّه بلغتهم ولسانهم، ولأنه الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة، وأبان فيه أحكامه وفرائضه. 2- ليس إنزال القرآن باللغة العربية دليلا على أنه خاص بالعرب دون العجم، لأن نصوصه قاطعة الدلالة على عالمية الإسلام للناس كافة، كما هو معروف في مواضع متقدمة، لذا كان تفسير ابن زيد لقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: لعلكم تتفكرون هو الأولى، لأنه على هذا التأويل يكون خطابا عاما للعرب

والعجم. أما على تفسير ابن عيسى: لعلكم تفهمون أحكامه ومعانيه، فيكون خاصا للعرب دون العجم «1» . والظاهر إرادة كلا المعنيين ولا يلزم التخصيص بالعرب، لأن عموم الرسالة الإسلامية من المبادئ الكبرى المعروفة. وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يدل- كما ذكر الرازي- على أن القرآن كله معلوم، وليس فيه شيء مبهم مجهول، خلافا لمن يقول: بعضه معلوم، وبعضه مجهول «2» . 3- وصف الله تعالى القرآن في السماء بأنه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج 85/ 21- 22] ، ثم وصف اللوح المحفوظ بأربع صفات هي: الأولى- أنه أُمِّ الْكِتابِ وأصل كل شيء: أمه، أي أن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ. الثانية- وأنه لدى الله بقوله لَدَيْنا. وإنما خصه الله بهذا التشريف لكونه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته. الثالثة- كونه عليا، أي كونه عاليا عن وجوه الفساد والبطلان. الرابعة- كونه حكيما، أي محكما في وجوه البلاغة والفصاحة، وذو حكمة بالغة. ويرى مفسرون آخرون أن هذه الصفات كلها صفات القرآن. وهذا على تفسير أم الكتاب باللوح المحفوظ، وفي تفسير آخر أنه الآيات المحكمات لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران 3/ 7]

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 61. (2) تفسير الرازي: 27/ 193.

والمعنى: أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم. 4- إن اختيار المشركين دين الشرك لا يمنع من تذكيرهم، ووعظهم، وأمرهم، ونهيهم، لطفا من الله ورحمة بهم، وقطعا لحجتهم بعدم البيان والتكليف. 5- إن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا داعي أيها الرسول وأتباعه للتأذي من أقوام، بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء، لأن المصيبة إذا عمّت خفّت. 6- إن عدد الأنبياء في البشر كثير، فما أكثر ما أرسل الله من الأنبياء، ولكن الله تعالى أهلك أقوامهم الذين كذبوهم واستهزءوا بهم، بالرغم من أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. ومضى مثلهم في الأمم الغابرة. والمثل: العقوبة أو السنّة أو الوصف والخبر، أي سلفت عقوبتهم، أو صفة الأولين بأنهم أهلكوا على كفرهم، أو مضت سنة الله فيهم. فإذا سلك كفار مكة وغيرهم في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم، فقد ضرب الله لهم مثلهم، كما قال: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ [الفرقان 25/ 39] وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم 14/ 45] .

من مصنوعات الله تعالى وصفاته [سورة الزخرف (43) الآيات 9 إلى 14] :

من مصنوعات الله تعالى وصفاته [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) الإعراب: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اللام: لام القسم ولَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين. ما تَرْكَبُونَ حذف العائد اختصارا، أي تركبونه، وإنما قال تَرْكَبُونَ مع أنه يقال: ركبوا الأنعام، وركبوا في الفلك، لأنه غلب المتعدي بغير واسطة، لقوّته على المتعدي بواسطة، فقيل: تركبونه. عَلى ظُهُورِهِ جمع الظهر مراعاة لمعنى ما وذكّر الضمير نظرا للفظ ما. البلاغة: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً تشبيه بليغ، أي كالمهد وهو الفراش، حذفت منه الأداة ووجه الشبه. فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً استعارة تبعية، شبّه الأرض قبل نزول المطر بالميت، ثم أنشرها الله، أي أحياها بالمطر. كَذلِكَ تُخْرَجُونَ تَرْكَبُونَ لَمُنْقَلِبُونَ سجع غير متكلف.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ هذا مقول المشركين، أي خلقهن ذو العزة والعلم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً استئناف من الله تعالى، المهد: الفراش، كالمهد للصبي، فتستقرون فيها سُبُلًا: طرقا، جمع سبيل، أي طريق لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك. بِقَدَرٍ بمقدار أو تقدير ينفع ولا يضر، بحسب الحاجة، ولم يجعله طوفانا فَأَنْشَرْنا أحيينا بَلْدَةً مَيْتاً خالية من النبات، وتذكير كلمة «ميت» لأن البلدة بمعنى البلد والمكان كَذلِكَ مثل ذلك الإنشار (الإحياء) تُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أصناف المخلوقات الْفُلْكِ السفن وَالْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ لتستقروا على ظهور ما تركبون سَخَّرَ ذلل مُقْرِنِينَ مطيقين، مأخوذ من أقرن الشيء: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه لَمُنْقَلِبُونَ راجعون، فالنقلة العظمى هي الانقلاب إلى الله تعالى، لتجازى كل نفس بما كسبت. المناسبة: هذه الآيات تذكير للمشركين المسرفين في أعمالهم وإعراضهم عن القرآن بأنهم يقرون بوجود الخالق، وتذكير لهم أيضا بنعم الله ومصنوعاته وصفاته التي عدّد منها هنا ثماني صفات، ثم أردفها بتعليم عباده ذكر الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم، فعنه صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا- إلى قوله- وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى في هذه الآيات كما أشرت ثماني صفات له وهي: 1- 3: كونه خالقا للسموات والأرض، العزيز، العليم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي تالله لئن سألت

أيها النبي هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره من قومك: من الذي خلق السموات والأرض؟ لأجابوا واعترفوا بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهو العزيز، أي الغالب القوي، إشارة إلى كمال القدرة، العليم، أي الواسع العلم، إشارة إلى كمال العلم. وكمال القدرة والعلم دليل على أن الموصوف به قادر على خلق جميع الممكنات. ومع هذا فهم يعبدون مع الله إلها آخر من الأصنام والأنداد. 4- الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي إنه تعالى الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش والبساط، صالحة للإقامة والاستقرار عليها، فمع أنها تدور وتتحرك، فهي ثابتة أرساها الله بالجبال، لئلا تميد وتضطرب. 5- وخلق فيها الطرق: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي وأوجد فيها الطرق والمسالك بين الجبال والأودية، لتهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم، وتنتقلوا إلى أرجاء البلاد، للمتاجرة وطلب الرزق والسياحة وغير ذلك. 6- منزل الغيث النافع وباعث الناس: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي والله هو الذي أنزل المطر من السماء بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة للزروع والثمار والشرب، ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم، لئلا يحدث الطوفان والغرق وهدم المنازل وتلف المزارع، ولا دون الحاجة، حتى لا يكفي النبات والزرع والناس. فأحيينا بذلك الماء البلاد الميتة المقفرة التي لا نبات فيها، فلما جاءها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. وكما أحيينا الأرض بعد موتها نحيي الأجساد يوم المعاد بعد موتها، وتبعثون من قبوركم أحياء.

ونحو الآية قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ [فاطر 35/ 9] . وظاهر الآية هنا يقتضي أن الماء ينزل من السماء، والواقع أنه ينزل من السحاب، وسمي نازلا من السماء، لأن كل ما سماك أو علاك فهو سماء. وقوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ كما يدل على قدرة الله وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة، ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة، كهذه الأرض التي أحييت بالنبات الأخضر والثمر اليانع بعد ما كانت ميتة. 7- كونه خالقا أصناف الأشياء: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي والله هو الذي خلق الأصناف كلها من نبات وزرع وشجر وثمر، وإنسان وحيوان وغير ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه. 8- خالق وسيلة الركوب من الفلك والأنعام: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي والله الذي خلق لكم بالإلهام والتعليم وسيلة الركوب في البحر وهي السفن، وأوجد واسطة الركوب في البر من الأنعام وهي الإبل، إذ المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا هي، والله هو الذي ذلّلها لكم وسخّرها ويسّرها لركوب ظهورها، وكذا لأكل لحومها وشرب ألبانها والانتفاع بأوبارها، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له: لم أخلق لهذا، إنما خلقت للحرث، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر» «1» . ولا تقتصر وسائل الركوب على السفن والإبل، فهناك آية أخرى تشمل الدواب والسيارات والقطارات والطائرات ونحوها من وسائل المواصلات الحديثة، وهي قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل 16/ 8] .

_ (1) ولم يكونا حاضرين حينئذ.

لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقُولُوا: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي لتستقروا ولتستعلوا متمكنين مرتفقين على ظهور هذا الجنس من المخلوقات وهو ما تركبونه من الفلك والأنعام، ثم تذكروا مع التعظيم في قلوبكم وألسنتكم نعمة الله التي أنعم بها عليكم من تسخير المراكب في البحر والبر، فتعرفوا أن الله تعالى خلق وجه البحر صالحا للأبحار والرياح قوة دافعة، وعلّم الإنسان كيفية صنع السفينة على نحو يتمكن فيها من الأبحار عليها إلى أي مكان شاء وأراد. وتقولوا إذا استويتم وركبتم على المركوب. سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي تنزيها لله، عن كل عجز ونقص لا يليق، الذي ذلل لنا هذا المركب، وما كنا مطيقين لتسخيره لولا أن سخره الله لنا. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي وإنا لصائرون راجعون إليه بعد مماتنا، فيجازي كل نفس بما عملت من خير أو شر. ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك والأنعام عرضة لخطر الهلاك، فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت وأن يعتقد أنه هالك لا محالة، وأنه راجع إلى الله تعالى. أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ركب راحلته، كبّر ثلاثا، ثم قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، واطو لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، وأخلفنا في أهلنا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رجع إلى أهله قال: «آيبون تائبون إن شاء الله عابدون، لربنا حامدون» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- إذا سئل المشركون عمن خلق السموات والأرض لأجابوا بأن الخالق هو الله القوي الغالب الكامل العلم، فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم. 2- الله تعالى كامل القدرة فهو سبحانه الذي مهد لنا الأرض وجعلها صالحة للعيش عليها بسلام واستقرار، وأوجد فيها المعايش والطرق لنسلكها إلى حيث أردنا، ولنهتدي بها في الأسفار، ونستدل بمقدوراته على قدرته. 3- الله تعالى لطيف بعباده رحيم بهم، فهو جل وعز ينزل المطر النافع بقدر الحاجة ومقتضى الحكمة، فلا يجعله طوفانا مغرقا، ولا قليلا قاصرا عن الحاجة، حتى يكون معاشا صالحا للأنفس والأنعام، فينبت به الزرع والشجر، ويخرج به الغلال والثمار. ومن قدر على إحياء الأرض بعد جدبها، قدر على بعث المخلوقات من القبور. 4- الله تعالى جميل يحب الجمال، فهو الذي نوّع الأشياء كلها، وأوجد فيها الأصناف المختلفة، وأبدع مباهج الحياة، وجعل فيها الحيوية والحركة بالانتقال في أرجاء الأرض بوسائط الركوب المتنوعة برا وبحرا وجوا. 5- قال القرطبي: علّمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرّفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى: وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها، بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ

عبادة المشركين الملائكة [سورة الزخرف (43) الآيات 15 إلى 25] :

رَحِيمٌ [هود 11/ 41] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت «1» أو طاح من ظهرها فهلك، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا «2» .. والخلاصة: هناك أذكار ثلاثة ما ينبغي لعبد أن يدع قولها، وليس بواجب ذكرها في اللسان، وهي دعاء السفر في البحر: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ودعاء السفر في البر: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا.. ودعاء دخول المنازل: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «3» . عبادة المشركين الملائكة [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

_ (1) تقحم الفرس براكبه: ألقاه على وجهه. (2) تفسير القرطبي: 16/ 67. [.....] (3) تفسير الرازي: 27/ 198 وما بعدها.

الإعراب:

الإعراب: مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي من رجال عباده، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَجْهُهُ: إما اسم ظَلَّ أو بدل من ضمير مقدر فيها مرفوع، لأنه اسمها. ومُسْوَدًّا: خبرها، وَهُوَ كَظِيمٌ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال. أَمِ اتَّخَذَ.. أَمِ: بمعنى بل والهمزة، وتقديره: بل أأتخذ مما يخلق بنات، ولا يجوز أن يكون بمعنى «بل» بغير همزة، لأنه يؤدي التقدير إلى الكفر، وهو: بل اتخذ بنات. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ: إما في موضع نصب بتقدير فعل، أي أجعلتم من ينشأ، أو في موضع رفع، لأنه مبتدأ، وخبره محذوف أي كائن، وهو قول الفراء. البلاغة: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تأكيد بإن واللام وصيغة المبالغة على وزن فعول وفعيل. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ أسلوب تهكمي يراد به التوبيخ، والتقريع، وبين لفظ «البنات» و «البنين» طباق. المفردات اللغوية: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي جعل المشركون بعد ذلك الاعتراف بأن الله هو الخالق، من عباده ولدا، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، باعتبار أن الولد جزء من أبيه، والملائكة من عباد الله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ قائل ما تقدم لَكَفُورٌ مُبِينٌ بالغ الكفر وظاهر الكفر.

بسبب النزول:

أَمِ اتَّخَذَ بل أأتخذ، والهمزة، في أَمِ همزة الإنكار والتعجب، أو القول مقدر أي أتقولون: اتخذ وَأَصْفاكُمْ خصكم واختاركم، وهذا لازم من قولكم السابق ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي جعل له شبها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد ظَلَّ صار مُسْوَدًّا متغيرا لما يعتريه من الكآبة، وقرئ: مسود ومسواد، على أن في ظَلَّ ضمير المبشر، ووَجْهُهُ مُسْوَدًّا: جملة واقعة موقع الخبر كَظِيمٌ ممتلئ غما وغيظا. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي أو يجعلون لله من يتربى في الزينة؟ والهمزة همزة الإنكار، وواو العطف يعطف جملة: يجعلون لله.. إلخ الْخِصامِ الجدل والنقاش غَيْرُ مُبِينٍ غير مظهر الحجة لضعفه عنها وعجزه عن الجدل بالأنوثة. وفيه دلالة على فساد ما قالوه. أَشَهِدُوا أحضروا خلق الله إياهم، فشاهدوهم إناثا؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بأنهم إناث وَيُسْئَلُونَ عنها في الآخرة، فيعاقبون على شهادة الزور، وهو وعيد وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما عبدنا الملائكة، فعبادتنا إياهم بمشيئته، فهو راض بها، أي إنهم استدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل، لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض، مأمورا كان أو منهيا، حسنا كان أو غيره، ولذلك حكم عليهم بالجهل بقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لمقولهم من الرضا بعبادتهم أدنى علم بمراد الله إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ما هم إلا يكذبون فيه ويحدسون، فيعاقبون عليه. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما قالوه، ويقرر عبادة غير الله؟ مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون بذلك الكتاب، والمعنى: لم يقع ذلك. مُتْرَفُوها منعموها وأهل الترف فيها عَلى أُمَّةٍ ملة أو طريقة ومذهب مُقْتَدُونَ متبعون، قال البيضاوي: هذه الآية تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى..؟ أي قال لهم النذير نبيهم: أتتبعون ذلك ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ وهذا حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قال الأقوام للنذير: إنا كافرون بما أرسلت به أنت ومن قبلك. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال الله: فانتقمنا من المكذبين للرسل قبلك عاقِبَةُ مصير ونهاية، فلا تكترث بتكذيبهم. بسبب النزول: نزول الآية (19) : وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ..: أخرج ابن المنذر عن قتادة قال: قال ناس من

نزول الآية (22) :

المنافقين: إن الله صاهر الجن، فخرجت من بينهم الملائكة، فنزل فيهم: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ... نزول الآية (22) : بَلْ قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا ... حكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا، يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلّم. المناسبة: بعد بيان اعتراف المشركين بأن الله خالق السموات والأرض، ذكر الله تعالى ما يناقض ذلك وهو ادعاؤهم أن الملائكة بنات الله، فلم يقتصروا أن جعلوا لله ولدا، وإنما جعلوه من الإناث ومن الملائكة، فرد تعالى عليهم بأجوبة ثلاثة: نفرتهم من الإناث، وضعف الإناث، وجهلهم بحقيقة الملائكة. ثم ذكر تعالى شبهة أخرى للمشركين: وهي أن عبادة الملائكة بمشيئة الله، ورد عليهم بأن المشيئة ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دلالة فيها على الرضا والغضب أو الحسن والقبح، فهم جهلة كاذبون، وليس لهم دليل نقلي صحيح يعتمدون عليه إلا محض التقليد للآباء والأجداد، دون برهان معقول، وشأنهم في الكفر شأن من سبقهم من الأمم التي كذبت الرسل. فانتقم الله منهم وأهلكهم. التفسير والبيان: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي إن المشركين بالرغم من اعترافهم بألوهية الله وكونه خالق السموات والأرض، أثبتوا له ولدا، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، باعتبار أن الولد جزء من أبيه، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور: «فاطمة بضعة مني» إن الإنسان جحود نعم ربه جحودا

بيّنا، يقابل وضوح النعمة، فيكون الجحود من أبين الكذب. والآية متصلة بقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... وهذا من جهلهم بالله وصفاته، واستخفافهم بالملائكة حيث نسبوا إليهم الأنوثة، ونسبوهم إلى الله نسبة تقتضي نسبة الأضعف من نوعي الإنسان، فالله ليس كمثله شيء، فلا يشبهه أحد من خلقه، ونسبة الولد له تقتضي جعله مشابها للحوادث، فلا يصلح إلها، ولأن هذا الادعاء للجزء يجعل الله مركبا من أجزاء فهو حادث. ثم أنكر تعالى عليهم أشد الإنكار، فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟ أي وإذا نسبتم الولد إلى الله،: لزم منه أن الله اتخذ ولدا له من أضعف الجنسين، واختار لكم الأفضل، وهذا يعني أنه جعل لنفسه المفضول من الصنفين، ولكن الفاضل منهما، فكيف يصح هذا مع أنه تعالى هو الخالق؟ وهذا كقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 53/ 21- 22] أي جائرة. ومعنى قوله: أَمِ اتَّخَذَ ... بل أأتخذ؟ الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم حيث جعلوا ذلك الجزء أضعف الجزأين، وهو الإناث دون الذكور. ثم ذكر الله تعالى تتمة الإنكار والتوبيخ والتعجيب، فقال: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بما جعل لله مشابها، وهو الأنثى، أنف من ذلك واغتم، وعلته الكآبة من سوء ما بشّر به، فصار وجهه متغيرا، وأضحى ممتلئا غيظا، شديد الحزن، كثير الكرب، فكيف تأنفون أنتم من البنت، وتنسبونها إلى الله عز وجل؟!.

وللآية شبيه تام هي قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ... الآية [النحل 16/ 58- 59] . ثم أكد الله تعالى الإنكار، فقال: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ، وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي أو يجعل للرحمن من الولد من صفته أنه يتربى في الزينة والنعمة، وإذا احتاج إلى مخاصمة غيره لا يقدر على الجدال وإقامة الحجة؟ فلا بيان عنده، ولا يأتي ببرهان يدفع ما يجادل به خصمه، لنقصان عقله وضعف رأيه. والآية دليل على رقة المرأة وغلبة عاطفتها عليها، وميلها إلى التزين والنعومة، وعلى أن التحلي بالذهب والحرير مباح للنساء، وأنه حرام على الرجال، لأنه تعالى جعل ذلك عنوانا على الضعف والنقصان، وإنما زينة الرجل: الصبر على طاعة الله، والتزين بزينة التقوى، كما قال الرازي. ومن مفتريات المشركين عدا ما ذكر من نسبة الإناث إلى الله: زعمهم أن الملائكة إناث، كما قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بأن الملائكة إناث، وهذا مترتب على قولهم السابق: الملائكة بنات الله. فأنكر الله عليهم ورد مقالهم بقوله: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ، وَيُسْئَلُونَ أي هل حضروا وشاهدوا خلق الله إياهم حتى يشهدوا بأنهم إناث، كما قال تعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً، وَهُمْ شاهِدُونَ؟ [الصافات 37/ 150] ستكتب شهادتهم بذلك في ديوان أعمالهم، لنجازيهم على ذلك، ويسألون عنها يوم القيامة، فهي شهادة

زور. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد بالعذاب، ودليل على أن الادعاء من غير برهان وإثبات جريمة. واستدلّ بهذه الآية: هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ من قال بتفضيل الملائكة على البشر. ثم أورد الله تعالى شبهة أخرى للمشركين، ولونا آخر من ألوان افتراءاتهم، فقال: وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي قال الكفار: لو أراد الله ما عبدنا هذه الملائكة، فإنه قادر على أن يحول بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، ويريدون بذلك القول أن الله راض عن عبادتهم للأصنام. وهو احتجاج بالقدر، وكلمة حق يراد بها باطل، لأن المشيئة لا تستلزم الأمر، إذ هي ترجيح بعض الممكنات على بعض بحسب علمه، والله يأمر بالخير والإيمان، ونحن لا نعلم مشيئته أو إرادته إلا بعد وقوع الفعل منا. وقد جمعوا في هذا القول بين أنواع كثيرة من الخطأ والكفر كما ذكر ابن كثير: 1- جعلهم لله تعالى ولدا، تقدّس وتنزّه عن ذلك. 2- دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى. 3- عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عزّ وجلّ، بل بمجرد الأهواء وتقليد الأسلاف، وتخبّط الجاهلية. 4- احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وتقديرهم على طريقتهم قدرا، وهذا جهل شديد، فإن الله منذ أن بعث الرّسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده

لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه «1» ، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النّحل 16/ 36] ، وقال عزّ وجلّ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزّخرف 43/ 45] . ونحو الآية: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا. [الأنعام 6/ 148] ، أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس 36/ 47] . فردّ الله تعالى عليهم بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ليس لهم أي علم أو دليل بصحة ما قالوه واحتجّوا به، وما هم إلّا يكذبون فيما قالوا، ويتقولون، فإن الله يأمر بالحق والإيمان والخير، ولا يرضى لعباده الكفر والفحشاء. والآية دليل على جهلهم الفاضح، وكذبهم وافترائهم الباطل. ثم أبطل الله تعالى قولهم بالدليل النقلي قائلا: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بما يدّعون، مكتوبا فيه: اعبدوا غير الله؟ فهم يتمسكون بذلك الكتاب، ويحتجون به، أي ليس الأمر كذلك، كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم 30/ 35] أي لم يكن ذلك أصلا. ثم ذكر الله تعالى: أنه لا حجّة لهم إلا التّقليد، فقال: بَلْ قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ بل إنهم

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 125.

قالوا: لقد وجدنا آباءنا على طريقة ساروا عليها في عبادتهم الأصنام، وإنا سائرون على منهجهم مهتدون بهديهم. وهذا اعتراف صريح منهم بأنه ليس لهم مستند ولا حجّة عقلية ولا نقلية على الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد واتّباعهم في الضّلالة. وقولهم: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ- أي وراءهم- مُهْتَدُونَ مجرد دعوى منهم بلا دليل. ثم أبان الله تعالى تشابه الأمم في الكفر والتّقليد والمقالة، فقال: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي إن مقال هؤلاء قد سبقهم إليه أشباههم من الأمم السالفة المكذّبة للرّسل، فمثل تلك المقالة قال المترفون المنعّمون- وهم الرؤساء والزّعماء والجبابرة- من كل أمّة لرسولهم المرسل إليهم للإنذار من عذاب الله: إنّا وجدنا آباءنا على ملّة ودين، وإنّا على طريقتهم سائرون متبعون. وخصص المترفين تنبيها على أن التّنعم هو سبب المعارضة وإهمال النّظر وترك التفكّر في مضمون الرّسالة الإلهية. ونحو الآية قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذّاريات 51/ 52- 53] . وإنما قال أولا: مُهْتَدُونَ لادعاء الهداية كآبائهم، ثم قال ثانيا: مُقْتَدُونَ حكاية عن قوم تابعوا آباءهم في فعلهم، دون ادّعاء الهداية، والمعنى تقريبا واحدا. وهذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتنبيه على أنّ التّقليد في الاعتقاد والعبادة ضلال قديم.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر تعالى جواب الرّسل لأقوامهم عن التّقليد، قائلا: قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي قال لهم رسولهم: أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟! فأجابوه معلنين كفرهم صراحة، في قوله تعالى: قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قالوا: لا نعمل برسالتك، ولا سمع لك ولا طاعة، وإنا كافرون جاحدون بما أرسلتم به، ومستمرون ثابتون على دين الآباء والأسلاف. والمراد أنهم لو علموا وتيقّنوا صحة ما جئتهم به أيها الرّسول، لما انقادوا لذلك، لسوء قصدهم، ومكابرتهم للحقّ وأهله. وقوله: بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ يعني بكل ما أرسل به الرّسل، فالخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه لفظ الجمع، لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه. وما بعد الإصرار على الكسر إلا النّقمة والإهلاك، فقال تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي فانتقمنا من الأمم المكذّبة للرّسل بأنواع من العذاب، كعذاب قوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب كيف كان مصير أمر المكذبين من تلك الأمم كيف بادوا وهلكوا، وإن آثارهم موجودة، وعبرة للنّاظر المعتبر. وهذا وعيد وتهديد لأهل مكة، وسلوة للرّسول، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بشأن قومه من رسالته. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي: 1- للمشركين افتراءات كثيرة، منها هنا: نسبة البنات إلى الله تعالى، فقالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزء له. وقد عجّب الله المؤمنين من جهلهم، إذ أقرّوا بأن خالق السموات

والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به، لأن هذا من صفات النّقص، كما أبان القرطبي. ومن افتراءاتهم المذكورة في سورة أخرى: جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم (الأوثان) وبعضها لله تعالى، كما حكى تعالى عنهم قائلا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ، فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام 6/ 136] . 2- ومن افتراءاتهم أنهم جعلوا له من الأولاد الأقل والأضعف وهو البنات. 3- وبّخهم الله تعالى على افتراءهم ذاكرا أنه كيف يتّخذ البنات- كما زعموا أن الملائكة بنات الله- واختصّهم وأخلصهم بالبنين؟! 4- لم يعقل المشركون ما افتروه على الله في نسبتهم البنات له، فإنهم لا يرضونه لأنفسهم، فإنه إذا بشّر الواحد منهم بولادة بنت له، اسودّ وجهه غمّا وكدرا، وأنف من نسبة البنت له، وأضحى حزينا مكروبا، فكيف ينسب إلى الله ما هو نافر منه؟! ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله، فقد جعل الملائكة شبها لله، لأن الولد من جنس الوالد وشبهه، ومن اسودّ وجهه مما ينسب إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسودّ وجهه بنسبة ذلك إلى من هو أجلّ منه، فكيف إلى الله عزّ وجلّ؟! 5- وكيف يصح أن يجعل الله له من لا همّ له إلا الحلي والزّينة، وإذا خوصم لا يقدر على الدّفاع عن نفسه؟

وفي هذه الآية دلالة- كما تقدّم- على إباحة الحلي للنّساء، وتحريمه على الرجال، وهو حكم مجمع عليه ثابت بأخبار كثيرة. 6- أوضح الله تعالى كذب المشركين وجهلهم في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث، وهم بنات الله، وحكمهم من غير دليل بأنهم إناث، فكيف تجرؤوا حتى حكموا بأنهم إناث، ولم يحضروا حالة خلقهم؟! إن شهادتهم الباطلة هذه مكتوبة عليهم في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها في الآخرة. 7- ومن شبه المشركين المفتراة احتجاجهم بالقدر الإلهي، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية: لو شاء الرّحمن على زعمكم أيها المؤمنون ما عبدنا هذه الملائكة، والله أمرنا بهذا أو رضي لنا ذلك، ولهذا لم يعاجلنا بالعقوبة. وهذه كلمة حقّ أريد بها باطل، فإن كل شيء بإرادة الله، وعلمه نافذ لا محالة، لكن الإرادة أو المشيئة لا تقتضي الأمر والرّضا وليس الأمر والإرادة متطابقين، ولا نعلم مراد الله، فكان علينا العمل بأمره ونهيه، وليس لقولهم: الملائكة بنات الله أي دليل علمي، وما هم إلّا يحدسون ويكذبون، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عزّ وجلّ. وقوله: هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ يفيد حصر العبودية في الملائكة، وذلك يدلّ على الفضل والشّرف، مما يوجب كونهم أفضل من غيرهم. 8- كذلك ليس لهم دليل نقلي على زعمهم، ولا كتاب لديهم بما ادّعوه قبل هذا القرآن. 9- لا دليل للمشركين على شركهم إلا التّقليد الأعمى لآبائهم وأسلافهم، وهم لما عجزوا عن الدّليل لم يجدوا بدّا من الاعتماد على تقليد الآباء، قائلين بأنهم وحدوهم على تلك الملّة أو الطّريقة والمذهب، فقلّدوهم واهتدوا بهديهم.

الرد على تقليد الآباء، واختيار الأنبياء وبيان حال الدنيا [سورة الزخرف (43) الآيات 26 إلى 35] :

وهذا دليل على إبطال التّقليد في العقائد والأصول، لأن الله ذمّهم على تقليد آبائهم، وتركهم النّظر فيما دعاهم إليه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. 10- إن مقالتهم تلك تشبه مقالة من سبقهم من الأمم المكذبة لرسلها، فإنّ أهل التّرف والرؤساء فيهم اقتدوا بالآباء والأجداد دون دليل. 11- إنهم مصرّون على الشرك والتّقليد الأعمى، حتى ولو جاءهم رسول الله من عند الله بأهدى وأرشد من ذلك الدّين الباطل. 12- إن المنتظر أمام هذا الإصرار على الكفر ما ذكره تعالى وهو الانتقام الشديد من الكافرين، وتدميرهم وإهلاكهم، وآثارهم ظاهرة للعيان، عبرة للمعتبر، فيا أهل مكة وأمثالكم انظروا في مصيركم المرتقب. الرّد على تقليد الآباء، واختيار الأنبياء وبيان حال الدنيا [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوانُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

الإعراب:

الإعراب: مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين، فحذف المضاف، وأراد ب الْقَرْيَتَيْنِ: مكة والطائف. لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً لِبُيُوتِهِمْ: بدل من لِمَنْ بإعادة الجار، بدل الاشتمال، وقرئ «سقفا» و «سقفا» فسقف: جمع سقف، نحو رهن ورهن. وسقف: واحد ناب مناب الجمع. وَزُخْرُفاً إما منصوب بفعل مقدر، أي وجعلنا لهم زخرفا، أو معطوف على موضع قوله تعالى: مِنْ فِضَّةٍ. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ إِنْ: مخففة من الثقيلة، واسمها: إما كُلُّ إلا أنه لما خففت نقصت عن شبه الفعل، فلم تعمل وارتفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، وإما بتقدير الهاء أي إنه كل ذلك، فحذف اسمها وهو الهاء وخففت، فارتفع كُلُّ بالابتداء، وجملة كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ.. من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر إِنْ. وهذا التقدير ضعيف لتأخير اللام في الخبر. ولَمَّا بمعنى إلا، ويصح أن تكون إِنْ نافية بمعنى ما. ويقرأ «لما» بالتخفيف، فتكون ما: زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف. البلاغة: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ كَلِمَةً: مجاز مرسل، والمراد بال كَلِمَةً: الجملة التي قالها، وهي: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل. المفردات اللغوية: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم هذا، ليروا كيف تبرّأ من التقليد، وتمسّك بالدّليل. لِأَبِيهِ آزر. بَراءٌ بريء من عبادتكم أو معبوديكم، وهو مصدر نعت به، فيستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث، وقرئ «بريء» و «برآء» ككريم وكرماء. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذي فطرني، أو متّصل على أن

«ما» تعمّ ما كانوا يعبدون وهو الله والأوثان، كأنه قال: إنني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. سَيَهْدِينِ يرشدني إليه، وهو مقرر لما قال مرة أخرى: يَهْدِيَنِ كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال. وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحّد الله ويدعو إلى توحيده. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحّد، فيرجع عما كان عليه إلى دين إبراهيم أبي الأنبياء والمسلمين، وهو يشمل أهل مكة وغيرهم. بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ أي هؤلاء المعاصرين للرسول من قريش وآباءهم، فاغتروا بذلك وانهمكوا في الشهوات، ولم أعاجلهم بالعقوبة. وقرئ «متعت» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً مبالغة في تعبيرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن ودعوة التوحيد. وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بماله من المعجزات، أو مبين للتوحيد بالحجج والآيات المتضمنة الأحكام الشرعية، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن. هلا. مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين: مكة والطائف. والرجلان هما: الوليد بن المغيرة من مكة، وكان يسمى ريحانة قريش، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. عَظِيمٍ زعيم ذي جاه ومال، فإن الرّسالة منصب خطير لا يليق إلا بعظيم، ولم يعلموا أن معيار اختيار الأنبياء هو التّحلي بالفضائل والكمالات الأدبية، لا بالاعتبارات الدنيوية. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكّمهم، والرّحمة: النّبوة. قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا جعلنا معيشتهم مقسومة فيما بينهم، فبعضهم غني، وبعضهم فقير، ويتفاوتون في مرتبتي الغنى والفقر. وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ جعلنا بينهم تفاوتا في الرّزق وغيره. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ وهو الغني. بَعْضاً وهو الفقير. سُخْرِيًّا مسخرا في العمل بالأجرة، أي يستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم، والياء: للنسب، وقرئ بكسر السين «سخريا» . وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي النّبوة وما يتبعها، أو الجنّة. خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي خشية أن يكون جميع الناس على ملّة واحدة وهي الكفر. سُقُفاً جمع سقف، وقرئ: «سقفا» . وَمَعارِجَ ومصاعد جمع معرج كمنبر، وقرئ: «معاريج» جمع معراج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يصعدون ويعلون إلى السطوح. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة. وَسُرُراً من فضة، جمع سرير. يَتَّكِؤُنَ يستندون. وَزُخْرُفاً ذهبا أو زينة مزوقة، والمراد به الزينة كما قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ

سبب النزول نزول الآيتين (31 - 32) .:

زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس 10/ 24] ، ومعنى الآية: لولا خوف الكفر على المؤمنين من إعطاء الكافر ما ذكر، لأعطيناه ذلك لاحتقار الدنيا عندنا. لَمَّا بمعنى إلّا «1» ، وإن نافية، وعلى قراءة التخفيف «لما» تكون ما زائدة. مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يتمتع به فيها ثم يزول. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي نعيم الآخرة وهو الجنة عند الله- عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان- لمن اتّقى الكفر والمعاصي. سبب النّزول: نزول الآيتين (31- 32) . تقدّم في سورة يونس في الآية (2) سبب نزول الآيةنُزِّلَ.. وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن عباس «أن العرب قالوا: وإذا كان النّبي بشرا فغير محمد كان أحق بالرّسالة: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردّا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» . وروى ابن المنذر عن قتادة «أن الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانة قريش- كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقّا لنزل عليّ أو على أبي مسعود، فقال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النّبوة. فيضعونها حيث شاؤوا» . المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتماد المشركين على التّقليد في العقائد والأصول، بيّن فساده بأسلوب المشركين أنفسهم، وهو أن إبراهيم الخليل عليه السلام

_ (1) حكى سيبويه: نشدتك الله لمّا فعلت كذا، أي إلا فعلت كذا.

التفسير والبيان:

أبو العرب وأشرف آبائهم تبرأ من دين آبائه بالدّليل، وحكم بأن اتّباع الدّليل أولى من متابعة الآباء، فوجب تقليده في ترك تقليد الآباء وفي ترجيح الدّليل على التّقليد. ثم أبان الله تعالى مفاسد اعتماد قريش على التّقليد وترك التّفكر في الحجة والدّليل، وهي: أولا- اغترارهم بالمهلة والمدّ في العمر والنّعمة، واشتغالهم بالتّنعم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد، وثانيا- تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفهم له بأنه ساحر كذاب، وثالثا- قولهم بأن الرّجل الشريف وهو كثير المال ورفيع الجاه هو الأحقّ بالنّبوة من محمد الفقير اليتيم. فردّ تعالى عليهم بأنه هو الذي قسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، وأن التّفاوت في شؤون الدنيا هو الأصلح لنظام المجتمع، وأن ميزان الاصطفاء للنّبوة إنما يعتمد على القيم الأدبية والروحية والأخلاقية، وألا قيمة للدنيا وأمتعتها وزخارفها وثرواتها، ولولا خوف انتشار الكفر وشموله بين العالم، لجعل الله للكفار ثروات طائلة، وبيوتا ذات سقف وأبواب وسرر ومصاعد من فضة، وزينة في كل شيء، وإنما نعيم الآخرة للمتّقين الذين يتّقون الكفر والمعاصي. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن إبراهيم الخليل إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأشرف آباء العرب عليه السلام بأنه تبرأ من دين الآباء بالحجة والدليل، فقال: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي واذكر أيها الرّسول لقومك قريش المعتمدين على تقليد الآباء والأجداد في عبادة الأصنام: حين تبرأ إبراهيم عليه السلام مما يعبد أبوه آزر، وقومه من الأصنام، إلا من عبادة خالقه وخالق الناس جميعا، والذي قال بأنه سيرشدني لدينه، كما أرشدني في الماضي، ويثبتني على الحق. وقوله: إِلَّا الَّذِي

فَطَرَنِي إما استثناء متّصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم، وإما منقطع، أي لكن الذي فطرني فهو يهديني، قال ذلك ثقة بالله، وتنبيها لقومه أن الهداية من ربّه. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، فلا يزال فيهم- ولله الحمد- من يوحّد الله سبحانه، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة، فإنهم إذا ذكروه، تبعوه في ملّته الحنيفية، وتأثّروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة: «لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة» . ثمّ ندّد الله تعالى بموقف أهل مكة ووبّخهم على اغترارهم بالنّعمة وطول العمر واستمرار السّلطة والنّفوذ، فقال: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي بل متّعت هؤلاء المشركين من أهل مكة وآبائهم من ذريّة إبراهيم بطول العمر والسّعة في الرّزق، وأنعمت عليهم في كفرهم، فاغتروا بالمهلة، وأكبّوا على الشّهوات وطاعة الشّيطان، وشغلوا بالتّنعم عن كلمة التّوحيد، إلى أن جاءهم الحق وهو القرآن العظيم، والرّسول المبين الذي أوضح مبدأ التّوحيد بالبراهين الساطعة، وشرع الله وأحكامه القاطعة، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. وزاد في توبيخهم بإعراضهم عن رسالة الحقّ- رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم- فقال: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، قالُوا: هذا سِحْرٌ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ أي حينما جاءهم القرآن والرّسول المؤيّد بالمعجزات دليلا على صدقه، وصفوا ما جاء به بأنه سحر وأباطيل، وليس بوحي من عند الله، وقالوا: إنّا بما أرسل به جاحدون مكابرة

وعنادا وحسدا وبغيا، فضمّوا إلى شركهم وضلالهم تكذيب الحق ورفضه، والاستهزاء به، والتّصريح بالكفر برسالته وإنكار نبوته. ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من الكفر وهو النّوع الرّابع من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة «1» ، فقال: وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي وقال كفار قريش وأمثالهم: هلا أنزل القرآن على أحد رجلين عظيمين من مكة أو الطائف، وهما الوليد بن المغيرة ومسعود بن عروة الثقفي، فكل منهما عظيم المال والجاه، وسيد في قومه. المعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين. وهذا اعتراض منهم على الله الذي أنزل القرآن على رسوله. فأبطل الله تعالى هذه الشّبهة من ثلاثة وجوه: الأول- أَهُمْ «2» يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي إن هؤلاء المشركين تجاوزوا حدودهم وأقدارهم، فأرادوا أن يجعلوا ما لله لأنفسهم، وليس الأمر مردودا إليهم، بل إلى الله عزّ وجلّ، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا وأشرفهم وأطهرهم أصلا. أيجوز لهم أن يقسموا رحمة ربّك وهي النّبوة، فيختاروا لها من يريدون؟ نحن الذين نقسم الأرزاق والحظوظ بين العباد، ونفضل بعضهم على بعض درجات في القوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، والغنى والفقر، لأنا لو سوّينا بينهم في هذه الأحوال لم يتعاونوا فيما بينهم، ولم يتمكنوا

_ (1) الثلاثة المتقدمة: هي جعلهم الملائكة بنات الله، وجعل الملائكة إناثا، وقولهم: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ. (2) الاستفهام هنا للإنكار والتّعجب.

من استخدام بعضهم بعضا، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض، وإلا فسد نظام العالم. وليس المعنى في الاستخدام أو الاستئجار أو الاستعمال على عمل شيء من الذّلّ والمهانة، لأن حقوق العامل مصونة في الإسلام، وعلى صاحب العمل واجبات خلقية ومادية كثيرة توجب عليه التّرفع عن الغبن والظلم والأذى والإساءة، فإن عجزوا عن تغيير نظام الدنيا، فكيف يعترضون على حكمنا بتخصيص النبوة والرّسالة في بعض العباد؟! والمعنى: إنكار أن الرّزق منهم، فكيف تكون النّبوة منهم؟! الوجه تكون النّبوة منهم؟! الوجه الثاني- وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي إن ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة خير مما يجمعون من الأموال وسائر متاع الدنيا، وإذا خصّ الله بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدّين، فهذه الرّحمة خير من أموال الدنيا كلها، لأن عرض الدنيا زائل، ورحمة الله وفضله باق دائم. ثم أبان الله تعالى حقارة الدنيا، فقال: الوجه الثالث- وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً أي ولولا الخوف وكراهة أن يكون الناس كلهم على ملّة الكفر، ميلا إلى الدنيا وزخرفها، فلا يبقى في الأرض مؤمن، لأعطينا الكفار ثروات طائلة، وجعلنا سقف بيوتهم، وسلالمهم ومصاعدهم التي يرتقون ويصعدون عليها، وأبواب البيوت والسّرر التي يتكئون عليها من فضة خالصة، وذهب وزينة ونقوش فائقة، لهوان الدنيا عند الله تعالى. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي ليس كل ذلك إلّا شيئا يتمتع به تمتعا قليلا في الدنيا، لأنها زائلة قصيرة الأجل، والآخرة بما فيها من أنواع النّعيم والجنان هي لمن اتّقى الشّرك والمعاصي، وآمن

فقه الحياة أو الأحكام:

بالله وحده، وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى، ونعيمها الدائم الذي لا يزول، وهي لهم خاصة، لا يشاركهم فيها أحد غيرهم. أخرج التّرمذي، وابن ماجه والبغوي والطّبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» ، وفي رواية: «لو كانت الدنيا..» ، وفي رواية الطبراني «أنه لما آلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم من نسائه، جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرآه على رمال حصير، قد أثّر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يا رسول الله، هذا كسرى وقيصر، هما فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متكئا، فجلس وقال: أو في شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- لقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من عبادة الأصنام، وخرج على المألوف الفاسد بالحجة والدليل. 2- إن ترك التّقليد في العقيدة والرّجوع إلى متابعة الدّليل واجب متعيّن على كلّ إنسان في أمر الدّين، وكذلك ترك التّقليد، واتّباع الدّليل هو الأولى في شؤون الدنيا أيضا، ليكون المرء على بيّنة من أمره، إلا فيما تتطلبه ظروف القيادة الحربية ونحوها للحفاظ على الأسرار، فيجب تنفيذ أمر القائد وطاعته، وإن لم يعرف الدّليل.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 127.

3- جعل إبراهيم عليه السلام كلمة التّوحيد ومقالته السابقة: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ باقية في عقبه، وهم ذريته، ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة من عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب: من يأتي بعده. 4- قال ابن العربي: كان لإبراهيم في الأعقاب دعوتان مجابتان: إحداهما- في قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة 2/ 124] ، فقد قال له: نعم، إلا من ظلم منهم، فلا عهد له. ثانيهما- قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم 14/ 35] . وقيل: بدل الأولى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 26/ 84] ، فكلّ أمّة تعظّمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو في نوح «1» . 5- وقال ابن العربي أيضا: جرى ذكر العقب هاهنا موصولا في المعنى بالحقب، أي متّصلا مستمرا على ممرّ السنين، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى» أو التّحبيس، قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أبو داود والنسائي، عن جابر: «أيّما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» «3» ، أي إن الهبات والأوقاف تشمل الدرجة الأولى من الأولاد ذكورا وإناثا، وولد الذّكور دون الإناث لغة وشرعا في الدرجة الثانية وما يليها، وهذا مذهب المالكية.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1666 (2) العمرى: تمليك الشيء مدة العمر. (3) أحكام القرآن، المرجع والمكان السابق.

وقال جماعة كابن عبد البرّ وغيره: إن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس (الأوقاف الذّرية أو الأهلية) . 6- عجبا لقريش وأمثالها متّعهم الله وآباءهم بوافر النّعم في الدنيا، ولما جاء الحقّ وهو القرآن المشتمل على التوحيد والإسلام الذي هو أصل دين إبراهيم، وكلمته الباقية في عقبه، وجاءهم الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، كفروا به وقالوا: إنه سحر لا وحي. 7- وقالوا أيضا: هلا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من إحدى القريتين: مكة والطائف، إما الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل من مكة، وإما أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، ظانين أن النبوة لصاحب المنصب العالي والرجل الشريف وهو كثير المال، رفيع الجاه. وفاتهم أن معيار الاصطفاء للنّبوة إنما هو القيم الرّوحية والأدبية والنّفسية. وفاتهم أيضا أنهم يتدخلون في ولاية الله وسلطانه ومشيئته، فيضعون النّبوة حيث شاؤوا، وهذا افتئات على سلطان الله، فإن مرسل الرّسل هو الذي يختارهم، وفاتهم كذلك أن رحمة الله وفضله ونعمته في الآخرة وهي الجنة، ونعمته في الدنيا وهي النبوة أفضل مما يجمعون من الدنيا. 8- إن الله سبحانه هو لا غيره الذي يقسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، بمقتضى حكمته ومشيئته، فيفقر قوما ويغني آخرين، فإذا لم يكن أمر الدنيا لأحد من العباد، فكيف يفوّض أمر النّبوة إليهم؟! 9- وإن الله تعالى هو الذي يفاضل بين عباده ويفاوت بينهم في مقومات الحياة وقيمها من القوة والضعف، والعلم والجهل، والحذاقة والبلاهة، والشهرة والخمول، لأن تحقيق المساواة في هذه الأمور يؤدي إلى الإخلال بنظام العالم،

ويفسد المصالح، ويعطّل المكاسب، فيعجز الواحد من تسخير غيره لخدمة أو عمل، مقابل أجر عادل. 10- ليس التّفوق المادي في الدنيا دليلا على صلاح أصحابه، إذ لا قيمة للدنيا وثرواتها في ميزان الله، ولولا كراهة أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطاهم الله ما وصف من زخارف الدنيا، لهوانها عند الله عزّ وجلّ. والخلاصة: ردّ الله تعالى على اقتراح العرب كون الرّسالة لأحد رجلين بوجوه ثلاثة: أولها- قوله على سبيل الإنكار: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النّبوة فيضعوها حيث شاؤوا، وثانيها- قوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ لأن الدنيا فانية، ودين الله باق لا يزول. وثالثها- قوله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً كما تقدّم تفسيرها «1» . 11- استدلّ ابن العربي بقوله تعالى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، على أن السّقف لصاحب السّفل، ولا حقّ فيه لصاحب العلو، لأن الله تعالى جعل السّقوف للبيوت، كما جعل الأبواب لها، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى. أما السّفل فاختلفوا فيه، فمنهم من قال: هو له، ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء، والرّاجح ما بيّنه حديث الإسرائيلي الصحيح: أنّ رجلا باع من رجل دارا، فبناها فوجد فيها جرّة من ذهب، فجاء بها إلى البائع، فقال: إنما اشتريت الدّار دون الجرّة، وقال البائع: إنما بعت الدّار بما فيها، وكلاهما تدافعها، فقضى بينهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يزوّج أحدهما ولده من بنت الآخر، ويكون المال بينهما. قال ابن العربي وتبعه القرطبي: والصّحيح أن العلو والسّفل له، إلا أن

_ (1) غرائب القرآن للنّيسابوري: 25/ 49.

يخرج عنهما بالبيع، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين، فله منه ما ينتفع به، وباقية للمبتاع منه «1» . ثم استطرد القرطبي في بيان بعض أحكام العلو والسّفل، نجتزئ منها ما يلي «2» : أ- ليس لصاحب السّفل أن يهدم إلا لضرورة، ويكون هدمه أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو. ب- وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضرّ بصاحب السّفل. ج- ولو انكسرت خشبة من سقف العلو أدخل مكانها خشبة ليست أثقل منها، منعا من ضرر صاحب السّفل. د- وباب الدار على صاحب السّفل. هـ- ولو انهدم السّفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السّفل، فإن أبى صاحب السّفل من البناء قيل له: بع ممن يبني. وإن إصلاح السّفل على صاحبه. ز- ليس لصاحب السّفل أن يحدث ما يضرّ بصاحب العلو، فإن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب السّفل، ولصاحب العلو منعه من الضّرر، لحديث السفينة الذي أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما عن النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا- اقترعوا- على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1670، تفسير القرطبي: 16/ 85- 86 (2) تفسير القرطبي: 16/ 86.

حال المعرض عن ذكر الله وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته [سورة الزخرف (43) الآيات 36 إلى 45] :

من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» . والعبارة الأخيرة تدلّ على جواز منع الضّرر، وفي الحديث دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها. 12- إن التّمتع بالدنيا قليل وعمرها قصير، والآخرة أي الجنة لمن اتّقى وخاف. أخرج التّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر» . وقد تقدّم حديث الترمذي عن سهل بن سعد: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . حال المعرض عن ذكر الله وتثبيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم على دعوته [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

الإعراب:

الإعراب: وَمَنْ يَعْشُ ... نُقَيِّضْ مَنْ: شرطية، وما بعدها فعل الشرط وجوابه. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ... جمع الضميرين مراعاة لمعنى مَنْ إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. وأما ضمير لَهُ فروعي فيه لفظ مَنْ وهكذا أعاد الضمير أولا على اللفظ، ثم على المعنى. وضمير لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على جنس الشيطان وبما أن لكل عاش شيطانا قرينا، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية: ضمير وَإِنَّهُمْ عائد على الشيطان، وضمير لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على الكفار، قال أبو حيان: والأولى ما ذكر أولا لتناسق الضمائر في وَإِنَّهُمْ وفي لَيَصُدُّونَهُمْ وفي وَيَحْسَبُونَ لمدلول واحد كأن الكلام: وفي وَإِنَّهُمْ وفي لَيَصُدُّونَهُمْ وفي وَيَحْسَبُونَ لمدلول واحد كأن الكلام: وإن العشاة ليصدونهم الشياطين عن سبيل الهدى والفوز. وَيَحْسَبُونَ أي الكفار. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ... إِذْ بدل من اليوم. فَإِمَّا فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة المؤكدة بمنزلة لام القسم في طلب النون المؤكدة. البلاغة: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ استعارة تمثيلية، شبه الكفار بالصم والعمي. والهمزة: إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد استغراقهم في الضلال. أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا جناس الاشتقاق، لتغير الشكل وبعض الحروف بينهما. المفردات اللغوية: يَعْشُ يتغافل ويتعام ويعرض، لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات، وقرئ «يعش» بالفتح، وقرئ «يعشو» على أن مَنْ موصولة يقال: عشي يعشى كرضي يرضى وعرج يعرج: إذا كان في بصره آفة ذِكْرِ الرَّحْمنِ القرآن. نُقَيِّضْ نهيئ ونسبب ونضم إليه شيطانا. قَرِينٌ رفيق ملازم لا يفارقه، يوسوسه ويغويه دائما. وَإِنَّهُمْ أي الشياطين. لَيَصُدُّونَهُمْ أي العاشين. عَنِ السَّبِيلِ طريق الهدى. وَيَحْسَبُونَ أي الكفار. جاءَنا العاشي، بقرينه يوم القيامة. يا لَيْتَ يا

سبب النزول:

للتنبيه بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد ما بين المشرق والمغرب، مغلّبا المشرق على المغرب. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت، والْقَرِينُ الصاحب والصديق. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي العاشين تمنيكم وندمكم في القيامة: إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ أي تبين لكم ظلمكم بالإشراك. أَنَّكُمْ أي لأنكم مع قرنائكم، بتقدير لام العلة، وقرئ «إنكم» بالكسر فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تشتركون مع شياطينكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه. الصُّمَّ جمع أصم وهو الذي في أذنه صمم. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في خطإ بيّن، فهم لا يؤمنون، وقوله: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ عطف على العمي، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى. نَذْهَبَنَّ بِكَ أي فإن قبضناك وأمتناك قبل تعذيبهم. مُنْتَقِمُونَ بعدك في الدنيا أو الآخرة. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي نبصرنك ما وعدناهم به من العذاب. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قادرون على عذابهم. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ أي تمسك بالقرآن وقرئ «أوحى» أي الله تعالى. عَلى صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ لا عوج له. لَذِكْرٌ لشرف عظيم به تذكر لَكَ وَلِقَوْمِكَ لنزوله بلغتهم. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة عن القيام بحقه، بأداء التكاليف فيه من أمر ونهي. وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي واسأل سلالتهم وعلماء دينهم. مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ غيره. آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان، وهل جاءت ملة من الملل به؟ والمراد الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، والدلالة على أن الأمر به قديم غير جديد. سبب النزول: نزول الآية (36) : وَمَنْ يَعْشُ: أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشا قالت: قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه، وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى، قال أبو بكر: وما اللّات؟ قال: ربنا، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال

سبب نزول الآية (41) :

طلحة: قم يا أبا بكر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً الآية. سبب نزول الآية (41) : أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ..: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعب نفسه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غاليا، فنزلت الآية: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ.. الآية. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن المال متاع الدنيا، وهو زائل، نبّه إلى آفات المال، لأن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله، وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدون الناس عن طريق الهداية في الدنيا، أما في الآخرة فيتبرأ الكافر من قرينه الشيطان. وهما في العذاب مشتركان، والاشتراك في العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا. وبعد أن وصف الله تعالى المعرضين عن ذكره بالعشا، وصفهم أيضا بالصمم والعمى، بسبب كونهم في ضلال مبين، ولما بيّن تعالى أن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا تؤثر في قلوب هؤلاء، تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله منهم، إما حال حياته أو بعد وفاته، ثم أمره ربه أن يتمسك بما أمره به، فإنه على صراط مستقيم نافع، هو منهج القرآن الذي فيه شرف عظيم له ولقومه، وسوف يسألون عن القيام بحقه. ثم أبان تعالى أن إنكار عبادة الأصنام في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ليس خاصا به، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مجمعين على إنكاره. التفسير والبيان: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي ومن

يتعام ويتغافل ويعرض عن النظر في القرآن والعمل به، نهيئ له شيطانا يوسوس له ويغويه، فهو له ملازم لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره، ويطيعه في كل ما يزين له به. والعشا في العين: ضعف البصر، والمراد هنا عشا البصيرة. والمراد بالآية: إن من يعرف كون القرآن حقا ولكنه يتجاهل ذلك فهو في ضلال، ومادة كل آفة وبلية الركون إلى الدنيا وأهلها، فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر، ثم يصير بالتدريج كالعشى، ثم كالعمى. والآية مثل قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [فصلت 41/ 25] . وجاء في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي وإن الشياطين الذين يقيّضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن، ليمنعونهم بالوسواس عن سبيل الحق والرشاد، ويحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم مهتدون إلى الحق والصواب. ثم يتبرأ الكافر في الآخرة من قرينة الشيطان، فقال تعالى: حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي حتى إذا وافانا الكافر يوم القيامة، يتبرم بالشيطان الذي وكل به، ويتبرأ منه، ويتمنى الكافر أن بينه وبين الشيطان المقارن له من البعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس الصاحب الملازم للإنسان شيطانه. وقرأ بعضهم: «حتى إذا جاءنا» أي القرين والمقارن. ويقال لهم يوم القيامة توبيخا كما حكى تعالى:

وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي ويقال لهم في الآخرة توبيخا وتأنيبا وتيئيسا: لن ينفعكم في هذا إذ تبين أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا اشتراككم في العذاب، فلا يخفف عن كل منكما شيء منه، بخلاف حال الدنيا، فإن المصيبة فيها إذا عمت هانت. وهذا يدل على أن حصول الشركة في العذاب لا يفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، لأن اشتغال كل واحد بنفسه في شدة العذاب، يذهله عن حال الآخر، فلا تفيد الشركة الخفة، ولا يتمكن كل واحد من مواساة الآخر في كربه وحزنه وألمه، فلكل قدر مشترك من العذاب. ثم بيّن الله تعالى لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم تسلية له، فقال: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي أتستطيع يا محمد إسماع أهل الصمم أو هداية أهل العمى أو إرشاد من مستغرقا في ضلال واضح بيّن. وهذا بعد أن وصفهم تعالى بالعشا، وصفهم بأوصاف ثلاثة هي: الصمم والعمى والضلال البيّن، فهؤلاء الكفار ضعاف البصيرة، بمنزلة الصم الذين لا يسمعون ما جئت به أيها الرسول، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه، وهم مفرطون في الضلالة والكفر والجهالة. وكان التناسب بينهم وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم عكسيا، فهو صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في دعوتهم إلى الإيمان الحق، وهم لا يزدادون إلا غيا وتعاميا عن بيّنات القرآن ودلائل النبوة، إمعانا في الكفر، وعنادا في الباطل. ثم أعلم الله رسوله بانتقامه منهم، فقال: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي إنهم لا يفلتون من العقاب في العاجل أو الآجل، فإن قبضنا روحك وأمتناك أيها الرسول قبل نزول العذاب بهم، فنحن منتقمون منهم إما في

الدنيا أو في الآخرة، وإن أبصرناك الذي وعدناهم به من العذاب قبل موتك، فنحن قادرون أيضا عليه، ومتى شئنا عذبناهم. وقد أقر الله عينه في حال حياته، فقهرهم يوم بدر، وأصبح المتحكم فيهم، المالك لحصونهم وقلاعهم. والتعبير بالوعد دليل على وقوعه حتما، لأن الله لا يخلف الميعاد. وبعد هذا الوعد بالنصر، أمره الله بشدة التمسك بالقرآن وهديه، فقال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي تمسّك أيها الرسول بالقرآن الموحى به إليك من ربك، فإنك على طريق قويم ومنهج سليم، مؤد إلى السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وإن كذّب به من كذّب، فذاك لا يضيرك. ثم أبان تعالى منزلة القرآن، فقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقريش والعرب عامة، إذ نزل بلغتهم، وسوف تسألون عن هذا القرآن وكيف عملتم به واستجبتم له وما يلزمهم من القيام بحقه. ونظير الآية قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء 21/ 10] أي شرفكم، أخرج البخاري والترمذي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا الأمر في قريش، لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم عن جابر: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» . وهذا التنويه بمنزلة العرب يجعلهم أولى الناس باتباع القرآن والعمل بأحكامه وشرائعه، وإن كانت الرسالة الإسلامية عامة للناس قاطبة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم نبّه اللَّه تعالى إلى أن الدعوة إلى توحيد اللَّه ونبذ الشرك قديم، فقال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي واسأل سلالات الأمم التي أرسلنا فيها الأنبياء وعلماءهم، هل أذن اللَّه بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ والمعنى: جميع الرسل دعوا إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كما قال جل جلاله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] . والمراد بهذا التنبيه على إجماع المرسلين على التوحيد، وعلى أن محمّدا صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به، وهذا يدل على وحدة الدين الحق في أصوله، ووحدة مهمة الأنبياء عليهم السلام. وسبب هذا الأمر أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك، فأمره اللَّه بسؤاله الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير والتأكيد، لا لأنه كان في شك منه. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات ما يلي: 1- إن الإضلال من اللَّه تعالى لا يكون إلا بعد إعراض الناس عن أوامر اللَّه، فمن يتعام ويتغافل عن آيات القرآن وشرائعه وأحكامه، ويعرض عنها إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم، نهيئ شيطانا يغويه، جزاء على كفره، فهو له قرين وصاحب ملازم في الدنيا، يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية، وقرين له في الآخرة في العذاب المشترك بينهما. قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعث الكافر زوّج بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار» .

2- إن مهمة الشياطين خطيرة تستوجب الحذر من وساوسهم وإغواءاتهم، فهم يصدرون الناس عن سبيل الهدى، حتى يخيل للكفار ويجعلهم يظنون أنهم مهتدون. وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون، فيطيعونهم. 3- تتجلى الحقيقة المرّة في الآخرة، حين يتبرأ الكافر من الشيطان، ويتمنى البعد عنه كالبعد بين المشرق والمغرب، ويقول له: فبئس القرين أنت، لأنه يورده النار. قال الفراء: أراد المشرق والمغرب، فغلّب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة (الظهر) والعصر. 4- يقول اللَّه للكافر يوم القيامة توبيخا: لن ينفعكم اليوم إذا أشركتم في الدنيا هذا الكلام، وهو قول الكافر: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي لا تنفع الندامة، فإنكم في العذاب مشتركون. أو لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه، ولا ينفع أهل النار التأسي كما يتأسّى أهل المصائب في الدنيا، فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكّن ذلك من حزنه، فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب. 5- سلّى اللَّه نبيه عن حزنه وأسفه لإعراض قومه عن قبول رسالته، وقال له: ليس لك من الأمر شيء، فلا تستطيع هداية العشيّ الصمّ العمي الضالين، فلا يضيق صدرك إن كفروا. قال القرطبي في قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ..: فيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق اللَّه تعالى، يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء. 6- إن تعذيب المشركين آت عاجلا أم آجلا، سواء في حال حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو بعد وفاته، فاللَّه قادر على كل شيء.

7- رفع اللَّه تعالى من معنويات نبيه إلى القمّة بأمرين: الأول- إعلامه بأنه على صراط مستقيم يوصله إلى اللَّه ورضاه وثوابه. الثاني- إعلاء مجده وشرفه بالقرآن الذي هو شرف له ولقومه من قريش والعرب قاطبة، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم، وسوف تسألون عن الشكر عليه، وعن العمل بتكاليفه. قال المحققون: في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان. وقال القرطبي: والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أو من غيرهم. أخرج الطبري عن ابن عباس قال: أقبل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سريّة أو غزاة، فدعا فاطمة، فقال: «يا فاطمة اشتري نفسك من اللَّه، فإنّي لا أغني عنك من اللَّه شيئا» وقال مثل ذلك لنسوته، ولعترته، ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا قريش بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي، إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة كجمام «1» الصاع، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى» . وأخرج الطبري أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم، أو يكونون شرّا عند اللَّه من الجعلان التي تدفع النّتن بأنفها، كلكم بنو آدم، وآدم من تراب، إن اللَّه أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس مؤمن تقي وفاجر شقي» «2» .

_ (1) الجمام: ما عدا رأس المكيال من الطفاف. (2) تفسير القرطبي: 16/ 64. [.....]

العبرة من قصة موسى عليه السلام وفرعون [سورة الزخرف (43) الآيات 46 إلى 56] :

8- إن دين التوحيد قديم، ونبذ الشرك قديم، فإذا سئلت أمم الرسل عليهم السلام قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل أذن اللَّه بعبادة الأوثان، وهل أمر بعبادة غير اللَّه؟ أجابوا عن السؤالين بالنفي. والسبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنكاره لأصنامهم، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذا الإنكار، ولكنه دين كل الأنبياء ودعوتهم. العبرة من قصة موسى عليه السلام وفرعون [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

الإعراب:

الإعراب: وَهذِهِ الْأَنْهارُ الواو: إما عاطفة على مُلْكُ مِصْرَ وتَجْرِي حال منها، أو واو الحال، وهذِهِ مبتدأ والْأَنْهارُ صفتها، وتَجْرِي خبرها. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ هنا: منقطعة، لأنه لو أراد أم المعادلة لقال: أم تبصرون، لكنه أضرب عن الأول بقوله: أَنَا خَيْرٌ وكأنه قال: أنا خير منه، فلما كان فيه هذا المعنى، لم تكن أَمْ للمعادلة للهمزة. البلاغة: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ الاستفهام للتقرير، لا للإنكار، أي أقروا بما تعلمون من أني ملك مصر. المفردات اللغوية: بِآياتِنا الآيات هي المعجزات. وَمَلَائِهِ أشراف قومه ورعاياهم القبط، والمراد بإيراد القصة هنا الاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد، وتسلية الرسول ومناقضة قول قريش: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ حين جاءهم بآياتنا الدالة على رسالته، فاجؤوه بضحكهم منها واستهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من آيات العذاب كالطوفان والجراد. إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلا وهي أعظم في الإعجاز بحيث يظن أنها أكبر من الآيات الأخرى، وأُخْتِها قرينتها التي قبلها، والمراد وصف الكل بالكبر، كقولك: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، أو إلا وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي أخذ قهر بعذاب كالسنين (الجدب) والطوفان والجراد. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ليرجعوا عن الكفر أو على نحو يرجى رجوعهم. وَقالُوا لموسى لما رأوا العذاب. السَّاحِرُ العالم الماهر، لأن السحر عندهم علم عظيم. بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده إليك أنا إن آمنا كشف العذاب عنا، أو بعهده عندك من النبوة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مؤمنون بشرط أن تدعو لنا، فيكشف عنا العذاب. يَنْكُثُونَ ينقضون العهد الذي عاهدوا به موسى، ويصرون على الكفر. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ افتخارا، إما بنفسه أو بواسطة مناديه، في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمن بعضهم. وَهذِهِ الْأَنْهارُ فروع النيل، وأهمها أربعة:

المناسبة:

نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس، والمشهور الآن فرع دمياط وفرع الرشيد المكونان لدلتا النيل فيما بينهما. مِنْ تَحْتِي تحت قصري وفي جناتي. أَفَلا تُبْصِرُونَ عظمتي. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ منقطعة أي بل أنا مع هذا الملك والسعة أفضل من موسى، أو متصلة بمعنى: أم تبصرون فتعلمون أني خير منه. الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير ليس أهلا للرياسة، مأخوذ من المهانة: وهي القلة. يُبِينُ يفصح عن مراده بكلامه، بسبب لثغته في لسانه بالجمرة التي تناولها في صغره. فَلَوْلا هلا. أُلْقِيَ عَلَيْهِ إن كان صادقا. أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ جمع سوار كأخمرة وخمار، وقرئ «أساورة» جمع الجمع، أي جمع أسورة، وهذا تأثر منه بعادة الملوك، فإنهم كانوا إذا سؤدوه وتوّجوه ألبسوه أسورة ذهب وطوق ذهب. مُقْتَرِنِينَ مقرونين به يعينونه على مخالفه، أو متتابعين يشهدون بصدقه. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ استخف واستصغر عقولهم، فدعاهم إلى الضلال، فأجابوه. فَأَطاعُوهُ فيما يريد من تكذيب موسى. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ هذا تعليل للطاعة. آسَفُونا أغضبونا بالإفراط في العصيان والعناد، والأسف: الحزن والغضب معا، وقد يطلق على أحدهما. فَأَغْرَقْناهُمْ في اليم. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار، جمع سالف، كخدم وخادم، وقرئ «سلفا» جمع سليف كرغف. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ عظة وعبرة لمن يأتي بعدهم. المناسبة: بعد بيان طعن قريش بنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال والجاه، ذكر اللَّه تعالى شبيها لذلك في قصة فرعون حيث قال: إنّي غني كثير المال والجاه. ولما أمر اللَّه نبيه بسؤال أمم المرسلين، ذكر هنا قصة موسى، وبعده عيسى عليهما السلام، للاستدلال بما جاءا به من التوحيد، وإبطال عبادة الأصنام. ثم ذكر شبهة لفرعون وهي أن الملك يلازم النبوة، فطلب من موسى بما جرت العادة لديهم أنهم إذا جعلوا منهم رئيسا لهم سوّروه بسوار من ذهب، وطوّقوه بطوق من ذهب، أو طلب أن تصاحبه الملائكة لدعم موقفه أمام المخالفين.

التفسير والبيان:

وأعقب هذا توضيحا لأثر السلطة والحكم، فإن فرعون استخف عقول قومه، حينما دعاهم إلى تكذيب موسى، فأطاعوه لضلالهم، فانتقم اللَّه منهم أشد الانتقام. التفسير والبيان: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. فَقالَ: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي لقد بعثنا موسى مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية 101] إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وقال لهم: إني مرسل إليكم من اللَّه رب العالمين: الإنس والجن. ومعجزاته: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والسنين. أي نقص الزروع والأنفس، والثمرات، واليد، والعصا، فاستكبروا عن الإيمان بها وكذبوها وسخروا منها، كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فلما أتاهم بتلك الآيات والأدلة على صدقه، إذا فرعون وقومه يضحكون ويسخرون ممن جاءهم بها. وقوله: إِذا هُمْ معناه أنهم فاجؤوا المجيء بها بالضحك عليها والسخرية منها. وهذا تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها، وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وما نري فرعون وملأه من كل حجة دالة على صدق موسى في دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، والدلالة على صحة دعوته إلى التوحيد، مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها، لقوله: أُخْتِها أي مثيلتها وقرينتها في الدلالة على صدق نبوة موسى.

ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، فأخذناهم أخذ قهر بإنزال العذاب عليهم بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، لكي يرجعوا عن كفرهم، ويؤمنوا باللَّه وحده لا شريك له، ويطيعوه فيما أمر ونهى. وكانوا كلما جاءتهم آية يصفونها بالسحر وبأن موسى ساحر، كما قال تعالى: وَقالُوا: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي وقالوا يا أيها الساحر العالم- وكانوا يسمون العلماء سحرة تعظيما لهم- ادع لنا ربك لكشف العذاب عنا بما أخبرتنا به من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، فإننا بعدئذ لمؤمنون بما جئت به. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما كشف عنهم العذاب، نقضوا عهدهم، وعادوا إلى كفرهم، كما جاء في آية أخرى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف 7/ 133- 135] . ثم أخبر اللَّه تعالى عن تمرد فرعون وعتوّه وكفره وعناده، فقال: وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أي لما خاف فرعون ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيهم مفتخرا، أو أمر مناديا ينادي بقوله: أليس لي ملك مصر العظيم، فلا ينازعني فيه أحد، والسلطة المطلقة لي، وأنهار النيل تجري من تحت قصري وبين يدي في جناتي، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، وتستدلون به على أحقيتي بالسلطة وفرض النظام، وتنظروا إلى فقر موسى

وضعفه هو وأتباعه عن مقاومتي؟ ونحو الآية فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النازعات 79/ 23- 25] . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، وَلا يَكادُ يُبِينُ أي بل أنا خير وأفضل بمالي من الملك والسلطة والسعة والجاه من هذا، أي موسى الذي هو ضعيف حقير ممتهن في نفسه، لا عزّ له، ولا يكاد يبين الكلام، لما في لسانه من العقدة. وهذا حكم عليه بما يعلم عنه في الماضي، دون أن يدري أن الله الكريم أزال عقدته، فقال تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي إلى أن قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه 20/ 27- 28 و36] فقد كان أصاب لسانه في حال صغره شيء من اللكنة بسبب الجمرة التي تناولها، فسأل الله عز وجل أن يحل عقدة لسانه، ليفقهوا قوله، فاستجاب الله ذلك. والتعييب بالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد خسّة ونقيصة في صاحبه الذي يعيب، فذلك لا يعاب به ولا يذم عليه. وفرعون، وإن كان يدرك هذا، لكنه أراد التزويج على رعيته الجهلة الأغبياء. ثم استعلى فرعون على موسى بمظاهر الترف والملوك، ظنّا منه أن الرئاسة تلازم النبوة، فقال تعالى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي فهلّا حلّي بأساور الذهب إن كان عظيما، أو هلّا ألقى عليه ربه أساور الذهب إن كان صادقا في نبوته، وهذا يشبه قول كفار قريش عن استحقاق عظيم القريتين النبوة. أو جاء معه الملائكة متتابعين متقاربين إن كان صادقا، يعينونه على مهمته، ويشهدون له بالنبوة، فأوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة

فقه الحياة أو الأحكام:

الجبابرة أو محفوفين بالملائكة، ونظر إلى الشكل الظاهر، ولم يدرك الجوهر المعنوي لحقيقة الرسل. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي فاستهان بعقول قومه ورعيته، ودعاهم إلى الضلالة، فاستجابوا له، وأطاعوه فيما أمرهم به، وكذّبوا موسى، إنهم كانوا خارجين عن طاعة الله تعالى. ثم جاء دور العقاب مما فعلوا، فقال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي فلما أسخطونا وأغضبونا، انتقمنا منهم أشد الانتقام، فأغرقناهم جميعا في البحر، وإنما أهلكوا بالغرق ليناسب ما تفاخروا وتباهوا به وهو قوله: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي. أخرج أحمد والطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، ثم تلا صلّى الله عليه وسلّم: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي فجعلنا فرعون وقومه قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب، وعبرة وعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من القصة ما يأتي: 1- إن هذه القصة تمثل صراع الجبابرة الطغاة أصحاب الثروة والمال مع أهل القيم الإنسانية والدينية الرشيدة ذوي الدخل المتوسط أو الفقراء، تشابهت حالة

فرعون مع موسى، مع حالة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كفار قريش أصحاب النفوذ والثراء. اتفق الأنبياء كلهم على توحيد الإله، فكذب فرعون وقومه موسى عليه السلام، بالرغم من تدعيمه بالمعجزات وهي التسع آيات، فكانت عاقبتهم الإغراق بسبب التكذيب، ونجّى الله موسى وقومه بني إسرائيل، وجعلت العاقبة الحميدة له. وكذلك حصل الأمر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم كذّبه قومه فأهلكهم الله، ونصر رسوله والمؤمنين بدعوته. 2- كانت حيثيات الحكم ومسوغاته على فرعون وقومه هي الضحك والسخرية والاستهزاء من معجزات موسى عليه السلام، كالسنين (نقص الأنفس والزروع) ونقص الثمرات، والطوفان والجراد والقمّل والضفادع، وكانت هذه الآيات عذابا لهم وآيات لموسى. وكانت المعجزات قوية التأثير، فما من آية إلا وهي أعظم من أختها- سابقتها- ومع ذلك لم يؤمنوا بها، فأخذهم الله بالعذاب على تكذيبهم بتلك الآيات. ووصفوا موسى بأنه ساحر لما عاينوا العذاب، تعظيما له على حسب عادتهم في احترام السحرة، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويحتمل أنهم أرادوا به الساحر على الحقيقة على الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا، وطلبوا منه كشف العذاب عنهم بما أخبرهم عن عهد الله إليه أنهم إن آمنوا كشف عنهم، فقالوا: إنا لمهتدون فيما يستقبل. فلما دعا فكشف الله عنهم الكرب والغم، عادوا إلى كفرهم، ونقضوا العهد والميثاق الذي جعلوه على أنفسهم، فلم يؤمنوا. 3- وبعد أن حكى الله معاملة فرعون مع موسى، حكى أيضا معاملة فرعون مع ربه، فلما رأى آيات موسى خاف ميل القوم إليه، فجمع قومه، فقال،

ونادى بمعنى قال، فرفع صوته بينهم: يا قوم، أليس لي ملك مصر، لا ينازعني فيه أحد، وأنهار النيل تجري من تحت قصري، أفلا تبصرون عظمتي وقوتي وضعف موسى؟. ثم صرح بحاله فقال: بل أنا خير من موسى المهين الحقير الضعيف، والذي لا يكاد يفصح كلامه بسبب العقدة التي كانت في لسانه بحسب علمهم السابق عنه، ومن لا بيان له ولا لسان كيف يكون نبيا؟! والرجل الفقير كيف يكون رسولا من عند الله إلى الملك الكبير الغني؟! ثم تعاظم فرعون وتغطرس واعتز بالثروة والملك والمال، فقال: هلا ألقي عليه أساور من ذهب، جريا على عادة الوقت وزيّ أهل الشرف، أو تأيد بجماعة من الملائكة يمشون معا متتابعين مقترنين إن كان صادقا يعاونونه على من خالفه؟ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه، حتى يتعزّز بهم ويستعملهم في أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في المظاهر، ولم يعلم أن رسول الله إنما أيّدوا بالجنود السماوية، وكل إنسان عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء، كان أبلغ في التأييد من أن يكون له أسورة ذهب أو ملائكة أعوان وأدلة على صدقه. 4- ثم حكى الله علاقة فرعون بقومه، فإنه استخف عقولهم واستجهلهم فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، إنهم كانوا فسقة خارجين عن طاعة الله تعالى. 5- لما تجاوز فرعون وقومه الحدود القصوى، وأسخطوا الله وأغضبوه، عاجلهم بالانتقام الشديد، وأغرقهم الله في أليم.

العبرة من قصة عيسى عليه السلام [سورة الزخرف (43) الآيات 57 إلى 66] :

والفرق بين السخط والغضب: أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام، ولما كان ذكر الأسف والانتقام في حق الله محالا، أوّل المفسرون ذلك، فجعلوا الغضب في حق الله إرادة العقاب، والانتقام إرادة العقاب لجرم سابق. 6- جعل الله قوم فرعون قدوة لمن عمل عملهم من الكفار، وعبرة وعظة لهم ولمن يأتي بعدهم من الكافرين. والخلاصة: إن المقصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين: أحدهما- أن الكفار والجهال يحتجون دائما على الأنبياء بشبهة الفقر والضعف، وهذا هو سر النبوة والقوة، فلا يلتفت لما يقولون. الثاني- أن فرعون في أعز حالاته في الدنيا صار مقهورا، فيكون الأمر في حق أعداء رسول الله هكذا إلى يوم القيامة «1» . العبرة من قصة عيسى عليه السلام [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 217.

الإعراب:

الإعراب: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَرْيَمَ: ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والعجمة، أو للتعريف والتأنيث. أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أَمْ هنا متصلة، لأنها معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى «أي» وتقديره: أيهما خير؟ كقولك: أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً.. من: إما بمعنى البدل، أي لو نشاء لجعلنا بدلا منكم، أو زائدة، أي لجعلناكم. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بدل من الساعة، والمعنى: هل ينظرون إلا إتيان الساعة؟ المفردات اللغوية: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا جعل مثلا، أي حجة وبرهانا، حين نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء 21/ 98] فقال المشركون- على لسان ابن الزّبعرى أو غيره-: رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى، لأنه عبد من دون الله إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أي إذا المشركون في قريش من المثل يضحكون ويصيحون ويضجون فرحا بما سمعوا. وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي قال المشركون: هل آلهتنا الأصنام خير عندك أم عيسى، فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه، أو هل آلهتنا الملائكة خير أم عيسى؟ فإذا جاز أن يعبد، ويكون ابن الله، كانت آلهتنا الملائكة أولى بذلك ما ضَرَبُوهُ المثل إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل، لعلمهم أن ما لغير العاقل، فلا يتناول عيسى عليه السلام بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شديد والخصومة معتاد واللجاج.

سبب النزول نزول الآية (57) :

إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي ما عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي جعلناه بإيجاده من غير أب كالمثل السائر في الغرابة، يستدل به على قدرة الله تعالى على ما يشاء لَجَعَلْنا مِنْكُمْ بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بأن نهلككم ونخلفكم بالملائكة في الأرض. والمعنى: أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة، فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا، ويحتمل خلقها إبداعا، فمن أين لكم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى؟ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي وإن عيسى أو نزوله لدليل تعلم الساعة بنزوله فَلا تَمْتَرُنَّ بِها لا تشكن فيها، حذف منها نون الرفع للجزم، وواو الضمير لالتقاء الساكنين وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ يصرفكم عن دين الله وَاتَّبِعُونِ واتبعوا شرعي وهداي القائم على التوحيد هذا الذي آمركم به صِراطٌ طريق مُسْتَقِيمٌ يوقم وَلا يَصُدَّنَّكُمُ يمنعنكم عن المتابعة ويصرفكم عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة ثابت عليها. بِالْبَيِّناتِ المعجزات أو بآيات الإنجيل بِالْحِكْمَةِ بالإنجيل أو بالشريعة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمر الدين لا من أمر الدنيا، فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أنس وعائشة: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» . وَأَطِيعُونِ فيما أبلغكم عنه إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة لمجموع الأمرين، وهو تتمة كلام عيسى عليه السلام، أو استئناف من الله يدل على مقتضي الطاعة في ذلك. الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم في عيسى: أهو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة فَوَيْلٌ كلمة عذاب أو واد في جهنم لِلَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بما قالوه في عيسى من المتحزبين هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ الضمير لقريش أو للذين ظلموا أَنْ تَأْتِيَهُمْ أي هل ينظرون إلا إتيان الساعة بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئها لاشتغالهم بأمور الدنيا. سبب النزول: نزول الآية (57) : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا: أخرج أحمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله،

التفسير والبيان:

وفيه خير، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا صالحا، وقد عبد من دون الله؟ فأنزل الله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الآية» . وقد تقدم في آخر سورة الأنبياء عند قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أن عبد الله بن الزّبعري السّهمي قال: خصمت وربّ هذه البنية، يعني الكعبة، ألست- الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم- تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون عيسى عليه السلام، وهذه اليهود يعبدون عزيرا؟ قال: فصاح أهل مكة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى - الملائكة وعزير وعيسى عليهم السلام- أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. التفسير والبيان: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ هذا لون آخر من تعنت قريش في كفرهم وعنادهم وجدلهم بالباطل ونوع خامس من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة «1» ، والمعنى: ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا في مجادلته مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء 21/ 98] إذا قومك قريش منه يضجون ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب. أو لم يدروا أن ما في قوله وَما تَعْبُدُونَ لغير العاقل، وأن المقصود الأصنام والأوثان، ولا تتناول الآية عيسى والعزير والملائكة، فهؤلاء كلهم عباد لله موحدون، قال عيسى في وصية قومه: الربّ إلهنا إله واحد.

_ (1) الأربعة السابقة: هي (1) أنهم جعلوا لله من عباده جزءا (2) جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (3) قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا الأصنام (4) قولهم: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.

وَقالُوا: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي وقال كفار قريش مجادلين بالباطل: آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإن كان كل من عبد من غير الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك، فهم قوم شديد والخصومة، كثير واللّدد والجدل. أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن جرير عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» . ثم أبان الله تعالى أن عيسى عبد من عبيد الله، فقال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي ما عيسى ابن مريم إلا عبد من عبيدنا أكرمناه وأنعمنا عليه بالنبوة والرسالة، وجعلنا آية وعبرة لبني إسرائيل، وبرهانا وحجة على قدرتنا على من نشاء، فإنا خلقناه من غير أب، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص وكل مريض بإذن الله، وخلقه أسهل من خلق آدم من غير أب ولا أم، قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] . والله قادر على كل شيء، ومن مظاهر قدرته: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي ولو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يعمرونها يخلفونكم فيها. قال بعض النحويين: من: تكون للبدل، أي لجعلنا بدلكم ملائكة، مثل قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة 9/ 38] أي بدل الآخرة. والمراد بالآية التهديد والتخويف وبيان عجائب قدرة الله تعالى. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، فَلا تَمْتَرُنَّ بِها، وَاتَّبِعُونِ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي

وإن نزول المسيح وخروجه أمارة ودليل على وقوع الساعة، لكونه من أشراطها- علاماتها- لأن الله سبحانه ينزّله من السماء قبيل الساعة، كما أن خروج الدجال قبله من أمارات الساعة، فلا تشكوا في وقوعها ولا تكذبوا بها فإنها كائنة لا محالة، قبل من أمارات الساعة، فلا تشكوا في وقوعها ولا تكذبوا فإنها كائنة لا محالة، واتبعوا هداي فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وهذا المأمور به المدعو إليه طريق قويم موصل إلى النجاة والسعادة. قال ابن كثير: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مسقطا «1» . وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ولا يصرفنكم الشيطان عن اتباع الحق بوساوسه التي يلقيها في نفوسكم، إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة من عهد أبيكم آدم عليه السلام. وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي لما جاء عيسى بالمعجزات والآيات الدالة على صدقه، وبالشرائع في الإنجيل قال لبني إسرائيل: جئتكم بالشرائع الصالحة التي ترغب في الجميل وتكف عن القبيح، وبأصول الدين العامة، من توحيد الله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، وجئتكم أيضا لأوضّح لكم بعض ما تختلفون فيه من أحكام التوراة، فاتقوا المعاصي، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وشرائعه وتكاليفه. ورأس الأمر: التوحيد والعبادة، فقال مبينا ما أمرهم أن يطيعوه فيه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي إن الله عز وجل هو ربي وربكم وإلهي وإلهكم، فأخلصوا العبادة له، وعبادة الله وحده، فإن العمل بشرائعه هو الطريق القويم والمنهج الصحيح السليم.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 132.

فقه الحياة أو الأحكام:

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي فاختلفت الفرق المتحزبة من اليهود والنصارى الذين بعث إليهم عيسى، في شأنه أهو الله أم ابن الله أم ثالث ثلاثة؟ وصاروا فرقا وأحزابا، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله، وهو الحق، ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول: إنه الله، وقد استقر أمر طوائف النصارى، الكاثوليك والأرثوذكس على أنه هو الرب والإله، وكتبوا على الصفحة الأولى من الإنجيل: «هذا كتاب ربّنا وإلهنا يسوع المسيح» . فالويل ثم الويل والعذاب الشديد للذين ظلموا من هؤلاء المختلفين في طبيعة المسيح، أهي بشرية أم ناسوتية إلهية؟ وهم الذين أشركوا بالله، ولم يعملوا بشرائعه، إنه عذاب مؤلم شديد دائم في يوم القيامة. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل إلا مجيء القيامة فجأة، وهم لا يشعرون أو لا يعلمون بمجيئها لانشغالهم بشؤون الدنيا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ذكر الله تعالى أنواعا خمسة من كفريات المشركين في هذه السورة: أولها- قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً. ثانيها- قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً. ثالثها- قوله: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ. رابعها- قوله: وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ. عَظِيمٍ.

خامسها- قوله هنا: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. 2- يتعلق المشركون عادة بشبه واهية، فتراهم يسلكون مسلك الغوغائية، فيضجون ويصيحون إذا وجدوا شبهة يمكن التعلق بها في الظاهر، فلو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها، لأنه تعالى قال: وَما تَعْبُدُونَ ولم يقل: ومن تعبدون، وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة، وإن كانوا معبودين. 3- يعتمد المشركون على الجدل السوفسطائي الذي يفقد الموضوعية والهدف، فهو جدل بالباطل، لذا قالوا: آلهتنا خير أم عيسى؟ وما ضربوا هذا المثل للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بقصد إرادة الجدل غير الهادف، الذي أريد به الغلبة في الكلام، لا طلب الفرق بين الحق والباطل. 4- تمسك القائلون بذم الجدل بهذه الآية: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. والحق التفرقة بين نوعين من الجدل: الجدل لتقرير الحق، وهذا محمود، والجدل لتقرير الباطل، وهذا مذموم، قال تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر 40/ 4] . 5- إن جميع الأنبياء والرسل صرحوا لأقوامهم أنهم بشر عبيد لله تعالى، فلا يصح رفع أحد عن المنزلة البشرية كسائر الناس، وعلى هذا فإن عيسى عليه السلام ذو طبيعة بشرية، وليست إلهية كما يزعم النصارى، وما هو إلا عبد كسائر عبيد الله أنعم الله عليه بالنبوة، وجعل خلقه من غير أب آية، وعبرة لبني إسرائيل والنصارى، يستدل بها على قدرة الله تعالى، وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام كلها بإذن الله، ولم يجعل هذا لغيره في زمانه، وكان بنو

إسرائيل يومئذ أحبّ الخلق إلى الله عز وجل، لإيمانهم بالله وتوحيدهم إياه، فلما كفروا هانوا وغضب الله عليهم. 6- الله تعالى قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يجعل بدل الإنس ملائكة يكونون خلفاء عنهم في الأرض، يعمرونها ويشيدون حضارتها، ويتعاقبون بعضهم إثر بعض في تولي شؤونها كلها. 7- إن خروج عيسى عليه السلام ونزوله من السماء آخر الزمان من أعلام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. ورد في صحيح مسلم: «فبينما هو- يعني المسيح الدجال- إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقيّ دمشق بين مهرودتين «1» ، واضعا كفّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه، حتى يدركه بباب لدّ «2» ، فيقتله..» . وثبت في صحيح مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لينزلنّ عيسى ابن مريم حكما عادلا، فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنزير، وليضعنّ الجزية، ولتتركنّ القلاص «3» ، فلا يسعى عليها، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد» . 8- لمّا جاء عيسى عليه السلام بالحكمة وهي أصول الدين كمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وبعض الذي يختلفون فيه وهو فروع الدين، أمر قومه بني إسرائيل أن يتقوا الشرك ولا يعبدوا إلا الله وحده، وأن يطيعوه فيما يدعوهم

_ (1) أي شقتين أو حلتين. (2) اللّد: بلد معروف قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين. (3) القلاص: جمع القلص، والقلص جمع قلوص: وهي الناقة الشابة من الإبل.

ألوان نعيم المتقين أهل الجنة [سورة الزخرف (43) الآيات 67 إلى 73] :

إليه من التوحيد، وأعلن أن الله ربه وربهم، وأمرهم بإخلاص العبادة لله، والتوحيد والعبادة صراط مستقيم، وما سواه معوّج لا يؤدي إلى الحق. وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام، فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله؟ 9- اختلفت أحزاب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو الفرق المتحزبة بعد عيسى من النصارى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية، اختلفوا في عيسى، فقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت اليعاقبة: هو الله، وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله، فويل للذين كفروا وأشركوا عذاب يوم مؤلم وهو يوم القيامة. 10- لا ينتظر الأحزاب إلا مجيء القيامة فجأة، وهم لا يفطنون بمجيئها، ولا يشعرون بحدوثها. وفائدة قوله: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بعد قوله: بَغْتَةً بيان أنهم لا يعرفون وجودها بسبب من الأسباب التي يشاهدونها. ألوان نعيم المتقين أهل الجنة [سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)

الإعراب:

الإعراب: الَّذِينَ آمَنُوا صفة ل عِبادِ. وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من واو الَّذِينَ آمَنُوا. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ أَنْتُمْ: مبتدأ، وخبره: تُحْبَرُونَ. تِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر. البلاغة: بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ بعد الكلمة الأخيرة ما يسمى بحذف الإيجاز، أي أكواب من ذهب، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عام بعد خاص هو قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ. المفردات اللغوية: الْأَخِلَّاءُ الأحباء في الدنيا، جمع خليل: وهو الصاحب والصديق يَوْمَئِذٍ يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي يتعادون يومئذ، لأن مودتهم في الدنيا كانت قائمة على المعصية إِلَّا الْمُتَّقِينَ المتحابين في الله على طاعته فإنهم أصدقاء، لأن الصداقة إذا كانت مبنية على تقوى الله بقيت نافعة إلى الأبد. يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ هذا ما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ الَّذِينَ آمَنُوا صفة أو نعت لكلمة يا عِبادِ. بِآياتِنا القرآن وَكانُوا مُسْلِمِينَ مخلصين، وهذه العبارة آكد من سابقتها، لأنها عبرت عن الإخلاص وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم أو زوجاتكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تسرّون وتكرمون، يقال: حبره الله: سرّه، والحبور يدل على ظهور أثر السرور على الوجه نضارة وحسنا. بِصِحافٍ جمع صحفة: وهي كالقصعة: إناء يوضع فيه الأكل يكفي خمسة. وَأَكْوابٍ جمع كوب: وهو إناء لا عروة له يشرب منه الشارب وَفِيها في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ تلذذا وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ بمشاهدته وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ الخلود ينبئ بمعنى الاستقرار والأمان، فإن كل نعيم زائل إلا نعيم الجنة أُورِثْتُمُوها شبّه جزاء العمل بالميراث، لأنه يخلفه ويأتي بعده مِنْها تَأْكُلُونَ تأكلون بعضها لكثرتها ودوام نوعها، فكل ما يؤكل يخلف بدله.

سبب النزول نزول الآية (67) :

سبب النزول: نزول الآية (67) : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ..: حكى النقّاش أن هذه الآية نزلت في أميّة بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين، وكان عقبة يجالس النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا، ولم تتفل في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صلّى الله عليه وسلّم قتله، فقتله يوم بدر صبرا «1» ، وقتل أمية في المعركة، وفيهم نزلت هذه الآية. المناسبة: بعد التهديد بمجيء القيامة بغتة، ذكر الله تعالى عقيبه بعض أحوال القيامة، ووصف هنا ألوان نعيم أهل الجنة، ثم أتبعه ببيان أوصاف عذاب أهل النار، فذكر هنا تعادي الأخلاء إلا المتقين، واطمئنان المؤمنين في نعيم الجنة في سرور دائم وتمتعهم بأصناف الترف جزاء عملهم الصالح في الدنيا. التفسير والبيان: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي الأصدقاء في الدنيا المتحابون فيها يعادي بعضهم بعضا يوم القيامة إلا المتقين فإن صداقاتهم تستمر في الآخرة، والمعنى: أن كل صداقة وصحابة لغير الله تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] وكما قال إبراهيم عليه السلام لقومه:

_ (1) الصبر: نصب الإنسان للقتل.

إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [العنكبوت 29/ 25] . ثم وصف الله تعالى أنواع نعيم المتقين، فقال: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله: لا تخافوا من العقاب في الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا، فإن نعيم الآخرة هو الباقي، والدنيا فانية. روى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن رجلين تحابا في الله، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، لجمع الله تعالى يوم القيامة بينهما، يقول: هذا الذي أحببته فيّ» . وبعد أن نفى تعالى عنهم المخاوف والأحزان، خصص ذلك بالمؤمنين المسلمين بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ أي إن القول المتقدم ليس لجميع الناس، بل للمؤمنين بالقرآن، المنقادين لأحكام الله، المخلصين له العبادة والطاعة، أي آمنت قلوبهم، وانقادت جوارحهم لشرع الله، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: إذا كان يوم القيامة، فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع، فينادي مناد: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرجوها الناس كلهم، فيتبعها: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس الناس منها غير المؤمنين. ثم بشرهم صراحة بالجنة قائلا: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات تكرمون وتنعمون وتسعدون غاية الإكرام والسعادة.

وألوان النعيم هي: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ، وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ أي لكم في الجنة أنواع مختلفة من المطاعم والمشارب، يقدم فيها الطعام والشراب بآنية الذهب، والكوب: كوز لا عروة له. ولكم فيها من ألوان الأطعمة والأشربة وغيرها من الألبسة والمسموعات كل ما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان، وكل ما يمتع الأعين من المستلذات والمشاهد والمناظر الخلابة، وأسماها النظر إلى وجه الله الكريم من غير حصر ولا كيف، وأنتم فيها ماكثون على الدوام، لا تموتون ولا تخرجون منها، ولا تبغون عنها تحولا. وسبب هذا الجزاء عملهم الصالح، فقال تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن تلك الجنة بما فيها من ألوان النعيم صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث، بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة، فيكون له، فيقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقول: وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فيكون له شكرا» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة، وذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . وبعد ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لإتمام النعمة، فقال تعالى: لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْها تَأْكُلُونَ أي لكم في الجنة غير الطعام

فقه الحياة أو الأحكام:

والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف، تأكلون منها مهما اخترتم وأردتم، كلما قطفتم ثمرة جددت لكم ثمرة أخرى. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت الآيات الأحكام التالية من أحكام يوم القيامة: 1- الأصحاب والأصدقاء في الدنيا يكونون يوم القيامة أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا إلا المتقين، فإنهم أصدقاء متحابون في الدنيا والآخرة. وهذا دليل على أن الخلّة أو الصحبة إذا كانت على المعصية والكفر، صارت عداوة يوم القيامة، أما الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة. 2- عباد الله المؤمنون المطيعون المتقون آمنون في الآخرة من الخوف، متخلصون من الحزن، قد أزال الله عنهم الخوف والحزن كما وعدهم، وأشعرهم بالفرح من نواح أربع هي: أ- خاطبهم تعالى بنفسه من غير واسطة، بقوله: يا عِبادِ ... ب- وصفهم تعالى بالعبودية، وهذا تشريف عظيم، كما شرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، فقال:- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ... [الإسراء 17/ 1] . ج- أزال عنهم الخوف يوم القيامة بالكلية، وهذا من أعظم النعم. د- نفى عنهم الحزن عما فاتهم من نعيم الدنيا الماضية «1» . 3- يكرم الله المؤمنين إكراما على سبيل المبالغة، فيدخلهم الجنة هم

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 225.

وأزواجهم المؤمنات المسلمات في الدنيا، بعد أن أمّنهم من الخوف والحزن. وهذا يعني أن حسابهم يمر على أسهل الوجوه وأحسنها. 4- تقدّم الأطعمة والأشربة لأهل الجنة فيها بآنية الذهب. أما في الدنيا فيحرم استعمال أواني الذهب والفضة، جاء في الصحيحين عن حذيفة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الدّيباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» . وروى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» وهذان الحديثان يقتضيان التحريم، بلا خلاف في ذلك. والنهي عن الأكل والشرب يدل على تحريم الاستعمال والانتفاع بمختلف الأوجه، لأنه نوع من المتاع، فلم يجز، ومن استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه. أما الإناء المضبب بالذهب أو الفضة أو المشتمل على حلقة منهما، كالمرآة ذات الحلقة الفضية، فلا يشرب فيه، ولا ينظر في المرآة. وإذا لم يجز استعمال الإناء لم يجز اقتناؤه، لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطّنبور «1» . 5- في الجنة كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأهلها باقون دائمون فيها، روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه: «أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من خيل؟ قال: إن الله أدخلك الجنة، فلا تشاء أن تحمل على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت.

_ (1) الطنبور: من آلات الطرب، ذو عنق طويل، وستة أوتار من نحاس.

عذاب أهل النار وأسبابه [سورة الزخرف (43) الآيات 74 إلى 80] :

وسأله رجل، فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من إبل؟ قال: إن يدخلك الله الجنة، يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك» . 6- إن الظفر بنعيم الجنة يكون بسبب العمل الصالح في الدنيا. 7- في الجنة ألوان كثيرة من الفواكه المختلفة والثمار الطيبة كلها، رطبها ويابسها، سوى الطعام والشراب، يأكل أهلها منها، دون انقطاع ولا فناء، وهذا تعويض لمن حرم منها في الدنيا، وتكميل للرغبة، وتقوية لدواعي العمل المؤدي إليها. عذاب أهل النار وأسبابه [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 80] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) الإعراب: فِي عَذابِ جَهَنَّمَ، خالِدُونَ خبران ل إِنَّ أو خالِدُونَ خبر، والظرف متعلق به. البلاغة: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ التفات من الخطاب في قوله: لَقَدْ جِئْناكُمْ إلى الغيبة للإشعار بأن الإبرام أسوأ من كراهتهم للحق.

المفردات اللغوية:

أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بين السر والنجوى طباق، أي الخفاء والعلانية. المفردات اللغوية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ذوي الجريمة الكبرى وهم الكفار الذين هم جعلوا في مقابل المؤمنين بالآيات لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفف عنهم، بجعل العذاب متقطعا على فترات مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة، حزينون من شدة اليأس، من الإبلاس وهو الحزن الناشئ من شدة اليأس، ويصاحبه عادة سكوت. مالِكُ خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ليمتنا، أي سل ربك أن يقضي علينا، من قضى عليه إذا أماته ماكِثُونَ مقيمون في العذاب دائما، لا خلاص لكم بموت ولا غيره لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ قال تعالى: لقد جئناكم يا أهل مكة بالحق الثابت على لسان الرسول أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً بل أحكموا تدبير أمر في كيد النبي محمد وتكذيب الحق ورده، ولم يقتصروا على كراهيته فَإِنَّا مُبْرِمُونَ محكمون كيدنا في إهلاكهم ومجازاتهم. سِرَّهُمْ حديث الخفية مع النفس أو الغير في مكان وَنَجْواهُمْ تناجيهم فيما بينهم وهو ما يجهرون به بينهم بَلى نسمع ذلك وَرُسُلُنا والحفظة لَدَيْهِمْ عندهم، ملازمون يَكْتُبُونَ ذلك. سبب النزول: نزول الآية (79) : أَمْ أَبْرَمُوا.. قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر به- بالنبي صلّى الله عليه وسلّم- في دار الندوة. نزول الآية (80) : أَمْ يَحْسَبُونَ..: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم، ترون الله يسمع كلامنا؟ فقال آخر: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فأنزلت: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ... الآية.

المناسبة:

المناسبة: لما ذكر اللَّه تعالى أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا، ليبين فضل المطيع على العاصي، ولما ذكر تعالى الوعد، أردفه بالوعيد، على الترتيب المستمر في القرآن، فبعد أن ذكر ما أعد لأهل الجنة المتقين من ألوان النعيم، ذكر ما أعد لأهل النار الكفار من العذاب الأليم وأسبابه وهي الكفر والمعاصي، مع إحباط مكائدهم ومؤامراتهم لرد الحق المنزل، وإعلامهم بأن اللَّه عليم بذلك، والحفظة الملازمون لهم يكتبون كل ما بدر منهم من قول أو فعل، ليكون عنصر إثبات وحجة عليهم. التفسير والبيان: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي إن الذين ارتكبوا الكفر بالله في دار الدنيا هم معذبون في عذاب النار، عذابا دائما، مخلّدون فيه أبدا. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ لا يخفف عنهم ذلك العذاب فترة أو لحظة ليستريحوا منه، وهم آيسون من النجاة ومن كل خير، حزينون أشد الحزن. وسببه ما اقترفوا في الدنيا كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ، وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أي ما عذبناهم بغير ذنب، ولا زدناهم على ما يستحقونه، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما ارتكبوا من الذنوب، وبما عملوا من الأعمال السيئة، حيث كفروا بالله ربهم، وكذبوا رسله وعصوا ما جاؤوا به، فجوزوا بذلك جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي ونادى المجرمون للتخلص مما هم فيه من العذاب الشديد: يا مالك- وهو خازن النار-

ليمتنا اللَّه أو ليقبض أرواحنا، فيريحنا مما نحن فيه من العذاب، فأجابهم بقوله: إنكم مقيمون في العذاب، لا خروج لكم من النار، ولا محيد لكم عنها. قال المحققون: سمي خازن النار مالكا، لأن الملك علقة، والتعلق من أسباب دخول النار، كما سمي خازن الجنة رضوانا، لأن الرضا بحكم اللَّه سبب كل راحة وسعادة، وصلاح وفلاح. وذلك كقوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36] وقوله سبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى 87/ 11- 13] . وقد روي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، وسألوهم أن يخفف عنهم ربهم يوما واحدا من العذاب، فردت الخزنة عليهم أسوأ رد: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، قالُوا: بَلى، قالُوا فَادْعُوا، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر 40/ 49- 50] . ثم ذكر اللَّه تعالى سبب عقابهم قائلا: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي لقد بينا لكم الحق ووضحناه وفسرناه، وأرسلنا إليكم الرسل، وأنزلنا عليهم الكتب، فدعوكم إلى الصراط المستقيم، فأبيتم وكذبتم وكفرتم وعاندتم، وكان أكثركم أي كلكم كارهين للحق وأهله لا يقبلونه. ولما ذكر اللَّه تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفسادهم في الدنيا، فقال بطريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة لبيان كون تدبيرهم أسوأ من كراهتهم للحق: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي بل دبّر مشركو مكة بإحكام كيدا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار الندوة بمكة ليقتلوه أو يحبسوه أو يطردوه، والمعنى أنهم كلما

فقه الحياة أو الأحكام:

أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم، وإنا محكمون لهم كيدا، أي نبيّت لهم جزاء وعقابا شديدا، كما قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل 27/ 50] وقال سبحانه: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور 52/ 42] وكل من الكيد والمكر يراد به العقاب من اللَّه تعالى، جزاء على تحايلهم في رد الحق بالباطل، ورد وبال ذلك عليهم، وإحباطه، ولهذا قال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي بل أيظنون أننا لا نسمع سرهم وعلانيتهم، سواء ما يضمرونه من شر وسوء وكيد، أو ما يتناجون به فيما بينهم علانية لحبك المؤامرة، والتخطيط لإنفاذها؟ بلى، نحن نسمع ذلك ونعلم به تماما، والملائكة الحفظة أيضا يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل، صغير أو كبير: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] . قال يحيى بن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق. فقه الحياة أو الأحكام: أبانت الآيات ما يأتي: 1- إن جزاء الكفار الذين لم يؤمنوا بوجود اللَّه ووحدانيته، ولم يصدقوا بالرسل والكتب الإلهية هو نار جهنم. وقد وصفهم اللَّه تعالى بصفة المجرمين. 2- وصف تعالى عذاب جهنم بثلاث صفات: هي أولا- الخلود وهو في رأي الرازي: عبارة عن طول المكث، ولا يفيد الدوم، وثانيا- عدم التخفيف من العذاب، وثالثا- الإياس من الرحمة أو السكوت سكوت يأس.

3- لا ظلم للكفار بالعذاب يوم القيامة، ولكنهم هم الظالمون لأنفسهم بالشرك، وإن أعظم جريمة في حق اللَّه هي الشرك به، لذا قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . 4- يطلب الكفار من مالك خازن جهنم أن يتخلصوا من العذاب بالموت الأبدي، وهم بالرغم من أنهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب، طلبوا ذلك إما على سبيل التمني أو على وجه الاستغاثة، وكلا الأمرين تعبير عن الحيرة والقلق والاضطراب ونحوها مما يفعله اليائس المتخبط في أحواله كلها، فأجيبوا بأنهم مقيمون على الدوام في نار جهنم. ويذكر المفسرون أن بين سؤالهم هذا وبين جوابهم ثمانين سنة، أو ألف سنة، أو مائة سنة، أو أربعين سنة، الأول قول عبد اللَّه بن المبارك، والثاني قول الأعمش، والثالث قول ابن عباس، والرابع قول عبد اللَّه بن عمرو «1» . وكل ذلك يحتاج لدليل أوثق وأثبت، ونفوض العلم فيه إلى اللَّه تعالى. 5- إن سبب عقاب الكفار أن اللَّه تعالى جاءهم بالحق فلم يقبلوا، وكلهم نافر من محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن القرآن، شديد البغض لقبول الدين الحق، وهو الإسلام ودين اللَّه تعالى. 6- أحبط اللَّه كل مؤامرات الكفار على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن اللَّه عاصمه من الناس، قال مقاتل- كما تقدم-: نزلت آية أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ في تدبيرهم بالمكر بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار النّدوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل، ليشتركوا في قتله، فتضعف المطالبة بدمه، فنزلت الآية «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 117 (2) المرجع السابق: 16/ 118.

تنزيه الله سبحانه عن الولد والشريك [سورة الزخرف (43) الآيات 81 إلى 89] :

7- يخطئ الناس وبخاصة الكفار حين يظنون أن اللَّه لا يسمع سرهم ونجواهم، والسر: ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم، فإن اللَّه سميع بصير، يسمع ويعلم كل شيء، والملائكة الحفظة يكتبون عليهم تلك الأحوال، وستكون الكتابة في سجل الأعمال يوم القيامة يحاسبون بناء عليها، وحجة وبرهانا لإثبات معاصيهم ومنكراتهم، وهذا تأكيد لعلم اللَّه. تنزيه اللَّه سبحانه عن الولد والشريك [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) الإعراب: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ إِنْ: إما شرطية على سبيل الافتراض، أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده، على أنه لا ولد له، أو على حد قول الرجل لصاحبه: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، والمعنى: لست بكاتب، ولا أنا حاسب. أو أن تكون إِنْ بمعنى «ما» وتقديره: ما كان للرحمن من ولد.

المفردات اللغوية:

فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ كل من الجار والمجرور متعلق بما بعده. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللام في لَئِنْ لام القسم. ولَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع وواو الضمير. وَقِيلِهِ يا رَبِّ بالجر لكلمة قِيلِهِ عطفا على السَّاعَةِ أي وعنده علم الساعة وعلم قيله، أو بالرفع عطفا على عِلْمُ في قوله: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي وعلم قيله، فحذف المضاف، أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: وقيله: يا رب، مسموع، أو بالنصب على المصدر، أي ويقول قيله، أو عطفا على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ في قوله: نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أو عطفا على معنى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي ويعلم الساعة ويعلم قيله، أو عطفا على المفعول المحذوف ل يَكْتُبُونَ في قوله: وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله. وَقُلْ: سَلامٌ سَلامٌ: خبر مبتدأ محذوف، أي أمري سلام، أي مسالمة منكم، وليس من السلام بمعنى التحية. المفردات اللغوية: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي إن وجد له ولد على سبيل الفرض والتقدير، وثبت ذلك بالدليل القاطع، فأنا- أي محمد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أول العابدين أي المعظمين للولد تعظيما للوالد، لكن ثبت ألا ولد له تعالى، فانتفت عبادته وبطلت سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ.. أي تنزيها لله عن كونه ذا ولد وعن كل نقص رَبِّ الْعَرْشِ العرش أو الكرسي: مخلوق عظيم أعظم من السموات والأرض، اللَّه أعلم به عَمَّا يَصِفُونَ يقولون كذبا بنسبة الولد إليه. فَذَرْهُمْ اتركهم يَخُوضُوا يعبثوا في باطلهم، ويبطلوا مع المبطلين وَيَلْعَبُوا في دنياهم يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة الذي يوعدون فيه العذاب إِلهٌ أي أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض الْحَكِيمُ في تدبير خلقه الْعَلِيمُ بمصالحهم، وهما دليلان على استحقاق العبادة، والمعنى أن اللَّه في السماء والأرض بالألوهية والربوبية، وليس الاستقرار. تَبارَكَ تعالى وتعاظم وَما بَيْنَهُما كالهواء وجميع المخلوقات وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للحساب والجزاء يَدْعُونَ يعبدون، وهم الكفار مِنْ دُونِهِ من غير اللَّه الشَّفاعَةَ لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي قال: لا إله إلا اللَّه. والاستثناء إما متصل، لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيرا، أو منقطع، أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة وَهُمْ يَعْلَمُونَ يتيقنون بقلوبهم مثلما شهدت به ألسنتهم، وهم عيسى وعزير والملائكة، فهؤلاء هم الذين يشفعون بإذن اللَّه للمؤمنين يُؤْفَكُونَ يصرفون عن عبادة اللَّه.

المناسبة:

وَقِيلِهِ معطوف على السَّاعَةِ أي وعنده علم الساعة وعلم قيله، أي قيل محمد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والقيل والقال والمقالة والقول بمعنى واحد، أي وقوله فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أعرض عنهم وَقُلْ: سَلامٌ سلام متاركة وهجران، لا سلام تحية فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يطلعون على ما أعد لهم من عذاب، وهذا تهديد وتوبيخ لهم أي للكفار. المناسبة: بعد بيان أحوال المجرمين الكفار في الآخرة، أردفه تعالى ببيان استحالة نسبة الولد والشريك له، وأنه المعبود بحق في السماء والأرض وأنه الحكيم في صنعه العليم بكل شيء، وأن اللَّه سبحانه مالك السموات والأرض ومالك كل شيء في الكون، وأن الآلهة المعبودة من دون اللَّه ليس لها أي نفع كالشفاعة في الآخرة، وأن المشركين متناقضون حين يقرون بأن الخالق للكون هو اللَّه، ثم يعبدون معه غيره، وأن حسابهم آت يوم القيامة الذي لا يعلم بميقاته أحد غير اللَّه تعالى. التفسير والبيان: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي قل يا محمد: إن ثبت ببرهان صحيح لله تعالى ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، وأول من يعظمه كما يعظّم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، ويستحيل أن يكون له ولد فهو محال في ذاته، لأنه يؤدي إلى العجز والحاجة لغيره والنقص، والإله كامل الصفات. والجملة شرطية لفظا ومعنى، مركبة من شرط وجزاء، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل، بقصد المبالغة في نفي الولد، وهو أبلغ وجوه النفي وأقواها، كما تقول لمن يجادلك: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقد به. وهو مثل قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر 39/ 4] وقوله سبحانه: لَوْ

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء 21/ 22] أي لو كان في السموات والأرض أكثر من إله لفسدت. ويؤكد نفي الولد قوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبِّ الْعَرْشِ، عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا، ويفترون عليه تعالى ما لا يليق بجنابه، أو تعالى وتنزه وتقدس خالق الأشياء عن أن يكون له ولد، فهو مالك السموات والأرض، ورب العرش المحيط بالكون، وهو منزه عما يصفه به المشركون كذبا من نسبة الولد إليه. ثم أمر اللَّه تعالى نبيه بالإعراض عن المشركين المعاندين قائلا: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فاتركهم أيها النبي يخوضوا في جهلهم وباطلهم وضلالهم، ويلعبوا ويلهوا في دنياهم، حتى يلقوا يوم القيامة الذي يوعدون به. وفي هذا تهديد ووعيد. ويزيد اللَّه تعالى تأكيده تنزيه نفسه عن الولد قائلا: 1- وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي هو اللَّه المعبود بحق في السماء، والمعبود بحق في الأرض، فلا يستحق العبادة سواه، وهو الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم. والمعنى: كما أنه تعالى ليس له ولد، ليس له مكان يستقر فيه، بل له الألوهية والربوبية في الكون كله، وفي كل مكان، ويستحيل عليه المكان، لأنه يكون محدودا محصورا في جهة معينة، له حجم ونهاية، وتلك صفات الحوادث، واللَّه منزه عنها، فلا يحده زمان ومكان، والحكمة البالغة والعلم الواسع يتنافيان مع إثبات الولد لله. ثم أبطل اللَّه تعالى قول الكفرة: إن الأصنام تنفعهم، فقال:

2- وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تعاظم وتعالى وزادت خيراته وبركاته اللَّه مالك السموات ومالك الأرض، وما بينهما من الفضاء والهواء وأنواع الحيوان والإنسان وخالق كل شيء، وهو المختص بعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة، وإليه مرجع ومصير الخلائق كلها، فيجازي كل إنسان بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذه صفات تتنافى كلها أيضا مع إثبات ولد لله، لأنه تعالى غير محتاج لمعونة أحد من خلقه، كما أن له السلطان المطلق في الحساب والجزاء في عالم القيامة، ولما نفى اللَّه تعالى الولد أتبعه بنفي الشركاء، فقال مؤكدا عدم نفع الأصنام: 3- وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ، إِلَّا «1» مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي ولا تملك- ولا تقدر- الأصنام وكل معبود مدعو من دون اللَّه الشفاعة عند اللَّه كما يزعم عبادها أنهم يشفعون لهم، لكن من آمن وشهد بالحق على بصيرة ويقين بأن اللَّه واحد لا شريك له، فإن شفاعته مقبولة عند اللَّه بإذن اللَّه. فقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ معناه: وهم على علم وبصيرة بما شهدوا به. وهذا دليل على أن إيمان المقلّد وشهادته غير معتبرين. ثم أبان اللَّه تعالى تناقض المشركين قائلا: 4- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي وتا لله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره عمن خلقهم؟ لأجابوا بأنه اللَّه، فهم يعترفون بأنه الخالق للأشياء، جميعها، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا، ولا يقدر على شيء، فكيف يصرفون عن العبادة الحقه عبادة اللَّه إلى عبادة غيره، مع هذا الاعتراف؟ إنهم في هذا التناقض في غاية الجهل والسفاهة وسخافة

_ (1) استثناء منقطع بمعنى لكن، ويجوز أن يكون متصلا كما بينا.

فقه الحياة أو الأحكام:

العقل، وهذا مدعاة للعجب من إشراكهم، والغرض من الآية: التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع، ثم يجعلون له أندادا. ثم أعلن اللَّه تعالى علمه بشكوى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من إعراض قومه قائلا: 5- وَقِيلِهِ: يا رَبِّ، إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي ويعلم اللَّه تعالى علم الساعة وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وشكواه إلى ربه من قومه الذين كذبوه: يا ربّ، إن هؤلاء القوم الذين أرسلتني إليهم قوم لا يؤمنون ولا يصدقون بك ولا برسالتي إليهم، كما أخبر تعالى في آية أخرى: وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان 25/ 30] . ثم أمر اللَّه تعالى نبيه بالإعراض عنهم ونبذهم لإشراكهم قائلا: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ: سَلامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي اصفح عن المشركين صفح المغاضب لا الموافق المجامل، وأعرض عما يقولون وما يرمونك به من السحر والكهانة، واصبر على دعوتهم إلى أن يأتي أمر اللَّه، وقل: أمري معكم مسالمة ومتاركة إلى حين، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد من اللَّه لهم، ووعد ضمني بنصر الإسلام والمسلمين عليهم، وقد أنجز اللَّه وعده، فأيد رسوله والمؤمنين، وهزم أركان الشرك والمشركين، وطهر جزيرة العرب من فلولهم وآثارهم، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا، وانتشر الإسلام- وللَّه الحمد- في المشارق والمغارب. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي: 1- إن إنكار وجود الولد لله تعالى ليس عنادا ولا منازعة، وإنما بدلالة الأدلّة القاطعة على نفي وجود الولد، فالعبرة للدّليل، وقد أثبت الدّليل القاطع

عدم وجود الولد لله تعالى، لأن صفة الألوهية تقتضي الكمال والقدرة والحكمة والعلم، واتّخاذ الولد دليل العجز والنقص. وهذا مأخوذ من معنى الآية الأولى: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ.. أي لو كان له ولد كنت أول من عبده، على افتراض أن له ولدا ثابتا بالبرهان، ولكن لا ينبغي ذلك، ولم يقم دليل عليه. 2- نزّه اللَّه نفسه ربّ السموات والأرض عن كلّ ما يقتضي الحدوث، وأمر النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتّنزيه عما يقوله المشركون من الكذب. 3- أمر اللَّه نبيّه أيضا أن يترك المشركين يخوضون في باطلهم، ويلعبون في دنياهم، حتى يأتيهم إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. 4- كذب اللَّه المشركين بقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ.. في أن لله شريكا وولدا، فهو وحده المستحق للعبادة في السماء والأرض. قال الرّازي: هذه الآية من أدلّ الدّلائل على أنه تعالى غير مستقرّ في السماء، لأنه تعالى بيّن بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلها للأرض، مع أنه غير مستقرّ فيها، فكذلك يجب أن يكون إلها للسماء، مع أنه لا يكون مستقرّا فيها «1» . 5- اللَّه تعالى مصدر الخير والبركة، وهو صاحب العظمة، مالك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والموجودات والعناصر، وهو العالم بوقت قيام القيامة، وإليه مصير الخلق للحساب والجزاء. وقوله: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ بعد بيان كمال قدرته: هو التّنبيه على أن من كان كامل الذّات والعلم والقدرة، امتنع عليه اتّخاذ ولد كعيسى موصوف بالعجز وعدم الاطّلاع على أحوال العالم.

_ (1) تفسير الرّازي: 27/ 232

6- نفى اللَّه تعالى الولد إليه، ثم نفى الشّركاء بقوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ.. أي لا يملك عيسى وعزير والملائكة وغيرهم من الأصنام الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وآمن على علم وبصيرة، وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به. 7- دلّ قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ على أمرين: الأول- أنّ الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم، وأن التّقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. الثاني- أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها، كما روى البيهقي والحاكم وابن عدي عن ابن عباس- وهو ضعيف- عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» . 8- المشركون قوم متناقضون كما ثبت في أول السورة وآخرها، فلما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو اللَّه تعالى، فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام جامدة لا تضرّ ولا تنفع؟ الواقع أنهم يكذبون على اللَّه حين يقولون: إن اللَّه أمرنا بعبادة الأصنام. ودلّ قوله تعالى: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم. 9- شكا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قومه إلى ربّه بأنّهم لا يؤمنون بالله وحده لا شريك له، ولا برسالته ولا بالقرآن المنزل عليه. وهذه الشكوى صدرت منه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد أن ضجر منهم، وعرف إصرارهم على الكفر. وهذا قريب مما حكى اللَّه عن نوح أنه قال: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح 71/ 21] .

10- أمر اللَّه نبيّه بالصّفح عن المشركين صفح الغاضب النّاقم لا الرّاضى بفعلهم، وبالمتاركة حتى حين، فسوف يعلمون ما ينتظرهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وهذا تهديد للمشركين، ولا حاجة كما ذكر الرّازي إلى القول بأن هذه الآية منسوخة بآية السّيف، لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ، وأما التّكرار فيكون بدليل آخر، كما أن اللفظ قد يتقيّد بقرينة العرف.

سورة الدخان:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الدخان مكيّة، وهي تسع وخمسون آية. تسميتها: سمّيت (سورة الدّخان) لما فيها من تهديد المشركين في الماضي بالجدب والقحط الذي يجعل الجائع كأنه يرى في الفضاء دخانا من شدة الجوع، وتهديد الأجيال المقبلة بظهور الدّخان في السماء مدة أربعين يوما والذي يعدّ أمارة من أمارات السّاعة. مناسبتها لما قبلها: تتجلّى مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حاميم من وجوه ثلاثة: 1- افتتاح كلتا السّورتين بالقسم بالقرآن العظيم تنويها به، في قوله تعالى: حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. 2- تشابه خاتمة السّورة المتقدّمة ومطلع هذه السّورة، حيث ختمت سورة الزّخرف بالتّهديد والوعيد في قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [83] فذكر يوما غير معيّن ولا موصوفا، ثم أبان وصفه في سورة الدّخان في القسم الأول منها حيث أنذر تعالى المشركين في قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [10] . 3- حكاية ما قاله النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لقومه وما قاله أخوه موسى عليه السّلام لقوم

ما اشتملت عليه السورة:

فرعون، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في السّورة المتقدّمة: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [88] ، ثم قال اللَّه له: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ: سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [89] ، وحكى اللَّه عن موسى في هذه السّورة: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [22] ، وقال موسى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [20- 21] ، والتّشابه واضح في الموقفين. ما اشتملت عليه السّورة: موضوع سورة الدّخان المكيّة كسائر موضوعات السّور المكيّة وسور آل حاميم السّبع، وهو بيان أصول العقيدة الإسلاميّة: التوحيد، والنّبوة والرّسالة، والبعث. بدئت السورة ببيان تاريخ بدء إنزال القرآن في ليلة القدر من رمضان، رحمة من اللَّه بعباده، وأن منزله هو مالك الكون كله والمخلوقات جميعها، وأنه هو الإله الحقّ الواحد الذي لا شريك له، غير أن المشركين في شكّ وارتياب من أمر القرآن. ثم أعدتهم بالعذاب الشديد، وبالدّخان المخيف الذي ينذرهم بأسوأ العواقب، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا. وأردفت ما سبق بعظتهم بقصة فرعون وقومه مع موسى عليه السّلام، حيث نجّى اللَّه المؤمنين، وأغرق الكافرين في البحر. ثم وصفت مشركي مكة بأنهم قوم منكرون للبعث في قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [35] ، وهدّدتهم بالإهلاك كما أهلك المجرمين الأشدّاء من قبلهم، مثل قوم تبّع الحميري، مع إيراد الدّليل على قدرة اللَّه عزّ وجلّ على كلّ شيء.

فضلها:

ثمّ وصفت لهم أهوال يوم القيامة وما فيه من الحساب والعقاب وطعام الزّقوم في نار جهنم وغير ذلك مما يرهب ويرعب، ويثير المخاوف الشّديدة في النّفوس. وختمت السّورة بنعت وبيان مصير الأبرار ومصير الفجّار، لترغيب الفريق الأول وتبشيره بالعاقبة الحميدة، وترهيب الفريق الثاني وإنذاره بالنّكال والعذاب الشّديد. فضلها: ذكر المفسّرون أحاديث في فضل سورة الدّخان، لكنها لا تخلو من ضعف «1» ، منها ما رواه الدّارميّ في مسنده عن أبي رافع قال: «من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفورا له، وزوّج من الحور العين» ورواه الثّعلبي مرفوعا عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له» وفي لفظ آخر للتّرمذي: «من قرأ حم الدّخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ، وعن أبي أمامة قال: سمعت النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «من قرأ حم الدّخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، بنى اللَّه له بيتا في الجنة» . إنزال القرآن في ليلة القدر المباركة وصفات منزله [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)

_ (1) وهكذا أغلب الأحاديث الواردة في فضائل السّور ضعيفة لا يصح الاعتماد عليها، لذا استبعدت ذكر هذه الأحاديث، وأوردت بعضها هنا للتّنبيه والبيان. [.....]

الإعراب:

الإعراب: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أَمْراً: إما منصوب على الحال بمعنى آمرين، أو منصوب على المصدريّة، أو منصوب بفعل مقدّر، أي أعني أمرا، وهو قول أبي العباس المبرّد. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رَحْمَةً: إما منصوب على أنه مفعول لأجله، أي للرّحمة، وحذف مفعول مُرْسِلِينَ، أو لأنه مفعول مُرْسِلِينَ والمراد بالرّحمة حينئذ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] ، أو منصوب على البدل من قوله: أَمْراً، أو منصوب على المصدر، أو منصوب على الحال، وهو قول أبي الحسن الأخفش. رَبِّ السَّماواتِ بالجرّ: بدل من رَبِّكَ، وبالرّفع: خبر آخر، أو صفة، أو استئناف على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربّ السموات. البلاغة: حَكِيمٍ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة على وزن فعيل. يُحْيِي وَيُمِيتُ بينهما طباق. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ حثّ وتحريض على الإيمان والتفكّر والتّبصر. المفردات اللغوية: حم الحروف المقطعة للدلالة على إعجاز القرآن، والتّنبيه على خطورة ما يلقى من أحكام في هذه السّورة، كما تقدّم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ هذا قسم بالقرآن، أي والقرآن ذي البيان الواضح لكل حاجات الإنسان في الدّين والدنيا. لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ هي ليلة القدر، ابتدئ فيها إنزال القرآن، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ، وبركتها لأن نزول القرآن سبب للمنافع الدّينية والدّنيوية. مُنْذِرِينَ مخوّفين به، وهو استئناف يتبيّن فيه المقتضي للإنزال.

التفسير والبيان:

فِيها في ليلة القدر. يُفْرَقُ يفصّل ويبيّن. كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ محكم لا لبس فيه، من الأمور المحكمة التّشريعية، والأرزاق والآجال وغيرها على مدار السّنة إلى تلك الليلة. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو مزيد تفخيم للأمر. مُرْسِلِينَ الرّسل: محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن قبله عليهم السّلام. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رأفة بالمرسل إليهم. السَّمِيعُ لأقوالهم. الْعَلِيمُ بأفعالهم وأحوالهم، وهو وما بعده بيان أنّ الرّبوبية لا تحقّ إلا لمن هذه صفاته، مما ينفي ربوبية غيره. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم وفي أنه تعالى ربّ السموات والأرض، أو كنتم تطلبون اليقين وتريدونه. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا خالق سواه. يُحْيِي وَيُمِيتُ كما تشاهدون. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من البعث، وهو ردّ لكونهم موقنين. يَلْعَبُونَ يعبثون استهزاء بالنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، لذلك قال: اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» . التفسير والبيان: حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أقسم اللَّه سبحانه بالقرآن العظيم الذي هو الكتاب الموضّح لكلّ ما يحتاجه الإنسان من أمور الدّين والدّنيا، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخيرات التي هي ليلة القدر، كما جاء مبيّنا في آية أخرى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر 97/ 1] ، من ليالي شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة 2/ 185] ، أي أنه بدئ بإنزاله في ليلة القدر من ليالي رمضان، واستمرّ نزوله منجّما ثلاثا وعشرين سنة، أو أنزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا. إنّا كنّا بهذا القرآن منذرين الناس من العذاب الأليم في الآخرة إذا اقترفوا الشّرك والمعاصي، ومعلّمين النّاس ما ينفعهم ويضرّهم شرعا لتقوم حجّة اللَّه على عباده.

قال ابن كثير: ومن قال: إنها ليلة النّصف من شعبان- كما روي عن عكرمة- فقد أبعد النّجعة- أي الطلب- فإن نصّ القرآن أنها في رمضان «1» وقال القرطبي بعد حكاية قول عكرمة: إنها ليلة النّصف من شعبان: والأول- أي الرأي القائل بأنها ليلة القدر- أصح، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» . وسبب بدء نزوله في ليلة القدر ما قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي في ليلة القدر يفصّل ويبيّن الأمر المحكم، فيكتب فيها ما يكون في السّنة من الآجال والأرزاق، من خير وشرّ، وحياة وموت، وغير ذلك، أو ما يكون من أمور محكمة لا تبديل فيها ولا تغيير، بتشريع الأحكام الصالحة لهداية البشر في الدنيا، والسعادة في الآخرة، فالحكيم: معناه ذو الحكمة. وإنما أنزل القرآن في هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة. والغاية من إنزال القرآن ما قال سبحانه: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أنزل اللَّه القرآن من لدنه متضمنا وحيه وشرعه، وقد فعلنا ذلك الإنذار، وأرسلنا الرسول وجميع الأنبياء إلى الناس لتلاوة آيات اللَّه البيّنات، رحمة ورأفة منا بهم، لبيان ما ينفعهم وما يضرّهم، ولئلا يكون للناس حجّة بعد إرسال الرّسل، فرسالة الرّسل هي الرّحمة المهداة الدّائمة إلى البشر، وتتمثل الآن بالثّابت القطعي النّزول منها، وهو القرآن ورسالة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. قال أبو حيان في تفسير إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. لما ذكر إنزال القرآن ذكر المرسل، أي مرسلين

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 137 (2) تفسير القرطبي: 16/ 126

الأنبياء بالكتب للعباد، فالجملة المؤكّدة مستأنفة، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «1» . وإنما فعل اللَّه ذلك، لأنه السّميع لأقوال البشر، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم، فأرسل الرّحمة إليهم رعاية لحاجتهم. والدّليل على السّمع والعلم وإنزال القرآن ما قاله تعالى: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن اللَّه السّميع العليم الذي أنزل القرآن هو ربّ السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات، وخالقها ومالكها وما فيها، إن كنتم تريدون معرفة ذلك عن يقين تام لا شكّ فيه، قال أبو مسلم: معنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا. ثم ذكر اللَّه تعالى صفات أخرى هي الوحدانية والقدرة فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي بعد إثبات الرّبوبية لله أثبت الوحدانية، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، وأثبت القدرة فهو المحيي والمميت، يحيي ما يشاء، ويميت ما يشاء، ثم أكّد الرّبوبية على البشر بالذّات، فهو ربّكم أيها المخاطبون وربّ آبائكم وأجدادكم الأولين، ومدبّر شؤونهم، فهو المستحق للعبادة، دون غيره من الآلهة المزعومة، ثم ذكر حقيقة المشركين، فقال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتّوحيد والإقرار الذي صدر منهم بأن اللَّه هو خالقهم، وهم في الواقع عابثون لا هون لاعبون، لا جدّية عندهم في الاعتقاد الصحيح، والسّلوك المطابق له.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 33.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: أولا- عظّم اللَّه تعالى القرآن في هذه الآيات بأمور هي: 1- أقسم به، واللَّه لا يقسم إلا بشيء عظيم، ولله أن يقسم بما يشاء على ما يشاء في أي وقت يشاء. 2- أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. قال قتادة وابن زيد: أنزل اللَّه القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم أنزله اللَّه على نبيّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة. ذكر الطبري عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لستّ ليال منه، والزّبور لاثنتي عشرة مضت، والإنجيل لثمان عشرة منه، والفرقان لأربع وعشرين مضت. 3- وصف اللَّه القرآن بكونه كتابا مبينا. 4- وصف اللَّه ليلة إنزال القرآن بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، قال ابن عباس وغيره: يحكم اللَّه أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقال ابن عمر: إلا الشّقاء والسّعادة، فإنهما لا يتغيّران. 5- الغاية من القرآن إنذار البشر وتخويفهم العذاب ليصلح حالهم في الدنيا. 6- إن إنزال القرآن كان بأمر اللَّه ومن عنده. 7- كان إنزاله رحمة من اللَّه بعباده. 8- كان إنزاله محققا لمصالح الناس وحاجاتهم، لأن اللَّه هو السّميع العليم،

تهديد المشركين بالعذاب [سورة الدخان (44) الآيات 10 إلى 16] :

ربّ السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما، وهو الواحد القهّار، يحيي الأموات ويميت الأحياء، فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شيء، ومالك الناس عند نزول القرآن ومالك من تقدّم منهم ومالك من سيوجد إلى يوم القيامة، فما على الناس إلا اتّقاء تكذيب النّبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لئلا ينزل بهم العذاب. ثانيا- أظهر اللَّه تعالى حقيقة اعتقاد المشركين مبيّنا أنهم ليسوا في الواقع على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم: إن اللَّه خالقهم، وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم ولا حجة ولا برهان، فهم في شكّ بيّن، وإن توهّموا أنهم مؤمنون، فهم يلعبون في دينهم على وفق أهوائهم من غير حجّة. تهديد المشركين بالعذاب [سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) الإعراب: إِنَّا مُؤْمِنُونَ الجملة حالية. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الذِّكْرى: مبتدأ، وأَنَّى لَهُمُ: خبره. يَوْمَ نَبْطِشُ ... يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه: إما فعل مقدر، يدلّ عليه مُنْتَقِمُونَ أي ننتقم يوم نبطش، ولا يجوز تعلّقه بقوله: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لأن ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبلها، أو يكون العامل فيه إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ ...

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فَارْتَقِبْ انتظر. بِدُخانٍ مُبِينٍ بيّن واضح، والمراد من الدّخان: يوم الشدّة والمجاعة في الماضي، فإن الجائع يرى ما فوقه إلى السّماء ظلاما من شدّة الجوع، وضعف البصر، كهيئة الدّخان، وفي المستقبل يمكن تفسير الدّخان بالغبار الذّري الذي يهدّد البشرية بالموت ويعقبه ظلام. يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم من كلّ جانب، وهو صفة للدّخان. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يقولون: هذا عذاب مؤلم، ويقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ مصدّقون بك وبنبيّك، وهذا وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى؟ أي من أين لهم، وكيف يتذكرون في هذه الحال؟ المعنى: لا ينفعهم الإيمان عند نزول العذاب. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بيّن الرّسالة، بيّن لهم بالآيات والمعجزات ما يوجب الإيمان والتّذكّر. مُعَلَّمٌ أي يعلمه غيره القرآن، قالوا: يعلمه غلام رومي لبعض ثقيف. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ نكشف العذاب بدعاء النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنه دعا، فرفع القحط. قَلِيلًا كشفا قليلا أو زمنا قليلا، وهو ما بقي من أعمارهم. إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، فعادوا إليه بعد كشف العذاب. نَبْطِشُ نأخذ بقوة وشدة، والبطش: الأخذ الشديد، والبأس. الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة أو يوم بدر. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ننتقم منهم بسبب كفرهم. سبب النّزول: نزول الآية (10) : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسنيّ يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرّجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدّخان من الجهد، فأنزل اللَّه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللَّه، استسق اللَّه لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.

نزول الآيتين (15 - 16) :

نزول الآيتين (15- 16) : إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ ... أخرج البخاري في تتمة الرواية السابقة: فلما أصابتهم الرّفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل اللَّه: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فانتقم اللَّه منهم يوم بدر. المناسبة: بعد أن وصف اللَّه تعالى المشركين بأنهم في شكّ من التّوحيد والبعث وقدرة اللَّه، ذكر تعالى أوصاف يوم العذاب الذي سيحلّ بهم في الدّنيا والآخرة، تهديدا لهم، وتسلية لرسوله، وأنه لا يؤمل اتّعاظهم بالرغم من تهديدهم وإظهار المعجزات والبيّنات على يد رسول اللَّه، ووصفهم له بأنه معلّم مجنون. التفسير والبيان: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ هذا توعّد من اللَّه وتهديد للمشركين، يقول اللَّه فيه لنبيّه: فانتظر اليوم الذي تأتي فيه السماء بهيئة كالدّخان الواضح المنتشر في الفضاء، وهذا الدّخان بالنسبة للماضي هو ما أصاب قريشا من الجدب والقحط مدة سبع سنين، بدعاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى كان الرجل يرى من شدّة الجوع ما بين السماء والأرض دخانا، لضعف البصر وزيغانه، كما تقدّم في بيان سبب النّزول عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، أو هو غبار الحرب يوم بدر. وأما بالنسبة للمستقبل فهو أمارة وعلامة من أشراط الساعة، يمكث في الأرض أربعين يوما، حيث يظهر في الفضاء غبار ذري أو غيره كالدّخان، يجعل الجو مظلما، وهذا ما أكّده العلماء في نهاية العالم، حيث تضعف الطاقة الشمسية. وصفة ذلك الدّخان العموم والشمول، كما قال تعالى:

يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يشمل الناس ويحيط بهم من كل جانب، فيقولون: هذا عذاب أليم جدا، أو يقول اللَّه لهم ذلك توبيخا وتقريعا. وحينئذ يستغيث الناس بالله قائلين: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي يقولون: يا ربّنا اكشف عنّا عذابك، إنّا مصدّقون بالله ورسوله، أو إن كشفت عنّا هذا العذاب أسلمنا وآمنا، والمراد بالعذاب في الماضي الجوع الذي كان بسببه رؤية ما يشبه الدّخان. روي أن المشركين أتوا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالوا: «إن كشف اللَّه عنا هذا العذاب أسلمنا» . وأما في المستقبل فهو عذاب أشدّ يحدث قبيل الساعة، ويكون من أشراطها وعلاماتها. وهذا كقوله عزّ وجلّ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام 6/ 27] ، وقوله جلّ وعلا: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم 14/ 44] . ثم نفى اللَّه صدقهم في الوعد بالإيمان قائلا: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي من أين وكيف لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالوعد بالإيمان بعد كشف العذاب؟ وكان قد جاءهم رسول مبين أدلّة الإيمان، ظاهر الآيات والمعجزات، ثم أعرض هؤلاء الكفار عنه، وقالوا عنه: إنما يعلمه القرآن بشر، وقالوا أيضا: إنه مجنون لا عقل له، وهذا يدلّ على أنّ الآيات نزلت في قريش،

أي كيف يتذكر هؤلاء وأنّى لهم الذّكرى؟ وقد سبق ما حدث منهم من الإعراض عن رسول اللَّه وعن القرآن وهديه، وافتروا على الرّسول بأن معلمه غلام رومي وأنه مجنون. وهذا كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ [الفجر 89/ 23] . ثم أعلن اللَّه تعالى عودتهم صراحة إلى الكفر، فقال: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا، إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا، وسنؤخّره قليلا بعد توافر أسبابه، وهذا كالحكم الصادر بالعقوبة مع وقف التّنفيذ، فإنكم راجعون إلى ما كنتم عليه من الشّرك والكفر والعناد، وقد رجعوا فعلا. وهذا كقوله تعالى في قوم يونس: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 10/ 98] . وتأخير العذاب إلى يوم القيامة كما قال تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي إنكم مؤجلون إلى عذاب شديد هو عذاب النار في يوم القيامة، ذلك اليوم الذي يكون فيه البأس الأكبر والأخذ الأشد، وفيه ننتقم أشدّ الانتقام، أي نعاقب هؤلاء الكفار. وقيل كما روي عن ابن مسعود: إنه يوم بدر، لما عادوا إلى التّكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم، انتقم اللَّه منهم بوقعة بدر، قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر. والظاهر كما رجّح ابن جرير الطبري وابن كثير أن ذلك يوم القيامة، وبه قال الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- هدد اللَّه المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وطالب نبيّه بأن ينتظر وجود العذاب بهؤلاء الكفار، أما في الدنيا فيتعرّضون لظلمة في أبصارهم من شدة الجوع، لأن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما دعا عليهم بقوله: «اللهم اجعل سنيّهم كسنيّ يوسف» ارتفع المطر وأصابت قريشا شدة المجاعة، حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل، لما به من الجوع يرى ما بينه وبين السماء كالدّخان، كما قال ابن عباس وغيره. وأما في الآخرة فينتقم اللَّه منهم يوم البطشة الكبرى- يوم القيامة- ويدخلهم النار. ثم إن من علامات القيامة ظهور دخان في العالم، أي ظلمة بسبب ضعف الطاقة الشمسية في ذلك الوقت، وذلك يوم عسير وشديد على الكافرين، وأما المؤمنون فينجيهم من بأس ذلك اليوم، ويحميهم من شدته. روى أبو سعيد الخدري مرفوعا: «أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة، يأخذ المؤمن منه كالزّكمة (الزّكام) وينفخ الكافر حتى يخرج من كلّ مسمع منه» . وعن حذيفة أنّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أوّل الآيات: الدّخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر» وأبين: اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها. 2- شأن الكافر وطبيعته اللجوء إلى اللَّه وقت الشّدة والمحنة، ثم العودة إلى الكفر بعد الفرج وكشف الضّرّ. وهذا ما حدث لمشركي مكة، فقد روي: أن قريشا أتوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالوا: إن كشف اللَّه عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول.

3- اللَّه سبحانه عليم بما يحدث من الكفار، ولكن اقتضت رحمته أن يشمل عباده جميعا باللطف المرة تلو المرة، لعلهم أن يصلحوا أحوالهم، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، لأنه يمهل ولا يهمل. وهذا معروف عن قريش، فمن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والاعتبار عند حلول العذاب؟ وقد جاءهم رسول من أنفسهم يبين لهم الحق، ثم أعرضوا عنه، بل إنهم اتّهموه زورا وبهتانا بأنه يعلّمه بشر وهو غلام رومي لبعض ثقيف، أو تعلّمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف 18/ 5] . 4- مع كلّ هذا ومع علم اللَّه الشامل بما سيكون، وعد أن يكشف عن قريش ذلك العذاب في زمان قليل، ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه، كما قال ابن مسعود، فلما كشف عنهم باستسقاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لهم، عادوا إلى تكذيبه. ومن قال: إن الدّخان منتظر قرب القيامة قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية، من آيات قيام الساعة، ثم من أصرّ على كفره استمرّ عليه. ومن قال: هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر. 5- إن يوم القيامة يوم رهيب، فهو يوم البطشة الإلهية الكبرى، ويوم الانتقام من الظالمين والمشركين والكافرين، وذلك بعذاب جهنم. والخلاصة: تضمّنت الآيات تحليلا دقيقا لطبائع الكفار، ونبّهت إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرّعون إلى اللَّه تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف، وأخبرت عن تهديدات متكررة، وتقريعات وتوبيخات متوالية بقصد الرّدع والزّجر وتدارك الأمر قبل فوات الأوان.

ضرورة الاعتبار بقوم فرعون وإنجاء بني إسرائيل [سورة الدخان (44) الآيات 17 إلى 33] :

ضرورة الاعتبار بقوم فرعون وإنجاء بني إسرائيل [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) الإعراب: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي وجاءهم رسول بأن أدوا، وعِبادَ اللَّهِ: إما منصوب ب أَدُّوا أو منصوب على النداء المضاف، ومفعول أَدُّوا محذوف، تقديره: أدوا إليّ أمركم يا عباد اللَّه. وأَنْ: مفسرة لأن جاءَهُمْ تتضمن معنى القول، لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللَّه، أو هي المخففة من الثقيلة، ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث: أدّوا إلي. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ: في موضع نصب بالعطف على أَنْ الأولى. أَنْ تَرْجُمُونِ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي: من أن ترجمون.

البلاغة:

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ ... بفتح أَنَّ: في موضع نصب ب فَدَعا ومن قرأ بالكسر فعلى تقدير: (قال) أي (فقال: إن هؤلاء) . وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً رَهْواً: حال، أي ساكنا، حتى يدخلوا فيه من غير نفرة عنه. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها الكاف: إما في موضع رفع، خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، وإما في موضع نصب على الوصف لمصدر محذوف، تقديره: يفعل فعلا كذلك بمن يريد إهلاكه. وَأَوْرَثْناها: عطف على الفعل المقدر، أو على (تركوا) . مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ: مِنْ: إما بدل من الْعَذابِ الْمُهِينِ وتقديره: من عذاب فرعون، فحذف المضاف، أو حال من الْعَذابِ الْمُهِينِ أي كائنا من فرعون، فلا يكون فيه حذف مضاف. مِنَ الْمُسْرِفِينَ خبر ثان أو حال من ضمير عالِياً. البلاغة: فَتَنَّا استعارة تبعية، حيث شبه الابتلاء والاختبار بالفتنة. فَأَسْرِ بِعِبادِي إيجاز بحذف كلام، أي وقلنا له: فأسر. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ استعارة تمثيلية، أي لم تحزن على هلاكهم السماء والأرض، وهذا أسلوب عربي يقال للتحقير والتهكم بحالهم. كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ رثاء وتفجع وإظهار الأسى والحسرة للعبرة والعظة للأحياء. المفردات اللغوية: فَتَنَّا بلونا واختبرنا وامتحنا. قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم، أو بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم، وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم. وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللَّه تعالى، أو على المؤمنين، أو في نفسه فهو جامع لخصال الخير والأفعال الحميدة، وهو موسى عليه السلام. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدوا إلي حق اللَّه من الإيمان وقبول الدعوة، اي أظهروا إيمانكم لي يا عباد اللَّه، أو أطلقوا معي بني إسرائيل وأرسلوهم. رَسُولٌ أَمِينٌ مؤتمن على ما أرسلت به، غير متهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان اللَّه على وحيه ورسالته، وهو علة الأمر.

وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ لا تتكبروا على اللَّه بترك طاعته، والاستهانة بوحيه ورسوله. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي ببرهان بيّن واضح على رسالتي، وهو علة النهي. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي التجأت إليه وتوكلت عليه أن ترجموني بالحجارة، أو تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي تصدقوني. فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني، واتركوا أذاي، ولا تتعرضوا لي بسوء، فإن ذلك ليس جزاء من دعاكم إلى الفلاح. أَنَّ هؤُلاءِ بأن هؤلاء. مُجْرِمُونَ مشركون، وهو تعريض بسبب الدعاء عليهم. فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فقال: أسر ببني إسرائيل، أي سر بهم ليلا، وقرئ بوصل الهمزة من (سرى) . إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا منفرجا مفتوحا كما هو على هيئته بعد تجاوزه، ولا تضربه بعصاك، ولا تغير منه شيئا، حتى يدخل فيه القبط شعب فرعون. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي لأنهم غارقون. جَنَّاتٍ بساتين. وَعُيُونٍ ينابيع جارية. مَقامٍ كَرِيمٍ مجالس ومنازل حسنة. وَنَعْمَةٍ من النعم، أي تنعم وحسن ومتعة ونضرة، والنّعمة: ما ينعم به على الإنسان، من الإنعام. فاكِهِينَ متنعمين أصحاب فاكهة، وقرئ «فكهين» أي أشرين بطرين مستهزئين. كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. وَأَوْرَثْناها أي ورثنا أموالهم. قَوْماً آخَرِينَ بني إسرائيل. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، تقول العرب إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، وفي حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله: ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه: الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك، نجوم الليل والقمرا أي يا نجوم الليل والقمر. وقالت الخارجية: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف قال الزمخشري: وذلك على سبيل التمثيل والتخييل، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمراد لا أسف على فرعون وقومه، بخلاف المؤمنين يبكي عليهم بموتهم مصلاهم من الأرض، ومصعد عملهم من السماء. مُنْظَرِينَ ممهلين ومؤخرين التوبة إلى وقت آخر. مِنَ الْعَذابِ من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستخدامه نساءهم. مِنْ

المناسبة:

فِرْعَوْنَ إما على حذف مضاف، أي عذاب فرعون أو حال من العذاب كما تقدم. عالِياً متكبرا جبارا. مِنَ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحد في الشر والفساد، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا، أو حال من ضمير عالِياً أي كان رفيع الطبقة من بينهم. اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل واصطفيناهم. عَلى عِلْمٍ منا بحالهم أي عالمين باستحقاقهم ذلك. عَلَى الْعالَمِينَ اخترناهم على عالمي زمانهم. الْآياتِ المعجزات، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى. ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ اختبار ظاهر. المناسبة: بعد أن بيّن اللَّه تعالى إصرار مشركي مكة على كفرهم، بيّن أن كثيرا من المتقدمين كانوا أمثالهم في تكذيب الرسل، وفي طليعتهم قوم فرعون، الذين كذبوا رسولهم موسى عليه السلام، فنصره اللَّه عليهم، وأغرقهم، وجعلهم عبرة للمعتبر. التفسير والبيان: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي لقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر، أرسل اللَّه إليهم رسولا كريما جامعا لخصال الخير والأفعال المحمودة، وهو موسى عليه السلام، وهو كريم على اللَّه، وكريم في قومه. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي وجاءهم رسول بأن أرسلوا معي عباد اللَّه وهم بنو إسرائيل، وأطلقوهم من العذاب، فإني رسول من اللَّه مؤتمن على الرسالة غير متهم، وهذا كقوله عز وجل: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه 20/ 47] . ويجوز أيضا أن يكون قوله: عِبادَ اللَّهِ نداء لهم، والتقدير: أدوا إلي يا عباد اللَّه ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، واتباع سبيلي. وعلل

ذلك بأنه رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه اللَّه على وحيه ورسالته، وهذا هو الظاهر المناسب لأصول دعوة الرسول قومه وللكلام الآتي بعده، أما إطلاق بني إسرائيل فهو مطلب فرعي ثانوي بالنسبة لأصل الدعوة. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ، إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات اللَّه، والانقياد لبراهينه، ولا تترفعوا عن طاعته ومتابعة رسله، كقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] إني آتيكم بحجة ظاهرة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، وهي ما أرسله اللَّه تعالى به من الآيات البينات والمعجزات القاطعات كالعصا واليد وسائر الآيات التسع، فهددوه بالرجم كما قال تعالى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي أستعيذ بالله وألتجئ إليه وأتوكل عليه مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة أو الإيذاء والشتم. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي وإن لم تصدّقوني وتقرّوا بنبوتي وبما جئتكم به من عند اللَّه، فاتركوني، ولا تتعرضوا لي بأذى إلى أن يحكم اللَّه بيننا. فلما يئس من إيمانهم، ولمس إصرارهم على الكفر وعنادهم، دعا عليهم فقال: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي فدعا موسى ربه حين كذبوه وهمّوا بقتله بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك مشركون بك، كما جاء في آية أخرى: وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، قالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما.. [يونس 10/ 88- 89] . وحينئذ أمره اللَّه تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سرا ليلا:

فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا، إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي أجاب اللَّه سبحانه دعاءه، فأمره أن يسير بقومه بني إسرائيل ليلا، لأن فرعون وقومه يتبعونكم إذا علموا بخروجكم. وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً، وَلا تَخْشى [طه 20/ 77] . وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي دع يا موسى البحر ساكنا منفرجا مفتوحا، لا تضربه بعصاك حتى يعود كما كان، ليدخله فرعون وجنوده، فإنهم قوم مغرقون في اليم. وهذه بشارة من اللَّه بنجاتهم وإهلاك عدوهم ليسكن قلب موسى عليه السلام، ويطمئن جأشه. ثم ذكر تعالى ما خلّفوه وراءهم من عز ومجد ونعيم وثراء، فقال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي كثيرا ما تركوا في مصر وراءهم من بساتين خضراء، وحدائق غناء، وأنهار متدفقة وآبار مترعة بالماء، وزروع نضرة، ومنازل ومجالس حسنة وثيرة، وتنعم بالمال والخير الوفير، كانوا يرفلون بالنعمة ويتنعمون بعيشة هنية، ويستمتعون بأنواع اللذة، كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة، فيأكلون ويلبسون ما شاؤوا. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ أي مثل ذلك الإهلاك والسلب والتدمير فعلنا بالذين كذبوا رسلنا، ونفعل بكل من عصانا، وأورثنا تلك البلاد بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف 7/ 137] . ثم تهكم اللَّه بهم وأبدى عدم الاكتراث بشأنهم قائلا:

فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لا أسف ولا حزن عليهم من أحد بسبب بغيهم وفسادهم، بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم، ولم يمهلوا لتوبة، لأنها غير منتظرة منهم. ثم أتبع اللَّه تعالى ما يقابل النقمة بالنعمة للعبرة، فقال: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي لقد خلصنا شعب بني إسرائيل بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة، من عذاب فرعون الذي كان متعاليا عنيدا، متكبرا متجبرا، ومن المسرفين في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه، ورأس الكفر: ادعاؤه الألوهية والربوبية بقوله: أنا ربكم الأعلى. وهذا كقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص 28/ 4] وقوله سبحانه: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون 23/ 46] . ويلاحظ أن بيان الإحسان إلى موسى وقومه كان بعد بيان كيفية إهلاك فرعون وقومه، لأن دفع الضرر مقدم على جلب المصالح والمنافع. ثم بيّن اللَّه تعالى مدى تكريمه لبني إسرائيل حين ذاك قائلا: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي لقد اختارهم اللَّه على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك، لكثرة الأنبياء فيهم، ولصبرهم مع موسى، وجهادهم في سبيل اللَّه، فلما بدلوا الإيمان بالكفر، والصلاح بالفساد غضب اللَّه عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأعطيناهم على يد موسى عليه السلام المعجزات الظاهرة والبراهين الواضحة، وخوارق العادات، مما فيه اختبار ظاهر، وامتحان واضح لمن اهتدى به، ولننظر كيف يعملون. ومنها: إنجاؤهم من الغرق، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى لهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي: 1- لا يغترن أحد بمال أو جاه أو سلطان أو عزّ أو حكم قوي، فذلك كله للاختبار والامتحان، فقد ابتلى اللَّه قوم فرعون بالأمر بطاعة اللَّه ورسولهم موسى عليه السلام، فكذبوا وكفروا، والمقصود أنه عاملهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم، فكذبوا فأهلكوا، وهكذا يفعل بأعداء محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إن لم يؤمنوا. 2- طلب موسى عليه السلام من فرعون وقومه أن يتبعوه في رسالته، كما قال ابن عباس، أو أن يرسلوا معه بني إسرائيل ويطلقوهم من العذاب، كما قال مجاهد، وهو في الحالين أمين على الوحي، فما عليهم إلا أن يقبلوا نصحه. 3- اتبع موسى عليه السلام معهم أسلوبا لطيفا، فنصحهم بألا يتكبروا على اللَّه ولا يترفعوا عن طاعته، وخاطبهم بما يقنع عقلا ومنطقا، فذكر لهم أنه يأتيهم بحجة بينة وبرهان واضح على صدقه، وصحة دعوته، وإثبات ألوهية اللَّه الواحد الأحد، وحرص على مسالمتهم قائلا: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، فدعوني واتركوني، وخلّوا سبيلي وكفّوا عن أذاي. 4- لم يدع نبي على قومه إلا بعد اليأس من إيمانهم، وهكذا فعل موسى عليه السلام، فإنه لما وجد إصرار فرعون وقومه على الكفر دعا ربه بأن هؤلاء قوم مشركون، امتنعوا من الإيمان، ومن إطلاق بني إسرائيل.

5- أجاب اللَّه دعاء موسى عليه السلام، فأمره بأن يسير بمن آمن بالله من بني إسرائيل ليلا قبل الصباح، فإن فرعون وقومه سيتبعونهم حينما يعلمون بخروجهم. وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف إما من العدو، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان. وأمره ربه أيضا أن يترك البحر الذي فتح لهم أثناء العبور بأمر من اللَّه مفتوحا ساكنا على حاله، لا يضربه بعصاه حتى يعود كما كان، وذلك استدراج لقوم فرعون ليعبروا فيغرقهم اللَّه بعد أن نجى بني إسرائيل. 6- دلت آية كَمْ تَرَكُوا ... على أنه تعالى أغرق قوم فرعون، ثم ذكر أنهم تركوا أشياء خمسة: هي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والنّعمة بالفتح من التنعيم، أي حسن العيش ونضارته، أو سعة العيش والراحة. أما النّعمة بالكسر من الإنعام: فهي إحسان اللَّه وعطاؤه وأفضاله. وورث تعالى تلك الديار بما فيها من الخيرات لبني إسرائيل، بعد أن كانوا مستعبدين فيها، فصاروا لها وارثين، كوصول الميراث إلى مستحقيه. 7- لا أسف ولا حزن على إهلاك فرعون وجنوده، لأنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم السماء والأرض لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح، فتبكي فقد ذلك. قال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمنين أربعين صباحا. وقال علي وابن عباس رضي اللَّه عنهما في المؤمن: إنه يبكي عليه مصلّاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء. وهذا تعبير كنائي يراد به فقد الأعمال الصالحة. قال الواحدي في البسيط: روى أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال فيما رواه أبو يعلى

وأبو نعيم في الحلية: «ما من عبد مسلم إلا له بابان في السماء: باب ينزل منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله وكلامه، فإذا فقداه بكيا عليه» وتلا هذه الآية. 8- امتن اللَّه تعالى بحق على بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون وقومه إذ نجّاهم أولا من بطش فرعون وظلمه واستعباده لهم، وقتله الأبناء، واستخدام النساء، وتكليفهم بالأعمال الشاقة، لأن فرعون كان جبارا عاليا من المشركين، وليس هذا علو مدح بل علو إسراف. 9- ثم ذكر ثانيا أنه تعالى اختارهم على علم منه باستحقاقهم على عالمي زمانهم، لكثرة الأنبياء منهم، وإيمانهم بموسى وصلاحهم، فلما بدّلوا تبدل الحال، وغضب اللَّه عليهم ولعنهم، وأعد لهم جهنّم وساءت مصيرا. 10- ثم أبان ثالثا أنه تعالى أمدهم بالآيات البينات في التوراة، وبمعجزات موسى التسع، كإنجائهم من فرعون، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى. 11- لقد تبين الفارق الواضح في هذه القصة بين الكافرين وبين المؤمنين، فقد أغرق اللَّه الكفار الأشداء، ونجّى المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، والنصر للصادقين الصابرين المستضعفين، وهذا عدل من اللَّه تعالى، إذ لا يعقل التسوية بين الطائعين والعصاة. فليعتبر بهذا كفار قريش وأمثالهم، فقد أهلك اللَّه من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وأعز سلطانا ومجدا، وأقوى علما وحضارة.

إنكار المشركين البعث وإثباته لهم [سورة الدخان (44) الآيات 34 إلى 39] :

إنكار المشركين البعث وإثباته لهم [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 39] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) الإعراب: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى: إِنْ: بمعنى «ما» مثل قوله تعالى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وهِيَ مبتدأ، ومَوْتَتُنَا: خبره، ولا يجوز أن تعمل إِنْ هنا في لغة من أعملها، لدخول إِلَّا لأن «إلا» إذا دخلت على «ما» بطل عملها، ومثلها «إن» . وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الَّذِينَ: إما مرفوع على أنه مبتدأ، وأَهْلَكْناهُمْ خبره، أو على أنه معطوف على قَوْمُ تُبَّعٍ وإما منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَهْلَكْناهُمْ وتقديره: وأهلكنا الذين من قبلهم أهلكناهم. لاعِبِينَ حال. البلاغة: إِنَّ هؤُلاءِ الإشارة هنا للتحقير. فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أسلوب التعجيز. أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ.. استفهام إنكار، للتحقير والاستصغار. المفردات اللغوية: إِنَّ هؤُلاءِ كفار قريش، لأن الكلام فيهم، قال البيضاوي: وقصة فرعون- السابقة-

المناسبة:

وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، والإنذار عن مثل ما حل بهم. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما نهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، وليس هناك حياة أخرى. بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين أحياء بعد الموتة الأولى، يقال: نشر اللَّه الموتى وأنشرهم: أحياهم فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور والبعث من الرسل والأنبياء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم. أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة. تُبَّعٍ كل من ملك اليمن والشّحر وحضر موت، وجمعه التبابعة وهم ملوك اليمن، وهذا شبيه بفرعون لدى قدماء المصريين، وهو كل من ملك مصر. ومن التبابعة: ذو القرنين أو إفريقش ويسمى الصعب، وجاء بعده عمرو زوج بلقيس، ثم أبو كرب ابنه، ثم ذو نواس. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كعاد وثمود. أَهْلَكْناهُمْ بكفرهم، والمراد: ليس كفار قريش أقوى منهم، وأهلكوا لاعِبِينَ لاهين عابثين. ما خَلَقْناهُما وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ أي محقين في ذلك، ليستدل به على قدرتنا على البعث وغيره وعلى وحدانيتنا وغير ذلك. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي كفار مكة لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم. المناسبة: بعد أن ذكر اللَّه تعالى قصة فرعون وقومه مع موسى عليه السلام ليتعظ بها كفار قريش، عاد إليهم بعد أن وصفهم أولا بأنهم في شك من البعث والقيامة، وأنهم في إصرارهم على كفرهم مثل قوم فرعون الذين أهلكهم ونجّى بني إسرائيل، وذكر هنا صراحة أنهم منكرون للبعث، ثم رد عليهم بأن اللَّه خالق السموات والأرض وما بينهما قادر على بعثهم، ثم توعدهم بالهلاك، كما أهلك قوم تبّع من قحطان ملوك اليمن، الذين هم أقوى منهم. وبه تبين أن اللَّه هدد كفار مكة بمصير مشؤوم، مثل مصير قوم فرعون وقوم تبّع. التفسير والبيان: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي

إن كفار مكة هؤلاء يقولون: ما هي وما العاقبة إلا الموتة الأولى التي نموتها بعد هذه الحياة الدنيوية، ولا حياة بعدها، ولا بعث، وما نحن بمبعوثين. وهذا إنكار من اللَّه تعالى على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد، وأنه ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور، وهذا كقوله تعالى: وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام 6/ 29] . ثم احتجوا بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا مخاطبين النبي والمؤمنين: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فإن كان البعث حقا، فأرجعوا إلينا آباءنا بعد موتهم إلى الدنيا، إن كنتم صادقين فيما تدعونه من البعث. يروى أنهم طلبوا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعجل اللَّه لهم إحياء الموتى، فينشر كبيرهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحة البعث، فلم يجبهم اللَّه إلى ذلك. وهذه حجة واهية، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في الدار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها، يعيد اللَّه العالمين خلقا جديدا. ثم هددهم تعالى وتوعدهم وأنذرهم بأسه الذي لا يرد، فقال: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَهْلَكْناهُمْ، إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي أهم كفار قريش الذين هم عرب من عدنان خير في القوة والمنعة، أم قوم تبّع الحميري الذين هم عرب من قحطان، الذين كانوا أقوى جندا وأكثر عددا، وكان لهم دولة وحضارة عريقة ومجد، وكذلك الأمم الذين سبقوهم، كعاد وثمود ونحوهم، أهلكناهم جميعا لكفرهم وإجرامهم، فإهلاك من هو دونهم لجرمه وضعفه وعجزه بالأولى، فهم ليسوا بخير من قوم تبع في العدد والعز والمنعة.

وتبّع: رجل صالح دار في الدنيا بجيوشه وغلب أهلها وقهرهم، وقد كانت حمير وهم سبأ، كلما ملك فيهم رجل سموه تبّعا، كما يقال (كسرى) لمن ملك الفرس، و (قيصر) لمن ملك الروم، و (فرعون) لمن ملك مصر كافرا، و (النجاشي) لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من الألقاب السلطانية. أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تسبّوا تبّعا فإنه قد أسلم» . وكان يكتب إذا كتب: بسم اللَّه الذي ملك برا وبحرا. ثم أقام تعالى الدليل على قدرته الفائقة ليستدل بذلك على إمكان البعث، فقال: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي كيف ينكرون البعث، وقد شاهدوا أدلة قدرتنا في خلق هذا الكون، فإنا خلقنا هذه السموات والأرضين وما بينهما من المخلوقات المنظورة وغير المنظورة، ما خلقنا ذلك عبثا ولعبا، وباطلا ولهوا، وإنما بإبداع لا مثيل له، ولحكمة منقطعة النظير، كقوله جل وعلا: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص 38/ 27] وقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون 23/ 115- 116] فهذا برهان على صحة البعث. وإنما جمع السموات في قوله. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ لموافقة قوله في أول السورة: رَبِّ السَّماواتِ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا خلقا ملازما للحق، ولإظهار الحق، وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم، فصاروا لا يرجون ثوابا ولا يخشون عقابا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لا يؤمن المشركون بالبعث، فهم قوم ماديون دهريون كما في آية أخرى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية 45/ 24] وقالوا هنا: ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى في عالم الذر والنطف دون الموتة الثانية. 2- احتجوا بحجة واهية وهي الإتيان بآبائهم وأجدادهم أحياء، بعد أن ماتوا، وتلك مغالطة، لأن المقصود بالبعث: هو إحياء جميع الخلق بعد فناء الدنيا، ولأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف مرة أخرى. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما- قصيّ بن كلاب، فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت. 3- إنهم بهذا القول استحقوا العذاب، إذ ليسوا هم خيرا من قوم تبّع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك، فكذا هؤلاء. وكان من قبلهم أظهر نعمة وأكثر أموالا، وأعز وأشد وأمنع جانبا، فأهلكهم اللَّه لكفرهم وإجرامهم. قال القرطبي: وليس المراد بتبّع رجلا واحدا، بل المراد به ملوك اليمن، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة، فتبّع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. ثم قال: والظاهر من الآيات أن اللَّه سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم اشدّ من معرفة غيره، ولذلك قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ولا

أهوال يوم القيامة التي يتعرض لها الكفار والعصاة [سورة الدخان (44) الآيات 40 إلى 50] :

أدري أتبّع لعين أم لا؟» ثم قد روي عنه أنه قال فيما رواه أحمد عن سهل بن سعد: «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» . فهذا يدلك على أنه كان رجلا واحدا بعينه، وهو- واللَّه أعلم- أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لمّا أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد «1» . 4- لم يخلق اللَّه السموات والأرض عبثا ولهوا، وإنما خلقهما بالأمر الحق، وللحق، ولإقامة الحق وإظهاره من توحيد اللَّه والتزام طاعته، ولكن أكثر الناس وهم في الماضي مشركو مكة لا يعلمون ذلك. 5- لم يذكر كفار مكة في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يجاب عنها، ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار، لذا اقتصر اللَّه تعالى على الوعيد والتهديد بأن يتعرضوا للهلاك مثلما أهلك قوم فرعون وقوم تبّع. أهوال يوم القيامة التي يتعرض لها الكفار والعصاة [سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 50] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 144 وما بعدها.

الإعراب:

الإعراب: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ: اسم إِنَّ ومِيقاتُهُمْ: خبرها، وأَجْمَعِينَ: توكيد ضمير مِيقاتُهُمْ. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى ... يَوْمَ: بدل منصوب من يَوْمَ الأول. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ: بالنصب على الاستثناء المنقطع، وبالرفع: إما بدل من ضمير يُنْصَرُونَ أي ولا ينصر إلا من رحم اللَّه، أو بدل من مَوْلًى الأول، أي يوم لا يغني إلا من رحم اللَّه، أو مبتدأ، تقديره: إلا من رحم اللَّه فيعفى عنه. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَالْمُهْلِ: خبر ثان، ويَغْلِي بالياء: لتذكير المهل، وهو خبر ثالث، ويقرأ بالتاء: لتأنيث الجرّة، وهو حال من المهل. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّكَ بالكسر: على الابتداء، وتقرأ بالفتح بتقدير حذف حرف الجر، أي ذق لأنك العزيز الكريم عند نفسك. البلاغة: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ تشبيه مرسل مجمل. الرَّحِيمُ الزَّقُّومِ الْأَثِيمِ الْحَمِيمِ الْجَحِيمِ الْكَرِيمُ سجع رصين لا تكلف فيه، فيه جمال. المفردات اللغوية: يَوْمَ الْفَصْلِ يوم القيامة، سمي بذلك، لأنه يفصل فيه بين الناس، فيفصل المحق عن المبطل بالجزاء، ويفصل الحق عن الباطل مِيقاتُهُمْ وقت موعدهم للعذاب الدائم لا يُغْنِي لا يدفع عنه مَوْلًى ناصر بقرابة أو صداقة، ويطلق المولى في الأصل على السيد والعبد وابن العم والناصر والحليف والقريب والصديق شَيْئاً من العذاب أو الإغناء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون منه. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، وهم المؤمنون فإنه يشفع بعضهم لبعض بإذن اللَّه الْعَزِيزُ الغالب في انتقامه من الكفار، فلا ينصر من أراد تعذيبه الرَّحِيمُ من أراد أن يرحمه، وهم المؤمنون. شَجَرَةَ الزَّقُّومِ هي شجرة ذات ثمر مرّ، تنبت بتهامة، شبهت بها شجرة الجحيم، وهي

سبب النزول:

الشجرة الملعونة التي ينبتها اللَّه تعالى في قعر جهنم الْأَثِيمِ الكثير الإثم، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه، مثل أبي جهل وأصحابه وأمثالهم من الملاحدة ذوي الإثم الكبير في كل عصر. كَالْمُهْلِ ما يمهل في النار حتى يذوب أو دردي الزيت الأسود، أي عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن الْحَمِيمِ الماء الساخن الشديد الحرارة. خُذُوهُ أي يقال للزبانية: خذوا الأثيم فَاعْتِلُوهُ بكسر التاء وضمها: جرّوه وسوقوه بغلظة وشدة وعنف، ومنه العتل: الجافي الغليظ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسط النار عَذابِ الْحَمِيمِ أي من الحميم الذي لا يفارقه العذاب، فهو أبلغ من قوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ لأن المراد: يصب من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم، للمبالغة، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف، وزيدت مِنْ للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ أي يقال له: ذق العذاب، استهزاء به أو تقريعا على ما كان يزعمه الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ بزعمك وقولك: ما بين جبليها أعز وأكرم مني إِنَّ هذا إن هذا العذاب تَمْتَرُونَ تشكون فيه أو تمارون. سبب النزول: نزول الآية (43) وما بعدها: إِنَّ شَجَرَةَ: أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزّبد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد، فنزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ... نزول الآية (49) : ذُقْ إِنَّكَ..: أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: «لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا جهل، فقال: إن اللَّه أمرني أن أقول لك: «أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى» فنزع يده من يده، وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله اللَّه يوم بدر، وأذله وعيّره بكلمته، ونزل فيه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» . وأخرج ابن جرير الطبري عن قتادة نحوه. قال أبو جهل لرسول اللَّه

المناسبة:

صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما بين جبليها أعزّ ولا أمنع منى، فو اللَّه ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، فنزلت الآية. المناسبة: بعد إثبات البعث والقيامة، أعقبه تعالى بذكر ما يتعرض له الكافر يوم القيامة من أهوال بفقد الأعوان والنصراء، وتجرع الزقوم، وشرب المهل عكر الزيت والقطران، وجره بشدة وعنف إلى جهنم، وصب الماء الحميم البالغ منتهى السخونة والحرارة فوق رأسه، وتقريعه والاستهزاء به فيما زعمه من عز وإكرام، جزاء الشك بيوم البعث والقيامة. التفسير والبيان: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ إن يوم القيامة الذي يفصل اللَّه تعالى فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين، ويثيب المؤمنين، هو ميعاد جميعهم ووقت حسابهم وجزائهم جميعا، يجمعهم كلهم أو لهم عن آخرهم، ليميز المحسن من المسيء، والمحق من المبطل، كقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ 78/ 17] . وسمى يوم القيامة يَوْمَ الْفَصْلِ لأنه تعالى يفصل بين عباده في الحكم والقضاء، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون، وبين الكافرين وبين ما يشتهون، فيفصل بين الوالد وولده، والرجل وزوجته، والمرء وخليله. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يوم لا ينفع قريب قريبا، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو الإغناء، ولا هم يمنعون من عذاب اللَّه، فلا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصر القريب قريبه، كقوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة 60/ 3] وقوله سبحانه: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ

[المؤمنون 23/ 101] وقوله عز وجل: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج 70/ 10- 11] أي لا يسأل أخ له عن حاله، وهو يراه عيانا، وقوله جل وعلا: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة 2/ 48] . إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي لكن من رحمه اللَّه فإنه ينتصر وينجو، ولا يحتاج إلى ناصر غيره، إن اللَّه هو الغالب الذي لا يفلت أحد من أعدائه من عذابه، الرَّحِيمُ: ذو الرحمة الواسعة بعباده المؤمنين، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا، ويجوز أن يكون متصلا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. وبعد إقامة الدليل على أن القيامة حق، ووصف ذلك اليوم، أردفه تعالى بوعيد الفجار الكفار الجاحدين لقاءه، قائلا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أي إن الشجرة التي خلقها اللَّه في جهنم وهي الشجرة الملعونة، يكون ثمرها طعام أهل النار الكثيري الإثم، قولا وفعلا، فإذا جاعوا أكلوا منها، ويدخل معهم أبو جهل. والْأَثِيمِ: مبالغة الآثم. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي وذلك الطعام يشبه دردي الزيت، وعكر القطران، والنحاس المذاب، يغلي في بطون الكفار كغلي الماء الشديد الحرارة، لحرارته ورداءته. شبه ما يصير في البطون منها بالمهل: وهو النحاس المذاب. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ يقال للملائكة الذين هم خزنة النار: خذوا هذا الأثيم، فادفعوه وجروه إلى وسط النار بعنف وغلظة. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ أي ثم صبوا على رأسه الماء الشديد الحرارة المتقدم الوصف، كقوله عز وجل: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج 22/ 19- 20] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي: وقولوا له تهكما وتقريعا وتوبيخا: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك في الدنيا. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي إن هذا العذاب هو الذي كنتم تشكون فيه، حين كنتم في الدنيا. وهو كقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور 52/ 13- 14] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن يوم القيامة هو يوم الحسم النهائي في مصير الخلائق، وهو يوم الفصل، لأن اللَّه تعالى يفصل فيه بين خلقه، فيتميز المسيء من المحسن، والمبطل من المحق، ويكون هناك فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد. 2- من خصائص يوم القيامة: فقد النصراء والأعوان والأقارب، فلا ينصر المؤمن الكافر لقرابته، لكن من رحمه اللَّه فإنه ينجو وينتصر بنصر اللَّه، ولا يحتاج إلى معونة المخلوقين، واللَّه سبحانه في ذلك اليوم هو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه، كما قال: شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ [غافر 40/ 2] فقرن الوعد بالوعيد. 3- إن طعام أهل النار وهم الآثمون الفجار هو الثمر الشديد المرارة من شجرة الزقوم التي لا تقبل الاحتراق في النار، وهو لشدة حرارته ورداءته يغلي في بطون الكفار، كغلي الماء الشديد السخونة، فإذا جاع أهل النار أكلوا منها، فغلت في بطونهم كما يغلي الماء الحار. 4- يتعرض أهل النار لأنواع كثيرة من الإهانة والذل، منها: أنهم بواسطة

ما يلقاه المتقون من ألوان النعيم في الجنان [سورة الدخان (44) الآيات 51 إلى 59] :

الزبانية يدفعون في النار على وجوههم دفعا قويا جدا، ويساقون إليها سوقا عنيفا، ويلقون في وسط النار ليذوقوا عذابها الشديد. ومنها: أنه يقال للأثيم الفاجر توبيخا وتقريعا وتهكما واستهزاء: ذق هذا العذاب فإنك كنت تزعم أنك المتعزز المتكرم، والمراد: إنك أنت الذليل المهان. ومنها: أن ملائكة العذاب زبانية جهنم تقول للكفار: إن هذا العذاب هو ما كنتم تشكون فيه في الدنيا، كما قال تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر 102/ 5- 7] . ما يلقاه المتقون من ألوان النعيم في الجنان [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) الإعراب: جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ بدل من مَقامٍ. يَلْبَسُونَ خبر ثان ل إِنَّ أو حال من الضمير في الجارّ، أو استئناف. مُتَقابِلِينَ حال من واو يَلْبَسُونَ. كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ الكاف: إما في موضع الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره:

المفردات اللغوية:

الأمر كذلك، أو في موضع النصب على أنها وصف لمصدر محذوف، تقديره: يفعل بالمتقين فعلا كذلك. يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يَدْعُونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في زَوَّجْناهُمْ والباء: ليست للتعدية، لأن يَدْعُونَ متعد بنفسه، وإنما هي للحال، تقديره: متلبسين بكل فاكهة، بمنزلة الباء في قولهم: خرج زيد بسلاحه، أي متلبسا بسلاحه. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، أي لكن قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا، والبصريون يقدرون «إلا» في الاستثناء المنقطع ب «لكن» والكوفيون يقدرونه ب «سوى» . فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ فَضْلًا: إما منصوب على المصدر المؤكد، وتقديره: ويفضل عليهم فضلا، أو منصوب بفعل مقدر، وتقديره: أعطاهم فضلا. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ الهاء تعود على الكتاب، وقد تقدم ذكره في أول السورة في قوله تعالى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. المفردات اللغوية: فِي مَقامٍ مجلس أو مكان، والمقام والمقام بمعنى واحد أَمِينٍ يؤمن فيه من كل خوف وهمّ وحزن نَّاتٍ بساتين عُيُونٍ ينابيع جارية سُندُسٍ ما رقّ من الديباج أو الحرير إِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه وهما معرّبان مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض، فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم. كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو آتيناهم مثل ذلك وَزَوَّجْناهُمْ قرناهم بِحُورٍ عِينٍ بنساء بيض حسان واسعات الأعين يَدْعُونَ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه وغيرها لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أي في الآخرة، بل يحيون فيها دائما إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى الاستثناء منقطع أو متصل، والمراد به المبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت، فكأنه قال: لا يذوقون فيها الموت إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل وَوَقاهُمْ حماهم وحفظهم، وقرئ: «ووقيهم» . فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهلنا القرآن حيث أنزلناه بلغتك، لتفهمه العرب منك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يفهمونه فيتعظون به، فيؤمنون بك فَارْتَقِبْ انتظر هلاكهم إذا لم يتذكروا ولم يؤمنوا إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون هلاكك وما يحل بك.

المناسبة:

المناسبة: بعد وعيد الكفار الأشقياء وبيان ما يتعرضون له من أهوال الآخرة، ذكر تعالى وعده للمتقين الأبرار السعداء وما أعده لهم من جنات النعيم ذات المآكل والمشارب والملابس والزوجات الفائقة، وأنه نعيم أبدي. ثم أتبعه بختام للسورة يناسب مطلعها وهو الامتنان على العرب بنزول القرآن بلغتهم لّيعملوا بأحكامه، فإن كذّبوا انتقم اللَّه منهم. التفسير والبيان: ذكر اللَّه تعالى في هذه الآيات خمسة أنواع لنعيم الجنان لبيان وعد الأبرار، وهي: 1- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي إن المتقين لله في الدنيا باتقاء الشرك والمعاصي وامتثال الفرائض، لهم مساكن آمنة من جميع المخاوف، طيبة المكان والنزهة، فهي في بساتين غناء وينابيع متدفقة بالماء، كما قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين 83/ 22- 28] . وهذا في مقابلة ما للكفار من شجرة الزقوم وشرب الحميم. 2- 3: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ أي ملابسهم من الحرير الرقيق والغليظ، ذي البريق واللمعان والجمال الأخّاذ، وجلوسهم على صفة التقابل بقصد الاستئناس ونظر بعضهم لبعض، كقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الصافات: 37/ 43- 44] .

4- كَذلِكَ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي هذا العطاء، مع تزويجهم أو قرنهم بالزوجات الحسان الحور البيض الواسعات الأعين، اللاتي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن 55/ 56، 58] . أكثر المفسرين على أنه لا عقود زواج بالحور، وأن المراد: قرناهم بهم. 5- يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يطلبون في الجنة ما شاؤوا من أنواع الثمار أو الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها وامتناعها، بل يحضر إليهم كلما أرادوا، وآمنون من الأوجاع والأسقام، ومن الموت والتعب والشيطان. وهذا دليل على أنه اجتمعت لهم أنواع اللذة والشهوة المادية والمعنوية، بهذه الأنواع الخمسة من النعيم في المسكن والملبس والمأكل والزواج والأنس والأمان، وتلك أعلى أصناف الخيرات والراحات. ثم بيّن اللَّه تعالى أن حياتهم دائمة، فقال: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى، وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي لا يموتون في الآخرة أبدا، ولا يذوقون طعم الموت بعدئذ، لكن الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا قد ذاقوها وانتهى أمرها، وحماهم اللَّه من عذاب النار، ونجاهم منه، وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم. قال الزمخشري: هذا من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها. وقيل: الاستثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها. ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» . وأخرج مسلم وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقال لأهل

الجنة: إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا» . وأخرج أبو بكر بن أبي داود السّجستاني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من اتقى اللَّه دخل الجنة ينعم فيها، ولا يبأس، ويحيا فيها، فلا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» . وأخرج أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه عن جابر رضي اللَّه عنه قال: «سئل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أينام أهل الجنة؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون» . فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي تفضل اللَّه عليهم وأعطاهم ذلك عطاء فضلا منه وإحسانا إليهم، أو لأجل إسباغ الفضل منه، ذلك هو الفوز الأكبر الذي لا يعلوه فوز. ثبت في الصحيح عند مسلم عن جابر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل» . وبعد أن بيّن اللَّه تعالى دلائل قدرته، وأوضح الوعد والوعيد، ووصف القرآن في أول السورة بكونه كتابا مبينا (أي كثير البيان والفائدة) ذكر تعالى في خاتمة السورة ما يؤكد ذلك، فقال: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي إنما يسرنا هذا القرآن وأنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها، والذي هو لسانهم ولغتهم، وجعلناه ميسرا للفهم، كي يفهمه قومك يا محمد، فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه، والمعنى: إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما

فقه الحياة أو الأحكام:

أنزلناه عربيا بلغتك ليتذكروا ويتعظوا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 22] . وبالرغم من هذا الوضوح والبيان، كفر بعضهم وعاند وخالف، فسلّى اللَّه رسوله ووعده بالنصر، وتوعد من كذبه بالهلاك، فقال: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي انتظر أيها النبي ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم وما يحل بهم إن استمروا على الكفر، فإنهم منتظرون ما يحل وما ينزل بك من موت أو غيره، وسيعلمون لمن يكون النصر والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة 58/ 21] وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر 40/ 51- 52] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- يفيض اللَّه على عباده المتقين الأبرار في الجنة أنواع النعم الحسية والمعنوية، ذكر منها هنا خمسة أنواع تشمل المساكن، والملابس، والتقابل في الجلسات واستئناس البعض بالبعض، والأزواج، والمآكل الدائمة. قال مجاهد: إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهنّ وبياضهن وصفاء لونهنّ. وهل الحور العين أفضل أو نساء الآدميات؟ اختلفوا في ذلك، فقال حبّان بن أبي جبلة- فيما ذكره ابن المبارك-: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضّلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروى ابن المبارك مرفوعا: إن «الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف» .

وقال آخرون: إن الحور العين أفضل، لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه فيما رواه مسلم عن عوف بن مالك: «وأبدله أهلا خيرا من أهله» . وأما مهورهن فروى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «مهور الحور العين قبضات التمر، وفلق الخبز» وعن أبي قرصافة: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» وذكر الثعلبي عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنس المساجد مهور الحور العين» . 2- إن تلك النعم في الجنان لها صفة الدوام والاستمرار، دون أن يطرأ عليها انقطاع، ولا ينشأ عنها أذى أو مكروه. 3- أهل الجنة وأهل النار في خلود دائم، فكل منهم خالد إما في النعيم وإما في العذاب الأليم، ولا يطرأ عليهم موت، لكن الموتة الأولى في الدنيا قد ذاقوها. قال المحققون: إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس، وفرحها بمعرفة اللَّه وبمحبته، فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة، وفي الآخرة أيضا في الجنة، فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى. واكتفى اللَّه تعالى هنا ببشارة أهل الجنة بالخلود مع أن أهل النار يشاركونهم فيه، للدلالة على أن دوام الحياة مقرون مع ما ذكر سابقا من حصول الخيرات والسعادات. 4- أكرم اللَّه المتقين بألوان النعيم، وحفظهم من عذاب الجحيم، تفضلا منه عليهم، وتلك هي السعادة، والربح العظيم، والنجاة العظيمة، والفوز الأكبر الذي لا مثيل له على الإطلاق. ودل قوله: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق، لوصفه بأنه فضل من اللَّه، وكونه فوزا عظيما، أي إن المنحة الإلهية أفضل من الأجر والأجرة.

5- إنما أنزل اللَّه القرآن الكريم بلغة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولغة قومه العرب، وسهله عليهم وعلى كل من يقرؤه ولو من غير العرب، ليتعظوا وينزجروا. وهذا في ختام السورة حث على اتباع القرآن، ودليل على أنه تعالى أراد من كل الناس الإيمان والمعرفة، وأنه ما أراد من أحد الكفر. 6- هدد اللَّه تعالى المخالفين المكذبين للقرآن ورسول اللَّه بالهلاك والدمار، ووعد نبيه بالنصر عليهم، وسلاه عن مكابدته المشاق معهم، وأمره بانتظار ما وعده به من النصر عليهم، فإنهم منتظرون له الموت والهلاك.

سورة الجاثية:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الجاثية مكيّة، وهي سبع وثلاثون آية. تسميتها: سميت (سورة الجاثية) أخذا من الآية المذكورة فيها: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [28] أي كل أمة باركة على الرّكب لشدة الأهوال التي يشاهدها الناس يوم القيامة، انتظارا للحساب، قبل قسمة الخلائق فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين: 1- ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القرآن من اللَّه تعالى، والذي هو مكمّل لما ختمت به السورة المتقدمة من جعل القرآن بلغة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولغة قومه العرب، فهو عربي اللسان نصا وفحوى، ومعنى وأسلوبا، وفي ذلك حث على اتباعه والإيمان به. 2- تشابه السورتين في الغايات الكبرى التي يستهدفها القرآن: وهي إثبات وحدانية اللَّه من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية في خلق السموات والأرض، ومناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة التي أهلكها اللَّه لتكذيبهم الرسل.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية، وبخاصة آل حم السور السبعة، وهو تأصيل عقيدة الإسلام الأساسية وإثبات عناصرها وأركانها الثلاثة: وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والاعتقاد بنزول القرآن من عند اللَّه، وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسالته، والتصديق باليوم الآخر والحساب والبعث والجزاء. ابتدأت السورة ببيان مصدر القرآن الكريم وهو اللَّه تعالى، وإثبات وجود الخالق ووحدانيته بخلق السموات والأرض، وخلق البشر والدواب، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال المطر سبب الحياة، وتسخير الرياح. ثم هددت وأوعدت كل من كذّب بآيات اللَّه، واستكبر عنها، واتخذها هزوا بعذاب جهنم. وأخبرت عن نعم اللَّه العظمى وأولها كون القرآن هدى للناس، ثم تسخير البحر لجريان السفن فيه والاتجار بين الأقطار، وتسخير جميع ما في الكون لعباد اللَّه تعالى. وأردفت ذلك بمبادئ خلقية واجتماعية إنسانية سلمية هي عفو المؤمنين وترفعهم عن زلات الكافرين، فالعمل الصالح أو الفاسد يعود أثره على صاحبه، وتذكير بني إسرائيل بما امتن اللَّه عليهم من نعم روحية ومادية هي التوراة، والحكمة والفقه وفصل الخصومات بين الناس، والنبوة، ورزق الطيبات، والتفضيل على العالمين في عصرهم، والإتيان بالبينات وهي الآيات والمعجزات، وأمر الرسول بعدم إطاعة المشركين واتباع أهوائهم، والتعجب من حالهم، وتجرؤهم على إنكار البعث، واتخاذهم الهوى إلها ومعبودا. وفي مقابل ذلك بيان استقلال الشريعة الإسلامية وإثبات ذاتيتها، وأمر الرسول والمؤمنين باتباعها وحدها دون ما عداها، والاعتزاز والثقة بالله الذي يمدّ

سبب نزولها:

نبيه بالعون وأنه ولي المتقين، والتزام منهج اللَّه وهدايته ورحمته وهو القرآن العظيم، ومعرفة قانون اللَّه وعدله وحكمته في التفرقة بين المؤمنين الأبرار والمجرمين الأشرار، وبين المتبصرين بآيات اللَّه، ومن أغلق على نفسه منافذ الهداية، فحجب السمع والبصر والقلب عن نور اللَّه. ثم رد اللَّه تعالى على المشركين منكري البعث بأن اللَّه هو المحيي والمميت وجامع الناس ليوم القيامة، فهو صاحب القدرة العجيبة ومالك السموات والأرض، والمتفرد بالسلطان الأعظم في الآخرة ذات الأهوال الرهيبة في العرض والحساب وشهادة صحف الأعمال على أصحابها. وختمت السورة ببيان الجزاء الحق العادل، وقسمة الناس فريقين: فريق الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وفريق النار الذين كفروا بالله ورسوله، واقترفوا السيئات والمعاصي، وهزئوا بآيات اللَّه، واغتروا بالحياة الدنيا. وذلك كله يستوجب الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وله وحده الكبرياء في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم. سبب نزولها: ذكر المهدوي والنحاس عن ابن عباس: أنها نزلت في عمر رضي اللَّه عنه، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به، فأنزل اللَّه عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [14] ثم نسخت بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] . فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية.

مصدر القرآن وإثبات الخالق ووحدانيته [سورة الجاثية (45) الآيات 1 إلى 6] :

مصدر القرآن وإثبات الخالق ووحدانيته [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الإعراب: تَنْزِيلُ الْكِتابِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، وخبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ... آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (آيات) بالضم: مرفوع بالابتداء، وَفِي خَلْقِكُمْ: خبره، أو بالعطف على موضع إن واسمها وخبرها، أو مرفوع بالظرف. ومن قرأ بالكسر: جعله منصوبا بالعطف على لفظ اسم إِنَّ، أو بالعطف بالجر على السَّماواتِ أو منصوب على البدل من آياتٌ الأولى. وكذا قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يقرأ بالكسر وبالضم بالأوجه السابقة. نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ متعلق ب «نتلو» ونَتْلُوها: حال، عاملها معنى الإشارة. البلاغة: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ فيها تأكيد ب إِنَّ واللام للرد على المخاطبين منكري وحدانية اللَّه. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي مطر، مجاز مرسل علاقته المسببية، لأن المطر النازل من السماء هو سبب الرزق والنبات، أما الرزق فلا ينزل من السماء.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: حم هذه الحروف للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى أهمية ما يتلى بعدها تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي تنزيل القرآن من اللَّه تعالى الْعَزِيزِ القوي الغالب في ملكه الْحَكِيمِ في صنعه، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة للعباد. إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن في خلق السموات والأرض، بدليل قوله وَفِي خَلْقِكُمْ لَآياتٍ لدلائل دالة على قدرة اللَّه ووحدانيته تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم الذين ينتفعون بهذه الدلائل وَفِي خَلْقِكُمْ أي في خلق كل واحد منكم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن يصبح إنسانا وَما يَبُثُّ أي وخلق ما ينشر ويفرق في الأرض مِنْ دابَّةٍ هي ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم يُوقِنُونَ يصدقون عن يقين وإذعان بقدرة اللَّه على البعث وغيره. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي وفي تعاقبهما مِنْ رِزْقٍ مطر يكون سبب الرزق تَصْرِيفِ الرِّياحِ تقليبها وتحويلها جنوبا وشمالا، حارة وباردة يَعْقِلُونَ يفكرون ويتدبرون الدليل، فيؤمنون تِلْكَ الآيات المذكورة آياتُ اللَّهِ حججه ودلائله الدالة على وحدانيته نَتْلُوها نقصها بِالْحَقِّ أي متلازمة ملتبسة بالحق الواضح الذي لا غموض فيه ولا التباس فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي بعد حديث اللَّه وهو القرآن، وتقديم اسم اللَّه للمبالغة والتعظيم، كقول اللَّه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 39/ 23] وَآياتِهِ حججه يُؤْمِنُونَ يصدقون، وهم كفار مكة، وقرئ «تؤمنون» . قال الصاوي على الجلالين: ذكر اللَّه سبحانه وتعالى من الدلائل ستة في ثلاث آيات، ختم الأولى ب لِلْمُؤْمِنِينَ والثانية ب يُوقِنُونَ والثالثة ب يَعْقِلُونَ ووجه التغاير بينها في التعبير: أن الإنسان إذا تأمل في السموات والأرض، وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إيمانا فأيقن، وإذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه. وهذا مأخوذ من كلام الزمخشري «1» . وقال البيضاوي: لعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور. التفسير والبيان: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ حم: تقدم شرحها

_ (1) الكشاف: 3/ 112

إن هذا القرآن منزل من عند اللَّه القوي الغالب الذي لا يقهر، الحكيم في كل شيء بتدبيره ووضعه في المكان المناسب له، وتحقيقه المصلحة لعباده. ويقتضي إثبات هاتين الصفتين للَّه عز وجل: كونه قادرا على جميع الممكنات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، فلا يصدر منه العبث والباطل. ثم ذكر اللَّه تعالى ما تقتضيه العزة والحكمة، فقال: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن في خلق السموات وخلق الأرض لدلائل قاطعة على وجوده ووحدانيته وقدرته العظيمة، وهذا دليل من الكون، ثم ذكر تعالى دليلا من الأنفس، فقال: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي وإن في خلقكم دون وجود سابق، ومروركم في أطوار مختلفة من الخلق، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، إلى أن يصير الواحد منكم إنسانا كامل الذات والصفات البشرية، وفي خلق ما يفرق وينشر من دابة في نواحي الأرض المختلفة، وأقاليمها المتفاوتة حرارة وبرودة واعتدالا، وأراضيها الرطبة والجافة، وأنواع حيواناتها الإنسية والوحشية، البرية والبحرية والجوية، آيات ودلائل أخرى شديدة الوضوح، تدل على قدرة الصانع العظيم وحكمته، التي يعتبر بها أهل اليقين، الذين آمنوا ثم قبلوا الحق، ثم ازدادوا إيمانا وأذعنوا ورسخ الإيمان في قلوبهم كالجبال الثوابت، فأيقنوا يقينا تاما لا يخالطه أي شك. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي وإن في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وتفاوتهما في الطول والقصر، والحرارة والبرودة، والضياء والظلمة، وفيما أنزل اللَّه من السحاب من مطر يكون سببا لرزق العباد وإحياء الأرض بإخراج النبات، وفي تقليب الرياح وتغييرها من

جهة إلى جهة، ومن حال إلى حال، مرة من الجنوب ومرة من الشمال، وتارة تكون حارّة، وتارة تكون باردة، وأحيانا نافعة، وأحيانا ضارة، كل ذلك أيضا لأدلة عظيمة وحجج باهرة دالة على وجود اللَّه ووحدانيته وقدرته، التي ينتفع بها عادة أهل العقول الراجحة، المتأملون بها، الفاهمون لحقائقها، ولا ينتفع بها أهل الجهل والعناد. وهكذا يترقى المتأملون في تلك الآيات من إثبات أصل الإيمان في قلوبهم، إلى اليقين، إلى اكتمال العقل والنظر، وهو ترقّ من حال إلى ما هو أعلى منها، وهذه سمة المؤمنين الكمّل الذين استخدموا طاقاتهم الفكرية والنظرية للوصول إلى أسمى الغايات وأمثل الحالات. وهذه الآيات شبيهة بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة 2/ 164] . ثم أوجز اللَّه تعالى العبرة من تلك الآيات بقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي هذه الآيات المذكورة هي حجج اللَّه وبراهينه وبيناته نتلوها عليك أيها النبي متضمنة الحق المبين، ونحن محقون صادقون فيما ننزله عليك من القرآن المتلو، ليستفيد منها البشر قاطبة، فإذا كانوا لا يؤمنون بها، ولا ينقادون لها، فبأي حديث أو كلام بعد حديث اللَّه وكلامه وآياته وهو القرآن يؤمنون ويصدقون؟! وعبّر ب تِلْكَ إشارة إلى علو مرتبة الآيات. والخلاصة: من لم يؤمن بكلام اللَّه فلن يؤمن بحديث بعده.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كون مصدر القرآن الكريم هو اللَّه عز وجل، وليس له أي مصدر آخر سواه. 2- إثبات وجود اللَّه تعالى ووحدانيته وقدرته بأدلة ستة في ثلاث آيات: الدليل الأول من الكون- خلق السموات والأرض فهو يدل على وجود الإله- كما ذكر الرازي من ستة وجوه «1» : أولا- أنها أجسام حادثة، وكل حادث له محدث. ثانيا- أنها مركبة من أجزاء متماثلة في مواضع متفاوتة عمقا وسطحا، مما يدل على أن وقوع كل جزء في موضعه لا بد له من مرجح ومخصص. ثالثا- أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في ماهيتها الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة، واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية، وذلك لا بد له من مرجح. رابعا- أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل، وبياض المشتري، وحمرة المريخ، والضوء الباهر للشمس، ودرية الزهرة، وصفرة عطارد، ونور القمر ومحوه، واختلافها في تلك الصفات دليل على أن الإله القادر المختار هو الذي خصص كل واحد منها بصفته المعينة. خامسا- أن كل فلك مختص بحركة إلى جهة معينة، ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء، وذلك دليل على مخصص فاعل مختار وهو اللَّه وحده.

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 257- 258

سادسا- أن كل فلك مختص بمهمة معينة، فلا بد من مخصص فاعل مختار. الدليل الثاني والثالث من الأنفس- وهما خلق الإنسان والدواب بتركيب عضوي عجيب، وخواص وطاقات مادية ومعنوية مذهلة، يدلنا ذلك على أن هناك خالقا مبدعا لتلك الأنفس وهو اللَّه تعالى. الدليل الرابع والخامس والسادس من الظواهر الكونية- وهي تعاقب الليل والنهار بنحو دائم وتفاوتهما، وإنزال الأمطار والثلوج لإحياء الأرض بالنبات وتغذية الينابيع والأنهار، وتقليب الرياح وتغييرها، كل ذلك دليل واضح على وجود اللَّه القادر القاهر، الحكيم الصنع، البديع الخلق والإتقان. 3- هذه آيات اللَّه، أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته، أنزلها اللَّه في قرآنه بيانا متلوا إلى يوم القيامة، مشتملا على الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه، فإذا لم يؤمن الناس بها، ولم يصدقوا بالقرآن وآياته البينات، فلن يجدوا سواها طريقا للإيمان وتصحيح العقيدة. ولقد قال اللَّه تعالى في هذه الآيات عبارات ثلاثا أولها يُؤْمِنُونَ وثانيها يُوقِنُونَ وثالثها يَعْقِلُونَ والمقصود بها كما قال الرازي: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين، فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. أو أن الآيات النفسية تحتاج إلى الإيقان، لقربها من الإنسان، وأما الآيات الخارجية الفلكية فيكفي فيها التصديق لبعدها عن الإنسان، وأما العلوية فتحتاج إلى النظر والاستدلال.

وعيد المكذبين بآيات الله وجزاؤهم [سورة الجاثية (45) الآيات 7 إلى 11] :

وهذا دليل قاطع على أن القرآن اشتمل على أصول العقيدة والإيمان ودلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة، كما اشتمل في مواضع أخرى على الأحكام الفقهية الجزئية في العبادات، والمعاملات، وأحكام الأسرة، والدولة، والأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والحكم، وغير ذلك. وعيد المكذبين بآيات اللَّه وجزاؤهم [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) الإعراب: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أَلِيمٌ بالرفع: صفة عَذابٌ ويقرأ بالجر: صفة رِجْزٍ. البلاغة: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ من صيغ المبالغة على وزن فعّال وفعيل. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكمي، لأن استعمال البشارة التي تكون عادة بالخير في الشر تهكم. يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها تشبيه مرسل، أي كأنه لم يسمع آيات القرآن. هذا هُدىً وصف القرآن بالمصدر الذي هو هدى للمبالغة، كأنه لوضوح حجته عين الهدى.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَيْلٌ كلمة عذاب أَفَّاكٍ كذاب، أي كثير الكذب والإفك أَثِيمٍ كثير الإثم والمعصية آياتِ اللَّهِ القرآن ثُمَّ يُصِرُّ على كفره، والإصرار على الشيء: ملازمته مُسْتَكْبِراً متكبرا متعاظما عن الإيمان بالآيات، وثُمَّ لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه لم يسمعها، فخففت وحذف ضمير الشأن، والجملة في موقع الحال، أي يصرّ مثل غير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره، والبشارة للتهكم مِنْ آياتِنا القرآن اتَّخَذَها هُزُواً أي مهزوءا بها أُولئِكَ أي الأفاكون لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة، أي عذاب مخز مذل. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي أمامهم وقدامهم، لأنهم متوجهون إليها، أو من خلفهم، لأنه بعد آجالهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ لا يدفع عنهم ما كَسَبُوا من المال والأولاد والفعال شَيْئاً من عذاب اللَّه وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام أَوْلِياءَ نصراء وأعوان وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يتحملونه. هذا هُدىً أي هذا القرآن هاد من الضلالة لَهُمْ عَذابٌ لهم حظ من العذاب مِنْ رِجْزٍ الرجز: أشد العذاب أَلِيمٌ موجع. سبب النزول: نزول الآية (8) : يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ: نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه. المناسبة: بعد بيان الآيات للكفار، وبيان أنهم إن لم يؤمنوا بها مع ظهورها، فلا يؤمنوا بعدها بشيء، أتبعه تعالى بوعيد عظيم بالعذاب الشديد لكل من كذب بتلك الآيات، ثم أصر على كفره بها، ثم ذكر أن جزاءهم جهنم، دون أن تنفعهم أصنامهم شيئا، وأن القرآن العظيم هو الهدى فقط من الضلالة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي الهلاك وأشد العذاب لكل كذاب بآيات اللَّه، كثير الإثم والمعاصي، ولهذا الأفاك حالتان: الأولى- الإصرار والاستكبار: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي إن هذا الأفاك إذا سمع آيات القرآن تتلى على مسامعه، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية اللَّه وقدرته، ووعده ووعيده، بقي مصرا على كفره، وأقام على ما كان عليه إقامة بقوة وشدة، ولم يتعظ بما يسمع من كلام اللَّه، وتكبر وتعاظم عن الإيمان بالآيات، معجبا بنفسه، وكأنه لم يسمعها، مشبها حاله بحال غير السامع في عدم الالتفات إليها، فأخبره بأن له عند اللَّه عذابا شديد الإيلام، جزاء إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات. والتعبير عن هذا الخبر المحزن بالبشرى تهكم شديد واحتقار لهم. ونظير الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام 6/ 1] . الحال الثانية- الاستهزاء بالآيات: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي وإذا علم هذا الأفاك من آيات اللَّه شيئا، اتخذ ذلك الشيء هزوا، أي موضوعا للسخرية والتندر مما حوته من المعاني، أولئك الأفاكون الذين سبقت صفاتهم لهم عذاب موصوف بالإهانة والذل والخزي بسبب إصرارهم واستكبارهم عن سماع آيات اللَّه واتخاذها موضوع استهزاء واستهانة بالقرآن. والعذاب المهين: هو المشتمل على الإذلال والفضيحة. روي- كما تقدم- أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد إلا

شهدا- عسلا- وحين سمع قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي على النار قال: إن كانوا تسعة عشر، فأنا ألقاهم وحدي. ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب المهين، فقال: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة، لأنهم متوجهون إليها مثل قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم 14/ 16] أي من أمامه، أو إن وراء تعززهم بالدنيا وتكبرهم عن الحق جهنم، فإنها خلفهم وستدركهم، ولا يدفع شيئا من العذاب عنهم ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمران 3/ 10، 116] ، ولا ينفعهم أي نفع، ولا تنفعهم أيضا الأصنام التي اتخذوها آلهة يعبدونها من دون اللَّه، يرجون منها النفع، ودفع الضرر، ولهم عذاب عظيم دائم مؤلم في جهنم التي هي من ورائهم. وكل ما توارى عنك فهو وراء، تقدّم أو تأخر، كما ذكر في غرائب القرآن. وسبب التفرقة بين قوله لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وقوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أن الوصف الأول يدل على حصول الإهانة مع العذاب، والوصف الثاني يدل على كونه بالغا أقصى المراتب في كونه ضررا. ثم وصف اللَّه تعالى القرآن بقوله: هذا هُدىً، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي هذا القرآن والآيات المتقدمة في هذه السورة هي هادية إلى الحق، ومرشدة إلى الصواب، وموجهة إلى النور من الظلمة والضلال، والذين كفروا بآيات اللَّه القرآنية لهم أشد العذاب يوم القيامة. فقوله هذا هُدىً أي كامل في كونه هدى، والرجز: أشد العذاب

فقه الحياة أو الأحكام:

لقوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [البقرة 2/ 59] وقوله سبحانه: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف 7/ 134] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- توعد اللَّه تعالى بوعيد شديد كل من ترك الاستدلال بآيات اللَّه بالرغم من وضوحها التام، ثم كفر بها وكذب بما جاءت به، وتمادى في كفره، متعظما في نفسه عن الانقياد لها، وجحد بها استكبارا وعنادا. والآية عامة في مثل هؤلاء، وإن كان سبب نزولها الخاص هو النضر بن الحارث، أو الحارث بن كلدة، أو أبو جهل وأصحابه. 2- يتضمن الوعيد أيضا حال كل من استهزأ بآيات اللَّه، وتحدى قدرة اللَّه، فوصف الزقوم بأنه الزبد والتمر، وقال في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر، فأنا ألقاهم وحدي. 3- وصف اللَّه تعالى نوع عذاب هؤلاء (لأفاكين الكذابين الآثمين الكفرة المعاندين بأوصاف أربعة هي: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ. 4- احتاط اللَّه تعالى لحرمة كتابه القرآن، فلم يعرضه للاستهانة والاستهزاء به، ولهذا روى مسلم في صحيحة عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: «نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو» . 5- لن يغني ولن يفيد هؤلاء الكافرين في تخليصهم من ذلك العذاب كل

من نعم الله تعالى على عباده [سورة الجاثية (45) الآيات 12 إلى 15] :

ما كسبوه في الدنيا من المال والولد، ولا الأصنام التي اتخذوها آلهة وعبدوها من دون اللَّه. 6- القرآن الكريم هدى للبشرية من الضلالة، ثم أكد تعالى وعيده للذين جحدوا دلائله بأن لهم عذابا هو أشد العذاب. والخلاصة: إن اللَّه تعالى جعل مؤيدات جزائية صارمة وشديدة لكل من كفر بالقرآن، ولم يتفكر بآيات اللَّه ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته، وذلك إنذار دائم شديد التأثير لكل من حاد عن منهج القرآن وعقيدة الإسلام. من نعم اللَّه تعالى على عباده: [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) الإعراب: مِنْهُ متعلق بحال، أي كائنة منه تعالى. يَغْفِرُوا مجزوم، لأن تقديره: قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا، وحقيقة جزمه بتقدير حرف شرط مقدر.

البلاغة:

لِيَجْزِيَ قَوْماً أي ليجزي اللَّه، وهو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وقَوْماً: مفعول به. وقرئ: «ليجزين» بفتح الياء وكسر الزاي، و «ليجزي» بضم الياء وفتح الزاي، و «لتجزي» بفتح التاء، ومن قرأ «ليجزي» بالبناء للمجهول، نصب قوما على تقدير: ليجزي الجزاء قوما، وهذا جائز على مذهب الأخفش والكوفيين، وغير جائز على مذهب البصريين، لأن المصدر لا يجوز إقامته مقام الفاعل مع مفعول صحيح. وقرئ: «لنجزي» بالنون على التعظيم. البلاغة: سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ.. إطناب لإظهار الامتنان. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها بينهما طباق. المفردات اللغوية: سَخَّرَ هيأ وذلل الْفُلْكُ السفن بِأَمْرِهِ بإذنه وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا بالتجارة والغوص والصيد وغيرها وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من شمس وقمر ونجوم وماء وغيره وَما فِي الْأَرْضِ من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيرها، والمراد: خلق ذلك لمنافعكم جَمِيعاً تأكيد مِنْهُ حال، أي سخرها كائنة منه تعالى يَتَفَكَّرُونَ في صنائعه. يَغْفِرُوا يعفوا ويصفحوا، وقد حذف المقول لدلالة الجواب عليه، والمعنى: قل لهم: اغفروا للكفار أذاهم لكم يغفروا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يخافون وقائعه بأعدائه، يقال: أيام العرب، أي وقائعهم لِيَجْزِيَ أي اللَّه قَوْماً هم المؤمنون بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المغفرة للكفار أذاهم، أو الإساءة. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي لها ثواب العمل، وعليها عقابه، والمراد: فلنفسه عمل، وعليها أساء ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ تصيرون، فيجازيكم على أعمالكم، يجازي المصلح والمسيء.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (14) : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا: ذكر الواحدي النيسابوري والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وعبد اللَّه بن أبيّ وجماعتهما، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد اللَّه غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على قفّ- فم- البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد اللَّه: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمّن كلبك يأكلك، فبلغ عمر رضي اللَّه عنه، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... وذكر الواحدي والثعالبي عن ابن عباس وميمون بن مهران سببا آخر قال: لما نزلت هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال يهودي بالمدينة يقال له: فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فجاء جبريل عليه الإسلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إن ربك يقول: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلب عمر، فلما جاء قال: يا عمر ضع سيفك، قال: صدقت يا رسول اللَّه، أشهد أنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الآية، فقال عمر: لا جرم- حقا- والذي بعثك بالحق، ولا يرى الغضب في وجهي «1» .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 215، غرائب القرآن للحسن بن محمد النيسابوري: 25/ 76

المناسبة:

المناسبة: بعد إيراد أدلة وجود اللَّه ووحدانيته، أورد اللَّه تعالى بعض نعمه الدالة أيضا على قدرته وهي تسخير السفن في البحار لحمل التجارات والركاب، وتسخير ما في السموات والأرض، ثم أمر المؤمنين بالعفو عن الكفار، وأبان أن جزاء العمل الصالح والسيء يعود على نفس العامل خيرا أو شرا. التفسير والبيان: يذكر اللَّه تعالى نعمه على عباده وهي: 1- اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي إن اللَّه الذي ثبت لكم وجوده ووحدانيته بالأدلة السابقة هو الذي ذلل لكم البحر لجريان السفن فيه بإذنه، والاتجار بين الأقطار، والغوص للدرّ، وصيد الأسماك وغير ذلك، أي للمتاجر والمكاسب، ولتشكروا نعم اللَّه الحاصلة لكم بسبب هذا التسخير، ومنافعه المجلوبة لكم من البلاد النائية. وتسخير البحر بثلاثة أشياء: هي أولا- الرياح المساعدة على مسيرة السفن في الماضي وثانيا- قدرة تحمل الماء لآلاف الاطنان بل أكثر من خمس مائة الف طن، وثالثا- وجعل الخشب طافيا على وجه الماء دون غوص فيه. 2- وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي وذلل لكم أيضا جميع ما في السموات من كواكب وغيرها، وجميع ما في الأرض من جبال وبحار وأنهار ورياح وأمطار ومنافع أخرى فضلا منه ورحمة، إن في ذلك التسخير لدلائل واضحة على قدرة اللَّه وتوحيده، لقوم يتفكرون فيها ويستدلون بها على التوحيد. وهذا كقوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ، فَإِلَيْهِ

فقه الحياة أو الأحكام:

تَجْئَرُونَ [النحل 16/ 53] . وبعد بيان أدلة التوحيد والقدرة الإلهية أمر اللَّه تعالى بمحاسن الأخلاق، فقال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي قل أيها النبي للمؤمنين المصدقين بالله ورسوله: اعفوا واصفحوا وتحملوا أذى هؤلاء المشركين الذين لا يخافون وقائع اللَّه وأنواع عذابه، ليجزي اللَّه أولئك المؤمنين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي منها الصبر على أذى الكفار وكظم الغيظ واحتمال المكروه. وتنكير قَوْماً لتعظيم شأن المؤمنين المذكورين في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وقوله: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ معناه: لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية. ثم أوضح اللَّه تعالى أن الإحسان والإساءة يعودان على المحسن والمسيء، فقال مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي من عمل الأعمال الصالحة التي أمر اللَّه بها وانتهى عما نهى عنه، فلنفسه عمل، ومن اقترف السيئات والمعاصي، فعلى نفسه جنى، ثم تعودون إلى اللَّه يوم القيامة، فتعرضون بأعمالكم عليه، فيجزيكم عليها خيرها وشرها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- امتن اللَّه تعالى على عباده بما أنعم عليهم من تسخير البحر لجريان السفن فيه بإذنه ومشيئته، ولتحقيق المكاسب ومنافع المتاجر، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، واصطياد الأسماك، لكي يشكروه على نعمه. 2- وكذلك امتن اللَّه تعالى على العباد بتسخير جميع ما في السموات وما في

نعم الدين وإنزال الشرائع [سورة الجاثية (45) الآيات 16 إلى 20] :

الأرض من شمس وقمر ونجوم وكواكب، وجبال وسهول وأنهار ومعادن وزروع وأشجار ونباتات وغيرها، ففي ذلك كله دلائل واضحة على توحيد اللَّه وقدرته. 3- الأخلاق الحسنة تابعة للعقيدة الصالحة، لذا بعد أن علّم تعالى عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، علمهم محاسن الأخلاق وفضائل الأفعال، فأمر بالعفو والصفح عن المشركين والمنافقين واليهود، ليكون ذلك سببا لجزاء المؤمنين على ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الطيبة. والآية ليست منسوخة بناء على أنها نزلت بالمدينة، أو في غزوة بني المصطلق. 4- إن ثواب العمل الصالح، وعقاب العمل السيء يرجع إلى صاحبه، فينفعه أو يضره في آخرته، وإن جميع الخلائق عائدون إلى ربهم للحساب والجزاء، فالعمل الصالح يعود بالنفع على فاعله، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله، وأنه تعالى أمر بهذا، ونهى عن ذلك، لحظّ العبد، لا لنفع يرجع إليه. وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح، وزجر عن العمل الباطل. نعم الدين وإنزال الشرائع [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 20] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

الإعراب:

الإعراب: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ مبتدأ وخبر. البلاغة: فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بين الفعلين الأول والثاني ما يسمى بطباق السلب. المفردات اللغوية: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي التوراة وَالْحُكْمَ أي والحكمة النظرية والعملية، أو الفهم والقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، لأنهم كانوا ملوكا وحكاما وَالنُّبُوَّةَ النبوة لموسى وهارون وكثير من الأنبياء، إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المباحات اللذائذ كالمن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم البشر، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم. بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل واضحات في أمر الدين، ومنها المعجزات فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر الديني إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ العلم بحقيقة الحال عداوة وحسدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ.. بالمؤاخذة والمجازاة. ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ طريقة ومنهج من أمر الدين، وأصل الشريعة: مورد الماء، ثم أستعير للدين، لأن الناس يردون فيه ما تحيا به نفوسهم فَاتَّبِعْها اتبع شريعتك الثابتة بالحجج وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ آراء الجهال التابعة للشهوات. لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ لن يدفعوا عنك مِنَ اللَّهِ من عذابه وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين

المناسبة:

بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي إن جنس الظلم علة موالاة بعضهم بعضا، فلا توالهم باتباع أهوائهم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ نصير المؤمنين هذا القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ معالم للدين يتبصرون بها وجه الفلاح في الأحكام والحدود وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ ونعمة من اللَّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون اليقين. المناسبة: بعد بيان بعض نعم اللَّه في الدنيا على الناس جميعا فهي نعم عامة، ذكر تعالى نعم الدين والدنيا على بني إسرائيل فهي نعم خاصة، وبما أن نعم الدين أفضل من نعم الدنيا، بدأ تعالى بتعداد نعمه الدينية عليهم، وأتبعها بالنعمة العظمى على الإنسانية وهي الشريعة الإسلامية التي لم يبق في الوجود دليل آخر سواها على صحة مصدريتها من اللَّه سبحانه، فكانت هي البصائر والهدى والرحمة. التفسير والبيان: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ... أي تا للَّه لقد أعطينا بني إسرائيل نعما خاصة، أذكر منها هنا ستا وهي: 1- إنزال التوراة على موسى عليه السلام التي فيها هدى ونور. 2- الفهم والفقه لفصل القضاء والخصومات بين الناس، لأنهم جمعوا بين حكم الدين وحكم الدنيا، فجعل الملك فيهم. 3- إرسال الرسل إليهم، كموسى وهارون عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء الكثيرين. 4- إمدادهم بطيبات الرزق المباحة المستلذة من المآكل والمشارب كالمن والسلوى.

5- تفضيلهم على عالمي زمانهم من الناس، حيث كثر فيهم الأنبياء، وجمعوا بين الملك والنبوة، وأوتوا من المعجزات العامة المادية الباهرة، كفلق البحر وتظليل الغمام، والإنجاء من ظلم فرعون وجنوده، فكانوا أرفع درجة وأعلى منقبة بين الشعوب في عصرهم. 6- إيتاؤهم الحجج والبراهين والمعجزات والأدلة القاطعة، والأحكام والمواعظ والشرائع الواضحة في الحلال والحرام. ومع كل هذا لم يشكروا تلك النعم، بل اختلفوا في أمر الدين، كما قال تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي فما وقع الاختلاف بينهم في أمر الدين إلا بعد العلم بحقيقة الحال، وبعد قيام الحجة عليهم، حبا للرئاسة، وعداوة وحسدا وعنادا، وبغيا منهم على بعضهم بعضا. والخلاف في الأشياء يستتبع القضاء، لذا قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن اللَّه سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبيّن المحقّ من المبطل. وفي هذا تحذير للأمة الإسلامية أن تختلف مثل اختلاف بني إسرائيل، لذا قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي ثم جعلناك يا محمد على طريقة ومنهاج من أمر الدين يوصلك إلى الحق، فاتبع ما أوحي إليك من ربك، واعمل بأحكام شريعتك المؤيدة بالأدلة الواضحة في أمتك، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين الذين

لا يعلمون توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك، وهم كانوا أفضل منك وأسنّ، فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله: وَلا تَتَّبِعْ الآية، أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب، وهم لا يقدرون على دفعه عنك. وعلة النهي عن اتباع أهوائهم هي ما قال تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي إن هؤلاء المشركين الجهلة لن يدفعوا عنك من الله شيئا أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعتك. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي وإن هؤلاء الكافرين ينصر بعضهم بعضا، فالمنافقون أولياء اليهود في الدنيا، ولكن تناصرهم لا يفيدهم شيئا في الآخرة، ولا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا، والله ناصر المؤمنين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، أما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. وهذه تفرقة واضحة بين ولاية الله للمتقين، وولاية الظالمين لبعضهم. ثم بيّن الله تعالى فضل القرآن الدائم الخالد، قائلا: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ، وَهُدىً، وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي هذا القرآن المشتمل على شرائع الله الخالدة إلى يوم القيامة هو دلائل وبراهين للناس جميعا فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، وهاد إلى الجنة من عمل به، ورحمة من الله وعذابه في الدنيا والآخرة لقوم من شأنهم الإيقان وعدم الشك بصحته وتعظيم ما فيه. وإنما خص الموقنين بذلك، لأنهم المنتفعون به.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: اشتملت الآيات على ما يأتي: 1- امتن الله تعالى على بني إسرائيل بنعم ست هي التوراة، وفهم الكتاب أو الحكم بين الناس والقضاء في الخصومات، وإرسال كثير من الأنبياء فيهم وهم من عهد يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام، ورزقهم من طيبات الحلال من الأقوات والثمار وأطعمة الشام، وتفضيلهم على عالمي زمانهم، وإيتاؤهم بيّنات الأمر، أي دلائل الحق الواضحة، وشرائع الحلال والحرام، والمعجزات الداعية إلى الصدق والإيمان. 2- لم يقع الخلاف بين بني إسرائيل بإيمان بعضهم وكفر بعضهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وتعريفهم بحقيقة الحال، وإدراكهم صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بوثائقهم الدينية وإخبار كتبهم وبشائرها بنبي آخر الزمان. وكان خلافهم نابعا من الأغراض الذاتية، كالحسد والعداوة وحب الرياسة، لا من أجل المصلحة العامة. وتحذيرا من هذا الخلاف توعدهم الله بقضائه الحاسم وحكمه العادل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين في الدنيا. 3- وبما أن الأمر المختلف فيه عقيدة وشريعة لا يصلح للبقاء والاستمرار، أوصى الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمته والبشرية كلها باتباع شريعة القرآن. والشريعة: ما شرع الله لعباده من أمر الدين. وتلك الشريعة منهاج واضح يؤدي إلى الحق والسعادة والنجاة في الآخرة، لأنها تتضمن أوامر الله ونواهيه وحدوده وفرائضه الثابتة ثبوتا قطعيا لا شك فيه، أما ما قبلها فلم يقم دليل واحد على صحة ما يتناقله أهلها منها، أو ثبوته ثبوتا صحيحا من عند الله تعالى، لضياع

التوراة، وكتابة الإنجيل كتابة متأخرة عن تاريخ نزوله على السيد المسيح عليه السلام. فإن فرض ثبوت شيء من شرائع من قبلنا، فلا خلاف في أن الله تعالى جعل الشريعة واحدة في أصولها في التوحيد ومكارم الأخلاق ومصالح الناس، وإنما خالف بينها في الفروع الجزئية لا في الأصول حسبما تقتضي المصلحة في علم الله تعالى. 4- قال ابن العربي المالكي الذي يرى كغيره من المالكية أن شرع من قبلنا شرع لنا: ظن بعض من يتكلم في العلم «1» أن هذه الآية: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، لأن الله تعالى أفراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء، هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك «2» . 5- إن القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيه براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام، بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورشد وطريق يؤدي إلى الجنة، ورحمة من العذاب في الآخرة لمن آمن واتقى. جعلنا الله تعالى من القائمين بشرعه، المهتدين بهديه، المخلصين في اتباع أمره ونهيه، الظافرين بفضل الله ورحمته في الآخرة والدنيا.

_ (1) وهو رد على الشافعية الذين يرون أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ولهذه الآية. (2) أحكام القرآن: 4/ 1682

الفارق بين المحسنين والمسيئين في المحيا والممات [سورة الجاثية (45) الآيات 21 إلى 23] :

الفارق بين المحسنين والمسيئين في المحيا والممات [سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 23] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) الإعراب: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ ... أَنْ وصلتها: سدت مسد مفعول حَسِبَ . وسَواءً : حال من ضمير نَجْعَلَهُمْ ومَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ : مرفوعان بسواء، لأنه بمعنى مستو، ويقرأ بالرفع «سواء» على أنه خبر مقدم، ومَحْياهُمْ : مبتدأ مؤخر، ومَماتُهُمْ : عطف عليه. وساءَ ما يَحْكُمُونَ إن كانت ما معرفة، كانت في موضع رفع ب ساءَ وإن كانت نكرة، كانت في موضع نصب على التمييز. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بِالْحَقِّ: في موضع نصب على الحال، وليست باؤه للتعدية. أَفَرَأَيْتَ يقدر له مفعول ثان بعد قوله غِشاوَةً أي لرأيت أيهتدي. فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد هداية الله. البلاغة: مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ بينهما طباق. وكذا بين السَّيِّئاتِ والصَّالِحاتِ. المفردات اللغوية: أَمْ الهمزة: همزة الإنكار، وأم منقطعة عما قبلها، أي أبل، والمراد إنكار الحسبان.

سبب النزول:

اجْتَرَحُوا اكتسبوا ومنه الجارحة: أعضاء الإنسان. السَّيِّئاتِ الكفر والمعاصي. أَنْ نَجْعَلَهُمْ هذا الضمير وما قبله في اجْتَرَحُوا للكفار، والمعنى: إنكار أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة، أو ترك المؤاخذة، كما استووا في الرزق والصحة في الحياة. ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ليس الأمر كذلك، فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم وحالهم في الدنيا، أي ساء حكمهم هذا، أو بئس شيئا وحكما حكمهم هذا، وما مصدرية. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه دليل على الحكم السابق، لأن الخلق بالحق يستدعي العدل والتفاوت بين المسيء والمحسن. وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من المعاصي والطاعات، فلا يساوي الكافر المؤمن، وهي عطف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى العلة لما سبق، أي ليستدل بذلك على قدرته، وليعدل ويجزي. أَفَرَأَيْتَ أخبرني. مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى من عبادة الحجر، لأنه كان يعبده، فإذا رأى أحسن منه رفضه وعبد الآخر، والهوى: ما تهواه نفسه. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ خذله عالما بضلاله، وفساد استعداده وحاله قبل خلقه. وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ طبع عليهما بالخاتم بعد كفره، فلم يسمع الهدى والمواعظ، ولم يتفكر في الآيات. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ظلمة، فلم ينظر بعين الاستبصار والاعتبار، ولم يبصر الهدى. فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد هداية الله وإضلاله إياه، أي لا يهتدي. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون. وقرئ «تتذكرون» . سبب النزول: نزول الآية (21) : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ.. : قال الكلبي: نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 266

نزول الآية (23) :

نزول الآية (23) : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ: أخرج ابن المنذر وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه. نزول بقية الآية (23) : وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ... قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال له: مه، وما دلّك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسمّيه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسمّيه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتّبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللّات والعزّى إن اتبعته أبدا، فنزلت: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ «1» . المناسبة: بعد بيان الفرق بين الظالمين الكافرين وبين المتقين في الولاية، بيّن الفرق بينهما من وجه آخر وهو الرحمة والثواب في الآخرة، ثم ذكر تعالى دليل التفاوت بين المحسنين والمسيئين وهو خلق الكون بالحق المقتضي للعدل، وجعل الجزاء منوطا بالكسب والعمل، ثم أخبر تعالى عن المسيء المتبع هواه بأنه موضع تعجب، وأنه لا سبيل إلى هدايته بعد هدايته الله تعالى.

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 170

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بل أظن هؤلاء الذين اقترفوا الإثم والشرك والمعاصي في الدنيا، فكفروا بالله ورسله، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض واجتناب المحارم، بأن نسوّي بينهم في الجزاء والثواب والرحمة في دار الدنيا والآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة في الآخرة غير حال أهل الشقاوة، لقد ساء ما ظنوا، وبئس ما حكموا أن نسوي بين الأبرار الطائعين وبين الفجار العاصين في الدنيا والآخرة. والمعنى: إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة، وإنهم عاشوا على المعصية، ومات أولئك على البشرى والرحمة ومات هؤلاء على الضدّ. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات، كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون أحسن حالا من المؤمن، فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة. ونظير الآية قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] وقوله سبحانه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم 68/ 35- 36] وقوله عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] . وهذا دليل واضح أيضا على التفرقة في مصير المؤمن الطائع والمؤمن العاصي. أخرج الطبراني عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ .

وبعد بيان التفاوت بين المؤمن والكافر في الآخرة والدنيا، أقام الدليل على صحة هذا المبدأ وحكمته، فقال تعالى: 1- وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي أوجد الله وأبدع السموات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين العباد، فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء، لما كان ذلك الخلق بالحق بل كان بالباطل، ومن العدل: اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء 2- وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي خلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل بهما على قدرته، ولكي تجزي كل نفس بما قدمت من عمل صالح أو سيء، وهم أي المخلوقون لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب، فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا، ولم يقتص منه في الآخرة، لما كان خلق السموات والأرض بالحق. فيكون قوله وَلِتُجْزى معطوفا على قوله: بِالْحَقِّ والتقدير: وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق، ولتجزي كل نفس، والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين. ثم أبان الله تعالى أحوال الكفار وقبائحهم وسوء جناياتهم، فقال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أي أخبرني عن حال ذلك الكافر الذي أطاع هواه، وترك الهدى، واتخذ دينه ما يهواه، فكأنه جعل الهوى إلهه يعبده من دون الله، فلا يهوى شيئا إلا تبعه، دون مراعاة لما يحبه الله ويرضاه، فهذا مما يدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى

فقه الحياة أو الأحكام:

شيئا إلا فعله، والعبرة بعموم لفظ الآية، لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله. وقد أضله الله وخذله مع علمه بالحق، ومعرفته الهدى من الضلال، وقيام الحجة عليه، وطبع على سمعه، حتى لا يسمع الوعظ، وعلى قلبه، حتى لا يفقه الهدى، وجعل غطاء على بصره وبصيرته، حتى لا يبصر الرشد ويدرك آيات الله في الكون التي تدل على وحدانية الله تعالى. فمن يوفقه للصواب والحق من بعد إضلال الله له بسبب انحرافه واتباعه هواه، أفلا تتذكرون تذكر اعتبار، وتتعظون حتى تعلموا حقيقة الحال؟! ونظير مطلع الآية قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات 79/ 40- 41] . ونظير وسط الآية قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة 2/ 6- 7] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- كما أن هناك فرقا في الولاية بين المتقين والظالمين، هناك فرق آخر بين المحسنين والمسيئين في الجزاء في الدنيا والآخرة، فالله ولي المتقين وناصرهم في الدنيا والآخرة، والظالمون الكافرون يوالي بعضهم بعضا في الدنيا، وتنقطع ولاياتهم في الآخرة، والمحسنون المؤمنون سعداء الدنيا والآخرة، والمسيؤون الكفار أشقياء في الآخرة، وإن تساووا في الدنيا مع المؤمنين في الصحة والرزق والكفاية، أو كانوا أحسن حالا من المؤمنين فيها.

2- لا بد من التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحسنين والمسيئين، عدلا من الله، لأنه بالعدل قامت السموات والأرض، ولكي تجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت في الدنيا، وهم لا يظلمون فيها بنقص ثواب أو زيادة عقاب. 3- إن اتباع أهواء النفس مذموم دائما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه، قال الله تعالى: وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف 7/ 176] وقال تعالى: وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف 18/ 28] وقال تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [الروم 30/ 29] وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص 28/ 50] وقال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص 38/ 26] . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ذكره النووي في كتاب الحجة للمقدسي عن عبد الله بن عمرو: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» وقال أبو أمامة رضي الله عنه: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» . وقال شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن شداد بن أوس: «الكيّس: من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر: من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله» وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني: «إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، وهو ضعيف: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر: والعدل في الرضا والغضب» .

4- لا يضلّ الله قوما إلا بعد أن هداهم وبعد أن أعلمهم وعلمهم، ولا يمنع عنهم فضله ورحمته إلا بسبب جحودهم وظلمهم وكفرهم، ولا يحجب عنهم منافذ الهداية من الاستبصار بنور البصيرة والقلب، والنظر في أسباب الرشد، وسماع المواعظ ليفقه الهدى إلا بعد إعراضهم وعنادهم وغيهم. قال المفسرون: هذه الآية رد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه من الاعتقاد وفعل الخير وارتكاب الشر، لأن الله تعالى صرح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره، أي فالله هو الخالق لأفعال الإنسان، وليس العبد خالقا لها، وإنما هو كاسب وآخذ ومختار أيّ الطريقين من الخير أو الشر. 5- إن أسباب ضلال المضلين إما اتباع الإنسان ما تدعو إليه نفسه الأمّارة بالسوء: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وإما تجاهل الحقائق بعد العلم بوجوه الهداية: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وإما العناد: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ وإما إنكار البعث باعتقاد ألا حياة إلا هذه: نَمُوتُ وَنَحْيا [24] وإنكار المبدأ قائلين: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [24] . وقد أجاب الله على شبهتهم بقوله فيما يأتي من الآيات: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لهم على ما قالوه دليل، وإنما ذكروا ذلك ظنا وتخمينا واستبعادا، فلا ينبغي لعاقل أن يلتفت إلى قولهم، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك، وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا، وليس قولهم: ائْتُوا بِآبائِنا [24] من الحجة في شيء، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال، فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال» .

_ (1) غرائب القرآن: 25/ 78- 79

الدهرية وإنكار البعث وأهوال القيامة [سورة الجاثية (45) الآيات 24 إلى 29] :

الدهرية وإنكار البعث وأهوال القيامة [سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 29] وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الإعراب: بَيِّناتٍ حال. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ الأول: منصوب ب يَخْسَرُ ويَوْمَئِذٍ: للتأكيد. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا كُلَّ بالرفع: مبتدأ، وخبره: تُدْعى إِلى كِتابِهَا ويقرأ بالنصب على أنه بدل من كُلَّ الأولى، وتُدْعى في موضع نصب على الحال، إن جعلت تَرى من رؤية العين، أو في موضع المفعول الثاني إذا جعلته من رؤية القلب. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ مبتدأ وخبر، ويَنْطِقُ حال من (الكتاب) أو من (ذا) ويجوز جعله خبرا ثانيا ل (ذا) . ويجوز جعل كِتابُنا بدلا من هذا ويَنْطِقُ: خبر المبتدأ.

البلاغة:

البلاغة: نَمُوتُ وَنَحْيا بينهما طباق. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يَنْطِقُ: استعارة تصريحية، أي يشهد عليكم بالحق، وهذا أبلغ من شهادة اللسان، لأن شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإنسان بلسانه. المفردات اللغوية: وَقالُوا: أي المشركون منكر والبعث. ما هِيَ أي الحياة. إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي إلا حياتنا التي في الدنيا. نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا بأن يولدوا. وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي إلا مرور الزمان، والدهر في الأصل: مدة بقاء العالم، مأخوذ من دهره: غلبه. وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ليس لهم بذلك المقول من دليل علمي. إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي ما هم إلا يظنون، إذ لا دليل لهم عليه، وإنما قالوه بناء على التقليد. آياتُنا من القرآن الدالة على قدرتنا على البعث. بَيِّناتٍ واضحات. حُجَّتَهُمْ متشبث. ائْتُوا بِآبائِنا أحياء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أننا سنبعث، وإنما سماه حجة على حسبانهم. يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بناء على ما هو معروف من الحجج. ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ أحياء. لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، فإن من قدر على الابتداء في الخلق قادر على الإعادة، لحكمة معروفة هي إقامة العدل التام والجزاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على المحسوسات أمامهم. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تعميم أو إعمام للقدرة بعد تخصيصها. الْمُبْطِلُونَ الكافرون. كُلَّ أُمَّةٍ أهل دين. جاثِيَةً باركة على الرّكب، أو مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة، وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع. إِلى كِتابِهَا صحيفة أعمالها. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك. هذا كِتابُنا ديوان الحفظة الذي كتبناه عليكم، وأضافه إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم. يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان. نَسْتَنْسِخُ نستكتب الملائكة، ونثبت ونحفظ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم. سبب النزول: نزول الآية (24) : وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا..: أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي

المناسبة:

اللَّه عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل اللَّه: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ. المناسبة: بعد بيان حجب المشركين عن الوصول إلى الحق والخير، بسبب كفرهم وعنادهم، ذكر اللَّه تعالى بعض مفاسد اعتقاداتهم وهي إنكار البعث، وإنكار الإله القادر، معتمدين على مجرد الظنون والأوهام والتخمينات، والتقليد، مطالبين بإعادة إحياء آبائهم للدلالة على البعث، وتلك شبهة ضعيفة جدا. فرد اللَّه عليهم بالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في الواقع ونفس الأمر، وليس مجرد إثبات الإله بقول الإله، وهو قدرة اللَّه على الإعادة بناء على ثبوت قدرته على الإحياء الأول، ثم عمم تعالى الدليل ببيان قدرته على جميع الممكنات في السموات والأرض. ثم ذكر تعالى بعض أهوال يوم القيامة من الجثو على الركب بسبب المخاوف، والاحتكام إلى صحائف الأعمال المسجلة في الدنيا، والشاهدة على أصحابها. التفسير والبيان: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب وأمثالهم في إنكار المعاد أو القيامة، فقال منكر والبعث هؤلاء المشركون: ما الحياة الحاصلة إلا الحياة التي نحن فيها في الدنيا، فليس ثم دار إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيش آخرون، ولا معاد ولا قيامة، وليس وراء ذلك حياة. وهذا تكذيب واضح للبعث، وإنكار صريح للقيامة. وما يميتنا إلا مرور الأيام والليالي، فمرورها هو المفني والمهلك للأنفس، أي بالطبيعة. وهذا إنكار بيّن للإله الفاعل المختار.

وكان العرب في الجاهلية يعتقدون أن الدهر هو الفاعل، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه، نسبوا ذلك إلى الدهر، فقيل لهم: لا تسبوا الدهر، فإن اللَّه هو الدهر، أي إن اللَّه هو الفاعل لهذه الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فيرجع السب إليه سبحانه. أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول اللَّه تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» . وفي رواية: «لا تسبوا الدهر، فإن اللَّه تعالى هو الدهر» وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال اللَّه في كتابه: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا.. الآية. وذكر محمد بن إسحاق عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يقول اللَّه تعالى: استقرضت عبدي، فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول: ووا دهراه، وأنا الدهر» . وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن اللَّه هو الدهر» . وفسر الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تسبوا الدهر فإن اللَّه هو الدهر» بقولهم: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو اللَّه تعالى، فكأنهم إنما سبوا اللَّه عز وجل، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن اللَّه تعالى هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال «1» . ثم فنّد اللَّه تعالى قولهم مبينا عدم اعتماده على دليل، فقال:

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 151

وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي ما قالوا هذه المقالة، إلا شاكين غير عالمين بالحقيقة، فلا دليل لهم من نقل أو عقل، وما مستندهم إلا الظن والتخمين من غير حجة أصلا. قال الرازي: وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبينة قول باطل فاسد، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند اللَّه تعالى «1» . ثم ذكر تعالى شبهتهم ودليلهم على إنكار البعث قائلا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إذا تليت عليهم بعض آيات القرآن واضحات الدلالة على قدرة اللَّه والبعث، واستدل عليهم، وبيّن لهم الحق، وأن اللَّه تعالى قادر على إعادة الحياة إلى الأنفس بعد فنائها، لم يكن لهم حجة إلا طلب إعادة إحياء آبائهم الذين ماتوا، إن كنتم أيها المؤمنون صادقين في إمكان البعث، وأحيوهم إن كان ما تقولونه حقا، ليشهدوا لنا بصحة البعث. وهذا كلام ساقط، فإن البعث يكون بعد نهاية الدنيا، ولا يلزم من عدم حصول الشيء في الحال امتناع حصوله في المستقبل يوم القيامة. ثم ذكر اللَّه تعالى دليل إمكان البعث قائلا: قُلِ: اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لا رَيْبَ فِيهِ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين منكري البعث: إن اللَّه أحياكم في الدنيا، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يجمعكم جميعا يوم القيامة جمعا لا شك فيه، فإن الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] .

_ (1) تفسير الرازي: 27/ 270 [.....]

وهذا إشارة إلى الآية المتقدمة: وهو أن كونه تعالى عادلا منزها عن الجور والظلم، يقتضي صحة البعث والقيامة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أكثر الناس وهم مشركو العرب حينذاك ينكرون البعث، من غير تأمل وتدبر وروية، ولا يدركون الحقيقة العلمية، ويقصرون نظرهم على المحسوسات، دون تفكر بالغيبيات، فاستبعدوا قيام الأجساد أحياء، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج 70/ 6- 7] . كذلك لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم. ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا أعم على قدرته بعد التخصيص، فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي إن اللَّه مالك السموات والأرض، والحاكم فيهما والمتصرف بهما وحده في الدنيا والآخرة، من غير مشاركة أحد من عباده، ولا من الأصنام المعبودة. وبعد بيان إمكان القول بالحشر والنشر، بدأ تعالى بذكر أحوال القيامة، وأولها وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ.. أي ويوم تقوم القيامة يخسر المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، بدخول جهنم، يظهر خسرانهم في ذلك اليوم، لصيرورتهم إلى النار. ثم أبان اللَّه تعالى أهوال يوم القيامة قائلا: 1- وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي وتنظر أصحاب كل ملة ودين واحد جاثين على الركب من شدة الخوف والرعب، فالناس لشدة الأمر يجثون بين يدي اللَّه عند الحساب. 2- كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي كل أمة تدعى إلى كتابها المنزل على

فقه الحياة أو الأحكام:

رسلهم، أو إلى صحيفة أعمالها، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر 39/ 69] . 3- الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في يوم القيامة يجزيكم اللَّه بما عملتم في الدنيا من خير وشر، تجازون بها من غير زيادة ولا نقص. 4- هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي هذه صحيفة الأعمال التي أمرنا الملائكة الحفظة بكتابتها، تشهد عليكم، وتذكر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص، كقوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] . إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم وتثبتها وتحفظها عليكم. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين هم في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة في القدم على العباد، قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا، ثم قرأ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- هذا خبر صريح يتضمن إنكار المشركين والدّهرية للآخرة، وتكذيبهم للبعث، وإبطالهم للجزاء، مأخوذ من قولهم: نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا، أو نموت نحن، وتحيا أولادنا، وما يفنينا إلا السنون والأيام.

2- ليس لهم دليل نقلي أو عقلي على إنكار الآخرة، فما هم قوم إلا يتكلمون بالظن والتخمين. قال القرطبي: وكان المشركون أصنافا، منهم هؤلاء منكر والبعث، ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره. وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفا من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشرّ هؤلاء أضرّ من شر جميع الكفار، لأن هؤلاء يلبسون على الحق، ويغتّر بتلبيسهم الظاهر، والمشرك المجاهر بشركه يحذره المسلم «1» . 3- إذا قرئت على المشركين آيات اللَّه المنزلة في جواز البعث لم يكن لهم دفع وحجة أو شبهة إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون. فرد اللَّه عليهم بأن اللَّه يحييكم بعد أن كنتم نطفا أمواتا، ثم يميتكم، ثم يجمعكم يوم القيامة كما أحياكم في الدنيا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن اللَّه يعيدهم كما بدأهم، ومن كان قادرا على ذلك، كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه. وسمي قولهم حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقدير هم حجة، أو لأنه أسلوب يراد به: ما كان حجتهم إلا ما ليس حجة. والمراد نفي أن تكون لهم حجة أصلا. 4- ومن أدلته تعالى على قدرته الفائقة وإمكان البعث خلق السموات والأرض وملكها والتصرف بها، ويوم تقوم القيامة يظهر خسران الكافرين الجاحدين.

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 172

جزاء المؤمنين المطيعين وجزاء الكافرين العصاة [سورة الجاثية (45) الآيات 30 إلى 37] :

5- ليوم القيامة أهوال عظام ومخاوف جسام منها: أن كل أهل ملة يجثون على الركب خوفا من شدة الأمر، قال سلمان الفارسي: إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين، يخرّ الناس فيها جثاة على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي: «لا أسألك اليوم إلا نفسي» . ومنها: أن كل أمة تدعى إلى حسابها وكتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر. ومنها: أن الجزاء على قدر العمل ونوعه من خير أو شر. ومنها: قطعية الإثبات للأقوال والأفعال، فإن صحائف الأعمال التي تسجلها الملائكة الحفظة على كل إنسان في الدنيا تشهد على أصحابها. ومنها: المفاجأة بالحقيقة والواقع وهو أن اللَّه كان يأمر ملائكته بنسخ ما يعمله بنو آدم في الدنيا، قال علي رضي اللَّه عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم. جزاء المؤمنين المطيعين وجزاء الكافرين العصاة [سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 37] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

الإعراب:

الإعراب: وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها السَّاعَةُ بالرفع: مبتدأ ومعطوف على موضع إِنَّ وما عملت فيه، وقرئ بالنصب عطفا على لفظ اسم إن، وهو وَعْدَ اللَّهِ. قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا السَّاعَةُ بالرفع: مبتدأ، وما: خبره، وقرئ بالنصب على أنه مفعول نَدْرِي وما: زائدة. وإِنْ نَظُنُّ إلا ظنا تقديره: إن نظن إلا ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين. وإنما افتقر إلى هذا التقدير، لأنه لا يجوز أن يقتصر على أن يقال: ما قمت إلا قياما، لأنه بمنزلة: ما قمت إلا قمت، وذلك لا فائدة فيه. رَبِّ الْعالَمِينَ بدل من رَبِّ الأول. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَهُ الْكِبْرِياءُ: مبتدأ وخبر مقدم، فِي السَّماواتِ: حال، أي كائنة. البلاغة: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي استفهام توبيخ. وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا استعارة تمثيلية، مثّل تركهم في العذاب بمن سجن في مكان ثم نسيه السجّان من غير طعام ولا شراب، ووجه الشبه منتزع من متعدد. والمراد: نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، لأن اللَّه تعالى لا ينسى. فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها التفات من الخطاب إلى الغيبة، لإهمالهم وعدم العناية بشأنهم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فِي رَحْمَتِهِ في جنته الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظفر البين الظاهر، لخلوصه عن الشوائب أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي يقال لهم ذلك، وآياتي: آيات القرآن وما قبله من الكتب المنزلة الثابتة المتضمنة شرائع اللَّه فَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ كافرين، فالمجرم: ضد المسلم، فهو المذنب بالكفر. وَإِذا قِيلَ أي قيل للكفار إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث وبأنه محيي الموتى من القبور، ووَعْدَ اللَّهِ: إما الموعود أو المصدر، وحَقٌّ: ثابت كائن لا محالة لا رَيْبَ لا شك إِنْ نَظُنُّ ما نظن أو إن نحن إلا نظن ظنا، دخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفي ما عداه وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بمتحققين أن الساعة آتية. وَبَدا ظهر لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ظهر لهم في الآخرة جزاء أو عقوبات أعمالهم، أو عرفوا مدى قبح أعمالهم وَحاقَ بِهِمْ نزل أو حل وأحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي الجزاء والعذاب نَنْساكُمْ نترككم في النار كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا تركتم العمل للقاء هذا اليوم، وإضافة اللقاء إلى اليوم: إضافة المصدر إلى ظرفه وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ مانعين منه يخلصونكم من أهواله. اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها، وآياتِ اللَّهِ: القرآن وَغَرَّتْكُمُ خدعتكم الْحَياةُ الدُّنْيا أي زينتها، حتى قلتم: لا بعث ولا حساب لا يُخْرَجُونَ مِنْها الفعل مبني للمجهول، وقرئ بالبناء للمعلوم، ومنها أي من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بأن يرضوه بالتوبة والطاعة، لفوات الأوان، وعدم النفع يومئذ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ الشكر والثناء بالجميل على وفاء وعده في المكذبين رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالق هذه الأشياء، والعالم: كل ما سوى اللَّه، وجمع لاختلاف أنواعه. وهذه الأشياء نعمة من اللَّه ودالة على كمال قدرته الْكِبْرِياءُ العظمة والسلطان الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ فيما قدّر وقضى. المناسبة: بعد بيان أحوال القيامة وأهوالها، أبان اللَّه تعالى أحوال المؤمنين الطائعين وما أعد لهم من الرحمة أي الثواب، وأحوال الكافرين وما أعد لهم من العقاب، والتوبيخ على تفريطهم في الدنيا، وما حل بهم جزاء استهزائهم بالعذاب

التفسير والبيان:

وانخداعهم بالدنيا، ومعاملتهم معاملة المنسي بتركهم في النار، دون انتظار الخروج منها أو التوبة واسترضاء اللَّه عن الذنوب السالفة. التفسير والبيان: هذه الآيات تبين حكم اللَّه في خلقه يوم القيامة، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين، فقال تعالى مبينا حكم الفريق الأول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي فأما المصدقون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والذين عملوا الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع، فيدخلهم ربهم الجنة، وذلك أي الإدخال فيها هو الظفر بالمطلوب، وهو الفلاح والنجاح الظاهر الواضح. وسمى الثواب رحمة، والرحمة جنة، لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إن اللَّه تعالى قال للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء» . ثم قال تعالى مبينا حكم الفريق الثاني وموبخا إياهم: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي وأما الذين أنكروا وحدانية اللَّه والبعث، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: أما قرئت عليكم آيات اللَّه تعالى، فاستكبرتم وأبيتم الإيمان بها، وأعرضتم عن سماعها واتباعها، وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم، ترتكبون الآثام والمعاصي، وتكذبون في قلوبكم بالمعاد والثواب والعقاب؟ لذا أردف ذلك بقوله: وَإِذا قِيلَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها، قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار من طريق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين: إن وعد اللَّه بالبعث والحساب، وبجميع

الأمور المستقبلة في الآخرة حق ثابت، وواقع لا محالة، والقيامة لا شك في وقوعها، فآمنوا بذلك، واعملوا لما ينجيكم من العذاب، قلتم: لا نعرف ما القيامة، إن نتوهم وقوعها إلا توهما مرجوحا أو ظنا لا يقين فيه ولا علم، وما نحن بمتحققين ولا موقنين أن القيامة آتية، أي كأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه، وأكدوا هذا المعنى بقوله: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. وبعد هذا التوبيخ والنقاش، ذكر اللَّه تعالى ما يفاجؤون به من العذاب: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وظهر لهم قبائح أعمالهم وعقوبة أفعالهم السيئة، وأحاط بهم، ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار، وعوقبوا بما كانوا يهزؤون به في دار الدنيا من العذاب والنكال، ويقولون: إنه أوهام وخرافات. ثم أيأسهم تعالى من النجاة قائلا: وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ويقال لهم: اليوم نعاملكم معاملة الناسي لكم وكالشيء المنسي الملقى غير المبالى به، فنترككم في العذاب، كما تركتم العمل لهذا اليوم، وتجاهلتم ما جاء عنه في كتب اللَّه، لأنكم لم تصدقوا باليوم الآخر، ومسكنكم ومستقركم الذي تأوون إليه هو النار، وليس لكم من أنصار ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب. وبذلك جمع اللَّه تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة ألوان هي: الأول- أنه قطع رحمة اللَّه تعالى عنهم بالكلية. الثاني- أنه جعل مأواهم النار. الثالث- فقدان الأعوان والأنصار.

ثبت في الصحيح: «أن اللَّه تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: ألم أزوجك، الم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول اللَّه تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني» . ثم ذكر اللَّه تعالى أسباب هذا العقاب أو الجزاء، فقال: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً، وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ذلك العذاب الذي وقع بكم بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا، وخدعتكم الدنيا بزخارفها وزينتها، فاطمأننتم إليها، وظننتم ألا دار غيرها، ولا بعث ولا نشور، فاليوم لا يخرجون من النار، ولا يطلب منهم العتبى بالرجوع إلى طاعة اللَّه، واسترضائه، لأنه يوم لا تقبل فيه التوبة، ولا تنفع فيه المعذرة. وبعد أن أثبت تعالى قدرته على البعث بدلائل الآفاق والأنفس، وذكر حكمه في المؤمنين والكافرين، أثنى على نفسه بما هو أهل له تعليما لنا، فقال: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ، وَرَبِّ الْأَرْضِ، رَبِّ الْعالَمِينَ أي الحمد الخالص والشكر الكامل على النعم الكثيرة لله خالق ومالك السموات، ومالك الأرض، ومالك ما فيهما من العوالم المختلفة المخلوقة من إنس وجن وحيوان، وأجسام وأرواح، وذوات وصفات. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي ولله العظمة والجلال والسلطان في أرجاء السموات والأرض، وهو سبحانه القوي القاهر في سلطانه فلا يغالبه أحد، الحكيم في كل أقواله وأفعاله وشرعه وجميع أقضيته في هذا العالم. ورد في الحديث القدسي الصحيح عند أحمد ومسلم وأبي داود وابن ماجه عن

فقه الحياة أو الأحكام:

أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول اللَّه تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما، أسكنته ناري» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الكريمات على ما يأتي: 1- إن ثواب المؤمنين الذين عملوا صالح الأعمال، فأدوا الفرائض، واجتنبوا المعاصي والمنكرات هو دخول جنات الخلد والنعيم. 2- إن جزاء الكافرين الذين أشركوا بالله إلها آخر، واقترفوا المعاصي، وتكبروا عن طاعة اللَّه وقبول أحكامه واتباع شرائعه هو دخول نار جهنم. وهذا يدل على أن استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع. 3- يوبخ الكفار ويقرّعون على تركهم اتباع آيات اللَّه في قرآنه وكتبه المنزلة على رسله والاستماع إليها. 4- إذا قام المؤمنون بتذكير الكفار بوعد اللَّه بالثواب والعقاب وتأكيد أن الساعة آتية لا ريب فيها، أنكروا ذلك وكذبوه، وأجابوا بأنا لا ندري هل الساعة (القيامة) حق أم باطل؟ وإن نحن إلا نظن ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين، ولسنا متحققين ولا واثقين بأن القيامة آتية، وهؤلاء من المشركين هم الفريق الشاكون بالبعث والقيامة، وهم غير أولئك الفريق المذكورين سابقا القاطعين بنفي البعث في قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ... 5- في الآخرة تنكشف الحقائق وتنجلي الأمور بنحو قاطع، ويظهر لهؤلاء الكفار جزاء سيئات ما عملوا، وقبح جرم ما ارتكبوا، ويحيط بهم إحاطة تامة ما كانوا يستهزئون به من عذاب اللَّه.

6- للعذاب ألوان ثلاثة: قطع رحمة اللَّه تعالى عنهم بالكلية، وصيرورة مسكنهم ومستقرهم النار، وفقدانهم الأعوان والأنصار. 7- يقال لهم: استحقاقهم ألوان العذاب الثلاثة المذكورة بسبب إتيانكم ثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة: وهي الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية منه، والاستغراق في حب الدنيا، والإعراض بالكلية عن الآخرة والوجهان الأول والثاني داخلان في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً والوجه الثالث هو المراد من قوله تعالى: وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. 8- لا خروج إلى الأبد من النار، ولا أمل في استرضاء اللَّه والتوبة والإنابة إليه والاعتذار منه، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة 32/ 20] . 9- الحمد والثناء بالجميل كله على اللَّه تعالى الخالق والمالك لكل الكون سمائه وأرضه، وعوالمه، والمتفرد بالعظمة والجلال، والبقاء والسلطان، والقدرة والكمال، والحكمة الباهرة والرحمة والفضل والكرم، وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو، ولا رب سواه، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.

سورة الأحقاف:

[الجزء السادس والعشرون] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأحقاف مكيّة، وهي خمس وثلاثون آية. تسميتها: سميت (سورة الأحقاف) للحديث فيها عن الأحقاف: وهي مساكن عاد في اليمن الذين أهلكهم اللَّه بريح صرصر عاتية بسبب كفرهم وطغيانهم، في قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ.. [21] . مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي: 1- تطابق مطلع السورتين في: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. 2- تشابه موضوع السورتين وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد. 3- ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم، ومطالبتهم بالدليل عليه، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية وهو إثبات أصول العقيدة الإسلامية الثلاثة: وهي التوحيد، والرسالة والوحي، والبعث والجزاء. بدأت السورة بالحديث عن تنزيل الكتاب وهو القرآن من اللَّه تعالى، وإنما كرر لأنه بمنزلة عنوان الكتب (الكتابة) ثم أقامت الأدلة على وجود الإله والتوحيد والحشر، وذمّت المشركين عبدة الأصنام، وردّت عليهم ردا دامغا مقنعا، وأجابت عن شبهاتهم حول الوحي والنبوة. ثم ذكرت حال فريقين: فريق أهل الاستقامة الذين أقروا بتوحيد اللَّه واستقاموا على ملّته، وأطاعوا والديهم وأحسنوا إليهم، فكانوا أصحاب الجنة، وفريق الكافرين الخارجين عن هدي الفطرة، المنهمكين في شهوات الدنيا، المنكرين البعث والحساب، العاقين لوالديهم، بالتنكر للإيمان والمعاد، فكانوا أصحاب النار. ثم ضربت المثل بقصة هود عليه السلام مع قومه «عاد» الطغاة الذين اغتروا بقوتهم، وأصروا على عبادة الأصنام، فأهلكهم اللَّه بريح عاتية، تدمّر كل شيء بأمر ربها، إرهابا لكفار قريش، وتحذيرا من استبدادهم وتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنذارا بعذاب مماثل جزاء استهزائهم. كما ذكّرتهم بإهلاك القرى المجاورة، وبمبادرة الجن إلى الإيمان بما سمعوه من آيات القرآن، ودعوة قومهم إلى إجابة نبي اللَّه والإيمان برسالته، فإن من عاند وأعرض عن إجابة داعي اللَّه، فهو في ضلال مبين. ثم ختمت السورة بالتأكيد على قدرة اللَّه على البعث، لأنه خالق السموات والأرض، وبأن تعذيب الكافرين بالنار حق كائن لا محالة، وبالتهديد بأهوال القيامة، وبأن العذاب أو الهلاك لا يكون إلا للقوم الفاسقين الخارجين عن حدود

إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته ووقوع الحشر والرد على عبدة الأوثان [سورة الأحقاف (46) الآيات 1 إلى 6] :

اللَّه وطاعته، فما على الرسول إلا الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وعدم استعجال العذاب. إثبات وجود اللَّه تعالى ووحدانيته ووقوع الحشر والرد على عبدة الأوثان [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) الإعراب: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ مبتدأ وخبر. ماذا خَلَقُوا مفعول به ثان ل أَرُونِي. البلاغة: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صيغة مبالغة. أَرَأَيْتُمْ فيه مجازان، حيث أطلق الرؤيا وأراد الإخبار، والعلاقة السببية، واستعمل

المفردات اللغوية:

همزة الاستفهام في الأمر، لأن كلّا من الاستفهام والأمر يدل على الطلب، وأَرُونِي توكيد لأرأيتم. ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أمر يراد به التعجيز. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ بينهما جناس اشتقاق. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ استفهام على سبيل الإنكار، أي لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو الأصنام من دون اللَّه، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دعيت لا تسمع. المفردات اللغوية: حم هذه الحروف المقطعة للدلالة على إعجاز القرآن وتحدي العرب في أنه منظوم من حروفهم الهجائية، وللتنبيه على خطورة ما يتلى في السورة الْكِتابِ القرآن الكامل في كل شيء، وإنما كرر مع بداية السورة السابقة لتأكيد مدلول الكتابة الْعَزِيزِ القوي القاهر في ملكه الْحَكِيمِ في تدبيره وصنعه، يضع كل أمر في موضعه إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا ملازما للحق: وهو ما تقتضيه الحكمة والعدل، للدلالة على قدرة اللَّه ووحدانيته، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم والبعث للجزاء والحساب وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي بتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل، وهو يوم القيامة أُنْذِرُوا خوّفوا به من العذاب مُعْرِضُونَ مدبرون، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له. أَرَأَيْتُمْ أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها ما تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ الأصنام أَرُونِي أخبروني، وهو تأكيد لما سبق من طلب الإخبار أَمْ همزة الإنكار شِرْكٌ نصيب ومشاركة فِي السَّماواتِ مشاركة مع اللَّه في خلق السموات ائْتُونِي بِكِتابٍ منزّل مِنْ قَبْلِ هذا أي القرآن أَوْ أَثارَةٍ بقية مِنْ عِلْمٍ يؤثر ويروى عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام أنها تقرّبكم إلى اللَّه صادِقِينَ في دعواكم. وَمَنْ أَضَلُّ استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد يَدْعُوا يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره، وهم الأصنام، لا يجيبون عابديهم إلى شيء يسألونه أبدا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ عبادتهم غافِلُونَ لأنهم جماد لا يعقلون أو عباد مشتغلون بأحوالهم. حُشِرَ النَّاسُ جمعوا يوم القيامة كانُوا أي الأصنام لَهُمْ لعابديهم بِعِبادَتِهِمْ بعبادة عابديهم كافِرِينَ جاحدين.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي إنه تعالى كما بدأ سورة الجاثية هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليس من عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم كما يزعم المشركون، وهو مع هذا التنزيل موصوف بالعزة التي لا يفوقها شيء، فهو القوي القاهر الذي لا يغلب، وهو الحكيم في تدبيره وصنعه وأقواله وأفعاله، يضع كل أمر في موضعه. وإذا كان الأمر كذلك، فما على الناس إلا الإيمان بالقرآن والتصديق بما جاء فيه، والإيمان بصدق محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في نبوته، وفيما دعا إليه من التوحيد الخالص، وإثبات البعث والجزاء، ودعوة الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة، والأخلاق الكاملة النافعة. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي ما أوجدنا وأبدعنا السموات العلا، والأراضي السفلى وما بينهما من سائر المخلوقات إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وليس على وجه العبث والباطل، فليس خلقها عبثا ولا باطلا. وقد خلقناها إلى مدة معينة محددة لا تزيد ولا تنقص، وهي يوم القيامة، فإن السموات والأرضين والمخلوقات تنتهي، وتتبدل السموات والأرض بغيرها. أما الذين جحدوا باللَّه، بالرغم من هذه الأدلة، ومن إنزال الكتب، وإرسال الرسل، فهم لا هون عما يراد بهم، مولّون عما خوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء، غير مستعدين له، وسيعلمون غب ذلك وعاقبته. وبعد إثبات وجود الإله ووقوع الحشر والبعث يوم القيامة، ردّ اللَّه تعالى على عبدة الأوثان بقوله: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ

شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين العابدين مع اللَّه غيره: أخبروني وأرشدوني عن حال آلهتكم من الأصنام وأصحاب القبور، بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما، هل استطاعوا الاستقلال بخلق شيء في الأرض، وهل لهم مشاركة في ملك السموات والتصرف فيها؟ الواقع أنهم لم يخلقوا شيئا ولا شركة لهم في السموات والأرض، فكيف تعبدون مع اللَّه الخالق لكل شيء غيره وتشركون به؟ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي أحضروا لي دليلا مكتوبا قبل القرآن مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل يدل على صحة عبادتكم لآلهتكم، أو بقية من علم الأولين والأنبياء السابقين يرشد إلى صحة هذا المنهج الذي نهجتموه، إن كنتم صادقين في ادعائكم ألوهية الأصنام. والمعنى: لا دليل لكم نقليا ولا عقليا على ذلك. وبعد أن نفى اللَّه تعالى القدرة عن الأصنام في الخلق وغيره، أتبعه بنفي العلم عنهم من كل الوجوه، فقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ أي لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد من دون اللَّه أصناما، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة؟ والأصنام التي يدعونها غافلون عمن دعاها، لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات. والمعنى: أن الأصنام لا قدرة لها على شيء، ولا علم لديها بشيء، فما هي إلا جماد، وعبادة الجماد محض الضلال، وهذا يستدعي التوبيخ والتهكم. وقوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ تأبيد على عادة العرب، أي ما دامت الدنيا.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أكد اللَّه تعالى نفي العلم بعبادة الناس لها بقوله: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي وإذا جمع الناس العابدون للأصنام في موقف الحساب، كانت الأصنام لهم أعداء، تتبرأ منهم وتلعنهم، وكانوا جاحدين مكذبين منكرين لعبادتهم، فيخلق اللَّه الحياة في الأصنام فتكذبهم، وتتبرأ الملائكة والمسيح وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة. ونظير الآية قوله سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم 19/ 81- 82] أي سيكذبونهم ويعادونهم في وقت أحوج ما يكونون إليهم. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه السلام: وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً، مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [العنكبوت 29/ 25] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات البينات إلى ما يأتي: 1- تأكيد مطلع سورة الجاثية: وهو كون مصدر القرآن من اللَّه العزيز الحكيم، لا من عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا غيره من العرب أو العجم. 2- دلت آية: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ.. على أمور ثلاثة: هي إثبات الإله بخلق هذا العالم، وإثبات أن إله العالم عادل رحيم، لقوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان، وإثبات البعث والقيامة، إذ لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل إيفاء الثواب للمطيعين، وإقامة العقاب على الكافرين، وذلك ينافي كون خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق.

3- دل قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ على أن الكفار معرضون عن هذه الدلائل، غير ملتفتين إليها، وهذا كما ذكر الرازي يدل على وجوب النظر والاستدلال، أي لتكوين العقيدة وتصحيحها، وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا. 4- بعد إثبات أصول العقيدة الثلاثة المتقدمة، فرّع اللَّه تعالى عنها التفاريع، فرد على عبدة الأصنام بأنها عديمة القدرة على خلق الأشياء، وغير عالمة أصلا بعبادة الوثنيين لها، وكل من الأمرين ينفي صلاحيتها للعبادة، فهي لا قدرة لها أصلا على الخلق والفعل، والإيجاد والإعدام، والنفع والضر، وهي جمادات لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعلم حاجات المحتاجين، وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه، لم يبق مسوغ للعبادة ببديهة العقل، فهي لا تضر ولا تنفع. ثم وبخ اللَّه تعالى عبدة الأصنام، وأبان لهم أنه لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد الأوثان، وهي إذا دعيت لا تسمع، ولا يتصوّر منها الإجابة لا في الحال، ولا بعد ذلك إلى يوم القيامة. 5- أرشد قوله تعالى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إلى جواز الاعتماد على الخط المكتوب، وكان الإمام مالك رحمه اللَّه يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه، أو عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه، فيحكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير، وقد روي عنه أنه قال: «يحدث الناس فجورا، فتحدث لهم أقضية» . ولكن أجاز مالك الأخذ بشهادة الشهود على أن هذا خط الحاكم وكتابه، وكذلك الوصية، أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه، ونحو ذلك. 6- قال ابن العربي: إن اللَّه تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب

شبهات المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن - 1 -[سورة الأحقاف (46) الآيات 7 إلى 10] :

التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها وأخبر أنها جزء من النبوة، وكذلك الفأل، فأما الطّيرة والزّجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يستمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا، فإن سمع مكروها فهو تطيّر، وأمر الشرع بأن يفرح بالفأل، ويمضي على أمره مسرورا به. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله، وقال- كما علّمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك» «1» . شبهات المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن- 1- [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 10] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) الإعراب: بَيِّناتٍ حال. كَفى بِهِ شَهِيداً تمييز منصوب.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1685

البلاغة:

ما يُفْعَلُ بِي ما: إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة. وَكَفَرْتُمْ بِهِ جملة حالية. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ.. أدغمت الدال من شَهِدَ في الشين من شاهِدٌ لقرب الدال من الشين، كما يجوز إدغام الثاء والسين والضاد في الشين، فالثاء كقوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُمْ والسين كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً والضاد كقوله تعالى: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. وإنما أدغمت هذه الأحرف في الشين، ولم يدغم الشين في هذه الأحرف، لأنها أزيد صوتا منها، لما فيها من التفشي. البلاغة: أَمْ يَقُولُونَ أَمْ: بمعنى «بل» الإضرابية، والإضراب: الانتقال من معنى لآخر، والهمزة للإنكار. بِما تُفِيضُونَ فِيهِ استعارة تبعية، استعمل الإفاضة في الأخذ في الشيء والاندفاع فيه. وَشَهِدَ شاهِدٌ بينهما جناس الاشتقاق. المفردات اللغوية: عَلَيْهِمْ أي على أهل مكة آياتُنا القرآن بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لِلْحَقِّ أي آيات القرآن والمعنى في شأن الحق ولأجله لَمَّا جاءَهُمْ حينما جاءهم من غير نظر وتأمل هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر بطلانه. أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون، والهمزة الاستفهامية للإنكار، والمراد: الإضراب عن تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب افْتَراهُ أي اختلقه وهو القرآن قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ على سبيل الافتراض مِنَ اللَّهِ من عذابه شَيْئاً أي إن عاجلني اللَّه بالعقوبة، فلا تقدرون على دفع شيء منها، فكيف أجترئ عليه، وأعرّض نفسي للعقاب من غير توقع نفع، ولا دفع ضرّ من قبلكم تُفِيضُونَ تندفعون وتقولون في القرآن من القدح والطعن والتكذيب كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار، وهو وعيد بالجزاء على إفاضتهم في آيات القرآن الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الكثير المغفرة والرحمة، وهو وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن، وإشعار بحلم اللَّه، فلم يعاجلهم بالعقوبة. بِدْعاً أو بديعا، أي مبتدعا ليس له مثال أو سابقة، وقرئ: بدعا جمع بدعة مِنَ الرُّسُلِ أي لست أول مرسل، فقد سبق قبلي كثيرون منهم، فكيف تكذبونني؟ وَما أَدْرِي

سبب النزول نزول الآية (10) :

ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدارين، إذ لا علم لي بالغيب، ولا لتأكيد النفي، وما إما موصولة منصوبة، أو استفهامية مرفوعة إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أتبع إلا القرآن الموحى به، ولا أبتدع شيئا من عندي، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ منذر بيّن الإنذار بالشواهد والمعجزات عن عقاب اللَّه. أَرَأَيْتُمْ أخبروني عن حالكم إِنْ كانَ القرآن وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ هو عبد اللَّه بن سلام، وشهادته بما في التوراة من نعت الرسول عَلى مِثْلِهِ مثل القرآن، أي شهد على مثل ما في القرآن من التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة لها، أو شهد على مثل ذلك وهو كون القرآن من عند اللَّه فَآمَنَ الشاهد وَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا دليل على جواب الشرط المحذوف، تقديره: ألستم ظالمين؟. سبب النزول: نزول الآية (10) : قُلْ أَرَأَيْتُمْ..: أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا معه، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، يحطّ اللَّه عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟ قالوا: واللَّه ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب اللَّه، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا، فأنزل اللَّه: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.. الآية. وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال: في

المناسبة:

عبد اللَّه بن سلام نزلت، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله. وأخرج ابن جرير والترمذي وابن مردويه عن عبد اللَّه بن سلام قال: «فيّ نزلت» ونزل فيّ: قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد 13/ 43] . المناسبة: بعد تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد، ذكر اللَّه تعالى أمر النبوة وشبهات المشركين حولها وحول القرآن، فأبان أنهم يسمون معجزة القرآن بالسحر، وأنهم متى سمعوا القرآن قالوا: إن محمدا افتراه واختلقه من عند نفسه، ثم أبطل تعالى شبهتهم، فقال: إن افتريته على سبيل الفرض، فإن اللَّه تعالى يعاجلني بالعقوبة، وأنتم لا تقدرون على دفع العذاب عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟! ثم حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجابهم اللَّه تعالى بأن يقول لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لست بأول رسول أرسله اللَّه، حتى تنكروا إخباري بأني رسول اللَّه إليكم، وتنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد، ونهي عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا لهذه الأهداف والغايات، وأنا من جنس الرسل وواحد منهم لا أستطيع ولا أقدر على الإتيان بالمعجزات والإخبار عن المغيبات، فذلك ليس في وسع البشر، وإنما هو بقدرة اللَّه تعالى. التفسير والبيان: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي إذا تليت على المشركين آيات القرآن حال كونها بيّنة واضحة

جلية، قالوا في شأن الحق الذي أتاهم وهو القرآن: هذا سحر واضح وتمويه خادع، فكذبوا به وافتروا، وكفروا وضلوا. ثم ذكر اللَّه تعالى ما هو أشنع من وصف القرآن بالسحر ورد عليهم، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي بل أيقولون: افترى محمد هذا القرآن واختلقه من عند نفسه، كذبا على اللَّه؟ فرد اللَّه تعالى عليهم: قل لهم أيها الرسول: لو افتريته وكذبت على اللَّه على سبيل الفرض والتقدير كما تدّعون، وزعمت أنه أرسلني رسولا إليكم، ولم يكن الأمر كذلك، لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يدفع عقابه عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟ وقوله: أَمْ للإنكار والتعجيب كما تقدم، كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب. ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ [الجن 72/ 23] . وقوله سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة 69/ 44- 47] وذكر هنا: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي اللَّه أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه، من التكذيب له، والقول بأنه سحر وكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي بأن القرآن من عنده، وبالبلاغ لكم، وبالتكذيب والجحود منكم، ومع كل هذا الذي صدر منكم فالله هو الغفور لمن تاب وآمن، وصدّق بالقرآن، وعمل بما فيه. وهذا جمع بين الوعيد والتهديد والترهيب وبين الترغيب لهم في التوبة

والإنابة، وذلك كقوله تعالى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان 25/ 5- 6] . ثم رد اللَّه على المشركين شبهة أخرى هي اقتراح الإتيان بمعجزات، والإخبار عن مغيبات فقال: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي لست بأول رسول جاء إلى العالم، بل قد بعث اللَّه قبلي كثيرا من الرسل، فما أنا بالأمر المبتدع الذي لا نظير له، حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، ولست أعلم ما يفعل بي ولا بكم في مستقبل الزمان في الدنيا وكذا يوم القيامة، هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل، وهل تعجل لكم العقوبة أيها المكذبون أم تمهلون؟ والمعنى: إني لا أعلم بما لي بالغيب، فأفعاله تعالى وما يقدره لي ولكم من قضاياه لا أعلمها «1» . إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إنما أتبع الوحي الذي ينزله اللَّه علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع من عندي شيئا، ولست إلا نذيرا لكم أنذركم عقاب اللَّه وأخوفكم عذابه على نحو واضح ظاهر لكل عاقل. وهذا دليل على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يدري ما يؤول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا، أما في الآخرة فهو صلّى اللَّه عليه وسلّم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وذلك في الجملة، ولا يقطع لشخص معين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة «2» ، وابن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة،

_ (1) البحر المحيط: 8/ 56 (2) وهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبد اللَّه، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهم.

وعبد اللَّه بن عمرو بن حرام والد جابر، والقرّاء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي اللَّه عنهم، والدليل على ذلك الحديث التالي: أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء- وهي امرأة من نساء الأنصار- قالت: «لما مات عثمان بن مظعون، قلت: رحمك اللَّه أبا السائب، شهادتي عليك، لقد أكرمك اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما يدريك أن اللَّه أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، واللَّه ما أدري- وأنا رسول اللَّه- ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء: فو اللَّه لا أزكي بعده أحدا» . وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظر مغضب، وقال: وما يدريك؟ واللَّه، إني لرسول اللَّه، وما أدري ما يفعل اللَّه بي، فقالت: يا رسول اللَّه، صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى، وأخاف عليه ذنبه» . ثم أكد اللَّه تعالى خسارة المشركين قائلا: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند اللَّه في الحقيقة، والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل اللَّه في التوراة على صحته وعلى مثله وهو القرآن، أو على مثل ما قلت، فآمن الشاهد بالقرآن لما تبيّن له أنه من كلام اللَّه، وهذا الشاهد هو عبد اللَّه بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم «1» وكنتم

_ (1) هذا جواب الشرط المحذوف لقوله: إِنْ المفهوم من قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي ... والمفعول الثاني لقوله أَرَأَيْتُمْ مقدر، أي ألستم ظالمين؟

من الخاسرين. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ معناه لا يوفقهم إلى الخير، وهو استئناف بياني، تعليل لاستكبارهم. وبعبارة أخرى: ما ظنكم أن اللَّه صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي قد جئتكم به قد أنزله اللَّه علي لإبلاغكم به، وقد كفرتم به وكذبتموه، ألستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟! أو ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. والشاهد في رأي أكثر المفسرين هو عبد اللَّه بن سلام، بدليل ما ذكر صاحب الكشاف: «لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة نظر- أي ابن سلام- إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته، فقال: أشهد أنك رسول اللَّه حقا، ثم قال: يا رسول اللَّه، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيّ رجل عبد اللَّه فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج إليهم عبد اللَّه، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللَّه، وأحذر» «1» . أما إنكار أن يكون الشاهد هو عبد اللَّه بن سلام، لأن إسلامه كان بالمدينة

_ (1) الكشاف: 3/ 119

فقه الحياة أو الأحكام:

قبل وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعامين، وهذه السورة مكية، فالجواب عليه- كما ذكر الكلبي- بأن السورة مكية إلا هذه الآية، فإنها مدنية، وكانت الآية تنزل، فيؤمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يضعها في سورة كذا، فهذه الآية نزلت بالمدينة، وإن اللَّه تعالى أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يضعها في هذه السورة المكية، في هذا الموضع المعين «1» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- عادى مشركو مكة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكذبوا كون القرآن نازلا من عند اللَّه، وكذبوا النبوة، ووصفوا القرآن بأنه سحر واضح. 2- ولم يكتفوا بوصف القرآن بأنه سحر، بل قالوا ما هو أشنع من ذلك، قالوا: إن محمدا اختلقه وافتراه من عند نفسه، لا من عند اللَّه. 3- ردّ اللَّه عليهم افتراءهم بأنه لو افتراه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم على سبيل الفرض والتقدير لعجّل اللَّه له العقوبة في الدنيا، ولم يقدر أحد أن يرد عنه عذاب اللَّه، واللَّه أعلم بما يتقوّله ويخوض به من التكذيب هؤلاء المشركون، وكفى بالله شاهدا على أن القرآن من عند اللَّه، وأنه يعلم صدق نبيه وأنهم مبطلون. وبالرغم من ذلك فالله الغفور لمن تاب، الرحيم بعباده المؤمنين، فإذا آمن هؤلاء المشركون، غفر لهم ما قد سلف منهم من الذنوب والمعاصي. 4- ليس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول رسول يرسل، بل هو خاتم الرسل الكرام، قد كان قبله رسل، فليست دعوته إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وعدم علمه بالغيب مقصورا عليه، وتلك دعوة قديمة هي دعوة جميع الرسل.

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 10

5- النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غير عالم بالغيبيات إلا بطريق الوحي، فلا وجه لطلب إخباره بمغيبات لا يعلم بها، فهو لا يدري بما يفعل به ولا بالناس من أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، من الأحكام والتكاليف وما يؤول أمر المكلفين إليه. وبه يعلم أن ما يدّعى من علم بعض الأولياء بالغيب هو أمر باطل وكذب مفترى. لكن نظرا لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلم كونه نبيا، فهو يعلم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له، وقد تأكد هذا بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] وقوله سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح 48/ 5] وقوله عز وجل: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب 33/ 47] . 6- لا نسخ في آية: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ لما ذكر الواحدي وغيره عن ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصّها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول اللَّه، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا، ثم قال: «إنما هو شيء رأيته في منامي، ما أتبع إلا ما يوحى إلي» أي لم يوح إليّ ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية. 7- دلت آية قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. على إنذار المشركين الظالمين بعذاب أليم إذا استمروا في تكذيبهم بالقرآن، وتكبروا عن الإيمان به وعن اتباعه وطاعة الرسول المنزل عليه، بالرغم من شهادة رجل منصف عارف بالتوراة بأن القرآن حق، سواء أكان عبد اللَّه بن سلام أم موسى عليه السلام. وعلى كل حال فهذه الآية بشارة بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام

شبهات أخرى للكفار - 2 -[سورة الأحقاف (46) الآيات 11 إلى 14] :

ولسان علماء بين إسرائيل، فهي كبشارة عيسى عليه السلام بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف 61/ 6] . وفي الآية تقديم وتأخير، تقديره: قل: أرأيتم إن كان من عند اللَّه، وشهد شاهد من بني إسرائيل على ذلك، أي على صدق القرآن، فآمن هو، وكفرتم، إن اللَّه لا يهدي القوم الظالمين، أي الكافرين المعاندين. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تهديد، وهو قائم مقام الجواب المحذوف للشرط: إِنْ والتقدير: قل أرأيتم إن كان من عند اللَّه، ثم كفرتم به، فإنكم لا تكونون مهتدين، بل تكونون ضالين. شبهات أخرى للكفار- 2- [سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 14] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) الإعراب: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً كِتابُ: مبتدأ، ومِنْ قَبْلِهِ: خبره، وإِماماً وَرَحْمَةً: منصوبان على الحال من الضمير في الظرف، أو من «الكتاب» .

البلاغة:

وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ هذا كِتابٌ: مبتدأ وخبر، ولِساناً عَرَبِيًّا: منصوبان على الحال من ضمير مُصَدِّقٌ أو من «الكتاب» لأنه قد وصف ب مُصَدِّقٌ أو من «ذا» والعامل فيه معنى الإشارة، أي أشير إليه لسانا عربيا، أو أنبه عليه لسانا عربيا. وَبُشْرى: إما مرفوع عطفا على كتاب، أو منصوب على أنه مصدر. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها خالِدِينَ: منصوب على الحال من أَصْحابُ الْجَنَّةِ والعامل فيها معنى الإشارة في أُولئِكَ كقولك: هذا زيد قائما. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَزاءً: إما مفعول لأجله، أو منصوب على المصدر المؤكد، أي جوزوا جزاء. البلاغة: لِيُنْذِرَ وَبُشْرى بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هم قريش، وقيل: بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع، لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، وقيل: اليهود حين أسلم ابن سلام وصحبه. لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي حقهم، وقيل: إليهم. لَوْ كانَ الإيمان. ما سَبَقُونا إِلَيْهِ فهم أناس أدنياء، إذ عامتهم فقراء وموالي ورعاة. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي حينما لم يهتد القائلون بالقرآن، وإذ للماضي ظرف لمحذوف مثل: ظهر عنادهم. هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي القرآن كذب قديم، مثل قولهم: أساطير الأولين. وَمِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن. كِتابُ مُوسى التوراة. وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ أي القرآن مؤيد لكتاب موسى. لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا هم مشركو مكة، وهو علة لقوله. مُصَدِّقٌ وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ أي والقرآن مبشر للمؤمنين. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا على الطاعة، أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة في أمور الدين والعمل، وقوله ثُمَّ للدلالة على تأخير رتبة العمل وتوقفه على التوحيد. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه في المستقبل. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات محبوب في الماضي، والفاء في فَلا لتضمن جملة إِنَّ الَّذِينَ معنى الشرط. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من اكتساب الفضائل العلمية والعملية.

سبب النزول نزول الآية (11) :

سبب النزول: نزول الآية (11) : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ، ونحن ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها (زنّين) أو (زنّيرة) فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنين، فأنزل اللَّه في شأنها: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً الآية. وقال عروة بن الزبير: إن زنّيرة- رومية كان أبو جهل يعذبها- أسلمت، فأصيب بصرها، فقالوا لها: أصابك اللات والعزّى، فرد اللَّه عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنّيرة، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس والكلبي والزجاج: إن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم، إذ نحن أعزّ منهم. وقال أكثر المفسرين: إن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا- يعني عبد اللَّه بن سلام وأصحابه-: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه. المناسبة: هذه شبهة أخرى للقوم: المشركين أو اليهود، في إنكار نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم،

التفسير والبيان:

تتعلق بإيمان جماعة من الفقراء كعمّار وصهيب وابن مسعود، فقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. ثم رد اللَّه تعالى عليهم بأن التوراة دلت على صدق القرآن، وبشرت ببعثة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. وبعد تقرير دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبهات المنكرين والإجابة عنها، ذكر تعالى جزاء المؤمنين العاملين عملا صالحا، طبقا لما جاء به القرآن المجيد. التفسير والبيان: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي قال كفار مكة أو اليهود لأجل إيمان بعض الفقراء والمستضعفين، كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي اللَّه عنهم: لو كان هذا الدين حقا وكان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيرا ما سبقونا إلى الإيمان به، ظنا منهم أنهم سبّاقون إلى المكارم، وأن لهم وجاهة عند اللَّه، وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، فإن اللَّه سبحانه يصطفي للنبوة ولدينه من يشاء، والآية كقوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الأنعام 6/ 53] أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا معناه كما ذكر الزمخشري: لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا: لو كان خيرا ما سبقونا إليه. ويصح أن يكون المعنى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا، على وجه الخطاب، كما تقول: قال زيد لعمرو، ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس 10/ 22] . ثم وصف اللَّه تعالى حال أولئك الكفار بعد ذلك القول وأجاب عنه بقوله:

وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي وحين لم يهتدوا بالقرآن، ظهر عنادهم، وسيقولون بعدئذ: هذا كذب مأثور عن الناس الأقدمين، كما قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بقصد انتقاص القرآن وأهله. وهذا هو الكبر الذي قال عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه مسلم والترمذي عن ابن مسعود: «الكبر: بطر الحق، وغمص- أو غمص- الناس» أي احتقارهم. وبطر الحق: دفعه ورده. ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا على صدق القرآن وصحته، فقال: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ أي ومما يدل على أن القرآن حق وصدق وأنه من عند اللَّه: اعترافكم بإنزال اللَّه التوراة على موسى، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوراة في أصول الشرائع مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب الإلهية المتقدمة، أنزله اللَّه حال كونه بلغة عربية واضحة فصيحة يفهمونها، من أجل أن ينذر به هذا النبي من عذاب اللَّه الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة، ويبشر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا، فهو مشتمل على النذارة للكافرين، والبشارة للمؤمنين. وهو ليس إفكا قديما كما يزعمون، بدليل توافقه مع التوراة. وبعد ذكر شبهات المنكرين، ذكر اللَّه تعالى حال المؤمنين وجزاءهم قائلا: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي، وجزاؤهم ما قال تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أولئك المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر اللَّه هم أهل الجنة، ماكثين فيها على

فقه الحياة أو الأحكام:

الدوام، مقابل ما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا، أي أن الجزاء بسبب العمل الصالح في الدنيا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن شأن المتكبرين المقصرين تسويغ تقصيرهم بأتفه الأسباب وأسخف المقالات بدافع الكبر والاستعلاء، لذا قال أهل مكة: لو كان هذا الدين حقا ما سبقنا إليه هؤلاء العبيد والمستضعفون، وأضافوا إلى ذلك حينما لم يهتدوا افتراءهم بقولهم: هذا القرآن كذب متوارث، وأساطير الأولين. ومن جهل شيئا عاداه. 2- مما يدل على صدق القرآن وأنه من عند اللَّه توافقه في أصول العقيدة والشريعة مع التوراة كتاب موسى عليه السلام الذي يقرّون بأنه كتاب اللَّه، فهو قدوة ورحمة يؤتم به في دين اللَّه وشرائعه، والقرآن مصدّق للتوراة ولما قبله من كتب اللَّه في أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رسول حقا من عند اللَّه، وهو بلغة عربية فصيحة بيّنة واضحة لكل من نظر فيه وتأمل، يشتمل على إنذار الكافرين وبشارة المؤمنين. وكأنه تعالى قال: الذي يدل على صحة القرآن: أنكم لا تنازعون في أن اللَّه تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وجعل هذا الكتاب إماما يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا سلّمتم كون التوراة إماما يقتدى به، فاقبلوا حكمه في كون محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم رسولا حقا من عند اللَّه تعالى. 3- إن الذين جمعوا بين الإيمان بالله وحده لا شريك له، وبين الاستقامة على الشريعة في غاية السعادة النفسية والمادية، فهم آمنون مطمئون مرتاحون لا يعكر صفوهم مخاوف المستقبل ولا أحزان الماضي، وهم خالدون دائمون في جنات النعيم، بسبب ما قدموا من عمل صالح في دار الدنيا.

الوصية ببر الوالدين:

الوصية ببر الوالدين - 1- وصف الولد البار بوالديه [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) الإعراب: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وقرئ: حسنا وحسنا، وإحسانا: منصوب على المصدر، أي أن يحسن إحسانا. وحسنا: صفة لمفعول محذوف، أي ووصينا الإنسان بوالديه أمرا ذا حسن، وحسنا: تقديره: فعلا حسنا. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ثَلاثُونَ: خبر مبتدأ الذي هو حَمْلُهُ وإنما رفع، لأن في الكلام مقدرا محذوفا، تقديره: وقدّر حمله وفصاله ثلاثون شهرا. وفي هذا ما يدل على أن أقل الحمل ستة أشهر، مراعاة لآية أخرى هي: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة 2/ 233] فإذا أسقط حولان من ثلاثين أشهرا بقي مدة الحمل ستة أشهر. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ حال، أي كائنين في جملتهم. وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لنفسه.

البلاغة:

البلاغة: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً بعد قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ من قبيل ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية بالأم. حَمَلَتْهُ وَوَضَعَتْهُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَوَصَّيْنَا من التوصية والإيصاء والوصية: وهي الأمر المقترن بضرورة الاعتناء والاهتمام، أي أمرنا إِحْساناً أن يحسن لهما إحسانا: وهو ضد الإساءة، والحسن ضد القبح، أي أن يفعل معهما فعلا ذا حسن كُرْهاً مشقة. وَحَمْلُهُ مدة حمله. وَفِصالُهُ فطامه، أي المدة القصوى لفطامه من الرضاع سنتان، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، والباقي أكثر مدة الرضاع. حَتَّى إِذا غاية لجملة مقدرة، أي وعاش حتى بَلَغَ أَشُدَّهُ بلوغ الأشد: كمال العقل والرأي والقوة، وأقله ثلاثون أو ثلاث وثلاثون سنة. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي تمامها، وهو أكثر الأشد، قيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] بقي ذلك، وبه قال الأطباء. ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما. أَوْزِعْنِي ألهمني ووفقني ورغّبني. نِعْمَتَكَ نعمة الدين وغيرها من النعم. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكّر كلمة صالِحاً أي عملا صالحا للتعظيم، أو أنه أراد أي عمل أو نوع من جنس الأعمال يحقق رضا اللَّه عز وجل. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم. أُولئِكَ أي قائلو هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن أعمالهم وطاعاتهم، فإن المباح حسن ولا يثاب عليه وقرئ: يتقبل. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم وقرئ: ويتجاوز. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي كائنين في عدادهم أو معدودين فيهم. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [التوبة 9/ 72] . سبب النزول: نزول الآية (15) : حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ: روى الواحدي عن ابن عباس قال: أنزلت في

المناسبة:

أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، وذلك أنه صحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة (شجرة السدر) فقعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، قال: هذا واللَّه نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي اللَّه، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أسفاره وحضوره، فلما نبّئ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم وصدّق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما بلغ أربعين سنة قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ «1» . وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي اللَّه عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس اللَّه قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً. وقال الحسن البصري: «هي مرسلة نزلت على العموم» . وهذا هو الأولى، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. المناسبة: بعد أن ذكر اللَّه تعالى جزاء المؤمنين الموحدين المستقيمين على الشريعة، أمر ووصى ببر الوالدين، وأشاد بصفة خاصة بالبارّ والديه بعد بلوغه سن الأربعين،

_ (1) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص 216، تفسير القرطبي: 16/ 194

التفسير والبيان:

وبشّره بقبول أعماله الصالحة، والتجاوز عن سيئاته، وجعله في عداد أصحاب الجنة، وعدا منجزا لا خلف فيه. التفسير والبيان: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً أي وصيناه وأمرناه أن يحسن إليهما إحسانا في الحياة وبعد الممات بالحنو عليهما وبرهما والإنفاق عليهما عند الحاجة والبشاشة عند لقائهما، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. [الإسراء 17/ 23] وقوله سبحانه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان 31/ 14] . وجاءت الأحاديث النبوية الكثيرة المؤيدة للقرآن في هذا الأدب العظيم، وجعل بر الأبوين من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، ووصل البر بعد الوفاة، منها ما أخرجه البخاري عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» ومنها ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي اللَّه عنه قال: «بينا نحن جلوس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول اللَّه، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» . ثم ذكر سبب التوصية وخص الأم لزيادة العناية والاهتمام بها، فقال تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي حملته في بطنها بمشقة، وولدته بمشقة، فإنها قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحم وغشيان وثقل وكرب، ووضعته بمشقة أيضا من ألم الطّلق وشدته، ووجع الولادة ثم الرضاع

والتربية، وكانت أيام الوحم تمتنع من الطعام والشراب، وتعاف كل شيء، مما يستدعي البر بها والإحسان الزائد إليها، كما قال تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي إن مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا، أي عامان ونصف، عانت فيهما الأم آلام السهر، وعناء الرضاع والغذاء والتنظيف والتربية بمحبة وحنان، دون ضجر ولا سأم. وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب، لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته وحضنته، وعنيت به بتعب وصبر، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك، وإن تعب في الكسب والإنفاق، لذا جاءت الأحاديث النبوية تؤكد بر الأم، وتقدّمه بمراتب ثلاث على مرتبة الأب، أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك» . وفي الآية أيضا إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر (نصف عام) وكان علي رضي اللَّه عنه أول من استدل بهذه الآية وآية لقمان. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [14] وقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الرضاع والفطام حولان كاملان، فبقي للحمل من الثلاثين شهرا ستة أشهر. وهو استنباط صحيح، وافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي اللَّه عنهم، روى ابن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية عن معمر بن عبد اللَّه الجهني قال: تزوّج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي اللَّه عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها،

فلما قامت لتلبس ثيابها، بكت أختها، فقالت: وما يبكيك؟ فو اللَّه ما التبس بي أحد من خلق اللَّه تعالى غيره قط، فيقضي اللَّه سبحانه وتعالى فيّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي اللَّه عنه أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا رضي اللَّه عنه، فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي اللَّه عنه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت اللَّه عز وجل يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، فقال عثمان رضي اللَّه عنه: واللَّه ما فطنت بهذا، عليّ بالمرأة، فوجدوها قد فرغ منها «1» ، فقال معمر: فو اللَّه ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه، قال: ابني واللَّه، لا أشك فيه. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر، كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر، كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر، فحولين كاملين، لأن اللَّه تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ. حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي حتى إذا قوي وشب وارتجل، فاستحكم عقله وقوته، وذلك بين الثلاثين والأربعين، وتناهي عقله، وكمل فهمه وحلمه ببلوغ الأربعين سنة. وقوله حَتَّى غاية لمحذوف تقديره: فعاش أو طالت حياته حتى إذا بلغ الأشد، أي القوة، وذلك يكون بكمال قوته المادية والعقلية، لذلك قيل: إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام. قالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي إذا بلغ الأربعين قال: رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي

_ (1) وفي رواية: أن عثمان رجع عن قوله ولم يحدّها، أي أن الأمر تم قبل الحدّ.

وعلى والدي من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل، والصحة والعافية، وسعة العيش، وتمام الخلقة السوية، وحنان الأبوين حين ربياني صغيرا. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي هذا معطوف على قوله: أَنْ أَشْكُرَ أي ألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني، والعمل الصالح المرضي: هو ما يكون سالما من غوائل عدم القبول، واجعل الصلاح ساريا في ذريتي «1» ، متمكنا راسخا فيهم، حتى يكون لهم طبعا وخلقا. إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ، وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي إني تبت وأنبت إليك من جميع الذنوب، والآثام، وإني من المستسلمين لك، المنقادين لطاعتك، المخلصين لتوحيدك، الخاضعين لربوبيتك. قال ابن كثير: وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى اللَّه عز وجل، ويعزم عليها «2» ، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: «اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتمّها علينا» . ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء الصالحين قائلا: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ، فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي أولئك الذين هذه

_ (1) أصلح: يتعدى بنفسه، وإنما عدي بالحرف فِي هنا لإفادة الرسوخ والسريان. (2) تفسير ابن كثير: 4/ 157 وما بعدها.

فقه الحياة أو الأحكام:

طريقتهم، الموصوفون بالصفات المتقدمة التائبون إلى اللَّه المنيبون إليه، هم الذين يكرمهم اللَّه، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل، وأعمال الخير في الدنيا المنسجمة مع أوامر اللَّه، ويعفو عنهم ويغفر لهم سيئاتهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] . وهم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند اللَّه عز وجل، كما وعد اللَّه من تاب إليه وأناب، فهو وعد منجّز لا خلف فيه ولا شك في حصوله، وهو الوعد الذي وعدهم اللَّه به في كتبه وعلى لسان أنبيائه، واللَّه منجز ما وعد. وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراد الإنسان الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف من معرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى اللَّه بسؤال التوفيق للشكر، وهو إيذان بأن هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة. وقوله: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن ما عملوا، فيشمل الحسن والأحسن. وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد اللَّه أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن الإحسان إلى الوالدين فرض في الإسلام، لقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا والتوصية: الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.

2- إن سبب وجوب الإحسان إلى الأبوين واضح وهو كونهما كانا سببا لوجود الأولاد، وتربيتهم وتنشئتهم، وعلى التخصيص الأم التي تعاني من أجل الولد معاناة شديدة ربما تضحي بحياتها له، فقد حملته بكره ومشقة، ووضعته بكره ومشقة، وسهرت على راحته الليالي الطوال، وعانت في حضانته ورضاعته عناء لا يقدر. 3- إن حق الأم كما تقدم بدلالة الآية أعظم من حق الأب، لأنه تعالى قال أولا: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فذكرهما معا، ثم خص الأم بالذّكر، فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأن تحملها المشاق بسبب الولد أكثر. 4- دلت الآية أيضا كما تقدم على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهرا، وكان أقصى مدة الرضاع حولين كاملين، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر، بعد إسقاط مدة حولي الرضاع، وهي أربع وعشرون شهرا من الثلاثين. روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي: لا رجم عليها، وكذلك روي عن عثمان أنه همّ بذلك، فأبان له علي أو ابن عباس ما دلت عليه الآيات كما تقدم، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر، وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. 5- ودلت الآية أيضا على أن أكثر مدة الرضاع سنتان، لأنه إذا دلت على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإنها تدل في الباقي من الثلاثين شهرا على أن أكثر مدة الرضاع حولان كاملان، وتأيّد هذا بآية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233] .

6- إن بلوغ الأشد يكون قبل الأربعين سنة، والآية تدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى رعاية الوالدين له إلى مدة قريبة من مدة الأربعين سنة. 7- على الإنسان أن يشكر نعمة اللَّه عليه إذا بلغ أربعين سنة، وهي مرحلة كمال العقل والبنية، وأن يطلب من اللَّه تعالى توفيقه للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يجعل الصلاح ساريا في ذريته، راسخا متمكنا فيهم. قال علي رضي اللَّه عنه: هذه الآية: رَبِّ أَوْزِعْنِي نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه! أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، فأوصاه اللَّه بهما، ولزم ذلك من بعده. ووالده: هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة: «قيلة» . وامرأة أبي بكر الصديق اسمها «قتيلة» بنت عبد العزّى. وقال ابن عباس عن قوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي: أجاب اللَّه دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذّبون في اللَّه، منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه اللَّه عليه. ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده، ولم يكن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وهذا دليل على استجابة دعاء أبي أبكر. ومن فضائل أبي بكر: ما ذكر في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» .

8- دلت آية: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ.. على أن الآية التي قبلها: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ.. مرسلة، نزلت على العموم، وهو قول الحسن كما تقدم، فتشمل أبا بكر وغيره. 9- وهذه الآية أيضا تدل على أن المتصف بالصفات التي قبلها هو أفضل الناس، لأن الذي يتقبل اللَّه عنه أحسن أعماله، ويتجاوز عن كل سيئاته، يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم. وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبو بكر، لدلالة الآية عليه، وأنه هو أولا المراد منها، وتنطبق على أمثاله من بعده. 10- وصف اللَّه تعالى هذا الداعي أنه طلب من اللَّه تعالى ثلاثة أشياء: هي أن يوفقه اللَّه للشكر على نعمته، وأن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند اللَّه، وأن يصلح له في ذريته، وبذلك جمع جوانب السعادة النفسية والبدنية والخارجية. ويلاحظ منها أنه تعالى قدم الشكر على العمل، وأن طلب إلهام الشكر على نعم اللَّه دليل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة اللَّه تعالى، وأنه لا يكفي كون الشيء صالحا في ظنه، يل يكون صالحا عنده وعند اللَّه تعالى. 11- دل آخر الآية: إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ على أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة والإسلام والانقياد لأمر اللَّه تعالى.

- 2 - وصف الولد العاق لوالديه منكر البعث [سورة الأحقاف (46) الآيات 17 إلى 20] :

- 2- وصف الولد العاقّ لوالديه منكر البعث [سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) الإعراب: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي؟ .. الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: في موضع رفع مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: وفيما يتلى عليكم الذي قال لوالديه أو خبره: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ. وأُفٍّ اسم فعل مضارع مبني على الكسر بمعنى أتضجر. وأَ تَعِدانِنِي بكسر النون، على الأصل في نون التثنية، وهو الكسر، في اللغة المشهورة الفصيحة، وقرئ بالفتح على لغة بعض العرب تشبيها لها بنون الجمع، كما كسروا نون الجمع تشبيها لها بنون التثنية، حملا لإحداهما على الأخرى، وقرئ أيضا بالإدغام. وَيْلَكَ آمِنْ وَيْلَكَ: منصوب على المصدر، وهو من المصادر التي لا أفعال لها، وهي ويحك، وويسك، وويبك. والأجود في هذه المصادر إذا كانت مضافة النصب، والرفع فيها جائز، والأجود فيها إذا كانت غير مضافة الرفع، والنصب جائز فيها. البلاغة: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بصيغة الحصر. وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فيها استعارة، استعار الدرجات للمراتب.

المفردات اللغوية:

أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا إيجاز بالحذف مع التقريع والتوبيخ، أي يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ. المفردات اللغوية: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أراد به الجنس من أي قائل، وإن صحّ نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنه قبل إسلامه، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. أُفٍّ بكسر الفاء وفتحها، اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، أو مصدر، أي: نتنا وقبحا، والأصل فيه أنه صوت يظهر عند التضجر والتبرم. لَكُما أتضجر منكما. أَنْ أُخْرَجَ أبعث من القبر. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي مضت الأمم من قبلي ولم يخرج أحد من القبور. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يقولان له: الغياث بالله منك، أي من كفرك، إنكارا واستعظاما له، أي يطلبان الغوث من اللَّه من كفره، أو يطلبان من اللَّه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان، أي يسألان اللَّه أن يوفقه للإيمان، ويقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ باللَّه وبالبعث. وَيْلَكَ آمِنْ أي هلكت، آمن بالبعث، والويل: دعاء بالهلاك والثبور، أو واد في جهنم، والمراد به الحث على الفعل أو تركه حتى لا يهلك، لا حقيقة الهلاك. فَيَقُولُ: ما هذا أي ما هذا القول بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيب الأقدمين وأباطيلهم التي سطروها في كتبهم من غير حقيقة. حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب عليهم الحكم بالعذاب وأنهم من أهل النار، قال البيضاوي: وهو يردّ النزول في عبد الرحمن بن أبي بكر، لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك، وقد جبّ عنه إن كان لإسلامه. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل للحكم على الاستئناف، أي إنهم من الذين ضيعوا الفكر والنظر، الشبيه برأس المال، باتباعهم وساوس الشياطين. وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل من الفريقين المؤمن والكافر مراتب ومنازل من جزاء وسبب ما عملوا من الخير والشرّ، فدرجات المؤمنين في الجنة عالية، ودرجات الكافرين في النار سافلة. والدرجات غالبة في المثوبة والعلو، وجاءت هنا على التغليب، ويقابلها الدركات في الانخفاض والنزول. وعَمِلُوا أي عمل المؤمنون من الطاعات، والكافرون من المعاصي. وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي ليوفيهم اللَّه جزاء أعمالهم، وقرئ ولنوفيهم. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا بنقص ثواب للمؤمنين وزيادة عقاب للكفار. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يعذبون فيها، أو تكشف لهم. أَذْهَبْتُمْ أي يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ، فالقول مضمر وتقرأ بهمزتين مخففتين، وبهمزة ومدة، وبهمزة وتسهيل الثانية. طَيِّباتِكُمْ لذائذكم وشبابكم وقوتكم. وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها تمتعتم بها، فما بقي لكم منها شيء. عَذابَ الْهُونِ الهوان والذلّ. تَسْتَكْبِرُونَ تتكبرون. تَفْسُقُونَ أي تخرجون عن

سبب النزول نزول الآية (17) :

طاعة اللَّه، وقرئ بكسر السين. وهذا دليل على أن تعذيبهم بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة اللَّه تعالى. سبب النزول: نزول الآية (17) : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: نزلت هذه الآية: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُما في عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبويه، وكانا قد أسلما، وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإسلام، فيرد عليهما، ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا الآية. وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس مثله. لكن أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الحكم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إن هذا الذي أنزل اللَّه فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُما فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل اللَّه فينا شيئا من القرآن، إلا أن اللَّه أنزل عذري. وأخرج عبد الرزاق من طريق مكي: أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، وقالت: إنما نزلت في فلان، وسمّت رجلا. وقال الحافظ ابن حجر: ونفي عائشة أصح إسنادا، وأولى بالقبول. وقال ابن كثير: ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنهما، فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من

المناسبة:

خيار أهل زمانه «1» . وقال القرطبي: الصحيح أن الآية نزلت في عبد كافر عاق لوالديه «2» . المناسبة: بعد أن وصف اللَّه تعالى الولد البار بوالديه وفوزه وتقبل اللَّه عمله، وصف الولد العاقّ لوالديه هنا وجزاءه المستحق له، ثم أخبر تعالى أن لكل من الفريقين منازل ودرجات عند ربهم: إما رفعة وإما انخفاضا، وأخبر أيضا عما يقال للكفار توبيخا وتقريعا حين عرضهم على النار: إنكم تمتعتم في الحياة، وتكبّرتم عن اتباع الحق، وفسقتم عن طاعة اللَّه، فتجازون اليوم جزاء ما عملتم ومن أجل ما عملتم. التفسير والبيان: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟ هذا عام في كل من قال هذا، إذ قال لأبويه حينما دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر: أفّ لكما، أي تضجر وتبرم مما تقولانه، أأنتما تخبرانني أنني سأبعث من قبري بعد الموت لموعد اللَّه؟ إن هذا البعث بعد الموت المستبعد مستنكر، فقد مضت الأمم السابقة الكثيرة من قبلي، كعاد وثمود، ماتوا ولم يبعث منهم أحد، وذهبوا ولم يرجع منهم مخبر. والخلاصة: المراد بالآية الجنس، لأن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، وَيْلَكَ آمِنْ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي ووالداه يسألان اللَّه أن يوفقه للإيمان، ويقولون له: ويلك آمن بالله وبالبعث، أي

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 158 (2) تفسير القرطبي: 16/ 197

هلاكا لك أو هلكت، صدّق بوعد اللَّه في اليوم الآخر الذي وعد به خلقه أنه باعثهم من قبورهم، ووعد اللَّه حق لا خلف فيه، والمراد بالدعاء عليه: الحث والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك. فَيَقُولُ: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي فيقول هذا الولد مكذبا لما قال والداه: ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب، فما البعث في الحقيقة إلا أمر باطل، لا يقبله العقل، أي في زعمه ووهمه. ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هذا القائل، فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي إن أولئك القائلين هذه المقالة هم الذين وجب عليهم العذاب، واستحقوا غضب اللَّه، في جملة الأمم الكافرة المتقدمة، فهم منضمون في ذلك إليهم، سواء كانوا من الجن أو الإنس الذين كذبوا الرسل، لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، لتضييعهم الفكر والنظر الشبيه برأس المال، باتباعهم ووساوس الشيطان. والمراد بالقول: قول اللَّه أنه يعذبهم في جملة أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس. وهذا يقتضي أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس «1» . ولعل المراد بالقول هنا قوله سبحانه لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص 38/ 85] . والإشارة بقوله: أُولئِكَ للتحقير. ثم ذكر اللَّه تعالى مراتب كل من الفريقين: المحسن والمسيء، فقال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي ولكل فريق من الفريقين: المؤمنين المحسنين الأبرار، والكافرين الأشقياء المسيئين

_ (1) البحر المحيط: 8/ 62 [.....]

الأشرار من الجن والإنس مراتب ومنازل عند اللَّه يوم القيامة إما عليا وإما دنيا، من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منها، وليوفيهم جزاء أعمالهم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب، أو زيادة عقاب، ولا يظلمهم اللَّه مثقال ذرة فما دونها. والدرجات: بمعنى المنازل والمراتب تشمل درجات أهل الجنة العالية، ودركات أهل النار النازلة، لكنه عبر بالدرجات للتغليب، إذ الثواب درجات، والعقاب دركات. وبعد بيان إيصال الحق لكل أحد، بيّن اللَّه تعالى أولا أحوال العقاب وأهوال القيامة التي يتعرض لها الكافرون، فقال: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي واذكر أيها النّبي لقومك حين تعرض النار على الكفار، أي يعذبون فيها، أو يوم ينكشف الغطاء، فينظرون إلى النار، ويقربون منها، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: استوفيتم وأخذتم لذائذكم في الدنيا، وتمتعتم بها، باتباع الشهوات واللذات في معاصي اللَّه سبحانه، دون مبالاة بالذنب، وتكذيبا منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظوظكم شيء منها، ففي هذا اليوم تجازون بالعذاب الذي فيه ذلّ لكم، وخزي عليكم، وإهانة، بسبب تكبركم عن عبادة اللَّه والإيمان به وتوحيده، وخروجكم عن طاعة اللَّه وعملكم بمعاصيه. وهكذا جوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم، واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم اللَّه تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة في دركات جهنم، أعاذنا اللَّه منها.

فقه الحياة أو الأحكام:

أما الاستمتاع بالطيبات المباحات من غير اعتداء ولا تجاوز الحدود، فهو مباح للمسلم والكافر على السواء، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة 5/ 87] ، وقوله سبحانه: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن عقوق الوالدين من الكبائر، وإن من أكبر الكبائر الإشراك بالله، وإنكار البعث والمعاد. 2- إن عاطفة الأبوين الصادقة المتأججة تدفعهما إلى الاستغاثة باللَّه وسؤاله ودعائه بالهداية لولدهما الكافر منكر البعث، أو الاستغاثة بالله من كفره، وهما يقولان له: ويلك آمن، أي صدّق بالبعث، إن وعد اللَّه صدق لا خلف فيه، والمراد بالدعاء عليه الحثّ والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك. 3- لم يقابل الولد تلك العاطفة بالتقدير والاحترام، فأجاب والديه: ما هذا الذي تقولانه من أمر البعث وتدعوانني إليه إلا أكاذيب الأولين الأقدمين وأباطيلهم. ولم يكن قوله بلطف وإنما بتضجر وتبرم، وذلك من الكبائر أيضا. 4- كان هذا الولد القائل وأمثاله من الذين حقت عليهم كلمة العذاب، أي وجب عليهم العذاب بكلمة اللَّه: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي» مع أمم تقدمت ومضت من قبلهم من الجن والإنس الكافرين، وإن تلك الأمم الكافرة ومن سار في منهجهم كانوا خاسرين لأعمالهم، ضيعوا سعيهم، وخسروا الجنة.

5- لكل واحد من فريقي المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند اللَّه يوم القيامة بأعمالهم، وليوفيهم اللَّه أعمالهم ولا يظلموا حقوقهم، فلا يزاد على مسيء، ولا ينقص من محسن. 6- يقال للكافرين تقريعا وتوبيخا حين تقريبهم من النار ونظرهم إليها، أو عند تعذيبهم بها: لقد تمتعتم بطيبات الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي، فاليوم تجزون عذاب الخزي والفضيحة والهوان، بسبب استعلائكم على أهل الأرض بغير استحقاق، وتكبركم عن اتباع الحق والإيمان، وخروجكم عن طاعة اللَّه بغيا وظلما. ويلاحظ أن الاستكبار عن قبول الحق: ذنب القلب، والفسق: عمل الجوارح (الأعضاء) . ويحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات. قال المفسرون: والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها، لقوله تعالى: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] ، ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين، لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له، وقد يجرّ بعضه بعضا إلى أن يقع المرء في حد البعد عن اللَّه تعالى «1» . وفي الحديث: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على أهل الصّفّة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم «2» ، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة، ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة، ويراح بأخرى، ويستر

_ (1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري النظّام: 26/ 12 (2) أدم: جمع أديم وهو الجلد.

البيت كما تستر الكعبة؟» قالوا: نحن يومئذ خير، قال: «بل أنتم اليوم خير» . وذكر قتادة عن عمر رضي اللَّه عنه، قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وأحسنكم لباسا، ولكنني أستبقي طيباتي للآخرة، لأن اللَّه وصف قوما، فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ. وعن عمر أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل، ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع، وقال: رأيت اللَّه نعى على قوم شهواتهم، فقال: أَذْهَبْتُمْ الآية، فقال الرجل: اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولست منهم، فأكل وسرّه ما سمع. وفي صحيح مسلم وغيره: أن عمر رضي اللَّه عنه دخل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في مشربته «1» حين هجر نساءه، قال: فالتفت فلم أر شيئا يردّ البصر إلا أهبا «2» جلودا معطونة، قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول اللَّه، أنت رسول اللَّه وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الدّيباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت: استغفر لي، فقال: «اللهم اغفر له» . والخلاصة: أن الآية للنعي على الكفار الذين يعذبون بالنار، وأن استمتاعهم بالطيبات في الدنيا ليحرموا منها في الآخرة، عدلا من اللَّه وفضلا ورحمة. وليس في الآية أن كل من أصاب الطيبات المباحات في الدنيا، فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة، والمؤمن يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يوبّخ بتمتعه بالدنيا.

_ (1) المشربة: الموضع الذي يشرب منه الناس. والمشربة: الغرفة. (2) الأهب: جمع إهاب: وهو الجلد.

قصة هود عليه السلام مع قومه عاد [سورة الأحقاف (46) الآيات 21 إلى 28] :

وعلى كل حال كان السلف الصالح يؤثرون التقشف في الدنيا، ليكون ثوابهم في الآخرة أكمل، أما التمتع بزخارف الدنيا المباحة فليس ممتنعا، للآيات المتقدمة: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة 5/ 87] ، قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ.. الآية [الأعراف 7/ 32] . قال الرازي: نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقباض، وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي، وذلك مما يجرّ بعضه إلى بعض، ويقع في البعد عن اللَّه تعالى بسببه «1» . قصة هود عليه السلام مع قومه عاد [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 25

الإعراب:

الإعراب: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ إِذْ: بدل اشتمال. وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ.. فَما أَغْنى.. وَحاقَ بِهِمْ قد: حرف يقرب الماضي من الحال ويقلل المستقبل. وفِيما أي في الذي وإِنْ مَكَّنَّاكُمْ تحتمل إِنْ وجهين: إما بمعنى (ما) النافية، أو زائدة. فَما أَغْنى: ما: إما نافية، ويؤيده دخول (من) للتأكيد في قوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ أو استفهامية منصوبة ب أَغْنى والتقدير: أي شيء أغنى هو؟ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ: فِيما فاعل حاقَ وهي مصدرية، وفي الكلام حذف مضاف تقديره: وحاق بهم عقاب استهزائهم، لأن نفس الاستهزاء لا يحل عليهم. وإنما يحل عليهم عقابه. قُرْباناً آلِهَةً قُرْباناً: إما منصوب على المصدر، أو مفعول لأجله، أو مفعول اتَّخَذُوا وآلِهَةً بدل منه. وَما كانُوا يَفْتَرُونَ وما: مصدرية، أو موصولة، والعائد محذوف، أي فيه. البلاغة: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ثم قال: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ من قبيل الإطناب بتكرار اللفظ لزيادة التقبيح عليهم. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ توافق الفواصل الذي يزيد في جمال الكلام. المفردات اللغوية: أَخا عادٍ هو هود عليه السلام، وعاد قبيلة عربية من إرم. أَنْذَرَ خوف. بِالْأَحْقافِ واد باليمن فيه منازلهم، بين عمان ومهرة، وهي في الأصل جمع حقف: وهو رمل مستطيل مرتفع معوج فيه انحناء. خَلَتِ النُّذُرُ مضت الرسل التي تنذر، والنذر جمع نذير أي منذر، والجملة معترضة أو حال. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ من قبل هود ومن بعده. «ألا» أي بأن قال: «لا تعبدوا» أو النذر بألا تعبدوا، فإن النهي عن الشيء إنذار بمضرته. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عبدتم غير اللَّه. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل بسبب شرككم.

المناسبة:

لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا لتصرفنا عن عبادتها. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على الشرك. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك أنه يأتينا. قالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ قال هود: لا يعلم أحد متى يأتيكم العذاب، ولا مدخل لي فيه فأستعجل به، وإنما علمه عند اللَّه، فيأتيكم به في وقته المقدّر له. وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم، وما على الرسول إلا البلاغ. وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ باستعجالكم العذاب ما هو، ولا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلّغين منذرين، لا معذّبين مقترحين. فَلَمَّا رَأَوْهُ أي العذاب. عارِضاً سحابا عرض في أفق السماء. مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ متوجها نحو أوديتهم. هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي يأتينا بالمطر. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ريح مشتملة على عذاب مؤلم، أي هي ريح، أو بدل من فَلَمَّا. تُدَمِّرُ تهلك. كُلَّ شَيْءٍ من النفوس والأموال. بِأَمْرِ رَبِّها بإرادته ومشيئته، فأهلكت رجالهم ونساءهم وصغارهم وأموالهم. كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جزيناهم نجزي الكافرين. وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي لقد جعلنا لهم مكنة وقدرة في الذي جعلناه لكم يا أهل مكة من القوة والمال. سَمْعاً أسماعا. وَأَفْئِدَةً قلوبا. فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ شيئا من الإغناء، وقوله: مِنْ شَيْءٍ مِنْ: زائدة للتأكيد. إِذْ كانُوا إِذْ: معمولة لأغنى، وفيها معنى التعليل. يَجْحَدُونَ ينكرون. بِآياتِ اللَّهِ حججه وبراهينه البيّنة. وَحاقَ نزل. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى أي أهلكنا من جواركم من أهل القرى كثمود وعاد وقوم لوط. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ بيّناها لهم. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ هلا نصرهم بدفع العذاب عنهم؟ مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. قُرْباناً مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى اللَّه تعالى، من طاعته. آلِهَةً معه وهم الأصنام. ضَلُّوا غابوا. عَنْهُمْ عند نزول العذاب. وَذلِكَ أي الضلال والضياع وعدم نفع آلهتهم سببه: إِفْكُهُمْ أي كذبهم، وقرئ: أفكهم أي صرفهم. يَفْتَرُونَ يكذبون. المناسبة: بعد بيان أدلة التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة، بسبب استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها، ذكر اللَّه تعالى قصة قوم عاد للعظة والتذكر والعبرة، فقد أهلكهم اللَّه تعالى بسبب شؤم كفرهم، مع أنهم كانوا أكثر أموالا وقوة وجاها من مشركي مكة، ليعتبروا بذلك، ويتركوا الاغترار بالدنيا.

التفسير والبيان:

ويقبلوا على طلب الدين، فإن ضرب الأمثال الواقعية يستدعي عمق التأمل، وتغيير المواقف، وفيه تسلية للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تكذيب قومه. التفسير والبيان: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ، وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي واذكر أيها النبي لقومك أخا عاد: وهو هود عليه السلام الذي كان أخاهم في النسب، لا في الدين، بعثه اللَّه إلى عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأحقاف في حضر موت، جمع حقف: وهو الهضبة من الرمل العظيم، وهو الأصح، أو واد يدعى برهوت، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبل هود وبعده أنذروا نحو إنذاره بألا يعبدوا غير اللَّه ولا يشركوا معه إلها آخر، فإني أخشى عليكم عذاب يوم عظيم الأهوال. ونظير الآية قوله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [فصلت 41/ 13- 14] . فأجابه قومه قائلين: قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي قال قومه له: هل جئتنا لتصرفنا وتصدنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، فأتنا بما تعدنا من العذاب العظيم إن كنت صادقا في قولك ووعدك لنا به على الشرك. وهذا دليل واضح على أنهم استعجلوا عذاب اللَّه وعقوبته، استبعادا منهم وقوعه، وإنكارا لحصوله، كقوله سبحانه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى 42/ 18] . وفيه دلالة على أن الوعد قد يستعمل في موضع الوعد.

فرد عليهم هود عليه السلام: قالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي قال هود: لا علم لي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب، وإنما العلم بوقت مجيئه عند اللَّه تعالى، لا عندي، لأنه هو الذي قدّره، لا أنا، ولم يخبرني متى سيأتي به، وإنما شأني أن أبلغكم ما أرسلت به إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، والتحذير من العذاب، لا أن آتي به، فليس ذلك في مقدوري، ولكني أراكم قوما لا تعقلون ولا تفهمون حيث بقيتم مصرّين على الكفر، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم علي ما ليس من شأن الرسل ووظائفهم. ثم ذكر اللَّه تعالى مقدمات العذاب، فقال: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ، قالُوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي حينما رأوا العذاب أو السحاب مستقبلهم ومتجها نحو أوديتهم، قالوا: هذا سحاب ممطر، ففرحوا به واستبشروا، وقد حبس عنهم المطر واحتاجوا إليه، فكان مطر عذاب، كما قال تعالى واصفا جواب هود، أو أنه من قول اللَّه لهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ أي بل هذا هو العذاب الذي طلبتموه بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إنه ريح نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، تحمل بين جوانبها العذاب المهلك المؤلم. قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما، فساق اللَّه إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له (المعتّب) . وضمير رَأَوْهُ عائد إلى غير مذكور، بيّنه قوله عارِضاً كما قال تعالى: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] ولم يذكر الأرض، لكونها معلومة، فكذا هنا الضمير عائد إلى السحاب، كأنه قيل: فلما رأوا

السحاب عارضا، وهذا أولى، أو أن الضمير عائد إلى ما في قوله: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي فلما رأوا ما يوعدون به عارضا. أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن عائشة، قالت: «ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته «1» ، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما أو ريحا، عرف ذلك في وجهه، قلت: يا رسول اللَّه، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قال: يا عائشة، وما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا» . ثم وصف اللَّه تعالى تلك الريح، فقال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي تخرب وتهلك تلك الريح كل شيء مرّت به من نفوس (عاد) وأموالها مما شأنه الخراب، بإذن اللَّه لها في ذلك، كقوله سبحانه: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات 51/ 42] أي كالشيء البالي. ولهذا ذكر تعالى أنهم قد بادوا كلهم عن آخرهم، ولم تبق لهم باقية، وأصبحوا لا يرى من أموالهم وأنفسهم شيء، لكن ترى آثار مساكنهم. وهذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا، فكما جازينا عادا بكفرهم باللَّه بذلك العذاب، نجازي كل مجرم كافر. والمقصود منه تخويف كفار مكة. أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» قالت:

_ (1) لهواته: جمع لهاة وهي أقصى سقف الفم.

وإذا تخيلت السماء تغيّر لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرّي عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي اللَّه عنها، فسألته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» والاختيال: أن يخال في السماء المطر. وأخرج مسلم أيضا عن ابن عباس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» والصبا: ريح الشمال، والدبور: ريح الجنوب. وبعد تخويف كفار مكة وتهديدهم ووعيدهم، وصف اللَّه تعالى قوة عاد قائلا: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي ولقد مكنا قوم عاد والأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد وقوة الأبدان وطول العمر بمقدار لم نجعل لكم مثله ولا قريبا منه، فقد كانوا أشد منكم قوة يا أهل مكة، وأكثر أموالا وأولادا، وأعز جانبا وأمنع سلطانا وتسلطا، كما قال تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غافر 40/ 82] . وإنهم أعرضوا عن قبول الحجة والهداية، بالرغم مما أعطاهم اللَّه من الحواس التي بها تدرك الأدلة، فما نفعهم ما أعطاهم اللَّه من مفاتيح المعرفة والتذكر، ولم يتوصلوا بها إلى التوحيد وصحة الوعد والوعيد، ولم يستعملوا قدرات السمع والبصر والفؤاد في الخير وما خلقت له من شكر المنعم. ثم ذكر اللَّه تعالى علة عدم انتفاعهم بحواسهم قائلا: إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات اللَّه، وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، حيث قالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب اللَّه تعالى ويخافوا. ثم أكد تعالى ضرورة العظة بأمثال عاد أيضا من الأمم السالفة المكذبة بالرسل، فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى، وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وأهلكنا أيضا يا أهل مكة ما حولكم من البلاد، من القرى المكذبة بالرسل، مثل قرى ثمود وقرى قوم لوط ومدين مما جاور بلاد الحجاز، وأهل سبأ باليمن، وكانت في طريقهم يمرون بها في رحلاتهم صيفا وشتاء، وبينا الآيات وأوضحناها، وأظهرنا الحجج ونوّعناها، لكي يرجعوا عن كفرهم، فلم يرجعوا. ثم أبان اللَّه تعالى مدى الكرب والشدة بفقد الأعوان والنصراء لدفع عذاب اللَّه، فقال: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي فهلا نصرتهم آلهتهم التي تقرّبوا بها إلى اللَّه لتشفع لهم، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم، بل غابوا وذهبوا عنهم، ولم يحضروا لنصرتهم وعند الحاجة إليهم، وذلك الضلال والضياع سببه اتخاذهم إياها آلهة، وزعمهم الكاذب أنها تقربهم إلى اللَّه، وتشفع، وافتراؤهم وكذبهم بقولهم: إنها آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها. وفي هذا توبيخ لأهل مكة، وتنبيه إلى أن أصنامهم لا تنفعهم شيئا، فلو نفعت لأغنت من كان قبلهم من الأمم الضالة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي:

1- إن قصص القرآن للعبرة والعظة، ومن أكثر القصص تأثيرا قصة قوم عاد بالأحقاف بحضر موت عند اليمن، لذا أمر اللَّه نبيه أن يذكر لمشركي مكة قصة عاد ليعتبروا بها، وليتذكر في نفسه قصة هود عليه السلام، فيقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له. 2- لقد توالت الإنذارات على عاد من نبيهم هود عليه السلام، ومن الرسل الذين كانوا قبله، وجاؤوا بعده، وتتركز في الدعوة إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، وفي نبذ الشرك وعبادة الأصنام، فإن الشرك سبب لعذاب عظيم الأهوال. 3- قاوم قوم عاد دعوة هود هذه، وقالوا له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بالعذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا في أنك نبي. 4- النبي مجرد مبلّغ رسالة ربه، فلا يعلم الغيب، لذا قال هود لهم: إنما العلم بوقت مجيء العذاب عند اللَّه، لا عندي، وما شأني إلا أن أبلغكم ما أرسلت به عن ربكم إليكم، وأراكم قوما تجهلون في سؤالكم استعجال العذاب. 5- فوجئ قوم عاد بأمارات العذاب حينما رأوا سحابا معترضا في السماء والأفق، فظنوا أنه سحاب ممطر إياهم، مغيث لهم، ولكنه كان مشتملا على أداة العذاب، ألا وهي الريح المدمرة، فإن الريح التي عذّبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود عليه السلام من ديارهم، فكانت الريح تحمل الفسطاط، فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. 6- إن أعاصير الريح بالسرعة الهائلة دمرت كل شيء مرت عليه من رجال (عاد) وأموالها، بإذن ربها، فلم يبق إلا آثار مساكنهم، ومثل هذه العقوبة يعاقب بها المشركون والكفار في كل زمان ومكان. وما أكثر ما يسمى بالحوادث الطبيعية في هذا العصر من البراكين والزلازل والأعاصير المدمرة.

7- إن وسائل التعذيب الربانية يضعف ويصغر أمامها كل الناس سواء أكانوا عتاة طغاة أشداء أم دون ذلك، ولقد أنذر اللَّه بهذا العقاب أهل مكة وخوّفهم، وأبان لهم أنه أهلك من هو أشد منهم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وآثارا حضارية وعمرانية في الأرض. 8- لم يعذب اللَّه قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن طغوا وبغوا واستكبروا في الأرض بغير الحق، وعطلوا طاقات المعرفة والهدى، ووسائل التفكير والنظر والتأمل، وإذ عطلوها لم تنفعهم شيئا من عذاب اللَّه، لأنهم كانوا يجحدون بآيات اللَّه، ويكفرون بها، فأحاط بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب الإلهي الذي أنذروا به. 9- ضرب اللَّه مثلين واضحين لكفار مكة في هذه الآيات، المثل الأول- قوم عاد، والمثل الثاني- ما حولهم من أهل القرى، كديار ثمود وقرى لوط وبلاد مدين، مما كان يجاور بلاد الحجاز على طريق الشام، وكانت أخبارهم متواترة معروفة عندهم، وكذا أهل سبأ باليمن، وكانوا يمرون على ديارهم في رحلاتهم بالصيف والشتاء. 10- إن عدل اللَّه مطلق، فإنه تعالى لم يهلك أولئك الأقوام إلا بعد أن أقام لهم الحجج والدلالات، وأنواع البينات والعظات ليرجعوا عن كفرهم، فلم يفعلوا، وأصروا على الكفر والعناد. 11- لقد بات مؤكدا لمن كان عنده أدنى نظر وتأمل أن الآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها لم تنفع عابديها بمنع العذاب عنهم في الدنيا، فكذلك لن تنفعهم بالشفاعة لهم في الآخرة، حيث قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس 10/ 18] فإن تلك الآلهة ضلت وغابت عنهم وقت الشدة والمحنة، وهي إفكهم وكذبهم في قولهم: إنها تقربهم إلى اللَّه زلفى، وافتراؤهم بأنها آلهة، أو أن

إيمان الجن بالقرآن [سورة الأحقاف (46) الآيات 29 إلى 32] :

عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على اللَّه عز وجل. إيمان الجن بالقرآن [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) الإعراب: يَسْتَمِعُونَ الجملة حالية. المفردات اللغوية: إِذْ واذكر حين صَرَفْنا أملنا ووجهنا نحوك نَفَراً جماعة ما دون العشرة، جمع أنفار مِنَ الْجِنِّ جن نصيبين أو جن نينوى، وكانوا سبعة أو تسعة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الشيخان- ببطن نخلة- على نحو ليلة من مكة عند منصرفه من الطائف- يصلي بأصحابه الفجر يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ورد الفعل جمعا مراعاة للمعنى فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن أو الرسول قالُوا: أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض: أنصتوا أي اسكتوا واستمعوا بإصغاء قُضِيَ فرغ وانتهى من قراءته، وقرئ: قُضِيَ بالبناء للمجهول، والضمير للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أي فرغ من قراءته وَلَّوْا رجعوا مُنْذِرِينَ مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا، وكانوا يهودا ثم أسلموا. سَمِعْنا كِتاباً هو القرآن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى قيل: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا،

سبب نزول الآية (29) :

أو ما سمعوا بأمر عيسى عليه السلام مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما تقدمه كالتوراة يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد وهو الإسلام وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ طريقة سليمة من الشرائع. أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي يدعو إلى الإيمان بالله يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يغفر بعض ذنوبكم وهو ما يكون خالص حق اللَّه تعالى، فإن حقوق الناس ومظالم العباد لا تغفر بالإيمان، وإنما تسقط برضا أصحابها وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يحمكم من عذاب مؤلم معدّ للكفار. قال البيضاوي: واحتج أبو حنيفة رضي اللَّه عنه باقتصارهم على المغفرة والإجارة على أن لا ثواب لهم، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم. فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يعجز اللَّه بالهرب منه ولا يفوته وَلَيْسَ لَهُ لمن لا يجيب مِنْ دُونِهِ دون اللَّه أَوْلِياءُ أنصار يدفعون عنه العذاب أُولئِكَ الذين لم يجيبوا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ خطأ بيّن ظاهر. سبب نزول الآية (29) : وَإِذْ صَرَفْنا: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: إن الجن هبطوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه، قالوا: أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل اللَّه تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا الآية، إلى قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. المناسبة: بعد أن بيّن اللَّه تعالى أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر، أردفه هنا ببيان أن الجن أيضا فيهم من آمن وفيهم من كفر، وأن مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرّض للعقاب، وأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسل إلى الإنس والجن معا. والملائكة والجن عالمان غيبيان غير مرئيين، يجب أن يؤمن المسلم بهما، كما يجب أن يؤمن بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلقى الوحي من طريق الملائكة، وأنه بلّغ رسالته إلى الجن فبشّرهم وأنذرهم، أما كيفية التلقي والتبليغ فغير معروفة لدينا إلا بطريق الأخبار الدينية السمعية النقلية، ولا مجال للعقل في ذلك.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي واذكر أيها النبي لقومك حين وجهنا إليك يا محمدا نفرا من الجن، وبعثناهم إليك، لهداية قومهم، فلما حضروا القرآن عند تلاوته، أمروا بعضهم بعضا بالإنصات والإصغاء لكي يسمعوا سماع تدبر وتأمل وإمعان، وكان ذلك ببطن نخلة على بعد ليلة من مكة على طريق الطائف، وكانوا من أشراف جنّ نصيبين أو من نينوى بالموصل، بعد عودة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف حينما خرج يدعوهم إلى الإسلام. فلما فرغ من تلاوة القرآن في صلاة الفجر، رجعوا قاصدين إلى قومهم، مخوفين إياهم من مخالفة القرآن، ومحذرين لهم من عذاب اللَّه. والآية دالة على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مرسلا إلى الجن والإنس ودلت روايات السنة على أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة في الليلة الأولى، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج. من تلك الروايات الدالة على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشعر بحضورهم: ما ذكر سابقا عن ابن مسعود في سبب النزول، ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي، فيسمعون الكلمة، فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوا حقا، وما زادوا باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبثّ جنوده، فإذا بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.

وأما ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال: «سألت ابن مسعود، من آذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجن ليلة استمعوا القرآن قال: آذنته بهم الشجرة» فهو مؤيد لما سبق، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي أعلمته باجتماعهم. وهناك روايات كثيرة دالة على لقاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجن وتبليغهم رسالته وتلاوة القرآن عليهم «1» ، منها ما أخرجه أحمد ومسلم في صحيحة عن علقمة قال: قلت لعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: هل صحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا: اغتيل؟! استطير؟! ما فعل؟ قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح- أو قال: في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول اللَّه، فذكروا له الذي كانوا فيه، فقال: «إنه أتاني داعي الجن، فأتيتهم، فقرأت عليهم القرآن» فانطلق، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وفي رواية عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون» . وسورة الجن قاطعة الدلالة على استماع الجن القرآن ومطلعها: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [1- 2] . وقال اللَّه تعالى هنا: قالُوا: يا قَوْمَنا، إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ قالت الجن: يا قومنا الجن: إنا سمعنا كتابا أنزله اللَّه من بعد توراة موسى، مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على

_ (1) راجع تفسير ابن كثير: 4/ 164- 169

الرسل، يرشد إلى الدين الحق، وإلى طريق اللَّه القويم في العقائد والعبادات والأعمال والأخبار. ولم يذكروا عيسى عليه السلام إما لأنه كما قال عطاء: كانوا يهودا فأسلموا، وإما لأن عيسى أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ ورقائق أدبية إنسانية، وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة في التشريع لليهود والنصارى على السواء هو التوراة، فلهذا قالوا: أنزل من بعد موسى. وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقصة بدء نزول الوحي عليه ونزول جبريل عليه السلام أول مرة، فقال: «هذا الناموس «1» الذي نزّل اللَّه على موسى، يا ليتني فيها جذعا «2» إذ يخرجك قومك» . والخلاصة: أنهم خصوا التوراة، لأنها مصدر الشرائع والأحكام في الماضي، ولأنها متفق عليها عند أهل الكتاب. يا قَوْمَنا، أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يا قومنا الجن، أجيبوا رسول اللَّه خاتم النبيين أو القرآن إلى توحيد اللَّه وعبادته وطاعته، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي من حقوق اللَّه، أما حقوق العباد فلا تسقط إلا بتنازل أصحابها عنها، وكذلك يحميكم ويقيكم وينقذكم من عذاب موجع مؤلم هو عذاب النار، ويدخل المؤمن منكم الجنة، لقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 46- 47] . وفي الآية دلالة واضحة على أن اللَّه تعالى أرسل محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الثقلين: الجن والإنس، حيث دعاهم إلى اللَّه تعالى، وقرأ عليهم سورة الرحمن التي فيها خطاب

_ (1) ناموس الرجل: أمين السر، أو صاحب السر الذي يطلعه على باطن أمره ويخصّه بما يستره عن غيره، وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام النّاموس. (2) أي شابا جلدا قويا.

فقه الحياة أو الأحكام:

الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم. ولا فرق في الثواب والعقاب والأوامر والنواهي واستحقاق الجنة والنار بين الإنس والجن، لأن التكليف واحد، ولأن عموم آيات خطاب الفريقين يشمل كلا منهما، فلا يصح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما يجأرون فقط من عذاب النار يوم القيامة. ومما يدل على ذلك أيضا عموم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف 18/ 107] . ثم حذروا قومهم من المخالفة، فقالوا: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ومن لا يجب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى التوحيد وطاعة اللَّه، فلا يفوت اللَّه ولا يسبقه، ولا يفلت منه، ولا يقدر على الهرب منه، لأنه في أرض اللَّه، وليس له من غير اللَّه أنصار ينصرونه ويمنعونه من عذاب اللَّه، أولئك الذين لا يجيبون داعي اللَّه في خطأ ظاهر واضح. وهذا تهديد ووعيد، وبذلك جمعوا على وفق نهج القرآن بين الترغيب والترهيب، ولهذا جاؤوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفودا وفودا. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن المقصود من الآيات توبيخ مشركي قريش على عدم إيمانهم، فإن الجن سمعوا القرآن، فآمنوا به، وعلموا أنه من عند اللَّه، فما بالكم أيها المشركون وأمثالكم تعرضون وتصرون على الكفر؟! 2- وهناك قصد آخر وهو تسلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه عن

دعوته، حتى إنه ذهب إلى الطائف لدعوة ثقيف وأهلها إلى الإسلام، فسلطوا عليه غلمانهم وسفهاءهم، فرموه بالحجارة وأدموه، فاتجه داعيا إلى اللَّه في خشوع وتضرع واستنصار قائلا- كما روى محمد بن إسحاق في سيرته-: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو بعيد يتجهّمني «1» ، أم إلى صديق قريب ملّكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . 3- وفي عودته صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف حينما كان يصلي الفجر أو قيام الليل في موضع يسمى «نخلة» من ضواحي مكة، جاءه وفد من الجن سبعة أو تسعة من جن نصيبين أو من نينوى بالموصل، فاستمعوا إلى تلاوته القرآن، وهو لا يشعر بهم، فكانت هذه الآيات تطييبا لخاطره، وشد عزيمته وتقوية روحه. 4- كان أدب الجن عظيما حين سماعهم القرآن، فينبغي التأسي بهم، فإنهم لما حضروا القرآن واستماعه أو حضروا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال بعضهم لبعض: اسكتوا لاستماع القرآن، فلما فرغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من تلاوة القرآن، انصرفوا قاصدين من وراءهم من قومهم من الجنّ، منذرين لهم مخالفة القرآن، ومحذّرين إياهم بأس اللَّه إن لم يؤمنوا. 5- دلت هذه القصة على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسل مبعوث إلى الإنس والجن معا، وعلى أنهم آمنوا به، وأنه بعد علمه بهم، أرسلهم في الليلة الثانية إلى قومهم،

_ (1) أي يلقاني بالغلظة والشدة والوجه الكريه.

بدليل قولهم: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ولولا ذلك لما أنذروا قومهم، فتكون ليلة الجن ليلتين. 6- لقد وصفوا القرآن بوصفين: الأول- كونه مصدقا لما بين يديه، أي مصدقا لكتب الأنبياء المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد والأمر بمحاسن الأخلاق. الثاني- قوله: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الحق، ودين اللَّه القويم. وهذا يدل على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الجنّ والإنس، قال مقاتل: ولم يبعث اللَّه نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. ويؤكد عموم دعوته ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيّما رجل أدركته الصلاة صلّى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» . قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: «وبعثت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» . 7- أمر الجن قومهم بإجابة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل ما أمر به، ومنه الأمر بالإيمان، فإن آمنتم بالداعي، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم يغفر لكم بعض ذنوبكم، وينقذكم من عذاب مؤلم موجع. قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا، فرجعوا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوافقوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم ونهاهم.

ويلاحظ أنهم حين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم: وَآمِنُوا بِهِ لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف. وخصصوا المغفرة ببعض الذنوب، لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم. 8- دلت هذه الآي على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن البصري: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وكذا قال أبو حنيفة، ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقد أجبت عن هذا في تفسير الآيات، لذا ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك إلى أن الجن كما يعاقبون في الإساءة، يجازون في الإحسان مثل الإنس. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند اللَّه. وقال القرطبي: قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام 6/ 132] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لأنه قال في أول الآية: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي [الأنعام 6/ 130] إلى أن قال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا «1» . وقال النيسابوري: «والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون» «2» . 9- إن من لا يجيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس بمعجز لله في الأرض فلا يفوته ولا يسبقه ولا يهرب منه، وليس له من دون اللَّه أنصار يمنعونه من عذاب اللَّه، وهو من الضالين المخطئين في ضلال واضح.

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 217 وما بعدها. (2) غرائب القرآن: 26/ 17

إثبات البعث والأمر بالصبر [سورة الأحقاف (46) الآيات 33 إلى 35] :

إثبات البعث والأمر بالصبر [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) الإعراب: بِقادِرٍ: دخلت الباء لدخول حرف النفي في أول الكلام، فهو في قوة أليس اللَّه بقادر، كما دخلت في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة 2/ 105] وقادر: خبر أَنَّ. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يَوْمَ: منصوب بتقدير فعل، أي واذكر يوم يعرض. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ فيه محذوف تقديره: فإنهم لم يلبثوا يوم يرون ما يوعدون إلا ساعة من نهار، فيوم: منصوب ب يَلْبَثُوا. وبَلاغٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، فحذف المبتدأ للعلم به، ويجوز فيه النصب لوجهين: أحدهما- على أنه مصدر. والثاني- على الوصف لساعة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، أي يعلم منكرو البعث يَعْيَ يعجز عنه ويضعف بَلى هو قادر على إحياء الموتى، والفرق بين بلى ونعم أن بَلى جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه، أي فهي لإثبات النقيض، ونعم لتقرير ما قبلها. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ بأن يعذبوا في النار أَلَيْسَ هذا أي يقال لهم: أليس هذا التعذيب أو العذاب؟. فَاصْبِرْ على أذى قومك أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أصحاب الثبات والحزم والجد والصبر، فإنك من جملتهم، ومِنَ في قوله مِنَ الرُّسُلِ للبيان، فكلهم ذوو عزم، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فإنهم أصحاب الشرائع الكبرى الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها، ومعاداة الطاعنين فيها وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ لقومك نزول العذاب بهم، فإنه نازل بهم في وقته لا محالة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة، لطوله لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ لم يقيموا في الدنيا في ظنهم إلا مقدار ساعة، لشدة ما يرون من أهوال بَلاغٌ أي هذا القرآن أو السورة أو الذي وعظتهم به تبليغ من اللَّه إليكم فَهَلْ يُهْلَكُ أي لا يهلك عند رؤية العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي الكافرون الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة. المناسبة: بعد إثبات وجود الإله القادر الحكيم المختار في أول السورة، وإبطال قول عبدة الأصنام، وإثبات النبوة، ومناقشة المشركين في عقائدهم الباطلة ورد شبهاتهم، وتوبيخهم على عدم إيمانهم مع أن الجن آمنوا بالقرآن، بعد هذا أثبت اللَّه تعالى مسألة المعاد، لأن المشركين كانوا ينكرونها، فتكون أغراض السورة المكية قد تحققت، وهي إثبات التوحيد والنبوة والبعث، ثم ذكر بعض أحوال الكفار في الآخرة. ثم سلّى اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأمره بالصبر في دعوته، كصبر الأنبياء أولي العزم قبله، لتبليغ ما أمروا بأدائه، وعدم استعجال العذاب لهم، وذلك تعليم لنا ودرس وعظة بليغة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أو لم يتفكر ويعلم هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لإعادة الحياة في الأجسام مرة أخرى، أن الذي خلق الكون من السموات والأرض في ابتداء الأمر، ولم يعجز عن ذلك ولم يضعف عن خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت، بقادر على أن يحيي الموتى من قبورهم مرة أخرى، كما قال تعالى في آية أخرى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] . وبما أن الجواب معروف بداهة، أجاب اللَّه تعالى عن ذلك بقوله: بلى أي بل هو قادر على ذلك كله، إنه سبحانه قادر على أي شيء أراد خلقه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وبعد إثبات البعث ذكر تعالى بعض أحوال الكفار يوم القيامة، فقال: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذب الكافرون بالله في النار، ويقال لهم توبيخا وتأنيبا: أليس هذا العذاب الذي تعذبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه؟ فيقولون معترفين حيث لا ينفعهم الاعتراف: بلى واللَّه ربنا إنه لحق، أي إنه لا يسعهم إلا الاعتراف. قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي قال اللَّه على سبيل الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له. وبعد تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجواب عن شبهات المشركين، أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على تكذيب قومه قائلا:

فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك كصبر أولي الثبات والجد والعزيمة من الرسل وأنت من جملتهم، وهم أصحاب الشرائع: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولا تستعجل يا محمد العذاب لهم، أي للكفار، فإنه واقع بهم لا محالة. ومفعول الاستعجال محذوف، وهو العذاب. روى ابن أبي حاتم والديلمي عن مسروق قال: قالت لي عائشة رضي اللَّه عنها: ظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صائما، ثم طواه- أي ظل في يومه لا يأكل ولا يشرب- ثم ظل صائما ثم طواه، ثم ظل صائما، ثم قال: «يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة، إن اللَّه تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني واللَّه لأصبرن كما صبروا، جهدي، ولا قوة إلا بالله» . ونظير لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل 73/ 11] وقوله سبحانه: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق 86/ 17] . كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟ أي كأن الكافرين حين يشاهدون ما أوعدهم اللَّه به من العذاب، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام، لما يشاهدونه من الأهوال العظام، كما قال تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون 23/ 112- 113] وقال عز وجل: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] . وهذا القرآن الذي وعظهم به اللَّه تعالى والنبي: تبليغ كاف يقطع حجة

فقه الحياة أو الأحكام:

الكافرين، كما قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم 14/ 52] وقال سبحانه إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الأنبياء 21/ 106] . والبلاغ: بمعنى التبليغ. ولا يهلك بعذاب اللَّه إلا القوم الخارجون عن الطاعة، والواقعون في معاصي اللَّه، فلا يهلك على اللَّه إلا هالك مشرك، وهذا من عدل اللَّه تعالى ألا يعذب إلا من يستحق العذاب. وهذه الآية أقوى آية في الرجاء. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- دلت الآية الأولى: أَوَلَمْ يَرَوْا على كونه تعالى قادرا على البعث، لأنه خلق السموات والأرض، ولا شك أن خلقها أعظم من إعادة الشخص حيا بعد أن صار ميتا، والقادر على الأقوى الأكمل، لا بد من أن يكون قادرا على الأقل والأضعف. ثم إن اللَّه تعالى قادر على كل شيء، وتعلق الروح بالجسد أمر ممكن، إذ لو لم يكن ممكنا لما وقع أولا، واللَّه تعالى قادر على كل الممكنات، فوجب كونه قادرا على تلك الإعادة. 2- ذكر اللَّه تعالى الكفار حين تعذيبهم بالنار، حيث يقال لهم توبيخا وتهكما على استهزائهم بوعد اللَّه ووعيده: أليس هذا العذاب حقا؟ فذوقوا العذاب بكفركم. 3- أمر اللَّه نبيه والمؤمنين بالصبر في تبليغ الدعوة ومشاق الحياة، كصبر أصحاب الشرائع الكبرى: وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. وسبب هذا الأمر: أن الكفار كانوا يؤذون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،

ويضايقونه ويوغرون صدره الشريف، فتكون كلمة من للتبعيض. وفي قول آخر: إن كل الرسل أولو عزم، ولم يبعث اللَّه رسولا إلا إذا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال وعقل، فتكون كلمة من للتبيين لا للتبعيض. وفي قول: كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متّى، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولّى مغاضبا لقومه. وهل الأمر بالصبر منسوخ؟ قال بعض المفسرين: الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، قال القرطبي: والأظهر أنها منسوخة، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، فأمره اللَّه عز وجل أن يصبر على ما أصابه، كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والراجح لدي أنها غير منسوخة، لأن فضيلة الصبر ذات قيمة أدبية رفيعة، ومبدأ أخلاقي ضروري وسام في كل وقت، ومثل هذا لا يصلح للنسخ. والصبر لا يمنع الجهاد ورد العدوان وقتال الأعداء من المشركين وغيرهم، فهو أمر مطلوب في السلم والحرب. 4- أمر اللَّه نبيه والمؤمنين أيضا من بعده بعدم الاستعجال في الدعاء على الكفار، فلكل شيء أو ان بعلم اللَّه وحكمته، والعذاب منهم قريب، وأنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر. والسنة في الدعاء طلب الوقاية من السوء والأذى، أخرج الطبراني عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يدعو: «اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين» .

5- إن أجل الدنيا قصير، والآخرة خالدة دائمة، ويحسب الكفار حين يرون أهوال عذاب الآخرة أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار ساعة من ساعات النهار. 6- في القرآن والسنة البلاغ والكفاية في إنذار الناس من العذاب، وتحذيرهم من العقاب بسبب الكفر والعصيان. 7- من عدل اللَّه ورحمته ألا يعذب إلا من فسق بأن خرج من طاعة اللَّه تعالى، ولم يعمل بأمره ونهيه. قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها، تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لا إله إلا العظيم: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] . كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ صدق اللَّه العظيم.

سورة محمد عليه الصلاة والسلام:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة محمّد عليه الصلاة والسلام مدنيّة، وهي ثمان وثلاثون آية. تسميتها: سميت سورة محمد، لبيان تنزيل القرآن فيها على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [2] . ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا أربع مرات، في سورة آل عمران: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [144] وفي سورة الأحزاب: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [40] وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [29] . وأما في غير هذه المواضع الأربعة فيذكر بصفة الرسول أو النبي. وسميت أيضا سورة القتال، لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [4] . مناسبتها لما قبلها: هذه السورة يرتبط أولها ارتباطا قويا بآخر سورة الأحقاف: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ حتى إنه لو أسقطت البسملة بينهما، لكان الكلام متصلا مباشرة بما قبله اتصالا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة. ما اشتملت عليه السورة: يمكن أن يوصف موضوع هذه السورة بأنه الجهاد في سبيل اللَّه، وبما أن

السورة مدنية، فهي معنية بأحكام التشريع، لا سيما أحكام القتال والأسرى والغنائم ووصف الكافرين والمؤمنين وجزاء الفريقين في الدنيا والآخرة، وأحوال المنافقين والمرتدين ووعدهم ووعيدهم. بدأت السورة مباشرة وبما يلفت النظر بالحديث عن الكفار أعداء اللَّه والرسول، وإظهار غضب اللَّه عليهم، وأردفت ذلك بوصف المؤمنين وبيان رضا اللَّه عليهم، لإظهار الفرق الواضح بين الفريقين: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ. ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين قتالا عنيفا لا هوادة فيه، لأنهم كفروا واتبعوا الباطل، وبشّرت المؤمنين بالنصر إن نصروا دين اللَّه وصبروا في مواجهة الأعداء، وأبانت خذلان الكافرين لكراهيتهم ما أنزل اللَّه، وفي هذا تعريف بجزاء المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة. ثم عنيت بضرب الأمثال لكفار مكة وأمثالهم بالطغاة السابقين وكيفية تدميرهم بسبب طغيانهم: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ... ووصفت بعدئذ ألوان نعيم الجنة المعدة للمتقين للترغيب والإقبال على الإيمان والطاعة. وانتقل البيان إلى وصف المنافقين والمرتدين ووعدهم وتهديدهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ إلى آخر السورة. وذكرت في ثنايا ذلك أن الكافرين الصادّين عن سبيل اللَّه والمعادين للرسول لن يضروا اللَّه شيئا وسيحبط أعمالهم، ولن يغفر اللَّه لهم، وذكّرت بوجوب طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. وختمت السورة بما يناسب موضوعها الأصلي وهو الجهاد في سبيل اللَّه، فدعت المؤمنين إلى تحقيق العزة والكرامة، وتجنب الضعف والوهن والمسالة

فضل السورة:

المهينة، وحذّرت من صلح الأعداء حال القوة، ووصفت حال الدنيا باللهو واللعب، ودعت إلى الإنفاق في سبيل اللَّه، فإن الدنيا فانية زائلة: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ.. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.... فضل السورة: أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرؤها في صلاة المغرب. بيان الفرق بين الكفار والمؤمنين [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) الإعراب: الَّذِينَ كَفَرُوا.. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ مبتدأ وخبر، وكذلك: وَالَّذِينَ آمَنُوا.. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وَأَصْلَحَ بالَهُمْ البال: الحال والشأن: لا يثنى ولا يجمع. ذلِكَ بِأَنَّ مبتدأ وخبر أيضا. البلاغة: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. بينهما مقابلة. وبين كَفَرُوا وآمَنُوا طباق. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ بعد قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا ذكر خاص بعد عام تعظيما

المفردات اللغوية:

للمنزل عليه، وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه، وأنه الأصل فيه، ولذلك أكده بقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أَصْلَحَ بالَهُمْ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ سجع رصين غير متكلف. المفردات اللغوية: الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة وأهل الكتاب وأمثالهم، أي امتنعوا عن الدخول في الإسلام وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منعوا الناس من الدخول في الإسلام، وهذا عام في جميع من كفر وصد. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أبطلها وأحبطها بالكفر، فلا ثواب لها في الآخرة، ويجزون بها في الدنيا فضلا من اللَّه تعالى، وذلك كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحفظ الجواز. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من المهاجرين والأنصار وأهل الكتاب وغيرهم وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي آمنوا بالقرآن المنزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتخصيصه بعد العموم تعظيم له واعتناء بشأنه. وقرئ: نزّل بالبناء للمعلوم، وأنزل بالبناء للمعلوم والمجهول، ونزل بالتخفيف وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي والقرآن هو الحق الثابت الذي لا شك فيه من اللَّه كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ سترها بالإيمان وعملهم الصالح، والسيئات: الذنوب وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم وشأنهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد. والبال: لا يثنى ولا يجمع. ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من الإضلال والتكفير والإصلاح بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ أي بسبب اتباع الكفار الباطل من الأمر والشيطان. وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي بسبب اتباع المؤمنين الحق وهو القرآن ومحمد كَذلِكَ مثل ذلك البيان وضرب المثل يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي يبين أحوال الفريقين، فالكافر يحبط عمله، والمؤمن يغفر زلله، والأول مثل لخيبته، والثاني مثل لفوزه. سبب النزول: نزول الآية (1) : الَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ قال: هم أهل مكة نزلت فيهم. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال: هم الأنصار.

التفسير والبيان:

وقال ابن عباس في رواية أخرى: نزلت في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبيّ وأميّة ابنا خلف، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل. التفسير والبيان: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي الذين جحدوا توحيد اللَّه وآياته، وعبدوا غيره، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، وهم كفار قريش، أبطل اللَّه ثواب أعمالهم وأحبطها وجعلها ضائعة، ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء في الآخرة. فكل ما يسمونه مكارم الأخلاق، كصلة الرحم، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وعمارة المسجد الحرام بالسّقاية والخدمة للحجاج، وإجارة المستجير، لا يقبل مع الكفر والصدّ. ونظير الآية: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . وبعد بيان حال الكفار وجزائهم، بيّن حال المؤمنين وجزاءهم، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي والذين صدقوا بالله، وأطاعوه، واتبعوا أمره ونهيه، وانقادوا لشرع اللَّه ظاهرا وباطنا، وعملوا بما يرضيه من صالح الأعمال، وصدقوا بالقرآن الذي أنزل على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فآمنوا أنه حق وآمنوا بأنه كلام اللَّه، والقرآن هو الحق الثابت الذي لا شك فيه أنه من اللَّه، محا عنهم ذنوبهم التي عملوها في الماضي، وغفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح، وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة، فعصمهم عن المعاصي، وأرشدهم إلى أعمال الخير في

فقه الحياة أو الأحكام:

الدنيا، وورثهم نعيم الجنة في الآخرة. وهذا يشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم من المؤمنين الذين يعملون الصالحات. وقوله: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ جملة معترضة حسنة. ثم بيّن اللَّه تعالى سبب إضلال الكافرين وإصلاح وإسعاد المؤمنين، فقال: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي إن ذلك الجزاء المتقدم للفريقين بسبب اتباع الكافرين الباطل، من الشرك بالله، والعمل بمعاصيه واختياره على الحق، وبسبب اتباع المؤمنين الحق الذي أمر اللَّه باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي مثل ذلك البيان الرائع، يبين اللَّه للناس أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، ويظهر مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن جزاء أهل مكة الذين كفروا بتوحيد اللَّه، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين اللَّه، وهو الإسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، هو إبطال ثمرة أعمالهم في كفرهم، بما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، فلم يبق لهم عمل، ولم يوجد، وأدى ذلك بالتالي إلى أنه لم يمتنع الإهلاك عنهم، ولا صرفهم عن التوفيق لسبل السعادة. والمراد بالإضلال: إبطال العمل وأثره بحيث لا يجده ولا يجد من يثيبه عليها.

2- إن المغفرة هي جزاء الذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة باتباع الفرائض، واجتناب النواهي، والتصديق بالقرآن الذي أنزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وبما جاء به، دون أن يخالفوه في شيء. والقرآن: هو الحق الثابت الراسخ من ربهم، الذي نسخ به ما قبله، والمغفرة أو التكفير: الستر والتجاوز عما مضى من ذنوبهم وسيئاتهم قبل الإيمان، وإصلاح البال: إصلاح شأنهم وحالهم وأمورهم، والمراد إصلاح ما تعلق بدنياهم. وتكفير السيئات من الكريم: سترها بما هو خير منها، فهو في معنى قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان 25/ 70] . وهذا متفق مع منهج القرآن، كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح، رتب عليهما المغفرة والأجر، كما قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الحج 22/ 50] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت 29/ 7] . 3- دل قوله تعالى: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ على أن الإيمان بالقرآن المنزل من عند اللَّه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى اللَّه عليه وسلّم. وهذا في مقابلة قوله تعالى في حق الكافر: وَصَدُّوا أي صدوا عن اتباع محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو حث على اتباعه. 4- إن القرآن الكريم هو الحق النازل من الرب عز وجل، وفي الآية دليل على أن دين محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يرد عليه النسخ أبدا. 5- الفرق بين جزاءي الفريقين: أن إضلال الكفار وإبطال أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وهو اتباع إله غير اللَّه، واتباع الشيطان والشرك، وأن تكفير

أحكام القتال والأسرى والقتلى في سبيل الله ونصرة الإسلام [سورة محمد (47) الآيات 4 إلى 9] :

سيئات المؤمنين وإسعادهم وإصلاح شأنهم وحالهم وأمورهم بسبب اتباع الحق وهو التوحيد والإيمان. أي إن ذلك الإضلال والهدى المتقدم بسبب اتباع الباطل من الكافرين، واتباع الحق من المؤمنين، فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق. 6- إن مثل هذا البيان الذي بيّن، يبين اللَّه للناس أمر الحسنات وأمر السيئات وأحوال الفريقين. فقوله كَذلِكَ أي مثل هذا البيان وضرب المثل، على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم. وضرب المثل في الآية: هو أن اللَّه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أحكام القتال والأسرى والقتلى في سبيل اللَّه ونصرة الإسلام [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) الإعراب: فَضَرْبَ الرِّقابِ منصوب على أنه مصدر، تقديره: فاضربوا ضرب الرقاب، فحذف الفعل.

البلاغة:

فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً مَنًّا ... وفِداءً: منصوبان على المصدر. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، ذلِكَ ذلِكَ: في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمر ذلك. فَتَعْساً لَهُمْ منصوب على المصدر، تقديره: تعسهم تعسا أو تعسوا تعسا، ويقال أيضا: أتعسهم إتعاسا. والجملة خبر المبتدأ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطف على تعسوا تعسا. البلاغة: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً بينهما طباق. تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها استعارة تبعية، شبه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع تَضَعَ بمعنى تنتهي وتترك. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ مجاز مرسل، أطلق الجزء وهو الأقدام وأراد الكل، أي يثبتكم، وعبر بها لأنها أداة الثبات، وهو مثل فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى 42/ 30] . أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.. سجع غير متكلف. المفردات اللغوية: لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فاضربوا الرقاب ضربا، أي اقتلوهم، وعبر بضرب الرقاب مجازا عن القتل، لأن الغالب في القتل أن يكون بضرب الرقبة، ولتصوير القتل بأشنع صورة للإرهاب أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي فأسروهم، والوثاق كالرباط: ما يوثق به الأسير من الحبل أو القيد وغيره، وشدة: إحكام ربطه حتى لا يفلت ويهرب. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون عليهم منا، أو يفدون فداء، والمن: إطلاق سراح الأسير من غير مقابل أو فدية، والفداء أو المفاداة: إطلاق الأسير في مقابلة مال أو غيره كمبادلة الأسرى حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها مجاز عن انتهاء الحرب، أي حتى تنقضي الحرب أو تنتهي، ولم يبق إلا مسلم أو مسالم، والأوزار: الأثقال من السلاح والكراع (الخيول) وغيرها من أدوات القتال الثقيلة والمعدات الحربية ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك مما ذكر وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي لانتقم منهم بغير قتال كالخسف والغرق والرجفة وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ولكن أمركم بالقتال ليختبر المؤمنين بالكافرين، بأن يجاهدوهم، فيستوجبوا الثواب

سبب النزول نزول الآية (4) :

العظيم، والكافرين بالمؤمنين، بأن يعجل عذابهم ليرتدع بعضهم عن الكفر. وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي استشهدوا، وقرئ: قاتلوا، أي جاهدوا فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يحبطها ويضيعها سَيَهْدِيهِمْ سيهدي من بقي حيا إلى الثواب أو سيثبت هدايتهم، أو سيهديهم في الدنيا والآخرة إلى ما ينفعهم وَيُصْلِحُ بالَهُمْ حالهم وشأنهم في الدنيا والآخرة. ويلاحظ أن الهداية وإصلاح البال لمن لم يقتل، وأدرجوا في قوله: قُتِلُوا بطريق التغليب عَرَّفَها لَهُمْ بيّنها لهم وأعلمها بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق. إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ تنصروا دين اللَّه ورسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ يثبتكم في أثناء القتال والمجاهدة مع الكفار فَتَعْساً لَهُمْ هلاكا لهم وخيبة من اللَّه ذلِكَ أي التعس وإضلال الأعمال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بسبب كراهيتهم ما أنزل اللَّه من القرآن المشتمل على التكاليف فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها. سبب النزول: نزول الآية (4) : وَالَّذِينَ قُتِلُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشّعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: اللَّه أعلى وأجل، فقال المشركون: إن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: اللَّه مولانا، ولا مولى لكم. المناسبة: بعد قسمة الناس إلى فريقين: فريق الكافرين الذين يتبعون الباطل وهم حزب الشيطان، وفريق المؤمنين الذين يتبعون الحق وهم حزب الرحمن، ذكر اللَّه تعالى حكم القتال عند التحزب، وأرشد المؤمنين إلى قواعد الحرب مع المشركين أثناء المعركة وبعد انتهائها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فإذا واجهتم الكفار في القتال، فاحصدوهم حصدا بالسيوف، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا أمر بجهاد الكفار، وهم من لم يكن لهم عهد مع المسلمين، من المشركين وأهل الكتاب، عند وجود مسوغات القتال وتوافر العدوان، وهو قتال لا شفقة فيه ولا هوادة، وإنما يجب إعمال السلاح فيهم، حسبما تقتضي طبيعة الحرب، كما قال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة 2/ 193] . هذا هو الحكم الأول في أثناء المعركة، أما بعد انتهاء المعركة فقال اللَّه تعالى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ، فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وغلبتموهم، وأصبحوا بلا قوة كالرجل المثخن بالجراح، فضعفوا واستكانوا وصاروا أسرى في أيديكم، وانتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا. وبعد الأسر أنتم مخيرون بين أمرين: إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بلا مقابل أو بغير عوض، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر. وذلك حتى لا يكون حرب مع الكفار ولا قتال، بأن يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، أي إن غاية هذه الأوامر إنهاء الحرب والقتال. وهذا في الحقيقة حث على السلم المستتب، ليعيش الناس في سلام وأمان، ويتم تبادل الأفكار، وتنتشر دعوة الإسلام بالحكمة والإقناع، والحجة والبرهان، والموعظة الحسنة، فليس انتشار الإسلام بالسيف كما يتصور بعض

الأعداء، وإنما كان انتشاره بالقناعة الذاتية، وبالاستحسان الحر الطليق دون إجبار ولا إكراه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة 2/ 256] . وصريح الآية يوجب القتل فقط قبل الإثخان، والتخيير بعد الأسر بين المن والفداء. وجاءت السنة مبينة جواز القتل بعد الأسر للمصلحة، كما جاء فيها إباحة الاسترقاق جريا على العادة السائدة في الماضي ومعاملة بالمثل. والظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن اللَّه تعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ، ليأخذوا منهم الفداء. ثم بيّن اللَّه تعالى الحكمة في شرع القتال، فقال: ذلِكَ، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ذلك هو الحكم في قتال الكفار، واللَّه قادر على الانتصار من أعدائه بالانتقام منهم، وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة والغرق، دون قتال منكم أيها المؤمنون، ولكن اللَّه أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه، ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم، أو يحملهم الخوف على الإيمان بالله تعالى قبل نزول العذاب بهم، ومشاهدة قتل أمثالهم، فالحكمة من القتال: هي امتحان الناس واختبار صبرهم على المكاره: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] . ثم ذكر اللَّه تعالى ثواب الشهداء المجاهدين في سبيله قائلا: 1- وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أي إن المقتولين في سبيل اللَّه لا يضيع اللَّه سبحانه أجرهم، ولن يجعل أعمالهم ضائعة كما تضيع أعمال الكفار.

أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن للشهيد عند اللَّه ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلّة الإيمان، ويزوّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصّع بالدر والياقوت، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين إنسانا من أقاربه» . وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، وعن أبي قتادة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يغفر للشهيد كل شيء إلّا الدّين» . 2- سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي سيوفقهم اللَّه تعالى للعمل بما يحبه ويرضاه، ويرشدهم إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم وأمرهم وشأنهم في الآخرة، أي تحفظ أعمالهم وتخلد لهم، ويدخلهم روضات الجنات يحبرون فيها، وقد عرّفهم بها، وأعلمهم وبيّنها لهم من غير استدلال، حتى إن أهلها يهتدون إلى بيوتهم ومساكنهم من غير مرشد ولا دليل. جاء في الحديث الصحيح عند البخاري: «والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا» . وقال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم اللَّه لهم منها، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا. والتكرار بين سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ لأن الأول سبب النعيم، والثاني نفس النعيم. والناس في الجنة درجات بحسب أعمالهم، كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام 6/ 132] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم بشرهم اللَّه بالنصر بشرط نصرة دينه وحثهم على تحقيق الشرط، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي يا أهل الإيمان بالله والقرآن والإسلام إن تنصروا دين اللَّه ينصركم على أعدائكم، ويثبّت أقدامكم عند القتال في مواطن الحرب، حتى تتحقق الغلبة والعزة والتفوق لكم، وتكون كلمة اللَّه هي العليا. وتأكيدا لذلك وتقوية لقلوبهم ذكر اللَّه تعالى جزاء الكافرين بعد بيان جزاء المجاهدين، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي وللكافرين بالله وبرسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الخيبة والخزي والشقاء، وقد أبطل اللَّه أعمالهم وأحبطها، فلا ثواب لهم ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ مقابل تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم ذكر اللَّه تعالى سبب الخيبة وإبطال الأعمال، وسبب بقائهم على الكفر والضلال قائلا: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي ذلك التعس. وإضلال الأعمال بسبب كراهيتهم ما أنزل اللَّه في قرآنه على نبيّه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم من التكاليف، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأبطل اللَّه ثواب أعمالهم بذلك السبب. والمراد بالأعمال: أعمال الخير حال الكفر، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- إباحة القتل الشديد في أثناء القتال، لأن ذلك من طبيعة الحرب، تحقيقا للنصر والغلبة، ودحرا للعدو وإنزال الهزيمة الساحقة بجيشه. وقد

خصص بعض المفسرين جواز ضرب الرقاب والإثخان (الإكثار من القتل في الحرب) بالمشركين أهل الأوثان، أو بمن لا عهد لهم ولا ذمة. والصحيح أن الآية عامة، والتخصيص لا دليل عليه، لعموم الآية: فَضَرْبَ الرِّقابِ. وهذه الآية متفقة مع آية الأنفال: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [67] غير أن آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان، والآية التي هنا فيها بيان تقرير مصير الأسرى وتخيير الإمام فيهم بين أحد أمرين: المنّ أو الفداء. أما قتل الأسير لضرورة أو مصلحة حربية معينة في حالات خاصة وكذا استرقاقه، فمأخوذ من السّنة النّبوية، فيصير الإمام مخيّرا في الأسرى بين أربعة أمور: القتل، والاسترقاق، والمنّ، والفداء. روى البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «بعث النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه، واللَّه ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، واللَّه ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمره أن يعتمر، فلما قدم

مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم» . وهذا دليل من السّنة على جواز المنّ على الأسير. وهناك دليل آخر من السّنة على جواز الفداء، قال عمران بن حصين: أسر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين، من أصحاب النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ففداه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف. وأما دليل جواز قتل الأسير: فقال أبو بكر الجصاص: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير، لا نعلم بينهم خلافا فيه، وقد تواترت الأخبار عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتله الأسير، منها قتله عقبة بن أبي معيط، والنّضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر، وقتل- أي النّبي- يوم أحد أبا عزّة الشاعر بعد ما أسر، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بالقتل، وسبي الذّرّيّة، ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم. وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله. وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح وآخرين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. ومنّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم «1» . وأما دليل جواز استرقاق الأسرى الذي كان معاملة بالمثل مع صنيع الأمم الأخرى بعد الحرب: فهو أن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم استرق بعض العرب كهوازن وبنى المصطلق وقبائل من العرب «2» ، وسبى أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 391 (2) نيل الأوطار: 8/ 2 وما بعدها. [.....]

بني ناجية من قريش، وفتحت الصحابة بلاد فارس والروم، فسبوا من استدلوا عليه. وأما الاستدلال بالآية: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ على جواز قتل الأسير فغير سديد، لأن الآية واضحة في القتل قبل الأسر، وأما بعد الإثخان وهو الإضعاف، فإن المحارب يقع في الأسر، وحكم ذلك مختلف عما قبل الأسر. وقد فهم بعضهم من الآية جواز الاسترقاق، وذلك من الأمر بشدّ الوثاق، ويبقى بعده حالان، هما: المنّ والفداء. قال ابن عباس في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ: ذلك يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل اللَّه تعالى بعد هذا في الأسارى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً فجعل اللَّه النّبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار: إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادوهم «1» . أي يفعل الإمام ما يراه مصلحة حربية. 2- هل الآية: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً محكمة أو منسوخة؟ قال أبو حنيفة عملا بقول السّدّي: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 6] فلا يفادى الأسير بالمال، ولا يباع السبي لأهل الحرب، فيرجعون حربا علينا، ولا يفادون بأسرى المسلمين، ولا يمنّ على الأسرى، حتى لا يعودوا حربا على المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين، وهو قول الثوري والأوزاعي. وأجاز الجمهور المنّ والفداء بأسرى المسلمين وبالمال للآية: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فقد أجازت الآية الفداء مطلقا من غير تقييد، وفادى النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرى بدر بالمال، وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين قال: أسرت ثقيف

_ (1) الجصاص: 3/ 390

رجلين من أصحاب النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأسر أصحاب النّبي رجلا من بني عامر بن صعصعة، فمرّ به على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الأسير: علام أحبس؟ فقال: بجريرة حلفائك، فقال: إني مسلم، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح» ثم مضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فناداه أيضا، فأقبل فقال: إني جائع فأطعمني، فقال النّبي: نعم هذه حاجتك، ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما. وروي أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين. قال ابن العربي والقرطبي: والتحقيق الصحيح أن الآية محكمة في الأمر بالقتال «1» . وهذا مذهب جمهور العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. ولا يلجأ إلى القول بالنسخ إلا عند تعذر التوفيق والجمع بين الأدلة المتعارضة، وهنا يمكن التوفيق بحمل آيات القتال على حالة الحرب ونقض العهد ومقتضيات المعركة، فلا بدّ حينئذ من القتل لإعلاء كلمة اللَّه تعالى وإظهار عزّة الإسلام وإعلاء هيبة المسلمين، فإن تحقق المطلوب تخيّر المسلمون بعد انتهاء الحرب واستقرار السلم بين المنّ والفداء. أما القتل بعد الأسر فهو ضرورة ولا تكون إلا لمصلحة حربية واضحة يراها الإمام. قال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال 8/ 67] . فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما يراه من قتل أو غيره «2» . وهذا مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1689، تفسير القرطبي: 16/ 228 (2) تفسير القرطبي: 16/ 228

والخلاصة: لم يأخذ الفقهاء بمقتضى الحصر المفهوم من الآية: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وقالوا إن حال المقاتلين بعد الأسر غير منحصر في الأمرين، بل يجوز القتل والاسترقاق والمنّ والفداء، لأن المذكور في الآية إرشاد، لأن الظاهر في المثخن الازمان أي الإنهاء أو الإضعاف، والقتل مذكور في قوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ. 3- الجهاد طريق للامتحان والاختبار، ليعرف الصادق الصابر، والمضحي المجاهد في سبيل اللَّه، وإن كان اللَّه منزّها عن الاستعانة بأحد، وقادرا على البطش بالأعداء وإهلاكهم بوسائل مختلفة غير القتال، أو تسليط الملائكة أو أضعف خلقه، فالله يمتحن المؤمنين بالكافرين، هل يجاهدون في سبيله حقّ الجهاد أم لا؟ ويبتلي الكافرين بالمؤمنين، هل يذعنون للحقّ أم لا؟ إلزاما للحجة. ومعنى الابتلاء من اللَّه سبحانه كما تقدم مرارا أنه مجاز، أي يعاملهم معاملة المختبر أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين. 4- القتلى في سبيل اللَّه أو الشهداء لا تضيع أعمالهم، ويهديهم ربّهم إلى إدراك السعادة في الدنيا والآخرة وإلى الثواب ويثبتهم على الهداية، ويرشدهم إلى طريق الجنة من غير بحث ولا حيرة ولا توقف بعد خروجهم من قبورهم، ويصلح حالهم وشأنهم ومعاشهم في مستقبل الأمر في العقبى والمعاد أو في الدنيا، ويدخلهم الجنة التي بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وطيّبها لهم بأنواع الملاذّ. 5- النصر مشروط بنصرة دين اللَّه تعالى وتطبيق شرعه والتزام أوامره واجتناب نواهيه، لذا كرر اللَّه تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة قائلا: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم على الكفار، ويثبّت قلوبكم بالأمن والنصر والمعونة في موطن الحرب.

النظر في آثار الأمم السابقة والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين [سورة محمد (47) الآيات 10 إلى 14] :

6- إن جزاء الكافرين عسير ومظلم وشاق، فالخيبة والخزي والهزيمة لهم في الدنيا، وإبطال أعمالهم في الآخرة، بسبب كراهيتهم ما أنزل اللَّه من الكتب والشرائع، ولأن أعمالهم كانت في طاعة الشيطان، فيحبط اللَّه ما لهم من أعمال الخيرات، كعمارة المسجد الحرام وغيره، وقرى الضيف، وأصناف القرب، ولا يقبل اللَّه العمل إلا من مؤمن. وبه يتبيّن الفرق بين موتى الكافرين في قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وبين موتى المسلمين وقتلاهم حيث قال تعالى في حقهم: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. النظر في آثار الأمم السابقة والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 14] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) الإعراب: فَيَنْظُرُوا إما مجزوم بالعطف بالفاء على يَسِيرُوا أو في موضع نصب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن» . مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أَخْرَجَتْكَ: أي أخرجك أهلها، ولهذا قال:

البلاغة:

أهلكناهم، فحذف الأصل، وأقيم ضمير القرية مقامهم، فصار ضمير القرية في موضع رفع ب «أخرج» كما كان ضمير الأهل كذلك، ثم استتر ضمير القرية في «أخرج» وظهرت علامة التأنيث، لأن القرية مؤنثة، وهذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، مثل فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد 47/ 21] أي أصحاب الأمر. البلاغة: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها من وضع الظاهر موضع المضمر. الَّتِي أَخْرَجَتْكَ مجاز مرسل أي أخرجك أهلها، والإخراج باعتبار التسبب. وكذا قوله مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل أطلق المحل وأريد الحالّ. المفردات اللغوية: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أهلك أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وهو أبلغ من قوله: دمرهم اللَّه، فهذا يدلّ على الإهلاك مطلقا، والأول: إهلاك ما يختص به الإنسان من نفسه وماله وولده وغيره. وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة أو العقوبة، لأن التدمير يدلّ عليها. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب ولاية اللَّه. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ولي وناصر المؤمنين، أي ناصر المؤمنين على أعدائهم. وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ لا ناصر لهم يدفع العذاب عنهم. ويأتي المولى بمعنى المالك كما في قوله تعالى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس 10/ 30] أي إلى مالك أمورهم والمتصرف في شؤونهم. يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا. وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، ولا يلتفتون إلى العاقبة أو الآخرة. مَثْوىً منزل ومقام ومصير. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وكم من أهل قرية. مِنْ قَرْيَتِكَ أي مكة أي من أهل مكة، حذف المضاف وأجريت أحكامه على المضاف إليه، وقوله مِنْ قَرْيَتِكَ روعي فيه لفظ قرية. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب، روعي فيه معنى قَرْيَةٍ الأولى. فَلا ناصِرَ لَهُمْ من إهلاكنا. بَيِّنَةٍ حجة وبرهان، وتشمل القرآن والحجج العقلية. سُوءُ عَمَلِهِ كالشرك والمعاصي. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في عبادة الأوثان، فلا شبهة دليل لهم في ذلك، فضلا عن وجود حجة لديهم. والجواب عن قوله: أَفَمَنْ كانَ وكَمَنْ زُيِّنَ هو لا مماثلة بين المؤمنين وكفار مكة.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (11) : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى: قال قتادة: نزلت يوم أحد والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قولوا: اللَّه مولانا، ولا مولى لكم» وقد تقدّم ذلك. نزول الآية (13) : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلقاء الغار، نظر إلى مكة، فقال: أنت أحبّ بلاد اللَّه إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، لم أخرج منك، فأنزل اللَّه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ الآية. وذكره الثعلبي أيضا عن قتادة وابن عباس، وهو حديث صحيح. المناسبة: بعد أن أبان اللَّه تعالى مصير الكافرين والمؤمنين، ونعى على الأولين، وأثنى على الآخرين تنبيها على وجوب الإيمان، حضّ على النظر في آثار الأمم المتقدّمة، والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين، للعبرة والعظة، وإدراك أن اللَّه ناصر المؤمنين وخاذل الكافرين، ومنعم على أهل الإيمان والصلاح بالجنة، بسبب تبيّنهم الحق، ومعاقب الكفار بالنار، بسبب اتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان. التفسير والبيان: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها؟ أي أفلم يمش هؤلاء المشركون بالله تعالى

المكذبون لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأرض أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا، فيروا كيف كان مصير الأمم السالفة، وما آل إليه أمر الكافرين من قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم بسبب تكذيبهم وكفرهم باقية، لقد هدّم اللَّه عليهم ديارهم، وأهلكهم واستأصلهم، فلم يبق من الأهل والولد والمال شيئا يذكر، ونجّى اللَّه تعالى المؤمنين من بين أظهرهم. ولهؤلاء الكافرين المكذبين ولجميع الأمم الكافرة أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة. وقد عوقب كفار قريش في الدنيا بالهزيمة المنكرة في بدر وفتح مكة، ولهم عقاب أشدّ في نار جهنم في الآخرة. وسبب العقاب ما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ أي ذلك التدمير والاستئصال للكافرين، ونجاة المؤمنين بسبب أن اللَّه ناصر عباده الذين آمنوا بالله تعالى وأطاعوا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن الكافرين الجاحدين بالله تعالى والمكذبين رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب، فوقعت العقوبة بهم. ولما بيّن اللَّه تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا، بيّن حالهم في الآخرة، فقال: 1- إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي إن اللَّه ينعم يوم القيامة على عباده الذين آمنوا بالله وصدقوا به وعملوا صالح الأعمال، فقاموا بالفرائض واجتنبوا المعاصي، بدخول الجنات (البساتين) التي تجري الأنهار من تحت قصورها، تكريما لهم. 2- وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي والذين جحدوا بوجود اللَّه وتوحيده وكذبوا رسوله ينتفعون بمتاع الدنيا، ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا بطونهم

وفروجهم، ساهون عن العاقبة، لاهون بما هم فيه، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر: «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» . ونار جهنم يوم جزائهم مسكن ومنزل لهم يستقرون فيه. والخلاصة: أن اللَّه يدخل المؤمن الجنة، والكافر النار في عالم الآخرة. ثم هدّد اللَّه تعالى مشركي مكة وأوعدهم بقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ، أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ أي وكثير من أهل المدن والأمم السالفة ذات القوة والنفوذ كانوا أشدّ بأسا وقوة من أهل مكة الذين أخرجوك منها، فأهلكناهم، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب، فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم قريش. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو سيّد وخاتم الأنبياء. فإذا أهلك اللَّه عزّ وجلّ عتاة الأمم الذين كذبوا الرّسل، فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم، وإن امتنع إيقاع عذاب الاستئصال في الدنيا بسبب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، فإن العذاب لهم كائن لا محالة في الآخرة. ثم أبان اللَّه تعالى سبب التفرقة في جزاء الفريقين، فقال على طريق الإنكار: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي أفمن كان على بصيرة ويقين من أمر دينه وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد اللَّه، كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، واقتراف المعاصي، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات، بلا شبهة توجب الشّك، فضلا عن حجة صحيحة. والمعنى لا يستوي الفريقان.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونحو الآية قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد 13/ 19] ، وقوله سبحانه: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- هدّد الحق تعالى بحال الأقدمين، ودعا كفار قريش والناس قاطبة إلى النظر بقلوبهم في مصير الكافرين المكذبين، كيف أهلكهم واستأصلهم، وأعلن صراحة أن للكافرين في كل عصر وجيل أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير، أو أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، إن لم يؤمنوا. 2- ذلك الإهلاك والهوان بسبب أن اللَّه تعالى ناصر المؤمنين، وأما الكافرون الذين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضرّ، وتركوا اللَّه تعالى، فلا ناصر لهم ولا معين يمنع عنهم العذاب. 3- إن جزاء الفريقين مختلف، فالله تعالى يدخل المؤمنين الذين عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، وأما الكافرون فإنهم يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في المستقبل، ونار جهنم في الآخرة منزلهم ومقامهم ومسكنهم الذي لا يفارقونه. قال الرازي: كثيرا ما يقتصر اللَّه على ذكر الأنهار في وصف الجنة، لأن الأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار تتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرّر بها «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 51

صفة نعيم الجنة وعذاب النار [سورة محمد (47) آية 15] :

والمؤمن وإن شارك الكافر في التّمتع بالدنيا، فلم يذكر ذلك في حقه، لأن له الجنة العظيمة، فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقّه، والكافر ليس له إلا الدنيا. 4- خصّ اللَّه تعالى أهل مكة بتهديد ووعيد آخر، فلما لم ينتفعوا بالمثل العام بقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ذكر لهم مثلا آخر، وهو أن كثيرا من الأقوام الغابرة كانوا أشدّ قوة منهم، فأهلكهم اللَّه تعالى، ولا ناصر لهم. 5- لا يستوي عقلا في الدنيا وواقعا وعدلا في الآخرة أهل الإيمان الذين هم على بصيرة وثبات ويقين وهم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته، وعبّاد الأصنام كأبي جهل وسائر الكفار الذين حسّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، واتبعوا ما اشتهوا، فالفريق الأول ناجون والثاني هالكون. صفة نعيم الجنة وعذاب النار [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) الإعراب: مَثَلُ الْجَنَّةِ مبتدأ، وخبره: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ أو فِيها أَنْهارٌ وكأن قائلا قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار، ويجوز أن يكون فِيها أَنْهارٌ في موضع الحال، أي مستقرة فيها أنهار، كما يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي فيها أنهار. مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَذَّةٍ: تأنيث «لذّ» وهو اللذيذ، أو وصف بمصدر، مثل

البلاغة:

رجل عدل وقرئ بالحركات الثلاث، فالجر على صفة الخمر، والرفع على صفة الأنهار، والنصب على العلة أي التمييز، أي لأجل لذّة الشاربين. وَمَغْفِرَةٌ مبتدأ، وخبره محذوف أي لهم مغفرة، أو عطف على لفظ المحذوف في قوله: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي لهم أصناف. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ خبر مبتدأ مقدر، أي أمن هو في هذا النعيم؟ البلاغة: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ.. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ.. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ إطناب بتكرار لفظ أَنْهارٌ، تشويقا لنعيم الجنة. المفردات اللغوية: مَثَلُ الْجَنَّةِ صفة الجنة العجيبة الشأن. وهو على حذف حرف الاستفهام، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار وهو قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ..؟ والتقدير: أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ أو كمثل من هو خالد؟ فهو كلام في صورة الإثبات، ومعنى النفي والإنكار. وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين. أو فيما قصصنا عليك صفة الجنة العجيبة. آسِنٍ متغيّر الطعم والرائحة لطول مكثه، وفعله: أسن الماء بالفتح يأسن ويأسن كضرب ونصر، أو أسن بالكسر مثل علم، وقرئ بالمدّ والقصر كضارب وحذر، أي ماء الجنة غير متغيّر الطعم والريح، بخلاف ماء الدنيا، يتغيّر بعارض. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي تلذذ خالص ليس معه ذهاب عقل ولا سكر ولا صداع، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب، ولَذَّةٍ: تأنيث لذّ، أي لذيذ. وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى منقّى خال من الشمع والقذى وفضلات النحل وغيرها، بخلاف عسل الدنيا فإنه بخروجه من بطون النحل يخالطه الشمع وغيره، والتوصيف بهذه الأوصاف يقتضي غزارتها واستمرارها. وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي لهم فيها أصناف من الثمار. وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي لهم مغفرة، أي فالله راض عنهم، مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف الإنسان قد يكون مع إحسانه ساخطا. وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ماء حارا شديد الغليان، مكان أشربة أهل الجنة. فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أي مصارينهم من فرط الحرارة، جمع معىّ.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان الفرق بين المؤمنين والكافرين في الاهتداء والضلال، بيّن اللَّه تعالى الفرق بينهما في الجزاء والمرجع والمآل، فذكر ما للمؤمنين من أنواع النعيم في الجنة، وما للكافرين من الخلود في النار وشرب الماء شديد الحرارة الذي يقطّع الأمعاء. والكلام متصل أيضا بما قال عزّ وجلّ قبل: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ فهناك بيان الجزاء، وهنا وصف تلك الجنات المعدة للمتقين. التفسير والبيان: ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية نوعين من الجزاء لكل من الفريقين: جزاء مادي وجزاء معنوي، أما نوعا جزاء المؤمنين فهما المشروب والمطعوم، والمغفرة والرضوان، وأما نوعا جزاء الكافرين فهما المشروب الحار، والخلود في النار. ولما قدّم في الذكر في الآية السابقة المتبصر صاحب البيّنة على من اتّبع هواه، قدّم في هذه الآية حال الأول في المآل على حال الآخر. ومعنى الآية: إن نعت الجنة أو وصفها العجيب الشأن التي وعد اللَّه بها عباده المتقين الذين اتّقوا عقابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه هو ما تسمعون. ثم ابتدأ بمشروب أهل الجنة: - فيها أنهار جارية من ماء غير متغير الطعم والريح واللون لطول المكث، بل إنه ماء عذب فرات متدفق نقي غير مصحوب برواسب أو طحالب، من شربه لا يظمأ أبدا. وقد ابتدأ بالماء، لأنه أعم نفعا للناس من بقية المشروبات. روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: «أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك» .

- وفيها أنهار من حليب لم يحمض كما تتغير ألبان الدنيا، وهو في غاية البياض والحلاوة والدسومة، ورد في حديث مرفوع: «لم يخرج من ضروع الماشية» وثنّى باللبن، لأنه ضروري للناس كلهم، وهو غذاء كامل ومطعوم شهي. - وفيها أنهار من خمر لذيذة الطعم، طيبة الشرب، ليست كريهة الطعم والرائحة أو مرّة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة: لا فِيها غَوْلٌ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصّافات 37/ 47] ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19] ، أي ليس فيها ضرر ولا مادة مسكرة تزيل العقل، ولا يصيب شاربها صداع، ولا يذهب عقله، وإنما هي لذيذة للشاربين: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصّافات 37/ 46] . ورد في حديث مرفوع: «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» . وذكرت في المرتبة الثالثة، لأنها ليست ضرورية، وإنما فيها متعة ذوقية، فهي لذيذة الطعم، طيبة الشرب، لا يتكرهها الشاربون، وتناولها للذة بعد حصول الري والمطعوم. - وفيها أنهار من عسل في غاية الصفاء، وحسن اللون والطعم والريح، لم يخالطه شيء من الشمع والقذى والعكر والكدر، ثبت في حديث مرفوع: «لم يخرج من بطون النحل» . وذكر في المرتبة الرابعة، لأنه ليس ضروريا وإنما جمع بين مختلف الطعوم والإحساسات الذوقية المرغوبة، ولا شكّ أن الحلو أطيب الطعوم، والعسل أرقاها، وفيه فوائد كثيرة للجسد: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل 16/ 69] ، ففيه الشفاء في الدنيا بعد المشروب والمطعوم، وفيه الخير في الآخرة. وإنما ذكر اللَّه تعالى هذه الأجناس الأربعة من الأنهار، لأنها جمعت بين الضرورة (الماء) والحاجة (اللبن) والمتعة (الخمر غير المسكرة) والعلاج النافع (العسل) .

أخرج الإمام أحمد والترمذي والبيهقي عن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «في الجنّة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقّق الأنهار منها بعد» . ثم ذكر اللَّه تعالى المأكول الممتع وهو الثمار والفواكه اليانعة، فللمتقين في الجنّة مختلف أنواع الثمار وأصناف الفاكهة ذات الألوان البديعة، والروائح الذكية، والطعوم الشهية، كقوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان 44/ 55] ، وقوله سبحانه: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن 55/ 52] . ولما كان الأكل في الجنة للذة لا للحاجة ذكر الثمار ولم يذكر اللحم والخبز. وبعد بيان الجزاء المادي من المشروب والمأكول ذكر تعالى الجزاء المعنوي وهو ظفر أهل الجنة مع ذلك كله بمغفرة اللَّه ورضوانه وتجاوزه عن سيئاتهم وذنوبهم كرما وحلما وفضلا ورحمة، والمغفرة تكون قبل دخول الجنة، فقوله: وَمَغْفِرَةٌ معطوف على قوله: لَهُمْ كأنه قال تعالى: لهم الثمرات فيها، ولهم المغفرة قبل دخولها. ثم قارن اللَّه تعالى ما وعد به المتقين من النعيم بما أوعد به الكافرين من الجحيم، فأبان: أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة وبيّنا ما هم فيه من نعيم وخلود، كمن هو خالد في النار؟ لا شكّ أنه لا يستوي من هو في الدرجات كمن هو في الدركات، وليس أهل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كأهل النار التي فيها الحميم في العذاب الأليم، كما قال تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد 47/ 12] . فالخلود صفة مشتركة بين أهل الجنة وأهل النار، ولكن شتّان ما بين النوعين، الأولون خالدون في النعيم المقيم، والآخرون خالدون في العذاب الأليم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وأما شراب أهل النار: فهو أن يسقوا من ماء حار شديد الغليان لا يستطاع، ولكنهم يضطرون إلى شربه، فيقطّع الأمعاء والأحشاء، ويذيب ما في البطون لفرط حرارته، فهل شرابهم كشراب أهل الجنة المار الذكر والموصوف بما سبق؟ فقه الحياة أو الأحكام: قارن اللَّه تعالى بين نوعين من جزاء المؤمنين المتقين، والكافرين الظالمين، وهي مقارنة تستوجب التأمل، وتبيّن مدى الفرق الشاسع بين المرغب فيه والمرهب منه. فمشروب المتقين من أنهار أربعة: الماء واللبن والخمر اللذيذة غير المسكرة والعسل، ومأكولهم مختلف أصناف الثمار، وأما شراب أهل النار فهو الماء الشديد الحرارة أو الغليان الذي يقطّع الأمعاء، إذا دنا منهم شوى وجوههم، وسقطت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطّع أمعاءهم وأخرجها من أدبارهم. وليس هو ماء حميم فحسب، لأن مجرد الحرارة لا يقطع، بل هو ماء حميم مخصوص يقطع. ولأهل الجنة مع ذلك كله المغفرة من ربّهم لذنوبهم، ورضوان اللَّه عليهم، ولأهل النار السخط والغضب الإلهي، والهزء والسخرية، والتوبيخ والتقريع. والكل في خلود دائم، أهل الجنة خالدون ماكثون فيها على الدوام يرفلون بالنعيم الدائم، وأهل النار خالدون مقيمون فيها أبدا، يتلظون بحر السعير الملتهب المستمر. قال ابن كيسان: مثل هذه الجنة فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزّقّوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم، أي أمثل هؤلاء كهؤلاء؟! وقال الفراء: أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار؟! جعلنا اللَّه من أهل الجنان، وأعاذنا من حرّ النيران.

أوصاف المنافقين والمؤمنين:

أوصاف المنافقين والمؤمنين - 1- حال المنافقين والمهتدين عند استماع آيات العقيدة [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) الإعراب: آنِفاً ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا، أو حال من ضمير: قالَ. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ذِكْراهُمْ: مبتدأ مؤخر، وفَأَنَّى لَهُمْ: خبره، والمعنى: فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة. وتاء جاءَتْهُمْ للساعة. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن ذكراهم يرتفع بالظرف وهو فَأَنَّى لَهُمْ. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بدل اشتمال من السَّاعَةَ، أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم الساعة فجأة. البلاغة: أَهْواءَهُمْ تَقْواهُمْ ذِكْراهُمْ سجع رصين غير متكلف، له جرس وإيقاع قوي على السامع.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَمِنْهُمْ أي من الكفار فئة المنافقين. مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ في خطبة الجمعة وغيرها، وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس الرسول ويسمعون كلامه، فإذا خرجوا قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لعلماء الصحابة كابن مسعود وابن عباس، استهزاء وسخرية. ماذا قالَ آنِفاً أي ما الذي قال في هذه الساعة؟ استهزاء واستعلاما، فقوله: آنفا، أي الساعة التي قبل الوقت الذي أنت فيه، وقرئ بالمدّ والقصر، مأخوذ من أنف الشيء: وهو ما تقدم منه، فهو اسم فاعل لائتنف. أو هو مأخوذ من استأنف الشيء: إذا ابتدأه، أي ماذا قال في أول وقت يقرب منا. طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ختم عليها بالكفر. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في النّفاق. وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا وهم المؤمنون. زادَهُمْ هُدىً زادهم اللَّه بالتوفيق والإلهام. وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ بيّن لهم ما يتّقون به ربّهم، وألهمهم ما يتقون به النّار. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي ما ينتظرون وهم أهل مكة غير مجيء القيامة؟ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم فجأة. أَشْراطُها علاماتها، منها بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانشقاق القمر، وظهور الدخان. فَأَنَّى لَهُمْ فكيف لهم. إِذا جاءَتْهُمْ الساعة. ذِكْراهُمْ تذكرهم، أي لا ينفعهم حينئذ تذكرهم. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فدم واثبت يا محمد على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، وتكميل النفس بإصلاح أحوالها، وبما ينفع في القيامة، واطلب المغفرة لأجل ذنبك، وهذا الأمر مع عصمته صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الذنوب للتعليم واستنان أمته به، وقد فعل ذلك، فقال فيما رواه الطبراني عن أبي هريرة: «إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» أو أن أقل الذنب: ترك الأولى. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي واستغفر أيضا لأهل الإيمان بالدعاء لهم وتحريضهم على موجبات المغفرة. وفي إعادة الجار وهو اللام، وحذف المضاف وهو «ذنوب» إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم. مُتَقَلَّبَكُمْ تصرفكم وتقلبكم لأشغالكم في الدنيا. وَمَثْواكُمْ إما سكونكم ومأواكم إلى مضاجعكم في الليل، وإما مأواكم في الجنة أو النار، أي هو عالم بجميع أحوالكم في الدنيا والآخرة، لا يخفى عليه شيء منها، فاحذروه والخطاب للمؤمنين وغيرهم: سبب النزول: نزول الآية (16) : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيستمع المؤمنون منهم ما يقول

المناسبة:

ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا خرجوا سألوا المؤمنين: ماذا قال آنفا؟ فنزلت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الآية. وروى مقاتل: أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد اللَّه بن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل. المناسبة: بعد بيان حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة، ذكر اللَّه تعالى حال المنافقين، وأنهم من الكفار، وأنهم جهلة لا يفهمون كلام النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند الاستماع إليه، وإنما يستمعون ولا ينتفعون، لتهاونهم واستهزائهم، على عكس حال المؤمن المهتدي، فإنه يستمع ويفهم، ويعمل بما يعلم. ثم هدد تعالى أولئك المنافقين وأمرهم بأن يتّعظوا ويعتبروا ويتذكروا قبل مجيء الساعة. ثم أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه من صحة الاعتقاد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات. التفسير والبيان: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: ماذا قالَ آنِفاً؟ أي ومن هؤلاء الكفار الخالدين في النار: منافقون يستمعون كلام النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتلاوته في خطبه ومجالسه، فلا يفهمون منه شيئا لعدم وعيهم وإدراكهم وإيمانهم، فإذا خرجوا من عنده قالوا لعلماء الصحابة الواعين لما سمعوا، وسألوهم على طريقة الاستهزاء والاستخفاف والسخرية: ماذا قال النّبي في الساعة القريبة من هذه؟ والمعنى: أنّا لم نلتفت إلى قوله، ولم نكترث بما يتكلم به، ولم نفهم ما يقول، ولم ندر ما نفع ذلك.

فوصفهم اللَّه تعالى وصفا يدلّ على حقيقتهم، فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي أولئك المنافقون هم الذين ختم اللَّه على قلوبهم بسبب نفاقهم، فلم يؤمنوا ولم يهتدوا إلى الحق، ولا اتجهت قلوبهم إلى شيء من الخير، واتبعوا شهواتهم وأهواء نفوسهم في الكفر والعناد، أي إنهم تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة، واتبعوا ضدّه، فليس لديهم فهم صحيح ولا قصد حسن ثم قابلهم اللَّه تعالى بالمؤمنين المهتدين، فقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي والذين قصدوا الهداية إلى طريق الخير، وفقهم اللَّه تعالى، وشرح صدورهم، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به، وثبّتهم على الهدى، وزادهم هدى بالتوفيق، وألهمهم رشدهم، وأعانهم على التقوى، بالتوفيق للعمل الذي يرضاه. ثم هددهم اللَّه تعالى بمجيء القيامة، فقال: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي فهل ينتظر المنافقون والكافرون إلا مجيء القيامة التي تأتيهم فجأة وهم غافلون عنها، وقد حدثت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة» . ومن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة (القيامة) حيث لا ينفعهم ذلك، كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ [الفجر 89/ 33] أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ. والمراد بالآية أن أدلة الإيمان بالله تعالى وصدق رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وبالبعث كثيرة

ساطعة بالبرهان في القرآن والفطرة والنفس والعقل وعالم الشهادة والحس، فإذا لم يؤمنوا في وقت قريب قبل مجيء الموت والقيامة، فلا ينفعهم إيمان حينئذ بعد انتهاء العمر وزوال الدنيا التي هي دار العمل والتكليف. ثم أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه والاستغفار، فقال: فَاعْلَمْ «1» أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ أي إذا علمت أيها النّبي حال الفريقين: المؤمن والكافر، من السعادة والشقاوة ومجيء علامات القيامة وأشراطها فاثبت واستمر على ما أنت عليه من التوحيد ومراقبة النفس، واعلم أنه لا إله غير اللَّه ولا ربّ سواه، وأن البعث حقّ آت لا ريب فيه، واستغفر مما قد يصدر منك مما هو خلاف الأولى، واستغفر أيضا لذنوب أتباعك وأمتك، بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم. واللَّه يعلم أعمالكم وتصرفكم في أشغالكم نهارا، ومستقركم ليلا، وقيل: أو مأواكم في الدار الآخرة، قال ابن كثير: والأول أولى وأظهر، وفي هذا ترغيب بالعمل وترهيب من المخالفة. وذلك كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام 6/ 60] ، وقوله سبحانه: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود 11/ 6] . وكان من دعاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عملا بالأمر الإلهي بالاستغفار والدعاء: ما ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدّي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» .

_ (1) الفاء في هذه الآية وما تقدمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفي الحديث الصحيح أيضا أنه كان يقول في آخر الصلاة: اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت» . وثبت في الصحيح كذلك أنه قال: «يا أيها الناس، توبوا إلى ربّكم، فإني أستغفر اللَّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وروى أبو يعلى عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «عليكم بلا إله إلا اللَّه والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: إنما هلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا اللَّه والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون» . وفي الأثر المروي: «قال إبليس: وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللَّه عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» . وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم، فتلا هذه الآية: فَاعْلَمْ.. وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- المنافقون كعبد اللَّه بن أبيّ بن سلول، ورفاعة بن التابوت، وزيد بن الصليب، والحارث بن عمرو، ومالك بن دخشم قوم انتهازيون نفعيون، كانوا يحضرون الخطبة النّبوية يوم الجمعة، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، وهم أيضا قوم جهلة لإقفار قلوبهم من الإيمان، وخلو عقولهم من الوعي والإدراك، فكانوا يحضرون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر.

2- لذا وصفهم اللَّه تعالى بأنهم ممن طبع اللَّه على قلوبهم بكفرهم فلم يؤمنوا، واتبعوا أهواءهم في الكفر، كما قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء 4/ 155] . 3- من منهج القرآن: الموازنة والمقارنة بين الأضداد ليتبيّن الفرق، فكثيرا ما يقابل بين المؤمنين والكافرين كما في الآيات المتقدمة، أو بين المؤمنين والفجار، وهنا قابل بين المؤمنين المهتدين والمنافقين، فالمنافقون طبع اللَّه على قلوبهم بكفرهم واتبعوا أهواءهم في الكفر، والمؤمنون زادهم اللَّه هدى، فعلموا ما سمعوا وعملوا بما علموا، وآتاهم تقواهم، أي ألهمهم التقوى، ووفقهم للعمل الذي فرض عليهم. 4- إذا كانت البراهين على وجود اللَّه وتصديق نبيّه والإيمان بالبعث قد اتّضحت، والكافرون والمنافقون لم يؤمنوا، فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة التي ستأتيهم فجأة، وظهرت علاماتها وأماراتها، ومنها بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وانشقاق القمر والدخان، وكثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام. ولكن حين مجيء الساعة لا ينفعهم التذكر والإيمان، إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان. 5- لا يفيد المؤمن إلا الثبات على توحيد اللَّه، والاعتقاد بأن لا إله إلا اللَّه لها الفوقية والتقدم على كل شيء، والاشتغال بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، وهذا دليل التآخي والمحبة والرغبة في الخير والسعادة لأهل الإيمان جميعا، ودليل على وجوب استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقد أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالدوام والاستمرار على عقيدة التوحيد والإخلاص، وبالاستغفار لذنبه ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، لأنه القدوة المثلى والأسوة

- 2 - حال المنافقين والمؤمنين عند نزول الآيات العملية [سورة محمد (47) الآيات 20 إلى 23] :

الحسنة للأمة، ولتعليم أمته انتهاج منهجه واقتفاء سيرته. وذنوب الأنبياء: تركهم ما هو الأولى بمنزلتهم العالية عند اللَّه تعالى. وتقديم الأمر بالتوحيد على الاستغفار دليل على تقديم العلم على العمل، وعلى أن أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار، وفي الآية ما يدلّ على التواضع وهضم النفس، لأن اللَّه تعالى أمر رسوله اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالاستغفار لذنبه وذنوب من على دينه. 6- لا يخفى على اللَّه تعالى شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، بل وجميع خلقه، فهو سبحانه عالم بجميع ذلك جملة وتفصيلا، فيعلم متقلبهم وتصرفهم في النهار، ومستقرهم بالليل، ومثواهم في الدنيا والآخرة. وعلى هذا يكون حمل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ على العموم لكل ما ذكر أولى وأحرى كما اختار القرطبي رحمه اللَّه تعالى. والعلم بأن اللَّه رقيب على كل شيء يستدعي الطاعة والعمل الصالح، ويوجب الرهبة من العصيان والمخالفة، وهو معنى التقوى التي يوفق اللَّه إليها عباده المؤمنين. - 2- حال المنافقين والمؤمنين عند نزول الآيات العملية [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 23] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوانُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)

الإعراب:

الإعراب: فَأَوْلى لَهُمْ مبتدأ وخبر، أي فويل لهم. فأولى: اسم للتهديد والوعيد، كأنه قال: الوعيد لهم، وهو ممنوع من الصرف، لأنه على وزن أفعل معرفة. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ: جملة شرطية، وقعت اعتراضا بين اسم «عسى» وخبرها، وتقديره: فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض، وتقطعوا أرحامكم إن توليتم. البلاغة: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ مجاز عقلي، لأنه نسب العزم إلى الأمر، وهو لأهله، مثل «نهاره صائم» . فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ التفات من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أبلغ في التوبيخ وآكد في التقريع. وفيه ما يسمى في البلاغة في غير القرآن بتجاهل العارف أي سلوك طريقة الاستخبار. المفردات اللغوية: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌللحث أو الحض على حصول ما بعدها، والمراد: يقول المؤمنون: هلا نزلت سورة في أمر الجهاد مُحْكَمَةٌ مبينة واضحة لا شبهة ولا احتمال فيها لمعنى آخر. وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي الأمر به. مَرَضٌ ضعف في الدين وشك ونفاق. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي نظر المغمى عليه خوفا من الموت، أو المحتضر الذي لا يحرك بصره، والمراد أن المنافقين يخافون من القتال ويكرهونه. فَأَوْلى لَهُمْ أي فالويل والهلاك لهم، مأخوذ من الولي أي القرب، ومعناه: الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه، أو يؤول إليه أمرهم. قال ابن جزي في التسهيل لعلوم التنزيل: وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم، كقوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة 75/ 34] . طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف كلام جديد، أي الطاعة والقول المعروف خير لهم، أي أحسن وأمثل، قال الرازي: لا يقال: طاعة نكرة لا تصلح للابتداء، لأنا نقول: هي موصوفة، يدل عليه قوله: وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فإنه موصوف، فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير «1» . وقيل: ذلك حكاية قولهم لقراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف» .

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 62 وما بعدها.

المناسبة:

فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ جدّ أصحاب الأمر، بأن فرض القتال. فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فيما زعموا من الحرص على الجهاد والإيمان والطاعة. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي لكان الصدق خيرا لهم، وجملة فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ.. جواب فَإِذا عَزَمَ ولا يضر اقترانه بالفاء، وجواب «لو» : لكان. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ بكسر السين وفتحها، أي لعلكم، أو فهل يتوقع منكم إلا الإفساد إن أعرضتم عن الإيمان والقتال. وكلمة «عسى» تدل على توقع حصول ما بعدها. وبما أن التوقع من اللَّه غير متصور لأن اللَّه عز وعلا عالم بما كان وبما يكون، فتفيد هنا التحقق، أي لعلكم إن أعرضتم وتوليتم عن دين اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالإغارة والنهب والسلب وقطع الأرحام، ومقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات. أو إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم. أُولئِكَ أي المفسدون. الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم اللَّه من رحمته لإفسادهم وقطعهم الأرحام. فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق. وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ جعلها كالعمياء عن طريق الهدى، فلا يهتدون سبيله. المناسبة: بعد بيان حال الكافر والمنافق والمهتدي عند استماع آيات العقيدة أو الآيات العلمية من التوحيد والحشر والبعث وغيرها من أصول الاعتقاد في الإسلام، بيّن تعالى حالهم عند نزول الآيات العملية، كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، فأوضح أن المؤمن كان ينتظر نزولها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول: هلا أمرنا بشيء من العبادة، ليتقرب إلى ربه ويحظى برضاه، وأن المنافق كان إذا نزل شيء من التكاليف البدنية أو المالية شقّ عليه، ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل، حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العلم، والمؤمن يعلم ويجب العمل. لذا كافأ اللَّه المؤمنين بالرضا والمحبة والجنة، وجوزي المنافقون باللعنة والطرد من الرحمة والخير.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَوْلى لَهُمْ أي يتمنى المؤمنون المخلصون شرعية الجهاد، فيسألون ربهم عز وجل قائلين: هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها ربنا بقتال الكفار، حرصا على ثواب الجهاد، ونيل درجات المجاهدين، فإذا أنزلت سورة بيّنة واضحة في الأمر به، وذكر فيها أن الجهاد فرض على المسلمين، فرحوا بها، وشق على المنافقين، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض ونفاق وهم المنافقون، ينظرون إليك نظر المحتضر الذي شخص بصره عند الموت، جبنا عن القتال، وخوفا من لقاء الكفار، فالويل والموت والهلاك أولى لهم أي قاربهم ما يهلكهم، واللام في «لهم» مزيدة، أو فالأولى والأجدر بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة، أو العقاب أحق وأولى بهم. وهذا على المعنى الأول تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم، وقوله: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تصوير رائع لحالة الجبن والفزع والخوف في نفوسهم من لقاء الأعداء. وفي الآية افتضاح أمر المنافقين عند الأمر بالقتال، أما قبل القتال فكانوا يترددون إلى الفئتين: فئة المؤمنين وفئة الكافرين. ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء 4/ 77] . وبعد هذا التهديد والوعيد، قال اللَّه تعالى مشجعا لهم:

طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي طاعة مخلصة لله وقول معروف أحسن وأمثل وخير لهم من غيرهما. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي فإذا جدّ الحال، وفرض القتال، فلو صدقوا في ذلك القول وفي القتال، وأطاعوا اللَّه تعالى، وأخلصوا له النية، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة. ثم وبّخهم اللَّه تعالى، وردّ على شبهتهم في أن القتل إفساد وأن العرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا، فقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه، أو فهل يتوقع منكم إن توليتم أمر الأمة أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، فتسفكوا الدماء، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم والنهب والسلب والمعاصي، وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر مفاسد الجاهلية. قال قتادة وغيره: معنى الآية: فلعلكم أو يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض ولسفك الدماء. قال أبو حيان: والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر اللَّه تعالى في القتال، هل ينتظر منكم إلا أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم، ويدل على ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في «عسى» ليس منسوبا إليه تعالى، لأنه عالم بما كان وما يكون، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين كأنه يقول لهم: لنا علم، من حيث ضياعهم، هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا «1» .

_ (1) البحر المحيط: 8/ 82

وهذا حث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال، فالله يعلم أنهم إن ولوا أمور الناس، أو أعرضوا عن هذا الدين، لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أنواع المفاسد، كعادة أهل الجاهلية. لذا حكم اللَّه عليهم باللعنة، فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أي أولئك الظالمون وسفاكو الدماء بغير حق هم الذين أبعدهم اللَّه من رحمته وطردهم عنها، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق، وأعمى أبصارهم عن رؤية الحق والنظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام اللَّه تعالى وشرعه في عباده من تحريم الدماء والأموال بغير حق. وإنما لم يقل: «أصم آذانهم» لأن السمع لا يتفاوت بوجود الأذن وعدمها، ولذلك يسمع مقطوع الأذن، أما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه، فذكر الأبصار، ولم يذكر الأذن. وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، وأمر بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وخلق اللَّه تعالى الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم، فأخذت بحقوي «1» الرحمن عز وجل، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك» قال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ.

_ (1) الحقو: الإزار أو الخصر، والمراد هنا مجاز عن شدة التعلق واللجوء إلى اللَّه والاستعانة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: 1- المؤمنون المخلصون مشتاقون للوحي، حريصون على الجهاد وثوابه، والمنافقون هدامون لكيان الأمة، جبناء في القتال خوفا وهلعا، ميّالون في السر إلى الكفار، نافرون من التكاليف الشرعية، وخصوصا فرض الجهاد. 2- هدد اللَّه المنافقين وأوعدهم وحذرهم بقوله: فَأَوْلى لَهُمْ أي الويل والهلاك لهم، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه، أو أحق وأجدر بهم طاعة اللَّه تعالى وقول معروف. ثم رغبهم في إصلاح أمرهم، ودعاهم إلى الطاعة، وأبان لهم أن الطاعة المخلصة والقول المعروف أمثل لهم وأحسن وخير من المخالفة والعصيان ودعاية السوء. 3- أكد تعالى دعوتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من المخالفة، فأبان أنه إن جد الأمر وفرض القتال كرهوه «1» ، أو فإذا عزم أصحاب الأمر، فلو صدقوا اللَّه في الإيمان والجهاد، لكان خيرا لهم من المعصية والمخالفة. 4- إن سلوك المنافقين إن تولوا أمر الأمة أو إن أعرضوا عن كتاب اللَّه تعالى ودينه واتباع رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر معروف، وهو العودة إلى مفاسد الجاهلية من الإفساد في الأرض بسفك الدماء الحرام، والبغي والظلم، والنهب والسلب، وتقطيع الأرحام. 5- لا يستحق أولئك المنافقون إن استمروا على نفاقهم إلا الطرد والإبعاد من رحمة اللَّه، وإلقاء الصمم في الآذان عن سماع الحق، والعمى في الأبصار والقلوب عن إدراك الخير، فكل من سار على نهجهم، حقّت عليه اللعنة، وسلبه اللَّه الانتفاع بسمعه وبصره، حتى لا ينقاد للحق، وإن سمعه، فكأنه كالبهيمة التي لا تعقل.

_ (1) فيكون جواب «إذا» محذوفا.

- 3 - حال المنافقين بعد ردتهم وعند قبض أرواحهم والتذكير بحكمة الجهاد [سورة محمد (47) الآيات 24 إلى 31] :

- 3- حال المنافقين بعد ردتهم وعند قبض أرواحهم والتذكير بحكمة الجهاد [سورة محمد (47) : الآيات 24 الى 31] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) الإعراب: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ: خبر إِنَّ إما قوله تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وإما مقدر تقديره: معذبون. فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ.. فَكَيْفَ: في موضع رفع، خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالهم، فحذف المبتدأ للعلم به. وجملة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ.. جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الْمَلائِكَةُ. وفاء فَكَيْفَ: فاء التفريع لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

البلاغة:

البلاغة: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ استفهام توبيخي. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها استعارة تصريحية، شبه قلوبهم بالأبواب المقفلة، فهي لا تنفتح لوعظ واعظ. ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ كناية عن الكفر بعد الإيمان. المفردات اللغوية: يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتفهمونه ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقتحموا المعاصي ويقعوا في الموبقات أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أي بل على قلوب لهم مغاليقها التي لا تفتح، فلا يفهمونه. وتنكير قُلُوبٍ لأن المراد: قلوب بعض منهم، وإضافة الأقفال لها للدلالة على أقفال مناسبة لها، مختصة بها، ليست من جنس الأقفال المعهودة. والأقفال جمع قفل. وهو استفهام توبيخي، وأَمْ: منقطعة بمعنى «بل» والهمزة للتقرير. ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر سَوَّلَ لَهُمْ زيّن لهم خطاياهم وسهل لهم وَأَمْلى لَهُمْ مدّ لهم في الآمال والأماني الباطلة ووعدهم بطول الأجل، والضمير للشيطان، أي المملي والمضل هو الشيطان، بإرادته تعالى. ذلك الإضلال بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي قال المنافقون للمشركين أو لليهود، أو قال اليهود الذين كفروا بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما تبين لهم نعته للمنافقين سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض أموركم، كالقعود عن الجهاد والمعاونة على عداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي إنهم قالوا ذلك سرا، فأظهره اللَّه تعالى الذي يعلم السر وأخفى، والإسرار: مصدر وهو السر، وقرئ بفتح الهمزة: أسرارهم جمع سر. فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ أي فكيف حالهم، أو فكيف يعملون ويحتالون حينئذ؟ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ تصوير لتوفيهم، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، وفي هذا تخويف وتهديد، إذ يتعرضون عند التوفي إلى أهوال وفظائع تشبه ما يجبنون عن القتال له ويخافون منه. ذلِكَ التوفي الموصوف بالحالة المذكورة بِأَنَّهُمُ بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر وكتمان نعت الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وعصيان الأمر وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ كرهوا العمل بما يرضيه من الإيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها.

المناسبة:

أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أن لن يبرز اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين أحقادهم، والأضغان: جمع ضغن أي حقد شديد لَأَرَيْناكَهُمْ أي عرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم، واللام لام الجواب، وكررت في المعطوف الآتي: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم، والفاء هنا فاء التفريع وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ جواب قسم محذوف، أي وو اللَّه لتعرفنهم لَحْنِ الْقَوْلِ أسلوبه ومعناه، أو إمالته عن وجهه الصريح إلى التعريض والتورية، فإذا تكلموا عندك عرّضوا بما يعيب أمر المسلمين وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم على حسب قصدكم، إذ الأعمال بالنيات. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لنختبرنكم بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة أي نعاملكم معاملة المختبر بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ علم ظهور وانكشاف، أما العلم الحقيقي فهو متوفر بالنسبة لله وَالصَّابِرِينَ في الجهاد وغيره من المشاق وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ نظهر حسن أعمالكم وقبحها، وطاعتكم وعصيانكم في الجهاد وغيره، أو أخباركم عن الإيمان وموالاة المؤمنين صدقا وكذبا. المناسبة: بعد بيان حال إعراض المنافقين عن الخير واستماع القرآن، أمرهم تعالى بتدبر القرآن، ونهاهم عن الإعراض عنه كيلا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، ثم أخبر أنهم رجعوا وارتدوا إلى الكفر بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام بالدلائل الواضحة، أو نعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة بالمعجزات الباهرة، وأوضح سبب ردتهم وهو قولهم ليهود بني قريظة والنضير: سنطيعكم في بعض الأمور والأحوال. ثم ذكر تعالى ما يلاقونه من أهوال عند قبض أرواحهم بسبب اتباع أهوائهم وإسخاط ربهم، وأردفه ببيان قدرة اللَّه على كشف أحوالهم وافتصاح أمرهم، وأعلن صراحة لهم أن الدنيا دار اختبار بالأوامر والنواهي كالجهاد وغيره، ليعلم المجاهد الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، وليختبر أعمالهم الحسنة والسيئة، وأخبارهم التي يشيعونها، فيجازيهم بما عملوا. التفسير والبيان: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أي أفلا يتفهم هؤلاء المنافقون وغيرهم القرآن ويتصفحونه، فيعملون بما اشتمل عليه من المواعظ

الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة؟ بل أعلى قلوبهم أقفال؟ فهم لا يفهمون ولا يعقلون شيئا من معانيه، ولا تتفتح قلوبهم للحق، وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار. والآية توبيخ لهم، وأمر بتدبر القرآن وتفهمه، ونهي عن الإعراض عنه. وقد وردت محققه لمعنى الآية المتقدمة، فإنه تعالى قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير وغير ذلك من الأمور الحسنة، فَأَصَمَّهُمْ لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام، فهم كما حكى القرآن بين أمرين: إما ألا يتدبرون القرآن، لأن اللَّه أبعدهم عن الخير، وإما أن يتدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم، لكونها مقفلة. ثم أبان اللَّه تعالى منشأ ذلك مشيرا إلى أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعثته وارتدوا، أو مشيرا إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن، فقال: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلى لَهُمْ أي إن الذين فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، من بعد ما ظهر لهم الهدى بما جاءهم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة، زين لهم الشيطان خطاياهم، وسهّل لهم الوقوع فيها، وحسّن لهم الكفر، وخدعهم وغرهم بالأماني والآمال، ووعدهم بطول العمر ومدّ الأجل. وهذا الكلام: قيل: إنه في أهل الكتاب، قال قتادة: نزلت في قوم من اليهود، وكانوا عرفوا أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من التوراة، وتبين لهم بهذا الوجه، فلما باشروا أمره، حسدوه، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى. وقيل: إنه في المنافقين، قال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم ماتت قلوبهم.

والظاهر- كما ذكر أبو حيان- أن الآية تتناول كل من دخل في لفظها. ثم بيّن اللَّه تعالى بعض مظاهر ضلالهم، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان بسبب أن هؤلاء المنافقين وغيرهم من اليهود الذين ارتدوا على أدبارهم قالوا للذين أبغضوا ما نزّل اللَّه في قرآنه، وهم المشركون أو اليهود: يهود بني قريظة والنضير من يهود المدينة: سنطيعكم في بعض الأمور، كعداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومخالفة ما جاء به، والقعود عن الجهاد معه، أي إنهم مالئوهم وتآمروا معهم سرا أأو في الباطن، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون. لذا كشفهم اللَّه وأبان أنه يعلم ما يسرون وما يخفون وما يعلنون، كقوله تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ [النساء 4/ 81] . ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الحشر 59/ 11] . ثم ذكر اللَّه تعالى سوء حالهم وما يتعرضون له من أهوال حين توفيهم، فقال: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ؟ أي فكيف حالهم وكيف يعملون ويصنعون إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، واستخرجتها بالعنف والقهر وضرب وجوههم وظهورهم، وذلك بكيفية يكرهونها وحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، كما قال سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ.. [الأنفال 8/ 50] وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ،

وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ - أي بالضرب- أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام 6/ 93] . ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وسبب هذه الأهوال ما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي ذلك التوفي على الصفة المذكورة بسبب اتباعهم ما يسخط اللَّه من الكفر والمعاصي، وتآمرهم مع أعداء اللَّه على معاداة ومحاربة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، وكراهيتهم ما يرضي اللَّه من الإيمان الحق والتوحيد والطاعة، فأبطل اللَّه أعمالهم الخيرية بهذا السبب، ومنها ما قد عملوا من الخير قبل الردة، كالصدقة وعون البائس الفقير وإغاثة الملهوف، لأنهم فعلوه أثناء الشرك والكفر وأمر الشيطان، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . ثم وبخ اللَّه تعالى المنافقين وهددهم على قصر نظرهم وعداوتهم للمؤمنين، فقال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي أيعتقد هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد وعداوة للمؤمنين أن اللَّه لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ويبرز أحقادهم وعداواتهم؟! لا تظنوا هذا، فالله عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، فيوضح أمرهم ويجليه ويفضح شأنهم كما فعل في سورة براءة التي تسمى الفاضحة. ثم أكد تعالى هذا المعنى بقوله: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ أي ولو نشاء يا محمد لأعلمناك أشخاصهم، وعرّفناك أعيانهم معرفة

تقوم مقام الرؤية، فعرفتهم بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة. وواللَّه لتعرفنهم يا محمد في فحوى الكلام ومقصده ومغزاه، وهو تعريضهم بأمرك وأمر المسلمين، ومخاطبتهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بألفاظ ظاهرها الحسن، وباطنها القبح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منافق إلا عرفه. وعن أنس أنه ما خفي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، ولقد كنا في بعض الغزوات، وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، وأصبحوا، وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق. واللَّه لا تخفى عليه خافية، ويعلم جميع أعمالهم، فيجازيهم عليها من خير أو شر. وهذا وعد ووعيد، وبشارة وإنذار. ثم أعلن اللَّه تعالى منهج الحياة الدنيوية بالنسبة للتكاليف الشرعية، فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي ونعاملنكم معاملة المختبر، ومنها الجهاد في سبيل اللَّه، حتى نعلم علم ظهور وانكشاف، فالله يعلم الحقائق كلها قبل وجودها، وإنما التكليف يظهر المجاهدين بحق في سبيل اللَّه، الذين امتثلوا الأمر بالجهاد، ويظهر الذين صبروا على دينه ومشاق ما كلّف به، ويظهر أخبار الناس ويكشفها امتحانا لهم، ليظهر للناس من أطاع ما أمره اللَّه به، ومن عصى ولم يمتثل. ولهذا يقول ابن عباس رضي اللَّه عنهما في مثل هذا: إلا لنعلم، أي لنرى. وقال علي رضي اللَّه عنه: حَتَّى نَعْلَمَ: حتى نرى. وقال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلينا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- يجب على المسلمين وغير المسلمين تدبر القرآن وتفهمه للتعرف على أحكامه ومراميه وغاياته، وليعلم ما أعد اللَّه للذين تولوا عن الإسلام، فإن لم يفعلوا أقفل اللَّه عز وجل قلوبهم بأقفال الكفر والعناد، فهم لا يعقلون. وهذا رد على مذهب القدرية والإمامية الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه. 2- إن كل من ظهرت له الدلائل على صحة عقيدة الإسلام وشريعته وسمعها، ولم يؤمن بها، فهو ممن زين له الشيطان سوء عمله وخطاياه، سواء كان من أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعثته، وارتدوا، أو من غير أهل الكتاب. 3- لقد تآمر المنافقون واليهود على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين، في الباطن والسر، وعادوهم، وتواطؤوا مع المشركين الذين كرهوا ما نزّل اللَّه في كتابه على توهين قوة المسلمين، ولكن اللَّه تعالى مطّلع على سرهم، وكاشف أمرهم، فأخبر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك. 4- يتعرض الكفار والمنافقون لأهوال شديدة عند الوفاة، فتنتزع الملائكة أرواحهم بعنف وشدة، وتضرب وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد. 5- إن سبب تلك الأهوال في الدنيا هو اتباعهم ما أسخط اللَّه بإضمار الكفر إن كانوا منافقين، أو بكتمان ما في التوراة من نعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكراهيتهم ما يرضي اللَّه وهو الإيمان، مما يؤدي إلى إحباط أعمالهم التي عملوها من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.

6- يخطئ المنافقون الظن إن توهموا ستر الحال وألا يخرج أو يبرز اللَّه ما يضمرونه من مكروه وحسد، وحقد وعداوة لنبي اللَّه تعالى والمؤمنين. 7- إن في قدرة اللَّه تعالى أن يعرّف نبيه بأعيان المنافقين، وقد عرّفه إياهم بأوصافهم لا بأسمائهم في سورة براءة، ويمكن معرفتهم بسهوله فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، فإن فحوى الكلام ومعناه ينبئ عن حقيقة الحال، واللَّه يعلم أعمال عباده، فلا يخفى عليه شيء منها. ومن أمثلة تعريفهم في سورة براءة قوله تعالى: فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة 9/ 83] وقوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة 9/ 84] . وثبت في السنة تعيين جماعة من المنافقين، روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: «خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبة، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: إن فيكم منافقين، فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان، حتى سمى ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم منافقين، فاتقوا اللَّه، قال: فمرّ عمر رضي اللَّه عنه برجل ممن سمّى مقنّع قد كان يعرفه، فقال مالك؟ فحدثه بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: بعدا لك سائر الدهر» . 8- إن ميدان الحياة ميدان اختبار وتجربة لينكشف الناس بعضهم لبعض، فيتعبدهم اللَّه بالشرائع، وطن علم سبحانه سلفا عواقب الأمور، من أجل رؤية المجاهدين في سبيل اللَّه والصابرين على مشاق التكاليف، وتمييزهم عن غيرهم، واختبار أخبارهم وإظهارها للملأ، فبالجهاد يعلم الصادق في إيمانه أو قوله: آمنت، من الكاذب الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر.

حال بعض كفار أهل الكتاب وبعض المؤمنين في الدنيا والآخرة [سورة محمد (47) الآيات 32 إلى 35] :

حال بعض كفار أهل الكتاب وبعض المؤمنين في الدنيا والآخرة [سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 35] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) الإعراب: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ: خبر إِنَّ قوله تعالى: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ودخلت الفاء في الخبر، لأن اسم إِنَّ: الَّذِينَ، فشابه الشرط، لأنه مبهم، ولم يؤثر دخول إِنَّ بخلاف ما لو دخلت «ليت ولعل وكأن» فإنه لا يجوز فيه دخول الفاء في الخبر مع ليت ولعل وكأن، لأن إِنَّ للتأكيد، وتأكيد الشيء لا يغير معناه، بخلاف «ليت ولعل وكأن» ، فإنها غيرت معنى الابتداء، لإدخال معنى التمني والترجي والتشبيه. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ حذف منه واو لام الفعل. المفردات اللغوية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريق الحق، قيل: إنهم المشركون كفار قريش وهم المطعمون يوم بدر، والراجح أنهم أهل الكتاب يهود بني قريظة وبني النضير، لأن اللَّه ذكر المشركين في أول السورة، ثم ذكر المنافقين وَشَاقُّوا الرَّسُولَ خالفوه، بأن صاروا في شق وجانب، وهو في شق وجانب آخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وهو معنى سبيل اللَّه أي طريق الحق، وهذا يؤيد أن الآية في أهل الكتاب، تبين لهم في كتبهم صدق محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم وصدهم عن سبيل اللَّه، وهو تهديد معناه: هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والواقع أنه مع اللَّه تعالى، فإن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما عليه إلا البلاغ، فإن ضروا ضروا الرسل، واللَّه منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي يبطل

سبب النزول:

أعمالهم الخيرية من صدقة وصلة رحم ونحوها، فلا يرون لها في الآخرة ثوابا، فيكون المعنى: يبطل حسنات أعمالهم بكفرهم ومشاقتهم ومعاداتهم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ لا تبطلوا ثواب أعمالكم بما أبطل به هؤلاء، كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها، قال البيضاوي: وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريق الحق والهدى ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هذا عام في كل من مات على كفره، وإن صح نزوله في أصحاب القليب (البئر غير المطوية) يوم بدر. فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ بكسر السين وفتحها، أي إلى الصلح خورا وتذللا مع الكفار إذا لقيتموهم، وقرئ: ولا تدّعوا: من ادّعى بمعنى دعا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون القاهرون وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعون والنصر، أي ناصركم وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ لن يضيع ثواب أعمالكم ولن ينقصها، يقال: وتره حقّه، أي نقصه، ومنه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه النسائي عن نوفل بن معاوية: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بهما، وأصبح فردا. سبب النزول: نزول الآية (32) : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا.. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نزول الآية (33) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ خطاب للمؤمنين بلزوم الطاعة في أوامر اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في سنته. أخرج ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا اللَّه» ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فخافوا أن يبطل الذنب العمل.

نزول الآية (34) :

نزول الآية (34) : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا.. فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ نزلت في أصحاب القليب أي قليب بدر، حيث ألقي قتلة المشركين في بئر. المناسبة: بعد بيان حال المشركين في أول السورة، ثم حال المنافقين، ذكر اللَّه تعالى حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير، كفروا وصدوا عن سبيل اللَّه، فهددهم اللَّه، لأنهم تركوا الحق بعد معرفته. ثم ذكر قصة بعض الصحابة وهم بنو سعد الذين أسلموا، وامتنوا بإسلامهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنهاهم اللَّه عن ذلك. ثم أبان تعالى حكم من ماتوا كفارا، وهو أنه لن يغفر اللَّه لهم، وأنه خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا داعي لإظهار الضعف والتذلل أمامهم، والمؤمنون في قوة وغلبة وتفوق. التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى، لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي إن الذين جحدوا توحيد اللَّه، وصدوا الناس عن دينه وطريق الحق بأن منعوهم عن الإسلام واتباع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخالفوا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وعادوه من بعد أن ظهر لهم الحق، وعرفوا أن محمدا رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من عند اللَّه بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة، لن يضروا اللَّه شيئا بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر، لأن العباد لن يبلغوا ضرّ ربهم فيضرونه، فهو منزّه عن ضرر الغير مهما كان، وإنما يضرون أنفسهم ويخسرونها يوم المعاد، وسيبطل اللَّه ثواب أعمالهم، لكفرهم.

ثم أمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله أطيعوا اللَّه تعالى وأطيعوا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما، ولا تبطلوا حسناتكم بالردة أو بالمعاصي الكبائر، وبالرياء والسمعة، والمن والأذى. أما الإبطال بالردة فدليله الآية التي بعدها: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وأما الإبطال بالكبائر فقد ذكر في سبب النزول عن أبي العالية قال: كان أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا اللَّه» ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت الآية، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وقال قتادة رحمه اللَّه: رحم اللَّه عبدا لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: لا تبطلوها بالرياء والسمعة، أو بالشك والنفاق. وروى محمد بن نصر المروزي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: «كنا معشر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات، والفواحش، حتى نزل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش، ونرجو لمن لم يصبها» . ثم أبان اللَّه تعالى أن أعمال المكلف إذا بطلت، فإن فضل اللَّه باق، يغفر له إن شاء، ما لم يمت على الكفر، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ ماتُوا، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أي إن الذين جحدوا توحيد اللَّه، ومنعوا الناس عن دين اللَّه تعالى واتباع رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وماتوا وهم مصرون على الكفر، فلا مغفرة لهم، بل إنهم معاقبون في النار. قال مقاتل: نزلت في رجل سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن والده، وقال: إنه كان محسنا في كفره. وعن الكلبي: نزلت في رؤساء أهل بدر. ونظير الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . ولا تسامح أكثر من هذا، فإن اللَّه غفور رحيم لمن مات وهو مؤمن، ولا مغفرة ولا رحمة بالموت على الكفر. ثم بيّن سبحانه ألا حرمة للكافر في الدنيا والآخرة، وأمر بقتال الكفار، فقال: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي فلا تضعفوا عن القتال أيها المؤمنون، ولا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة ابتداء منكم، وإظهارا للعجز والضعف، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف، ولا مانع من قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، أما في حال كونكم أنتم الأعلون: الغالبون القاهرون المستولون على أعدائكم، فلا تبدؤوهم بطلب الصلح، واللَّه معكم بالنصر والمعونة عليهم، ولن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم. وقوله وَاللَّهُ مَعَكُمْ فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء. فأما إذا كان الكفار في حال قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين صدّه كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح وإنهاء الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن شؤم الكفر باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ومحاولة صد الناس عن الإسلام وشرعه ومعاداة الرسول بعد العلم أنه نبي بالحجج والآيات مرده إلى الكفار أنفسهم، وسيبطل اللَّه في الآخرة ثواب ما عملوه، واللَّه منزه عن أن يتضرر بكفر كافر أو فسق فاسق. 2- المؤمنون مأمورون على الدوام بلزوم الطاعة في أوامر اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، منهيون عن إبطال حسناتهم بالمعاصي الكبائر، أو بالرياء والسمعة، أو بالمن والأذى، أو بترك طاعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. وفي هذا إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان. 3- يدل ظاهر نهي المؤمنين عن إبطال أعمالهم على أن من شرع بنافلة، ثم أراد تركها ليس له ذلك، وللعلماء آراء في الموضوع: فذهب الشافعي إلى أنه يجوز ترك ما شرع فيه من أعمال التطوع، لأن المتطوع أمير نفسه، وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة 9/ 91] والمراد بالآية إبطال ثواب العمل المفروض، فإن اللَّه نهى الرجل عن إحباط ثوابه، فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فإن قيل: اللفظ عام، فالجواب أن العام يجوز تخصيصه، لأن النفل تطوع، والتطوع يقتصي تخييرا. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز ترك ما بدئ به من تطوع، كصلاة نافلة وصوم تطوع، لأن المتطوع أمير نفسه قبل أن يشرع، أما إذا شرع فقد

ألزم نفسه، وعقد عزمه على الفعل، فوجب عليه أن يؤدي ما التزم، وأن يوفي بما عقد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة 5/ 1] . 4- إن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، وباب التوبة والمغفرة مفتوح طوال الحياة، فمن مات مصرا على جحوده توحيد اللَّه عوقب بجهنم. 5- لا تجوز الدعوة إلى السلم والمصالحة أو المهادنة تذللا وإظهارا للضعف، ما دام المسلمون أقوياء، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال، فإن اللَّه ناصر المؤمنين، ولن ينتقصهم شيئا من أعمالهم. فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء، جازت مهادنة الكفار عند الضرورة. وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين. أما إن طلب المشركون الصلح بحسن نية من غير خداع، فلا بأس بإجابتهم، لقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال 8/ 61] . وعلى هذا تكون كل من الآيتين: فَلا تَهِنُوا وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ محكمة غير منسوخ إحداهما بالأخرى كما قال بعضهم، فهما نزلتا في وقتين مختلفي الحال، فالأولى في حال قوة المسلمين، والثانية حال طلب الأعداء الصلح.

تأكيد الحث على الجهاد بالتزهيد في الدنيا [سورة محمد (47) الآيات 36 إلى 38] :

تأكيد الحث على الجهاد بالتزهيد في الدنيا [سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) الإعراب: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا.. يَسْئَلْكُمُوها: فعل يتعدى إلى مفعولين، فالأول «كمو» والثاني: «ها» وفَيُحْفِكُمْ مجزوم بالعطف على يَسْئَلْكُمُوها وتَبْخَلُوا مجزوم، لأنه جواب الشرط، ويُخْرِجْ مجزوم بالعطف على تَبْخَلُوا. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها: للتنبيه، وأَنْتُمْ: مبتدأ، وهؤُلاءِ: موصول بمعنى الذين: خبر، وصلته: تُدْعَوْنَ أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، فقال: تدعون لتنفقوا.. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا معطوف على: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ يجوز العطف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم بالجزم كما هنا، وبالرفع مثل: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران: 3/ 111] . البلاغة: الْغَنِيُّ والْفُقَراءُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال فيها لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها، واللعب: كل ما لا منفعة فيه في المستقبل، ولا يشغل عن مهامّ الأمور، فإن شغل عنها فهو اللهو، ومنه آلات الملاهي،

المناسبة:

لأنها تشغل عن غيرها وَتَتَّقُوا اللَّه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ يعطكم ثواب الإيمان والتقوى وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ لا يطلب جميع أموالكم، بل يقتصر على الزكاة المفروضة التي هي جزء يسير، كربع العشر، والعشر. فَيُحْفِكُمْ يبالغ في الطلب، من الإحفاء والإلحاف: بلوغ الغاية في كل شيء، يقال: ألحف بالمسألة وأحفى وألح بمعنى واحد، وَيُخْرِجْ البخل أَضْغانَكُمْ أحقادكم أي عداوتكم لدين الإسلام ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا مخاطبون، هؤلاء الموصوفون. لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما فرض عليكم من الزكاة ونفقة الجهاد وغيرها يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ يقال: بخل عليه وعنه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن نفقتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى اللَّه وَإِنْ تَتَوَلَّوْا تعرضوا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يقم مقامكم قوما آخرين أو يجعل بدلكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي عن طاعته وعن الإيمان، بل مطيعين له تعالى. المناسبة: بعد أن أمر اللَّه تعالى بالجهاد، ونهى عن الضعف والخور في مواصلة الكفاح وطلب الموادعة والمصالحة مع الأعداء، حث على الجهاد بالنفس والمال والإنفاق في سبيل اللَّه، بتحقير الدنيا في أعين المؤمنين، والترغيب في الإيمان والتقوى، لتعود فائدتها عليهم، وهدد تعالى في ختام السورة بأنه إن أعرضتم عن الإيمان والجهاد والتقوى، يجعل بدلا عنكم قوما آخرين هم أفضل منكم لإقامة دينه، ونصرة دعوته. التفسير والبيان: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي احرصوا أيها المؤمنون على جهاد الأعداء، واسترخصوا الحياة الدنيوية واطلبوا الآخرة، فإنما حاصل الدنيا لعب ولهو، أي باطل وغرور، لا ثبات له ولا اعتداد به إلا ما كان منها لله عز وجل، بسلوك سبيله وطلب رضاه وعبادته وطاعته. وفي هذا تحقير لأمر الدنيا وتهوين لشأنها. واللعب: كل ما لا ضرورة فيه في الحال ولا منفعة في المآل، ولم يشغل عن غيره، فإن شغل عن غيره فهو لهو، ومنه آلات الملاهي، لأنها مشغلة عن غيرها.

وقد جاء ذمّ الدنيا والحرص عليها والتمسك بزينتها وإهمال الآخرة في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ.. الآية [الحديد 57/ 20] . ثم أعاد اللَّه تعالى الوعد بالثواب وتأكيده والترغيب في الآخرة قائلا: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي إن تؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وتتقوا ربّكم حق التقوى بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، يؤتكم ثواب أعمالكم وطاعاتكم في الآخرة، ولا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها، والمعنى: أن اللَّه غني عنكم، لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم صدقات الأموال، مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم. ثم بيّن اللَّه تعالى سبب الحرض على الدنيا، فقال: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي إن يطلب ربكم أموالكم كلها، فيجهدكم ويلح في الطلب عليكم، تشحوا وتبخلوا، وتمتنعوا من الامتثال، ويظهر عندئذ أحقادكم. قال قتادة: قد علم اللَّه تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وهذا كما ذكر ابن كثير حق وصدق، فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يصرف إلا فيما. هو أحب إلى الشخص منه. ثم أبان تعالى ما سلف وأكده بقوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أنتم أيها المؤمنون المخاطبون مدعوون للإنفاق في سبيل اللَّه، أي في الجهاد والزكاة وفي طريق الخير.

فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي فبعضكم يبخل باليسير من المال ولا يجيب لدعوة الإنفاق، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟ ومن يبخل في الإنفاق، فإنما يمنع نفسه الأجر والثواب ببخله، ويعود وبال ذلك عليه، فإنه بالبخل يتغلب العدو عليكم، فيذهب عزكم وأموالكم، وربما أنفسكم. واللَّه هو صاحب الغنى المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه دائما، لذا قال: وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي أنتم أيها العباد الفقراء بالذات إلى اللَّه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، فهو سبحانه لا يأمر بالإنفاق لحاجته، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب. ثم أبان اللَّه تعالى سنته في الاستبدال بقوم قوما آخرين أفضل منهم إن أعرضوا عن حمل الأمانة، فقال محذرا ومذكرا ومهددا: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى وعن طاعة اللَّه واتباع شرعه، يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم، أي يكونون سامعين مطيعين لله ولأوامره، وليسوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى، وفي البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه. روى ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق والبيهقي والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا هذه الآية: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا: يا رسول اللَّه، من هؤلاء الذين إن تولينا، استبدل بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه، ثم قال: «هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» لكن تكلم به بعض الأئمة رحمهم اللَّه، كما قال ابن كثير، وقال الترمذي: حديث غريب في إسناده مقال.

فقه الحياة أو الأحكام:

وعن الكلبي والحسن وعكرمة: شرط في الاستبدال توليهم، لكنهم لم يتولوا، فلم يستبدل قوما، وهم العرب أهل اليمن أو العجم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- الدنيا دار لعب ولهو ومشاغل وشهوات، فالسعيد من استخدمها للآخرة، ولم ينس نصيبه منها بقدر الحاجة، فمن آمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، واتقى ربه بفعل الفرائض وترك النواهي، ظفر بالثواب العظيم في الآخرة دار الخلد. 2- المال محبوب الإنسان طبعا، لذا لم يأمر اللَّه لطفا منه ورحمة بإنفاق جميعه في سبيله، كالزكاة والجهاد ووجوه الخير، بل أمر بإخراج البعض من الربح الذي هو من فضل اللَّه وعطائه، لا من رأس المال، ليرجع ثوابه إلى المنفق نفسه، فكانت النسبة تتراوح بين ربع العشر ونصف العشر والعشر فقط، لذا قال تعالى: لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إنما يسألكم أمواله، أي الأرباح التي ييسرها لكم، لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقال: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ أي يلح عليكم تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي يخرج البخل أحقادكم. 3- أكد تعالى لطفه بعباده في التكاليف المالية، فذكر أنه طلب منهم اليسير من أموالهم، فبخلوا، فكيف لو طلب منهم الكل؟!. 4- من بخل بتقديم شيء من ماله في سبيل اللَّه كالجهاد وطرق الخير، فإنما يبخل على نفسه، فيمنعها الأجر والثواب. 5- اللَّه هو الغني عن عباده وعن كل ما سواه، فليس بمحتاج إلى أموالهم، ولكن العباد أنفسهم هم الفقراء إلى اللَّه عز وجل، لتحصيل الثواب والفضل

الإلهي، فلا يقولوا: إنا أيضا أغنياء عن القتال وعن معونة الفقراء، فالواقع أنه لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه لولا القتال لقتلوا، بغزو الكفار واجتياح بلاد المسلمين، والمحتاج إن لم تدفع حاجته، قصده الغنيّ وأخذ ماله، لا سيما أن الشارع أباح للمضطر ذلك. وأما في الآخرة فالأمر ظاهر حيث يكون كل إنسان فقيرا إلى فضل اللَّه ورحمته، وفي حال الحساب، وهو موقوف مسئول في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. 6- أنذر اللَّه تعالى عباده وحذرهم من إهمال حمل المسؤولية والقيام بأعباء التكاليف، فهم إن أعرضوا عن الإيمان والجهاد والتقوى، استبدل قوما غيرهم يكونون أطوع لله منهم، ثم يكونون أفضل وأمثل وأحسن منهم، وتلك هي سنة اللَّه في خلقه، وليسوا أمثال المستبدل بهم في البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه، كما قال الطبري. والأولى العموم، أي لا يكونوا أمثالكم في الوصف، ولا في الجنس، كما ذكر الرازي. وقال الزمخشري: أي يخلق قوما على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كقوله تعالى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر 35/ 16] . وقد اختلف المفسرون في تعيين أولئك القوم الجدد، فقيل: هم الملائكة، أو الأنصار، أو التابعون، أو أهل اليمن، أو كندة والنخع، أو العجم، أو فارس والروم. والأولى تفويض ذلك إلى علم اللَّه تعالى. والخطاب لقريش أو لأهل المدينة، والأولى جعل الخطاب متجددا بتجدد الأجيال والأمم، سواء من كان عند نزول الوحي أم بعد ذلك. حكي عن أبي موسى الأشعري: أنه لما نزلت هذه الآية، فرح بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: «هي أحب إلي من الدنيا» .

سورة الفتح:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفتح مدنيّة، وهي تسع وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة الفتح لافتتاحها ببشرى الفتح المبين: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عبد اللَّه بن مغفّل قال: قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح- أي فتح مكة- في مسيره سورة الفتح على راحلته، فرجّع فيها ، قال معاوية بن قرّة: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا، لحكيت قراءته. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه: 1- إن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها نزلت مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين، بعد إبهامه في قوله تعالى في سورة الأحقاف: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [9] . وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ.. [4] ثم ذكر هنا بيان الثمرة اليانعة لتلك الكيفية وهو النصر والفتح. 2- في كلتا السورتين (محمد والفتح) بيان أوصاف المؤمنين والمشركين والمنافقين.

ما اشتملت عليه السورة:

3- في سورة محمد أمر النبي بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات [الآية 19] وافتتحت هذه السورة بذكر حصول المغفرة. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة كسابقتها مدنية، نزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية، بعد الانصراف من الحديبية. والسور المدنية كما هو معروف تحدثت عن المنافقين الذين ظهروا في المدينة، وعنيت بشؤون التشريع في الجهاد والعبادات والمعاملات. بدأت السورة الكريمة ببشارة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفتح الأعظم وانتشار الإسلام بعد فتح مكة الذي كان صلح الحديبية بين الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين المشركين سنة ست من الهجرة بداية طيبة له. ثم أخبرت بوعد اللَّه المنجز لا محالة للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين، وأبانت مهام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشهادة على أمته وعلى الخلق يوم القيامة والتبشير والإنذار، من أجل الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ونصرته. وأردفت ذلك بأمرين متميزين: أولهما- الإشادة بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية، وبيان أن بيعتهم في الحقيقة لله، وتسجيل رضوان اللَّه تعالى عليهم، ووعدهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... والثاني- ذم المنافقين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبية، وكانوا من أعراب المدينة. وأبانت إعفاء أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) من فريضة

فضلها:

الجهاد، واكتفت منهم بطاعة أمر اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذلك مؤذن بدخول الجنة. وذكّرت بفضل اللَّه تعالى على المؤمنين في إبرام الصلح والكف عن القتال بينهم وبين أهل مكة كفار قريش الذين كفروا وصدوا المؤمنين عن المسجد الحرام، وتأثرهم بحمية الجاهلية من الأنفة والكبر والعصبية، ورفضهم كتابة البسملة في مقدمة الصلح، وكتابة «محمد رسول اللَّه» ، وتثبيت المؤمنين على كلمة التقوى وهي طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وقبول شروط الصلح، بالرغم من إجحاف بنوده في الظاهر بحقوق المسلمين. وتحدثت بعدئذ عن البشرى بتحقق رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التي رآها في المدينة المنورة أنهم يدخلون المسجد الحرام (مكة) آمنين مطمئنين، وتم ذلك بالفعل في العام المقبل حيث دخل المؤمنون مكة معتمرين: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... وختمت السورة بأمور ثلاثة: هي إرسال محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ووصف النبي والمؤمنين بالرحمة فيما بينهم والشدة على الكفار الأعداء، ووعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم. فضلها: نزلت هذه السورة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد عودته من الحديبية، روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» . وفي رواية: «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض» وفي رواية مسلم عن أنس «.. أحب إلي من الدنيا جميعها» .

أضواء من السيرة على سبب نزول السورة (صلح الحديبية وبيعة الرضوان) :

أضواء من السيرة على سبب نزول السورة (صلح الحديبية وبيعة الرضوان) : كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد رأى في المنام وهو في المدينة المنورة أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحا عظيما. فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة معتمرا (زائرا البيت الحرام) لا يريد حربا، ومعه ألف وخمس مائة (1500) من المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب، وساق معه الهدي «1» ، وأحرم بالعمرة من «ذي الحليفة» وخرج معه من نسائه أم سلمة رضي اللَّه عنها. ولم يكن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه غير سلاح المسافر: السيوف في القرب، فبعث عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش، فلما أصبح قريبا من «عسفان» - موضع بين مكة والمدينة- على مرحلتين من مكة، أتاه عينه بشر بن سفيان الكعبي قائلا: يا رسول اللَّه، هذه قريش علمت بمسيرك، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أي عازمين قاصدين طول الإقامة، وقد نزلوا بذي طوى، يحلفون بالله، لا تدخلها عليهم أبدا، وقد جمعوا لك الأحابيش (جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة) وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ عثمان بن عفان إلى قريش يبلّغهم قصد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنه لا يريد إلا العمرة، فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن عثمان قد قتل، فدعا المسلمين إلى البيعة، واجتمعوا تحت الشجرة- شجرة الرضوان، فبايعوه على القتال وألا يفروا، وتسمى بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، قال سلمة بن الأكوع رضي

_ (1) يسن للقادم إلى مكة أن يهدي إلى الحرم شيئا من الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ويسمى ذلك هديا.

اللَّه عنه: «بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة» . فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الصلح والموادعة، وكان قد أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب. وقد أنزل اللَّه في هذه البيعة قوله سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.. [الفتح 48/ 18] . وكان هذا الصلح هو الفتح، وبعد رجوعه إلى المدينة فتح اللَّه عليه خيبر، فقسمها على أهل الحديبية لم يشركهم أحد غيرهم، وكانوا ألفا وخمس مائة، منهم ثلاث مائة فارس. وهذا قول سعيد بن المسيب، والمشهور أنهم كانوا أربع عشرة مائة. ولما علمت قريش بهذا أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، وقال: اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب علي بن أبي طالب، وبدأ الاتفاق على بنود المعاهدة، بعد أن رفض سهيل كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» ، وكتب «باسمك اللهم» ورفض أيضا وصف محمد بالرسالة، فكتب: «محمد بن عبد اللَّه» . وتم الصلح على أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، دون قتال ولا اعتداء، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه، رده عليهم، ومن جاء قريشا من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يردوه عليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فسارعت خزاعة، فدخلت في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وحالفته، وتواثبت بنو بكر، فدخلوا في عهد قريش وعقدهم. وعلى المسلمين الرجوع عن مكة هذا العام، وإذا كان العام القادم خرجت

قريش من مكة، ودخلها المسلمون ثلاثة أيام، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب. وقد اعترض بعض كبار المسلمين مثل عمر بن الخطاب على الصلح، لعدم تكافؤ شروطه، وإجحافه بالمسلمين، ولكنه كان في الحقيقة نصرا كبيرا، لأن قريشا اعترفوا بمكانة المسلمين، وتمت الهدنة التي استراح فيها المسلمون عن الحروب والمعارك التي شغلتهم وأضعفتهم، وتمكن المسلمون من القيام بدعوة الإسلام في ظل الأمن والسلام، ودخل في الإسلام كثير من العرب. فكان ذلك فتحا مبينا، أو تمهيدا لفتح مكة، قال الزهري: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه..» فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح ألفا وخمس مائة أو أربع مائة، ثم صاروا عام فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وقال ابن مسعود وجابر والبراء رضي اللَّه عنهم: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وبعد أن نحر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هديه حيث أحصر ورجع، وبعد انصرافه نزل عليه ليلا وهو في الطريق بين مكة والمدينة هذه السورة. روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرّسنا «1» فنمنا، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نائم، فقلنا: أيقظوه، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: «افعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي» أي قضاء الصلاة، قال: وفقدنا ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فطلبناها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركبها، فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سرّي عنه أخبرنا أنه أنزل عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.

_ (1) التعريس: نزول القوم من آخر الليل للنوم والاستراحة ثم الارتحال.

فضائل صلح الحديبية على النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الفتح (48) الآيات 1 إلى 3] :

فضائل صلح الحديبية على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) الإعراب: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ لام «يغفر» متعلقة بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وهي لام «كي» وهي حرف جر، وإنما حسن دخولها على الفعل، لأن «أن» مقدرة بعدها، ولهذا كان الفعل بعدها منصوبا، وأن مع الفعل في تقدير الاسم، فلم تدخل في الحقيقة إلا على اسم. وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً تقديره: إلى صراط مستقيم، فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل بقوله: صِراطاً فنصبه. البلاغة: ما تَقَدَّمَ وَما تَأَخَّرَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الفتح في أصل اللغة: إزالة الأغلاق، والفتح في باب الجهاد: هو الظفر بالبلد عنوة أو صلحا، بحرب أو بغيره، لأن البلد قبل ذلك منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح: والمراد: قضينا لك بفتح مكة وغيرها في المستقبل عنوة بجهادك، فتحا بينا ظاهرا. أو هو وعد بفتح مكة، والتعبير عنه بالماضي للدلالة على تحققه وصيرورته في حكم الواقع. والمراد بالفتح هنا في رأي الجمهور: هو صلح الحديبية (والحديبية بئر سمي المكان بها) وسمي هذا الصلح فتحا، لأنه كان سببا لفتح مكة من قبيل المجاز المرسل بإطلاق السبب على المسبب. قال

الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين، وسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف، ففتحوها. وقال جماعة: المراد فتح مكة، وعد اللَّه به قبل حدوثه بطريق البشارة من اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وللمؤمنين، قال الزمخشري «1» : هو فتح مكة، وقد نزلت السورة مرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن مكة عام الحديبية، عدة له بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى، أهـ. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ.. يجوز أن يكون الفتح فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا أو علة للغفران والثواب، وكذلك فتح الحديبية وإن لم يكن فيه قتال شديد، لكن وقع فيه ترام بين القوم بسهام وحجارة أو كونه سببا لفتح مكة، يكون لما تضمنه من مجاهدة سببا للمغفرة. فإن لم يجعل الفتح علة للمغفرة، فيكون ذكر اللام- كما قال الزمخشري- لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة، وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، أي لتحصيل مجموع هذه الأمور كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة أو الحديبية ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين، وغايات العاجل والآجل. ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي جميع ما فرط منك مما يصح أن يعاتب عليه، وبما أن الأنبياء معصومون عن الذنوب الكبائر والصغائر، فالمراد بالذنب هنا: فعل ما هو خلاف الأولى والأفضل بالنسبة لمقام الأنبياء، فهو من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. أو أن المراد ما هو ذنب في نظره العالي، وإن لم يكن في الواقع كذلك. وفي هذا ترغيب للأمة في الجهاد. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي ويتم بالفتح المذكور إنعامه عليك، بإعلاء الدين، واجتماع الملك مع النبوة وفتح البلاد وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي يثبتك بالفتح على الطريق القويم، وهو دين الإسلام وتبليغه وإقامة شعائره وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي وينصرك اللَّه بالفتح نصرا فيه عز ومنعة: وهو الذي لا ذلّ بعده، أو يعز به المنصور وهو الذي لا يناله كل أحد، فوصف الشخص بالنصر العزيز للمبالغة.

_ (1) تفسير الكشاف: 3/ 135

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (1) : إِنَّا فَتَحْنا: أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. نزول الآية (2) : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ..: أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض» ، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول اللَّه، قد بيّن اللَّه لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً. وقال ابن عباس: إن اليهود شمتوا بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمين لما نزل قوله: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به، فاشتد ذلك على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ.. الآية. التفسير والبيان: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي إنا فتحنا لك أيها الرسول فتحا ظاهرا لا شك فيه، وهو صلح الحديبية الذي كان سببا لفتح مكة وانتشار العلم النافع والإيمان، أو فتح مكة، وعده اللَّه به قبل حصوله، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وكانت بشارة عظيمة من اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وللمؤمنين، كما بينت في تفسير المفردات. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي لكي يجتمع لك مع

فقه الحياة أو الأحكام:

المغفرة: تمام النعمة في الفتح، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، فيتحقق لك عز الدارين وسعادة الدنيا والآخرة. والمغفرة تشمل جميع ما فرط منك قبل الرسالة وبعدها من الهفوات التي تعد خلاف الأولى بالنظر إلى مقامك العالي، وذاك بالنظر لمن سواك لا يسمى ذنبا، فهو من قبيل ما يسمى: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. وفي هذا تشريف عظيم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو من خصائصه التي لا يشاركه فيها غيره. أخرج الجماعة (أحمد والأئمة الستة إلا أبا داود) عن المغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنه يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أفلا أكون عبدا شكورا» . وأخرج أحمد ومسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلّى، قام حتى تتفطّر رجلاه، فقالت له عائشة رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه، أتصنع هذا، وقد غفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا» . وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي ولكي يتمم إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين وانتشار الإسلام وفتوح البلاد شرقا وغربا ورفع شأنك في الدنيا والآخرة، وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم، ويثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه، ولينصرك اللَّه على أعدائك نصرا غالبا منيعا، لا يتبعه ذل، أو هو عزيز المنال فريد المثال. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- بشّر اللَّه نبيه والمؤمنين بفتح عظيم مبين واضح، وهو في رأي الجمهور كما

تقدم صلح الحديبية الذي كان سببا لفتح مكة وانتشار العلم النافع والإيمان، واختلاط الناس مع بعضهم بعضا، وتكلّم المؤمن مع الكافر. قال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا» . وتساءل الزمخشري بقوله: كيف يكون فتحا، وقد أحصروا، فنحروا، وحلقوا بالحديبية؟ ثم أجاب: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها، وتمت، كانت فتحا مبينا. وقال الشعبي في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: هو صلح الحديبية، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة، غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محلّه، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقد سبق كلام الزهري. والخلاصة: تحقق في هذا الصلح أمور ثلاثة: هي معرفة قوة العدو ومدى كفايته في السلم والسياسة والصلح، وتمييز المؤمنين من المنافقين، واختلاط المسلمين بالمشركين الذي أدى إلى الدخول في الإسلام. وقيل: إنه فتح مكة، وهو مناسب لآخر السورة التي قبلها، حيث حث تعالى على الجهاد بالنفس وبالمال والإنفاق في سبيل اللَّه، ونهى عن طلب الصلح، فقال: لا تسألوا الصلح من عندكم، بل اصبروا، فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه، كما كان يوم الحديبية. 2- كانت ثمار الفتح الأعظم أربعة أمور هي: الأول- البراءة المطلقة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمغفرة جميع ذنوبه المتقدمة والمتأخرة التي تعد بمثابة خلاف الأولى والأفضل بالنظر لمقامه الشريف.

آثار صلح الحديبية في المؤمنين والمنافقين والمشركين [سورة الفتح (48) الآيات 4 إلى 7] :

الثاني- إتمام النعمة عليه بالجمع بين النبوة والملك، وبين سعادة الدنيا والآخرة. الثالث- الإرشاد والهداية إلى الطريق المستقيم بتبليغ الرسالة والثبات على الحق. الرابع- النصر المؤزر العزيز المنيع الذي لا ذل بعده. ويمكن القول بالتعبير الحديث: تحقق بهذا الفتح مفهوم سيادة الدولة الإسلامية الداخلية والخارجية، واستقلالها، وظهور النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفة كونه حاكما وإماما في السياسة والحكم إلى جانب كونه نبيا، كما تحقق له عز الدنيا والآخرة، وثباته على دين الحق ونشره في أرجاء الدنيا. وعقد صلح الحديبية، كما أنه أثبت صفة الحاكم السياسي للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأمة الإسلامية وعاصمتها المدينة، أدى إلى اعتراف المشركين بالدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والإقرار بسيادتها واستقلالها. آثار صلح الحديبية في المؤمنين والمنافقين والمشركين [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)

الإعراب:

الإعراب: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ.. لا بد من تقدير فعل قبله، فإن من قال ابتداء: لتكرمني، لا يصح ما لم يقل قبله: جئتك أو نحوه، والتقدير هنا إما: إنا فتحنا ليدخل، كما في قوله: ليغفر لك اللَّه، وإما: أنزل السكينة ليدخل، أو أمر بالجهاد، ونحو ذلك. عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عِنْدَ حال من الفوز. البلاغة: يُكَفِّرَ وَيُعَذِّبَ بينهما طباق. لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ بينهما ما يسمى بالمقابلة. المفردات اللغوية: أَنْزَلَ خلق وأوجد السَّكِينَةَ الثبات والطمأنينة مأخوذ؟؟ من السكون فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أوجد السكينة في القلوب في مواضع القلق والاضطراب لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينا مع يقينهم، أو ليزدادوا إيمانا بالشرائع، ومنها الدين، مع إيمانهم بالله واليوم الآخر وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبر أمرها، فيسلط بعضها على بعض تارة، ويسالم فيما بينها تارة أخرى، كما تقتضي حكمته، وجنود السموات والأرض: الأسباب السماوية والأرضية وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليما بالمصالح، حكيما فيما يقدّر ويدبر، والمعنى: أنه ما يزال متصفا بذلك. وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يغطيها ولا يظهرها وَكانَ ذلِكَ أي التكفير للسيئات وإدخال الجنات عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً أي أن دخول الجنات فوز عظيم عند اللَّه السَّوْءِ بفتح السين وضمها، وهو المساءة، وظن السوء: اي ظن الأمر السوء، وهو الا ينصر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دائرة ما يظنونه وينتظرونه بالمؤمنين، فلا يتخطاهم، وهو العذاب والهزيمة والشر. والدائرة في الأصل: الخط الدائري المحيط بالمركز، ثم استعملت في الحادثة المحيطة بالإنسان، كإحاطة الدائرة بالمركز، وكثر استعمالها في السوء والمكروه وَغَضِبَ اللَّهُ سخط وَلَعَنَهُمْ أبعدهم وطردهم من رحمته طردا نزلوا به إلى أعماق جهنم وَساءَتْ مَصِيراً مرجعا. عَزِيزاً قويا في ملكه يغلب ولا يغلب حَكِيماً في صنعه. والمراد: أنه لم يزل متصفا بالعزة والحكمة.

سبب النزول نزول الآية (5) :

سبب النزول: نزول الآية (5) : لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ: سبق بيانه في الآيات السابقة. المناسبة: بعد أن أخبر اللَّه تعالى بفضله على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبأنه ينصر رسوله، أبان بعض أفضاله على المؤمنين من أصحابه وبعض أسباب النصر، وهو تثبيت أقدام المؤمنين واطمئنان قلوبهم في ميادين المعارك، وأردفه ببيان سنته في تسليط بعض جنوده على بعض، ثم رفع معنويات الجند المؤمنين بوعدهم بالخلود في الجنان، وإيعاد الكافرين والمنافقين المعادين للمؤمنين بالعذاب الشديد، والغضب عليهم وطردهم من رحمته. التفسير والبيان: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي إن اللَّه عز وجل هو الذي خلق وأوجد السكون والطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي اللَّه عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله تعالى ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانقادوا لحكم اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، واستعدوا للقتال بإخلاص دون فرار، لئلا تضطرب نفوسهم في وقت المحنة، وليزيدهم اللَّه يقينا جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. وهذا يسمى حديثا رفع الروح المعنوية للجيش. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بالآية على زيادة الإيمان وتفاضله في

القلوب. ويصح تأويل زيادة الإيمان بأنه الإيمان بالشرائع بعد إيمانهم بالله، قال ابن عباس: إن أول ما أتاهم به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجهاد ثم الحج. ثم ذكر اللَّه تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فقال: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي إن اللَّه تعالى يدبر أمر جنوده في هذا العالم كيف يشاء، من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والقوى الكونية في السماء والأرض كالزلازل والبراكين والأعاصير والبحار والأنهار ونحوها، فالله قادر على إرسال ملك واحد، يبيد الجبال والبلاد، ولكنه تعالى شرع لعباده الجهاد والقتال لحكمة بالغة ومصلحة عالية، لذا قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي كان اللَّه ولا يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره. وهذا منسجم مع موقف أبي بكر الذي عرف برسوخ الإيمان، أما عمر بن الخطاب فتساءل عن عدم التكافؤ الظاهري في شروط الصلح، وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ ولكن إيمانه لم يتزعزع، بل إن ذلك يدل على مزيد الإيمان والغيرة على مصالح المسلمين في تقديره، ثم أنزل اللَّه الطمأنينة على قلبه وقلوب أمثاله، وشرحها لما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدقت الأيام رأيه. ثم ذكر اللَّه تعالى ما وعد به أهل الإيمان، فقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً أي يبتلي اللَّه بجنوده من شاء ليدخل المؤمنين ويعذّب غير المؤمنين، أو أنزل السكينة أو إنا فتحنا ليترتب عليه دخول المؤمنين والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من

تحت قصورها، وهم ماكثون فيها أبدا، ويستر عنهم خطاياهم وذنوبهم ولا يظهرها ولا يعذّبهم بها، بل يعفو ويصفح ويستر ويرحم وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيّئاتهم عند اللَّه وفي حكمه فوزا عظيما كبيرا ونجاة من كل غمّ، وظفرا بكل مطلوب، وذلك كقوله جلّ وعلا: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَقَدْ فازَ [آل عمران 3/ 185] . وذكر تكفير السيئات بعد الإدخال في الجنة، مع أنه يكون قبله، لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولأن الأصل الإدخال، والتكفير تابع. عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» . وقد نصّ اللَّه تعالى على المؤمنات هنا مع أن أغلب الآيات يكون فيها خطاب الرجال شاملا للنساء، لئلا يتوهم أحد أن النساء لا يدخلن الجنات، لأن المرأة لا جهاد عليها. وهكذا في كل موضع يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به، مع كون المؤمنات يشتركن معهم، ذكرهنّ اللَّه صريحا «1» . وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي وليعذّب أهل النفاق وأهل الشرك بالهمّ والغمّ بسبب ما يشاهدونه من انتشار الإسلام وانتصار المسلمين وقهر المخالفين، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر في الدنيا، وبعذاب جهنم في الآخرة، لظنهم السيء بالله وحكمه وهو أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يغلبون ويبادون، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام، كما حكى تعالى عنهم في آية أخرى وهي: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الفتح 48/ 12] . وإنما قدم المنافقين على المشركين، لأن ضررهم أشد، وخطرهم أعظم.

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 82

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَعَنَهُمْ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً أي أن ما يظنونه بالمؤمنين دائر عليهم لا خروج لهم منه، واقع بهم من قتل وأسر ونحوهما، وسخط اللَّه عليهم، وأعدّ لهم جهنم يصلونها، وساءت مرجعا ومنزلا يصيرون إليه، وبذلك جمع بين جزائهم وحالهم في الدنيا وفي العقبى. ثم قال تعالى مؤكدا لقدرته على الانتقام من أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي لله في السموات والأرض جنود لا حصر لها من الملائكة والإنس والجنّ والشياطين وغيرها من كل ما فيه قوة ومقدرة على قهر أعدائه، وكان اللَّه وما يزال قويا لا يغلب، ولا يردّ بأسه، حكيما في صنعه وتدبيره لخلقه. وفائدة إعادة هذه الآية بيان أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، فذكرهم أولا لبيان الرحمة بالمؤمنين، فقال تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ثم ذكرهم ثانيا لبيان إنزال العذاب بالكافرين. وعبّر أولا بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ليتناسب مع إنزال الرحمة، ثم عبّر بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً للإشارة إلى شدة العذاب، وذكر العزّة يتناسب مع العقاب والتهديد، وذكر العلم يتلاءم مع التدبير التام لأمر الخلق وتوزيع الرحمة، وأن إنزال السكينة وزيادة الإيمان وترتيب الفتح على ذلك، كله ثابت في علم اللَّه، منسجم مع الحكمة. وذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة، لأن اللَّه تعالى ينزل جنود الرحمة، فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة، ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله: وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وذكر الجنود بعد تعذيب الكفار، وإعداد جهنم للدلالة على كون الغضب على الكفار والإبعاد والطرد من الرحمة أولا، فيدخلون جهنم، ثم يسلّط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود اللَّه تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام:

روي أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبيّ: أيظنّ محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ، فأين فارس والروم؟ فبيّن اللَّه عزّ وجلّ أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. فقه الحياة أو الأحكام: كان من فضائل صلح الحديبية وآثاره أربعة أشياء في حقّ كل من النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين والكفار. أما فضائله الأربعة في حقّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فهي كما تقدّم: مغفرة الذنوب، واجتماع الملك والنّبوة، والهداية إلى الصراط المستقيم، والعزّة والمنعة. وأما أفضاله الإلهية الأربعة في حقّ المؤمنين أصحاب النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فهي الطمأنينة والسكينة، وزيادة الإيمان، ودخول الجنان، وتكفير السيّئات. وأما آثاره الأربعة في حقّ أهل النّفاق وأهل الشرك، فهي العذاب الأليم، وغضب اللَّه، واللعنة أو الطرد من الرحمة، ودخول جهنم. ودلّ قوله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ على أن الإيمان يزيد وينقص. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. في الموضعين تخويف وتهديد، فلو أراد تعالى إهلاك المنافقين والمشركين، لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى.

وظائف النبي صلى الله عليه وسلم وفائدة بعثته ومعنى بيعته في الحديبية [سورة الفتح (48) الآيات 8 إلى 10] :

وظائف النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفائدة بعثته ومعنى بيعته في الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) الإعراب: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً هذه المنصوبات الثلاثة منصوبة على الحال من كاف أَرْسَلْناكَ وهو العامل فيها، كما عمل في صاحب الحال. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال أو استئناف كلام جديد، وهو مؤكد قوله: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ على طريق التخييل والتمثيل، ولا جارحة هناك. البلاغة: بين قوله: مُبَشِّراً ونَذِيراً وبين نَكَثَ وأَوْفى طباق. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ استعارة تصريحية تبعية، شبّه المعاهدة على الجهاد بالأنفس بدفع السلع مقابل الأموال، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه، واشتقّ من البيع يبايعون، بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل اللَّه، فوجه الشّبه اشتمال كل على المبادلة. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استعارة مكنية، شبه اطّلاع اللَّه على مبايعتهم بملك وضع يده على أيدي رعيته، وطوى ذكر المشبّه، ورمز بشيء من لوازمه وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية، أي أن اللَّه شبّه بالمبايع، وذكر اليد قرينة، وإسنادها له تخييل، وفي ذكر اليد مع أيدي الناس مشاكلة. المفردات اللغوية: شاهِداً على أمتك في القيامة بتبليغ الرسالة، لقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] . وَمُبَشِّراً بالثواب والجنة لمن أطاعك. وَنَذِيراً ومنذرا مخوفا

المناسبة:

بالعقاب والنار لمن عصاك. لِتُؤْمِنُوا الخطاب للنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والأمة، وقرئ بالياء ليؤمنوا أي الناس وكذا الفعلان بعده. وَتُعَزِّرُوهُ تنصروه وتؤيّدوه وتقوّوه بتقوية دينه ورسوله. وَتُوَقِّرُوهُ تعظموه من التوقير: وهو الاحترام والتعظيم، والضمير فيهما لله تعالى- وهو الأولى- أو لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَتُسَبِّحُوهُ تنزّهوا اللَّه عما لا يليق به من الشرك والولد، من التسبيح، أو تصلوا له من السّبحة: وهي صلاة التطوع. بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشيا، أي أول النهار وآخره، أو دائما. يُبايِعُونَكَ بيعة الرضوان يوم الحديبية، بايعوه على الموت في نصرته والدفاع عنه، أو على ألا يفرّوا من قريش، وأصل المبايعة أو البيع: مبادلة المال بالمال، ثم أطلق هنا على المعاهدة على الثبات في محاربة الكفار في مقابل ضمان الجنة لهم. وكانت المبايعة تحت شجرة بالحديبية (وهي قرية صغيرة بينها وبين مكة حوالي مرحلة، وهي في حدود الحرم) . إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأن اللَّه هو المقصود بالبيعة، مثل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80] أي أن المقصود من بيعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وطاعته طاعة اللَّه وامتثال أوامره، والمراد بآية يُبايِعُونَ اللَّهَ: أي صفقتهم إنما يمضيها ويمنح الثمن فيها اللَّه عزّ وجلّ، وأن عقد الميثاق مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كعقده مع اللَّه تعالى من غير تفاوت. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مؤكد معنى البيعة، والمراد أنه تعالى مطّلع على مبايعتهم، فيجازيهم عليها، ونصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه. واستعمال اليد هنا بمعنى الغلبة والنصرة ونعمة الهداية، فهو مجاز، واللَّه تعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام. ويعتقد السلف بوجود يد لله تعالى، لا كالأيدي، لأنه ليس كمثله شيء، وهذا أسلم، وإن كان المجاز أولى عقلا وأحكم رأيا، ونفوّض الأمر لله مع الإيمان بما ورد في القرآن والسّنّة الصحيحة. نَكَثَ نقض العهد، وضدّه: أوفى بالعهد ووفّى به: إذا أتّمه. فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يرجع وبال وضرر نقضه عليه. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ وفّى في مبايعته، وقرأ الجمهور بكسر الهاء، وقراءة حفص بضم الهاء، لأنها هاء «هو» وهي مضمومة، فاستصحب ذلك، كما في «له، وضربه» . أَجْراً عَظِيماً هو الجنة. قال جابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلا جدّ بن قيس، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته، ولم يثر مع القوم. المناسبة: بعد بيان فضائل الفتح- صلح الحديبية على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى أصحابه

التفسير والبيان:

المؤمنين، أعقبه ببيان خصائصهما، فذكر وظائف الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الثلاث (وفي الأحزاب: الخمس) ومدحه وأبان فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة، فذكر بيعة الرضوان بين النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين، وأشاد بإخلاص المبايعين ونصرة دين اللَّه تعالى، وأوضح جزاء ناقض العهد، ومن أوفى بالعهد. التفسير والبيان: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً أي إننا أرسلناك يا محمد رسولا شاهدا تشهد على الخلق وعلى أمتك تبليغ الرسالة، ومبشّرا بالجنة المؤمنين المطيعين، ومنذرا مخوّفا بالنار الكافرين العصاة. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُعَزِّرُوهُ، وَتُوَقِّرُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي إنا أرسلناك لتؤمنوا بالله ورسوله- والخطاب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأمته- وتقووا وتؤيدوا اللَّه بنصرة دينه ورسوله، وتعظّموه، وتنزّهوا اللَّه عما لا يليق به من الشرك والولد والصاحبة والتّشبيه بالمخلوقات، على الدوام، أو في الغداة والعشي، أي أول النهار وآخره، والمراد صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، كما قال ابن عباس. والمراد بتعزير اللَّه: تعزير دينه ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. قال الزمخشري: والضمائر- في الأفعال الثلاثة غير الأول- لله عزّ وجلّ، ومن فرّق الضمائر فقد أبعد. وبعد بيان أنه مرسل، قال اللَّه عزّ وجلّ تشريفا وتعظيما وتكريما ليبيّن أن من بايعه فقد بايع اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي إن الذين يبايعونك أيها النّبي بيعة الرضوان بالحديبية تحت الشجرة على قتال قريش، إنما يبايعون اللَّه، أي يطيعونه ويعاهدونه على امتثال أوامره، لأنهم

باعوا أنفسهم من اللَّه بالجنة، ولأن طاعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم هي طاعة اللَّه تعالى في الحقيقة. ثم أكّد هذا المعنى بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي أن عقد الميثاق مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كعقده مع اللَّه سبحانه على السواء، وأن اللَّه هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، وهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة 9/ 111] . وأن نعمة اللَّه عليهم بالهداية فوق إجابة البيعة، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات 49/ 17] . والخلاصة: أن قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استئناف مؤكد للكلام السابق من أن مبايعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مبايعة لله تعالى. فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي يتفرّع عن البيعة مع اللَّه أنه من نقض العهد مع النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنما وبال ذلك وضرره على الناقض نفسه، لا يجاوزه إلى غيره. ومن وفّى بالعهد وثبت عليه، ونفّذ ما عاهد عليه الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في البيعة، فسيؤتيه اللَّه ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة، كما قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 48/ 18] . وهذه البيعة كما تقدّم هي بيعة الرّضوان التي كانت تحت شجرة سمرة بالحديبية، وكان الصحابة رضي اللَّه عنهم الذين بايعوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ على الأصح ألفا وأربع مائة، وقيل: ثلاث مائة أو خمس مائة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- إن مهام النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المذكورة هنا هي ثلاث: أ- الشهادة على الخلق وعلى أمته بالبلاغ، فهو يشهد على الناس بأن رسولهم وأنبياءهم بلغوهم رسالة اللَّه بما أخبره اللَّه به في القرآن، ويشهد على أمته بتبليغهم الرسالة الإلهية، وقد أعلن ذلك في حجة الوداع: «اللهم قد بلّغت، اللهم فاشهد» . ب- وتبشير من أطاعه بالجنة. ج- وإنذار من عصاه بالنار. والمذكور في سورة الأحزاب خمس: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً، وَمُبَشِّراً، وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً [45- 46] وهذا لأن المقام في الأحزاب مقام ذكر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأحواله، ففصل في مهامه، واقتصر في سورة الفتح على الثلاث المتقدمة، ثم ذكر بعدئذ ما يدل على كونه داعيا وكونه سراجا في قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ... 2- إن الغاية من إرسال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو الوصول إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، ونصرة دين اللَّه ورسوله، وتعظيم اللَّه وإجلاله، وتسبيحه بالقول وتنزيهه من كل قبيح على الدوام، أو في أول النهار وآخره، أو فعل. الصلاة التي فيها التسبيح. 3- إن الذين بايعوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديبية على قتال قريش ومناصرته فقد بايعوا اللَّه تعالى، فبيعتهم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما هي بيعة اللَّه تعالى، كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80] .

أحوال المتخلفين عن الحديبية [سورة الفتح (48) الآيات 11 إلى 17] :

واللَّه تعالى مطّلع على بيعتهم ومجازيهم خيرا، فيده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويديه في المنّة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة، ونعمة اللَّه عليهم فوق ما صنعوا من البيعة، وقوة اللَّه ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم. ومذهب السلف رضوان اللَّه عليهم: الإيمان الظاهري بما يسمى يد اللَّه، مع تنزيه المولى عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح (الأعضاء) له، ويقولون: إن معرفة حقيقة اليد هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات، ولن يستطيع المخلوق ذلك، فالأولى التفويض في معرفة الحقيقة لله تعالى، مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسّنّة الثابتة. ومذهب الخلف: تأويل اليد بالقدرة أو القوة أو النصرة أو النعمة، على طريق الاستعارة بالكناية، كما تقدّم في البلاغة. 4- إن الناكث ناقض العهد بعد البيعة يرجع ضرر النكث والنقض عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. 5- وإن من أوفى بعهده الذي عاهد اللَّه تعالى عليه في البيعة، سيمنحه اللَّه تعالى في الآخرة ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة. أحوال المتخلفين عن الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)

الإعراب:

الإعراب: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي ظننتم أنهم لا يرجعون. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ تُقاتِلُونَهُمْ: حال مقدرة، ويُسْلِمُونَ: إما معطوف على تُقاتِلُونَهُمْ أو مستأنف، تقديره: أو هم يسلمون. وقرئ: أو يسلموا: بتقدير أن. و «أو» بمعنى «إلا» وقيل بمعنى «حتى» . البلاغة: بين الضر والنفع في قوله: إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً طباق. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ إطناب بتكرار نفي الحرج والإثم عن أصحاب الأعذار للتأكيد.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الْمُخَلَّفُونَ المتخلفون، جمع مخلّف: وهو المتروك في المكان خلف الخارجين عنه، والمراد بهم هنا قبائل حول المدينة من الأعراب هم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل، استنفرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبية ليخرجوا معه إلى مكة للعمرة، فتخلفوا، واعتذروا بالشغل في أموالهم وأهليهم، وإنما خلفهم الخذلان وضعف العقيدة والخوف من مقاتلة قريش إن صدّوهم. مِنَ الْأَعْرابِ قبائل من الأعراب سكان البوادي حول المدينة. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا عن الخروج معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالنا، وقرئ بالتشديد شَغَلَتْنا للتكثير، وهذا كذب منهم. فَاسْتَغْفِرْ لَنا اللَّه من التخلف أو ترك الخروج معك، وطلب الاستغفار خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون، ومصانعة من غير توبة ولا ندم. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ هذا تكذيب من اللَّه تعالى لهم في الاعتذار والاستغفار، فهم يطلبون الاستغفار وغيره في الظاهر، وهم كاذبون في اعتذارهم. فَمَنْ يَمْلِكُ؟ استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد يمنعكم من مشيئته وقضائه، والملك: إمساك الشيء بقوة وضبط. ضَرًّا بفتح الضاد وضمها، والضر: الضرر اللاحق بالأهل والمال والنفس، كقتل وهزيمة وهزال وسوء حال وضياع. نَفْعاً النفع: ما يفيد من حفظ النفس والمال والأهل. بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي كان ولم يزل متصفا بذلك، فهو يعلم تخلفكم وقصدكم فيه، وبَلْ للانتقال من غرض إلى آخر. بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لظنكم أن المشركين يستأصلونهم. ويَنْقَلِبَ يرجع، والأهلون: العشائر وذوو القرابة، جمع أهل، وقد يجمع على أهلات، مثل أرضات على أن أصله أهلة. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ الظن السيء، وهو الظن المذكور. بُوراً جمع بائر، أي هلكى أو هالكين عند اللَّه بهذا الظن وفساد العقيدة وسوء النية. فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع الكافرين موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهو كافر مستوجب للسعير بكفره، والسعير: نار ملتهبة شديدة، وتنكيرها للتهويل، أو لأنها نار مخصوصة. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبره كيف يشاء. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذ لا وجوب عليه. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي ولم يزل متصفا بذلك، والغفران والرحمة من ذاته، جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي» . سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون. مَغانِمَ هي مغانم خيبر، فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية في ذي الحجة، من سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم هاجم خيبر بمن شهد الحديبية بسبب اعتداءات اليهود المتكررة، ففتحها وغنم أموالا كثيرة، ثم خصها بأهل

سبب نزول الآية (17) :

الحديبية. ذَرُونا اتركونا. نَتَّبِعْكُمْ لنأخذ منها. يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ويقرأ: كلم لله، أي يريدون أن يغيروا كلام اللَّه، وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم عن مغانم مكة مغانم خيبر، فهم يريدون الشركة في المغانم دون أن ينصروا دين اللَّه تعالى. لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي مثل ذلك قال اللَّه من قبل استعدادهم للخروج إلى خيبر، وقبل عودنا. بَلْ تَحْسُدُونَنا أي تحسدوننا أن نصيب معكم شيئا من الغنائم. لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون. إِلَّا قَلِيلًا إلا فهما قليلا وهو فهمهم لأمور الدنيا دون الدين. ومعنى الإضراب الأول. بَلْ تَحْسُدُونَنا رد منهم أن يكون حكم اللَّه ألا يتبعوهم، وإثبات الحسد، والثاني: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ رد من اللَّه تعالى لذلك، وإثبات لجهلهم بأمور الدين. قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الوصف مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف. سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي أصحاب بأس شديد أي قوة في القتال، وهم بنو حنيفة أصحاب اليمامة، أو غيرهم من ارتدوا بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو فارس والروم. ولا دليل على التعيين. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة أو الإسلام، لا غير. فَإِنْ تُطِيعُوا في قتالهم يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية. أَلِيماً مؤلما، لعظم جرمكم. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. أي إثم وذنب في ترك الجهاد، ويلاحظ أنه تعالى لما أوعد على التخلف، نفى الحرج عن أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) استثناء لهم من الوعيد. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فصّل الوعد وأجمل في الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته. وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً هذا تعميم بعد تفصيل الوعد، إذ الترهيب هنا أنفع من الترغيب. سبب نزول الآية (17) : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى..: قال ابن عباس: لما نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ.. الآية، قال أهل الزّمانة: كيف بنا يا رسول اللَّه؟ فأنزل اللَّه: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان حال المنافقين، بيّن اللَّه تعالى حال المتخلفين، وهم قوم من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لظنهم أنه يهزم، وقد ذكر تعالى أحوالا ثلاثا لهم: هي الاعتذار عن التخلف عن الحديبية بانشغالهم في الأموال والأهل، وطلب المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد، ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار لترك الجهاد. التفسير والبيان: الاعتذار عن التخلف: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا، فَاسْتَغْفِرْ لَنا أخبر تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أثناء عودته من الحديبية بما يعتذر به المخلفون الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم، وتركوا السير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج إلى مكة معتمرا عام الحديبية، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة وهم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل، وإنما قال: الْمُخَلَّفُونَ لأن اللَّه خلّفهم عن صحبة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم. والمخلّف: المتروك. والآية من إعجاز القرآن، لإخباره عن الغيب، وقد وقع الأمر مطابقا لخبر القرآن. ولقد اعتذروا بشغلهم بالأموال والأهل، وسألوا أن يستغفر لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ليغفر اللَّه لهم ما وقع منهم من التخلف عنه بسبب الانشغال، لا بسبب العصيان ومخالفة الأمر. وذلك في الحقيقة قول منهم، لا على سبيل الاعتقاد، بل على وجه التقية والمصانعة، لذا رد اللَّه عليهم وكذّبهم بقوله: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي إنهم ليسوا صادقين في الاعتذار، فهم يتصنعون ذلك بظواهر ألسنتهم، أما في أعماق قلوبهم فهم يعتقدون أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه سينهزمون، ويخافون من مقاتلة قريش وثقيف

وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، بدليل قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً. قُلْ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً، بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي قل أيها النبي لهم: فمن يمنعكم مما أراده اللَّه بكم من خير أو شر؟ أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده اللَّه فيكم، وإن صانعتمونا ونافقتمونا، سواء بإنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل، أو بتحقيق النفع لكم من نصر وغنيمة. بل في الحقيقة، إن تخلفكم ليس لما زعمتم، فإن اللَّه خبير بجميع ما تعملونه من الأعمال، وقد علم أن تخلفكم لم يكن للانشغال بالمال والأهل، بل للشك والنفاق والخذلان وسوء الاعتقاد والخوف من قريش وأعوانهم وما خطر لكم من الظنون الفاسدة، الناشئة عن عدم الثقة بالله تعالى، ثم افتضح شأنهم، فقال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق، وقد اعتقدتم أن العدو يقتل ويستأصل المؤمنين نهائيا، فلا يرجع أحد منهم إلى أهله إلى الأبد، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن اللَّه سبحانه لا ينصر رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكنتم قوما هالكين عند اللَّه تعالى، وصرتم بما فعلتم لا تصلحون لشيء من الخير، تستحقون شديد العقاب. ثم أخبر اللَّه تعالى عن عقاب الكفار، فقال: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً أي من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، كما

صنع هؤلاء المخلفون، فجزاؤهم ما أعده اللَّه لهم من عذاب السعير والنار الشديدة الالتهاب جزاء الكفر. ثم أبان تعالى مدى قدرته الشاملة لكل شيء، فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لله سلطة التصرف المطلق في أهل السموات والأرض، يتصرف فيهم كيف يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه. يغفر لمن يشاء أن يغفر له ذنوبه، ويعذب بالنار من يريد أن يعذبه على كفره ومعصيته، واللَّه ما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين، رحيما يرحم جميع خلقه، ويخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده. وفي هذا حث عام على الإصلاح، وترغيب لهؤلاء المتخلفين وأمثالهم من المقصرين بالتوبة والإنابة والرجوع إلى أمر اللَّه تعالى وطاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي الآية أيضا بيان واضح أنه تعالى يغفر للمبايعين بمشيئته، ويعذب الآخرين بمشيئته، وغفرانه ورحمته أعم وأشمل، وأتم وأكمل، وأن عظيم الملك يكون أجره في غاية السعة، وعذابه وعقوبته في غاية النكال والألم. طلب المشاركة في وقعة خيبر: ثم أوضح اللَّه تعالى كذب المتخلفين في ادعائهم الانشغال بالمال والأهل، بدليل طلبهم السير مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر، لما توقعوا من مغانم يأخذونها، فقال: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أي سيقول هؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عمرة الحديبية، إذا انطلقتم أيها المسلمون إلى مغانم خيبر لتأخذوها وتحوزوها: اتركونا نتبعكم في

السير، ونشهد معكم غزو خيبر، لأنهم علموا أن اللَّه وعد المسلمين فتح خيبر وتخصيص من شهد الحديبية بغنائمها. والخلاصة: أنه لو كان اعتذارهم بالانشغال صحيحا، لما طلبوا السير مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر. يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي يريدون تبديل وعود اللَّه لأهل الحديبية بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر اللَّه رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا. ثم صدر قرار المنع صراحة، فقال تعالى: قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا، كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي قل لهم أيها الرسول صراحة: لن تسيروا معنا في خيبر، وهكذا أخبرنا اللَّه تعالى من قبل رجوعنا من الحديبية ووصولنا إلى المدينة: أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب. والخلاصة: وعد اللَّه أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم. وهذا نحو قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ؟؟ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التوبة 9/ 83] «1» . ثم أخبر اللَّه تعالى عن ردهم على ذلك بقوله: فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنا أي فسيقول المخلفون عند سماع هذا القول:

_ (1) وهذا لمجرد إيراد التشابه في الحكم، وإن كانت هذه الآية في براءة نزلت في غزوة تبوك، وهي متأخرة عن عمرة الحديبية. [.....]

بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، والحسد لا غيره هو الذي يمنعكم من الإذن لنا في الخروج معكم. فأجابهم اللَّه تعالى بقوله: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي ليس الأمر كما زعموا أمر حسد منكم على أخذهم شيئا من الغنيمة، بل لأنهم لا يفهمون إلا فهما قليلا، والمراد: لا يفهمون شيئا من أمور الدين وهو جعل القتال لله تعالى، وإصلاح النية له، وصدق الإيمان به، وإن كانوا يعلمون ويفهمون أمور الدنيا. وهذا دليل على أن محاولتهم نقض حكم اللَّه تعالى، واتهام المؤمنين بالحسد صادر عن جهل وقلة تدبر ووعي، وإنهم قوم ماديون لا يعرفون إلا الدنيا. وقد دعوتهم إلى القتال باستثناء أصحاب الأعذار إن كانوا صادقين في طلب المشاركة مع المؤمنين. ثم أبان اللَّه تعالى أن ميدان القتال متسع ما يزال مفتوحا إن أرادوا إثبات إخلاصهم مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والذين آمنوا، فقال: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي قل أيها النبي لهؤلاء المخلفين من الأعراب إن أرادوا الانتماء إلى الصف الإسلامي بحق وصدق: ستندبون إلى قتال قوم أولي شدة وصلابة ونجدة، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا عهد بينهم وبين المسلمين بعقد الجزية ونحوها، ويشمل مشركي العرب والمرتدين وغير العرب. أما المفسرون فذكروا أربعة أقوال في تعيين أولئك القوم وهي: أ- هوازن وغطفان يوم حنين، وكان قتالهم بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.

ب- ثقيف. ج- بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وكان قتالهم بعد ذلك أيام أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه. وأكثر المفسرين على أن القوم هم بنو حنيفة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر، لأنه تعالى قال: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية عند أبي حنيفة. وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب. د- أهل فارس والروم وأهل الأوثان. قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين. ثم وعدهم اللَّه تعالى بالثواب إن أطاعوا، وأوعدهم بالعذاب إن عصوا، فقال: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أي فإن تستجيبوا، وتنفروا في الجهاد، وتؤدوا ما عليكم، يعطكم اللَّه ثوابا حسنا، وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة. وإن تعرضوا كما أعرضتم من قبل زمن الحديبية، حيث دعيتم فتخلفتم، يعذبكم عذابا شديدا مؤلما بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة، لعظم جرمكم. ثم استثنى اللَّه تعالى أصحاب الأعذار من فرضية الجهاد ومن الوعيد على التخلف، فقال: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار وهي العمى والعرج المستمر

فقه الحياة أو الأحكام:

والمرض المزمن، أو الطارئ أياما حتى يبرأ إثم وذنب في التخلف عن الجهاد، لعدم استطاعتهم. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذره دائم مستمر. قال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية، وقد عذرهم. ثم رغّب سبحانه وتعالى في الجهاد وطاعة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً أي يطع اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بإخلاص، فيجاهد مع المؤمنين لإعلاء كلمة اللَّه تعالى والدفاع عن دينه، يدخله اللَّه في الآخرة جنات تجري من تحت قصورها الأنهار تتدفق عذوبة وتتلألأ بياضا، ومن يعرض عن الطاعة، ويعص اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيتخلف عن القتال، يعذبه اللَّه عذابا شديد الألم، في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار. وبالرغم من أن طاعة كل واحد من اللَّه والرسول طاعة الآخر، فإنه جمع بينهما بيانا لطاعة اللَّه غير المرئي وغير المسموع كلامه، فقال: طاعته عز وجل في طاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكلامه سبحانه يسمع من رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات الإخبار عن أحوال ثلاث للمتخلفين: الحال الأولى- اعتذارهم بالأموال والأهل: وهذا يدل على الأمور التالية: 1- إن اعتذار جماعة من الأعراب كانوا حول المدينة كان بعذر سطحي واه هو الانشغال بالأموال والأهل، أي ليس لهم من يقوم بهم، بعد أن استنفرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي (شاة ونحوها) ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت الآية في شأنهم، وسموا بالمخلّفين أي المتروكين.

وأحسوا بضعف موقفهم، فقالوا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَاسْتَغْفِرْ لَنا يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة، فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج. وهذا إن قبل مع الناس فلا يقبل مع اللَّه تعالى المطلع على حقائق الأمور، لذا دل هذا الموقف على قصور النظر، فضلا عن سوء الاعتقاد والجهل. 2- لقد فضحهم اللَّه تعالى أيضا، وكذبهم بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وهذا هو النفاق المحض، فهم قوم منافقون، ينطبق عليهم العذاب المذكور في الآية السابقة: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ.. [6] . 3- وردّ اللَّه تعالى عليهم أيضا حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم يدفع عنهم الضّر، ويعجل لهم النفع. والضّر: اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والنفع: ضد الضر. ومضمون الرد بإيجاز: لن يستطيع أحد دفع ما أراده اللَّه في عباده من خير أو شر. 4- وزيّف اللَّه تعالى مدّعاهم، وافتضح شأنهم، وأبان سوء ظنهم حين قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس «1» لا يرجعون، وزعموا أن الرسول والمؤمنين سيقتلون ويستأصلون، ولن يعودوا إلى أهليهم أبدا، لأنهم قالوا: أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة، فكيف يكون حالهم إذا دخل المسلمون بلادهم، وأحاطوا بهم؟! وزيّن الشيطان النفاق في قلوبهم، وظنوا ظنا سيئا أن اللَّه تعالى لا ينصر رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبذلك جمعوا بين النفاق وسوء الظن وسوء التقدير.

_ (1) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد.

لكل هذا أخبر اللَّه تعالى عن حكمه فيهم وهو أنهم قوم بور، أي هلكى فاسدون لا يصلحون لشيء من الخير. 5- ثم أوعدهم اللَّه تعالى بعذاب السعير، وأبان أنهم كفروا بالنفاق. 6- وأخبر تعالى عن قدرته الفائقة بتصرفه في أهل السموات والأرض، وأنه غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف بالجهاد وغيره ليثيب من آمن، ويعاقب من كفر وعصى. الحال الثانية- طلب المسير إلى خيبر: وهذا يشير إلى ما يأتي: 1- إنهم قوم أغبياء جهلة كذبة: فكيف اعتذروا سابقا بالانشغال بالأموال والأهل، والآن يطلبون المشاركة في السير إلى خيبر؟! 2- إنهم قوم ماديون: يفرون من مواطن الخوف والخطر واحتمال القتال، ويحرصون على أخذ غنائم الحرب حينما يحسون بضعف الأعداء وهم يهود خيبر. 3- إنهم قوم كفرة: يريدون أن يغيروا كلام اللَّه وحكمه، وقدره ووعده الذي وعد لأهل الحديبية، لأن اللَّه تعالى جعل لهم غنائم خيبر، عوضا عن فتح مكة إذا رجعوا من الحديبية على صلح. 4- إنهم جماعة يستحقون النبذ والعزل المدني: لذا حكم اللَّه تعالى بمنعهم من الخروج مع المسلمين إلى خيبر. 5- إنهم مرضى القلوب لانطوائها على الحقد والحسد، ومن حقد على الآخرين أو حسدهم ظن أن الآخرين مثله، لذا حاولوا اتهام المسلمين زورا وبهتانا بأنهم يحسدونهم على أخذ شيء من الغنائم. وربما فهموا ذلك من قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن خرجتم لم أمنعكم، إلا أنه لا سهم لكم» فقالوا: هذا حسد،

فقال المسلمون: قد أخبرنا اللَّه في الحديبية بما سيقولونه، وهو قوله تعالى: فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنا. 6- إنهم قوم لا يفهمون: فلا يعلمون من الدين شيئا أو قليلا بسبب ترك القتال، وإن كانوا يعلمون أمور الدنيا. الحال الثالثة- حقل التجربة بالمعارك القادمة: وهذا يدل على ما يأتي: 1- أخبر تعالى زيادة في تكذيبهم وافتضاح أمرهم أن ميدان القتال مفتوح، فإن كانوا مسلمين صادقين فليجربوا أنفسهم في ملاقاة أقوام ذوي بأس شديد، ومراس ونجدة. 2- فتح اللَّه تعالى باب الأمل أمامهم، وأفادهم بأنهم إن أطاعوا أمر اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاهدوا بحق يعطهم الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، وإن أعرضوا في المستقبل عن الجهاد كما أعرضوا في الماضي عام الحديبية، يعذبهم بعذاب مؤلم موجع وهو عذاب النار. وقد استدل بعض المفسرين بآية: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. واستدلوا بآية تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهم مشركو العرب والمرتدون، فالخيار مقيد فيهم بأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما. واستدل الفقهاء بآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. على إعفاء أصحاب الأعذار من فريضة الجهاد، وهم الأعمى والأعرج عرجا دائما، والمريض المزمن أو المريض مرضا مؤقتا يمنع من الخروج من المنزل إلى أن يبرأ. واقتصر النص القرآني

على الأصناف الثلاثة، لأن العذر إما بسبب اختلال القوة أو إخلال في عضو، فيقاس عليهما ما في معناهما، كالفقر الذي يمنع من إحضار السلاح حال التطوع بالجهاد ودون تقديمه من الدولة، والاشتغال بذوي الحاجة والضعف كطفل ومريض، ونحو ذلك مما يعرف في الفقه. وقد ضبط الفقهاء الأعذار المانعة من الجهاد بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي. فمن الأول: الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال، والعرج البيّن، وفقد الصبر، وعدم وجدان السلاح وآلات القتال. ومن الثاني: الرق والدّين الحالّ بلا إذن رب الدين، وعدم إذن أحد الأبوين المسلمين. ودل قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. على الحث على الجهاد والترهيب من ترك القتال، فإن من أطاع اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاهد في سبيل اللَّه، أدخله اللَّه جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن أعرض عن المشاركة في الجهاد، عذّبه عذابا شديد الألم، لعظم جرمه، وإساءته للمجتمع الإسلامي. فإن الجهاد سبيل لدحر العدوان، وطرد المعتدين، والتخلص من أذاهم، وهو طريق العزة والكرامة، وصون الاستقلال، وحماية حرمات البلاد والأوطان، والحفاظ على كيان الأمة، ولو لاه لذابت الأمم، وزالت الأديان والقيم، وانصهرت الجماعات، ولحق الذل والهوان والاستعباد بالشعوب إلى الأبد، أو إلى أن تصحو وتستيقظ من رقادها وسباتها، وتنفض الذل عن هاماتها. لذا جعله اللَّه فريضة على المؤمنين، وإن كان مكروها على النفس، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على تحمل مشاق التكاليف، واختبار أعمال الناس حسنات أو سيئات، فيجازيهم بها.

جزاء أهل بيعة الرضوان [سورة الفتح (48) الآيات 18 إلى 19] :

وهو ذروة سنام الإسلام، وسبيل إلى جنان الخلد، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وهم في درجة الأنبياء والصدّيقين، وحسن أولئك رفيقا. جزاء أهل بيعة الرضوان [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) البلاغة: إِذْ يُبايِعُونَكَ التعبير بصيغة المضارع المفيد للحال عن الماضي لاستحضار صورة المبايعة. المفردات اللغوية: رَضِيَ الرضى: ما يقابل السخط عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أهل الحديبية، ورضي اللَّه عنهم لمبايعتهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان عددهم على الأصح ألفا وأربع مائة إِذْ يُبايِعُونَكَ يبايعون الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على أن يقاتلوا قريشا، ولا يفرّون منهم، ولا يخشون الموت تَحْتَ الشَّجَرَةِ هي سمرة (وهي شجرة الطلح أو السنط) وَأَثابَهُمْ كافأهم على عملهم. فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ علم اللَّه ما في قلوبهم من الصدق والوفاء وإخلاص البيعة فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة والأمن وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً جازاهم على بيعة الرضوان بفتح خيبر، بعد انصرافهم من الحديبية. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً أي وأثابهم أيضا مغانم خيبر يأخذونها، وكانت خيبر ذات بساتين نخيل ومزارع، قسمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أهل الحديبية المقاتلة، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما عَزِيزاً حَكِيماً أي كان اللَّه وما يزال غالبا قويا، مراعيا مقتضى الحكمة في تدبير خلقه. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال:

«بينا نحن قائلون «1» ، إذ نادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يا أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فسرنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه، فأنزل اللَّه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الآية. فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لك لابن عفان، يطوف بالبيت ونحن هنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لو مكث كذا وكذا سنة، ما طاف حتى أطوف» . وروي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث حراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهمّوا به، فمنعه الأحابيش، فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، فحبسوه، فأرجف بقتله، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، وكانوا ألفا وثلث مائة أو أربع مائة أو خمس مائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا منهم، وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة. وأخرج الشيخان عن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: «على أي شيء بايعتم رسول اللَّه؟ قال: على الموت» . وأخرج مسلم عن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتني يوم الشجرة- التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية- والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفرّ» . ووفّق العلماء بين الروايتين، فجماعة كانت مع سلمة، وجماعة مع معقل. وأرى أن الغاية من الحديثين واحدة هي الثبات في مواجهة قريش، لذا قال جابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا

_ (1) نائمون نوم القيلولة.

المناسبة:

نفرّ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جدّ بن قيس، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته، ولم يثر مع القوم. ويلاحظ أن جابر جمع بين الروايتين. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» . المناسبة: بعد أن بيّن اللَّه تعالى حال المخلفين عام الحديبية، عاد إلى بيان حال الذين بايعوا تحت الشجرة، وذكروا فيما تقدم في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ.. فأبان جزاءهم في الدنيا والآخرة، وهو الظفر بغنائم كثيرة من خيبر، وأخبر اللَّه عن رضاه عن أهل تلك البيعة في الآخرة، لصدق إيمانهم، وإخلاصهم في بيعتهم، وإنزال السكينة (الطمأنينة) عليهم وتثبيت قلوبهم وأقدامهم. والخلاصة: لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر حال المؤمنين الخلّص الذين سافروا معه. والآية دالة على رضى اللَّه تعالى عنهم، ولذا سميت بيعة الرضوان. التفسير والبيان: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أي تاللَّه لقد رضي اللَّه عن المؤمنين المخلصين الذين بايعوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة بيعة الرضوان، بالحديبية، على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا، وروي أنه بايعهم على الموت، وكان عددهم في الأصح ألفا وأربع مائة. وسميت بيعة الرضوان، لقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ ... روى البخاري أن عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه قال: انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلّون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة

حيث بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب، فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يعلموها، وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم!! وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن نافع قال: بلغ عمر أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها، فأمر بها، فقطعت. فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً أي فعلم اللَّه ما في قلوبهم من الإيمان والصدق، والإخلاص والوفاء، والسمع والطاعة، فأنزل الطمأنينة وسكون النفس عليهم، وجازاهم فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية، ثم أتبعه بفتح مكة وفتح سائر البلاد والأقاليم. وفاء فَعَلِمَ للتعقيب، والفعل متعلق بقوله: إِذْ يُبايِعُونَكَ.. وبما أن العلم بما في القلوب قبل الرضى، فيكون المراد كما يقول القائل: فرحت أمس إذ كلّمت زيدا، فقام إلي، أو إذ دخلت عليه فأكرمني، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيبا في المعنى، والآية كذلك إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب، بل عند المبايعة التي كان معها علم اللَّه بصدقهم. وفاء فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ.. للتعقيب الواقعي، فإنه تعالى رضي عنهم، فأنزل السكينة عليهم. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي: وأثابهم أيضا مغانم كثيرة، وهي غنائم خيبر، وكان توزيع الغنائم تعويضا لهم عما تأملوه من غنائم أهل مكة، ومخصصا بأهل بيعة الرضوان. وكان اللَّه وما يزال غالبا كامل القدرة، مدبرا أمور خلقه على وفق الحكمة والسداد، وقد حقق لأهل بيعة الرضوان العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: جازى اللَّه تعالى أهل بيعة الرضوان بجزاءين: مادي ومعنوي، أما المعنوي: فهو إسباغ الرضى الإلهي عليهم، وإنزال السكينة والطمأنينة على قلوبهم، بسبب ما عمله في نفوسهم من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة. وأما الجزاء المادي: فهو فتح خيبر أو فتح مكة، وغنائم خيبر وأموالها، فقسمها عليهم، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة، أو غنائم فارس والروم. مغانم وفتوحات ونعم كثيرة أخرى للمؤمنين [سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 24] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) الإعراب: وَلِتَكُونَ أي المعجلة، وهو عطف على مقدر، أي لتشكروه. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أُخْرى: في موضع نصب بالعطف على مَغانِمَ وتقديره: وعدكم ملك مغانم كثيرة وملك أخرى، لأن المفعول الثاني وهو: مَغانِمَ لا يكون إلا

البلاغة:

منصوبا، لأن الأعيان لا يقع الوعد عليها، إنما يقع على تملكها وحيازتها. ويصح أن تكون مبتدأ، ولَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: صفة لها، وجاز الابتداء بها لكونها موصوفة، وقَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها: خبر المبتدأ. سُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن اللَّه ذلك سنة. البلاغة: لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ كناية عن الهزيمة، لأن المنهزم يدير ظهره للعدو عند الهرب. المفردات اللغوية: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً هي ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة إثر الفتوحات فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي غنائم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي قريش بالصلح، وأيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان، وأيدي اليهود عن المدينة إذ همّوا بعيالكم، بعد خروج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم منها إلى الحديبية، بأن قذف في قلوبهم الرعب وَلِتَكُونَ أي الغنائم المعجلة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي أمارة للمؤمنين في نصرهم يعرفون بها صدق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في وعدهم فتح خيبر والمغانم وغير ذلك، وحراسة اللَّه لهم في غيبتهم ومشهدهم، وحفظ كيان المؤمنين الآتين بعدهم ما داموا على الاستقامة وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يوفقكم ويرشدكم إلى الثقة بفضل اللَّه والتوكل عليه في كل الأمور. وَأُخْرى أي ومغانم أخرى هي مغانم فارس والروم لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها الآن، لما تتطلب من الإعداد الأقوى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها علم أنها ستكون لكم، وقد أعدها لكم وغنمكوها وأظهركم عليها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي ولم يزل متصفا بذلك، لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لهربوا وانهزموا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا حارسا حاميا يحرسهم وَلا نَصِيراً معينا ينصرهم. سُنَّةَ اللَّهِ حكم اللَّه وقانونه القديم فيمن مضى من الأمم غلبة أنبيائه، ونصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] أي سنّ اللَّه ذلك سنة ثابتة دائمة وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا. كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أيدي كفار مكة بِبَطْنِ مَكَّةَ في داخل مكة بالحديبية أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أظهركم عليهم وجعلكم متغلبين عليهم، فإن ثمانين منهم طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم، فأخذوا وأتي بهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، فكان ذلك سبب الصلح وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي ولم يزل مطلعا على جميع الأمور.

سبب النزول نزول الآية (24) :

سبب النزول: نزول الآية (24) : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ..: أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم «1» ، يريدون غرّة «2» رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم، فأنزل اللَّه: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ الآية. وأخرج مسلم ونحوه من حديث سلمة بن الأكوع، وكذا أحمد والنسائي نحوه من حديث عبد اللَّه بن مغفل المزني، وابن إسحاق نحوه من حديث ابن عباس. وحديث أحمد عن عبد اللَّه بن مغفل المزني رضي اللَّه عنهما هو: قال: «كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصل الشجرة التي قال اللَّه في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان علي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي رضي اللَّه عنه: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، قال: اكتب باسمك اللهم. وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللَّه. فبينا نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابّا، عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذ اللَّه بأبصارهم، فقمنا إليهم

_ (1) التنعيم: موضع في الحل بين مكة وسرف. (2) الغرّة: الغفلة، أي يريدون أن يصادفوا منه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم.

المناسبة:

فأخذناهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا: لا، فخلّى سبيلهم، فأنزل اللَّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ، بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآية. المناسبة: بعد أن وعد اللَّه تعالى أهل الحديبية بمغانم خيبر، أردفه بذكر نعم كثيرة أخرى: أولها- أنّ ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب، بل وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين، وكل ما غنموه كان منها، واللَّه كان عالما بها. وثانيها- وعدهم بغنائم هوازن وفارس والروم وغيرها من البلاد التي ستفتح. وثالثها- الوعد بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وتلك سنّة اللَّه القديمة. ورابعها- امتنان اللَّه على عباده المؤمنين بكفّ أيدي المشركين عنهم في الحديبية. التفسير والبيان: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي وعدكم اللَّه أيها المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار على ممرّ الدهر إلى يوم القيامة، ولكن عجّل لكم غنائم خيبر، وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح، وأيدي اليهود أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتالكم، وقذف في قلوبهم الرعب، فلم ينلكم سوء مما أضمره أعداؤكم لكم من المحاربة والقتال.

كل ذلك لتشكروه، ولتكون تلك النعم علامة للمؤمنين يعلمون بها صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جميع ما يعدهم به، وأن اللَّه حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء، مع قلة العدد، وليزيدكم بتلك الآية أو العلامة هدى، أو يثبّتكم على الهداية إلى طريق الحقّ، والانقياد لأمر اللَّه تعالى وطاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. - وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي وعدكم اللَّه غنائم أخرى وفتوحات أخرى غير صلح الحديبية وفتح خيبر، لم تكونوا تقدرون عليها في حالتكم الراهنة، قد أحاط اللَّه بها علما أنها ستصير أو ستكون لكم، وتفتحونها وتأخذونها، مثل غنائم هوازن في غزوة حنين، وفتوحات فارس والروم، وكان اللَّه وما يزال على كل شيء قديرا مقتدرا، لا يعجزه شيء. - وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي لو بادركم بالقتال كفار قريش بالحديبية، لنصر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وعباده المؤمنين عليهم، ولا نهزم جيش الكفر فارّا هاربا، ثم لا يجدون حارسا وحاميا يحرسهم ويواليهم على قتالكم، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تلك سنّة اللَّه القديمة وعادته في خلقه بنصر جيش الإيمان على جيش الكفر، ورفع الحق ووضع الباطل، وغلبة أوليائه على أعدائه، بالرغم من عدم تكافؤ القوى، مثل نصر اللَّه يوم بدر أولياءه، على أعدائه من المشركين، وتلك السّنة مستمرة ثابتة، لا تغيير لها. - وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي

فقه الحياة أو الأحكام:

كفّ أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين، لما جاؤوا يصدّون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه عن البيت الحرام عام الحديبية، في داخل مكة وحدودها، فإن ثمانين رجلا من أهل مكة- كما تقدّم في سبب النزول- هبطوا على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل جبل التنعيم، متسلحين، يريدون غرّة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وهذا امتنان من اللَّه تعالى على عباده المؤمنين بكفّ المشركين عنهم، وكفّ المسلمين عن الكفار. وكان اللَّه وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين، لا يخفى عليه من ذلك شيء. وعلى هذا، ليس المراد من قوله: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فتح مكة، فالصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، وأن مكة فتحت عنوة، وإنما المراد: ما بعد الأسر لم يحدث قتل. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي: 1- وعد اللَّه تعالى المؤمنين الصادقين مغانم الأعداء إلى يوم القيامة، ومغانم خيبر المعجلة جزء منها. 2- إتماما للمنّة والفضل الإلهي، منع اللَّه تعالى عباده المؤمنين وحماهم من أذى وحرب أهل مكة، وكفّهم عنهم بالصلح، كما كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبية وخيبر، وأيدي اليهود وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتال المسلمين في خيبر. وكان قد جاء عيينة بن حصن وعوف بن مالك النّضري ومن كان معهما لينصروا أهل خيبر، والمسلمون محاصرون لهم، فألقى اللَّه في قلوبهم الرعب، وكفّهم عن المسلمين، وزاد اللَّه هؤلاء هدى، وثبّتهم على الهداية.

3- وعد اللَّه عباده المؤمنين مغانم وفتوحات أخرى إلى يوم القيامة، منها غنائم هوازن، وغنائم فارس والروم، وذلك قبل حدوثها، ولم يكونوا يرجونها، حتى أخبرهم اللَّه بها. وهو إخبار بالمغيبات دالّ على إعجاز القرآن، وأنه من عند اللَّه تعالى، وأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم صادق في نبوته. 4- ومن أفضاله تعالى على المؤمنين أنه كفّ عنهم شرّ أعدائهم، فإنه سواء قاتلت غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، أم لم يقاتلوا، لا ينصرون، والغلبة واقعة للمسلمين، وذلك أمر إلهي محكوم به مختوم، ولن يجد الكفار مواليا ينفعهم باللطف، ولا ناصرا يدفع بالعنف، وليس للذين كفروا شيء من ذلك، وطريقة اللَّه وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه، وهي سنّة ثابتة مستمرة لا تقبل التغير. 5- وتأكيدا لنصر المؤمنين وطّد اللَّه تعالى دعائم الصلح والسلم قبل اللقاء وبعده، ومنع حدوث القتال بين المسلمين والكفار، حتى ولو قاتل الكفار، فإنهم سينهزمون ويولّون الدّبر، وحتى بعد ظفر المسلمين بهم، فإنه تعالى كفّ أيدي المؤمنين عنهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي من بعد ما أخذتموهم أسارى، وتمكنتم منهم لم يقع القتل، فإنه متى ظفر الإنسان بعدوه يبعد انكفافه عنه، مع أن اللَّه كفّ اليدين. وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار: هو إطلاقهم من الأسر، وسلامتهم من القتل.

ذم المشركين وحكمة المصالحة يوم الحديبية [سورة الفتح (48) الآيات 25 إلى 26] :

ذمّ المشركين وحكمة المصالحة يوم الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) الإعراب: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الْهَدْيَ: منصوب بالعطف على الكاف والميم في صَدُّوكُمْ. ومَعْكُوفاً حال، وأَنْ يَبْلُغَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: عن أن يبلغ محله، أو بدل اشتمال. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ رِجالٌ: مبتدأ مرفوع، وَنِساءٌ: معطوف عليهم، وخبر المبتدأ محذوف، ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ إذا وقع بعدلطول الكلام بجوابها. لَمْ تَعْلَمُوهُمْ في موضع رفع، لأنه صفة ل رِجالٌ، وَنِساءٌ. وأَنْ تَطَؤُهُمْ أي تقتلوهم، وفي موضع أَنْ وجهان: الرفع على البدل بدل اشتمال من رِجالٌ، أي ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين لم تعلموهم، أو النصب على البدل بدل اشتمال من الهاء والميم في تَعْلَمُوهُمْ أي ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموا وطأهم. وجوابمحذوف أغنى عنه جواب لَوْ في قوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا.. واللام في لِيُدْخِلَ اللَّهُ متعلق بمحذوف، دلّ عليه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ

المفردات اللغوية:

ولا تتعلق ب كَفَّ هذه لأنها صلة الَّذِي، ووقع فصل طويل في الكلام بين كَفَّ واللام، ولا يجوز الفصل بينهما. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذْ: متعلق ب «عذبنا» . حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ بدل من الْحَمِيَّةَ. المفردات اللغوية: وَصَدُّوكُمْ منعوكم عن الوصول إليه. وَالْهَدْيَ أي وصدّوا الهدي: وهو ما يهدى إلى مكة، أو ما يقدّم قربانا لله تعالى إلى الحرم ويذبح فيه، حين زيارة البيت الحرام في الحج أو العمرة، وهو سنّة. مَعْكُوفاً محبوسا عن الوصول للحرم. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أن يصل مكانه الذي ينحر فيه عادة، وهو منى أو الحرم المكي. وليس المراد مكانه الذي يحل فيه نحره، وإنما المراد مكانه المعهود، وهو منى، وإلا لما نحره الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم حيث أحصر، قال البيضاوي: فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر، هو الحرم. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ موجودون بمكة مع الكفار. لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين. أَنْ تَطَؤُهُمْ مأخوذ من الوطء: الدوس، والمراد به هنا الإهلاك، جاء في الحديث: «اللهم اشدد ووطأتك على مضرّ» أي أن تبيدوهم مع الكفار لو أذن لكم في الفتح. فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهتهم. مَعَرَّةٌ مكروه ومشقّة، وإثم بالتقصير في البحث عنهم، والمكروه كوجوب الدّية والكفارة بقتلهم، والتأسف عليهم، وتعيير الكفار بذلك. مأخوذ من عرّه: إذا عراه ودهاه ما يكرهه. بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم، متعلق ب أَنْ تَطَؤُهُمْ غير عالمين بهم. وضمائر الغيبة للصنفين بتغليب الذكور. وجوابمحذوف، لدلالة الكلام عليه، تقديره: لأذن لكم في الفتح أو لما كفّ أيديكم عنهم. والمعنى: لولا كراهة أن تبيدوا أناسا مؤمنين بين الكفار، جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم أو إبادتهم مكروه، لما كفّ أيديكم عنهم. لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علة لكف أيدي أهل مكة، صونا للمؤمنين، أي كان ذلك ليدخل اللَّه في توفيقه لزيادة الخير، أو الإسلام. مَنْ يَشاءُ من المؤمنين أو المشركين. لَوْ تَزَيَّلُوا تميّزوا عن الكفار أو تفرّقوا عنهم. لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي لعذّبنا الكافرين من أهل مكة حينئذ بالقتل والسّبي. عَذاباً أَلِيماً مؤلما شديد الألم. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اذكر حين ذاك، أو ظرف لَعَذَّبْنَا، أو صَدُّوكُمْ. الْحَمِيَّةَ الأنفة من الشيء. حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ التي تمنع إذعان الحق، وهي صدّهم النّبي وأصحابه عن المسجد الحرام، فهي حمية في غير موضعها، لا يؤيدها دليل ولا برهان. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنزل عليهم الثبات والوقار، وصالحوا أهل مكة على أن يعودوا من

سبب النزول نزول الآية (25) :

قابل، ولم يلحقهم من الحمية ما لحق الكفار، حتى يقاتلوهم. وَأَلْزَمَهُمْ أي المؤمنين. كَلِمَةَ التَّقْوى كلمة الشهادة: «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» ، وقيل: هي بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أي اختارها لهم، أو ألزمهم الثبات والوفاء بالعهد، وإضافة الكلمة إلى التقوى، لأنها سبب التقوى وأساسها. أَحَقَّ بِها أولى بالكلمة من الكفار. وَأَهْلَها المستأهلين لها، وهو عطف تفسيري لكلمة أَحَقَّ بِها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي ولم يزل متّصفا بذلك، فيعلم من هو أهل كل شيء، وييسره له. سبب النزول: نزول الآية (25) : وَلَوْلا رِجالٌ..: أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي جمعة جنيد بن سبع «1» قال: قاتلت النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول النهار كافرا، وقاتلت معه آخر النهار مسلما، وكنّا ثلاثة رجال وسبع نسوة، وفينا نزلت: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ. وفي رواية ابن أبي حاتم: «كنا ثلاثة رجال، وتسع نسوة، وفينا نزلت: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ.. الآية» . المناسبة: بعد أن ذكر اللَّه تعالى امتنانه العظيم على المؤمنين إذ كف عنهم أيدي الكافرين من قريش، وكف أيدي المؤمنين عن الكافرين، وأبرم بينهم ميثاق صلح الحديبية، أبان تعالى أسباب هذا الكفّ المتبادل، وأوضح حكمة المصالحة بقوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ حفاظا عليهم، ومن أجل نشر دين الإسلام ودخول الناس فيه، وتبديد آثار الأنفة والحمية الجاهلية التي لا تستند إلى برهان معقول، وإنزال السكينة والطمأنينة والثبات على قلب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين، وإلزامهم الوفاء بالعهود.

_ (1) قال ابن كثير: والصواب أبو جعفر حبيب بن سبع.

التفسير والبيان:

وقد بيّنت سابقا كيف تمّ الصلح الذي جاء في بعض رواياته: أنه لما همّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتال كفار قريش، بعثوا سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص، ليسألوه أن يرجع في عامه، على أن تخلي قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، فأجابهم، وكتبوا بينهم كتابا، على النحو المذكور آنفا. التفسير والبيان: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي إن مشركي العرب من قريش وحلفائهم هم الكفار الجاحدون توحيد اللَّه دون غيرهم، وهم منعوكم أيها المسلمون من الطواف بالبيت الحرام، وأنتم أحقّ به وأنتم أهله، وصدّوا الهدي (ما يهدى إلى الحرم من الأنعام) محبوسا في مكانه عن بلوغ محلّه بغيا وعنادا، وكان الهدي سبعين بدنة (ناقة) ومحلّه: منحره الذي يذبح فيه عادة، وهو حيث يحلّ نحره من الحرم، وهو منى أو الحرم المكي، فرخّص اللَّه سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية مكان الإحصار (المنع من دخول مكة) محلّا للنحر، وكانوا خارج الحرم. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولولا وجود المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات بمكة، الذين يكتمون إيمانهم ويخفونه خيفة على أنفسهم من قومهم، لأذنّا لكم بالفتح، ولما كففنا أيديكم عنهم، ولكنّا سلّطناكم عليهم، فقتلتموهم واستأصلتموهم، ولكن يقع بينهم فريسة القتل أقوام من المؤمنين والمؤمنات لم تعرفوهم ولم تعلموا أنهم مؤمنون حالة القتل، فتطؤوهم بالقتل، فتصيبكم من جهتهم مشقة وتأسف، وإثم وكفّارة على القتل الخطأ، لوقوع القتل جهلا بغير علم منكم بهم، وحينئذ يقول المشركون: إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم.

لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي ولكن كف أيديكم عنهم وحال بينكم وبين قتالهم ليخلص المؤمنين من أسرهم، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام. لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا، وانفصل بعضهم عن بعض بما يسمى اليوم بفك الارتباط، لعذبنا الذين كفروا عذابا مؤلما وهو القتل، بأن نسلطكم عليهم، فتقتلوهم قتلا ذريعا. والخلاصة: لو تزيل المؤمنون من الكفار لعذبهم اللَّه عذابا أليما بقتلهم إياهم. ثم بيّن اللَّه تعالى ظرف العذاب أو وقته، فقال: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى، وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية التي لا تذعن للحق ولا تعرف منطقا ولا تعتمد دليلا مقنعا، وهي قولهم: واللات والعزى لا يدخلونها علينا، وإباؤهم كتابة البسملة ووصف محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه رسول اللَّه في مقدمة صلح الحديبية. فأنزل اللَّه الطمأنينة والثبات والصبر على رسوله وعلى المؤمنين، حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وثبّتهم على الرضا والتسليم، وألزمهم كلمة الشهادة أو التوحيد وهي «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» أو ألزمهم تعظيم الحرم، وترك القتال فيه، ولم يستفزهم صنيع الكفرة، لينتهكوا حرمة الحرم. وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة وأجدر بها وأهلا لها من دون الكفار، إذ هم أهل الخير والصلاح والعقيدة الصحيحة، على نقيض الكفار ذوي العقيدة الفاسدة. وكان اللَّه وما يزال عليما بمن يستحق الخير، ممن يستحق الشر.

فقه الحياة أو الأحكام:

روى النسائي عن أبي بن كعب رضي اللَّه عنه أنه كان يقرأ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ولو حميتم كما حموا، لفسد المسجد الحرام، فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه، فأغلظ له، فقال- أي أبي-: إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيعلمني مما علّمه اللَّه تعالى، فقال عمر رضي اللَّه عنه: بل أنت رجل عندك علم وقرآن، فاقرأ وعلّم مما علّمك اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ذمّ اللَّه تعالى قريشا إذ كفروا بتوحيد اللَّه، ومنعوا المؤمنين دخول المسجد الحرام عام الحديبية، حين أحرم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محلّه، ولم يكن هذا من اعتقادهم، ولكنه حملتهم الأنفة، ودعتهم حميّة الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم اللَّه على ذلك وتوعدهم عليه، وآنس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببيانه ووعده. 2- إن حرمة المؤمن عند اللَّه عظيمة، فقد كان صلح الحديبية من أجل ثلاثة رجال وسبع أو تسع نسوة حتى لا يقتلوا في زحمة المعركة لو حدث قتال، فيعاب المسلمون، ويقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم، وتلزمهم كفارة القتل الخطأ، لأن اللَّه تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدّية في قوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء 4/ 92] . 3- دل قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ على تفضيل الصحابة، واتصافهم بصفات كريمة من العفة عن المعصية، والعصمة عن التعدّي، حتى لو أنهم أصابوا

من ذلك أحدا، لكان من غير قصد. وهذا مشابه لوصف النملة جند سليمان عليه السلام في قولها: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل 27/ 18] . 4- لم يأذن اللَّه للمسلمين في قتال المشركين عام الحديبية ليسلم بعد الصلح الموفّق للإسلام من أهل مكة، وقد أسلم الكثير منهم، وحسن إسلامهم، ودخلوا في رحمة اللَّه، أي جنته. 5- لو تميز المؤمنون عن الكفار لعذّب الكفار بالسيف، ولكن اللَّه تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار. 6- آية وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ.. دليل على وجوب مراعاة حرمة المؤمن والامتناع من قتله إذا اختلط بالكفار، إلا لمصلحة ضرورية قطعية كلية، كما في قتل التّرس، أي المسلمين المتترس بهم من قبل العدو، فيتخذهم دريئة تحمي نفوسهم، وحيلة تمكنهم من التقدم. ومعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية. أنها قاطعة مفيدة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس، واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. والمصلحة بهذه القيود لا خلاف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، إما بأيدي العدو، فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين، وإما بأيدي المسلمين، فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز تعمد المسلمين المتترس بهم بالقتل، وهل تجب الدية والكفارة؟ اختلف العلماء:

تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح [سورة الفتح (48) الآيات 27 إلى 28] :

فقال الحنفية: لا دية ولا كفارة. وقال الشافعية والثوري: تجب الدية والكفارة «1» . 7- لم يكن منع أهل مكة المشركين من دخول المؤمنين المسجد الحرام لسبب معقول، وإنما بدوافع الأنفة أو الحمية الجاهلية التي لا يؤيدها دليل ولا برهان، دفعتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. كذلك حملتهم تلك العصبية لوثنية الجاهلية على الامتناع من كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» و «محمد رسول اللَّه» في مقدمة الصلح. 8- أما المؤمنون فقد أنزل اللَّه عليهم الطمأنينة والوقار، وثبّتهم على الرضى والصبر والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل في قلوب أولئك من الحمية والغضب، وألزمهم كلمة «لا إله إلا اللَّه» لأنهم كانوا أحق بها من كفار مكة، لأن اللَّه تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. تصديق رؤيا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 4/ 395

الإعراب:

الإعراب: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ... الرُّؤْيا بحذف مضاف أي تأويل الرؤيا، لأن الرؤيا مخايل ترى في النوم، فلا تحتمل صدقا ولا كذبا، وإنما يحتمل الصدق والكذب تأويلها. وبالحق: إما صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق، أو قسم باسم اللَّه أو بنقيض الباطل. ولَتَدْخُلُنَّ أصله: لتدخلون، إلا أنه لما دخلت نون التوكيد حذفت النون التي هي نون الإعراب، لتوالي الأمثال، والفعل معرب عند الجمهور، ويرى ابن الأنباري أن النون المحذوفة للبناء. وآمِنِينَ مُحَلِّقِينَ مُقَصِّرِينَ كلها منصوبات على الحال من الضمير المحذوف في لَتَدْخُلُنَّ وكذلك قوله: لا تَخافُونَ جملة في موضع الحال، وتقديره: غير خائفين. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تقديره: كفاكم اللَّه شهيدا، فحذف مفعولي كَفى، وكَفى يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 137] . وشَهِيداً منصوب على التمييز، أو الحال. البلاغة: مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا صدّقه في رؤياه ولم يكذبه، فحذف الجار وهو «في» ووصل الفعل، كقوله تعالى: صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الفتح 48/ 27] بِالْحَقِّ يرى الزمخشري أنه متعلق ب صَدَقَ، أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، ويجوز أن يتعلق ب الرُّؤْيا حالا منها، أي صدقه الرؤيا ملتبسا بالحق، على معنى أنها لم تكن أضغاث أحلام، ويجوز أن يكون بِالْحَقِّ قسما إما بالحق الذي هو نقيض الباطل، أو بالحق الذي هو من أسماء اللَّه تعالى. لَتَدْخُلُنَّ جواب القسم على أن بِالْحَقِّ قسم، وعلى الرأي الأول والثاني هو جواب قسم محذوف إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للوعد (أو للعدة) بالمشيئة، تعليما للعباد مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ محلقا بعضكم جميع شعورهم، ومقصرا آخرون بعض شعورهم لا تَخافُونَ أبدا فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير ذلك فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ جعل من دون دخول المسجد، أو من دون فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر، ثم تحققت الرؤيا في العام القابل.

سبب النزول نزول الآية (27) :

بِالْهُدى ملتبسا بالهدى وَدِينِ الْحَقِّ دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا، وإظهار فساد ما كان باطلا، وفيه تأكيد الوعد بالفتح وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعده كائن، أو على نبوته بإظهار المعجزات. سبب النزول: نزول الآية (27) : لَقَدْ صَدَقَ: أخرج الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أري النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول اللَّه، فنزلت: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا الآية. وقال قتادة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأي في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية، ارتاب المنافقون حتى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه يدخل مكة، فأنزل اللَّه تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم حق. وقصة الرؤيا: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في المنام- وهو في المدينة «1» - أن ملكا قال له: لَتَدْخُلُنَّ إلى قوله: لا تَخافُونَ فأخبر أصحابه بالرؤيا، ففرحوا وجزموا بأنهم داخلون في عامهم، فلما صدّوا عن البيت، واستقر الأمر على الصلح، قال بعض الضعفة المنافقون: واللَّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت. وقالوا أيضا: أليس كان يعدنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نأتي البيت، فنطوف به؟ فقال لهم أهل البصيرة: هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا: لا، قال: فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت، فأنزل اللَّه تصديقه.

_ (1) الظاهر أن مكان الرؤيا في المدينة أصح من القول بأنها في الحديبية.

التفسير والبيان:

وجاء في السيرة: أن عمر بن الخطاب قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: ألست نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول اللَّه، ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟. قال: أيها الرجل، إنه رسول اللَّه، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه «1» ، فو اللَّه إنه لعلى الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال: بلى، قال: فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك تأتيه وتطوف به «2» . التفسير والبيان: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً أي تاللَّه لقد صدّق اللَّه تعالى تأويل رؤياه التي رآها تصديقا مقترنا بالحق، أنكم ستدخلون المسجد الحرام بمشيئة اللَّه في العام القابل، وليس في هذا العام عام الحديبية، حالة كونكم آمنين من العدو، ومحلقا بعضكم جميع شعره، ومقصرا بعضكم الآخر، وأنكم غير خائفين. وهذا تأكيد للأمن، فإنه تعالى أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد. وكان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة إلى

_ (1) أي سر على نهجه. (2) انظر تفسير ابن كثير: 4/ 194- 200

المدينة، أقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها اللَّه عليه بعضها عنوة، وبعضها صلحا. فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم معتمرا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبّى، وسار أصحابه يلبّون. ثم دخل مكة بالسيوف مغمدة في قربها، كما شارط أهل مكة في صلح الحديبية. ثم رتب اللَّه تعالى على التصديق وسوء ظن القوم قوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا «1» من الحكمة والمصلحة في تأخير الفتح إلى العام القابل، فجعل من دون ذلك الفتح فتحا آخر قريب الحصول، وهو فتح خيبر. وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ لتعليم العباد وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة اللَّه. ثم أكّد تعالى صدق الرؤيا بتصديق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل شيء بقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي إن اللَّه عز وجل هو الذي أرسل رسوله محمدا بالعلم النافع والعمل الصالح، وبما يرشد إلى طريق الهداية الصحيح، ودين الإسلام، ليعليه على كل الأديان، بنسخ سائر الديانات السابقة، وإظهار فساد العقائد الزائفة، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد من إظهار دينه على جميع الأديان، وعلى أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رسوله، وهو ناصره. وفي هذا رد على سهيل بن عمرو الذي أبي أن يكتب في مقدمة صلح الحديبية: «محمد رسول اللَّه» وتسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،

_ (1) الفاء لعطف فَعَلِمَ على صَدَقَ وبما أن العلم متقدم على الرؤيا، فإن المراد بالتعقيب والترتيب علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب.

فقه الحياة أو الأحكام:

وتأكيد لصدق رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. فقه الحياة أو الأحكام إن رؤيا الأنبياء حق لا شك فيه، ولكن توقيت حدوث مقتضى الرؤيا بعلم اللَّه، لا بعلم البشر، ولم يكن في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه وصحبه سيدخلون المسجد الحرام في زمن محدد معين، ففهم الصحابة أن ذلك سيكون عام الحديبية، ولكن لله الحكمة البالغة، يفعل الأشياء، حسبما يرى من المصلحة والخير والحكمة، وصدّق الرؤيا في العام القابل. وجعل في الفترة ما بين العامين فتح خيبر. وكان دخولهم آمنين من العدو، غير خائفين أثناء استقرارهم في مكة لأداء العمرة. والتحليق والتقصير جميعا للرجال، وكلاهما جائز، ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: والمقصرين» في الثالثة أو الرابعة. واللَّه تعالى تأكيدا لتصديق رؤيا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، أبان أنه صدّق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل شيء، فأرسله رسول الهدى، ورسول الدين الحق: دين الإسلام، ليعليه على كل الأديان، وكفى بالله شاهد عدل وحق لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صحة نبوته بالمعجزات، وعلى أنه رسول من عند اللَّه، وعلى إظهار دينه على جميع الأديان.

أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم والمرسل إليهم [سورة الفتح (48) آية 29] :

أوصاف الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والمرسل إليهم [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) الإعراب: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ: مبتدأ، ورَسُولُ اللَّهِ: خبر المبتدأ، أو عطف بيان وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ مبتدأ أيضا وخبر، ورُحَماءُ خبر ثان، وما بعده أخبار عن الذين مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويجوز أن يكون رَسُولُ اللَّهِ وصف محمد، والَّذِينَ مَعَهُ عطف على مُحَمَّدٌ، وأَشِدَّاءُ خبر عن الجميع، ورُحَماءُ خبر ثان عنهم، والنبي داخل في جميع ما أخبر به عنهم. ورُكَّعاً سُجَّداً منصوبان على الحال من الهاء والميم في تَراهُمْ لأنه من رؤية البصر، ويَبْتَغُونَ جملة فعلية إما في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في تَراهُمْ وتقديره: تراهم ركعا سجدا مبتغين فضلا. وسِيماهُمْ مبتدأ، وخبره: إما فِي وُجُوهِهِمْ أو مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ مبتدأ وخبر. ومَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ إما معطوف على «مثل» الأول ويكون كَزَرْعٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم كزرع، أو هما مبتدأ وخبر كالجملة السابقة، فيكون لهم على هذا الوجه مثلان وصفوا بهما، أحدهما: في التوراة والآخر: في الإنجيل، وعلى الوجه الأول لهم مثلان كلاهما في التوراة والإنجيل. البلاغة: أَشِدَّاءُ ورُحَماءُ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ تشبيه تمثيلي، وجه الشب فيه منتزع من متعدد. ويلاحظ مراعاة الفواصل في كل آيات السورة على وتيرة واحدة من قوله تعالى: مُبِيناً مُسْتَقِيماً إلى قوله: عَظِيماً. المفردات اللغوية: وَالَّذِينَ مَعَهُ أصحابه المؤمنون أَشِدَّاءُ غلاظ قساة جمع شديد رُحَماءُ متعاطفون متوادّون في قلوبهم رحمة، كالوالد مع الولد، جمع رحيم، والمعنى: أنهم يغلظون في القتال على أعدائهم، ويتراحمون فيما بينهم، كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة 5/ 54] . تَراهُمْ تبصرهم رُكَّعاً سُجَّداً لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً يطلبون الثوب والرضى سِيماهُمْ علامتهم، والمراد: السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، أو هي نور وبياض يعرفون به بالآخرة أنهم سجدوا في الدنيا مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ كائنة منه ذلِكَ الوصف المذكور مَثَلُهُمْ صفتهم العجيبة الجارية مجرى الأمثال في الغرابة شَطْأَهُ فراخه أو فروعه التي تنبت حول الأصل فَآزَرَهُ أعانه وقوّاه، من المؤازرة: المعاونة فَاسْتَغْلَظَ فغلظ فَاسْتَوى قوي واشتد واستقام عَلى سُوقِهِ أصوله وقضبانه، جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لحسنه جمع زارع، مثّل الصحابة رضي اللَّه عنهم بذلك، لأنهم بدؤوا في قلة وضعف، فكثروا وقووا، فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس. لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ متعلق بمحذوف، دل عليه ما قبله، أي شبهوا بذلك، فهو علة لتشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ لما سمع الكفار بهذا غاظهم ذلك، وقوله مِنْهُمْ لبيان الجنس أي الصحابة، لا للتبعيض، لأنهم كلهم بالصفة المذكورة وَأَجْراً عَظِيماً الجنة. والمغفرة والأجر هما أيضا لمن بعدهم من المؤمنين والمؤمنات. المناسبة: بعد بيان كون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا بالهدى ودين الحق، بيّن حال الرسول والمرسل إليهم، فأكد الشهادة في قوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ثم وصف صحابته بأوصاف عجيبة: هي الشدة على الأعداء، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة العبادة، والحرص على الثواب والرضى من اللَّه، والتميز

التفسير والبيان:

بالنور والضياء في الدنيا والآخرة، وبيان صفاتهم في كل من التوراة والإنجيل، والانتقال من الضعف إلى القوة والكثرة، وكونهم موعودين من اللَّه بالمغفرة والجنة. التفسير والبيان: - مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي إن محمدا رسول من عند اللَّه حقا بلا شك ولا ريب. - وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي إن صحابته يمتازون بالشدة والغلظة والصلابة على من جحد بالله وعاداهم، وبالرقة والرحمة على بعضهم بعضا، كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة 5/ 54] . وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة 9/ 123] . وكما جاء في الحديث الصحيح عند أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» وفي حديث الشيخين والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» . وقال الحسن البصري: بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، فكيف بأبدانهم؟ وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة جائزة بالاتفاق. وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي اللَّه عنه، وإن كان التقبيل على اليد، ومن حق المؤمنين: أن يراعوا هذه السنة أبدا، فيتشدّدوا على مخالفيهم، ويرحموا أهل دينهم.

- تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي تشاهدهم يكثرون الصلاة بإخلاص، فتبصرهم غالبا راكعين ساجدين، يلتمسون ويطلبون الثواب والرضا، ويحتسبون عند اللَّه تعالى جزيل الثواب وهو الجنة، ورضا اللَّه تعالى عنهم، والرضا أكبر من الجنة: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] . - سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي علامتهم المميزة لهم وجود النور والبهاء والوقار في الوجه والسمت الحسن والخشوع. قال السّدّي: الصلاة تحسن وجوههم. وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقد أسنده ابن ماجه عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها اللَّه تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. والمراد أن أثر العبادة والصلاح والإخلاص مع اللَّه تعالى يظهر على وجه المؤمن، لذا قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: «من أصلح سريرته، أصلح اللَّه تعالى علانيته» . وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صمّاء، ليس لها باب ولا كوّة، لخرج عمله للناس، كائنا ما كان» . وروى أحمد أيضا وأبو داود عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الهدي الصالح، والسّمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة» . - ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، فَآزَرَهُ

فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي ذلك الوصف المذكور للصحابة هو وصفهم الذي وصفوا به في التوراة ووصفوا به في الإنجيل، وهم كانوا ضعافا قليلي العدد، فازدادوا وكثروا وتقووا، مثل الزرع الذي أخرج فروخه وفروعه على جوانبه، فاشتد وقوي وأعانه وشدّه، أي إن الزرع قوّى الشطء، لأنه تغذى منه واحتمى به، وتحول من الدقة إلى الغلظ، واستقام على أعواده، يعجب هذا الزرع الزرّاع لقوّته وحسن منظره، كما هو معروف. وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى للصحابة، كانوا في الابتداء قلّة، ثم زادوا وكثروا وتقووا، كالزرع تكون فراخه في الابتداء ضعيفة، ثم تتقوى تدريجيا حتى يغلظ ساقه. وقد كثّر اللَّه الصحابة وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين. وهكذا يكون إيمان المسلم إذا دخل في الإسلام ضعيفا، ثم يتقوى بصحبته وملازمته لأهل العلم والإيمان حتى يستوي ويكون مثلهم، وربما أقوى منهم. - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أي وعد اللَّه تعالى الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعملوا صالح الأعمال أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم وثوابهم، ويدخلهم الجنة، ووعد اللَّه حق وصدق وكائن لا محالة، ولن يخلف اللَّه وعده. وهذا يشمل الصحابة وكل من اقتفى أثرهم، وسار على منهجهم من أفواج الإيمان وجند الإسلام، وتلاحق الأجيال. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أثبتت الآية صفتي النبوة والرسالة لمحمد بن عبد اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه. ووصفت أصحابه بثماني صفات هي: 1- 2: الشدة والصلابة والعنف على الأعداء الكفار، والرحمة والرأفة والرفق والبر بالمؤمنين، فهم أسود غضاب عبوسون في وجه الكفار الذين يعادونهم، ضحوكون بشوشون في وجوه إخوتهم المؤمنين. 3- 4: يمتازون بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، مع وصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، واحتساب جزيل الثواب وهو الجنة عند اللَّه تعالى المشتملة على فضل اللَّه وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، فهم يطلبون بعملهم المخلص الجنة ورضا اللَّه تعالى. 5- علامتهم المميزة لهم النور والضياء في الدنيا والآخرة، والسمت الحسن، والخشوع والتواضع لله تعالى. 6- تلك الأوصاف وصفوا بها في كل من التوراة والإنجيل والقرآن. 7- كثرة الخير والبركة والنماء فيهم، فإنهم كانوا قلة ضعافا، ثم صاروا كثرة أشداء أقوياء، كمثل الزرع الذي ينبت من حوله الفراخ، ثم تقوى وتشتدّ وتكبر. ولقد فعل اللَّه هذا لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار. 8- وعدهم اللَّه تعالى جميعا وأمثالهم المتبعين لهم بإحسان وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة بمغفرة الذنوب والثواب الذي لا ينقطع وهو الجنة. وقد وردت آيات أخرى وأحاديث كثيرة في فضل الصحابة، والنهي عن التعرض لهم بالإساءة، والصحابة كلهم عدول، وهم أولياء اللَّه تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. وفيما سبق ذكرت بعض الأحاديث، ومن قرأ الآية

السابقة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [18] والآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب 33/ 23] وآيات سورة الحشر: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ.. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [8- 9] من قرأ ذلك عرف مدى ثناء اللَّه عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح. وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» . وقد استدل الإمام مالك رحمه اللَّه بهذه الآية وَالَّذِينَ مَعَهُ.. على تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي اللَّه عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة رضي اللَّه عنهم، فهو كافر لهذه الآية، قال ابن كثير: ووافقه طائفة من العلماء رضي اللَّه عنهم على ذلك. والظاهر أنهم فسّاق. قال بعض العلماء عن خلافات الصحابة والاقتتال الذي حدث بينهم: «تلك دماء قد طهّر اللَّه منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته» .

سورة الحجرات:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحجرات مدنيّة، وهي ثماني عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الحجرات لأن اللَّه تعالى ذكر فيها تأديب أجلاف العرب الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات وهي حجرات (بيوت) نسائه المؤمنات الطاهرات رضي اللَّه عنهن، وكانت تسعا، لكل واحدة منهن حجرة، منعا من إيذاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوفيرا لحرمة بيوت أزواجه. وتسمى أيضا سورة «الأخلاق والآداب» فقد أرشدت إلى آداب المجتمع الإسلامي وكيفية تنظيمه، وأشادت بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، ونودي فيها بوصف الإيمان خمس مرات، وأصول تلك الآداب خمسة وهي: طاعة اللَّه والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعظيم شأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتثبت من الأخبار المنقولة، وتحريم السخرية بالناس، وتحريم التجسس والغيبة وسوء الظن. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الفتح من نواح ثلاث، هي: 1- في السورة المتقدمة حكم قتال الكفار، وفي هذه حكم قتال البغاة (أهل الثورة الداخلية) .

ما اشتملت عليه السورة:

2- ختمت السابقة بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وافتتحت هذه ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تذكيرا لهم بحرمتهم عند اللَّه عند ما وصفهم بكونهم أشداء رحماء، مما يقتضي محافظتهم على هذه الدرجة بطاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. 3- في كلتا السورتين تشريف وتكريم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، خصوصا في مطلع كل منهما، والتشريف يقتضي من المؤمنين الرضا بما رضي به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلح الحديبية، وألا يتركوا شيئا من احترامه قولا وفعلا. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسابقتها أحكام شرعية لكونهما مدنيتين، وهي أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من التربية القوية، والأخلاق الرصينة، حتى إنها سميت «سورة الأخلاق» فهي في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وآدابها نوعان: خاص وعام. أما الآداب الخاصة: فهي ماله علاقة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته. وقد ابتدأت السورة بها، فأوجبت طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وحذرت من المخالفة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا.. ثم أمرت بخفض الصوت أثناء خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إجلالا له وهيبة منه وتعظيما لقدرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ.. ثم طالبت المؤمنين بخطاب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفة النبوة والرسالة، لا باسمه وكنيته تعظيما واحتراما له، وجعلت خفض الصوت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من التقوى، وذمّت من يناديه من وراء حجرات نسائه كعيينة بن حصن وأشباهه، وذكرت السورة في آخرها ذمّ الامتنان على اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإيمان: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ...

ثم تحدثت عن الآداب الاجتماعية العامة: وهي المتصلة بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، مما فيه تقرير فضيلة وذم رذيلة، لإقامة دعائم المجتمع الفاضل. فأمرت المؤمنين بالتثبّت من الأخبار وعدم الإصغاء للإشاعات التي يروجها الفسّاق ويتناقلونها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ.. وأشادت بمقتضى الإيمان، وكرّهت الكفر والفسوق والعصيان. ثم أبانت طريق فض المنازعات الداخلية بين فئتين متقاتلتين من المؤمنين وهو الإصلاح، وقتال الفئة الباغية (البغاة) حتى تعود لصف الجماعة والوحدة: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وأعلنت قيام رابطة الإخاء والود بين المؤمنين، وحذرت من تفكك الجماعة المؤمنة وإثارة النزاع بين أفرادها، وتوليد الأحقاد والضغائن والكراهية بسبب السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، سواء بين الرجال أو النساء، أو بسبب سوء الظن بالمسلم والتجسس (تتبع العورات) والغيبة والنميمة. ثم أعلنت مبدأ الإخاء الإنساني، والمساواة بين الشعوب والأفراد من مختلف الأجناس والألوان والعناصر، فلا عداوة ولا طبقية ولا عنصرية، وإنما التفاضل بالتقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق. وختمت السورة بالكلام عن الأعراب، فميّزت بين الإيمان والإسلام، وذكرت غرر صفات المؤمنين وشروط المؤمن الكامل (الإيمان بالله ورسوله، والجهاد بالمال والنفس في سبيل اللَّه) وعابت المنّ على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإسلام، ووضعت ضابط احترام القيم الدينية والأخلاقية، وهو رقابة اللَّه جل جلاله لعباده، وعلمه بغيب السموات والأرض وأهلهما، وبصره بجميع أعمال الخلق.

طاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم والتأدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الحجرات (49) الآيات 1 إلى 5] :

طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والتأدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الإعراب: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ الكاف: في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: جهرا كجهر بعضكم. وأَنْ تَحْبَطَ: في موضع نصب: بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأن تحبط، ويجوز أن يكون في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف. أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ.. أُولئِكَ: إما خبر إِنَّ، أو مبتدأ، وخبره لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والجملة منهما خبر إِنَّ. ويجوز أن يكون أُولئِكَ صفة الَّذِينَ ويكون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.. خبر إِنَّ. ومَغْفِرَةٌ: إما مرفوع بالظرف، أو مبتدأ، والظرف خبر مقدم عليه، وهذا أوجه. أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أَكْثَرُهُمْ: مبتدأ، ولا يَعْقِلُونَ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ. البلاغة: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ استعارة تمثيلية، شبّه حال الذين يبدون آراءهم أمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحال من تقدم للسير أمام ملك أو حاكم عظيم، وكان عليه أدبا أن يسير خلفه.

المفردات اللغوية:

وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ تشبيه مرسل مجمل، لوجود أداة التشبيه. المفردات اللغوية: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تقدّموا أمرا أو حكما أو رأيا دونهما، أو لا تتقدموا، مأخوذ من مقدّمة الجيش: من تقدم منهم، والمراد: لا تقولوا بخلاف القرآن والسنة، والمراد ب بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أمامهما وَاتَّقُوا اللَّهَ خافوه واحذروا مخالفة أمره ونهيه في التقديم أو مخالفة الحكم وغيرهما سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم. لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي إذا كلمتموه، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أي إذا ناجيتموه، فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا إجلالا له، وخاطبوا ب «يا أيها النبي» أو «يا رسول اللَّه» . وتكرير النداء بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لمزيد الاستبصار وضبط النفس، وزيادة الاهتمام به والتعظيم له أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي لئلا «1» أو كراهة وخشية أن تحبط، أي يبطل ثواب أعمالكم، لأن في رفع الصوت والجهر استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط إذا ضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة. يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها ويلينونها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب أو مخافة مخالفة النهي امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ اختبرها، والمراد: طهرها ونقّاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة لِلتَّقْوى أي مرّنها على التقوى، وأعدها لها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب عظيم لغضهم الصوت وسائر طاعاتهم، وتنكير أَجْرٌ للتعظيم. مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أي من خلف وخارج غرف نسائه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جمع حجرة: وهي قطعة من الأرض تحجّر بحائط ونحوه مثل الغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة أمام منصب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي لو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال، لما فيه من الأدب وتعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.

_ (1) قال الزجاج: التقدير: لأن تحبط، فاللام المقدّرة لام الصيرورة.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (1) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا..: أخرج البخاري والترمذي وغيرهما عن ابن أبي مليكة أن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنه أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي أن الآيات نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس. وأخرج ابن المنذر عن الحسن البصري: أن أناسا ذبحوا قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحا، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ... وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة: أن أناسا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. نزول الآية (2) : لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل اللَّه: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية. وروي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس كان في أذنه وقر، وكان

نزول الآية (3) :

جهوري الصوت، وكان إذا كلّم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيتأذّى بصوته، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. نزول الآية (3) : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ: أخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عدي بن العجلان، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعا به، فقال: أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية. والقصة مروية أيضا في الصحيحين عن أنس بن مالك. وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كأخي السّرار «1» ، فأنزل اللَّه تعالى في أبي بكر: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ. نزول الآية (4) : إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ..: أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية.

_ (1) السرار: المسارّة، أي كصاحب السرار، أو كمثل المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف.

التفسير والبيان:

وأخرج عبد الرزاق عن قتادة: أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذاك هو اللَّه، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ الآية. وهو خبر مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء وغيره عند الترمذي، بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن. وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات، فلم يجبه، فقال: يا محمد، إن حمدي، لزين، وإن ذمي لشين، فقال «ذلكم اللَّه» . وقال محمد بن إسحاق وغيره: نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم. التفسير والبيان: هذه باقة من الآداب الخاصة في معاملة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل المؤمنين على أساس من التوقير والاحترام والتعظيم. 1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يا أيها المؤمنون إيمانا صحيحا، لا تتقدموا ولا تتعجلوا بقول أو حكم أو قضاء في أمر ما أو فعل قبل قضاء اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لكم فيه، فربما تقضون بغير حق، واتقوا اللَّه في كل أموركم، وراقبوه في عدم تخطي ما لم

يأذن به اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن اللَّه سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم، لا يخفى عليه شيء منكم. وهذا نهي واضح عن مخالفة كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر الرسول، لأنه مبلّغ عن اللَّه تعالى شرعه ودينه. قال ابن عباس في الآية: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من شرائع دينكم. والآية شاملة أيضا ترتيب مصادر الاجتهاد، أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه، حيث قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟ قال: بكتاب اللَّه تعالى، قال فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرضي رسول اللَّه» وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي اللَّه ورسوله. والخلاصة: هذا أدب شامل القول والفعل والاجتهاد، ثم ذكر اللَّه تعالى أدبا في القول فقال: 2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله إذا تكلمتم مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن رفع الصوت يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، وخفض الصوت وعدم رفعه من التعظيم والتوقير. وهذا أدب ثان أدّب اللَّه تعالى به المؤمنين، وهو أدب محمود مع كل الناس أيضا. 3- وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي وإذا كلمتموه فخاطبوه بالسكينة والوقار، خلافا لما تعتادونه من الجهر بالقول الدائر بينكم، ولا تقولوا: يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له،

وتقديرا لمهمته ورسالته التي يبلغكم بها في سكون وهدوء وعدم انزعاج وتبرم نفسي. وهذا أدب ثالث. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي نهاكم اللَّه عن الجهر غير المعتاد وعن رفع الصوت خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو أن يؤدي الاستخفاف به إلى الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك، كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن بلال بن الحارث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» . وبعد أن حذر من خطر المخالفة، رغّب اللَّه تعالى في خفض الصوت وحث عليه قائلا: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يخفضون أصواتهم في أثناء كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مجالسه، أخلص اللَّه قلوبهم للتقوى، ومحّصها، وجعلها أهلا ومحلا، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه، فكذلك هؤلاء المتأدبون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، طهر اللَّه قلوبهم من كل قبيح، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. ونحو الآية: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح 48/ 9] . روى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي اللَّه عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذم اللَّه تبارك وتعالى الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلف أو قدام الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال تعالى مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي إن الذين ينادونك من بعيد، من وراء حجرات (بيوت) نسائك، وهم جفاة بني تميم أكثرهم جهال لا يعقلون الأصول والآداب والأشياء، ولا يدركون ما يجب لك من التعظيم والاحترام. وقوله: أَكْثَرُهُمْ إما أن يراد به الكل، لأن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام، أو يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورعاية جانبه الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب. وهذا حث على التوبة والإنابة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتقديم حكم القرآن والسنة على ما سواهما. 2- تعليم العرب وغيرهم مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، إذ كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتلقيب الناس. 3- قال القرطبي وابن العربي: قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإيجاب اتباعه والاقتداء

به. وربما احتج نفاة القياس بهذه الآية، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشريعة، فليس فيه تقديم بين يديه «1» . 4- الأمر بالتقوى وإيجابها عام في كل الأوامر والنواهي الشرعية، ومنها التقدم بين يدي اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم المنهي عنه، واللَّه يراقب الناس، فهو سميع لأقوالهم، عليم بأفعالهم. 5- يجب خفض الصوت أثناء مخاطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والامتناع من الجهر بالأصوات أعلى من صوته، وإلا لم يتحقق من المؤمنين الاحترام الواجب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وليس المراد النهي عن الجهر مطلقا بحيث يلزم الهمس، وإنما النهي عن جهر مخصوص مقيد بصفة، وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب عنها. 6- ويجب أيضا على المؤمنين ألا يخاطبوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقولهم: يا محمد، ويا أحمد، ولكن: يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له. والهدف من هذين الواجبين تعظيم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته. 7- قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه اللَّه تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 302 وما بعدها، أحكام القرآن: 4/ 1701 وما بعدها.

[الأعراف 7/ 204] وكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه «1» . 8- إن النهي المذكور عن رفع الصوت هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ويوقّر الكبراء. أما الصوت المرفوع الذي يقصد به الاستخفاف والاستهانة، فلا شك أنه كفر. وأما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو ونحو ذلك، فليس منهيا عنه، لأنه لمصلحة، ففي الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما، فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته. 9- إن مخالفة النهي في الآية برفع الصوت أكثر من الحالة المتوسطة المعتادة يؤدي إلى إحباط الأعمال وإبطال الثواب. وليس قوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ويكون قوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به. 10- إن الذي يخفضون أصواتهم عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له، أولئك الذين اختص اللَّه قلوبهم للتقوى، وطهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من اللَّه والتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم وهو الجنة. 11- إن أعراب بني تميم الذين وفدوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا مسجد المدينة، ونادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين،

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1703. [.....]

الآداب العامة:

وذمّنا شين، هم قوم جهلة ذوو طباع جافة قاسية. وكانوا سبعين رجلا، وكان المنادي منهم الأقرع بن حابس، في رواية الترمذي عن البراء بن عازب، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نام للقائلة، جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر، فأعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفهم، وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. وقال مقاتل: كانوا تسعة عشر: منهم قيس بن عاصم، والزّبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن، وهو الأحمق المطاع. 12- لو انتظروا خروجه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب. 13- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حث على التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى. الآداب العامة - 1- وجوب التثبت من الأخبار [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

الإعراب:

الإعراب: فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أَنْ تُصِيبُوا: في تقديره وجهان: إما كراهية أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا. وبِجَهالَةٍ: حال من فاعل تبينوا، أي جاهلين. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أن وما بعدها سادّ مسدّ مفعولي اعْلَمُوا. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ إما مفعول لأجله، أو مصدر مؤكد لما قبله. البلاغة: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ التفات عن الخطاب للغيبة بعد قوله: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ. بين حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وبين وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ما يسمى بالمقابلة. المفردات اللغوية: فاسِقٌ خارج عن حدود الدين أو الشرع، مأخوذ من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج من قشره، والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه بِنَبَإٍ خبر فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا بيان الحقيقة ومعرفة الصدق من الكذب، وقرئ: فتثبتوا من الثبات أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً أي خشية ذلك أو كراهة إصابتكم فَتُصْبِحُوا تصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ من الخطأ بالقوم نادِمِينَ مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي فلا تقولوا الباطل، فإن اللَّه يخبره بالحال لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ الذي تخبرون به على خلاف الواقع لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك والإثم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.. استدراك ببيان عذرهم، وهو أنهم من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم الكفر، حملهم على ذلك لما سمعوا قول الفاسق وَزَيَّنَهُ حسّنه الْكُفْرَ تغطية نعم اللَّه تعالى بجحودها الْفُسُوقَ الخروج عن الحد الْعِصْيانَ المخالفة أُولئِكَ البعض المتبينون هُمُ الرَّاشِدُونَ الثابتون على دينهم، وهذه جملة معترضة، والخطاب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مأخوذ من الرشاد: وهو إصابة الحق واتباع طريق الاستقامة. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل لقوله: حَبَّبَ وَكَرَّهَ فإن التحبيب والرشد فضل من اللَّه وإنعام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ في إنعامه عليهم بالتوفيق.

سبب النزول نزول الآية (6) :

سبب النزول: نزول الآية (6) : إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة. أخرج ابن جرير وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن أبي الدنيا وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس: أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني المصطلق مصدّقا «1» ، وكان بينهما إحنة «2» ، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال: إن القوم همّوا بقتلي، ومنعوا صدقاتهم، فهمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغزوهم، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم، وقالوا: يا رسول اللَّه، سمعنا برسولك، فخرجنا نكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاتهمهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف علي رضي اللَّه عنه، فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد، فوجدهم منادين بالصلاة، متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع. ولا خلاف في أن الشخص الذي جاء بالنبإ هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، قال الحسن البصري: فو اللَّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء. وأكد الرازي ذلك بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع: المراد به

_ (1) المصدّق: الذي يأخذ صدقات (زكوات) الغنم. (2) الإحنة: الحقد، جمع إحن.

المناسبة:

من خرج عن ربقة الإيمان، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [المنافقون 63/ 6] وقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف 18/ 50] وقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة 32/ 20] «1» . لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمي فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة. المناسبة: بعد أن أمر اللَّه تعالى المؤمنين بأمرين: وهما طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخفض الصوت عند الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لبيان وجوب احترامه، أردفه بأمر ثالث وهو وجوب التثبت من الأخبار، والتحذير من الاعتماد على مجرد الأقوال، منعا من إلقاء الفتنة بين أفراد المؤمنين وجماعتهم. وهذا أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينها. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أي يا أيها الذين صدقوا باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، إن أتاكم فاجر لا يبالي بالكذب بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في الأمر والخبر لتتضح الحقيقة وتظهر، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك، مغتمين له، متمنين عدم وقوعه.

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 119

وفي تنكير فاسِقٌ وبِنَبَإٍ دلالة على العموم في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ، فتوقفوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه «1» . والآية دالة على أن خبر الواحد العدل حجة، وشهادة الفاسق لا تقبل. ثم ذكّرهم بوجود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينهم ليعظموه ويسألوه، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي اعلموا أن معكم رسول اللَّه، فعظموه ووقروه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبين حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار، وتشيرون عليه من الآراء غير الصائبة، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت، وهو التعب والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل اتضاح الأمور، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر والتأمل فيه. وإنما قال: يُطِيعُكُمْ بلفظ الاستقبال دون: أطاعكم، للدلالة على استمراره في التثبت والتحقق مما ينقل إليه من الأخبار، بدليل قوله: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء، فلو أرادوا منه الاستمرار في طاعته لهم، لوقعوا في الإثم والهلاك. وفي قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب، وإشارة إلى تصويب رأي بعضهم، ولهذا استدرك مشيرا إلى رأي بعضهم في ضرورة التريث إلى أن يتبين أمر بني المصطلق، فقال:

_ (1) الكشاف: 3/ 149

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي ولكن اللَّه حبّب أي قرّب الإيمان إلى بعضكم، وإلا لم يحسن الاستدراك ب لكِنَّ فلم يقع في ورطة التسرع في الأخبار، وعدم التثبت فيها، وكانوا أبرياء من اتهام الآخرين، لأن اللَّه جعل الإيمان أحب الأشياء إليكم، وحسّنه بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبكم، وجعل كلا من الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) مكروها عندكم. وهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين استقاموا على طريق الحق، ومقتضى الشرع، وأدب الدين، فلم ينزلقوا في اتهام غيرهم دون تثبت. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي إن اللَّه حبّب إليكم الإيمان، وكرّه إليكم الأمور الثلاثة المتقدمة تفضلا منه عليكم، وإنعاما من لدنه، واللَّه عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات الأحكام التالية: 1- وجوب التثبت من الأخبار المنقولة والروايات المروية، أخذا بالحيطة والحذر، ومنعا من إيذاء الآخرين بخطإ فادح، فيصبح المتسرع في الحكم والتصديق نادما على العجلة وترك التأمل والتأني. لذا كان نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان» «1» . 2- في هذه الآية: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ دليل على قبول خبر الواحد إذا

_ (1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن انس بن مالك، وهو ضعيف.

كان عدلا، لأنه إنما أمر المسلم في الآية بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه، بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، فالفسق علة التبين، فإن لم يوجد لم يكن علة. واستثنى الإجماع والدعاوي والإنكار والإقرار لغيره بحق على نفسه وإثبات حق مقصود على الغير أي أمور المعاملات، كأن يقال: أرسل فلان إليك كذا أو هذا مالي، ولو كان المخبر كافرا. أما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون الكافر وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها، فيلي تزويجها، وإذا ولي المال فالنكاح أولى، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفّرة، وبها يحمي الحريم. ويرى الحنفية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. والخلاصة: أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق وإثبات أحكام الدين في غير الاعتقاد. 3- استدل بعضهم بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، كما قال الألوسي. ومذهب الحنفية: أن الفاسق لا تقبل شهادته، وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه «1» . 4- استدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأن الآية دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول. 5- في الآية أيضا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم (أي اليقين) بدليل وجوب التثبت فيه، إذ لو كان يوجب العلم بحال، لما احتيج فيه إلى التثبت «2» .

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 398 (2) المرجع السابق: ص 399

6- قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوّز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبّة مال، كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين؟! ومن صلّى خلف الفاسق تجب عليه الإعادة سرا في نفسه، ولكن لا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة خلف من لا يرضى من الأئمة «1» . 7- إذا كان الفاسق واليا ينفذ من أحكامه ما وافق الحق، ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال. 8- لا خلاف في قبول قول الفاسق إذا كان رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله أو إذن يعلمه، وهذا جائز للضرورة الداعية إليه. لكن لا يقبل قوله فيما إذا تعلق بقول الفاسق حق للغير. 9- استدل بعضهم بالآية على أن من الصحابة من ليس بعدل، لأن اللَّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنها نزلت فيه، ولا يمكن إخراج سبب النزول من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق. وقال أكثر العلماء: الصحابة كلهم عدول. 10- الفاسق نوعان: فاسق غير متأول، وهذا لا خلاف في أنه لا يقبل خبره. وفاسق متأول كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وفي هذا خلاف، فمن الأصوليين كالشافعي: من ردّ شهادته وروايته معا، ومنهم من قبلهما وهم جمهور الفقهاء والمحدثين، لأن رد شهادته لتهمة الكذب، والفسق اعتقاد لا يمنع الصدق، وأما الرواية فمن احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهو على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد تحرزا. 11- إن قضى الفاسق بما يغلب على الظن، كالقضاء بالشاهدين العدلين، لم

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1703 وما بعدها.

يكن ذلك عملا بجهالة، وإنما العمل بجهالة: قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقوله. 12- إن وجود الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن، فيمنع التسرع في إصدار الأحكام، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه، لكان خطأ، ووقع في العنت (الإثم والمشقة والهلاك) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ويكون المراد من قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ألا تكذبوا، فإن اللَّه تعالى يعلم رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أنباءكم، فتفتضحون. 13- ذكر اللَّه الإيمان وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم وهي الكفر والفسوق والعصيان، والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح (الأعضاء) . والكفر: هو الإنكار وهو يقابل الإذعان بالجنان، والفسوق يقابل الإقرار باللسان، والعصيان يقابل العمل البدني، فهو ترك العمل بالطاعات والأحكام الشرعية ويشمل جميع المعاصي وهذا يعني أن المؤمن المتثبت لا يكذب. 14- استدلت الأشاعرة بقوله حَبَّبَ وَكَرَّهَ على مسألة خلق الأفعال، أي أن اللَّه تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم، لا شريك له، لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 96] . وهذا رد على القدرية «1» والإمامية والمعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق

_ (1) الجبرية والقدرية: فرقتان شاذتان في العقيدة خرجا عما عليه جمهور العلماء، تقول الأولى: إن اللَّه تعالى مجبر للعبد على فعله، وليس لإرادة الإنسان واختياره دخل حقيقي فيها وتقول الثانية: إن العبد خالق لأفعاله، دون أن يكون لله عليه سلطان فيها (الشافي شرح أصول الكافي للشيخ عبد اللَّه المظفر: 2/ 236، والكافي تأليف العلامة محمد بن يعقوب الكليني الرازي) .

أفعال نفسه. ويؤولون آية حَبَّبَ ... وَكَرَّهَ على اللطف والتوفيق. 15- إن الذين وفقهم اللَّه، فحبّب إليهم الإيمان، وكرّه إليهم الكفر، أي قبّحه عندهم هم الراشدون، واللَّه فعل ذلك بهم فضلا منه ونعمة من لدنه، والفضل: ما في خزائن اللَّه من الخير، وهو مستغن عنه، والنعمة: ما يصل من الفضل إلى العبد، وهو ما يحتاج إليه. وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتزموا إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد، وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد. 16- إن اللَّه تعالى عليم بكل شيء، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، ويأمره بما تقضي به الحكمة، فيجب الوقوف عند أمره، واجتناب الاقتراح عليه. 17- كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه يدعو دائما بمضمون الآية [7] أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

- 2 - وسائل فض المنازعات الداخلية حكم البغاة [سورة الحجرات (49) الآيات 9 إلى 10] :

اللهم أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق» . - 2- وسائل فض المنازعات الداخلية حكم البغاة [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) الإعراب: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا طائِفَتانِ: مرفوع بفعل مقدر، تقديره: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، ولا يجوز أن يحذف الفعل مع كلمات الشرط العاملة إلا مع «إن» لأنها الأصل في حروف الشرط، ويثبت للأصل ما لا يثبت للفرع.

البلاغة:

والقياس: اقتتلتا، كما قرأ ابن أبي عيلة، أو اقتتلا كما قرأ عبيد بن عمير، على تأويل الرهطين أو النفرين، وإنما قال: اقتتلوا في قراءة حفص حملا على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، فكل طائفة جماعة، والطائفة أقل من الفرقة. البلاغة: اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بينهما طباق. وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ بينهما جناس الاشتقاق. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، وأصله المؤمنون كالإخوة في التراحم. فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتحضيض. المفردات اللغوية: طائِفَتانِ تثنية طائفة: الجماعة من الناس اقْتَتَلُوا جمع الفعل، لأن الطائفتين في معنى القوم أو الناس، أو لأن أقل الجمع اثنان. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعوة إلى حكم اللَّه، وامنعوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب بَغَتْ تعدت وتجاوزت الحد وجارت، من البغي: الظلم تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أزيلوا آثار النزاع بضمان المتلفات بالإنصاف وَأَقْسِطُوا اعدلوا في كل الأمور من الإقساط: إزالة القسط وهو الجور، والقاسط: الجائر، كما في آية: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن 72/ 15] يقال: أقسط: عدل، وقسط: أخذ حق غيره، والمقسط: العادل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، أي يحمد فعلهم بحسن الجزاء. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين والعقيدة والإيمان الموجب للحياة الأبدية، فالأخوة في الدين أقوى وأدوم من أخوة النسب والصداقة، وهو تعليل للأمر بالإصلاح، لذا كرر الإشارة إلى الإخاء مرتبا عليه الأمر بالإصلاح، فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا تنازعا، وخص الاثنين بالذكر، لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق، وقرئ: إخوتكم وإخوانكم وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة حكمه والإهمال فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم.

سبب النزول نزول الآية (9) :

سبب النزول: نزول الآية (9) : وَإِنْ طائِفَتانِ..: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: «أنه قيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا نبي اللَّه، لو أتيت عبد اللَّه بن أبيّ، فانطلق إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فبال الحمار فقال: إليك عني، فو اللَّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد اللَّه بن رواحة: واللَّه، إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللَّه رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنّعال، فأنزل اللَّه فيهم: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..» . وقيل: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد اللَّه بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد اللَّه بن رواحة، فتعصب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبيّ أوسيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها، وجعلها في علّية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، وأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر اللَّه تعالى. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعون إلى الحكم، فيأبوا أن يجيبوا، فأنزل اللَّه: وَإِنْ طائِفَتانِ ...

المناسبة:

وأخرج ابن جرير أيضا عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مدارأة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنه عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعا ليحاكمه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأبى، فلم يزل الأمر، حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف. والخلاصة: يمكن أن تتعدد أسباب النزول، والوقائع المذكورة متشابهة. المناسبة: بعد أن حذر اللَّه تعالى المؤمنين من نبأ الفاسق، أبان هنا ما يترتب على خبره من الفتنة والنزاع، وربما الاقتتال، فطلب تعالى الإصلاح بالوسائل السلمية بين المتنازعين كالنصيحة والوعظ والإرشاد والتحكيم، فإن بغت إحدى الفئتين على الأخرى، فتقاتل الباغية الظالمة. ثم علل الأمر بالصلح بوجود رباط الأخوة بين الفريقين، ثم أمر الوسطاء والأطراف المتنازعة بتقوى اللَّه وطاعة أوامره. التفسير والبيان: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم اللَّه والإرشاد وإزالة الشبه وأسباب الخلاف. والتعبير بإن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع، فإنما هو نادر قليل. والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب. وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تخرج من

الإيمان، خلافا للمعتزلة والخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار. وثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيّد، ولعل اللَّه تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . فكان كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم أصلح اللَّه تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تذعن لحكم اللَّه وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم اللَّه وما أمر به من عدم البغي. والقتال يكون بالسلاح وبغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة. فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي رجعت الفئة الباغية عن بغيها، بعد القتال، ورضيت بأمر اللَّه وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم اللَّه، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى. واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن اللَّه يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور. أخرج ابن أبي حاتم والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: إن

رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا» «1» . وأخرج مسلم والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المقسطون عند اللَّه تعالى يوم القيامة على منابر من نور، على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولّوا» . ثم أمر اللَّه تعالى بالإصلاح في غير حال القتال ولو في أدنى اختلاف، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي تتميما للإرشاد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر اللَّه بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى اللَّه وخشيته والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي. ويلاحظ أنه قال: اتقوا اللَّه عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل. وكلمة إِنَّمَا للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام، لا بين الكفار. فإن كان

_ (1) إسناده جيد قوي، ورجاله على شرط الصحيح.

فقه الحياة أو الأحكام:

الكافر ذميا أو مستأمنا وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقا إن كان خصمه حربيا. وجاءت أحاديث كثيرة تؤيد أخوة الدين، جاء في الصحيح: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه» وفي الصحيح أيضا: «واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» وفي الصحيح كذلك: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضا، وشبّك بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم» . وأخرج أحمد عن سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن المؤمن من أهل الأديان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس» . فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- يجب على ولاة الأمور وحكام الدول الإسلامية الإصلاح بين فئتين متقاتلتين مسلمتين، بالدعوة إلى كتاب اللَّه لهما أو عليهما، وبالنصح والإرشاد، والجمع والتوفيق بين وجهات النظر. 2- فإن تعدّت إحدى الفئتين ولم تستجب إلى حكم اللَّه وكتابه، وتطاولت وأفسدت في الأرض، فيجب قتالها باستعمال الأخف فالأخف حتى الفيئة إلى أمر اللَّه، أي الرجوع إلى كتابه، فإن رجعت وجب حمل الفئتين على الإنصاف والعدل، فإن اللَّه يحب العادلين المحقين، ويجازيهم أحسن الجزاء. والفئة الباغية في اصطلاح الفقهاء: فرقة خالفت الإمام بتأويل سائغ في

الظاهر، باطل بطلانا مطلقا بحسب الظن لا القطع. أما المرتد فتأويله باطل قطعا، فليس باغيا، وكذا الخوارج في الاعتقاد دون قتال المسلمين وهم صنف من المبتدعة يكفّرون من أتى بمعصية كبيرة، ويسبّون بعض الأئمة، ليسوا بغاة، وكذلك مانع حق الشرع للَّه أو للعباد ليس باغيا، لأنه لا تأويل له. ولا بد أن يكون للبغاة شوكة وعدد وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي. وأكثر العلماء على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة، لقوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. وقال علي رضي اللَّه عنه: إخواننا بغوا علينا، ولكنهم يخطئون فيما يفعلون، ويذهبون إليه من التأويل، مثل الخوارج الذين خرجوا على عليّ رضي اللَّه عنه، ومثل معاوية وأتباعه كانوا بغاة للحديث المشهور أن عمارا تقتله الفئة الباغية، ومثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر. 3- في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دليل على أن المؤمن بارتكاب المعصية الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين وأكل الربا وأكل مال اليتيم لا يخرج عن كونه مؤمنا، لأن الباغي جعل من إحدى الطائفتين، وسماهما تعالى مؤمنين. 4- إن قتال الفئة الباغية لدفع الصائل. وفصل العلماء الحكم في البغاة فقالوا: إن اقتتلت فئتان على البغي منهما جميعا، أصلح بينهما، فإن لم يصطلحا وأقامتا على البغي، قوتلتا. وإن كانت إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن ترضى بالصلح، فإن تم الصلح بينها وبين المبغي عليها، وجب عقده بالقسط والعدل. فإن أثيرت شبهة أزيلت بالحجة النيّرة والبرهان القاطع الدال على الحق. وفي الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم

يقاتلوا، لأنه تعالى قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا.. «1» . 5- في الآية دليل واضح على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى إبطال قول من منع من قتال المؤمنين، محتجا بحديث أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» . ونص الآية صريح في الرد على هذا، 6- قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإياها عنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» «2» أي عمار بن ياسر. 7- لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. 8- الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلّف قوم من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن هذا الأمر، كسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمرو، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، وصوّب ذلك علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عملهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه. 9- قوله تعالى: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ يدل على أن من العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستمرار في البغي. 10- ما يبدأ به البغاة: إذا خرجت على الإمام العدل فئة خارجة باغية

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 317، أحكام القرآن للجصاص: 3/ 401 (2) أحكام القرآن: 4/ 1705

ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، وهو الحق الذي دعا اللَّه إليه قبل القتال، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم، ولا يذفّف «1» على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم «2» ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليّه لم يتوارثا، ولا يرث قاتل عمدا على حال. وأما الذين لهم تأويل بلا شوكة فيلزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال كقطاع الطرق إذا قاتلوا. 11- ما استهلكه البغاة: إن ما استهلك أثناء تجمع البغاة والخوارج للقتال والتفرق عند انتهاء الحرب من دم أو مال، لا ضمان فيه بالإجماع. 12- أموال البغاة وأسراهم وجرحاهم: اختلف الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فقال محمد بن الحسن: لا تكون أموالهم غنيمة، وإنما يستعان بسلاحهم وكراعهم (خيولهم) على حربهم، فإذا انتهت الحرب رد المال إليهم. وروي عن أبي يوسف أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح، فهو فيء يقسم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه. وقال مالك والأوزاعي والشافعي: ما استهلكه الخوارج من دم أو مال، ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ إليهم. وقال أبو حنيفة: يضمنون. وأما أسراهم وجرحاهم فلا يقتلون.

_ (1) تذفيف الجريح: الإجهاز عليه. (2) الذراري: النساء والأطفال. [.....]

والقول الأصح: ما فعله الصحابة في حروبهم، لم يتبعوا مدبرا، ولا ذفّفوا على جريح، ولا قتلوا أسيرا، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة في ذلك، قال ابن عمر قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا عبد اللَّه أتدري كيف حكم اللَّه فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: اللَّه ورسوله أعلم، فقال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها» وأخرج الحاكم مثل ذلك عن ابن مسعود، وروي مثله عن ابن عباس. أما ما كان قائما رد بعينه. 13- أقضية البغاة وأحكامهم: لو تغلب البغاة على بلد، فأخذوا الصدقات، وأقاموا الحدود، وحكموا فيهم بالأحكام، لم تثنّ عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة. وأما أقضيتهم في الخصومات، فقال أبو يوسف ومحمد: لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه، إلا أن يوافق رأيه، فيستأنف القضاء فيه «1» . 14- لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذا كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوا وأرادوا اللَّه عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد أمرنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بخير، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن سبّهم، وأن اللَّه غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة 2/ 134] . وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: «تلك دماء قد طهّر اللَّه منها يدي، فلا أخضّب بها لساني» أي

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 403

تحرزا من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. وقال ابن فورك: إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات، كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف. 15- إنما المؤمنون إخوة في الدين والحرمة، لا في النسب، ذكر القرطبي: أخوّة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوّة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب «1» . جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا «2» ، وكونوا عباد اللَّه إخوانا» . وقد سبق إيراد أحاديث كثيرة في تآخي المسلمين، فالمسلمون إخوة، وكأن الإسلام أب لهم، ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم 16- في آية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ والتي قبلها دليل كما تقدم على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن اللَّه تعالى سماهم إخوة مؤمنين، مع كونهم باغين، قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- وهو القدوة- عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفّين: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فرّوا، فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون اللَّه إلا قليلا، قيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. وفي هذه الآية دليل على جواز إطلاق لفظ الإخوة بين المؤمنين من جهة

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 322 (2) التحسس: الاستماع لحديث القوم، والتجسس: تتبع العورات والمعايب، والتناجش: أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها.

- 3 - آداب المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة [سورة الحجرات (49) الآيات 11 إلى 13] :

الدين. وقوله: فَأَصْلِحُوا دليل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما «1» . - 3- آداب المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة [سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الإعراب: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ الْفُسُوقُ: بدل من الِاسْمُ، لإفادته أنه فسق. وَلا تَجَسَّسُوا أصله: تتجسسوا، فحذف منه إحدى التاءين. لِتَعارَفُوا أصله لتتعارفوا، حذف منه إحدى التاءين. البلاغة: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ تشبيه تمثيلي، مثّل المغتاب بمن يأكل لحم الإنسان الميت، وفيه تقبيح التشبيه بأقبح الصور.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 404.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لا يَسْخَرْ لا يهزأ ولا يحتقر ولا يعيب، والسّخرية والسخرى: الازدراء والاحتقار، ويقال: سخر به وسخر منه. وقد تكون السخرية: بمحاكاة القول أو الفعل أو الإشارة. قَوْمٌ هم الرجال دون النساء، فالقوم مختص بالرجال، لأنهم قوّامون على النساء. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا، ولا تعيبوا، فتعابوا، واللمز: الطعن والتنبيه إلى المعايب بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا، ومنه: يا فاسق، ويا كافر. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الاسم والصيت، وهو المذكور من السخرية واللمز والتنابز، بأن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به، والمراد تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق أي ذكره وشهرته. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من ذلك المنهي عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فهم لا غيرهم ظلمة، بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب. اجْتَنِبُوا تباعدوا وكونوا بمنأى عنه أو على جانب منه. كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الظَّنِّ حد وسط بين العلم (اليقين) والشك أو الوهم، وهو ما يطرأ للنفس بسبب شبهة أو أمارة قوية أو ضعيفة. وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل من أي نوع، فبعض الظن واجب الاتباع كالاجتهاد في الأحكام العملية وحسن الظن بالله، وبعضه حرام كالظن في الإلهيات والنبوات، أو عند مصادمة الدليل القاطع، وظن السوء بالمؤمنين، وبعضه مباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب مؤثم موجب العقوبة عليه، وهو كثير كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين، وهو تعليل مستأنف للأمر بالاجتناب. وَلا تَجَسَّسُوا التجسس: البحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس. وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، وإن كان العيب فيه. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ أي لا يحسن به، وهو تمثيل لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفحش وجه، مع مبالغات الاستفهام المقرّر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم، وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا وميتا، وتعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ أي تقريرا وتحقيقا لذلك، أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته، وقد عرض عليكم أكل لحوم البشر فكرهتموه، فاكرهوا الغيبة التي هي مثل الأكل المذكور. وَاتَّقُوا اللَّهَ عقاب اللَّه في الاغتياب، بأن تتوبوا منه. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قابل توبة التائبين بكثرة، رحيم بهم، فيجعل صاحب التوبة كمن لم يذنب.

سبب النزول:

مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام، أو من أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب ما دام أصلهم واحدا شُعُوباً جمع شعب: وهم الجماعة من الناس التي لها وطن خاص، أو من أصل واحد كربيعة ومضر، وهو يجمع القبائل وأعم منها. وَقَبائِلَ جمع قبيلة: وهي ما دون الشعب. وطبقات النسل عند العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، مثاله: خزيمة: شعب، وكنانة: قبيلة، وقريش: عمارة، وقصي: بطن، وعبد مناف: فخذ، وهاشم: فصيلة، والعباس: عشيرة. لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضا، لا للتفاخر بالآباء والقبائل، فلا تتفاخروا بعلو النسب، وإنما الفخر بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ بالتقوى تكمل النفوس وتتفاضل الأشخاص، والتقوى: التزام المأمورات واجتناب المنهيات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي عليم بكم وبكل شيء، خبير ببواطنكم وأسراركم كجهركم. سبب النزول: نزول الآية (11) : لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللَّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللَّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية، فنكس الرجل استحياء، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت.

نزول الآية (11) أيضا:

والخلاصة: لا مانع من تعدد وقائع النزول، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نزول الآية (11) أيضا: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ: قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي: يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللَّه هذه الآية. وقيل: نزلت في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيّرن أم سلمة بالقصر. نزول الآية (11) كذلك: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال الترمذي: حسن. وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول اللَّه، إنه يكرهه، فأنزل اللَّه: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. ولفظ أحمد عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يغضب من هذا، فنزلت «1» . نزول الآية (12) : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا

_ (1) ورواه أيضا البخاري في الأدب وأهل السنن.

نزول الآية (13) :

أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت. نزول الآية (13) : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح، رقي بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه هذا يغيّره أو إن يرد اللَّه شيئا يغيره، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية، فدعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. وقال ابن عساكر في مبهماته: وجدت بخط ابن بشكوال أن أبا بكر بن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللَّه: نزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. المناسبة: بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، وإساءة الظن وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتمييز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق. ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد

التفسير والبيان:

على أنباء الفاسقين، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع، ثم أعلن وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة اللَّه في كل مكان. التفسير والبيان: هذه أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين وهي: 1- النهي عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المسخور بهم عند اللَّه خيرا من الساخرين بهم، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، فهذا حرام قطعا، ذكر فيه علة التحريم أو النهي، كما قال بعضهم: لا تهين الفقير علّك أن ... تركع يوما، والدهر قد رفعه فقوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي. وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة- «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين «1» تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على اللَّه لأبرّه» ورواه أحمد ومسلم بلفظ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه» . وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن، وأكد معنى النهي للنساء أيضا، وذلك بالأسلوب نفسه، فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء،

_ (1) الطّمر: الثوب الخلق البالي.

بصيغة الجمع، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس، فقال: ولا يسخر نساء من نساء، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات. ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء، وإنما يشمل الأفراد، لأن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة. أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير، ونقاء القلب، وإخلاص الأعمال لله عز وجل، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس. 2- النهي عن الهمز واللمز، أي التعييب بقول أو إشارة خفية: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل اللَّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه، وهذا مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا. أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» . والهماز اللماز مذموم ملعون، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة 104/ 1] . والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب اللَّه من اتصف بذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم 68/ 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال «1» .

_ (1) انظر الفروق للقرافي: الفرق بين قاعدة الغيبة وقاعدة النميمة والهمز واللمز: 4/ 209

والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معايبه، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. 3- التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي أو يا نصراني، أو يقول لأي إنسان: يا كلب، يا حمار، يا خنزير، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به. ويستثني من ذلك: أن يشتهر بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي: أبو تراب «1» ، ولخالد: سيف اللَّه، ولعمرو بن العاص: داهية الإسلام. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق: هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد: ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز

_ (1) لما عليه من التراب عند ما أيقظه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نومه تحت نخيل في أرض بني مدلج.

بالألقاب مع الإيمان، وذلك تغليظ وتنفير شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وهو تعليل للنهي السابق. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يتب عما نهى اللَّه عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعريض النفس للعذاب. وسبب وصف العصاة بالظلم: أن الإصرار على المنهي كفر، إذ جعل المنهي كالمأمور، فوضع الشيء في غير موضعه. 4- النهي عن سوء الظن وتحريمه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فيشمل بعض الظن، وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، وهذا هو الظن القبيح، وهو متعلق بمن ظاهره الصلاح والخير والأمانة. أما أهل السوء والفسوق المجاهرون بالفجور، كمن يسكر علانية أو يصاحب الفاجرات، فيجوز ظن السوء به لتجنبه والتحذير من سلوكه، دون تكلم عليه، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم. ثم علل اللَّه تعالى النهي بأن بعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم أي موقع في الإثم، لنهي اللَّه عنه، كما قال تعالى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح 48/ 12] أي هلكى. وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم سوء الظن بالمؤمن، منها ما رواه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يطوف بالكعبة

ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند اللَّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا» . قال ابن عباس في الآية: نهى اللَّه المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيرا. ومنها ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا» . وفي رواية أخرى لمسلم والترمذي: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» والتدابر: الهجر والقطيعة. 5- تحريم التجسس: وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم، فالتجسس: البحث عما هو مكتوم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم. أما التجسس: فهو البحث عن الأخبار، والاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم. أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، فضحه اللَّه في قعر بيته» . وأخرج الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي اللَّه عنه قال: قال

رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة «1» والحسد وسوء الظن، فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول اللَّه ممن هن فيه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا حسدت فاستغفر اللَّه، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيّرت فامض» . وأخرج أبو داود أيضا عن أبي أمامة وآخرين من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم» . قال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك اللَّه عن التجسس، فخرج عمر وتركه. 6- تحريم الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، سواء أكان الذكر

_ (1) الطيرة: ما يتشاءم به من الفأل الرديء، والأدق أن يقال: التطير: هو الظن السيء الكائن في القلب، والطيرة: هو الفعل المرتب على هذا الظن من فرار أو غيره، وكلاهما حرام، لأنه «كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب الفأل الحسن، ويكره الطيرة» ولأنها من باب سوء الظن بالله تعالى. والفأل: هو ما يظن عنده الخير، عكس الطيرة والتطير، والفأل الحسن: كالكلمة الحسنة والتسمية بالاسم الحسن، والفأل الحرام: كأخذ الفأل من المصحف وضرب الرمل والقرعة والضرب بالشعير، وجميع هذا النوع حرام، لأنه من باب الاستقسام بالأزلام. والأزلام: أعواد كانت في الجاهلية: مكتوب على أحدهما: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، وعلى الآخر: غفل، فيخرج أحدها، فإن وجد عليه: افعل، أقدم على حاجته، أو لا تفعل، أعرض عنها واعتقد أنها ذميمة، أو خرج المكتوب عليه: غفل، أعاد الضرب، فهو طلب قسمة الغيب بتلك الأعواد، ويسمى استقساما، أي طلب القسم الجيد من الرديء (انظر الفروق للقرافي، الفرق بين قاعدة التطير وقاعدة الطيرة وما يحرم منهما وما يحرم منهما وما لا يحرم، والفرق بين قاعدة الطيرة وقاعدة الفأل الحلال والفأل الحرام: 4/ 238، 240) .

صراحة أم إشارة أم نحو ذلك، لما فيه من الأذى بالمغتاب. وهو يتناول كل ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، في خلقه أو خلقه، في ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو لباسه ونحو ذلك. وقد فسر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الغيبة فيما رواه أبو داود والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» أي فإن كان الوصف موجودا فيه فهو الغيبة، وإن كان مفترى والمغتاب خال من ذلك، فذلك هو البهتان. وروى أبو داود أيضا عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: حسبك من صفية كذا وكذا- أي قصيرة- فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قال معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت: هذا أقطع كان غيبة. ثم شبّه اللَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو أيحب أحدكم أن يتناول لحم أخيه بعد موته؟ فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا، فإنه تعالى مثّل الغيبة بأكل جثة الإنسان الميت، وهذا من التنفير، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، فضلا عن كونه محرّما شرعا، وفي الآية أنواع من المبالغات: منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، وإسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ للإشعار بأن لا أحد يحب ذلك، وتقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، وتقييد الإنسان بالأخ، وجعل الأخ أو اللحم ميتا، فيه مزيد تنفير للطبع. وهذا دليل على تحريم الغيبة وعلى قبحها شرعا، لذا كانت الغيبة محرّمة بالإجماع وعلى المغتاب التوبة إلى اللَّه والاستحلال ممن اغتابه، ولا يستثني من

ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر فيما رواه البخاري عن عائشة: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة» . وكقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له» «1» . وتحريم الغيبة مرتبط بحماية الكرامة الإنسانية، ثبت في الأحاديث الصحيحة من غير وجه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» . وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» . وروى أبو داود أيضا عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع اللَّه عورته، ومن يتبع اللَّه عورته، يفضحه في بيته» . وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي واتقوا اللَّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، وأكرهوا الغيبة وتباعدوا عنها، إن اللَّه تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه واعتمد عليه. قال جمهور العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، وأن يعزم على ألا يعود، ويندم على ما فعل، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك، ربما تأذى أشد مما إذا لم

_ (1) سبل السلام: 3/ 129 ط البابي الحلبي.

يعلم بما كان منه، فطريقه إذن أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك، كما روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس الجهني رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث اللَّه تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه، حبسه اللَّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» . 7- المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ، والتفاضل بالتقوى: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ كان النداء السابق لأهل الإيمان لتأديبهم بالأخلاق الفاضلة، ونادى هنا بصفة الناس الذي هو اسم الجنس الإنساني، ليناسب بيان المطلوب، ويؤكد ما نهى عنه سابقا، وليعمم الخطاب للناس جميعا منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. والمعنى: أيها البشر، إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، من نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة، فلا موضع للتفاخر بالأنساب، فالكل سواء، ولا يصح أن يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا، وأنتم إخوة في النسب. وقد جعلناكم شعوبا (أمة كبيرة تجمع قبائل) وقبائل دونها لتتعارفوا لا لتتناكروا وتتحالفوا، والمقصود أن اللَّه سبحانه خلقكم لأجل التعارف، لا للتفاخر بالأنساب. وإن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن اتصف بها كان هو الأكرم والأشرف والأفضل، فدعوا التفاخر، إن اللَّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير ببواطنكم وأحوالكم وأموركم.

والآية دليل للمالكية الذين لم يشترطوا الكفاءة في الزواج، سوى الدين، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. وقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على اللَّه تعالى من الجعلان» . وروى ابن أبي حاتم والترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخا في المسجد، حتى نزل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل، فأنيخت، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبهم على راحلته، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا أيها الناس، إن اللَّه تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقي كريم على اللَّه تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على اللَّه تعالى، إن اللَّه عز وجل يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم» «1» . وروى الطبري في آداب النفوس قال: «خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال: يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلّغ الشاهد الغائب» .

_ (1) فيه راو ضعيف، وهو عبد اللَّه بن جعفر، والد علي بن المديني.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد تقدم ذكر حديث مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وعند الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللَّه عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- حرّم اللَّه تعالى بدلالة النهي في الآية الأولى ثلاثة أشياء: هي السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ومن فعل ما نهى اللَّه عنه منها فذلك فسوق، وهو لا يجوز، وهو من الظالمين أنفسهم بتعريضها بسبب ظلمه غيره إلى العذاب والعقاب إن لم يتب. والعلة واضحة وهي احتمال أن يكون المسخور منه والملموز والملقّب خيرا ممن عابه. واستثني من التنابز بالألقاب المكروهة من غلب عليه اللقب في الاستعمال والشهرة، فلم يعد يعرف إلا بها، كالأعرج والأحدب والأعمش. أما الألقاب الحسنة كالصدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذي النورين لعثمان، وتلقيب خزيمة بذي الشهادتين، وأبي هريرة بذي الشمالين، والخرباق بن عمرو بذي اليدين، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، فذلك جائز مقبول مألوف بين العرب والعجم. لهذا كانت التسمية بالأسماء الحسنة مطلوبة. ذكر الزمخشري: روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه. وكانت التكنية من السنة والأدب الحسن» قال عمر رضي اللَّه عنه: «أشيعوا الكنى فإنها منبّهة، وقد لقّب أبو بكر بالعتيق

والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير» . 2- كذلك حرّم اللَّه سبحانه بدلالة النهي أيضا في الآية الثانية ثلاثة أشياء: هي سوء الظن بأهل الخير والصلاح والإيمان، والتجسس، والغيبة. والظن أنواع «1» : الأول- ظن واجب أو مأمور به: كحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين، كما جاء في الحديث القدسي فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا عند ظن عبدي بي» وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» وقال أيضا فيما رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «حسن الظن من حسن العبادة» ومثل قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات غير المقدرة شرعا. الثاني- ظن محظور أو حرام: كسوء الظن بالله، وبأهل الصلاح، وبالمسلمين مستوري الحال، ظاهري العدالة، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السوء» ذكره القرطبي والألوسي ، وقال أيضا عن عائشة مرفوعا: «من أساء بأخيه الظن فقد أساء الظن بربه، إن اللَّه تعالى يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن» . روى أبو داود عن صفية قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معتكفا. فأتيته أزوره ليلا، فحدثته وقمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني «2» ، وكان مسكنها في دار

_ (1) انظر وقارن وراجع عمدة القاري شرح البخاري للعيني: 22/ 137، الطباعة المنيرية، 18/ 179 ط البابي الحلبي. (2) أي فانصرفت فقام معي ليصرفني.

أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، قالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو سوءا» «1» . أما من يجاهر بالخبائث أو يتعاطى الريب، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر اللَّه أن يتجنب الإنسان مواضع الريبة ومواقف التهم. الثالث- ظن مندوب إليه: كإحسان الظن بالأخ المسلم، وإساءة الظن إذا كان المظنون به ظاهر الفسق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من الحزم سوء الظن» وقال أيضا فيما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس، وهو ضعيف: «احترسوا من الناس بسوء الظن» . فإذا كان الظن لاتقاء الشر ولا يتعدى إلى الغير، فهو من هذا النوع، محمود غير مذموم، وعليه يحمل هذان الحديثان، وما جاء في الحكم: «حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة» . وحرمة سوء الظن بالناس: إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير. الرابع- ظن مباح: كالظن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية العملية بالاجتهاد، والعمل بغالب الظن في الشك في الصلاة، كم صلّى ثلاثا أو أربعا. وأما التجسس فهو من الكبائر وهو البحث عن الأمور المكتومة أو السرية، ومنه الجاسوس، وكذلك التحسس وهو الاستماع لحديث القوم وهم له كارهون حرام أيضا، لكنه قد يستعمل في البحث عن الخير، كما قال تعالى: فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف 12/ 87] . والغيبة أيضا حرام، وهي من الكبائر بالإجماع كما ذكر القرطبي، وأن من

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 406 [.....]

اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى اللَّه عز وجل، مع استحلال المغتاب في رأي جماعة، ودون استحلاله في رأي آخرين كما تقدم. والفرق بين الغيبة والإفك والبهتان: أن الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، والإفك: أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه. واللَّه تعالى نفرّ من الغيبة أشد تنفير، مشبها الاغتياب بأكل لحم الإنسان ميتا. وقد ذكر العلماء أشياء ليس لها حكم الغيبة، فالغيبة لا تحرم إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا به وهي ستة أمور «1» : الأول- التظلم: فلمن ظلم تقديم شكوى للحاكم لإزالة ظلمه، لحديث أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا» وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «مطل الغني ظلم» أو «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الشريد. الثاني- الاستعانة على تغيير المنكر: بأن يذكره لمن يظن قدرته على تغييره، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] . الثالث- الاستفتاء: كأن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟ لقول هند للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن عائشة: «إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم فخذي» . الرابع- التحذير من الفسّاق: فلا غيبة لفاسق فاجر كمدمن خمر وارتياد أماكن الفجور، للحديث الذي رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي عن بهز بن حكيم: «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» وفي رواية للبيهقي

_ (1) انظر الإحياء للغزالي: 3/ 132

عن أنس، وهو ضعيف: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له، واتقوا اللَّه فيما نهاكم، وتوبوا فيما وجد منكم» «1» . الخامس- التحذير من سر عام: كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، ونصح الخاطب والشريك ونحو ذلك. السادس- التعريف بلقب مشهور إذا لم تمكن المعرفة بغيره، كالأعور والأعمش والأعرج. وصنف القرافي ما استثناه العلماء من الغيبة المحرمة وهي ست صور كما يلي: النصيحة، والتجريح والتعديل في الشهود، والمعلن بالفسوق، وأرباب البدع والتصانيف المضلة، ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها، والعلم السابق بالمغتاب به بين المغتاب والمغتاب عنده، والدعوى عند ولاة الأمور «2» . 3- ذكرت الآية الثالثة ثلاثة أشياء: المساواة، وتعارف المجتمع الإنساني، وحصر التفاضل بالتقوى والعمل الصالح. أما المساواة: فالناس سواسية كأسنان المشط في الأصل والمنشأ الإنساني، فهم من أب وأم واحدة، وفي الحقوق والواجبات التشريعية، وهذه أصول الديمقراطية الحقة. وقد أبان اللَّه أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، ولو شاء لخلقه من غيرهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء، أو دون أب كخلقه عيسى عليه السلام. وأما التعارف: فإن اللَّه خلق الخلق أنسابا وأصهارا، وقبائل وشعوبا من أجل التعارف والتواصل والتعاون، لا للتناكر والتقاطع، والمعاداة واللمز والسخرية والغيبة المؤدية إلى التنازع والعداوة، ولا للتفاخر بالأنساب والأعراق

_ (1) أما حديث «لا غيبة لفاسق» فلم يصح. (2) الفروق: الفرق بين الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم: 4/ 205- 208

والأصول، فكل ذلك اعتبارات وهمية مصطنعة تتعارض مع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني. وأما التقوى: فهي ميزان التفاضل بين الناس، فالأكرم عند اللَّه، الأرفع منزلة لديه تعالى في الدنيا والآخرة هو الأتقى الأصلح لنفسه وللجماعة، فإن حدث تفاخر فليكن بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات. أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الحسب المال، والكرم التقوى» وفي حديث آخر: «من أحب أن يكون أكرم الناس، فليتق اللَّه» . وعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع وأنسابكم، أين المتقون، أين المتقون؟!» . وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نسب أقرب من نسب، يأتي الناس بالأعمال، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، فأقول: هكذا وهكذا» وأعرض في كل عطفيه. 4- احتج مالك بآية إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج إلا الدين، فيجوز زواج الموالي بالعربية، وقد تزوج سالم مولى امرأة من الأنصار هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، فالكفاءة إنما تراعى في الدّين فقط. قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الذي رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) : «تنكح المرأة لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدّين، تربت يداك» . وقال الجمهور: يراعى الحسب والمال، عملا بالأعراف، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.

أصول الإيمان الصحيح [سورة الحجرات (49) الآيات 14 إلى 18] :

أصول الإيمان الصحيح [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) الإعراب: لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يَلِتْكُمْ: من لات يليت، مثل باع يبيع، وقرئ: لا يألتكم، من ألت يألت، والقراءتان بمعنى واحد، يقال: لات يليت، وألت يألت: إذا نقصه. لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ منصوب بنزع الخافض أي بإسلامكم، أو يضمن الفعل معنى الاعتداد. البلاغة: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا بينهما طباق السلب. أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ استفهام إنكاري للتوبيخ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الْأَعْرابُ سكان البادية. آمَنَّا صدّقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا الأوامر، والإيمان: التصديق بالقلب مع الثقة والطمأنينة. أَسْلَمْنا انقدنا ظاهرا، والإسلام: الاستسلام والانقياد الظاهري وإظهار الشهادتين وترك المحاربة. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ لم يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن، لكنه يتوقع منكم. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق. لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم. مِنْ أَعْمالِكُمْ من ثواب أعمالكم. وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المؤمنين. رَحِيمٌ بالتفضل عليهم. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الصادقو الإيمان، بدليل ما بعده. لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا في شيء من الإيمان. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعة اللَّه ورضوانه. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ هم الذين صدقوا في إيمانهم، لا من قالوا: آمنا ولم تؤمن قلوبهم، ولم يوجد منهم غير الإسلام الظاهري. أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ أتخبرونه بقولكم: آمنا؟. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ.. لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. يَمُنُّونَ يمتنون ويعدون إسلامهم عليك منّة ونعمة مسداة لك. لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تمتنوا علي بإسلامكم. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي بحسب زعمكم، علما بأن الهداية لا تستلزم الاهتداء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فلله المنة والفضل عليكم. غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما غاب فيهما. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سركم وعلانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟. سبب النزول: نزول الآية (14) : قالَتِ الْأَعْرابُ: نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية «1» .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 225

المناسبة:

وقال السّدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا: آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا «1» . المناسبة: بعد أن حث اللَّه تعالى على التقوى، قالت الأعراب: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم اللَّه تعالى، وأبان ضعف إيمانهم، وحدد أصول الإيمان الصحيح: وهي التصديق بالله ورسوله، والإخلاص في القلب، والجهاد بالنفس والمال في سبيل اللَّه وطاعته وإعلاء دينه، وأخبر بأن اللَّه يعلم ما في السرائر والعلانية، فيعلم ما هم عليه من ضعف الإيمان وقوته، وأفاد بأنه لا ينبغي لمؤمن أن يمتن على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بإيمانه، بل اللَّه يمن عليه بتوفيقه للهداية على يد رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. التفسير والبيان: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي قالت جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام مدعين لأنفسهم مقام الإيمان: صدقنا بالله ورسوله وتمكن الإيمان في قلوبنا، فرد اللَّه تعالى عليهم مبينا لهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل، ولم يصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة وثقة تامة بالله عز وجل، وأمرهم بأن يقولوا: انقدنا لك يا رسول اللَّه واستسلمنا، وسالمناك فلا نحاربك. وأعلمهم بأنه لن يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد، بل كان مجرد قول باللسان، دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، لذا جاء النفي ب لَمَّا حرف الجزم الدال على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار. وقوله: لَمْ تُؤْمِنُوا لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا.

_ (1) تفسير القرطبي: 16/ 348

وقد دلت الآية الكريمة على أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب، فهو تصديق القلب مع الطمأنينة والثقة باللَّه، والإسلام أعم، فهو مجرد نطق باللسان بالشهادتين وإظهار الانقياد والخضوع لما جاء به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وهذا لا يمنع أن المؤمن والمسلم واحد عند بعض أهل السنة «1» ، بدليل قوله تعالى عن لوط عليه السلام ومن آمن معه: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات 51/ 35- 36] . ثم حرضهم اللَّه تعالى على الإيمان الصادق بقوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وإن تطيعوا اللَّه ورسوله إطاعة تامة، وتخلصوا العمل وتصدقوا تصديقا صحيحا، لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، واللَّه تعالى غفور ستار لمن تاب إليه وأناب وأخلص العمل، رحيم به فلا يعذبه بعد التوبة. وفيه حث على التوبة من الأعمال السالفة، وتسلية لقلوب من تأخر إيمانه، فالله تعالى يغفر لكم في كل وقت ما قد سلف، ويرحمكم بما أتيتم به. ونظير الآية: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور 52/ 21] . ثم أبان اللَّه تعالى صفات المؤمنين وحقيقة الإيمان بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي إنما المؤمنون إيمانا صحيحا خالصا وهم المؤمنون الكمّل هم الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم تصديقا

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 141

تاما بالقلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكّوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة اللَّه وابتغاء مرضاته، قاصدين بجهادهم إعلاء كلمة اللَّه ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون بالاتصاف بصفة الإيمان، والدخول في عداد المؤمنين، لا كبعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام، ولم يطمئن الإيمان في قلوبهم. روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه، والذي يأمنه الناس على أموالهم بأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه اللَّه عز وجل» . ثم عرفهم اللَّه تعالى بأنه عالم بحقيقة أمرهم قائلا: قُلْ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قل لهم أيها الرسول: أتخبرون اللَّه بما في ضمائركم من الدين، ليعلم بذلك حيث قلتم: آمنا؟ واللَّه عالم لا يخفى عليه شيء، يعلم كل ما في السموات وما في الأرض من جمادات ونباتات وحيوانات وإنس وجن، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟ واللَّه لا تخفى عليه خافية من ذلك، يعلم بكل شيء، فاحذروا أن تدّعوا شيئا خلاف ما في قلوبكم. وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون للَّه، وأنتم أظهرتموه لنا، لا لله، فلا يقبل ذلك منكم. ثم أوضح اللَّه تعالى أن إسلامهم لم يكن لله، فقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها

فقه الحياة أو الأحكام:

النبي، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فرد اللَّه تعالى عليهم قائلا: قُلْ: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل أيها الرسول: لا تعدوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، فهو سبحانه الذي يمن عليكم، إذ أرشدكم إلى الإيمان وأراكم طريقه، ووفقكم لقبول الدين، إن كنتم صادقين فيما تدعونه. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان. وذلك كما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للأنصار يوم حنين: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم اللَّه بي؟ وكنتم متفرقين فألّفكم اللَّه بي؟ وكنتم عالة فأغناكم اللَّه بي؟ قالوا: بلى، اللَّه ورسوله أمنّ وأفضل» . ثم أكد اللَّه تعالى علمه بكل شيء، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي إن اللَّه عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السموات والأرض، ومن جملة ذلك: ما يسّره كل إنسان في نفسه، واللَّه مطّلع على كل شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم بالخير خيرا، وبالشر شرا. والآية تكرار وتأكيد الإخبار بعلم اللَّه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، ليترسخ ذلك في الأذهان، ويستقر في أعماق القلوب، ويتمثل دائما في النفوس. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- موضوع الآيات توبيخ من في إيمانه ضعف بعد الآيات السابقة التي فيها حث عموم الناس على تقوى اللَّه تعالى.

فلا يكفي الإسلام الظاهري، وإنما لا بد من الإيمان والإذعان القلبي، ولا يكفي الإسلام اللغوي، وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل، ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم. 2- إن أخلص الناس الإيمان لله تعالى وفّر لهم ثوابا عظيما لأعمالهم، ولم ينقصهم شيئا من أجورهم. 3- لا حرج على من تأخر إيمانه، فالله سبحانه غفار لذنوب عباده كلها بمشيئته، رحيم بهم فلا يعذبهم بعد التوبة. 4- إن عناصر الإيمان الجوهرية في الآية: هي الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإيمان بأن محمدا رسول اللَّه وخاتم الأنبياء والرسل، وعدم الارتياب في شيء، بل لا بد من عقيدة ثابتة ويقين كامل لا يتزعزع أبدا، والجهاد في سبيل اللَّه بالأموال والأنفس محكّ الإيمان ودليله، والمؤمنون هم الذين صدّقوا ولم يشكّوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة، وهم الذين صدقوا في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. ويجب أن يكون الجهاد من أجل نصرة دين اللَّه والدعوة إلى سبيله، أو لاسترداد الحقوق المغتصبة والبلاد المحتلة، لذا قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري: «من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه» وقال تعالى في الدفاع عن البلاد: وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران 3/ 167] . 5- لا حاجة لإعلام اللَّه تعالى بأن الإنسان مؤمن، فهو سبحانه يعلم بالدين الذي يكون الناس عليه، ويعلم كل شيء في الكون، والآية تجهيل لهم في قوله: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟. 6- إن نفع الإيمان يعود للمؤمن نفسه، فلا يصح لأحد أن يمتن بإسلامه على

أحد، بل المنة والفضل والنعمة لله عز وجل الذي وفق عباده للإيمان، وأرشدهم إليه ودلّهم عليه. والصادقون هم الذين يعترفون بهداية اللَّه لهم، والهداية هنا بمعنى الدلالة. وقوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريض بأن الأعراب سبب النزول كاذبون، ولهذا قال تعالى: قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وذلك تأديب لهم. 7- ظاهر الآية يدل على أن أولئك الأعراب لم يكونوا مؤمنين إيمانا صحيحا، بل كانوا مسلمين إسلاما ظاهريا، والإيمان أخص، والإسلام أعم، كما تقدم، ولم يكونوا منافقين، فلو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما فعل اللَّه تعالى في سورة براءة. 8- إن اللَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك ما في الضمائر والقلوب، فهو تعالى يعلم الإيمان الحقيقي من الإيمان الكاذب، ويعلم المقاصد والغايات، والمخاوف والأطماع، والبواعث التي تدفع إلى الدخول في الإسلام.

سورة ق:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة ق مكيّة، وهي خمس وأربعون آية. تسميتها: سميت سورة ق تسمية لها بما افتتحت به من أحرف الهجاء، كقوله تعالى: ص، ن، الم، حم، طس قال الشعبي: ق: فاتحة السورة. مناسبتها لما قبلها: أخبر اللَّه تعالى في آخر سورة الحجرات المتقدمة أن أولئك الأعراب الذين قالوا: آمنا، لم يكن إيمانهم حقا، وذلك دليل على إنكار النبوة وإنكار البعث، فافتتح هذه السورة بوصف إنكار المشركين نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنكار البعث، ثم رد عليهم بالدليل القاطع. ما اشتملت عليه السورة: بما أن هذه السورة مكية بالإجماع، فموضوعها مثل موضوعات سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد، والبعث، والنبوة والرسالة، ولكنها عنيت بالأصل الثاني وهو البعث وإثباته والرد على منكريه. لذا ابتدأت بالكلام عن إنكار مشركي العرب وقريش أمر البعث والنشور، وأمر النبوة ورسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعجبهم من إرسال رسول منذر منهم، ومن

إعادة الحياة بعد الممات، فأقسم اللَّه بالقرآن المجيد قائلا: ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ... ومن أجل الاستدلال على قدرة اللَّه الباهرة على البعث وغيره، حثّت الآيات بعدئذ على التأمل في صفحة الكون، والنظر في السماء وبنائها وزينتها، وفي الأرض وجبالها وزروعها ونباتاتها وأمطارها: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ.. الآيات. ثم أثارت دواعي التفكر وأقامت العبر والعظات في إهلاك الأمم السابقة المكذبة بالرسل، كقوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود وعاد وفرعون ولوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب وقوم تبّع، تحذيرا لكفار مكة أن يصيبهم مثلما أصاب غيرهم: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ.. الآيات. وانتقلت الآيات للحديث عن الإنسان ومسئوليته وملازمة الملكين له لرصد أعماله وأقواله ومراقبة أحواله، وطيّ صحيفته بسكرة الموت، وتعرضه لأهوال الحشر وأهوال الحساب: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ الآيات، وأعقبت كل ذلك بضرورة العبرة والتذكر بتلك الأحداث الكبرى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ... وختمت السورة الكريمة بمشاهد عظيمة، من خلق السموات والأرض وما بينهما، وسماع صيحة الحق للخروج من القبور، وتشقق الأرض عن الأموات سراعا، وتخلل ذلك أمر الرسول وأتباعه بالصبر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وعدم المبالاة بإنكار المشركين البعث وتهديدهم عليه، والتذكير بالقرآن من وعيد اللَّه وعقابه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ.. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ.. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. الآيات.

فضل السورة:

فضل السورة: تقرأ هذه السورة في الأحداث الكبرى والمجامع العامة، كالجمع والعيدين، لتذكير الناس ببدء الخلق، ومظاهر الحياة، وعقوبات الدنيا، والبعث والنشور، والجنة والنار، والثواب والعقاب. وأدلة سنّية قراءتها في تلك المناسبات أحاديث، منها حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وكانت صلاته بعد تخفيفا. وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا عن لسان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. والسبب أن العيد يوم الزينة والفرح، فينبغي ألا ينسى الإنسان خروجه إلى ساحات الحساب، فلا يكون فرحا فخورا، ولا فاسقا فاجرا، فيتذكر بالقرآن كما في بداية السورة: ق وَالْقُرْآنِ ونهايتها: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ويتأمل في قوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وقوله تعالى: كَذلِكَ الْخُرُوجُ وقوله سبحانه: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ. أوجه الشبه بين سورة ق وسورة ص: لاحظ العلماء وجهي شبه بين سورتي ص وق وهما «1» :

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 145 بتصرف.

إنكار المشركين البعث والرد عليهم [سورة ق (50) الآيات 1 إلى 11] :

أولا- تشترك السورتان في افتتاح أولها بحرف واحد من حروف الهجاء، والقسم بالقرآن، وقوله: بَلْ والتعجب. كما أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، ففي أول ص: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ وفي آخرها: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وفي أول ق: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وفي آخرها: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فافتتح بما اختتم به. أي أن السورتين تبدأ ان بحرف هجاء، وتبتدئان وتنتهيان بالتحدث عن القرآن. ثانيا- عنيت سورة ص بتقرير الأصل الأول وهو التوحيد، في قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، وعنيت سورة ق بتقرير الأصل الثاني وهو الحشر، في قوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. وبدئت وختمت كل سورة بما يناسبها، فكان افتتاح سورة ص في تقرير المبدأ، ثم قال تعالى في آخرها: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ لحكاية بدء الخلق، لأنه دليل الوحدانية، وكان افتتاح سورة ق لبيان الحشر، ثم قال سبحانه في آخرها: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ فاتفق بدء كل سورة مع خاتمتها. إنكار المشركين البعث والرّد عليهم [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

الإعراب:

الإعراب: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم، وجوابه: إما محذوف تقديره: «ليبعثن» أو جوابه قَدْ عَلِمْنا أي لقد علمنا، فحذفت اللام كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس 91/ 9] أو يكون ما قبل القسم قام مقام الجواب على رأي من يرى أن معنى ق: قضي الأمر، وهو الذي قام مقام الجواب، ودلّ ق عليه. والمعنى: أقسم بالقرآن أنك جئتهم منذرا بالبعث، فلم يقبلوا، بل عجبوا، وهو إضراب إبطالي. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً عامل إِذا فعل مقدر دلّ عليه الكلام، تقديره: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا، ولا يعمل فيه مِتْنا لأنه محل مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وَالْأَرْضَ معطوف على موضع إِلَى السَّماءِ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى منصوبان على المفعول لأجله. وَحَبَّ الْحَصِيدِ تقديره: وحبّ الزرع الحصيد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. باسِقاتٍ حال. رِزْقاً لِلْعِبادِ منصوب إما مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر. البلاغة: فَقالَ الْكافِرُونَ إظهار في موضع مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً استفهام إنكاري لاستبعاد البعث. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إضراب عن الكلام السابق لبيان ما هو أشنع من التعجب، وهو التكذيب بآيات اللَّه وبرسوله.

المفردات اللغوية:

كَذلِكَ الْخُرُوجُ تشبيه مرسل مجمل، شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة. المفردات اللغوية: ق حرف هجاء، يقرأ هكذا: قاف، بإسكان القاف. للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة ما يتلى بعده من الأحكام والأحداث. قال أبو حيان: ق: حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها، فاطّرحت نقلها في كتابي هذا. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم من اللَّه تعالى بالقرآن ذي المجد والشرف على سائر الكتب، ولكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي، قال الراغب: المجد: السعة في الكرم. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم ويخوفهم بالنار بعد بعث رسول من أنفسهم ومن جنسهم. فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي هذا الإنذار، وهو حكاية لتعجبهم، قال البيضاوي: وهذا إشارة إلى اختيار اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم للرسالة، وإضمار ذكرهم، ثم تسجيل الكفر عليهم بذلك. أَإِذا مِتْنا أي أنبعث أو نرجع إذا متنا. ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي ذلك البعث بعث أو رجوع بعد الموت في غاية البعد عن التصديق والإمكان والعادة. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ تأكل من أجسادهم بعد موتهم، وهو ردّ لاستبعادهم. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ هو اللوح المحفوظ، والحافظ لجميع الأشياء المقدرة وتفاصيلها كلها، وهو تأكيد لعلمه بما يحدث. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات وبالقرآن. فَهُمْ في شأن القرآن والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب، وهو قولهم تارة: إنه شاعر وشعر، وتارة: إنه ساحر وسحر، وتارة: إنه كاهن وكهانة. أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللَّه تعالى في خلق العالم. كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَزَيَّنَّاها بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ شقوق وفتوق تعيبها. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها أي بحسب نظر الإنسان الجزئي إلى الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، لا بالنظرة الكلية الشاملة للأرض، فهي كروية، كما أثبت العلم القديم والحديث، وبخاصة بعد غزو الفضاء وإطلاق الصواريخ ورؤية روّاد الفضاء أنها كرة معلّقة في هذا الكون. رَواسِيَ أي جبالا ثوابت لحفظ الأرض من الاضطراب. زَوْجٍ صنف من النبات. بَهِيجٍ حسن مبهج.

التفسير والبيان:

تَبْصِرَةً وَذِكْرى تبصيرا منا وتذكيرا. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجّاع إلى طاعة اللَّه وتوّاب، متفكر في بدائع صنع اللَّه تعالى. ماءً مُبارَكاً كثيرا الخير والبركة والمنافع. جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار وأثمار. وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حبّ الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير وغيرهما، والْحَصِيدِ المحصود. باسِقاتٍ طوالا. طَلْعٌ ما ينمو ويصير بلحا، ثم رطبا، ثم تمرا. نَضِيدٌ منضود، متراكب بعضه فوق بعض. رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل فَأَنْبَتْنا، أو مصدر فإن الإنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدباء لانماء فيها، والميت: يستوي فيه المذكر والمؤنث. كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي من القبور، والمعنى كما أحييت هذه البلدة بالماء، يكون خروجكم أحياء بعد موتكم. التفسير والبيان: ق عرفنا أنها حرف هجاء، لتحدي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن أو آية منه ما دام القرآن مكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها، وهي أيضا للتنبيه إلى أهمية ما يأتي بعدها. وأكثر ما جاء القسم بحرف واحد إذا أتى بعده وصف القرآن، كما أن أغلب القسم بالحروف ذكر بعده القرآن أو الكتاب أو التنزيل. وذكر الرازي تصنيفا دقيقا للقسم من اللَّه بالحروف الهجائية وغيرها، وهو بإيجاز ما يأتي «1» : أ- وقع القسم من اللَّه بأمر واحد، مثل وَالْعَصْرِ وَالنَّجْمِ، وبحرف واحد مثل: ص، ون. ب- ووقع بأمرين، مثل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وبحرفين مثل: طه، طس، يس، حم.

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 146 وما بعدها.

ج- ووقع بثلاثة أمور، مثل: والصافات، فالزاجرات، فالتاليات، وبثلاثة أحرف، مثل: الم، طسم، الر. د- وبأربعة أمور، مثل: والذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسمات، وفي: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ.. وفي: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ..، وبأربعة أحرف، مثل: المص أول الأعراف المر أول الرعد. هـ- وبخمسة أمور، مثل: وَالطُّورِ..، وفي وَالْمُرْسَلاتِ..، وفي: وَالنَّازِعاتِ..، وفي وَالْفَجْرِ..، وبخمسة أحرف، مثل: كهيعص، حم عسق. ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول، منعا من الاستثقال. وفي القسم قد يذكر حرف القسم وهي الواو، مثل: وَالطُّورِ، وَالنَّجْمِ، وَالشَّمْسِ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم، فلم يقل وق، حم لأن القسم لما كان بالحروف نفسها كان الحرف مقسما به. وأقسم اللَّه بالأشياء كالتين والطور، وأقسم بالحروف من غير تركيب. وأقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة، ولم يوجد القسم بالحروف إلا في أوائل السور، وأقسم في أربع عشرة سورة عدا وَالشَّمْسِ بأشياء عددها عدد الحروف، في أوائل السور وفي أثنائها، مثل كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. ووقع القسم بالحروف في نصفي القرآن، بل في كل سبع، وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير والسبع الأخير غير وَالصَّافَّاتِ. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ القرآن مقسم به، والمقسم عليه محذوف، أي أقسم

بالقرآن الكريم كثير الخير والبركة، أو الرفيع القدر والشرف، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث. دلّ على جواب القسم المذكور مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النّبوة، وإثبات المعاد، وهذا كثير في القرآن، مثل: ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي عجب كفار قريش، لأن جاءهم منذر، هو واحد منهم أي من جنسهم، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يكتفوا بمجرد الشّك والرّد، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، فقالوا: كون هذا الرسول المنذر بشرا مثلنا شيء يدعو إلى العجب، وهو كقوله جلّ جلاله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس 10/ 2] ، أي وليس هذا بعجيب، فإن اللَّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس. وتعجبوا أيضا من البعث فقالوا كما حكى القرآن: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض وبلينا وصرنا ترابا، كيف يمكن الرجوع بعدئذ إلى هذه البنية والتركيب؟ إن ذلك البعث والرجوع بعيد الوقوع عن العقول، لأنه غير ممكن في زعمهم، وغير مألوف عادة. فردّ اللَّه تعالى عليهم مبيّنا قدرته على البعث وغيره، فقال: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أي علمنا علما يقينيّا ما تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى، ولا يخفى علينا شيء من ذلك، فإنا ندري أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أي شيء صارت؟ وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها، وهو اللوح المحفوظ

الذي حفظه اللَّه من التغيير ومن الشياطين. أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلّ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ومنه خلق ومنه يركّب» . والأصح في تقديري أن هذا تقريب لأذهاننا وتمثيل لإحاطة علم اللَّه تعالى بجميع الأشياء والكائنات، وإحصائه كل الوقائع والأعمال، كمن عنده سجل حسابات لكل شاردة وواردة. ولا يمنع ذلك وجود اللوح المحفوظ الذي نؤمن به لوروده في آيات كثيرة أخرى. والآية إشارة إلى جواز البعث وقدرته تعالى عليه. ثم أبان اللَّه تعالى سبب كفرهم وعنادهم وما هو أشنع من تعجبهم من البعث، وهو تكذيبهم بآيات اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي إن كفار قريش في الحقيقة كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الثابتة بالمعجزات، إنهم كذبوا (بالقرآن وبالنبوة) بمجرد تبليغهم به من قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر، فهم في أمر دينهم في أمر مختلط مضطرب، يقولون مرة عن القرآن والنّبي: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة، فهم في قلق واضطراب ولبس، لا يدرون ماذا يفعلون، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات 51/ 8- 9] . ثم أقام اللَّه تعالى الدليل على قدرته العظيمة على البعث وغيره، على حقيقة المبدأ والمعاد، فقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي أفلم ينظر هؤلاء الكفار بأم أعينهم، المكذبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا العظمى، إلى هذه السماء بصفتها العجيبة، فهي مرفوعة بغير أعمدة تعتمد عليها، ومزيّنة بالكواكب المنيرة كالمصابيح، وليس فيها شقوق وفتوق

وصدوع، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك 67/ 3- 4] أي يرجع كليلا عن أن يرى عيبا أو نقصا. وقوله: فَوْقَهُمْ مزيد توبيخ لهم، ونداء عليهم بغاية الغباوة. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي وكذلك، أولم ينظروا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد بأهلها وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف ذي بهجة وحسن منظر، من جميع الزروع والثمار والأشجار والنباتات المختلفة الأنواع، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات 51/ 49] . تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي فعلنا ذلك لتبصرة العباد وتذكيرهم، فيتبصر بكل ما ذكر ويتأمل العبد المنيب الراجع إلى ربّه وطاعته، ويفكر في بدائع المخلوقات. ثم أوضح اللَّه تعالى كيفية الإنبات، فقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي ولينظروا إلى قدرتنا كيف أنزلنا من السحاب ماء المطر الكثير المنافع، المنبت للبساتين الكثيرة الخضراء والأشجار المثمرة، وحبات الزرع الذي يحصد ويقتات كالقمح والشعير ونحوهما. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أي وأنبتنا به أيضا النخيل الطوال الشاهقات، التي لها طلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) منضّد متراكم بعضه على بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه الدال على كثرة التمر.

فقه الحياة أو الأحكام:

وفائدة إعادة هذا الدليل بعد المذكور في الآية السابقة: هو أن قوله: فَأَنْبَتْنا بِهِ استدلال بالنبات نفسه، أي الأشجار تنمو وتزيد، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد، بأن يرجع إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء. رِزْقاً لِلْعِبادِ، وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي أنبتنا كل ما ذكر للرزق، أي إن إنبات النباتات والأشجار والنخيل، ليكون أرزاقا وأقواتا للعباد. وأحيينا بالماء بلدة مجدبة، لا ثمار فيها ولا زرع، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحياء اللَّه به الأرض الميتة، فكما أن هذا مقدور لله، فذلك أيضا مقدور له. وهذا تشبيه قريب الإدراك، ومن واقع الحياة الملحوظة المجاورة للإنسان، وهو أيضا تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث في مقدور القدرة الإلهية. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- القرآن كثير الخير والمنفعة عظيم المجد والقدر والرفعة، وقد أقسم اللَّه به للدلالة على ما فيه من الخيرات. 2- لقد تعجب الكفار من قريش من أمرين: إرسال رسول بشر يخوفهم من عذاب اللَّه من جنسهم وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإمكان حدوث البعث والمعاد والرجوع إلى الحياة بعد الموت مرة أخرى. 3- إن اللَّه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وعالم بكل شيء، فهو سبحانه قادر على إحياء الموتى، عالم بما تؤول إليه الأجساد من ذرأت متفتتة وعظام بالية، ولا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على جمعها وتأليفها

وإحيائها مرة أخرى، كما خلق الناس جميعا في مبدأ الأمر من التراب: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه 20/ 55] . 4- إن سبب تكذيب الكفار بالبعث وبالمعاد وعنادهم: هو تكذيبهم بالحق الثابت الذي لا شكّ فيه، وهو القرآن الكريم المنزل من عند اللَّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنبوة الثابتة بالمعجزات، فصاروا في أمر دينهم في قلق واضطراب. 5- الأدلة على قدرة اللَّه تعالى العظيمة لإثبات البعث وإمكانه كثيرة، منها خلق الكون المشتمل على السموات المبنية بغير أعمدة، المزينة بالكواكب المنيرة، الخالية من الشقوق والصدوع، والمتضمن الأرض البديعة الجميلة التي بسطها اللَّه لتصلح للعيش الهنيء المريح، وثبتها بالجبال الراسخات الشامخات، وأنبت فيها النباتات والأشجار ذات الألوان المختلفة والأشكال العجيبة والروائح العطرة والثمار الطيبة اليانعة. فعل اللَّه ذلك تبصيرا وتنبيها للعباد على قدرته، وتذكيرا لكل عبد راجع إلى اللَّه تعالى، مفكّر في قدرته. 6- ومن أدلة القدرة الفائقة لله تعالى إنزال المطر الكثير البركة والنفع من السحاب، الذي أنبت به البساتين، والحبوب المحصودة زروعها، المقتاتة على مدار العام، والنخيل الطوال الشاهقات ذات الطلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) . 7- وكما أحيا اللَّه هذه الأرض الميتة، فكذلك يخرج الناس أحياء بعد موتهم. وهذا دليل الإبقاء للأشياء المخلوقة بعد ذكر دليل الإحياء، فأبان تعالى أولا أنه يحيي الموتى، ثم بيّن أنه يبقيهم.

التذكير بحال المكذبين الأولين [سورة ق (50) الآيات 12 إلى 15] :

والخلاصة: أن الآيات اشتملت على أدلة أربعة على جواز البعث وإمكانه، وهي علم اللَّه تعالى الشامل بمصير الأجساد بعد موتها، وخلقه السموات وتزيينها بالكواكب وتسويتها دون شقوق أو صدوع، وخلقه الأرض وما فيها من جبال وأنهار ونباتات وحيوانات، وإنزاله المطر من السحاب وإخراج النبات، وهذا دليل مما بين السماء والأرض. ويلاحظ أنه تعالى ذكر في كل آية ثلاثة أمور متناسبة، ففي آية السماء ذكر البناء والتزيين وسدّ الفروج، وفي آية الأرض ذكر المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فيها، وكل واحد هنا في مقابلة واحد مما سبق، فالمدّ في مقابلة البناء، لأن المدّ وضع والبناء رفع، والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزيّنة لها، والإنبات في الأرض شقّها. وفي آية المطر ذكر إنبات الجنات والحبّ والنخل، وهذه الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة: وهي ما له أصل ثابت يستمر مكثه في الأرض سنين وهو النخيل، وما ليس له أصل ثابت مما لا يطول مكثه في الأرض وهو الحبّ ويتجدد كل سنة، وما يجتمع فيه الأمران وهو البساتين، وهذه الأنواع تشمل مختلف الثمار والزروع «1» . التذكير بحال المكذبين الأولين [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 165، 158.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أنث الفعل كَذَّبَتْ لمعنى قوم وَأَصْحابُ الرَّسِّ أصحاب بئر لم تطو أي لم تبن، كانوا مقيمين عليها بمواشيهم، يعبدون الأصنام، وهم قوم باليمامة، وقيل: أصحاب الأخدود، ونبيهم المزعوم: حنظلة بن صفوان أو غيره وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ الغيضة الكثيفة الملتفة الشجر، وهم قوم شعيب عليه السلام وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري ملك اليمن، أسلم ودعا قومه إلى الإسلام، فكذّبوه كُلٌّ من المذكورين، أي كل واحد أو قوم منهم، أو جميعهم كَذَّبَ الرُّسُلَ إفراد الضمير لإفراد لفظه فَحَقَّ وَعِيدِ وجب نزول العذاب على الجميع، وحل عليهم وعيدي. وفيه تسلية للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتهديد لهم، أي فلا يضيق صدرك من كفر قريش بك. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ لم نعي به، فلا نعيا بالإعادة، من العيّ عن الأمر: العجز عنه بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ بل هم في شك وحيرة من البعث، أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف، لما فيه من مخالفة العادة. وتنكير كلمة بِالْخَلْقِ لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد. المناسبة: بعد بيان تكذيب مشركي قريش والعرب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكّرهم اللَّه تعالى وهددهم بما عاقب به أمثالهم من المكذبين قبلهم في الدنيا كقوم نوح وغيرهم، تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم ذكر تعالى دليلا جديدا على البعث وهو خلق الأنفس في بداية أمر الخلق. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، وَأَصْحابُ الرَّسِّ، وَثَمُودُ، وَعادٌ، وَفِرْعَوْنُ، وَإِخْوانُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ وَعِيدِ أي إن اللَّه سبحانه هدد كفار قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم، الذين كذبوا رسلهم، فعذبهم اللَّه إما بالطوفان كقوم نوح عليه السلام، أو بالغرق في البحر كقوم فرعون، أو بريح صرصر عاتية كعاد قوم هود، أو

بالريح الحاصب التي تأتي بالحصباء وخسف الأرض وهم قوم لوط، أو بالصيحة وهم ثمود وأهل مدين وأصحاب الرس وأصحاب الأيكة قوم شعيب، أو بالخسف وهو قارون وأصحابه. والسبب أن كلا من هذه الأمم كذب رسوله الذي أرسله اللَّه إليه، فوجب عليهم ما أوعدهم اللَّه تعالى، وحقّت عليهم كلمة العذاب على التكذيب، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام، لاشتراكهم في العلة، وتكذيبهم رسولهم كما كذب أولئك رسلهم. ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا على إمكان البعث من الأنفس، فقال: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا، أو بابتداء الخلق، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟! الحق أننا لم نعجز، والإعادة أسهل من الابتداء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] وقال جل جلاله: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] . وجاء في الحديث القدسي الصحيح: «يقول اللَّه تعالى: يؤذيني ابن آدم، يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» . وإنما هم في شك وحيرة واختلاط من خلق مبتدأ مستأنف، وهو بعث الأموات، فهم معترفون بأن اللَّه هو مبدئ الخلق أولا، فلا وجه لإنكارهم البعث. وهذا توبيخ للكفار وإقامة الحجة الواضحة عليهم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذا تهديد لكفار قريش وأمثالهم بأحوال الأمم السابقة، وقد تكرر ذلك في القرآن مرارا، لتأكيد العبرة والعظة، فإن من كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استحق مثل عقاب الأمم الذين كذبوا رسلهم، فهو تذكير بأنباء من قبلهم من المكذبين، وتخويف بما أصابهم من العذاب الأليم في الدنيا. وفيه أيضا تسلية للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لا يضيق صدره بتكذيب قومه له، وكفرهم برسالته. وفي الآيات إشارة إلى أن الرسل جميعا جاؤوا بالتوحيد وبإثبات البعث. ثم وبّخ اللَّه تعالى منكري البعث، وأجاب عن قولهم: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ بأنه هل عجز اللَّه عن ابتداء الخلق حتى يعجز عن إعادته؟ وهذا دليل من الأنفس مضاف إلى الأدلة السابقة من الآفاق على صحة البعث وإمكانه عقلا وعادة، فالذي لم يعجز عن الخلق الأول، كيف يعجز عن الإعادة؟! والحقيقة أنهم في حيرة من البعث والحشر، منهم المصدّق، ومنهم المكذّب، وليس تكذيب المكذبين إلا كفرا وعنادا. تقرير خلق الإنسان وعلم اللَّه بأحواله [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

الإعراب:

الإعراب: وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ نَعْلَمُ: في محل حال، أي نحن نعلم. وما: اسم موصول بمعنى الذي، وتُوَسْوِسُ: صلته، وبِهِ: في موضع نصب متعلق بصلة الموصول، وهاء بِهِ تعود على ما. إِذْ يَتَلَقَّى إِذْ: ظرف، منصوب باذكر مقدرا. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ قَعِيدٌ: إما خبر عن الأول أو عن الثاني، فإن كان عن الأول فأخّر اتساعا، وحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وإن كان عن الثاني، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. أو هو خبر عن الاثنين، ولا حذف في الكلام، في قول الفراء. مَعَها سائِقٌ سائِقٌ: إما مبتدأ، وخبره مَعَها والجملة في موضع جر، لأنها صفة ل نَفْسٍ أو مرفوع بالظرف. البلاغة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ استعارة تمثيلية، مثّل اللَّه تعالى علمه بأحوال العبد بحبل الوريد القريب من القلب، للدلالة على القرب بطريق الاستعارة. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ حذف بالإيجاز، أصله عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. وبين الْيَمِينِ والشِّمالِ طباق. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ استعارة تصريحية، استعار لفظ السكرة لهول الموت وشدته. الْوَرِيدِ، قَعِيدٌ، عَتِيدٌ، تَحِيدُ، الْوَعِيدِ، شَهِيدٌ، حَدِيدٌ توافق فواصل وسجع غير متكلف. المفردات اللغوية: تُوَسْوِسُ تحدث، من الوسوسة: الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي والمراد: ما يخطر بالبال أو حديث النفس حَبْلِ الْوَرِيدِ العرق في صفحة العنق، ولكل إنسان وريدان، والإضافة للبيان إِذْ أي اذكر حين يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان ما يعمله قَعِيدٌ مقاعد، كجليس بمعنى مجالس. رَقِيبٌ ملك يرقب قوله وعمله ويكتبه ويحفظه عَتِيدٌ حاضر مهيأ لكتابة الخير

المناسبة:

والشر، فملك اليمين يكتب الخير، وهو أمير على كاتب السيئات، وملك الشمال يكتب الشر سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته التي تذهب بالعقل بِالْحَقِّ بحقيقة الأمر ذلِكَ الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تهرب وتفزع وتميل عنه، والخطاب للإنسان. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الوعيد وتحققه للكفار بالعذاب وَجاءَتْ فيه كُلُّ نَفْسٍ إلى المحشر سائِقٌ وَشَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقها إلى أمر اللَّه، والآخر يشهد على النفس بعملها. لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الذي ينزل بك غِطاءَكَ الغطاء الحاجب لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في ملذات الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حادّ نافذ تدرك به ما أنكرته في الدنيا. المناسبة: بعد أن أقام اللَّه تعالى الأدلة الساطعة على إمكان البعث في الآفاق والأنفس، شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم اللَّه تعالى، وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. ثم أخبر عن انكشاف الحقيقة بالموت، وإتيان ملكين بكل نفس يوم القيامة للسوق إلى المحشر والشهادة عليها، ورفع حجاب الغفلة عن كل إنسان، وإدراكه أحوال المعاد والحشر. التفسير والبيان: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي تالله لقد أوجدنا الإنسان (وهو اسم جنس) ونعلم بجميع أموره، حتى ما يختلج في سره وقلبه وضميره من الخير والشر، ونحن أقرب إليه من حبل وريده، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه، فقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ معناه أن اللَّه تعالى لا يحجب عنه شيء، وقال ابن كثير: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده. فهذا إخبار من اللَّه تعالى بأنه خلق الإنسان، وأن علمه محيط بجميع أموره،

حتى ما يجول في خاطره، وحتى حديث النفس، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله. لكن لا عقاب على حديث النفس، لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصحيح: «إن اللَّه تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به» «1» . والآية لإقامة الحجج على الكفار في إنكارهم البعث. ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه بما في قلب ابن آدم وكّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله، إلزاما للحجة، فقال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي ونحن أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به، فيأخذان ذلك ويثبتانه، عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، والقعيد: من يقعد معك. فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات. جاء في الحديث عن أبي أمامة: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يسبّح أو يستغفر» . «2» . ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي ما يتكلم ابن آدم من كلمة إلا ولها من يرقبها، وهو حاضر معدّ لذلك، يكتبها، لا يترك كلمة

_ (1) أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) عن أبي هريرة، وأخرجه الطبراني عن عمران بن حصين رضي اللَّه عنه. (2) ذكره الزمخشري والقرطبي والبيضاوي، وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس مثل ذلك، فقال: صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر اللَّه تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها.

ولا حركة، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار 82/ 10- 12] . والرقيب: المتبع للأمور، والحافظ لها، والعتيد: الحاضر الذي لا يغيب والمهيأ للحفظ والشهادة. وظاهر الآية أن الملك يكتب كل شيء من الكلام، وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب. يؤيد الأول الحديث الحسن الصحيح: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللَّه عزّ وجلّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللَّه تعالى عليه بها سخطه إلى يوم القيامة» «1» فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. قال الحسن البصري وقتادة: يكتبان جميع الكلام، فيثبت اللَّه تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك. وقال الحسن البصري، وتلا هذه الآية: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ، طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ثم يقول: عدل، واللَّه، فيك من جعلك حسيب نفسك. وبعد بيان إنكارهم للبعث والردّ عليهم بإخبارهم عن قدرته وعلمه، أخبرهم

_ (1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وله شاهد في الصحيح.

اللَّه تعالى عن ملاقاة صدق ذلك حين الموت وحين القيامة، وعن قرب القيامتين: الصغرى والكبرى، فقال عن الأولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي يا أيها الإنسان، جاءت شدة الموت وغمرته التي تغشي الإنسان، وتغلب على عقله ببيان اليقين الذي يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الأخبار بالبعث والوعد والوعيد، والذي كنت تمتري فيه، ذلك الموت أو ذلك الحق الذي كنت تميل عنه وتفرّ منه. والخطاب للإنسان على طريق الالتفات في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إذا فسر ب: ذلك الموت، والخطاب للفاجر إذا فسر ب: ذلك الحق. والباء في بِالْحَقِّ للتعدية، أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلية الحال، من تحقق وقوع الموت، أو من سعادة الميت أو ضدها، كما نطق بها الكتاب والسّنة. جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه لما تغشاه الموت، جعل يمسح العرق عن وجهه، ويقول: «سبحان اللَّه، إن للموت لسكرات» . ثم قال اللَّه تعالى مخبرا عن القيامة الكبرى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي ونفخ في الصور نفخة البعث، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد اللَّه به الكفار بالعذاب في الآخرة. جاء في الحديث الثابت: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، فقال القوم: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ أي وأتت كل نفس من نفوس البشر، بالبدن والروح، معها ملك يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها أو لها بالأعمال من خير أو شرّ. ويقال للإنسان حينئذ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي يقال للكافر أو لكل أحد من برّ وفاجر: لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا المصير وهذا اليوم، فرفعنا عنك الحجاب الذي كان لديك، والذي كان بينك وبين أمور الآخرة، فبصرك اليوم قوي نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في حياتك، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا مصيره، ومدركا ما أنكره في الدنيا. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن خلق اللَّه تعالى الإنسان، وعلمه بكل ما يصدر منه حتى حديث النفس، دليل على قدرته تعالى على البعث، وإعادة الناس أحياء يوم القيامة. 2- إن علم اللَّه بالإنسان وغيره شامل، لا يخفى عليه شيء، ولا يحجب عنه شيء، وقد مثّل تعالى قربه من الإنسان بأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وهو مجاز يراد به قرب علمه منه، وشمول معلومه عنه، وليس المراد قرب المسافة. قال القشيري في آية: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ: في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم. 3- إن اللَّه تعالى أعلم بأحوال الإنسان من غير وساطة ملك، فهو لا يحتاج إلى ملك يخبر، ولكن توكيل ملكي اليمين والشمال بكل إنسان للإلزام بالحجة، وتوكيد الأمر عليه.

4- يحصي الملكان كل شيء من أقوال الإنسان وأعماله، فما يتكلم بشيء إلا كتب عليه، وما يفعل من شيء إلا دوّن عليه، قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. 5- ما دام الإنسان حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت ويدرك الحق: وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان اللَّه تعالى وعده وأوعده، ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك ما كنت تفر منه وتهرب. 6- إذا نفخ في الصور النفخة الآخرة للبعث، فذلك اليوم الذي وعده اللَّه للكفار أن يعذبهم فيه. 7- يصحب كل إنسان يوم القيامة ملكان: سائق يسوقه إلى المحشر، وشاهد يشهد له وعليه بأعماله. قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس، فالسائق ملائكة موكلون بذلك، والشهيد: الحفظة وكل من يشهد. 8- يقال للإنسان البر والفاجر يوم القيامة: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من عواقب الأمور، فاليوم تتيقظ وتبصر ما لم تكن تبصره من الحقائق، وما لم تكن تصدّق به في الدنيا، وتتغافل عن النظر فيه، كالإيمان بالله وحده لا شريك له، والتصديق برسوله، وبالبعث والحشر والحساب.

الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة. [سورة ق (50) الآيات 23 إلى 30] :

الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة. [سورة ق (50) : الآيات 23 الى 30] وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) الإعراب: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا: مبتدأ، وخبره: ما التي هي نكرة موصوفة بمعنى شيء. وعَتِيدٌ: إما خبر ثان، أو صفة ل ما أو بدل من ما. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أَلْقِيا: الخطاب للسائق والشهيد، فهو خطاب لاثنين، أو الخطاب لملك واحد هو مالك خازن النار، لأن من عادة العرب مخاطبة الواحد بلفظ الاثنين، أو تثنية ما يقال له: ألق ألق، أو ألقين بنون التوكيد الخفيفة، لكنه ضعيف، لأن مثل هذا يكون في الوقف على الكلام لا في الوصل. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي: إما مرفوع على أنه مبتدأ ضمّن معنى الشرط، وخبره: فَأَلْقِياهُ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو منصوب على أنه بدل من قوله تعالى: كُلَّ كَفَّارٍ أو منصوب بفعل مقدّر يفسره فَأَلْقِياهُ. يَوْمَ نَقُولُ يَوْمَ: ناصبه ظلّام. البلاغة: بين قوله عَتِيدٌ وعَنِيدٍ جناس ناقص لتغاير حرفي النون والتاء.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: قَرِينُهُ الملك الموكّل به أو الشيطان الذي قيض له، والثاني أصح بدليل قوله: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ... عَتِيدٌ مهيأ معدّ لجهنم، حاضر لدي عَنِيدٍ معاند للحق. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمفروض كالزكاة، وقيل: المراد بالخير: الإسلام. مُعْتَدٍ ظالم متعد للحق. مُرِيبٍ شاك في اللَّه وفي دينه وأخباره. فَأَلْقِياهُ تكرار للتأكيد. قالَ قَرِينُهُ الشيطان المقيض له في قوله تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] . رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أضللته، كأن الكافر قال: هو أطغاني، فقال: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بعيد عن الحق، أي فأعنته على ضلاله، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي، مائلا إلى الفجور، كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم 14/ 22] . لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ لا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فلا ينفع الخصام والجدال هنا. وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أخبرتكم في الدنيا وتقدمت إليكم في الكتب بالرسل بوعيدي بالعذاب في الآخرة إذا لم تؤمنوا. ما يُبَدَّلُ بغير. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فلا أعذب بغير جرم، وظلام: ذو ظلم، لقوله تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر 40/ 17] . يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ زيادة، وهذا سؤال وجواب جيء بهما لتصوير ملء النار بالناس والجن، وهي من السعة بحيث يدخلها من يدخلها، ويبقى فيها فراغ بعدئذ. سبب النزول: نزول الآيات (24- 26) : أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ..: قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، لما منع بني أخيه عن الخير وهو الإسلام. المناسبة: بعد بيان أحوال الناس يوم القيامة وعند الموت، ذكر اللَّه تعالى صورة حوار بين الكافر وقرينه الشيطان، في يوم القيامة، لمعرفة مدى جناية الإنسان على

التفسير والبيان:

نفسه، وزجّها في نيران جهنم، وإصغائه لوساوس الشيطان وإغراءاته، وتأثره بها بسبب خلل رأيه، وضعف عقله، وميله إلى الفجور. التفسير والبيان: وَقالَ قَرِينُهُ: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي قال الملك الموكل به بابن آدم: هذا ما عندي من كتاب عملك معدّ محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد: هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته، واختار ابن جرير: أنه يعم السائق والشهيد. وفسر الزمخشري القرين هنا بأنه هو الشيطان الذي قيض للإنسان في قوله تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف 43/ 36] ويشهد له قوله تعالى بعدئذ: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ يقول الشيطان: هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم، والمعنى: أن ملكا يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطانا مقرونا به يقول: قد اعتدته لجهنم وهيّأته لها بإغوائي وإضلالي. وقد رجحت الرأي الثاني، لأن الشيطان هو قرين كل فاجر، يقول لأهل المحشر، أو لسائر القرناء: قد هيّأت قريني لجهنم. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أي يقول اللَّه تعالى للسائق والشهيد: اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر، مكابر معاند للحق وأهله، كثير الكفر والتكذيب بالحق، معارض له بالباطل مع علمه بذلك. وهو أيضا كثير المنع للخير كالزكاة، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق، ولا يبذل خيرا لأحد من قريب أو فقير بصلة رحم أو صدقة، ويمنع أقاربه عن الدخول في الإسلام، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كما تقدم، كان يمنع بني

أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم في الإسلام، لم أنفعه بخير ما عشت. وهو متعد على الناس بالفحش والأذى والبطش، متجاوز الحد في الإنفاق من ماله، ظالم لنفسه لا يقر بتوحيد اللَّه، شاكّ في الحق وفي أمره وفي دين اللَّه، ومشكك غيره. لكل هذا أكد اللَّه تعالى إلقاءه في جهنم فقال للملكين، أو لمالك خازن النار جريا على عادة الكلام في مخاطبة الواحد بخطاب الاثنين: فألقياه في النار ذات العذاب الشديد. جاء في الحديث: أن عنقا من النار يبرز للخلائق، فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكّلت بثلاثة: بكل جبّار عنيد، ومن جعل مع اللَّه إلها آخر، وبالمصوّرين، ثم تنطوي عليهم. وأخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «يخرج عنق من النار، يتكلم يقول: وكّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع اللَّه إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير نفس، فتنطوي عليهم، فتقذفهم في غمرات جهنم» . ثم ذكر اللَّه تعالى صورة من الحوار بين الكافر والشيطان قرينه، فقال: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي يقول الشيطان عن قرينه الذي وافى القيامة كافرا، متبرئا منه: يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان، بل كان هو في نفسه ضالا، مؤثرا الباطل، معاندا للحق بعيدا عنه، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه، أي وكأن الكافر يريد الاعتذار قائلا: يا ربّ إن قريني الشيطان أطغاني، فأجاب القرين الذي قيض له وهو الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ.

وهذا اعتراف بالحقيقة، كما قال الشيطان في آية أخرى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم 14/ 22] . قالَ: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي قال الرب عز وجل لهما- للكافر وقرينه الشيطان: لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بالإنذار والوعيد، وأعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج والبراهين، والمراد أن اعتذاركم الآن غير نافع لدي. وأضاف اللَّه تعالى برد آخر قائلا: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي قضيت ما أنا قاض، ولا يغير حكمي وقضائي، ولا خلف لوعدي، بل هو كائن لا محالة، وقد قضيت عليكم بالعذاب بسبب كفركم، فلا تبديل له، ولا أعذب أحدا ظلما بغير جرم اجترمه أو ذنب اقترفه أو أذنبه بعد قيام الحجة عليه. ثم أكد اللَّه تعالى حلول العذاب في جهنم قائلا: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ أي اذكر يا محمد لقومك وأنذرهم حين يقول اللَّه تعالى لجهنم: هل امتلأت بالأفواج من الجنّة والناس؟ فتنطق جهنم وتجيبه قائلة: هل بقي شيء من زيادة تزيدونني بها؟ والمراد أنها اكتفت وامتلأت بما ألقي فيها، أي لا أسع أكثر من ذلك فإني قد

فقه الحياة أو الأحكام:

امتلأت «1» ، ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة، وتضييقا للمكان عليهم. قال أهل المعاني: سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل والتصوير الذي يقصد به تقرير وتصوير المعنى في النفس وتثبيته، وفيه معنيان كما تقدم: أحدهما- أنها تمتلئ مع اتساعها، حتى لا يزاد عليها شيء، والثاني- أنها من السعة حيث يدخلها من يدخلها، وفيها موضع للمزيد «2» . وقد أورد ابن كثير عدة أحاديث تؤيد مدلول الآية بالمعنى الأول وهو استكثارها الداخلين، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود 11/ 119] منها: ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها، فتقول: قط قط» أي كفى كفى. وأخرج مسلم في صحيحة عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «احتجّت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبّارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضي بينهما، فقال للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحد منكما ملؤها» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- يقدّم الملك الموكّل بالإنسان ما عنده من كتابة عمله المعدّ المحفوظ.

_ (1) وعلى هذا يكون الاستفهام الأول للتقرير، فالله يقررها بأنها امتلأت، أي يجعلها تقر بذلك، والاستفهام الثاني بمعنى النفي، أي لا أسع غير ذلك، وهو جواب الاستفهام الأول. (2) الكشاف: 3/ 163 [.....]

ويقدّم الشيطان قرناءه فيقول: هذا العاصي معدّ عندي لجهنم، أعددته بالإغواء والإضلال. 2- إن من كبائر الأعمال الموجبة لعذاب جهنم: الكفر بالله والشرك به، ومعاندة الحق ومكابرته، وإيثار الباطل وأهله، ومنع المال عن حقوقه، أو منع الناس عن الإسلام، وتجاوز الحد المعتدل في الإنفاق، والتكذيب بالحق، والشك في دين اللَّه، وتشكيك الآخرين، وجعل شريك آخر معبود مع اللَّه. 3- يؤمر الملكان: السائق والشهيد بإلقاء الكافر العنيد المتصف بما ذكر في نار جهنم ذات العذاب الأليم الشديد، ويؤكد اللَّه تعالى أمره بإلقاء الكفار. 4- كل من الشيطان والفاجر الكافر يلقي التبعة في كفره على الآخر ويتبرأ الشيطان من الكافر ويكذبه يوم القيامة، وينسب الطغيان والكفر له، لا لنفسه، والحق أن كلا الفريقين في النار، وقد أعذر من أنذر، واللَّه تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الإنس والجن، فاختار كل منهما ما يحلو له. 5- يستحيل الظلم على اللَّه تعالى، فهو سبحانه لا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يعذب من لا يستحق العذاب، ولا يغير قضاءه المبرم، وحكمه العادل الذي حكم به. 6- يملأ اللَّه تعالى جهنم بالكفار والمشركين والملحدين والماديين والعصاة حتى لا يبقى فيها موضع لزيادة، أو أنها تطلب الزيادة تغيظا على الكفار، وتضييقا للمكان عليهم.

حال المتقين [سورة ق (50) الآيات 31 إلى 35] :

حال المتقين [سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) الإعراب: هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ.. مَنْ: إما بالجر على البدل من أَوَّابٍ حَفِيظٍ وإما بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره قوله تعالى: ادْخُلُوها على تقدير، يقال لهم: ادخلوها. ولِكُلِّ أَوَّابٍ: بدل من قوله: لِلْمُتَّقِينَ، بإعادة الجارّ. المفردات اللغوية: وَأُزْلِفَتِ قرّبت لهم. غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد منهم، بل هو بمرأى منهم، فهي منصوبة على الظرف، ويجوز أن تكون غَيْرَ حالا، وذكّرت كلمة بَعِيدٍ لأنها صفة لشيء محذوف، أي شيئا غير بعيد، أو لأن الجنة بمعنى البستان، أو على زنة المصدر كالزفير والصهيل، كما تقرر في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف 7/ 56] . هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم: هذا ما توعدون، والإشارة إلى الثواب، أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل، ويقرأ أيضا بالياء: يوعدون. أَوَّابٍ كثير الرجوع إلى اللَّه تعالى وطاعته. حَفِيظٍ كثير الحفظ أي حافظ لحدود اللَّه وشرائعه. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ من خاف عقاب اللَّه، وهو غائب عن الأعين، فلم يره أحد. مُنِيبٍ مقبل على طاعة اللَّه. ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي يقال لهم: أدخلوها سالمين من كل خوف أو مسلّما عليكم من اللَّه وملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ذلك اليوم الذي حصل فيه الدخول يوم الخلود في الجنة، إذ لا موت فيها، أي يوم تقدير الخلود، كقوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر 39/ 73] .

المناسبة:

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي زيادة، وهو ما لا يخطر ببالهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. المناسبة: بعد بيان الحوار الذي يحصل يوم القيامة بين الكافر وقرينه من الشياطين، بيّن اللَّه تعالى حال المتقين، جريا على عادة القرآن بالمقارنة بين الأضداد، وإيراد الشيء بعد نقيضه، فيحذر الإنسان ويخاف، ويطمع ويتأمل ويرجو رحمة اللَّه تعالى، وبه تم الجمع بين الترهيب والترغيب وبين الخوف والرجاء أو الطمع. التفسير والبيان: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي أدنيت وقرّبت لأهل التقوى تقريبا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد، بل هي بمرأى منهم، يشاهدونها في الموقف، وينظرون ما فيها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذا ما تُوعَدُونَ، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي تقول الملائكة لهم: هذا النعيم الذي ترونه من الجنة هو ما وعدتم به في كتب ربكم وعلى ألسنة الرسل الذين أرسلهم اللَّه لكم، وهذا الثواب بعينه هو لكل رجّاع إلى اللَّه تعالى وطاعته بالتوبة عن المعصية، والإقلاع عن الذنب، كثير الحفظ لحدود اللَّه وشرائعه، ويحفظ العهد، فلا ينقضه ولا ينكثه ولا يهمل شيئا منه. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي ذلك المحافظ على الحدود، فلا يقربها: هو من خاف اللَّه ولم يكن رآه، وخاف اللَّه في سره حيث لا يراه أحد إلا اللَّه عز وجل، كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في السبعة الذين يظلهم في ظله يوم القيامة فيما أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «ورجل ذكر اللَّه تعالى خاليا، ففاضت عيناه» أي: بالدموع.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهو أيضا من رجع إلى اللَّه بقلب مخلص في طاعة اللَّه، ولقي اللَّه عز وجل يوم القيامة بقلب سليم إليه، خاضع لديه. ادْخُلُوها بِسَلامٍ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ويقال لهم: ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب، ومن زوال النعم، ومن كل المخاوف، أو مسلّما عليكم من اللَّه وملائكته، ذلك اليوم الذي تدخلون فيه هو يوم الخلود الدائم أبدا، الذي لا موت بعده، ولا تحوّل عنه. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها، وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر كل ما يريدون في الجنة، وتشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، من أنواع الخير، وأصناف النعم بحسب رغبتهم، فمهما اختاروا وجدوا ومن أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. ولدينا مزيد من النعم التي لم تخطر لهم على بال، ولا مرت لهم في خيال، كقوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] جاء في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه اللَّه الكريم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن في وصف جهنم الملأى بالكفار والفجار والعصاة، وفي وصف الجنة المقربة المرئية للمتقين تثبيتا للإيمان بالبعث وتقوية له، وتحذيرا وتخويفا من عمل أهل النار، وترغيبا في اقتفاء آثار وأعمال المؤمنين الذين يدخلون الجنة، كما أن في تقريب الجنة للمتقين وإدنائها لهم غير بعيدة عنهم إشعارا لهم بتيسير الوصول إليها. 2- يؤكد اللَّه تعالى الشعور بالنعمة والاطمئنان في الجنة للمتقين، فتقول

الملائكة لهم: هذا الجزاء الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الرسل. 3- أهل الجنة هم كل أوّاب رجاع إلى اللَّه عن المعاصي، حافظ لحدود اللَّه وشرائعه، فيعمل بها ولا يتجاوزها ولا يتخطاها إلى غيرها، خائف من اللَّه رب العزة، وإن لم يره، وجل منه في سره وعلانيته، يجيء إلى ربه يوم القيامة بقلب منيب أي مقبل على الطاعة، محبّ لها، مرتاح بفعلها، غير متضجّر بها. 4- تقول الملائكة للمتقين أهل الجنة: ادخلوها بسلام من العذاب ومن زوال النعم، وبسلام من اللَّه وملائكته عليكم. 5- في الجنة للمتقين ما تشتهيه أنفسهم وتلذّ أعينهم، ويجدون لدى ربهم مزيدا من النعم، مما لم يخطر على بالهم، زيادة على النعم: وهو النظر إلى وجه اللَّه تعالى بلا حصر ولا كيف ولا تجسيد. ذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة، فإن اللَّه تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة، كل يوم جمعة، في كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في القرب. وروى الإمام الشافعي في مسنده عن أنس بن مالك قريبا من ذلك، وجاء فيه: «.. فإذا كان يوم الجمعة أنزل اللَّه تعالى ما شاء من الملائكة، وحوله منابر من نور، عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول اللَّه عز وجل: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة» .

تهديد منكري البعث وإثباته لهم مرة أخرى وأوامر للرسول صلى الله عليه وسلم [سورة ق (50) الآيات 36 إلى 45] :

تهديد منكري البعث وإثباته لهم مرة أخرى وأوامر للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) الإعراب: يَوْمَ يَسْمَعُونَ يَوْمَ: بدل من يوم في قوله: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً يَوْمَ: منصوب من وجهين: أحدهما: أنه منصوب على البدل من يَوْمَ في قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.. أي واستمع حديث يوم ينادي المنادي، فحذف المضاف، وهو مفعول به. والثاني: أنه منصوب لتعلقه بقوله تعالى: وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ وتقديره: وإلينا يصيرون في يوم تشقق. وسِراعاً: حال من الهاء والميم في عَنْهُمْ وعوامله: إما تَشَقَّقُ أو فعل مقدر، أي فيخرجون سراعا.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا. قَبْلَهُمْ قبل قومك كفار قريش. مِنْ قَرْنٍ القرن: الأمة والجماعة والجيل من الناس، أي أهلكنا قبل كفار قريش أمما وقرونا وجماعات كثيرة من الكفار. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة، كعاد وفرعون. فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ بحثوا وفتشوا وساروا في الأرض يطلبون الرزق والمكسب. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب لهم من اللَّه أو من الموت. إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر في هذه السورة لتذكرة وعظة وعبرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ عقل يعي به ويتفكر في الحقائق. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أصغى بسمعه للوعظ. وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر الذهن ليفهم المعاني. وفي تنكير كلمة قَلْبٌ وإبهامه إشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كأنه غير موجود. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها الأحد وآخرها الجمعة. لُغُوبٍ تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فالله منزه عن صفات المخلوقين، لا يتعرض لتعب حتى يستريح منه، وإذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها النبي على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قادر على بعثهم والانتقام منهم، واصبر أيضا على ما يقول اليهود وغيرهم من التشبيه للخالق والتكذيب لك، والكفر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه عن العجز وعن كل نقص، مصحوبا بالحمد والشكر. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أي صلاة الفجر والعصر والظهر. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي سبحه بعض الليل، وصل العشاءين. وَأَدْبارَ السُّجُودِ أعقاب الصلوات، جمع دبر، وقرئ بالكسر: وَأَدْبارَ مصدر أدبر، أي صل النوافل المسنونة عقب الصلوات الفرائض المكتوبة، وسبح التسبيح المعروف في هذه الأوقات مع الحمد. وَاسْتَمِعْ أيها المخاطب لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفي هذا تهويل وتعظيم للمخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ هو إسرافيل، فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن اللَّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي كما ذكر الزمخشري: من صخرة بيت المقدس «1» ، وهي أقرب الأرض من السماء، وهي وسط الأرض، أو من أقرب الأماكن إلى الناس بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء.

_ (1) هذا- كما قال قتادة- منقول عن كعب الأحبار. وفي تقديري كما ذكر الرازي أن المراد ظهور النداء لكل مخلوق، وليس المراد من المكان القريب المكان نفسه.

سبب النزول نزول الآية (38) :

يَوْمَ يَسْمَعُونَ يسمع الخلق كلهم. الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ صيحة البعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل بالبعث والحشر للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي ذلك يوم النداء والسماع هو يوم الخروج من القبور. الْمَصِيرُ المرجع والمآب للجزاء في الآخرة. تَشَقَّقُ تتشقق، وقرئ بتشديد الشين، أي تشقّقّ. سِراعاً مسرعين، جمع سريع. ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي ذلك بعث وجمع هيّن علينا، وتقديم الظرف: عَلَيْنا للاختصاص، لأن الإحياء بعد الإفناء، والجمع للعرض والحساب لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته، الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان 31/ 28] . نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي كفار قريش، وهو تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتهديد لهم. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط عليهم تقسرهم أو تجبرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنما أنت داع. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي يخاف وعيدي، وهم المؤمنون، فإنه لا ينتفع بالقرآن غيرهم. سبب النزول: نزول الآية (38) : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ..: أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: أن اليهود أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: خلق اللَّه الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة. قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: استراح، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غضبا شديدا، فنزل:

المناسبة:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ... وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول اللَّه، لو خوفتنا؟ فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. وقال الحسن وقتادة: قالت اليهود: إن اللَّه خلق الخلق في ستة أيام، واستراح يوم السابع، وهو يوم السبت، يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. المناسبة: بعد أن أنذر اللَّه تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة، عاد إلى التهديد والإنذار بعذاب الدنيا المهلك والدمار الشامل، وتوسط الإنذارين بيان حال المتقين في الجنان للجمع بين الترهيب والترغيب كما تقدم، ثم أبان تعالى أن الإهلاك عظة وتذكير وعبرة لكل ذي عقل واع، مفكر بالربط بين الأسباب والنتائج. ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث من خلق السموات والأرض مرة أخرى مع تنزيه نفسه عن العناء والتعب في الخلق، ثم أمر تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث ومن حديث التعب بالاستلقاء، وبتنزيه اللَّه عن كل نقص منتظرا المنادي، ولا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة، فقد اقترب يوم البعث، وسمع صوت الداعي إليه، فالله هو المحيي والمميت وإليه المصير، يوم تتشقق الأرض سراعا ويخرج الناس من القبور، ثم أخبر سبحانه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بعلمه بما يقول المشركون في البعث، فلست عليهم بجبار مصيطر، وتابع مهمتك في الإنذار وتبليغ الدعوة بالتوحيد، وذكّر بهذا القرآن من يخاف عقابي ويخشى وعيدي.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟ أي وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم، من أمم وجماعات، كانوا أكثر منهم، وأشد قوة، وآثارا في الأرض، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم، وقد أثروا في البلاد، فساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب، أكثر مما طفتم بها، فهل لهم من مفر أو مهرب يهربون إليه، يتخلصون به من العذاب، ومن قضاء اللَّه وقدره، وهل نفعهم ما جمعوه من أموال، وردّ عنهم عذاب اللَّه لما جاءهم لتكذيبهم الرسل، فأنتم أيضا لا مفر لكم، ولا محيد، ولا مناص، ولا مهرب. ثم ذكر اللَّه تعالى أن تلك الإنذارات والتهديدات والزواجر لا ينتفع بها إلا المفكرون، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ أي إن فيما ذكر من قصة هؤلاء الأمم، وما ذكر في هذه السورة وما قبلها من الآداب والمواعظ، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات، لتذكرة وموعظة وعبرة لمن يعتبر بها، من كل ذي عقل واع، يتأمل به، ويتدبر الحقائق والأسباب والنتائج. ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى، فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي وتالله لقد أوجدنا من غير مثال سبق السموات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات، في أيام ستة، وما أصابنا أي إعياء ولا تعب ولا نصب. وهذا رد على اليهود، فإنهم- كما قال قتادة- قالوا: خلق اللَّه السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد، وآخرها الجمعة، ثم استراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه.

والآية تقرير للمعاد، لأن من قدر على خلق السموات والأرض، ولم يتعب بخلقها، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى في آية أخرى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] وكما قال عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] . ذكر الرازي أن المراد بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار، لا الأيام المعروفة في وضع اللغة، لأن اليوم عبارة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب، وقبل خلق السموات لم يكن شمس ولا قمر، لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت أو الحين «1» . ثم أوضح اللَّه تعالى لنبيه الموقف الذي يتخذه في مواجهة منكري البعث واليهود المشبّهة للخالق بالمخلوق، فقال آمرا له بعدة أوامر هي: 1- فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون المكذبون بالبعث، وعلى ما يقوله اليهود من حديث التعب والاستلقاء، فتلك أقوال باطلة لا دليل عليها. 2- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ أي ونزّه دائما اللَّه ربك عن كل عجز ونقص، واحمده دائما، قائلا: سبحان اللَّه وبحمده، وقت الفجر ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب الصلوات. وقال ابن عباس: المراد بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان، وأدبار

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 183- 184

السجود: النوافل بعد الفرائض أو التسبيح بعد الصلاة. ومن قال: إن المراد بالتسبيح الصلاة، فلأن الصلاة تسمى تسبيحا، لما فيها من تسبيح اللَّه تعالى. وقد جاء الأمر بالتسبيح بعد الصلاة في أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: «جاء فقراء المهاجرين، فقالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدّثور «1» بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما ذاك، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون كما نتصدق، ويعتقون كما نعتق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فقالوا: يا رسول اللَّه، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» [المائدة 5/ 54] . وجاء في صحيح الحديث: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة. 3- وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي واستمع أيها الرسول صيحة القيامة وهي النفخة الثانية في الصور من إسرافيل عليه السلام، يوم ينادي نداء يسمعه كل فرد من أفراد المحشر، قائلا: هلموا إلى الحساب، فيخرجون من قبورهم. ولا مانع من عطف وَاسْتَمِعْ على فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ مع أن الصبر والتسبيح يكون في الدنيا، والاستماع يكون يوم القيامة، لأن المراد كما في

_ (1) المراد بهم: الأغنياء أصحاب الثراء، من الدّثار: وهي الثياب الخارجية.

قولهم: صل وادخل الجنة، أي صل في الدنيا، وادخل الجنة في العقبى. ويحتمل أن يقال: بأنّ اسْتَمِعْ بمعنى انتظر. قال الرازي: وقوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد، بل يستوي في استماعه كل أحد، وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على اللَّه تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب المكان نفسه، بل ظهور النداء، وهو من اللَّه تعالى أقرب «1» . يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ يعني أن صيحة البعث كائنة حقا، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على الأعمال، وذلك اليوم يوم الخروج من القبور. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي إننا نحن نحيي في الدنيا والآخرة، ونميت في الدنيا حين انقضاء الآجال، لا يشاركنا في ذلك مشارك، وإلينا المرجع في الآخرة للحساب والجزاء، فنجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا تقرير القدرة الإلهية على الإحياء ابتداء وإعادة، وعلى الإماتة، وإجراء الحساب، وأكد ذلك بقوله: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي وإلينا المصير وقت أن تتصدع الأرض عنهم، فيخرجون من القبور، ويساقون إلى المحشّر، مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم، ذلك بعث وجمع هيّن لدينا وعلينا، لا مشقة فيه ولا عسر، كما قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] وقال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان 31/ 28] .

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 188.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم هدد المشركين بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون، من التكذيب فيما جئت به، ومن إنكار البعث والتوحيد، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم، ويقسرهم على الإيمان، إنما أنت مبلّغ، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 88/ 21- 22] . 4- فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي فذكّر أيها الرسول بهذا القرآن العظيم، وبلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر به من يخاف اللَّه ويخشى عقابه ووعيده للعصاة بالعذاب، ويرجو وعده وفضله ورحمته، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات تعبر عن التحدي لدعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكيفية مواجهة التحدي والصمود أمامه، أو ما يعبر عنه اليوم الفعل ورد الفعل. ويفهم منها ما يأتي: 1- هدد اللَّه المشركين من كفار قريش وأمثالهم وأنذرهم وحذرهم بعذاب الآخرة الأليم، وبعذاب الدنيا المدمر الذي أوقعه بمن قبلهم من الأمم والشعوب المكذبة رسلها، مع أنهم كانوا أقوى وأصلب وأغنى وأكثر مالا وأرقى مدنية وحضارة من أهل مكة. فلم يجدوا مهربا ولا مفرا من الإهلاك والتدمير، وكذلك لا يجد أمثالهم ملجأ ولا محيدا من إيقاع العذاب المماثل بهم. 2- إن في هذا الإنذار والتهديد والتخويف والمذكور في هذه السورة تذكرة وموعظة لكل ذي قلب أي عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل، لأنه

موضعه في رأي القرطبي وغيره من المتقدمين. 3- بالرغم من هذا التذكير العام بما سبق، أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى للرد على منكريه، وللرد على اليهود الذين زعموا أن اللَّه تعالى بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، فأكذبهم اللَّه تعالى في ذلك. 4- علّم اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم في مواجهة هذه التحديات لرسالته بأربعة أوامر: هي الصبر على ما يقولون، والاستعانة على ذلك بالتسبيح والصلاة، لتقوية الإرادة والعزيمة بالصبر، وتقوية الروح بالتسبيح والصلاة، ففي ذلك لقاء مع خالق الوجود، وتفويض له، واستلهام منه، واستعانة واستغاثة به وبقدرته الفائقة الباهرة. والأمر الثالث: الاشتغال بتنزيه اللَّه تعالى مدى الدهر، كقوله سبحانه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر 15/ 99] أي الموت، والاستماع لما يخبره اللَّه به من أهوال القيامة، وتحذيره أن يكون مثل هؤلاء المعرضين. والأمر الرابع: التذكير بالقرآن، ومتابعة تبليغ الرسالة ودعوة اللَّه، لمن يخاف عقاب اللَّه ويخشى وعيده. كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بارّ يا رحيم. ونحن نقول معه ذلك إلى الأبد. وتخلل هذه الأوامر الأربعة إخبار بأمور أربعة تساعد على امتثال الأوامر واستهلاك طاقات التحدي واستيعابها وإنهائها: وهي التذكير بسماع صيحة القيامة وصيحة البعث والحشر للجزاء والحساب يوم خروج الناس من القبور، وإعلان حقيقة كون اللَّه هو المحيي والمميت وإليه مصير الخلائق للحساب والجزاء، وإظهار كيفية تصدع الأرض وتشققها لخروج الناس الموتى منها أحياء مسرعين لإجابة نداء المنادي إلى المحشر، علما بأن ذلك الحشر والجمع هيّن يسير على اللَّه،

وإعلام الكفار وغيرهم بأن علم اللَّه محيط شامل لكل ما يقولون، وما يعملون من تكذيب وشتم. وهذه الأمور الأربعة في غاية التهويل والتفخيم والتهديد لأهل التحدي ودعاة التحدي وأعوانهم وسلالاتهم وأشياعهم في كل عصر. انتهى الجزء فلله الحمد والمنة

سورة الذاريات:

[الجزء السابع والعشرون] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الذاريات مكيّة، وهي ستون آية. تسميتها: سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها، وأنها من جند الله تعالى. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين: 1- ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق، وأن الجزاء واقع. 2- ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة، كقوم نوح، وعاد وثمود، ولوط وشعيب، وتبّع، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم السلام. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي

التوحيد والرسالة والبعث، ونفي أضدادها وهي الشرك، وتكذيب النبوة، وإنكار المعاد. وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء، والسحب التي تحمل الأمطار، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية، وتدبّر أمر الخلق. ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر، ليدرك العاقل الفرق بينهما، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة. وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها، فكان مصيرهم الدمار والهلاك، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى، وعاد وثمود، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه. ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا، والفرار إلى الله من مخاطرها، والنهي عن الشرك بالله، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن قومه، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين. وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة الله تعالى وعبادته والإخلاص له، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين.

القسم على وقوع البعث [سورة الذاريات (51) الآيات 1 إلى 14] :

القسم على وقوع البعث [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) الاعراب: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً الواو: واو القسم، وَالذَّارِياتِ صفة لموصوف محذوف تقديره: ورب الرياح الذاريات، فحذف الموصوف، وجواب القسم: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. فَالْحامِلاتِ وِقْراً وِقْراً مفعول الحاملات. فَالْجارِياتِ يُسْراً يُسْراً صفة لمصدر محذوف، تقديره: جريا يسرا، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه، أو مصدر في موضع الحال، أي ميسرة. إِنَّما تُوعَدُونَ ما: مصدرية أو موصولة، وهو جواب القسم. أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ مبتدأ وخبر. يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يَوْمَ في موضع رفع على البدل من يَوْمَ الأول، إلا أنه بني، لأنه أضيف إلى غير متمكن. البلاغة: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ في قوله: قُتِلَ استعارة تبعية، حيث استعار القتل للدعاء عليهم باللعن، لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَالذَّارِياتِ الرياح تذرو التراب وغيره. فَالْحامِلاتِ السحب تحمل الأمطار. وِقْراً ثقلا. فَالْجارِياتِ السفن التي تجري على سطح الماء. يُسْراً بسهولة أو جريا سهلا. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة التي تقسّم أمور العباد والأمطار والأرزاق وغيرها. إِنَّما تُوعَدُونَ أي إن وعدكم بالبعث وغيره. لَصادِقٌ لوعد صادق. وَإِنَّ الدِّينَ الجزاء بعد الحساب. لَواقِعٌ لحاصل لا محالة. استدل تعالى باقتداره على هذه الأشياء على اقتداره على البعث الموعود. وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرق جمع حبيكة، إما الطرق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو الطرق المعقولة التي يتوصل بها إلى المعارف. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ إنكم يا أهل مكة في شأن القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم في قول متناقض مضطرب، فتقولون تارة: سحر وساحر، وتارة: شعر وشاعر، وتارة: كهانة وكاهن، وتقولون أحيانا: الله خالق السموات والأرض، ثم تقولون بعبادة الأوثان معه، وفي شأن الحشر: تارة تقولون: لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون: الأصنام شفعاؤنا يوم القيامة عند الله. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يصرف عن الرسول أو القرآن أو الإيمان من صرف عن الهداية في علم الله تعالى، إذ لا صرف أشد منه. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف. فِي غَمْرَةٍ جهل يغمرهم. ساهُونَ غافلون عما أمروا به. يَسْئَلُونَ النبي سؤال استهزاء. أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ متى مجيء يوم الجزاء؟ وجوابهم محذوف، أي يجيء. يُفْتَنُونَ يحرقون، يقال: فتنت الذهب: أحرقته وأذبته ليعرف غشه، فاستعمل في الإحراق والتعذيب. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي يقال لهم: ذوقوا تعذيبكم. هذَا التعذيب. الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وقوعه في الدنيا استهزاء. التفسير والبيان: لما بيّن الله تعالى في آخر سورة ق المتقدمة أن المشركين مصرّون على إنكار الحشر بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم، لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان، فافتتحت هذه السورة بذلك: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً،

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ أقسم الله سبحانه هنا لإثبات الحشر بالمتحركات، لأن الحشر فيه جمع وموج وتفريق، وهو بالحركة أليق، فأقسم بالرياح التي تذرو وتفرّق التراب وكل ما شأنه أن يتطاير متجاوزة قانون الجاذبية الأرضية، وبالسحب التي تحمل الماء بكميات ثقيلة، وبالسفن التي تجري فوق وجه الماء، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد، وكل ملك مخصص بأمر، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء، وميكائيل الموكل بالرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصّور، وعزرائيل لقبض الأرواح. أقسم سبحانه بتلك المظاهر الكونية المرئية وغير المرئية العجيبة التأثير على أن ما وعد به الناس من الحشر إلى الله تعالى، ووقوع المعاد، لصادق غير كاذب، وأن الجزاء من الثواب والعقاب لكائن حاصل لا محالة. وكان هذا القسم تأكيدا لإخباره بوقوع الحشر ويسره وسهولته في السورة السابقة ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وفيه إشارة إلى إنكار مشركي مكة وأمثالهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان عليه. والحكمة من القسم هنا وفي غير ذلك من السور أن العرب كانت تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قوي الحجة، غالب في المجادلة والبرهان، فأقسم الله لهم بكل شريف ليعلموا صدقه، ويؤكد حجته، كما أنهم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها، فحلف الله لهم للتصديق والثقة التامة، وهم يعلمون أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلف كاذبا، ولم يصب بسوء بعد أيمانه، بل ازداد رفعة وثباتا، مما يدل على كونه صادقا فيما يقول. ثم إن هذه الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل على كامل قدرته على البعث وغيرها، فمن أوجد هذه الأشياء وصرّفها كيفما يشاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق مرة أخرى يوم القيامة.

وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي والسماء ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء، فكل شيء أحكمته وأحسنت عمله، فقد حبكته واحتبكته، أو ذات الشدة مثل قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ [الطارق 86/ 11] أو ذات الطرائق والممرات المحكمة وهي ممرات الكواكب، والبناء المتقن، مثل قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج 85/ 1] . والخلاصة: والسماء ذات البنيان المتقن والجمال والحسن والطرائق المحكمة إنكم يا كفار قريش لفي قول مضطرب متناقض غير متلائم في أمر القرآن والرسول، فمرة تقولون في القرآن: شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، وحينا تقولون في الرسول: شاعر وساحر وكاهن ومجنون، وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به من كذّب به، ويروج على من هو ضال في نفسه، جاهل غمر لا فهم له، لأنه قول باطل، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول متناقض، إذ الشاعر أو الساحر أو الكاهن يحتاج إلى عقل وذكاء وفطنة، أما المجنون فلا عقل عنده. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ لعن وقبح الكذابون أصحاب القول المختلف المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين هم في جهل يغمرهم، غافلون في الكفر والشك عما أمروا به وعما هم قادمون عليه. وهذا في الأصل دعاء عليهم بالقتل والهلاك، كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس 80/ 17] ثم جرى مجرى: لعن وقبح. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء، قائلين: متى يوم الجزاء؟ فقل لهم: إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم، يقال: فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره.

فقه الحياة أو الأحكام:

ويقال لهم من الخزنة: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي يقال لهم: ذوقوا عذابكم أو حريقكم، هذا العذاب الذي كنتم تتعجلون به أو تطلبون تعجيله استهزاء منكم، وظنا أنه غير كائن. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي: 1- تعظيم المقسم به وهو الرياح الشديدة التأثير التي لا تخضع لقانون الجاذبية، والسحب المحملة بأحمال ثقيلة وهي الأمطار سبب الرزق والخيرات، والسفن الجارية فوق سطح الماء، والملائكة التي تقسّم الأمطار وأرزاق العباد وأمورهم. ولله أن يقسم على ما يشاء، في أي وقت يشاء، ولكل أمر يشاء. ويلاحظ أن جميع السور التي بدئت بغير الحروف، كهذه السورة، كان المقسم عليه أحد أصول الاعتقاد: التوحيد، والرسالة، والبعث، فسورة الصافات أقسم فيها على التوحيد، فقال: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) وفي سورة النجم والضحى أقسم على صدق الرسول، حيث قال: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (1- 3) وبقية السور كان المقسم عليه هو البعث والجزاء. كما يلاحظ أيضا أن الله تعالى أقسم بمجموع المؤنث السالم في سور خمس، ففي سورة والصافات لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات، وفي السور الأربعة الباقية أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر، فقال: وَالذَّارِياتِ وَالْمُرْسَلاتِ وَالنَّازِعاتِ وَالْعادِياتِ لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق، كما تقدم.

2- إن المقسم عليه هو صدق وعد الله بالحشر والبعث والمعاد، ووقوع الجزاء والحساب والثواب والعقاب. 3- أقسم الله تعالى مرة ثانية في مطلع هذه السورة بالسماء ذات البنيان المتقن والجمال البديع، والاستواء، والطرائق المحكمة على أن المشركين في قول متخالف متناقض في شأن الله عز وجل، حيث قلتم: إنه خالق السموات والأرض، وتعبدون معه الأصنام، وفي شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قلتم تارة: إنه مجنون، وتارة أخرى: إنه ساحر، والساحر لا يكون إلا عاقلا، وفي أمر الحشر قلتم: لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وزعمتم أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة، ونحو ذلك من الأقوال المتناقضة. 3- يصرف عن الإيمان بالقرآن والرسول من صرف عنه في سابق علم الله تعالى، وقضائه السابق، لعلمه بأنه ضال في نفسه. 4- لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف المتناقض، المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين يقولون: لسنا نبعث، ويتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذّاب ساحر شاعر، علما بأنهم في جهل، غافلون عما أمروا به. وهذا دعاء عليهم، لأن من لعنه الله، فهو بمنزلة المقتول الهالك. 5- كان مشركو مكة وغيرهم من العرب متجبرين معاندين مصرين على كفرهم، مما جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا: متى يوم الحساب؟ فأجابهم ربهم بأنه اليوم الذي يحرقون فيه في نار جهنم، ثم وبخهم الله وتهكم بهم قائلا لهم أو تقول الخزنة لهم: ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم، ذلك العذاب الذي كنتم تستعجلون به في الدنيا، وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.

جزاء المتقين وأوصافهم [سورة الذاريات (51) الآيات 15 إلى 23] :

جزاء المتقين وأوصافهم [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) الاعراب: آخِذِينَ حال من الضمير في حبر إِنَّ. كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قَلِيلًا إما صفة مصدر محذوف، أي يهجعون هجوعا قليلا، أو صفة لظرف محذوف، أي كانوا يهجعون وقتا قليلا، وما زائدة، ويجوز أن تكون ما مع ما بعدها مصدرا في موضع رفع على البدل من ضمير. كان وقَلِيلًا خبر كان، وتقديره: كان هجوعهم من الليل قليلا. وقال السيوطي: يهجعون: خبر كان، وقَلِيلًا ظرف. وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ مبتدأ، وَفِي الْأَرْضِ خبره. ولا يجوز أن يتعلق فِي أَنْفُسِكُمْ بقوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ على تقدير: أفلا تبصرون في أنفسكم، لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما في حيّز الاستفهام على حرف الاستفهام. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مِثْلَ حال من الضمير في حَقٌّ وما زائدة، ويقرأ بالرفع على أنه صفة حَقٌّ لأنه نكرة: لأنه لا يكتسي التعريف بالإضافة إلى المعرفة وهي أَنَّكُمْ لأن وجوه التماثل بين الشيئين كثيرة غير محصورة. البلاغة: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ مجاز مرسل، أطلق الرزق، وأراد المطر، لأنه سبب الأقوات. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فيه تأكيد الخبر بالقسم وإنّ واللام، وهذا النوع من التأكيد الإنكاري، لأن المخاطب منكر لذلك.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: فِي جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ ينابيع تجري فيها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم، راضين به، وهو ما أعطاهم ربهم من الثواب، والمعنى: أن كل ما آتاهم ربهم حسن مرضي، متلقّى بالقبول إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي إنهم قبل دخولهم الجنة قد أحسنوا أعمالهم في الدنيا، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك. كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي ينامون في زمن يسير من الليل، ويصلون أكثره، والهجوع: النوم، والهجعة: النومة الخفيفة. وَبِالْأَسْحارِ أواخر الليل، جمع سحر: وهو الجزء الأخير من الليل قبيل الفجر. يَسْتَغْفِرُونَ يقولون: اللهم اغفر لنا، أي إنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا، أخذوا في الاستغفار. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ نصيب يوجبونه على أنفسهم، تقربا إلى الله، وإشفاقا على الناس. لِلسَّائِلِ المستعطي المستجدي. وَالْمَحْرُومِ الذي حرم من المال، والمراد به المتعفف الذي يظن كونه غنيا، فيحرم الصدقة. وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أي في كرة الأرض من الجبال والبحار والأشجار والثمار والمعادن والنبات والإنس والجن والحيوان وغير ذلك دلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته. لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الذين أيقنوا بالله، وسلكوا الطريق الموصل إلى رضوان الله. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في تركيب أنفسكم وخلقكم من العجائب آيات أيضا. أَفَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظرة متأمل معتبر، يستدل بذلك على الصانع وقدرته. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي في السحاب أسباب الرزق وهو المطر الذي ينشأ عنه النبات الذي هو رزق مسبب عن المطر. وَما تُوعَدُونَ أي والذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب. إِنَّهُ لَحَقٌّ أي ما توعدون حق ثابت. مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، فكما أنه لا شك في أنكم تنطقون، لا شك في تحقق ذلك. سبب نزول الآية (19) : وَفِي أَمْوالِهِمْ ... : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة-، فنزلت: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية

المناسبة:

شاملة لما بعدها «1» . قال ابن عباس: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلّا، أو يغني محروما. وقال ابن العربي: لأن السورة مكية، وفرضت الزكاة بالمدينة. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى حال الفجار الأشقياء الذين كذبوا بالبعث، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبدوا مع الله إلها آخر من وثن أو صنم، أراد تعالى أن يبين حال المؤمنين الأتقياء وأوصافهم وجزاءهم في الآخرة. التفسير والبيان: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي إن الذين اتقوا ربهم، وتجنبوا ما يعرضهم لعذاب الله، من التزام أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم المعاد في بساتين فيها عيون جارية، قابلين قبول رضا لكل ما أعطاهم ربهم، راضين به، فرحين بعطائه وفضله، بخلاف ما يتعرض له أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلاق. فقوله: آخِذِينَ كما ذكر الزمخشري: قابلين قبول راض، كما قال تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة 9/ 104] أي يقبلها. وقيل: الأخذ بمعنى التملك، يقال: بكم أخذت هذا؟ كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. وعلى كل: الأخذ في هذا المقام إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية، لما أسلفوا من حسن العبادة، ووفور الطاعة، ولهذا علله بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون الله فيها، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 235

ثم أبان الله تعالى وجوه إحسانهم في العمل، فقال: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، فتكون ما زائدة وهو القول المشهور، وقَلِيلًا ظرف، ويجوز أن تجعل ما صفة للمصدر، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون ما نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه، وقال: لا يجوز أن تكون نافية، لأن ما بعد ما لا يعمل فيما قبلها، تقول: زيدا لم أضرب «1» . وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يقولون في الجزء الأخير من الليل: اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، وكأنهم باتوا في معصية، وهذا سيرة الكريم، يأتي بأبلغ وجوه الكرم، ثم يستقله ويعتذر، واللئيم بالعكس، يأتي بأقل شيء، ثم يمنّ به، ويستكثر. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار. ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من تائب، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر، فأغفر له؟ هل من سائل، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر» . وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف 12/ 98] : أخرهم إلى وقت السحر. وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية، وصفهم بأداء العبادة المالية، فقال:

_ (1) الكشاف: 3/ 168

وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين على سبيل البرّ والصلة، والسائل: هو الفقير الذي يبتدئ بالسؤال، والمحروم: هو الذي يتعفف عن السؤال، فيحسبه الناس غنيا، فلا يتصدّقون عليه. أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بالطواف الذي تردّه اللّقمة واللقمتان، والتّمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه» وفي لفظ آخر أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه، فيتصدق عليه، فذلك المحروم» . وللسائل حق، أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق، وإن جاء على فرس» . والمشهور في الحق: أنه هو القدر الذي علم شرعا، وهو الزكاة، وهذا ما رجحه ابن العربي والجصاص الرازي وغيرهما أخذا بقول ابن عباس: نسخت الزكاة كل صدقة. وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا: الزكاة المفروضة. قال القرطبي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة المعارج: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [24- 25] والحق المعلوم: هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به، فليس بمعلوم، لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت «1» .

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 412، أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1718، تفسير الرازي: 28/ 205، تفسير القرطبي: 17/ 38

ويؤيد ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أدّيت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك فيه» . وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت الحق الذي يجب عليك» قال الجصاص «1» : فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة، وأنه لا حق على صاحب المال وغيرها. وقال منذر بن سعيد: هذا الحق: هو الزكاة المفروضة. وبالرغم من أن هذا صحيح، وأنه قول الجمهور، فإن السورة مكية، وفرض الزكاة بالمدينة، وإذا فسر الحق بأنه الزكاة لم يكن صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك يؤدي زكاة ماله، فالظاهر أن المراد بالآية هنا صدقات التطوع غير الزكاة، وهي أي الصدقات التي تعطى على سبيل البر والصلة، عن ابن عمر: أن رجلا سأله عن هذا الحق، فقال: الزكاة، وسوى ذلك حقوق، فعمم. واحتج من أوجب في المال حقا سوى الزكاة بما روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... الآية [البقرة 2/ 177] فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ «2» . ثم أكد الله تعالى وقوع الحشر والدلالة على قدرته بالأدلة الأرضية، فقال: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار وأنهار وبحار وأصناف نبات وحيوان وناس مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وتفاوت المعقول والفهوم وما في تركيب أجسادهم

_ (1) الجصاص، المرجع السابق: ص 411 (2) الجصاص، المرجع والمكان السابق.

من عجائب الصنع، دلائل واضحة وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، للموقنين بالله، لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه، فينتفعون به. وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق، المتفرد بالألوهية، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء، وعلى البعث وإعادة الحياة. ففي النفس والدماغ ذي الملايين من الخلايا، وحواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق، ودورة الدم، وأجهزة التنفس والهضم والبول، كل ذلك أدلة مقنعة لمن يعقلها، ولا يعقلها حقيقة إلا المؤمنون المتقون الله، أما غيرهم فيفسرها على أنها حقائق طبيعية مادية فقط. ثم ذكر الله تعالى ضمانه الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ أي، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير أو شر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السماء التي هي السحاب المطر، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول، التي يكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها نور القمر قوة ونموا ونضجا. ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق، فقال: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي فورب العزة والجلال، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة

والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه، حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكّوا في نطقكم حين تنطقون، فهو كمثل نطقكم، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا، كما تقول: إنه لحق، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك هاهنا. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم، ثم لم يصدقوا» . قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة، فطلع أعرابي على قعود، فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليّ، فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فقال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على الناس، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وولّى. فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلّم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح، فقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه «1» . وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع

_ (1) أسنده الثعلبي، راجع غرائب القرآن: 27/ 10- 11، تفسير القرطبي: 17/ 42

فقه الحياة أو الأحكام:

قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود 11/ 6] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن مآل المتقين في بساتين فيها عيون جارية، على نهاية ما يتنزه به، قابلين قبول رضا، قريرة أعينهم بما أعطاهم ربهم من الثواب وأنواع الكرامات. وهذا في مقابل مآل الكفار في نار جهنم في الآيات السابقة. 2- أوصاف المتقين المذكورة في هذه الآيات تنحصر في هذه الآيات تنحصر في هذه إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم ثلاثة أشياء: تهجدهم بالليل بعد نومهم زمنا قليلا، واستغفارهم من ذنوبهم بالأسحار (أواخر الليل قبيل الفجر) وأداء حقوق أموالهم من الزكاة المفروضة وصدقات التطوع على سبيل البر والصلة. وإنما أضاف المال إليهم، وفي مواضع أخرى قال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس 36/ 27] لأن هذه الآية للحث على الإنفاق، وأما الآية التي في هذه السورة فهي مدح على ما فعلوا، مما يدل على أنهم في غير حاجة إلى التذكير بالحرص المانع من النفقة. 3- من أدلة قدرة الله على البعث والنشور: خلق الأرض والسماء والأنفس، ففي الأرض علامات على با هر قدرته، منها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدّر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة، ولا ينتفع بتلك العلامات ولا يتدبر بها إلا الموقنون، وهم العارفون ربهم الموحّدون إلههم، المصدّقون بنبوة نبيهم.

وفي الأنفس البشرية آيات أيضا للمتأملين المؤمنين الموقنين، من تركيب الجسم العجيب، وتلازم الروح والجسد، والعقل والفؤاد، والقوى والإرادات، لذا عقبه تعالى بقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرة الله تعالى. وهذا إشارة إلى دليل الأنفس، وهو كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت 41/ 53] . وفي السماء أسباب الرزق من مطر وثلج ينبت به الزرع، ويحيا به الخلق، وفيها تقدير ما يوعد به البشر من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب. وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن، فذكر الأرض وهي المكان، ثم عمرها وآنسها بالإنسان، ثم ذكر ما به بقاؤه وهو الرزق. 4- أكد رب العزة ما أخبر به من البعث، وما خلق في السماء من الرزق، وما قدّر من أقوات الحيوانات والنفوس البشرية، فأقسم عليه بأنه لحق، ثم أكده بقوله: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، أي إن ذلك ثابت حسّا، كما يدرك الإنسان يسر نطقه وكلامه. وخص النطق من بين سائر الحواس: لأن ما سواه من الحواس يحدث فيه اللبس والتشبيه. وهذا قسم ثالث: فبعد أن أقسم تعالى بالأمور الأرضية وهي الرياح، ثم أقسم بالسماء في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أقسم هنا بالذات العلية، وهذا ترتيب منطقي سليم، يقسم المتكلم أولا بالأدنى، فإن لم يصدق به، يرتقي إلى الأعلى.

قصة ضيف إبراهيم ومهمتهم في إهلاك قوم لوط [سورة الذاريات (51) الآيات 24 إلى 37] :

قصة ضيف إبراهيم ومهمتهم في إهلاك قوم لوط [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) الاعراب: فَقالُوا: سَلاماً قالَ: سَلامٌ سَلاماً: منصوب على المصدر أو بوقوع الفعل عليه. وسَلامٌ: إما مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: سلام عليكم، وجاز الابتداء، لأنه في معنى الدعاء أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمري سلام عليكم. وقَوْمٌ مُنْكَرُونَ خبر مبتدأ، أي هؤلاء. فِي صَرَّةٍ متعلق بمحذوف حال، أي كائنة. وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ لم يقل: عقيمة، لأن عَقِيمٌ فعيل بمعنى مفعول، وهذه الصيغة لا تثبت فيها الهاء، تقول: عين كحيل، وكف خضيب، ولحية دهين، أي عين مكحولة، وكف مخضوبة، ولحية مدهونة، وذلك للتفرقة بين فعيلة بمعنى مفعولة، وفعيلة بمعنى فاعلة، نحو: شريفة وظريفة ولطيفة، وعقيم بمعنى معقومة، لا بمعنى فاعلة، فلم تثبت فيها الهاء.

البلاغة:

قالُوا: كَذلِكَ قالَ: رَبُّكِ الكاف في كَذلِكَ صفة مصدر محذوف، تقديره: قال ربك قولا كذلك، أي مثل ذلك. البلاغة: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أسلوب التشويق والتفخيم، لتفخيم شأن الحديث. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ عَجُوزٌ عَقِيمٌ إيجاز بالحذف، أي أنتم قوم منكرون، وأنا عجوز عقيم. المفردات اللغوية: هَلْ أَتاكَ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيوف، وضيف في الأصل، مصدر، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة، كالزّور والصوم، وكانوا اثني عشر ملكا، أو تسعة عاشرهم جبريل، أو ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وسماهم ضيفا، لأنهم كانوا في صورة الضيف. الْمُكْرَمِينَ لأنهم في أنفسهم مكرمون، كما قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 21/ 26] أو لأن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف لحديث ضيف، أو للضيف أو المكرمين. فَقالُوا: سَلاماً قالوا هذا اللفظ أو نسلم عليكم سلاما. قالَ: سَلامٌ أي عليكم سلام، عدل به إلى الرفع بالابتداء، لقصد الثبات حتى تكن تحيته أحسن من تحيتهم. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم قوم غير معروفين، قال ذلك في نفسه، أو صرح به للتعرف عنهم أو بهم. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ذهب إليهم في خفية من ضيفه، أو مال إليهم سرا، قال الزمخشري: ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ممتلئ شحما ولحما لأنه كان عامة ماله البقر، وفي سورة هود: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) أي مشوي. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وضعه بين أيديهم. قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ منه؟ أي عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أضمر في نفسه منهم خوفا، لما رأى إعراضهم عن طعامه، لظنه أنهم جاءوه لشرّ. قالُوا: لا تَخَفْ إنا رسل الله. وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي عليم كثير، هو إسحاق عليه السلام، كما ذكر في هود. امْرَأَتُهُ هي سارّة رضي الله عنها لما سمعت بشارتهم له، وكانت في زاوية تنظر إليهم. فِي صَرَّةٍ في صيحة، أي جاءت صائحة. فَصَكَّتْ وَجْهَها لطمته بأطراف أصابعها عجبا

المناسبة:

وحياء، بأن ضربت بيدها على جبهتها. وَقالَتْ: عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي أنا عجوز كبيرة السن، عاقر لم ألد قط، فكيف ألد؟ وكان عمرها تسعا وتسعين سنة (99) وعمر إبراهيم مائة أو مائة وعشرين. قالُوا: كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي بشرنا به. قالَ رَبُّكِ هو قول الله، وإنما نخبرك به عنه. الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ذو الحكمة في صنعه، والعلم الواسع بخلقه. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم الخطير، قال ذلك لما علم أنهم ملائكة، وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه. إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط. حِجارَةً مِنْ طِينٍ مطبوخة بالنار وهو السجيل: الطين المتحجر. مُسَوَّمَةً معلمة من السّومة: وهي العلامة. لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور، بإتيانهم الذكور، مع كفرهم. فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط، وأضمرت ولم تذكر سابقا، لكونها معلومة. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط، بقصد إهلاك الكافرين. غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي غير أهل بيت من المسلمين، وهم لوط وابنتاه وأتباعه إلا امرأته، أي مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات. واستدل به على اتحاد الإسلام والإيمان، لكنه- كما قال البيضاوي- استدلال ضعيف، لأن المراد اجتماع الصفتين فيهم، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهومهما. وَتَرَكْنا فِيها بعد إهلاك الكافرين. آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من الهلاك. لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ لمن خافوا عذاب الله المؤلم، فلا يفعلون مثل فعلهم. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى إنكار مشركي مكة للبعث والنشور، سلّى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، فقد أوذوا من أقوامهم، وأعرض هؤلاء عن دعوة رسلهم. وبدأ تعالى بقصة إبراهيم بعد إيرادها في سورة هود والحجر، لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته، وإنذارا لقومه بما جرى من الضيف، وبيانا لإنزال الحجارة على المذنبين المضلين، حتى يتعظ أو يعتبر كفار قريش وأمثالهم إلى يوم القيامة. ثم سألهم إبراهيم عن شأنهم وسبب مجيئهم، فأخبروه بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي هل بلغك خبر قصة إبراهيم عليه السلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله سبحانه الذين جاؤوا إليه في صورة بني آدم، وهم في طريقهم إلى قوم لوط، فدخلوا عليه وسلموا بقولهم: سلاما، أي نسلم عليك سلاما، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات، فقال: سلام عليكم، إنكم قوم لا أعرفكم من قبل، فمن أنتم؟ وقيل: إنه قال دلك في نفسه، ولم يخاطبهم به، لأن هؤلاء الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة. ابتدأ الله تعالى بالاستفهام التقريري تفخيما لشأن الحديث، ولفتا للنظر والانتباه، مع تهديد العرب ووعيدهم ووعظهم، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجري عليه من قومه، وأطلق عليهم صفة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام، والضيافة سنة، وذهب أحمد وجماعة إلى وجوب الضيافة للنزيل، وحيّوه بصيغة سَلاماً التي هي دعاء، فردّ عليهم الخليل مختارا الأفضل من التسليم، فقال: سَلامٌ لأن الرفع أقوى وأثبت من النصب، لدلالته على الثبات والدوام. والظاهر الذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لم يقل لهم: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ولم يخاطبهم بذلك، بل أسرّها في نفسه، فقال: هؤلاء قوم منكرون، أو قال ذلك لمن معه من أتباعه وخدمه وجلسائه، لأن التصريح بمثل هذا فيه إيحاش للضيف وعدم إيناس. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ أي عدل أو ذهب إلى أهله خفية من ضيوفه في سرعة، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا، كما في سورة هود: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ

(69) أي مشوي على الرّضف (الحجارة المحماة) . وبعد أن أدناه منهم ووضعه بين أيديهم دعاهم بتلطف وأدب، وعرض حسن قائلا مستحثا: أَلا تَأْكُلُونَ؟ وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، دون سابق عرض، لأن إبراهيم عليه السلام كان جوادا كريما، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتيّ سمين مشوي، لأن جلّ ماله كان البقر، ووضعه بين أيديهم، ودعاهم على سبيل التلطف في العرض قائلا: ألا تأكلون؟ فأعرضوا، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي فلما أعرضوا عن الطعام ولم يأكلوا، أحسّ في نفسه خوفا منهم، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام لشرّ مبيت، وأن من أكل من طعام إنسان، صار آمنا منه، فظن إبراهيم عليه السلام أنهم جاؤوا للشر، ولم يأتوا للخير، كما في سورة هود: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (70) . قالُوا: لا تَخَفْ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي قالت الملائكة لإبراهيم: إننا ملائكة رسل من الله تعالى، كما في آية أخرى: قالُوا: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود 11/ 70] . وبشروه «1» بغلام يولد له، كثير العلم بعد البلوغ، وهو إسحاق عليه السلام، كما قال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود 11/ 71] وتضمنت البشارة شيئين مفرحين، هما كونه غلاما ذكرا، وكونه عالما، والعلم أكمل الصفات.

_ (1) وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ أي بواسطة الملائكة.

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ، فَصَكَّتْ وَجْهَها، وَقالَتْ: عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي فلما سمعت امرأته سارّة بشارتهم، وكانت في ناحية من البيت تسمع كلامهم، أقدمت صائحة صارخة، وضربت بيدها على وجهها، كما هي عادة النساء عند التعجب، وقالت: كيف ألد، وأنا كبيرة السن، وعقيم لا تلد، حتى في عهد شبابها، كما جاء في آية أخرى: قالَتْ: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود 11/ 72] . قالُوا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي كما قلنا لك وأخبرناك قال ربّك، فلا تشكّي في ذلك، ولا تعجبي منه، فنحن رسل الله، والله على كل شيء قدير، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون، كما جاء في آية أخرى: قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود 11/ 72] . وهذه المفاوضة لم تكن مع سارّة فقط، بل كانت مع إبراهيم أيضا، حسبما تقدم في سورة الحجر (53- 54) وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود (72) . ويكون استبعادها الولد لسببين: كبر السن، والعقم، فكأنها قالت: يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم، مثلما يصدر من الضيف من مجاملات الأدعية، كقوله: الله يعطيك مالا ويرزقك ولدا، فقالوا: هذا منا ليس بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى: قالُوا: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكِ ثم دفعوا استبعادها بقولهم: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ «1» . والسبب في اختلاف تذييل الآيتين حيث قال هنا: الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وفي هود قال: حَمِيدٌ مَجِيدٌ: أنهم في سورة هود نبهوها إلى القيام بشكر نعم الله،

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 215

فناسب قولهم: حَمِيدٌ مَجِيدٌ لأن الحميد: هو الذي يستحق الحمد والشكر لصدور الأفعال الحسنة منه، والمجيد: الممجد الذي يستحق الحمد بنفسه وبمجده. وأما هنا فأرادوا التنبيه إلى الحكمة العامة من الولادة في الكبر وبعد العقم طوال الحياة. وهي الدلالة على حكمته وعلمه، فهو حكيم في فعله يضع الأمور في نصابها، عليم بشؤون خلقه «1» . وبعد بشارة الملائكة إبراهيم عليه السلام بالغلام، سألهم عن شأنهم وسبب مجيئهم: قالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي فما شأنكم الخطير، وفيم جئتم، وما قصتكم المثيرة، وما سبب إرسالكم من جهة الله؟ فأجابوه: قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي قالت الملائكة رسل العذاب ورسل البشرى: إنا بعثنا إلى قوم لوط الذين أجرموا بالكفر وارتكاب الفواحش، لنرجمهم بحجارة من طين متحجر، مطبوخ بالنار، كالآجرّ، معلمة بعلامات تعرف بها، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة، المجاوزين الحد في الفجور. ثم أخبر الله تعالى عن أن هذا العذاب ليس عشوائيا يصيب الصالح والطالح، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين، فقال: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي لما أردنا إهلاك قوم لوط، أخرجنا من كان في تلك القرى من قومه المؤمنين به، تنجية لهم من العذاب، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط بن هاران- أخي إبراهيم- بن تارح، أي كان لوط ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام، آمن

_ (1) المرجع والمكان السابق.

بعمّه، وتبعه في رحلاته إلى مصر، ثم تركه عن تراض، ونزل إلى سدوم في الأردن. وكان أولئك المؤمنون هم لوط وأهل بيته إلا امرأته، قال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر. ونحو الآية: قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [العنكبوت 29/ 32] . وقد احتج بهذه الآية المعتزلة الذين لا يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. قال ابن كثير: وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ومسلمين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا، لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال. والدليل على التفرقة بين الإسلام والإيمان الآية السابقة: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات 49/ 14] وحديث الصحيحين عن عمر رضي الله عنه: «أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه، قال: صدقت» . ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة قوم لوط، فقال: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي وأبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه وهم المؤمنون، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم، فإنها ظاهرة مبيّنة، جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال

فقه الحياة أو الأحكام:

وحجارة السجيل، وقلبنا ديارهم عاليها سافلها، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، وهي بحيرة طبرية. ونظير الآية: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت 29/ 35] . وهذا دليل على أنه إذا غلب الشر والكفر والفسق، كان الدمار والهلاك. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي فيما تضمنته من قصتين: قصة البشارة بإسحاق، والإخبار بإهلاك قوم لوط، فمن القصة الأولى يستفاد ما يلي: 1- ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته، كما فعل بقوم لوط. 2- وصف الله سبحانه الملائكة بكونهم ضيوفا، ولم يكونوا كذلك، إكراما لإبراهيم عليه السلام في حسابه وظنه، فلم يكذبه الله تعالى في ذلك. وهم أيضا عباد مكرمون عند الله عز وجل، وعند إبراهيم عليه السلام، إذ خدمهم بنفسه وزوجته، وعجّل لهم القرى، ورفع مجالسهم، كما في بعض الآثار. 3- السنة التحية لكل قادم على غيره، وهي السلام، فقال الملائكة: نسلم عليك سلاما، والمراد من السلام هو التحية وهو المشهور، فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأحسن من تحيتهم، فقال: سلام عليكم، أي سلام دائم ثابت لا يزول، لقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء 4/ 86] . 4- أنكرهم إبراهيم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام والذي لم يكن شائعا في قومه الكفرة، ولأنهم عليهم السلام غرباء غير معروفين، ولأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، ولإمساكهم عن الكلام.

5- بادر إبراهيم عليه السلام إلى إكرامهم، لما اشتهر عنه من الكرم، ولأن الضيافة من آداب الدين، وكان في إعداده الطعام لهم في غاية الأدب والتكريم والسمو، يقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. واختار الأجود، فقدّم إليهم الطعام الدسم وهو عجل سمين مشوي على الحجارة المحماة، وعرض عليهم الأكل بتلطف وعرض حسن دون أمر، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل: كلوا. وأظهر السرور بأكلهم، وكان غير مسرور بتركهم الطعام، كما يوجد من بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا، ثم يترقبون إمساك الضيف عن الأكل. 6- أحسّ إبراهيم منهم الخوف في نفسه، على عادة الناس أن من يمتنع من مؤاكلة المضيف يضمر شرا مبيتا، فطمأنوه وقالوا له: لا تخف، وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله، وبشروه بولد يولد له من زوجته سارّة. 7- لما سمعت زوجته بالبشارة، تعجبت وصاحت كما جرت عادة النساء، حيث يسمعن شيئا من أحوالهن، يصحن عند الاستحياء أو التعجب، وكان تعجبها لأمرين: كبر السن والعقم. 8- أجابها الملائكة بأن ما قالوه وأخبروا به هو قول الله وحكمه، فلا يصح أن تشك فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارّة لم تلد قبل ذلك، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، والله حكيم فيما يفعله، عليم بمصالح خلقه. وأما القصة الثانية ففيها ما يأتي: 1- أدرك أبو الأنبياء إبراهيم أن وراء وفد الملائكة الجماعي شيئا خطيرا،

فبعد أن علم وتيقن أنهم ملائكة أرسلوا لأمر خطير، قال لهم: فما شأنكم وقصتكم أيها الملائكة المرسلون سوى البشارة؟ وإنما عرف كونهم مرسلين لقولهم هنا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ فهذا يدل على كونهم منزلين من عند الله، حيث حكوا قول الله. 2- أجابوه بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط، لرجمهم بحجارة معروفة بأنها حجارة العذاب، قيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وإنما قال: مِنْ طِينٍ لإفادة أن الحجارة من طين متحجر وهو السجّيل، ولدفع توهم كونها بردا، فإن بعض الناس يسمي البرد حجارة. 3- كانت الحاجة إلى قوم من الملائكة، مع أن الواحد منهم يقلب المدائن بريشة من جناحه، إظهارا لقدرة الله وتعظيمه وشدة سلطانه وغلبة جنده. 4- جرت سنة الله تعالى في إنزال الهلاك والدمار العام بإنجاء المؤمنين وتمييزهم، فلما أراد إهلاك قوم لوط أمر نبيه لوطا بأن يخرج هو مع المؤمنين من أهل بيته إلا امرأته، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود 11/ 81] . 5- دلّ قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على فائدتين «1» : إحداهما- بيان القدرة والاختيار، لتمييز الله المجرم عن المحسن. الثانية- بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، فلما خرج من القرية آل لوط المؤمنون، نزل العذاب بالباقين.

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 218 [.....]

6- دل قوله تعالى: فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ على أن الكفر إذا غلب، والفسق إذا عمّ وفشا، لا تنفع معه عبادة المؤمنين. أما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون، فلا عذاب. 7- المؤمنون والمسلمون من آل لوط سواء، لكن في الحقيقة: الإيمان: تصديق القلب، والإسلام: هو الانقياد بالظاهر لأحكام الله، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فسمّاهم تعالى في الآية الأولى مؤمنين، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. قال الرازي مؤيدا التفرقة بين الإيمان والإسلام: والحق أن المسلم أعم من المؤمن، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين. 8- إن في تعذيب قوم لوط على الكفر وفاحشة اللواط عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم، غير أن المنتفعين بالعظة والعبرة هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه، والمنتفع بها هو الخائف. وقد عبر عن ذلك في آية أخرى بأبلغ وجه حيث قال تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت 29/ 35] فقد وصف الآية بالظهور، وقال: مِنْها لا (فيها) المفيدة للتبعيض، فكأنه تعالى قال: من نفسها لكم آية باقية، وذكر أن المنتفع هو العاقل، والعاقل أعم من الخائف، فكانت الآية في العنكبوت أظهر، لأن القصد هناك تخويف القوم، وهاهنا تسلية القوم، ويؤكده أنه قال هناك: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم، وقال هنا: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم [سورة الذاريات (51) الآيات 38 إلى 46] :

قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) الإعراب: وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ.. معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وتقديره: وفي موسى آيات. هُوَ مُلِيمٌ الجملة حال من ضميرأَخَذْناهُ. وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا ... وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ ... وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ.. عند من قرأ بالجر، ومن قرأ بالنصب فهو منصوب بفعل مقدر، تقديره: أهلكنا قوم نوح، أو اذكر قوم نوح. البلاغة: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ استعارة، استعار الركن للجنود والجموع، لأنه يتقوى بهم، ويعتمد عليهم كما يعتمد على الركن في البناء. هُوَ مُلِيمٌ مجاز عقلي، أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول، أي ملام على طغيانه. الرِّيحَ الْعَقِيمَ استعارة تبعية في قوله: الْعَقِيمَ شبه استئصالهم بعقم النساء، ثم أطلق المشبه به على المشبه، واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَفِي مُوسى معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قال الزمخشري وابن عطية: وهذا بعيد جدا ينزّه القرآن عن مثله. والأصح العطف على قوله: وَتَرَكْنا فِيها والمعنى: وجعلنا في قصة موسى آية. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي مصحوبا متلبسا بسلطان مبين، أي بحجة واضحة هي معجزاته، كاليد والعصا. فَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان. بِرُكْنِهِ أي كقوله: نأى بجانبه، أو فتولى عن الإيمان مع جنوده وأتباعه، لأنهم له كالركن، والأصل في الركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا: جنوده وأعوانه، كما في آية: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود 11/ 80] . وَقالَ لموسى. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي هو ساحر أو مجنون، كأنه نسب الخوارق إلى الجنّ. نَبَذْناهُمْ طرحناهم. ي الْيَمِ في البحر.. هُوَ مُلِيمٌ آت بما يلام عليه من الكفر والعناد وتكذيب الرسل ودعوى الربوبية. وَفِي عادٍ أي وفي إهلاك عاد آية. إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ حين أرسلنا عليهم الريح العقيم، سماها عقيما، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أو لأنها لا خير ولا منفعة فيها، فلا تحمل المطر ولا تلقح الشجر، وهي الدّبور أو الجنوب أو النكباء. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي ما تترك شيئا مرّت عليه. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالرماد، أو كالشيء البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، مأخوذ من الرم: وهو البلى والتفتت. وَفِي ثَمُودَ أي وفي إهلاك ثمود آية. إِذْ قِيلَ لَهُمْ بعد عقر الناقة. تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ إلى انقضاء آجالكم. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثال أمره. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي العذاب بعد الثلاثة أيام، كما في آية: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود 11/ 65] والصاعقة: نار نازلة بسبب احتكاكات كهربية، وهي الصيحة المهلكة التي صعقتهم. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها، فإنها جاءتهم معاينة بالنهار. فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب، وهو كقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود 11/ 67] . وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب وعلى من أهلكهم. وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم نوح، ومن قرأ بالجر فهو عطف على ثمود، أي وفي إهلاكهم آية. مِنْ قَبْلُ قبل إهلاك هؤلاء المذكورين. فاسِقِينَ خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان العظة والعبرة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام، من أجل الإيمان بقدرة الله، عطف تعالى على ذلك قصص أقوام آخرين، عذبوا على تكذيب الرسل بعذاب الاستئصال، وهم فرعون موسى وأتباعه، وعاد وثمود، وقوم نوح، وقد تبين في تعذيبهم نهاية الطغاة والمكذبين والكفار الظالمين، ليثوب الناس إلى رشدهم، ويؤمنوا بالله وبالبعث، ويكفّوا عن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر برسالته. التفسير والبيان: وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي وتركنا في قصة موسى عليه السلام آية وعبرة، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا بحجة ظاهرة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وما معها من الآيات. فأعرض استكبارا وعنادا ونأى عن آياتنا بجانبه، واعتز بجنده وجموعه وقوته، وقال محقرا شأن موسى: هو إما ساحر أو مجنون، إذ لم يستطع تفسير ما رآه من الخوارق، إلا بنسبته إلى السحر أو الجنون، كما في آية أخرى: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء 26/ 34] وآية: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء 26/ 27] . َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ، وَهُوَ مُلِيمٌ أي فأخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر، فألقيناهم في البحر، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية والعناد والفجور. وهذا دليل آخر على عظمة القدرة الإلهية على إذلال الجبابرة، جزاء عتوهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.

ثم ذكر الله تعالى قصة عاد، فقال: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي وتركنا أيضا في قصة عاد آية وعبرة، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية، لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب، فلا تترك شيئا مرّت عليه من الأنفس البشرية والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي. ثم أبان الله تعالى قصة ثمود، فقال: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي وتركنا في قصة ثمود آية، حين قلنا لهم: عيشوا متمتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك، كما قال تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود 11/ 65] . فتكبروا عن امتثال أمر الله، فنزلت بهم صاعقة من السماء أهلكتهم، والصاعقة: هي كل عذاب مهلك، وهم يرونها عيانا بالنهار، أو هم ينتظرون ما وعدوه من العذاب، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، جزاء وفاقا لما اقترفوا من آثام ومعاص. فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ، وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي لم يقدروا على القيام والهرب من تلك الصرعة، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب. ثم أعقبه بقصة قوم نوح، فقال: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي وأهلكنا بالطوفان قوم نوح من قبل هؤلاء، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، متجاوزين حدوده.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذه نهاية الطغاة الظالمين وعاقبة الكفار المكذبين، أخبر بها تعالى للعظة والعبرة، وهي تذكّر بحال أربعة أقوام. - فإن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام مؤيدا بالدليل الباهر والحجة القاطعة والمعجزات كالعصا واليد، إلى فرعون الطاغية الجبار، فأعرض عن الإيمان بجنوده وجموعه، وكذبوا برسالته، ووصف فرعون موسى بأنه ساحر يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم، والجن يقربونه ويقصدونه إن لم يقصدهم، فيصير كالمجنون، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن، غير أن الساحر يأتيهم باختياره، والمجنون يأتونه من غير اختياره. فكان عاقبتهم الإغراق في البحر لكفرهم وتوليهم عن الإيمان، وإتيان فرعون بما يلام عليه من ادعاء الربوبية والطغيان والعناد. - كذلك أرسل الله هودا عليه السلام إلى قبيلة عاد، فكذبوه واستكبروا عن دعوته، وعكفوا على عبادة الأصنام، فاستأصلهم الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية، لا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة، وهي كما قال مقاتل: الدّبور، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» وقيل: هي الجنوب، لما روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الريح العقيم: الجنوب» وقال ابن عباس: هي النكباء. وكان تأثير تلك الريح شديدا مرعبا، فلم تمر بشيء من الأنفس والأموال والديار إلا جعلته كالشيء الهشيم، أو كالشيء الهالك البالي، كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف 46/ 25] . - وأرسل الله أيضا نبيه صالحا عليه السلام إلى قبيلة ثمود الذين متعهم الله تعالى بالخيرات في الدنيا، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فخالفوا أمر

إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته [سورة الذاريات (51) الآيات 47 إلى 51] :

الله، واستكبروا عن الامتثال به، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون إليها نهارا، وهي كل عذاب مهلك، وهي نار من السماء، أو صيحة منها، أي صوت شديد، فهلكوا، ولم يتمكنوا من النهوض فضلا عن الهرب والفرار، وما كان لهم ناصر ينصرهم ويمنعهم من العذاب حين أهلكوا. - وقبل هؤلاء أرسل الله نوحا عليه السلام إلى قومه، فأمرهم بترك عبادة الأصنام، والاتجاه إلى عبادة الله الواحد الأحد، فأبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم، فأهلكهم الله بالطوفان، جزاء على كفرهم وبغيهم ووثنيتهم. وأنواع العذاب في إهلاك الأقوام السابقة تدل على أن الله قادر على أن يعذب ويحقق الفناء بما به البقاء والوجود أو عناصر الحياة الأربعة: وهي التراب والماء والهواء والنار، فعذب قوم لوط بالتراب، وعذب قوم نوح وقوم فرعون بالماء، وعذب عادا بالهواء، وثمود بالنار. إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) الاعراب: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نعم: فعل ماض للمدح، والْماهِدُونَ فاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فنعم الماهدون نحن، فحذف المقصود بالمدح. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ متعلق بقوله بعده: خَلَقْنا.

البلاغة:

البلاغة: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ سجع رصين غير متكلف يزيد في جمال الأسلوب، وبين السماء والأرض طباق. المفردات اللغوية: بِأَيْدٍ بقوة، مثل الآد. لَمُوسِعُونَ لقادرون على خلقها وخلق غيرها، من الوسع: بمعنى الطاقة، والموسع: القادر على الإنفاق، يقال: آد الرجل يئيد: قوي، وأوسع الرجل: صار ذا سعة وقوة. فَرَشْناها مهدناها وبسطناها كالفراش لتستقروا عليها، يقال: مهد الفراش: إذا بسطه ووطّأه، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الأجناس. زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين: ذكر وأنثى، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وسهل وجبل، وصيف وشتاء، وحلو وحامض، ونور وظلمة. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون، فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات، أما الواجب بالذات خالق الأزواج فهو فرد واحد لا يقبل التعدد والانقسام. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فروا من عقابه إلى ثوابه ورضاه بالإقرار بالتوحيد وملازمة الطاعة وتجنب المعصية. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إني من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى بيّن الإنذار والتخويف. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد وتوحيد لمن يفرّ إليه ويلجأ لجنابة، أي وقل لهم: لا تجعلوا.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير الجملة للتأكيد. المناسبة: بعد إثبات وقوع البعث أو الحشر والمعاد لا محالة، أقام الله تعالى الأدلة على الوحدانية وعظيم القدرة، من خلق السماء محكمة البنيان، والأرض ممهدة كالفراش للاستقرار عليها، وخلق الجنسين كالذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوان، والصنفين المتضادين من بقية الأشياء، عدّد الحسن البصري أشياء كالسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثيل له.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي ولقد بنينا السماء بقوة وقدرة، وإنا لذوو قدرة وسعة على خلقها وخلق غيرها، فنحن قادرون، لا نعجز عن ذلك، ولا يمسنا تعب ولا نصب. وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان. وقوله: بِأَيْدٍ تأكيد لذلك، وقوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مزيد تأكيد. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش لتصلح للعيش والاستقرار عليها، فنعم الماهدون نحن الذين جعلناها مهدا لأهلها، ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها، برها وبحرها وجوها، فعلى سطحها يعيش الإنسان والحيوان، وفي جوفها الثروة المعدنية الجامدة والسائلة كالنفط، وفي برها مختلف النباتات والأزهار والأشجار، وفي بحرها آلاف الأنواع من الأسماك، واللآلئ والمرجان وتسير فيها السفن، وفي جوها الطير والهواء والسحب الزاخرة بالمطر، وتحليق الطائرات وغيرها. وإنما أطلق الفرش على الأرض، ولم يطلق البناء، لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى. وقوله: بَنَيْناها أدل على الاستقلال وعدم الشريك في التصرف. والآية تشير إلى أن دحو الأرض وبسطها كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون أولا قبل الفرش، وهذا هو المعروف الآن علميا. قال الرازي: في الآية دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 227

فقه الحياة أو الأحكام:

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين أو نوعين ضدين أو متقابلين: ذكر وأنثى، وحلو ومرّ، وسماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وخير وشر، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، لذا قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي خلقنا ذلك على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له، وتستدلوا بذلك على التوحيد. ثم رتب على دليل الوحدانية والقدرة أمرين: اللجوء إلى الله وتجنب الشرك إتماما للتوحيد، فقال: - فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي الجؤوا إلى الله، واعتمدوا عليه في أموركم كلها، وتوبوا من ذنوبكم، وأطيعوا أوامره، فإني لكم منذر بيّن الإنذار، ومخوّف من عذابه وعقابه. وهذا أمر بالإقبال على الله، والإعراض عما سواه. وقوله: فَفِرُّوا ينبئ عن سرعة الإهلاك، كأنه يقول: الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا. - وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي لا تشركوا بالله شيئا آخر سواه، فإن الإله المعبود بحق هو الذي لا تصلح العبادة لغيره، ثم كرر التذكير بمهمة الإنذار البيّنة للنبي صلى الله عليه وسلم للتأكيد. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إثبات وحدانية الله وقدرته بآيات الكون الكبرى، من خلق السماء التي تدل بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها وتوابعهما على أن الإله الصانع قادر على الكمال، وكذا خلق الأرض الممهدة المبسوطة الممدودة كالفراش بما فيها من خيرات

ظاهرة وباطنة، وأيضا خلق الصنفين والنوعين المختلفين من ذكر وأنثى، وحلو وحامض ونحو ذلك، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، ونور وظلام، وسهل وجبل، وجنّ وإنس، وخير وشر، وبكرة وعشيّ، والأشياء المختلفة الطعوم والروائح والأصوات. فهذا كله دليل على قدرة الله، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة، وهو إشارة إلى أن ما سوى الله تعالى مركب من أجزاء، وهو دليل على الانتقال من المركب إلى البسيط، ومن الممكن إلى الواجب، ومن المصنوع إلى الصانع، فإن خالق الأزواج فرد وإلا لكان ممكنا، فيكون مخلوقا، ولا يكون خالقا، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ ليس كمثله شيء. 2- إن الإله المتصف بالوحدانية والقدرة الباهرة يجب في حقه أمران أساسيان: اللجوء إليه وحده، والتوبة إليه من الذنوب، والفرار من معاصيه إلى طاعته، واجتناب الشرك أو عبادة شيء آخر معه. قال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله. 3- إن النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته بما تركه من بيان وسنة دائم الإنذار، بيّن التخويف، ينذر الناس من عقاب الله على الكفر والمعصية.

تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الذاريات (51) الآيات 52 إلى 60] :

تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم [سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60] كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) الاعراب: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في كَذلِكَ في موضع رفع، لأنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْمَتِينُ بالرفع: صفة ل ذُو وقرئ بالجر على أنه صفة للقوة، وذكّر، لأنه تأنيث غير حقيقي، ولأن فعيل يصلح صفة للمذكر والمؤنث، والرفع أشهر في القراءة، وأقوى في القياس. البلاغة: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إطناب بتكرار فعل أُرِيدُ للمبالغة والتأكيد. ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ تشبيه مرسل مجمل، لأنه حذف منه وجه الشبه، أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والألم. المفردات اللغوية: كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم إياه ساحرا

سبب النزول نزول الآيتين (54، 55) :

أو مجنونا. ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية كالتفسير له، أي مثل تكذيبهم لك بقولهم: إنك ساحر أو مجنون تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك. أَتَواصَوْا بِهِ أي هل أوصى أولهم آخرهم؟ استفهام بمعنى النفي على سبيل التعجب، أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول، حتى قالوه كلهم. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول طغيانهم. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم وعن مجادلتهم بعد الإصرار والعناد. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لست ملوما على الإعراض عنهم، لأنك بلّغتهم الرسالة وبذلت الجهد في التذكير. وَذَكِّرْ داوم على التذكير والموعظة بالقرآن. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ: من علم الله تعالى أنه يؤمن، فإن التذكير يزيده بصيرة. إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلا لنأمرهم بالعبادة ويعبدوا الله بالفعل لا لاحتياجي إليهم، فإن أعرض أو قصر بعضهم أو أكثرهم فعليه تبعة فعله. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ.. لا أريد منهم الاستعانة بهم على تحصيل أرزاقهم ومعايشهم لأنفسهم أو غيرهم وهو أولى. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أن يطعموا أنفسهم أو غيرهم. والمراد بيان أن شأن الله مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم يملكونهم للاستخدام في حوائجهم الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل محتاج، وفيه إيماء باستغنائه عن الرزق. الْمَتِينُ الشديد القوة. ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم. ذَنُوباً نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب في اللغة: الدّلو العظيمة المملوءة ماء. مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظائرهم من الأمم السالفة، الهالكين قبلهم. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة، وهو جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك 67/ 25] . فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي هلاك لهم وشدة عذاب. مِنْ يَوْمِهِمُ في يومهم وهو يوم القيامة. سبب النزول نزول الآيتين (54، 55) : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.. وَذَكِّرْ..: أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال: لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم، فنزلت: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا.

المناسبة:

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الآية، اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله تعالى: وَذَكِّرْ، فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. المناسبة: بعد بيان الأدلة على الحشر، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله، لا لتحصيل المعايش والأرزاق، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم، والعذاب واقع بهم، لا شك فيه، ولا مردّ له. التفسير والبيان: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي كما كذبك قومك من العرب، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب. وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه، وحمله على الصبر وتحمل الأذى. أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي، فهو تعجيب من حالهم يراد به: كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكن هم قوم طغاة، جمعهم الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الكفر، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي أعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن

جدالهم، فقد فعلت ما أمرك الله به، وبلّغت رسالته، وما أنت بملوم عند الله بعد هذا، لأنك قد أدّيت ما عليك، وما على الرسول إلا البلاغ، وعلى الله الحساب. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي ولكن تابع التذكير، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك، فإن التذكير ينفعهم، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى، لا يوجب ترك البعض الآخر. ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين: وهي العبادة، مع أن المشركين كذبوا الرسول، وتركوا عبادة الخالق، فقال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ما خلقت الثقلين: الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة 9/ 31] وكما ورد: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» «1» . والعبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة. وقال مجاهد: المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها. وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس. ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق، فقال: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، كما

_ (1) قال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف.

تريده السادة عادة من عبيدهم، فإن الله هو الغني المعطي، الرزاق المعطي، الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، وهو ذو القدرة والقوة، والشديد القوة، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة. وما في قوله: ما أُرِيدُ.. للنفي في الحال، ولا: للنفي في الاستقبال، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة. والخلاصة: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك» . وورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء» . ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه، وواقع لا محالة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] . وهذا جواب قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك 67/ 25] وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود 11/ 32] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فهلاك وشدة عذاب للكافرين في يوم القيامة الذي يوعدون به، وقيل: اليوم يوم بدر. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن تكذيب الرسل شأن الأمم قديمها وحديثها، فكما كذب محمدا قومه، وقالوا: ساحر أو مجنون، كذّب من قبلهم رسلهم، وقالوا مثل قولهم، وكأن أولهم أوصى آخرهم بالتكذيب، والتواطؤ عليه، والواقع ليس كذلك، فلم يوص بعضهم بعضا، بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. والغرض من الخبر تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته. 2- أمر الله نبيه بالإعراض عن جدال قومه، وطمأنه ربه بأنه غير ملوم. ولا مقصر، فقد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. وهذه تسلية أخرى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كرم أخلاقه وشدة حساسيته ينسب نفسه إلى تقصير في التبليغ، فيجتهد في الإنذار والتبليغ. 3- لكن التولي عن القوم ليس مطلقا، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة التذكير، فإنه ينفع المؤمنين، وهم من علم الله سابقا أنهم يؤمنون. 4- وغاية التذكير: توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة، فيكون التذكير بها ضروريا، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان، وفائدة العبادة: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين: عبادة الله، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية: وهو بيان سوء صنيع الكفار، حيث تركوا

عبادة الله، مع أن خلقهم ما كان إلا للعبادة. وقال مجاهد وغيره «إلا ليعبدون» أي إلا للعبادة، وهذا كما قال الثعلبي قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم، لما عرف وجود الله وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 43/ 87] . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 9] . وهذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك. 5- لم يكن خلق الناس للعبادة لحاجة من الخالق، فالله عز وجل غني عن عبادة العباد، ولم يكن خلقهم للتسخير للخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه، كما يفعل السادة مع العبيد، وهو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره، وهو القدير الشديد القوي، الذي لا يتقوى بأحد. وقوله: هُوَ الرَّزَّاقُ تعليل لعدم طلب الرزق، وقوله: ذُو الْقُوَّةِ تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقا، يكون فقيرا محتاجا، ومن يطلب عملا من غيره، يكون عاجزا لا قوة له. 6- إن للذين ظلموا أنفسهم وهم كفار مكة وأمثالهم نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة، فلا داعي لاستعجالهم نزول العذاب بهم، فإنه آتيهم لا محالة. وهذا تهديد للكفار الذين وصفهم الله بأنهم ظلمة، لأن من وضع نفسه في موضع عبادة غير الله، يكون قد وضع الشيء في غير موضعه، فيكون ظالما. وإذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة، فإن الذين ظلموا بعبادة غير الله، لهم هلاك مثل هلاك من تقدم. ومناسبة الذّنوب التي هي في الأصل: الدلو العظيمة: هي كأنه تعالى قال: نصبّ من فوق رؤوسهم ذنوبا كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك.

سورة الطور:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الطور مكيّة، وهي تسع وأربعون آية. تسميتها: سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم الله تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار، كالذي كلّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال. مناسبتها لما قبلها: تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه: 1- تشابه الموضوع: فإن كلتا السورتين مكية، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة، والرسالة النبوية، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة. 2- تماثل الابتداء والانتهاء: ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات 51/ 15] . إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور 52/ 17] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات 51/ 60] . فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور 52/ 42] . 3- اتحاد القسم بآية كونية: ففي الذاريات أقسم الله بالرياح الذاريات

ما اشتملت عليه السورة:

النافعة في المعاش، وفي الطور أقسم الله بالجبل الذي حظي بالنور الإلهي بتكليم موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه لنفع الناس في المعاش والمعاد. 4- تطابق الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين: ففي الذاريات: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [54] وَذَكِّرْ.. [55] وفي الطور: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ.. [29] : فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ.. [45] . ما اشتملت عليه السورة: لما ختم الله تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود، أقسم على ذلك بالطور، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه السلام، والكتاب المسطور: التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ، والبيت المعمور: الكعبة المشرفة، والسقف المرفوع: السماء، والبحر المسجور: المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه. ثم وصف الله تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون، وما يلقونه من الذل والإهانة، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين. وأعقب هذا الوصف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة التذكير، وتبليغ الرسالة، وإنذار الكفرة، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه: إنه شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو مفتر على الله، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام البراهين والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية، ونعى على المشركين قولهم: الملائكة بنات الله، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الكفار في ضلالهم حتى

فضلها:

الهلاك، وبالصبر في تبليغ رسالته وبالتسبيح والتحميد ليل نهار، والإخبار بأن الله حارسه وعاصمه وحافظه، وبأن للظالمين عذابين: في الدنيا والآخرة. فضلها: أخرج البخاري وغيره عن أم سلمة: «أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور» . وعن جبير بن مطعم: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلّمه في الأسارى، فألفيته في صلاة الفجر، يقرأ سورة والطور، فلما بلغ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب» . فلما انتهى إلى هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ كاد قلبي أن يطير. وقوع القيامة وإثبات العذاب في اليوم الموعود [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

الاعراب:

الاعراب: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الواو الأولى واو القسم، والثانية واو العطف، وجواب القسم: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً العامل في الظرف هو لَواقِعٌ أي يقع في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يعمل فيه. دافِعٍ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النافي. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ويل: مبتدأ مرفوع، وخبره لِلْمُكَذِّبِينَ. وجاز الابتداء بكلمة فَوَيْلٌ النكرة، لأن في الكلام معنى الدعاء، كقولهم: سلام عليكم. والفاء في فَوَيْلٌ جواب الجملة المتقدمة، لأن الكلام متضمن معنى الشرط، أي إذا كان الأمر كذلك فويل.. يَوْمَ يُدَعُّونَ.. يَوْمَ بدل من قوله: يَوْمَئِذٍ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا في موضع رفع مبتدأ، وسحر: خبر مقدم وتقديم الخبر لأنه مقصود بالإنكار والتوبيخ. وأم هنا: منقطعة لا متصلة، لمجيء جملة اسمية تامة بعدها، فلو لم يكن بعدها جملة تامة لكانت متصلة. والمتصلة بمعنى (أي) والمنقطعة بمعنى (بل والهمزة) وتقديره: أفسحر هذا، بل أنتم لا تبصرون. وسَواءٌ عَلَيْكُمْ مبتدأ، خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر. البلاغة: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً جناس اشتقاق، وكذا قوله: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً. أَفَسِحْرٌ هذا؟ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. اصْلَوْها، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا اصْلَوْها للإهانة والتوبيخ. وبين قوله: فَاصْبِرُوا وقوله: أَوْ لا تَصْبِرُوا طباق السلب. وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ.. الآيات فيها سجع لطيف، وكذا في قوله إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ. المفردات اللغوية: وَالطُّورِ هو الجبل المشجر الذي كلم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وغير المشجر لا يقال له: طور، وإنما يسمى جبلا. وموقع الطور في صحراء سيناء ببلاد مدين، وهو طور سينين. والطور بالسريانية: الجبل. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب، تم فيه ترتيب الحروف المكتوبة على وجه منتظم، والسطر: ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من الكتب السماوية، كالتوراة وألواح موسى والزبور والإنجيل والقرآن. رَقٍّ مَنْشُورٍ الرّق: جلد رقيق يكتب فيه، وقد أستعير هنا لما كتب فيه الكتاب،

التفسير والبيان:

والمنشور: المبسوط المفتوح، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الكعبة المعمورة بالحجاج والزوار والمجاورين. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ هو السماء. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ البحر المملوء ماء، وهو المحيط، أو الموقد المحمى المملوء نارا، من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير 81/ 6] من سجّر النار: أوقدها، روي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا تسجر بها جهنم. لَواقِعٌ لنازل بالمستحقين. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه أو يمنعه عن المستحقين. والمراد بهذه الأمور المقسم بها على وقوع عذاب الله يوم القيامة أنها تدل على كمال قدرة الله وحكمته، وصدق أخباره، وضبط أعمال العباد للمجازاة. تَمُورُ تتحرك وتضطرب وتدور وترتجّ في مكانها. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تسير عن وجه الأرض، فتصير هباء منثورا، وذلك في يوم القيامة الذي يقع فيه العذاب. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي إذا وقع ذلك فويل لهم، أي شدة عذاب. فِي خَوْضٍ باطل. يَلْعَبُونَ يتشاغلون بكفرهم. يُدَعُّونَ يدفعون دفعا شديدا بعنف. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك. أَفَسِحْرٌ هذا؟ أي أسحر هذا العذاب الذي ترون، كما كنتم تقولون في الوحي: هذا سحر. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ بل أنتم لا تبصرون هذا أيضا، كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدل عليه، وهو تقريع وتهكم. اصْلَوْها ادخلوها وقاسوا شدائدها. فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه وهو الجزع، فإنه لا محيص لكم عنها. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران: الصبر والجزع سواء، لأن صبركم لا ينفعكم. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء، لأنه لما كان الجزاء واجب الوقوع، كان الصبر وعدمه سببين في عدم النفع. التفسير والبيان: يقسم الله تعالى بمخلوقاته الدالة على كمال قدرته في إيقاع العذاب بأعدائه دون أن يكون هناك دافع له عنهم، فيقول: وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ أقسم الله سبحانه بجبل طور سيناء الذي فيه أشجار، تشريفا له وتكريما، لما حدث فيه من حادث عظيم وهو تكليم الله موسى فيه، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بحروف منتظمة، في جلد رقيق مبسوط. وكانت الجواد أكثر ما يكتب فيها قبل اختراع الورق.

فقوله: وَكِتابٍ مَسْطُورٍ يشمل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن. وقيل: هو اللوح المحفوظ. وقرن الكتاب بالطور، لإنزاله على موسى وهو فيه، وقوله: مَنْشُورٍ إشارة إلى الوضوح. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي والكعبة المشرفة التي تعمر بالحجاج والزوار والمجاورين الذين يقصدونها للعبادة والدعاء والتبرك بها. والسماء العالية التي هي كالسقف للأرض وما حوتها من شموس وأقمار وكواكب ثابتة وسيّارة وعوالم لا يحصيها إلا الله تعالى. والبحر المملوء ماء، المحبوس عن الأرض اليابسة، والموقد نارا كالتنّور المحمى الذي يتفجر بالنار الملتهبة يوم القيامة، كما قال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير 81/ 6] روي: أن البحار تسجر يوم القيامة، فتكون نارا. ومن المعروف أن النفط يستخرج من قاع البحار كالأرض اليابسة، وتتصاعد منه بين الحين والآخر الزلازل والبراكين. وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم شأن الكعبة، وأماكن شعائر الإسلام، وعظمة قدر النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي ناجى ربه فيه قائلا: «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك» . كما أن يونس عليه السلام كلّم ربه في البحر قائلا: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] . وتنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء لتعظيمه وشهرة معرفته، حتى إنه ما احتاج إلى تعريف، أما بقية الأشياء فاحتاجت إلى التعريف. ثم ذكر الله تعالى جواب القسم قائلا: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ هذا هو المقسم عليه أو جواب القسم، أي أقسم بتلك المخلوقات العظيمة على أن عذاب الآخرة لواقع كائن لا محالة

لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل، ليس له دافع يدفعه ويردّه عن أهل النار. وقوله: لَواقِعٌ فيه إشارة إلى الشدة. وقوله: عَذابَ رَبِّكَ ليأمن النبي وكل مؤمن حين يسمع لفظ الرب، فإن اسم الله منبئ عن العظمة والهيبة، واسم الرب ينبئ عن اللطف. ثم بيّن الله تعالى ما يصاحب وقوع العذاب يوم القيامة، فقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي إن العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا ويموج بعضها في بعض موجا، وتتحرك في مكانها، وتزول الجبال من مواضعها كسير السحاب، وتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا. والحكمة في مور السماء وسير الجبال: الاعلام بألا عودة إلى الدنيا، لخرابها وعمارة الآخرة، لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها، فإن لم يؤمل العود إليها، لم يبق فيها نفع. ثم ذكر الله تعالى من يقع عليه العذاب وينزل عليه يوم القيامة، فقال: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي ويل- وهي كلمة تقال للهالك- لأولئك الذين كذبوا الرسل، ذلك اليوم، من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم، فمن لا يكذّب لا يعذّب بنحو دائم، والمكذبون الذين كانوا في الدنيا في تردد وخوض في الباطل، واندفاع فيه، لا يذكرون حسابا، ولا يخافون عقابا، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا، ويخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء. والفاء في قوله: فَوَيْلٌ لاتصال المعنى وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان. أما أهل الكبائر فلا يستمر تعذيبهم ولا يخلّدون في النار، لأنهم لا يكذّبون الرسل. وأسلوب إلقاء المكذبين في النار هو ما ذكره تعالى بقوله:

فقه الحياة أو الأحكام:

يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا شديدا. ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: 1- هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي تقول الزبانية لهم تقريعا وتوبيخا: هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا. والتكذيب بها تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي. 2- أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ أي أهذا الذي ترون وتشاهدون سحر كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه لحق ولكنكم أنتم عمي عن هذا، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا، أي لا شك في المرئي، ولا عمى في البصر، فالذي ترونه حق. 3- اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إذا لم يمكنكم إنكار ما ترون من نار جهنم، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل، فالآن ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته، وقاسوا حرها وشدتها، ثم يستوي الأمران: الصبر على العذاب وعدم الصبر وهو الجزع، فلا ينفعكم شيء، وافعلوا ما شئتم، فالأمران سواء في عدم النفع، وإنما الجزاء بالعمل خيرا أو شرا، وبما أن العذاب واقع حتما، كان الصبر وعدمه سواء، فسواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها، ولا خلاص لكم منها، ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله تعالى بأشياء خمسة: هي الطور والكتب المنزلة، والبيت

المعمور، والسقف المرفوع والبحر المسجور، تشريفا لها وتكريما. والحكمة في اختيار الأماكن الثلاثة: وهي الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور هي كونها أماكن ثلاثة أنبياء، انفردوا فيها للخلوة بربهم، والخلاص من الخلق، ومناجاة الله وخطابه. أما الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام، وخاطب ربه، فقال: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الأعراف 7/ 155] وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف 7/ 143] . وناجى محمد صلى الله عليه وسلم ربه في البيت المعمور (الكعبة) فقال- كما تقدم-: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . ودعا يونس عليه السلام ربه في أعماق البحر، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] . فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب، فحلف الله تعالى بها، ثم قرن بها الكتاب، لأن الله تعالى كلّم موسى عليه السلام في الطور، وأنزل عليه التوراة «1» ، وبقية الكتب مثل التوراة للهداية والنور. 2- كان المقسم عليه هو وقوع عذاب اليوم الموعود لا محالة، بلا أدنى شك، واستحالة قدرة أحد أن يدفعه عن المعذّبين المكذبين بالرسل. 3- يقع العذاب بالمكذبين يوم القيامة، وهو اليوم الذي تمور فيه السماء، أي ترتج بما فيها وتضطرب في مكانها، وتسير الجبال عن أماكنها حتى تستوي بالأرض، إعلاما بألا عودة إلى الدنيا.

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 239- 240

جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة [سورة الطور (52) الآيات 17 إلى 28] :

4- الويل: كلمة عذاب أو واد في جهنم، وتقال للهالك، والويل لكل من كذب الرسل الذين هم في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. 5- يدفع أهل النار إليها يوم القيامة دفعا عنيفا شديدا، قال المفسرون: إن خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وزجّا في أقفيتهم. 6- وإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة للتوبيخ والتقريع والتهكم: أ- هذه النار التي كذبتم بها في الدنيا. ب- أفسحر هذا الذي ترون الآن بأعينكم، كما كنتم تقولون عن الوحي: إنه سحر؟ بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون؟ ج- ذوقوا حر جهنم بالدخول فيها، وسواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن، فلا ينفعكم شيء، وإنما الجزاء بالعمل. وقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم 14/ 21] . جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

الاعراب:

الاعراب: فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ ما: مصدرية. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً هَنِيئاً منصوب على الحال من ضمير كُلُوا أو ضمير اشْرَبُوا. وقوله: بِما كُنْتُمْ.. الباء: سببية، أي بعملكم. مُتَّكِئِينَ حال من الضمير المستكن في قوله: جَنَّاتٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا.. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الَّذِينَ في محل رفع مبتدأ، وخبره: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ في موضع نصب على الحال. إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ إِنَّهُ بالكسر: على الابتداء، وبالفتح: على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأنه. البلاغة: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل، مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا. المفردات اللغوية: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ أي إن العاملين بالأوامر الإلهية، المبتعدين عن المحظورات الشرعية هم في بساتين خضراء نضرة تجري العيون والينابيع والأنهار من تحتهم، ويغمرهم نعم كثيرة من الله تعالى. فاكِهِينَ متلذذين مستمتعين مسرورين وقرئ «فكهين» أي طيبة نفوسهم. آتاهُمْ أعطاهم. وَوَقاهُمْ حفظهم وحماهم، وهو معطوف على آتاهُمْ أي بإتيانهم ووقايتهم.

كُلُوا وَاشْرَبُوا.. أي ويقال لهم ذلك. هَنِيئاً أي أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا: وهو ما لا تنغيص فيه ولا نكد، أو ما لا مشقة فيه ولا يؤدي إلى سقم أو عناء وتخمة. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب عملكم. سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي متصلة ببعضها حتى تصير صفا واحدا. وَزَوَّجْناهُمْ قرناهم، معطوف على جَنَّاتٍ. بِحُورٍ عِينٍ حور: جمع حوراء: وهي المرأة البيضاء، والعين: جمع عيناء، وهي المرأة العظيمة الواسعة العين، أي نساء بيض عظام الأعين حسانهن، وحور العين: اسوداد المقلة. وَالَّذِينَ آمَنُوا معطوف على بِحُورٍ أي قرناهم بأزواج ورفقاء مؤمنين كقوله تعالى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر 15/ 47] ، ويصح جعله مبتدأ، وخبره: أَلْحَقْنا بِهِمْ. وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ اعتراض للتعليل، والذرية: لفظ يقع على الواحد والكثير، وقرئ: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، والذرية: تشمل الصغار والكبار، وقوله: بِإِيمانٍ حال من ضمير: واتبعتهم، وتنكيره للتعظيم، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق: المتابعة في أصل الإيمان. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في دخول الجنة، أو الدرجة، وإن لم يعملوا بعملهم، تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، ولما روي مرفوعا: أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه ابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه» ثم تلا هذه الآية. وَما أَلَتْناهُمْ وما نقصناهم بهذا الإلحاق. مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي فيزاد في عمل الأولاد بالتفضل عليهم، وهو اللائق بكمال لطف الله. بِما كَسَبَ من خير أو شر. رَهِينٌ مرهون بعمله عند الله، فيؤاخذ بالشر، ويجازى بالخير، والعمل الصالح يكفّه، والعمل الصالح يهلكه. وَأَمْدَدْناهُمْ زدناهم وقتا بعد وقت. مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع النعم، وإن لم يصرحوا بطلبه. يَتَنازَعُونَ فِيها يتجاذبون في الجنة ملاعبة وسرورا، أو يتعاطون بينهم. كَأْساً خمرا، فهي إناء الخمر ما دام مملوءا فإن كان فارغا لم يسم كأسا، وسماها باسم محلها، ولذلك أنت الضمير في قوله: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يتكلمون بسبب شربها بلغو الحديث (وهو ما لا خير فيه) ، ولا يفعلون ما يأثم به فاعله من فحش الكلام وغيره مما يغضب الله، كما هو عادة الشاربين في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات 37/ 47] . وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة بالكأس وغيرها. غِلْمانٌ لَهُمْ مماليك مخصوصون بهم. كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي كأن الغلمان حسنا ولطافة لؤلؤ مصون في الصدف، لأن فيها أحسن منها في غيرها، وذلك من صفائهم وبياضهم، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن جرير وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .

المناسبة:

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، استمتاعا وتلذذا واعترافا بالنعمة. قالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي كنا في الدنيا خائفين من عذاب الله، وهذا القول إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرحمة. وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ حمانا من عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم، وقرئ: وَوَقانا بالتشديد. وقالوا أيضا إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في الدنيا. نَدْعُوهُ نعبده موحدين، أو نسأله الوقاية. إِنَّهُ بالكسر: استئناف، وإن كان تعليلا معنى، وقرئ بالفتح: أنه تعليلا لفظا. الْبَرُّ المحسن، الصادق في وعده. الرَّحِيمُ الكثير الرحمة. المناسبة: بعد بيان وقوع البعث والعذاب بالكافرين حتما وما يلاقونه من الشدائد والإهانات، ذكر الله تعالى حال المؤمن وجزاءه المتميز، أي أنه ذكر ما يتلقاه المؤمن في الآخرة بعد بيان حال الكافر، ثم ذكر الثواب عقب العقاب، جريا على الموازنة وعادة القرآن في إيراد الأضداد، والجمع بين الترغيب بالترهيب، حتى يتأمل الإنسان في المصير، فيرغب في الرحمة، ويرهب النقمة والعقاب. ومما يزيد في الترغيب: أنه تعالى لم يقصر النعمة على المستحق، وإنما أفاضها أيضا على الذرية والأولاد، فلم يكتف بتعداد صنوف اللذات النفسية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والزواج، وإنما زاد في الفضل والإكرام، فألحق بالأصول الذرية المؤمنة في المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الجنان. وأبعد اليأس والملل والوحشة عن أهل الجنة، وأحل محلها المتعة المتجددة والأنس، بتجاذب الكؤوس فرحا ولعبا، والتنذر بأطيب الأحاديث، والتحدث بأحوال الدنيا ومقارنتها بأحوال الآخرة، ونحو ذلك. التفسير والبيان: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا باتباع أوامره واجتناب نواهيه يكونون

في بساتين نضرة، ويتنعمون فيها بنعيم دائم، بضد ما أولئك الكفار فيه من العذاب والنكال، وهم يتفكهون بفواكه الجنة تفكها فيه غاية الطيبة واللذة والسرور، بما أعطاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والأزواج وغير ذلك، وحماهم الله من عذاب النار، ونجاهم من لظى السعير، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها، مع دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقوله: فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ يفيد أنهم يتنعمون في الجنان تنعما فعليا، لا كمجرد الناطور الذي يحرس البستان. وقوله: فاكِهِينَ للدلالة على أن التنعم في النفس والقلب أيضا، فقد يكون التنعم ظاهريا، والقلب مشغول، كحال كثير من أغنياء الدنيا. وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي تهنئهم الملائكة وتقول لهم: كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذ وصفا وطاب، لا تجدون في الأكل والشرب تنغيصا ولا نكدا ولا كدرا، وهذا معنى الهنيء، وذلك بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، فهذا بذاك تفضلا وإحسانا. ونظير الآية: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] . قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها طلبت. ثم ذكر الله تعالى تمتعهم بالفرش والبسط والأزواج، فقال: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي والحال أنهم يجلسون ويستندون على أسرّة مصفوفة متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا

واحدا، وهذا دليل الاطمئنان والراحة وعدم التكلف وفراغ البال من الشواغل. وكذلك قرنّا كل واحد منهم بقرينات صالحات وزوجات حسان من نساء الجنة، وهن الحوريات الشديدات بياض العين، والشديدات سوادها، والواسعات الأعين. ويلاحظ أن كلمتي الحور والعين جمع للمذكر والمؤنث، أي أحور حوراء وأعين عيناء. روى ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة، ما يتحول عنه ولا يملّه، يأتيه ما اشتهت نفسه، ولذّت عينه» . ويلاحظ أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباب التنعيم الأربعة على الترتيب، فذكر أولا المسكن وهو الجنات، ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط، ثم الأزواج. وذكر في كل نوع ما يدل على الكمال فيه، وهو قوله فاكِهِينَ في الجنات، لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور، وقوله: هَنِيئاً إشارة إلى خلو المأكول والمشروب عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا كالتخمة والمرض والغصة والانقطاع. وقوله: في السرر: مُتَّكِئِينَ للدلالة على عدم التكلف، والهيئة دليل خير. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنجاز لما وعدهم به ربهم في الدنيا، من غير من، وإنما كان المنّ في الدنيا بالهداية للإيمان والتوفيق للعمل الصالح، كما قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات 49/ 17] . وقوله: مَصْفُوفَةٍ إشارة إلى أنها مخصصة لكل واحد، لا اشتراك فيها. وقوله: وَزَوَّجْناهُمْ دليل على أن المزوج بأمانة هو الله تعالى، وأن المنفعة في التزويج لهم وأنه لم يقتصر على الزوجات، بل وصفهن بالحسن، واختار أحسن الحسن وهو جمال العيون «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 249

ويلاحظ أيضا الفرق بين جزاء الكفار حيث قال تعالى في حقهم: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وبين جزاء المتقين حيث قال في حقهم: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فجزاء الكفار منحصر بكلمة إِنَّما للحصر، أي لا تجزون إلا ذلك، وأما المؤمنون فيضاعف ما عملوا ويزيدهم من فضله، ويجازى الكفار عين أعمالهم بقوله: بِما كُنْتُمْ إشارة إلى المبالغة في المماثلة، وقال في حق المؤمنين: بِما كُنْتُمْ كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملهم الصالح، وذكر الله تعالى الجزاء في حق الكفار، وهو ينبئ عن الانقطاع، ولم يذكره في حق المؤمنين مما يدل على الدوام وعدم الانقطاع «1» . ثم أخبر الله تعالى عن مزيد فضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه بإلحاق الذرية بالآباء في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقرّ عين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي إن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان أو بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء، يلحقهم الله بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما، والمعنى: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر عينه، وتطيب نفسه، بشرط كونهم مؤمنين. ومن باب أولى يلحق الآباء بالأبناء إن كان هؤلاء أحسن حالا من آبائهم، فيرفع ناقص العمل إلى منزلة كامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك. قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «2» وتنكير لفظة بِإِيمانٍ للدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة،

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 249 (2) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا، ورواه الثوري عن ابن عباس موقوفا.

ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم «1» . وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا ربّ، قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به» . وقرأ ابن عباس: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ الآية. وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وفضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربّ أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي كل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب آخر سواء كان أبا أو ابنا، كما أن الرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين، فإن كان العمل صالحا فكّه ونجاه، لأن الله يقبله، وإن كان صالحا أهلكه. ونظير الآية كثير في القرآن، مثل: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر 74/ 38- 39] أي كل نفس مرهونة بعملها، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين بعملهم الطيب.

_ (1) تفسير الكشاف: 3/ 173

ثم عدد الله تعالى أصناف النعم على المتقين، فقال: 1- وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به. 2- يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو والإثم، فلا يتكلمون بكلام لاغ، أي هذيان، ولا قول فيه إثم أي فحش، كما يتكلم شاربو الخمر في الدنيا، قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم، فيلغوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم. وقد أخبر الله تعالى عن حسن منظر خمر الآخرة وطيب طعمها ومذاقها، فقال: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات 37/ 46- 47] وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19] . 3- وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي ويدور عليهم للخدمة بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصدف، لم تمسّه الأيدي. ونحو الآية: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة 56/ 17- 18] . روى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل: يا رسول الله، هذا الخادم مثل اللؤلؤ، فكيف بالمخدوم؟ فقال: والذي نفسي

فقه الحياة أو الأحكام:

بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي ذلك أيضا عن الحسن. 4- وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبلوا يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وما كان فيها من متاعب ومخاوف. ونكد وكدر. ثم ذكر الله تعالى أجوبتهم التي تومئ إلى علة الوصول إلى الجنان، فقال: - قالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي أجابوا قائلين: إنا كنا في الدار الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله وعقابه، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة ووفقنا إلى العمل الصالح، وأجارنا مما نخاف من عذاب النار. وسموم جهنم: ما يوجد من حرّها. - إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ أي إنا كنا في الدنيا نوحد الله ونعبده، ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا، إنه سبحانه الكثير الإحسان والكرم، الكثير الرحمة والفضل لعباده. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن جزاء المتقين دخول الجنان، والتمتع بأنواع النعيم المختلفة، فهم ذوو فاكهة كثيرة، طيبو النفس، مزّاحون، ناجون من عذاب النار، يقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا، والهنيء: ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. وهم متكئون على سرر موصولة بعضها ببعض حتى تصير صفا واحدا، ويتزوجون بما شاؤوا من الحور العين، أي بنساء بيض نجل العيون حسانها.

2- يلحق الله الذرية الصغار والكبار بالآباء، والآباء بالذرية، في المنزلة والدرجة في الجنة تكريما من الله وتفضلا وإحسانا لتقر أعين الآباء بهم، ولا ينقص الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، ولا ينقص الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم، وذلك بشرط الإيمان بين الأصول والفروع. قال الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم «1» . وقال الرازي في الآية: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ..: تدل على أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولهم بأولادهم، بل يجمع بينهم «2» . 3- كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ، قال الزمخشري: عام في كل أحد، مرهون عند الله بالكسب، فإن كسب خيرا فك رقبته، وإلا أربق بالرهن «3» . 4- زيادة من الله وفضله يمد المؤمنين بأنواع الفاكهة واللحوم المختلفة حسبما يشتهون، غير الذي كان لهم، ويتناول بعضهم من بعض كأسا وهو إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره، وهم المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. ويطوف عليهم مماليك مخصوصون بالفواكه والتحف والطعام والشراب كما قال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف 43/ 71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الصافات 37/ 45] . وأولئك المماليك كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مستور مصون في الصدف، كما قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة 56/ 17] .

_ (1) الكشاف: 3/ 173. (2) تفسير الرازي: 28/ 250 (3) الكشاف: 3/ 174

متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد [سورة الطور (52) الآيات 29 إلى 34] :

عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة منزلة من ينادي الخادم من خدمه، فيجيبه ألف كلّهم: لبّيك لبّيك» «1» . 5- يقبل أهل الجنة بعضهم على بعض. فيتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم، وامتنان الله عليهم بالجنة والمغفرة، وبالتوفيق والهداية، والنجاة من عذاب نار جهنم، نار السّموم، والسموم: الريح الحارّة. 6- يجد أهل الجنة ثواب ما عملوا في الدنيا، فإنهم كانوا في الدنيا يعبدون الله ويوحدونه، ويدعونه بأن يمنّ عليهم بالمغفرة من تقصيرهم، فيرون ثمرة ذلك في الآخرة، فإن الله تعالى كثير البر والجود والإحسان، اللطيف الصادق فيما وعد، الكثير الرحمة. متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) الاعراب: بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ بِكاهِنٍ خبر ما، ومَجْنُونٍ معطوف عليه. أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ أَمْ هنا: منقطعة بمعنى بل والهمزة، وكذلك أَمْ في أوائل الآيات: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا إلى قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ (32- 43) كلها

_ (1) تفسير الألوسي: 27/ 34

البلاغة:

منقطعة، بمعنى (بل والهمزة) وهي خمسة عشر موضعا. وبَلْ للإضراب الانتقالي والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ، أي ما كان ينبغي أن يحصل، أو بمعنى ما حصل هذا. البلاغة: رَيْبَ الْمَنُونِ استعارة تصريحية، أستعير لفظ الريب (وهو الشك) لنوائب الدهر وحوادثه، بتشبيه حوادث الدهر بالريب بجامع التقلب وعدم الاستمرار على حالة واحدة. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أسلوب تهكمي للتهكم بعقولهم والسخرية منهم، وأمر الأحلام بأقوالهم مجاز عن أدائها إليه. المفردات اللغوية: فَذَكِّرْ فاثبت على التذكير والموعظة، ولا تكترث بقولهم، ولا تتراجع لاتهامات باطلة كالقول بأنك كاهن أو مجنون. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بحمد ربك وإنعامه عليك. بِكاهِنٍ الكاهن: هو المخبر عن الماضي بالظن، والعرّاف: هو المخبر عن المستقبل، بالاعتماد على الجن. نَتَرَبَّصُ ننتظر. رَيْبَ الْمَنُونِ أي حوادث الدهر ليهلك كغيره، والريب في الأصل: الشك، وأطلق على الحوادث، والمنون: الدهر، سمي بذلك، لأنه يقطع الأجل، وقيل: المنون: الموت. تَرَبَّصُوا انتظروا هلاكي. فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، فعذبوا بالقتل يوم بدر. أَحْلامُهُمْ عقولهم، جمع حلم: وهو العقل. بِهذا التناقض في القول، فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر، والمجنون عديم العقل، والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق نابع من الخيال، ولا يتأتى ذلك من المجنون. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ بل هم مجاوزون الحد في العناد والمكابرة. تَقَوَّلَهُ اختلق القرآن وافتراه من تلقاء نفسه. بَلْ لا يُؤْمِنُونَ بل يكفرون. فيرمون بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم، إذ فيهم كثير من الفصحاء، فهذا رد لأقوالهم المذكورة بالتحدّي. سبب النزول: نزول الآية (30) : أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ: أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أن

المناسبة:

قريشا لما اجتمعوا في دار النّدوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة والأعشى، فإنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. المناسبة: بعد قسم الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أحوال المعذبين والناجين، أمر تعالى نبيه بالتذكير إنذارا للكافر، وتبشيرا للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون باعتبارهما طريقين إلى الإخبار ببعض المغيّبات، بالاعتماد على الجن. وكان شيبة بن ربيعة ممن ينسبه إلى الكهانة، وعقبة بن أبي معيط ممن ينسبه إلى الجنون. ثم بيّن الله تعالى ما في هذا الاتهام من التناقض والاضطراب، ثم أمره ربه بتهديدهم بمثل صنيعهم، ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل أقصر سورة من هذا الكلام المفترى، وفيهم الفصحاء والبلغاء، بل هم قوم طاغون متجاوزون الحد، جاحدون كافرون لا يؤمنون بالوحي، فقالوا بأهوائهم مثل تلك الأقاويل. التفسير والبيان: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أي إذا كان في الوجود قوم يخافون الله، ويشفقون في أهليهم من عذاب الله كما تقدم في الآيات السابقة، فوجب عليك أيها الرسول الإتيان بما أمرت به من التذكير، فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبّطنك قولهم: كاهن أو مجنون، فلست بحمد الله وإنعامه بكاهن كما يقول جهلة كفار قريش، ولا مجنون، والكاهن: هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، ويخبر عن الماضي بالأخبار الخفية، وليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله

بإبلاغه. والمجنون: هو الذي يتخبطه الشيطان من المس، في عرف العرب. وممن قال: إنه كاهن كما تقدم: شيبة بن ربيعة، وممن قال: إنه مجنون عقبة بن أبي معيط. لا تبال بهذا، فإنه قول باطل متناقض، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله، ولست بما عرف عنك من رجاحة العقل أحد هذين. ثم أنكر الله تعالى عليهم قولا آخر في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام، فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، فنستريح منه ومن شأنه وينقضي ما جاء به من هذا الدين. ثم هددهم الله وتهكم بهم قائلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: - قُلْ: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي قل لهم أيها الرسول: انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين لعاقبة الأمر، وقضاء الله فيكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، وأنا واثق من نصر الله تعالى. - أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي أأنزل عليهم ذكر أم أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ وهي دعوى أن القرآن سحر أو كهانة أو شعر، وقولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: كاهن وشاعر مع قولهم: مجنون، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون، فالأول ينطق بالحكمة، والثاني يذكر الخرافات، والثالث زائل العقل، وكانت عظماء قريش توصف بأنهم أهل الأحلام والنهى والعقول، فتهكم الله بعقولهم التي لا تميز بين الحق والباطل.

أم إنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد في العناد والعصيان والضلال عن الحق، واغتروا وقالوا ما لا دليل عليه سمعا، ولا مقتضى له عقلا. وعلى هذا تكون أَمْ متصلة، كما ذكر الرازي، وذكر غيره «1» أن أم في الموضعين منقطعة، أي بل أتأمرهم عقولهم، بل أطغوا وجاوزوا الحد؟ أي لكن عقولهم تأمرهم بهذه الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور، وهم قوم طاغون ضلّال معاندون. أَمْ يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي أتقولون: كاهن، أم تقولون: شاعر، أم تقوله أي اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن. فرد الله تعالى عليهم: بل إن كفرهم وكونهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون بما جاء به رسوله هو الذي يحملهم على هذه الأقوال المتناقضة، والمطاعن المفتراة الكاذبة. ثم رد عليهم ردا آخر فيه تحدّ لهم، فقال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي إن صدقوا في قولهم: إن محمدا تقوله وافتراه من عند نفسه، فليأتوا «2» بمثل هذا القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه، مع أنه كلام عربي، وهم أساطين البيان، وفرسان البلاغة والفصاحة، والممارسون لجميع أساليب العربية من نظم ونثر. والحقيقة أنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس، ما جاؤوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله.

_ (1) قال أبو حيان في (البحر المحيط: 8/ 151) : والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة، وقد تقدم في الإعراب أن أم كلها في الآيات منقطعة بمعنى (بل والهمزة) وهو رأي ابن الأنباري وغيره من النحاة. (2) الفاء للتعقيب، أي إذا كان الأمر كذلك، فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم، ويبطل كلامه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالثبات على التذكير والوعظ لقومه بالقرآن، دون مبالاة بمطاعن كفار قريش، فليس هو بالكاهن ولا بالشاعر ولا بالمجنون، وإنما هو صادق النبوة، وقد عرف بين قومه أنفسهم برجاحة العقل، وأصالة الرأي. 2- لقد انتظر الكفار المعاندون سوءا أو هلاكا بالنبي صلى الله عليه وسلم تخلصا منه ومن دينه، فعجل الله لهم الهلاك في معركة بدر وغيرها. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا، فربما يموت كما مات أبوه. 3- وفي حال حياتهم أورد القرآن عدة تقريعات وتوبيخات لهم بأسلوب التهكم: أولها- أنه لا عقل لهم بنحو سليم، إذ لو كان لهم عقل سليم لميزوا بين الحق والباطل، والمعجز وغيره، ولما أوقعوا أنفسهم في تناقضات حين وصفوا محمدا صلى الله عليه وسلم بأوصاف متناقضة، فقالوا: إنه كاهن، شاعر، مجنون. والجنون لا يتفق مع الكهانة ونظم الشعر اللذين يتطلبان حذاقة وذكاء وإبداعا وقوة خيال. ثانيها- أنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد بغير عقول. ثالثها- زعمهم أن محمدا تقوّل القرآن، أي اختلقه وافتراه من تلقاء نفسه، والتقول يراد به الكذب. رابعها- أنهم لم يؤمنوا بالله ورسوله جحودا وعنادا واستكبارا، وقد صح عندهم إعجاز القرآن، وإلا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي بقرآن يشبهه من تلقاء

إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق [سورة الطور (52) الآيات 35 إلى 43] :

أنفسهم إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن محمدا صلى الله عليه وسلم افتراه. فإن كان شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص، فليأتوا بمثل ما أتى به. إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) البلاغة: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم. المفردات اللغوية: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق، فلذلك لا يعبدونه. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ الذين خلقوا أنفسهم؟ وبما أنه لا يعقل مخلوق بغير خالق، ولا معدوم يخلق، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه الكريم؟! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهم لا يستطيعون ذلك، فلا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق القادر، فلم لا يعبدونه؟! بَلْ لا يُوقِنُونَ به، وإلا لآمنوا بنبيه، ولو أيقنوا بأن الخالق هو الله لما أعرضوا عن عبادته.

المناسبة:

خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه، حتى يرزقوا النبوة والرزق وغيرهما، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. الْمُصَيْطِرُونَ القاهرون الغالبون على الأشياء المسلطون عليها يدبرونها كيف شاؤوا، من سيطر على كذا: إذا تسلط عليه وأقام عليه، مثل بيطر وبيقر. سُلَّمٌ مرتقى إلى السماء، والسلم: كل ما يتوصل به إلى غيره من الأماكن العالية. يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يستمعون عليه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن، وينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم إن ادعوا ذلك. بِسُلْطانٍ بحجة قوية. مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدّق استماعه. أَمْ لَهُ الْبَناتُ بزعمكم. وَلَكُمُ الْبَنُونَ الذكور، فيه تسفيه آرائهم وإشعارهم بأن من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا عن الاطلاع على الغيوب. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أم تطلب منهم أجرة على تبليغ الرسالة. مَغْرَمٍ من التزام غرامة أو غرم: وهو التزام الإنسان ما ليس عليه. مُثْقَلُونَ محملون الثقل، فلذلك زهدوا في اتباعك ولم يسلموا. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب. فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذلك ويحكمون بناء عليه. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً تدبير مكيدة وشر، وهو كيدهم في دار الندوة. فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم والخصوص، فيشمل جميع الكفار، أو كفار قريش، فيكون ذلك تسجيلا للكفر عليهم. الْمَكِيدُونَ المغلوبون المهلكون، الذين يحيق بهم الكيد، أو يعود وبال كيدهم عليهم، وهو قتلهم يوم بدر. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله، وهو اسم علم للتسبيح. عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو شركة ما يشركون به وعن الذين يشركون. المناسبة: بعد أن رد الله تعالى على ما زعم كفار قريش من أن محمدا كاهن أو شاعر أو مجنون، ذكر الدليل من الأنفس والآفاق على صدقه، وإبطال تكذيبهم لرسالته، وإنكارهم للخالق، وإثبات التوحيد بخلقهم وخلق السموات والأرض، علما بأن إثبات الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر. ثم طمأن الله نبيه بأن كيدهم له لا يضره شيئا، وأن الله ناصره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه الآيات لإثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ هذا رد على إنكار الخالق الواحد، فهل وجدوا من غير موجد، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ وإذا كان الأمران منتفيين بشهادة العقل والحس والواقع وبإقرارهم، فالله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ وهل خلقوا السموات والأرض وما فيهما من العجائب والغرائب وأسباب الحياة والمعيشة؟ إنهم في الواقع لا يستطيعون ادعاء ذلك، والحقيقة أن عدم إيقانهم من قولهم بأن الله هو الخالق هو الذي حملهم على التكذيب وإنكار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو أيقنوا حقا بأن الله هو الخالق ما أعرضوا عن عبادته. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي هل هم يملكون خزائن الله من النبوة والرزق وغيرهما، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك، بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد. أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء يصعدون به، أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالبرهان الدال على صدقه. الواقع ليس لهم سبيل إلى ذلك، فليس لهم دليل ولا حجة على ما يقولون.

وبعد الرد على إنكار الألوهية، رد الله تعالى على من قال: الملائكة بنات الله، فقال: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أي بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فمن كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، ولا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغك الرسالة، فهم من التزام غرامة تطلبها منهم محمّلون غرما ثقيلا، فلا يسلمون ولا يجيبون دعوتك؟ الواقع لست تسألهم على ذلك شيئا، ولا تطلب منهم أدنى شيء يشق عليهم ويثقلهم. وهذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب؟ ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال قتادة: لما قالوا: نتربص به ريب المنون، قال الله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حتى علموا متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى ما يؤول إليه أمره. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي إن كنتم تعلمون الغيب فأنتم كاذبون، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه، فأنتم غالطون، فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم، فإن كنتم تريدون تدبيرا أو مكرا برسول الله صلى الله عليه وسلم لإهلاكه، فالكافرون هم الممكور بهم، المجزيون بكيدهم. ولام فَالَّذِينَ كَفَرُوا لهؤلاء الكفار أو للجنس، فيشملهم وغيرهم. وتنكير الكيد إشارة إلى وقوع العذاب بغتة من حيث لا يشعرون. وصرح بقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا للدلالة على كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره، لا في مقابلة إرادته الكيد.

فقه الحياة أو الأحكام:

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدونه سواه. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله، وتنزيه الله نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- إن إثبات وجود الله ووحدانيته وقدرته على الحشر هو خلق الأنفس والآفاق، أي خلق الإنسان والحيوان والنبات من غير سابق وجود، وخلق السموات والأرض بعد العدم، فالخلق دليل على وجود الله تعالى، وهو الدليل الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم، كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل 16/ 17] . والانفراد بالخلق دليل على وحدانية الخالق، لأن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. والخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر. وإذا أقر الكفار بأن ثمّ خالقا، فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. وهم يقرون بأنه لا يعقل وجودهم من غير رب خلقهم وقدّرهم، كما يقرون إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض بأنه هو الله، فلم لا يوقنون بالحق، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] . 2- أنكر القرآن على الكفار اعتراضهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه هل عندهم خزائن الرحمة والغيب والرزق حتى يختاروا للنبوة من أرادوه، أو أنهم المصيطرون على العالم الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم؟

3- ثم أنكر القرآن على الكفار قدرتهم على شيء من علم الغيب، ومضمون ذلك: أيدّعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا يستمعون الأخبار، ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي، فإذا صح ذلك فليأت مستمعهم على صحة ادعائه بحجة بيّنة أن هذا الذي هم عليه حق. وهذا تتميم للدليل السابق لإثبات النبوة. 4- سفّه القرآن أحلام كفار قريش وأمثالهم وقرّعهم ووبخهم في قولهم: الملائكة بنات الله، وهذا إشارة إلى نفي الشرك. فهل يعقل أن يكون لله البنات، وللبشر البنون؟ ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. 5- ثم أكد الحق سبحانه صدق نبوة عبده محمد صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، فهم من المغرم الذي يطالبهم به مجهدون لما كلفهم به. ثم أضاف دليلا آخر وهو أنه ليس عندهم علم بالغيب يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيب. 6- أخبر الله تعالى بأنه عاصم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من السوء والشر ومكائد أعدائه، فإنهم إن أرادوا به شرا ومكيدة ومكرا كما دبروا في دار الندوة، فإنهم المهزومون المغلوبون الممكور بهم الذين يعود عليهم وبال الكيد: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر 35/ 43] وذلك أنهم قتلوا ببدر، وأظهر الله دين الإسلام. 7- أعاد الله تعالى إثبات التوحيد ونفي الشرك، فقال موبخا: هل لهم إله غير الله يخلق ويرزق ويمنع، تنزّه الله وتعالى وتقدس عن نسبة الشرك له أو أن يكون له شريك، فإن الشريك دليل العجز، والإله الحق يتميز بالقدرة المطلقة التي تشمل الكون كله وما فيه من مخلوقات حتى تصح الدينونة والخضوع والانقياد والعبادة له دون غيره.

الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات [سورة الطور (52) الآيات 44 إلى 49] :

وهذا تصريح بالمقصود الكلي من الآيات، لذا وبخهم على إشراكهم، ونزه نفسه عن ذلك بقوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم وعن الذين يشركون. الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات [سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) الاعراب: كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ساقِطاً إما مفعول به ثان، أو حال. يَوْمَهُمُ مفعول يُلاقُوا. ويَوْمَ لا يُغْنِي منصوب على البدل من يَوْمَهُمُ وليس بمنصوب على الظرف. وَإِدْبارَ النُّجُومِ إدبار بكسر الهمزة: مصدر أدبر يدبر إدبارا، وتقديره: وسبّحه وقت إدبار النجوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ بفتح الهمزة، على أنه جمع دبر: وهو منصوب لأنه ظرف زمان. البلاغة: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً أسلوب الفرض والتقدير، أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا. بِأَعْيُنِنا مجاز عن الحفظ.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: كِسْفاً قطعة. يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم. سَحابٌ مَرْكُومٌ أي هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، نرتوي به، ثم لا يؤمنون. والآية جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] . فَذَرْهُمْ اتركهم وأعرض عنهم. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون أو يقتلون. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي لا يفيد شيئا من الإغناء في ردّ العذاب. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله تعالى في الآخرة. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بكفرهم، وهو يحتمل العموم والخصوص فإن كان العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم، وإن كان العذاب هو عذاب يوم بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة. عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي دون عذاب الآخرة، أي في الدنيا قبل موتهم، كعذاب الجوع والقحط سبع سنين، والقتل يوم بدر، أو عذاب القبر. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وتبليغ الرسالة، ولا يضق صدرك بعنائهم وإعراضهم وجدالهم. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا بمرأى منا، نراك ونحفظك ونكلؤك، وجمع مبالغة بكثرة أسباب الحفظ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قارنا التسبيح بالتحميد، فقل: سبحان الله وبحمده حِينَ تَقُومُ من منامك أو من مجلسك أو إلى الصلاة، أي من أي مكان قمت. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ نزهه بقولك: سبحان الله، وخصه بالليل وقدمه على الفعل، لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عقب غروبها سبحه أيضا، أي إذا أدبرت النجوم من آخر الليل. المناسبة: بعد تفنيد مزاعم المشركين في الحشر والمعاد، والألوهية والوحدانية، والنبوة والشرك، وإثبات المعاد والتوحيد وصدق النبوة ونفي الشرك، أجاب الله تعالى عن بعض مقترحاتهم بإسقاط قطعة من السماء تعذيبا لهم، وبين مدى مكابرتهم في إنكار المحسوسات، فضلا عن المعقولات، ثم أمر نبيه بالإعراض عنهم، والصبر على مساوئهم ومكائدهم، فإن الله ناصرك عليهم وحافظك، وأخبره بأن العذاب واقع بهم في الدنيا قبل الآخرة، وقوّى معنوية نبيه بالاعتصام بالله، والإقبال على طاعته، وذكره صباحا ومساء، نهارا وليلا حين يقوم من منامه أو من مجلسه أو بعد غياب النجوم، وإصباح الصباح.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن عناد المشركين ومكابرتهم للمحسوس، فيقول: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ أي إن ير هؤلاء المشركون قطعة من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم، لما صدقوا ولما أيقنوا، ولما انتهوا عن كفرهم، بل يقولون: هذا سحاب متراكم ملقى بعضه على بعض، نرتوي به. وهذه غاية المكابرة، لأنهم ينكرون ما تبصره الأعين وتشاهده النفوس. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14- 15] . فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أي إذا كان هذا شأنهم وتبين أنهم لا يرجعون عن كفرهم، فدعهم يا محمد ولا تأبه بهم حتى يلقوا أو يأتي يوم مجازاتهم بأعمالهم السيئة الذي يحدث فيهم هلاكهم السريع، وهو يوم موتهم أو قتلهم وهو يوم بدر، وهو الظاهر في الآية كما قال البقاعي، لأنهم عذبوا فيه، أو يوم النفخة الأولى يوم القيامة، لأن صعقته تعم جميع الخلائق، وهو قول الجمهور، كما ذكر أبو حيان. وإسقاط كلمة الإشارة قبل كلمة سَحابٌ أي هذا سحاب لوضوح الأمر وظهور العناد، كما أن كلمة يَقُولُوا تدل على العناد. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ذلك اليوم يوم لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ولا ينصرهم ناصر، بل هو واقع بهم لا محالة.

والكيد: هو فعل يسوء من نزل به، وإن حسن ممن صدر منه. وإنما قال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي ... للرد على ما كانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي وكيد النبي وعبادة الأوثان عذابا في الدار الدنيا وهو قتلهم يوم بدر، أو هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد، والقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر الذي حدث في السنة الثانية من الهجرة، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من عذاب الله وبأسه وبلاياه، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد، ولو كشف عنهم العذاب لعادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه. والمراد بالأكثر الكل على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر، أو هم في أكثر أحوالهم لم يعلموا. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة 32/ 21] . وجاء في الحديث لبيان عودة الكفار بعد جلاء العذاب إلى كفرهم: «إن المنافق إذا مرض وعوفي، مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه، ولا فيما أرسلوه» . وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي إلى أن يحكم الله أو لقضاء الله، والمعنى: واصبر أيها الرسول على أذى هؤلاء القوم، ولا تبال بهم، إلى أن يقع بهم العذاب الذي وعدناهم به، فإنك بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس، ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك تنزيها مصحوبا بالحمد، حين تقوم من مجلسك، أي من كل مجلس جلسته، فتقول: (سبحان الله وبحمده) أو (سبحانك اللهم وبحمدك) أو حين تقوم إلى الصلاة، كما قال الضحاك: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك» .

روى مسلم في صحيحة عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير، ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل «1» ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي- أو قال: ثم دعا- استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته» . ويتأيد الرأي الأول في كون التسبيح والتحميد بعد كل مجلس بما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن مردويه وابن أبي شيبة عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وإذا قمت من نومك فسبّحه واذكره واعبده في بعض الليل، وفي آخر الليل حين أفول النجوم، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وقال مقاتل: أي صلّ المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر. قال الرازي: والظاهر أن المراد من وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقت الصبح حيث يدبر النجم، ويخفى، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله: حِينَ تَقُومُ المراد به النهار، وقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ ما عدا وقت النوم.

_ (1) تعارّ الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسرار 17/ 79] وهذا يتفق مع الحديث الصحيح: «خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- شأن الكفار وديدنهم العناد ومكابرة المحسوسات، حتى إنهم لو رأوا بأعينهم أمارات العذاب النازل عليهم من السماء كالشهب والصواعق، لما أيقنوا وظلوا على كفرهم، وزعموا أنه سحاب محفّل بالمطر متراكم بعضه على بعض، وليس صواعق. وهذا جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء 17/ 92] . 2- هددهم الله تعالى بالهلاك السريع وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتركهم والإعراض عنهم حتى يوم بدر، أو يوم يموتون أو يوم النفخة الأولى في يوم القيامة حيث يأتيهم فيه من العذاب ما تشيب منه الرؤوس وتزول به العقول. وليس قوله: فَذَرْهُمْ للتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام، والقول بأن ذلك منسوخ بآية القتال ضعيف كما ذكر الرازي، وإنما المراد التهديد. 3- في ذلك اليوم الذي يلاقونه لا ينفعهم فيه شيء من مكرهم وما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وما تآمروا به عليه، ولا يجدون فيه ناصرا ينصرهم من الله، أو مانع يمنعهم من عذاب الله. وقوله: يَوْمَ لا يُغْنِي فيه تمييز يوم الكفار والفجار عن يوم المؤمنين حيث قال تعالى فيه: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة 5/ 119] .

4- للكفار عذابان: عذاب جهنم في الآخرة، وهو الأدهى والأمر، لأنه عذاب خالد دائم، وعذاب في الدنيا قبل موتهم وهو أخف من عذاب الآخرة بالتعرض لمصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد، والجوع والجهد والقحط سبع سنين، وقد عذب به أهل مكة، والقتل في المعارك كمعركة يوم بدر الذي قتل فيه زعماء قريش، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون أن العذاب نازل بهم، ولا ما يصيرون إليه في الآخرة أو الدنيا. 5- الصبر مفتاح الفرج، لذا أمر الله نبيه وكل مؤمن بالصبر على قضاء ربه فيما حمّله من رسالته، وأعلمه بأنه بمرأى ومنظر من الله يراه ويسمع ما يقول ويفعل، والله حافظه وحارسه وراعيه. 6- إن الإقبال على طاعة الله والاعتصام بقوته وقدرته وتفويض الأمور إليه يقوي النفس البشرية، وينفخ فيها روح الجدّ والعزيمة والإقدام والجرأة على أداء رسالة الحياة، لذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن بتسبيح الله وحمده كل وقت وعقب كل مجلس، وبالصلاة، والتهجد ليلا. وقد سبق إيراد الآيات والأحاديث الآمرة والمرغبة بكل ما ذكر، ومنها حديث الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: «كنا نعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور» «1» . وفي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض

_ (1) قال الترمذي عن كل من الحديثين: حديث حسن صحيح غريب.

ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقّ، ووعدك الحق، وقولك الحقّ، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حقّ، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك» . وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل، مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة [آل عمران] أي من قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (190) إلى آخر السورة.

سورة النجم:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النجم مكيّة، وهي اثنتان وستون آية. تسميتها: سميت سورة النجم، لأن الله تعالى افتتحها بالقسم بالنجم، وأل للجنس، أي بنجوم السماء وقت سقوطها وغربها، لأن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري، لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات، والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر، لأن الناظر إليه يستدل بغروبه على الجهة. مناسبتها لما قبلها: ترتبط هذه السورة بما قبلها بوجوه أربعة: 1- إن سورة الطور ختمت بقوله: وَإِدْبارَ النُّجُومِ وافتتحت هذه السورة بقوله: وَالنَّجْمِ. 2- في سورة الطور ذكر تقوّل القرآن وافتراؤه، وهذه السورة بدئت بذلك وردت عليه. 3- ذكر في الطور ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم، وفي هذه السورة ذكرت ذرية اليهود في آية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ (32) .

ما اشتملت عليه السورة:

4- في حق الآباء المؤمنين قال تعالى في الطور: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (21) أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين، مع نفعهم بعمل آبائهم، وقال في النجم في حق الكفار أو أبناء الكفار الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) . ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السورة المكية المعنية بأصول العقيدة، وهو إثبات الرسالة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تلقي القرآن بالوحي عن الله، والتوحيد والكلام على الأصنام وبيان عدم جدواها، والتحدث عن قدرة الله عز وجل، وعن البعث والنشور. افتتحت السورة بإثبات ظاهرة الوحي بوساطة جبريل عليه السلام، والكلام عن (المعراج) وقرب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، ورؤيته عجائب ملكوت الله تعالى، ومشاهدته جبريل على صورته الحقيقية الملكية مرتين. ثم قرّعت المشركين على عبادة الأوثان والأصنام، ووصفتها بأنها عبادة باطلة لآلهة مزعومة لا وجود لها، ووبختهم أيضا على جعل الملائكة إناثا، وتسميتهم إياها: بنات الله، وبيان أن الملائكة لا تملك الشفاعة إلا بإذن الله تعالى. ثم وصفت الجزاء العادل يوم القيامة، حيث يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وذكرت أوصاف المحسنين، ونددت بإعراض الكافرين عن الإسلام، وأعلمت الناس جميعا أن المسؤولية فردية شخصية، فيسأل كل إنسان عن سعيه وعمله، ولا تتحمل نفس إثم أو وزر نفس أخرى، ولا تقبل تزكية المرء نفسه.

فضلها:

وأبانت السورة إحاطة علم الله بما في السموات والأرض ومظاهر قدرة الله تعالى في الإحياء والإماتة، والإغناء والإفقار، وخلق الإنسان من النطفة، والبعث والحشر والنشر. وهددت المشركين الذين أنكروا الوحدانية والرسالة والبعث بالإهلاك كإهلاك أقوام أخرى أشداء، كعاد وثمود وقوم نوح ولوط. وختمت بالتعجب من استهزاء المشركين بالقرآن وإعراضهم عنه، وأمر المؤمنين بالعبادة الخالصة لله تعالى. فضلها: أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن سورة النجم أول سورة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود أيضا قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة: وَالنَّجْمِ فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف. وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب، وقال: يكفي هذا. فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك.

إثبات النبوة وظاهرة الوحي [سورة النجم (53) الآيات 1 إلى 18] :

إثبات النبوة وظاهرة الوحي [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) الاعراب: إِذا هَوى ظرف لفعل «أقسم» المقدر، والمراد ب إِذا هنا مطلق زمان. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الواو في وَهُوَ: واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر: في موضع نصب على الحال من ضمير فَاسْتَوى أي استوى عاليا، يعني جبريل. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى كذب بالتخفيف، فتكون ما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ما كذب الفؤاد فيما رأى. وما: إما بمعنى الذي، ورَأى الصلة، والهاء المحذوفة العائد، أي رآه، فحذف الهاء تخفيفا، وإما مصدرية. وقرئ كَذَبَ بالتشديد، فتكون ما مفعولا به، من غير تقدير حذف حرف جر، لأنه متعد بنفسه. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى نَزْلَةً: منصوب على المصدر في موضع الحال، كأنه قال: رآه نازلا نزلة أخرى، وذهب الفرّاء إلى أنه منصوب على الظرف، إذ معناه: مرة أخرى.

البلاغة:

البلاغة: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى إبهام الموحى به للتعظيم والتهويل، ومثله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم 53/ 16] وكذلك فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم 53/ 54] . وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى بين هوى والهوى جناس، فالأول بمعنى خرّ وسقط، والثاني بمعنى هوى النفس. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة يوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء. المفردات اللغوية: وَالنَّجْمِ جنس النجوم، أو الثريا، فإنه غلب فيه إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، والواو للقسم. هَوى غرب وسقط. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية المستقيم. وَما غَوى ما وقع في الغي: وهو الجهل مع الاعتقاد الفاسد، وهو الجهل المركب، والمراد: ما اعتقد باطلا قط، والخطاب في هذا لقريش. والمراد: نفي ما ينسبون إليه. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ما يتكلم بالقرآن عن الهوى أي بالباطل. إِنْ هُوَ أي ما القرآن أو الذي ينطق به. إِلَّا وَحْيٌ يُوحى وحي يوحيه الله إليه. عَلَّمَهُ إياه ملك. شَدِيدُ الْقُوى صاحب القوى الشديد، وهو جبريل عليه السلام. ذُو مِرَّةٍ ذو قوة وحصافة في عقله ورأيه. فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، ورآه عليها محمد صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في السماء، ومرة في الأرض عند غار حراء في بدء النبوة. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق السماء وهو الجهة العليا بالنسبة للناظر، والضمير لجبريل. ثُمَّ دَنا قرب من النبي صلى الله عليه وسلم. فَتَدَلَّى زاد في القرب ونزل وتعلق به، وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى الله عليه وسلم. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي فكان جبريل على مقدار قوسين أو أقرب من ذلك، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس والسّية: وهي ما عطف من طرفيها، ولكل قوس قابان: طرفان. والخلاصة: فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه، بنفي البعد الموقع في اللبس والغموض. فَأَوْحى الله تعالى. إِلى عَبْدِهِ جبريل. ما أَوْحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه، أو فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما أنكر فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أفتجادلونه وتغلبونه وتكذبونه على ما يراه معاينة، من المراء:

التفسير والبيان:

وهو الجدال بالباطل. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أعلى مكان في السماء، ينتهي إليها علم الخلائق وأعمالهم، شبّهت بالسدرة: وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين المتقين. إِذْ حين. يَغْشَى يغطي ويستر. ما يَغْشى تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يحيط بها وصف ولا عدد. ما زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. وَما طَغى وما تجاوز ما أمر به تلك الليلة. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى في تلك الليلة- ليلة المعراج- بعض آيات ربه العظمى، وعجائب الملكوت، كرؤية جبريل حينما سدّ أفق السماء بما له من ست مائة جناح. التفسير والبيان: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى أي أقسم بالنجم أي بالنجوم عند ما تميل للغروب، إذ بالميل إلى الأفق تعرف الجهات، ما عدل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية والحق، وما صار غاويا متكلما بالباطل، وقيل: النجم: الثريا إذا سقطت مع الفجر. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي وغيره قال: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. وقد عرض الرازي مقارنة في المقسم به والمقسم عليه بين هذه السورة والسور المتقدمة، فذكر أن السور التي تقدمت وهي والصافات والذاريات والطور وهذه السورة كان القسم فيها بالأسماء دون الحروف، أقسم الله في الأولى لإثبات الوحدانية: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وفي الثانية لإثبات الحشر والجزاء: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وفي الثالثة لإثبات دوام العذاب بعد وقوعه يوم القيامة: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ. وفي هذه السورة لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فاكتملت الأصول الثلاثة: الوحدانية، والحشر، والنبوة «1» . ويلاحظ أن القسم على الوحدانية والنبوة قليل في القرآن، والقسم على إثبات البعث كثير، كما في سورة الذاريات، والطور، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى،

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 277

وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وغير ذلك، لأن دلائل الوحدانية كثيرة، وكلها عقلية كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ودلائل النبوة والرسالة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة، أما البعث فإمكانه يثبت بالعقل، وأما وقوعه فلا يثبت إلا بالأدلة السمعية أو النقلية وهي القرآن والحديث، لذا أكثر الله تعالى في القرآن بالقسم عليه ليؤمن به الناس. ونظير الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة 56/ 75- 80] . والحكمة في القسم بالنجوم أنه عالم رهيب، سواء في السرعة أو في الحجم، أو في النوع، فسرعة نور الكواكب 300 ألف كيلومتر في الثانية، أي أن النور يجري حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاث مائة ألف مرة، وهي وا؟ حد من ثلاثين ألف مليون شمس، والنظام الشمسي والكواكب السيارة الإحدى عشرة جزء من عالم المجرّة، والمجرّة ذات نجوم بنحو 30 ألف مليون نجم، منها ما هو أكبر من الشمس، والمجرة عادة تشبه قرصا مفرطحا، ويبلغ قطر المجرّة التي تنتمي إليها 100 ألف سنة ضوئية «1» ، وإن

_ (1) السنة الضوئية تساوي 6 ملايين ميل. وقد أشار تقرير حول أعمال الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لعلم الفلك في مدينة (أوستن) - (ولاية تكساس) إلى أن علماء الفلك الأمريكيين رصدوا مجرتين هما الأقدم والأبعد عن الأرض بين كل تلك التي رصدت إلى اليوم. وأوضح التقرير أن هاتين المجرتين تقعان على بعد 17 مليار سنة ضوئية عن الأرض، وأنهما تكونتا إبان الانفجار الكبير (بيج بانج) الذي يقال: إنه أسفر عن نشوء الكون، والمجرتان على حد ما جاء في التقرير هما أبعد وأقدم من إشعاعات (كازار) التي تشبه النجوم، وتبعث إشعاعا كهربائيا ومغناطيسيا قويا.

التحام قوة الجاذبية بين المجرّات بالكميات الهائلة من الغازات والمواد الموجودة فيها يحوّل ما يعرف بالفجوات السوداء في وسط هذه المجرّات الفضائية إلى شهب مشتعلة، تحدث نادرا في ظروف مئات الملايين من السنين. والشهب أشبه بالنجوم إلا أنها تصدر إشعاعات مغناطيسية تفوق في طاقتها ما يصدر عن النجوم العادية المعروفة بالإشعاعات، وبعد الشهب عن الأرض بمسافة عشرة آلاف مليون سنة ضوئية. وقد أوضحت سابقا أن الشمس على مدار السنة تتنقل في اثني عشر برجا، وتوجد في كل برج لمدة شهر حيث تتم دورتها السنوية في اثني عشر شهرا (365 يوما وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان) . ويطلق على هذه السنة: السنة النجمية التي تبدأ في 21 آذار (مارس) . وللقمر بروج أيضا تسمى منازل القمر، يقيم فيها كل يوم في منزل جديد، ويستمر بالتنقل على مدار الشهر ما بين 29 أو 30 منزلا، يسمى المنزل الأخير محاقا، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 5] وتدل آية لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] على أن الإعجاز القرآني في الفلك أكبر من الإعجاز القرآني في الطب والإنسان، وقد طلب الله منا أن نمعن النظر في آياته الكونية، ونكتشف ظواهر الكون «1» .

_ (1) في يوم الأربعاء الموافق 12 نيسان (أبريل) لعام 1961 قامت أول مركبة فضائية تحمل بشرا وتدور حول كوكب الأرض، بقيادة رائد الفضاء جاجارين من الاتحاد السوفييتي، وكان أول سؤال وجهه إليه الصحفيون الروس هو: هل وجدت الله؟ فأجاب بمنطق الإلحاد المطلق المعروف بأنه لم يجد الله. ثم تلاه رائد فضاء سوفييتي آخر اسمه (تيتوف) استمر في الفضاء لمدة أطول من رفيقه (جاجارين) فلما عاد إلى الأرض، سئل: هل وجدت الله؟ فأجاب: «نعم، لقد وجدت عظمة الخالق، وفي عمله الجبار بالسيطرة على قوانين الجاذبية بين الأرض والقمر والشمس» .

لهذه الأهمية للنجوم أقسم الله بها على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بضال تائه عن الحق، ولا غاو يعدل عن الحق، وسبب رشده وعدم ضلاله وغوايته ما قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما يقول قولا عن هوى وغرض، وما ينطق بالقرآن عن هواه الشخصي، إنما ينطق بوحي من الله أوحاه إليه، ويبلّغ ما أمر به كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان. أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق» . وأخرج الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله، فهو الذي لا شك فيه» . وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: إني لا أقول إلا حقا» . ثم أخبر الله تعالى عن معلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام: فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي علّم القرآن النبيّ جبريل الذي هو شديد قواه العلمية والعملية، وهو ذو قوة وشدة في الخلق، وذو حصافة في العقل، ومتانة في الرأي، وقد استقام جبريل على

صورته التي خلقه الله عليها، حين أحب النبي صلى الله عليه وسلم رؤيته كذلك، فظهر له في الأفق الأعلى أي في الجهة العليا من السماء، وهو أفق الشمس، فسدّ الأفق عند ما جاء بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه بالوحي. ونظير الآيات عن جبريل قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير 81/ 19- 23] . ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى أي استوى واعتدل جبريل بالأفق الأعلى أولا، ثم قرب من الأرض، وازداد في القرب والنزول، حتى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم من المسافة مقدار قوسين أو أقل من قوسين، فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحاه من القرآن في تلك النزلة، من شؤون الدين. وقيل: فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبده ما أوحى، وفيه تفخيم لشأن الوحي. وهذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال تعالى بعده: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود، قال في هذه الآية: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل له ست مائة جناح» . وقال عن رؤية جبريل حقيقة لا تخيلا: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي ما أنكر فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه من صورة جبريل، وإنما كان فؤاده صادقا، فتكون عينه أصدق، فكيف تجادلونه وتكذبونه فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة من صورة جبريل عليه السلام؟! والأشهر أن لام الْفُؤادُ للعهد، وهو فؤاد

محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقل فؤاده لما رآه: لم أعرفك، وصدّق فؤاده ما عاينه، ولم يشك في ذلك، ولم يقل: إنه جن أو شيطان. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، وذلك ليلة الإسراء، عند سدرة المنتهى التي هي في رأي الأكثرين وهو المشهور: شجرة في السماء السابعة، وجاء في الصحيح أنها في السماء السادسة، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين. والصحيح كما تقدم في سورة الإسراء: أن المعراج كان بالروح والجسد، وليس بالروح فقط كما يرى بعضهم، وإلا لما كان المعراج معجزة. فتكون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء، وأما في غير هاتين المرتين، فكان يراه في صورة إنسان، لأن عليه أيسر وأهون وأكثر أنسا. وعلى هذا يكون ضمير رَآهُ ليس راجعا إلى الله تعالى، بل إلى جبريل عليه السلام، فالآية تنفي أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا، ويؤكده قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام 6/ 103] وقوله سبحانه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى 42/ 51] . وقال بعضهم: الضمائر في دَنا، وفَتَدَلَّى و (كان) و (أوحى) وكذا في رَآهُ: لله عز وجل، ويشهد لهذا ما أخرجه البخاري عن أنس: «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» . والراجح هو الرأي الأول بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي ذر أنه

سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: «رأيت نورا» «1» وأما سدرة المنتهى فنؤمن بها كما جاء في ظاهر القرآن، دون تعيين مكانها وأوصافها إلا بما جاء في الحديث الصحيح، روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها..» . ورواية مسلم في صحيحة عن ابن مسعود: «.. وهي في السماء السادسة» . وفي رواية أخرى لمسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى، في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة..» والنّبق: ثمر السّدر، الواحدة: نبقة «2» . وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وقد ذكر له سدرة المنتهى- قال: «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة، أو يستظل بظلها مائة راكب «3» ، فيها فراش «4» الذهب، كأن ثمرها القلال» . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى أي تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير.

_ (1) تفسير الألوسي: 27/ 52 وما بعدها. (2) ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء، وهي لغة المصريين، وكسر الباء أفصح. (3) شك من الراوي. (4) الفراش: دويبة ذات جناحين، تتهافت في ضوء السراج، واحدتها فراشة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه، وما تجاوز ما رأى، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر ملكوت الله رؤية عين، وليست من خدع البصر، وهذا يؤكد أن المعراج كان بالروح والجسد. لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، وهو جبرائيل على صورته، وسائر عجائب الملكوت. وهذا كقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء 17/ 1] دون تحديد المرئي للإشارة إلى تعظيمه وتفخيمه وأهميته. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال في الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق «1» . وعن ابن زيد: أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لله تعالى أن يقسم بما شاء، على ما شاء، في أي وقت يشاء، وقد أقسم بالنجوم (على أن اللام للجنس) أو بالثريا (على أن اللام لتعريف العهد) والعرب تسمي الثّريا نجما، وإن كانت في العدد نجوما. وأقسم به وقت هويّه وغروبه لأنه الوقت الذي يستفاد منه لمعرفة الجهات، أما إذا كان في وسط السماء، فيكون بعيدا عن الأرض، لا يهتدي به الساري، فإذا مال إلى الغروب تبين جانب المغرب من المشرق، والجنوب من الشمال. 2- المقسم عليه الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال، والضال: الذي يسير على غير هدى بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، والضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد. وبه نزّه

_ (1) قال ابن عباس أيضا: رأي رفرفا أخضر سدّ أفق السماء.

الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كاليهود والنصارى. 3- القرآن الكريم ليس كلاما للرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو وحي صادر من الله عز وجل. 4- قد يحتج بقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى من لا يجوّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث، وهذا خطأ، لأن المراد بالآية إثبات كون القرآن وحيا من عند الله، والقرآن ذاته أمره بالاجتهاد، وقد اجتهد صلى الله عليه وسلم في الحروب فيما لم يحرمه الله، وأذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فعاتبه ربه بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 9/ 43] . 5- كان الوحي من الله تعالى على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بوساطة جبريل، لقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل في قول سائر المفسرين، سوى الحسن، فإنه قال: هو الله عز وجل. وقد وصف الله جبريل بأنه ذو قوة فائقة علما وعملا وحصافة في العقل ومتانة في الرأي. 6- رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين: مرة بدأت في أفق السماء، حينما استوى واستقام كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي العلوي، فسد المشرق لعظمته. ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، من الأرض، فنزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. وهذه هي المرة الأولى للرؤية، والنبي على الأرض. وكان جبريل قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار مسافة قوسين عربيتين أو أقل من ذلك. 7- لقد أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ما أوحى، ولم يبين الموحى به تفخيما لشأن الوحي، أو أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم،

أو أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله إليه وكلمه به. وعلى كل حال مصدر الوحي الأصلي هو الله تعالى، وجبريل واسطة، ومحمد صلى الله عليه وسلم الموحى إليه. والوحي: إلقاء الشيء بسرعة. 8- لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ما رآه من جبريل على صورته الحقيقية وآيات الله الإلهية العجيبة، وهي رؤية حقيقية بالبصر، وقيل: إنه رأى ما رآه بقلبه. 9- أنكر الله على كفار قريش ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقال: كيف تجادلونه وتوردون شكوكم عليه، مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟! 10- لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى (وهي شجرة النّبق، وهي في السماء السادسة، أو في السماء السابعة، التي لا يحيط بها وصف) عند جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح الملائكة والشهداء والمتقين، وينتهي إليها علم الأنبياء، ويعزب علمهم عما وراءها، كما قال ابن عباس. قال ابن مسعود فيما ذكره المهدوي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى، له ست مائة جناح، يتناثر من ريشه الدر والياقوت» . والذي يغشى السدرة مبهم للتفخيم والتعظيم، مثل أنوار الله تعالى، والملائكة، والخلائق الدالة على عظمة الله تعالى. 11- لم يعدل بصر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا عما رأى بعينه يقينا، ولا تجاوز الحد الذي رأى. 12- لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات، قال الرازي معقبا على قول من قال: إنه رأى جبريل عليه السلام في صورته: الظاهر أن هذه الآيات غير تلك.

منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام [سورة النجم (53) الآيات 19 إلى 26] :

منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 26] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) الاعراب: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى اللَّاتَ وَالْعُزَّى: المفعول الأول، والمفعول الثاني: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ضِيزى: أصلها ضوزى بوزى فعلى فقلب إلى (فعلى) وإنما كان أصلها (فعلى) لأن (فعلى) ليست من أبنية الصفات، وفعلى من أبنيتها، نحو حبلى، ونظير قِسْمَةٌ ضِيزى: «مشية حيكى» فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ.. كَمْ: خبرية، في موضع رفع بالابتداء، ولا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ: خبره، وجمع ضمير كَمْ عملا بالمعنى، لأن المراد بها الجمع. وقوله: لِمَنْ يَشاءُ أي يشاء شفاعته، فحذف المضاف الذي هو المصدر، فصار: لمن يشاؤه، ثم حذف الهاء العائدة إلى (من) فصار يشاء. البلاغة: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى استفهام توبيخي مع احتقار عقولهم. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى مراعاة الفواصل وتوافق رؤوس الآيات الذي له وقع على السمع، ويسمى بالسجع. فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ أصنام العرب التي كانوا يعبدونها، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة، سمي به، لأنه صورة رجل كان يلتّ السويق بالسمن ويطعم الحاج. والعزّى كانت لغطفان، وهي شجرة ببطن نخلة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح خالد بن الوليد ليقطعها، فجعل يضربها بفأسه ويقول: يا عز، كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وكانت دماء النسائك تمنى عندها، أي تراق. الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لتأكيد الذم، والأخرى: المتأخرة الوضيعة القدر، من التأخر في الرتبة، كما في قوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف 7/ 38] أي قال أدنياؤهم أو وضعاؤهم لأشرافهم. قِسْمَةٌ ضِيزى قسمة جائرة، من ضاز يضيز ضيزا، أي جار وظلم جورا. إِنْ هِيَ الأصنام المذكورة. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها، أي إن إطلاق اسم الآلهة عليها مجرد تسميات لا مضمون لها، فليس فيها شيء من معنى الألوهية. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ما أنزل الله بعبادتها من حجة وبرهان. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في عبادتها إلا مجرد الظن غير القائم على الدليل، وإلا توهم أن ما هم عليه حق، فالمراد بالظن هنا التوهم. وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ما تشتهيه أنفسهم مما زين لهم الشيطان أنها تشفع لهم عند الله تعالى. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى البرهان القاطع وهو الرسول والكتاب، فتركوه. أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة، والهمزة فيها للإنكار، والمعنى بل ألكل إنسان منهم ما تمنى من أن الأصنام تشفع لهم؟ أي ليس له كل ما يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة المزعومة. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ أي وكثير من الملائكة. لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفع شفاعتهم شيئا. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ من عباده. وَيَرْضى عنه ويراه أهلا كذلك، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء 21/ 28] وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ [البقرة 2/ 255] . المناسبة: بعد أن قرر الله تعالى الرسالة وصدق النبوة، ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد، ومنع الإشراك، وبيان عدم جدوى الأصنام في الشفاعة عند الله تعالى بأسلوب فيه إنكار وتهكم وتوبيخ وإهدار لحرمة العقل الذي يدين

التفسير والبيان:

لغير الخالق الرازق، ويعبد أحجارا أو أشجارا أو معادن صماء لا تنفع ولا تضر. التفسير والبيان: يقرع الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فيقول: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أنظرتم إلى اللات: صنم ثقيف، والعزى: شجرة غطفان بين مكة والطائف، تعظمها قريش، ومناة: صخرة لهذيل وخزاعة، وللأوس والخزرج بين مكة والمدينة، ثالثة الصنمين والمتأخرة الوضيعة القدر، قال ذلك عنها للتحقير والذم؟ إنها أحجار صماء أو أشجار تستنبت، فكيف تشركونها بالله، وهي مصنوعة لكم أو مخلوقة غير خالقة؟! والله عز وجل الذي تعرفون عظمته في الكون، أليس هو الأجدر والأحق بالعبادة؟! وهذا تقريع شديد، وذم وتوبيخ، لوضع الشيء في غير محله، فكانت ثقيف ومن تابعها يفتخرون باللات التي كانت صخرة بيضاء منقوش عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائفة، وهي في الأصل صورة رجل كان يلت السويق للحجيج في الجاهلية، فلما مات عكفوا على قبره، فعبدوه. وكانت العزّى شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، لغطفان، وكانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» . وكانت مناة بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وتذبح عندها القرابين. وكانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم

الكعبة غير هذه الثلاثة التي نصت عليها الآية، وإنما أفردت هذه بالذكر، لأنها أشهر من غيرها. وبعد بيان سخف عقولهم بعبادة الأصنام، وبخهم الله تعالى على شرك من نوع آخر وهو جعل الملائكة بنات الله، فقال: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي أتجعلون لله ولدا، ثم تجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم فيما بينكم هذه القسمة، لكانت قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟! ونظير الآية: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ [الطور 52/ 39] . ثم أنكر الله تعالى عليهم ما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر بعبادة الأصنام، وتسميتها آلهة، فقال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما تسمية هذه الأصنام آلهة، مع أنها لا تبصر ولا تسمع، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع إلا مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، وليس لها مسميات حقيقية، اتخذتم ذلك أنتم وآباؤكم، قلّد الآخر فيها الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء، ولم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تحتجون به على أنها آلهة، كما قال تعالى في آية أخرى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [يوسف 12/ 40] . ثم بيّن الله تعالى منشأ عبادتها، فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي ما يتبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتميل إليه وتشتهيه، من غير التفات

إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه، مع أنه قد أتاهم من الله البيان الواضح الظاهر بأنها ليست آلهة، وهو هذا القرآن الذي هو الحجة والبرهان من عند الله، على لسان رسوله الذي بعثه الله إليهم، فأعرضوا عنه، ولم يتبعوا ما جاءهم به، ولا انقادوا له. ثم أوضح الله تعالى أن القضية ليست بالتمنيات والأماني، وأن هذه الأصنام لا تفيدهم في شفاعة عند الله ولا في غيرها، فقال: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي بل أيمكن «1» أن يكون للإنسان ما يتمنى؟ ليس كل من تمنى خيرا حصل له، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، فسلطان الدنيا والآخرة وملكهما والتصرف فيهما لله عز وجل، وليس للأصنام معه أمر في الدنيا ولا في الآخرة «2» : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء 4/ 123] . وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» . ثم بيّن الله طريق قبول الشفاعة، فقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي وكثير من الملائكة الكرام في السموات، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع لأحد إلا لمن أذن الله أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة العقل والفهم؟! أي إن الملائكة لا تشفع إلا بعد الإذن لها بالشفاعة، وإلا لمن يشاء الله أن يشفعوا له، لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظ. قال

_ (1) أم المنقطعة كما تقدم: بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التي تفيد الإنكار. (2) جملة فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن.

فقه الحياة أو الأحكام:

ابن كثير: فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها، ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه «1» ؟. وهذا توبيخ لعبدة الملائكة والأصنام. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- حاجّ الله المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل، فإن تلك الأصنام التي يعبدونها كاللات والعزى ومناة لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، فكيف تجوز عبادتها؟ علما بأن العبادة في رأي المشركين للمنفعة، وهذه عديمة النفع، فهل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء؟ وقد عرفتم جلال الله وعظمته، فهو الأحق بالعبادة. 2- قرّع الله المشركين ووبخهم أيضا ورد عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله، وبين لهم أنه لا يعقل جعل البنات الإناث لله، ويختارون هم الذكور، فهذه القسمة قسمة جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. 3- ما هذه الأوثان إلا أسماء وضعتموها ونحتموها وسميتموها آلهة، وقد قلدتم آباءكم في ذلك، وما أنزل الله بها من حجة ولا برهان، وما تتبعون في ذلك إلا الظن أو الوهم وأهواء النفس وما تميل إليه، بالرغم من أنه جاءكم البيان الشافي من جهة الرسول أنها ليست بآلهة، فهم اختاروا العمل بالظن مع قدرتهم على العمل باليقين الذي نزل به الوحي.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 255

توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله [سورة النجم (53) الآيات 27 إلى 30] :

4- الواقع أنه ليس للمشركين في عبادة الأصنام إلا مجرد التمنيات والأماني المعسولة المبنية على وهم لا واقع له، فلن تتمكن من الشفاعة لهم كما يحلمون فقد تمنوا الشفاعة عند من ليس لهم شفاعة، وإن الملك والتصرف والسلطان في الدنيا والآخرة لله عز وجل، فهو يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا ما تمنى أحد. 5- وبّخ الله تعالى من عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقرّبه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله [سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) الإعراب: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَعْلَمُ: إما على أصلها في التفضيل في العلم، أي هو أعلم من كل أحد بهذين الصنفين، وإما أنها بمعنى (عالم) . ومثله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيها الوجهان. البلاغة: بين ضَلَّ واهْتَدى طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ يسمون كل واحد منهم. تَسْمِيَةَ الْأُنْثى حيث قالوا: هم بنات الله. وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ بهذا القول من دليل يقيني. إِنْ يَتَّبِعُونَ ما يتبعون فيه. إِلَّا الظَّنَّ مجرد التوهم. وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي إن الظن لا يفيد في مجال الحق: الذي هو حقيقة الشيء، فإن ألحق لا يدرك إلا بالعلم، أي اليقين، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية أو اليقينيات وإنما العبرة به في العمليات والوسائل المؤدية إليها. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أعرض عمن تولى عن القرآن وعن تذكيرنا وانهمك في الدنيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي طلب الدنيا وأمرها نهاية علمهم، فلا يتجاوزه علمهم لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراضية مقررة لقصر همهم على الدنيا. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. تعليل للأمر بالإعراض، أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد بلغت، والله عالم بالفريقين فيجازيهما. المناسبة: بعد أن وبخ الحق سبحانه المشركين على عبادتهم الأصنام والأوثان، وأبان عدم جدوى تلك العبادة في مجال الشفاعة وغيرها، وبخهم مرة أخرى وقرّعهم على قولهم: الملائكة بنات الله، وأوضح أنها دعوى لا تستند إلى دليل مقبول، وأن عقولهم قاصرة، وأنهم لا يهتمون إلا بالدنيا وحطامها، وأن الله سيجازيهم على مزاعمهم ومعتقداتهم الفاسدة. التفسير والبيان: أنكر الله تعالى على المشركين تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وقولهم: إنهم بنات الله، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي إن هؤلاء المشركين الكافرين الذين لا يصدقون بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والمراد أنهم يسمون كل واحد من الملائكة أنثى، لأنهم إذا جعلوا الكل بنات، فقد

جعلوا كل واحدة بنتا. كما جاء في آية أخرى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ، وَيُسْئَلُونَ [الزخرف 43/ 19] . وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي وليس لهم بذلك علم صحيح بصدق ما قالوه، ولا معرفة ولا برهان، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم، ولا أخبرهم به مخبر مقبول الخبر، بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة، وكذبا وزورا وافتراء وكفرا شنيعا. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي ما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة، وإن مثل هذا الظن لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق. جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» . فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير الله، ولم يكن همّه إلا الدنيا، وترك النظر إلى الآخرة، أي فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم، فقد بلّغت ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يشير إلى إنكارهم الحشر، كما قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام 6/ 29] وقال تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 9/ 38] . ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي إن أمر الدنيا وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين. روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا» .

فقه الحياة أو الأحكام:

والعلة أو سبب الأمر بالإعراض عنهم ما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي أعرض عن هؤلاء، لأن الله هو الخالق لجميع المخلوقات، وهو عالم بمن ضل عن سبيله، سبيل الحق والهدى، وعالم بمن اهتدى إلى الدين الحق، وسيجازي كل فريق أو أحد على عمله. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله، وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم، ولازموا الباطل دون الحق، إذ كان من خلقه صلى الله عليه وسلم الحرص على إيمانهم. وفي ذلك أيضا وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: أوضحت الآيات ما يأتي: 1- وصف الله الكفار الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله بأنهم كافرون بالبعث والحشر أو بالآخرة على الوجه الحق الذي جاءت به الرسل. 2- وبخ الله المشركين الذين يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى. 3- ليس لهم بما وصفوا به الملائكة هذا الوصف علم صحيح، فإنهم لم يشاهدوا خلق الله الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب، وإنما يتبعون التوهم في أن الملائكة إناث، وإن التوهم أو الظن الذي لا يقوم على أساس علمي صحيح لا يفيد شيئا في مجال التعرف على الحقيقة. 4- إذا كان هذا شأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين لا همّ لهم إلا الدنيا فاترك أيها الرسول مجادلتهم، فقد بلغت الرسالة، وأتيت بما كان عليك. قال

جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين [سورة النجم (53) الآيات 31 إلى 32] :

الرازي- وما أصوب ما قال-: وأكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال، وهو باطل، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع قال له ربه: فأعرض عنهم، ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، ولا يتبعون الحق، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة، فكيف يكون منسوخا «1» ؟! 5- شأن الكفار غالبا الاهتمام بالدنيا فقط، وجهل أمر الدين والآخرة، فهم قوم ماديون، كما نشاهد اليوم، لذا أخبر الله تعالى عنهم بأن طلب الدنيا هو قدر عقولهم، ونهاية علمهم، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر 76/ 27] . 6- ختمت الآيات بالوعيد والتهديد، فالله تعالى أعلم بالضالين، وأعلم بالمهتدين، فلا داعي للمعاناة، وسيجازي كلّا بأعمالهم خيرها وشرها. جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

_ (1) تفسير الرازي: 28/ 311

الإعراب:

الإعراب: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ.. لِيَجْزِيَ.. لام لِيَجْزِيَ إما لام (كي) والتقدير: واستقر لله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، أو تكون لام القسم. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الَّذِينَ: في موضع نصب على البدل من الَّذِينَ في قوله تعالى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. إِلَّا اللَّمَمَ اللَّمَمَ: استثناء منقطع: وهو صغائر الذنوب. البلاغة: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بينهما ما يسمى بالمقابلة، وتكرار لفظ لِيَجْزِيَ من قبيل الإطناب. المفردات اللغوية: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي هو الخالق والمالك والمتصرف. بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء كالشرك وغيره. وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الذين أحسنوا بالتوحيد والطاعة يجزيهم بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. كَبائِرَ الْإِثْمِ ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو كل ذنب توعد الله عليه صاحبه بالعذاب الشديد كالشرك وعقوق الوالدين. وَالْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر خصوصا، وهو الذنب الذي عاقب الله عليه بالحد كالقتل العمد والزنى والقذف وشرب الخمر وسائر المسكرات. إِلَّا اللَّمَمَ استثناء منقطع، أي لكن اللمم إذا اجتنب الكبائر تغفر، مثل النظرة إلى المحرّمات والقبلة واللمسة. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ كثير الغفران للذنوب، قابل التوبة منها، فله أن يغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، قال البيضاوي: ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ عالم بأحوالكم. إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خلق أباكم آدم من التراب. وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حينما صوّركم في الأرحام، والأجنّة: جمع جنين: وهو الولد ما دام في بطن أمه، سمي بذلك لاجتنانه أي استتاره. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، ولا تمدحوها على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي عالم يعلم التقي وغيره قبل الخلق.

سبب نزول الآية (32) :

سبب نزول الآية (32) : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ..: أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» ، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. المناسبة: بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بما في السموات والأرض، وأنه يجازي عباده بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار، ذكر أنه قادر على ذلك، فهو مالك العالم العلوي والسفلي يتصرف فيهما بما شاء، وهو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء، ثم ذكر أوصاف المحسنين، وأخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده. التفسير والبيان: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، لِيَجْزِيَ «1» الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي إن الله تعالى مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وقد خلق الخلق بالحق، وجعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي كلّا بعمله، بحسب علمه المحيط بكل شيء، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فإن كان العمل خيرا، كان الجزاء خيرا، وإن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام لِيَجْزِيَ لام العاقبة.

_ (1) قال الواحدي: اللام للعاقبة أو الصيرورة، كما في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 28/ 8] أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدوا. [.....]

قال ابن الجوزي في تفسيره: والآية إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى، وبين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن، جازى كلّا بما يستحقه، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك. ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين المحسنين، فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم، وعن الفواحش كالزنى، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، والفواحش: ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر، مما كان فيه الحد. ولكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظرة الحرام والقبلة. أخرج أحمد والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» . فإن اقترفوا اللمم تابوا ولم يعودوا إلى مثله. ونحو الآية قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء 4/ 31] . وقد ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه تحديد الكبائر بسبع: «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. وروى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع،

فقال: هي إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. ثم فتح الله تعالى باب الأمل ومنع اليأس بقوله: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي إن رحمة الله وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كما قال تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53] . ثم أكد الله تعالى علمه بالأشياء كلها، فقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي إن الله بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر منكم، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب، واستخرج ذريته من صلبه، وحين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم، وتعهدكم بالنمو والتكوين في أطوار مختلفة. والجنين: هو الولد ما دام في البطن، وفائدة قوله: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ التنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي لا تمدحوا أنفسكم، ولا تبرّئوها عن الآثام، ولا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي، بل احمدوا الله على الطاعة، واحذروا المعصية، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي. ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء 4/ 49] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وروى مسلم في صحيحة عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: «سمّيت ابنتي (برّة) فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، فقال: لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب» . وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك قطعت عنق صاحبك- مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكّي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك» . وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن همّام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان، فأثنى عليه في وجهه، فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا، وهذا دليل القدرة الإلهية، وسعة الملك الإلهي، وهذا معترض في الكلام. 2- إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى، فيجازي كلّا بما يستحقه. وإذا كانت اللام للعاقبة فالمعنى: ولله ما في السموات وما في الأرض، لتكون عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء، فللمحسن المثوبة أو العاقبة الحسنى وهي الجنة، وللمسيء السوأى وهي جهنم. 3- إن نعت المحسنين أنهم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك، لأنه أكبر الآثام، ونحوه من الكبائر المذكورة آنفا وهي كل ما أوعد الله عليه بالنار،

ويبتعدون عن الفواحش المتناهية في القبح، كالزنى، وهي كل ذنب فيه الحدّ. لكن اللمم، وهي كما ذكر القرطبي: الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، فإن أمرها سهل مغفور، يتوب الله فيها على من تاب وأناب. وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه» وقد أعدت الحديث بهذا اللفظ، لأنه أوضح، والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحدّ في الدنيا والعقوبة في الآخرة، هو في الفرج، وغيره له حظّ من الإثم. 4- إن الله عز وجل واسع المغفرة من الصغائر والكبائر لمن تاب من ذنبه واستغفر، أما من لم تصل إليهم المغفرة فهم الذين أصروا على الإساءة، وماتوا من غير توبة، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ [التوبة 9/ 84] . 5- أكد الله تعالى لعباده علمه بجميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فذكر أنه أعلم بهم من أنفسهم وقت الإفشاء حين خلق أباهم آدم من الطين، وتسلسلوا في بطون الأمهات، معتمدين في تكوين نشأتهم على الغذاء الذي يعتمد على التراب والماء، فكل أحد أصله من التراب، فإنه يصير غذاء، ثم يصير نطفة. وفي هذا تقرير لكونه عالما بمن ضل. 6- نهى الله تعالى الإنسان عن تزكية نفسه ومدحها والثناء عليها، فإنه أبعد

توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى [سورة النجم (53) الآيات 33 إلى 54] :

من الرياء، وأقرب إلى الخشوع، ولأن الله عالم بمن أخلص العمل، واتقى عقوبة الله. قال ابن عباس: ما من أحد من هذه الأمة أزكّيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 54] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) الإعراب: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى حذف مفعولي يَرى وتقديره: فهو يراه حاضرا. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ.. أَمْ هنا: إما منقطعة بمعنى (بل والهمزة) أو متصلة بمعنى (أي) لأنها معادلة للهمزة في قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ.. أَلَّا تَزِرُ في موضع جر على البدل من: (ما) في قوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ.. أو في موضع رفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: ذلك ألا تزر، وتقديره: أنه لا تزر. وكذلك قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ.. فتكون أَنْ مخففة من الثقيلة.

البلاغة:

سَوْفَ يُرى نائب الفاعل ضمير مستتر فيه، ومن قرأ بالفتح (يرى) كان التقدير فيه: سوف يراه، فحذف الهاء، كما يقال: إن زيدا ضربت، أي ضربته. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى الهاء في يُجْزاهُ في موضع نصب مفعول به، والْجَزاءَ الْأَوْفى منصوب على المصدر. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أراد: أنه إلى ربك، وهو معطوف على أَلَّا تَزِرُ وكل ما بعده من قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى إلى قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [الآيات 43- 50] معطوف على أَلَّا تَزِرُ. وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثَمُودَ منصوب بفعل دال عليه. فَما أَبْقى تقديره: وأهلك ثمودا، فما أبقى. وإنما لم يجز نصبه ب أَبْقى لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله. قرأ عاصم وحمزة ثَمُودَ بلا تنوين، والوقوف بغير ألف، والباقون بالتنوين ويقفون بالألف. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى الْمُؤْتَفِكَةَ مفعول به منصوب ل أَهْوى. فَغَشَّاها ما غَشَّى أي ما غشاه إياها، فحذف مفعولي غَشَّى والأول ضمير ما والثاني ضمير الْمُؤْتَفِكَةَ. البلاغة: فَغَشَّاها ما غَشَّى الإبهام للتعظيم والتهويل. بين أَضْحَكَ وَأَبْكى وبين أَماتَ وَأَحْيا وبين أَغْنى وَأَقْنى ما يسمى بالطباق. بين أَغْنى وَأَقْنى جناس ناقص لتغير بعض الحروف. المفردات اللغوية: تَوَلَّى أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه. وَأَعْطى قَلِيلًا من المال. وَأَكْدى قطع العطاء ولم يتممه، يقال: حفر فأكدى، أي بلغ كدية أي أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر من مواصلة العمل وإتمامه. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى يعلم أن غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة، وهو الوليد بن المغيرة أو غيره كما سيأتي. وجملة أَعِنْدَهُ عِلْمُ.. المفعول الثاني لرأيت بمعنى: أخبرني. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل لم يخبر. صُحُفِ مُوسى أسفار التوراة، وإنما قدم تعالى ذكر صحف موسى، لأنها أقرب وأشهر وأكثر. وَإِبْراهِيمَ أي وصحف إبراهيم: وهي ما نزل عليه من

سبب النزول:

الشرائع. وَفَّى أتم ما أمر به، وذلك مثل قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة 2/ 124] . أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حمل أي ذنب غيرها. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي وأنه ليس لإنسان إلا ما سعى من خير، فليس له من سعي غيره للخير شيء. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى يبصر في الآخرة، ويراه أهل القيامة تشريفا للمحسن، وتوبيخا للمسيء. يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأكمل أو الأوفر. الْمُنْتَهى المرجع والمصير والنهاية بعد الموت يوم القيامة. أَضْحَكَ أي من شاء أفرحه. وَأَبْكى ومن شاء أحزنه. أَماتَ في الدنيا. وَأَحْيا للبعث. خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الصنفين. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى من مني إذا تدفق وصب في الرحم، فقوله: تمنى أي تصبّ في الرحم. النَّشْأَةَ الْأُخْرى الخلقة الأخرى للبعث بعد الخلقة الأولى، بإعادة الأرواح في الأجساد حين البعث. أَغْنى وَأَقْنى أعطى المال من شاء، وأفقر من شاء. رَبُّ الشِّعْرى الكوكب المضيء خلف الجوزاء، يسمى العبور، كانت طائفة من العرب تعبده في الجاهلية. وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى القدماء وهم قوم هود: وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى: من ولد عاد الأولى، وهم ثمود قوم صالح كما قال المبرد. وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثمود: قوم صالح، فما أبقى أحدا منهم، وَثَمُودَ بلا صرف: اسم للقبيلة، وهو معطوف على عاداً وبالصرف: اسم للأب. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي قبل عاد وثمود أهلكناهم. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من عاد وثمود، لأنهم مع عدم إيمانهم بنوح عليه السلام على مدى ألف سنة إلا خمسين عاما كانوا يؤذونه ويضربونه. وَالْمُؤْتَفِكَةَ قرى قوم لوط، سميت بذلك، لأنها ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بهم، ومنه الإفك، لأنه قلب الحق. أَهْوى أسقطها وقلبها في الأرض بعد أن رفعها إلى السماء، بأمر جبريل بذلك. فَغَشَّاها غطّاها بالحجارة وغيرها: ما غَشَّى ما غطّى، أبهم ذلك تهويلا وتعميما لما أصابهم. سبب النزول: سبب نزول الآيات (33- 41) : قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيّره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمل

سبب نزول الآية (43) :

عنه عذاب الله سبحانه وتعالى، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال السدّي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب القرظيّ: نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، فذلك قوله تعالى: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة، فجاء رجل يريد أن يحمل- أي يركب-، فلم يجد ما يخرج عليه، فلقي صديقا له، فقال: أعطني شيئا، فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي، فقال له: نعم، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآيات. سبب نزول الآية (43) : وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى: أخرج الواحدي عن عائشة قالت: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، فنزل عليه جبريل عليه السلام بقوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه السلام، فقال: ائت هؤلاء، وقل لهم: إن الله عز وجل يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. المناسبة: بعد أن بيّن الله سبحانه سعة علمه وقدرته الفائقة على إيقاع الجزاء يوم القيامة بأهل الإساءة والإحسان، وبيّن جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر على سبيل التعجيب والتقريع نبأ واحد معين منهم بسوء فعله، أعرض عن الايمان

التفسير والبيان:

والدخول في الإسلام، بالرغم من سماع ما أنزل، وظن أن غيره يتحمل عنه أوزاره، مع أن جميع الشرائع كشريعة إبراهيم وموسى تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية أو الفردية، وأن لا تتحمل نفس آثمة وزر أو ذنب نفس أخرى، وأن ليس لكل إنسان إلا سعيه بالخير. التفسير والبيان: ذمّ الله تعالى ووبخ كل من تولى عن طاعة الله، فقال: أَفَرَأَيْتَ «1» الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي أعلمت وأخبرت شأن الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق، وأعطى قليلا من المال، ثم أحجم عن العطاء في سبيل أن يتحمل عنه غيره وزره، أو كما قال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه، أفعند هذا الكافر الذي آثر الكفر على الإيمان علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره يوم القيامة؟ ليس الأمر كما يظن. وهذا كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة 75/ 31- 32] ثم ذكّره تعالى بما أجمعت عليه الشرائع من أن المسؤولية شخصية، فقال: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي. بل أنّه لم يخبر بما جاء في أسفار التوراة، وصحف إبراهيم الذي تمم وأكمل ما أمر به، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل، كما جاء في آية أخرى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة 2/ 124] فإنه قام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلّغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله.

_ (1) أَفَرَأَيْتَ: معناها المراد: أخبرني، ومفعولها الأول: الَّذِي، والثاني: جملة الاستفهام.

واكتفى بذكر صحف إبراهيم وموسى، لأن المشركين يدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وأهل الكتاب يتمسكون بالتوراة، وإنما قدم هنا صحف موسى خلافا للترتيب الزمني، ولما جاء في سورة الأعلى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [18- 19] ، لأن صحف إبراهيم كانت بعيدة، وكانت المواعظ فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى التي هي أقرب وأشهر وأكثر. ثم أوضح الله تعالى ما تقرر في صحف موسى وإبراهيم، فقال: 1- أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو أي ذنب، فعليها وحدها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية أو لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره، كما جاء في آيات أخرى منها: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر 35/ 18] . 2- وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله، وهذا المبدأ وهو ألا يثاب أو يكافأ امرؤ إلا بعمله يقابل المبدأ السابق، فكما لا يتحمل أحد مسئولية أو وزر غيره، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. والمراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به. وعبر بصيغة الماضي في قوله: إِلَّا ما سَعى لزيادة الحث على العمل الصالح. ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. والمعتمد في المذاهب الأربعة أن ثواب القراءة يصل إلى الأموات، لأنه هبة ودعاء بالقرآن الذي تتنزل الرحمات عند تلاوته، وقد ثبت في السنة النبوية وصول الدعاء والصدقة للميت، وذلك مجمع عليه، روى مسلم في صحيحة والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن

ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره «1» . 3- وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي إن عمله محفوظ يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء، وسيعرض عليه وعلى أهل المحشر يوم القيامة إشادة به ولو ما للمقصرين، كما قال تعالى: وَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة 9/ 105] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. 4- ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى الإنسان سعيه، ويجازى عليه جزاء كاملا غير منقوص، فيجازى بالسيئة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف. 5- وَأَنَّ «2» إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي أن المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله سبحانه، لا إلى غيره، فيجازي الخلائق بأعمالهم على الصغير والكبير، وهذا ترهيب وتهديد للمسيء، وترغيب وحث للمحسن، يستدعي التأمل في عودة العباد إلى الله يوم المعاد، وتعرضهم للجزاء على أعمالهم، كما جاء في آيات أخرى مثل: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس 36/ 83] . وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.

_ (1) تفسير القرطبي: 17/ 114 (2) أَنْ هذه: تحتمل الفتح والكسر.

6- وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه، وأبكى من شاء بأن غمّه، وخلق في عباده الضحك والبكاء والفرح والحزن وسببهما، وهما مختلفان، والمراد أن الله خلق ما يسر من الأعمال الصالحة، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة. وهذا دليل القدرة الإلهية. وإنما خص بالذكر هذان الوصفان، لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد تعليل خاصية الضحك والبكاء في الإنسان دون الحيوان. 7- وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي وأنه تعالى خلق الموت والحياة، كما في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك 67/ 2] فهو سبحانه قادر على الإماتة وعلى الإحياء والإعادة. 8- وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي والله هو الذي خلق الصنفين: الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان، من مني أو ماء قليل يصب في الرحم، ويتدفق فيه، ثم ينفخ الله الروح في النطفة، فتصير بنية إنسانية، أو حيوانية، وهذا من جملة المتضادات التي ترد على النطفة، فبعضها يخلق ذكرا، وبعضها يخلق أنثى. 9- وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث، فكما خلق الله الإنسان من البداءة، هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. فهذا إشارة إلى الحشر. 10- وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي وأنه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده، وأفقر من يشاء منهم، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة للخلائق، فالإغناء والإفقار أو الإعطاء من المال والمنع منه، كلاهما بيد الله تعالى وفي سلطانه وتصرفه. 11- وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى أي وأنه تعالى رب هذا النجم الوقاد المضيء

الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر، ويقال له: مرزم الجوزاء أو العبور، كانت خزاعة وحمير تعبده. وفي النجوم شعريان: إحداهما يمانية والأخرى شامية، والظاهر- كما قال الرازي- أن المراد اليمانية، لأنهم كانوا يعبدونها، لذا خصت بالذكر. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب، وكانت قريش تطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم «ابن أبي كبشة» تشبيها له به، لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أمه. قال أبو سفيان يوم فتح مكة حين شاهد عساكر المسلمين تمرّ عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وقال مشركو قريش: ما لقينا من ابن أبي كبشة!! 12- وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى أي وأنه تعالى أفنى قوم هود عليه السلام، وهم عاد القدماء، وهي أول أمة أهلكت بعد نوح، ويقال لهم: عاد بن إرم بن سام بن نوح، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر 89/ 6- 8] وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على رسول الله ورسوله، فأهلكهم الله بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 6- 7] . قال المبرد: وعاد الأخرى: هي ثمود قوم صالح. 13- وَثَمُودَ فَما أَبْقى أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا، ودمرهم وأخذهم بذنوبهم فما أبقى أحدا من الفريقين، كما قال تعالى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 8] . 14- وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء الفريقين: عاد وثمود، إنهم كانوا أظلم من عاد وثمود، وأطغى منهم، وأشد تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم، لأنهم بدؤوا بالظلم، والبادئ أظلم: «ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» «1» وأما

_ (1) حديث صحيح رواه مسلم عن أبي عمر وجرير بن عبد الله.

فقه الحياة أو الأحكام:

كونهم أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ أمدا طويلا، وعتوا على الله بالمعاصي، مع طول مدة دعوة نوح لهم، وأصروا على الكفر واستكبروا استكبارا، مما ألجأه إلى الدعاء عليهم بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] . 15- وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى أي وأسقط وقلب مدائن قوم لوط، بجعل عاليها سافلها، أهواها جبريل بعد أن رفعها، ثم أمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود، فغطّاها ما غطّاها من الحجارة والعذاب على اختلاف أنواعه، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء 26/ 173] . وسميت المؤتفكة، لأنها ائتفكت أي انقلبت بهم، وصار عاليها سافلها. وهذا الأسلوب من الإبهام فيه تهويل وتفخيم للأمر الذي غشاها، وتعميم للذي أصابهم. قال قتادة: كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان (أي 16000 ألفا) فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- خصص الله سبحانه واحدا من المشركين عينه بسوء فعله للعبرة والعظة واستهجان ما فعل من معاوضة غيره في الدنيا بمال قليل، أعطى اليسير منه، ثم منع الباقي، على أن يتحمل عنه آثامه يوم القيامة. 2- إن نقطة الضعف الأساسية عند هذا، عدا سذاجة عقله الجاهلي البدائي، هو جهله بالغيب، لذا أنكر الله تعالى عليه مبيّنا: أعنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟!

3- ذكّره الله تعالى بما جاء في صحف إبراهيم وموسى من مبادئ عشرة هي: الأول- المسؤولية الفردية أو ألا يسأل أحد عن ذنب غيره، وهو مبدأ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. الثاني- كل إنسان وعمله، وكل امرئ وعطاؤه، ولا ثواب إلا بالعمل والنية الصالحة. الثالث- العمل ذو أثر دائم، محفوظ في ميزان العامل، لا يضيع منه شيء، خيرا كان أو شرا. الرابع- يجازى كل إنسان على عمله وسعيه جزاء أوفر، السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف. الخامس- إن مصير أو مردّ جميع الخلائق إلى الله عز وجل، فيعاقب المسيء، ويثيب المحسن. السادس- خلق الله تعالى الضحك والبكاء، والسرور والحزن، وإن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. السابع- إن الله تعالى خلق الموت والحياة وأسبابهما. الثامن- خلق الله سبحانه الصنفين المتضادين: الذكر والأنثى من شيء واحد هو النطفة: وهي الماء القليل. التاسع: الله تعالى هو القادر على إعادة الأرواح إلى الأجساد للبعث، وهذا هو الحشر.

العاشر- أوجد الله تعالى التفاوت في الأرزاق بين الناس، فأغنى من شاء وأفقر من شاء. والمبادئ الخمسة الأخيرة دالة على قدرة الله عز وجل، وقد أكّدها تعالى بإيراد أمثلة أو نماذج خمسة أخرى دالة على القدرة وهي: الأول- الله سبحانه هو رب الشّعرى: وهو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وهما الشعريان: العبور التي في الجوزاء، والشّعرى الغميصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى، وإن كان ربا لغيره من سائر النجوم، لأن العرب كانت تعبده وهم حمير وخزاعة. الثاني- أهلك الله تعالى قوم عاد العتاة الأشداء الجبارين بريح صرصر عاتية. الثالث- أهلك الله عز وجل أيضا ثمود قوم صالح بالصيحة لتمردهم وبغيهم. الرابع- أهلك الله سبحانه قوم نوح من قبل عاد وثمود، الذين كانوا أظلم وأطغى، لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه، فينطلق إلى نوح عليه السلام، فيقول: احذر هذا، فإنه كذّاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي مثل ما قلت لك، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه. الخامس- دمّر الله مدائن قوم لوط عليه السلام، ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها، وألبسها ما ألبسها من الحجارة، قال الله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر 15/ 74] .

الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول والتحذير من أهوال القيامة [سورة النجم (53) الآيات 55 إلى 62] :

الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول والتحذير من أهوال القيامة [سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 62] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) الإعراب: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ كاشِفَةٌ: إما أن الهاء فيه للمبالغة، كعلامة ونسّابة، أو تكون كاشفة بمعنى كشف، كخائنة بمعنى خيانة. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ قرئ بإدغام الثاء في التاء لقربهما في المخرج، وأنهما مهموسان من حروف طرف اللسان، وأدغمت الثاء في التاء، لأنها أزيد صوتا، والأنقص صوتا يدغم فيما هو أزيد صوتا. البلاغة: تَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ بينهما طباق. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ جناس الاشتقاق. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ مراعاة الفواصل أو ما يسمى بالسجع. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا عطف العام على الخاص. المفردات اللغوية: آلاءِ نعم، جمع إلى (بالفتح والكسر) وإلي. تَتَمارى تتشكك وتمتري ومعنى الآية: بأي أنعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإنسان؟ والخطاب للإنسان، فالخطاب عام، وهو ابتداء كلام، كأنه يقول: بأي النعم أيها السامع تشكّ أو تجادل؟

المناسبة:

هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين، أي إنه رسول كالرسل قبله، أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت القيامة أو دنت الساعة، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر 54/ 1] . لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لها نفس من غير الله قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو، كقوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] إذ لا يطلع عليها سواه، فقوله: كاشِفَةٌ أي نفس تكشف وقت وقوعها وتبيّنه، لأنها من المغيبات. والتاء للتأنيث، لتأنيث الموصوف المحذوف، أي نفس قادرة على كشفها إذا وقعت، لكنه سبحانه لا يكشفها. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ القرآن. تَعْجَبُونَ إنكارا وتكذيبا. وَتَضْحَكُونَ استهزاء. وَلا تَبْكُونَ حزنا على ما فرطتم، وعند سماع وعد الله ووعيده. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون وغافلون ومعرضون عما يطلب منكم. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خلقكم، أي إذا اعترفتم لله بالعبودية، فاخضعوا له. وَاعْبُدُوا اعبدوه دون الآلهة المزعومة كالأصنام، وأقيموا وظائف العبادة. المناسبة: لمّا عدّ الله تعالى نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه، ثم ذكر أمثلة على قدرته بإهلاك من كفر بتلك النعم، وأن الإحياء والإماتة بيد الله، وبّخ الإنسان على جحد شيء من نعم الله، فيصيبه مثل ما أصاب الشاكّين المتمارين المجادلين بالباطل. ثم ذكّره بإنذار القرآن والرسول. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة، ختم السورة ببيان اقتراب الحشر: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ وحذّر من إنكار القرآن وتكذيبه، ومن التفريط بما جاء فيه، والغفلة والإعراض عن مواعظه وحكمه، ودعا إلى الانقياد التام لله عز وجل، وعبادته وحده لا شريك له بإتقان وإخلاص. التفسير والبيان: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب

تتشكك وتمتري؟ مثل قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن 55/ 13] . وهذا ابتداء كلام والخطاب عام لكل إنسان. والمراد بالنعم ما عدده سابقا من الخلق والإغناء وخلق السماء والأرض وما فيهما من نعم مخلوقة للإنسان. هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن أو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نذير محذوف محذّر من جملة النذر المتقدمة، فالقرآن منذر كالكتب السماوية السابقة، والنبي صلى الله عليه وسلم رسول إليكم كالرسل المتقدمين قبله، فإنه أنذركم كما أنذروا أقوامهم، كما قال تعالى: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف 46/ 9] وقال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ 34/ 46] وفي الحديث الثابت: «أنا النذير العريان» «1» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا، وبادر إلى إنذار قومه، وجاءهم عريانا مسرعا. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت ودنت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر 54/ 1] وقوله: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة 56/ 1] وقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء 21/ 1] وقوله: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى 42/ 17] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم، وأنها تكاد تقوم، فالآية إشارة إلى القيامة لإثبات الأصول الثلاثة على الترتيب: الأصل الأول وهو الله ووحدانيته بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى، ثم الرسول والرسالة بقوله تعالى: هذا نَذِيرٌ ثم الحشر والقيامة بقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. وجاء في الحديث الذي رواه أحمد عن سهل بن سعد: «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام. وروى أحمد أيضا والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت

_ (1) شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بهذا الرجل، قال ابن السّكيت: هو رجل من خثعم حمل عليه يوم ذي الخلصة عوف بن عامر، فقطع يده ويد امرأته (النهاية لابن الأثير: 3/ 225) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس هناك على الإطلاق نفس قادرة على كشفها وإظهارها والاعلام بها إلا الله تعالى، لأنها من أخفى المغيبات، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة وأنتم لا تشعرون، فهو كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان 31/ 34] وقوله سبحانه: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف 7/ 187] . أو: ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها غير الله، والأولى أن يقال: ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها، كما ذكر القرطبي. ثم أنكر الله على المشركين وأمثالهم ووبخهم لإنكار القرآن وتكذيبه، فقال: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي كيف تعجبون من أن يكون القرآن صحيحا، تكذيبا منكم، وتضحكون منه استهزاء، وتسخرون من آياته، مع كونه غير محل لذاك، ولا تبكون كما يفعل الموقنون، وأنتم لاهون عنه، غافلون معرضون، أو مستكبرون عنه؟! فهذا استفهام توبيخ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي اسجدوا أيها المؤمنون شكرا على الهداية واخضعوا له، واشتغلوا بالعبادة، وأخلصوا ووحدوا، فإنه تعالى المستحق لذلك منكم. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه المسلمون والكفار، أخرج البخاري عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة

فقه الحياة أو الأحكام:

النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي، فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- يستنكر الحق سبحانه على الإنسان المكذّب في أي زمان كان تشككه ومماراته وجداله في آلاء الله ونعمه العديدة، بعد أن أبان القرآن الكريم بعضا منها كالخلق والرزق والإغناء والصحة وتسخير الكون كله لمصالح الإنسان، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 2/ 29] . 2- إن القرآن العظيم نذير بما أنذرت به الكتب الأولى، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطاعه الناس أفلحوا ونجوا. وهذا مطابق أيضا لما في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما. 3- لقد قربت الساعة ودنت القيامة: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ يعني القيامة، سماها آزفة لدنّوها من الناس، وقربها منهم، ليستعدوا لها، لأن كل ما هو آت قريب. وليس للآزفة أو القيامة من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها. 4- وبّخ الله المشركين تعجبهم تكذيبا بالقرآن، وضحكهم استهزاء بآياته، وعدم بكائهم انزجارا وخوفا من الوعيد، ولهوهم وإعراضهم عن كتاب الله تعالى. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسّما، وقال أبو هريرة فيما ذكره القرطبي: لما نزلت: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ قال

أهل الصّفّة: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم، بكى معهم، فبكينا لبكائه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية الله، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم، إنه هو الغفور الرحيم» . وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. 5- أمر الله بالسجود له والخضوع لجلاله وعظمته شكرا على الهداية، وبالاشتغال بالعبادة. قال ابن مسعود، وبه أخذ أبو حنيفة والشافعي: المراد بقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا سجود تلاوة القرآن. وقد تقدم أول السورة وفي تفسيرها من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقال ابن عمر: المراد سجود الفرض في الصلاة، أي إنه كان لا يراها من عزائم السجود، وبه قال مالك، قال القرطبي: والأول أصح.

سورة القمر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القمر مكيّة، وهي خمس وخمسون آية. تسميتها: سميت سورة القمر، لافتتاحها بالخبر عن انشقاق القمر، معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم. مناسبتها لما قبلها: تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث هي: 1- اتفاق خاتمة السورة السابقة وفاتحة هذه السورة حول إعلان قرب القيامة، فقال تعالى في سورة (النجم) : أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) وقال في هذه السورة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب، وهو قوله: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. جاء في الصحيحين عن أنس: «أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر مرتين» . 2- تناسب التسمية وحسن التناسق، لما بين النجم والقمر من تقارب، كما في توالي سورة الشمس، والليل، والضحى، ومن قبلها سورة الفجر. 3- فصلت هذه السورة أحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم بسبب تكذيب رسلهم في السورة المتقدمة في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى، وَثَمُودَ فَما

ما اشتملت عليه السورة:

أَبْقى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (50- 53) . وهذا يشابه الأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان، والصافات بعد يس. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر السور المكية لتقرير أصول العقيدة الإسلامية، بدءا من إنزال القرآن بالوحي وتهديد المكذبين بآياته، وانتهاء بالجزاء الحتمي يوم القيامة ومشاهد عذاب الكفار، وأنواع ثواب المتقين وتكريمهم. أخبرت السورة أولا بقرب وقت القيامة ودليل ذلك وهو انشقاق القمر الذي هو أحد المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وموقف المشركين من تلك المعجزة ووصفها بأنها سحر مفترى، وغفلتهم عما في القرآن من الزواجر. وتلا ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، وإنذارهم بحشرهم أذلة مسرعين كالجراد المنتشر، بعبارات تهز المشاعر، وتثير المخاوف، وتملأ النفس رعبا وفزعا من أهوال القيامة. ثم أنذرت كفار مكة بعذاب مشابه لعذاب الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون جزاء على تكذيبهم الرسل، وأفردت كل قصة عن الأخرى، وعقبتها بعبارة مخيفة تدعو للعجب وهي: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! وقرنها بقوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. ثم وبخت مشركي قريش على غفلتهم عن هذه النذر، وحذرتهم مصرعا مماثلا لمصارع أولئك الأقوام، وهو القتل والهزيمة في الدنيا، وعذاب الآخرة الأدهى والأمرّ، الذي يصاحبه الذل والمهانة بالسحب على وجوههم في النار، فهم في ضلال وسعر.

فضل السورة:

وختمت السورة ببيان ظاهرة التوازن في خلق الأشياء، وسرعة نفاذ أمر الله ومشيئته كلمح البصر، وضرورة العظمة والتذكر بهلاك الطغاة، ورصد جميع أعمال البشر في سجلات محفوظة، وتبشير المتقين بالجنات والكرامات عند ربهم المليك المقتدر. والخلاصة: أن السورة حافلة بالوعد والوعيد، والعظات والعبر بأخبار الماضين، وتهديد الكفار بعقاب مماثل، وإكرام المتقين في جنات ونعيم. فضل السورة: تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة. انشقاق القمر وموقف المشركين منه [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

الإعراب:

الإعراب: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أصله «مزتجر» بوزن مفتعل من الزجر، وإنما أبدلت التاء دالا، لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة، فأبدلوا من التاء دالا، لتوافق الزاي في الجهر. وهو اسم مصدر أو اسم مكان. وما اسم موصول أو نكرة موصوفة. والجار والمجرور: مِنَ الْأَنْباءِ متعلق بمحذوف حال مقدم من ما. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ: حِكْمَةٌ: إما بدل مرفوع من ما في قوله تعالى: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ وما: مرفوعة فاعل: «جاء» ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي حكمة بالغة. وفَما في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ: إما استفهامية استفهام إنكاري، في موضع نصب ب تُغْنِ أي، أيّ شيء تغني النذر، أو نافية على تقدير حذف مفعول تُغْنِ وتقديره: فما تغني النذر سيئا. وحذفت ياء «تغني» وواو «يدعو» اتباعا لخط المصحف، لأنه كتب على لفظ الوصل، لا على لفظ الوقف. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ناصب يوم: يخرجون الآتي بعده. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ خُشَّعاً: حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وكذلك قوله تعالى: مُهْطِعِينَ حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ. البلاغة: يَدْعُ الدَّاعِ بينهما جناس الاشتقاق. المفردات اللغوية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت القيامة ودنت. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ روى الشيخان أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر، أي انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان. وَإِنْ يَرَوْا أي كفار قريش. آيَةً معجزة له صلى الله عليه وسلم دالة على نبوته. وَيَقُولُوا: سِحْرٌ أي هذا سحر. مُسْتَمِرٌّ محكم قوي، من المرّة وهي القوة، أو دائم مطرد. وَكَذَّبُوا النّبي صلى الله عليه وسلم. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيّن لهم الشيطان من الوساوس ورد الحق بعد ظهوره. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكل أمر من الخير والشر منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، وبعبارة أخرى: كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وقرئ بفتح القاف. مُسْتَقِرٌّ أي ذو استقرار، أو له زمان استقرار أو موضع استقرار، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان. الْأَنْباءِ أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من عذاب أو إهلاك لتكذيبهم الرسل. مُزْدَجَرٌ ما يزجرهم ويكفيهم، يقال: زجرته وازدجرته: نهيته بغلظة، أو كففته فانكف.

سبب النزول نزول الآية (1 - 2) :

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ تامة، واصلة غاية الإحكام والإبداع، لا خلل فيها. تُغْنِ تفيد وتنفع. النُّذُرُ المنذرون، جمع نذير بمعنى منذر، أو الأمور المنذرة لهم، جمع المنذر منه، أو مصدر بمعنى الإنذار. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم ولا تجادلهم، لعلمك أن الإنذار لا ينفع ولا يغني فيهم. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ يوم ينادي إسرافيل. إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ إلى شيء شديد الهول تنكره النفوس إذ لا عهد لها مثله. خُشَّعاً أذلة، جمع خاشع، أي ذليل، ويقرأ خشعا بضم الخاء وفتح الشين، أي مشددة. الْأَجْداثِ القبور جمع جدث. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة، والجراد: حيوان طائر معروف يأكل النبات، والمنتشر: الكثير. مُهْطِعِينَ مسرعين، مادّين أعناقهم، منقادين. هذا يَوْمٌ عَسِرٌ يوم صعب شديد على الكافرين، كما في قوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر 74/ 9- 10] . سبب النزول: نزول الآية (1- 2) : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ... : أخرج الشيخان والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وأخرج الترمذي عن أنس قال: سأل أهل مكة النّبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة، مرتين، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، سحركم، فاسألوا السّفّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن اقتراب القيامة وانتهاء الدنيا، فيقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت القيامة ودنت، واقترب موعد انقضاء الدنيا، أي قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 16/ 1] وقال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] . وروى أبو بكر البزّار عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه، وقد كادت الشمس أن تغرب، فلم يبق منها إلا سفّ يسير، فقال: «والذي نفسي بيده، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا» . ويعضده ما أخرجه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى. وقيل: المراد تحقق وقوع الساعة. ثم أخبر الله تعالى عن انشقاق القمر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي وقد انشق القمر معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها. قال ابن كثير: قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات «1» . وقرب القيامة بالرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا باعتبار أن كل ما هو آت قريب. أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس أن أهل مكة سألوا

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 261

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء (جبل مشهور بمكة) بينهما. وأخرجا أيضا عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» . وقيل: المراد الإخبار عن أنه سينشق القمر. ثم أخبر الله تعالى عن موقف الكفار وعنادهم أمام هذه المعجزة، فقال: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي وإن ير المشركون علامة على النبوة ودليلا على صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولوا مكذبين بها قائلين: هذا سحر قوي شديد يعلو كل سحر، مأخوذ من قولهم: استمرّ الشيء: إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمر، أي دائم مطرد. وهذا ردّ على المشركين الذين طالبوا بآية، قال المفسرون: لما انشق القمر، قال المشركون: سحرنا محمد، فقال الله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يعني انشقاق القمر. ثم أكد تعالى موقفهم هذا بقوله: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أملته عليه أهواؤهم وآراؤهم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاهن، بسبب جهلهم وسخافة عقولهم. ثم هددهم تعالى وأخبرهم بأن كل أمر منته إلى غاية مماثلة له، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشرّ، فقوله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ استئناف للرد على الكفار في تكذيبهم، ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك، لأن كل أمر له غاية حتما، وسينتهي أمر النّبي صلى الله عليه وسلم إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وهم على باطل. وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبشير له بأن النصر سيكون حليفه في الدنيا، وأن له ولأتباعه الدرجة العالية والجنة في الآخرة.

ثم وبخهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم، فقال: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي ولقد جاء كفار مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها، وما حل بهم من العقاب والنكال في هذا القرآن ما فيه كفاية لكفهم عن السوء، وزجر وردع ووعظ عما هم فيه من الشرك والوثنية والعصيان والتمادي في التكذيب. ووصف الله تعالى تلك الأنباء بقوله: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ، فَما تُغْنِ النُّذُرُ أي إن هذه الأنباء في القرآن وما تضمنته من عبرة وعظة وهداية حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، ولا تفيد النذر أو الإنذارات شيئا للمعاندين، فإن عنادهم يصرفهم عن الحق، فتكون «ما» نافية، ويصح أن تكون استفهاما إنكاريا، بمعنى أي غناء أو شيء تغني النذر أي الإنذارات لهؤلاء الكفار الطغاة؟ فإنك أيها النّبي أتيت بما عليك من الإخبار بالنبوة مقرونة بالآية الباهرة، وأنذرتهم بأحوال الأقدمين، فلم يفدهم شيئا. ونظير الآية قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس 10/ 101] . ثم أمر الله نبيه بالإعراض عن مجادلتهم بعدئذ، فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي أعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وانتظرهم واذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يدعو فيه إسرافيل إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب وما فيه من البلاء والأهوال.

فقه الحياة أو الأحكام:

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي يوم يكون أولئك الكفار في ذلك اليوم ذليلة أبصارهم من الذل والهوان، يخرجون من القبور على هذه الحال من الذل، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وانتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر منبثّ في الآفاق، مختلط بعضه ببعض. وهذا كقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة 101/ 4] . مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، يَقُولُ الْكافِرُونَ: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، يقول الكفار: هذا يوم صعب شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين. ونظير الآية: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر 74/ 9- 10] . وهذا يدل بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- اقتراب موعد يوم القيامة، فكل آت قريب، وإن مرور عشرات القرون بعد نزول هذه الآية وأمثالها لا يعد شيئا في حساب عمر الدنيا الذي قدّر بخمسة مليارات سنة. 2- حدوث انشقاق القمر بمكة في عهد النّبي صلى الله عليه وسلم معجزة له، قال القرطبي: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت

باستدعاء النّبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي «1» . وقال الرازي: وأما المؤرخون فتركوه، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر، فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدل دليل، وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه «2» . والقائلون بأن الأخبار الواردة بشأن انشقاق القمر أخبار آحاد غير متواترة يرون أن منكر ذلك لا يكفر، لعدم التواتر في السنة، وكون الآية ليست نصا في ذلك. 3- دلّ قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا على أن المشركين رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: «يا فلان، يا فلان اشهدوا» . ويؤيده حديث ابن مسعود المتقدم في سبب النزول. 4- لم يجد المشركون طريقا لتكذيب آية الانشقاق إلا بأن يصفوه بأنه سحر محكم قوي شديد، من المرّة وهي القوة، أو دائم نافذ مطرد، أو ذاهب، من قولهم: مرّ الشيء واستمر: إذا ذهب.

_ (1) تفسير القرطبي: 17/ 126 (2) تفسير الرازي: 29/ 28

5- لقد كذبوا نبيهم واتبعوا ضلالاتهم واختياراتهم وآراءهم الباطلة في أن انشقاق القمر خسوف عرضي للقمر. 6- هددهم الله تعالى بأن كل أمر مستقر، أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة، والشرّ مستقرّ بأهله في النار، وكل أمر صائر إلى غاية، وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى حدّ يعرف منه حقيقته، وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان. 7- لقد أعذر من أنذر، وجاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه، وأخبرهم الرسول باقتراب القيامة، وأقام الدليل على صدقه، ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة. 8- الأنباء التي في القرآن الكريم أو القرآن نفسه حكمة بالغة النهاية في الكمال والبيان. 9- إذا كذّب الكفار وخالفوا وعاندوا وأصروا على كفرهم، فليست تغني عنهم النذر، فتكون «ما» نافية في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ. ويجوز أن تكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم، وهم معرضون عنها؟! والنذر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير. 10- إذا كان هذا شأن الكفار، فأعرض يا محمد عن مجادلتهم ومحاجتهم، ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، واذكر يوم يدع الداعي: إسرافيل إلى شيء فظيع عظيم شديد تنكره نفوسهم لشدة أهواله، وهو موقف الحساب ويوم القيامة. 11- في يوم القيامة يخرج الكفار من قبورهم ذليلة أبصارهم، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وتموجهم جراد منتشر مبثوث في كل مكان. وقال تعالى في آية أخرى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة 101/ 4] . قال القرطبي: فهما صفتان في وقتين مختلفين:

إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل:

أحدهما- عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض، لا جهة يقصدها. الثاني- فاذا سمعوا المنادي قصدوه، فصاروا كالجراد المنتشر، لأن الجراد له جهة يقصدها. وهم في سيرهم مهطعون، أي مسرعون، ويقولون: إن يوم القيامة يوم صعب عسر، لما ينالهم فيه من الشدة. إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل - 1- قصة قوم نوح عليه السلام [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) الإعراب: فَالْتَقَى الْماءُ أراد بالماء الجنس، ولو لم يرد ذلك لقال: الماءان: ماء السماء، وماء الأرض. والأصل في الماء: موه، لقولهم في تكسيره: أمواه، وفي تصغيره: مويه، لأن التصغير

البلاغة:

والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأبدلت من الهاء همزة، فصار: «ماء» . جَزاءً منصوب بفعل مقدر، أي أغرقوا انتصارا، أو عقابا. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أصل مُدَّكِرٍ مذتكر بوزن مفتعل، من الذكر، إلا أن الذال مجهورة والتاء مهموسة، فأبدلوا من التاء حرفا من مخرجها يوافق الذال في الجهر، وهي الدال، وأدغمت الذال في الدال لتقاربها، فصار مدكر. ويجوز أن تدغم الدال في الذال، فيقال: مذّكر، وقد قرئ به. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ فَكَيْفَ: إما خبر كانَ إن كانت ناقصة، وعَذابِي: وهو مصدر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير، كرغيف ورغف. البلاغة: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ استعارة تمثيلية، شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ كناية عن السفينة التي تتركب من الأخشاب والمسامير. المفردات اللغوية: كَذَّبَتْ بالرسل. قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش. قَوْمُ نُوحٍ تأنيث الفعل المعنى قَوْمُ. فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا، وهو تفصيل بعد إجمال. وَازْدُجِرَ أي زجر عن التبليغ بأنواع الأذى من السبّ وغيره. فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني. مَغْلُوبٌ غلبني قومي. فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم، وذلك بعد يأسه منهم، فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه، حتى يخرّ مغشيا عليه، فيفيق، ويقول: اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون. مُنْهَمِرٍ منصب، كثير. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون، وأصله: فجرنا عيون الأرض، أي جعلناها تنبع، فغيّر للمبالغة. فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء وماء الأرض. عَلى أَمْرٍ على حال قَدْ قُدِرَ قضي به في الأزل، وهو هلاكهم غرقا. وَحَمَلْناهُ حملنا نوحا. عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ حملناه على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير، والدسر: جمع دسار مثل كتب وكتاب، والمراد أن السفينة ذات دفع شديد. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا، والمراد بحراستنا وحفظنا. جَزاءً أي أغرقوا عقابا. لِمَنْ كانَ كُفِرَ جحد به، وهو نوح عليه السلام، أي أغرقوا عقابا لهم، وقرئ: كُفِرَ أي جزاء للكافرين.

المناسبة:

وَلَقَدْ تَرَكْناها أبقينا السفينة أو الفعلة. آيَةً علامة ودليلا لمن يعتبر بها. مُدَّكِرٍ أي متذكر معتبر ومتعظ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله، وهو استفهام تعظيم ووعيد، وتقرير، والمعنى: حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذاب الله تعالى بالمكذبين لنوح موقعه. يَسَّرْنَا سهلنا. لِلذِّكْرِ للعظة والاعتبار. مُدَّكِرٍ متعظ بمواعظه. المناسبة: بعد أن أجمل الله تعالى الزجر بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، أعاد بعض الأنباء وفصلها، وهي قصص أربع: قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط لهدفين: بيان أن حال الرسول صلى الله عليه وسلم كحال الرسل المتقدمين مع أقوامهم، ووعيد المشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي كذبت قبل قومك يا محمد بالرسل قوم نوح، فإنهم كذبوا عبدنا نوحا عليه السلام، واتهموه بالجنون، وانتهروه وزجروه وتواعدوه عن تبليغ الدعوة بمختلف أنواع الإيذاء والسبّ والتخويف، قائلين: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء 26/ 116] . وفائدة قوله: فَكَذَّبُوا «1» عَبْدَنا بعد قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ هي التخصيص بعد التعميم، أي كذبت الرسل أجمعين، فلذلك كذبوا نوحا. وقوله: عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ، ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه، فكذبوه.

_ (1) الفاء: فاء تفصيل وتفريع.

فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي فدعا نوح الله ربّه قائلا: إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء، فانتصر أنت لدينك، وانتقم لي منهم بعقاب من عندك. وقد طلب النصرة عليهم، بعد أن علم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على الضلال. فأجاب الله دعاءه قائلا: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ «1» مُنْهَمِرٍ أي صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وهذا التعبير مجاز عن كثرة انصباب الماء من السماء، كما يقال في المطر الوابل: جرت ميازيب السماء، وفتحت أبواب القرب. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة وينابيع متدفقة، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم، أي على أمر مقدر عليهم من الأزل، لما علم الله من حالهم. وهذا دليل على عقابهم والانتقام منهم، ثم ذكر تعالى كيفية إنجاء نوح، فقال: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أي وحملنا نوحا على سفينة ذاتِ أَلْواحٍ: وهي الأخشاب العريضة، وَدُسُرٍ: وهي المسامير التي تشد بها الألواح. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت 29/ 15] . تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي تسير بمنظر ومرأى منا وحفظ وحراسة لها، جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارا لنوح عليه السلام، لأنه نعمة من الله، وتكذيبه كفران أو جحود لتلك النعمة.

_ (1) الباء للآلة نحو فتحت الباب بالمفتاح، يفتح الله لك بخير.

وهذا دليل على أن اتخاذ الأسباب لتحقيق النتائج أمر ضروري، وهو أيضا محتاج إلى رعاية الله وعنايته وحفظه. ثم ذكر الله تعالى أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم، فقال: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي لقد أبقينا السفينة عبرة للمعتبرين، أو لقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة، فهل من متعظ ومعتبر، يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها. قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، وعقب عليه الحافظ ابن كثير قائلا: والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفينة، كقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ [يس 36/ 41- 42] ، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة 69/ 11- 12] «1» ولهذا قال ها هنا: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟! فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذّب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري المرسلون، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر، أو كيف كانت إنذاراتي؟ والاستفهام للتوبيخ والتخويف، وإنما أفرد العذاب فلم يقل: أنواع عذابي، وجمع النذر، إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، لأن الإنذار إشفاق ورحمة. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي لقد سهلناه

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 264

فقه الحياة أو الأحكام:

للحفظ، وسهلنا لفظه للنطق، ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس، فهل من متعظ بمواعظه، ومعتبر بعبره؟! والأولى أن يقال: سهلناه للتذكر والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية. وفي الآية الحث على درس القرآن، والاستكثار من تلاوته، والمسارعة في تعلّمه، كما قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص 38/ 29] ، وقال سبحانه: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم 19/ 97] . قال ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزّ وجلّ. والحكمة في تكرير قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ... هي تجديد التنبيه على الادّكار والاتعاظ والتعرف على تعذيب الأمم السالفة، للاعتبار بحالهم. وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عدّ كل نعمة، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية، لتكون مصوّرة للأذهان، محفوظة في كل أوان. وهذه القصص نفسها كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب، لأن التكرير يوجب التقرير في النفوس، والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لم يعرف من غيره «1» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كان نوح عليه السلام في وقته ومبدأ دعوته العابد الوحيد لله عزّ وجلّ، وكان قومه أول المكذبين للرسل، لذا شرفه الله تعالى بقوله: عَبْدَنا فالإضافة إلى الله تشريف منه، واختيار لفظ العبد أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله: رسولنا.

_ (1) غرائب القرآن للنيسابوري: 27/ 52

2- وصفوه بأنه مجنون إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه، حيث رأوا ما عجزوا عنه. وأخبر تعالى عنه: وَازْدُجِرَ دليل على الحجر عليه ومنعه من تبليغ دعوته بالسبّ والوعيد بالقتل. ويصح أن يكون ذلك حكاية قولهم، وتقديره: قالوا: مجنون مزدجر، ومعناه ازدجره الجن، قال الرازي: والأول أصح. 3- لما زجروه وانزجر عن دعوتهم دعا ربّه: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي غلبوني بتمردهم فانتصر لي. 4- أجاب الله دعاءه، وأمره باتخاذ السفينة، ثم أغرقهم بالطوفان بماء كثير منصب متدفق من السحب، وماء نابع من الأرض فالتقى الماءان: ماء السماء وماء الأرض على حال قدرها الله وقضى بها من الأزل، لعلمه بتكذيبهم. 5- ونجى الله نوحا عليه السلام ومن آمن معه بحملهم على سفينة ذات ألواح شدت بمسامير، وفي حفظ الله ورعايته وكلاءته، وقد جعل الله ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه الذين جحدوا برسالته، وعقابا للكافرين على كفرهم بالله تعالى. 6- لقد ترك الله هذه الغفلة أو السفينة عبرة، فهل من متعظ خائف؟! قال قتادة: أبقاها- أي السفينة- الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها، فصارت رمادا. 7- عقب الله تعالى على القصة بأمرين: أولهما- فكيف كان العذاب والإنذار؟ تنبيها عاما للخلق. وثانيهما- لقد سهل الله القرآن الكريم للاتعاظ والادّكار، أو للحفظ وأعان عليه من أراد حفظه. قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.

- 2 - قصة عاد قوم هود عليه السلام [سورة القمر (54) الآيات 18 إلى 22] :

وهذا يدل على أن الله تعالى يسّر على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكّروا ما فيه، فهل من قارئ يقرؤه، ومتذكر متعظ يتذكّر به ويتعظ؟ وكرر ذلك في هذه السورة للتنبيه والإفهام، كما تقدم. - 2- قصة عاد قوم هود عليه السلام [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) الإعراب: رِيحاً صَرْصَراً صرصر: أصله صرّر، إلا أنه اجتمعت ثلاث راءات، فأبدلوا من الراء الثانية صادا، كما قالوا: رقرقت، وأصله رققت، فاجتمع فيه ثلاث قافات، فأبدلوا من القاف الوسطى راء، هربا من الاستثقال. أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ إنما ذكر مُنْقَعِرٍ لأن النخل يذكر ويؤنث، ولهذا قال في موضع آخر: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة 69/ 7] . والقاعدة: كل ما كان الفرق بين واحده وجمعه من أسماء الأجناس الهاء، نحو النخل والشجر والسدر، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث. البلاغة: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه. المفردات اللغوية: كَذَّبَتْ عادٌ نبيّهم هودا عليه السلام، فعذبوه. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذاري لمن بعدهم في تعذيبهم. صَرْصَراً شديدة الصوت والبرد. نَحْسٍ شؤم. مُسْتَمِرٍّ دائم شؤمه حتى أهلكهم. تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم من أماكنهم،

المناسبة:

وتصرعهم على رؤوسهم، فتدق رقابهم. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أصول نخل مقتلع من مغارسه، أو مؤخر الشيء، وشبّهوا بالنخل لطولهم، والمنقعر: المنقطع من أصله. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرره للتهويل، أو أنه ذكر مرتين في قصة عاد، لأن الاستفهام الأول للبيان، كما يقول المعلم لمن لا يعرف: كيف المسألة الفلانية؟ ليتنبه الطالب المسؤول للجواب الذي سيذكره المعلم، والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. أما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار، وفي قصة نوح اقتصر على الثاني للاختصار أيضا، ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم، وقولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت 41/ 15] . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي متعظ، والمعنى كما تقدم: سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية، وقيل: للحفظ. والأول أنسب بالمقام، وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى تكذيب قوم نوح الذي بدأ به، لأن تكذيبهم كان أبلغ وأشد، حيث دعاهم قريبا من ألف سنة، وأصروا على التكذيب، أعقبه بقصة عاد قوم هود، تأكيدا للعظة والعبرة، وتبيانا للمشركين المكذبين في مكة وأمثالهم أن عاقبة المكذبين الهلاك والدمار، دون تفاوت بين الأقوام. وإنما قال عادٌ ولم يقل (قوم هود) كما قال (قوم نوح) لأن التعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ عادٌ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي كما صنع قوم نوح في تكذيبهم رسولهم، كذبت قبيلة عاد قوم هود عليه السلام رسولهم، فانظروا واسمعوا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم. وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لفت للأنظار، وتنبيه للأسماع لما سيذكر.

إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ أي إنا سلّطنا عليهم «1» ريحا شديدة البرد والصوت في يوم شؤم عليهم، دائم الشؤم حتى أهلكهم ودمرهم، لأنه اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، أما ذات اليوم بمجرده فلا يصح وصفه بالنحس أو الشؤم، وإنما الأيام والليالي كلها سواء، لذا كان التشاؤم بالعدد (13) غير صحيح شرعا ودينا. ونظير الآية: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت 41/ 16] وقوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 7] أي متتابعة. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي إن تلك الريح الصرصر كانت تقتلعهم من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها، قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم، فتدقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم. والمعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها فلا فروع، مُنْقَعِرٍ: منقلع عن مغارسه. وقد شبهوا في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح. وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس. والآية تومئ إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم، فتصبح الأجسام من غير رؤوس ولا هامات، وتشير أيضا إلى عظمة أجسادهم وطول قاماتهم، وإلى محاولتهم الثبات في الأرض والتشبث بها لمقاومة الريح، كما تشير أيضا إلى يبسهم وجفافهم بالريح التي كانت تقتلهم ببردها المفرط، فتجعلهم كأنهم أخشاب يابسة.

_ (1) هذه الجملة استئنافية، لبيان ما أجمل أولا في قوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أعاد الله تعالى ما يفيد تهويل العذاب، فقال: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فانظروا كيفية بطشي وعقابي وإنذاري. ثم كرر التصريح بسهولة التعرف على ذلك بالقرآن، فقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي لقد سهلنا القرآن للادكار والاتعاظ، بما أوردنا فيه من المواعظ الشافية، وبينا ما فيه من الوعد والوعيد، فهل من متعظ معتبر؟! وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه «1» ؟ فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كذبت قبيلة عاد قوم هود برسولهم هود عليه السلام، فاستحقوا العقاب، لذا بادر الله تعالى إلى التخويف والتهويل بقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وقد وقعت كلمة نُذُرِ في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين: حال الوقف والوصل، وقرأها ورش بالياء في الوصل لا غير. 2- كان عقابهم بإرسال ريح شديدة البرد، شديدة الصوت، في يوم كان مشؤوما عليهم، قال ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر، أفنى صغيرهم وكبيرهم. والمراد أنه يوم نحس على الفجار والمفسدين، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحسات على الكفار من قوم عاد، لا على نبيهم والمؤمنين به منهم. 3- وصف الله الريح بأنها تقلعهم من مواضعهم، قيل: قلعتهم من تحت

_ (1) الكشاف: 3/ 184 [.....]

- 3 - قصة ثمود قوم صالح عليه السلام [سورة القمر (54) الآيات 23 إلى 32] :

أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها، وقال مجاهد كما تقدم: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم، فتندقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وكانت الريح تنزع الناس، فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر. والأعجاز: جمع عجز: وهو مؤخر الشيء، وكانت أشخاص عاد موصوفين بطول القامة، فشبّهوا بالنخل انكبت لوجوهها. 4- كانت العاقبة على قوم عاد سوءا وشرا مستطيرا، يستدعي التفكير بكيفية عذاب الله وإنذاراته. وطريق فهم ذلك ميسر، فإن القرآن بما اشتمل عليه من العظات والعبر سهل يسير الاعتبار والاتعاظ، فهل من متعظ معتبر؟! - 3- قصة ثمود قوم صالح عليه السلام [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

الإعراب:

الإعراب: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ بَشَراً منصوب بتقدير فعل دل عليه نَتَّبِعُهُ تقديره: أنتبع بشرا منا واحدا؟ إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِتْنَةً: إما مفعول لأجله، أو مصدر، منصوب على المصدرية. وقوله: وَاصْطَبِرْ أصله: اصتبر، على وزن: افتعل من الصبر، إلا أنهم أبدلوا من التاء طاء لتوافق الصاد في الإطباق. فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كَهَشِيمِ: في موضع نصب، لأنه خبر كان، والْمُحْتَظِرِ: بكسر الظاء وهو المشهور، أي المتخذ الحظيرة، وقرئ بفتحها الْمُحْتَظِرِ أي مكان الحظيرة. البلاغة: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ صيغة مبالغة على وزن فعال وفعل، أي كثير الكذب، عظيم البطر. فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ تشبيه مرسل مجمل. المفردات اللغوية: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالرسل جمع نذير بمعنى منذر أو بالإنذارات والمواعظ، فإنهم كذبوا بالأمور التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام، وتكذيبه تكذيب لجميع الرسل، لاتفاقهم على أصول الدين. أَبَشَراً مِنَّا أي من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا. واحِداً منفردا لا تبع له، والاستفهام بمعنى النفي، المعنى: كيف نتبعه ونحن جماعة كثيرة، وهو واحد منا، وليس بحاكم ولا ملك؟ أي لا نتبعه. إِنَّا إِذاً أي إنا إن اتبعناه. لَفِي ضَلالٍ خطأ وبعد عن الصواب. وَسُعُرٍ جنون، ومنه: ناقة مسعورة أي مجنونة. الذِّكْرُ الوحي. عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي وفينا من هو أحق منه بذلك. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ في أنه أوحي إليه. أَشِرٌ متكبر بطر، حمله بطره على الترفع علينا بادّعائه. سَيَعْلَمُونَ غَداً أي عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ هو أو هم، أي الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق، وطلب الباطل. إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها وباعثوها. فِتْنَةً لَهُمْ اختبارا أو امتحانا لهم. فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم يا صالح وتبصر ما يصنعون. وَاصْطَبِرْ اصبر على أذاهم. قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم بينهم وبين الناقة، يوم لهم ويوم لها. كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء. مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته.

المناسبة:

صاحِبَهُمْ قدار بن سالف أحيمر ثمود. فَتَعاطى اجترأ على تعاطي قتلها غير مبال بما يفعل، والتعاطي: تناول الشيء بتكلف. فَعَقَرَ ضرب قوائم الناقة بالسيف، فقتلها موافقة لهم. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ أي كيف كان عقابي وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، المعنى: أن العذاب وقع موقعه. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام، والجملة بيان للعذاب المشار إليه في الجملة السابقة. كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي مثل المتهشم اليابس، المتكسر من الشجر، الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء، أي كهشيم الحظيرة. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ سهلنا القرآن للاتعاظ به. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ. المناسبة: هذه قصة ثالثة أو أنموذج من تكذيب الأمم الخالية رسلها، فإن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم، فكذبوا نوحا وهودا وصالحا عليهم السلام فيما يدعيه من الوحي عن ربه، وكل من كذب رسولا كذب جميع الرسل لاتحادهم في أصول الاعتقاد والدين. وكانت معجزة صالح عليه السلام ناقة فريدة تشرب ماء نهير كله يوما، وتدر لبنا يكفي جميع القبيلة، بل يفيض عنهم، فقتلوها، فعاقبهم الله بعذاب الصيحة: صيحة جبريل عليه السلام، فبادوا عن آخرهم. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كذبت قبيلة ثمود قوم صالح برسل الله الكرام، بتكذيبهم لرسولهم، وهو صالح، ومن كذب واحدا من الأنبياء، فقد كذب سائرهم، لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع وأصولها العامة، كتوحيد الله تعالى، وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويلاحظ أنه في قصة نوح وقصة عاد قال: كَذَّبَتْ ولم يقل بالنذر، وفي هذه القصة وقصة قوم لوط قال: بِالنُّذُرِ والأمر سواء، لأن عادتهم التكذيب. ثم أبان الله تعالى مظاهر تكذيبهم، فقال:

1- فَقالُوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي إنهم قالوا فيما بينهم: كيف نتّبع بشرا من جنسنا، منفردا وحده، لا تبع له، ولا متابع له على ما يدعو إليه، لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا، وإنا إذا اتبعناه نكون في خطأ واضح وبعد عن الحق والصواب، واتصفنا بالجنون أو أصابنا العذاب والعناء والشدة. 2- أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوة، وفينا من هو أحق بذلك منه، بل هو متجاوز في حد الكذب فيما يدعيه من نزول الوحي الإلهي عليه، ومتكبر بطر، حمله تكبره على الترفع علينا بادعائه الوحي. فوجّه الله تعالى إليهم تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا بقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا، أو يوم القيامة، وسيتبين لهم من هو المفتري الكذب، الأبلغ في الشرارة، أصالح في تبليغ رسالة ربه، أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون. ثم وصف الله تعالى جرمهم مخاطبا صالحا فقال: - إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ أي إنا مخرجو الناقة العظيمة العشراء من صخرة صماء، كما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به، ولتكون امتحانا واختبارا لهم، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم وما يصنعون واصبر عليهم وعلى ما يصيبك من الأذى منهم، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة. - وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي وأخبرهم أن ماء البئر أو النهير مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل حظ أو نصيب

من الماء يحضره صاحبه، ليأخذه في نوبته، فتشرب الناقة في يوم، ويشربون هم في يوم آخر، أو كل شرب محتضر فيه، يوم لها ويوم لهم، قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. وقال أيضا: إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن. ونحو الآية: قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء 26/ 155] . - فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، فَتَعاطى فَعَقَرَ أي ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة، وبادروا إلى التخلص من هذا الوضع كفرا وعنادا، فنادوا نداء المستغيث قدار بن سالف، وكان أشقى قومه، وأشجع وأهجم على الأمور، وحرضوه على عقر الناقة، فاجترأ على الأمر العظيم، وتعاطى أسباب العقر، فأهوى بسيفه على قوائم الناقة، فكسر عرقوبها، ثم نحرها. - فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي فعاقبتهم، فانظر كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي الذي ينذرهم ويخوفهم عذاب الله. ويلاحظ أن هذه الآية ذكرت في قصة ثمود قبل بيان العذاب للبيان، وفي قصة نوح بعد بيان العذاب للتهويل والتعظيم، وفي قصة عاد قبل بيان العذاب وبعد بيانه، للجمع بين الأمرين. - إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل، فصاح بهم، فبادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وجمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات، وصاروا كالعشب أو فتات الشجر اليابس الذي جمعه الراعي المحتظر في الحظيرة إذا داسته الغنم بعد سقوطه. والهشيم: الشجر اليابس المتهشم، أي المتكسر، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة ليحفظ الغنم من الذئاب. ووجه التشبيه: أن ما يحتظر به ييبس بطول

فقه الحياة أو الأحكام:

الزمان وتطؤه البهائم فيتكسر، وأنهم صاروا موتى جاثمين، ملقى بعضهم فوق بعض، كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع. - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ، والاعتبار بالأحداث والوقائع، فهل من متعظ؟! فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- كذبت قبيلة ثمود كغيرها الرسل ونبيهم، وكذبوا بالآيات التي جاء بها، وأنكروا أن ينبأ بشر كائن منهم منفرد لا أتباع له، وزعموا أنهم إن اتبعوه كانوا في خطأ وذهاب عن الصواب، وجنون وعناء. 2- وقالوا على طريق الاستفهام المراد به الإنكار: كيف خصص بالرسالة من بين آل ثمود، وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟ بل هو كذاب فيما يدّعيه، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. 3- هددهم الله بأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، والعذاب يوم القيامة. وقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً.. على التقريب، على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا. وهذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أو أنه تهديد بالتعذيب يوم القيامة. وسيتبين لهم من هو الكذاب الأشر، أهو صالح عليه السلام أم هو؟ 4- أخرج الله لهم ناقة عظيمة من الهضبة التي سألوها، روي أن صالحا صلى ركعتين، ودعا، فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء. وكان ذلك ابتلاء واختبارا لهم. ومعنى قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ:

إنا نرسل، وهو بمعنى المستقبل في ذلك الزمان الذي تم فيه الإرسال. وكون الناقة فتنة: أن أوضاعها الغريبة اختبار. 5- أمر الله تعالى نبيه صالحا عليه السلام بأوامر ثلاثة: انتظر ما يصنعون، واصبر على أذاهم، وأخبرهم أن الماء مقسوم بين آل ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم. قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء، وتسقيهم لبنا، وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه، فلم تبق لهم شيئا. أي أنهم يوم شربها أو وردها الماء يحتلبون منها ما شاؤوا. 6- ملّوا هذه القسمة، فحرضوا صاحبهم قدار بن سالف أشقى ثمود على عقرها، فعقرها، بأن رماها بسهم، ثم ضرب قوائمها بالسيف، ثم نحرها. 7- عاقبهم الله جزاء تكذيبهم وكفرهم برسولهم صالح، واعتدائهم على الناقة، فأرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل عليه السلام، فلما سمعوا الصيحة ماتوا، وبادوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد، وأصبحوا كهشيم المحتظر، قال ابن عباس: المحتظر: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. وعنه: كحشيش تأكله الغنم، أو كالعظام النخرة المحترقة. وقوله: فَكانُوا فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال. 8- المتأمل ينظر بما آل إليه هؤلاء القوم من إبادة وعذاب أصبحوا مثلا وعبرة للتاريخ. 9- يسهل على كل إنسان إدراك هذه الحقيقة من القرآن الذي أخبر عن هذه المحنة الأليمة، فهو كتاب سهل المأخذ، يسر الله به فهم المواعظ والعبر، فهل من متعظ معتبر؟! والتكرار للتذكار والتأكيد.

- 4 - قصة قوم لوط عليه السلام [سورة القمر (54) الآيات 33 إلى 40] :

- 4- قصة قوم لوط عليه السلام [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) الإعراب: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا آلَ لُوطٍ: منصوب على الاستثناء، وبِسَحَرٍ في موضع نصب، لأنه متعلق ب نَجَّيْناهُمْ وصرفه أي نونه، لأنه أراد به سحرا من الأسحار. ولو أراد به التعريف لكان ممنوعا من الصرف، أي التنوين للتعريف والعدل عن لام التعريف. ونِعْمَةً: مفعول لأجله. المفردات اللغوية: بِالنُّذُرِ بالرسل والأمور المنذرة على لسانهم، وتكذيب نبي واحد كتكذيب جميع الأنبياء، لاتفاقهم على أصول الشرائع كما تقدم. حاصِباً ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم بالحصباء: وهي صغار الحجارة، الواحد دون ملء الكف. إِلَّا آلَ لُوطٍ أهله وابنتاه معه. بِسَحَرٍ أي بسحر من الأسحار، من يوم غير معين، والسحر: السدس الأخير من الليل قبيل طلوع الفجر. نِعْمَةً مصدر، أي إنعاما. كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمنا، وكان مؤمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مطيعا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي خوّفهم لوط عليه السلام. بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب. فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي شكّوا في الإنذارات وكذبوا بها. راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ قصدوا الفجور بضيوفه، وطلبوا منه تمكينهم منهم وأن يسلمهم أضيافة الذين كانوا ملائكة. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أعميناهم، أو

المناسبة:

جعلنا أعينهم مطموسة لا شق لها، وأزلنا أثرها. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا إنذاري وتخويفي، أي ثمرته وفائدته. بُكْرَةً أول النهار. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ دائم يستقر بهم إلى أن يهلكوا، أو يتصل بعذاب الآخرة. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال البيضاوي: كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، واستماع كل قصة مستدع للادّكار والاتعاظ، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ، لئلا يغلبهم السهو والغفلة، وهكذا تكرير قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وفَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ونحوهما. وإنما لم يقل هنا فَكَيْفَ كانَ عَذابِي كما قال في القصص الثلاث الأخرى، لأن التكرار ثلاث مرات بالغ كاف، ويحصل التأكيد بالثلاث. المناسبة: هذه قصة رابعة هي قصة قوم لوط، ذكرها الله تعالى لبيان السبب وهو تكذيب الرسل وارتكاب الفواحش، وبيان العقاب الشديد وهو التدمير والإهلاك، ليعتبر كل الناس، ويعلموا أنه ما من هلاك إلا بعد إنذار بالعذاب على لسان رسول، ثم تكذيبه. التفسير والبيان: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ هذا حال قوم آخرين، وهم قوم لوط الذين كذبوا رسولهم وخالفوه، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها، واقترفوا الفاحشة. ثم بيّن الله تعالى عذابهم وإهلاكهم، فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي إننا أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى والحجارة، فأهلكتهم ودمرتهم إلا لوطا عليه السلام ومن آمن به واتبعه، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل أو في قطعة من الليل وهو السدس الأخير، نجوا مما أصاب قومهم.

هذا ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء. وكان سبب نجاتهم شكرانهم النعمة، فقال تعالى: نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا، كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي لقد أنجيناهم إنعاما منا عليهم، وتكريما لهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن، نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها، بأن آمن وأطاع أمرنا، واجتنب نهينا. ثم بين الله تعالى عدله في العقاب وهو مجيئه بعد إنذار، فقال: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي ولقد أنذرهم نبيهم بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد، وعقوبته البالغة، قبل حلوله بهم، إن لم يؤمنوا، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكوا في الإنذار ولم يصدقوه، وكذبوه. ثم ذكر الله تعالى جرما آخر لهم عدا الكفر والتكذيب، فقال: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي لقد أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الضيوف الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان، ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، إذ قد بعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب عشية الليل، ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، وأرشدهم إلى نسائهم الذين هم بمثابة بناته، وهو لهم كالأب. فلما اشتد الخلاف، وأبوا إلا الدخول، طمس الله أبصارهم، فأصبحوا لا يرون شيئا، فرجعوا على أدبارهم، يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا عليه السلام، إلى الصباح.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي. ثم ذكر تعالى نوع العذاب العام الذي أصابهم ووقته، فقال: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي لقد أتاهم صباحا عذاب مستقرّ بهم، نازل عليهم، لا يفارقهم ولا ينفك أو يحيد عنهم، كما قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] والعذاب المستقر: الثابت الذي لا محيد عنه أو الذي استقر عليهم إلى الاستئصال الكلي. ثم أوضح تعالى العبرة وحكى ما قيل لهم، فقال: - فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فذوقوا جزاء أفعالكم ومقتضى إنذاركم السابق. - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي ولقد سهلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر، فهل من متعظ معتبر. وهذه الجملة الواردة عقب القصص الأربع للتأكيد والتنبيه والاتعاظ والزجر، كما تقدم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لما كذب قوم لوط نبيهم، أرسل الله عليهم ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى، فلا عقاب دون جريمة، ولا عذاب قبل إنذار. 2- نجّى الله تعالى نبيه لوطا عليه السلام ومن تبعه على دينه، ولم يكن إلا بنتاه، وتمت النجاة في وقت السحر آخر الليل، إنعاما من الله على لوط وبنتيه، ومثل ذلك الجزاء يجازي الله كل من آمن بالله وأطاعه، أي أن ذلك الإنجاء كان فضلا من الله ونعمة، كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا. وفيه فائدة وهي الدلالة

على الثواب في الدار الآخرة، كما تحققت النجاة في الدنيا، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب. 3- لا عقاب أيضا إلا بعد إنذار، فلقد أنذر لوط عليه السلام قومه، وخوّفهم عقوبة ربهم، وأخذه إياهم بالعذاب الدنيوي والأخروي، فشكّوا فيما أنذرهم به الرسول، ولم يصدقوه. وفي هذا تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه. 4- اقترن مع كفرهم جريمة كبري أخرى هي اقترافهم الفواحش، بل إنهم أرادوا من لوط عليه السلام تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف، طلبا للفاحشة. 5- لما أصرّوا على الاعتداء على الملائكة، واقتحام منزل لوط عليه السلام، أعماهم الله مع صحة أبصارهم، فلم يروهم. ويروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت، فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم. 6- قال الله لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي الذي أنذركم به لوط، والمراد بذوق العذاب مجازاة الفعل وموجبه. 7- لقد صبّحهم أول النهار، وقت الصبح عذاب دائم عام، استقر فيهم، حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وفائدة قوله: بُكْرَةً تبيين حدوث العذاب في أول النهار، لأن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار، فإذا قال: بُكْرَةً أفاد أنه كان أول جزء منه. 8- كرر الله تعالى للتأكيد ما قالته الملائكة لهم: ذوقوا العذاب الذي نزل بكم من طمس الأعين، غير العذاب الذي أهلكوا به، لأن العذاب كان مرتين: أحدهما- خاص بالمراودين، والآخر عام.

- 5 - قصة آل فرعون [سورة القمر (54) الآيات 41 إلى 42] :

9- إن الهدف من القصة هو العبرة والعظة، والقرآن الكريم سهّله الله للاتعاظ والاعتبار، ولكن ما أكثر المواعظ والعبر، وأقل الاعتبار. وقد كرر تعالى بيان ذلك للتنبيه والتأكيد. - 5- قصة آل فرعون [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) المفردات اللغوية: آلَ فِرْعَوْنَ قومه معه، واكتفى بذكرهم دونه للعلم بأنه القائد وأنه أولى بذلك. النُّذُرُ الإنذارات على لسان موسى وهارون، فلم يؤمنوا. كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها أي بل كذبوا بالآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام. فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب. أَخْذَ عَزِيزٍ قوي لا يغالب ولا يغلب. مُقْتَدِرٍ قادر لا يعجزه شيء. التفسير والبيان: هذه قصة خامسة بإيجاز، أخبر الله بها عن تكذيب فرعون وقومه بالرسل، فقال: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ أي والله لقد جاءت الإنذارات والبشائر فرعون وقومه من طريق موسى وهارون، الإنذار بالعذاب إن كفروا، والبشارة بالجنة إن آمنوا. والفرق بين الآل والقوم: أن القوم أعم من الآل، فالقوم: كل من يقوم الرئيس بأمرهم ويأتمرون بأمره، والآل: كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم، أو يؤول إليهم خيره وشره.

فقه الحياة أو الأحكام:

كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها، فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أي إننا أيدنا موسى وهارون بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، منها الآيات التسع كالعصا واليد، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب في انتقامه، قادر على إهلاكهم قاهر لا يعجزه شيء، أي أبادهم الله ولم يبق منهم أحدا، وعاقبهم بتكذيبهم وبكفرهم بالله. فقه الحياة أو الأحكام: هذا خبر موجز عن فرعون وقومه: القبط، يتضمن بيان الجريمة والعقاب، فإن الله أرسل لهم موسى وهارون بالإنذارات والبشائر، فكذبوا بجميع الآيات أو المعجزات الدالة على توحيد الله ونبوة الأنبياء، وهي تسع: العصا، واليد، والسّنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، فعاقبهم الله بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسل الله، وكان العقاب شديدا لصدوره من إله غالب في انتقامه، قادر على ما أراد. ويلاحظ أن القصص الخمس المذكورة في هذه السورة: قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وآل فرعون مشتركة في السبب أو الجريمة، وفي الجزاء أو العقاب، والسبب أو الجريمة يكاد يكون واحدا وهو الكفر بالله وتكذيب الرسل، مع معاص أخرى، والعقوبة وإن اختلفت بين طوفان، وريح صرصر عاتية، وصيحة جبريل، وريح حاصب، وإغراق، فنتيجتها واحدة وهي الإبادة والاستئصال التام، وتلك عبرة وعظة لكفار قريش وأمثالهم.

توبيخ المشركين من كفار قريش وبيان جزاء المجرمين والمتقين [سورة القمر (54) الآيات 43 إلى 55] :

توبيخ المشركين من كفار قريش وبيان جزاء المجرمين والمتقين [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) الإعراب: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ نَحْنُ: مبتدأ، جَمِيعٌ: خبره، ومُنْتَصِرٌ: خبر لمحذوف تقديره: أمرنا أو جمعنا. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ كُلَّ: بالنصب بتقدير (خلقنا) وذلك يدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء، ولا يجوز أن يكون (خلقنا) صفة شَيْءٍ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. وتقرأ كُلَّ بالرفع على الابتداء، وخَلَقْناهُ: خبره، لكن لا يكون كُلَّ حينئذ متمحضا للعموم، لأن المعنى: إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيحتمل أن يكون هاهنا ما ليس بمخلوق من الأشياء، بخلاف حالة النصب، فإنه لا يحتمل إلا العموم. وبِقَدَرٍ: حال من كُلَّ، أي مقدرا. البلاغة: أَكُفَّارُكُمْ أَمْ يَقُولُونَ الاستفهام إنكاري يقصد به النفي. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ إطناب بتكرار لفظ الساعة لزيادة التخويف.

المفردات اللغوية:

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ بينهما ما يسمى بالمقابلة. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ المس مجاز مرسل عن الألم، وعلاقته السببية، فإن مسها سبب للألم، ويراد بالذوق الإحساس. صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ بينهما طباق. في أواخر الآيات كلها سجع غير متكلف له وقع وجرس وجمال في اللفظ. المفردات اللغوية: أَكُفَّارُكُمْ يا قريش. مِنْ أُولئِكُمْ المذكورين في القصص السابقة من قوم نوح إلى آل فرعون. بَراءَةٌ وثيقة مكتوبة بالنجاة من العذاب. الزُّبُرِ الكتب السماوية، جمع زبور، المعنى: أم أنزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم، فهو في أمان من العذاب. والاستفهام في الموضعين بمعنى النفي، أي ليس الأمر كما تزعمون أو تتصورون. أَمْ يَقُولُونَ كفار قريش. نَحْنُ جَمِيعٌ جمع. مُنْتَصِرٌ على محمد، قال أبو جهل يوم بدر: إنا جمع منتصر، فنزلت الآية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يرجعون إلى الأدبار هاربين، فقد هزموا ببدر، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وهو من دلائل النبوة. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ بالعذاب الأصلي. وَالسَّاعَةُ أي وعذاب الساعة. أَدْهى أعظم وأشد بلية وداهية، والداهية: أمر فظيع لا يهتدى لعلاجه. وَأَمَرُّ أشد مرارة ومذاقا من عذاب الدنيا، والمراد: أصعب على النفس وأكثر شدة وهولا. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكفار والمشركين. فِي ضَلالٍ خطأ وبعد عن الحق. وَسُعُرٍ نيران مستعرة في الآخرة. يُسْحَبُونَ يجرّون على وجوههم. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي يقال لهم: ذوقوا حر النار وألمها، فإن مسّها أي إصابتها سبب للتألم بها، وسَقَرَ اسم جهنم، ولذلك كان ممنوعا من الصرف. بِقَدَرٍ أي مقدّرا بمقدار معلوم مكتوب في اللوح قبل وقوعه. أَمْرُنا شأننا، أو أمرنا بإيجاد الشيء الذي نريده. إِلَّا واحِدَةٌ أي كلمة واحدة، وهي قول (كن) فيوجد، أو فعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معاناة. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في اليسر والسرعة. أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ، والاستفهام بمعنى الأمر، أي اذكروا واتعظوا. فِي الزُّبُرِ مكتوب في سجل أو كتب الحفظة. مُسْتَطَرٌ مسطور أو مكتوب في اللوح المحفوظ. فِي جَنَّاتٍ بساتين. وَنَهَرٍ أنهار، المراد به الجنس. وقرئ بضم النون وسكون الهاء كأسد وأسد. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، والمراد

سبب النزول:

به أيضا الجنس، وقرئ: مقاعد أي في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم، بخلاف مجالس الدنيا، قل أن تسلم من ذلك. عِنْدَ مَلِيكٍ أي مقربين عند الله تعالى، ومَلِيكٍ صيغة مبالغة، أي عزيز الملك وواسع السلطان. مُقْتَدِرٍ قادر لا يعجزه شيء، وهو الله تعالى. والعندية ليست عندية مكان، وإنما إشارة إلى الرتبة والقربة من فضل الله تعالى. سبب النزول: نزول الآية (45) : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ..: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. نزول الآية (47) : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ..: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وروى ابن حبان عن أبي أمامة الباهلي قال: أشهد بالله لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه الآية نزلت في القدرية «1» : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وذكر أبو بكر بن الحارث عن أبي زرارة الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ.. ثم قال: أنزلت هذه الآية في أناس من آخر هذه الأمة يكذبون بقدر الله تعالى.

_ (1) القدرية: هم الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان إهلاك بعض الأمم السابقة وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط بسبب تكذيبهم الرسل، خاطب الله أهل مكة موبخا لهم بطريق الاستفهام الإنكاري، ليبين لهم أن ما أصاب غيرهم من العذاب والهوان سيصيبهم، لأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله، إن استمروا على كفرهم، وأصروا على ضلالهم، وأنهم أيضا سيهزمون في الدنيا، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأدهى. ثم أبان الله تعالى نوع عذاب المجرمين أي المشركين في الآخرة، وأن كل شيء مخلوق لله سبحانه، وأن أمره تعالى سريع النفاذ بكلمة (كن) التكوينية، وختم السورة بذكر ثواب المتقين الأبرار. التفسير والبيان: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي أكفاركم يا مشركي قريش خير من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب السماوية، أم معكم من الله براءة فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟! والمعنى: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب، خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فلستم بأفضل منهم، حتى تكونوا بمأمن مما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم لرسلهم، وليست لكم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء. وهذا تهديد وتوبيخ لمن أصرّ على الكفر من مشركي العرب، فالمراد بعض العرب لا كلهم، فليس كفارهم خيرا ممن سبقهم، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط، بل هم مثلهم أو شر منهم.

أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي بل هم يقولون: نحن جماعة أو جمع كثير والعدد، شديد والقوة، ولنا النصر على الفئة القليلة المستضعفة من أعدائنا، فهم يعتقدون ويثقون أنهم يتناصرون مع بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. والاستفهام: إنكاري، وإفراد المنتصر مع أن نَحْنُ ضمير الجمع، لأن المراد بالجميع كالجنس، لفظه لفظ واحد، ومعناه جمع فيه الكثرة. فرد الله تعالى عليهم بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك. عن أبي جهل: أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف، فقال: نحن ننصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار. وأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو في قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك، فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول: «سيهزم الجمع، ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرّ» .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فعرفت تأويلها يومئذ. ثم بيّن الله تعالى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم، بل الأمر أعظم منه، فإن الساعة موعدهم، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد إن بقوا مصرين على الكفر، فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة من عذاب الدنيا، كما أنه عذاب دائم خالد. قال الرازي: هذا قول أكثر المفسرين، والظاهر أن الإنذار بالساعة لكل من تقدم، كأنه قال: أهلكنا الذين كفروا من قبلك، وأصرّوا، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا بخير منهم، فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة، فإتمام المجازاة بالأليم الدائم» . ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الأخروي، فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي إن المشركين بالله الذين كذبوا رسله وكل كافر ومبتدع كافر ببدعته من سائر الفرق في حيرة وتخبط في الدنيا وبعد عن الحق والصراط المستقيم، وفي نيران مستعرة في جهنم يوم القيامة.

_ (1) تفسير الرازي: 29/ 68

وجاء إطلاق المجرمين على (المشركين) في قوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن 55/ 41] . وأكثر المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نازلة في القدرية، روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «1» . وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مجوس هذه الأمة: القدرية» «2» وهم المجرمون الذين سماهم الله في قوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ وهو نيران في الآخرة. وبيّن الإمام الرازي رحمه الله معنى القدرية الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية فيهم، فذكر أن كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه، فالجبري يقول: القدري من يقول: الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره، فهم قدرية، لأنهم ينكرون القدر. والمعتزلي يقول: القدري: هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق: الله قدرني، فهو قدري لإثباته القدر، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذين يعترفون بخلق الله، وليس من العبد: إنه قدري. والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية: هو الذي ينكر القدر، وينكر قدرة الله تعالى، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها، ويدل عليه قوله: جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فإن مذهبهم ذلك. وأما المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «مجوس هذه الأمة هم القدرية» فهم القدرية

_ (1) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه. (2) رواه ابن ماجه عن جابر بلفظ «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى..» وهو ضعيف.

في زمانه، وهم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة، ونسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة «1» . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي إن المجرمين الكفار يعذبون في النار، ويجرّون فيها على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها. ثم أبان الله تعالى أن كل ما يحدث في الكون، ومنه أفعال العباد كلهم، هو مخلوق لله، فقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي إن كل شيء من الأشياء، وكل فعل من الأفعال في هذا الكون أو هذه الحياة خيرا كان أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر محكم مرتّب على حسب ما اقتضته الحكمة، وعلى وفق ما هو مقدر مكتوب في اللوح، معلوم لله ثابت في سابق علم الله الأزلي، قبل وجوده أو كونه، يعلم حاله وزمانه. والقدر: التقدير. ونظير الآية قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان 25/ 2] وقوله سبحانه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 1- 3] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه. وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه: وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته (أي تسجيله) لها قبل حدوثها. أخرج الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكسل» . وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة: «استعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل:

_ (1) تفسير الرازي: 29/ 69- 70

قدّر الله، وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن: لو تفتح عمل الشيطان» . وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف» . ومن المعلوم أن الكتابة لا تغني الجبر والفرض على العباد، والعلم السابق بالأشياء لا يدل على الإلزام، وإنما يدل على أن جميع ما في الكون معلوم سابقا لله تعالى. ثم أوضح الله تعالى نفاذ مشيئته في خلقه، ونفاذ قدره فيهم، فقال: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء إنما يكون مرة واحدة، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان، فيكون الذي نأمر به بكلمة واحدة حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته، لا يتأخر طرفة عين. ولمح البصر: إغماض البصر، ثم فتحه. وهذا تمثيل وتقريب لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الأشياء، فهو كلمح البصر أو أقرب، كما قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] . ثم أعاد تعالى التنبيه للحق والاتعاظ بهلاك السابقين، فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي وتالله لقد أهلكنا أمثالكم وأشباهكم في الكفر يا معشر قريش، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل

من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب، وهل من يتذكر ويتعظ بالمواعظ، ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة التي حلت بالأمم السابقة؟ وهذا كما قال تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ 34/ 54] . وأتبع ذلك الإخبار عن إحصاء جميع أعمالهم ورقابة الله عليهم، فقال: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أي إن جميع ما فعلته وتفعله الأمم والشعوب والأفراد من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي كتب (أو سجلات) الملائكة الحفظة، وما من شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ، وفي دواوين الملائكة وصحائفهم، صغيرة وكبيرة، وجليلة وحقيرة، كما قال تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 18] . أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة، إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا» . ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء المؤمنين المتقين لمقارنته بجزاء الكافرين، ومقابلة الثواب بالعقاب وبالعكس، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي إن المتقين، بعكس ما يكون الأشقياء فيه من النار والسحب على الوجوه فيها، مع التوبيخ والتقريع والتهديد، هم في بساتين غنّاء مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة بمختلف أنواع الأشربة من ماء وعسل ولبن وخمر غير مسكرة، وفي الجنة دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه، وفي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وفي منزلة وكرامة عند ربهم القادر على ما يشاء، والذي لا يعجزه شيء، فهو

فقه الحياة أو الأحكام:

الملك العظيم، الخالق للأشياء كلها ومقدّرها، والمقتدر على ما يشاء، مما يطلبون ويريدون. أخرج أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كل من ارتكب جرما وعوقب بعقاب معين، فإن ذلك العقاب مستحق لأمثال أولئك المجرمين، فليس كفار العرب أو قريش خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم، وليس لهم صك براءة أو وثيقة بالسلامة من العقوبة في الكتب المنزلة على الأنبياء. 2- زعم كفار قريش أنهم منتصرون على المؤمنين بسبب كثرة عددهم وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، غير أن موازين القوى البشرية تختل في ميزان القدرة والحكمة والتوفيق الإلهي: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة 2/ 249] . لذا قال تعالى هنا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي سيهزم جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وهذا من دلائل صدق النبوة، قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية، بل والسورة كلها مكية كما تقدم. أخرج البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ. وقد تقدم حديث ابن عباس وقصة أبي بكر يوم بدر.

3- إن تعذيب الكفار لا يقتصر على الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة والذل والهوان، وإنما لهم عذاب آخر في الآخرة أشد وأعظم، وأدهى وأمرّ، وأدوم وأخلد.. 4- إن الكفار والمشركين في حيدة عن الحق واحتراق في نار جهنم، ويجرّون على وجوههم في النار بقصد الإذلال والإهانة. 5- الله تعالى خالق كل شيء وخالق أفعال العباد كلها دون جبر ولا إكراه عليها: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات 37/ 96] وقوله تعالى هنا: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فالله قادر، غير أنه لم يجبر أحدا على ما يفعله بل تركه لاختياره وحريته. ويعد المشركون قدرية لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب، وطائفة القدرية من المسلمين يوصفون بهذا الوصف لقولهم: لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة، كالصلاة والزنا، وإنما العبد يخلق أفعال نفسه. قال القرطبي: والذي عليه أهل السنة: أن الله سبحانه قدّر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى بقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا، والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذرّ رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب

ويعذبنا؟ فقال: «أنتم خصماء الله يوم القيامة» «1» . 6- إن نفاذ أمر الله في خلقه سريع أسرع من لمح البصر، وما هي إلا كلمة واحدة، وهو قوله للأمر: «كن» . 7- كرر الله تعالى تحذيره وتوبيخه للمشركين، ونبّههم إلى أنه أهلك أشباههم في الكفر من الأمم الخالية، فهل من يتذكر؟! 8- جميع ما فعلته الأمم قبل المشركين وجميع ما تفعله بعدهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم في اللوح المحفوظ أو في كتب الحفظة، وكل ذنب صغير أو كبير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله، ومكتوب على الكفار إهلاكهم العاجل في الدنيا، وعذابهم الآجل المعد لهم في الآخرة على ما فعلوه، ومكتوب ما يفعله غيرهم. 9- وصف الله المؤمنين بعد وصف الكفار للمقارنة والموازنة والترغيب والترهيب، فالمؤمنون الأتقياء في جنان الخلد التي تجري أنهار الماء والخمر والعسل واللبن من تحت قصورهم، وهم في كرامة ومنزلة عند ربهم المالك القادر على ما يشاء، في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة. والعندية هنا كما تقدم: عندية القربة والزلفى والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة.

_ (1) تفسير القرطبي: 17/ 148

سورة الرحمن جل ذكره:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرّحمن جلّ ذكره مكيّة أو: مدنيّة، وهي ثمان وسبعون آية. مكيتها: سورة الرحمن: في رأي ابن مسعود ومقاتل: مدنية كلها، وقد كتب في بعض المصاحف أنها مدنية، والأصح كما ذكر القرطبي وابن كثير والجمهور أنها مكية كلها، وهو قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. وهي ثمان وسبعون (78) آية. وعدها بعضهم (76) آية. ودليل الجمهور والرأي الأصح: ما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ، فمن رجل يسمعوه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى، ثم قام عند المقام، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ ثم تمادى رافعا بها صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أمّ عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه، حتى أثّروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلّي الصبح بنخلة، فقرأ سورة (الرحمن) ومرّ النفر من الجن، فآمنوا به.

تسميتها:

وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب، فلك الحمد» «1» . وفي هذا دليل على أنها مكية. تسميتها: سميت سورة الرحمن، لافتتاحها باسم من أسماء الله الحسنى وهو (الرحمن) وهو اسم مبالغة من الرحمة، وهو أشد مبالغة من (الرحيم) وهو المنعم بجلائل النّعم ولجميع الخلق، أما الرحيم: فهو المنعم بدقائق النعم، والخاص بالمؤمنين. قال الإمام الطبري: الرحمن: لجميع الخلق، والرحيم: بالمؤمنين. وتسمى أيضا في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا (عروس القرآن) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء عروس، وعروس القرآن: سورة الرحمن» . مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه: 1- هذه السورة بأسرها شرح وتفصيل لآخر السورة التي قبلها، ففي سورة القمر بيان إجمالي لأوصاف مرارة الساعة وأهوال النار وعذاب المجرمين، وثواب المتقين ووصف الجنة وأهلها، وفي هذه السورة تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال وعلى النحو المذكور من وصف القيامة والنار والجنة. 2- ذكر الله تعالى في السورة السابقة أنواع النقم التي حلت بالأمم السابقة

_ (1) قال الترمذي: هذا حديث غريب.

ما اشتملت عليه السورة:

قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، وهنا ذكر أنواع الآلاء والنعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق على الناس جميعا. وافتتح السورة السابقة بما يدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر، وافتتح هذه السورة بما يدل على الرحمة والرحموت وهو إنزال القرآن. 3- ختمت السورة السابقة ببيان صفتين لله عز وجل يدلان على الهيبة والرهبة والعظمة وهما (المليك المقتدر) أي ملك عظيم الملك، قادر عظيم القدرة، وابتدئت هذه السورة بصفة أخرى بجوار ذلك وهي صفة (الرحمن) وبيان مظاهر رحمته وفضله ونعمه على الإنسان وفي الكون كله سمائه وأرضه، فهو سبحانه عزيز شديد مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار، رحمن منعم غافر للأبرار. ما اشتملت عليه السورة: سورة الرحمن كسائر السور المكية المتميزة بقصر آياتها، وشدة تأثيرها ووقعها، ومزيد رهبتها، والمتعلقة بأصول الاعتقاد وهي التوحيد وأدلة القدرة الإلهية، والنبوة والوحي، والقيامة وما فيها من جنة ونار، وآلاء ونعم، وشدائد وأهوال. عدّد الله تعالى في مطلع السورة آلاءه ونعمه العظمى، وأولها نعمة الدين والوحي، وإنزال القرآن وتعليمه عباده به، فهو النعمة الكبرى، وسنام الكتب السماوية ومصداقها. ثم أتبعه ببيان خلق الإنسان ليعلم أنه إنما خلقه للدين، والإفادة من الوحي وكتاب الله، ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان: وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. ثم أحصى الله تعالى أصول النعم الظاهرة الكبرى في الكون من الشمس والقمر، والنجم (النبات) والشجر، والسماء القائمة على التوازن الدقيق،

أعظم النعم الإلهية الدنيوية والأخروية:

والأرض ذات الفواكه والثمار والأشجار، والزروع والرياحين، مع الإشارة إلى خلق عالم آخر غير مادي ولا ملموس وهو الجنّ. وأضاف إلى ذلك آية على قدرته الباهرة بالفصل بين البحر المالح والعذب، وإخراج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح، كإخراج الحب والعصف والريحان من التراب، وتسيير السفن في أعالي البحار. ثم يطوى عالم الكون البديع بالفناء الحتمي، ولا يبقى سوى الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، ويبدأ بعدئذ عالم القيامة وما فيه من أهوال جسام، ومصير عصيب للمجرمين، وزجّ في نيران الجحيم. ويقابل ذلك المشهد المؤلم مشهد النعيم في جنان الخلد لأهل الإيمان واليمين، والخوف من مقام الله، وفي تلك الجنان أنواع الأغصان، والعيون والأنهار، والفواكه، والفرش الحريرية الوثيرة والأرائك الخضر، والحور والولدان، والخيرات الحسان. وناسب كل ذلك ختم السورة بتمجيد الله عزّ وجلّ، والثناء عليه، على ما تفضل به وأنعم على عباده: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. أعظم النعم الإلهية الدنيوية والأخروية - 1- نعمة القرآن والأشياء الكونية والأرضية [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)

الإعراب:

الإعراب: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ.. الرَّحْمنُ: مبتدأ، وجملة عَلَّمَ الْقُرْآنَ وما بعدها: أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف، لأنها بقصد التعداد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلّ، كثّرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ الشَّمْسُ: مبتدأ، وَالْقَمَرُ: عطف عليه، وخبره: إما قوله بِحُسْبانٍ وإما محذوف تقديره: يجريان بحسبان. وَالسَّماءَ رَفَعَها.. السَّماءَ منصوبة بتقدير فعل، أي ورفع السماء، وتقرأ بالرفع على الابتداء، كقولهم: زيد لقيته، وعمرو كلّمته. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أن: إما ناصبة مع تقدير حذف حرف الجر، أي لئلا تطغوا، وإما مفسرة بمعنى «أي» فتكون «لا» الناهية، وتَطْغَوْا على الأول منصوب بأن، وعلى الثاني مجزوم ب «لا» . وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ الْحَبُّ: بالرفع معطوف على المرفوع قبله، ويقرأ بالنصب بفعل مقدر، أي وخلق، وَالرَّيْحانُ: بالرفع معطوف، وبالنصب معطوف على الْحَبُّ إذا نصب، وبالجر بالعطف على الْعَصْفِ. البلاغة: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ سجع مرصع غير متكلف. وَالسَّماءَ رَفَعَها ووَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ بينهما ما يسمى بالمقابلة. المفردات اللغوية: الرَّحْمنُ هو الله تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية، وهو اسم من أسماء الله الحسنى. عَلَّمَ الْقُرْآنَ قدم ذلك لأن أصل النعم الدينية وأجلها هو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوحي، وأجلّ الكتب والمهيمن عليها والمصدّق

لها. خَلَقَ الْإِنْسانَ الجنس الإنساني. الْبَيانَ التعبير عما في النفس، وإفهام الغير لما يدركه من تلقي الوحي، وتعرف الحق، وتعلم الشرع. بِحُسْبانٍ يجريان بحساب دقيق منظم، مقدر في بروجهما ومنازلهما. وَالنَّجْمُ النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض، ولا ساق له كالحنطة والمقاثي. وَالشَّجَرُ الذي له ساق كالنخل وأشجار الفاكهة. يَسْجُدانِ ينقادان أو يخضعان لله فيما يريد بهما طبعا، كما ينقاد الساجد من المكلفين اختيارا أو طوعا. رَفَعَها خلقها مرفوعة المحل والرتبة. وَوَضَعَ الْمِيزانَ أثبت العدل والنظام والتوازن في الأشياء الكونية كلها، قال صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السموات والأرض» . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لئلا تجوروا فيما يوزن به، ولا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي قوّموا الوزن بالعدل. وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ تنقصوا الموزون، والتكرار مبالغة في التوصية به، وزيادة الحث على استعماله، وقرئ: «ولا تخسروا» بفتح التاء، وضم السين وكسرها وفتحها. وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي أثبتها وبسطها للخلق من الإنس والجن وغيرهم. فِيها فاكِهَةٌ أنواع ما يتفكه به. الْأَكْمامِ أوعية الطلع والثمر، جمع كم: بالكسر. وَالْحَبُّ كالحنطة والشعير والذرة وسائر ما يتغذى به. ذُو الْعَصْفِ ورق الزرع الجاف، وهو التبن. وَالرَّيْحانُ الورق المشموم الطيب الرائحة من النبات. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجن تكذبان؟ والاستفهام للتقرير، ذكرت في السورة إحدى وثلاثين مرة، فكلما ذكر تعالى نعمة وبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره معاتبا ومذكرا ومؤنبا: ألم أحسن إليك بكذا بالمال، ألم أحسن إليك بأن أنقذتك من كذا وكذا؟ ويكون التكرار لاختلاف ما يقرر به، وهذا شيء كثير مألوف في كلام العرب، كقول مهلهل يرثي كليبا: على أنّ ليس عدلا «1» من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاة من الدّبور «2» على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب ... غداة تأثل الأمر الكبير

_ (1) عدلا: أي مثلا ونظيرا. (2) العضاة: كل شجر يعظم وله شوك، والدّبور: الريح التي تقابل الصّبا.

التفسير والبيان:

على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جاش «1» المستجير وأنشد قصائد أخرى على هذا النمط. التفسير والبيان: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ أي إن الله الواسع الرحمة لخلقه في الدنيا والآخرة أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم القرآن لتعليم أمته وجعله حجة على الناس قاطبة، ويسّر حفظه وفهمه على من رحمه. وهذا جواب لأهل مكة القائلين: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل 16/ 103] ولما كانت هذه السورة لتعداد نعم الله التي أنعم بها على عباده، قدّم بيان أجل النعم قدرا، وأكثرها نفعا وهي نعمة تعليم القرآن عباده، فإنها مدار سعادة الدارين. ثم امتن بنعمة خلق الإنسان أداة إعمار الكون، فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ أي أوجد جنس الإنسان، وعلّمه النطق والتعبير عما في نفسه، ليتخاطب مع غيره، ويتفاهم مع أبناء مجتمعة، فيتحقق التعاون والتآلف والأنس، وبذلك اكتملت عناصر التعليم: الكتاب والمعلم وهما القرآن والنّبي، والمتعلم وهو الإنسان، وطريق التعلم وكيفيته وهو البيان. ثم ذكر الله تعالى أمورا علوية هي مجال التعلم، فقال: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي إن الشمس المشرقة المضيئة للنهار، والقمر نور الليل يجريان بحساب دقيق منظم مقدر معلوم في بروج ومنازل معلومة، لا يعدوانها، ويدلان بذلك على اختلاف الفصول وعدد الشهور والسنين، ومواسم الزراعة، وآجال المعاملات وأعمار الناس، ويحققان الفوائد الكثيرة للإنسان والنبات والحيوان، ويتعاقبان بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب، كما

_ (1) مخفف جأش وهو العزيمة، وقد تطلق على النفس مجازا.

قال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام 6/ 96] . ثم أورد الله تعالى بعض عوالم الأرض السفلى، فقال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ أي أن النبات الذي لا ساق له، والشّجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله تعالى فيما أراد، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا، فإن ظهورهما من الأرض في وقت معين ولأجل محدد، وجعلهما غذاء للإنسان، ومتعة له شكلا ولونا ومقدارا وطعما ورائحة، انقياد لقدرة الله تعالى. ثم نبّه الله تعالى إلى ظاهرة التوازن بين الأشياء، وضرورة التعادل في المبادلات، فقال: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة فوق الأرض، وأقام التوازن في العالمين العلوي والسفلي الأرضي، وأثبت في الأرض العدل الذي أمر به، لئلا تتجاوزوا العدل والإنصاف في آلة الوزن أثناء مبادلة الأشياء، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 57/ 25] فهذا نهي عن الطغيان في الوزن. وأكّد على التزام العدل أو التعادل، فقال: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي قوّموا وزنكم بالعدل، ولا تنقصوه ولا تبخسوه شيئا، بل زنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء 26/ 182] . وهذا التكرير لتأكيد الأمر بالعدل، ويلاحظ أنه سبحانه أمر أولا

بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحدّ بالزيادة، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس. ثم ذكر نعمته في الأرض مقابل السماء، فقال: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي إنه تعالى كما رفع السماء، وضع الأرض ومهدها وبسطها لينتفع بها، وأرساها بالجبال الراسخات الراسيات ليستقر الأنام على وجهها، وهم الخلائق المختلفة الأنواع والألوان والأجناس والألسنة في سائر الأقطار، ثم أبان تعالى طرق معايش الناس فيها، فقال: فِيها فاكِهَةٌ، وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ أي إن في الأرض كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح، وأشجار النخيل ذات أوعية الطلع الذي يتحول بعدئذ إلى تمر، وجميع ما يقتات من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة ونحوها، ذات العصف وهو بقل الزرع: وهو أول ما ينبت منه، أو هو التبن، وكل مشموم من النبات ذي الورق الذي تطيب رائحته. وتنكير كلمة الفاكهة وتعريف النخل، لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص، أما ثمر النخيل فهو قوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان وعند جميع الأشخاص. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ أي فبأي النعم المتقدمة تكذبان يا معشر الجن والإنس. فالخطاب مع الثقلين: الإنس والجن. وقد عرفنا أن هذه الآية كررت في السورة إحدى وثلاثين مرة بعد كل خصلة من النعم، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، لتأكيد التذكير بالنعم، ولتقريرهم بها، وللتنبيه على أهميتها، والنعم محصورة في دفع المكروه وتحصيل المقصود. وقوله: رَبِّكُما لبيان أن مصدر هذه النعم من الله المربي الذي يتعهد عباده بالتربية والتنمية، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على ما أنعم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الكريمات على ما يأتي: 1- عدد الله تعالى في سورة الرحمن نعمه العظمى الدينية والدنيوية والأخروية، وذكر بعد كل نعمة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ للتذكير بالنعمة والتنبيه عليها، مع إشاعة جو الرهبة والتخويف، والتوبيخ لمن أنكرها. روي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة الرحمن فقال: أعدها، فأعادها ثلاثة، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. 2- النعمة الأولى وهي أعظم النعم وأجلها: نعمة إنزال القرآن الذي بدّل حياة البشرية، وسيظل صوت الحق الأبلج إلى يوم القيامة. 3- النعمة الثانية والثالثة خلق جنس الإنسان لإعمار الكون، وتعليمه البيان أي الكلام والنطق والفهم، وهو مما فضّل به الإنسان على سائر الحيوان. 4- النعمة الرابعة والخامسة: خلق الشمس والقمر اللذين يجريان بحساب معلوم دقيق في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها، وبهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار. 5- النعمة السادسة: خلق النبات الشامل للنجم: وهو ما لا ساق له، والشجر الذي له ساق، وجعل ذلك منقادا لإرادة الله تعالى، وتوجيهه لنفع الإنسان. 6- النعمة السابعة والثامنة: جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة عن الأرض، ووضع العدل الذي أمر الله به في الأرض، وأقام التوازن في عالم السماء والأرض.

7- النعمة التاسعة: خلق آلة الميزان لإقامة العدل في المعاملات، ومنع المنازعات وكفالة استقرار الناس وإبقاء ظاهرة الودّ والصفاء والوئام بينهم. لذا نهى الله تعالى عن الطغيان في الوزن وهو تجاوز الحد أو الزيادة بعد الأمر بالتسوية والتعادل، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس في الوزن والكيل، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين 83/ 1- 3] ، وقال سبحانه: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود 11/ 84] . قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا ابن آدم، كما تحبّ أن يعدل لك، وأوف كما تحبّ أن يوفّى لك، فإن العدل صلاح الناس. 8- النعمة العاشرة: خلق الأرض ممهدة مبسوطة للناس. 9- النعمة الحادية عشرة: اشتمال الأرض على متعة الحياة وأقوات الإنسان والحيوان، وهو كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار، وإنبات النخيل مصدر التمور، وإخراج الحبّ كالحنطة والشعير ونحوهما، والعصف: وهو التبن، أو ورق الشجر والزرع، والرياحين. 10- بعد إيراد هذه النعم، خاطب الله تعالى- كما تقدم- الجنّ والإنسان بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لتقرير النعمة وتأكيد التذكير بها. وقد تقدم حديث الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: «ما لي أراكم سكوتا؟! للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد» .

- 2 - توضيح أحوال بعض النعم [سورة الرحمن (55) الآيات 14 إلى 25] :

- 2- توضيح أحوال بعض النعم [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) الإعراب: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مرفوع إما بدل من ضمير خَلَقَ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو ربّ المشرقين. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي يخرج من أحدهما، لأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرج من العذب، وإنما يخرج من الملح، فحذف المضاف وهو «أحد» وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] أي من إحدى القريتين، فحذف المضاف. وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير في الْمُنْشَآتُ. البلاغة: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ بينهما مقابلة. وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ تشبيه مرسل مجمل، أي كالجبال في العظم والضخامة والثبات فوق الشيء.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: خَلَقَ الْإِنْسانَ أصل الإنسان وهو آدم صَلْصالٍ طين يابس له صلصلة أي صوت، إذا نقر كَالْفَخَّارِ وهو الخزف: وهو ما طبخ من طين أو الطين المطبوخ حتى يتحجر. وَخَلَقَ الْجَانَّ أصل الجن وهو إبليس مارِجٍ لهب خالص لا دخان فيه مِنْ نارٍ بيان لمارج: فإنه في الأصل الشيء المضطرب. رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي مشرقي الشتاء والصيف، ومغربهما. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلها وأجراهما، يقال: مرجت الدابة في المرعى، أي أرسلتها فيه، والبحران: العذب والملح. يَلْتَقِيانِ يتجاوران في المصب دون فصل مرئي بينهما. بَرْزَخٌ حاجز من قدرة الله تعالى. لا يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على الآخر، فيختلط به أو يمتزج. يَخْرُجُ مِنْهُمَا أي يخرج من أحدهما وهو الملح اللُّؤْلُؤُ صغار الدرّ المخلوق في الأصداف. وَالْمَرْجانُ كبار الدرّ أو الخرز الأحمر. الْجَوارِ السفن، جمع جارية. الْمُنْشَآتُ المصنوعات المحدثات، أو الرافعات أشرعتها. كَالْأَعْلامِ كالجبال عظما وارتفاعا، جمع علم: وهو الجبل العالي الطويل. المناسبة: بعد تعداد أصول النعم على بني الإنسان وخلق العالم الكبير من السماء والأرض، أراد الله تعالى إيضاح أحوال بعضها، وهي أصل خلق الإنسان والجانّ وهو العالم الصغير، وبيان مشرق الشمس ومغربها وسلطانه عليهما، وعلى البحار وما فيها من لآلئ ومرجان، وما يسير على سطحها من مراكب عظيمة كالجبال، مما يدلّ على وحدانية الله وقدرته. التفسير والبيان: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ أي خلق الله تعالى أصل الإنسان من طين يابس يسمع له صلصلة، أي صوت إذا نقر، يشبه الفخار، أي الخزف: وهو الطين المطبوخ بالنار، للدلالة على صلابة الإنسان وتماسك أجزائه.

وقد تنوعت عبارات القرآن في بيان هذا، باعتبار مراتب الخلق: مِنْ تُرابٍ، مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي طين متغير، أو مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لاصق باليد، من صلصال، فهذا إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولا من التراب، ثم صار طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم لازبا، ثم كالفخار، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك، ومن ذلك. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ أي وأوجد الجنّ من طرف النار، وهو المارج، أي الشعلة الصاعدة ذات اللهب الشديد، التي لا لهب فيها، المختلط الألوان المضطرب، كالأصفر، والأحمر، والأخضر وغيرها. أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله يا معشر الثقلين: الإنس والجن تكذبان أو تنكران مما هو واقع ملموس؟! رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي ربّ مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، وربّ مغربي الشمس في الصيف والشتاء، وبهما تتكون الفصول الأربعة، وتختلف أحوال المناخ من برد وحرّ واعتدال، وغير ذلك من المنافع العظيمة للإنسان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟ وأما قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج 70/ 40] فذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس. وقوله سبحانه في آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل 73/ 9] ، فالمراد منه جنس المشارق والمغارب. ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس

قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ فالشمس تشرق صيفا من مدار السرطان في نصف الكرة الشمالي، ومن مدار الجدي في الجنوب صيفا، حيث يكون الشتاء في الشمال، فلو ثبتت الشمس في شروق وغروب واحد لتعطلت المواسم والزراعة في الصيف والشتاء. وبعد بيان نعم الله في البر، ذكر نعمه في البحر، فقال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ أي أرسل البحرين ملحا وعذبا متلاقيين، لا فصل بينهما في مرأى العين، ومع ذلك فبينهما حاجز يحجز بينهما، لا يبغي أحدهما على الآخر، بالامتزاج والاختلاط، وإنما يظلان منفصلين، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان 25/ 53] . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي هذه النعمة أو المنفعة تكذبان أيها الإنسان والجن؟ فالعذب للشرب وسقي النبات والحيوان، والملح لتطهير تجمع الماء من الجراثيم، وإصلاح طبقة الهواء، وإخراج اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي يخرج من أحدهما- على حذف مضاف- وهو الملح اللُّؤْلُؤُ: وهو الدّر الذي يتكون في الصدف، وَالْمَرْجانُ: الخرز الأحمر المعروف. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فبأي نعم الله الظاهرة لكم تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه، ولا يقدر على إنكاره. وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي والله الذي خلق وألهم صنع

فقه الحياة أو الأحكام:

السفن الجارية في البحر التي رفع بعض خشبها على بعض وركّب، ورفعت سواريها وأشرعتها في الهواء كالجبال الشاهقة، فهي تنتقل في البحار بالركاب والحمولات والبضائع والأقوات والأرزاق والآلات من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر، حتى بلغت حمولة بعض ناقلات النفط خمس مائة ألف طن، بالإضافة لحاملات الطائرات والبوارج الحربية المدمرة، والغواصات الذرية الرهيبة. ولو شاء تعالى لجعل البحر ساكنا ولما تمكنت السفن أن تطفو فوق الماء. فقوله: الْمُنْشَآتُ إما المرفوعات، وإما المحدثات الموجودات. وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال، وإن كانت المنشآت تطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة. وإنما قال: وَلَهُ الْجَوارِ خاصة، مع أن له السموات وما فيها والأرض وما عليها، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى، حيث لا تصرف لأحد في الفلك. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ لقد خلقت هذه النعمة العديدة لكم، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة، أو كيفية إجرائها في البحر، أو دورها في تقريب المسافات والاتصال بين أجزاء العالم المتباعدة، ونقل تجاراته وصناعاته، للاستفادة منها في أقاليم أخرى. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- إن أصل خلق الإنسان من تراب، ثم طين، فحمأ مسنون، ثم لازب، ومرد غذائه إلى التراب والماء، ومصيره في النهاية إلى الأرض التي خلق منها، ثم يخرج منها يوم البعث والمعاد. 2- وإن خلق أصل الجن من لهب النار، أو من الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد، المختلط بعضه ببعض: أحمر وأصفر وأخضر.

3- الله سبحانه ربّ المشرق والمغرب، وربّ المشرقين والمغربين في الصيف والشتاء، وربّ المشارق والمغارب، أي مطالع الشمس ومغاربها في كل يوم. 4- أرسل الله في البحار والمحيطات الكبرى البحرين: الملح والعذب، وجعل بينهما حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر، وتلك آية كبري على قدرة الله وعظمته. 5- أخرج الله للناس ومنافعهم من البحار المالحة اللؤلؤ والمرجان، كما أخرج من التراب الحبّ والعصف والريحان. وإنما قال: مِنْهُمَا وإنما يخرج ذلك من الملح لا العذب، لأن العرب تجمع الجنسين، ثم تخبر عن أحدهما، كقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام 6/ 130] ، وإنما الرسل من الإنس دون الجن، كما قال الكلبي وغيره. وقال الزجاج: قد ذكرهما الله، فإذا خرج من أحدهما شيء، فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 71/ 15- 16] والقمر في سماء الدنيا، ولكن أجمل ذكر السبع، فكأن ما في إحداهنّ فيهنّ. وقال أبو علي الفارسي كما تقدم: هذا من باب حذف المضاف، أي من أحدهما، كقوله تعالى: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 43/ 31] ، أي من إحدى القريتين. 6- لا يملك الفلك في البحر في الحقيقة أحد سوى الله، إذ لا تصرف لأحد فيها، لذا امتن الله تعالى على الناس في تسيير السفن في البحار، وأموال وأرواح ركابها في قبضة قدرة الله تعالى فوق الماء، كما هو الحال في إقلاع الطائرات في أعالي الفضاء فوق الهواء. والسفن في البحر كالجبال في البر، والطائرات في الجو كالطيور والشهب،

فناء النعم والكون كله وبقاء الله تعالى [سورة الرحمن (55) الآيات 26 إلى 30] :

ومن المعلوم أن الطائرات في الفضاء كالسفن في البحار تحمل مئات الأطنان. 7- أردف الله تعالى بعد كل نعمة قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ للتقرير بالنعم المختلفة المتعددة، والتوبيخ على التكذيب بها، كما تقدم بيانه، ومجمل المذكور هنا وما قبله: هل يستطيع أحد إنكار بدء خلق الإنسان والجن، وسلطان الله تعالى على المشرق والمغرب والشمس والقمر، والنجم والشجر، والزرع والحب، والأنهار والبحار، والدر والمرجان، وخلق مواد السفن، والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر، بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى. والإنسان وإن كان هو الصانع في الظاهر، ولكن صنعه بإلهام الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده. فناء النعم والكون كله وبقاء الله تعالى [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) البلاغة: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ مجاز مرسل، أي ذاته المقدسة، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. المفردات اللغوية: كُلُّ مَنْ عَلَيْها من على الأرض من إنسان وحيوان وموجودات ومصنوعات ومَنْ لتغليب العقلاء، أو المراد: من الثقلين: الإنس والجن، فالضمير على الصحيح يعود إلى الأرض. فانٍ هالك. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته. ذُو الْجَلالِ العظمة. وَالْإِكْرامِ الإفضال العام بأنعمه على المؤمنين. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما ذكرنا قبل، ومن الإخبار بالفناء الذي يعقبه البقاء والحياة الأبدية.

المناسبة:

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يطلبون منه صراحة أو بلسان الحال كل ما يحتاجون إليه من الحدوث والبقاء للذوات، والسعادة والرزق في الأحوال. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كل وقت هو في أمر من الأمور، يحدث أشخاصا، ويجدّد أحوالا على ما سبق به قضاؤه في الأزل، من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال، وإغناء وإعدام، وإجابة داع وإعطاء سائل، وغير ذلك. المناسبة: بعد تعداد النعم الدينية والدنيوية والأخروية، والاستدلال على قدرة الله وتوحيده في الأنفس والآفاق، نعى الحق سبحانه وتعالى الكون بأجمعه، وأخبر بأن جميع النعم الدنيوية والكائنات فانية، ولا يبقى إلا ذات الله تعالى. التفسير والبيان: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي جميع من على الأرض من الناس والحيوانات، وكذلك أهل السموات إلا من شاء الله، سيفنون ويموتون، وتنتهي حياتهم جميعا، ولا يبقى إلا ذات الله سبحانه ذو العظمة والكبرياء، والإفضال والإكرام الذي يكرم به المخلصين من عباده، وهذه الصفة (صفة الجلال والإكرام) من عظيم صفات الله، وأعظم النعمة مجيء وقت الجزاء عقب ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس: «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموا ذلك في الدعاء، ومرّ صلى الله عليه وسلم برجل، وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استجيب لك» . وفي الدعاء المأثور: يا حيّ يا قيّوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك. ونظير الآية: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص 28/ 88] قال ابن كثير: وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية

الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يجلّ فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف 18/ 28] وكقوله إخبارا عن المتصدقين: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الدهر 76/ 9] . وقال ابن عباس: ذو الجلال والإكرام: ذو العظمة والكبرياء «1» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن، فالناس والمخلوقات جميعا يتساوون كلهم في الوفاة، ثم يصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل، والفناء طريق للبقاء، والحياة الأبدية، فكان في الفناء نعمة التساوي في الموت، ونعمة تعاقب الأجيال، ونعمة العدل المطلق، ونعمة الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الخالدة الباقية دار الجزاء والثواب، ذات النعيم المادي والروحي الشامل، فكيف يكون منكم التكذيب بهذه النعم العظيمة؟! يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي يطلب منه جميع أهل السماء والأرض كل ما يحتاجون إليه، فيسأله أهل السموات المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا (المغفرة والرزق) وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة، فلا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، والمادة تحتاج إلى ما يناسبها، والنبات يحتاج إلى ما يبقيه، والإنسان بحاجة إلى مقومات الحياة المادية والمعنوية، والحيوان مفتقر إلى عناصر البقاء. وهذا إخبار عن غناه تعالى عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان الحال والمقال، وأنه سبحانه كل يوم ووقت في شأن، ومن شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويغني ويفقر، ويعزّ ويذلّ، ويمرض

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 273

فقه الحياة أو الأحكام:

ويشفي، ويعطي ويمنع، ويغفر ويعاقب، إلى غير ذلك مما لا يحصى. أخرج ابن جرير والطبراني وابن عساكر عن عبد الله بن منيب الأزدي قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: «أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان؟ فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها، ولا يتيسر لمكذّب تكذيبها. فقه الحياة أو الأحكام: أفادت الآيات ما يأتي: 1- الفناء أمر حتمي لجميع الخلائق في السموات والأرض يوم القيامة، والبقاء بعدئذ لله ذي العزة والجبروت، والعظمة والكبرياء، والتكريم عن كل شيء لا يليق به من الشرك وغيره، والإكرام لعباده المخلصين. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ.. قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فنزلت: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فأيقنت الملائكة بالهلاك. 2- يطلب أهل السموات والأرض جميع ما يحتاجون إليه، فيسأل أهل السموات المغفرة، ويسأله أهل الأرض المغفرة والرزق، والله كل يوم في أمر أو شأن، ومن شأنه أن يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويرزق ويمنع. روى البخاري في تاريخه وابن ماجه وابن حبان عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» .

الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة [سورة الرحمن (55) الآيات 31 إلى 36] :

3- لا مجال للتكذيب بشيء من نعم الله في التسوية بين الخلق في الموت والفناء، والانتقال إلى دار الجزاء والثواب، وإجابة دعائهم وتحقيق الخير والرزق والمغفرة لهم في الدنيا والآخرة. الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) الإعراب: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ نُحاسٌ بالرفع: معطوف على قوله شُواظٌ وقرئ بالجر، ولا يجوز عطفه على نارٍ لأن الشواظ لا يكون من النحاس، لأن النحاس هاهنا بمعنى الدخان، وإنما هو محمول على تقدير: شواظ من نار، وشيء من نحاس، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه. البلاغة: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ استعارة تمثيلية، شبه محاسبة الخلائق وجزاءهم يوم القيامة بالتفرغ للأمر، والله تعالى لا يشغله عن شأن، وإنما ذلك على سبيل المثال، إذ شبه تعالى ذاته في المجازاة بحال من فرغ للأمر. إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا.. فَانْفُذُوا الأمر هنا للتعجيز، فقوله فَانْفُذُوا أمر تعجيزي.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سَنَفْرُغُ لَكُمْ سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، أو سنقصدكم بالفعل وفيه تهديد. الثَّقَلانِ الإنس والجن. أَنْ تَنْفُذُوا إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض، هاربين من الله، فارّين من قضائه. أَقْطارِ جوانب جمع قطر. فَانْفُذُوا فاخرجوا، وهو أمر تعجيز. لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ. إِلَّا بِسُلْطانٍ بقوة وقهر. شُواظٌ لهب خالص لا دخان فيه. وَنُحاسٌ ودخان لا لهب. فيه. فَلا تَنْتَصِرانِ لا تمتنعان من ذلك العذاب، بل تساقون إلى المحشر. المناسبة: بعد بيان النعم التي أنعم الله بها على الإنسان من تعليم العلم وخلقه وخلق السماء والأرض وما أودع فيهما، والإخبار عن فنائها يوم القيامة، أخبر الله تعالى عن مجازاة الناس وحسابهم يوم القيامة، فيجازى كل عامل بما عمل، ويثاب على ما قدم من عمل صالح، ولا مناص ولا مهرب من العقاب، ولا من الامتناع منه. التفسير والبيان: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم، أيها الثقلان: الإنس والجن. وسموا الثّقلين، لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا. وهذا وعيد شديد من الله سبحانه للعباد، علما بأن الله لا يشغله شيء عن شيء. جاء في الصحيح تفسير الثقلين بما ذكر: «يسمعه كل شيء إلا الثقلين» وفي رواية: «إلا الإنس والجن» وفي حديث الصور: «الثقلان: الإنس والجن» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الثقلين؟ فإن من نعمه إنصاف الخلائق، بإثابة المحسنين، ومعاقبة المجرمين، فلا يظلم أحد شيئا.

ولا إفلات من هذا الجزاء، فقال تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فَانْفُذُوا، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي أيها الإنس والجن، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره، وأمره وسلطانه، فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم، لا تقدرون على التخلص والنفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، فلا يمكنكم الهرب. والمعشر: الجماعة العظيمة، والأدق أن المعشر: العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه. ونظير الآية: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ، جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس 10/ 27] . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان؟ ومن ذلك تقديم التنبيه والتحذير، فذلك يرغّب المحسن، ويرهب المسيء، والله قادر على عقاب الجميع، فلا يفلت أحد، كما أنه تعالى يعفو مع كمال القدرة، وتلك نعمة أخرى. وإنما جمع اسْتَطَعْتُمْ فهو لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى. يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ، وَنُحاسٌ، فَلا تَنْتَصِرانِ أي لو خرجتم يسلّط عليكم أيها الإنس والجن سيل من النار أو لهب خالص لا دخان معه من النار، ودخان مع النار، أو يصب على رؤوسكم نحاس مذاب، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. فالنحاس: إما الدخان الذي لا لهب له، أو النحاس المذاب الذي يصب على الرؤوس. وإنما ثنى ضمير عَلَيْكُما فهو لبيان الإرسال على النوعين، لا على كل واحد منهما، ولا على جميع الإنس والجن. وكذلك

فقه الحياة أو الأحكام:

تثنية فَلا تَنْتَصِرانِ أراد به النوعين أي لا ينصر بعضكم بعضا أيها الجن والإنس. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن، فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي، بإثابة الأول، والانتقام من الثاني من نعم الله سبحانه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لا بد من الحساب والجزاء على أعمال الناس والجن يوم القيامة، وسيتم القصد بالفعل للمجازاة أو المحاسبة. وهذا وعيد وتهديد من الله لعباده، ليحذروا يوم الحساب، ويرهبوا يوم الجزاء. 2- الحساب دليل واضح على أن الجن مخاطبون بالتكاليف الشرعية كالإنس تماما، فهم مكلفون مأمورون منهيون، مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك. 3- لا مفرّ ولا مهرب ولا مناص من الجزاء والحساب على أعمال الإنس والجن، ولا يملكون إطلاقا التخلص والهروب من العذاب إلا بسلطان من الله يجيرهم، وإلا فلا مجير لهم. والسبب في تقديم الجن على الإنس في هذه الآية: أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن. أما الإتيان بمثل القرآن فهو بالإنس أليق إن أمكن، لذا قدم الإنس على الجن في ذلك، في قوله تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء 17/ 88] .

تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة [سورة الرحمن (55) الآيات 37 إلى 45] :

4- لو خرجتم أيها الإنس والجن من ناحية ما، أرسل عليكم شواظ من نار (لهب خالص) ودخان أو نحاس مذاب يصب على رؤوسكم، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ أو الخروج، ولا ينصر بعضكم بعضا يا معشر الجن والإنس. 5- كيف يصح لأحد من الإنس والجن إنكار أو تكذيب شيء من هذه النعم؟ فإن الحساب حق والجزاء حق، يستهدف كل منهما إحقاق الحق التام، وإرسال العدل المطلق، والتخويف والتحذير أو الترهيب يحقق الزجر والامتناع من المخالفة والعصيان، والإذعان التام والإقرار بعظمة سلطان الله، وملكه وقدرته. تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) الإعراب: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ الجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل، وليس في فَيُؤْخَذُ ضمير يعود على المجرمين وإنما يقدر ضمير في رأي البصريين، أي يؤخذ منهم أو يؤخذ بنواصيهم وأقدامهم. ويرى الكوفيون أن الألف واللام يقومان مقام الضمير، مثل: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي أبوابها، وكقولهم: زيد أما المال فكثير، أي ماله. ويأتي البصريون ذلك، ويقدرون: مفتحة لهم الأبواب منها، وزيد أما المال فكثير له.

البلاغة:

البلاغة: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً.. تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي كالوردة في الحمرة. المفردات اللغوية: انْشَقَّتِ تصدعت. وَرْدَةً حمراء، أي كالوردة في الحمرة. كَالدِّهانِ مذابة كالدهن، أو كالأديم (الجلد) الأحمر، على خلاف ما هي عليه الآن، وجواب فَإِذَا محذوف تقديره: فما أعظم الهول. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي الناس والجن، وعدم المسؤولية حينما يخرجون من قبورهم، ويحشرون إلى الموقف. وأما قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر 15/ 92] ونحوه فهو حين الحساب في موقف الحشر. بِسِيماهُمْ علامتهم. بِالنَّواصِي جمع ناصية: وهي مقدّم الرأس. وَالْأَقْدامِ جمع قدم: وهي القدم المعروفة، ويؤخذ بهما مجموعا بينهما. يَطُوفُونَ يسعون. بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يترددون بين النار التي يحرقون بها، وبين ماء حارّ شديد الحرارة، يسقونه إذا استغاثوا من حرّ النار. المناسبة: هذه الآيات حلقة أخرى تتعلق بأحوال الآخرة والجزاء، فبعد أن ذكر الله تعالى رهبة الحساب وحتميته واستحالة التخلص منه أو الهرب من إيقاعه، ذكر تعالى ما يطرأ على العالم من تغير وتبدل واختلال النظام، حيث تتصدع السماء وتذوب كالدهن أو الزيت، ويتميز المجرمون عن غيرهم بعلامات خاصة، فلا حاجة لسؤالهم حينئذ، ثم يزجّ بهم في جهنم، بأخذهم بنواصيهم وأقدامهم، ويطاف بهم بين النار التي يحترقون بها، وبين الماء المغلي البالغ نهاية الشدة في الحرارة، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: هذه جهنم التي كذبتم بها. التفسير والبيان: عقب الله بقوله: فَإِذَا لأن الفاء للتعقيب، بعد قوله:

فَلا تَنْتَصِرانِ أي في وقت إرسال الشواظ عليكما، والمعنى: فإذا انشقت السماء وذابت، وصارت الأرض والجو والسماء كلها نارا، فكيف تنتصران؟ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ أي فإذا جاء يوم القيامة، انصدعت السماء، وتبددت وصارت كوردة حمراء، وذابت مثل الدهن، أو تلونت كالجلد الأحمر، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء، أو صفراء، أو زرقاء، أو خضراء، وذلك من شدة الأمر، وهول يوم القيامة. ونظائر الآية كثير، مثل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 84/ 1] ، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار 82/ 1] ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة 69/ 16] ، يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان 25/ 25] . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فإن الخبر بذلك فيه رهبة ورعب يزجر السامع عن الشرّ، وبأي نعم الله تكذبان مما يكون بعد ذلك؟ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي يوم تنشق السماء، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم، ولأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال، وحفظها على العباد. وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين، بل يعرفون بسيماهم. وهذا كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات 77/ 35- 36] ، ثم يسألون بعدئذ في حال أخرى يوم يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم في موقف الحساب، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا

كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر 15/ 92] ، وقال سبحانه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات 37/ 24] . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم، ومن هذا التخويف والإنذار المسبق، ليرتدع الناس عن الذنوب، ويثوبوا إلى رشدهم. ثم أبان الله تعالى سبب عدم السؤال، فقال: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ أي يعرف الكفار والفجار يوم خروجهم من القبور بعلاماتهم، وهي كونهم سود الوجوه، زرق العيون، يعلوهم الحزن والكآبة، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما، فتجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي، وتلقيهم الملائكة في النار. والناصية: مقدّم شعر الرأس. وإفراد فَيُؤْخَذُ مع أن المجرمين جمع، وهم المأخوذون، لأن فَيُؤْخَذُ متعلق بقوله تعالى: بِالنَّواصِي كما يقال: ذهب بزيد. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي النعم تتجرأان على تكذيبها، فقد أنذرتم وحذرتم مسبقا، وعرفتم المصير المنتظر في عالم الآخرة؟ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ها هنا إضمار، أي يقال لهم عند ذلك توبيخا وتأنيبا: هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها التي كنتم تكذبون بوجودها، وتنكرون حدوثها، ها هي حاضرة أمامكم ترونها عيانا. وهم تارة يعذبون في الجحيم للاحتراق، وتارة يسقون من الحميم: وهو الشراب أو الماء المغلي الشديد الحرارة، الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، كقوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي

فقه الحياة أو الأحكام:

الْحَمِيمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر 40/ 71- 72] ، وقوله سبحانه: ... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ.. [الحج 22/ 19- 21] . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي بأي النعم تكذبان بعد هذا البيان والإنذار والاعلام المسبق؟! فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن انشقاق أو تصدع السماء يحدث عقب إرسال الشواظ من النار، وإذا انصدعت السماء صارت في حمرة الورد وذوبان الدهن كالجلد الأحمر الصرف، فالتشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان، والتشبيه بالوردة في اللون. 2- إن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل الإنس والجن في وقت ولا يسألون في وقت آخر، فلا يسألون وقت خروجهم من القبور، وإذا استقروا في النار، ويسألون في موقف الحساب قبل الصيرورة إلى الجنة أو إلى النار. والمراد من السؤال على المشهور: أنهم لا يقال لهم: من المذنب منكم؟ 3- يتميز الكفار المجرمون والفجار عن المؤمنين بعلامات بارزة، فهم سود الوجوه، زرق العيون، تعلوهم الكآبة والحزن كما تقدم، وتأخذ الملائكة بنواصيهم (أي بشعور مقدم رؤوسهم) وأقدامهم، فيقذفونهم في النار. 4- يقال للمجرمين تقريعا وتوبيخا، وتصغيرا وتحقيرا: هذه النار التي أخبرتم بها، فكذبتم، ويعذبون مرة في الحميم (الشراب الشديد الحرارة جدا) ومرة في الجحيم (النار) . 5- امتن الله على عباده بقوله بعد كل نعمة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

أنواع نعم الله على المتقين في الآخرة:

لأن معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك. أنواع نعم الله على المتقين في الآخرة - 1- وصف الجنات [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) الإعراب: ذَواتا أَفْنانٍ ذَواتا تثنية (ذات) التي أصلها (ذوية) فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصارت (ذوات) إلا أنه حذفت الواو من الواحد للفرق بين الواحد والجمع. ودل عود الواو في التثنية على أصلها في الواحد. مُتَّكِئِينَ حال منصوب من المجرور باللام في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ أي ثبت لهم جنتان في هذه الحال، أو عامله محذوف أي يتنعمون.

البلاغة:

كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ: في موضع نصب على الحال من قاصِراتُ الطَّرْفِ وتقديره: فيهن قاصرات الطرف مشبهات الياقوت والمرجان. البلاغة: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ جناس ناقص أو جناس الاشتقاق، لتغير الشكل والحروف. فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إيجاز بحذف الموصوف وإبقاء الصفة، أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. المفردات اللغوية: لِمَنْ خافَ لكل من خاف، بأن كفّ عن المعاصي واتبع الطاعات، والأصل في الخوف: توقع مكروه في المستقبل، وهو ضد الأمن. مَقامَ رَبِّهِ قيامه بين يدي ربه للحساب، فترك معصيته، أي خاف الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، أو قيامه على أحواله واطلاعه عليه. جَنَّتانِ روحانية وجسمانية. أَفْنانٍ أغصان جمع فنن كطلل، أو أنواع من الأشجار والثمار، جمع فنّ. فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل، قيل: إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل. فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ من كل نوع من أنواع الفاكهة. زَوْجانِ صنفان أو نوعان: رطب ويابس. فُرُشٍ جمع فراش للنوم والراحة. بَطائِنُها جمع بطانة وهي القماش الرقيق الداخلي. إِسْتَبْرَقٍ ما غلظ من الديباج وخشن، أي الحرير الثخين، والظهائر: من السندس. وَجَنَى ثمر. دانٍ قريب التناول، يناله القائم والقاعد والمضطجع. فِيهِنَّ أي في الجنتين وما اشتملتا عليه من الفرش والقصور والعلالي والحور ونحوها أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) . قاصِراتُ الطَّرْفِ أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن، لا ينظرن إلى غيرهم، وهن من الحور أو من نساء الدنيا. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يمسسهن أو لم يفتضهن، وفيه دليل على أن الجن يطمثون. إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ لا من الإنس ولا من الجن. كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ في صفاء الياقوت أو في حمرة الوجه، والياقوت: الحجر الأملس الصافي المعروف. (والمرجان) هو الخرز الأحمر، أو صغار اللؤلؤ والدر في بياض البشرة وصفائها، وتخصيص الصغار لأنهن أنصع بياضا من الكبار. هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل. إِلَّا الْإِحْسانُ في الثواب، وهو الجنة.

سبب النزول نزول الآية (46) :

سبب النزول: نزول الآية (46) : وَلِمَنْ خافَ..: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة عن عطاء: أن أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم القيامة والموازين والجنة والنار، فقال: وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر، تأتي علي بهيمة تأكلني، وأني لم أخلق، فنزلت: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى ما يلقاه المجرمون: المشركون وأمثالهم من الكفار والفجار العصاة من ألوان العذاب الأخروي، ذكر هنا ما أعدّه الله عز وجل للمؤمنين المتقين الذين يخافون ربهم في السر والعلن من أنواع النعيم الروحي والمادي في الجنة، من قصور، ورياض غنّاء، وبساتين خضراء، وأنهار جارية، وفواكه متنوعة، وفرش حريرية، ونساء حسان كالياقوت صفاء، واللؤلؤ أو الدر بياضا، بسبب ما قدموا من صالح الأعمال. والخلاصة: أنه لما ذكر أحوال أهل النار، ذكر ما أعدّ للأبرار. التفسير والبيان: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي ولمن خشي الله وراقبه، فهاب الموقف الذي يقف فيه العباد بين يدي الله للحساب، وحسب الحساب لإشراف الله تعالى على أحواله، واطلاعه على أفعاله وأقواله جنتان: روحية وجسمانية، أما الروحية فهي رضا الله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] وأما الجسمانية فهي متع مادية كمتاع الدنيا وأسمى، بسبب أعماله

الصالحة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان، فإن نعيم الجنان لا مثيل له، فضلا عن الخلود والدوام فيه، ولا مانع أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة. والصحيح- كما قال ابن عباس وغيره- أن هذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا. أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي موسى الأشعري قال: «جنان الفردوس أربع جنات: جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء، على وجهه، في جنة عدن» . وأخرج ابن جرير والنسائي عن أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: «وإن رغم أنف أبي الدرداء» . ثم وصف هاتين الجنتين، فقال: ذَواتا أَفْنانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي ذواتا أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، أو ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس، فإن هذا الجمال وهذه النعمة لمما يحرص عليها العقلاء. فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، فهما عينان تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل. فبأي نعم الله يحدث التكذيب؟ فتلك حقيقة قطعية، ونعمة عظيمة.

فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في الجنتين من كل نوع يتفكه به ومن جميع أنواع الثمار صنفان ونوعان، يستلذ بكل نوع منهما، أحدهما رطب والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي شيء من هذه النعم تكذبان يا إنس ويا جن؟ قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني أن بين ذلك بونا عظيما، وفرقا واضحا. وبعد ذكر الطعام ذكر الفراش، فقال: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي إن أهل الجنة يضطجعون ويجلسون ويتنعمون على فرش بطائنها (وهي التي تحت الظهائر) من إستبرق (وهو ما غلظ من الديباج، أو الديباج الثخين) قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] . وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وثمر الجنتين قريب التناول منهم متى شاؤوا وعلى أي صفة كانوا، كما قال تعالى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة 69/ 23] وقال سبحانه: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [الإنسان 76/ 14] أي لا تمتنع ممن تناولها، بل تميل إليه من أغصانها. فبأي شيء من هذه النعم يحصل التكذيب والإنكار؟! ثم ذكر تعالى أوصاف الحور والنساء، فقال: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

تُكَذِّبانِ أي هناك نساء في الجنتين المذكورتين وما فيهما من أنهار وعيون وفرش وغيرها، أو في هذه الآلاء (النعم) المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) أو في الجنان، لأن ذكر الجنتين يدل عليه، ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات، وهن نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لم يمسسهن ولم يفتضهن ولم يجامعهن قبلهم أحد من الإنس والجن، لأنهن خلقن في الجنة، فبأي النعم تكذبان أيها الثقلان؟! والطمث: الافتضاض. ثم نعت (وصف) النساء بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي كأن تلك النسوة الياقوت صفاء، وصغار اللؤلؤ بياضا، فبأي نعمة تكذبان؟ والياقوت: هو الحجر الصافي الكريم المعروف، والمرجان: حجر يؤخذ من البحر، وهو الأحمر المعروف. قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان. فجعلوا المرجان هنا اللؤلؤ. أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب درّي في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أغرب» . ثم بيّن الله تعالى سبب هذا الثواب فقال: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فهاتان الجنتان لأهل الإيمان وصالح الأعمال، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] .

فقه الحياة أو الأحكام:

أخرج البغوي والبيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» . وبما أن الذي ذكر هنا نعم عظيمة لا يقابلها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال تعالى بعد ذلك: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- لكل من خاف المقام بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية، أو خاف إشراف ربه واطلاعه عليه جنتان، أي لكل خائف جنتان على حدة، ذكر المهدوي والثعلبي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنتان: بستانان في عرض الجنة، كل بستان مسيرة مائة عام، في وسط كل بستان دار من نور، وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت، وشجرها ثابت» . 2- تلك الجنتان: ذواتا ألوان من الفاكهة والأغصان والأشجار والثمار، وفي كل واحدة منهما عين جارية، تجريان بالماء الزلال، إحدى العينين: التسنيم، والأخرى السلسبيل، كما تقدم من قول الحسن. وفيهما أيضا من كل ما يتفكه به صنفان أو نوعان، وكلاهما حلو يستلذ به، قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وثمر الجنة (الجنى) قريب التناول لكل إنسان، خلافا لجنة دار الدنيا. 3- أهل الجنة يضطجعون ويجلسون على فرش بطائنها (جمع بطانة: وهي

التي تحت الظهارة) من إستبرق (ما غلظ من الديباج وخشن) وإذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة؟ كما قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهذا يدل على نهاية شرفها، وتمتع أهلها بالثواب والنعيم العظيم. والظاهر أن لكل واحد فرشا كثيرة، لا أن لكل واحد فراشا واحدا. والاتكاء يدل على صحة الجسم وفراغ القلب والشعور بالمتعة والسرور البالغ. 4- في الجنات وما فيها من ألوان النعمة نساء قاصرات الأبصار على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، بكارى، لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد. 5- في قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة، ويكون لهم فيها جنيّات، ودليل على أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، والطمث: الافتضاض أو الجماع، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزّهن. قال ضمرة: للمؤمنين من الجن أزواج من الحور العين، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن. 6- من أوصاف تلك النساء: أنهن في صفاء الياقوت وبياض المرجان. روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلّة، حتى يرى مخّها» وذلك بأن الله تعالى يقول: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ. والياقوت كما تقدم: حجر أملس شديد الصفاء. والمرجان: صغار الدر أو اللؤلؤ. 7- ترتيب النعم في غاية الحسن، فإن الله تعالى ذكر أولا المسكن وهو الجنة، ثم بيّن ما يتنزه به من البساتين، فقال: ذَواتا أَفْنانٍ، ... فِيهِما عَيْنانِ ... ثم ذكر ما يتناول من المأكول، فقال: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه من الحوريات.

- 2 - وصف آخر للجنات [سورة الرحمن (55) الآيات 62 إلى 78] :

8- أردف الله تعالى كل نعمة بتوبيخ من ينكرها أو يكذب بها، ومنها نعم تقابل بعمل، ونعم هي مجرد فضل وامتنان دون مقابلة عمل. 9- هذه النعم في الغالب جزاء أو ثواب العمل الصالح في الدنيا، وهل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة؟ وآية هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ.. فيها دلالات واضحة ثلاث: هي ما يأتي: الأولى- رفع التكليف عن العوام والخواص في الآخرة، وأما الحمد والشكر فهو لذة زائدة على كل لذة سواها. الثانية- إن العبد محكّم في أحوال نعيم الآخرة، كما قال تعالى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس 36/ 57] . الثالثة- كل ما يتخيله الإنسان من أنواع الإحسان الإلهي، فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به، لأن عطاء الكريم لا يحد ولا يوصف، فالذي يعطي الله فوق ما يرجو العبد، وذلك على وفق كرمه وإفضاله. - 2- وصف آخر للجنات [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)

الإعراب:

الإعراب: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ولهم من دونهما جنتان، فحذف «لهم» لدلالة الكلام عليه تخفيفا. فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ خَيْراتٌ: أصله: خيرات بالتشديد، وقد قرئ به على الأصل، إلا أنه خفف كتخفيف شيد وهين وميت. مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ حال، ورَفْرَفٍ وهي الوسائد: إما اسم جمع، كقوم ورهط، ولهذا وصف ب خُضْرٍ وهو جمع أخضر، كقولك: قوم كرام، ورهط لئام. أو مع «رفرفة» مثل عبقري جمع عبقرية. وعَبْقَرِيٍّ: منسوب إلى عبقر: وهو اسم موضع ينسج به الوشي الحسن، وجمع عبقر: عباقر، ومن قرأ «عباقريّ» فلا يصح أن ينسب إليه وهو جمع، لأن النسب إلى الجمع يوجب ردّه إلى الواحد، إلا أن يسمع بالجمع، فيجوز أن ينسب إليه على لفظه كمعافريّ وأنماريّ، ولا يعلم أن عباقر: اسم لموضع مخصوص بعينه. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ يقرأ «ذو الجلال» وصف للاسم، ويقرأ بالجر على أنه وصف ل رَبِّكَ. المفردات اللغوية: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ومن دون الجنتين المذكورتين الموعودتين للخائفين المقرّبين، أي ورائهما جنتان أقل منهما. مُدْهامَّتانِ شديدتا الخضرة من كثرة الري والعناية، كأنهما سوداوان، والدهمة في اللغة: السواد. ضَّاخَتانِ فوارتان بالماء. فِيهِما فاكِهَةٌ، وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، وثمرة الرمان فاكهة ودواء، كما قال البيضاوي: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ في الجنتين وما فيهما أو في الجنان نساء خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، وخيرات مخففة كقوله صلى الله عليه وسلم: «هينون لينون» . حُورٌ جمع حوراء: بيضاء، شديدة سواد العين وبياضها. مَقْصُوراتٌ مخدّرات مستورات. فِي الْخِيامِ جمع خيمة: وهي التي تنصب على أعواد أربعة وتسقف بنبات الأرض، وأما الخباء: فهو ما يتخذ من شعر أو وبر. وخيام الجنة شبيهة بالخدور، مصنوعة من الدّر. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يفتضهن أو يجامعهن.

المناسبة:

رَفْرَفٍ وسائد، جمع رفرفة. وَعَبْقَرِيٍّ طنافس منقوشة عجيبة الوشي نادرة. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تقدس وتنزه اسم الله الذي يطلق على ذاته. ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي ذي العظمة والكبرياء، أو ذي العظمة والتكريم عن كل ما لا يليق به، أو الإفضال والإنعام على عباده. المناسبة: ذكر الله تعالى في الآيات السابقة بعض أوصاف الجنة التي هي ثواب المتقين الخائفين ربهم، ثم أردفه بأوصاف أخرى للجنة، مبينا أولا أن ثواب الخائفين جنتان، وثواب آخر مثله وهو جنتان أخريان. التفسير والبيان: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُدْهامَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي وهناك جنتان أخريان للخائفين، أو هناك جنتان أخريان، دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة، لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة، تقدم في الحديث: جنتان من ذهب آنيتهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقرّبين، والأخريان لأصحاب اليمين. وفي الجنتين السابقتين أشجار وفواكه وغير ذلك، وكذا هاتان الجنتان خضراوان، فهما من شدة خضرتهما سوداوان في رأي العين، من شدة الري المائي. وقد فسر ابن عباس وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما من الصحابة والتابعين قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ بأنهما خضراوان، وذلك مروي في حديث عن أبي أيوب أخرجه الطبراني وابن مردويه. فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فالجنتان في غاية المتعة والنضرة والخضرة، ولكنهما دون الجنتين المتقدمتين في الرتبة والفضيلة، فهناك جنتان ذواتا أفنان، أي أغصان وأشجار وفواكه، وهنا جنتان خضراوان. فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في الجنتين عينان

فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنتان تجريان، وهنا جنتان فوّارتان، والجري أقوى من النضخ، قال البراء بن عازب: العينان اللتان تجريان خير من النضاختين. فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن؟ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في هاتين الجنتين فاكهة كثيرة متنوعة، ومنها ثمر النخيل والرمان، وإفرادهما بالذكر من بين سائر الفواكه ليس من عطف الخاص على العام كما ذكر البخاري وغيره، وإنما لمزيد حسنهما، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه، ولشرفهما على غيرهما، لدوامهما وكونهما غذاء ودواء، ولوجودهما في الخريف والشتاء. وقد قال هناك: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وقال هنا: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع، من قوله: فاكِهَةٌ فهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم. فبأي نعم الله تكذبان يا إنس ويا جن، فإن هذه النعم تستحق الحمد والشكر. فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في هاتين الجنتين نساء حسان الخلق والخلق، أو هن ذوات فضل، خيّرات فاضلات الأخلاق، حسان الوجوه، فالخيّرات جمع خيّرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق، الحسنة الوجه، وهو قول الجمهور، بدليل ما روى الحسن عن أم سلمة قالت: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ؟ قال: خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه» وفي حديث آخر أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام. وقال قتادة: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة.

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي إن هؤلاء النساء الخيرات حور شديدات البياض، وفي عيونهن حور، أي واسعات الأعين، مع صفاء البياض، مخدرات محجبات مستورات في خيام الجنة المكونة من الدرّ المجوفة، فلسن مترددات في الشوارع والطرقات. وقد وصفت نساء الجنتين هناك بأنهن قاصِراتُ الطَّرْفِ فهن أعلى منزلة من هؤلاء المذكورات في هذه الآية: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ لأنه لا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، وإن كان الجميع مخدرات. والعرب يمدحون ويؤثرون النساء الملازمات للبيوت، لتوافر الصون، فبأي نعم الله هذه ونحوها تكذبان؟! لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي لم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟! وقد زاد في وصف نساء الجنتين السابقتين بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي وهم في الجنة متكئون مستندون على وسائد خضراء، وبسط منقوشة بديعة فاخرة متقنة الصنع، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! وقد وصف الله مرافق الجنتين الأوليين بما هو أرفع وأولى من هذه الصفة، فإنه تعالى قال هناك: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. وختمت الصفات المتقدمة بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى مراتب العبادة. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي تقدس وتنزه الله صاحب العزة والعظمة والتكريم على ما أنعم به على عباده المخلصين، فهو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.

فقه الحياة أو الأحكام:

ويلاحظ أنه قال سابقا بعد ذكر نعم الدنيا: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ للإشارة إلى فناء كل شيء من الممكنات، وقال بعد ذكر نعم الآخرة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ للإشارة إلى بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله متلذذين به. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- هناك أربع جنان ذات منازل مختلفة لمن خاف مقام ربّه، فجنتان للمقربين، ودونهما في المكان والفضل جنتان لأصحاب اليمين، كما قال ابن زيد، وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقرّبين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وعَيْنانِ تَجْرِيانِ وجنتان لأصحاب اليمين فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ويهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ . وقد ذكرت ما رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة، أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، أبنيتهما وما فيهما» . 2- لما وصف الله الجنتين لكل فريق أشار إلى الفرق بينهما: أولا- فقال في الأوليين: ذَواتا أَفْنانٍ أي ذواتا ألوان من الفاكهة، وقال في الأخريين: مُدْهامَّتانِ مخضرتان في غاية الخضرة من الري. ثانيا- وقال في الأوليين: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ وفي الأخريين: هِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوّارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري. ثالثا- وقال في الأوليين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فعمّ ولم يخص، وفي الأخريين: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولم يقل: من كل فاكهة. قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف

على نفسه، إنما يعطف على غيره، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة 2/ 238] ، وقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة 2/ 98] . وبناء على الرأي الأول قال أبو حنيفة: من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمّانا أو رطبا، لم يحنث. وخالفه صاحبه والجمهور. رابعا- وقال في الأوليين: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ... وفي الأخريين: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ يعني النساء، الواحدة خيرة، على معنى ذوات خير، وقرئ «خيّرات» والتي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، كما تقدم. ووصفت الأوليان بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ. ويلاحظ أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور: فِيهِنَّ وفي سائر المواضع: فِيهِما والسرّ في ذلك الإشارة إلى أن لكل حورية مسكنا على حدة، متباعدا عن مسكن الأخرى، متسعا يليق بالحال، وهذا ألذ وأمتع وأهنا للرجل الواحد عند تعدد النساء، فيحصل هناك متنزهات كثيرة، كل منها جنة، وكأن في ضمير الجمع إشارة لذلك. أما العيون والفواكه فلا حاجة فيها لهذا الاستقلال، فاكتفى فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط. وهل الحور أكثر حسنا وأبهر جمالا من الآدميات؟ قيل: الحور، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة، ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه على الميت في الجنازة: «وأبدله زوجا خيرا من زوجه» . وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، لحديث روي مرفوعا «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 17/ 187 وما بعدها.

والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هنّ مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات. خامسا- وقال في الأوليين: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.. وفي الأخريين: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ويلاحظ أن الوصف الأول أرفع وأفخم. 3- كرر الله تعالى في هذه السورة قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه، وذكر المبدأ والمعاد، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها، استحق كلتا الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة. 4- نزّه الله تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله، وختم السورة به، والاسم (اسم الجلالة) مقحم على المشهور للتبرك والتعظيم كالوجه في قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ، وهذا لتعليم العباد بأن كل ما ذكر من آلاء ونعم من فضله ورحمته، وأن من عدله تعذيب العاصين، وإثابة الطائعين، فإنه افتتح السورة باسم الرَّحْمنُ فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيهم، ثم قال في آخر السورة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلم عباده أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله من اسم الرحمن.

سورة الواقعة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الواقعة مكيّة، وهي ست وتسعون آية. تسميتها: سميت سورة الواقعة، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا قامت القيامة التي لا بدّ من وقوعها. مناسبتها لما قبلها: تتصل هذه السورة بسورة الرحمن، وتتآخى معها من وجوه: 1- في كل من السورتين وصف القيامة والجنة والنار. 2- ذكر تعالى في سورة الرحمن أحوال المجرمين وأحوال المتقين في الآخرة وبيّن أوصاف عذاب الأولين في النار، وأوصاف نعيم الآخرين في الجنان، وفي هذه السورة أيضا ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف: هم أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، فتلك السورة لإظهار الرحمة، وهذه السورة لإظهار الرهبة، على عكس تلك السورة مع ما قبلها. 3- ذكر تعالى في سورة الرحمن انشقاق السماء (تصدعها) وذكر هنا رجّ الأرض، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما في الموضوع سورة واحدة، ولكن مع عكس الترتيب، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك.

ما اشتملت عليه السورة:

فافتتح سورة الرحمن بذكر القرآن ثم الشمس والقمر، ثم النبات، ثم خلق الإنسان والجان من نار، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وابتدئت هذه السورة بوصف القيامة وأهوالها، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم النجوم التي لم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم القرآن، فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك. ما اشتملت عليه السورة: ابتدأت السورة بالحديث عن اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة، ثم صنفت الناس عند الحساب أقساما ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقين، وأخبرت عن مآل كل فريق وما أعده الله لهم من الجزاء العادل يوم القيامة. وأوضحت أن الأولين والآخرين من الخلائق مجتمعون في هذا اليوم. ثم أقامت الأدلة على وجود الله الخالق ووحدانيته وكمال قدرته، وإثبات البعث والنشور والحساب، من خلق الإنسان، وإخراج النبات، وإنزال الماء، وخلق قوة الإحراق في النار. ثم أقسم الله عزّ وجلّ بمنازل النجوم على صدق تنزيل القرآن من ربّ العالمين، وأنه كان في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، وندد بالتشكيك في صحته وصدقه. ولفت الله تعالى النظر إلى ما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال. وختمت السورة ببيان عاقبة الطوائف الثلاث وما يجدونه من جزاء، وهم المقرّبون الأبرار، السابقون إلى خيرات الجنان، وأهل اليمين السعداء، والمكذّبون الضالون أهل الشقاوة، وأن هذا الجزاء حق ثابت متيقن لا شك فيه.

فضلها:

وكل ذلك يستدعي الإقرار بوجود الخالق وتنزيهه عما لا يليق به من الشرك ونحوه، وتوبيخ المكذبين على إنكار وجود الله تعالى وتوحيده. فضلها: وردت أحاديث في فضل هذه السورة منها: 1- أخرج الحافظ أبو يعلى وابن عساكر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا» وفي رواية: «في كل ليلة» . 2- أخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سورة الواقعة سورة الغنى، فاقرؤوها، وعلّموها أولادكم» وأخرج الديلمي عنه مرفوعا: «علّموا نساءكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى» . 3- أخرج الإمام أحمد عن جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور. 4- أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبت قال: «شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يَتَساءَلُونَ، وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» وقال: حسن غريب. 5- أخرج الثعلبي وابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي

قيام القيامة وأصناف الناس [سورة الواقعة (56) الآيات 1 إلى 12] :

الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا» . قيام القيامة وأصناف الناس [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) الإعراب: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذا: في موضع نصب إما ب وَقَعَتِ لأن إِذا فيها معنى الشرط، فجاز أن يعمل فيها الفعل الذي بعدها، وإما أن العامل فيه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي وقوع الواقعة وقت رج الأرض، وإما العامل: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي ليس لوقعتها كذب، وكاذِبَةٌ بمعنى كذب، كالعاقبة والعافية، وإما العامل فعل مقدر، أي اذكر. خافِضَةٌ رافِعَةٌ خبر لمبتدأ محذوف، أي فهي خافضة رافعة، وهي جواب إِذا ويقرأ بالنصب على الحال من الواقعة، أي وقعت الواقعة في حالة الخفض والرفع. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا بدل من قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ قيل: هو جواب إِذا وهو مبتدأ. وما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ: مبتدأ وخبر، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، والعائد فيها محذوف: أي: «ما هم» . وكذلك قوله: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والاستفهام في هذين الموضعين معناه التعجب والتعظيم. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ السَّابِقُونَ الأول: مبتدأ، والثاني: صفة،

البلاغة:

وأُولئِكَ مبتدأ ثان، والْمُقَرَّبُونَ خبره. والأحسن أن يقال: السَّابِقُونَ مبتدأ، والثاني: خبر، وجملة أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ استئناف بياني. البلاغة: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ جناس اشتقاق. الْمَيْمَنَةِ.. والْمَشْئَمَةِ بينهما طباق، وكذا بين خافِضَةٌ رافِعَةٌ وإسناد الخفض والرفع إلى القيامة مجاز عقلي، لأن الخافض الرافع على الحقيقة هو الله وحده، ونسب إلى القيامة مجازا، مثل «نهاره صائم» . المفردات اللغوية: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة، سماها واقعة لتحقق وقوعها. لَيْسَ لِوَقْعَتِها لوقوعها. كاذِبَةٌ كذب، أو نفس كاذبة، بأن تنفيها حين تقع كما تكذب الآن في الدنيا. خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض قوما وترفع آخرين، بدخولهم النار ودخولهم الجنة، وهو تقرير لعظمتها، فإن الوقائع العظام تميز بين الناس. رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا زلزلت وحركت تحريكا شديدا يؤدي إلى سقوط البناء والجبال وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فتتت وصارت كالسويق الملتوت، يقال: بسّ فلان السويق، أي لته هَباءً غبارا. مُنْبَثًّا متفرقا منتشرا. وَكُنْتُمْ في القيامة. أَزْواجاً أصنافا، وكل ما يذكر مع صنف آخر: زوج، وكل قرينين ذكر وأنثى: زوج. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أهل اليمين، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة، فهم أصحاب المنزلة السنية. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أهل الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تحقير لشأنهم بدخول النار، فهم أصحاب المنزلة الدنية. وَالسَّابِقُونَ هم الذين سبقوا إلى الخير في الدنيا، وهم الأنبياء. السَّابِقُونَ تأكيد، لتعظيم شأنهم، لأنهم سبقوا إلى الإيمان والطاعة من غير توان. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قرّبت درجاتهم، وأعليت مراتبهم في الجنة، فهم أهل الحظوة والكرامة عند ربهم. التفسير والبيان: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي إذا قامت القيامة، ليس

لوقوعها صارف ولا دافع، ولا بد أن تكون، ولا يكون عند وقوعها تكذيب أصلا، ولا توجد نفس كاذبة منكرة لها كما كان الحال في الدنيا. والواقعة: اسم للقيامة كالآزفة والحاقة وغيرها، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما جاء في آية أخرى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة 69/ 15] . وقوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة. خافِضَةٌ رافِعَةٌ تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، فتجعلهم في الجحيم، وهم الكفرة والفسقة، وترفع أقواما كانوا في الدنيا مغمورين، فتجعلهم في الجنة، وهم أهل الإيمان، لأن شأن الوقائع العظيمة إحداث تغيرات في موازين المجتمع، فترفع وتخفض. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي إذا زلزلت وحركت الأرض تحريكا شديدا، فتهتز وترتج وتضطرب، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال. وهذا كقوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزال 99/ 1] وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج 22/ 1] . وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت الجبال فتا، وصارت كما قال تعالى: كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل 73/ 14] . فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي صارت غبارا متفرقا منتشرا، كالهباء الذي يطير من النار، أو الذي ذرته الريح وبثته. وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها، وصيرورتها كالعهن المنفوش، بسبب نسفها من ربك. وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي وأصبحتم يوم القيامة منقسمين إلى ثلاثة أصناف: أهل اليمين أصحاب الجنة، وأهل اليسار أهل النار، والسابقون بين يدي الله عز وجل المقربون: وهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء.

ثم أوضح هذه الأصناف بقوله: 1- فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي وأصحاب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذون إلى الجنة، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم!! وقوله: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. والفاء: تدل على التفسير، وبيان مورد التقسيم. وابتدأ بأهل اليمين ثم بأهل الشمال للترغيب بالثواب والترهيب بالعقاب، بعد التخويف من الواقعة. 2- وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي وأصحاب الشمال الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!! أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فقبض بيده قبضتين، فقال: «هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي» . 3- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة وأعمال البر، وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام والشهداء والصدّيقون والقضاة العدول، هم السابقون إلى رحمة الله، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم. والإشارة بقوله: أُولئِكَ لعلو درجتهم، ورفعة مكانتهم. أخرج الإمام أحمد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وقوع القيامة أمر حتمي وحق ثابت لا ريب فيه، لا يستطيع أحد تكذيبه عند حدوثه كما كان يحصل في الدنيا، ولا يملك أحد أن يرده أو يدفعه. 2- القيامة ترفع أقواما وهم أولياء الله إلى الجنة، وتخفض آخرين وهم أعداء الله إلى النار، لأن الوقائع الجسام تؤدي إلى التغيير الاجتماعي في تركيب المجتمع، فيعزّ قوم، ويذل آخرون. 3- إذا وقعت الساعة، زلزلت الأرض وحركت واضطربت، ودمرت من عليها وما فوقها من المباني والقصور والجبال، وتفتّتت الجبال، وأصبحت غبارا منتشرا متفرقا، وزالت من أماكنها. 4- يكون الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، والأولون أصحاب الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ويعطون كتبهم بأيمانهم، وأصحاب المشأمة: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ويعطون كتبهم بشمائلهم، والسابقون: الأنبياء والمرسلون والمجاهدون والحكام العدول الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة والقضاء بالحق، وهم المقربون بين يدي الله تعالى. وقسمة الخلق إلى ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، فلم يجعل الله سبحانه قسما رابعا وهم المتخلفون المؤخرون عن أصحاب الشمال، لشدة الغضب عليهم، في مقابل المقربين. وهذه القسمة كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر 35/ 32] ولم يقل: منهم متخلف عن الكل.

أنواع نعيم السابقين [سورة الواقعة (56) الآيات 13 إلى 26] :

أنواع نعيم السابقين [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) الإعراب: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ثُلَّةٌ: إما مبتدأ مؤخر، وخبره: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ المتقدم عليه، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلة. وقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ: معطوف عليه، وعَلى سُرُرٍ: خبر ثان، ومُتَّكِئِينَ ومُتَقابِلِينَ حال من ضميره عَلى سُرُرٍ. وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ حُورٌ: على تقدير: ولهم حور، جمع أحور وحوراء، ويقرأ بالنصب على تقدير: ويعطى حورا، وبالجر بالعطف على ما قبله: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ. وعِينٌ: جمع أعين وعيناء، وكان قياسا أن يجمع على فعل بضم الفاء، إلا أنها كسرت، لأن العين ياء. وجَزاءً: إما مصدر مؤكد لما قبله، أو مفعول لأجله. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قِيلًا: منصوب على الاستثناء المنقطع، أو منصوب ب يَسْمَعُونَ. وسَلاماً منصوب بالقول، أو مصدر، أي يتداعون فيها، وسلمك الله سلاما، أو وصف ل (قيل) . البلاغة: الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ بينهما طباق. وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه.

المفردات اللغوية:

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً تأكيد المدح بما يشبه الذم، لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم، ثم أثنى عليهم بإفشاء السلام. المفردات اللغوية: ثُلَّةٌ جماعة كثيرة أو قليلة. مِنَ الْأَوَّلِينَ من الأمم الماضية. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» «1» لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه الأمة أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما. مَوْضُونَةٍ منسوجة بإحكام، أو بقضبان الذهب والجواهر. وِلْدانٌ صبيان جمع ولد. مُخَلَّدُونَ باقون على صفتهم أبدا، لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ آنية لا عرى لها ولا خراطيم، جمع كوب. وَأَبارِيقَ أوان لها عرى وخراطيم، جمع إبريق. وَكَأْسٍ إناء شرب الخمر. مِنْ مَعِينٍ أي من خمر جارية من منبع لا ينقطع أبدا. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا يحصل لهم منها صداع كما يحدث ذلك من خمر الدنيا. وَلا يُنْزِفُونَ ولا تذهب عقولهم بالسكر منها، بخلاف خمر الدنيا، ويقرأ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: إذا ذهب عقله، ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. يَتَخَيَّرُونَ يختارون ويرضون. وَحُورٌ عِينٌ أي ولهم حور أي نساء شديدات سواد العيون وبياضها، جمع حوراء وأحور، وعِينٌ ضخام الأعين واسعات، حسان، جمع أعين وعيناء. الْمَكْنُونِ المصون أو المستور الذي لم تمسه الأيدي، فهو مصون عما يضرّ به في الصفاء والنقاء. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم. لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة. لَغْواً فاحشا أو ساقطا من القول. وَلا تَأْثِيماً ما يؤثم. إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً أي لكن قولا: سلاما سلاما أي يقولون: سلّمك الله سلاما. وتكرار سَلاماً للدلالة على فشّو السلام بينهم. سبب النزول: نزول الآية (13 و39) : ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ..: أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ

_ (1) تفسير الألوسي: 27/ 134

المناسبة:

شق ذلك على المسلمين، فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند فيه نظر، من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: «لما نزلت إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وذكر فيها ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ بكى عمر، وقال: يا رسول الله، آمنا بك، وصدقناك، ومع هذا كله، من ينجو منا قليل، فأنزل الله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، فقال: يا عمر بن الخطاب، قد أنزل الله فيما قلت، فجعل ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، فقال عمر: رضينا عن ربنا وتصديق نبينا» . والخلاصة: أن كلتا الروايتين مشكوك فيهما. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى الصنف الثالث من الناس يوم القيامة، وهم السابقون، ذكر ما يتمتعون به من أنواع النعيم في الفرش والخدم والطعام والشراب والنساء والأحاديث الخالية من اللغو والفحش والإثم، مع إفشاء السلام بينهم. التفسير والبيان: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي إن السابقين السابقين المقربين هم جماعة كثيرة لا يحصر عددهم، من الأمم السابقة، من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقليل من هذه الأمة، وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم وهم كثيرون، لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم. والدليل على أن (القليل) من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: «نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة»

ويستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد وأبو محمد بن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني» . أما أصحاب اليمين كما يأتي وهم أهل الجنة، فإنهم كثيرون من هذه الأمة، لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا، فإنهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكوّن نصف أهل الجنة، كما في الحديث المتقدم. والخلاصة: إن مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها، وإن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا، وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم. وإن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم، فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا كثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام «1» . ثم وصف الله تعالى حال المقربين، فقال: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي هم في الجنة حالة كونهم على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب، مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد، مستقرّين على السرر، متكئين عليها متقابلين مواجهة، لا ينظر بعضهم قفا بعض، فهم في بسط وسرور، وصفاء وحبور، لا يملّون ولا يكلون، ولا يتخاصمون ولا يتشاحنون، وهم مخدومون كما قال تعالى:

_ (1) تفسير الآلوسي: 27/ 134 [.....]

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي يدور عليهم للخدمة غلمان أو صبيان أو خدم لهم، مخلّدون على صفة واحدة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة، للقيام بهذه الخدمة. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ أي يطوفون عليهم بأقداح مستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرى ولا خراطيم، وأباريق ذات عرى وخراطيم، وكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا، فهي صافية نقية، لا تتصدع رؤوسهم من شربها، ولا يسكرون منها، فتذهب عقولهم. قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال. وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ويطوفون عليهم مما يختارونه من ثمار الفاكهة، وأنواع لحوم الطيور التي يتمنونها وتشتهيها نفوسهم، مما لذّ وطاب، علما بأن لحم الطير أفضل من غيره من اللحوم وألذ. والحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم: أنها ألطف، وأسرع انحدارا، وأيسر هضما، وأصح طبا، وأكثر تحريكا لشهوة الأكل وتهيئة النفس للطعام. وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي ولهم نساء حور بيض، مع شدة سواد سواد العين، وشدة بياض بياضها، وواسعات الأعين حسانها، مثل أنواع اللآلي والدرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة، وبياضا وحسن ألوان، كما في آية أخرى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات 37/ 49] . والكاف في قوله: كَأَمْثالِ للمبالغة في التشبيه. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يفعل بهم ذلك كله، للجزاء على أعمالهم، أو مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.

فقه الحياة أو الأحكام:

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً أي لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا، أي عبثا خاليا من المعنى، أو مشتملا على معنى ساقط أو حقير أو مناف للمروءة، ولا كلاما فيه قبح من شتم أو مأثم، ولكن يسمعون أطيب الكلام، وأكرم السلام أو التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال سبحانه: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم 14/ 23] . والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم كنعيم الدنيا، وإنما هو خال من الكدر والهم، واللغو، والقبح. والحكمة في تأخير ذكر ذلك عن الجزاء، مع أنه من النعم العظيمة: أنه من أتم النعم، فجعله من باب الزيادة والتمييز، لأنه نعمة اجتماعية تدل على نظافة الوسط الاجتماعي، بعد ذكر النعم الشخصية. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن فئة السابقين المقربين تشتمل على جماعة من الأمم الماضية، وقليل ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الأنبياء المتقدمين كثيرون، فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. والأصح أن هذه الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ محكمة غير منسوخة، لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين، والنسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا غير جائز في الأرجح، فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة، لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه. قال الحسن البصري: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، فلذلك قال: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقال في أصحاب اليمين، وهم سوى السابقين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم: «إني لأرجو

أن تكون أمتي شطر أهل الجنة» ثم تلا قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. 2- للسابقين في الجنة ألوان من النعيم في المجلس والطعام والشراب والزواج والكلام، فمجالسهم على سرر منسوجة بقضبان الذهب، مشبكة بالدر والياقوت، ويخدمهم غلمان خدم لهم لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون. وأداة الشراب آنية براقة صافية لا عرى لها ولا خراطيم، وأباريق لها عرى وخراطيم، وكؤوس من ماء أو خمر، والمراد هنا: الخمر الجارية من العيون، ولا تنصدع رؤوسهم من شربها، فهي لذيذة لا تؤذي، بخلاف شراب الدنيا، ولا يسكرون فتذهب عقولهم. وطعامهم مما لذّ وطاب من لحوم الطيور، ويتخيرون ما شاؤوا من الفواكه لكثرتها. ويتزوجون بنساء حور بارعات الجمال، عيونهن شديدات السواد والبياض، واسعات حسان، مثل اللؤلؤ والدر صفاء وتلألؤا، متناسقات أجسادهن في الحسن من جميع الجوانب. وكلامهم أطيب الكلام، ليس فيه باطل ولا كذب ولا لغو هراء ساقط، ولا موقع في الإثم، لا يؤثّم بعضهم بعضا، ولا يسمعون شتما ولا مأثما، وإنما يتبادلون التحيات والسلامات من بعضهم بعضا. 3- أتحفهم الله بهذه النعم الجزيلة جزاء حسنا على أعمالهم الصالحة، وما قدموا في دنياهم من خيّر الأفعال، وأحسن الأقوال. وقوله: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يدل على أن العمل عملهم، وحاصل بفعلهم.

أنواع نعيم أصحاب اليمين [سورة الواقعة (56) الآيات 27 إلى 40] :

أنواع نعيم أصحاب اليمين [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) الإعراب: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً هنّ: يعود على «الحور» المذكورات في نعيم السابقين، أو على أصحاب اليمين، أو على فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ واختار ابن الأنباري أن يكون الضمير غير عائد إلى مذكور على ما جرت به عادتهم إذا فهم المعنى، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن 55/ 26] وأراد به الأرض، ولم يسبق ذكرها، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر 97/ 1] وأراد به القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لأن هذا أول السورة، ولم يتقدم للقرآن ذكر فيه، وكقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص 38/ 32] أراد به الشمس، وإن لم يجر لها ذكر، فكذلك ها هنا أريد بالضمير «الحور» في هذه القصة، وإن لم يجر لهن ذكر، لما عرف المعنى. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أَبْكاراً جمع بكر، وعُرُباً جمع عروب، لأن فعولا يجمع على فعل، كرسول ورسل، ويجوز «عربا» بضم العين وسكون الراء. وأَتْراباً جمع ترب، يقال: هي تربه ولدته وقرنه، أي على سنّه. ولِأَصْحابِ الْيَمِينِ: إما صله لما قبله أو خبر لقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة. البلاغة: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ كرره بطريق الاستفهام للتفخيم والتعظيم. وَأَصْحابُ الْيَمِينِ.. بعد قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ.. تفنن في العبارة، كما في أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ وأَصْحابُ الشِّمالِ.

المفردات اللغوية:

فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ سجع لطيف غير متكلف، أو ما يسمى توافق الفواصل في الحرف الأخير، مما يزيد في تأثير الكلام وجماله. المفردات اللغوية: سِدْرٍ شجر النبق: وهو شجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه، إلا أن له شوكا. مَخْضُودٍ لا شوك فيه، مقطوع الشوك، من خضد شوكة، أي قطع. وَطَلْحٍ شجر الموز. مَنْضُودٍ متراكب الثمر، نضّد حمله من أسفله إلى أعلاه، فليست له سوق بارزة، بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام جميل. مَمْدُودٍ دائم باق، لا يزول، منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت. مَسْكُوبٍ جار دائم لا ينقطع، مصبوب يسكب لهم. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس والكميات. لا مَقْطُوعَةٍ لا تنقطع في وقت. وَلا مَمْنُوعَةٍ ولا تمتنع عن متناولها بوجه كثمن أو غيره، فهي مباحة سهلة التناول. وَفُرُشٍ جمع فراش كسرج وسراج. مَرْفُوعَةٍ عالية منضدة مرفوعة على السرر. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً خلقناهن خلقا جديدا من غير ولادة، وهن الحور العين. أَبْكاراً عذارى، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى. عُرُباً جمع عروب، وقرئ «عربا» متحبّبات إلى أزواجهن عشقا له. أَتْراباً مستويات السن، جمع ترب. سبب النزول: نزول الآية (27) : وَأَصْحابُ الْيَمِينِ..: أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الآيات. نزول الآية (29) : وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا

المناسبة:

يعجبون بوجّ- واد مخصب في الطائف- وظلاله وطلحة وسدره، فأنزل الله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. المناسبة: لما بيّن الله تعالى حال السابقين وأوصاف نعيمهم، شرع في بيان حال أصحاب اليمين من الأصناف الثلاثة في الآخرة، وعدد أوصاف نعمهم من فواكه وظلال ومياه وفرش ونساء حسان عذارى في سن واحدة. التفسير والبيان: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ هذا عطف على السابقين المقربين، وهم أصحاب اليمين الأبرار الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، منزلتهم دون المقربين، فهم أقل درجة في النعيم من السابقين، لأنهم كانوا في الدنيا أضعف إيمانا، وأقل إخلاصا وعملا، فأشجارهم وفواكههم وما يؤتون به من النعيم لا يبلغ درجة ما يناله أصحاب السبق. ومع ذلك، فهم في درجة عالية ومنزلة رفيعة، لذا جاء الكلام في مدحهم على نحو هذا الأسلوب العربي لإفادة المبالغة في المدح، كما يقال: فلان ما فلان؟ والمعنى: وأما أصحاب اليمين السعداء، فما أدراك ما هم، وأي شيء هم، وما حالهم، وكيف مآلهم؟! وهذا يلفت النظر ويثير الانتباه للتعرف على مصيرهم. لذا جاء التفصيل لبيان ما أبهم من حالهم، فقال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي هم يتمتعون في جنات ذات شجر مورق كثير الورق، مقطوع الشوك، وشجر موز منضد متراكب الثمر بعضه فوق بعض،

وظل دائم باق لا يزول، وماء منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا، لا تعب فيه، وفاكهة متنوعة وكثيرة، لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات، ولا تمتنع على من أرادها في أي وقت، على أي صفة، بل هي معدّة لمن أرادها. أما فاكهة السابقين فإنهم يتخيرونها تخيرا. ويلاحظ أنه قدم الشجر المورق على الشجر المثمر، على طريقة الارتقاء من نعمة إلى نعمة فوقها، والفواكه أتم نعمة، وذكر الأشجار المورقة بأنفسها وذكر أشجار الفاكهة بثمارها، لأن حسن الأوراق عند كونها على الشجر، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة، سواء كانت عليها أو مقطوعة. ووصف الفاكهة بالكثرة لا بالطيب واللذة، لأن طيبها معروف بالطبيعة، والمقصود بيان الكثرة والتنوع لإفادة التنعم الواسع، ووصفها بقوله: لا مَقْطُوعَةٍ للدلالة على أنها ليست كفواكه الدنيا، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان، وفي كثير من المواضع والأماكن، كما أنه وصفها بكونها غير ممنوعة بثمن أو عوض أو غيره، خلافا لفاكهة الدنيا التي تمنع عن البعض، وقدم كونها غير مقطوعة على المنع، لأن القطع للموجود، والمنع بعد الوجود، لأنها توجد أولا، ثم تمنع. ثم ذكر الله تعالى وسائل التمتع في المجالس، فقال: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي وأهل اليمين يجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة، ورفيعة القدر والثمن. والفرش جمع فراش: وهو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقيل: الفرش مجاز عن النساء، والمعنى: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن. ثم ذكر تمتعهم بالنساء، فقال: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ

فقه الحياة أو الأحكام:

أي خلقنا الحور العين خلقا جديدا من غير توالد، وجعلناهن بكارى عذارى لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان، وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع، كما في حديث رواه الطبراني «1» ، ومتحببات إلى أزواجهن، وأنشأهن الله لأجل أصحاب اليمين الأبرار الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وكرر ذكر أَصْحابُ الْيَمِينِ للتأكيد. والإنشاء: هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق، وذلك مخصوص بالحور اللاتي لسن من نسل آدم عليه السلام. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي إن أصحاب اليمين جماعة من الأولين، وهم مؤمنو الأمم الماضية، وجماعة من الآخرين، وهم المؤمنون بالنّبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة. ولا تنافي بين قوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقوله قبل: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ لأن قوله: مِنَ الْآخِرِينَ هو من السابقين، وقوله: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هو في أصحاب اليمين «2» . وإنما لم يذكر هنا كون الجزاء مقابل العمل، كما فعل في حق السابقين، لأن عمل أصحاب اليمين أقل من عمل السابقين، فلم يحتج للتنويه به، وإشارة إلى أن الله غمر أهل اليمين بالفضل والرحمة والإحسان. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أشاد الله تعالى بأهل اليمين وخصالهم ومنازلهم، ومدحهم مدحا عظيما.

_ (1) روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا» . (2) البحر المحيط: 8/ 207

2- ذكر الله تعالى أنواع نعيم أهل اليمين في البيئة والطعام والشراب والمجلس والزواج، فهم في ظل ناعم من شجر كثير الورق كشجر السدر أي النبق، ولكن قد خضد شوكة، أي قطع، وذلك الظل ممدود، أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس. وهم يستمتعون بأشجار الموز وأنواع الفواكه الكثيرة الطازجة التي لم تقطع عن الشجر، ولا تنقطع في وقت من الأوقات، كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء، ولا تمنع ولا تحظر عن أحد كثمار الدنيا. ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على السرر. ولهم نساء حوريات رائعات الجمال خلقهن الله خلقا جديدا، وأبدعهن إبداعا فريدا لم يسبق، وجعلهن أبكارا عواشق لأزواجهن، متحببات إليهم، مستويات أو متماثلات متشابهات في السن والأخلاق، لا تباغض بينهن ولا تحاسد، وهن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن. 3- أصحاب اليمين في الجنة هم جماعة عظيمة من الأمم السابقة، وجماعة أخرى من الأمم اللاحقة. قال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان: نصف من الأمم الماضية، ونصف من هذه الأمة.

أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة [سورة الواقعة (56) الآيات 41 إلى 56] :

أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) الإعراب: لَمَبْعُوثُونَ أتى باللام المؤكدة مع أنها لا تذكر في النفي، لأن الصيغة ليست تصريحا بالنفي. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ شُرْبَ بضم الشين: اسم، وهو منصوب على المصدر، وتقديره: فشاربون شربا مثل شرب الهيم، فحذف المصدر وصلته، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقام المصدر. وقرئ بالفتح، فهو مصدر. والْهِيمِ الإبل التي لا تروى من الماء، لما بها من داء وهو الهيام، وهو جمع أهيم وهيماء. وكان الأصل فيه أن يجمع على فعل بضم الفاء، إلا أنها كسرت لمكان الياء، كما تقدم في (عين) جمع (عيناء) . البلاغة: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ توافق الفواصل في الحرف الأخير، لزيادة جرس الكلام وجماله. هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ التفات من الخطاب إلى الغيبة، تحقيرا لشأنهم، بعد قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ فالأصل أن يقول: هذا نزلكم.

المفردات اللغوية:

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ فيه تهكم واستهزاء أيضا، أي هذا العذاب ضيافتهم يوم القيامة، لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة. المفردات اللغوية: سَمُومٍ ريح شديدة الحرارة تنفذ في المسام. وَحَمِيمٍ ماء شديد الحرارة. يَحْمُومٍ دخان أسود شديد السواد. لا بارِدٍ لا هو بارد كغيره من الظلال. وَلا كَرِيمٍ ولا هو نافع يدفع أذى الحر لمن يأوي إليه. قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا. مُتْرَفِينَ منعمين منهمكين في الشهوات. يُصِرُّونَ يقيمون. الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم وهو الشرك والوثنية. .. أَإِذا مِتْنا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا وما قبله للاستبعاد، وفيه دلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم، ويقرأ بسكون الواو (أو) عطفا بأو، والمعطوف عليه محل إِنَّ واسمها لَمَجْمُوعُونَ وقرئ: لمجمعون. مِيقاتِ وقت، أي ما وقت به الشيء. يَوْمٍ مَعْلُومٍ يوم القيامة، وسمي بذلك، لأنه وقتت به الدنيا. ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى للابتداء، والثانية للبيان، والزقوم: شجر في غاية المرارة ينبت في أصل الجحيم. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ مالئون من الشجر البطون لشدة الجوع. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ على الزقوم المأكول، لغلبة العطش، وتأنيث ضمير مِنْهَا وتذكيره في عَلَيْهِ الأول لمراعاة المعنى، والثاني لمراعاة اللفظ. الْهِيمِ الإبل العطاش، جمع أهيم وهيمان للذكر، وهيمى للأنثى، كعطشان وعطشى، وهي المصابة بداء الهيام: وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل، فتشرب حتى تموت أو تمرض. نُزُلُهُمْ النزل: ما يعد للضيف أول نزوله تكرمة له. يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء والقيامة. المناسبة: بعد بيان أحوال فريقين من الأصناف الثلاثة يوم القيامة، وهما السابقون وأصحاب اليمين، بيّن الله تعالى عطفا عليهم حال أصحاب الشمال وما يلقونه في نار جهنم من أنواع العذاب والنكال، مع بيان سبب ذلك، وهو انهماكهم في الشهوات في الدنيا، وشركهم، وإنكارهم يوم البعث.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي وأصحاب الشمال أي شيء هم فيه، وأي وصف لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟! وهذا الحال والوصف ما قاله تعالى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي هم في ريح حارة من حر النار، وماء شديد الحرارة، وظل من دخان جهنم شديد السواد، ليس باردا كغيره من الظلال التي تكون عادة باردة، ولا حسن المنظر ولا نافعا. وكل ما لا خير فيه فهو ليس بكريم. والمشهور أن السموم: ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالبا، قال الرازي: والأولى أن يقال: هي هواء متعفن، يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتله. وذكر السموم والحميم، وترك ذكر النار وأهوالها، إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإذا كان هواؤهم الذي يستنشقونه سموما، وماؤهم الذي يستغيثون به حميما، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء في الدنيا، فما ظنك بنارهم التي هي في الدنيا أحرّ شيء! وكأنه تعالى يقول: إذا كان أبرد الأشياء لديهم أحرها، فكيف حالهم مع أحرّها؟! ونظير الآية قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات 77/ 29- 33] . وسبب عذابهم ما قال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكانُوا

يَقُولُونَ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا «1» لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ أي إنهم كانوا في الدار الدنيا منعمين بما لا يحل لهم، منهمكين في الشهوات، مقبلين على لذات أنفسهم، لا يأبهون بما جاءت به الرسل، وكانوا في إصرار دائم على الذنب العظيم لا يتوبون عنه، وهو الشرك، أو الكفر بالله، واتخاذ الأوثان والأنداد أربابا من دون الله، وكانوا ينكرون ويستبعدون البعث بعد الموت، قائلين: كيف نبعث إذا متنا وصرنا أجسادا بالية وعظاما نخرة؟ بل كيف يبعث آباؤنا وأجدادنا الأولون لتقادم الزمن الطويل عليهم وتقدم موتهم؟ فهم أشد إنكارا واستبعادا لبعث أصولهم الأوائل. ويلاحظ أنهم حكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار. ويلاحظ أنه تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة، لذا لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم، وعند إيقاع العقاب يذكر أعمال المسيئين، لأن الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلما، فقال تعالى: هم فيها بسبب ترفعهم. فأجابهم الله تعالى على أسباب إنكارهم البعث وهي الحياة بعد الموت، وتحول الأجساد إلى تراب، وطول العهد على موت الآباء، فقال: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي قل لهم أيها الرسول: إن الأولين من الأمم الذين تستبعدون بعثهم، والآخرين منهم الذين أنتم ومن سيأتي في المستقبل من جملتهم، سيجمعون بعد البعث إلى ساحات القيامة في يوم محدود، معلوم الأجل، لا يتأخر ولا يتقدم، ولا يزيد ولا ينقص، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ

_ (1) الهمزة في أَإِذا وأَ إِنَّا للإنكار والتعجب كما تقدم، وتكريرها لتأكيد الإنكار.

[النازعات 79/ 13- 14] . وقال سبحانه: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود 11/ 103- 105] . وقوله: قُلْ إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور. وأما عدم تعيين يوم القيامة فلئلا يتكل الناس. ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر العذاب في المأكل والمشرب، فقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي إنكم معشر الضالين عن الحق، الذين أنكرتم وجود الله ووحدانيته، وكذبتم رسله، وأنكرتم البعث والجزاء يوم القيامة: إنكم ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، حتى تملؤوا بطونكم، لشدة الجوع، ثم إنكم سوف تشربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار، لشدة العطش، ويكون شربكم منه شرب الإبل العطاش الظماء، التي لا تروى لداء يصيبها، أي لا يكون شربكم من الحميم شربا معتادا، بل مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى أبدا بشرب الماء حتى تموت، قال ابن عباس وجماعة من التابعين: الْهِيمِ الإبل العطاش الظماء. وقال السدي: الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت، فكذلك أهل جهنم، لا يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان: أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة، من غير أن يتنفس ثلاثا. ثم أبان الله تعالى أن هذا عذابهم، فقال: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي هذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب، من شجر الزقوم، وشراب الحميم هو على سبيل السخرية والاستهزاء ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، وهو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة. وفي رأي الرازي: أن هذا ليس كل العذاب، بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه.

فقه الحياة أو الأحكام:

والنزل: ما يعد للضيف، ويكون أول ما يأكله، كما قال تعالى في حق المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف 18/ 107] أي ضيافة وكرامة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن أصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم، عظّم الله تعالى بلاءهم وعذابهم، وأثار فينا العجب من حالهم وشأنهم. 2- إنهم يعذبون في ريح حارة تدخل مسام البدن، ويشربون من ماء حار قد انتهى حرّه، لشدة العطش، فإذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، فيجدونه حميما حارا في نهاية الحرارة، وإذا فزعوا من السّموم إلى الظل، كما يفزع أهل الدنيا، فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. فهو ليس باردا، بل حار، لأنه من دخان شفير جهنم، ولا حسن المنظر ولا عذب، ولا نافع ولا خير فيه، فهو ليس بكريم. 3- إن أعمالهم الموجبة لهذا العقاب أو سبب استحقاقهم هذه العقوبة: أنهم كانوا في الدنيا مترفين منعّمين بالحرام، متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص، وكانوا يقيمون على الذنب الكبير ويلازمونه ولا يتوبون منه وهو الشرك، وقيل: اليمين الغموس، لأنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكانوا يقسمون ألا بعث وأن الأصنام أنداد لله، فذلك حنثهم، وكانوا يقولون استبعادا منهم لأمر البعث، وتكذيبا له، لا حياة بعد الموت، ولا يمكن إعادة الحياة للأجساد التي بليت والعظام التي نخرت، وبعث آبائنا أبعد، فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا، والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات، فكيف يمكن البعث؟!

أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء [سورة الواقعة (56) الآيات 57 إلى 74] :

4- ومن ألوان عذاب هؤلاء الضالين عن الهدى، المكذبين بالبعث أكلهم من شجر الزقوم: وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، حتى يملئوا بطونهم منه، ثم شربهم على الزقوم من الحميم: وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه، وهو صديد أهل النار، وليس شربهم كالمعتاد، وإنما يشربون شرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها. والمراد: أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم، ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحميم كالإبل الهيم. 5- هذا رزقهم الذي يعدّ لهم يوم الجزاء يَوْمَ الدِّينِ في جهنم، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمة لهم، وفي هذا الوصف تهكم، كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة 9/ 34] . أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

الإعراب:

الإعراب: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَأَنْتُمْ ... نَحْنُ الْخالِقُونَ في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، ومستأنفة على أنها بصرية. ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا، أو مهلكون، لهلاك رزقنا، من الغرم: وهو الهلاك. المفعول الثاني. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أصله: ظللتم، يقرأ بفتح الظاء وكسرها، فمن قرأ بالفتح حذف اللام الأولى بحركتها تخفيفا، ومن قرأ بالكسر نقل حركة اللام الأولى إلى الظاء، وحذفها، وهما لغتان. المفردات اللغوية: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالخلق متيقنين، تقيمون الدليل على التصديق بالأعمال الدالة عليه، أو فلولا تصدقون وتقرون بالبعث والإعادة، كما أقررتم بالنشأة الأولى، وهي خلقهم، فإن من قدر على الإبداء قادر على الإعادة. ما تُمْنُونَ ما تقذفونه أو تصبونه من المني في الأرحام. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلون المني بشرا سويا تام الخلق. قَدَّرْنا قضينا وأقّتنا موت كل واحد بوقت معين. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت، أو لا يغلبنا أحد، فلسنا بعاجزين. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ نخلق أشباهكم وقوله: عَلى إما متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنا أي نحن قادرون، قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي بموت طائفة، ونبدلها بطائفة قرنا بعد قرن، وهذا قول الطبري. وإما متعلق بمسبوقين، أي لا نسبق على أن نبدل أمثالكم جمع مثل، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ من الصفات، أي نحن قادرون على أن نعدمكم أو نميتكم، وننشئ أمثالكم، وعلى تغيير أوصافكم، مما لا يحيط به فكركم «1» . وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ نخلقكم خلقا آخر لا تعلمونه وأطوارا لا تعهدونها، أو نخلق صفات لا تعلمونها. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي علمتم الخلقة الأولى، فهلا تتذكرون أن من قدر عليها، قدر على النشأة الأخرى، لسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس. تَحْرُثُونَ تثيرون الأرض وتلقون البذور فيها. تَزْرَعُونَهُ تنبتونه، من الزرع: الإنبات. الزَّارِعُونَ المنبتون. حُطاماً هشيما هالكا متكسرا. فَظَلْتُمْ أصله ظللتم،

_ (1) البحر المحيط: 2/ 211

المناسبة:

أي أقمتم نهارا. تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله، وتندمون على اجتهادكم فيه. لَمُغْرَمُونَ ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا، أو مهلكون، لهلاك رزقنا، من الغرم: وهو الهلاك. مَحْرُومُونَ ممنوعون رزقنا، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين) . الْمُزْنِ السحاب، جمع مزنة. الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا. أُجاجاً ملحا لا يمكن شربه. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. تُورُونَ تقدحون، أو تخرجونها نارا. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها الشجرة التي منها الزناد، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. جَعَلْناها جعلنا نار الزناد. تَذْكِرَةً أنموذجا لنار جهنم، أو تبصرة في أمر البعث، أو تذكيرا. وَمَتاعاً منفعة. لِلْمُقْوِينَ للمسافرين، مأخوذ من أقوى القوم: الذين ينزلون القواء، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. فَسَبِّحْ نزّه. بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله تعالى، وقل: سبحان الله العظيم، وأحدث التسبيح بذكر اسمه، أو بذكره، فإن إطلاق اسم الشيء: ذكره، والْعَظِيمِ: صفة للاسم أو الرب. المناسبة: بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة، ومآل كل صنف، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة، وقرر المعاد، وأثبت البعث والجزاء. التفسير والبيان: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأنتم تعلمون ذلك، فهلا تصدقون بالبعث، كما تقرّون بالخلق، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟ وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه

فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق، أم الله الخالق لذلك، المقدر المصور له؟! نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم، فمنكم من يموت كبيرا، ومنكم من يموت صغيرا، ولكن الكل سواء فيه، وما نحن بمغلوبين، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم، لتستمر الحياة البشرية، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم. وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث، وصدق الرسل في الحشر، لأن قوله: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى، ولما كان قادرا على الخلق أولا، كان قادرا على الخلق ثانيا. ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق، فقال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من هيكل عظمي، ثم كساكم باللحم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 30/ 27] ، وقال سبحانه: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم 19/ 67] ، وقال عزّ وجلّ: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ

[يس 36/ 79] ، وقال عزّ اسمه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً! أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ [القيامة 75/ 36- 40] . وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية، بالتذكير بالنشأة الأولى، ليكون تذكيرا بعد تذكير. ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته، فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم، فتطرحون فيه البذر، والحرث: شق الأرض وإلقاء البذر فيها، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ. وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء، وفيه أمور ثلاثة: المأكول المذكور هنا أولا، لأنه هو الغذاء، ثم ذكر المشروب، لأن به الاستمراء، ثم النار التي بها الإصلاح. لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لأيبسناه، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون، والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك

زرعنا، لسوء حظنا، والمحروم: الممنوع من الرزق، وهو ضدّ المرزوق. ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب، فقال: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تقرّون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث؟ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا، فهو محض النعمة، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا، تشربون منه وتنتفعون به، كما قال تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل 16/ 10- 11] . روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء، قال: «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» . ثم ذكر النار أداة الإصلاح، فقال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران، ويحك أحدهما بالآخر، فيتناثر من بينهما شرر النار.

فقه الحياة أو الأحكام:

نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أي نحن جعلنا هذه النار تذكركم حر نار جهنم الكبرى، ليتعظ بها المؤمن، ونفعا للمسافرين وأهل البادية النازلين في الأراضي المقفرة. أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» . وخصص المقوون، أي المسافرون بالذكر، لشدة حاجتهم إلى النار، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء» . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة، فخلق الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق، ولم يفدهم الإيمان، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه، بعلمه بربّه، وعمله لربّه. فقه الحياة أو الأحكام: أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا: دليل الخلق، ودليل الرزق. أما دليل ابتداء الخلق: فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة، ثم من العلقة، ثم من المضغة، دون أن نكون شيئا، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى، والتقاء نطفتي الرجل

والمرأة، ثم القرار في الأرحام، والمرور بأطوار الخلق إلى أن يكتمل الإنسان بشرا سويا تام الخلق. وإذا أقرّ الناس بأن الله هو خالقهم لا غيرهم، فعليهم الإقرار والاعتراف بالبعث. والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. والله عزّ وجلّ قادر على خلق الأجيال، جيلا بعد جيل، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم، وصورهم وهيئاتهم، والقادر على ذلك قادر على الإعادة. جاء في الخبر: «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى، وهو لا يسعى لدار القرار» «1» . وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء، بطريق الاستفهام المراد به الطلب، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم، فتطرحون فيها البذر، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا، فيكون فيه السنبل والحبّ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد، والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وإنباته باختياره، لا باختيارهم. أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان- وضعفه- وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت، فإن الزارع هو الله» قال أبو هريرة: ألم

_ (1) تفسير الألوسي: 27/ 148

تسمعوا قول الله تعالى: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟. وهذا نهي إرشاد وأدب، لا نهي حظر وإيجاب. والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجنّبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك. والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع، وفي هذا تنبيه على أمرين: أحدهما- ما أولاهم به من النّعم في زرعهم، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه، الثاني- ليعتبروا بذلك في أنفسهم، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا. وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض، فيعجب من ذهاب الزرع، ويندم مما حلّ به، ويقول: إنني لخاسر مغرم، أو لمعذب هالك، محروم مما طلبت من الريع والربح. ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة، والتابع للمطعوم، فهو نعمة عظمي، والله هو الذي أنزله من السحاب، لإحياء النفوس، وإرواء العطش، وإذا عرف أن الله أنزله، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟ والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله، ونعمة أخرى.

ثم ذكر الله تعالى النار التي بها الإصلاح، فهي أيضا نعمة، والله هو الذي أنشأ شجرتها التي يكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، وإذا عرف أن الله هو المخترع الخالق، وعرفت قدرته على خلق الأشياء، فليشكروه ولا ينكروا قدرته على البعث. ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس. وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث. ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده، فقال في الأولى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي الثانية: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً وفي الثالثة: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها، بل قال: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً تتعظون بها، ولا تنسون نار جهنم، كما أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها» .

إثبات النبوة وصدق القرآن وتوبيخ المشركين على اعتقادهم [سورة الواقعة (56) الآيات 75 إلى 96] :

إثبات النبوة وصدق القرآن وتوبيخ المشركين على اعتقادهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) الإعراب: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ.. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ في الجمل تقديم وتأخير من وجهين: أحدهما- أنه فصل بين القسم والمقسم عليه بقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فقدمه على المقسم عليه وتقديره: «أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم..» إلخ. الثاني- أنه فصل بين الصفة والموصوف بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ وتقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون، فقدمه على الصفة. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا نافية غير ناهية، ويَمَسُّهُ فعل مضارع مرفوع، ويكون المراد بقوله: الْمُطَهَّرُونَ الملائكة. فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تقديره: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم، ولولا: بمعنى «هلا» . فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أما: حرف تفصيل وشرط، بمنزلة

البلاغة:

(مهما) وجوابه: فَرَوْحٌ وتقديره: فله روح، وروح: مبتدأ، وله خبره، والتقدير: مهما يكن من شيء فروح وريحان إن كان من المقربين، فحذف الشرط الذي هو (يكن من شيء) وأقيم (أما) مقامه. وهكذا الكلام على قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ وقوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. البلاغة: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ جملة اعتراضية بين القسم والمقسم عليه لتأكيد القسم، وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ جملة اعتراضية بين الصفة والموصوف لبيان أهمية القسم. المفردات اللغوية: فَلا أُقْسِمُ هذا قسم في كلام العرب، و «لا» مزيدة للتأكيد، كما في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد 57/ 29] . واستعمال هذه الصيغة للدلالة على أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، أو المراد: فأقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ مساقط الكواكب ومغاربها، وتخصيص المغارب، للدلالة على وجود مؤثر، لا يزول تأثيره. وَإِنَّهُ أي القسم بها. لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته ألا يترك عباده سدى. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ إن المتلو عليكم لقرآن كثير النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ في مكتوب مصون عن التغيير والتبديل، وهو المصحف، أو اللوح المحفوظ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا النافية، والْمُطَهَّرُونَ الملائكة، أي لا يقربه ولا يطلع عليه إلا المنزهون من الحظوظ النفسية، وهم الملائكة. أو هو خبر بمعنى النهي، أي لا يمس القرآن إلا المطهّرون من الأحداث، فيكون نفيا بمعنى نهي. وقرئ: «المتطهرون» . و «المطّهرون» بالإدغام، و «المطهرون» من أطهره، و «المطّهرون» ، أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام. تَنْزِيلٌ صفة رابعة للقرآن، أي منزّل من رب العالمين، أو وصف بالمصدر، لأنه نزّل مقسطا منجما من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل، لذا سمي به، ويقال: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل، أو هو تنزيل، على حذف المبتدأ، وقرئ: تنزيلا أي نزل تنزيلا. أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ القرآن. مُدْهِنُونَ متهاونون، كمن يدهن في الأمر، أي يلين جانبه، ولا يتصلب فيه، تهاونا به، ومنه يقال: المداهنة: الملاينة والمداراة. وهذا استعمال للفظ

في الشيء المعنوي على سبيل المجاز، الذي صار لشهرته حقيقة عرفية. وأصله الادهان: أي جعل الأديم (الجلد) مدهونا بمادة زيتية ليلين لينا حسيا. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي شكر رزقكم، وهو المطر. أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بمانحه وساقيه حيث تنسبون المطر إلى الأنواء، وتقولون: مطرنا بنوء كذا. والنوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته، في كل ثلاثة عشر يوما، ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يوما، وكانت العرب تضيف الأمطار والرّياح والحرّ والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها، لأنه في سلطانه، وجمعه: أنواء. فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي فلا إذا وصلت الروح وقت النزع الحلقوم، أي أعلى مجرى الطعام. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وأنتم يا من يكون حول المحتضر تنظرون إليه، والواو للحال. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي ونحن أعلم بحال المحتضر منكم، ولكن لا تعلمون ذلك، أو لا تدركون كنه ما يجري عليه، عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى أسباب الاطلاع. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي فهلا إن كنتم غير مجزيين يوم القيامة، أي غير مبعوثين بزعمكم. تَرْجِعُونَها تردون الروح إلى الجسد، بعد بلوغ الحلقوم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما زعمتم. والمعنى: هلا ترجعون الروح إلى مقرّها إن نفيتم البعث، صادقين في نفيه، بأن تزيلوا الموت الذي يعقبه البعث. ولولا الثانية تأكيد للأولى. وإذا ظرف لفعل: تَرْجِعُونَها. فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي إن كان المتوفى من السابقين. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فله استراحة، ورزق حسن طيب، وجنة ذات تنعم. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي وإن كان من أهل اليمين، فسلام من العذاب وتحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، من جهة أنه منهم. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ أي من أصحاب الشمال الذين كذبوا بالله ورسله وضلوا عن الهدى، وإنما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها، وإشعار بسبب وعيدهم. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي فالنزل المعدّ لك أول قدومك: ماء شديد الحرارة، والاصطلاء بنار الجحيم وإذاقة حرها. إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي إن هذا المذكور في السورة لهو حق الخبر اليقين، أي الحق الثابت الذي لا شك فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بعظمة شأنه.

سبب النزول نزول الآية (75) :

سبب النزول: نزول الآية (75) : فَلا أُقْسِمُ..: أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حزرة قال: نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار في غزوة تبوك نزلوا الحجر «1» ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحملوا من مائها شيئا، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر، وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام، فصلى ركعتين، ثم دعا، فأرسل الله سحابة، فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتهم بالنفاق: ويحك أما ترى ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمطر الله علينا السماء، فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا. وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين، يقول: الكوكب، وبالكوكب» . المناسبة: بعد بيان أدلة إثبات الألوهية والبعث والجزاء، أقام الله تعالى الأدلة على النبوة وصدق القرآن العظيم، وأقسم بمواقع النجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من رب العالمين، ثم وبخ المشركين على اعتقادهم الباطل بجحود الله وتكذيب

_ (1) الحجر: ديار ثمود، واد بين المدينة والشام.

التفسير والبيان:

رسوله، وإنكار المعاد، ثم أعاد الكلام على أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم السورة: السابقين المقربين، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وما يلقاه كل صنف من الجزاء يوم القيامة، ثم أخبر الله نبيه بأن هذا الخبر هو الحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وأمره أن ينزه ربه عن كل نقص وغيره مما لا يليق به. التفسير والبيان: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي أقسم بمساقط النجوم وهي مغاربها، ولله في رأي الجمهور أن يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته. وإنما خص القسم بمساقط النجوم، لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره، لذا استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله، وكذلك لا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة. وجاء القسم على هذا النحو: فَلا أُقْسِمُ بالنفي مريدا: أُقْسِمُ، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل أُقْسِمُ كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه، فيفيد التأكيد، والمراد أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما، فضلا عن هذا القسم العظيم. وورد القسم على مثال ذلك كثيرا في القرآن الكريم، مثل: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ [الانشقاق 84/ 16] وفَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير 81/ 15] ولا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة 75/ 1] وفَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ [الحاقة 69/ 38] وفَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج 70/ 40] ولا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد 90/ 1] ووَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة 75/ 2] . ويرى بعض المفسرين أن (لا) ليست زائدة لا معنى لها، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي، كقول عائشة رضي الله عنها: «لا والله ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط» .

وجاء القسم في القرآن على أنواع: إما قسم الله بنفسه أو بذاته مثل: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات 51/ 23] وتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء 21/ 57] . وإما قسم من الله بأشياء من خلقه، دلالة على عظمة مبدعها، كالصافات، والطور، والذاريات، والنجم ومواقع النجوم، والشمس والقمر، والليل والنهار، ويوم القيامة، والفجر والبلد والتين والزيتون. وقد يكون القسم بالقرآن: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس 36/ 1- 2] . ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص 88/ 1] . ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق 45/ 1] . حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف 43/ 1- 2] [والدخان 90/ 1- 2] في الزخرف والدخان. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. والضمير يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام المتقدم. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ هذا هو المقسم عليه، أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم، كثير المنافع والفوائد، لما فيه من الهدى والعلم والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذه الصفة الأولى للقرآن. والمناسبة واضحة بين المقسم به وهو النجوم، وبين المقسم عليه وهو القرآن، لأن النجوم تضيء الظلمات، وآيات القرآن تنير الطريق، وتبدد ظلمات الجهل والضلالة، والأولى ظلمات حسية، والثانية ظلمات معنوية. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ هذه ثلاث صفات أخرى للقرآن العظيم: وهي أنه في اللوح المحفوظ مصون مستور لا يطلع عليه إلا الملائكة المقربون، وهم الكروبيون، ولا يمسه في السماء إلا الملائكة الأطهار، ولا يمسه في الدنيا إلا المطهرون من الحدثين: الأصغر

والأكبر، أي الحدث والجنابة، وهو منزل من الله تعالى، فليس بسحر ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع. ويدل فحوى الآية على أنه لا يمس القرآن كافر ولا جنب ولا محدث، روى مالك في موطئه وابن حبان في صحيحة: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر. وروى أبو داود في المراسيل وأصحاب السنن من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عبد أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وأسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، لكن في إسناد كل منهما نظر. وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه العلماء، وأجاز بعض الفقهاء وهم المالكية مس المحدث له لضرورة التعلم والتعليم. لكن رجح العلماء أن المراد من الكتاب: الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس 80/ 13- 16] لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزل به الشياطين، ولأن السورة مكية، وأغلب عناية القرآن المكي في أصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة، وأما الأحكام الفرعية ففي القرآن المدني، ولأن قوله مَكْنُونٍ معناه مصون مستور عن الأعين لا تناله أيدي البشر، ولو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا فائدة كبيرة. ثم وبخ الله تعالى المتهاونين بشأن القرآن، فقال: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي أبهذا القرآن الموصوف بالأوصاف الأربعة السابقة متهاونون، تمالئون الكفار على الكفر، وتركنوا إليهم؟ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي وتجعلون شكر رزقكم من السماء وهو

المطر، أو من الأرض وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة الله وبالبعث وبما دل عليه القرآن، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر!! ثم وبخ الله تعالى المشركين على ما يعتقدون، فقال: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي فهلا إذا وصلت الروح أو النفس الحلق حين الاحتضار، وأنتم ترون المحتضر قد قارب فراق الحياة، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت، ونحن بالعلم والقدرة والرؤية وبملائكتنا أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبضه. وجواب فَلَوْلا سيأتي بعد وهو تَرْجِعُونَها. ثم أكّد الله تعالى الحث والتحضيض، فقال: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين ولا مبعوثين، تمنعون موته، وترجعون الروح التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا وأنكم غير مربوبين ولا مملوكين للخالق؟ والمعنى المراد: أنه إذا لم يكن لكم خالق، وأنتم الخالقون، فلم لا ترجعون الأرواح إلى أجسادها حين بلوغها الحلقوم؟! وإن صدقتم ألا بعث، فردوا روح المحتضر إلى جسده، ليرتفع عنه الموت، فينتفي البعث؟ أي إن تحقق الشرطان أو الوصفان منكم: إن كنتم غير مدينين، وإن كنتم صادقين فردوا روح الميت إليه. ونظير الآية قوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ؟

وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [القيامة 75/ 26- 29] . ثم بيّن الله تعالى مصائر هؤلاء الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم، وجعلهم أقساما ثلاثة فقال: 1- فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي إن كان المحتضر أو المتوفى من فئة السابقين المقربين: وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وبعض المباحات، وهم الصنف الأول في مطلع السورة، فلهم راحة، واستراحة وطمأنينة من أحوال الدنيا، ورزق واسع ونعيم في الجنة، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. والروح: الاستراحة، وهو يعم الروح والبدن، والريحان: الرزق، وهو للبدن، وجنة النعيم للروح، يتنعم بلقاء المليك المقتدر. يروى: أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه. فاللهم اجعلنا من هؤلاء يا ذا الجلال والإكرام. 2- وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي وأما إن كان المحتضر أو المتوفى من أهل اليمين: وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فتبشرهم الملائكة بذلك، وتقول لهم: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين، وذلك لأنك ستكون معهم، فيستقبلونك بالسلام. وذلك كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت 41/ 30- 32] .

3- وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي وإن كان المتوفى أو المحتضر من المكذبين بالحق والبعث، الضالين عن الهدى، وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم، فله ضيافة أو نزل يعد له من حميم: وهو الماء الشديد الحرارة، بعد أن يأكل من الزقوم، كما تقدم بيانه، ثم استقرار، وزج له في النار التي تغمره من جميع جهاته. ثم حسم الله تعالى الأمر وأبان مدى صحة الخبر، فقال: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي ن هذا الخبر والمذكور في هذه السورة من أمر البعث وغيره لهو محض اليقين وخالصة، والحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، ولا محيد لأحد عنه. ثم أمر الله نبيه بما يكمل نفسه، فقال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله عما لا يليق بشأنه، لما علمت من أخبار علمه وقدرته. والباء في قوله: بِاسْمِ زائدة، أي سبّح اسم ربك، والاسم: المسمى. أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» . والفرق بين العظيم والأعلى: أن العظيم يدل على القرب، والأعلى يدل على البعد، فهو سبحانه قريب من كل ممكن، وقريب من الكل، وهو أعلى من أن يحيط به إدراكنا، وفي غاية البعد عن كل شيء. أخرج الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فقه الحياة أو الأحكام:

«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله تعالى بمساقط النجوم ومغاربها، وهو قسم عظيم لو يعلم الناس، على أن القرآن قرآن كريم، كثير النفع، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدروهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. قال القشيري عن صيغة القسم: فَلا أُقْسِمُ ... : هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة. 2- وصف الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأربع صفات: هي أنه كريم، أي كثير الخير والنفع والفائدة، وفي كتاب مكنون، أي في اللوح المحفوظ، مصون عند الله تعالى، ومحفوظ عن الباطل والتغيير والتبديل، ولا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب، وهم الملائكة، ومنزل من رب العالمين. والأصح أن المراد من الكتاب المكنون: اللوح المحفوظ. والضمير في لا يَمَسُّهُ للكتاب. أما مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور ومنهم أئمة المذاهب الأربعة على المنع من مسّه، لحديث عمرو بن حزم المتقدم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» وأجاز المالكية مسّ القرآن للمحدث لضرورة التعلم والتعليم. وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي الظاهري: أنه لا بأس بحمل القرآن

ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، ورد عليهم بأنه موضع ضرورة، فلا حجة فيه. فيكون المنع من مس المصحف للمحدث ثابتا بالسنة، وليس مأخوذا من صريح الآية. 3- بعد إثبات النبوة وصدق الوحي والقرآن الكريم وبّخ الله تعالى المتهاونين بالقرآن المكذبين به، وهذا قلب للأوضاع، فإن الجاحدين جعلوا شكر الرزق من الله والإنعام هو التكذيب، فوضعوا الكذب مكان الشكر، كقوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال 8/ 35] أي لم يكونوا يصلّون، ولكنهم كانوا يصفّرون ويصفّقون مكان الصلاة. قال القرطبي: وفي هذا بيان أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها، تعبّدا له وتذللا «1» . 4- تحدى الله منكري البعث بأنهم إن كانوا صادقين في زعمهم ألا بعث، وأنهم غير مجزيين ولا محاسبين ولا مبعوثين يوم المعاد، فليمنعوا الموت عن الإنسان حين الاحتضار، وليردوا الروح إليه إذا بلغت الحلقوم، وإذا انتفى الموت انتفى البعث، والحق أنهم عاجزون عن ذلك، لا يقدرون على شيء من هذا، وهم ينظرون إلى المحتضر محزونين آيسين، والله سبحانه أقرب إلى المحتضر بالقدرة والعلم والرؤية، ولكن الحاضرين حوله لا يدركون ذلك، ولا يرون الملائكة الرسل الذين يتولون قبض الروح. 5- الناس عند الاحتضار ثم الوفاة أصناف ثلاثة: المقربون السابقون،

_ (1) تفسير القرطبي: 17/ 228

وأهل اليمين، وأهل الشمال. أما المقربون فلهم الرحمة والاستراحة، والرزق الواسع، والتنعم المطلق في الجنة، ورؤية الله عز وجل، فلا يحجبون عنه. وأما أصحاب اليمين، فإنهم يسلمون من عذاب الله، ويسلم الله عليهم، وتسلّم الملائكة أيضا عليهم قائلين لهم: سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وكذلك يسلم عليهم منكر ونكير عند المساءلة في القبر، وتسلم عليهم الملائكة عند البعث في القيامة، قبل الوصول إليها. فالملائكة تسلم على صاحب اليمين في المواطن الثلاثة، ويكون ذلك إكراما بعد إكرام «1» . وأما أصحاب الشمال المكذبون بالبعث، الضالون عن الهدى وطريق الحق، فلهم رزق من حميم: ماء تناهي حره، وإدخال في النار. 6- إن جميع هذا المذكور في هذه السورة محض اليقين وخالصة، وهو الحق الثابت الذي لا شك فيه، ولا محيد عنه. قال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. 7- أمر الله نبيه والمؤمنين من بعده بأن ينزه الله تعالى عن السوء وعن كل ما لا يليق به، ما دام الحق قد ظهر، واستبان اليقين، وبطل زيف الكفار والمشركين.

_ (1) المرجع السابق: ص 234

سورة الحديد:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحديد مكيّة، وهي تسع وعشرون آية. مدنيتها: هي كما ذكر القرطبي مدنية في قول الجميع، وهو الظاهر، وقيل: إنها مكية وهو رأي مرجوح. تسميتها: سميت سورة الحديد، للإشارة في الآية (25) منها إلى منافع الحديد، واعتماد مظاهر المدنية والعمران والحضارة عليه، سواء في السلم والحرب. مناسبتها لما قبلها: وجه اتصال هذه السورة بالواقعة من ناحيتين. 1- ختمت سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح، وبدئت هذه بذكر التسبيح من كل ما في السموات والأرض. 2- إن سورة الحديد واقعة موقع العلة للأمر بالتسبيح في الواقعة، فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لأنه سبح له ما في السموات والأرض، فالله أمر بالتسبيح، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله، والتزمه كل ما في السموات والأرض.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والإيمان، والجهاد والإنفاق في سبيل الله، والترفع عن مفاتن الدنيا، وبيان أصول الحكم الإسلامي، وكشف مخازي المنافقين، وشرائع الأنبياء في الحياة الخاصة والعامة. ابتدأت بالحديث عن صفات الله وأسمائه الحسنى، وظهور آثار عظمته في خلق الكون. ثم دعت المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الإسلام، ورفع مجده وشأنه. وقارنت أثر هذه الدعوة إلى البذل والجهاد بين المؤمنين المجاهدين الذين يتميزون بأنوارهم في الآخرة، وبين المنافقين الذين يبخلون ويجبنون، ويتخبطون في ظلمات الجهل والكفر. ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء، وحضّت على العدل وعمارة الكون، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام، وأمرت بتقوى الله، واتّباع هدي الرسل والأنبياء. وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل، وبقصة عيسى بن مريم، وموقف أتباعه من دعوته، وأوضحت ثواب المتقين، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من الله، وفضل يختص به من يشاء من عباده.

فضلها:

فضلها: أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية أنه حدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، وقال: «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وهي قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. التسبيح لله في جميع الأوقات وأسبابه [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) الإعراب: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ مَعَكُمْ ظرف متعلق بفعل مقدر، تقديره: وهو شاهد معكم. البلاغة: يُحْيِي وَيُمِيتُ بينهما طباق، وكذا بين الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وبين الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ووَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها بينهما مقابلة. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فيه رد العجز على الصدر.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سَبَّحَ لِلَّهِ أي نزهه كل شيء من كل نقص وعما لا يليق به من صفات الحوادث كالشريك والولد، وإنما عدّي باللام وهو معدّى بنفسه، مثل نصحت له ونصحته، إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. وذكر في القرآن: سَبَّحَ كما في آخر السورة السابقة الواقعة وأول الأعلى للأمر بالتسبيح، وذكر هنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع، إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، وكله يدل على الديمومة والاستمرار، وأن ذلك ديدن من في السموات والأرض، وجاء بلفظ المصدر سُبْحانَ أول الإسراء، إشعارا بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال. ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جيء ب ما وليس «من» تغليبا للأكثر من غير العقلاء. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي في ملكه فلا ينازعه فيه شيء، الحكيم في صنعه، والجملة حال يشعر بما يدل على أنه الأهل للتسبيح مع استغنائه. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي إن سبب التسبيح كونه تعالى مالكا السموات والأرض، وله تمام التصرف في الملك، وهو إيجاد ما شاء، وإعدام ما شاء بقدرته على الإحياء والإماتة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر تام القدرة على كل شيء من الإحياء والإماتة وغيرهما. هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات، والموجود قبل كل شيء بلا بداية، لأنه موجد الأشياء ومحدثها. وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الموجودات، والموجود بعد كل شيء بلا نهاية. وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ الظاهر وجوده لكثرة دلائله، والباطن: حقيقة ذاته، فلا تحيط به العقول والحواس، وخفيت عنه ذاته، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بذاته. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الكرسي استواء يليق به. يَلِجُ يدخل. فِي الْأَرْضِ من كنوز ومعادن وبذور ومطر وأموات. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالنبات والمعادن لمنفعة الناس. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالمطر والرحمة والملائكة والعذاب وغير ذلك. وَما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة والأعمال والدعوات. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بعلمه وقدرته، لا يفارقكم بحال، فليس المراد المعية بالذات. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه، وتقديم الخلق في الآية على العلم، لأنه دليل عليه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الموجودات جميعها. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقص، فيزيد الليل وينقص النهار تارة، وعلى العكس تارة أخرى. وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما فيها من الأسرار والمكنونات، والنوايا والخفايا والمعتقدات.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي نزّه الله تعالى عن كل نقص وعما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض من الجماد والنبات والإنسان والحيوان، تعظيما له وإقرارا بربوبيته، سواء بلسان المقال، كتسبيح الملائكة والإنس والجن، أو بلسان الحال، كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء 17/ 44] فتسبيح العقلاء: تنزيه وتقديس وعبادة، وتسبيح غيرهم إقرار واعتراف بالصانع. والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء، ولا ينازعه أحد في ملكه، الحكيم في تدبيره وأمره وخلقه وشرعه، يتصرف على وفق الحكمة والصواب. وهذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها، تدل على أنه تعالى مبدأ التسبيح مع الاستغناء عنه. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي لله تعالى الملك المطلق للسموات والأرض، يتصرف فيهما وحده، وله السلطان التام، وهو نافذ الأمر، فلا ينفذ غير تصرفه، وهو المالك المتصرف في خلقه، فيحيي من يشاء، ويميت من يشاء، ويعطي من يشاء ما يشاء، وهو تام القدرة، لا يعجزه شيء، كائنا ما كان، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي الله هو الأول قبل كل شيء، قيل، وهو غير حديث: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» وهو الآخر الباقي بعد كل شيء، بعد فناء خلقه، كما قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 28/ 88] .

وهو الظاهر العالي فوق كل شيء، الغالب على كل شيء، والباطن العالم بما بطن، ولا تعرف العقول ذاته على حقيقتها، ولا تدركه الحواس، وهو ذو علم تام بكل شيء، لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر» . هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي الله الذي أوجد وأبدع السموات والأرض في أيام ستة الله أعلم بمقدارها، وفي ستة أطوار مختلفة، وهو القادر على خلقها في لحظة، ولكن هذا العدد لتعليم العباد التأني والتثبت في الأمور، ثم استوى على العرش أي الكرسي استواء يليق به، على نحو يريده، مما لا يعلم به إلا هو، وهذا رأي السلف، وهو الأولى احتياطا، ورأي الخلف تأويل الاستواء على العرش بتدبير الأمر وتفصيل الآيات والاستيلاء على مقاليد السلطة. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي يعلم كل شيء، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك، ويخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن وغيرها، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد الصالحة والسيئة، والدعوات، والأبخرة المتصاعدة ونحو ذلك، جاء في الحديث الصحيح: «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل» . ونظير الآية: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام 6/ 59] .

وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي والله سبحانه مع عباده بقدرته وسلطانه وعلمه، أينما كانوا في البر والبحر والجو، والله رقيب عليهم بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه شيء منها. قال أبو حيان: وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها، مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها «1» . لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي هو المالك للدنيا والآخرة. كما قال تعالى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى [الليل 92/ 13] فلا راد لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص 28/ 70] ومرجع جميع الأمور إلى الله وحده لا إلى غيره يوم القيامة، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور، ولا يظلم مثقال ذرة. وقوله: لَهُ مُلْكُ.. هذا التكرير للتأكيد، أو أنه وما بعده ليس بتكرار، لأن الكلام الأول في الدنيا لقوله: يُحْيِي وَيُمِيتُ والثاني في العقبى والآخرة لقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي إن الله سبحانه هو المتصرف في الخلق، يقلّب الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل، ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتتوالى الفصول الأربعة بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، وهو يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها، وإن خفيت، لا يخفى عليه من ذلك خافية، سواء الظاهر والباطن.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 217

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا حث على التأمل في ملكوت الله، وشكر على ما أنعم، وتنزيه على كل ما لا يليق به. والخلاصة: أن هذه الآيات إخبار بتسبيح كل شيء الله، وبيان موجبات التسبيح. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- مجّد الله ونزّهه عن السوء في الذات والصفات والأسماء والأفعال كلّ شيء في الأرض والسماء، سواء بالنطق والمقال الصريح، أم بلسان الحال والدلالة وظهور آثار الصنعة: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] . 2- إن موجبات التسبيح كون الله العزيز الغالب في ملكه، الحكيم في صنعه، المالك المتصرف في السموات والأرض، المستغني في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم، والنافذ الأمر، المالك القادر القاهر، الذي لا يعجزه شيء. 3- ومن موجباته أيضا أنه سبحانه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الغالب الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو تام العلم بما كان أو يكون، فلا يخفى عليه شيء. وهذا دليل على أنه تعالى قبل كل شيء، ومتقدم على ما سواه تأثيرا وطبعا وشرفا ومكانا وزمانا، أي أنه سبحانه قبل المكان وقبل الزمان. وهو إله لجميع الممكنات والكائنات، وإله للعرش والسموات والأرضين، وعالم بظواهرنا وبواطننا. 4- ومما يوجب تسبيحه أنه خالق السموات والأرض ومبدعهما، صاحب

بعض التكاليف الدينية الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الإنفاق [سورة الحديد (57) الآيات 7 إلى 12] :

العرش الذي استوى عليه استواء يليق به، العالم بما يدخل في الأرض من مطر وغيره، وما يخرج منها من نبات وغيره، وما ينزل من السماء من رزق ومطر وملائكة، وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد، وهو مع خلقه بقدرته وسلطانه وعلمه، لا بذاته، أينما كانوا، ويبصر أعمالهم ويراها، ولا يخفى عليه شيء منها. 5- ومن موجبات التسبيح أنه سبحانه المالك للدنيا والآخرة، وترجع إليه أمور الخلائق في الآخرة. وهو يقلب الليل والنهار طولا وقصرا، ويأتي بالفصول الأربعة، ولا تخفى عليه الضمائر، فهو إذن المعبود على الحقيقة، فلا يجوز أن يعبد من سواه. والخلاصة: أن هذه الآيات جامعة بين الدلالة على قدرة الله، وبين إظهار نعمه، والمقصود من إعادة بعض معانيها في رأي القائلين بالتكرار الحث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر على تلك النعم. بعض التكاليف الدينية الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الإنفاق [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 12] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

الإعراب:

الإعراب: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لا تُؤْمِنُونَ في قراءة: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من معنى الفعل في ما لَكُمْ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال، والواو: واو الحال، وتقديره: ما لكم غير مؤمنين بالله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ.. والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى كُلًّا: منصوب ب وَعَدَ والْحُسْنى: منصوب مفعول ثان ل وَعَدَ وقرئ: وكل على أنه مبتدأ، ووَعَدَ: خبره، وقدر في وَعَدَ هاء، أي وعده الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أي أولئك كل وعد الله، ووَعَدَ: صفة ل كُلًّا. يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ.. يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ويَسْعى نُورُهُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، لأن تَرَى بصرية لا قلبية. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تقديره: دخول جنات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن البشارة إنما تكون بالأحداث، لا بالجثث. البلاغة: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ فيه حذف بالإيجاز، تقديره: ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لدلالة الكلام عليه بعدئذ، ولوضوحه.

المفردات اللغوية:

لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، حيث استعار الظُّلُماتِ للكفر والضلالة، والنُّورِ للإيمان والهداية. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً استعارة تمثيلية، مثل حال المنفق بإخلاص بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء. المفردات اللغوية: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صدقوا بوحدانية الله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وداوموا على الإيمان بهما. وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أنفقوا في سبيل الله من الأموال التي جعلكم خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة له، لا لكم، وسيخلفكم بدلا عنها، وفيه حث على الإنفاق وتهوين له على النفس. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ هذا وعد فيه عدة مبالغات هي جعل الجملة اسمية، وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق، وبناء الحكم على الضمير، وتنكير كلمة الأجر، ووصفه بالكبر. وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ خطاب للكفار، أي لا مانع لكم من الإيمان. وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أخذه الله عليكم في عالم الذر حين أشهدكم على أنفسكم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وكذلك بعد وجودكم، إذ أقام الأدلة على وجوده وتوحيده في الأنفس والآفاق، ومكنكم من النظر بالعقل والتفكير. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم مريدين الإيمان به، فبادروا إليه. آياتٍ بَيِّناتٍ هي آيات القرآن. لِيُخْرِجَكُمْ الله تعالى، أو عبده محمد صلى الله عليه وسلم. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبّهكم بالرسل والآيات، ولم يقتصر على الحج العقلية. وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي وما لكم بعد إيمانكم ألا تنفقوا في سبيل الجهاد وفيما يكون قربة إليه. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان الأمر كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى، وهو الثواب، كان أولى. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا تساوي بين المنفق قبل فتح مكة وقاتل الأعداء، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوجود السبق في الإيمان، وقوة اليقين، وتحرّي المصالح العامة للمسلمين. وذكر القتال للاستطراد. والمراد بالفتح فتح مكة الذي أعز الله به الإسلام، وكثر أهله، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق والمقاتلة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وكلّا من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بأعمالكم الظاهرة والباطنة، فمجازيكم على حسبها.

سبب النزول:

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ... ؟ أي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه. قَرْضاً حَسَناً خالصا لله. فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعطي أجره أضعافا. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ مقترن بالرضا والقبول. يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمامهم. وَبِأَيْمانِهِمْ كتبهم، لأنهم يؤتون صحائف أعمالهم من الأمام واليمين. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي تتلقاهم الملائكة تبشرهم بدخول الجنات، وبشراكم أي ما تبشرون به. سبب النزول: نزول الآية (7) : آمِنُوا بِاللَّهِ: نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك. نزول الآية (10) : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ..: ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذكر أيضا عن ابن عمر قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال، إذ نزل عليه جبريل عليه السلام، فأقرأه من الله السلام، وقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال؟ فقال: يا جبريل، أنفق ماله قبل الفتح عليّ، قال: فأقرئه من الله سبحانه وتعالى السلام، وقل له: يقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، هذا جبريل يقرئك من الله سبحانه السلام، ويقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر، وقال: على ربي أغضب، أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض «1» .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 230 وما بعدها، تفسير القرطبي: 17/ 240

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أدلة إثبات وحدانيته وعلمه وقدرته، بمشاهد في السموات والأرض والأنفس، أتبعها ببعض التكاليف الدينية، فأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وباستدامته والإخلاص فيه، ثم طلب من المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، وأخبر بمضاعفة الأجر عليه، وأبان أن آياته تخرج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وفضّل السابقين الأولين إلى الإسلام الذين أسلموا وأنفقوا قبل فتح مكة، ثم أكد الحث على الإنفاق مرة أخرى. التفسير والبيان: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي صدّقوا بالتوحيد وبصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، وداوموا واثبتوا على ذلك، وأنفقوا من مال الله الذي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه. ثم رغب في الإيمان والإنفاق في الطاعة، مبينا أن الذين جمعوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين الإنفاق في سبيل الله، لهم ثواب كثير الخير والنفع وهو الجنة. أخرج أحمد عن عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ألهاكم التّكاثر، يقول ابن آدم، مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» ورواه مسلم أيضا وزاد: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . ثم وبخهم الله تعالى على ترك الإيمان، فقال:

وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ أي، وأيّ شيء يمنعكم عن الإيمان، والرسول معكم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، بتلاوة القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة، وقد أخذ الله ميثاقكم بأن تؤمنوا في عالم الذر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، وبما أقام لكم في الكون والآفاق والأنفس من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان، وكذا ما ترشد إليه العقول السليمة، إن كنتم مريدين الإيمان، فبادروا إليه. فهذا توبيخ على ترك الإيمان بشرطين: أحدهما- أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني- أنه أخذ الميثاق عليهم. أخرج البخاري في صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم أيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون، وهم عند ربهم؟ قالوا: فالأنبياء، قال: وما لهم لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم، قالوا: فنحن، قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» . ثم أوضح الله تعالى الغاية من إنزال القرآن لقطع عذرهم، فقال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله أراد بإنزال الآيات البينات الواضحات التي هي القرآن وغيره من المعجزات أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة، إلى نور الهدى واليقين والإيمان، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث أنزل الكتب، وبعث الرسل، لهدايتهم، وأزال الموانع والشّبه، وأزاح العلل. وبعد أن أمرهم بالإيمان والإنفاق، وحثهم عليهما، ووبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، فقال:

وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي، أيّ عذر لكم وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد من أجله، فأنفقوا ولا تخشوا فقرا، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض، وهو متصرف فيهما وعنده خزائنهما، وكل الأموال صائرة إلى الله سبحانه، إن لم تنفقوها في حياتكم، كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لكم منه شيء، فالمال مال الله، والله يقول: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ 34/ 39] ويقول: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ، وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 16/ 96] . وهكذا أمر الله أولا بالإيمان والإنفاق، ثم أكد إيجاب الإيمان، ثم أكد في هذه الآية إيجاب الإنفاق. وبعد أن بيّن الله تعالى أن الإنفاق فضيلة، بيّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة، وأن للمنفقين درجات بحسب أحوالهم، فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أي لا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف، ولا يجدون من المال إلا قليلا، أما بعد الفتح فقد كثر المسلمون، وزاد الخير. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة، مع تفاوت الدرجات، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة، فيجازيكم بذلك، إذ لا يخفى عليه شيء مما أنتم عليه. أخرج الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام

سبقتمونا بها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوا لي أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد، أو مثل الجبال ذهبا، ما بلغتم أعمالهم» «1» . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم، ولا نصيفه» . ثم بيّن الله تعالى ثمرة الإنفاق، فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله، محتسبا أجره عند ربه، فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا، أي بلا منّ ولا أذى، طيبة به نفسه، فإن الله يضاعف له ذلك القرض، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع وجزاء كريم جميل، وهو الجنة. روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي- بستاني- وله حائط فيه ست مائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل. وفي رواية: أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها

_ (1) ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة.

وصبيانها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كم من عذق «1» رداح في الجنة لأبي الدّحداح» . ثم أخبر الله تعالى عن حال المؤمنين المتصدقين يوم القيامة، فقال: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي وله أجر كريم، أو اذكر تعظيما لذلك اليوم «2» حين تنظر المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم، وتكون كتبهم بأيمانهم، أي تكون أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم، وهدايتهم إلى الجنة، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق 84/ 8- 9] . وإنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن ذلك أمارة النجاة. والناس كما قال ابن مسعود في هذه الآية على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه، يتّقد مرة، ويطفأ مرة «3» . وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء، فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه» . بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ويقال لهم من قبل الملائكة: لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، تكريما وجزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال،

_ (1) العذق: النخلة بحملها، والرداح: المثمر. (2) يوم: ظرف لقوله: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أو منصوب ب «اذكر» ، تعظيما لذلك اليوم. (3) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

ذلك النور والبشرى هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه. ونظير الآية: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد 13/ 24] . والخلاصة: أن الإيمان والإنفاق سبب لثلاثة أمور: النجاة يوم الحساب، وتبشير الملائكة بالجنة، والخلود في جنات النعيم. وقد دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال القيامة، لأنه تعالى بيّن أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص. فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- وجوب الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي التصديق بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي الاشتغال بطاعة الله تعالى. 2- وجوب الإنفاق في سبيل الله، والمراد بذلك الزكاة المفروضة، وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات والقربات. وهذا يعني الأمر بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله تعالى. 3- دل قوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ على أن أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له في ماله إلا التصرف الذي يرضي الله، فيثيبه على ذلك بالجنة. فمن أنفق من ماله في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منه، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم. وهذا دليل على أن الأموال ليست بأموال الناس في الحقيقة، وما هم إلا

بمنزلة النواب والوكلاء، فليغتنم المؤمن الفرصة في الأموال بإقامة الحق قبل أن تزال عنه إلى من بعده. 4- للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، والذين أنفقوا في سبيل الّه أجر كبير وهو الجنة. 5- وبّخ الله على ترك الإيمان بالله تعالى، فأي عذر للناس في ألا يؤمنوا وقد أزيلت الموانع وأزيحت العلل؟ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالبرهان الصحيح والدليل المقنع إلى الإيمان بالله، والله سبحانه أخذ الميثاق الأول على الناس حينما كانوا في ظهر آدم بأن الله ربهم، لا إله لهم سواه، ومن ميثاقهم أيضا ما أودع الله لهم من العقول والأفكار، وأقام الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كنتم أيها الناس مؤمنين بالحج والدلائل، فبادروا إلى الإيمان. 6- أيّد الله نبيه بما يدل على صدقه وبما يؤدي إلى إنجاح دعوته بالقرآن والمعجزات، فيلزم الناس بعدئذ الإيمان، لأن آيات القرآن البينات تخرج من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإيمان، وإن الله بالناس لرؤوف رحيم إذ أنزل لهم الكتب وبعث الرسل وأزال الموانع والعلل التي تمنع من الإيمان. 7- وبخ الله تعالى أيضا على عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، وفيما يقرب من الله سبحانه، فالناس جميعا يموتون، ويخلفون أموالهم، وهي صائرة إلى الله تعالى، كرجوع الميراث إلى المستحق له. وهكذا أمرت الآيات بالإيمان وبالإنفاق، ثم أكدت وجوب الإيمان وإيجاب الإنفاق، فهو ترتيب حسن بارع، انتقل فيه البيان من الأمر المفيد للوجوب إلى ذكر الرادع أو المؤيد، والتهديد على التقصير أو الإهمال.

8- يكون ثواب الإنفاق أعظم إذا كانت الحاجة إليه أشد بسبب الأزمات والظروف الضيقة، لذا نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل الأعداء، وبين من أنفق من بعد الفتح وقاتل، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر 59/ 20] لأن المال كان أقل، والحاجة إلى النفقة أشد، والمسلمين قلة، أما بعد الفتح فكثر الخير، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق، وكثر المسلمون. روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدّم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ. وقال الكلبي كما تقدم: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيهما دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. قال ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم. والتقدم والتأخر يكون في أحكام الدنيا والدين، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم، وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه فيما رواه الشيخان والترمذي وأ بن ماجه عن عائشة: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» وقال فيما رواه أحمد عن أنس: «يؤمّ القوم أقرؤهم للقرآن» وقال فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث: «وليؤمّكما أكبركما» وقال مالك: إن للسن حقا، وراعاه الشافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيّرين قدّم العلم. وأما أحكام الدنيا فهي مرتّبة على أحكام الدّين، فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا. وفي الحديث الثابت الذي رواه الترمذي عن أنس: «ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه» . وروى الترمذي أيضا عن أنس: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا» وفي رواية لأحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمرو: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا»

حال المنافقين يوم القيامة [سورة الحديد (57) الآيات 13 إلى 15] :

وفي رواية أخرى لأحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت: «ليس منا من لم يجلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» . 9- وعد الله تعالى كلّا من المتقدمين المتناهين السابقين، والمتأخرين اللاحقين الجنة، مع تفاوت الدرجات. 10- ندب القرآن مرة أخرى في هذه الآيات إلى الإنفاق في سبيل الله، وأبان أن ثواب الصدقة التي يحتسب فيها المتصدق من قلبه بلا منّ ولا أذى مضاعف ما بين السبع إلى سبع مائة، إلى ما شاء الله من الأضعاف، بحسب الأحوال والأشخاص، ويكون للمنفق جزاء جميل، ورزق باهر، وهو الجنة يوم القيامة. 11- إن هذا الأجر الكريم والجزاء الجميل يكون للمؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا في سبيل الله، ويكون إيمانهم وعملهم الصالح سببا للنجاة واجتياز الصراط، وهو الضياء الذي يمرون فيه، ويكون أمامهم، وتكون كتب أعمالهم بأيمانهم، وتبشرهم الملائكة بدخول الجنة خالدين فيها أبدا، ولا تنالهم أهوال القيامة، ويدخلون الجنة، وذلك هو الفوز الأكبر. حال المنافقين يوم القيامة [سورة الحديد (57) : الآيات 13 الى 15] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

الإعراب:

الإعراب: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يَوْمَ: ظرف، وعامله ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أو بدل من يَوْمَ الأول. ارْجِعُوا وَراءَكُمْ وراء هنا: اسم ل ارْجِعُوا وليس بظرف ل ارْجِعُوا قبله، فلا يكون ظرفا للرجوع لقلة الفائدة فيه، لأن لفظ الرجوع يغني عنه، ويقوم مقامه. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الباء: زائدة، وسور: في موضع رفع، لأنه نائب فاعل. مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ مَوْلاكُمْ: إما مصدر مضاف إلى المفعول، ومعناه: تليكم وتمسكم، أو معناه: أولى بكم، وأنكر بعضهم هذا الوجه، وقال: إنه لا يعرف المولى بمعنى الأولى. البلاغة: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أسلوب تهكمي، أي لا ولي لكم ولا ناصر إلا نار جهنم. باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ بينهما ما يسمى بالمقابلة. بِسُورٍ لَهُ بابٌ ... وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ سجع مرصع غير متكلف. المفردات اللغوية: انْظُرُونا انتظرونا أو أبصرونا، لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، وقرئ: «أنظرونا» ، أي أمهلونا أو انتظرونا. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نستضيء بنوركم، من الاقتباس: طلب القبس، أي الجذوة من النار، والمراد هنا نأخذ القبس والإضاءة. قِيلَ لهم، استهزاء بهم. ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا. فَالْتَمِسُوا نُوراً أي إلى حيث شئتم، فاطلبوا نورا آخر، فإنه لا سبيل لكم إلى هذا، وهذا تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو من الملائكة. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ ضرب بحائط أو حاجز بين المؤمنين والمنافقين، قيل: هو سور الأعراف. لَهُ بابٌ يدخل فيه المؤمنون. باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ باطن السور أو الباب من جهة المؤمنين لأنه يلي الجنة. وَظاهِرُهُ من جهة المنافقين، لأنه يلي النار. مِنْ قِبَلِهِ من جهته.

المناسبة:

أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي ألسنا على دينكم وعلى الطاعة؟ أي في الظاهر. بَلى أي كنتم معنا. فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق وأهلكتموها بالمعاصي. وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر. وَارْتَبْتُمْ شككتم في دين الإسلام وفي أمر البعث. الْأَمانِيُّ الآمال والأطماع كامتداد العمر وانتكاس الإسلام. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الموت. الْغَرُورُ الشيطان. فِدْيَةٌ فداء يفتدي به، وهو ما يبذل من المال لحفظ النفس من الهلاك. مَأْواكُمُ النَّارُ منزلكم الذي تأوون إليه. مَوْلاكُمْ التي تليكم أو أولى بكم. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة، وأن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة، فهو أمارة النجاة، بيّن حال المنافقين في ذلك اليوم، وأنهم يلتمسون عون المؤمنين لهم، فيجابون بالخيبة واليأس، وألا أمل لهم في النجاة، وأن النار هي مأواهم وأولى بهم، وذلك يدل على أنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا حقا، وعمل بما أمر الله به، وترك ما عنه زجر. التفسير والبيان: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي في ذلك اليوم يوم القيامة يقول المنافقون والمنافقات للمؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم: أيها المؤمنون الناجون انتظرونا لعلنا نستضيء بنوركم، ونخرج من هذا الظلام الحالك، والعذاب الأليم المنتظر. قال جمع من العلماء: الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار، والمنافقون يطلبونها منهم قائلين: انْظُرُونا لأنهم إذا نظروا إليهم، والنور قدامهم، استضاؤوا بتلألؤ تلك الأنوار. فيجابون بما يخيب آمالهم، كما قال تعالى:

قِيلَ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ، فَالْتَمِسُوا نُوراً أي تقول لهم الملائكة أو المؤمنون: ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة. وفي هذا تهكم بهم واستهزاء بطلبهم، كما كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، حين كانوا يقولون: آمنا، وما هم بمؤمنين. ثم يحسم الله الموقف وهذه المحاورة بقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ، لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين حاجز، باطن ذلك السور، وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة، فيه الرحمة، وهي نعم الجنة، والجانب الذي يلي أهل النار، من جهته عذاب جهنم. ثم يذكر الله تعالى حال المنافقين واستغاثاتهم، فيقول: يُنادُونَهُمْ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا: بَلى، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ، وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم: ألم نكن معكم في الدار الدنيا، نوافقكم في أعمالكم، نشهد معكم الجمعات، ونصلّي معكم الجماعات في المساجد، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم معارك الجهاد، ونؤدي معكم سائر الواجبات، ونعمل بأعمال الإسلام كلها؟ فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى قد كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وإبطان الكفر، وأهلكتموها باللذات والمعاصي والشهوات، وأخرتم التوبة، وتربصتم الدوائر وحوادث الدهر بالمؤمنين، وبالحق وأهله، وشككتم في أمر الدين والبعث بعد الموت، ولم تصدّقوا ما نزل به القرآن، ولا آمنتم بالمعجزات الظاهرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

وغرتكم الأماني الباطلة حيث قلتم: سيغفر لنا، وغرتكم الدنيا وطول الأمل، حتى جاءكم الموت، وغرّكم أو خدعكم الشيطان، حتى قال لكم: إن الله غفور رحيم لا يعذبكم. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ، هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي ففي هذا اليوم لا تقبل منكم فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب، أيها المنافقون، كما قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [البقرة 2/ 123] ولا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا، منزلكم الذي تأوون إليه النار، هي أولى بكم من كل منزل، وبئس المصير الذي تصيرون إليه، وهو النار. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- يستنجد المنافقون (الذين أظهروا الإسلام في الدنيا وأبطنوا الكفر) بالمؤمنين الذين نجوا من العذاب، طالبين منهم انتظارهم أو إمهالهم وتأخيرهم ليأخذوهم معهم، والاستضاءة بنورهم. قال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور، ويترك الكافر والمنافق بلا نور. 2- تقول الملائكة أو المؤمنون لهم: ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور، فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا، فإنكم لا تقتبسون من نورنا. 3- لما رجعوا وانعزلوا في طلب النور ضرب حاجز بين الجنة والنار، باطنه فيه الرحمة، وهو ما يلي المؤمنين، وظاهره فيه العذاب وهو ما يلي المنافقين. 4- ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونجاهد كما تجاهدون، ونفعل مثلما تفعلون؟

خشية الله وجزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين [سورة الحديد (57) الآيات 16 إلى 19] :

فيجيبهم المؤمنون بقولهم: بلى، قد كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم استعملتم أنفسكم في الفتنة، وأهلكتموها بالنفاق والمعاصي والشهوات واللذات، وتربصتم بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر، وغرتكم الأباطيل، حتى حضركم الموت، وخدعكم بالله الشيطان. 5- أيأسهم الله تعالى من النجاة، وأخبرهم بأنه لا يقبل منهم يوم القيامة فدية يدفعون بها العذاب عن أنفسهم، ومقامهم ومنزلهم النار، هي أولى بهم من كل منزل، وساءت مرجعا ومصيرا. خشية الله وجزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) الإعراب: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ما: اسم موصول بمعنى الذي في موضع جر بالعطف على قوله: لِذِكْرِ اللَّهِ ويجوز أيضا أن تكون مصدرية، وتقديره: لذكر الله وتنزيل الحق ووَ لا يَكُونُوا معطوف على تَخْشَعَ.

البلاغة:

وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَأَقْرَضُوا: إما معطوف على ما في صلة الألف واللام في قوله: الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ على تقدير: إن الذين تصدقوا وأقرضوا، وإما أن يكون: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ اعتراضا بين اسم إِنَّ وخبرها، وهو يُضاعَفُ لَهُمْ وجاز هذا الاعتراض، لأنه يؤكد المعنى الأول من التصدق. وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ، وخبره: لَهُمْ أَجْرُهُمْ. البلاغة: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها استعارة تمثيلية، استعار إحياء الأرض بالنبات لإحياء القلوب القاسية بالقرآن وتلاوته. المفردات اللغوية: أَلَمْ يَأْنِ ألم يأت وقته، يقال: أنى الأمر أنيا وأناء وإناء: إذا جاء أناه، أي وقته. أَنْ تَخْشَعَ تخشى وتخاف. لِذِكْرِ اللَّهِ وعظه وإرشاده. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هو القرآن. أُوتُوا الْكِتابَ هم اليهود والنصارى، والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى الله عنهم بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الزمن، أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ صلبت ولم تلن لذكر الله. فاسِقُونَ خارجون عن حدود دينهم، مخالفون للأوامر والنواهي. اعْلَمُوا خطاب للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة. أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يحييها بالماء والنبات بعد جدبها، فكذلك يفعل بقلوبكم يردها إلى الخشوع، وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أوضحنا لكم الآيات الدالة على قدرتنا بهذا البيان هنا وغيره، وهي الحجج. تَعْقِلُونَ تتدبرون. إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي الذين تصدقوا واللاتي تصدقن بأموالهم على المحتاجين من التصدق: أدغمت التاء في الصاد، وفي قراءة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق: الإيمان. وَأَقْرَضُوا اللَّهَ راجع إلى الذكور والإناث معا بطريق التغليب. قَرْضاً حَسَناً صدقة مقرونة بالإخلاص ابتغاء مرضاة الله، بلا من ولا أذى ولا إرادة جزاء من المحتاج المعطى. يُضاعَفُ لَهُمْ يضاعف الله لهم ثواب عملهم، وفي قراءة يضعّف بالتشديد، أي قرضهم. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ثواب جميل ورزق باهر. أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ المبالغون في التصديق، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين وهم الذين كثر صدقهم وصار سجية لهم. وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ هم الذين قتلوا في سبيل الله، جمع

سبب النزول نزول الآية (16) :

شهيد، سمي بذلك، لأن الملائكة تشهد له بالجنة، أو القائمون بالشهادة لله أو لهم أو على الأمم يوم القيامة، والمراد بهم الأنبياء، لقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء 4/ 41] . وَالَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا وجود الله ووحدانيته. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار، قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة. سبب النزول: نزول الآية (16) : أَلَمْ يَأْنِ..: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أبي رواد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية. وأخرج أيضا عن السّدّي عن القاسم قال: ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملّة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ثم ملّوا ملّة، فقالوا حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية. وأخرج ابن المبارك في الزهد عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فنزلت: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية. وروي مثل هذا عن ابن مسعود، وقال: ما كان بين

المناسبة:

إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين «1» . وقال ابن عباس: إنه عاتبنا على رأس ثلاث عشرة سنة. المناسبة: بعد بيان حال المؤمنين وحال المنافقين يوم القيامة، أتبعه بندب المؤمنين الذين فترت عزائمهم إلى الخشوع وخشية القلب ولينه بسماع مواعظ القرآن وإرشاداته، وحذرهم من مماثلة أهل الكتاب الذين قست قلوبهم لطول العهد بينهم وبين أنبيائهم، فأهملوا أوامر الدين ونواهيه، ثم ذكر الفرق بين جزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين. التفسير والبيان: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي ألم يحن الوقت لأن تلين قلوب المؤمنين وترقّ عند سماع تذكير الله ووعظه وقرآنه، فتفهمه وتنقاد له وتسمع أوامره وتطيعه وتجتنب نواهيه؟ روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية. والظاهر أن هذا القول أصح من غيره، لأن السورة مدنية. ثم نهاهم عن مماثلة أهل الكتاب، فقال: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي ولا يتشبهوا بحملة الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن، حين طالب

_ (1) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه والبزار.

عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم بذلك السبب، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة ولا بالوعد والوعيد، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، واتبعوا الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلّدوا أحبارهم ورهبانهم في دين الله من غير دليل ولا برهان، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه، فصارت أعمالهم باطلة، وقلوبهم فاسدة، كما قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة 5/ 13] ولهذا نهى الله المؤمنين عن التشبّه بهم. ثم ضرب الله تعالى المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن، فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالها، ببراهين القرآن ودلائله، قد أوضحنا لكم الآيات والحجج، كي تتدبروها، وتعقلوا ما فيها من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك. ثم أبان الله تعالى ثواب المتصدقين والمتصدقات على البائسين، فقال: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر والبؤس والمسكنة، ودفعوا المال بنية خالصة ابتغاء رضوان الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا، يقابل لهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعفها إلى سبع مائة ضعف إلى أكثر من ذلك، ولهم فوق ذلك ثواب جزيل حسن، ومرجع صالح، ومآب كريم معزّز.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم وصف الله جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله، هم في منزلة الصدّيقين، قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله، فهو صدّيق، والذين استشهدوا في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله ودينه، ورفع راية الحق وأهله، لهم الثواب العظيم عند ربهم، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. وهذا إشارة إلى صنفين من أصناف المؤمنين المخلصين الأربعة، وهم الأنبياء، والصّدّيقون، والشهداء، والصالحون، المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء 4/ 69] . ومن الشهداء ما ثبت في الحديث الذي أخرجه أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا: المقتول في سبيل الله، فقال: إن شهداء أمتي إذن لقليل، المقتول، شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد» الحديث. وهؤلاء هم شهداء الآخرة الذين لهم ثواب خاص. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين أنكروا وجود الله، وجحدوا وحدانيته، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة، وصدق رسله، أولئك لا غيرهم هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا. وهذا بيان حال الأشقياء بعد بيان حال السعداء. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن خشية الله والخشوع لأوامره وأحكامه من صفات أهل الإيمان، وإن الإعراض عن آيات الله ومواعظه وشرائعه من خصال الفاسقين، وهم اليهود

والنصارى الذين بدلوا كلام الله، واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وتركوا الدين الحق، ولم تكن قلوبهم لسماع تذكير الله ووعظه. وهذا نهي صريح للمؤمنين عن مشابهة أهل الكتاب الذين قطعوا الصلة الحقيقية بينهم وبين هدي الله فيما نزل من التوراة والإنجيل والذي لا يخالف ما نزل في القرآن. ولو بقي هذان الكتابان على حالهما ولم يندثرا لظهر التطابق التام بينهما وبين القرآن في أصول الدين والاعتقاد وأصول الشرائع. 2- إن سماع مواعظ الله وآياته يحيي القلوب الميتة، ويلين النفوس القاسية، كما أن الله يحيي الأرض الجدبة الهامدة، ويلينها بالغيث، ويجعل فيها الحركة والحيوية والحياة البهيجة. 3- إن الذين أنفقوا شيئا من أموالهم، وتصدقوا به على الفقراء والبائسين بإخلاص ابتغاء رضاء الله، يضاعف لهم ثواب أعمالهم، ولهم الجنة. 4- المؤمنون بالله ورسله هم الصدّيقون الكاملون في الصدق، إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة، والصديقون يتلون الأنبياء، والشهداء يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، وهؤلاء جميعا لهم الأجر العظيم. عند ربهم، وهم الناجون يوم الحساب، والخالدون في النعيم. 5- الكافرون بالله ورسله، المكذبون بالرسل والمعجزات، هم أصحاب النار المخلّدون فيها المعذبون فيها، فلا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة، لأنهم جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات.

حال الدنيا والحث على عمل الآخرة [سورة الحديد (57) الآيات 20 إلى 21] :

حال الدنيا والحث على عمل الآخرة [سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) الإعراب: كَمَثَلِ غَيْثٍ.. الكاف في موضع رفع، إما وصف لقوله وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وإما خبر بعد خبر وهي الْحَياةُ في قوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ. عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ ... كَعَرْضِ جار ومجرور في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ الذي هو عَرْضُها والجملة في موضع جر، لأنها صفة ل جَنَّةٍ. البلاغة: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. إِلى مَغْفِرَةٍ مجاز مرسل علاقته المسببية، أي إلى سبب مغفرة. المفردات اللغوية: لَعِبٌ ما لا فائدة فيه. وَلَهْوٌ ما يشغل الإنسان عما يعنيه. وَزِينَةٌ تزيين أو ما يتزين به، كالمناصب العالية والمراكب البهية والمنازل الرفيعة والملابس الفاخرة. وَتَفاخُرٌ بالألقاب والأمجاد والأنساب. وَتَكاثُرٌ مباهاة بكثرة الأموال والأولاد. كَمَثَلِ أي أن الدنيا

المناسبة:

في إعجابها لكم واضمحلالها كمثل غَيْثٍ مطر. أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أعجب الزراع نباته الناشئ عنه. ثُمَّ يَهِيجُ ييبس بعد أن كان أخضر. حُطاماً هشيما متكسرا من الجفاف أو اليبس. وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن آثر عليها الدنيا. وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لمن آثر الآخرة، وهذا تنفير عن الانهماك في الدنيا، وحث على العمل للآخرة. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي وما التمتع في الدنيا. إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ متاع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة. سابِقُوا سارعوا مسارعة السابقين في مضمار السباق. إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجبات المغفرة. وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي عرضها كعرضهما، وإذا كان العرض كذلك، فما ظنك بالطول؟ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود به من الجنة والمغفرة يتفضل الله به على من يشاء من عباده من غير إيجاب ولا إلزام. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والله واسع الفضل، لا يبعد منه التفضل بذلك. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أحوال الفريقين: المؤمنين والكافرين في الآخرة، أردفه بما يدل على تحقير أمور الدنيا، وكمال حال الآخرة، فإن الدنيا قليلة النفع سريعة الزوال، والآخرة تامة الفائدة، خالدة باقية، ولا شك أن الأدوم الأخلد مفضل على المؤقت، لذا أعقبه بالحث على ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه والفوز بالنعيم الأبدي. التفسير والبيان: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب لا جدّ، ولهو يتلهى به ثم يذهب، وزينة يتزيّن بها مؤقتا، ومفخرة يفتخر بها بعضكم على بعض بكثرة الأموال وعدد الأولاد. كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ

الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران 3/ 14] . وهذا يدل على حقارة الدنيا، ثم شبهها في سرعة زوالها، مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث وربّاه إلى أن يتكامل نشوؤه ثم يزول، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي أن الدنيا مثل مطر، أعجب الزراع النبات الحاصل به، ثم يجف وييبس بعد خضرته، ثم يكون فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه، تعصف به الرياح. والكفار هنا: الزّراع، لأنهم يكفرون البذر في الأرض، أي يغطونه بالتراب. ونظير الآية: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس 10/ 24] . ثم حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير استعدادا للآخرة، فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي وليس في الآخرة الآتية إلا أمران: إما عذاب شديد لأعداء الله، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به، وخديعة لم يغتر بها، ولم يعمل لآخرته، حتى أعجبته واعتقد أنه لا دار سواها، ولا معاد وراءها، مع أنها حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور، إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه، فنعم المتاع ونعم

الوسيلة. وهذا دليل على أن من استعان على الآخرة بطلب الدنيا، فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه. روى ابن جرير، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» اقرؤوا: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ والزيادة الأخيرة في رواية ابن جرير فقط. وأخرج البخاري وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك» وهذا يدل على اقتراب الخير والشر من الإنسان. ولما ذكر الله تعالى ما في الآخرة من المغفرة أمر بالمسابقة إليها: أي إنه سبحانه حث على المبادرة إلى الخيرات، والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة، من فعل الطاعات، وترك المحرمات التي تكفّر الذنوب والزلّات، وتحصّل الثواب والدرجات، فقال: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي بادروا أو سارعوا مسارعة المتسابقين بالأعمال الصالحة إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم، وسارعوا إلى التوبة الماحية للذنوب والمعاصي، وإلى ما يوصّل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها؟! تلك الجنة التي هيئت وخلقت للذين صدقوا بالله وبرسله، وعمل بما فرض الله عليه، واجتنب نهيه. ثم بيّن الله تعالى أن المغفرة والجنة فضل منه ورحمة، لا إيجاب وإلزام،

فقه الحياة أو الأحكام:

فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي إن هذا الجزاء الموعود به وهو الجنة والمغفرة مجرد فضل من الله ورحمة منه، وليس واجبا عليه. جاء في الحديث الصحيح: «أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم، تسبّحون وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال: فرجعوا، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» . فقه الحياة أو الأحكام: 1- إن المقصود الأصلي من الآية الأولى تحقير حال الدنيا، وتعظيم حال الآخرة، لذا وصف الله تعالى الدنيا بخمس صفات: أنها لعب وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدا، ثم تنقضي متاعبهم من غير فائدة، وأنها لهو وهو فعل الشبان، ولا يبقى غالبا بعده إلا الحسرة، وأنها زينة وهذا دأب النساء وهو تكميل الناقص، وتفاخر بين أهلها بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة المادية والقوة الجسدية والأتباع والمنصب، وكلها ذاهبة، وأنها تكاثر في الأموال والأولاد. ثم شبهها في سرعة انقضائها وزوال جمالها بالزرع الذي يعجب الناظرين إليه، لحضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن. وقد ذكر هذا المثل في سورتي يونس (24) والكهف (45) .

تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم [سورة الحديد (57) الآيات 22 إلى 24] :

ثم ذكر حال الآخرة، فالناس فيها إما إلى عذاب شديد دائم لأعداء الله، وإما إلى مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وهو أعظم درجات الثواب. ثم ختم الآية تأكيدا لما سبق بأن الحياة الدنيا مجرد متاع يغرّ ويخدع من أقبل عليها، وهم الكفار، أما المؤمنون فالدنيا لهم متاع بلاغ إلى الجنة. 2- إذا كان هذا شأن الدنيا وحال الآخرة، فما على الناس إلا العمل للآخرة، لذا أمر الله بالمسارعة بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لهم من ربهم، وتبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والجنة كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض، وقد خلقت وهيئت للذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته وبرسله. وفي هذا تقوية للرجاء، ودليل على أن الجنة مخلوقة جاهزة. لكن لا تنال الجنة ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله، والله صاحب الفضل الواسع الكثير. والمراد بهذه الجملة: التنبيه على عظم حال الجنة، لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما. تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

الإعراب:

الإعراب: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي الْأَرْضِ موضعه إما الجر على أنه صفة لمصيبة على اللفظ، أي كائنة في الأرض، وإما الرفع صفة لمصيبة على الموضع، وموضعها الرفع، لأن مِنْ زائدة، وفي الصفة ضمير يعود على الموصوف، وإما النصب على أنه متعلق ب أَصابَ أو ب مُصِيبَةٍ فلا يكون إذن فيه ضمير. وإِلَّا فِي كِتابٍ في موضع نصب على الحال، أي إلا مكتوبا، وهاء نَبْرَأَها تعود على النفس أو على الأرض أو على المصيبة. لِكَيْلا تَأْسَوْا.. تَأْسَوْا منصوب ب (كي) لا بتقدير (أن) بعدها، لأن اللام هنا حرف جر، وقد دخلت على (كي) فلا يجوز أن تكون (كي) حينئذ حرف جر، لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من كل مختال، أو مبتدأ، خبره محذوف دل عليه ما بعده: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأن معناه: ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غني عنه، وعن إنفاقه. وضمير هُوَ ضمير فصل. المفردات اللغوية: مُصِيبَةٍ هي في اللغة: كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وخصت في العرف بالشر، كالجدب والعاهة في الأرض، والمرض والآفة وفقد الولد في الأنفس. إِلَّا فِي كِتابٍ أي اللوح المحفوظ. نَبْرَأَها نخلقها. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إن إثباته في كتاب على الله سهل، لاستغنائه فيه عن العدّ والمدة. تَأْسَوْا تحزنوا. عَلى ما فاتَكُمْ من نعيم الدينا. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ فرح بطر، بل فرح شكر على النعمة، بما أعطاكم الله منها، فإن من علم أن الكل مقدّر، هان عليه الأمر. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ أي يعاقب. كُلَّ مُخْتالٍ متكبر بما أوتي. فَخُورٍ متباه أو مباه على الناس بماله أو جاهه. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بما يجب عليهم. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بالبخل به، لهم وعيد شديد. وَمَنْ يَتَوَلَّ عما يجب عليه. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن غيره الْحَمِيدُ المحمود في ذاته، لا يضره الإعراض عن شكره، ولا ينتفع بالتقرب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن كل ما في الآخرة من مغفرة وجنة من فضله ورحمته، أراد أن يبين أن كل ما في الدنيا من مصائب وأحداث بقضائه وقدره، لتهوين أمر المصيبة على المؤمنين. ثم حذر الله تعالى من الحزن على ما فات من نعيم الدنيا، والبطر والاختيال والمباهاة عند مجيء النعمة، ثم أخبر أنه يعاقب المختالين الفخورين الذين يبخلون بما يجب عليهم شرعا، بل ويأمرون الناس بالبخل، وهؤلاء لا يجنون إلا على أنفسهم. التفسير والبيان: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي لا توجد مصيبة من هذه المصائب في الدنيا إلا وهي مكتوبة عند الله، فهي بقضاء وقدر، سواء أكانت مصيبة في الأرض مثل القحط والجدب أو قلة النبات، وفساد الزرع، ونقص الثمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوع، أم في الأنفس كالأمراض، والفقر وضيق المعاش، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود، فذلك كله مسطّر في اللوح المحفوظ، من قبل إيجاد هذه الخليقة. وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها الأحسن عود الضمير على الخليقة والبرية أو النسمة، لدلالة الكلام عليها، كما قال ابن جرير. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن إثباتها في الكتاب، مع كثرتها، وعلمه بالأشياء قبل وجودها، سهل يسير على الله، غير عسير، لأن الله هو الخالق، وهو أعلم بما خلق، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون. ورد في الخبر: (من عرف سر الله في القدر، هانت عليه المصائب) . وقد استدل العلماء بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.

فالأشياء والأحداث والمصائب تنسب إلى الله الموجد لها، لا إلى أحد من البشر في الحقيقة، وأما ما يقال من التشاؤم (الطيرة) في المرأة والدابة والدار، فذلك بحسب عرف الناس وتصوراتهم ومقالاتهم، لا في واقع الأمر، كذلك السحر والعين والقتل كل ذلك يحدث بتأثير الله، فهو المؤثر والفعال الحقيقي، وأما فعل الناس فهو مجرد أمر أو سبب في الظاهر، فينسب إليه الشيء الحادث ظاهرا، لا حقيقة. وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لقصرها على أحوال الدنيا، لذا قال صلى الله عليه وسلم: «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» ولم يقل: إلى الأبد. أخرج الإمام أحمد، والحاكم وصححه عن أبي حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا: «إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، ثم قرأت: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ الآية. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا، ولا تفرحوا فرح بطر بما هو آت، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك من قدر الله ورزقه لكم، لذا قال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي إن الله يعاقب كل مختال في نفسه، أي متكبر، فخور على غيره، أي مباه بماله أو جاهه. وبه يتبين أن الحزن المذموم: هو الذي لا صبر لدى صاحبه، ولا رضا

فقه الحياة أو الأحكام:

بقضاء الله وقدره، والفرح الممنوع: هو البطر الذي يحمل صاحبه على الطغيان، ويلهيه عن الشكر. قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا. ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر كالفرح والحزن والغضب، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب وتعاطي أسبابه، أو على توابع الفرح والحزن وهو بطر النعمة وكفرانها، والسخط على القدر، والجزع. وبما أن المختال الفخور يكون غالبا بخيلا، لأنه لا يرى لغيره حقا عليه، ذكر تعالى صفة البخل عندهم، فقال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي إن المختالين الفخورين هم الذين يبخلون عادة بأموالهم، فلا يؤدون حق الله فيها، ولا يواسون بائسا فقيرا، ولا معدما عاجزا، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال، ويحسّنون للناس أن يبخلوا بما يملكون، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا. ولكن من يعرض عن الإنفاق وعن أمر الله وطاعته، فإن الله غني عنه، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه، لا يضره ذلك، ولا يضرن البخيل إلا نفسه، كما قال موسى عليه السلام لقوم فيما حكى القرآن: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كل ما في الكون بأمر الله تعالى، وكل المصائب معلومة لله تعالى، مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخليقة، وحفظ ذلك وعلمه هيّن يسير على الله تعالى.

2- إذا كان الكل مكتوبا مقدرا لا مرد له، هانت المصائب على الناس، وكان عليهم امتثال الأمر، فلا يحزنوا على ما فاتهم من الرزق، ولا يفرحوا بما أوتوا من الدنيا. روى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا «1» . والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما المرء إلى ما لا يجوز. وقد تقدم أن الفرح المذموم: هو الموجب للبطر والاختيال، أي التكبر. وأن الحزن الممنوع: هو الذي يخرج صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين. 3- إن الله يبغض كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس ولا يرضى عنه، ويعاقبه. 4- إن الله لا يحب المختالين الذين يبخلون أو يضنون بالمال عما أوجب الله عليهم من الإنفاق في سبيله، والصدقة به على الفقراء والمساكين، ويأمرون الناس بالبخل مثلهم. 5- من يعرض عن الإنفاق وعن طاعة الله والإيمان بما قدر وقضى فإن الله غني عنه وعن إنفاقه، والله سبحانه هو الغني المطلق الغنى الذي يرزق عباده، والمحمود في ذاته في السماء والأرض، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر 35/ 15] ولا يضره الإعراض عن شكره، بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله.

_ (1) أخرجه الحاكم وصححه وغيره.

الغاية من بعثة الرسل:

الغاية من بعثة الرسل - 1- دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الإعراب: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ جملة مركبة من مبتدأ وخبر، في موضع نصب على الحال من الْحَدِيدَ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ وَلِيَعْلَمَ معطوف على لِيَقُومَ النَّاسُ وَرُسُلَهُ منصوب بالعطف على هاء يَنْصُرُهُ وتقديره: وينصر رسله، مثل: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر 59/ 8] . ولا يجوز نصبه ب لِيَعْلَمَ لأنه يصير فصلا بين الصلة والموصول أي بين يَنْصُرُهُ وقوله: بِالْغَيْبِ وذلك لا يجوز. وبِالْغَيْبِ حال من هاء. يَنْصُرُهُ أي غائبا عنهم في الدنيا. البلاغة: أَرْسَلْنا رُسُلَنا جناس ناقص لتغير الشكل وبعض الحروف. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ سجع مرصع محبب إلى النفس. المفردات اللغوية: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أرسلنا الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ الحجج والمعجزات. الْكِتابَ أراد به الجنس، أي كتب الشرائع. وَالْمِيزانَ العدل. بِالْقِسْطِ الحق.

المناسبة:

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ خلقناه وأخرجناه من المعادن. فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة والمباني الضخمة ونحو ذلك، والبأس: القوة. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ علم مشاهدة وظهور في الواقع الحاصل. مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ من ينصر دينه وينصر رسله باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد وغيره في مجاهدة الكفار الأعداء. بِالْغَيْبِ غائبا عنهم في الدنيا، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على إهلاك من أراد إهلاكه. عَزِيزٌ لا حاجة له إلى نصرة عباده، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وينالوا ثواب الامتثال فيه. المناسبة: بعد بيان حال الدنيا وحال الآخرة، أراد الله تعالى أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات والحجج القاطعات، ويرشد إلى مقومات الرسالات والشرائع الإلهية لتنظيم حياة المجتمعات، وإعزاز دين الله ونصرة رسله. وأما وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد في الآية، فإن العلماء ذكروا وجوها سبعة أظهرها: أن الدين إما اعتقادات أو معاملات أو أصول وفروع، والاعتقادات أو الأصول لا تتم إلا بالكتاب السماوي، لا سيما إذا كان معجزا، والمعاملات أو الفروع لا تصلح ولا تنتظم إلا بالميزان وهو العدل، ولا بد من مؤيد يحمي نظم الشرائع، وذلك المؤيد هو الحديد لتأديب من ترك الأصلين أو الطريقين، وهما الاعتقاد ونظام التعامل «1» . وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع، والعدل يمثل سلطة القضاء، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية. التفسير والبيان: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي تالله لقد أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي، والأنبياء إلى أممهم

_ (1) تفسير الرازي: 29/ 240 وما بعدها، غرائب القرآن للنيسابوري: 27/ 101 وما بعدها.

لتبليغ الوحي، بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة والحجج والبراهين القاطعة، وأنزلنا معهم الكتاب أي جنسه الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وأنزلنا معهم الميزان، أي العدل في الأحكام، أي أمرناهم به، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل، وتقوم حياتهم عليه، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، فهم الحراس على تنفيذ الأحكام واحترام الشرائع واتباع الرسل. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي وخلقنا الحديد مع المعادن، وعلّمنا الناس صنعته، وجعلناه رادعا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ففيه قوة رادعة، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير من حاجاتهم ومعايشهم، كأدوات الطعام ومرافق المنازل وإقامة المباني والعمارات، ومرافق الحياة الاقتصادية وآلات الزراعة، وأدوات الصناعة السلمية والحربية، الخفيفة والثقيلة من آلات وأسلحة وفطارات وبواخر وطائرات وسيارات وغيرها. فكلمة الحديد إشارة إلى القوة الرادعة لتنفيذ أحكام الشريعة بين المسلمين ومن يتعايش معهم في داخل الدولة، ولجهاد الأعداء الدين يعتدون على حرمات الدين وبلاد الإسلام ويعرقلون انتشاره في العالم. لهذا أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية لإصلاح العقيدة والأخلاق وجدال المشركين وإيضاح أصل التوحيد وإثبات النبوة بالمعجزات الباهرات، فلما قامت الحجة على الناس المخالفين، شرع الله الهجرة، وأذن بالقتال دفاعا عن استقرار العقيدة وكرامة المسلمين وعزتهم، وكفالة احترام تعاليم القرآن. روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إنما فعل الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة، باستعمال الحديد، في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء، إن الله قوي قادر عزيز قاهر غالب، يستطيع دفع عدوان الظالمين، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وبثوابه، ويحققوا لأنفسهم العزة والمنعة والهيبة في قلوب الناس، فإن حماية القيم والمبادئ تحتاج دائما إلى حماة أشداء، ذوي بأس وإباء. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآية دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم في الإسلام، فهو مجتمع يحكم بشريعة سماوية، على منهج الحق والعدل والمساواة، وفي ظل من القوة الحامية لمبادئ التشريع الرادعة الزاجرة كل من يتجرأ على انتهاكها أو النيل من قدسيتها، أو محاولة القضاء عليها، أو عرقلة مسيرة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج. أساس هذه الشريعة: المعجزات البيّنة والشرائع الظاهرة التي تضمنتها الكتب السماوية، واحتواها وصاغها خاتم هذه الكتب وهو القرآن العظيم دستور الحياة البشرية. ومنهج الحكم في شريعة الله تعالى هو التزام الحق والعدل في المعاملات فبالعدل قامت السموات والأرض، وهو المعبر عنه بالميزان، الذي دل عليه قوله تعالى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن 55/ 7- 9] . والحديد رمز القوة الرادعة لكفالة احترام الأحكام في دار الإسلام، ولتأديب المعتدين والمعادين لشرع الله ودينه وحرمات أهله ودياره. روى عمر رضي الله

- 2 - وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله [سورة الحديد (57) الآيات 26 إلى 29] :

عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه في الفردوس عن ابن عمر: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح» . وفي الحديد أيضا منافع كثيرة للناس في شؤون معايشهم وتحقيق حاجياتهم في المنازل والمصانع والمعامل والمباني والأسلحة وآلات الزراعة ووسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية. وقد أنزل الله الحديد وخلقه للناس ليعلم علم مشاهدة حسية من ينصر شرعه ودينه وينصر رسله، وهم غائبون عنه لم يروه، إن الله قوي على الأمور في أخذه، منيع غالب لا يمانع، والنصر الصحيح: هو ما كان عن إخلاص بالقلب، وهو المراد بِالْغَيْبِ. - 2- وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

الإعراب:

الإعراب: ... وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها.. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ رَهْبانِيَّةً منصوبة بفعل مقدر، أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها. وابْتِغاءَ مستثنى ب إلا من غير الجنس، أو بدل من الضمير المنصوب في كَتَبْناها. لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. لِئَلَّا بكسر اللام على القراءة المشهورة، وقرئ بفتحها وهي لغة لبعض العرب، ولا: إما زائدة، وهو الظاهر، أو غير زائدة بمعنى: لئلا يعلم أهل الكتاب أن يفعل بكم هذه الأشياء من إيتاء الرحمة والمغفرة وجعل النور، ليبين جهل أهل الكتاب، وأن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على إزالته وتغييره. وبعبارة أخرى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله، ولا ينالونه. المفردات اللغوية: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ جعلنا النبوة في ذرية نوح وإبراهيم، والكتاب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والفرقان. فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ من الذرية أو من المرسل إليهم. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم. قَفَّيْنا اتبعنا أو جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان، يقال: قفّى أثره، وقفّى على أثره: أتبعه. الْإِنْجِيلَ الكتاب الذي أنزل الله على عيسى عليه السلام. رَأْفَةً هي دفع الشر باللطف واللين. وَرَحْمَةً جلب الخير والمودة بالحسنى. وَرَهْبانِيَّةً أو هبنة: هي الانقطاع للعبادة عن الناس، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب والزواج. ابْتَدَعُوها استحدثوها وليست في دينهم. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم، أو ما أمرناهم بها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أي لكنهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله. فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي لم يرعها الجميع، فتركها كثير منهم، وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين ملكهم. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح والمحافظة على حقوقه. مِنْهُمْ من أتباعه. فاسِقُونَ خارجون عن حال الاتباع.

سبب النزول:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرسل المتقدمة. اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم. كِفْلَيْنِ نصيبين، الكفل: الحظ والنصيب. مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بالنبيين. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ أي نورا تمشون به على الصراط، يكون أساس النجاة، وهو المذكور في قوله تعالى المتقدم في السورة: يَسْعى نُورُهُمْ. وَيَغْفِرْ لَكُمْ الكفر والمعاصي. لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي ليعلم، ولا: زائدة، ويؤيده أنه قرئ: (ليعلم، ولكي يعلم، ولأن يعلم) . وأهل الكتاب هنا: اليهود وأصحاب التوراة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. أَلَّا يَقْدِرُونَ أن: مخففة من الثقيلة، أي أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله، ولا يتمكنون من نيله، ولا يستطيعون التصرف في أعظم فضله وهو النبوة، فيخصونها بمن أرادوا. يُؤْتِيهِ يعطيه. سبب النزول: نزول الآية (28) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا الآية [القصص 28/ 54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور. نزول الآية (29) : لِئَلَّا يَعْلَمَ..: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي، فيقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا، فأنزل الله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. الآية، يعني بالفضل النبوة.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة النبوة تقتضي وحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة، فما جاء أحد بعد نوح وإبراهيم بالنبوة إلا من سلالتهما وعلى منهجهما، وتلك نعمة شرف الله بها نوحا وإبراهيم عليهما السلام. ثم أوضح الله تعالى أن الأجر والثواب واحد لكل من آمن بالرسل المتقدمة، وأكمل إيمانه بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن النبوة فضل من الله ورحمة، لا تختص بقوم دون قوم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يصح قول اليهود: إن الرسالة فينا دون غيرنا، ونحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن شعب الله المختار. التفسير والبيان: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي تالله لقد بعثنا نوحا أب البشر الثاني إلى قومه وإبراهيم خليل الرحمن أبا الأنبياء وأبا العرب إلى قوم آخرين، وجعلنا الرسالة والنبوة في ذريتهما، فكل الأنبياء من سلالتهما، فلم يرسل الله بعدهما رسولا ولا نبيا إلا من ذريتهما، وكذلك جعلنا الكتب المنزلة فيهما، فلم ينزل الله كتابا ولا أوحى إلى بشر وحيا إلا من سلالتهما. فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي كان مصير الذرية الانقسام إلى فريقين، فمنهم جماعة مهتدون إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وطاعته، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا. وهذا دليل على أن الانحراف والخروج عن جادة الحق كان بعد التمكن من معرفته والوصول إليه وقيام الحجة عليهم.

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي ثم بعثنا بعدهم رسلا تترى، رسولا بعد رسول، وبعضهم بعد بعض، مع مرور العصور، وذلك إلى أن انتهى الأمر إلى أيام عيسى عليه السلام، فخصه بالذكر لشهرته في عصر التنزيل، فقال: وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي وأتبعنا سلسلة الرسل بعيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل: وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، متضمنا أصول شرعه، ومكملا لما في التوراة، وموضحا حقيقة الشريعة وحكمتها، ومخففا بعض أحكامها القاسية التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل لظلمهم وفحشهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء 4/ 160] . ثم ذكر الله تعالى بعض صفات أتباع عيسى، فقال: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي وجعلنا في قلوب أتباعه وهم الحواريون وأنصارهم رقة في الطبع ورحمة بالخلق، خلافا لليهود القساة، وابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم، ولم يشرعها الله لهم، ولم يأمرهم بها، بل ساروا عليها غلوا في العبادة، وحمّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع عن المطعم والمشرب والزواج، وانعزلوا عن الناس وانقطعوا إلى العبادة في الكهوف والصوامع، ولبسوا الملابس الخشنة، تقربا إلى الله تعالى. ولكنهم ابتدعوا الرهبانية بقصد مرضاة الله، غير أنهم لم يراعوها حق الرعاية، ولم يحافظوا على أصولها، بل ضيّعوها، واستعملها كثير منهم في الفساد. وهذا- كما قال ابن كثير- ذمّ لهم من وجهين: أحدهما- الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله تعالى.

والثاني- أنهم لم يقوموا بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل. روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن مسعود، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منهم إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت، فصبرت، ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكر الله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ «1» . فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته، يأكلون أموال الناس بالباطل، وسلوكهم منحرف. روى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشدّدوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم، فشدّد عليه، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» .

_ (1) ورواه ابن جرير بلفظ آخر.

وروى الإمام أحمد عن إياس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل» . ثم ذكر الله تعالى ثواب المؤمنين بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يا أيها الذين صدقوا بوجود الله تعالى ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم من مؤمني أهل الكتاب: اليهود والنصارى، خافوا الله تعالى، بترك ما نهاكم عنه، وأداء ما أمركم به، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته، بسبب إيمانكم برسوله صلى الله عليه وسلم، بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط، تهتدون به في الآخرة، وهدى تبصرون به العمى والجهالة في الدنيا، ويغفر لكم ما سلف من ذنوبكم، والله بليغ المغفرة والرحمة. فهذا وعد للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بجميع الأنبياء قبله يتضمن ثلاثة أمور: مضاعفة الثواب، وجعل النور لهم على الصراط للنجاة، ومغفرة الذنوب والسيئات. أخرج الشيخان صاحبا الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، فله أجران، ورجل أدّب أمته، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران» . ثم رد الله على اليهود الذين زعموا اختصاص النبوة فيهم، فقال: لِئَلَّا يَعْلَمَ» أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

_ (1) أي ليعلم كما تقدم، وقرأها ابن مسعود وغيره: لكي يعلم، قال ابن جرير: لأن العرب تجعل

فقه الحياة أو الأحكام:

أي اتقوا الله وآمنوا يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة، ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب على رد ما أعطاه الله، ولا إعطاء ما منع الله، فإنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقدرون أن يمنعوا ذلك الفضل الذي تفضل به على المستحقين له، كالنبوة والرسالة وغيرهما، وأن الفضل ومنه النبوة والعلم والتقوى بيد الله، يعطيه من يشاء، كما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته منه نصيبا أوفر من دين الإسلام، والله واسع الفضل، كثير العطاء والخير لمن يشاء من عباده. والخلاصة: أن إيمان أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل وبموسى وعيسى لا يكفي، ولا ينفع شيئا، ما لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين. فقه الحياة أو الأحكام: هذه الآيات تفصيل ما أجمل في الآيات السابقة من إرسال الرسل بالكتب، وقد دلت على ما يأتي: 1- أخبر الله أنه أرسل نوحا وإبراهيم، وجعل النبوة في نسلهما، فجعل بعض ذريتهما الأنبياء، وأوحى إليهم الكتب المنزّلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. 2- بعض تلك الذرية آمن وائتم بإبراهيم ونوح واهتدى، وكثير منهم كافرون خارجون عن طاعة الله تعالى.

_ (لا) صلة زائدة مؤكدة في كل كلام، دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف 7/ 12] . وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بالله [الأنعام 6/ 109] . وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء 21/ 95] .

3- أتبع الله سبحانه على آثار تلك الذرية رسلا كثيرين كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم، وعيسى ابن مريم، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه، وآتاه الله الإنجيل، وهو الكتاب المنزل عليه. 4- جعل الله تعالى في قلوب الذين اتبعوا عيسى على دينه، وهم الحواريون وأتباعهم، رأفة ورحمة، أي مودّة، فكان يوادّ بعضهم بعضا، والرأفة: اللين، والرحمة: الشفقة. وهذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس، وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم، وحرّفوا الكلمة عن مواضعه. قال مقاتل: المراد من الرأفة والرحمة: أنهم كانوا متوادّين بعضهم مع بعض، كما وصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. واستدل أهل السنة بقوله: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ... على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وكسب للعبد، لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية. 5- لقد ابتدع أتباع عيسى الرهبانية (الفعلة المنسوبة إلى الرهبان) من قبل أنفسهم، ولم يفرضها الله عليهم ولا أمرهم بها، لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فما قاموا بها حق القيام، وتسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة مع الناس، وأكل أموالهم، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة 9/ 34] . والمراد من الرهبانية كما ذكر الرازي وغيره: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، ومتحملين كلفا زائدة على العبادات

التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن، والاعتزال عن النساء، والتعبد في المغاور والكهوف. عن ابن عباس: أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام غيّر الملوك التوراة والإنجيل، فساح قوم في الأرض، ولبسوا الصوف. 6- آتى الله الذين آمنوا من أتباع عيسى والذين ابتدعوا الرهبانية أولا ورعوها أجرهم المستحق لهم، وكان كثير من المتأخرين بعدئذ فاسقين خارجين عن حدود الله وطاعته، كافرين بما جاء به عيسى وموسى عليهما السلام، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصوامع والمغاور، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. 7- هذه الآية: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده، فيدخل في الآية. وفيها أيضا دليل على أن العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت مندوب إليه عند فساد الزمان وتغيّر الأصدقاء والإخوان. 8- أمر الله تعالى صراحة مؤمني أهل الكتاب (الذين آمنوا بموسى وعيسى) أن يتقوا الله حق تقاته باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وأن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فعلوا كان لهم مثلان من الأجر على إيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص 28/ 54] . ويجعل الله لهم أيضا نورا، أي بيانا وهدى إلى الحق في الدنيا، وضياء يمشون به على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم. وهذا وعد من الله منجز في أمور ثلاثة كما تقدم: مضاعفة الثواب، وجعل النور، وغفران الاثام.

9- رد الله تعالى بقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ.. بما يأتي على بني إسرائيل الذين كانوا يقولون: الوحي والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلا لنا، والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جمع العالمين. إن النبوة ليست مختصة بهم، وغير حاصلة إلا في قومهم، فهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر النبوة والرسالة في قوم مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده، ولا اعتراض عليه في ذلك. وهذا المفهوم على القول المشهور عند أكثر المفسرين بأن (لا) في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ صلة زائدة مؤكدة، أي ليعلم أهل الكتاب أنهم عاجزون عن منح أحد شيئا من فضل الله تعالى. وعلى قول أبي مسلم الأصفهاني وجمع آخرين: أن هذه الكلمة ليست بزائدة، يكون المفهوم والمستفاد من الآية: لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه «1» ، وليعلموا أن الفضل بيد الله، ويكون تقدير الآية: إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله، فيكون في هذا القول تقدير محذوف وهو: وليعتقدوا أن الفضل بيد الله. وأما القول الأول فاحتاج إلى حذف شيء موجود، ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف «2» .

_ (1) لأن نفي النفي إثبات، كما تقول: لا تصدّق فلانا أنه ما قال كذا، أي قال. (2) تفسير الرازي، 29/ 247- 248

10- دل قوله: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ.. على أن الفضل الإلهي في ملك الله وتصرفه، يؤتيه من يشاء، لأنه قادر مختار يفعل ما يريد، ودل قوله: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على أنه لا بد وأن يكون إحسانه عظيما، والمراد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته وشرعه وكتابه، وأمر أهل الكتاب بالمبادرة إلى الإيمان برسالته خاتمة الشرائع الإلهية.

سورة المجادلة:

[الجزء الثامن والعشرون] بسم الله الرحمن الرحيم سورة المجادلة مدنيّة، وهي اثنتان وعشرون آية. مدنيتها: هذه السورة مدنية على الصحيح، وروي عن الكلبي أنه قال: نزلت كلها بالمدينة إلا قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ.. فإنها نزلت بمكة. وعن عطاء: العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي. تسميتها: سميت سورة المجادلة، لافتتاحها بقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. وهذه المرأة هي خولة امرأة أوس بن الصامت. مناسبة السورة لما قبلها: تتضح صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي: 1- ذكر في مطلع سورة الحديد صفات الله الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، والعالم بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو مع خلقه أينما كانوا، وذكر في مطلع هذه السورة ما يدل على ذلك وهو سماع قول المجادلة التي تشتكي إلى الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها حين نزلت: «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني في ناحية البيت لا أعرف ما تقول» «1» أي المجادلة.

_ (1) أخرجه سعيد بن منصور والبخاري تعليقا، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، بلفظ «الحمد لله..» .

ما اشتملت عليه السورة:

2- ختمت السورة السابقة ببيان فضل الله، وافتتحت هذه السورة بما يشير إلى بعض الفضل. 3- ذكر في المجادلة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. الآية (7) وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى في السورة السابقة: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) . ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام التشريعية، وقد تضمنت حكم الظهار وكفارته، وحكم التناجي، وأدب المجالس، وتقديم الصدقة في بدء الأمر قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم المنافقين وجزائهم وتكذيبهم ووصفهم بأنهم حزب الشيطان، وموادة أعداء الله وموالاتهم. وتميزت الآيات كلها في هذه السورة باشتمال كل آية على لفظ الجلالة: (الله) لتربية المهابة منه في النفوس، وعدم التجرؤ على مخالفة أحكامها. بدئت السورة ببيان سماع الله صوت امرأة هي خولة بنت ثعلبة، تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مصيرها من زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهر منها قائلا لها: «أنت علي كظهر أمي» وحكم الظهار في الجاهلية تحريم الزوجة تحريما مؤبدا، فبدّل الله ذلك الحكم، وجعل حكم الظهار التحريم المؤقت الذي يزول بإخراج كفارة الظهار المنصوص عليها في الآيات الأولى من هذه السورة: عتق رقبة، فصيام شهرين متتابعين، فإطعام ستين مسكينا (الآيات: 1- 4) وأعقبت ذلك بالحكم بإذلال وخزي الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإحصاء أعمالهم وشهادته عليهم (الآيتان: 5- 6) . ثم ذكرت أدب التناجي في المجالس: وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين، وحرّمته إذا كان تناجيا بالإثم والعدوان، كما كان يفعل اليهود

والمنافقون، وأخبرت بأن الله يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر، وفضحت خبث اليهود ومكرهم وخداعهم حينما كانوا يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية ظاهرها السلام، وباطنها الأذى والسب، قائلين: السام عليك يا محمد، أي الموت (الآيات: 7- 10) . وأردفت ذلك ببيان أدب التفسح في المجالس، وطلب مغادرتها، وأشادت بالمؤمنين الذين يمتثلون أوامر الله وأوامر رسوله، وامتدحت العلماء منهم خاصة، وأوجبت تقديم الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفعت الحكم تخفيفا على المؤمنين وتيسير لقاء نبيهم، وجعلت محله الاشتغال بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله (الآيات: 11- 13) . ثم أبانت مخازي المنافقين الذين يوالون اليهود ويحبونهم، ويفشون أسرار المؤمنين لهم، ويحلفون الأيمان الكاذبة، ويعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالفون أمرهما، فهم مخذولون مهزومون، والمؤمنون أعزة منصورون (الآيات: 14- 21) . وختمت السورة الكريمة بأمر المؤمنين بتجنب الخونة الذين يوالون أعداء الأمة ولو كانوا أقرب الناس إليهم، وينافقون ويتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء، لإضعاف كيان أمتهم وتفريق جمعهم، أما الأمة المتماسكة المتحابّة، فهي أمة الإيمان الحق، وأهل الجنة خالدين فيها أبدا. والتفريق بين الموقفين: موقف الإيمان وموقف الكفر والنفاق يبين أن الحب ينبغي أن يكون لله، والبغض لله، وأن اكتمال الإيمان يتطلب معاداة أعداء الله (الآية: 22) .

الظهار وكفارته [سورة المجادلة (58) الآيات 1 إلى 4] :

الظهار وكفارته [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) الإعراب: قَدْ سَمِعَ قال النحاة: إن قد الداخلة على الماضي لا بد فيها من معنى التوقع، فلا يقال: قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل أو يسأل عنه. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ الَّذِينَ: مبتدأ، وخبره: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أو دليل خبره المحذوف أي الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، وما: نافية حجازية تعمل عمل ليس، وهُنَّ: اسمها، وأُمَّهاتِهِمْ: خبرها المنصوب على لغة أهل الحجاز، وتقرأ بالرفع على لغة بني تميم. وتعدى فعل الظهار بمن لتضمنه معنى التبعيد. وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً مُنْكَراً وَزُوراً: منصوب على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره: وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا.

البلاغة:

ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا الجار والمجرور في موضع نصب، متعلق ب يَعُودُونَ وما: مصدرية، أي يعودون لقولهم، والمصدر في موضع المفعول، كقولك: هذا الثوب نسج اليمن، أي منسوجة، ومعناه: يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلّق الزوج. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ.. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الَّذِينَ: مبتدأ، وتحرير: مبتدأ ثان خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر المبتدأ الأول. البلاغة: قَدْ سَمِعَ السماع هنا مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية. سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ خَبِيرٌ أَلِيمٌ صيغ مبالغة. ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إطناب بذكر الأمهات، لزيادة التقرير والبيان. المفردات اللغوية: سَمِعَ اللَّهُ أجاب وقبل، كما في التسميع: «سمع الله لمن حمده» أي أجابه. الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها تراجعك الكلام أيها النبي في أمرها وأمر زوجها الذي ظاهر منها، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة، وكان قد ظاهر منها قائلا: أنت علي كظهر أمي، فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تأثرا بالعرف: حرمت عليه ، لأن الظهار كان عند العرب موجبا حرمة مؤبدة، فقالت: ما طلقني، فقال: حرمت عليه، فاغتمت لصغر أولادها، وشكت إلى الله تعالى، فنزلت هذه الآيات الأربع. وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ تبث شكواها وغمها وهمها إلى الله، متوقعة أن الله يسمع مجادلتها وشكواها، ويفرج عنها كربها. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما تراجعكما الكلام، بطريق تغليب الخطاب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ للأقوال والأحوال، وهذا يدل على إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ الذين يقولون لنسائهم مثلا: أنت علي كظهر أمي، أي في الحرمة، وكالأم سائر المحارم، وقد كان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار: تشبيه المرأة أو عضو منها بأحد محارمه نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم، وقوله: مِنْكُمْ تهجين لعادتهم فيه، فإنه كان من أيمان الجاهلية. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي ما أمهاتهم إلا اللاتي ولدن الأولاد، فلا تشبه بالمحارم في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن، كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّهُمْ أي بالظهار. لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي قولا منكرا أنكره الشرع، والمنكر: كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع. وَزُوراً كذبا وبهتانا، فإن الزوجة لا تشبه بالأم.

سبب النزول نزول الآية (1) وما بعدها:

وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يعفو عن المظاهر ويغفر له إذا تاب وأدى الكفارة، كما أنه سبحانه غفور لكل من أذنب وعصى مطلقا إذا تاب وأناب. ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي عدلوا عن قصد التحريم، وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر منها في الزواج زمانا يمكنه مفارقتها فيه، وعند أبي حنيفة: باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة، وعند مالك: بالعزم على الجماع، وعند الحسن البصري وأحمد: بالجماع. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليهم، أو فالواجب إعتاق رقبة: عبد أو أمة، والفاء للسببية الدالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار. ويجب أن تكون الرقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية قياسا على كفارة القتل الخطأ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي من قبل استمتاع أحدهما بالآخر، لعموم اللفظ، وفيه دليل على حرمة المتعة أو الزواج قبل التكفير. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة أو ثمنها. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فالواجب صوم شهرين متواليين، فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف، وإن أفطر بعذر ففيه خلاف، وإن جامع المظاهر منها ليلا لم ينقطع التتابع عند الشافعية، خلافا لأبي حنيفة ومالك. فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط إلى النساء. فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين عند الشافعية: مدّ من غالب قوت البلد، وهو رطل وثلث، كالفطرة، وعند الحنفية: نصف صاع من برّ أو صاع من تمر أو شعير، وذلك من قبل التّماس أو الاستمتاع، وإنما لم يذكر التّماس مع الإطعام اكتفاء بذكره مع الخصلتين الأخريين: العتق والصيام. ذلِكَ البيان أو التعليم للأحكام، والتخفيف في الكفارة. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي فرض ذلك لتصدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في قبول شرائعه، ورفض أعراف الجاهلية. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أحكام شريعته، لا يجوز تعدّيها. وَلِلْكافِرِينَ أي الذين لا يقبلون تلك الأحكام. عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب مؤلم، كما قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 97] . سبب النزول: نزول الآية (1) وما بعدها: قَدْ سَمِعَ..: أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني

أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وهو أوس بن الصامت. وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقا عن عائشة قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. الآية» . وجاء في السنن كابن ماجه والبيهقي والمسانيد أن أوس بن الصامت قال لزوجته: خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه: «أنت علي كظهر أمي» وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك، حرمت عليه، فندم من ساعته، فدعاها فأبت وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني، وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني، ونثرت بطني (كثر ولدي) ، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه، فحدثني بها. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» . قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا. ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك فاقتي وشدة حالي، وروي أنها قالت: إن لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك. وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة أبشري، قالت: خيرا، فقرأ صلى الله عليه وسلم عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. الآيات.

التفسير والبيان:

وروى البخاري في تاريخه أنها- أي المجادلة- استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه: وما يمنعني أن أستمع إليها، وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ.. الآيات. التفسير والبيان: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي قد قبل الله شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها، قائلا لها: «أنت علي كظهر أمي» أي في الحرمة، وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام، إن الله يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر على أتم وجه وأكمله، ومن ذلك: محاورة هذه المرأة معك. والمجادلة هنا: بمعنى التحاور، وهي المراجعة في الكلام لتبين المخرج من الأزمة. والشكوى: أن تخبر عن مكروه أصابك. والسمع: صفة يدرك بها الأصوات، غير صفة العلم. والمرأة: خولة بنت ثعلبة، والزوج: أوس بن الصامت أحد الأنصار. أخرج البخاري والنسائي وغيرهما كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة، تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في كسر البيت، يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي.. الآيات. وقوله: قَدْ معناه التوقع، كما تقدم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنها. وقوله: سَمِعَ اللَّهُ مجاز عن القبول والإجابة، لعلاقة السببية.

ثم شنّع الله تعالى على المظاهرين ووبخهم، فقال: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي الذين يشبّهون أزواجهم بأمهاتهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي ونحوه، أي إنك علي حرام كحرمة أمي، ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ لهم وتبكيت، فليست أمهاتهم في الحقيقة إلا النساء اللائي ولدنهم. وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا قولا منكرا، أي فظيعا ينكره الشرع ويقبّحه ولا يجيزه، كما لا يقره عقل، وَزُوراً، أي كذبا، وإن الله كثير العفو والمغفرة، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر، كما أن الله غفور لمن أذنب وتاب، وغفور من غير توبة لمن يشاء، كما قال: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء 4/ 48] . يتبين منه أن الله وصف الظهار بأنه منكر وزور، لتشبيه الزوجة بالأم، فهو خبر زور كذب، وإنشاء منكر ينكره الشرع ولا يعرفه، وهو يدل على أن الظهار محرّم، وهو أيضا عند الشافعية معصية كبيرة، لأن فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه سبحانه، ولأن المقدم على ذلك كاذب معاند للشرع. والظهار كان طلاقا في الجاهلية، يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وضابط المظاهر عند الشافعية والحنابلة: كل من صح طلاقه صح ظهاره، وهو البالغ العاقل، سواء أكان مسلما أم كافرا، فعلى هذا ظهار الذمي عندهم صحيح، لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ولأن الذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره، وهو أهل للزجر بالكفارة كالمسلم. وضابطه عند

الحنفية والمالكية: كل زوج مسلم عاقل بالغ، فلا يصح ظهار الذمي ولا يلزم ولا يترتب عليه حكم، لظاهر قوله تعالى: مِنْكُمْ وهو خطاب للمؤمنين، فيدل على أن الظهار خاص بالمؤمنين، ولأن من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق، وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع «1» . وقال الجمهور غير أحمد: لا يصح ظهار المرأة من زوجها، وهو أن تقول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي. وقال الأوزاعي: هو يمين تكفر، قال الرازي: وهذا خطأ، لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين، وهو الأصل، فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريما بالقول، والمرأة لا تملك ذلك، بدليل أنها لا تملك الطلاق. وقال الإمام أحمد في رواية راجحة عنه: يجب عليها كفارة الظهار، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية كالأوزاعي: تجب كفارة اليمين، وهذا أقيس على مذهبه. وأما المظاهر منها فهي عند الحنفية: كل امرأة يحرم على الرجل نكاحها على التأبيد، بالنسب أو بالرضاع أو بالمصاهرة كزوجة الأب، أو أي عضو منها لا يحل له النظر إليه، كالظهر والبطن. وهذا مذهب الشافعية إلا أنهم استثنوا مرضعة المظاهر وزوجة الابن، لأنهما كانتا حلالا له في وقت، فيحتمل إرادته. ورأي المالكية: أن المشبه به: هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي- ذكر أو أنثى، أو غيره كالبهيمة، ويصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها، ولو حكما كالشعر والريق بالأم. وكذا قال الحنابلة: يصح التشبيه سواء كان بكل المشبه به، أو بعضو منه كاليد والوجه والأذن، فيشمل كل محرّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو

_ (1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 3/ 417 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1738

مصاهرة، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات. كما يشمل كل محرم من النساء تحريما مؤقتا كأخت المرأة أو عمتها، وكل محرّم من الرجال أو البهائم أو الأموات ونحوهم. ثم أبان الله تعالى كفارة الظهار، فقال: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي والذي يحدث منهم الظهار، ثم يريدون نقضه والعودة لما كانوا عليه من إرادة الجماع، فعليهم تحرير رقبة، أي أمة أو عبد مملوك، من أجل ما قالوا، من قبل التماس، وهو الجماع، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر، ذلكم الحكم المذكور أو تشريع الكفارة تؤمرون به أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، فهو مجازيكم عليها. واختلف العلماء في تفسير العود: فقال الظاهرية وأبو العالية: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار، وهو قول باطل. ورأى الحنفية والمالكية على المشهور أن العود: هو العزم على الوطء أو الجماع. وذهب الشافعي إلى أن العود: أن يمسك المظاهر منها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه، فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. فالآراء ثلاثة أو أربعة: تكرار لفظ الظهار، والعزم على الوطء أو إرادة الوطء، والوطء في الفرج، والإمساك زمنا يمكن طلاقها فيه. وأجاب الجمهور عن رأي الظاهرية بأنه يقتضي أن الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فإعتاق رقبة كاملة، أو فعليهم رقبة، والرقبة هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق رقبة مؤمنة أو كافرة، وبهذا الظاهر قال الحنفية والظاهرية، لأنه لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحانه كما بيّنه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله، ويقيد ما قيده، فيعمل بكل منهما في موضعه، ورأى الحنفية بناء على قواعدهم أن اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو الخبر المتواتر أو المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة. واشتراط الجمهور الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل الخطأ بنص القرآن، ويحمل المطلق على المقيد، أي يحمل ما أطلق هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب: وهو عتق الرقبة، واعتضد في ذلك بما رواه مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السّلمي في قصة الجارية السوداء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» «1» . وضمير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للمظاهر والمظاهر منها المعلومين من الكلام السابق، والتّماس: كناية عن الجماع، فيحرم الجماع قبل التكفير، ومقدمات الجماع كالتقبيل ونحوها حرام أيضا عند الحنفية، لأن طريق الحرام حرام، وليست بحرام في الأظهر عند الشافعية، لأن تحريم الجماع لا صلة له بعقد الزواج، فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه، ولا تمكّن من ثمنها أو قيمتها زائدا عن قدر كفايته، أو لم يجد

_ (1) ورواه أيضا أحمد في مسنده ومسلم في صحيحة.

رقبة يشتريها لعدم وجود الرقيق في عصرنا، فعليه قبل التماس (أي الجماع) صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما عملا بظاهر النص القرآني، وإجماع العلماء على وجوب التتابع، فإن أفطر يوما أو أكثر لغير عذر، أو جامعها ليلا أو نهارا عمدا، استأنف في رأي الجمهور. وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يستأنف إذا وطئ ليلا، لأنه ليس محلا للصوم. ولا ينقطع التتابع لدى المالكية بالمرض، وبالفطر سهوا، وبالإكراه على الفطر، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل، فأكل أو شرب، وبحيض ونفاس. وينقطع التتابع عند الحنفية، والشافعية في المذهب الجديد بالإفطار بعذر كمرض مسوغ للفطر، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض أو نفاس أو جنون. ورأى الحنابلة أن المظاهر إن أفطر في الشهرين بعذر، بنى على ما مضى، وإن أفطر بغير عذر ابتدأ من جديد. واختلف العلماء في بيان قدر الكفاية، وفي وقت اعتبار اليسار والإعسار، فذهب مالك، والشافعي في الأظهر إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأن الكفارة عبادة لها بدل من غير جنسها كالوضوء والتيمم، والقيام في الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها. وذهب أحمد إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة في الكفارة. ومن المعلوم أن الأشهر تعتبر بالأهلّة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر، كمّل الشهرين بالهلال، ولو كانا ناقصين، ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر، فقال الشافعية: يحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من شهر آخر ثلاثين يوما لتعذر الهلال فيه. وقال الحنفية: لا بد من ستين يوما.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين لكبر سن أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، فعليه أن يطعم ستين مسكينا، لكل مسكين عند الحنفية مدان، أي نصف صاع من القمح، وصاع «1» من تمر أو شعير، كالفطرة قدرا ومصرفا، من قبل التّماسّ أيضا، سواء بالإباحة أو بالتمليك، عملا بظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام، وحقيقة الإطعام هو التمكين، وذلك يتأدى بالإباحة والتمليك. ويجب عند المالكية التمليك لكل مسكين مد «2» وثلثان من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما، فإن اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعا لا كيلا، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مدا وثلثين. وأوجب الشافعية والحنابلة التمليك أيضا، وقدر ما يعطى كل مسكين: مدّ من قمح، أو نصف صاع من تمر أو شعير، ودليلهم على التمليك القياس على الزكاة وصدقة الفطر. وظاهر قوله تعالى: فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أنه لا بد من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم ينجزه عند الجمهور غير الحنفية إلا عن واحد، لظاهر الآية، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينا، فوجب رعاية ظاهر الآية. ويجزئه ذلك عند الحنفية، لأن المقصود سد خلة المحتاج، والحاجة تتجدد كل يوم، فالدفع إليه مع مرور الأيام إطفاء للحاجة المتكررة بتكرر الأيام. وهذا معارض لظاهر النص على ستين مسكينا، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا، فالتعليل بسد خلة المحتاج مبطل لمقتضى النص، فلا يجوز.

_ (1) الصاع: 2751 غم. (2) المد: 675 غم.

واتفق العلماء على أن خصال كفارة الظهار مرتبة، فالإعتاق أولا، ثم الصيام، ثم الإطعام، للأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان. واتفق الفقهاء أيضا على أن من وطئ قبل أن يكفّر عصى ربه وأثم، لمخالفة أمره تعالى، وتستقر الكفارة في ذمته، ويظل تحريم زوجته عليه باقيا حتى يكفر، وذلك شامل جميع خصال الكفارة: العتق والصوم والإطعام. فإن وطئ أثناء التكفير فاختلف الفقهاء: فذهب المالكية إلى أن الوطء في أثناء التكفير يحرم ويبطل ما تم، ويبتدئ الكفارة أيا كانت خصلتها من جديد. ورأى الشافعية: أن المظاهر إن جامع أثناء الصوم ليلا قبل أن يكفّر، أثم، لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل تتابع الصيام، لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض، فلم يقطع التتابع، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام، لا يبطل ما مضى. وفصل الحنفية والحنابلة فقالوا: إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم، أفسد ما مضى من صيامه، واستأنف الصوم من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام، فلا تلزمه إعادة ما مضى، عملا بعدم تقييد الإطعام في النص القرآني بكونه قبل التّماس، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التّماسّ. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ذلك الحكم الذي بيناه من وجوب الكفارة بسبب الظهار، لتصدقوا بشرع الله تعالى وأمره، وتصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تتعدّوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور، وتلك الأحكام المذكورة

فقه الحياة أو الأحكام:

حدود الله أي محارمه، فالزموها ولا تتجاوزوا حدوده التي حدّها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عند حدود الله عذاب مؤلم على كفرهم وهو عذاب جهنم في الآخرة، كما لهم عذاب في الدنيا. وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، كما قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران 3/ 97] . فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- الشكوى إلى الله من الهم والحزن والضيق أنجع طريق، فقد أجاب الله شكوى خولة بنت ثعلبة وقبل استغاثتها، وحقق ما توقعته من ربها، لثقتها بفضل الله وإحسانها. والإجابة والقبول هو المقصود من قوله سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ. والسماع في الأصل إدراك المسموعات، والسمع والبصر صفتان لله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات، لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. والسميع: المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، لأن الأصوات لا تخفى عليه. 2- الظهار معصية وحرام ومنكر شرعا من القول وزور (كذب) وليست النساء بأمهات، فما أمهاتهم إلا الوالدات. وأصل الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فمن قال ذلك فهو مظاهر بالإجماع، كما أن من قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فهو مظاهر.

والظهار نوعان: صريح وكناية، فالصريح: أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي، وأنت مني، وأنت معي كظهر أمي، أو أنت علي حرام كظهر أمي، وكذا: أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي، ففي ذلك كله يكون مظاهرا. والكناية: أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإنه يعتبر فيه النية، فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار، لم يكن مظاهرا عند أئمة المذاهب الأربعة، لأنه أطلق تشبيه امرأته بأمه، فكان ظهارا. والظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها، على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. ويلزم عند مالك الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها، ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ وهذه ليست من نسائه. والذميّ لا يلزم ظهاره عند أبي حنيفة ومالك، لقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني من المسلمين، وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. ويلزم ظهاره عند الشافعي وأحمد، لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... ولا ظهار للمرأة من الرجل في قول الجمهور، لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ولم يقل: اللائي يظاهرن منكن من أزواجهم، إنما الظهار على الرجال. وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي فلانة، فهي يمين تكفّرها. وقال أحمد: يجب عليها كفارة الظهار، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور.

وظهار السكران صحيح كطلاقه، ويلزمه حكم الظهار والطلاق إذا عقل، بالاتفاق، ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وكذا يلزم الغضبان حكم الظهار. ومن كان به لمم، أي إلمام بالنساء وشدة حرص وتوقان إليهن، كأوس بن الصامت الذي ظاهر من زوجته خولة بنت ثعلبة، لزمه ظهاره. وليس معنى اللمم: الجنون والخبل كما قال الخطابي، إذ لو كان به ذلك، ثم ظاهر في تلك الحالة، لم يكن يلزمه شيء. ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفّر في رأي الجمهور، ورأى الشافعي أن المباشرة ليلا لا تقطع الصوم ولا تحرم. ومن وطئ قبل أن يكفّر: عليه كفارة واحدة في رأي الجمهور، وقال بعضهم (مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن مهدي) : عليه كفارتان، ودليل الجمهور: أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود، وهنا فاتت صفة القبلية، فيبقى أصل وجوب الكفارة، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى. وإذا كظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي، كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطئ إحداهن، وأجزأته كفارة واحدة في قول الجمهور، وقال الشافعي في الأظهر: تلزمه أربع كفارات. وإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي، فتزوج إحداهن، لم يقربها حتى يكفّر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة «1» ، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر، ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفّر. والمبتوتة عند المالكية لا يلحقها طلاق ولا ظهار.

_ (1) يريد ب (البتة) هنا: الطلاق الثلاث. [.....]

3- كفارة الظهار واجبة على الترتيب: الإعتاق، ثم الصيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكينا، وذلك قبل التّماس، أي الجماع ومقدماته عند الحنفية، والجماع فقط عند الشافعية، فإن جامع قبل أن يكفر، لم يجب عليه إلا كفارة واحدة في قول أكثر العلماء كما تقدم. 4- العود لما قال المظاهر في الظهار: معناه عند الحنفية والمالكية: العزم على الوطء أو إرادة الوطء، والوطء في الفرج عند الحنابلة، وإمساك الزوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق في مذهب الشافعية. والأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها، ويجبره على التكفير. 5- يجزئ عند الحنفية إعتاق الرقبة الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها، ولا يجزئ إعتاق غير الرقبة المؤمنة عند بقية المذاهب، ولا يجزئ عند الشافعي رحمه الله إعتاق المكاتب. ومن لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق، ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم، لزمه العتق، فإن عجز عن الرقبة، صام شهرين متتابعين. 6- تتابع الصيام شرط، وينقطع تتابع صوم الشهرين إن أفطر بغير عذر، ويستأنف. فإن أفطر بعذر من سفر أو مرض، بنى وأكمل عند المالكية والحنابلة، واستأنف أو ابتدأ الصيام من جديد عند الحنفية والشافعية، لفوات التتابع، ولكن لا ينقطع عند هؤلاء بحيض أو نفاس أو جنون.

وينقطع التتابع بالوطء ليلا أو نهارا عند الجمهور، لقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ولا يبطل التتابع عند الشافعية بالوطء ليلا، لأنه ليس محلا للصوم. 7- لا يجزئ عند مالك والشافعي وأحمد أن يطعم أقل من ستين مسكينا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد، أجزأه. 8- إن كفارة الظهار إيمان بالله سبحانه وتعالى، لقوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لتكونوا مطيعين لله سبحانه، واقفين عند حدود الكفارة لا تتعدّوها، فسمى التكفير طاعة، ومراعاة الحد إيمانا. وتلك حدود الله تعالى بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة، ولمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم. وهذا دليل على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، لأن الله أمر بهذه الأعمال، وبيّن أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان. وأنكر بعضهم ذلك وقال: إنه تعالى لم يقل: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ بعمل هذه الأشياء، ورد الرازي عليهم بأن المعنى: ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام. ودل قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ على أنه لا بد لهم من الطاعة، وأن العذاب لمن جحد هذا وكذب به.

وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم [سورة المجادلة (58) الآيات 5 إلى 7] :

وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) الإعراب: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يَوْمَ: ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مُهِينٌ في قوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي لهم عذاب مهين في هذا اليوم، أو بإضمار: اذكر. ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ: مجرور بالإضافة، ويكون نَجْوى مصدرا، أو مجرور على البدل، بمعنى (متناجين) وتقديره: ما يكون من متناجين ثلاثة. البلاغة: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ بينهما طباق، لأن معنى أَدْنى أقل، فصار الطباق بينها وبين أكثر. المفردات اللغوية: يُحَادُّونَ يعادون ويخالفون، وأصل المحادّة: الممانعة، يقال للبواب: حداد. كُبِتُوا خذلوا وأذلوا وأهينوا. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ في مخالفتهم رسلهم، وهم كفار الأمم الماضية.

المناسبة:

وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وَلِلْكافِرِينَ بالآيات. عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة، وإذلال، يذهب عزهم وتكبرهم. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يبعثهم كلهم، لا يدع أحدا غير مبعوث، أو مجتمعين. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بأعمالهم أمام الناس، تشهيرا لحالهم، وتقريرا لعذابهم وتوبيخا وتقريعا لهم. أَحْصاهُ اللَّهُ أحاط به عددا، لم يغب عنه شيء. وَنَسُوهُ لكثرته، أو تهاونهم به. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه شيء. أَلَمْ تَرَ تعلم. ما يَكُونُ ما يوجد. نَجْوى تناجي ومسارّة، أو أصحاب نجوى، مأخوذ من النجوة: وهي ما ارتفع من الأرض، لأن المتسارّين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض. إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي محيط بهم بعلمه. وَلا خَمْسَةٍ ولا نجوى خمسة. إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ تخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأن التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. وَلا أَكْثَرَ من هذا العدد. إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم. أَيْنَ ما كانُوا علم الله شامل لكل شيء، لا يتحدد بمكان. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ يخبرهم بأعمالهم، فضحا لهم وتقريرا لجزائهم. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عالم بكل شيء على سواء. المناسبة: بعد بيان أحكام الظهار في شريعة الإسلام، وتوبيخ المتورطين في الظهار، ومدح المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر تعالى ما يلحق المخالفين لشرع الله والمعادين لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من خزي وهوان في الدنيا، وعذاب في غاية الذل والمهانة في الآخرة، وأيد ذلك بالوعيد الشديد لهم، فأخبر أن الله مطلع عليهم وعلى أعمالهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم في السر والعلن، وسيخبرهم بذلك يوم الحساب، ويجازيهم على ما قدموا من عمل. التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويخالفون شرع ربهم ويعاندونه، أذلّوا وأخزوا وأهينوا ولعنوا، وينكل بهم في الدنيا، كما أذل الذين من قبلهم من

كفار الأمم المتقدمة، بسبب معاداتهم شرع الله سبحانه، وقد تحقق هذا الإنذار بإذلال المشركين بالقتل والأسر والقهر يوم بدر والخندق. وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم، ووعيد لكل الحكام المسلمين الذين يهجرون شريعتهم الإلهية، ويعملون بالقوانين الوضعية، ونظير الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى.. الآية [النساء 4/ 115] وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر 59/ 4] . وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي وقد أنزلنا للناس آيات واضحات، لا يخالفها إلا كل كافر فاجر مكابر، وللجاحدين بتلك الآيات، المستكبرين عن اتباع شرع الله والانقياد له، عذاب يهين صاحبه، ويذله، بسبب كفرهم وتكبرهم عن حكم الله، وذلك العذاب: هو الخزي والهوان في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا يوم يحسرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب، مجتمعين في حالة واحدة، لا يبقى منهم أحد لا يبعث، فيخبرهم الله بأعمالهم القبيحة التي عملوها في الدنيا، لإقامة الحجة وتكميلها عليهم، كما يخبرهم بكل ما صنعوا من خير وشر، ضبطه الله وحفظه عليهم، في صحائف كتبهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، والله مطلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئا. وفي هذا أيضا وعيد شديد لكل من قدم الأعمال المنكرة والأفعال القبيحة. ثم أخبر الله تعالى تأكيدا لما سبق بإحاطة علمه بخلقه واطلاعه على كل شيء، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ

إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، أَيْنَ ما كانُوا أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل محيط بكل شيء في الأرض والسماء، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، فما يوجد من تناجي أشخاص ثلاثة أو خمسة إلا هو معهم بعلمه، ومطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ولا يوجد من نجوى أقل من ذلك العدد أو أكثر منه مهما كان الرقم عشرات ومئات أو ألوفا أو ملايين إلا وهو عليم بهم، في أي زمان وفي أي مكان، يعلم السر والجهر، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء من تناجيهم في السر والعلن، لأن علم الله تعالى محيط بكل شيء، لا يحده زمان ولا يحجبه مكان، يسمع كلامهم، ويبصر ويرى مكانهم حيثما كانوا، وأينما كانوا، ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله به، وسمعه له. والسبب في ذكر الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الاثنين والأربعة: هو إما تصوير الحالة الواقعية التي نزلت الآية بسببها، فإنها نزلت في قوم منافقين، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين. عن ابن عباس: أن ربيعة وحبيبا ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما ما يتحدثون، فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا، فهو يعلم كله، فنزلت. وإما أن طبيعة المشاورة، تتطلب وجود عدد وتر، فيكون الاثنان أو الأربعة متنازعين، والثالث أو الخامس كالمتوسط الحكم بينهم، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد والمجموعات الباقية. ونظير الآية كثير في القرآن، نحو قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة 9/ 78] وقوله سبحانه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف 43/ 80] .

فقه الحياة أو الأحكام:

ولهذا أجمع المفسرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك. ومع علم الله وسمعه وبصره بكل شيء، هو سبحانه وتعالى مطلع على جميع أمور خلقه، كما قال: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي ثم يخبر الله عباده المتناجين وغيرهم بجميع أعمالهم يوم القيامة، ليعلموا أن الله عالم بهم، وليكون إعلامه لمن يتناجون بالسوء والمكر توبيخا لهم وتكبيتا، وإلزاما للحجة، والله تعالى واسع العلم بكل الأشياء والأعمال، لا تخفى عليه خافية من الأمور، ويجازيهم عليها. قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن كل من خالف شرع الله أو عاداه، أو تجاوز حدوده، له الخزي والذل والهوان في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة. وهذا بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، ووعيد وإنذار للكافرين بالعقاب الشديد. 2- يوم يبعث الله الرجال والنساء من أول عمر الدنيا إلى آخرها، من قبورهم في حالة واحدة، يخبرهم بما عملوا في الدنيا، وقد أحصاه الله عليهم في صحائف أعمالهم، بالرغم من نسيانهم له، ليكون أبلغ في الحجة عليهم، والله مطّلع وناظر لا يخفى عليه شيء. 3- لا يخفى على الله سر ولا علانية في السموات والأرض، فكل ما يكون من تناجي أو سرار اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أقل أو أكثر من ذلك العدد، يعلم به الله ويسمع نجواهم، كما دل عليه افتتاح الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ..

عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن [سورة المجادلة (58) الآيات 8 إلى 10] :

بالعلم، ثم ختمها بالعلم، وسمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها، وعلمه شامل كل شيء، لأن علمه علم قديم، فهو عالم بجميع المعلومات. 4- أكد الله تعالى المذكور في الآية السابقة بأنه سيخبر يوم القيامة خلقه بما عملوا من حسن وسوء، لأن الله عليم بجميع الأشياء، والمراد به أنه يحاسب الناس على أعمالهم، ويجازيهم على قدر استحقاقهم. ودل قوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ على التحذير من المعاصي، والترغيب في الطاعات. 5- المراد من كونه تعالى رابعا للثلاثة، وسادسا للخمسة وكونه معهم: كونه تعالى عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم، مع تنزيهه تعالى عن المكان والمشاهدة. عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْيُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

الإعراب:

الإعراب: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر، ويَصْلَوْنَها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من جَهَنَّمُ وبئس المصير: حذف المقصود بالذم، وتقديره: جهنم. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ ألم تنظر. الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى هم اليهود والمنافقون كانوا يتناجون فيما بينهم، أي يتحدثون سرا للتآمر على المؤمنين وإيقاع الريبة في قلوبهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا لمثل فعلهم. بِالْإِثْمِ بما هو معصية وذنب. وَالْعُدْوانِ الاعتداء على غيرهم. وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ التواصي بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي إذا جاؤوك أيها النبي قالوا: السام عليك، أي الموت، أو أنعم صباحا..، والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل 27/ 59] . وحَيَّوْكَ خاطبوك بالتحية، والتحيات لله: أي البقاء. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهميُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ هلا يعذبنا بسبب ذلك، أي بالتحية لو كان محمد نبيا. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذاب جهنم كاف لهم. يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرّها. فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم. فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.. كما يفعله المنافقون. وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خير المؤمنين واتقاء معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تأتون وتذرون، فإنه مجازيكم عليه، وتُحْشَرُونَ تجمعون. إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان، فإنه المزين لها والدافع إليها. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ليوقعهم بتوهمه في الحزن. وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أي وليس الشيطان بضارّ المؤمنين. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليفوضوا الأمر إليه، ولا يبالوا بنجواهم. سبب النزول: نزول الآية (8) : أَلَمْ تَرَ ... : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا

نزول قوله تعالى وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله:

يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى الآية. وأخرج أحمد والبزار والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم: يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ، فنزلت الآية: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ. وقال ابن عباس ومجاهد: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . نزول قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ: عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، يا عائشة، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ألست أدري ما يقولون؟ قال: ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول: وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «2» .

_ (1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 233 (2) المرجع والمكان السابق، والحديث رواه ابن أبي حاتم.

نزول الآية (10) :

نزول الآية (10) : إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ الآية. المناسبة: بعد بيان علم الله بكل شيء، ومنه السر والنجوى، أبان الله تعالى حال أولئك الذين نهوا عن النجوى وهم اليهود والمنافقون، ثم عودتهم إلى المنهي عنه، وتحيتهم بالسوء للنبي صلى الله عليه وسلم، قائلين له: السام عليك، أي الموت، وتهديد بدخول جهنم. ثم ذكر تعالى آداب المناجاة من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان، أي بالمعصية والقبيح والاعتداء وكل ما يؤدي إلى ظلم الغير، وضرورة التناجي بالبر والتقوى، أي بالخير وما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي. التفسير والبيان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي ألم تنظر إلى الذين نهيتهم عن التناجي والمسارة بالسوء، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه، وهم اليهود والمنافقون كما ذكر في سبب النزول. وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي ويتسارّون أو يتحدثون فيما بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب، واعتداء وظلم للآخرين وعدوان على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي وإذا أتى إليك اليهود حيّوك بتحية سوء لم يحيّك بها الله إطلاقا، فيقولون: السام عليك، يريدون

بذلك السلام ظاهرا، وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: وعليكم. روي في الصحيح لدى البخاري ومسلم عن عائشة: أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم يا أبا القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليكم، وقالت عائشة: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وأما سمعت ما أقول: وعليكم، فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل 27/ 59] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي يفعلون هذا، ويقولون فيما بينهم: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به، فأجاب الله تعالى عن قولهم: بأن جهنم تكفيهم، كما قال سبحانه: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي يكفيهم عذاب جهنم عن الموت الحاضر، يدخلونها، فبئس المرجع والمآل، وهو جهنم. ثم ذكر الله تعالى آداب المناجاة حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِذا تَناجَيْتُمْ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي يا أيها المؤمنون الذين يقتضي إيمانكم امتثال أمر الله، والابتعاد عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح، إذا تحدثتم سرا فيما بينكم، فلا تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين، من التناجي بالمعصية والذنب. والاعتداء على الآخرين وظلمهم، ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم قائد الأمة ومنقذها من الضلالة. وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي وتحدثوا بالطاعة وترك المعصية، وبالخير واتقاء الله فيما تفعلون وتتركون، فإنكم إليه

فقه الحياة أو الأحكام:

تجمعون يوم القيامة والحساب، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم، ويحاسبكم عليها، ويجازيكم بما تستحقون، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، فإن ذلك يحزنه» «1» . ثم ذكر الله تعالى بواعث مناجاة الكفار بالسوء، فقال: إِنَّمَا النَّجْوى «2» مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إنما التناجي أو المسارّة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم من تزيين الشيطان وتسويله ووسوسته ليسوء المؤمنين، ولأجل أن يوقعهم في الحزن بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها، وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا، إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فلا يأبه المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله ربهم، بأن يكلوا أمرهم إليه، ويفوضونه في جميع شؤونهم، ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن شأن اليهود وديدنهم معاداة القيم والأنبياء، والتآمر والمكايد، فتراهم يتناجون سرا بالإثم والعدوان، أي بالكذب والظلم، ويتواصون بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخرجون عن الآداب الاجتماعية المعروفة، فيحيون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا، وهم يعنون الموت باطنا، فيجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «عليكم» أو «وعليكم» وكانوا يقولون: لو كان محمدا

_ (1) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وعبد الرزاق عن ابن مسعود. (2) اللام للعهد، وهو التناجي بالإثم والعدوان، زينه الشيطان لأجلهم.

نبيا لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم، لا يعاجل من سبّه، فكيف من سبّ نبيه؟! وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد، وهو يعافيهم ويرزقهم» . واختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة، هل هو واجب كالرد على المسلمين، فذهب ابن عباس والشعبي وقتادة إلى الوجوب، للأمر بذلك. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بواجب، فإن رددت فقل عليك. قال القرطبي: وما قاله مالك أولى اتباعا للسنة، أخرج الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت» . 2- أمر الله المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم بالبر والتقوى، أي بالطاعة والعفاف عما نهى الله عنه، ونهاهم عن التناجي أي التسارر بالمعصية والذنب، والاعتداء على الآخرين والظلم، فإنهم مجموعون في الآخرة إلى الله الذي يجازيهم على ما قالوا وما عملوا. 3- إن الباعث على نجوى السوء من تزيين الشيطان، ليوقع المؤمنين في الهمّ والحزن، وليوهمهم أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو أنهم متعرضون لمكايدة الأعداء، والوقوع فريسة الأقوياء، ومحنة السوء، مع العلم بأن الشيطان لا يضر أحدا بشيء إلا بمشيئة الله وتدبيره، وعلى المؤمنين أن يكلوا أمرهم إلى الله ربهم القاهر القادر، ويفوضوا جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذوا به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلّط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا، ولو شاء لصرفه عنه. 4- من أدب الإسلام، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود المتقدم: «إذا كنتم ثلاثة ... » ألّا يتناجى أو يتحدث سرا اثنان أمام ثالث، حتى يجد الثالث

أدب المجالسة في الإسلام [سورة المجادلة (58) آية 11] :

من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجيه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة «1» . ويستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أوقع، فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب الجمهور، وسواء أكان التناجي في مندوب أم مباح أم واجب، فإن الإساءة تشمله «2» . أدب المجالسة في الإسلام [سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) البلاغة: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ الجملة الأخيرة عطف خاص على عام تنويها بشرف العلماء، مع أنهم داخلون في المؤمنين. المفردات اللغوية: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيها، وليفسح بعضكم عن بعض، يقال: افسح عني، أي

_ (1) أخرجه الموطأ. (2) تفسير القرطبي: 17/ 295

سبب النزول:

تنّح، وقرئ: «في المجلس» ، والمراد به الجنس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ يوسع الله لكم في رحمته، من المكان والصدر والرزق والجنة وغيرها. انْشُزُوا انهضوا للتوسعة على القادمين، أو ارتفعوا في المجلس، أي تنحوا من الموضع، ويقال: امرأة ناشز، أي منتحية عن زوجها. فَانْشُزُوا فانهضوا دون تباطؤ. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعلي منزلتهم بالنصر وحسن السمعة في الدنيا، والإيواء في غرف الجنان في الآخرة. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي ويرفع العلماء منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة، لجمعهم بين العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به زيادة رفعة، جاء في الحديث: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «1» . وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم مطلع على جميع أعمالكم، وهو تهديد لمن لم يمتثل الأمر. سبب النزول: أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا، ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر، وفي المكان ضيق، فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام صلى الله عليه وسلم نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت. المناسبة: بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن التناجي سرا في المجتمعات، والتناجي بالإثم والعدوان، لكونه سبب التباغض والتنافر، أمرهم تعالى بما يكون سببا لزيادة المحبة والمودة من التوسع في المجالس، والانصراف عنها عند الطلب لمصلحة ما، ثم أخبر عن رفع منازل المؤمنين والعلماء درجات في الجنان وفي الدنيا أيضا.

_ (1) رواه أبو نعيم في الحلية عن معاذ، وهو ضعيف.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس، وعدم التضايق فيها، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في الجنة، أي إن الجزاء من جنس العمل. والآية عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم، أو يوم جمعة أو عيد، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه. جاء في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» «1» . قال: الرازي: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ: هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه، من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة. والآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم، وإدخال السرور في قلبه، لذا قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» «2» .

_ (1) رواه مالك والشافعي وأحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الشيخان في الصحيحين. (2) تفسير الرازي: 29/ 269، والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

وهذا الأدب له تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله. وفي الحديث المروي في السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس، يكون صدر ذلك المجلس، فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان علي، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك ، روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام. وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك، محتجا بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري: «قوموا إلى سيدكم» وهو سعد بن معاذ حينما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة. ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان: «من أحب أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» . ومنهم من فصّل، فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد المتقدمة، ليكون أنفذ لحكمه، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك «1» . وَإِذا قِيلَ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من أماكنهم، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين، وأهل العلم بشرع الله، فليقوموا. وهذا يشمل أيضا ما إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا، ينبغي أن يجاب. وبعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء، وعدهم على الطاعات، فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم على أعمالهم جميعا، خيرا أو شرا. روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما، ويضع به آخرين» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 325

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآية إلى ما يأتي: 1- التوسع في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر مطلوب شرعا، وأدب حسن، سواء كان مجلس النبي في عصره، أو عالم بعده أو مجلس حرب أو ذكر أو شورى أو مجلس يوم الجمعة أو العيد أو العلم ونحوه، وليس ذلك واجبا وإنما هو مندوب شرعا، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به» «1» ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك، فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر كما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه» وعن ابن عمر أيضا فيما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا» وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه. 2- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا» . وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع، فيأخذ له مكانا يقعد فيه، لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع. ومثل ذلك إرسال بساط أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد. والجالس يختص بموضعه إلى أن يغادره نهائيا، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم- أو من قام من مجلسه- ثم رجع إليه، فهو أحق به» .

_ (1) حديث صحيح رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب بلفظ: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم، فهو له» .

3- إن للتوسع في المجالس ثوابا، لقوله تعالى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. 4- إذا قيل: انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، يجاب القائل، وإذا دعي الشخص إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجب القيام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في وظائف تخصه لا تتأتى ولا تكمل بدون الانفراد. وإذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: (قوموا) ينبغي أن يجاب، ويفعل ذلك لحاجة، إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها، مما لا نزاع في جوازه. 5- يرفع الله درجات المؤمنين والعلماء في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم. قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. وتدل هذه الآية: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... أيضا على أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان، لا بالسبق إلى صدور المجالس، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العلماء، منها الحديث السابق عند أبي نعيم عن معاذ- وفيه ضعف-: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» ومنها حديث حسن رواه ابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك، فاختار العلم، فأعطي المال والملك معه.

الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم [سورة المجادلة (58) الآيات 12 إلى 13] :

الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم [سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) البلاغة: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً استعارة، استعار اليدين لما يكون قبل الشيء، أي قبل نجواكم، وهي استعارة بالكناية، حيث شبه النجوى بالإنسان، وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو اليدان. ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية. أَأَشْفَقْتُمْ استفهام معناه التقرير. المفردات اللغوية: ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أردتم مناجاته والتحدث معه. فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي قدموا قبل المناجاة صدقة للفقراء، قال البيضاوي: وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والنهي عن الإفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، واختلف في أنه للندب أو للوجوب، لكنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ وهو إن اتصل به تلاوة، لم يتصل به نزولا. وَأَطْهَرُ أي أزكى للنفوس وأبعد عن الريبة وحب المال، وهو يشعر بالندب، لكن قوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أدل على الوجوب، أي إن لم تجدوا ما تتصدقون به، يرخص لكم في المناجاة بلا صدقة. والله غفور لمناجاتكم، رحيم بكم، فلا حرج عليكم في المناجاة. أَأَشْفَقْتُمْ خفتم، والمعنى: أخفتم الفقر في تقديم الصدقة؟ وجمع صدقات لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا الصدقة. وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم ألا تفعلوه، أو رجع بكم عنها، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي

سبب نزول الآيتين (12، 13) :

دوموا عليهما ولا تفرطوا في أدائهما. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا. سبب نزول الآيتين (12، 13) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: أَأَشْفَقْتُمْ الآية. وأخرج الترمذي وحسّنه، وغيره عن علي قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى، دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية ، فبي خفف الله عن هذه الأمة. وقال مقاتل بن حيان: نزلت الآية في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، وأمر بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل العسرة، فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ كان لي دينار فبعته، وكنت إذا ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أدب الإسلام في المناجاة والمجالسة، أمر الله تعالى المؤمنين بتقديم صدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع أحاديثه، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة، فكان ذلك يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يستثقله الحاضرون، فأراد الله أن يحد من هذه المناجاة، ويخفف عن نبيه، فأمر بتقديم الصدقة قبل المناجاة، تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وإعظام مناجاته، ولنفع الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة، ولتمييز المنافقين الذين يحبون المال عن المؤمنين المخلصين. قال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت هذه الآية، شحّ كثير من الناس، فكفّوا عن المسألة. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي يا أيها الذين أقروا بوجود الله ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا أردتم مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم أو مساررته في أمر من أموركم، فقدموا قبل المناجاة صدقة، تصدقوا بها، لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والتخفيف عنه، ونفع الفقراء، وتمييز المؤمن الحق والمنافق. ثم أبان الله تعالى حكمة الصدقة، فقال: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إن تقديم الصدقة قبل النجوى خير لكم، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره، والثواب الأخروي، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشح والبخل وحب المال، ونفع الفقراء، وتضامن الأمة، وإعزاز شأنها ورفعة قدرها، فإن لم يجد أحدكم تلك

الصدقة، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة، وقد رخص الله لكم في المناجاة بلا تقديم صدقة، لأن المأمور بها هو القادر عليها الغني. وظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبا، لأن الأمر للوجوب، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن ذلك لا يقال إلا لترك الوجوب. وقال بعضهم: إن الأمر هنا للندب والاستحباب، بقرينة ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض، ولأنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به، وهو: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا. والجواب: أن الواجب يوصف أيضا بأنه خير وأطهر كالمندوب، وأنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة، كونهما متصلتين في النزول، فتكون آية أَأَشْفَقْتُمْ ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر. وأنكر أبو مسلم الأصفهاني وقوع النسخ، وقرر أن الأمر بتقديم الصدقة على النجوى لتمييز المؤمن المخلص من المنافق، فلما تحقق الغرض، انتهى الحكم، أي أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه بانتهاء تلك الغاية، فلا يكون هذا نسخا. قال الرازي: وهذا الكلام حسن ما به بأس، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ. ثم رفع الله تعالى الحكم السابق، فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟ أي أخفتم تقديم الصدقات، لما فيه من إنفاق؟ قال مقاتل: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ

فقه الحياة أو الأحكام:

وَرَسُولَهُ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي حين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم، ورخص الله لكم في الترك، والمناجاة من غير صدقة، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله خبير محيط بأعمالكم كلها ظاهرها وباطنها، فمجازيكم عليها. والإشفاق: الخوف من المكروه. قال قتادة ومقاتل بن حيان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك. وليس في الآية إشارة إلى وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة، فقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا. ولا يدل أيضا قوله: تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ على أنهم قصروا، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيتان على ما يأتي: 1- أوجب الله تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تعظيما لنبيه وتخفيفا عنه من كثرة الأسئلة، ثم خفف الله عن الأمة، ورفع التكليف. والظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة، فقد تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما تقدم، ولم يوجد مقتض للمناجاة لدى بقية الصحابة الذين تريثوا وفهموا علة التكليف. وكان التكليف مقصورا على الأغنياء، لأنه تعالى جعل الصدقة بالمال خيرا

حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين [سورة المجادلة (58) الآيات 14 إلى 19] :

من إمساكها، وأطهر لقلوبهم من المعاصي والذنوب، فإن لم يجد الواحد ما يتصدق به، فإن الله غفور له، رحيم به. 2- علم الله تعالى ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل، مع كثرة المسائل، لو دام الوجوب، فخفف الله عنهم، وأمر بمتابعة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله تعالى في فرائضه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سننه، والله محيط بأعمال عباده ونياتهم. حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 19] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) الإعراب: ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ جملة حالية من فاعل تَوَلَّوْا أو استئنافية، والمعنى واحد، ويصح جعلها صفة لقوم. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً جَمِيعاً منصوب على الحال من الهاء والميم في يَبْعَثُهُمُ وهو عامل الحال.

البلاغة:

البلاغة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استفهام يراد منه التعجيب. يَعْلَمُونَ ويَعْمَلُونَ جناس ناقص لتغير الرسم. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وأُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بينهما ما يسمى بالمقابلة. أَلا الشَّيْطانُ عَلَيْهِمُ في الجملتين السابقتين، تأكيدات متنوعة تفيد التقبيح في الأولى، والتحلية في الثانية. يَعْمَلُونَ، خالِدُونَ، الْكاذِبُونَ، الْخاسِرُونَ، توافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ تنظر أو أخبرني، وهو أسلوب يراد به التعجيب للمخاطب من حال هؤلاء المنافقين. الَّذِينَ تَوَلَّوْا والوا وودّوا وأحبوا، وهم المنافقون. قَوْماً هم اليهود. غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سخط. ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ادعاء الإسلام وأنهم من المؤمنين. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون فيه أي في المحلوف عليه. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من المعاصي التي تمرنوا عليها وأصروا على فعلها. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوا بها. جُنَّةً وقاية وسترا على أنفسهم من المؤاخذة. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدوا بأيمانهم الناس عن دين الله بالتحريش والتثبيط. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف أخر لعذابهم، وهو أنه ذو إهانة. مِنَ اللَّهِ من عذابه. شَيْئاً من الإغناء. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي اذكر لهم ذلك اليوم. فَيَحْلِفُونَ لَهُ أنهم مؤمنون. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من نفع حلفهم في الآخرة كالدنيا. اسْتَحْوَذَ استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم. حِزْبُ الشَّيْطانِ أعوانه وأتباعه وأنصاره.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (14) : أَلَمْ تَرَ..: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً الآية، قال: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره، إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلت، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. نزول الآية (18) : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ..: أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة، وقد كاد الظل يتقلص، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم، لا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية. المناسبة: بعد أمر المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفا عنه في طول مجالسته وكثرة التردد عليه، ذكر الله تعالى حال جماعة من المنافقين كانوا يتولون اليهود

التفسير والبيان:

ويودونهم، ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، وهم في الواقع لا مع الكفار ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء 4/ 143] . وقد أنذرهم الله بالعذاب، وأبان بواعث أفعالهم واستيلاء الشيطان على عقولهم، فهم أتباع الشيطان وأنصاره. التفسير والبيان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود ومالئوهم في الباطن، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين، فموقفهم يستدعي التعجب، لذا سخط الله عليهم، وهم في الواقع، لا مع المؤمنين ولا مع اليهود، أي ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم، وهم اليهود. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي واتخذوا الأيمان الكاذبة ستارا لهم، فهم يحلفون أنهم مسلمون، أو ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له. ثم أنذرهم تعالى بالعذاب الشديد، فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هيأ الله لهم، وأرصد لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشّهم، وساء ما فعلوا من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي، مصرّين على سوء العمل. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، واتخذوها وقاية وسترا

لدمائهم، فخدع بهم بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة أمرهم، وظنوا صدقهم، فحصل بهذا صدّ عن سبيل الله، بأن منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، فلهم عذاب يلازمه الذل والهوان في نار جهنم بسبب أيمانهم الكاذبة بالله تعالى، وفي مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة. ثم ذكر الله تعالى مدى إفلاسهم يوم القيامة، فقال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله، شيئا من الإفادة، وأولئك الموصوفون بهذه الصفات هم أهل النار، لا يفارقونها، وماكثون فيها، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي اذكر لهم أيها النبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم، فلا يغادر منهم أحدا، فيحلفون بالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه، وبعث عليه، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله، كما كان ينفعهم عند الناس. وهذا من شدة شقاوتهم، فإن الحقائق يوم القيامة قد انكشفت. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أي ويظنون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا، كما كانوا يظنون ذلك في الدنيا، ألا إنهم بهذا التصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه. وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ

فقه الحياة أو الأحكام:

فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام 6/ 23- 24] . ثم ذكر الله تعالى سبب ضلالهم، فقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم، فتركوا أوامره والعمل بطاعاته، أولئك جنود الشيطان وأتباعه ورهطه، إلا إن أعوان الشيطان هم الخاسرون الهالكون، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه، وحلفوا الأيمان الفاجرة، فسوف يخسرون في الدنيا والآخرة، وليس العاقل من يقبل هذا ويرتضيه لنفسه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- تحرم موادّة الكافرين أعداء المؤمنين، واطلاعهم على أسرار المسلمين، ومؤازرتهم ونصحهم. 2- ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين، بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. 3- لهؤلاء المنافقون عذاب شديد في جهنم، وهو الدّرك الأسفل من النار، وبئست الأعمال أعمالهم. 4- اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم جنّة أو ساترا ووقاية لهم من القتل، فلهم عذاب ذو إهانة في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.

جزاء المعادين لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم والوعد بنصر المؤمنين وتحريم موالاة الأعداء [سورة المجادلة (58) الآيات 20 إلى 22] :

5- لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. 6- لهم عذاب مهين يوم بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة. 7- إنهم يغالطون باليمين مغالطة ظاهرة، ظانين أن الأيمان الكاذبة تنفعهم في الآخرة كما تنفعهم في الدنيا، وهم يحسبون أنهم على شيء من النفع بإنكارهم وحلفهم، وهم في الواقع كاذبون، والمراد: أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف. 8- لقد غلب الشيطان عليهم بوسوسته في الدنيا، مما أدى بهم إلى ترك أوامر الله والعمل بطاعته، وهم رهط الشيطان وطائفته، وحزب الشيطان هم الخاسرون في بيعتهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة. جزاء المعادين لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم والوعد بنصر المؤمنين وتحريم موالاة الأعداء [سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

الإعراب:

الإعراب: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ.. كَتَبَ: أجري مجرى القسم، لذا أجيب بجواب القسم في قوله: لَأَغْلِبَنَّ. وَرُسُلِي: في موضع رفع بالعطف على الضمير في لَأَغْلِبَنَّ. وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستتر لتأكيده بقوله: أَنَا. وإذا أكد الضمير المنفصل أو المستتر، جاز العطف عليه. فِي الْأَذَلِّينَ هي أفعل التفضيل. البلاغة: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ مجاز مرسل، لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية. المفردات اللغوية: يُحَادُّونَ يعادون ويخالفون ويشاقون، فهم في حد، والشرع والهدى في حد. فِي الْأَذَلِّينَ في جملة المغلوبين أذل خلق الله. كَتَبَ اللَّهُ قضى وحكم. لَأَغْلِبَنَّ بالحجة والقوة. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُوادُّونَ يصادقون، أي لا ينبغي أن تجدهم وادّين أعداء الله، والمراد: أنه لا ينبغي لهم أن يوادّوهم. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ولو كان المحادّون أقرب الناس إليهم. أُولئِكَ أي الذين لم يوادّوهم. كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبت الإيمان في قلوبهم، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، لأن أعمال الأعضاء لا تثبت في القلب. وَأَيَّدَهُمْ قواهم. بِرُوحٍ مِنْهُ أي بنور من عند الله يقذفه في القلوب، لتطمئن وتسكن. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه الذي وعدهم به. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده وأنصار دينه، يتبعون أمره ويجتنبون نهيه. هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين. سبب النزول: نزول الآية (21) : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ.. قال مقاتل: لما فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا: نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم

نزول الآية (22) :

لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك؟ فنزلت: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. نزول الآية (22) : لا تَجِدُ قَوْماً: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ الآية. وأخرجه الطبراني والحاكم في المستدرك بلفظ: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر، قصده أبو عبيدة، فقتله، فنزلت. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدّثت أن أبا قحافة سبّ النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فصكّه أبو بكر صكّة، فسقط، فذكر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريبا مني لضربته به: لا تَجِدُ قَوْماً.. الآية. وقال الرازي: إن الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً ... نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي صلى الله عليه وسلم إليهم، لما أراد فتح مكة. المناسبة: بعد بيان سوء حال المنافقين في الآخرة وخسارتهم الكبرى، أبان الله تعالى سبب خسارتهم وهو مشاقّة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة أوامرهما، ثم أخبر عن قضائه المبرم في نصر الرسل وهزيمة أعدائهم، ثم ذكر أن الإيمان لا يجتمع مع وداد أعداء الله وموالاتهم، لأن من أحبّ أحدا، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي إن الكفار المعاندين المخالفين أوامر الله ونواهيه، والذين يجانبون الحق ويعادون الإسلام، فيجعلون أنفسهم في حد، وشرع الله ورسوله في حد آخر، هم في جملة المغلوبين وفي جملة من هم أذلّ خلق الله تعالى، لا ترى أحدا أذلّ منهم، سواء في الدنيا بالقتل والأسر والطرد من الديار، كما حصل للمشركين واليهود، وفي الآخرة بالخزي والنكال والعذاب، كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران 3/ 192] . وهذا إنذار بهزيمة أعداء الله، والآية جملة استئنافية لتعليل خسرانهم. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي حكم الله وقضى في سابق علمه الأزلي أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة والسيف ونحوهما، إن الله قوي على نصر رسله، غالب لأعدائه، وهذا- كما قال ابن كثير- قدر محكم، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة. وهذا بشارة بنصر المؤمنين على الكافرين، وقد تحقق ذلك مرارا، فنصر رسله الكرام على أقوامهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ممن مضى، ونصر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه على المشركين في الجزيرة العربية، وعلى دولتي الروم والفرس. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [37/ 171- 173] . ثم بيّن الله تعالى شأن المؤمنين في أنهم لا يوادون أعداء الله، فقال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي لا ينبغي للمؤمنين بالله واليوم الآخر أن يحبوا ويصادقوا ويوالوا من عادى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

وشاقهما، ولو كان المحادّون المعادون لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إليهم، كالآباء الذين يجب برّهم وطاعتهم، والأبناء فلذات الأكباد، والإخوان الناصرين لهم، والعشيرة أو القبيلة التي ينتمون إليها ويتآزرون بها. أخرج الترمذي والحاكم والطبراني مرفوعا: «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي، ويعاد أعدائي» . وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا: «أوثق الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله» . وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية: ولا لفاسق- علي يدا ولا نعمة، فيودّه قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إلي: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . ثم بيّن الله تعالى سبب الامتناع من موادّة الأعداء وجزاء الممتنعين، فقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أي أولئك الذين لا يوادّون من حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم، وقواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمي نصره لهم روحا، لأن به يحيا أمرهم، ويدخلهم الجنان التي تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها، ماكثين فيها على الأبد، وقد قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة، وفرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي أولئك أنصار الله وجنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، ألا إن هؤلاء الأنصار هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي من الموضوعات الأربعة: 1- إن الكفار المعاندين الذين يشاقون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعادون شرع ربهم، وسنة رسولهم، من جملة الأذلّاء، فلا أذلّ منهم. 2- قضى الله وحكم في اللوح المحفوظ أنه سيغلب أعداءه بالحجة والسيف ونحوهما، فمن تهيأ للحرب غلب بالحرب، ومن استعد للحجة والبيان غلب بالحجة. 3- لا يجتمع الإيمان الحق مع وداد أعداء الله، لأن من أحب أحدا، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، حتى ولو كان الأعداء من الأقربين، ومن أنعم الله عليه بنعمة الإيمان العظمى، كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله؟! 4- وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين المجتنبين مصادقة الأعداء بأن الله غرس الإيمان في قلوبهم، وأيدهم بنصر من عنده، ثم بيّن جزاءهم الأخروي وهو دخول الجنان مع الخلود فيها، والحظوة برضوان الله وثوابه، والفرح بما أمدهم الله به من النعم في الدنيا والآخرة من نصر ورزق وخير، ونور وإيمان وبرهان وهدى، وجنان، ثم وصفهم الله بأنهم حزب الله الغالب، وحزب الله هم المفلحون الفائزون، وهذا المعنى الأخير بيان لاختصاص هؤلاء بسعادة الدنيا والآخرة. والخلاصة: ذكر الله أربع نعم على من ترك موادة الأعداء وهي: أولا- إثبات الإيمان في قلوبهم. ثانيا- تأييدهم بروح من عند الله، أي بنصرهم على عدوهم، وبروح من الإيمان.

ثالثا- إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها. رابعا- ينعمون بنعمة الرضوان، ويفرحون بما أعطاهم الله تعالى. وذكر الله تعالى أيضا أربعة أمور توجب ترك المودة وهي: أولا- إن الإيمان ومودة الأعداء لا يجتمعان في القلب. ثانيا- نفورهم من موادة الأعداء، ولو كانوا من الأقربين: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ ... إلخ. ثالثا- إنه تعالى عدّد نعمه على المؤمنين، وهي توجب ترك مودة أعداء الله: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ إلخ. رابعا- وصفهم بأنهم حزب الله الغالب: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

سورة الحشر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحشر مدنيّة، وهي أربع وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة الحشر، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.. أي الحشر الأول وهو الجمع الأول الذي حشروا فيه وأخرجوا في عهد النبوة من المدينة إلى بلاد الشام، والحشر الثاني: إجلاؤهم وإخراجهم في عهد عمر من خيبر إلى الشام. وتسمى أيضا سورة بني النضير، لاشتمالها على قصة إجلاء يهود بني النضير، في غزوة بني النضير، وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلاهم عن المدينة المنورة. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- ذكر في السورة السابقة من حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قتل من الصحابة أقرباءه يوم بدر، وفي أول هذه السورة ذكر من شاقّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما جرى بعد غزوة بني النضير من إجلاء اليهود، وقد حدثت الغزوة بعد بدر. 2- أخبر الله في آخر السابقة عن نصر الرسل: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وأفاد في أول هذه إنجاز النصر على اليهود: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ

ما اشتملت عليه السورة:

يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. 3- كشف الله في السورة المتقدمة حال المنافقين واليهود وموادة بعضهم بعضا، وذكر في هذه السورة ما حلّ بيهود بني النضير. ما اشتملت عليه السورة: سورة الحشر كسائر السور المدنية عنيت بالأحكام التشريعية، مثل إجلاء يهود بني النضير من المدينة، وأحكام الفيء والغنائم، والأمر بالتقوى. كما أن فيها تحليلا لعلاقة المنافقين باليهود، وبيان عظمة القرآن، وإيراد بعض أسماء الله الحسنى. افتتحت السورة بتنزيه الله نفسه عن كل نقص، وتمجيده من جميع ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وشهادتهم بوحدانيته وقدرته، والنطق بعظمته. وأردفت ذلك بالإشادة بالنصر على أعداء الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة المنورة، وتهديم قلاعهم وحصونهم. ثم أبانت حكم الفيء وهو الأراضي والدور والأموال الآيلة من العدو للمسلمين من غير قتال، ببيان مصارفه وتوزيعه على مختلف فئات المسلمين، وحكمة ذلك التوزيع. وفي ثنايا آيات الفيء امتدح الله تعالى مواقف المهاجرين، وأشاد بمآثر الأنصار، وانتدب الذين جاؤوا من بعدهم للثناء على من سبقهم والدعاء لهم بالمغفرة. وقارن ذلك بعلاقة المنافقين باليهود، وتحالفهم على الباطل، وكشف أخلاق الفريقين، ومنها خذلان المنافقين من يحالفونهم وقت الأزمة، وجبن

سبب نزول السورة:

اليهود وخوفهم من مواجهة المؤمنين، وتشبيه المنافقين بالشيطان الذي يغري الإنسان بالسوء والضلال، ثم يتخلى عنه في الوقت العصيب. ثم أمر الله المؤمنين بالتقوى، والاستعداد ليوم القيامة وما فيه من أهوال جسام، والاعتبار بأحوال الماضين، وتذكر الفرق العظيم بين أهل الجنة وأهل النار، ومصير السعداء والأشقياء في دار الخلود. وختمت السورة ببيان عظمة القرآن الكريم، وعظمة من أنزله واتصافه بأوصاف الجلال، وتسميته بالأسماء الحسنى. سبب نزول السورة: روى سعيد بن منصور والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: أنزلت في بني النضير، وفي رواية: سورة بني النضير. وقال ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة، هادنهم وأعطاهم عهدا وذمّة على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحلّ الله بهم بأسه، الذي لا مرد له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصدّ، فأجلاهم النّبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئا، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله تعالى، وخالف رسوله صلى الله عليه وسلم،

فضل السورة:

وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم «1» . فضل السورة: أخرج الثعالبي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحشر، لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوامّ والريح والسحاب والطير والدوابّ والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلّوا عليه، واستغفروا له، فإن مات من يومه أو ليلته، مات شهيدا» . وأخرج الثعالبي أيضا عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ آخر سورة الحشر: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ... - إلى آخرها- فمات من ليلته، مات شهيدا» «2» . وأخرج أحمد والترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، وإن مات في يومه، مات شهيدا، ومن قرأها حين يمسي، فكذلك» قال الترمذي: حديث حسن غريب.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 330 (2) تفسير القرطبي: 18/ 1

إجلاء يهود بني النضير [سورة الحشر (59) الآيات 1 إلى 5] :

إجلاء يهود بني النضير [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) الإعراب: ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ في الجملة فعل الظن مكرر، وإنما أتى ب أَنْ الخفيفة والثقيلة بعد الظن، لأن الظن يتردد بين الشك واليقين، فتارة يحمل على الشك، فيؤتى بالخفيفة، وتارة يحمل على اليقين، فيؤتى بالثقيلة. وحُصُونُهُمْ: مرفوعة باسم الفاعل: مانِعَتُهُمْ لأن اسم الفاعل جرى خبرا ل أَنْ فوجب أن يرفع ما بعده. البلاغة: ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ بين ما ظَنَنْتُمْ وظَنُّوا ما يسمى بطباق السلب.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه وقدسه، ولام لِلَّهِ مزيدة. ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أتى ب ما تغليبا للأكثر. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب في ملكه. الْحَكِيمُ في صنعه، يضع الأشياء في موضعها المناسب لها. الَّذِينَ كَفَرُوا يهود بني النّضير، وهم إحدى قبائل اليهود الثلاثة الكبرى في المدينة بجوار بني قريظة وبني قينقاع. مِنْ دِيارِهِمْ مساكنهم في المدينة. لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي عند الحشر الأول أو أول حشرهم، والحشر الأول: الجمع والإخراج والجلاء من المدينة ونفيهم إلى بلاد الشام، والحشر الآخر: إجلاء عمر إياهم في خلافته من خيبر إلى الشام. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ما ظننتم أيها المؤمنون خروجهم، لشدة بأسهم ومنعتهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي وتأكدوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وعذابه، والحصون: القصور الشاهقة والقلاع المشيدة، جمع حصن. فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي جاءهم عذابه وأمره. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا من حيث لم يخطر لهم ببال، لقوة وثوقهم بأنفسهم. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَذَفَ: ألقى بقوة، والمراد هنا: أثبت فيها الخوف الذي يرعبها، أي يملؤها رعبا بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. يُخْرِبُونَ وقرئ: يخرّبون، أي يهدمون، والغاية من الهدم: نقل ما استحسنوا منها من خشب وغيره. فَاعْتَبِرُوا فاتعظوا بحالهم، أو فانظروا في حقائق الأشياء ما تدل عليه من دلالة وعبرة. واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، وحملها عليها في حكم، لما بينها من العلة المشتركة المقتضية التساوي في الحكم. كَتَبَ قضى. الْجَلاءَ الخروج الجماعي من الوطن مع الأهل والولد، أما الإخراج فيكون لواحد وجماعة، ومع بقاء الأهل والولد. لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ كلام مستأنف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا، لم ينجوا من عذاب الآخرة. ذلِكَ المذكور الذي حاق بهم. شَاقُّوا خالفوا وعادوا، حتى كأنهم في شق، ومن عادوه في شق آخر. لِينَةٍ نخلة مطلقا أو النخلة الكريمة، وجمعها أليان. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علة لمحذوف، أي وفعلتم، أو: وأذن لكم في القطع ليخزيهم على فسقهم بما غاظهم من العدو. واستدل به على جواز هدم دبار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (1) : سَبَّحَ لِلَّهِ: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: سورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير. وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة وهي السلاح، فأنزل الله فيهم: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وروي أنه صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة، صالح بني النضير على ألا يكونوا له ولا عليه، فلما ظهر على المشركين يوم بدر، قالوا: إنه النبي المبعوث- في التورية بالنصرة- فلما هزم المسلمون يوم أحد، ارتابوا ونكثوا، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة أخا كعب من الرضاعة، فقتله غيلة، ثم صبّحهم بالكتائب، وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر والحيرة، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ويوضح ذلك ما قاله المفسرون: نزلت هذه الآية في بني النضير، وذلك أن النّبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، صالحه بنو النضير على ألا يقاتلوه ولا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وظهر على المشركين، قالت بنو النضير: والله، إنه النّبي الذي وجدنا نعته في التوراة، لا تردّ له راية، فلما غزا أحدا، وهزم المسلمون، نقضوا العهد، وأظهروا العداوة

نزول الآية (5) :

لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة «1» . وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول السنة الرابعة من الهجرة. نزول الآية (5) : ما قَطَعْتُمْ ... : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق بني النضير، وقطع وديّ «2» البويرة، فأنزل الله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها الآية. وأخرج ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير، تحصنوا منه في الحصون، فأمر بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه، فما بال قطع النخل وتحريقها، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن قتادة ومجاهد مثله. التفسير والبيان: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء ينزّه الله عن كل نقص، ويمجده ويقدسه، ويصلي له، ويوحده، إما تصريحا باللسان، وإما بالقلب، وإما بلسان الحال والمقال، إذعانا لعظمته، وانقيادا وخضوعا لجلاله، وهو المنيع الجناب القوي الغالب القاهر في ملكه، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه، يضع الأشياء في موضعها الصحيح، وإن لم يدرك الإنسان في الحال حكمة الله وتدبيره. ونظير الآية قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 236 [.....] (2) الوديّ بوزن فعيل: صغار الفسيل، والواحدة: ودية.

ومن مظاهر قدرة الله تعالى وحكمته ما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي إنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج يهود بني النضير من ديارهم في المدينة، في الحشر الأول، أي الجمع والإخراج والجلاء، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم من خيبر إلى الشام. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ما توقعتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم، لعزتهم ومنعتهم، وكانوا أهل حصون مانعة، وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة، وفي هذا بيان عظمة النعمة، وتوقعوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وألا يتعرضوا لسوء. فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي جاءهم أمر الله وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون مثل هذا الحدث، بل كانوا يرون أنفسهم أعزّ وأقوى، وألقى الله الخوف الذي يملأ الصدر، قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» . يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي لما أيقنوا بالجلاء، دمّروا منازلهم من الداخل لكيلا يستفيد منها المسلمون، ودمرها المؤمنون من الخارج، قال الزهري وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها. فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا أيها العقلاء بما حدث، واعلموا أن الله يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي ولولا أن قضى الله عليهم بالخروج والجلاء من أوطانهم على هذا النحو المهين، لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة، بعد غزوة الخندق، وكما فعل مع المشركين يوم بدر في السنة الثانية، ومع يهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر، ولهم في القيامة عذاب شديد في جهنم. أما سبب إجلائهم في التاريخ: فهو أن النّبي صلى الله عليه وسلم خرج مع عشرة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر وعلي، إلى بني النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ، وهما من بني عامر حلفائهم، فقد كان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فوعدوا خيرا في الظاهر، وأضمروا الغدر والاغتيال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله على يد عمرو بن جحاش بن كعب اليهودي، بإلقاء صخرة عليه من فوق السطح، مكان جلوسه بجوار الجدار. فأطلعه الله تعالى بالوحي على مؤامرتهم، فقام ورجع إلى المدينة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وإجلائهم من المدينة، وعاد إليهم في شهر ربيع الأول سنة أربع للهجرة، فحاصرهم ست ليال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فقبل. ثم خرج بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام. وفي أثناء الحصار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخلهم وإحراقه، حتى لا يبقى لهم تعلق بأموالهم، ونادوا يا محمد: قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى كما تقدم: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها.. الآية.

فقه الحياة أو الأحكام:

وهنا أبان الله تعالى سبب جلائهم قائلا: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي إنما فعل الله بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء، وتسليط المؤمنين عليهم، لأنهم خالفوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين، من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ومن يعادي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بعدم الطاعة، والميل مع الكفار، ونقض العهد، فإن الله يعاقبه أشد العقاب، ويعذبه في الدنيا والآخرة. ثم عذر الله تعالى المؤمنين فيما أقدموا عليه مما تقضي به الضرورة الحربية، فقال: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه، أو تركه قائما دون قطع، فهو بأمر الله ومشيئته، وقد أذن بذلك ليعز المؤمنين، وليذل الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم في القطع والترك، فإنهم إذا رأوا المؤمنين يفعلون في أموالهم ما شاؤوا، ازدادوا غيظا وحنقا. واللينة: أنواع التمر سوى العجوة. والنخيل الذي قطع وأحرق هو البويرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم، أمر بقطع نخيلهم، إهانة لهم، وإرهابا وإرعابا لقلوبهم. وقد تمّ قطع النخل بأمر الله ومشيئته، ولإذلال اليهود الذين كفروا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتبه. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- إن تسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به هو شأن جميع المخلوقات في السموات والأرض، نباتا وحيوانا وجمادا، وملكا وكوكبا، إما بلسان الحال

أو بلسان المقال، اعترافا بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته. 2- تعرض اليهود في العصر الإسلامي الأول بأمر الله لحشرين في الدنيا، والحشر: الجمع والإخراج والجلاء، والحشر الأول من المدينة إلى الشام، والحشر الآخر: إجلاء عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى الشام، بكفرهم ونقضهم العهد. ولهم حشر في الآخرة كبقية الناس للحساب والجزاء. 3- كان إجلاء اليهود من المدينة ومن خيبر أمرا غير متوقع من الناس، لقوتهم ومنعتهم وتحصنهم في حصونهم واجتماع كلمتهم، فأتاهم أمر الله وعذابه من حيث لم يظنوا، وألقى الله الرعب والخوف في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والذي قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وكانوا يخربون بيوتهم لئلا يسكنها المسلمون بعدهم، وأتم المؤمنون تخريبها، لمحو آثارهم وتصفية وجودهم من الجزيرة العربية. وفي ذلك نصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتشريف له، وإعزاز لمكانة المسلمين، وإذلال لليهود الذين عاثوا الفساد في الأرض. 4- إن في إجلاء اليهود على هذا النحو عبرة وعظة، يتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول، جاء في الأمثال الصحيحة: «السعيد: من وعظ بغيره» . 5- تمسك علماء أصول الفقه بآية: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ على أن القياس حجة، لأن الله تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.

6- استدل العلماء بالآية: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ.. إلخ على جواز هدم ديار الكفار الأعداء، وقطع أشجارهم، وإحراق زروعهم في أثناء الحرب، للضرورة الحربية، فلا بأس من الهدم والحرق والتغريق والرمي بالمجانيق، وقطع الأشجار، مثمرة كانت أو غير مثمرة. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرّق. وهذا هو الرأي الصحيح، ويرى الشافعية أنه إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن ييأسوا فعلوا. 7- قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. وهذا محل نظر في تقديري. 8- كان قضاء الله تعالى بجلاء يهود بني النضير من المدينة وخيبر رحمة بهم، ولولا ذلك لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والسّبي، كما فعل ببني قريظة. والجلاء: مفارقة الوطن، والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما لغة واحدا من وجهين كما ذكر القرطبي: أحدهما- أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني- أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة. 9- إن سبب ذلك التخريب والجلاء هو مشاقة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي معاداة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الله، ثم عمم الله الإنذار، فقال بقصد الزجر: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. 10- كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النضير في ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه بالحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودسّ عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه من المنافقين

حكم الفيء [سورة الحشر (59) الآيات 6 إلى 10] :

إلى بني النضير: إنّا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغترّوا بذلك. ولما لزم الأمر واقتضت الحرب معاونتهم خذلوهم وأسلموهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّ عن دمائهم ويجليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا ذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. 11- قال الماوردي في آية: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ..: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب، لأن بعض الناس كان يقطع، وبعضهم لا يقطع، فصوّب الله الفريقين. والحق أن المصيب في الاجتهاد واحد، وغيره مخطئ لا إثم عليه، كما أن الآية ليست من محل النزاع، لأن اجتهاد الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، قال ابن العربي معلقا على قول الماوردي: وهذا باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النّبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه، أخذا بعموم الأذيّة للكفار، ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «1» . حكم الفيء [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

_ (1) احكام القران: 4/ 1757

الإعراب:

الإعراب: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الجملة حال. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ.. الَّذِينَ: في موضع جر، لأنه معطوف على قوله: لِلْفُقَراءِ. والْإِيمانَ: منصوب بتقدير فعل، وتقديره: وقبلوا الإيمان. ويُحِبُّونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ. ويجوز أن يكون يُحِبُّونَ في موضع رفع، على أن يجعل الَّذِينَ مبتدأ، ويُحِبُّونَ خبره. البلاغة: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا بينهما ما يسمى بالمقابلة. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الضمير دِيارِهِمْ بين المبتدأ، والخبر لإفادة الحصر. تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ استعارة، شبّه الإيمان المستقر في نفوسهم بمنزل للإنسان نزل فيه وتمكن منه. المفردات اللغوية: وَما أَفاءَ رد وأعاد، أي صيّره إليه، والفيء شرعا: ما أخذ من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال، أو بلا إيجاف خيل ولا ركاب أو صلحا كأموال بني النضير، أما الغنيمة: فهي

ما أخذ بحرب وقتال، ورأى بعضهم أن الفيء: العقارات، والغنيمة: المنقولات. مِنْهُمْ من بني النضير أو من الكفرة أو أهل الكتاب المذكورين في أول السورة. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أسرعتم أيها المسلمون، من الوجيف: وهو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ مِنْ زائدة، والركاب: ما يركب من الإبل، والمراد: أنكم لم تبذلوا في تحصيله مشقة، ولم تقاسوا فيه شدة. وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بإلقاء الرعب في قلوبهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الله القادر على ما يريد، تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، بحرب أو بغير حرب. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأول، أي من أهل البلدان المفتوحة بلا قتال، كالصفراء ووادي القرى وينبع. فَلِلَّهِ الأمر فيه لله يأمر فيه بما يشاء، قيل: تكون قسمة الغنائم أسداسا، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل: يخمّس، وذكر الله للتعظيم، ويصرف الآن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإمام أو إلى الجيش، أو في مصالح المسلمين. وَلِذِي الْقُرْبى صاحب قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب. وَالْيَتامى أطفال المسلمين الذين فقدوا آباءهم، وهم فقراء. وَالْمَساكِينِ ذوي الحاجة من المسلمين. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره من المسلمين. كَيْ لا يَكُونَ أي لئلا يكون الفيء، أو المال، وهو علة لقسمه على النحو المذكور. دُولَةً بالضم: متداولا، فالدولة: ما يتداول من المال، والدّولة بالفتح: ما ينتقل من الحال. آتاكُمُ أعطاكم. وَما نَهاكُمْ عَنْهُ ما منعكم عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من قوله: لِذِي الْقُرْبى وما عطف عليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى فقيرا، والمهاجرون: هم الذين هاجروا في صدر الإسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الجملة حال مقيدة لصفة إخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ينصرون دينه بأنفسهم وأموالهم. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في إيمانهم وجهادهم. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ أي والذين سكنوا المدينة ولزموها، ولزموا الإيمان وألفوه وتمكنوا فيه، والمراد بالدار: دار الهجرة، وهم الأنصار. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين. وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم. حاجَةً أي شيئا نفسيا كالحزازة والحسد والغيظ. مِمَّا أُوتُوا مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره دون الأنصار. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ويقدمون المهاجرين على أنفسهم، من الإيثار: وهو تقديم مصلحة الغير على النفس في أعراض الدنيا. خَصاصَةٌ حاجة إلى ما يؤثرون به، من خصاص البناء: فرجته. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ

سبب النزول نزول الآية (9) :

نَفْسِهِ أي ومن يمنع ويحمى من بخل نفسه، وهو حب المال وبغض الإنفاق، والشح: بخل مع حرص. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المهاجرين والأنصار، وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فلذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. غِلًّا حقدا وحسدا لهم. رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بالغ الرأفة والرحمة، فحقيق بأن تجيب دعاءنا. سبب النزول: نزول الآية (9) : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا..: أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم: أن الأنصار قالوا: يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال: لا، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم، قالوا: رضينا، فأنزل الله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ الآية. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئا، فقال: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله، أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. وأخرج مسدّد في مسنده وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي أن رجلا من المسلمين، فذكر نحوه، وفيه: أن الرجل الذي أضاف: ثابت بن قيس بن شماس، فنزلت فيه هذه الآية.

المناسبة:

وأخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر، حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الآية. المناسبة: بعد بيان ما حل ببني النضير في الدنيا من تخريب بيوتهم، وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم إلى الشام، ثم الإخبار عن عذابهم في الآخرة، ذكر الله تعالى حكم الأموال التي أخذت منهم، فهي فيء، ثم ذكر تعالى حكم الفيء بصفة عامة، لبيان الفرق بين الغنيمة التي تؤخذ بقتال، والفيء الذي يؤخذ صلحا بغير قتال. وإنما أخذت أموال بني النضير بغير قتال يذكر، بالرغم من حصارهم، لأنه لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشيا، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان راكب جمل، فلما كانت المقاتلة قليلة، ولم يكن خيل ولا ركاب، أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا، وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأموال، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة. التفسير والبيان: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ أي ما ردّه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير، فهو للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يحصل فيه قتال ولا حرب ولا تجشم مشقة، ولم

تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا، وإنما كانت من المدينة على ميلين، وافتتحت ديارهم صلحا، وأخذت أموالهم بعد جلائهم عنها، ولذا لم تقسم بين الغانمين، وإنما جعل الله أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة لهذا السبب، يصرفه على مصالحه كيف يشاء. أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته- أو قال: قوت سنته- وما بقي جعله في الكراع «1» والسلاح عدّة في سبيل الله عز وجل» . وإنما قال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ لأنه الطائع لربه فيما يأمره به، وجدير بالمال أن يكون للمطيعين. وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ولكن الله بقدرته يسلط رسله على من يشاء من أعدائه، كما سلط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير، فأخذ أموالهم دون قتال، والله قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء بمن يشاء، فإنه سبحانه هو الذي مكّن رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير. ثم ذكر الله حكم الفيء، فصارت أموال الأعداء ثلاثة أنواع: الغنائم المنقولة المأخوذة قهرا التي توزع أخماسا بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ.. [الأنفال 8/ 41] والأموال المنقولة التي تؤخذ صلحا بلا إيجاف خيل ولا ركاب، فهي للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، يصرفها كيف شاء بقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ.. وأموال الفيء العقارية التي توزع على المصالح العامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى هنا:

_ (1) الكراع: الخيل أو الدواب التي تصلح للحرب.

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ ففي هذه الآية بيان مصارف الفيء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن كل ما رده الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من كفار أهل القرى، كقريظة والنضير وفدك وخيبر، صلحا من غير قتال، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، يحكم به الله بما يشاء، ثم يكون ملكا للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم في مصالح المسلمين من بعده، فينفق منه على قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب الممنوعون من أخذ الصدقة أو الزكاة، فجعل لهم حقا في الفيء. كما ينفق منه على اليتامى وهم الصغار الذين مات آباؤهم قبل البلوغ، والمساكين الفقراء ذوي الحاجة والبؤس، وأبناء السبيل المنقطعين في أثناء السفر، وهم الغرباء الذين نفدت نفقتهم في سفرهم. فيكون الفيء مقسوما خمسة أقسام: سهم الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، هو للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته، وسهم ذوي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل، والأربعة أخماس الباقية لمصالح المسلمين العامة. أما الغنيمة: فيصرف خمسها لهؤلاء الخمسة المذكورين في هذه الآية وآية الغنائم: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.. والأربعة أخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة. وعلة هذا التقسيم ما قال الله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي حكمنا بهذه القسمة بين هؤلاء المذكورين، لئلا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء، ولا يصيب الفقراء منه شيء، فيغلب الأغنياء الفقراء، ويقسمونه بينهم. وهذا مبدأ إغناء الجميع، وتحقيق السيولة للكل.

وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أي ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه، وما منعكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر، فإذا أعطاكم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا من الفيء مثلا، فخذوه، فهو حلال، وإذا منعكم شيئا منه، فلا تقربوه، فإنه يعمل بالوحي ولا ينطق عن الهوى. والآية توجب امتثال أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ونواهيه أيضا. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» وأخرج أحمد والشيخان صاحبا الصحيحين أيضا وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلجات للحسن «1» ، المغيّرات لخلق الله عز وجل» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد في البيت، يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن، فجاءت إليه، فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى، فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه، فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه، فقد وجدتيه أما قرأت: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه» . وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي خافوا الله بامتثال أوامره، وترك زواجره ونواهيه، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره وأباه، وارتكب ما زجر عنه ونهاه. والآية تتناول كل ما يجب فيه التقوى، وتحث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

_ (1) الوشم: غرز الإبرة في الجلد تم حشوه بالكحل، والواشمة: فاعلة الوشم، والمستوشمة: طالبة الوشم، والمتنمصات جمع متنمصة: وهي التي تنتف الشعر من وجهها، والمتفلجات جمع متفلجة: وهي التي تتكلف التفريق بين أسنان الثنايا والرباعيات.

وبعد بيان مصارف الفيء، بيّن الله تعالى حال الفقراء المستحقين له، فقال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي إن هؤلاء الأصناف الأربعة (وهم ذوو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل) هم فقراء المهاجرين والأنصار والتابعين. وفقراء المهاجرين: هم الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج منها، وإلى ترك أموالهم وديارهم فيها، طلبا لمرضاة الله وفضله ورزقه في الدنيا، وثوابه ورضوانه في الآخرة، ونصرة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار، وإعلاء كلمة الله ودينه، أي إن الخمس يصرف للمذكور في الآية: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وتكون الأخماس الأربعة الباقية للفقراء المهاجرين ومن جاء بعدهم «1» . أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي هؤلاء المهاجرون هم الكاملون في الصدق، الراسخون فيه، الذين صدّقوا قولهم بفعلهم، وقرنوا إيمانهم بالعمل المخلص. ثم مدح الله تعالى الأنصار، وأبان فضلهم وشرفهم، وعدم حسدهم، وإيثارهم المهاجرين مع الحاجة، ورضاهم بإعطاء الفيء لهم، فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي والذين سكنوا المدينة دار الهجرة، وتمكّن الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، قبل هجرة المهاجرين، وهم الأنصار، يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حسدا أو غيظا أو حزازة للمهاجرين مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك، مع أنهم كانوا في دور الأنصار، وقدّموا المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا، ولو

_ (1) تفسير الألوسي: 28/ 56

كان بهم حاجة وفقر. ويلاحظ أن كل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته، فهو حاجة. والإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، والرغبة في الحظوظ الدينية. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من كفاه الله حرص نفسه وبخلها، وحفظ من ذلك، فأدى ما أوجبه الشرع عليه في مال من زكاة أو حق، فقد فاز ونجح، وظفر بكل المنى والمطلوب. أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس بن مالك مرفوعا: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا» وروي أيضا عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع ... » . وأخرج أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . وأخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» . والآية دليل على اتصاف الأنصار بصفات خمس: هي استيطانهم دار الهجرة مسبقا وجعل الإيمان مستقرا ووطنا لهم، ومحبتهم إخوانهم المهاجرين، وترفعهم عن الجشع والطمع والحسد والحزازة، وإيثارهم المحتاجين على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة، واتصافهم بالجود والبعد عن الشح، لذا وصفوا بأنهم المفلحون الظافرون بما أرادوا.

ثم وصف الله القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم متابعون بإحسان، فقال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار، وهم التابعون لهم بإحسان، كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة 9/ 100] يقولون أي قائلين: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا السلف الصالح من المهاجرين والأنصار، وانزع من قلوبنا الغش والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة، فإنك يا ربنا بالغ الرأفة كثير الرحمة، فاقبل دعاءنا. والتابعون لهم بإحسان: هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية. والآية دليل على تضامن وتكافل آخر الأمة وأولها وأجيالها، وعلى وجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وتقدير أخوتهم في الدين والسبق إلى الإيمان، والحث على الدعاء لهم بخير، وعلى صفاء القلوب من أمراض الحقد والحسد لأي مؤمن. قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وقرى عرينة وكذا وكذا مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم،

فقه الحياة أو الأحكام:

والذين جاؤوا من بعدهم، فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق «1» . وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة 9/ 60] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ... الآية [الأنفال 8/ 41] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى حتى بلغ لِلْفُقَراءِ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي، وهو بسرو حمير، نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه «2» . قال الرازي: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين، لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار، أو الذين جاؤوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء، كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية «3» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية: 1- كانت أموال بني النضير ونحوها التي ردها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من

_ (1) رواه أبو داود، وفيه انقطاع. (2) تفسير ابن كثير: 4/ 339- 340 (3) تفسير الرازي: 29/ 288

غير قتال ولا حرب ولا مشقة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصّة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين لشدة حاجتهم. ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين، هم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمّة. 2- أموال الفيء: هي- كمال قال ابن عباس- قريظة والنضير، وهما بالمدينة، وفدك وهي على ثلاثة أيام من المدينة، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها الله تعالى، لرسوله صلى الله عليه وسلم. 3- الأموال التي للدولة فيها حق التدخل ثلاثة أنواع: الصدقات والزكوات: وهي ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم. والثاني- الغنائم: وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث- الفيء: وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف (إسراع) خيل ولا ركاب، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام، ولا وارث له. أما الزكاة (أو الصدقة) فتصرف إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها وهم الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... [براءة 9/ 60] . وأما الغنائم الحربية: فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة الأنفال: قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ثم نسخ بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية [الأنفال 8/ 41] فيكون الخمس لمن ذكر الله تعالى، والأربعة أخماس الباقية للغانمين. وأما الفيء وهو العقار: فالأمر فبه عند المالكية للإمام، يفعل ما يراه

مصلحة، من قسمته كالغنائم أو ترك قسمته وجعله لمصالح المسلمين العامة، كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق ومصر وغيرهما، واحتج على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم الذين طالبوا بالقسمة بهذه الآية آية الفيء: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ... إلى قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها (أهل أراضي العراق) ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية «1» . وتكون آية الحشر في رأي المالكية ناسخة في شأن العقارات لآية الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.... وذكروا أنه يقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر رضي الله عنه عام الرمادة، وقال الحنفية: تقسم الغنائم- أي المنقولات- على النحو الذي ذكره الله في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... الخمس لمن ذكرت الآية، والباقي للغانمين، وأما حكم الفيء أي الأرض فهو أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمس، بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. لكن الغنيمة تقسم على ثلاثة أسهم فقط: سهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم أبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى، في الخمس فهو لافتتاح الكلام، تبركا باسمه تعالى، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته، فالحنفية والمالكية يتركون الخيار للإمام في قسمة العقار، فهو مخير في قسمته أو جعله وقفا على مصالح المسلمين. وتكون آية الحشر الثانية: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار. روى مالك أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.

_ (1) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 430

وذهب الشافعية إلى أن حكم الفيء والغنيمة واحد، فيخمس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص القرآني: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ بجامع أن كلّا منهما مال الكفار استولى عليه المسلمون، وأما اختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره، فلا تأثير له، فعلى الإمام قسمة العقار، ومن طاب نفسا عن حقه، فللإمام أن يجعله وقفا على المسلمين. وتقسم الغنيمة في رأي الشافعية والحنابلة على خمسة أسهم، أولها- سهم المصالح (سهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم) أي يصرف لمصالح المسلمين العامة كالثغور وقضاة البلاد وعلماء الشرع والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ونحوهم وثانيها- سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم. 4- علة قسمة الفيء: إن تقسيم الفيء على النحو السابق كيلا يختص به الأغنياء، كما كانوا يستأثرون بالغنيمة، وكانوا يغترون به، وبذلك قضى الإسلام على الطبقية وتجمع الثروة في يد فئة قليلة، وحرمان الأكثرية من سيولة المال. 5- قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ ... دليل واضح على وجوب امتثال جميع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب جميع نواهيه، فإنه لا يأمر إلا بصلاح، ولا ينهى إلا عن فساد. وقد استدل الصحابة كابن مسعود وغيره بتحريم أشياء عملا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، كتحريم الوشم والتنمص (نتف شعر الوجه) وتفليج الأسنان، وجواز قتل الزّنبور في الإحرام، اقتداء فيه بعمر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في قوله: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» وأمر الله سبحانه بقبول قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه ابن ماجه عن أبي هريرة-: «ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا» .

وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 4/ 80] وعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» «1» 6- دل قوله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ على وجوب اتقاء عذاب الله، فإنه شديد على من عصاه، وعلى وجوب تقوى الله في أوامره ونواهيه، فلا تضيّع، فإن الله شديد العقاب لمن خالف ما أمره به. 7- المقصود بأولئك الأصناف الأربعة الذين يصرف لهم الفيء: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هم هؤلاء الأصناف من الفقراء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان. 8- وصف الله تعالى المهاجرين بأوصاف ستة: أولها- أنهم فقراء، وثانيها- أنهم مهاجرون، وثالثها- أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ورابعها- أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، والفضل: ثواب الجنة، والرضوان قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة 9/ 72] ، وخامسها- وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم، وسادسها- أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في دينهم، لهجر هم لذات الدنيا، وتحملهم شدائدها. وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فقال: هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته. 9- أثنى الله على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ أعطي

_ (1) أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.

للمهاجرين دونهم، ووصفهم أيضا بأوصاف ستة: أولها- أنهم استوطنوا المدينة قبل وصول المهاجرين إليها، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه، وثانيها- محبتهم الخالصة للمهاجرين، وثالثها- لا يحملون في نفوسهم حقدا ولا حسدا ولا حزازة بسبب ما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، ورابعها- إيثارهم غيرهم ولو كان بهم حاجة، وخامسها- وقاهم الله من مرض الشح، وسادسها- هم المفلحون الفائزون الظافرون بما أرادوا. 10- استدل الإمام مالك على تفضيل المدينة على غيرها من الآفاق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الآية. وقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. 11- الأولى أن يقال: إن الآيات متعلقة ببعضها، معطوف بعضها على بعض، فتكون آية: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا معطوفة على قوله: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وآية: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي التابعون ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. 12- آية: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه تعالى جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبّهم أو سب واحدا منهم، أو اعتقد فيه شرا، فإنه لا حق له في الفيء. 13- آيات الحشر هذه في الفيء تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض حقا عاما للمسلمين جميعا أو وقفا دائما على

مصالحهم، كما فعل عمر رضي الله عنه في سواد العراق ومصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة عنوة، لأن الله تعالى أخبر عن الفيء، وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، فقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. جاء في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم حقون، وددت أن رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض» أي متقدمهم حتى يردوا، فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم. 14- دل قوله تعالى: يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ على أن المؤمنين المتأخرين مع مرور الأجيال مأمورون أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، فتجسّروا الناس عليهم. أما من يلعن أو يسب بعض الصحابة فهو فاسق، بعيد عن أدب الإسلام وأخلاقه، وروح الدين وصفائه، متنكر لأهل الفضل والسبق، مبتدع ضال، فإن القرآن الكريم أمر بالاستغفار للصحابة، ونهى عن الحقد والحسد لجميع المؤمنين والمؤمنات. وإذا بلغ القدح ببعض الأصحاب أو أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما يصادم نصا قرآنيا أو حديثا ثابتا مقطوعا به، أدى ذلك إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى.

تواطؤ المنافقين واليهود وجزاؤهم [سورة الحشر (59) الآيات 11 إلى 17] :

تواطؤ المنافقين واليهود وجزاؤهم [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) الإعراب: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ... لم يجزم يَخْرُجُونَ ويُنْصَرُونَ لأنهما جوابا قسمين قبلهما، وتقديره: والله لا يخرجون معهم ولا ينصرونهم، فلذلك لم ينجزما بحرف الشرط. كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَثَلِ: جار ومجرور في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم. وقَرِيباً لا يبعد أن يتعلق بصلة الَّذِينَ. وكذلك كَمَثَلِ الشَّيْطانِ ... تقديره: مثلهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، فحذف المبتدأ.

البلاغة:

فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها عاقِبَتَهُما: منصوب لأنه خبر كان، و (أن) واسمها وخبرها في موضع رفع، لأن الجملة اسم (كان) . وخالِدَيْنِ حال من المضمر في الظرف في قوله: فِي النَّارِ وتقديره: كائنان في النار خالدين فيها، وكرر فِي تأكيدا كقولهم: زيد في الدار قائم فيها. ويجوز رفع خالِدَيْنِ على خبر (أن) . البلاغة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا.. استفهام يراد به الإنكار والتعجيب. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى بين جَمِيعاً وشَتَّى طباق. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ تنظر. نافَقُوا أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر. لِإِخْوانِهِمُ المراد بذلك أخوة الكفر، أو الصداقة والموالاة أي أصدقائهم. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم بنو النضير وإخوانهم في الكفر. لَئِنْ اللام لام القسم في الحالات الأربع. أُخْرِجْتُمْ من المدينة. وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي لا نطيع أحدا من الرسول والمؤمنين في قتالكم، ولا نسمع أمر أحد في خذلانكم. وَإِنْ قُوتِلْتُمْ حذف من إِنْ اللام الموطئة للقسم. لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعاوننكم. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ثبت في التاريخ أنهم كانوا على هذا النحو، فإن ابن أبي وأصحابه المنافقين راسلوا بني النضير بذلك، ثم أخلفوهم. وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ جاؤوا لنصرهم على الفرض والتقدير. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ليفرنّ هاربين منهزمين. واستغني بجواب القسم المقدر عن جواب الشرط في المواضع الخمسة. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد أي اليهود، بل نخذلهم، ولا ينفعهم نصرة المنافقين. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي إن المنافقين يخافونكم خوفا أشد من خوفهم الله، وقوله: رَهْبَةً خوفا، أي أشد مرهوبية، وقوله: فِي صُدُورِهِمْ لتأكيد استقرار الخوف في نفوسهم، فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. وقوله: مِنَ اللَّهِ لأنهم يظهرون النفاق مع أنه لا يخفى على الله تعالى، ولتأخير عذاب الله. لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حق خشيته. لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود. جَمِيعاً مجتمعين. مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق

سبب النزول نزول الآية (11) :

جُدُرٍ حيطان وأسوار، جمع جدار، وذلك لفرط رهبتهم. بَأْسُهُمْ حربهم، فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، وليس ذلك لضعفهم وجبنهم، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً تظنهم مجتمعين متفقين. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة لافتراق عقائدهم، واختلاف مقاصدهم، جمع شتيت. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم. كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل اليهود لا سيما يهود بني النضير كالمشركين الذين قتلوا وعذبوا في معركة بدر، أو كالمهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب. ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا من القتل وغيره. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب مؤلم في الآخرة. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان. إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك. والمراد بالإنسان: الجنس، فيشمل أبا جهل الذي قال له إبليس يوم بدر: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ الآية [الأنفال 8/ 48] . إِنِّي أَخافُ اللَّهَ.. كذبا منه ورياء. فَكانَ عاقِبَتَهُما أي الغاوي والمغوي. الظَّالِمِينَ الكافرين. سبب النزول: نزول الآية (11) : أَلَمْ تَرَ..: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، فنزلت هذه الآية فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن نبتل وقوم من منافقي أهل المدينة كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الآيات. المناسبة: بعد بيان مصير يهود بني النضير، وحكم مصارف الفيء الذي يشمل أموال

التفسير والبيان:

هؤلاء اليهود، ذكر الله تعالى أحوال العلاقات المشبوهة بين المنافقين واليهود، فقد كان المنافقون في الظاهر من الأنصار، ولكنهم كانوا يوالون اليهود في السر، فصاروا إخوانهم في الكفر، وأصدقاءهم في معاداة المؤمنين. ومثل هذا الارتباط يتكرر في كل زمان، حيث نجد ضعاف الإيمان والنفوس وخونة الأمة الإسلامية يوالون أعداءهم، كما يعد بعض الناس غيرهم على المؤازرة في شيء، ثم يتخلون عنهم وقت الأزمة. التفسير والبيان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي ألم تنظر إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد ووديعة بن مالك وسويد وداعس وأمثالهم حين بعثوا إلى يهود بني النضير: أن اثبتوا وتحصنوا، أو تمنّعوا، فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، ولا نطيع في شأنكم، ومن أحلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد وأتباعه، وإن طال الزمان، وإن قوتلتم لننصرنكم على عدوكم. فكذبهم الله بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج معهم، والنصرة لهم، إما لنيتهم ألا يفوا بما وعدوا به، وإما لأنهم لا يقع منهم ما قالوا. وقوله في مطلع الآية: أَلَمْ تَرَ أسلوب يراد به التعجيب من حال المخبر عنه، وأن أمره في غاية الغرابة. وقد تبين لليهود كذب المنافقين، فلم ينصروهم وقت الحصار، وقذف الله الرعب في قلوب أولئك اليهود، فطلبوا من

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، ففعل، فكان الرجل منهم يهدم بيته، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. ثم أكد الله تعالى تكذيبهم مفندا على سبيل التفصيل مواقفهم الخادعة، فقال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي وتالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم، لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم، ولئن آزروهم وقاتلوا معهم لفرّوا هاربين منهزمين، ثم لا يصير المنافقون واليهود منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله ويخذلهم، ولا ينفعهم نفاقهم. ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا، وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 8/ 23] . وكان الواقع مطابقا لما أخبر به القرآن، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود، وهم بنو النضير ومن معهم، ولم ينصروا اليهود الذين قوتلوا، وهم بنو قريظة وأهل خيبر، ثم بشر الله تعالى بنصر المؤمنين على كلا الفريقين: المنافقين واليهود، وتحقق وعد الله، وتطهرت جزيرة العرب من اليهود بفضل من الله وتوفيقه. وسبب عدم نصرتهم لليهود ما قال تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي إنكم أيها المسلمون أشد خوفا وخشية في صدور المنافقين أو في صدور اليهود من رهبة الله، فهم يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، وذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه أحق بالرهبة منه دونكم.

ونظير الآية قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء 4/ 77] . ثم ذكر تعالى أسلوب اليهود والمنافقين في مقاتلة المؤمنين، فقال: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ أي إن اليهود والمنافقين من جبنهم وهلعهم لا يواجهون جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة، ولا يقاتلونهم مجتمعين، بل يقاتلونهم إما وراء الحصون والدروب والخنادق، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها، لجبنهم ورهبتهم، فيقاتلون للدفاع عنهم ضرورة، وقد لمس العرب هذا الأسلوب في حروب اليهود في فلسطين في عصرنا. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي إن عداوتهم وجربهم فيما بينهم شديدة، وقاسية، تظنهم متوحدين وهم متفرقون، فاجتماعهم إنما هو في الظاهر، مع اختلاف نواياهم وأهوائهم وآرائهم وشهاداتهم في الواقع، لما بينهم من أحقاد وعداوات، ولأنهم قوم لا يعقلون الحق وأمر الله، ولا يدركون سر النجاح في الحياة وهو الوحدة، ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه، فتوحدوا ولم يختلفوا. وهذا دليل على أن ضعفهم ناشئ من التفرقة والخلاف، فجدير بالمسلمين الذين يقاتلونهم في هذا العصر أن يكونوا متوحدين صفا واحدا كالبنيان المرصوص، وأن يعتمدوا على أنفسهم دون التماس حلول واهنة ضعيفة من شرق أو غرب. ثم ذكر الله تعالى أحوالا مشابهة لهم، فقال: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي إن هؤلاء اليهود بني النضير أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، في السنة

فقه الحياة أو الأحكام:

الثانية من الهجرة، ومثل من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أذرعات بالشام بعد سنة ونصف من الهجرة، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، وذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، ولهم عذاب مؤلم في الآخرة. ثم ذكر الله تعالى مثلا آخر للمنافقين ورابطتهم باليهود، فقال: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي إن مثل هؤلاء المنافقين في وعودهم اليهود بالمناصرة والمؤازرة في القتال والخروج، كمثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشر، وأغراه بالكفر، وزيّنه له، وحمله عليه، فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان، تبرأ الشيطان منه وتنصل يوم القيامة، وقال على وجه التبري من الإنسان: إني أخاف عذاب الله رب العالمين إذا ناصرتك. وهذا مثل في غاية السوء وشدة الوقع على النفوس، لذا أبان الله تعالى بعده ما يوجبه من العقاب، فقال: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي فكان عاقبة الشيطان الآمر بالكفر، والإنسان الذي كفر واستجاب أنهما صائران إلى نار جهنم خالدين فيها على الدوام، وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا، ومنهم اليهود والمنافقون. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- إن هناك مصادقة وموالاة ومعاونة في الظاهر بين المنافقين واليهود، بسبب أخوة الكفر، ورابطة الاشتراك في العداوة والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول

المنافقون ليهود قريظة والنضير: نحن معكم في الإقامة والقتال والخروج، ولا نطيع محمدا في قتالكم، والله شاهد على أنهم كاذبون في قولهم وفعلهم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخبار الغيب، لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم. 2- كذب الله المنافقين أولا على سبيل الإجمال، ثم أتبعه بالتفصيل، فأخبر بأن اليهود لو أخرجوا من ديارهم، لم يخرج المنافقون معهم، وأنهم لو قاتلهم المؤمنون ما نصروهم ولا عاونوهم، ولئن نصر المنافقون اليهود لفروا هاربين منهزمين. 3- إن بني النضير في خوفهم من المسلمين أشد خوفا وخشية من رهبة الله، فهم يخافون منهم أكثر مما يخافون من ربهم، ذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته. 4- لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلة المسلمين مجتمعين إلا في حصون محصنة بالخنادق والدروب، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم، وإلقاء الله الرعب في قلوبهم، وتفرقهم، وتأييد الله ونصرته لعباده المؤمنين. وسبب ذلك التفرق والتشتت والكفر أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله، ويدركون به نظم الحياة، ويعرفون أن الوحدة أساس النجاح. 5- إن ما أصاب يهود بني النضير من الطرد والجلاء عن المدينة والعذاب مشابه لما أصاب بني قينقاع وكفار قريش يوم بدر، من العقاب، فقد كان بين النضير وقريظة سنتان، وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، ولهؤلاء الكفار في الآخرة عذاب مؤلم.

الأمر بالتقوى والعمل للآخرة [سورة الحشر (59) الآيات 18 إلى 20] :

6- إن مثل المنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم مثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الكفر، فلما كفر تبرأ منه، مدعيا أنه يخاف عذاب الله. فكانت عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان، حيث صارا إلى النار خالدين فيها على الدوام. الأمر بالتقوى والعمل للآخرة [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) البلاغة: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ كناية في كلمة لِغَدٍ كنى بها عن القيامة لقربها. الْجَنَّةِ والنَّارِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: نَفْسٌ تنكيرها للتقليل أي تقليل الأنفس النواظر، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك. ما قَدَّمَتْ أي الذي قدمته من الأعمال الصالحة. لِغَدٍ هو يوم القيامة، سمي به لقربه وتحقق وقوعه وتنكيره للتعظيم وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه. نَسُوا اللَّهَ نسوا حق الله، فتركوا طاعته. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أنساهم أن يقدموا لها خيرا. الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسق.

المناسبة:

لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أي لا يتساوى أصحاب النار الذين لم يعملوا ما ينقذهم منها، فاستحقوا النار، والذين استكملوا نفوسهم، فاستأهلوا الجنة، واحتج به الشافعية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم. المناسبة: بعد بيان أحوال المنافقين واليهود، أمر الله تعالى بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات، وأمر بالعمل في الدنيا للآخرة، ورغب في الإعداد للجنة، وحذر من عمل أهل النار، ووصف أهل الجنة المستحقين لها بالفائزين، وأهل النار بالفاسقين. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، افعلوا ما أمر الله به، واتركوا ما زجر عنه، واتقوا عقابه، ولتتأمل نفس أي شيء قدّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واتقوا الله- وكرر الأمر بالتقوى للتأكيد والحث على ما ينفع في الآخرة- فإن الله لا تخفى عليه من أعمالكم وأحوالكم خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها. ثم نهى الله تعالى عن التشبه بالذين أهملوا حقوق الله، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ، أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي واحذروا أن تكونوا كالذين تركوا أمر الله، وأهملوا حقوق الله الواجبة على العباد، ولم يخافوا ربهم، فجعلهم ناسين أنفسهم بسبب نسيانهم لربهم، فلم يعملوا الأعمال الصالحة التي تنفعهم في المعاد، وتنجيهم من العذاب، فإن الجزاء من جنس العمل، وأولئك التاركون حقوق الله هم الخارجون الكاملون في الخروج

عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم. وذلك كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [المنافقون 63/ 9] . ثم قارن الله تعالى بين المحسنين والمسيئين لبيان أنه لا استواء بين الفريقين، فقال: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي لا يستوي مستحقو النار ومستحقو الجنة في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة يوم القيامة، أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. ونظير الآية كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 45/ 21] وقوله سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ، قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ [غافر 40/ 58] . وقوله عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] . وهذا ترغيب في العمل للجنة، وترهيب من العمل للنار. ويلاحظ أن الآيات بدأت بالأمر بالتقوى، ثم نهت عن نسيان حقوق الله، ثم وازنت بين الطائعين والعصاة، وكل ذلك لتأكيد الأمر بالتقوى وطاعة الله، فبعد إرشاد المؤمنين إلى ما فيه مصلحتهم يوم القيامة: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وتهديد الكافرين بقوله: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أبان تعالى الفرق بين الفريقين.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- لزوم تقوى الله في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. 2- أعاد الله تعالى الأمر بالتقوى مرة ثانية للتأكيد، أو يحمل الأمر الأول على أداء الواجبات والتوبة فيما مضى من الذنوب، والثاني على ترك المعاصي في المستقبل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشهد بهذه الآية في الحث في خطبه على عمل الخير والمعروف، أخرج أحمد ومسلم عن المنذر بن جرير عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار «1» أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى آخر الآية [النساء 4/ 1] وقرأ الآية التي في الحشر: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ. «تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره» ، حتى قال: «ولو بشق تمرة» . فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهّبة «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ (1) أي مخططي الثياب. (2) أي صفحة مموهة بالذهب.

«من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . 3- نهى الله تعالى عن التشبه بقوم تركوا أمر الله- والنهي يقتضي التحريم- حتى نسوا أنفسهم أن يعملوا لها خيرا، فكانوا هم الفاسقين، أي الذين خرجوا عن طاعة الله تعالى. روى أبو القاسم الطبراني عن نعيم بن نمحة قال: كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل، وهو في عمل الله عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ. أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشّقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن، وحصّنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم «1» . 4- هناك فرق واضح في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة بين المؤمنين أهل

_ (1) قال ابن كثير: هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات (تفسير القرآن العظيم: 4/ 342) .

مكانة القرآن وعظمة منزله ذي الأسماء الحسنى [سورة الحشر (59) الآيات 21 إلى 24] :

الجنة، وبين الكافرين أهل النار، فالأولون ناجون فائزون بالمطلوب، والآخرون فاسقون هالكون معذبون. 5- احتج الشافعية بآية: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ ... على أن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي، وإلا استويا، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا. مكانة القرآن وعظمة منزّله ذي الأسماء الحسنى [سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الإعراب: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً منصوبان على الحال من هاء لَرَأَيْتَهُ لأن (رأيت) من رؤية البصر. الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الْمُصَوِّرُ من صوّر يصوّر، لا من صار يصير فهو مصيّر، وهو مرفوع على أنه وصف بعد وصف، أو خبر بعد خبر. وقرئ المصور وهو آدم عليه السلام وأولاده، والمعنى: الخالق الذي برأ المصوّر، وقرئ الْمُصَوِّرُ بالجر على الإضافة، كقولهم: الضارب الرجل، بالجر حملا على الصفة المشبهة باسم الفاعل، كقولهم: الحسن الوجه.

البلاغة:

البلاغة: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً تمثيل وتخييل مثل آية: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ... الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ أي وجعل فيه تمييز ووعي كالإنسان. لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً خاشِعاً منقادا خاضعا، ومُتَصَدِّعاً متشققا. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وتلك الأمثال المذكورة يراد بها توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، وقلة تدبّره. الْغَيْبِ ما غاب عن الحس والمشاهدة من العوالم غير المرئية. الشَّهادَةِ عالم الماديات والمرئيات المشاهدة المحسوسة، وقدم الغيب على الشهادة، لأن الغيب معدوم متقدم في الوجود، والشهادة موجود متأخر. الْقُدُّوسُ الطاهر المنزه عما لا يليق به من النقص. السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة. الْمُؤْمِنُ المصدّق رسله فيما بلّغوه عنه بالقول، أو بخلق المعجزة على أيديهم، أو هو واهب الأمن لعباده. الْمُهَيْمِنُ الرقيب على أعمال عباده، الحافظ لكل شيء. الْعَزِيزُ القوي الغالب. الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد. الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة، الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزه الله عما يصفه به المشركون من الصاحبة والولد والشريك، فلا يشاركه أحد من خلقه في شيء من ذلك. الْخالِقُ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته. الْبارِئُ المنشئ من العدم، الموجد للأشياء بريئا من التفاوت. الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التسعة والتسعون الوارد بها الحديث، والحسنى: مؤنث الأحسن، وقد وصفت بالحسنى، لأنها دالة على محاسن المعاني التي تظهر في هذا الوجود، فإن جمال الكون البديع دليل على كمال صفات الموجد المبدع. يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ينزهه جميع المخلوقات، لتنزهه عن النقائص كلها. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات كلها المتمثلة في كمال القدرة والعلم. المناسبة: بعد بيان أحوال اليهود والمنافقين، وأمر المؤمنين بالتقوى والاستعداد ليوم

التفسير والبيان:

القيامة، عظّم الله عز وجل أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان، ونبّه إلى عظمة منزّل القرآن ذي الأسماء الحسنى الذي انقادت السموات والأرض لحكمه وأمره ونهيه، وتنزه عن النقائص. التفسير والبيان: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي لقد بلغ من شأن القرآن وعظمته وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال، وجعل له عقل كما جعل للبشر، لرأيت الجبل، مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة، خاشعا خاضعا متذللا منقادا، متشققا من خوف الله، حذرا من عقابه، وخوفا من عدم أداء ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى. وهذا تعظيم لشأن القرآن، وتمثيل لعلو قدره وشدة تأثيره على النفوس، لما فيه من المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحق والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وهذه الأمثال المذكورة نضربها لجميع الناس، لعلهم يتفكرون فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى الآية [الرعد 13/ 31] أي لكان هذا القرآن. وثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب، فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند

ذلك حنّ الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكّت، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده. والمراد بالآية التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار، وغلظ طباعهم، وتوبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن، فإذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟!! ثم عظم الله تعالى شأن القرآن بوجه آخر، وهو التنبيه على أوصاف منزّله فقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ أي إن الله منزل القرآن، هو الذي لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر، يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، من جليل وحقير، وصغير وكبير، في الذرّ (النمل الأسود) في الظلمات، وأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف 7/ 156] وقال سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 6/ 54] . ثم ذكر الله تعالى أوصافا أخرى لنفسه، فقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أكد تعالى صفة الوحدانية مرة أخرى، وكرر ذلك للتأكيد والتقرير في مطلع هذه الآية كالتي قبلها، فهو تعالى الإله الواحد الذي لا شريك له، المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها، بلا ممانع

ولا مدافع، الظاهر من كل عيب، المنزه عن كل نقص، الذي سلم من كل نقص وعيب لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وسلم الخلق من ظلمه، والواهب الأمن والصدق لأنبيائه بالمعجزات، وأمن خلقه من أن يظلمهم، فهو المصدق لرسله بإظهار المعجزات، وللمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، وهو الشاهد الرقيب على عباده بأعمالهم، فهو بمعنى الرقيب عليهم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج 85/ 9] . وقوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ [يونس 10/ 46] . وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد 13/ 33] . وهو القاهر الغالب غير المغلوب، الذي قد عزّ كل شيء، فقهره وغلب الأشياء، ذو الجبروت أي العظمة، الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به، والكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذّبته» «1» . سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله عما يصفه به المشركون من إشراكهم بالله غيره، كالصاحبة والولد والشريك. ثم قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي هو الله الخالق أي المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته، البارئ، أي المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها،

_ (1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري بلفظ: «العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته» وفي رواية: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار» . [.....]

فالخلق: التقدير، والبرء: هو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئا ورتّبه، يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل، وهو المصوّر، أي الموجد للصور على هيئات مختلفة، وصفات أرادها، كما قال: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار 82/ 8] وله الأسماء والصفات الحسنى التي لا يماثله أحد فيها، لعزته، ومن عزته كان منزها عن النقائص، أهلا للتسبيح، ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما في السموات والأرض، ومن حكمته أنه أمر المكلفين في السموات والأرض بأن يسبحوا له ليربحوا، لا ليربح هو عليهم، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] . وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغالبه مغالب، الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه وشرعه وقدره، وفي كل الأمور التي يقضي فيها، فهو كامل القدرة، كامل العلم. وإنما قدم ذكر الخالق على البارئ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة، وقدم البارئ على المصور، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات. وتقدم بيان أسماء الله الحسنى في الآية (180) من سورة الأعراف والآية (110) من سورة الإسراء. ويحسن ذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه بالزيادة التالية، وأذكر هنا لفظ الترمذي: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار،

فقه الحياة أو الأحكام:

القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المغيث، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القويّ، المتين، الوليّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصّمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنيّ، المعي، المعطي، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- حثّ الله تعالى، على تأمل مواعظ القرآن، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبّر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها، لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة أي ذليلة، متصدعة، أي متشققة من خشية الله، كما ذكر القرطبي. 2- إن هذا المثل للناس للتفكر والتدبر، فإنه لو نزل هذا القرآن على جبل كما تقدم، لخشع لوعده وتصدّع لوعيده. 3- الله تعالى عالم السرّ والعلانية، وما كان وما يكون، ما لم يعلم العباد ولا عاينوه، وما علموا وشاهدوا، وعالم بالآخرة والدنيا، وهو الواسع الرحمة، المنعم بجلائل النعم ودقائقها.

4- الله تعالى مالك الملك، القدّوس (المنزّه عن كل نقص، والطاهر من كل عيب) ، السلام (ذو السلامة من النقائص) المؤمن (المصدّق لرسله بإظهار معجزاته على أيديهم، ومصدّق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب) المهيمن (الرقيب الحافظ لكل شيء) العزيز (الغالب القاهر) الجبار (العظيم) المتكبر (الذي تكبر بربوبيته، فلا شيء مثله) والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذمّ. وهو المنزه لجلالته وعظمته عما يشرك به المشركون، والخالق (المقدّر) والبارئ (المنشئ المخترع) والمصوّر (مركب الصور على هيئات مختلفة) وله الأسماء والصفات الحسنى، وينزهه جميع ما في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم (كامل القدرة وكامل العلم) . عن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: يا أبا هريرة، عليك بآخر سورة الحشر، فأكثر قراءتها، فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الأعظم هو الله، لمكان هذه الآية. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحشر، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب عبدا همّ ولا حزن، فدعا بهذا الدعاء (أي بأسماء الله الحسنى) إلا أذهب الله همّه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا» . وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا: اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر. وفي رواية عبد الرحمن النيسابوري عن البراء عن علي رضي الله عنهما أنه قال: يا براء، إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم، فاقرأ من أول

سورة الحديد عشر آيات، وآخر الحشر، ثم قل: يا من هو كذلك، وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا، فو الله لو دعوت علي لخسف بي. وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود مرفوعا أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة: هي رقية الصداع.

سورة الممتحنة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الممتحنة مدنيّة، وهي ثلاث عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة، بإضافة الفعل إلى المرأة مجازا، كما سميت سورة (براءة) : المبعثرة والفاضحة، لما كشفت عيوب المنافقين. ويقال: (الممتحنة) بفتح الحاء وهو المشهور بإضافة الفعل حقيقة إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال الله تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ [10] الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الحشر من وجهين: 1- ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، ثم موالاة الذين نافقوا للكفار من أهل الكتاب، وافتتحت هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكافر أولياء، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك، وكرر النهي في السورة، ثم ختمت به. 2- كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب، وهذه السورة للمعاهدين من المشركين، لأنها نزلت في صلح الحديبية، فالسورتان تشتركان في بيان علاقات المسلمين مع غيرهم.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية في بيان الأحكام التشريعية، وهي هنا أحكام المتعاهدين من المشركين، والذين لم يقاتلوا المسلمين، والمؤمنات المهاجرات وامتحانهن. ابتدأت السورة بالنهي عن موالاة المشركين وأسباب ذلك وهي إيذاء المؤمنين وعداوتهم لله ولمن آمنوا، وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك الديار والأوطان. ثم ذكرت أن القرابة أو الصداقة غير نافعة يوم القيامة، وإنما النافع للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... وأعقبت ذلك بضرب الأمثال بقصة إبراهيم ومن معه من المؤمنين، وتبرؤهم من قومهم المشركين، ليتخذ المؤمن أبا الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن قدوة وأسوة طيبة: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.. الآيات. ثم وضعت أصول العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في حالتي السلم والحرب، والمودة والعداوة: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ.. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآيات. وانتقل البيان عقب ما ذكر إلى حكم العلاقات مع المشركين فيما يتعلق بالنساء المؤمنات، وضرورة امتحانهن عند الهجرة لدار الإسلام، وعدم ردهن إلى الكفار في دار الكفر وإيتاء أزواجهن مهورهن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ.. الآيات. واستتبع ذلك بيان حكم مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهن، وشروط البيعة وبنودها، وأصولها في الإسلام وداره. وختمت السورة بتأكيد النهي عن موالاة أعداء المؤمنين من المشركين

النهي عن موالاة الكفار [سورة الممتحنة (60) الآيات 1 إلى 3] :

والكفار، حرصا على وحدة الأمة والملة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً.... النهي عن موالاة الكفار [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) الإعراب: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تُلْقُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو. لا تَتَّخِذُوا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ملقين. وكذلك: وَقَدْ كَفَرُوا.. حال من واو لا تَتَّخِذُوا. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا ... جِهاداً فِي سَبِيلِي يُخْرِجُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو كَفَرُوا. وأَنْ تُؤْمِنُوا: في موضع نصب على المفعول لأجله. وإن في قوله: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ حرف شرط، وجوابه فيما تقدم، لدلالة الكلام عليه، وهو لا تَتَّخِذُوا أي فلا تتخذوهم أولياء، فهذا متعلق بقوله: لا تَتَّخِذُوا يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وجِهاداً وابْتِغاءَ منصوبان على المفعول لأجله، أو على المصدر في موضع الحال، وتقديره: مجاهدين في سبيلي، ومبتغين لمرضاتي. وتُسِرُّونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، تقديره: مسرّين إليهم بالمودة، أو بدل من قوله: تُلْقُونَ، وباء بِالْمَوَدَّةِ زائدة أو ثابتة غير زائدة.

البلاغة:

يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ظرف، وعامله: إما تَنْفَعَكُمْ أو يَفْصِلُ. ويفصل بينكم المبني للمعلوم تقديره: يفصل الله بينكم، وقرئ مبنيا للمجهول. يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فيكون بَيْنَكُمْ قائما مقام الفاعل، إلا أنه بني على الفتح، كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام 6/ 94] أي وصلكم. البلاغة: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ.. عتاب وتوبيخ. أَخْفَيْتُمْ وأَعْلَنْتُمْ بينهما طباق، فالإخفاء يقابل الإعلان. المفردات اللغوية: عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ عدو الله: من كفر به أو أشرك، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه وعدو المؤمنين: من خانهم أو أضر بمصالحهم، أو قاتلهم أو عاون على مقاتلتهم، مثل كفار مكة في الماضي والماديين الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله أو يؤمنون بألوهية أحد من البشر بتأويلات باطلة في عصرنا. أَوْلِياءَ أصدقاء جمع ولي، أي صديق توليه بالسر. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفضون إليهم المودة، والمراد هنا النصيحة بالمكاتبة وإرسال أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي دين الإسلام والقرآن. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة بالتضييق عليكم. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لأجل أن آمنتم، وفيه تغليب المخاطب في عهد التنزيل، والتفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان، وهو تعليل لقوله: يُخْرِجُونَ أي يخرجونكم لإيمانكم بالله تعالى. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي خرجتم من أوطانكم للجهاد في سبيل الله وطلب مرضاته أي رضائه. وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي أنا أعلم منكم، والباء في قوله: بِما أَخْفَيْتُمْ مزيدة، وما: موصولة أو مصدرية. وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يفعل الاتخاذ. ضَلَّ أخطأ طريق الهدى. سَواءَ السَّبِيلِ السواء في الأصل: الوسط، والمراد هنا الطريق المستوي وهو طريق الحق. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم. وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والضرب. وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوؤكم بالسب والشتم. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ تمنوا كفركم. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لن تفيدكم قراباتكم. وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون المشركين لأجلهم. يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرق بينكم من شدة الهول، فيفرّ بعضكم من بعض. ويفصل بالبناء للفاعل بالتخفيف أو التشديد أي الله عز وجل، وقرئ يفصل بالبناء للمجهول مع التشديد، أو التخفيف، ونفصل ونفصّل.

سبب النزول نزول الآية (1) :

سبب النزول: نزول الآية (1) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..: أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ «1» ، فإن بها ظعينة «2» ، معها كتاب، فخذوه منها، فأتوني به، فخرجوا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءا ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق. وفيه أنزلت هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الآية. وتفصيل القصة والكتاب: «أن مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها: سارّة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها كتابا

_ (1) موضع بين مكة والمدينة على اثني عشر ميلا من المدينة. (2) الظعينة: المرأة في الهودج.

التفسير والبيان:

إلى أهل مكة، هذه نسخته: «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم» فخرجت سارّة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وعمارا وعمرا وفرسانا أخر، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها، فإن أبت، فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدته وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن كنت غريبا في قريش، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون أهاليهم وأموالهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم، وأنزلت السورة» . التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا عدوي وعدوكم «1» أنصارا وأصدقاء وأعوانا لكم، توصلون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بسبب

_ (1) العدو يطلق على الواحد والجمع.

المودة التي بينكم وبينهم، والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه. ونظير الآية كثير، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة 5/ 51] . وقوله سبحانه: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 28] . والآية الأولى تتضمن تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا. وسبب النهي هنا أمران: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي إنهم كفروا بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وما جاءكم من القرآن والهداية الإلهية، وأخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة من أجل إيمانهم بالله، وإخلاص عبادتهم لله تعالى، كما جاء في آية أخرى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [الحج 22/ 40] . وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج 85/ 9] . ثم حرّض الله تعالى على الامتناع من الموالاة، فقال: أ- إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي، مبتغين رضواني عنكم، ولا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم، وسخطا لدينكم. ب- تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي تسرون إليهم الأخبار وخطط النبي والمؤمنين بسبب المودة، وتفعلون ذلك، وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، والأعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون. ج- وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي ومن يوال الأعداء

منكم، فقد أخطأ طريق الحق والصواب، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي. ثم ذكر ثلاثة أمور أخرى تمنع الموالاة وتدل على عداوة المشركين في مكة وغيرها، فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ويكونوا حربا عليكم، ويمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالسب والشتم، ويتمنوا ارتدادكم وكفركم بربكم ورجوعكم إلى الكفر، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء؟!! وهذا كما سبق تهييج على عداوتهم أيضا. ثم ذكر الله تعالى أن رابطة الدين والإيمان أوثق وأولى وأنفع من رابطة القرابة والولاء، فقال: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم، حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة سبب النزول، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم وتوثيق عرى الإيمان وأخوة الدين. ففي الآخرة يفرّق الله بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، والله مطلع على أعمالكم، ومجازيكم عليها خيرا أو شرا. والمقصود أن القرابة لا تنفع عند الله تعالى، إن أراد الله بكم سوءا، ولن يصل نفعهم إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم، فقد خاب وخسر وضلّ عمله، ولا تنفعه عند الله قرابة من أحد، ولو

فقه الحياة أو الأحكام:

كان قريبا إلى من الأنبياء، قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون 23/ 101] وقال سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] فالمودة لا تنفع في القيامة إذا لم تكن في الله لانفصال كل اتصال يومئذ، ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم. روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس: «أن رجلا قال: يا رسول الله؟ أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا، دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- تحريم موالاة الكفار ومناصرتهم ومعاونتهم بأي وجه من الوجوه، والسورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، ولو في الظاهر، مع عدم الرضا في القلب بالاعتقاد الذي هم عليه. 2- من كثر تطلعه على عورات المسلمين والتجسس عليهم ونقل أخبارهم للأعداء، لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي، وكان اعتقاده سليما، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الرّدّة عن الدّين. 3- اختلف العلماء في قتل الجاسوس، فقال مالك والأوزاعي في شأن المعاهد والذمي: يجوز قتله، لأنه يصير ناقضا للعهد. وقال الجمهور: لا ينتقض عهد المعاهد بذلك، أما الذمي فرأى الحنابلة: أنه ينتقض عهده بدلالة أهل الحرب المشركين على أسرارنا. وذهب الشافعية: إلى أنه لا ينتقض عهد الذمي بالتجسس إلا إذا شرط عليه انتقاض عهده بذلك.

وأما الجاسوس المسلم: فقال كبار المالكية: إنه يقتل. وقال الجمهور: لا يقتل، بل يعزّره الإمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما. ودليل الفريقين قصة حاطب، فإن الفريق الأول قالوا: أقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على إرادة القتل لولا وجود المانع: وهو شهود بدر. وقال الفريق الثاني: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل حاطبا، لأنه مسلم، وروي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعين (جاسوس) للمشركين اسمه فرات بن حيّان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فخلّى سبيله، ثم قال: «إن منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان» . 4- ذكرت الآيات خمسة أسباب لتحريم موالاة الكفار، وهي الكفر بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من ديارهم وأموالهم في مكة، وعداوتهم ومجاربتهم للمؤمنين، وقتالهم إياهم وضربهم فعلا، وسبهم وشتمهم، وحرصهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. 5- حذر الله تعالى من مخالفة نهيه عن موالاة الأعداء بأمرين: أولهما- أنه سبحانه الأعلم بما تخفي الصدور، وما تظهر الألسن من الإقرار بالله وتوحيده. وثانيهما- أن من يوالي الكفار ويسرّ إليهم ويكاتبهم من المسلمين، فقد ضل سواء السبيل، أي أخطأ قصد الطريق. 6- قوله سبحانه: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة في الكتاب إليهم، هو معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبّ لحبيبه. 7- الذي يفيد الإنسان يوم القيامة هو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أما الأهل والأولاد أو أصحاب القرابات أو الأنساب، فلا ينفعون شيئا يوم

التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه [سورة الممتحنة (60) الآيات 4 إلى 7] :

القيامة، إن عصي الله عز وجل من أجل ذلك، والله بصير بأعمال عباده، ويجازيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والله سبحانه يفرق أو يفصل بين الأقارب وغيرهم يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار. التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 7] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) الإعراب: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ بدل بعض من كل في قوله: تُلْقُونَ. بُرَآؤُا جمع بريء، نحو شريف وشرفاء، وظريف وظرفاء، وحذفت الهمزة الأولى تخفيفا. وقرئ برآء بكسر الباء، جمع بريء أيضا كشراف وظراف، وقرئ أيضا بفتح الباء على أنه مصدر دال على الجمع، ولفظه يصلح للواحد والجمع.

البلاغة:

إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ منصوب على الاستثناء من قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ أي كائنة في سنته وأقواله، إلا قوله لأبيه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل اشتمال من الكاف والميم في لَكُمْ بإعادة الجار. البلاغة: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ تقديم ما حقه التأخير، وهو الجار والمجرور على ما بعده لإفادة الحصر. الْحَكِيمُ الْحَمِيدُ قَدِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة. المفردات اللغوية: أُسْوَةٌ قدوة فِي إِبْراهِيمَ أي بإبراهيم قولا وفعلا. وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين. بُرَآؤُا أبرياء جمع بريء، كظريف وظرفاء، أي متبرئون مما تعملون، فلا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ من الأصنام والكواكب وغيرها. وَبَدا ظهر. الْعَداوَةُ ضد الألفة والصداقة. وَالْبَغْضاءُ البغض والكراهة ضد المحبة. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ مستثنى من قوله: أُسْوَةٌ فليس لكم التأسي به في ذلك، بأن تستغفروا للكفار. وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي لا أملك من عذابه وثوابه شيئا، وقوله: مِنْ شَيْءٍ كنى به عن أنه لا يملك له غير الاستغفار، وكان استغفاره له قبل أن يتبين له أنه عدو الله، كما ذكر في سورة براءة. تَوَكَّلْنا فوضنا أمرنا إليك. أَنَبْنا رجعنا وتبنا. الْمَصِيرُ المرجع والمآب. فِتْنَةً مفتونين معذبين بأن تسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نتحمله. وَاغْفِرْ لَنا ما فرطنا من ذنب. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي الغالب في ملكه، الذي يحسن التدبير في صنعه. لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جواب قسم مقدر. أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة طيبة. وكرر لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم. لِمَنْ كانَ بدل من قوله. لَكُمْ قال البيضاوي: فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وإن تركه مؤذن بسوء العقيدة، ولذلك عقبه بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي ومن يعرض عن التأسي بإبراهيم ومن آمن معه ويعص النصيحة، بأن يوالي الكفار، فإن الله هو الغني عن خلقه، المحمود على فعله، الحامد لأهل طاعته، وهذا وعيد يوعد به الكفرة. يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل ثواب الله، ويخاف العقاب، ويخشى أهوال الآخرة. عادَيْتُمْ من الأقارب المشركين وغيرهم من كفار مكة وغيرها، وتبرأتم منهم طاعة الله تعالى. مَوَدَّةً محبة وصلة، بأن يهديهم للإيمان، فيصيروا لكم أولياء وأصدقاء وأنصارا، وهذا

سبب النزول نزول الآية (7) :

وعد من الله، أنجزه بالفعل، لأنه أسلم أكثرهم وصاروا والمؤمنين عونا وسندا وأولياء. وَاللَّهُ قَدِيرٌ قادر على ذلك، وقد فعله بعد فتح مكة. وَاللَّهُ غَفُورٌ لما فرط منكم في موالاتهم من نقل أخبار وغيره. رَحِيمٌ بكم إذ لم يعاجلكم بالعقوبة. سبب النزول: نزول الآية (7) : عَسَى اللَّهُ: قال المفسرون: يقول الله تعالى للمؤمنين: لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء اقتداء بهم في معاداة ذوي قراباتهم من المشركين، فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، وعلم الله تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ثم فعل ذلك بأن أسلم كثير منهم، وصاروا لهم أولياء وإخوانا، وخالطوهم وناكحوهم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب. فلان لهم أبو سفيان وبلغه ذلك، فقال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه «1» ، أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما. المناسبة: بعد النهي عن موالاة الكفار والإنكار على من والاهم وتوثيق عرى الإخاء ورابطة الإيمان، أمر الله تعالى بالتأسي بإبراهيم ومن آمن معه في التبرؤ من الكفار، وذكر أن وجوب البغض في الله، وإن كان أخا أو أبا أسوة بإبراهيم عليه السلام وأصحابه، حيث جاهروا قومهم بالعداوة، وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة، والمناوأة مصافاة،

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 241

التفسير والبيان:

والمقت محبة. ثم استثنى تعالى من التأسي بأقوال إبراهيم هذا القول الذي هو الاستغفار لأبيه عن موعدة منه قبل أن يعلم أنه عدو الله. التفسير والبيان: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين أمرهم بمجانبة الكافرين والتبري منهم، بأنه قد كانت لكم قدوة طيبة حميدة تقتدون بها في إبراهيم خليل الرحمن أبي الأنبياء والذين آمنوا معه من أتباعه حين قالوا لقومهم: إنا بريئون منكم، لكفركم بالله، وبريئون من كل ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد، فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان، أو بدينكم، أو بأفعالكم، فإن تلك الأوثان لا تنفع شيئا، فهي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر. والمقصود إفهام من والى الكافرين وهو حاطب، وكأنه تعالى يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم، فتتبرأ من أهلك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟! وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم، فقد ظهرت وشرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم، فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده، وتوحدوا الله، فتعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد، فإذا فعلتم ذلك، صارت تلك العداوة موالاة، والبغضاء محبة. ثم استثنى الله تعالى شيئا لا يتأسى به بإبراهيم، فقال: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وقد كانت لكم أسوة حسنة في كل مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه

الكافر: لأستغفرن لك، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به، فلا تأسوا به في هذا القول، فتستغفروا للمشركين، فإن استغفاره إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه. والخلاصة: ليس لكم أسوة في الاستغفار للمشركين. وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك، ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة 9/ 113- 114] . ثم أخبر الله تعالى عن اعتصام إبراهيم والمؤمنين معه بالله حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم فقال: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي اعتمدنا عليك يا رب في جميع الأمور، وفوضنا أمورنا إليك، ورجعنا إليك بالتوبة من كل ذنب، وإليك المرجع والمآب والمعاد في الدار الآخرة. وهذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها، ومن تتمة دعاء قوله: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا ربنا لا تجعلنا مفتونين معذبين بأيدي الكفرة، واستر لنا ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك، فإنك أنت القوي الغالب القاهر، الذي لا يغالب، ولا يضام من لاذ بجنابك، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك، وتدبير خلقك، وفعل ما فيه صلاحهم. قال

قتادة: لا تظهرهم علينا، فيفتنونا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. وقال مجاهد: معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. ثم أكد الله تعالى الحث على التأسي بإبراهيم والمؤمنين معه، فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وهذه الأسوة إنما تكون لمن يطمع في الخير والثواب من الله في الدنيا والآخرة، ويتأمل النجاة في اليوم الآخر، وهذا تهييج إلى الإيمان لكل مؤمن بالله وبالمعاد. ومن يعرض عما أمر الله تعالى به، ويوال أعداء الله، ويوادهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، فإن الله هو الغني عن خلقه، الذي قد كمل في غناه، المحمود من خلقه في جميع أقواله وأفعاله، لا إله غيره، ولا رب سواه. والحميد: إما بمعنى الحامد أي يحمد الخلق ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال، أو بمعنى المحمود، أي الذي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم. ونظير الآية قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم 14/ 8] . ثم أخبر الله عن أموره العجيبة في تحول الكافرين إلى مؤمنين، فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ربما أسلم أعداؤكم، وصاروا من أهل دينكم، فتحولت العداوة إلى مودة، والبغضاء إلى محبة، والفرقة والمخالفة إلى ألفة، والله قادر على كل شيء، وغفور لمن أخطأ، فوادّهم، رحيم بهم فلم يعذبهم بعد التوبة، ويقبلهم ليدخلهم في مغفرته ورحمته. وكلمة عَسَى لرجاء حصول ما بعدها، لكن إذا صدرت من الله، كان ما بعدها واجب الوقوع.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد أسلم أكثر العرب بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، وانعقدت مودة قوية بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام، وجاهدوا وقاموا بالأفعال المقرّبة إلى الله تعالى، وتزوّج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وترك أبو سفيان بعد إسلامه يوم الفتح ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: أوّل من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب، فيه نزلت هذه الآية: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ.... فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- جعل الله إبراهيم الخليل عليه السلام أسوة حسنة وقدوة عالية للمؤمنين في التبرؤ من الكفار، فعلى من آمن بالله ورسوله الاقتداء به إلا في استغفاره لأبيه، فلا يتأسون به في الاستغفار للمشركين، فإن استغفاره كان عن موعدة منه له. 2- صرح إبراهيم ومن آمن معه بسبب البراءة من الكفار وهو كفرهم بالله وإيمانهم بالأوثان، وستظل العداوة والبغضاء قائمة في القلوب على الدوام بين المؤمنين وغيرهم ما دام هؤلاء الكفار على كفرهم، حتى يعلنوا إيمانهم بالله وحده لا شريك له، فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة. 3- قوله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يدل على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء، لأن الله حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 59/ 7] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام، استثنى بعض أفعاله.

4- علّم الله المؤمنين أيضا أن يقولوا ما كان يدعو به إبراهيم عليه السلام ومن معه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله، وقولوا: اعتمدنا عليك يا رب، ورجعنا إليك تائبين، ولك الرجوع في الآخرة، ولا تظهر أو لا تسلط عدونا علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتتنوا بذلك، واغفر لنا ما فرط من الذنوب، فإنك القوي الغالب الذي لا يغالب، الحكيم في تدبير خلقه وتحقيق مصالحهم. 5- أكد الله تعالى الحث على التأسي بإبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، مرة أخرى في الآيات، في التبرؤ من الكفار. ثم حذر من المخالفة، وهدد المعرضين المستكبرين عن حكم الله، فذكر أن من يتول عن الإسلام وقبول هذه المواعظ، فإنه لن يضر إلا نفسه، والله غني عن خلقه، لم يتعبدهم لحاجته إليهم، محمود في نفسه وصفاته ومن خلقه. 6- كان نزول هذه الآيات سببا في معاداة المسلمين أقرباءهم من المشركين، ولما علم الله شدة وجد المسلمين وحرجهم في ذلك، نزل قوله تعالى كما بينا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً أي بأن يسلم الكافر، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وخالطهم المسلمون، كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان التي كانت متزوجة بعبد الله بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة، إلا أن زوجها تنصر، ومات على النصرانية، وبقيت هي على دينها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فخطبها، وأمهرها النجاشي من عنده أربع مائة دينار. وفي الحديث: «أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون

علاقة المسلمين بغيرهم [سورة الممتحنة (60) الآيات 8 إلى 9] :

حبيبك يوما ما» «1» . فقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ.. وعد من الله تعالى، والله سبحانه قادر على تقليب القلوب، وتغيير الأحوال، وتسهيل أسباب المودة، والله غفور لعباده رحيم بهم إذا تابوا وأسلموا ورجعوا إلى دينه وشرعه ومواعظه، وهو سبحانه الذي ألّف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فأصبحت مجتمعة متفرقة، كما قال تعالى ممتنا على الأنصار: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران 3/ 103] وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي» ؟ وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال 8/ 63] . علاقة المسلمين بغيرهم [سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9] لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

_ (1) رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، والطبراني عن عبد الله بن عمرو، والدارقطني في الإفراد وابن عدي والبيهقي في الشعب عن علي، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن علي موقوفا، وهو حديث حسن.

الإعراب:

الإعراب: أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ: في موضع جر على البدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ بدل الاشتمال. وكذلك قوله تعالى: أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل الاشتمال أيضا. وقيل: هما منصوبان على المفعول لأجله. وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ عدّاه ب (إلى) حملا على معنى «تحسنوا» فكأنه قال: تحسنوا إليهم. البلاغة: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وإِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ ... بينهما طباق السلب. المفردات اللغوية: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ.. من الكفار، أي لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء: لأن قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ، أي أن تفعلوا البر والخير لهم. وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تقضوا إليهم بالقسط، أي تحكموا بينهم بالعدل. الْمُقْسِطِينَ العادلين. وَظاهَرُوا ساعدوا أو عاونوا، كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين من مكة، وبعضهم أعانوا المخرجين. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أن تتخذوهم أولياء أي أنصارا وأعوانا لكم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن يتخذهم أولياء، فأولئك هم الظالمون أنفسهم، لوضعهم الولاية في غير موضعها. سبب النزول: نزول الآية (8) : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ..: أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «قدمت أمي، وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك» فأنزل الله فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.

المناسبة:

وأخرج أحمد والبزّار والحاكم وصححه وآخرون عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا- صناب «1» وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأمرها أن تقبل هداياها وتدخلها منزلها، فأنزل الله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الآية. المناسبة: بعد النهي عن موالاة الكافرين، والحث على القطيعة بالتأسي بإبراهيم ومن معه، ثم تهوين الأمر على المؤمنين بإخبارهم أن الله قادر على تغيير أوضاع المشركين من الكفر إلى الإيمان، رخّص الله تعالى في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين من الكفار، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يعاونوا على إخراجهم. التفسير والبيان: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي لا يمنعكم الله من البرّ والإحسان وفعل الخير إلى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء والضعفة منهم، كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضا من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء مالهم من الحق، كالوفاء لهم بالوعد، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة، إن الله يحب العادلين، ويرضى عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم. والمقصود بالآية أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يعينوا عليهم، ولا ينهى عن

_ (1) صناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب.

فقه الحياة أو الأحكام:

معاملتهم بالعدل، مثل خزاعة، وغيرهم الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال. ثم حدد الله تعالى موضع النهي في المعاملات، فقال: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي إنما ينهاكم الله عن موالاة هؤلاء الذين عادوكم، وهم صناديد الكفر من قريش وأشباههم ممن هم حرب على المسلمين، وعاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، ينهاكم الله عن اتخاذهم أولياء وأنصارا لكم، ويأمركم بمعاداتهم. ثم أكد الوعيد على موالاتهم، فأبان أن من يتولهم ويناصرهم، فأولئك الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم تولوا من يستحق العداوة، لكونه عدوا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكتابه. ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة 5/ 51] . فقه الحياة أو الأحكام: أبانت الآيتان أن للكفار من المسلمين موقفين: إما المسالمة وإما المعاداة. وحددتا علاقة المسلمين بغيرهم في تلك الحالتين. 1- فيجوز برّهم وفعل الخير لهم، والحكم بينهم وبين غيرهم بالعدل إذا لم يقاتلوا في الدين أو الدنيا، ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم، ولم يعينوا على إخراجهم، فإن الله يحب العادلين ويأمر بالعدل مع جميع الناس، والعدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل.

وهؤلاء هم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال، والمظاهرة (المعاونة) في العداوة، وهم خزاعة، كانوا عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم. قال قتادة: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ، نسختها آية: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 9/ 5] . وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة غير منسوخة، بدليل إباحة صلة أسماء أمّها، كما تقدم «1» . واستدل بهذه الآية بعض العلماء على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر، وأجيب بأن الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه، لا يدل على وجوبه، وإنما يدل على الإباحة فقط. 2- ولا يجوز اتخاذ الأولياء والأنصار والأحباب من الذين قاتلوا المسلمين على الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وعاونوا على إخراجهم، وهم مشركو أهل مكة، ومن يفعل ذلك بأن يواليهم، فأولئك هم الظلمة المستحقون للعقاب الشديد. والخلاصة: لا ينهى الله عن مبرة الفريق الأول، وإنما ينهى عن تولي الفريق الثاني.

_ (1) تفسير القرطبي: 18/ 59

حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام [سورة الممتحنة (60) الآيات 10 إلى 11] :

حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) الإعراب: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فَإِنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: في أن تنكحوهن. ويَحْكُمُ بَيْنَكُمْ إما استئناف، أو حال من الحكم، على حذف الضمير، أي يحكمه الله، أو على جعل «الحكم» حاكما على المبالغة. البلاغة: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ جملة اعتراضية للإشارة إلى آن التعامل مع الناس يكون بحسب الظاهر، فللإنسان الظاهر، والله يتولى السرائر. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فيهما ما يسمى في علم البديع بالعكس والتبديل. المفردات اللغوية: مُهاجِراتٍ من بلاد الكفار إلى ديار الإسلام. فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن للتأكد من مطابقة ألسنتهن لما في قلوبهن من الإيمان. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ الله هو العالم بالحقائق، المطلع على ما في القلوب. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ تأكدتم من إيمانهن، وظننتم ظنا غالبا بالحلف وظهور

سبب النزول:

الأمارات، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحلّفهن على أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضا لأزواجهن الكفار، ولا عشقا لرجال من المسلمين. وإنما سمّي الظن الغالب علما إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ تردوهن إلى أزواجهن الكفرة. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ التكرار للمطابقة والمبالغة. وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أعطوا الكفار ما دفعوا لأزواجهن من المهور. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لا إثم ولا حرج عليكم في الزواج بهن، فإن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن، وقد شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بأن ما أعطي لأزواجهن من تعويض لا يغني عن المهر الواجب للمرأة تكريما لها عند زواجها بأي رجل. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي ما تعتصم به الكافرات من عقد وسبب، جمع عصمة، والمراد نهي المؤمنين عن نكاح المشركات، سواء الباقيات على الشرك بعد إسلام الزوج، أو المرتدات اللاحقات بالمشركين، فالمراد بالعصمة: عقد النكاح. والْكَوافِرِ: جمع كافرة. وقرئ «ولا تمسّكوا» بالتشديد. وَسْئَلُوا اطلبوا. ما أَنْفَقْتُمْ اطلبوا ما قدمتم من المهور لنسائكم اللاحقات بالكفار حال الارتداد، ممن تزوجن من الكفار. وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا وليطلبوا ما أنفقوا على المهاجرات من مهور أزواجهم، فإنهم يؤتونه. ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ أي جميع ما ذكر في الآية هو شرع الله. يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يقضي بينكم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بالغ العلم، يشرع ما تقتضيه حكمته. وَإِنْ فاتَكُمْ أي وإن سبقكم وانفلت منكم. شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أحد من أزواجكم. إِلَى الْكُفَّارِ مرتدات. فَعاقَبْتُمْ أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر، والمراد أنكم غنمتم مغانم القتال أو الحرب بسبب الغلبة والنصر لكم. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي أعطوهم من الغنيمة مهور أزواجهم، بدل الفائت عليهم من جهة الكفار. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي خافوا الله الذي آمنتم به، فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه. سبب النزول: نزول الآية (10) : إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ: أخرج الشيخان عن المسور ومروان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية،

نزول الآية (11) :

جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ إلى قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. وأخرج الواحدي عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة، رده إليهم، ومن أتى من أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد، ردّ علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقيل: نزلت في أميمة بنت بشر امرأة أبي حسان الدحداحة. وقيل: نزلت في امرأة تسمى سعيدة كانت تحت صيفي بن الراهب، وهو مشرك من أهل مكة جاءت زمن الهدنة، فقالوا: ردها علينا، فنزلت. وأخرج ابن منيع عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب، فتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. نزول الآية (11) : وَإِنْ فاتَكُمْ.. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية، نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.

_ (1) أسباب النزول للواحدي ص 241

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أحكام العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم، أبان الله تعالى حكم ردّ النساء المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية، والزواج بالمشركات، ورد مهور هؤلاء النساء إلى أزواجهن، وتعويض الأزواج المسلمين من الغنائم عن مهور زوجاتهن اللاتي ذهبن إلى بلاد الكفار، والاعتصام في كل ذلك بتقوى الله تعالى. قال القرطبي: لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين، اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبيّن أحكام مهاجرة النساء. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بين الكفار، فاختبروهن، لتعلموا مدى رغبتهن في الإسلام، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وقوله: فَامْتَحِنُوهُنَّ أمر بمعنى الوجوب، أو بمعنى الندب أو بمعنى الاستحباب. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء، أبي الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن، فكن يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا، بل حبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورغبة في دينه. فإذا حلفت على هذا النحو أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولم يردّها إليه. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ

أي إن الامتحان أمر في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله سبحانه، والله أمركم بالظواهر، وهو يتولى السرائر، فإن غلب على ظنكم أنهن مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علما من باب الظن الغالب، وما يفضي إليه الاجتهاد، والقياس جار مجرى العلم. قال ابن كثير: فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقينا. ثم أردف الله تعالى ذلك بأحكام أخرى تتعلق بهن، فقال: 1- لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي ليست المؤمنات حلالا للكفار، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها، لا مجرد هجرتها، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النّبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها، كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» . فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا «1» ، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 351

أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا» «1» . ومنهم من يقول: بعد سنتين. وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه، لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة، ولم يسلم، انفسخ نكاحها منه. 2- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه عليهن من المهور. وهذا يدل على أن عهد صلح الحديبية اقتصر على ردّ الرجال دون النساء. قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها، منع منها بلا عوض. 3- وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن، وبشرط انقضاء العدة، وتزويج الولي وغير ذلك. 4- وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي ويحرم عليكم أيها المؤمنون زواج المشركات والاستمرار معهن في العصمة الزوجية، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات، وهو خاص بهن، دون الكوافر من أهل الكتاب.

_ (1) ورواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وينفسخ الزواج ببقاء الزوجة على الشرك، ولا مانع من نكاح أختها أو نكاح امرأة خامسة، ما دامت في العدة. ثبت في الصحيح كما تقدم عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ - إلى قوله- وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. 5- وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت: ردّوا مهرها على زوجها الكافر «1» . ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين، والمذكور في صلح الحديبية واستثناء النساء منه هو حكم الله وشرعه يحكم به بين خلقه، والحكم متعلق بالمشركين بعد صلح الحديبية، بخلاف المشركين الذين لا عهد لهم. والله بليغ العلم لا تخفى عليه خافية، بالغ العلم بما يصلح عباده، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة. قال ابن العربي: وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة «2» ، أي رد المهور.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1776 (2) المرجع والمكان السابق، تفسير القرطبي: 18/ 68

6- وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ، فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي إن سبقكم وانفلت منكم وذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الكفر، ولو أهل كتاب، فأصبتم غنيمة من قريش أو غيرها بعد الانتصار في الحرب، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة إذا لم يرد المشركون على زوجها مهرها، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه. قال ابن عباس وآخرون: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قبل أن تخمّس، أي قبل قسمتها أخماسا «1» . فقوله: فَعاقَبْتُمْ معناه فغنمتم، أو ظفرتم. وقال الزهري: يعطى من مال الفيء. والخلاصة: على الكفار رد مهر المرأة التي تعود إلى دار الكفر، فإن أمكن ذلك فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار. روي عن الزهري ومسروق: أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأقر المسلمون بحكم الله تعالى، وأبي المشركون، فنزلت: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم. وقال الحسن ومقاتل: نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.

_ (1) تفسير القرطبي: 18/ 70

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- وجوب امتحان النسوة اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ليعرف مدى صدق إيمانهن وإخلاص إسلامهن. قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منّا، بل حبّا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها، فذلك قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. 2- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا في صلح الحديبية، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. ويرى بعضهم أن الآية نزلت بيانا لنص العقد، وأنه ما تناول إلا الرجال، غير أن هذا يكون من تخصيص العام المتأخر. وذهب جماعة إلى أن التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي، بل كان اجتهادا منه صلى الله عليه وسلم أثيب عليه بأجر واحد، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد. والتعميم الوارد في الصلح: «من جاء إلى محمد من قريش بدون إذن وليه، رده عليه» «1» . ويرى الحنفية أن هذا الحكم كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى ناراهما» أي تتراءى ناراهما، وهذا مجاز، أي يلزم المسلم أن

_ (1) نص المعاهدة كما أخرج البخاري عن مروان والمسور: «أنه لا يأتيك أحد منا، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا..» (نيل الأوطار: 8/ 37) . [.....]

يباعد منزله عن منزل المشرك، وينزل مع المسلمين في دارهم. فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعي: أن هذا الحكم غير منسوخ، وعقد الصلح على ذلك جائز. قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يلي الأموال كلها. 3- إن هذا الامتحان في الظاهر، والله في الحقيقة أعلم بإيمانهن، لأنه متولّي السرائر. فإذا علم، أي غلب على الظن إيمان المهاجرات، لم يجز ردهن إلى بلاد الكفار، لأن الله لم يحل مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن مشركة. وسبب الفرقة هو إسلام المرأة لا هجرتها، لأن الله تعالى قال: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام، وليس باختلاف الدار. وقال أبو حنيفة ومالك: الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين، روي عن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة. وعلى هذا إذا خرجت الحربية مسلمة، ولها زوج كافر في دار الحرب، وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها، وقال أبو يوسف ومحمد: تقع الفرقة وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بعقد زواج جديد، وهو رأي سفيان الثوري. وقال مالك والشافعي: إن أسلم الزوج في العدة أي قبل أن تحيض ثلاث حيض، فهي امرأته، ولا تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة، فإذا انقضت العدة، فلا تحل له إلا بعقد جديد. 4- يجب على المسلمين أن يردوا على زوج المرأة التي أسلمت ما أنفق من المهر، وذلك من الوفاء بالعهد، حتى لا يخسر الأمرين: الزوجة والمال.

5- لا غرم للمهر إلا إذا طالب الزوج الكافر به، فإن ماتت المرأة قبل حضور الزوج لم نغرم المهر، إذ لم يتحقق المنع، أي منعها منه، وإن كان المهر المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له. وللشافعي في هذا الحكم قولان: أحدهما- أن هذا منسوخ، والثاني- يعطى الزوج المهر إن طالب به، وليس ذلك لأحد من الأولياء سوى الزوج. 6- إن المطالب برد مثل ما أنفق إلى الأزواج هو الإمام، من بيت المال. وهذا الحكم- كما قال مقاتل- خاص برد صداق نساء أهل العهد، فأما من لا عهد له مع المسلمين، فلا يرد إليهم الصداق. وعلى هذا فلا مانع من العمل بهذا في المعاهدات التي تجري بين المسلمين وغيرهم في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون في الماضي، فإذا عاهدناهم على رد ما أنفقوا على أزواجهم وجب الوفاء بالعهد. 7- يباح للمسلمين الزواج بالمهاجرات المسلمات إذا انقضت عدتهن، لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدّة، فإن أسلمت قبل الدخول، فلها التزوج في الحال، إذ لا عدة عليها. 8- قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ دليل على تحريم التزوج بالمشركات عبدة الأوثان، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب، أما الكتابيات (اليهوديات والنصرانيات) فيجوز الزواج بهن، لقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الآية [المائدة 5/ 5] . فإذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرّق بينهما وهو مذهب المالكية. ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال

الحنفية: إذا أسلمت المرأة، عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرّق بينهما. وهذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها، فلا خلاف في انقطاع العصمة بينها وبين زوجها، إذ لا عدة عليها. وهذا مذهب مالك أيضا في المرأة المرتدة وزوجها مسلم، لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. ومذهب الشافعي وأحمد: أنه ينتظر بها تمام العدة. فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة: فمذهب مالك والشافعي وأحمد: الانتظار إلى تمام العدة، وكذا الوثني تسلم زوجته، فإنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما. 9- إذا ذهبت مسلمة مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يطالب الكفار بمهرها، وإذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة، يرد إلى الكفار مهرها. وهذا الحكم كان مخصوصا بزمان النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية. 10- إذا لم يدفع الكفار المعاهدون وغيرهم مهر امرأة ارتدت وذهبت إلى ديار الكفر، وجب تعويض زوجها من غنائم الحرب. وقال قتادة: هذا خاص في الكفار المعاهدين، ثم نسخ هذا في سورة براءة. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا. 11- حذر الله تعالى من مخالفة الأحكام السابقة، فقال في الآية الأولى: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذلكم الحكم الزموه، وقال في الآية الثانية: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.

مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرات (بيعة النساء) [سورة الممتحنة (60) الآيات 12 إلى 13] :

مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرات (بيعة النساء) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) الإعراب: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ يَفْتَرِينَهُ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير يَأْتِينَ أو في موضع جر على الوصف ل بِبُهْتانٍ. كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ: في موضع نصب، لأنه يتعلق ب يَئِسَ وتقديره: يئسوا من بعث أصحاب القبور، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. البلاغة: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: كناية عن اللقيط. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ تشبيه مرسل مجمل. وفي الآية ما يسمى رد العجز على الصدر، فقد ختمت السورة بمثل ما بدئت به. وقوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه وضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أن الكفر أيأسهم. المفردات اللغوية: يُبايِعْنَكَ البيعة: العقد والعهد على التزام الطاعة. وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أي بوأد البنات. بِبُهْتانٍ أي بولد مفترى ملصق بالزوج كذبا. يَفْتَرِينَهُ الافتراء: الكذب، والمراد يختلقن نسبة الولد إلى الزوج. مَعْرُوفٍ المعروف: كل ما ندب إليه الشرع من

سبب النزول:

المحسنات، ونهى عنه من المستقبحات. والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به، تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. فَبايِعْهُنَّ أي إذا بايعنك فبايعهن، أي فالتزم لهن بضمان الثواب حال الوفاء بهذه الأشياء. وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ اطلب لهن المغفرة. قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عامة الكفار، أو اليهود إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود، ليصيبوا من ثمارهم. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ لكفرهم بها، أو لعلهم بأنه لا حظ لهم فيها لمعاندة الرسول صلى الله عليه وسلم. كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من موتاهم أن يبعثوا، أي يرجعوا أحياء. سبب النزول: نزول الآية (12) : نزلت يوم الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء. أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ- إلى قوله-: غَفُورٌ رَحِيمٌ فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك» كلاما، ولا، والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك» . وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنّ بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتكن، ولا والله ما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله، ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكنّ كلاما» .

نزول الآية (13) :

وروي أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن. وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: «ألا نشرك بالله شيئا- حتى بلغ- ولا يعصينك في معروف» فقال: فيما استطعتنّ وأطقتنّ، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» «1» . وزاد أحمد في رواية: «ولم يصافح منا امرأة» . نزول الآية (13) : أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادّان رجلا من يهود، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية. المناسبة: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايع النساء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً.. الآية: أي إذا جاءك المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك ويقصدن مبايعتك على الإسلام والطاعة، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن

_ (1) ورواه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم.

أو حجر أو ملك أو بشر، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا، ولا يزنين (والزنى: الاعتداء على الأعراض) ولا يقتلن أولادهن: أي ولا يئدن البنات، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا لهم، قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: وهو كل أمر وافق طاعة لله، أي كل ما أمر به الشرع، أو نهى عنه، كالنهي عن النّوح، وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، والخلوة بالأجنبي غير المحرم، فبايعهن، واطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة منك، إن الله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، فلا يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام، ويجزل لهم الثواب إذا وفّين بهذا العهد الذي حدث في فتح مكة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: أبا يعكن على ألا تشركن بالله شيئا، قالت هند بنت عتبة، وهي منتقبة، خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعته بحمزة يوم أحد: والله ما عبدنا الأصنام، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط، فقال صلى الله عليه وسلم: «ولا تسرقن» فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا؟ فقال أبو سفيان: هو لك حلال، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها، وقال: «أنت هند؟» فقالت: عفا الله عما سلف. فقال: «ولا تزنين» فقالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: «ولا تقتلن أولادكن» أي لا تئدن البنات ولا تسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر أو أعلم. فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى، وكان ابنها البكر حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: «ولا تأتين ببهتان تفترينه» وهو أن تلصق بزوجها ما ليس منه، فقالت هند: والله، إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: «ولا تعصينني في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وتحريم الزنى عام، قال صلى الله عليه وسلم: «اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرّجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذّبه» «1» . وأكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم النواح، فقال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» «2» . وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: ألا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين ... » الآية، قال: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرّي أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: نعم، فبايعها بالآية» . ولم تقتصر بنود بيعة النساء عليهن، وإنما بويع بها الرجال أيضا. روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا» قرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب، فهو كفارة

_ (1) رواه مسلم عن أبي هرير بلفظ: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وأخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ آخر. (2) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.

له، ومن أصاب من ذلك شيئا، فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له منها» . وروى محمد بن إسحاق وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: فإن وفيتم فلكم الجنة» . ثم أكد تعالى النهي عن موالاة الكفار كما بدأ السورة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم ولعنهم واستحقوا الطرد والإبعاد من رحمته، أولياء وأنصارا وأصدقاء، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة بسبب كفرهم وعنادهم، بالرغم من قيام الأدلة والبينات والمعجزات على الإيمان بالله واليوم الآخر، كيأسهم من بعث موتاهم، لاعتقادهم عدم البعث. قال ابن عباس: يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول: لا تتولوا اليهود والمشركين، وذلك لأن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم، فنهوا عن ذلك، ويئسوا من الآخرة. يعني أن اليهود كذبت محمدا صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه، فهم يئسوا من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أي كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآية الأولى على تحريم الشرك بالله، والسرقة، والزنى، وقتل الأولاد، أي وأد البنات الذي كان في الجاهلية، وإلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم، وعصيان شرع الله فيما أمر ونهى. وقد صرح في الآية بأركان النهي في الدين وهي ستة، ولم يذكر أركان الأمر، وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة، لأن النهي دائم في كل الأزمان وفي كل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد وأهم وأخطر. ولم تقتصر البيعة على هذه الأمور على النساء فقط، وإنما بويع عليها وفد من الأنصار في بيعة العقبة الأولى، فأصبح الحكم عاما للرجال والنساء. وأكدت الآية الثانية تحريم موالاة الكفار وتزويدهم بأخبار المسلمين، والإسرار إليهم، واتخاذهم أصدقاء وأخلاء، لأنهم لا يؤتمنون على مصالح المسلمين، بل يخونونهم ويفيدون من ذلك في قتالهم ومعاداتهم، ولأنهم قوم كفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بالبعث والحساب، ويئسوا من ثواب الآخرة، كما يئس الكفار الأحياء من رجوع موتاهم أصحاب القبور إلى الدنيا.

سورة الصف:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الصف مدنيّة، وهي أربع عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الصف، لقوله تعالى في مطلعها: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [4] . مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين: 1- نهت السورة السابقة في مطلعها وأثنائها وختامها عن موالاة الكفار من دون المؤمنين، وأمرت هذه السورة بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا تجاه الأعداء. 2- ذكرت السورة المتقدمة أحكام العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة الإسلامية وخارجها، وقت السلم، وحرضت هذه السورة على الجهاد ورغبت فيه بسبب العدوان، وأنّبت التاركين للقتال وشبهتهم ببني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه السلام حين ندبهم للقتال، ثم عصوا عيسى عليه السلام حين أمرهم باتباعه بعد إتيانه بالبينات والمعجزات، واتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: إن محور السورة وموضوعها هو القتال وجهاد الأعداء، والتضحية في سبيل الله تعالى، وبيان ثواب المجاهدين العظيم، وذلك من الأحكام التشريعية التي تعنى بها السور المدنية عادة. وقد بدئت السورة بتسبيح الله سبحانه وتنزيهه وتمجيده تنبيها لعظمة منزلها، وبيان خطورة ما ترشد إليه من وجوب الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، ووقوفها صفا واحدا في قتال الأعداء، لرفع منار الحق، وإعلاء كلمة الله تعالى، ثم لوم الذين يخالفون بعملهم أقوالهم. ثم حذرت من الفرقة والعصيان والمخالفة شأن بني إسرائيل الذين عصوا أمر موسى وعيسى عليهما السلام حينما أمرهم موسى بقتال الجبارين، وأمرهم عيسى باتباعه واتباع الرسول أحمد صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده وتلك بشارة به: وَإِذْ قالَ مُوسى.. وَإِذْ قالَ عِيسَى.. الآية، ثم ضربت المثل للمشركين بمن يريد إطفاء نور الله بأفواههم: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ... وأردفت ذلك بالبشارة والإخبار بنصرة الإسلام ودعوته وتفوقه وغلبته على سائر الأديان، فهو دين الهدى والحق. ثم رسمت طريق الهدى، وأوضحت منهاج السعادة الكبرى وسبيل النجاة من العذاب الأخروي بإعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وبيان ثمرة الجهاد وهو النصر في الدنيا وثواب المجاهدين في الآخرة، وأكدت ذلك بالأمر بنصرة دين الله عز وجل، كمناصرة الحواريين دين عيسى عليه السلام: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. الآيات، وبالدعوة إلى نصرة دين الله يتناسب ختام السورة مع بدايتها.

فضلها:

فضلها: أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا رجلا، فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام أيضا قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه، فأنزل الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال عبد الله بن سلام، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الدعوة إلى القتال في سبيل الله صفا واحدا [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) الإعراب: كَبُرَ مَقْتاً مَقْتاً: تمييز منصوب، وفاعل كَبُرَ يفهم بالتفسير، وتقديره: كبر المقت مقتا، مثل كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف 18/ 5] . وأَنْ تَقُولُوا مرفوع على الابتداء، وكَبُرَ مَقْتاً: خبر مقدم، وتقديره: قولكم ما لا تفعلون كبر مقتا، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن تقولوا ما لا تفعلون، أو هو فاعل كَبُرَ.

البلاغة:

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ صَفًّا: منصوب على المصدر في موضع الحال، وكَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ: في موضع نصب على الحال من واو يُقاتِلُونَ أي يقاتلون مشبهين بنيانا مرصوصا. البلاغة: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ استفهام بأسلوب التوبيخ والإنكار، وما في قوله لِمَ استفهامية حذفت ألفها تخفيفا. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بعد قوله: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ إطناب بتكرار اللفظ لبيان شدة قبح ما فعلوا. وقوله: تَقُولُوا وتَفْعَلُونَ بينهما طباق. كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ تشبيه مرسل مفصّل، حذف منه وجه الشبه، أي في المتانة والالتئام. المفردات اللغوية: سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه ومجده ودل عليه، واللام مزيدة. ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جيء بقوله ما وليس (من) تغليبا للأكثر. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب القاهر في ملكه. الْحَكِيمُ في صنعه وتدبير أمور خلقه. لِمَ تَقُولُونَ لِمَ مركبة من لام الجر وما الاستفهامية، والأكثر حذف ألفها مع حرف الجر تخفيفا لكثرة استعمالهما معا ودلالتهما على المستفهم عنه، أي لأي شيء تقولون: قد فعلنا، مع أنكم لم تفعلوا، والمقصود التأنيب والتوبيخ على المغالطة والكذب في طلب الجهاد وغيره، مع أنهم انهزموا يوم أحد. كَبُرَ عظم. مَقْتاً المقت: أشد البغض. يُحِبُّ يرضى ويكرم وينصر. صَفًّا أي صافين. مَرْصُوصٌ متراص من غير فرجة أو متلاصق محكم، والرص: اتصال أجزاء البناء وإحكامه. سبب نزول الآية (1، 2) : أخرج الترمذي كما تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ فقرأها

التفسير والبيان:

علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ختمها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ، قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيه صلى الله عليه وسلّم، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله الآية «1» . ويؤيد ذلك قول عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله، لعملناه، فلما نزل الجهاد كرهوه. التفسير والبيان: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي نزّه الله ومجده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله جميع ما في السموات وما في الأرض من العقلاء وغير العقلاء، وهو القوي الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، وفي تدبير خلقه وتصريف أمورهم وإرشادهم. وفيه الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات، ثم أرشد خلقه إلى فضائل الأخلاق والأعمال، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لأي شيء تقولون قولا وتخالفونه عملا. وهذا إنكار على من يعد وعدا، أو يقول قولا لا يفي به، قال ابن كثير: ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 358

رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان» . وفي الحديث الآخر في الصحيح: «أربع من كنّ فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» فذكر منهن إخلاف الوعد. وذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أنه إذا أدخل الواعد الموعود به في ورطة، وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: تزوج ولك علي كل يوم كذا، فتزوج وجب عليه أن يعطيه، ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب ديانة مطلقا الوفاء بالوعد، وإن كان يجب ديانة ومروءة، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء 4/ 77- 78] وقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد 47/ 20] . ثم ذمّهم سبحانه على مخالفة القول العمل، فقال: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ أي عظم جرما أن تقولوا قولا وتفعلون غيره، فإن خلف الوعد دليل على حب الذات (الأنانية) وإهدار لمصلحة وكرامة ووقت الآخرين، وإخلال بالثقة بين الأفراد والجماعات،

فقه الحياة أو الأحكام:

وما أسوأ خلف الوعد وأقبح بصاحبه، لذا كان مبغوضا عند الله أشد البغض ومعاقبا عليه، كما هو مبغوض مستنكر مذموم عند الناس جميعا. وفي مقابل ذم التاركين للقتال الهاربين منه، مدح الله تعالى الذين أقدموا على القتال، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي إن الله يرضى عن المقاتلين، ويثيب ثوابا جزيلا الذين يقاتلون في سبيل الله، صافّين أنفسهم صفا واحدا، وكتلة متراصة لا تتزحزح من المواقع، كأنهم بناء راسخ شامخ ملتزق بعضه ببعض دون فرج كقطعة واحدة. وهذا تعليم من الله للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم، وحث على الجهاد بأسلوب آخر، ودليل على قوتهم وشدتهم في أمر الله، دون تراخ فيهم، وإشارة إلى إحكام أمر القتال، وتنفيذ مهمة الجهاد بدقة وإتقان، وتضامن واجتماع حازم على وحدة الكلمة، وإمضاء الأمر بعزيمة لا تعرف اللين، وهمة لا تردد فيها، ولقاء للعدو بقلوب ثابتة راسخة لا تخاف ولا تخشى الموت. وهكذا تبني الأمم القوية أمجادها، وتثبت هيبتها وشخصيتها الذاتية، وتنتزع احترام الآخرين لها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن تسبيح الله وتنزيهه وتمجيده من جميع ما في السموات وما في الأرض دليل على الربوبية والوحدانية والعظمة والقدرة والاتصاف بجميع صفات الكمال. 2- توجب آية: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً ... على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا.

والملتزم قسمان: أحدهما- النذر: وهو نوعان: نذر تقرّب مبتدأ، كقوله: لله علي صوم وصلاة وصدقة، ونحوه من القرب، فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح معلق على شرط، مثل إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو إن كفاني الله شرّ كذا فعلي صدقة، فقال أكثر العلماء: يلزمه الوفاء به. ورأى بعضهم أنه لا يلزمه الوفاء به، والآية حجة للأكثرين، لأنها بمطلقها تتناول ذمّ من قال ما لا يفعله، على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. ويري الشافعي أن نذر اللجاج والغضب لا يجب الوفاء به، وهو ما لا يقصد به النذر والقربة، مثل: إن كلمت فلانا فلله علي صوم أو نحوه. والثاني- الوعد: فإن كان متعلقا بسبب، كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت شيئا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا، فقيل: يلزم، عملا بسبب نزول الآية المتقدم، وقيل: لا يلزم، قال ابن العربي والقرطبي: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر «1» . 3- إن خلف الوعد مذموم شرعا، مستوجب للإثم والمؤاخذة، أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم. 4- يرضى الله سبحانه عن الذين يقاتلون في سبيله صفا واحدا، وهذا يدل على وجوب الثبات في الجهاد في سبيل الله، ولزوم المكان كثبوت البناء. ولا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو لأداء رسالة يرسلها الإمام أو القائد، أو لمنفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1788، تفسير القرطبي: 18/ 79

التذكير بقصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل [سورة الصف (61) الآيات 5 إلى 9] :

فيها، أو للخروج للمبارزة إذا طلبها العدو، كما كانت حروب النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر وفي غزوة خيبر. التذكير بقصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل [سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) الإعراب: وَقَدْ تَعْلَمُونَ في موضع الحال. يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ جملة يَأْتِي: جملة فعلية في موضع جر، لأنها صفة لرسول. واسْمُهُ أَحْمَدُ جملة اسمية من المبتدأ والخبر في موضع جر، لأنها صفة بعد صفة. لِيُطْفِؤُا منصوب بأن مقدرة، واللام مزيدة. البلاغة: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ استعارة، شبّه من أراد إبطال الدين بمن أراد إطفاء الشمس بفمه، واستعار نور الله لدينه وشرعه. الْفاسِقِينَ مُبِينٌ الظَّالِمِينَ.. إلخ سجع لطيف مقبول.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَإِذْ قالَ مُوسى أي واذكر حين قال، وهو كلام مستأنف مقرر لما قبله من ذم التاركين للقتال والمخالفين أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالعصيان ومخالفة أمري إذ تركتم القتال، ومن الأذى أيضا الرمي بالأدرة، أي بانتفاخ الخصية، وهو كذب وافتراء. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بما جئتكم من المعجزات، وفائدة قَدْ تأكيد العلم، لا تقليله، كأنه قال: وتعلمون علما يقينيا لا شبهة لكم فيه، وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم، إذ عكسوا القضية، وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إيذاءه. زاغُوا مالوا عن الحق والهدى الذي جاء به موسى بإيذائه. أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أمالها عن الهدى وصرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يوفق إلى معرفة الحق أو إلى الجنة القوم الكافرين الخارجين عن الطاعة. وَإِذْ قالَ عِيسَى أي واذكر. يا بَنِي إِسْرائِيلَ لم يقل: يا قوم، لأنه لم يكن له فيهم قرابة. لِما بَيْنَ يَدَيَّ لما تقدمني أو قبلي من الكتب كالتوراة والزبور. أَحْمَدُ من أسماء النبي صلى الله عليه وسلّم، أي أحمد الناس لربه. فَلَمَّا جاءَهُمْ جاء أحمد الناس الكفار. بِالْبَيِّناتِ الأدلة والعلامات والمعجزات. قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي قالوا: هذا المجيء به سحر بيّن. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين، أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم. يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا أي يريدون أن يطفئوا، واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا. نُورَ اللَّهِ شرعه ودينه أو كتابه والحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم. بِأَفْواهِهِمْ بأقوالهم: إنه سحر وشعر وكهانة. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مظهر دينه وناشره في الآفاق. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذلك الانتشار الشامل لدعوة الإسلام إرغاما لهم. بِالْهُدى بالقرآن أو المعجزة. وَدِينِ الْحَقِّ الملة الحنيفية. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جميع الأديان. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لما فيه من الدعوة إلى التوحيد المحض، وإبطال الشرك. سبب النزول: نزول الآية (8) : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا..: حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره،

المناسبة:

فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واتصل الوحي بعدها «1» . المناسبة: بعد الحث على الجهاد وتأنيب المتخلفين عنه، التاركين للقتال، ذكّر الله المؤمنين بقصة موسى عليه السلام مع قومه حين دعاهم إلى قتال الجبارين بقوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ... [المائدة 5/ 21] فخالفوه وعصوا أمره، كيلا يفعلوا بنبيهم مثلما فعل به بنو إسرائيل. ثم ذكّرهم أيضا بقصة عيسى عليه السلام مع بني إسرائيل أيضا حين جاءهم بالبينات والمعجزات وبشرهم بمجيء رسول من بعده اسمه أحمد، فعصوه ولم يمتثلوا أمره. وقرنت القصتان هنا لأن كلّا من موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل، ولأن المخالفين هم أنفسهم. ثم شنع على هؤلاء العصاة الذين لم يستجيبوا لدعوة النبي إلى الإسلام، وإنما افتروا على الله الكذب بوصف المعجزات بأنها سحر، ثم ذكر غرضهم من الافتراء وهو محاولة إبطال دين الله وإطفاء نوره وشرعه، والحال أن الله متم نوره، ومظهر دينه على الأديان كلها. التفسير والبيان: يحذر الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلّم من مخالفة أمر نبيهم بأن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما، فيقول: - وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أي واذكر يا محمد لقومك خبر موسى بن عمران عليه السلام حين قال لقومه بني إسرائيل: يا قوم لم تلحقون الأذى بي بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، وأنتم تعلمون يقينا

_ (1) تفسير القرطبي 18/ 85

صدقي فيما جئتكم به من الرسالة، والرسول يحترم ويعظّم، وقد شاهدتم معجزاتي التي توجب الاعتراف برسالتي. وهذا تعليم للمؤمنين ونهي لهم من إيذاء نبيهم كما أوذي موسى عليه السلام، كما جاء في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب 33/ 69] وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال: «رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي وإنهم لما تركوا الحق ولم يتبعوا نبيهم وآذوه، أمال الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن الحق، وأسكنها الشك والحيرة، جزاء بما ارتكبوا، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام 6/ 110] . والله لا يوفق للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم، وعصوا رسلهم، وهؤلاء من جملتهم. - وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي واذكر يا محمد أيضا لقومك خبر عيسى إذ قال: يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم بالإنجيل، لم آتكم بشيء يخالف التوراة، وإنما أؤيدها وأكملها، فكيف تعصونني وتنفرون عني وتخالفونني؟! وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ أي إن التوراة قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد: وهو الذي يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره.

وهو خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، كما أن عيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل. أورد البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي- أي بعدي-، وأنا العاقب» أي الآخر الآتي بعد الأنبياء. وروى مسلّم وأبو داود الطيالسي عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه أسماء، منها ما حفظنا، فقال: «أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة» . وعن كعب الأحبار: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة محمد، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وجاء في الفصل العشرين من السّفر الخامس من التوراة: «أقبل الله من سينا، وتجلّى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه الربوات الأطهار عن يمينه» . وسينا مهبط الوحي على موسى، وساعير مهبط الوحي على عيسى، وفاران جبال مكة مهبط الوحي على محمد. وجاء في إنجيل يوحنا في الفصل الخامس عشر: قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي، يعلمكم كل شيء، والفارقليط: لفظ يدل على الحمد، وهو إشارة إلى أحمد ومحمد اسمي النبي صلى الله عليه وسلّم. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي حين جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالأدلة والمعجزات القاطعة، قال الكفرة والمخالفون: هذا

الذي جئت به سحر واضح لا شك فيه. وقيل: المراد لما جاءهم عيسى بالمعجزات، قالوا: هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر. ثم ذكر الله تعالى حكم المعارضين المخالفين الذين دعوا إلى الإسلام وتوحيد الله، فقال: - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص، والله لا يرشد للحق والصواب الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم، وهؤلاء منهم. - يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي إن هؤلاء الكفار يحاولون جاهدين إبطال دعوة الإسلام، ومنع هدايته، ومقاومة دعوته بأفواههم الكاذبة، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل، كذلك إبطال دعوة الإسلام مستحيل، ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي والله مظهر دين الإسلام في الآفاق، ويعليه على غيره من الأديان، ومؤيد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولو كره الكافرون ذلك. - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أي إن الله عز وجل هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى الكامل، ودين الحق الأبلج الواضح، المتمثل بالقرآن والسنة النبوية، ليجعله متفوقا منتصرا على جميع الأديان، عاليا عليها، غالبا بالمنطق والواقع لها، ولو كره المشركون ذلك، فإنه كائن لا محالة. وإنما قال أولا: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وهم اليهود والنصارى والمشركون، ثم قال: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه، فكان اللائق به

فقه الحياة أو الأحكام:

الكفر: وهو الستر والتغطية، ثم ذكر الرسول والإرسال ودين الحق، وكان الاعتراض عليه أولا من المشركين، ولأن أكثر الحاسدين للرسول صلى الله عليه وسلم من قريش، وهم المشركون. ولما كان النور أعم من الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، ناسبه ذكر الكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام، ولفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، والرسول والدين أخص من النور، فناسبه ذكر المشركين الذين هم أخص من الكافرين «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن مخالفة أوامر الأنبياء والرسل موجبة لعقاب المخالفين، وقد أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يذكر لقومه العرب أنه لما أمر المؤمنون بالجهاد، فتثاقل بعضهم وتبرموا منه، كان حالهم كحال بني إسرائيل لما أمرهم موسى وعيسى بالتوحيد والجهاد في سبيل الله، خالفوا، فحل العقاب بمن خالف. 2- يريد الله الخير لعباده، ولا يضل أحدا بغير موجب، فلا يضل المهتدين، وإنما يضل الظالمين والفاسقين، ولما زاغ بنو إسرائيل (مالوا عن الحق) أزاغ الله قلوبهم، أي أمالها عن الهدى وعن الطاعة والإيمان والثواب. 3- نزل الإنجيل على عيسى عليه السلام متمما للتوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، فلم يأتهم عيسى بشيء يخالف التوراة، فينفروا عنه، وقد بشرت التوراة بعيسى، وبشر عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر منطقي، لأن رسالات الأنبياء صلوات الله عليهم كلهم يكمل بعضها بعضا، فهي من مصدر واحد، وذات غاية واحدة تنحصر في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والإيمان بالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر.

_ (1) تفسير الرازي: 29/ 315- 316

4- سمى الله نبينا صلى الله عليه وسلم باسمه قبل أن يسمّي به نفسه، ومعنى (أحمد) أنه أحمد الحامدين لربه، والأنبياء عليهم السلام كلهم حامدون لله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. ومحمد: هو الذي حمد مرة بعد مرة، واسمه صادق عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه، ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فشرفه بالنوبة، فلذلك تقدم اسم (أحمد) على (محمد) في بشارة عيسى عليه السلام: اسْمُهُ أَحْمَدُ. وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد. 5- كل من عيسى ومحمد عليهما السلام لما جاء بالبينات أي المعجزات والأدلة على النبوة، قال المعارضون: هذا سحر مبين. 6- إن الكفر بعيسى ومحمد عليهما السلام بعد المعجزات التي ظهرت لهما، أمر يدعو إلى العجب، والكافرون برسالات الأنبياء، المنكرون لوجود الله، أو المشركون به أحدا من خلقه هم أظلم الناس على الإطلاق. 7- كل محاولات الكفرة لإبطال دين الله تعالى ومقاومة دعوة الإسلام بالإنكار والتكذيب خائبة خاسرة، ومثلهم في إرادة إبطال الحق مثل من أراد إطفاء نور الشمس بفيه، فوجده مستحيلا ممتنعا. 8- الله متم نوره بقدرته وتدبيره، ومعلن دينه بإظهاره في الآفاق، ولو كره الكافرون جميعا ذلك. 9- أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق والرشاد، ليعليه على جميع الأديان بالحجج، ولو كره المشركون قاطبة ذلك. وقال أبو هريرة: «ليظهره على الدين كله» بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينزلن ابن مريم حكما عادلا،

التجارة الرابحة [سورة الصف (61) الآيات 10 إلى 14] :

فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنزير، وليضعنّ الجزية، ولتتركنّ القلاص «1» ، فلا يسعى عليها، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال، فلا يقبله أحد» . التجارة الرابحة [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) الإعراب: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ خبر معناه الأمر، أي آمنوا، بدليل قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بجزم يَغْفِرْ على الجواب، وتقديره: آمنوا، إن تؤمنوا يغفر لكم، ولولا أنه في معنى الأمر، لما كان للجزم وجه. وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ.. أُخْرى: إما في موضع جر عطفا على قوله: تِجارَةٍ وتقديره: وعلى تجارة أخرى، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. وإما في موضع رفع على الابتداء، أي ولكم خلة أخرى. والوجه الأول أوجه. وتُحِبُّونَها: جملة فعلية في موضع جر أو رفع، لأنها وصف بعد وصف. ونَصْرٌ مِنَ اللَّهِ: خبر مبتدأ محذوف، أي هي نصر من الله.

_ (1) القلوص جمع قلص وقلائص وهي الناقة الشابة، وجمع القلص: قلاص.

البلاغة:

فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ ظاهِرِينَ: خبر (أصبح) المنصوب. البلاغة: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ؟ استفهام للترغيب والتشويق. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ بينهما طباق. المفردات اللغوية: تِجارَةٍ التجارة هنا: العمل الصالح، وهي في الأصل: تداول البيع والشراء لأجل الكسب. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ.. أي تدومون على الإيمان، وهو كلام مستأنف مبين لنوع التجارة وهو الجمع بين الإيمان والجهاد، والمراد به الأمر، أي آمنوا، وإنما جيء بلفظ الخبر إيذانا بأن ذلك مما لا يترك. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما ذكر من الإيمان والجهاد. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم، إذ الجاهل لا يعتد بفعله. يَغْفِرْ جواب للأمر المراد من الخبر: تُؤْمِنُونَ أو جواب الشرط المقدر أي إن تفعلوه يغفر. طَيِّبَةً طاهرة خالصة. جَنَّاتِ عَدْنٍ بساتين إقامة دائمة. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة. وَأُخْرى أي ولكم نعمة أخرى أو يؤتكم نعمة أخرى. تُحِبُّونَها فيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وَفَتْحٌ قَرِيبٌ نصر عاجل، وهو فتح مكة. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والفتح، وهو معطوف على محذوف وهو: قل: يا أيها الذين آمنوا، أو على تُؤْمِنُونَ الذي هو في معنى الأمر، أي آمنوا وجاهدوا وبشرهم يا رسول الله بما وعدتهم عليهما عاجلا وآجلا. كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي بعض أنصار الله أي الناصرين لدينه، أي قل لهم كما قال عيسى. لِلْحَوارِيِّينَ أصفياء عيسى وخواصه، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا، والحواري: صفي الرجل وخليله، من الحور: البياض الخالص. مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من جندي متوجها إلى نصرة الله. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ آمنت جماعة بعيسى عليه السلام، وقالوا: إنه عبد الله رفع إلى السماء. وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ بعيسى، لقولهم: إنه ابن الله رفعه إليه، فاقتتلت الطائفتان. فَأَيَّدْنَا قوّينا وساعدنا، أي بالحجة أو بالحرب، وذلك بعد رفع عيسى. الَّذِينَ آمَنُوا من الطائفتين. عَلى عَدُوِّهِمْ الطائفة الكافرة. ظاهِرِينَ غالبين بالحجة والبينة.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (10) : هَلْ أَدُلُّكُمْ..: أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. الآية، فكرهوا الجهاد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن ابن عباس، وابن جرير عن الضحاك قال: أنزلت: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن والقتل. نزول الآية (11) : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال المسلمون: لو علمنا ما هذه التجارة، لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. المناسبة: بعد حث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وتحذيرهم من المخالفة، حتى لا يكونوا أمثال بني إسرائيل الذين خالفوا موسى وعيسى، ذكر الله تعالى أن التجارة الرابحة التي لا تبور هي في الإيمان بالله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. ثم حث على مناصرة دين الله تعالى وشرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ناصر الحواريون عيسى عليه السلام.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة، تحققون بها النجاح والنجاة من العذاب الشديد المؤلم يوم القيامة؟ وهذا أسلوب فيه ترغيب وتشويق، وقد جعل العمل الصالح لنيل الثواب العظيم بمنزلة التجارة، لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، ونوع التجارة كما بيّنت الآيتان التاليتان، ومعناهما أن الإيمان والجهاد ثمنهما من الله الجنة، وذلك بيع رابح، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة 9/ 111] . ثم بين نوع التجارة بقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي هي أن تدوموا على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتخلصوا العمل لله، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه بالأنفس والأموال. وقدم تعالى الأموال، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي ذلك المذكور من الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من أموالكم وأنفسكم، ومن تجارة الدنيا والاهتمام بها وحدها، إن كنتم من أهل العلم والوعي للمستقبل، فإن المهم هو النتائج والغايات، ولا يدرك تلك الغاية النبيلة أهل الجهل. والجهاد نوعان: جهاد النفس: وهو منعها عن الشهوات، وترك الطمع والشفقة على الخلق ورحمتهم، وجهاد العدو: وهو مقاومة الأعداء ورد عدوانهم من أجل نشر دين الله تعالى.

ثم ذكر ثمرة الإيمان والجهاد، فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم، غفرت لكم ذنوبكم، وأدخلتكم الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار، والمساكن الطيبات للنفوس، والدرجات العاليات في جنات الإقامة الدائمة التي لا تنتهي بموت ولا خروج منها، وذلك المذكور من المغفرة وإدخال الجنات هو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده. وهذه هي الفائدة الأخروية. ثم ذكر الله تعالى الفائدة الدنيوية بقوله: وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي ولكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم هي نصر مبين من الله لكم، وفتح عاجل للبلاد كمكة وغيرها من فارس والروم، أي إذا قاتلتم في سبيل الله، ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد 47/ 7] وقال سبحانه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج 22/ 40] . وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي وبشر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا، وبالجنة في الآخرة. ثم أمرهم الله تعالى بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل وقت، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، دوموا على ما أنتم عليه من نصرة دين الله وتأييد شرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال، والأنفس والأموال،

واستجيبوا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح وخلصاؤه) لعيسى حين قال لهم: من الذي ينصرني ويعينني في الدعوة إلى الله عز وجل، ومن منكم يتولى نصري وإعانتي فيما يقرب إلى الله، أو من أنصاري متجها إلى نصرة الله؟ قال الحواريون: وهم أنصار المسيح وخلّص أصحابه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا: نحن أنصار دين الله، ومؤيدوك ومؤازروك فيما أرسلت به، فبعثهم دعاة إلى دينه في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في أيام الحج: «من رجل يؤويني حتى أبلّغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ رسالة ربي؟» حتى قيّض الله الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه على نشر دينه في بلدهم. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أي لما بلّغ عيسى رسالة ربه إلى قومه، وآزره الحواريون، اهتدت طائفة من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه عبد الله ورسوله، وضلّت طائفة أخرى، وكفرت بعيسى، وجحدوا نبوته، واتهموه وأمه بالفاحشة، وتغالت جماعة أخرى من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، فوصفوه بأنه ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة: الأب والابن وروح القدس. وصارت النصارى فرقا وأحزابا كثيرة. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي فنصرنا المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى، وقوّينا المحقّين منهم بالحجة والروح من عندنا على المبطلين، فأصبحوا عالين غالبين عليهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر 40/ 51] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قال: قد كان ذلك بحمد الله، جاءه سبعون رجلا، فبايعوه عند العقبة، وآووه ونصروه، حتى أظهر الله دينه. وأخرج ابن إسحاق وابن سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة: «أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: «إنكم كفلاء على قومكم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل قومي، قالوا: نعم» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يلي: 1- أرشد الله إلى التجارة الرابحة المنجّية المخلّصة من العذاب المؤلم في الآخرة، وهي الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس. قال مقاتل في آية: هَلْ أَدُلُّكُمْ..: نزلت في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أذنت لي فطلّقت خولة، وترهّبت واختصيت وحرّمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم، ومن سنتي أن أنام وأقوم وأفطر وأصوم، فمن رغب عن سنتي، فليس مني» فقال عثمان: والله لوددت يا نبي الله، أي التجارات أحب إلى الله، فأتّجر فيها، فنزلت. وهذا مع ما ذكر سابقا من حالات تعدد أسباب النزول. 2- الإيمان والجهاد خير من الأموال والأنفس في الواقع وعند تأمل الإنسان مستقبله، وتعمقه في الفكر، لذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم

تعلمون أنه خير لكم، كان خيرا لكم، لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيرا. 3- إن جدوى الإيمان والجهاد في سبيل الله في الآخرة مغفرة الذنوب ودخول الجنات، والتمتع بالمساكن الطيبة الطاهرة في جنات إقامة دائمة، وتلك هي السعادة الدائمة الشاملة. 4- وللإيمان والجهاد فائدة أو مزية أخرى في الدنيا وهي الظفر والنصر على الأعداء، وفتح بلاد الأعداء كمكة وفارس والروم في الماضي، وبشارة المؤمنين برضا الله عنهم. 5- أمر الله تعالى بإدامة النصرة لدين الله تعالى والثبات عليه، كنصرة الحواريين (أصفياء) عيسى عليه السلام حين قال لهم: من ينصر دين الله ويؤازرني؟ فناصروه وآزروه. 6- اختلف بنو إسرائيل والنصارى في شأن عيسى بعد رفعه إلى السماء، فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر به، وصاروا ثلاث فرق: فرقة قالوا: كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المسلمون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس. ثم أيد الله الذين آمنوا بعيسى على أنه عبد الله ورسوله على الذين كفروا بعيسى، فأصبحوا غالبين. ثم تأيدت الفئة الغالبة ببعثه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فظهرت على الكافرة.

سورة الجمعة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الجمعة مدنيّة، وهي إحدى عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الجمعة لاشتمالها على الأمر بإجابة النداء لصلاة الجمعة، في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.... مناسبتها لما قبلها: يتضح وجه اتصال هذه السورة بما قبلها من نواح أربع هي: 1- ذكر تعالى في السورة التي قبلها حال موسى مع قومه، وإيذاءهم له، مؤنبا لهم، وذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته، تشريفا لهم، ليظهر الفرق بين الأمتين وفضل الأمة الاسلامية. 2- بشّر عيسى عليه السلام في السورة المتقدمة بمحمد أو أحمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر في هذه السورة أنه هو الذي بشّر به عيسى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ. 3- ختم الله تعالى سورة الصف السابقة بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةً وختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أنه خير من التجارة الدنيوية. 4- في السورة المتقدمة أمر الله المؤمنين بأن يكونوا صفا واحدا في القتال،

ما اشتملت عليه السورة:

فناسب تعقيب سورة القتال بسورة صلاة الجمعة التي تستلزم الصف، لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات «1» . ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كالسور المدنية بيان أحكام التشريع، والهدف منها هنا بيان أحكام صلاة الجمعة المفروضة بدلا عن الظهر في يوم الجمعة. بدأت السورة كسابقتها بتنزيه الله وتمجيده ووصفه بصفات الكمال. ثم أشادت بأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورحمة الله المهداة وهي عروبته وتلاوته آيات القرآن على قومه وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة، سواء في زمنه أم للأجيال المتلاحقة، وبيان كون ذلك فضلا من الله ونعمة ورحمة. ثم نعت على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة، وتشبيههم بالحمار الذي يحمل على ظهره الكتب النافعة، ولكنه لا يفهم منها شيئا، ولا يناله إلا التعب، وذلك الشقاء بعينه. ثم ذكرت طلب مباهلة اليهود إن كانوا أولياء الله بتمني الموت. وختمت السورة بالحث على أداء صلاة الجمعة وإيجاب السعي لها بمجرد النداء الذي ينادى لها بالأذان والإمام على المنبر، وأباحت السعي وكسب الرزق عقب انتهاء الصلاة، وعاتبت المؤمنين الذين تركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب على المنبر، ومسارعتهم لرؤية قافلة التجارة. فضلها: روى مسلم في صحيحة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين.

_ (1) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي: ص 84

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعرب والناس كافة [سورة الجمعة (62) الآيات 1 إلى 4] :

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعرب والناس كافة [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) الإعراب: رَسُولًا مِنْهُمْ مِنْهُمْ: في موضع نصب لأنه صفة ل «رسول» وكذلك قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وكذلك ما بعده من المعطوف عليه. وَإِنْ كانُوا إِنْ مخففة من الثقيلة، واللام تدل عليها، واسمها محذوف، أي وإنهم. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وَآخَرِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو إما بالعطف على الهاء والميم في يُعَلِّمُهُمُ أو بحمل معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ على معنى «يعرفهم آياته» . وأما الجر: فهو بالعطف على قوله تعالى: فِي الْأُمِّيِّينَ وتقديره: بعث في الأميين رسولا منهم وفي آخرين. و (من) في مِنْهُمْ للتبيين. المفردات اللغوية: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ينزهه ويمجده، واللام زائدة ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ذكر ما دون. «من» تغليبا للأكثر. الْقُدُّوسِ المنزّه عما لا يليق به المتصف بصفات الكمال. الْعَزِيزِ القوي القاهر الغالب الذي لا يغالب. الْحَكِيمِ في صنعه وتدبير خلقه، يضع الأمور في موضعها الصحيح. وقد قرئت الصفات الأربع بالرفع على المدح. الْأُمِّيِّينَ العرب جمع أمي: وهو من لا يقرأ ولا يكتب، وصف العرب بذلك، لأن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون. والأمي: نسبة للأم التي ولدته. رَسُولًا مِنْهُمْ من جملتهم، فهو أمي مثلهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يتلو على العرب آيات القرآن، مع كونه أميّا مثلهم. وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك ومن خبائث العقائد والأعمال. الْحِكْمَةَ الشريعة أي معالم

التفسير والبيان:

الدين وأحكام القرآن. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي من قبل مجيئه لفي خطأ بيّن واضح، وهو الشرك وخبائث الجاهلية. وهذا بيان لشدة حاجتهم إلى نبي يرشدهم. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ أي وغيرهم الآتين بعدهم، جمع آخر بمعنى: غير، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم القيامة. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يلحقوا بهم في السابقة والفضل. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي في ملكه وتمكينه من النبوة، الحكيم في صنعه واختياره. والاقتصار على الصحابة دليل على فضلهم على من عداهم من جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ ذلك الفضل المتميز لهذا النبي عن أقرانه فضله. يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ تفضلا وعطية للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يتضاءل دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. التفسير والبيان: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي ينزه الله ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته، كما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء 17/ 44] فهو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته، المنزّه عن النقائص وعن كل ما يخطر بالبال، الموصوف بصفات الكمال والقوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب، بليغ العزة والحكمة، المتقن في تدبير شؤون خلقه، الحكيم في كل شيء. وبعد تنزيه الله نفسه وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بما تميز به من خصائص، فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنه سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميين، إذ كان أكثرهم لا يحسن القراءة والكتابة، رسولا من جنسهم فهو أمي مثلهم، كما قال- فيما يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر-: «إنا أمّة لا نكتب ولا نحسب» وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت 29/ 48] . ومع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم من أحد، كان يتلو على أمته

آيات القرآن التي ترشدهم لخير الدنيا والآخرة، ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب وأخلاق الجاهلية، ويعلمهم القرآن والسنة والشرائع والأحكام وحكمتها، وإن كانوا في جاهليتهم في ضلال وخطأ واضح في العقيدة والتشريع والنظام، إذ كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدّلوه وغيّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركا ووثنية، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها، وغيّروها وأوّلوها. فأرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشرع كامل شامل لجميع الخلق، لا إلى العرب وحدهم، فيه بيان جميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة إلى ما يقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى عليهم. وتخصيص العرب الأميين بالذكر، لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم خاصة وإلى الناس عامة، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] وقوله سبحانه: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف 7/ 158] . وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وبعث الله رسولا من العرب لأجيال آخرين من المؤمنين، سواء كانوا من العرب أو من غيرهم، كالفرس والروم، وهم من جاء بعد الصحابة من المسلمين إلى يوم القيامة، لم يلحقوا بهم في ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، والله هو القوي الغالب القاهر ذو العزّة والسلطان، القادر على التمكين لأمة الإسلام في الأرض، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وتدبير خلقه. روى الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه سورة الجمعة، فتلاها،

فقه الحياة أو الأحكام:

فلما بلغ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سليمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» «1» . ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، لأنه فسر قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى اتباع ما جاء به. وروى ابن أبي حاتم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يعني من يأتي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم أبان الله تعالى أن الإسلام وبعثة محمد فضل منه ورحمة، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده، والله صاحب الفضل العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، وهو ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي: 1- ينزه الله ويمجده ويقرّ بوجوده ووحدانيته وقدرته جميع الكائنات في السموات والأرض.

_ (1) ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير.

2- الغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي ثلاثة أمور: هي تلاوة آيات القرآن التي فيها الهدى والرشاد، وجعل أمته أزكياء القلوب بالإيمان، مطهرين من دنس الكفر والذنوب ومفاسد الجاهلية، وتعليم القرآن والسنة وما فيهما من شرائع وأحكام وحكم وأسرار. 3- كانت أمة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضياع وشتات وذهاب عن الحق. 4- وجه الامتنان بجعل النبي صلى الله عليه وسلم نبيا أميا ثلاثة أسباب كما قال الماوردي: أحدها- موافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء، الثاني- مماثلة حاله لأحوال أمته، فيكون أقرب إلى موافقتهم، الثالث- انتفاء سوء الظن عنه في تبليغه وتعليمه ما أوحي إليه من القرآن والأسرار. 5- رسالة النبي صلى الله عليه وسلم غير خاصة بالعرب، وإنما هي عامة للناس جميعا في زمنه، وفي الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. 6- إن الإسلام والوحي وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ولله الفضل الدائم على الناس في غير ذلك كالمال الذي ينفق في الطاعة والصحة والمعونة المستمرة، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدّثور «1» بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون، ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبّحون

_ (1) الدثور: الثياب والأمتعة والأموال الكثيرة.

حال اليهود مع التوراة وتمني الموت [سورة الجمعة (62) الآيات 5 إلى 8] :

وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ «1» . حال اليهود مع التوراة وتمني الموت [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الإعراب: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الكاف في كَمَثَلِ في موضع رفع، لأنها في موضع خبر المبتدأ، وهو مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا. ويَحْمِلُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، وتقديره: كمثل الحمار حاملا أسفارا. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الَّذِينَ إما في موضع رفع بتقدير مضاف محذوف، تقديره بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا، فحذف مَثَلُ المضاف المرفوع وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما في موضع جر على أن يكون الَّذِينَ وصفا للقوم الذين كذبوا بآيات الله، ويكون المقصود بالذم محذوفا، وتقديره: مثلهم أو هذا المثل.

_ (1) فسر أبو صالح الراوي عن أبي هريرة فضل الله: بأنه المال الذي ينفق في الطاعة.

البلاغة:

فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ مُلاقِيكُمْ خبر إِنْ المرفوع، ودخول الفاء: إما لأنها زائدة، أو أنها غير زائدة، لتضمن الَّذِي معنى الشرط بسبب وقوعها وصفا، فدخلت في خبر الفاء كما تدخل في الشرط. البلاغة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، أي مثلهم في عدم الانتفاع بالتوراة، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب. وليس له إلا التعب. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بينهما طباق السلب. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق. المفردات اللغوية: حُمِّلُوا التَّوْراةَ كلفوا العمل بها، من الحمالة: وهي الكفالة. لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها، فلم يؤمنوا بما جاء فيها من نعته صلى الله عليه وسلم. أَسْفاراً كتبا علمية عظيمة، سميت أسفارا، لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الذين كذبوا بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الكافرين. هادُوا تهودوا. أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحبّاء له، إذا كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ تمنوا من الله أن يميتكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تعلق هذا الشرط والشرط الأول وهو إِنْ زَعَمْتُمْ بقوله: فَتَمَنَّوُا على أن الشرط الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنكم أولياء الله، والولي يؤثر الآخرة، ومبدؤها الموت، فتمنوه. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما اقترفوا من الكفر والمعاصي، ومن ذلك كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الكافرين. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا حق بكم لا تفوتونه. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ السر والعلانية. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يجازيكم عليه. المناسبة: بعد أن أثبت الله تعالى التوحيد والنوبة، وأخبر أنه بعث الرسول العربي الأمي إلى الأميين العرب، فقال اليهود: إنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث لنا بمفهوم الآية، رد الله عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة، وأنهم لو عملوا

التفسير والبيان:

بمقتضاها وما تضمنته من البشارة بهذا الرسول، لانتفعوا بها وآمنوا به، ولم يقولوا هذا القول أو يوردوا هذه الشبهة، ومثلهم في عدم الانتفاع بتوراتهم وترك العمل بها مثل الحمار الذي يحمل الكتب، ولم يصبه إلا العناء والتعب. ثم رد الله عليهم قولا آخر وشبهة أخرى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة 5/ 18] ، بأنه لو كان قولهم حقا وهم على ثقة، لتمنوا على الله أن يميتهم، وينقلهم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه، مع أنهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدّموا من الكفر وتحريف الآيات. التفسير والبيان: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي إن شبه اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، بعد أن كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها، فلم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها، كشبه الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره، وهو لا يدري الفرق بين الكتاب والزبل، لأنه لا فهم له، واليهود وإن كان لهم عقول وأفهام، فإنهم لم ينتفعوا بها فيما ينفعهم وفي إدراك الحقائق، لأنهم حفظوا اللفظ ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه بل أوّلوه وحرفوه وبدّلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير، لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، لذا وصفهم تعالى بقوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف 7/ 179] . وقال تعالى هنا مبينا قبح هذا المثل: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي ما أقبح ما يمثل به للمكذبين، وما أشنع هذا التشبيه، وهو تشبيه اليهود بحق بالحمار، فلا تكونوا أيها المسلمون مثلهم، والله لا يوفق للحق والخير القوم الكافرين على العموم، ومنهم اليهود بصفة أولى. واختير الحمار في هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، والذل والحقارة. وقد

فدم هذا تحذيرا للذين تركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر قائما يخطب وذهبوا إلى التجارة، وشبيه به كل من أعرض عن الخطبة، وهو يسمعها كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلّم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة» . ثم ذم الله تعالى اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة ذمّا آخر مناسبا للذم الأول، لأن شأن من لم يعمل بالكتاب أن يحب الحياة، فقال: قُلْ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل أيها الرسول: أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم أولياء الله وأحباؤه من دون الناس، وأنكم على هدى، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ضلالة، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة في زعمكم، وادعوا بالموت على الضال من الفئتين، إن كنتم صادقين في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار. وقد ذكرت هذه المباهلة (الملاعنة) وتحدي اليهود في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة 2/ 94] . كما ذكرت مباهلة النصارى في قوله سبحانه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 3/ 61] . ومباهلة المشركين في قوله عز وجل: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مريم 19/ 75] . أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيت محمدا عند الكعبة، لآتينه حتى أطأ على عنقه،

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا، ولا مالا» . ثم كشف الله حقيقة أمر اليهود الماديين الذين يحبون الحياة ويكرهون الموت، وأنهم لن يتمنوه أبدا لسوء أفعالهم، فقال: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي لن يتمنى اليهود الموت أبدا على الإطلاق، بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل، والله بالغ العلم، واسع الاطلاع على أحوال الكافرين، فيجازيهم بما عملوا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ويلاحظ أنه قال هنا: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بدون لفظ التأكيد، وفي سورة البقرة قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة 2/ 95] بلفظ التأكيد ونفي المستقبل. قُلْ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي قل أيها النبي لهؤلاء اليهود: إن الموت الذي تهربون منه، وتأبون المباهلة فيه حبا في الحياة، هو آت إليكم حتما من الجهة التي تفرون منها، ثم ترجعون بعد موتكم إلى الله عالم الغيب في السموات والأرض، وعالم الحس المشاهد فيهما، فيخبركم بما أنتم عاملون من الأعمال القبيحة، ويجازيكم عليها بما أنتم له أهل. وهذا أيضا تهديد ووعيد، ومبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت. ونظير الآية قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء 4/ 78] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي، مبيّنة ذم اليهود من ناحيتين: 1- إن مثل اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بالرغم من إخبار التوراة عنه، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة، ولا ينتفع بها، وما أقبح هذا المثل الذي شبّهوا به، والله لا يوفق للحق كل من كان ظالما لنفسه، كافرا بنعمة ربه. 2- إن كان اليهود صادقين في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأصفياؤه، فليطلبوا الموت ليصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله، لأن للأولياء عند الله الكرامة والحظوة. 3- لكن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما أسلفوا من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو تمنوه لماتوا، جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- لما نزلت هذه الآية: «والذي نفس محمد بيده، لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات» . وفي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. 4- غير أنه تعالى أخبر أن الموت الذي يفر منه هؤلاء اليهود بسبب ما قدمت أيديهم من تحريف الآيات وغيره آت حتما لا محالة، ولا ينفعهم الفرار، ثم يرجعون إلى الله ربهم العالم بكل شيء من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فيخبرهم بما فعلوا، ويجازيهم بما عملوا.

فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها [سورة الجمعة (62) الآيات 9 إلى 11] :

فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) الإعراب: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ بمعنى (في) : في يوم الجمعة، ويقرأ الْجُمُعَةِ بضم الميم وسكونها وفتحها، بالضم على الأصل، والسكون على التخفيف، والفتح على نسبة الفعل إليها، كأنها تجمع الناس. وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها كنى عن أحدهما دون الآخر، للعلم بأنه داخل في حكمه، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة 9/ 34] وقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة 2/ 45] . البلاغة: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ثم قال: قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ تفنن في العبارة، فقدّم التجارة أولا، لأنها المقصود الأصلي، ثم قدّم اللهو، لأن الخسارة فيما لا نفع فيه أعظم، فقدم المهم في كل موضع. وَذَرُوا الْبَيْعَ مجاز مرسل، أطلق البيع، وقصد جميع أنواع التعامل والانشغال من بيع وشراء وإجارة وشركة وغيرها. المفردات اللغوية: نُودِيَ لِلصَّلاةِ أذّن لها الأذان الثاني الذي كان يفعل أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس على المنبر قبل الخطبة. مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان ل إِذا وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه

سبب النزول نزول الآية (11) :

للصلاة، وكانت العرب تسميه (العروبة) أي الرحمة، وأول من سماه جمعة كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه، وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء، حينما قدم المدينة، وصلى الجمعة في دار بني سالم بن عوف. وأول من أقام الجمعة بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة. قال ابن حجر: فرضت الجمعة بمكة، ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفيا «1» . فَاسْعَوْا فامشوا، وعبّر بالسعي إشارة إلى أنه يطلب من المسلم القيام للجمعة بهمّة ونشاط، وجد وعزيمة، لأن لفظ السعي يفيد الجد والعزم. إِلى ذِكْرِ اللَّهِ للصلاة. وَذَرُوا الْبَيْعَ اتركوا عقد البيع وسائر وجوه المعاملات. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله خير لكم من المعاملة، فإن نفع الآخرة خير وأبقى. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، فإن علمتم أنه خير فافعلوه. قُضِيَتِ الصَّلاةُ أدّيت وفرغ منها. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي فتفرقوا، وهو أمر بعد حظر، فيفيد الإباحة لا الوجوب، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ اطلبوا الرزق. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً اذكروه في مجامعكم ومجالسكم ذكرا كثيرا. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بخير الدارين. وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً التجارة تشمل كل أنواع الكسب، واللهو: الطبول والمزامير ونحوها. انْفَضُّوا إِلَيْها انصرفوا إلى التجارة، وإلى اللهو. وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر وأنت تخطب. قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب. خَيْرٌ للذين آمنوا من اللهو ومن التجارة، لأن ثواب الله محقّق مخلّد، بخلاف ما يتوهم من نفع اللهو والتجارة. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه، فكل ما ييسر الله للإنسان من رزق عائلته هو من رزق الله تعالى. سبب النزول: نزول الآية (11) : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً..: أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير «2» قد

_ (1) تفسير الألوسي: 28/ 100 (2) العير: الإبل المحملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت. [.....]

المناسبة:

قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. وأخرج ابن جرير عن جابر أيضا قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضّون إليها. وأخرج ابن المنذر عن جابر أن الآية نزلت في الأمرين معا: قصة النكاح، وقدوم العير معا من طريق واحد. قال المفسرون: أصاب أهل المدينة أصحاب الضرار جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارة من الشام، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فخرج إليه الناس، فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم، لسال بكم الوادي نارا «1» . المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أن اليهود يفرون من الموت حبا في الدنيا وطيباتها، أراد تعالى أن يربي المؤمنين ويوجههم للعمل في الدنيا ولما ينفع أيضا في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى 87/ 17] . ثم ندّد تعالى بترك النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب، منصرفين للهو أو للتجارة، فمنهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته، ومنهم من انفض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها. ثم أباح تعالى السعي في العمل ومكاسب الدنيا عقب انتهاء صلاة الجمعة، قال تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص 28/ 77] .

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 243

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَرُوا الْبَيْعَ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي يا أيها المؤمنون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا أذّن لصلاة الجمعة الأذان الثاني بعد أن يجلس الخطيب على المنبر، لأنه الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الأذان الأول فقد زاده عثمان رضي الله عنه بمحضر الصحابة لما اتسعت المدينة، وذلك على الزّوراء (أعلى دار كانت بالمدينة قرب المسجد) وسمي أذانا ثالثا إضافة إلى الإقامة، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة عن عبد الله بن مغفّل: «بين كل أذانين صلاة لمن شاء» يعني الأذان والإقامة. إذا أذن للجمعة، فبادروا إلى السعي أو المضي إلى ذكر الله وهو الخطبة وصلاة الجمعة في المساجد الجامعة، بعد الإعداد لذلك والتهيؤ للصلاة بالغسل والوضوء والطيب واللباس الجديد أو النظيف الأبيض ونحوها، واتركوا البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة ونحوهما، وذلكم السعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع وترك السعي، لما في الامتثال من الأجر والجزاء، إن كنتم من أهل الدراية والعلم الصحيح بما ينفع، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلك خير لكم. ولفظ (من) إما بمعنى (في) أو تبعيضية. وخص البيع بالذكر، لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش، وفيه إشارة إلى ترك جميع أنواع التجارة. وتخصيص الجمعة بفريضتها تشريع للمسلمين في مقابل السبت عند اليهود. وليس المراد بالسعي في الآية المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... [الإسراء 17/ 19] . فأما المشي السريع إلى الصلاة، فقد نهي عنه، لما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى

الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» . وأخرج الشيخان أيضا عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال «1» ، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة، فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» . وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» . ثم أباح الله تعالى العمل والسعي للدنيا بعد الصلاة، فقال: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي إذا أديتم الصلاة وفرغتم منها، فيؤذن ويباح لكم الانتشار والتفرق في الأرض للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم، والابتغاء، أي الطلب من فضل الله أي من رزقه الذي يتفضل به على عباده من الأرباح في المعاملات والمكاسب، ولا تنسوا في أثناء عملكم وبيعكم وشرائكم أن تذكروا الله ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، وبالاذكار التي تقربكم إليه، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك، كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به. وفي هذا دلالة على أن عمل المؤمن للدنيا ينبغي أن يكون مصحوبا بذكر الله تعالى ومراقبته، حتى لا يطغى عليه حبها، وآن في مراقبة الله تعالى تحقيق الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.

_ (1) الجلب والجلبة: الأصوات.

كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة، انصرف، فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصلّيت فريضتك وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين «1» . وجاء في الحديث: «من دخل سوقا من الأسواق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة» «2» . ثم عاتب الله تعالى على ما وقع من المؤمنين من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى اللهو أو التجارة القادمة إلى المدينة، فقال: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها، وَتَرَكُوكَ قائِماً، قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ، وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي وإذا رأى هؤلاء المصلّون المؤمنون وهم في الجامع يستمعون إلى الخطبة إبلا محملة بتجارة قادمة من بلد آخر، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وزمر المزامير احتفالا بزواج أو غيره، تفرقوا خارجين إلى ذلك، وتركوك أيها النبي قائما على المنبر وأنت تخطب، قل أيها الرسول لهم مخطّئا ما عملوا: ما عند الله من الجزاء والثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها، والله هو خير الرازقين، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه، والله يرزق من توكل عليه، وطلب الرزق في وقته، وهو كفيل برزق العباد، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وكلمة إِذا مستعملة في الماضي. ولما كان العطف بأو بين قوله: تِجارَةً أَوْ لَهْواً صح مجيء الضمير في إِلَيْها مفردا. وقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.

_ (1) رواه ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير 4/ 367) . (2) كنز العمال 4/ 9327، 9443

فقه الحياة أو الأحكام:

وقد عرفنا أن سبب نزول هذه الآية أنه كان بالمدينة فاقة وحاجة، فأقبل دحية الكلبي بتجارة إلى الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا في المسجد، وسبع نسوة. وترك بعضهم الخطبة إلى سماع اللهو، فكان الترديد في قوله: تِجارَةً أَوْ لَهْواً للدلالة على أن منهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته، ومنهم من انفض إلى التجارة للحاجة إليها والانتفاع بها. فقه الحياة أو الأحكام: يؤخذ من الآيات الأحكام التالية: 1- صلاة الجمعة فرض والسعي إليها فرض أيضا، لأنه لا يمكن أداؤها جماعة في المسجد إلا به. والخطاب في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاص بالمكلفين بالإجماع، فلا يطالب بالجمعة المرضى والزّمنى والمسافرين والعبيد والنساء، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة، لما أخرجه الدارقطني عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد» . وقال علماء المالكية وغيرهم: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر، لا يمكنه منه الإتيان إليها، مثل المرض الحابس، أو خوف الزيادة في المرض، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. 2- يختص وجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء، أما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ.

3- دل قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث: «إذا حضرت الصلاة، فأذّنا، ثم أقيما وليؤمّكما أكبركما» . وروى البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وروي عن أبي الصّديق وأحمد بن حنبل أنها تصلّى قبل الزوال، وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع: «كنا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ننصرف، وليس للحيطان ظل» وبحديث ابن عمر وسهل: «ما كنا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة» . ومذهب الجمهور من الخلف والسلف ما رواه البخاري فيما تقدم، وما رواه وكيع عن يعلى بن إياس عن أبيه قال: «كنا نجمّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» . وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل دليل على أنهم كانوا يبكّرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون الغداء إلا بعد انقضاء الصلاة، وقد جاء في البخاري ومسلم ما يفيد استحباب التبكير إلى الجمعة، وذلك ما روياه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة «1» ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر» . والتبكير محمول عند أغلب العلماء على ساعات النهار الزمانية، لحديث ابن عمر المتقدم: «ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها» .

_ (1) البدنة: الناقة.

ورأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. قال ابن العربي: والقول الأول أصح. 4- الجمعة فرض عيني على كل مسلم، وهو رأي جماهير الأمة والأئمة، لقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكوننّ من الغافلين» . وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها على الأعيان. وفي سنن ابن ماجه عن أبي الجعد الضّمري الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها، طبع الله على قلبه» . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم» . 5- أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات، لقوله عز وجل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.. [المائدة 5/ 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» . أما غسل الجمعة فهو سنة أو مستحب لا فرض، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» وفيهما أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده» وفيه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء، ثم راح إلى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصى فقد

لغا» «1» . وهذا نص في عدم فرضية الغسل. وروى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل» . ويستحب أيضا لمن آتى الجمعة أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر، لحديث أبي سعيد المتقدم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من طيب أهله» وروى أحمد عن أبي أيوب الأنصاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فيركع إن بدا ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» . 6- لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافا لأحمد بن حنبل، فإنه قال: إذا اجتمع عيد وجمعة، سقط فرض الجمعة، لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عليها، ولما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي «2» أن يتخلفوا عن الجمعة. لكن قول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه، ولم يجمع معه عليه، والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه: أنه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، يقرأ بالأعلى والغاشية أيضا في الصلاتين. 7- اختلف العلماء في أول جمعة صليت في الإسلام، فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال: جمّع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم،

_ (1) اللغو: الكلام المطرح الساقط. (2) العالية والعوالي: أماكن بأعلى أراضي المدينة، وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون» .

وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى، ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون الجمعة بذلك، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم، فسموه (الجمعة) حين اجتمعوا إليه. فذبح لهم شاة، فتغذوا وتعشوا منها، وذلك لعامتهم، فأنزل الله تعالى، في ذلك بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية «1» . وقيل: إن أول من جمع بالناس مصعب بن عمير، وجمع بين الروايتين بأن جمع أسعد كان بغير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع مصعب كان بأمره. والصحيح أن أول جمعة كانت هي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة بأربعة أيام، حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف، فصلّاها في بطن واد لهم، حيث خطب صلى الله عليه وسلم، وصلى بالناس. أخرج ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب، فقال: «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافا بها، أو جحودا بها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا برّ له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه» . قال الألوسي: فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة، بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير، إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه: «لا حج له» أن الحج كان مفروضا إذ ذاك، والأصح أنه فرض في السنة السادسة، فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة، أي بهذا القيد «2» .

_ (1) وروي ذلك أيضا في سنن أبي داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. (2) تفسير القرطبي: 18/ 98، تفسير الألوسي: 28/ 100

8- الصحيح أن السعي إلى ذكر الله واجب، وذكر الله يشمل الصلاة والخطبة والمواعظ، ورأى الحنفية أنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمى خطبة عرفا، لأنه ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود، ومن غير تفصيل بين كون الذكر طويلا أو قصيرا، فكان الشرط هو الذكر مطلقا، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان كيفية الخطبة يدل على السنية أو الوجوب، ولا يصلح دليلا على أنه لا يجوز الصلاة إلا بالخطبة. ورأى العلماء الآخرون أن الخطبة واجبة، لأنها تحرّم البيع، ولولا وجوبها ما حرّمته، لأن المستحب لا يحرّم المباح. واشترط الشافعية أن يأتي الخطيب بخطبتين بشروط خاصة، بآثار وردت في ذلك. وأجمع العلماء على اشتراط العدد في صلاة الجمعة، لأنها ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع. واختلفوا في أقل عدد تنعقد به الجمعة، على أقوال كثيرة، بلغت ثلاثة عشر قولا. منها: أن يكون العدد في رأي أبي حنيفة ومحمد ثلاثة رجال سوى الإمام، ولو كانوا مسافرين أو مرضى، لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، والجماعة شرط مستقل في الجمعة، لقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ والجمعة مشتقة من الجماعة، ولا بدّ لهم من خطيب. واشترط المالكية حضور اثني عشر رجلا للصلاة والخطبة، على أن يكون العدد من أهل البلد، وأن يبقوا مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام، لأنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة الذين خرجوا للهو أو للتجارة إلا اثنا عشر رجلا. وقال الشافعية والحنابلة: تقام الجمعة بحضور أربعين فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين، لا مسافرين، لكن يجوز كون الإمام مسافرا إن زاد العدد عن الأربعين، لما روى البيهقي عن ابن مسعود أنه

صلى الله عليه وسلم جمّع بالمدينة، وكانوا أربعين رجلا. ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بأقل من أربعين، فلا تجوز بأقل منه. 9- منع الله تعالى البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها، والمراد من البيع المعاملة مطلقا، فيشمل النهي كل ما يشغل عن الصلاة من شركة وإجارة وزواج ونحوها، فهو مجاز عن ذلك كله، وخص البيع، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. أما من لا يجب عليه حضور الجمعة، فلا ينهى عن البيع والشراء ونحوهما. والأمر في قوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ للوجوب عند أكثر العلماء، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرما عند الجمهور، وذلك من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وهو مكروه تحريما عند الحنفية. والبيع صحيح منعقد لا يفسخ عند الحنفية والشافعية، لأنه لم يحرم لعينه أي ليس النهي متوجها نحو خصوص البيع، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو متوجه نحو ترك الجمعة، فكان كالصلاة في الأرض المغصوبة، والوضوء بماء مغصوب. وهو فاسد لا يصح عند الحنابلة، والصحيح المشهور عند المالكية: أنه يفسخ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها هو حرام شرعا، مفسوخ ردعا. 10- السعي إلى ذكر الله، وترك الأعمال من أجله خير للمؤمنين وأنفع من المنافع الدنيوية، فإن كانوا من أهل العلم، عرفوا أن امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة، والانتفاع بالمواعظ، خير لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيبصرهم الإمام بما فيه الخير والنجاة من الأذى، وأما في الآخرة فإنهم يفوزون برضا الله عنهم، حيث امتثلوا أوامره.

11- يباح عقب الفراغ من الصلاة الانتشار في الأرض للتجارة والتصرف في الحوائج، والابتغاء من رزق الله وفضله، لقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ كقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة 5/ 2] . وهذا أمر بعد الحظر، فهو للإباحة، فلا يطلب من الإنسان الخروج من المسجد بعد الصلاة لا وجوبا ولا ندبا. 12- نبّه الله تعالى بقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً على ذكر الله بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما أنعم به على الإنسان من التوفيق لأداء الفرائض، وفي وقت الاشتغال بالأعمال وعدم الاكتفاء بالذكر الذي حصل في صلاة الجمعة، ليتحقق الفوز بخير الدارين. قال سعيد بن المسيب: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن كان كثير التسبيح. 13- انفض الناس أثناء خطبة النبي صلى الله عليه وسلم للتجارة أصالة، وللهو والفرح بمجيء التجارة تبعا، فعاد الضمير للتجارة في قوله: إِلَيْها. 14- استدل العلماء بقوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً على مشروعية القيام أثناء الخطبة، وهو أمر متفق عليه، ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خطب إلا قائما، وكذلك الخلفاء من بعده، واستمر الأمر هكذا إلى زمن بني أمية حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة، فخطب جالسا، وأول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه، حينما كان عاجزا عن القيام. والقيام في الخطبة سنة عند الحنفية، فلو خطب الإمام قاعدا، جاز، لحصول المقصود، إلا أنه يكره لمخالفته الموروث، وهو واجب غير شرط عند المالكية، فإن جلس أتم خطبته وصحت، وشرط لا تصح إلا به عند الشافعية والحنابلة، اتباعا للسنة. وهذه أحكام في الخطبة مأخوذة من السنة «1» :

_ (1) تفسير القرطبي 18/ 114- 120

أ- تصح الجمعة بغير إذن الإمام وحضوره، لأن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما، فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه، وروي أن عليا صلّى الجمعة يوم حوصر عثمان، ولم ينقل أنه استأذنه، وروي أيضا أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة، صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان. واشترط أبو حنيفة وجود الإمام أو خليفته أو إذنه، لأن كل تجمع يتطلب الإذن بالحضور، ولأنه لا يحصل معنى الاجتماع إلا بالإذن، ولأن الجمعة من شعائر الإسلام وخصائص الدين، فلزم إقامتها بطريق الاشتهار. ب- واشترط المالكية لأداء الجمعة أن تكون في المسجد المسقّف، لقوله تعالى: طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج 22/ 26] . وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور 24/ 36] . وحقيقة البيت عرفا أن يكون ذا حيطان وسقف. وكذلك اشترط الحنفية أن تكون في مصلى المصر. ولم يشترط الشافعية والحنابلة إقامة الجمعة في مسجد، واتفق الكل على أن تكون في بلد. ج- يرى جمهور العلماء أن الخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها، لقوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً وهذا ذم، والواجب: هو الذي يذم تاركه شرعا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا بخطبة. وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة، فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر. وقال الحسن البصري وابن الماجشون: إنها سنة مستحبة، وليست بفرض. د- يخطب الخطيب متوكئا على قوس أو عصا، روى ابن ماجه في سننه عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب، خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة، خطب على عصا.

هـ- يرى جمهور العلماء أن الخطيب يسلّم إذا صعد المنبر على الناس، لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلّم. وليس السلام سنة عند مالك. والطهارة من الحدثين في الخطبة شرط عند الشافعي في الجديد، وليست شرطا عند الجمهور، فإن خطب الإمام على غير طهارة أساء عند مالك، وصحت الخطبة، ولا إعادة عليه إذا صلّى طاهرا. ز- ذهب أكثر الفقهاء إلى أن أقل ما يجزئ في الخطبة: أن يحمد الله تعالى، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من القرآن، ويجب في الثانية أربع كالأولى، إلا أن الواجب هو الدعاء بدلا من قراءة الآية في الأولى. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو اقتصر الإمام على التحميد أو التسبيح أو التكبير، أجزأه، روي عن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر، فقال: الحمد لله، وأرتجّ عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل فصلى، وكان ذلك بحضرة الصحابة، فلم ينكر عليه أحد. ح- ما يذكر في الخطبة: روى مسلم في صحيحة عن أخت عمرة بنت عبد الرحمن قالت: ما أخذت ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وروى أيضا عن يعلى بن أميّة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ.. [الزخرف 43/ 77] . وفي مراسيل أبي داود عن الزّهري قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا

عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتّبع رضوانه ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله» . وعن الزهري قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب: «كل ما هو آت قريب، ولا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخفّ لأمر الناس. ما شاء الله، لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرّب الله، ولا مقرّب لما بعّد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله جلّ وعز» . وقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب، فيقول بعد أن يحمد الله ويصلّي على أنبيائه: «أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» «1» . ط- يجب وجوب سنة السكوت للخطبة على من سمعها، والسنة أن يسكت الجميع، من سمع ومن لم يسمع، وهما إن شاء الله في الأجر سواء، ومن تكلم حينئذ لغا، ولا تفسد صلاته بذلك. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت» «2» .

_ (1) وروي ذلك أيضا عن ابن عباس (إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام: ص 194) . (2) أخرجه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.

ي- يستقبل الإمام الناس إذا صعد المنبر، اتباعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في سنن أبي داود مرسلا وسنن ابن ماجه متصلا، وعند أبي نعيم الحافظ. ك- يرى الجمهور أن من دخل المسجد والإمام يخطب ركع ركعتين، لما أخرج مسلم في صحيحة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما» . ولا يركع في رأي مالك وابن شهاب الزهري، لأن خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. ل- يكره النوم والإمام يخطب، عن سرمة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم فليتحوّل إلى مقعد صاحبه، وليتحول صاحبه إلى مقعده» «1» . م- فضل الجمعة: روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: «وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو يصلي، يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه» وأشار بيده يقلّلها «2» . وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» . 15- ما عند الله من ثواب الصلاة خير من لذة اللهو وفائدة التجارة، وكذلك ما عند الله من الرزق المقسوم للإنسان خير مما يصاب باللهو والتجارة، والله خير من رزق وأعطى، فهو الذي يقدر الأقوات وييسرها، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فما يصح لإنسان إهمال عبادة الله من أجل شيء، فإن ما يكون له سوف يأتيه، ولو على ضعفه، وما لغيره لن يناله بقوّته، ولن يفيد منه إلا الإسراع إليه، والجري وراءه. وعلى الإنسان طلب الرزق من ربه، والاستعانة بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.

_ (1) ورواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر بلفظ «إذا نعس أحدكم وهو في المسجد، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره» . (2) يقال: قلّله في عينه، أي أراه إياه قليلا. [.....]

سورة المنافقون:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المنافقون مدنيّة، وهي إحدى عشرة آية. تسميتها: سميت سورة (المنافقون) لافتتاحها بذلك، وتحدثها عن أوصاف المنافقين، ومواقفهم المعادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. مناسبتها لما قبلها: تبدو صلة هذه السورة بما قبلها بعقد مقارنة وإجراء تقابل بين المؤمنين والمنافقون، ففي سورة الجمعة ذكر المؤمنون، وفي هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون، لذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة سورة الجمعة، يحرّض بها المؤمنين، وسورة المنافقين يقرّع بها المنافقين. كما أن سورة الجمعة مشتملة على ذكر من كان يكذب ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قلبا ولسانا وهم اليهود، وتذكر هذه السورة من كان يكذبه قلبا دون اللسان ويصدقه لسانا دون القلب، وهم المنافقون. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسائر السور المدنية هو الحديث عن التشريعات والأحكام وما تمخض عنه مجتمع المدينة بعد الهجرة من بروز ظاهرة النفاق.

أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع [سورة المنافقون (63) الآيات 1 إلى 4] :

وابتدأت السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان، وحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وصدهم الناس عن دين الله. ثم ذكرت موقفهم المخزي والمستعلي وهو ادعاؤهم العزة وزعمهم بأنهم بعد العودة من غزوة بني المصطلق سيخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة. وختمت السورة بحثّ المؤمنين على التضامن والطاعة وعبادة الله، وإنفاق الأموال في سبيل الله لمواجهة الأعداء في الداخل والخارج، قبل انقضاء الأجل أو فوات الأوان، فإن الأجل لا يتأخر لحظة. أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

الإعراب:

الإعراب: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ عامل إِذا هو جاءَكَ وإنما جاز أن يعمل فيها وإن كان مضافا إليه، لأن إِذا فيها معنى الشرط، والشرط يعمل فيه ما بعده، لا ما قبله. قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.. الآية، إنما كسرت (إن) في الآية في المواضع الثلاثة، لمكان لام التأكيد في الخبر، لأنها في تقدير التقدم، فعلّقت الفعل عن العمل. خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يقرأ بضم الشين وسكونها، فمن قرأ بالضم فعلى الأصل، ومن قرأ بالسكون فعلى التخفيف، كأسد وأسد. ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما: إما موصولة في موضع رفع فاعل ساءَ. ويَعْمَلُونَ جملة فعلية صلتها، والعائد محذوف تقديره: يعملونه، فحذف الهاء تخفيفا. وإما مصدرية في موضع رفع أيضا ب ساءَ ولا عائد لها، وقيل: ما نكرة موصوفة في موضع نصب، وكانُوا يَعْمَلُونَ صفتها، والعائد إلى الموصوف من الصفة محذوف، كما هو محذوف من الصلة. البلاغة: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ تأكيد بالقسم وإنّ واللام، زيادة في التقرير، وتأكيد علمهم بهذا الخبر. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ جملة اعتراضية بنى الشرط وجوابه، لدفع توهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً استعارة، استعار لفظ جُنَّةً وهي كالترس، للتظاهر بالإسلام الذي يعصم الدم والمال. آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا بينهما طباق. كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ تشبيه مرسل مجمل. قاتَلَهُمُ اللَّهُ جملة دعائية عليهم باللعنة والهلاك. المفردات اللغوية: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إذا حضروا مجلسك، والمنافق: من يظهر الإسلام ويبطن الكفر. قالُوا بألسنتهم خلافا لما في قلوبهم. نَشْهَدُ الشهادة: إخبار عن علم من الشهود.

التفسير والبيان:

وَاللَّهُ يَشْهَدُ يعلم. إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ لأنهم لم يعتقدوا بالرسالة أصلا، فهم كاذبون فيما أضمروه خلافا لما قالوه. جُنَّةً وقاية وسترا من القتل والسبي وأخذ الأموال. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدوا بالأيمان عن الجهاد في سبيل الله. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من نفاق وصدّ. ذلِكَ أي سوء أعمالهم. آمَنُوا باللسان. ثُمَّ كَفَرُوا بالقلب، بمعنى أنهم استمروا على كفرهم به. فَطُبِعَ ختم، حتى تمرنوا على الكفر واستحكموا فيه. فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقيقة الإيمان ولا يعرفون صحته. تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها وجمالها. تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وذلاقتهم وحلاوة كلامهم. خُشُبٌ جمع خشباء: وهي الخشبة المنخور جوفها. مُسَنَّدَةٌ منصوبة مسندة إلى الجدار. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يظنون أن كل صوت واقع بهم لجبنهم وهلعهم. هُمُ الْعَدُوُّ الضمير للكل، والعدو يطلق على الجمع والمفرد. قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم وطردهم من رحمته، وأهلكهم. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق والإيمان بعد قيام البرهان. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم ينطقون بالإسلام إذا جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في الحقيقة على الضد من ذلك، فيقول: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي إذا قدم المنافقون إليك يا رسول الله مثل عبد الله بن أبي وصحبه، وحضروا مجلسك، أظهروا لك الإسلام، وقالوا: نشهد إنك لرسول الله شهادة تتطابق فيها القلوب مع الألسنة، والله يعلم أن الأمر كما قالوا، وأنك رسول الله إلى الناس كافة، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: نشهد، وفيما أخبروا عنه وهو الشهادة بالرسالة التي هي حق، لأنهم لم يكونوا يعتقدون صدق وصحة ما يقولون، ولا تطابق بين ما عليه قلوبهم مع ما أعلنته ألسنتهم، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم، وأن شهادتهم لم تكن شهادة في الحقيقة، فهم كاذبون في تسمية شهادة.

وقولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ فيه تأكيد شهادتهم، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم، مع صدق اعتقادهم، ومعنى نَشْهَدُ نعلم ونحلف. وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ جملة اعتراضية مخبرة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تصديق من الله عز وجل لما تضمنه كلامهم من الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لئلا يتوهم كون التكذيب الآتي بعدئذ موجها إلى ذلك. وقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ يراد به تكذيب دعواهم أن شهادتهم للنبي صلى الله عليه وسلم هي من صميم القلب. ثم أخبر الله تعالى عن استخدام الأيمان لإثباتهم ما يقولون، وإقناع الناس بصدقهم، فقال: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنهم جعلوا أيمانهم الكاذبة التي حلفوها وقاية وسترا لصون دمائهم من القتل، وأنفسهم من الأسر، وأموالهم من الأخذ، حتى لا تطبق عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر واغتنام المال، فاغترّ بهم من لا يعرف حقيقة أمرهم، فاعتقدوا بأنهم مسلمون، فاقتدوا بهم فيما يفعلون، مما ألحق ضررا بكثير من الناس، إذ منعوهم من الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوة، إنه لقبيح ما كانوا يفعلون من النفاق والصدّ عن سبيل الله تعالى. والآية دليل على ارتكابهم جرمين كبيرين: الحلف بالأيمان الكاذبة، والصد عن الدخول في الإسلام والجهاد في سبيل الله، مما استوجب وصف أفعالهم بالقبح. ثم أخبر الله تعالى عن أسباب موقفهم هذا، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي ذلك المذكور من الكذب والصدّ وقبح الأعمال بسبب أنهم آمنوا نفاقا، ثم كفروا

في الحقيقة والباطن، فختم على قلوبهم بسبب كفرهم، فلا يدخلها إيمان، ولا تهتدي إلى حق، ولا ينفذ إليها خير، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم، ولا يعون ولا يدركون الأدلة الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة. ثم أبان الله تعالى مدى الاغترار بمظاهرهم وصورهم الجسدية، فقال: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي وإذا نظرت إليهم تروقك هيئاتهم ومناظرهم، لما فيها من النضارة والرونق وجمال الصورة واعتدال الخلقة، وإن تكلموا حسن السماع لكلامهم، وظن أن قولهم حق وصدق، لفصاحتهم وحلاوة منطقهم وذلاقة ألسنتهم، كأنهم أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان، فهم مجرد كتل بشرية لا تفهم ولا تعلم، وقد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا، ولكنه وصحبه لا وعي ولا إدراك لديهم، لخلوهم عن الفهم النافع، والعلم الذي ينتفع به صاحبه، فهم صور بلا معان. فقوله: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يعني عبد الله بن أبي، ومغيث بن قيس، وجدّ بن قيس، كانت لهم أجسام ومنظر، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها، وكان عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي وهم مع جمال مناظرهم وجسامة أجسادهم في غاية الضعف والخور والجبن، يظنون كل صوت كلما وقع أمر، أو كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم، نازلة بهم، لفرط جبنهم، ورعب قلوبهم، وفراغهم النفسي، وإحساسهم بالهزيمة من الداخل، فهم الأعداء الألداء، فاحذر مؤامراتهم، ولا تطلعهم على شيء من أسرارك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، لعنهم الله وطردهم من رحمته وأهلكهم، كيف يصرفون عن الحق، ويميلون عنه إلى الكفر، ويتركون الهدى إلى الضلال.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية قوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ، سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب 33/ 19] . روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن الإيمان تصديق القلب، والكلام الحقيقي كلام القلب، ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب، فالمنافقون كاذبون، لأنهم يقولون غير ما يعتقدون. وهذا مستنبط من الآية الأولى المتضمنة أن المنافقين يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعترافا بالإيمان، ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهم في هذا لم يضيفوا شيئا جديدا للحقيقة، فالله يعلم أن محمدا رسول الله كما قالوا بألسنتهم، ولكنه يشهد أنهم في ضمائرهم كاذبون، وإن أظهروا الشهادة بالإسلام وبتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وحلفوا بألسنتهم. 2- لا يبالي المنافقون بالحلف كذبا، ويصدون عن الدخول في الإسلام، فقد اتخذوا بقيادة عبد الله بن أبي أيمانهم وقاية وسترا من الناس، يتقون بها تطبيق أحكام الكفرة عليهم من القتل والسبي واغتنام الأموال، فاغتر الناس بهم وظنوا أنهم مسلمون، فقلّدوهم، فأدى صنعهم هذا إلى صد الناس، من اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، ومنعهم من الجهاد بسبب تخلفهم واقتداء

غيرهم بهم، فبئست أعمالا أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله. ولكن الله تعالى بيّن أن حالهم لا يخفى عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان، أجري عليه في الظاهر حكم الإيمان. 3- قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر، لأنه أقر باللسان، ثم كفر بالقلب، والمعول عليه هو ما في القلوب. وكان من لوازم اعتصامهم بالكفر أن ختم الله على قلوبهم بالكفر، فأصبحوا لا يدركون معالم الإيمان وأدلته، ولا مفهوم الخير وطرقه، فهم على الكفر الثابت الدائم. 4- إن الحكم على الناس لا يكون بالأشكال والهيئات والمناظر، وإنما يكون بالحقائق المدركة، والأفعال الواقعة، والأقوال الصادقة. وقد كان المنافقون حسان الهيئة، فصيحي اللسان، ولكنهم أشباح بلا أرواح، وصور بلا معان. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة. أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . 5- يؤدي النفاق عادة إلى القلق والتردد، والضعف والهزيمة، والجبن والجزع والهلع، لذا كان المنافقون جبناء، يحسبون كل واقعة، كأنها نازلة بهم لجبنهم، وكأن كل أمر وقع أو خوف نازل بهم وحدهم. قال مقاتل: إذا نادى مناد في العسكر، وانفلتت دابة، أو نشدت ضالة مثلا، ظنوا أنهم يرادون بذلك، لما في قلوبهم من الرعب، ولأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.

أدلة إثبات كذب المنافقين ونفاقهم [سورة المنافقون (63) الآيات 5 إلى 8] :

6- المنافقون أعداء المؤمنين، الكاملون في العداوة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي الحذر من أقوالهم والميل لكلامهم، والحرص من تآمرهم وتخذيلهم بعض ضعفة المؤمنين، واطلاعهم على أسرار الأمة، حتى لا تتسرب إلى الأعداء. 7- لهذه الأوصاف الذميمة كلها ختمت الآيات بكلمة الذم والتوبيخ وهي قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي لعنهم وطردهم من رحمته، فكيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، وكيف تضل عقولهم عن الإيمان مع وضوح الدلائل؟! أدلة إثبات كذب المنافقين ونفاقهم [سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) الإعراب: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ هنا فعلان، أعمل الثاني منهما وهو يَسْتَغْفِرْ ولا ضمير فيه، لأن رَسُولُ اللَّهِ مرفوع به، والفعل لا يرفع فاعلين. ولو أعمل الأول وهو تَعالَوْا لقيل: تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم، وكان في يَسْتَغْفِرْ ضمير يعود إلى رَسُولُ اللَّهِ هو الفاعل. أَسْتَغْفَرْتَ استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل.

البلاغة:

لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ هذا هو المشهور، وقرئ لَيُخْرِجَنَّ بفتح الياء، وهو فعل لازم مضارع (خرج) إلا أنه نصب الْأَذَلَّ على الحال، وهو شاذ، لأن الحال لا يكون فيها الألف واللام، مثل: «مررت به المسكين» منصوب على الحال، وقولهم: ادخلوا الأول فالأول. البلاغة: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بينهما طباق السلب. مُسْتَكْبِرُونَ، الْفاسِقِينَ، لا يَفْقَهُونَ، لا يَعْلَمُونَ ... إلخ، توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ أي احضروا معتذرين يطلب لكم الرسول المغفرة. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ عطفوها وأمالوها إعراضا واستكبارا عن ذلك واستهزاء. يَصُدُّونَ يعرضون عن الاستغفار وعن القائل. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتذار. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في الكفر. الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لأصحابهم من الأنصار. لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ من المهاجرين. حَتَّى يَنْفَضُّوا يتفرقوا عنه. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خزائن الأرزاق فيهما، فبيده الأرزاق، وهو الرزاق للمهاجرين وغيرهم. لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون ذلك لجهلهم بالله، فهم لا يدركون عظمة الله وقدرته وسعته. لَئِنْ رَجَعْنا من غزوة بني المصطلق. الْأَعَزُّ أي المنافقون. الْأَذَلَّ أي المؤمنين في زعمهم. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ الغلبة والنصرة والقوة. لا يَعْلَمُونَ ذلك من فرط جهلهم وغرورهم. سبب النزول: نزول الآية (5) : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ..: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قيل لعبد الله بن أبي: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.

نزول الآية (6) :

وأخرج البخاري ومسلم، والترمذي بمعناه في بيان سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية (قديد) إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له (جهجاه) مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له (سنان) على ماء (بالمشلّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار، فلطم جهجاه سنانا، فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل- يعني محمدا صلى الله عليه وسلم- ثم قال لقومه: كفّوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم- وهو من رهط عبد الله-: أنت والله الذليل المنتقص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن، ومودّة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا، فقال عبد الله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولامني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آيات شديدة، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. نزول الآية (6) : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ..: أخرج ابن جرير عن عروة قال: لما نزلت: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة 9/ 80] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأزيدن على السبعين» ، فأنزل الله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. الآية. وأخرج عن مجاهد وقتادة مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أسمع، إني قد رخص لي فيهم، فو الله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة، لعل الله أن يغفر لهم» فنزلت.

نزول الآية (7، 8) :

نزول الآية (7، 8) : أخرج البخاري كما تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمّي، فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ فبعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها، ثم قال: «إن الله قد صدّقك» «1» . وروى الترمذي أيضا عن زيد بن أرقم: أن أعرابيا نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء، فضرب الأعرابي رأسه بخشبة فشجّه، فشكا إلى ابن أبيّ، فقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وإذا رجعنا إلى المدينة، فليخرج الأعز الأذل. عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم. المناسبة: بعد بيان قبائح خصال المنافقين وهي الكذب والأيمان الكاذبة، والصد عن سبيل الله، والجبن، وجمال الأجسام وضعف العقول، وعداوة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر تعالى أدلة تثبت كذبهم ونفاقهم من الواقع المشاهد، كإعراضهم عن الاعتذار، وتصميمهم بعد وقعة بني المصطلق (قبيلة يهود) على طرد المؤمنين من المدينة.

_ (1) وأخرجه الترمذي أيضا وقال: هذا حديث حسن صحيح.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ذكر الله تعالى أدلة كذب المنافقين وأسباب غضب الله عليهم، فقال: 1- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي وإذا قيل للمنافقين بقيادة عبد الله بن أبي: أقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لكم المغفرة من الله، أعرضوا استكبارا واستهزاء بذلك ورغبة عن الاستغفار، ورأيتهم يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مستكبرون عن الإتيان إليه وطلب الاستغفار منه، فهم أكبر من ذلك في زعمهم. والمشهور في السيرة أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وليس في غزوة تبوك كما ذكر بعضهم، لأن عبد الله بن أبي لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجل بطائفة من الجيش. قال الكلبي: لما نزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة المنافقين، مشى إليه عشائرهم من المؤمنين، وقالوا لهم: افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك، وزهدوا في الاستغفار، فنزلت «1» . وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس، مقته المسلمون، وعنّفوه، وأسمعوه المكروه، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك، فقال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه، فنزلت «2» . وعند الأكثرين من المفسرين: إنما دعي إلى الاستغفار، لأنه قال: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وقال: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 15 (2) المرجع السابق.

فقيل له: يستغفر لك رسول الله، فقال: ماذا قلت، فذلك قوله تعالى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ. ثم أبان الله تعالى أن الاستغفار لهم لا ينفعهم، فقال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي جازاهم الله على استكبارهم وإعراضهم، فأوضح أن الاستغفار لا ينفعهم لإصرارهم على النفاق، واستمرارهم على الكفر، فسواء حدث الاستغفار لهم أو لم يحدث لا يجديهم نفعا، ولن يغفر الله لهم، ما داموا على النفاق، إن الله لا يوفق الخارجين عن الطاعة، المنهمكين في معاصي الله، ومنهم المنافقون بالأولى. قال قتادة كما تقدم: نزلت هذه الآية بعد قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وذلك لأنها لما نزلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرني ربي، فلأزيدنهم على السبعين» فأنزل الله تعالى: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. 2- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي إن هؤلاء المنافقين يقولون للأنصار: لا تطعموا أصحاب محمد المهاجرين، حتى يجوعوا ويتفرقوا عنه. فرد الله عليهم بقوله: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي إن الله هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن الأرزاق بيد الله، فظنوا أن الله لا يوسّع على المؤمنين.

3- يَقُولُونَ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ أي يقول هؤلاء المنافقون، والقائل عبد الله بن أبي زعيم المنافقين: لئن عدنا من هذه الغزوة، أي غزوة بني المصطلق إلى المدينة، ليخرجن الأعز- عنى بالأعز نفسه ومن معه- منها الأذل، أراد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فنحن الأعزاء الأقوياء، وهم الأذلاء الضعفاء. وقد رجع ابن أبي إلى المدينة، فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه قميصه، فنزلت هذه الآية. فرد الله عليهم قولهم، فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي إن لله وحده القوة والغلبة، ولمن منحها من رسله وصالحي عباده المؤمنين، لا لغيرهم، ولكن المنافقين لا يدرون ذلك، لفرط جهلهم، وعدم إيمانهم، وشدة حيرتهم وقلقهم، فالله هو الذي ينصر من يشاء من عباده، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 58/ 21] . والعزة والمنعة والقوة لله، خلافا لما توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع. والعزة غير الكبر، فالعزة: الشعور بالسمو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه، والكبر: غمط الناس حقوقهم وجهل الإنسان بنفسه. روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذلّ، فقاله «1» . وإنما قال في الآية الأولى: لا يَفْقَهُونَ وهنا لا يَعْلَمُونَ ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم.

_ (1) تفسير القرطبي: 18/ 129

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- السبب الأول في غضب الله على المنافقين: إباؤهم الاعتذار من أقوالهم وأفعالهم، وإعراضهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم متكبرين عن الإيمان. 2- كل من الاستغفار للمنافقين وعدم الاستغفار سواء، فلا ينفعهم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا، لأن الله لا يغفر لهم، وإن الله لا يهدي من سبق في علمه أنه يموت فاسقا كافرا. 3- السبب الثاني: قول ابن أبي وصحبه للأنصار: لا تنفقوا على من عند محمد صلى الله عليه وسلم من أصحابه المهاجرين حتى يتفرقوا عنه. 4- رد الله على ذلك ببيان أن خزائن السموات والأرض ومفاتيح الرزق لله عز وجل، ينفق كيف يشاء، غير أن المنافقين لا يفهمون أنه تعالى إذا أراد أمرا يسره. 5- السبب الثالث: قول ابن أبي أيضا: لئن عدنا إلى المدينة من غزوة بني المصطلق ليخرجن الأعز- يعني نفسه- منها الأذل- يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه- لتوهمه أن العزة بكثرة الأموال والأتباع، فرد الله عليه بأن العزة والقوة لله وحده ولمن أفاضها عليهم من رسله وعباده الصالحين. عن بعض الصالحين وكان في هيئة رثة: ألست على الإسلام، وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر بعده. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها، فقال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا الآية: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ...

تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الخير [سورة المنافقون (63) الآيات 9 إلى 11] :

تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الخير [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) الإعراب: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، أَكُنْ: مجزوم بالعطف على موضع فَأَصَّدَّقَ لأن موضعه الجزم على جواب التمني. وقرئ وأكون بالنصب عطفا على لفظ فَأَصَّدَّقَ وهو منصوب بتقدير (أن) . البلاغة: الْخاسِرُونَ، الصَّالِحِينَ، تَعْمَلُونَ توافق الفواصل مثلما سبق، مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: لا تُلْهِكُمْ لا تشغلكم عن الصلاة وسائر العبادات المذكّرة بالمعبود، والمراد النهي عن اللهو بالأموال والأولاد، وتوجيه النهي إليها للمبالغة. ذِكْرِ اللَّهِ الصلوات الخمس والعبادات الأخرى. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ وهو اللهو أو الشغل بها. فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في تجارتهم، لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ أي أنفقوا بعض أموالكم لادخار ثوابها للآخرة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي قبل أن يرى دلائله. أَخَّرْتَنِيبمعنى هلا، وهي كلمة تفيد تمني حصول ما بعدها، وأَخَّرْتَنِي أمهلتني. أَجَلٍ قَرِيبٍ أمد غير بعيد. فَأَصَّدَّقَ أي

لمناسبة:

فأتصدق بالزكاة وغيرها. وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بتدارك الأعمال الصالحة كالحج وغيره. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ لن يمهلها. إِذا جاءَ أَجَلُها آخر عمرها. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي مطلع على كل أعمالكم، فمجازيكم عليها. لمناسبة: بعد بيان خصال المنافقين وذمهم وتوبيخهم عليها، حذر الله المؤمنين من أخلاق المنافقين، ثم أمرهم أن ينفقوا بعض أموالهم في مجالات الخير، ولا يؤخروا ذلك حتى يداهمهم الموت، فيندموا ويطلبوا إطالة العمر حتى يتداركوا ما فاتهم من خير. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي يا أيها المؤمنون المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تشغلكم الأموال وتدبيرها والأولاد والعناية بشؤونها عن القيام بذكر الله تعالى من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل وأداء فرائض الإسلام وحقوق الله تعالى. ثم حذر من المخالفة وتوعد اللاهين بالدنيا، فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي ومن يلتهي بالدنيا ومتاعها وزخارفها وزينتها، وينصرف عن الدين وطاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين، الكاملين في الخسران، الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، لأنه باع خالدا باقيا بفان زائل. ثم حث المؤمنين على الإنفاق في طاعته، فقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّ، أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي وأنفقوا بعض

فقه الحياة أو الأحكام:

ما رزقناكم في سبيل الخير، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء، ورعاية لمصلحة الأمة العامة، من قبل مجيء أسباب الموت ومشاهدة علاماته، فيقول الواحد منكم: هلا أمهلتني وأخّرت موتي إلى مدة أخرى قصيرة، فأتصدق بمالي، وأكن من الصالحين المستقيمين. وهذا يدل على أن كل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة، ولو شيئا يسيرا ليستدرك ما فاته، ولكن فات الأوان. أخرج الترمذي وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له مال يبلّغه حج بيت الله، أو تجب عليه فيه الزكاة، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت» ، فقال له رجل: يا ابن عباس: اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكافر!! فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّ، أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ.. الآية. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي لن يؤخر الله أي نفس إذا حضر أجلها، وانقضى عمرها، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها، بالإحسان إحسانا، وبالإساءة سخطا وعذابا، وبعدا عن الرحمة والرضوان. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وجوب الاشتغال بطاعة الله تعالى، كقراءة القرآن، وإدامة الذكر، وأداء الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وإتمام الحج، والقيام بجميع الفرائض. 2- عدم الاشتغال بتدبير الأموال والاهتمام بشؤون الأولاد عن أداء حقوق

الله، كما فعل المنافقون، إذ قالوا بسبب الشح بأموالهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه، فأولئك هم الخاسرون. 3- قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ.. يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا، وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها، يجب أداؤها فورا. والآية في العموم حث على الإنفاق الواجب خاصة، دون النفل، لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل، وذلك إما مطلقا، وإما في طريق الجهاد، قبل فوات الأوان ومجيء أمارات الموت حين لا تقبل التوبة، ولا ينفع العمل، فيسأل الإنسان التأخير في الأجل لتدارك ما فات. وتشمل الآية على العموم الحج عند الجمهور القائلين بأنه على الفور. ولا تشمله عند الشافعية القائلين بأنه على التراخي. 4- قال ابن عباس في آية: أَخَّرْتَنِي..: هذه الآية أشدّ على أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. واستثنى العلماء الشهيد، فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. 5- الله تعالى خبير بما يعمل العباد من خير وشر، لا تخفى عليه خافية، ويجازي كل امرئ بما عمل خيرا أو شرا.

سورة التغابن:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التغابن مدنيّة، وهي ثماني عشرة آية. تسميتها: سميت التغابن تذكيرا بيوم القيامة الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإيمان، وهو المذكور في قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ (9) . مناسبتها لما قبلها: تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- في السورة السابقة ذكر الله أوصاف المنافقين، وحذر المؤمنين من أخلاق المنافقين، وهنا حذر تعالى من صفات الكافرين: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.. وقسم الناس في الجملة قسمين: مؤمن وكافر، وبشر المؤمن بالجنة، وهدد الكافر بالنار. 2- نهى الله تعالى في السورة المتقدمة عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وفي هذه السورة ذكر أن الأموال والأولاد فتنة: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وهذا كالتعليل لما سبق. 3- أمر الله في آخر سورة (المنافقون) السالفة بالإنفاق في سبيل الله: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ.. كذلك أمر بالإنفاق في أواخر هذه السورة:

ما اشتملت عليه السورة:

وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ.. كما أن سورة التغابن تدل على أنه يغبن الناس في يوم القيامة بعضهم بعضا بترك الإيمان والعمل الصالح والإنفاق في سبيل الله. ويلاحظ الترتيب بين السور الست التالية، فإنها اشتملت على أصناف الأمم، فسورة الحشر: في ذكر المعاهدين من أهل الكتاب، فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا، وسورة الممتحنة: في ذكر المعاهدين من المشركين، وسورة الصف: ذكر فيها أهل الكتاب: اليهود والنصارى، والمؤمنون، وكذلك سورة الجمعة: ذكر فيها اليهود وأهل الإيمان، وسورة (المنافقون) : في أهل النفاق، وسورة التغابن: ذكر فيها المشركون والكفار بنحو عام. وبه يتبين أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر (وهي الحشر والصف والجمعة والتغابن) جاء لحكمة دقيقة هي الكلام الشامل عن هذه الأمم. ما اشتملت عليه السورة: سورة التغابن من السور المدنية التي عنيت خلافا للمعتاد بأمور متعلقة بالعقائد. ابتدأت ببيان بعض صفات الله الحسنى المتصلة بجلال الله وقدرته وعلمه وخلقه الإنسان الذي يؤول أمره إلى أحد قسمين: مؤمن وكافر. ثم أنذرت الكفار بما حل بالأمم الماضية التي كذبت الرسل بسبب بشريتهم، وإنكارهم البعث، والرد عليهم بقسم الله بوقوعه وأنه حق، وبجزائه على الأعمال. ودعت بعدئذ إلى الإيمان بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن النور الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهددت بما يلقاه الناس يوم القيامة يوم يغبن فيه الكافر بتركه الإيمان، ويغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ويدخل المؤمنون الذين

مظاهر قدرة الله تعالى [سورة التغابن (64) الآيات 1 إلى 4] :

يعملون الصالحات الجنان، ويدخل الكافرون النيران، وفي ذلك أمر بالطاعة وتحذير من المعصية. ثم أبانت أن كل ما يحدث في الكون بإرادة الله ومشيئته، وأكدت الأمر بطاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم والتوكل على الله وحده، فإن أعرضوا فلا يضير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقاءهم على الكفر. ثم حذرت من عداوة بعض الأزواج والأولاد الذين يمنعون الإنسان أحيانا عن الجهاد، وأوصت بالعفو والصفح عن المسيء، وأخبرت بأن الأموال والأولاد فتنة واختبار. وختمت السورة بالأمر بالتقوى والإنفاق في سبيل الله لإعلاء دينه، وحذرت من الشح والبخل، وأبانت مضاعفة الثواب للمحسنين المنفقين من أجل إعلاء كلمة الله تعالى. مظاهر قدرة الله تعالى [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)

البلاغة:

البلاغة: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بينهما طباق، وكذا بين قوله: يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ. لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر والاختصاص من حيث الحقيقة، أي له وحده الملك والحمد. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بينهما جناس ناقص، لاختلاف الحركات والشكل. يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ينزهه ويمجّده ويدل عليه جميع المخلوقات في السموات والأرض، بدلالتها على كماله واستغنائه، واللام زائدة، وعبر ب ما دون (من) تغليبا للأكثر. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أن قدرته في إيجاد جميع المخلوقات على سواء. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال الشوكاني: خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، والكافر يكفر ويختار الكفر، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان، والكل بإذن الله، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مبصر أعمالكم عالم بها، فيعاملكم بما يناسب أعمالكم. بِالْحَقِّ بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعل الأرض مقر المكلفين ليعلموا فيجازيهم وسخر السموات لهم. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي جعل أشكالكم الآدمية بأحسن صورة، أي أتقنها وأحكمها، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات كما قال تعالى: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين 95/ 4] فالتصوير: تخطيط وتشكيل وتمييز وتخصيص. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ إليه المرجع فأحسنوا السرائر والظواهر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ عليم بحديث النفس وخطرات القلب، والسر، فلا يخفى عليه شيء كليا أو جزئيا، وعلمه بجميع الأشياء على سواء. قال البيضاوي: وتقديم تقرير القدرة: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ على العلم: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا وبالذات، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء. التفسير والبيان: هذه السورة هي آخر المسبحات، قال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلى

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ينزه الله عن كل نقص وعيب، ويمجده، ويدل عليه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه، فهو بارئها ومالكها، له الملك وحده دون غيره، لأنه الخالق المصور المتصرف في جميع الكائنات، وله الحمد والشكر وحده، لأنه المستحق لذاك، وهو المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره، فالملك والحمد يختصان به، ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه، وهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في السموات والأرض، فمهما أراد كان، وما لم يشأ لم يكن. والتسبيح إما باللسان والنطق كما يفعل الإنسان، وإما بنطق وحال لا نفقهه، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] . ثم ذكر الله تعالى بعض آثار قدرته، فقال: 1- خلق الإنسان: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الله هو الذي أوجدكم على هذه الصفة، وآل أمركم أن يكون بعضكم كافرا باختياره وكسبه على خلاف مقتضى فطرت، وبعضكم مؤمنا مختارا للإيمان على وفق الفطرة السوية القائمة على التوحيد والإيمان بالله، والله العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل واحد منكم، الشهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء. ونظير الآية قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد 57/ 26] . أخرج أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .

فقه الحياة أو الأحكام:

2- خلق العالم كله بالحكمة البالغة: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي أوجد السموات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة لنفع العالم في الدين والدنيا، وخلقكم أيها البشر في أكمل صورة، وأحسن تقويم، وأجمل شكل، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار 82/ 6- 8] وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً، وَالسَّماءَ بِناءً، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ [غافر 40/ 64] وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين 95/ 4] . وإليه في عالم الآخرة المرجع والمآب، فيجازي كل نفس بما كسبت. 3- العلم الشامل: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي يعلم الله جميع ما في السموات والأرض، فلا تخفى عليه من ذلك خافية، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه، والله محيط علمه بما يضمره كل إنسان في نفسه من الأسرار والمعتقدات. ويلاحظ أنه تعالى عطف الخاص على العام في قوله: وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ثم عطف ما هو أخص من الخاص وهو حديث النفس الذي لا يعبر عنه الإنسان بكلام أو إشارة أو بيان ما. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- ينزه الله ويمجده جميع مخلوقاته في السموات والأرض لدلالتها على كماله واستغنائه، وهو تنزيه وتسبيح دائم متجدد شامل كل جزء من أجزاء العالم. وهذا بخلاف قوله تعالى في موضع آخر: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

إنكار المشركين الألوهية والنبوة والبعث [سورة التغابن (64) الآيات 5 إلى 7] :

الْأَرْضِ [الحشر 59/ 1] وقوله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحديد 57/ 1] فهما للدلالة على التسبيح في الجملة على سبيل المبالغة. 2- الله تعالى هو خالق الإنسان وبارئه، ويعلم حال كل واحد في علمه الأزلي قبل وجوده من إيمان وكفر، أخرج البخاري والترمذي من حديث ابن مسعود: وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها» قال العلماء: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر. 3- خلق الله العالم كله سماءه وأرضه بالعدل والحكمة البالغة، وحقا يقينا لا ريب فيه، وخلق الإنسان في أحسن شكل وصورة وتقويم، وإليه في الحياة الآخرة المرجع، فيجازي كلّا بعمله. 4- الله سبحانه عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم السرائر والظواهر، ويعلم ما في الضمائر والقلوب. إنكار المشركين الألوهية والنبوة والبعث [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 7] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)

الإعراب:

الإعراب: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا بَشَرٌ مبتدأ، وإنما قال: يَهْدُونَنا الذي هو الخبر لأنه كنى به عن بَشَرٌ، وبَشَرٌ يصلح للجمع كما يصلح للواحد، والمراد به هنا الجمع، مثل قوله تعالى: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس 36/ 15] . ولو أراد الواحد لقال: «يهدينا» كما في آية: فَقالُوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر 54/ 24] . زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا زَعَمَ: فعل يتعدى إلى مفعولين، وجملة: أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا سدت مسد المفعولين، لما فيها من ذكر الحديث والمحدث عنه، كقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت 29/ 2] . وأَنْ: مخففة من (أنّ) واسمها محذوف، أي أنهم. المفردات اللغوية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ أيها الكفار، والاستفهام للتعجيب من أمرهم. نَبَأُ خبر مهم. الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام. فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ عقوبة وضرر كفرهم في الدنيا أو عاقبته، وأصل الوبال: الثقل، ومنه طعام وبيل، أي ثقيل على المعدة، والوابل: المطر الثقيل، ثم أطلق على الضرر الذي يصيب الإنسان، لأنه يثقل عليه، وأَمْرِهِمْ كفرهم، إشارة إلى أنه أمر عظيم خطير. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي لهم في الآخرة عذاب مؤلم. ذلِكَ أي المذكور من الوبال وعذاب الدنيا. بِأَنَّهُ أي بسبب أنه، والهاء: ضمير الشأن، أي بسبب أن الشأن. بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والحجج الظاهرات على الإيمان. أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا المراد به جنس البشر، أنكروا وتعجبوا أن يكون الرسول بشرا، والبشر: يطلق على الواحد والجمع. فَكَفَرُوا بالرسل. وَتَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان والتدبر في البينات. وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أظهر غناه عن كل شيء، ومنه طاعتهم وإيمانهم إذ أهلكهم. وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن خلقه وعن عبادتهم وغيرها. حَمِيدٌ محمود في أفعاله ويحمده كل مخلوق. بَلى أي تبعثون وهي كلمة جواب تقع بعد النفي للإثبات. وَرَبِّي قسم، أكد به الجواب. لَتُبْعَثُنَّ لتخرجن من قبوركم أحياء وتحاسبن وتجزون بأعمالكم. ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ لتخبرن بأعمالكم بالمحاسبة والجزاء. وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لقدرته التامة وقبول المادة ما أراد. المناسبة: بعد بيان أدلة وجود الله تعالى وقدرته وآثاره في الكون، حذر مشركي مكة من الكفر وإنكار الألوهية: الَّذِينَ كَفَرُوا وإنكار النبوة: أَبَشَرٌ

التفسير والبيان:

يَهْدُونَنا وإنكار البعث: أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا وأبان عقوبتهم في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة، وأثبت أن البعث حق كائن لا ريب فيه، وأن كل إنسان سيجازى بما فعل يوم القيامة. التفسير والبيان: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ألم يبلغكم يا كفار مكة خبر كفار الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود، وما حل بهم من العذاب والنكال بسبب مخالفة الرسل والتكذيب بالحق، فقد دعتهم رسلهم إلى توحيد الله وعبادته وترك الأوثان التي اتخذوها أربابا من دون الله، فأصابهم عاقبة كفرهم وتكذيبهم ورديء أفعالهم من عذاب الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم جدا وهو عذاب النار. وهذا تعجيب من حالهم الغريبة. ثم بيّن الله تعالى أسباب عقابهم الدنيوي والأخروي، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي ذلك العذاب في الدارين بسبب أنه كانت تجيئهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة، والأدلة والبراهين الواضحة، فقال كل قوم لرسولهم: كيف يتصور أن يهدينا البشر، أو من كان من جنس البشر؟ أي إنهم استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي البشر مثلهم، فكفروا بالرسل وما جاؤوا به، وأعرضوا عنهم وعن الحق وعن العمل به، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به، واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم، إذ أهلكهم، والله غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال أو الحال.

ثم أخبر الله تعالى عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون، فقال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا أي ادعى المشركين أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، كما قال في آية أخرى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون 23/ 82] . وفي هذا تقريع لكفار مكة، لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه. جاء في الحديث: «زعموا: مطية الكذب» . فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي قل أيها الرسول لهم وأخبرهم بأنكم والله ستبعثون وتخرجون من قبوركم أحياء، ولتخبرنّ بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به، وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على الله تعالى، لا يصرفه صارف. وقوله: بَلى إثبات لما بعد أَنْ وهو البعث. وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده، الأولى منها قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ: إِي وَرَبِّي، إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس 10/ 53] والثانية منها قوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ 34/ 3] والثالثة هذه الآية. ونظير الآية: قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس 36/ 78- 79] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- حذر الله المشركين في مكة وغيرها من تماديهم في الكفر بأن يعاقبوا مثل عقوبات كفار الأمم الخالية كقوم نوح وهود وصالح التي عوقبوا بها في الدنيا، وتنتظرهم في الآخرة. 2- إن أسباب تعذيب الكفار في الماضي: هي كفرهم بالله وجحودهم بآياته، وتكذيب رسلهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات والدلائل الواضحة، وإنكارهم البعث والحساب والجزاء. وكان كفرهم برسلهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول من البشر، واستصغروه، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده، كما لم يعلموا أن الله تعالى مستغن بسلطانه عن طاعة عباده. 3- أمر الله نبيه بأن يقسم بربه للمشركين على أن البعث حق كائن، لا محالة، فلا بد من أن يخرجوا من قبورهم أحياء، وعلى أنهم سيخبرون بما عملوا، وأن البعث والجزاء يسير على الله، إذ الإعادة أسهل من الابتداء. المطالبة بالإيمان والتحذير من أهوال القيامة [سورة التغابن (64) : الآيات 8 الى 10] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

الإعراب:

الإعراب: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يَوْمَ ظرف متعلق بقوله: لَتُبْعَثُنَّ أو لَتُنَبَّؤُنَّ وتقديره: لتبعثن أو لتنبؤون يوم يجمعكم ليوم الجمع. ويَجْمَعُكُمْ بالرفع وهي القراءة المشهورة، وقرئ يجمعكم بسكون العين لكثرة توالي الحركات، كما قرئ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ بسكون الميم [الإنسان 76/ 9] . البلاغة: وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا استعارة، أطلق النور على القرآن بطريق الاستعارة، فإن القرآن ينير الظلمات ويبدد الشبهات. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً.. ووَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ... مقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين. يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ بينهما جناس اشتقاق. يَوْمُ التَّغابُنِ استعارة، فقد أطلق التغابن على ما يكون يوم القيامة من مبادلة الخير بالشر، وهو يشبه المبادلة والمعاوضة والتجارة. المفردات اللغوية: وَرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم. وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا أي القرآن، فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه، مبين شارح لما تضمنه من عقيدة وتشريع وأحكام. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مجاز عليه. يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ أي اذكر يوم جمعكم وحشركم. لِيَوْمِ الْجَمْعِ هو يوم القيامة الذي تجمع فيه الخلائق كلها من ملائكة وإنس وجن، لأجل ما فيه من الحساب والجزاء، سمي يوم القيامة بيوم الجمع، لأن الله يجمع فيه جميع المخلوقات في صعيد واحد. يَوْمُ التَّغابُنِ يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، مستعار من تغابن التجار بأن يبيع البائع بأقل من القيمة، أو يشتري المشتري بأكثر من الثمن. وتغابن الآخرة، هو التغابن في الحقيقة، لا في أمور الدنيا، لعظم أمور الآخرة ودوامها، وفسر بعض المعاصرين يوم التغابن بأنه يوم الذهول. وفيه تهكم بالأشقياء، جاء في الحديث الذي رواه أحمد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار، لو أساء، ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة، لو أحسن، ليزداد حسرة» . وَيَعْمَلْ صالِحاً أي ويعمل عملا صالحا. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي مجموع الأمرين من تكفير السيئات ودخول الجنات مع الخلود الأبدي، لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا القرآن، الذي تدل آياته على البعث.

المناسبة:

ويلاحظ أن الآيتين معا: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا.. بيان للتغابن وتفصيل له، كما ذكر البيضاوي. المناسبة: بعد بيان أدلة التوحيد والألوهية والنبوة، والرد على منكري البعث، وإيضاح ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، لكفرهم بالله وتكذيب الرسل، طالب الله تعالى بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبآي القرآن وبالبعث، علما بأن الاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان، ثم حذر من الحساب والجزاء في الآخرة، وأبان مظاهر التغابن فيه، وفصله تفصيلا تاما. التفسير والبيان: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي إذا كان أمر البعث هيّنا يسيرا على الله لا يصرفه صارف، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه المنير الهادي إلى السعادة، والمنقذ من ظلمة الضلالة، فهو نور يهتدى به إذا أشكلت الأمور، والله عالم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك خيرا أو شرا. وفي هذا وعيد على كل ما يؤتى من المعاصي، أو يترك من الفرائض والواجبات. ووصف القرآن بأنه نور، لأنه يهتدى به في الشبهات، كما يهتدى بالنور في الظلمات. يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أي واذكروا يوم القيامة الذي يجمع الله فيه أهل المحشر من الأولين والآخرين في صعيد واحد للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله، وبين كل نبي وأمته، كما قال تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود 11/ 103] . وقال سبحانه: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ، إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة 56/ 49- 50] . ذلك اليوم وهو يوم القيامة يوم التغابن الذي يظهر فيه غبن الكافر بتركه

الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، فكل من الفريقين تظهر له الخسارة الفادحة، فكأن أهل النار استبدلوا بالخير الشر، وبالجيد الرديء وبالنعيم العذاب، وأهل الجنة على العكس مما ذكر، ومع ذلك يشعرون بالنقص والخسارة، إذا لم يقدموا عملا صالحا أكثر مما قدموا، فالمغبون: من غبن أهله ومنازله في الجنة، جاء في الحديث الصحيح المتقدم الذي رواه أحمد: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزدادا شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ليزداد حسرة» . وأصل التغابن: مأخوذ من الغبن: وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته، في عقود المعاوضات، وبما أنه لا معاوضة في الآخرة، فيكون إطلاق التغابن على العمل المقدم في الدنيا وجزائه في الآخرة، من قبيل الاستعارة، للدلالة على النقص على البائع. والخلاصة: أن يوم القيامة يوم التغابن الجائز، فيه يغبن بعض أهل المحشر بعضا، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الجنة يغبنون أهل النار. ثم فصل الله تعالى التغابن وبيّنه، فقال: 1- وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ومن يصدق بالله تصديقا صحيحا ويصدق بما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض والطاعات، واجتناب المنهيات، يمح الله سيئاته وذنوبه، ويدخله الجنات التي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، وذلك التكفير للسيئات وإدخال الجنات هو الظفر الذي لا يساويه ظفر، ولا ظفر قبله ولا بعده، لإحراز أفضل الثمرات والنتائج. وإنما قال: خالِدِينَ فِيها بلفظ الجمع بعد قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بلفظ الواحد، لأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.

فقه الحياة أو الأحكام:

2- وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، خالِدِينَ فِيها، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي والذين جحدوا وحدانية الله تعالى وقدرته، وكذبوا بآياته المنزلة على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها الآيات الدالة على البعث، أولئك أصحاب النار، خالدين فيها على الدوام، وبئس المرجع مرجعهم، وبئست النار مثوى لهم. والآيتان دليل على حال السعداء وحال الأشقياء، لبيان ما تقدم من التغابن. وقد عبر الله تعالى عن أهل الإيمان بقوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بلفظ المستقبل، وفي الكفر بقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بلفظ الماضي، لأن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا، يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- بعد الإخبار بقيام الساعة، أمر الله عباده بالإيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن المنزل عليه، لئلا ينزل بهم من العقوبة ما نزل بالأمم الخالية لكفرهم بالله وتكذيب الرسل، وأكد تعالى الأمر بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم بما تسرون وما تعلنون، فراقبوه وخافوه في الحالين معا. 2- ثم أكد الله تعالى هذا الأمر بالتحذير من مخاوف القيامة وأهوالها، ومن شدة الحساب والجزاء، فذكر أنه سيجمع يوم القيامة جميع أهل السموات وأهل الأرض، فهو يوم الجمع والحشر، ويوم التغابن، لأن الكافرين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم، وأما المؤمنون فقد دلهم ربهم على التجارة الرابحة وهي الإيمان والجهاد، فباعوا أنفسهم بالجنة، فخسرت صفقة الكفار، وربحت صفقة المؤمنين. فيكون المعنى: ذلك يوم

التغابن الجائز مطلقا. قال مقاتل بن حيان: لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويذهب بأولئك إلى النار. 3- قال ابن العربي: استدل علماؤنا بقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية، لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة، فقال: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود، إذا زاد على الثلث. وهو الغبن الفاحش، وهو من الخداع المحرّم شرعا في كل ملة. أما الغبن اليسير: فلا يمكن الاحتراز منه لأحد، فلا ينقض به البيع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا، لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه، فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير: هو الثلث، وقدّر علماؤنا الثلث بهذا الحد، إذ رأوه في الوصية وغيرها «1» . 4- إن جزاء المؤمنين: دخول الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار، مع الخلود الأبدي فيها، وهو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده، لاشتماله على النجاة من المخاطر والأهوال. 5- إن جزاء الكافرين بالله وبالقرآن: دخول النيران، مع الخلود فيها على الدوام، وبئس المصير نار جهنم. وهذا الجزاء المقرر للفريقين هو تفسير التغابن المذكور آنفا.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1804، تفسير القرطبي: 18/ 138

كل شيء بقضاء وقدر [سورة التغابن (64) الآيات 11 إلى 13] :

كل شيء بقضاء وقدر [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) البلاغة: ما أَصابَ مُصِيبَةٍ بينهما جناس الاشتقاق. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إطناب بتكرر الفعل: أَطِيعُوا زيادة في التأكيد. المفردات اللغوية: مُصِيبَةٍ كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر. بِإِذْنِ اللَّهِ بتقديره وإرادته ومشيئته. يَهْدِ قَلْبَهُ يشرح صدره للخير والطاعة، والثبات على الإيمان، والصبر على المصيبة والرضا بها. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ حتى بالقلوب وأحوالها. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم. الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ البين الواضح. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ليفوضوا أمرهم إلى الله، لإيمانهم بأن كل شيء منه. المناسبة: بعد بيان كون الناس قسمين: مؤمن وكافر، ثم الأمر بالإيمان والعمل الصالح، والنهي عن الكفر والتنفير فيه، أبان الله تعالى أن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فهو بقضاء الله وقدره على وفق السنن الكونية المدبرة والمرتبة بإرادة الله، ثم أمر تعالى بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتوكل على الله وحده.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فهو بقضاء الله وقدره. قيل: إن سبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا، لصانهم الله عن المصائب في الدنيا. فما على الإنسان إلا السعي والعمل لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه، ثم التوكل على الله بعدئذ، فإن تحقيق النتائج يكون بقضاء الله وقدره. ونظير الآية قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد 57/ 22] . وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي ومن يصدق بالله، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة هو بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، يهد قلبه ويشرح صدره عند المصيبة، والله واسع العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو عليم بالقلوب وأحوالها. قال ابن عباس: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وفي الحديث المتفق عليه: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» . ثم أمر الله بطاعته: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي واشتغلوا بطاعة الله فيما شرع وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلّغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر، فإن أعرضتم عن الطاعة ونكلتم عن العمل، فإثمكم على أنفسكم، وليس على الرسول صلى الله عليه وسلم من بأس، إذ

فقه الحياة أو الأحكام:

وظيفته التبليغ البيّن الواضح، وعليكم ما حمّلتم من السمع والطاعة. قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغة، وعلينا التسليم. ثم أمر تعالى بالتوكل عليه: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي إن الله هو الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وهو المستحق للعبودية دون غيره، فوحدوا الله وأخلصوا العمل لديه، ولا تشركوا به شيئا، وفوضوا أموركم إليه، واعتمدوا عليه، لا على غيره، كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل 73/ 9] . وهذا إرشاد للعباد في وجوب الاعتماد على الله، والتوكل عليه، وطلب العون الدائم منه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى المبادئ التالية في العقيدة والتشريع: 1- وجوب الرضا بالقضاء والقدر، فإن كل ما يحدث في الكون، وكل ما يصيب الإنسان من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، هو بعلم الله وقضائه. 2- من يصدّق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله، يهد قلبه للصبر والرضا والثبات على الإيمان، فهو إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإذا ظلم غفر، والله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلّم لأمره، ولا كراهة من كرهه. وليست المصائب في الدنيا دليلا على عدم الرضا، وليس النجاح فيها دليلا على الرضا.

التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال والأمر بالتقوى والإنفاق [سورة التغابن (64) الآيات 14 إلى 18] :

3- على المؤمنين تهوين المصائب على أنفسهم، والاشتغال بطاعة الله تعالى، والعمل بكتابه، وإطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل بسنته، فإن تولوا عن الطاعة، فليس على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ. 4- على الناس قاطبة توحيد الله وعبادته وحده، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه، ولا خالق غيره، وعليهم التوكل على الله، وحسن الظن بالله، والاعتماد عليه بعد تعاطي الأسباب، والقيام بما يقتضيه الواجب من السعي والعمل في الحياة. التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال والأمر بالتقوى والإنفاق [سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الإعراب: وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ خَيْراً إما منصوب ب أَنْفِقُوا ويراد به هنا المال، أو منصوب بفعل مقدر دل عليه. أَنْفِقُوا أي وآتوا خيرا، أو وصف لمصدر محذوف، أي وأنفقوا إنفاقا خيرا، أو خبر كان مقدرة، أي وأنفقوا وكان الإنفاق خيرا..

البلاغة:

البلاغة: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ استعارة تمثيلية، شبه الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء بمن يقرض الله قرضا واجب الوفاء بطريق التمثيل، سماه قرضا من حيث التزام الله بثوابه. وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل. رَحِيمٌ ظِيمٌ حَلِيمٌ الْحَكِيمُ سجع مرصع لتوافق الفواصل. المفردات اللغوية: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يشغلكم عن طاعة الله والتخلف عن الخير، كالجهاد. وَإِنْ تَعْفُوا عنهم في التثبيط عن الخير وعن ذنوبهم، بترك المعاقبة. وَتَصْفَحُوا بالإعراض وترك اللوم. وَتَغْفِرُوا بالتجاوز عما فعلوا والتمهيد للمعذرة. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم. ْنَةٌ اختبار لكم بمعرفة مدى شغلها لكم عن أمور الآخرة. اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. وَاسْمَعُوا مواعظه. وَأَطِيعُوا أوامره. وَأَنْفِقُوا في وجوه الخير والطاعة لوجهه الكريم. خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي افعلوا ما هو خير، وهو خبر «يكن» مقدرة، جوابا للأمر. وَمَنْ يُوقَ يحفظ نفسه. شُحَّ الشح: البخل مع الحرص. الْمُفْلِحُونَ الفائزون. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ بصرف المال فيما أمر. قَرْضاً حَسَناً هو التصدق من الحلال، مقرونا بالإخلاص وطيب النفس. يُضاعِفْهُ لَكُمْ يزيد الثواب من عشرة أضعاف إلى سبع مائة ضعف وأكثر، وقرئ: يضعفه بالتشديد. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الإنفاق. وَاللَّهُ شَكُورٌ- يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل. حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة على المعصية. عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الأنظار ويشمل السر. وَالشَّهادَةِ ما يشاهد بالحس، ويشمل العلانية، فلا يخفى عليه شيء. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تام القدرة والعلم فهو القوي في ملكه، الحكيم المتقن في صنعه وتدبيره.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (14) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ: أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ في قوم من أهل مكة، أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد فقهوا، فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله: إِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا الآية. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ.. نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه، ووقفوا، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرقّ ويقيم، فنزلت هذه الآية، وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وفي رواية عن ابن عباس قال: كان الرجل يريد الهجرة، فتحبسه امرأته، فيقول: أما والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ، فجمع الله بينهم في دار الهجرة، فأنزل الله هذه الآية: سبب نزول الآية (16) : فَاتَّقُوا اللَّهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. المناسبة: بعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، حذر تعالى من الأزواج

التفسير والبيان:

والأولاد الذين يثبطون عن الطاعة، شأن أكثر ميل الناس عن الطاعات، ثم أبان أن الأموال والأولاد فتنة، فينبغي الحذر، ثم أمر تعالى بالتقوى والإنفاق في سبيل الله، مبينا مضاعفة الثواب للمنفقين ومغفرته لهم. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ، فَاحْذَرُوهُمْ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إن بعض أزواجكم وأولادكم أعداء لكم، عداوة أخروية، يشغلونكم عن الخير والأعمال الصالحة التي تنفع في الآخرة، فكونوا منهم على حذر، واحذروا أن تؤثروا حبهم وشفقكم عليهم على طاعة الله تعالى. وقد عرفنا سبب النزول: أن رجالا من مكة أسلموا، وأرادوا أن يهاجروا، فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم، فلا يطيعوهم. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يأتي زمان على أمتي، يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده، يعيّرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء، فيهلك» «1» . ثم أمر الله تعالى العفو والصفح عنهم، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بترك اللوم والتثريب عليها، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها، فالله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، يعامل الناس بأحسن مما عملوا. ثم زاد الله تعالى الأمر بيانا، فقال:

_ (1) تفسير الألوسي: 28/ 126

َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي الأموال والأولاد بلاء واختبار ومحنة، وربما يحملونكم على كسب الحرام، ومنع حق الله، وارتكاب المعاصي والآثام، والله عنده الثواب الجليل لمن آثر طاعة الله تعالى، وترك معصيته في محبة ماله وولده. أخرج أحمد والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال» . وأخرج أحمد وأبو بكر البزار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد ثمرة القلوب، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» . وأخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزا لك، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن الذي لعله عدو لك: ولدك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك» . ثم أمر الله بالتقوى والطاعة والنفقة، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي فالزموا أوامر الله واجتنبوا نواهيه قدر جهدكم وطاقتكم، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» . واسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا أوامر الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وأنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير، ولا تبخلوا بها، فإن الإنفاق في مصالح الأمة والدين خير وسعادة لأنفسكم من الأموال والأولاد، وهو خير لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في الدنيا والآخرة.

وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من وقاه الله وحفظه من داء الشح والبخل، فأنفق في سبيل الله ووجوه الخير، فأولئك هم الظافرون بما يرجون، الفائزون بما يطلبون. ثم أكد الله تعالى الحث على الإنفاق قائلا: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ أي إن تصرفوا بعض أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس، يضاعف الله لكم الثواب، فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم، والله يجزي على القليل الكثير، يصفح ويغفر ويستر الذنوب والزلات والخطايا، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة. وفي الآية إيماء إلى أن الشقي من لا يقدم لنفسه شيئا يستقرضه منه رازقه، مع شدة حاجته إليه بعد مماته. ونظير الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.. [البقرة 2/ 245] . وأخرج الحاكم وصححه وابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: استقرضت عبدي، فأبى أن يقرضني، ويشتمني عبدي، وهو لا يدري، يقول: وا دهراه، وأنا الدهر، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية: إِنْ تُقْرِضُوا ... ثم رغب الله تعالى في النفقة ترغيبا زائدا، فقال: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الله سبحانه بالغ العلم بما غاب عنكم وما حضر، الغالب القاهر، ذو الحكمة الباهرة، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- حذر الله تعالى كل إنسان من ضرر الأزواج والأولاد وأنذر من عداوتهم، إما ضررا دينيا أخرويا، وإما ضررا بدنيا متعلقا بالدنيا وضرر الدين: عدم الطاعة لأوامر الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وترك الهجرة التي كانت مفروضة في العهد الإسلامي الأول، وترك الإنفاق في سبيل الله أي الجهاد. وضرر الدنيا كارتكاب معصية إرضاء لهم، مثل السرقة للإنفاق، أو هجر الضرّة مثلا أو قطيعة جار أو صديق أو قريب. وهذه العداوة لا تكون عادة إلا بسبب الكفر والنهي عن الإيمان، ولا تكون بين المؤمنين، فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لهم. وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا أزواجهم وآباءهم عن الهجرة في الماضي نزل قوله تعالى كما تقدم: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ . قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تطيعوهم في معصية الله تعالى. وفتنة، أي بلاء وشغل عن الآخرة. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. لكن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم. 2- ليس الأزواج والأولاد أعداء بالذات، وإنما أعداء بأفعالهم، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا. جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان، فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة» .

وقعود الشيطان إما بالوسوسة وإما بحمله على ما يريد الزوج والولد والصاحب، قال تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [فصلت 41/ 25] . 3- إن العفو والصفح ومغفرة الزلات والخطايا أفضل من الانتقام والعقاب، وإن الله غفور للسيئات رحيم بالعباد، فلا يعجل بالعقوبة، ويجازيكم خيرا حال العفو والصفح. 4- إن الأموال والأولاد فتنة، أي بلاء واختبار يحمل على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى، فلا طاعة لهم في معصية الله، ورد في الحديث: «يؤتى برجل يوم القيامة، فيقال: أكل عياله حسناته» «1» . 5- عند الله الأجر العظيم وهو الجنة، فهي الغاية، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين، وهذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. جاء في الصحيحين- واللفظ للبخاري- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا ربّ، وأيّ شيء أفضل من ذلك، فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» . 6- تكون تقوى الله أي التزام أوامره واجتناب نواهيه بقدر الطاقة، للآية هنا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقوله في آية أخرى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] . ورأى جماعة مثل قتادة أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:

_ (1) تفسير الألوسي: 28/ 127

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران 3/ 102] . ورأى آخرون: ألا تعارض بين الآيتين، لأن قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون، لأنه فوق الطاقة والاستطاعة. ورأى كثير من المفسرين مثل مجاهد أن المراد بآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ: أن يطاع سبحانه فلا يعصى. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك، كما تقدم. 7- أمر الله بالسمع والطاعة، أي سماع ما يوعظ به المؤمنون، وإطاعة ما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه. 8- أمر الله أيضا بالإنفاق من الأموال في حق الله كالزكاة والصدقة النفل والنفقة في الجهاد، ونفقة الرجل لنفسه وعياله، فالآية عامة. ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: عندي دينار؟ قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على عيالك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به» فبدأ بالنفس والأهل والولد، وجعل الصدقة بعد ذلك، وهو الأصل في الشرع. والإنفاق في الحقيقة خير للنفس، لما فيه من ثواب جزيل عند الله، لذا قال سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. 9- أكد الله تعالى الحث على الإنفاق في سبيل الله، فقال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وقال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ فالله تعالى رتب على القرض الحسن المنفق بإخلاص وطيب نفس تضعيف ثواب القرض وغفران الذنوب، وأبان أنه شكور يحب المتقرّبين إلى حضرته، يجزي بالكثير على القليل، وأنه حليم لا يعجل بالعقوبة. والقرض الحسن: التصدق من

الحلال بإخلاص وطيب نفس، كما تقدم. 10- زاد الله تعالى الحث على الإنفاق تأكيدا، فقال: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الله مطلع على كل ما غاب وحضر، وهو الغالب القاهر، المحكم الصنع والتدبير، خالق الأشياء، واهب الأرزاق، وهذا دليل على كمال علم الله سبحانه وكمال قدرته.

سورة الطلاق:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الطلاق مدنية، وهي اثنتا عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الطلاق، لبيان أحكام الطلاق والعدة فيها، وافتتاحها بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... مناسبتها لما قبلها: تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين: 1- أنه قال في أواخر التغابن: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ولما كانت عداوة الأزواج قد تفضي إلى الطلاق، وعداوة الأولاد قد تؤدي إلى القسوة وترك الإنفاق عليهم، عقب ذلك بسورة فيها أحكام الطلاق والإنفاق على الأولاد وعلى المطلقات. 2- أشار الله تعالى في آخر التغابن إلى كمال علمه بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وأشار في آخر هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام الخاصة بطلاقهن، فكأنه بيّن ذلك العلم الكلي بهذه الجزئيات. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة المدنية بيان الأحكام التشريعية التي تنظم حال الأسرة أثناء قيامها وبعد انفصال الزوجين.

شرعت السورة في الكلام على أحكام الطلاق السّنّي الذي يستقبل به العدة، وأحكام العدة وإحصاء وقتها مع تقوى الله ورقابته في إعلان انقضائها. وأمرت الأزواج بعدئذ بالإمساك بالمعروف أو المفارقة بالإحسان. وأشادت في مجال العلاقات الزوجية وغيرها بتقوى الله والتوكل عليه. ثم أبانت حكم عدة المرأة اليائس من المحيض التي انقطع دمها لكبر أو مرض، وعدة الصغيرة التي لم تحض، ومدتهما واحدة وهي ثلاثة أشهر. وأردفت ذلك ببيان عدة المرأة الحامل وهي وضع الحمل. واقتضى البيان توضيح حكم النفقة والسكنى أثناء العدة، وحكم إعطاء الأجر على الرضاع، وتقدير النفقة يسارا وإعسارا، وتخلل ذلك الأمر بالتقوى منعا من الظلم وتجاوز الحدود. وختمت السورة بالتحذير من مخالفة الأحكام وتعدي حدود الله، وهددت بالعقوبة المماثلة لعقوبات الأمم الباغية التي تخطت أوامر الله، وكررت الأمر بالتقوى، وذكّرت بمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تلاوة آيات الله لإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور، وأوضحت جزاء الإيمان والعمل الصالح، ثم أوردت البرهان القاطع على قدرة الله الشاملة وعلمه الواسع بخلق السموات السبع والأرضين السبع، وتنزل وحي الله وأمره وقضائه بين السموات والأرض.

أحكام الطلاق والعدة وثمرة التقوى والتوكل [سورة الطلاق (65) الآيات 1 إلى 3] :

أحكام الطلاق والعدة وثمرة التقوى والتوكل [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) الإعراب: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بالِغُ بغير تنوين: حذف التنوين للتخفيف، وجر ما بعده بالإضافة، وقرئ بالتنوين على الأصل، لأن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال، ونصب أَمْرِهِ به. البلاغة: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ إظهار في موضع الإضمار للترهيب لا تَدْرِي.. الأصل لا يدري ففيه التفات لمزيد الاهتمام، من الغائب إلى الخطاب. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعمّ الخطاب بالحكم، فالمراد به أمته، لأنه إمام أمته، فنداؤه كندائهم. إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي إذا أردتم الطلاق، مثل قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل 16/ 98] أي فإذا أردت قراءته. فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي مستقبلات عدتهن أي وقتها، وهو الطلاق في طهر لإجماع فيه. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ اضبطوها واحفظوها وأكملوها ثلاثة قروء. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أطيعوه في أمره ونهيه، واحذروا تطويل العدة والإضرار بهن. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أي من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن. وَلا يَخْرُجْنَ لا يباح لهن الخروج من المساكن أثناء العدة حتى تنقضي. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بسبب ارتكاب فاحشة (وهي الزنى) واضحة توجب الحد، أو بالتطاول على الزوج أو أسرته، أو بالخروج قبل انقضاء العدة، فتخرج لإقامة الحد عليها، أو للتخلص من بذاءتها، أو لبيان كون خروجها فاحشة. وَتِلْكَ المذكورات. حُدُودُ اللَّهِ أي أحكامه وشرائعه. ظَلَمَ نَفْسَهُ أضرّ بها إذ عرضها للعقاب. لا تَدْرِي النفس أو أيها النبي أو المطلّق. لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً يحدث بعد الطلاق أمرا جديدا، وهو الندم على الطلاق والرغبة في المطلّقة برجعة أو استئناف عقد. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ قاربن انقضاء عدتهن. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي راجعوهن بحسن عشرة. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ اتركوهن مع إيفاء الحق واتقاء الضرار بالمراجعة، كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا لعدتها. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ يندب الإشهاد على المراجعة أو الفرقة بعدا عن الرّيبة وقطعا للنزاع، مثل قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة 2/ 282] . وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أدّوا أيها الشهود عند الحاجة الشهادة خالصة لوجه الله بلا تحريف، لا للمشهود له أو عليه. ذلِكُمْ جميع ما في الآية، أو المراد الحث على الشهادة والإقامة (الأداء) . يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصص المؤمن، لأنه المنتفع بالوعظ، والمراد تذكيره. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً طريقا للخروج من كرب الدنيا والآخرة، جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق، بوعد المحافظين على حدود الله وأحكامه. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي يفوض أموره لله. فَهُوَ حَسْبُهُ كافيه. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ منفذ حكمه ومراده وقضاءه في خلقه، يفعل ما يشاء، ويبلغ ما يريد. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ من رخاء وشدة. قَدْراً تقديرا أو مقدارا أو أجلا وميقاتا.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (1) : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ..: أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن أنس قال: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ فقيل له، راجعها فإنها صوّامة قوّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدار قطي عن ابن عمر: «أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه، ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلّقها طاهرا قبل أن يمسّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل» . وفي لفظ مسلم: «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . وفي لفظ الدارقطني: «ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسّها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله» . سبب نزول الآية (2) : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ..: أخرج الحاكم عن جابر قال: نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً في رجل من أشجع كان فقيرا، خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال له: اتق الله، واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم ، وكان العدو أصابوه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها، فقال: كلها، فنزلت. قال الذهبي: حديث منكر، له شاهد.

التفسير والبيان:

وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» . التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ: أي يا أيها الرسول والمؤمنون به إذا أردتم تطليق النساء وعزمتم عليه، فطلقوهن مستقبلات لعدتهن أو قبل وقت عدتهن. والمراد الأمر بالطلاق في طهر لم يقع فيه جماع، والنهي عن إيقاعه في الحيض، كما وردت السنة الصريحة بذلك في حديث ابن عمر المتقدم. وإنما كان النداء خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته، تكريما له صلى الله عليه وسلم، وإظهارا لجلالة منصبه، كما يقال لرئيس القوم، أو قائد الجند: يا فلان، افعلوا كذا وكذا، إظهارا لمقامه فيهم، وكونه القائد المسؤول عن التوجيه. والآية دليل على حرمة الطلاق في الحيض، وذكر الفقهاء أن الطلاق أنواع ثلاثة «1» : طلاق سني، وطلاق بدعي «2» ، وطلاق ليس بسني ولا بدعي، أما الطلاق السني: فهو الطلاق في طهر لإجماع فيه، أو أثناء حمل قد استبان. وأما

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 378 (2) سمي طلاق السنة لاتفاقه مع تقدير القرآن والسنة، وسمي طلاق البدعة للزيادة على الأقراء الثلاثة، لأنها إذا طلقت وهي حائض لم تحسب حيضتها، بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها.

الطلاق البدعي: فهو الطلاق أثناء الحيض، أو في طهر قد تم فيه الوقاع، خشية الحمل، وهو حرام لإلحاقه الضرر بالزوجة، بتطويل المدة التي تنتظرها لانتهاء العدة، لأن بقية الحيض لا تحسب من العدة عند القائلين بأن الأقراء الأطهار، وكذلك الطهر الذي بعد الحيضة التي طلقت فيها عند القائلين بأن الأقراء الحيضات، ولا بد من حيضات ثلاث كاملة. وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس. ونصت السنة على صورة الطلاق البدعي المحرم في طهر جامعها فيه، إذ ربما تحمل، ويندم الرجل على الطلاق. لكن الخلع في الحيض بعوض من المرأة ليس محرما عند كثير من الفقهاء، لأن بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص، وبرضاها بتطويل المدة، والله تعالى قال: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة 2/ 229] وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس في الخلع على مال، دون سؤال عن حال زوجته. وأما الطلاق الذي ليس بسني ولا بدعي: فهو طلاق الصغيرة والآيسة من الحيض وغير المدخول بها. والأفضل بالاتفاق كون الطلقة مرة واحدة، ويكره عند مالك الثلاث متفرقة أو مجموعة، وعند الحنفية: يكره الزيادة على الواحدة في طهر واحد، ويباح عند الشافعي الثلاث. واستدل الشافعي بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ على أن الأقراء: الأطهار، لأن اللام لام الوقت، أي فطلقوهن وقت عدتهن، ويؤيده حديث ابن عمر المتقدم الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض، كان قد طلقها قبل العدة، لا في العدة، وكان ذلك تطويلا عليها.

وتأول الحنفية والحنابلة قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أن المعنى لاستقبال عدتهن، لا في عدتهن، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة، والذي يستقبل إنما هو الحيض لا الطهر. لكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت، فيكون المعنى: فطلقوهن للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق. ثم أمر الله تعالى بضبط العدة وإحصاء وقتها، فقال: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها، لتكون عدة كاملة، وهي ثلاثة قروء تامة، والخطاب للأزواج. وضبط العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها من تحديد حق الرجعة للزوج والإشهاد عليها، ونفقة الزوجة وسكناها، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فلا تعصوه فيما أمركم، ولا تضارّوهن بتطويل العدة على المرأة، فتمتنع من الأزواج. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ أي لا تخرجوا المطلقات من بيوتهن في مدة العدة، فلكل امرأة معتدة حق السكنى على الزوج، ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج، فليس للمعتدات الزوجات الخروج من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري، رعاية لحق الزوج، فإذا خرجت المعتدة لغير ضرورة ليلا أو نهارا، كان الخروج حراما. وفيه دليل على وجوب السكنى للزوجات المطلقات أو المعتدات ما دمن في العدة، وأضاف البيوت إليهن، وهي لأزواجهن لتأكيد النهي عن الإخراج والخروج، ببيان كمال استحقاقهن للسكنى، كأنها ملك لهن.

والصحيح عند الحنفية أن للشرع في ملازمة المعتدة بيت الزوجية حقا في ذلك، لا يملك الزوج إسقاطه، فيكون قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ دالا على حرمة إخراجهن بمنطوقه، وعلى حرمة الإذن لهن في الخروج بإشارته، لأن الإذن في المحرم محرم. ورأى الشافعية أن ملازمة المعتدة بيت الزوجية خالص حق الزوجين، فلو اتفقا على الانتقال جاز، لأن الحق لهما وحدهما. وهذا هو المطبق فعلا اليوم حال الطلاق، فلا نرى مطلقة تبقى في بيت الفراق. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي لا تخرجوهن من بيوتهن إلا إذا ارتكبن فاحشة الزنى، أو إذا نشزن أو صدر منهن بذاءة في اللسان واستطالة على الساكن معهن في ذلك البيت من أهل الرجل، وآذتهم المرأة في الكلام والفعال، فحينئذ يحل إخراجهن في المساكن لبذاءتهن وسوء خلقهن. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي وهذه الأحكام السابقة التي بينها الله لعباده هي حدود الله التي حدها لهم، لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها، ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فقد أوقع نفسه في الظلم وأضرّ بها وأوردها مورد الهلاك. ثم ذكر الله تعالى علة تحريم تعدي حدود الله، فقال: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي لا تدري أيها المطلّق، فإنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة، لعل الزوج يندم على طلاقها، ولعلها إذا بقيت في بيتها أن يؤلف الله بين قلوبهما، فيتراجعا، بأن يراجعها الزوج، فيكون ذلك أيسر وأسهل، فالمقصود بالآية الرجعة. وهذا واقع غالب، فإن غالب الطلاق يحدث نتيجة ثورة غضب جامحة، أو مكايدة ظاهرية، ثم تزول عوامل القلق، وتهدأ الأعصاب، ويعود الرجل إلى

عقله ووعيه، ويحس بقسوة خلو البيت من المرأة أو التفكير بالزواج بامرأة أخرى، ويتذكر محاسن امرأته، ويغض النظر عن مساوئها، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا» وقد تكون المرأة حاملا. والحديث مؤيد للآية: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء 4/ 19] . ثم بيّن الله تعالى الحكم عند الاقتراب من نهاية العدة، فقال: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي إذا شارفن على انقضاء العدة، وقاربن ذلك، أي قاربت العدة على الانتهاء، ولكنها لم تنته تماما، فلكم أيها الأزواج اختيار أحد أمرين: إما الإمساك بالمعروف، وهو الرجعة إلى عصمة الزوج والاستمرار في الزوجية، مع الإحسان إليها في الصحبة، وإما المفارقة بالمعروف، أي تركهن إلى انقضاء عدتهن مع إيفاء حقهن واتقاء الضرار بهن، من غير توبيخ ولا تعنيف ولا مشاتمة، بل تطلق المرأة على وجه جميل وسبيل حسن. أما الإمساك للمضارة أو التسريح مع الأذى ومنع الحق، فإن ذلك لا يحل لأحد. ثم أمر الله تعالى بالإشهاد على الرجعة أو الفراق، فقال: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي وأشهدوا على الرجعة إن راجعتم، أو المفارقة إن فارقتم، قطعا للنزاع، وحسما لمادة الخصومة أو الإنكار، وأدوا الشهادة أيها الشهود وأتوا بها خالصة لوجه الله، وتقربا إليه لإظهار الحق، دون تحيز أو مجاملة لأحد الخصمين، المشهود له أو عليه. وهذه الشهادة على الرجعة والفرقة مندوبة، والأمر للندب والاستحباب عند أئمة المذاهب الأربعة في الجديد عند الشافعي، كما في قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة 2/ 282] ودليل صرف الأمر عن الوجوب الإجماع على عدم

الوجوب عند الطلاق، فكذلك عند الإمساك. وقوله: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ دليل على وجوب أداء الشهادة عند القضاة على الحقوق كلها، لأن الشهادة هنا اسم للجنس. وإنما حث تعالى على أداء الشهادة لإظهار الحق، وترك التكاسل والتهرب من بعض المتاعب أو المشاق في الذهاب إلى المحاكم وانتظار القضاة، خشية تعطيل العمل أو الوقت بالنسبة للشاهد. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ذلكم المذكور الذي أمرناكم به من الإشهاد على الرجعة والفرقة وإقامة الشهادة خالصة لله، وإيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر ويخاف عقاب الله في الدار الآخرة. وخص المؤمن، لأنه المنتفع بذلك دون غيره. ثم أكد الله تعالى بجملة معترضة وجوب احترام هذه الأحكام والتزام حدود الله بقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، ووقف عند حدوده التي حدها لعباده، يجعل له من أمره مخرجا أو مخلصا مما وقع فيه، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه. وهذا دليل على أن التقوى سبيل النجاة من المآزق والهموم والغموم الدنيوية والأخروية وعند الموت، وهي أيضا سبب للرزق الطيب الحلال الواسع غير المتوقع. روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليّ هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ حتى فرغ من الآية، ثم قال: «يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن أجمع آية في القرآن: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وإن أكبر آية في القرآن فرجا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي ومن يثق بالله فيما نابه وفوض إليه أمره بعد اتخاذ الأسباب ومنها السعي لكسب الرزق، كفاه ما أهمه، في جميع أموره، لأن الله هو القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، إن الله يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراد، ولا يعجزه مطلوب، قد جعل للأشياء قدرا قبل وجودها، وقدّر لها أوقاتها، فجعل سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه، وللرخاء أجلا ينتهي إليه. وإذا كان الرزق وغيره من الأشياء لا يكون إلا بتقدير الله تعالى، ولا يقع إلا على وفق علمه، فليس للعاقل إلا التسليم للقدر كما قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد 13/ 8] . وهذا دليل على وجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، مع بيان السبب والحكمة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- الطلاق جائز مشروع في الإسلام، على أن تلتزم فيه ضوابط الشرع وآدابه، فهو وإن كان جائزا مباحا وبيد الرجل، فيجب الامتناع عنه إلا عند الضرورة أو الحاجة وأن يكون متفرقا وألا يزيد عن طلقة واحدة، وفي حال الرضى، لما روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» . وروى الثعلبي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ، وروى أبو داود والترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرّم الله عليها رائحة الجنة» .

2- أن يستقبل بالطلاق العدة، لقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ولما روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصارية أنها طلّقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدّة، فأنزل الله سبحانه حين طلّقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. 3- من طلّق في طهر لم يجامعها فيه، نفذ طلاقه وأصاب السّنة، وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة، عملا بحديث ابن عمر المتقدم، وبقول ابن مسعود فيما رواه الدارقطني: طلاق السنة: أن يطلقها في كل طهر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. قال علماء المالكية: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسّها في ذلك الطهر، ولا تقدّمه طلاق في حيض. ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة: أن يطلّقها في كل طهر طلقة. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر، لم يكن بدعة، لظاهر الآية: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهذا عام في كل طلاق كان، واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية، ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الوقت، لا العدد. قال ابن العربي: وهذه غفلة عن الحديث الصحيح، فإنه قال: «مره فليراجعها» وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال: حرمت عليك، وبانت منك بمعصية. وقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة 2/ 229] أي مرة بعد مرة.

والطلاق المخالف للسنة يقع، وهو إثم، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه، فقال له: «أو تلعبون بكتاب الله، وأنا بين أظهركم» . والظاهر عند الشافعية كراهة تطليق المدخول بها واحدة بائنة. 4- قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى: لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى (في) ، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر 59/ 2] أي في أول الحشر، فقوله: لِعِدَّتِهِنَّ أي في الزمان الذي يصلح لعدّتهن، والإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه. وهذا دليل على أن القرء هو الطهر. 5- قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ هذا في المدخول بها المعتدة بالأقراء، لقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، ولأن غير المدخول بها لا عدة عليها، للآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها.. [الأحزاب 33/ 49] وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطّاب، ولا تحلّ له في الثلاث إلا بعد زوج. 6- قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ معناه احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انتهت الثلاثة قروء في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 2/ 228] حلّت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار، وليست بالحيض، وهو مذهب المالكية والشافعية، ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة ابن مسعود: فطلقوهن لقبل عدتهن وقبل الشيء: بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله، فإنه يكون غيره. 7- الصحيح أن المخاطب بقوله: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ الأزواج، لأن الضمائر كلها من طَلَّقْتُمُ وأَحْصُوا ولا تُخْرِجُوهُنَّ على نظام واحد

يرجع إلى الأزواج. ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج، وكذلك الحاكم يحتاج إلى الإحصاء للعدة للفتوى بها والحكم بموجبها. 8- ليس للزوج إخراج المعتدة من مسكن الزواج ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة. والرجعية والمبتوتة (المطلقة ثلاثا) في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل، منعا لاختلاط الأنساب. وآراء العلماء في خروج المعتدة هي: قال مالك وأحمد: إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل، سواء كانت رجعية أو بائنة، لما أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «طلّقت خالتي، فأرادت أن تجدّ «1» نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فجدّي نخلك، عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفا» . وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز للمعتدة مطلقا، رجعية أو مبتوتة أو متوفى عنها زوجها، الخروج من موضع العدة ليلا ولا نهارا إلا لعذر، عملا بالآية: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. ورأي أبو حنيفة أنه لا يجوز للمطلقة الخروج ليلا ونهارا، سواء كانت رجعية أو مبتوتة، للآية السابقة، ويجوز للمتوفى عنها زوجها الخروج نهارا في حوائجها، لاحتياجها إلى اكتساب النفقة، ولا تخرج ليلا، لعدم الحاجة. 9- لا تخرج المعتدة من بيتها في العدة إلا لفاحشة مبينة، كإقامة الحد عليها بسبب الزنى، أو بذاءة لسانها واستطالتها على أهل الزوج، ونشوزها. قال ابن

_ (1) جداد النخل: صرامه وهو قطع ثمره.

عباس وغيره: الفاحشة: كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وأجاز الشافعي كما تقدم التراضي على إسقاط الزوجة حقها في السكنى أثناء العدة. 10- هذه الأحكام المبينة هي أحكام الله على العباد، فيمنع التجاوز عنها، ومن تجاوزها فقد ظلم نفسه، وأوردها مورد الهلاك، إذ قد يستجد أمر في شأن المطلقة، فيندم الرجل، ويرغب في الرجعة، قال جميع المفسرين في قوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على طلاق المطلقة الواحدة، والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلّق ثلاثا، أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. 11- إذا قاربت المعتدة انقضاء العدة فعلى الرجل إما الإمساك بمعروف، أي المراجعة بالمعروف من غير قصد المضارّة في الرجعة، تطويلا لعدتها، أو المفارقة بالمعروف، أي الترك حتى تنقضي عدتها، فتملك نفسها. وقوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ دليل على أن القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادّعت ذلك. 12- الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة مندوب إليه في المذاهب الأربعة، منعا للتجاحد، وعدم الاتهام في الإمساك، وعدم التذرع بثبوت الزوجية للإرث بعد الموت. والرجعة عند الحنفية تحصل بالقول مثل: راجعتك، وبالفعل كالقبلة والمباشرة والملامسة بشهوة والنظر إلى الفرج. وعند الشافعي: تكون الرجعة بالكلام. وتحصل الرجعة عند المالكية بالقول أو الفعل أو النية، وتحصل الرجعة عند الحنابلة والأوزاعي بالقول الصريح وبالوطء، سواء نوى به الرجعة أم لم ينو به الرجعة، ولا تحصل الرجعة بالتقبيل أو اللمس بشهوة، أو النظر إلى الفرج أو الخلوة بالمرأة والحديث معها، لأن المذكور كله ليس في معنى الوطء، وهو الذي يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة. 13- من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته

جاز، وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بيّنة أنه ارتجعها في العدة، ولم تعلم بذلك، لم يضره جهلها بذلك، وكانت زوجته. وإن تزوجت ولم يدخل بها الزوج الثاني، ثم أقام الأول بيّنة على رجعتها، فلمالك في ذلك روايتان: إحداهما- أن الأوّل أحق بها، والأخرى- أن الثاني أحق بها. فإن دخل بها الثاني فلا سبيل للأول إليها. 14- الإشهاد يكون بالرجال المسلمين دون الإناث، إذ لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. ويجب أن تكون الشهادة تقربا إلى الله في إقامتها وأدائها على وجهها إذا مسّت الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. 15- إن المؤمن هو الذي يرضى بهذه الأحكام وينتفع بهذه المواعظ، أما غير المؤمن بالله واليوم الآخر، فلا ينتفع بها. 16- كل من يتقي الله في تطبيق أحكام الشريعة في الطلاق والعدة والإشهاد ونحوها، يجعل الله له مخرجا من كل شدة وضيق، ويرزقه الثواب الحسن ويبارك له فيما آتاه. روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ثوبان: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» . 17- كل من يتوكل على الله وفوض الأمر إليه، كفاه ما أهمه في الدنيا والآخرة، لأن الله بالغ أمره فيما أراد، وقاض أمره في كل الناس، سواء من توكل عليه ومن لم يتوكل عليه، وجعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. ولا يعني التوكل إهمال اتخاذ الأسباب أو الحفظ والصون، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس، وهو ضعيف: «اعقلها وتوكل» . وقال تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة 62/ 10] . وقال سبحانه: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك 67/ 15] .

عدة اليائسة والصغيرة [سورة الطلاق (65) الآيات 4 إلى 5] :

قال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن 64/ 11] . وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] . إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن 64/ 17] . وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران 3/ 101] . وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة 2/ 186] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله» «1» . عدة اليائسة والصغيرة [سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) الإعراب: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فيه محذوف تقديره: واللائي يئسن من المحيض فعدتهن فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر. حذف خبر الثاني لدلالة خبر الأول عليه، مثل: زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو وأبوه منطلق. وأُولاتُ الْأَحْمالِ مبتدأ، وواحد أُولاتُ: ذات، وأَجَلُهُنَّ مبتدأ ثان، وأَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون أَجَلُهُنَّ بدلا من أُولاتُ بدل الاشتمال، وأَنْ يَضَعْنَ الخبر.

_ (1) تفسير الرازي الكبير: 30/ 34

البلاغة:

البلاغة: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ إيجاز الحذف، حذف منه الخبر، أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا. المفردات اللغوية: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أصابهن اليأس من الحيض لكبرهن. إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم في عدتهن أي جهلتم. وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي الصغيرات، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا. وكلاهما في غير المتوفى عنهن أزواجهن، أما هن فعدتهن كما في آية أخرى [البقرة 2/ 234] أربعة أشهر وعشر. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أي أجل انقضاء عدتهن، مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن. أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وضع الحمل، وهو حكم يعم المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن. يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يسهل عليه أمره ويوفقه للخير، وييسر أموره في الدنيا والآخرة. ذلِكَ المذكور من الأحكام، ومنها حكم العدة. أَمْرُ اللَّهِ حكمه. يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإن الحسنات يذهبن السيئات. وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بمضاعفة الثواب. سبب النزول: أخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية. وأخرج مقاتل في تفسيره: أنه لما ذكر قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال خلّاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدّة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعني قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية. المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى بتطليق النساء لعدتهن وبيّن أمر الطلاق والرجعة في

التفسير والبيان:

التي تحيض، بيّن هنا مقدار العدة للآيسة والصغيرة اللتين لا تريان الدم، وأنها ثلاثة أشهر، وعدة الحامل وكونها بوضع الحمل، تتميما لما ذكر الله تعالى في سورة البقرة من عدة ذوات الأقراء، والمتوفى عنها زوجها. التفسير والبيان: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي إن عدة النساء الآيسات وهن اللاتي قد انقطع حيضهن لكبرهن ببلوغهن سن الخامسة والخمسين أو الستين هي ثلاثة أشهر، عوضا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض كما دلت على ذلك آية البقرة [228] إن شككتم وجهلتم كيف عدتهن، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض عدتهن ثلاثة أشهر كعدة الآيسة. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي وعدة النساء الحوامل أي انتهاء عدتهن يتم بوضع الحمل، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بساعة في قول جمهور العلماء، بدليل ما روى أحمد وأصحاب الكتب الستة عن المسور بن مخرمة أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي عنها زوجها: سعد بن خولة، وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالي «1» ، حتى وضعت، فلما تعلّت- شفيت- من نفاسها خطبت، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح، فأذن لها أن تنكح، فنكحت. وفي لفظ: أنه دخل عليها أبو السنابل، فقال: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح، حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت علي ثيابي، حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي.

_ (1) حددت في رواية بثلاثة وعشرين يوما.

وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في النساء القصرى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ الآية، نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة [234] بكذا وكذا شهرا. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: تعتد الحامل المتوفى عنها زوجها بأبعد الأجلين من وضع الحمل، والأشهر أي أربعة أشهر وعشر، عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة. وهذا في الواقع جمع بين المدتين، وليس جمعا بين النصين ولا إعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه، فإننا إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشر، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. وكذلك إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من مضى عليها أربعة أشهر وعشر، ولم تضع حملها، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي ومن يخف الله ويرهب عقابه، فيأتمر بما أمر الله به، وينته عما نهى عنه، يسهّل عليه أمره كله في الدنيا والآخرة. وهذا تنويه بفضيلة التقوى في الدنيا والآخرة. ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي جميع الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة والسكنى هو أمر الله الذي أمر به عباده، وأنزله إليهم في قرآنه، ومن يخف الله، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، يمح عنه ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها، كما وعد بذلك في قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود 11/ 114] ويضاعف له جزاء

فقه الحياة أو الأحكام:

حسناته، ويجزل له المثوبة على عمله. وقد كرر الأمر بالتقوى للتأكيد عليها، وكونها عماد النجاة والسعادة الدنيوية والأخروية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- عدة المرأة اليائس التي انقطع دمها بسبب الكبر وتقدم السن، وعدة الفتاة الصغيرة التي لم تر الدم هي ثلاثة أشهر، تقابل القروء الثلاثة عند من ترى الدم. وسن اليأس في تقدير الحنابلة: خمسون سنة، وفي تقدير الحنفية: خمس وخمسون، وعند الشافعية: اثنان وستون سنة، وعند المالكية: سبعون سنة. ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع، فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة. وكذلك المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة، وتكون عدتها عند المالكية والحنابلة سنة بعد انقطاع الحيض، بأن تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالبا، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فيكمل لها سنة، ثم تحل. وحكمها عند الحنفية والشافعية أنها تبقى أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض، ثم تعتد بثلاثة أشهر. ومن تأخر حيضها لمرض، فكذلك تعتد عند مالك تسعة أشهر ثم ثلاثة. وأما من انقطع حيضها بسبب الرضاع فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان، فإن رأت الحيض ولو في آخر يوم من السنة، انتظرت الحيضة الثالثة. وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة أو ممتدة الدم فعدتها عند المالكية سنة كاملة، تمكث تسعة أشهر استبراء لزوال الريبة، لأنها مدة الحمل غالبا، وثلاثة أشهر عدة، وتحل للأزواج.

السكنى والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع [سورة الطلاق (65) الآيات 6 إلى 7] :

والمفتي به عند الحنفية: أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر، بأن يقدر طهرها بشهرين، فتكون أطهارها ستة أشهر، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطا. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن عدة المستحاضة الناسية لوقت الحيض، والمبتدأة كالآيسة: ثلاثة أشهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة من كل شهر. 2- عدة الحامل تنتهي بوضع الحمل، سواء كانت مطلّقة أو متوفى عنها زوجها. وتحل عند المالكية إذا وضعت علقة أو مضغة. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تحلّ إلا بما يكون ولدا. 3- من يتّق الله في اجتناب معاصيه، يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعات، وقال الضحاك: من يتق الله في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. ثم كرر الله تعالى الحث على التقوى، فذكر أن من يعمل بطاعة الله يكفّر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم أجره في الآخرة. 4- إن المذكور من الأحكام المتقدمة أمر الله أنزله للناس وبيّنه لهم. السكنى والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع [سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

الإعراب:

الإعراب: أَسْكِنُوهُنَّ جواب عن سؤال تقديره: كيف نتقي الله فيهن؟ مِنْ وُجْدِكُمْ عطف بيان لقوله: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أو بدل مما قبله، بإعادة الجار، وتقدير مضاف، أي أمكنة سعتكم، لا ما دونها. المفردات اللغوية: أَسْكِنُوهُنَّ أسكنوا المطلقات المعتدات. مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي بعض مساكنكم وفي مستوى سكناكم. مِنْ وُجْدِكُمْ مما تجدونه ويكون في وسعكم وطاقتكم. وَلا تُضآرُّوهُنَّ أي في النفقة والسكنى. لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لتضايقوهن في المساكن، فتلجئوهن إلى الخروج، ولا في النفقة فيفتدين منكم. حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فحينئذ يخرجن من العدة. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم منهن بعد انتهاء رابطة الزواج. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع. وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل وروح كريمة في الإرضاع والأجر، رعاية لمصلحة الأم والولد وحال الأب، فلا بخل من الأب، ولا معاسرة أو مضايقة وإرهاق لجانب الأب. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ تضايقتم في الإرضاع، وضيق بعضكم على بعض في الأجر وأصابكم إعسار واختلاف، فامتنع الأب من الأجرة، والأم من الرضاع. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى سترضع للأب امرأة أخرى، ولا تكره الأم على الرضاع، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة. لِيُنْفِقْ على المطلقات والمرضعات. ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ لينفق الموسر بقدر يسره ووسعه. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ضيق عليه أو قتر عليه في الرزق، وهو المعسر، فلينفق بقدر وسعه. فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ مما أعطاه الله على قدره. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما أعطاها من الرزق قليلا أو كثيرا، وفيه تطييب لقلب المعسر، فوعده باليسر، فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي يبدل بالعسر يسرا، عاجلا أو آجلا. المناسبة: بعد بيان عدة الآيسة والصغيرة والحامل الحبلى، ذكر الله تعالى ما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى بقدر الطاقة، سواء كانت مطلقة أو حاملا، ثم ذكر ما يجب للمطلقة من أجرة على رضاع ولدها إذا هي أرضعته، فالأم أولى بالإرضاع إذا رضيت بأجر المثل، فإن أبت أرضعت المولود امرأة أخرى.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ أي أسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم، وقدر سعتكم وطاقتكم، ولو كان ذلك في حجرة من غرف الدار التي تسكنون فيها، ولا تلحقوا بهن ضررا في النفقة والسكنى، فتلجئوهن إلى الخروج من المسكن، أو التنازل عن النفقة، فالوجد: الغنى والمقدرة. وهذا بيان ما يجب للمطلقات من السكنى في المستوى الملائم لحال الرجل، لأن السكنى نوع من النفقة الواجبة على الزوج، فإذا طلق الرجل زوجته، وجب عليه أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها، دون مضارّة في السكنى أو النفقة. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي إن كانت المرأة المطلقة حاملا، وجب الإنفاق عليها حتى تضع حملها. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة. وقد ذهب الحنفية إلى تعميم هذا الحكم، فقالوا: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة، ولو مبتوتة، وإن لم تكن ذات حمل، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وترك النفقة من أكبر الأضرار، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المبتوتة: «لها النفقة والسكنى» لأن ذلك جزاء الاحتباس، وتستوي فيه الحامل وغيرها. لكن قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر. ورأى مالك والشافعي: أن للمطلقة ثلاثا السكنى، ولا نفقة لها إلا إذا كانت حاملا، لأن آية وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ هي في البائن الحامل، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها، سواء كانت حاملا أو حائلا (غير حامل) لذا قالوا: الآية دليل على اختصاص النفقة بالحامل من المعتدات، والأحاديث تؤيده. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى، لما

رواه مسلم وأحمد من حديث فاطمة بنت قيس الذي طلّقها زوجها ثلاثا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نفقة لك ولا سكنى» . وذكر الدارقطني عن الأسود بن يزيد قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. لكن قال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعا. ثم أمر الله تعالى بدفع الأجرة على الرضاع، فقال: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد ذلك، فأعطوهن أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل، وائتمروا وتآمروا وتشاوروا أيها الأزواج والزوجات الذين وقع بينهم الفراق بالطلاق بما هو جميل معروف، وحسن غير منكر، في شأن الولد بما يضمن أوضاعه الصحية والمعاشية، من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة 2/ 233] وقال سبحانه: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة 2/ 233] . والآية دليل على أن أجرة الرضاع للأولاد على الأزواج، وحق الحضانة على الزوجات. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي وإن تضايقتم واختلفتم في شأن الإرضاع، فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر الذي تريده، وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر، فيستأجر الأب مرضعة أخرى ترضع ولده. وفي هذا عتاب للأم على التشدد في الطلب، وعدم التسامح مع الأب. وذلك إذا قبل الولد ثدي امرأة أخرى، وإلا وجب الإرضاع على الأم. ثم أبان الله تعالى مقدار النفقة، فقال: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب طاقته أو قدرته، ومن كان فقيرا

فقه الحياة أو الأحكام:

مقترا أو مضيّقا عليه في الرزق، فلينفق مما أعطاه الله من الرزق بقدر سعته، ليس عليه إلا ذلك، كما قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 2/ 286] . وقال هنا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق على الزوجة والقريب الرحم ما ليس في وسعه، كنفقة الغني. ثم وعد الله تعالى بالعطاء والفضل، فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي سيجعل الله بعد ضيق وشدة سعة وغنى، وهذا وعد منه تعالى، ووعده حق لا يخلفه، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب، كما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح 94/ 5- 6] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على الأحكام التالية: 1- السكنى بقدر الطاقة وفي المستوى اللائق بحال الزوج واجبة لكل مطلقة. وقد أجمع العلماء على أن للمرأة الرجعية (التي يحق مراجعتها بعد طلقة واحدة رجعية أو طلقتين) السكنى والنفقة، أما السكنى: فللآية: أَسْكِنُوهُنَّ وآية لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ وأما النفقة ولو لم تكن حاملا فلأن الرجعية كالزوجة في بقاء حق الاحتباس وسلطة الزوج عليها، فيكون الإجماع مخصصا لمفهوم قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ.

واتفق العلماء أيضا على أن للبائن (التي طلقت طلاقا بائنا) الحامل السكنى والنفقة، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وقوله سبحانه: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ. وأما البائن غير الحامل أو المطلقة ثلاثا، فاختلف العلماء في سكناها ونفقتها على أقوال ثلاثة تقدم ذكرها، وموجزها كما يلي: أحدها- وجوب السكنى والنفقة لها: وهو مذهب عمر وابن سعود وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين، ومذهب الحنفية والثوري، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة، ولأن النفقة جزاء الاحتباس لحق الزوج، سواء كانت حاملا أو حائلا. والمقصود بآية وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ دفع توهم ألا نفقة لها لطول مدة الحمل. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها البتة: «لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة» . والثاني- ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى: وهو رأي ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس وبعض التابعين، وإسحاق وداود وأحمد، لحديث مسلم وغيره المتقدم عن فاطمة بنت قيس حينما طلقها عمرو بن حفص البتة، فلم يفرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى. والثالث- للمطلقة البائن بينونة كبري السكنى دون النفقة: وهو مذهب مالك والشافعي، أما السكنى فلقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وأما عدم النفقة فلمفهوم قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل مفهوم: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ على أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها.

وردّ الجصاص على حديث فاطمة بنت قيس بقوله: وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف، أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس، فقال: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «1» . ثم جمع بين هذا الحديث- على فرض صحته- وبين الآية، فقال: وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة، وذلك لأنه قد روي أنها استطالت بلسانها على أحمائها، فأمرها بالانتقال، فلما كان سبب النقلة من جهتها، كانت بمنزلة الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى «2» . 2- تحريم مضارة المرأة المطلقة في المسكن والنفقة، كما تحرم الرجعة والطلاق بقصد الضرار، وهو أن يطلقها، فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها. 3- لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا، أو أقل منهن حتى تضع حملها. أما الحامل المتوفى عنها زوجها: فقال جماعة من الصحابة كعلي وابن عمر وابن مسعود والتابعين كالنخعي والشعبي وحماد: ينفق عليها من جميع المال أي من التركة حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير ومالك والشافعي وأبو حنيفة: لا ينفق عليها إلا من نصيبها، روى الدارقطني بإسناد صحيح

_ (1) أحكام القرآن 3/ 461 (2) المرجع السابق 3/ 462 [.....]

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة» . 4- إذا أرضعت المطلقات أولاد الزوج، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. ويجوز عند مالك والشافعي للرجل أن يستأجر امرأته للرضاع، كما يستأجر أجنبية. ولا يجوز عند أبي حنيفة الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ أي يصبحن بائنات. فإذا رضيت الأم أن ترضع ولدها بأجر المثل، فهي أحق به، لوفور شفقتها، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد، وليس للأب أن يسترضع غيرها في هذه الحالة. وتستحق الأجرة بالفراغ من العمل، لا بالعقد، لأن الله أوجبها بعد الرضاع بقوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. 5- دلّ قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ.. أيضا على أن نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنه إذا لزمه أجرة الرضاع، فكفايته ألزم. لذا أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له، وألحق به بالغ عاجز عن نفقة نفسه، لخبر هند بنت عتبة فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . 6- على الأزواج والزوجات الائتمار بينهم أو قبول بعضهم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما. والجميل من الأم المطلقة إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل من الأب توفير الأجرة للأم للإرضاع. 7- إن حدث التعاسر أو تضييق بعض الأزواج على بعض في أجرة الرضاع، فأبى الزوج أن يدفع للأم أجرة المثل، أو أبت الأم الرضاع أو تغالت في الأجرة، فليس للزوج إكراهها، وليستأجر مرضعة أخرى غير أمه. ودلت الآية وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ.. أيضا على أنه إذا طلبت الأم أكثر من أجر

المثل، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجر المثل، إذا قبل الصبي ثدي المرأة الأخرى، ولم يحصل له ضرر بلبنها، وإلا أجبرت الأم على إرضاعه بأجرة المثل. فإن اختلفا في الأجرة: فإن دعت الأم إلى أجر مثلها، وامتنع الأب إلا تبرعا، فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل، وامتنعت الأمّ لتطلب شططا، فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها، أخذت جبرا برضاع ولدها. 8- على الزوج الإنفاق على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه وطاقته، فإن كان غنيا موسرا أنفق نفقة الأغنياء، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء. وتقدر النفقة بحسب حالة المنفق وحاجة المنفق عليه بالاجتهاد على وفق العرف والعادة، في رأي المالكية. وقال الإمام الشافعي: النفقة مقدّرة محدّدة، ولا اجتهاد لحاكم أو لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده يسرا وعسرا، ولا يعتبر بحالها وكفايتها، فإن كان الزوج موسرا لزمه مدّان، وإن كان متوسطا فمدّ ونصف، وإن كان معسرا فمدّ، لقوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الآية، وقوله سبحانه: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة 2/ 236] ، فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولأن مراعاة كفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فتقع الخصوصة، لأن الزوج يدّعي أنها تطلب فوق كفايتها، وهي تزعم أن ما تطلبه قدر كفايتها، فجعلت مقدرة قطعا للخصومة. وأدلة المالكية على تقدير النفقة بحسب حال الزوجين معا عرفا وعادة قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة 2/ 233] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «واتقوا الله في

النساء، فإنكم أخذتموهن بسنة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» ففي الحديثين إحالة على الكفاية، ولم يقل عليه الصلاة والسلام للأم في حديث هند: لا اعتبار بكفايتك، وأن الواجب لك شيء مقدر. 9- آية لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد، دون الأمّ، خلافا لمحمد بن الموّاز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة: أنفق علي وإلا فطلّقني، ويقول لك العبد: أنفق علي واستعملني، ويقول لك ولدك: أنفق عليّ، إلى من تكلني» . 10- قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها دليل على أنه لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، وعلى أنه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة، لأنه تضمن عدم التكليف بالإنفاق في حال العجز، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة، لأن فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه. وكذلك قوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً يدل على أنه لا يفرق بين الزوجين من أجل عجزه عن النفقة، لأن العسر يرجى له اليسر، وسيجعل الله بعد الضيق غنى، وبعد الشدّة سعة، كما قال تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة 2/ 280] . وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد. والقول بالفسخ للإعسار بالنفقة مذهب مالك وأظهر قولي الشافعي ورواية أخرى عن أحمد، بدليل خبر الدارقطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته: يفرّق بينهما. ولأنه شرع الفسخ بالعنّة لإزالة الضرر، والضرر الذي يلحق المرأة بعدم النفقة أشد من ضررها بالعنة، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.

وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله [سورة الطلاق (65) الآيات 8 إلى 12] :

ودلت الآية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ.. أيضا على أنه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة، جاء في الحديث: «إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا، إذا هو سبحانه وسّع عليه وسّع، وإذا هو عز وجل قتّر عليه قتّر» «1» . وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) الإعراب: الَّذِينَ آمَنُوا نعت للمنادى أو بيان له. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا رَسُولًا: منصوب بأحد خمسة أوجه: إما منصوب ب ذِكْراً على أنه مصدر، أي: أن اذكر رسولا، كانتصاب يَتِيماً في قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً [البلد 90/ 14- 15] أي أن أطعم يتيما، أو منصوب بفعل مقدر، أي وأرسل رسولا، أو بتقدير: أعني، أو أن يكون بدلا من ذِكْراً ويكون رَسُولًا بمعنى رسالة، وهو بدل الشيء من الشيء نفسه، أو منصوب على الإغراء، بتقدير: اتبعوا رسولا.

_ (1) تفسير الألوسي: 28/ 140

البلاغة:

مُبَيِّناتٍ حال من اسم الله أو صفة رسولا. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ وخبر. وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِثْلَهُنَّ: إما منصوب بتقدير فعل أي: من الأرض خلق مثلهن، وليس منصوبا بفعل خَلَقَ المتقدم لئلا يقع الفصل بين واو العطف والمعطوف بالجار والمجرور. أو مرفوع بالظرف أو على الابتداء، أو الخبر مع خلاف فيه. لِتَعْلَمُوا اللام إما تتعلق ب يَتَنَزَّلُ أو تتعلق ب خَلَقَ. البلاغة: فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها تكرار الوعيد للترهيب. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحالّ. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً هذه الآيات فيما سبق من السورة سجع بديع غير متكلف. المفردات اللغوية: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وكثير من أهل قرية، وَكَأَيِّنْ: كاف الجرّ دخلت على «أي» بمعنى «كم» . عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها عصت وأعرضت أو تجبرت وتكبرت، المراد عتى أهلها. فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء والمناقشة، والحساب في الآخرة، وعبر عنها بالماضي وإن لم تجئ لتحقق وقوعها. عَذاباً نُكْراً عذابا منكرا عظيما وهو عذاب النار. فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها عاقبة عتوها وكفرها ومعاصيها. وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسارة وهلاكا، وهي خسارة لا ربح فيها أصلا. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرار الوعيد للتوكيد. أُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي قرآنا. رَسُولًا أي وأرسل محمدا صلى الله عليه وسلم لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الذين آمنوا بعد إنزال الذكر ومجيء الرسول صلى الله عليه وسلم. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهدى. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً هو رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وفيه تعجب وتعظيم لما رزقوا من الثواب. وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض، يعني سبع

المناسبة:

أرضين. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن. لِتَعْلَمُوا متعلق بمضمر يعم كلّا من الخلق والتنزيل فإن كلّا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه، فهو علة للأمرين. المناسبة: بعد بيان أحكام الطلاق والعدة وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى، والنهي عن تجاوز حدود الله، أنذر الله تعالى وتوعد كل من خالف أمره وكذب رسله عليهم السلام، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الخالية التي كفرت وكذبت رسلها، ثم أردف ذلك بالتذكير بعظيم قدرته وإحاطة علمه، للحث على التزام الأوامر والعمل بالشريعة والأحكام، فكانت الآيات تحذيرا من مخالفة الأمر بعد بيان الأحكام. التفسير والبيان: توعد الله تعالى كل من خالف أمره وكذّب رسله، وسلك غير ما شرعه، وأخبر عما حلّ بالأمم السالفة بسبب ذلك، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي وكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله، وأعرضوا وتكبروا وتمردوا عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله، حاسبها الله بأعمالها التي عملتها في الدنيا، وعذب أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة، وفي الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف. وعبّر بقوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها بالماضي عن المستقبل في الآخرة للدلالة على التحقق والوقوع لوعيد الله، مثل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل 16/ 1] ، وقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر 39/ 68] ، وقوله: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف 7/ 44] ، ونحو ذلك.

ثم أخبر عن سبب العذاب، فقال: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي لقيت شدة أمرها وعقوبة كفرها، وكان مصيرها الخسران والهلاك والنكال في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فخسروا أنفسهم وأموالهم وأهلهم. ثم أكّد الوعيد بقوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً أي هيأ الله لهم عذابا شديد الوقع والألم لكفرهم وعتوهم وتمردهم، وهو عذاب النار. ثم ذكر الله تعالى العبرة من الإنذار والوعيد وهي حث المؤمنين على التقوى، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي فخافوا عقاب الله يا أصحاب العقول الراجحة، والأفهام المستقيمة، فلا تكونوا مثلهم، فيصيبكم مثلما أصابهم. ثم أوضح لهم ما يذكّرهم بنحو دائم، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي فاتقوا الله يا أولي العقول من هذه الأمة الذين صدقوا بالله ورسله، وأسلموا الله، واتبعوا رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله إليكم ذكرا دائما وهو القرآن العظيم، وأرسل إليكم رسولا بهذا القرآن، فهو الترجمان الصادق، وهو الذي يبلّغكم وحي الله، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة جلية، يبيّن فيها للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام، ليخرج الله بالآيات والرسول الذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ثم أكرمهم ورغّبهم ببيان جزاء الإيمان والعمل الصالح، فقال:

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أي ومن يصدق بالله، ويعمل العمل الصالح، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه، يدخله جنات، أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبدا على الدوام، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة. ثم نبّه عباده إلى عظيم قدرته وإحاطة علمه، فقال: 1- اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي إن الله هو الذي أبدع السموات السبع، والأرضين السبع، أي سبعا مثل السموات السبع، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه ووحيه من السموات السبع إلى الأرضين السبع، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [الملك 67/ 3] . وثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض، طوّقه من سبع أرضين» وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع أرضين» وفي البخاري وغيره أيضا: «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن» . وروى ابن مسعود أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة» . وقال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. 2- لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً أي فعل ذلك، فخلق السموات والأرض وأنزل قضاءه وأمره فيهما، لأجل أن تعلموا كمال قدرته، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه شيء

فقه الحياة أو الأحكام:

منها كائنا ما كان، فاحذروا المخالفة، واعتبروا بمصير الأمم السابقة، فإن الله عالم بأعمالكم كلها، وسيجازيكم عليها. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- حذر الله سبحانه من مخالفة أوامره، من طريق بيان عتو قوم وحلول العذاب بهم، فكثير من أهل القرى الظالمة التي عصت أمر الله ورسله، جازاهم بالعذاب في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف وسائر المصائب، وسيحاسبهم في الآخرة حسابا شديدا، ويعذبهم عذابا منكرا عظيما. فذاقوا عاقبة كفرهم، وكان عاقبة أمرهم الهلاك والخسران في الدنيا بما ذكر، وفي الآخرة بجهنم. وقد بيّن الله تعالى نوع الخسر وهو أنه عذاب جهنم في الآخرة. 2- أمر الله بالتقوى عن الكفر به وبرسوله، وجعل الأمر خطابا لأهل العقول الراجحة، وللمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، والذين أنزل عليهم القرآن، وأرسل لهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم الذي يتلو عليهم الآيات البينات الواضحات التي تبين ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والشرائع. والتقوى: الخوف من الله والعمل بطاعته، والانتهاء عن معاصيه. والغاية السامية من التقوى والإيمان والعمل الصالح هي الخروج من الكفر والضلالة إلى الهدى والنور. 3- الدليل على كمال قدرة الله تعالى، وأنه يقدر على البعث والحساب هو خلق السموات والأرض، والدليل على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء: علمه بجميع أحوال أهل السماء وأهل الأرض، وتدبير الكون، وتنزيل الأمر فيهم،

وإنفاذ القضاء والحكم والوحي في شؤونهم، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته، وهو القادر على مجازاة جميع مخلوقاته، ولا يعلم أجرام السماء ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها في المخلوقات إلا علام الغيوب. ولا خلاف في أن السموات سبع، بعضها فوق بعض، كما دلّ حديث الإسراء وغيره، واختلفوا في الأرض، فقال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقا، بعضها فوق بعض، ولعل ذلك طبقات الأرض، لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق أو فرجة، وللأحاديث الصحيحة المتقدمة مثل الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن عائشة وسعيد بن زيد: «من ظلم قيد شبر من الأرض، طوّقه من سبع أرضين» . وقيل: إنها أرض واحدة، وأن المماثلة ليست في العدد، وأن المماثلة في العدد، وإنما هي في الخلق والإبداع والإحكام. والرأي الأول أصح وأظهر، كما قال القرطبي وغيره من كبار المفسرين القدامى والمعاصرين، لأن الأخبار دالّة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما.

سورة التحريم:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التحريم مدنيّة، وهي اثنتا عشرة آية. تسميتها: سميت سورة «التحريم» ، لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا على نفسه، وافتتاح السورة بعتابه على سبيل التلطف في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- افتتاح السورتين كلتيهما بخطاب النّبي صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ. 2- اشتراك السورتين في الأحكام المخصوصة بالنساء، فالأولى سورة الطلاق في بيان أحكام الطلاق والعدة وحقوق المعتدة وحسن المعاشرة، وهذه السورة في موقف بعض نساء النّبي صلى الله عليه وسلم وكيفية معاملة النّبي صلى الله عليه وسلم لهنّ بالحسنى واللين والنصح. 3- إن سورة الطلاق المتقدمة في تحريم ما أحل الله بالطلاق، وإنهاء خصومة بعض نساء الأمة، وهذه السورة في تحريم ما أحل الله من نوع آخر بالإيلاء، وإنهاء خصومة نساء النّبي صلى الله عليه وسلم، وإفرادها بأحكامهن تعظيما لهن، لذا ختمت بذكر زوجته في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المدنية تتضمن بعض أحكام التشريع الخاصة بأمهات المؤمنين لتكون نموذجا يحتذي لجميع الأمة. ابتدأت السورة بعتاب لطيف للنّبي صلى الله عليه وسلم على تحريمه على نفسه شيئا مباحا وهو العسل كما ثبت في الصحيح إرضاء لبعض أزواجه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ.. الآية. ثم وجّهت العتاب لبعض أزواج النبي لإفشائهن السرّ حين أسرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجته حفصة، فأخبرت به عائشة، مما أغضب النّبي صلى الله عليه وسلم، وهمّ بتطليق أزواجه، وهدّدهن الله بإبداله أزواجا خيرا منهن: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ ... عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ... وناسب هذا التذكير باتقاء أهل بيت الإيمان النار والترهيب من الجزاء، وبالتوبة النصوح، وبجهاد الكفار والمنافقين من غير انشغال بأحوال البيت والأسرة من أزواج وأولاد. وختمت السورة بضرب مثلين عظيمين: أحدهما للكافرين، والثاني للمؤمنين، والأول مثل الزوجة الكافرة: امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام، عند الرجل المؤمن الصالح، والثاني مثل الزوجة المؤمنة: امرأة فرعون، عند الرجل الكافر الفاجر، ومثل المرأة الحرة التقية البتول في غير عصمة أحد، تنبيها للناس على وجوب اعتماد الإنسان على نفسه، وأنه لا يغني في الآخرة أحد عن أحد، ولا ينفع حسب ولا نسب إذا ساء العمل.

بعض أحوال نساء النبي صلى الله عليه وسلم [سورة التحريم (66) الآيات 1 إلى 5] :

بعض أحوال نساء النبي صلى الله عليه وسلم [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) الإعراب: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ تَبْتَغِي: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير تُحَرِّمُ. فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما جمع القلوب، ولم يقل «قلبا كما» بالتثنية، لأن كل ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد، فإن تثنيته بلفظ جمعه، والقلب ليس في البدن منه إلا عضو واحد. ولو قال: قلبا كما أو قلبكما، لكان جائزا. هُوَ مَوْلاهُ هُوَ: ضمير فصل. وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ إنما قال ظَهِيرٌ بالإفراد، دون الجمع «ظهراء» لأن ما كان على وزن فعيل يستوي فيه الواحد والجمع، مثل قوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف 12/ 80] . وقد يستغنى بذكر الواحد عن الجمع، مثل قوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر 40/ 67] .

البلاغة:

أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الجملة جواب الشرط، وأَنْ يُبْدِلَهُ: خبر عَسى. البلاغة: تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ بينهما طباق، وكذا بين عَرَّفَ وَأَعْرَضَ وبين ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في العتاب. غَفُورٌ رَحِيمٌ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ظَهِيرٌ صيغ مبالغة. وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ عام بعد خاص، ذكر الملائكة بعد جبريل أحدهم اعتناء بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته. المفردات اللغوية: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ لم تمنع نفسك من الحلال وهو العسل. تَبْتَغِي تطلب بالتحريم. مَرْضاتَ أَزْواجِكَ رضاهن. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفر لك هذا التحريم، فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله، رحيم بك حيث لم يؤاخذك به، وعاتبك حفاظا على عصمتك. فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ شرع لكم تحليل الأيمان بالكفارة المذكورة في سورة المائدة [الآية 89] . قال مقاتل: أعتق النبي صلى الله عليه وسلم رقبة، وقال الحسن: لم يكفّر، لأنه صلى الله عليه وسلم مغفور له. واحتج به من رأى التحريم يمينا، مع احتمال أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلفظ اليمين، كما قيل وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم. الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله وأحكامه. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ أي واذكر إذ أسرّ إلى حفصة على المشهور حَدِيثاً هو تحريم العسل الذي كان يتناوله عند زينب بنت جحش، وأيلولة الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. نَبَّأَتْ بِهِ أخبرت حفصة عائشة بالحديث، ظنا منها ألا حرج في ذلك. وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أطلعه على المنبّأ به وعلى إفشائه. عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عرف حفصة بعض ما فعلت وترك بعضه. الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ العالم بكل شيء، الْخَبِيرُ بما في السماء والأرض، لا تخفى عليه خافية. إِنْ تَتُوبا أي حفصة وعائشة، وجواب الشرط محذوف تقديره: تقبلا. فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت القلوب عما يجب للنّبي صلى الله عليه وسلم عليهما من التوقير والتعظيم، بحب ما يحبه، وكراهية ما يكرهه. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ تتظاهرا وتتعاونا على النّبي بما يسوؤه ويؤذيه أو يكرهه.

سبب النزول:

مَوْلاهُ وليه وناصره. وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مثل أبي بكر وعمر، هم ناصروه أيضا، والمراد بالصالح: الجنس. وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ظهراء أعوان له وأنصار مساعدون، بعد نصر الله والمذكورين. عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ هذا على التغليب أو تعميم الخطاب، أي عسى إن طلق النبي أزواجه أن يبدله (بالتشديد والتخفيف) أزواجا خيرا منهن. مُسْلِماتٍ مقرّات بالإسلام منقادات. مُؤْمِناتٍ مصدقات مخلصات. قانِتاتٍ طائعات. تائِباتٍ عن الذنوب. عابِداتٍ متعبدات لله متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. سائِحاتٍ صائمات، سمي الصائم سائحا، لأنه يسيح في النهار بلا زاد، أو مهاجرات. ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً مشتملات على الصنفين. ويلاحظ أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي الإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم. وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى. وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكرا، وفيهن الثّيّاب. سبب النزول: نزول الآية (1، 2) : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ: ذكر العلماء روايات في سبب نزول الآيتين، الصحيح منها كما ذكر ابن كثير وغيره أنهما نزلتا في تحريم العسل، كما قال البخاري عند هذه الآية. أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف عن العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير «1» ، أكلت مغافير، فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا» .

_ (1) المغافير: نبت كريه الرائحة، أي صمغ حلو له رائحة كريهة من شجر العرفط في الحجاز.

نزول الآية (5) :

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند سودة العسل، فدخل على عائشة، فقالت: إني أجد منك ريحا، ثم دخل على حفصة، فقالت مثل ذلك، فقال: أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه، فنزلت: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. وتذكر الروايات في للسيرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل أمام حفصة فأخبرت عائشة بذلك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتمها الخبر، كما استكمتها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسرّ عائشة، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي. قال ابن العربي: إنما الصحيح أن التحريم كان في العسل، وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، وجرى ما جرى، فحلف ألا يشربه، وأسرّ ذلك، ونزلت الآية في الجميع. وقال: أما ما روي أن الآية نزلت في الموهوبة (الواهبة نفسها للنبي) فهو ضعيف السند والمعنى، أما السند فرواته غير عدول، وأما المعنى فما يصح أن يقال: إن ردّ النبي صلى الله عليه وسلم للهبة كان تحريما، بل هو رفض لها، وللموهوب له شرعا ألا يقبل الهبة. وأما ما روي من أنه حرم على نفسه مارية القبطية، كما ذكر الدارقطني عن عمر، فهو وإن قرب من حيث المعنى، لكنه لم يدون في صحيح ولا نقله عدل «1» . نزول الآية (5) : عَسى رَبُّهُ ... : أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النّبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1833- 1834

التفسير والبيان:

وأخرج أيضا عن أنس عن عمر قال: بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة امرأة أعظها، وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ، حتى أتيت على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسكت، فأنزل الله: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الآية. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يا أيها الرسول النبي، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح الله لك، قاصدا إرضاء أزواجك، والله غفور لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، وما تقدم من الزلّة، رحيم بك، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه، ولم يؤاخذك به. وهذا عتاب بطريق التلطف، مثل قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 10/ 43] ، وسمي الامتناع عن الحلال ذنبا، وهو مباح لغيره، تعظيما لقدره الشريف، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة إليه كالذنب، وإن لم يكن ذنبا في الواقع. والمراد بالتحريم: الامتناع من تناول العسل أو الاستمتاع ببعض الزوجات، وليس المراد اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله، لأن تحريم الحلال كفر. قال القرطبي: والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة. وتحريم الحلال يراه أبو حنيفة يمينا في كل شيء، حسبما ينوي، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله، وإذا حرّم ملبسا أو شرابا أو شيئا مباحا، فهو بمنزلة اليمين، وإذا حرم امرأة فقد حلف يمين الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى

الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وإن نوى عددا معينا في الطلاق كاثنتين أو ثلاث فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي. فإن حلف ألا يأكل شيئا فخالف، حنث ويبرّ بالكفارة. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في سورة المائدة [الآية 89] وهي: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. وبيّن لكم ذلك، وليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله، فالتحليل والتحريم إلى الله سبحانه، فإن فعل الإنسان شيئا من ذلك لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، والله متولي أموركم وناصركم على الأعداء، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أموركم. وسبب إيراد آية التحليل هذه أن التحريم الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم كان في الظاهر مقترنا بيمين، لظاهر الآية: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فهو دليل على أن هناك يمينا تحتاج إلى التحلة، وأيد ذلك بعض الروايات، فتكون هذه الآية مناسبة لما قبلها باعتبار كون تحريم المرأة أو العسل يمينا، وهو يمين إيلاء من المرأة. وهل كفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه هذه؟ اختلف العلماء في ذلك، فقال الحسن البصري: إنه لم يكفّر، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وفي هذا نظر، لأن الأحكام الشرعية عامة، ولم يقم دليل على

التخصيص، لذا قال مقاتل: إنه- أي النبي- أعتق رقبة في تحريم مارية، ونقل عن الإمام مالك في المدونة أنه أعطى الكفارة. أما تحريم الرجل لزوجته كأن يقول لها: أنت علي حرام أو الحلال علي حرام دون استثناء شيء، ففيه كما ذكر ابن العربي «1» خمسة عشر قولا «2» ، منها ما ذكرناه سابقا أن أبا حنيفة يقول: إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى، وإلا كانت يمينا، وكان الرجل موليا من امرأته. وذهب الشافعي ومالك إلى أن ذلك ليس بيمين، لكن إن حرم الزوجة ونوى بالتحريم الطلاق، يقع الطلاق الرجعي. وذهب مالك إلى أنه طلاق بائن يقع به ثلاث تطليقات. وقال أبو بكر الصديق وعائشة والأوزاعي: إنه يمين تكفر. ثم ذكر الدليل على إحاطة علم الله بكل شيء، فقال: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي واذكر حين أسرّ النّبي صلى الله عليه وسلم لزوجته حفصة حديثا هو تحريم العسل أو مارية، أو أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتيه على أمته من بعده، فلما أخبرت به غيرها، وأطلع الله نبيه على ما وقع منها من إخبار غيرها، عرّف حفصة بعض ما أخبرت به، وأعرض عن تعريف بعض ذلك. فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أي فحينما أخبرها بما أفشت من الحديث، قالت: من أخبرك به؟ قال: أخبرني به الله الذي لا تخفى عليه خافية، فهو العليم بالسر، الخبير بكل شيء في السماء والأرض.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1835 وما بعدها. (2) وذكر القرطبي في تفسيره (18/ 180) ثمانية عشر قولا.

ثم وجّه الله تعالى زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم: حفصة وعائشة إلى التوبة وعاتبهما قائلا: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي إن تتوبا إلى الله، فتكتما السر، وتحبّا ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرها ما كرهه، قبلت توبتكما من الذنب وكان خيرا لكما، فقد عدلت قلوبكما ومالت عن الحق والخير، وهو حق تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وصون سره وتكريمه. والخطاب لحفصة وعائشة، لما أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق، عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز، ثم أتاني، فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما؟ فقال عمر: وا عجبا لك يا ابن عباس، هما عائشة وحفصة. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي وإن تتعاضدا وتتعاونا على ما يسوؤه ويؤذيه بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سره، فإن الله يتولى نصره، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر، والملائكة بعد نصر الله له ونصر جبريل والمؤمنين الصالحين أعوان له وحراس وحفظة. وقوله: بَعْدَ ذلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم. ولم نر مثل هذا العون والعصمة والتأييد الرباني لأحد من الأنبياء والرسل وسائر البشر، للمبالغة في تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلص من مكر النساء، وتبديد أوهام المشركين والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضرر.

ثم أنذرهما الله وحذرهما مع بقية الأزواج، فقال تعالى: عَسى «1» رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ، قانِتاتٍ تائِباتٍ، عابِداتٍ، سائِحاتٍ، ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً أي لله القدرة البالغة، فإنه قادر إن وقع من النبي الطلاق أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن، قائمات بفروض الإسلام، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، مطيعات لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، تائبات من الذنوب، مواظبات على عبادة الله متذللات له، صائمات، بعضهن ثيّبات، وبعضهن أبكارا. والثيب: هي المرأة التي قد تزوجت، ثم طلقها زوجها أو مات عنها. والبكر: هي العذراء. قال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنت عمران. وهذا مأخوذ من أحاديث ضعيفة، ومبني على أن الوعد بالتبديل في الآخرة فقط. ويلاحظ أن جميع هذه الصفات يمكن اجتماعها في موصوف واحد، ما عدا الوصفين الأخيرين، لذا عطفا بالواو، للدلالة على التغاير أو التباين في الوصفين، والعطف يقتضي المغايرة. والآية تتضمن غاية التهديد والوعيد على محاولات إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا شيء أشد وأقسى على المرأة من الطلاق، والعزم على التزوج بزوجة أخرى، فذلك قاصم للظهر، مؤرّق للبال، محطم دائم للشعور الذاتي بالسعادة في الحياة. وفي الآية أيضا وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بما يريد، قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة، والأولى الجمع بين الحالتين.

_ (1) عسى في القرآن: يجب تحقق ما بعدها إلا هذه، وقيل: وهنا أيضا واجب، ولكنه معلق بشرط التطليق.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على الامتناع من تناول ما أحل الله، فلا ينبغي لأحد تحريم المباح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة 5/ 78] . قال الشعبي: كان مع الحرام يمين، فعوتب في الحرام، وإنما يكفر اليمين فذلك قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ. وهذا العتاب دليل قاطع بأن القرآن من عند الله، إذ لا يعقل ولا يؤلف أن يعاتب الإنسان نفسه، أو يخبر عن نزاع خاص في بيته يظل خبرا متلوا دائما. 2- إن مجرد الامتاع من تناول الشيء المأكول أو المشروب من غير حلف ليس يمينا، ولا يحرّم قول الرجل: «هذا علي حرام» إلا الزوجة، فيكون إيلاء منها. وهذا رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة: إن تحريم المأكول والمشروب والملبوس والشيء المباح يكون يمينا توجب الكفارة. وإذا حرم امرأة، فقد حلف يمين الإيلاء منها، كما تقدم. والحقيقة: ليس في الموضوع نص يعتمد عليه، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء، ومن قال: إنها يمين، قال: سماها الله يمينا. ومن قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين، اعتمد على أحد أمرين: أحدهما- أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها، وإن لم تكن يمينا، والثاني- أن معنى اليمين عنده التحريم، فوجبت الكفارة على المعنى. ومن قال: إنها طلقة رجعية، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرّمة الوطء. ومن قال: إنها ثلاث، حمل اللفظ على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. ومن قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع

النكاح. ومن قال: إنه طلقة بائنة، فاعتمد على أن الطلاق الرجعي لا يحرّم المطلّقة، وأن الطلاق البائن يحرّمها «1» . 3- تحليل اليمين كفارتها، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف، مع الامتناع عن تناول العسل، وأنه في الأصح كفّر عن يمينه. والكفارات تجبر الخلل الحاصل. وإن حرم الرجل أمته أو زوجته، فكفارة يمين، لما أحج مسلم في صحيحة عن ابن عباس قال: «إذا حرّم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفّرها» وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] . 4- للنساء بسبب الغيرة الفطرية الشديدة التأثير مواقف غريبة وعجيبة من بعضهن بعضا. 5- يصعب على النساء كتمان السر، فقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته حفصة تحريم العسل أو مارية على نفسه، أو أمر الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر، واستكتمها السر، فأباحت به لعائشة. 6- يغفل الإنسان غالبا عن أن الله عالم خبير به وبأحواله، فيتصرف تصرفات الغافل غير الواعي ولا المدرك لما يفعل، ولا يحسب الحساب اللازم لمن يراه ويحاسبه على أعماله. وهذا ما كان من حفصة التي فاجأها النبي صلى الله عليه وسلم بما فعلت، وأعلمها بأن الله أخبره بذلك. 7- القرآن تهذيب وتربية وتعليم، لذا حث الله سبحانه حفصة وعائشة على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى مخالفة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم شأنه وإعلاء قدره وصون سره. فقد زاغت ومالت قلوبهما عن الحق، وهو أنهما أحبّتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته، واجتناب العسل، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنساء، محبة فيها اعتدال وإعزاز وإكرام للنساء.

_ (1) تفسير القرطبي: 18/ 183

8- هدد الله حفصة وعائشة بأنهما إن تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء، فهناك حملة صون وحفظ وعصمة وحراسة له من الله والملائكة وجبريل والمؤمنين الصالحين، كأبي بكر وعمر أبوي عائشة وحفصة. 9- وهددهما بتهديد آخر أشد ألما ووقعا على النفس، وهو إن طلقهما وطلّق زوجاته، أبدله الله زوجات خيرا وأفضل منهن في الدنيا والآخرة. وهذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإخبار عن القدرة الإلهية وتخويف لهم، مع علمه تعالى بأنه لا يطلقهن. وأوصاف النساء اللاتي يبدله الله بدلا عن زوجاته الحاليات في غاية الكمال، وهي كونهن مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، مطيعات، تائبات من ذنوبهن، كثيرات العبادة لله تعالى، صائمات أو مهاجرات، ثيّبات وأبكارا، أي منهن ثيّب، ومنهن بكر. 10- حينما أفشت حفصة السر لعائشة، آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية، وهذا ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم على نفسه مارية. وروى مسلم في صحيحة قصة طويلة مفادها: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وقال الناس في المسجد: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل الأمر بالحجاب، دخل عمر على كل من عائشة وحفصة يعاتبهما على إيذائهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع على حصير، فجلس، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، فقال عمر: فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم،

الوقاية من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار [سورة التحريم (66) الآيات 6 إلى 9] :

فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا «1» في ناحية الغرفة، وإذا أفيق «2» معلّق، قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها الا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟! قلت: بلى. الوقاية من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

_ (1) القرظ: ورق السلم يدبغ به. (2) الأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه.

الإعراب:

الإعراب: قُوا أَنْفُسَكُمْ قُوا: فعل أمر من (وقى، يقي) وأصله (أوقيوا) بوزن أفعلوا، فحذفت الواو، كما حذفت من (يقي) لوقوعها بين ياء وكسرة. لا يَعْصُونَ اللَّهَ، ما أَمَرَهُمْ ما أَمَرَهُمْ: بدل من لفظ الجلالة، أي لا يعصون أمر الله. تَوْبَةً نَصُوحاً إنما قال: نَصُوحاً ولم يقل (نصوحة) على النسب، كما قالوا: امرأة صبور وشكور، على النسب. وقرئ نصوحا بضم النون، وهو مصدر كالذهوب والجلوس والفسوق. البلاغة: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً مجاز مرسل، من قبيل ذكر المسبّب وإرادة السبب، أي لازموا على الطاعة، لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله. المفردات اللغوية: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً اجعلوا لأنفسكم وقاية من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، واحملوا أهليكم على ذلك بالنصح والتأديب. وَقُودُهَا ما توقد به النار. النَّاسُ وَالْحِجارَةُ بجعلهما نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، والمراد بالناس: الكفار، وبالحجارة: الأصنام التي تعبد، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء 21/ 98] . عَلَيْها مَلائِكَةٌ خزنة وعدتهم تسعة عشر، كما في سورة المدثر (الآية 30) . غِلاظٌ غلاظ الخلق والطباع. شِدادٌ أقوياء البدن على الأفعال الشديدة. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ لا يعصون أمر الله في الماضي. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ في المستقبل، وهو تأكيد لما سبق. قال الجلال المحلي: والآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد، وللمنافقين المؤمنين بألسنتهم دون قلوبهم. لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، أي لأنه لا ينفعكم الاعتذار، أو لأنه لا عذر لكم. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء عملكم. تَوْبَةً نَصُوحاً صادقة، بالغة في النصح، وهي الندم على ما فات، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل. سئل علي رضي الله عنه عن التوبة، فقال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، والفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على ألا تعود، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية.

المناسبة:

عَسى رَبُّكُمْ عسى من الله تدل على وجوب الوقوع، وذكر بصيغة الإطماع جريا على عادة الملوك، وإشعارا بأنه تفضل، وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين. يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ يوم ظرف متعلق ب يُدْخِلَكُمْ ولا يُخْزِي: لا يفضح. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمامهم، أي يسعى بهم نور الإيمان على الصراط. يَقُولُونَ كلام مستأنف جديد. رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا إلى الجنة، أما المنافقون فيطفأ نورهم. وَاغْفِرْ لَنا واسترنا يا ربنا. جاهِدِ الْكُفَّارَ بمختلف أنواع الأسلحة كالسيف وغيره. وَالْمُنافِقِينَ أي وجاهدهم باللسان والحجة، فالجهاد يكون تارة بالسيف، وتارة بالحجة والبرهان. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ اشتد عليهم بالانتهار والمقت والقتل بحق. وَمَأْواهُمْ مكان الإيواء والإقامة. المناسبة: بعد أن أمر الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة عما حدث من الزلات، وحذرهم من مخالفته ووعظهم وأدبهم وهددهم بالطلاق، أمر المؤمنين بطائفة من المواعظ والنصائح، وأولها وقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ثم أخبر الكفار بما يقال لهم يوم دخولهم النار: لا عذر لكم، ثم أمر المؤمنين بالتوبة الخالصة النصوح من الخطايا والذنوب، وتوج جميع ذلك بالأمر بجهاد الكفار المعتدين، والمنافقين المتسترين، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة والبرهان، ثم يكون جزاء الفريقين النار. التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي يا أيها الذين صدّقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أدبوا أنفسكم وعلموها، واتخذوا لها وقاية من النار، وحافظوا عليها بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، وعلّموا أهليكم وأمروهم بطاعة الله وانهوهم عن معاصيه، وانصحوهم وأدبوهم حتى لا تصيروا معهم إلى النار العظيمة الرهيبة التي تتوقد بالناس وبالحجارة، كما يتوقد غيرها بالحطب. قال قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم

عليهم بأمر الله وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية، قذعتهم عنها، وزجرتهم عنها. ونظير الآية قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه 20/ 132] وقوله سبحانه مخاطبا نبيه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] . وروى جماعة من أهل الحديث (أحمد وأبو داود والحاكم) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع» . وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عمرو بن سعيد بن العاصي: «ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده (أي سمرة بن جندب) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين، فاضربوه عليها» . وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه. وقال ابن جرير: فعلينا أن نعلّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب. والمراد بالناس الكفار، وبالحجارة: الأصنام التي تعبد من دون الله، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء 21/ 98] ، والأهل: هم الزوجة والأولاد والخدم. والآية دليل على أن المعلّم يجب أن يكون عالما بما يأمر به وما ينهى عنه. عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها، غلاظ أطباعهم، قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، شداد عليهم، تركيبهم في غاية الشدة والصلابة والمنظر المزعج، لا يرحمونهم إذا استرحموهم، إنما خلقوا للعذاب، عددهم تسعة عشر ملكا هم زبانيتها كما جاء في قوله تعالى: عَلَيْها

تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر 74/ 30] يتميزون بالطاعة الكاملة لله ربهم، فهم لا يخالفون أوامر الله تعالى، ويؤدون ما يؤمرون به في وقته المحدد له من غير تراخ، فلا يؤخرونه عنه ولا يقدّمونه، وهم قادرون على الفعل، ليس بهم عجز عنه. وفائدة الإتيان بالجملتين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أن الأولى في الماضي، ولبيان الطواعية، فإن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر، ولنفي الاستكبار عنهم، كما قال تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء 21/ 19] والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال ونفي التراخي والكسل عنهم، كما قال تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء 21/ 19] . ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال للكفرة عند إدخالهم النار يوم القيامة، تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم: لا تعتذروا، فإنه لا يقبل منكم العذر، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا. والمراد بهذا أن الدنيا دار جهاد وعمل صالح، والآخرة دار مقر وجزاء، والدنيا مزرعة الآخرة، فإن زرع فيها أو غرس الزرع أو الغرس الصالح، جنى طيبا، وإن زرع أو غرس نباتا أو شجرا رديئا، حصد ما فعل. وبما أن العذر أو التوبة لا يفيدان في الآخرة، أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة النصوح، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ارجعوا إلى الله تعالى، وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات: وهي

الندم بالقلب على ما مضى من الذنب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والعزم على ألا يعود، لعل الله أن يمحو سيئات أعمالكم التي اقترفتموها، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، حين لا يعذب ولا يذل ولا يفضح الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ولا يعذب ولا يذل الذين آمنوا به واتبعوا شريعته، بل يكرمهم ويعزّهم. وكلمة عَسى رَبُّكُمْ كما قال الزمخشري: إطماع من الله لعباده، وفيه وجهان: أحدهما- أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة لعسى ولعل، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، فإنهم إذا أرادوا فعلا يقولون: عسى أن نفعل كذا. والثاني- أن يجيء به تعليما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء. والخلاصة: أن عَسى من الله موجبة تفيد التحقق. وقوله: لا يُخْزِي تعريض لمن أخزاهم من أهل النار: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران 3/ 192] . قال العلماء: التوبة النصوح: هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل. روى الإمام أحمد وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الندم توبة» . وثبت في الصحيح: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها» . ثم ذكر الله تعالى أثر الإيمان، فقال: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم، ويسعى

فقه الحياة أو الأحكام:

أمامهم وعن أيمانهم حال مشيهم على الصراط، كما جاء في سورة الحديد: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ.. [28] ، ويدعو المؤمنون حين يطفئ الله نور المنافقين يوم القيامة، قائلين تقربا إلى الله: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا، أي أبقه لنا، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا، ولا تفضحنا بالعقاب عليها حين الحساب، فإنك على كل شيء قدير، ومنه إتمام نورنا، وغفران ذنوبنا، وتحقيق رجائنا وآمالنا، فأجب دعاءنا. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي يا أيها الرسول النبي قاتل الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة والبرهان وإقامة الحدود عليهم إذا ارتكبوها، وشدّد عليهم في الدعوة إلى الإسلام في الدنيا، واستعمل العنف والقسوة والشدة مع الفريقين، فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة والوعيد، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرد بعض المنافقين من الجامع قائلا: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان. وهذا عذابهم في الدنيا. وسيكون مقر الفريقين ومسكنه في الآخرة جهنم، وبئس المرجع والمثوى والمقيل. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يلي: 1- أمر الله- والأمر للوجوب- بأن يقي المؤمنون أنفسهم النار بأفعالهم، وأهليهم بالنصح والوعظ والإرشاد. وهذا يتطلب الالتزام التام بأحكام الشرع أمرا ونهيا، وترك المعاصي وفعل الطاعات، ومتابعة القيام بالأعمال الصالحة، وحث الزوجة والأولاد على أداء الفرائض واجتناب النواهي، ومراقبتهم المستمرة في ذلك.

2- إن عذاب المخالفين من الكفار والعصاة عذاب شديد في نار جهنم التي تتقد بالناس والحجارة، ويقوم بأمرها ملائكة تسعة عشر هم الملائكة الزبانية غلاظ القلوب، لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبّب إليهم عذاب الخلق، كما حبّب لبني آدم أكل الطعام والشراب، شداد الأبدان والأفعال، غلاظ الأقوال، لا يخالفون أمر الله بزيادة أو نقصان، ويفعلون ما يؤمرون به في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدّمونه. 3- لا تقبل التوبة من أحد من الكفار يوم القيامة، ولا يقبل منهم العذر، وسيجزون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، وكون عذرهم لا ينفع، والنهي عن الاعتذار لتحقيق اليأس، كما قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم 30/ 57] . 4- أمر الله بالتوبة، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. والتوبة المطلوبة هي التوبة البالغة في النصح والصدق، وهي كما ذكر النووي التي تستجمع ثلاثة أمور: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على ألا يعود إلى مثلها أبدا. وقال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين، فإن كان حقا لله كترك صلاة، فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها، وهكذا إن ترك صوما أو فرط في الزكاة. وإن كان ذلك ما يوجب القصاص أو الحد الذي فيه حق لآدمي كالقذف، وطلب منه، مكّن نفسه من العقوبة، إلا إذا عفي عنه، فيكفيه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. أما إن كان الحد من الحدود الخالصة لله كالزنى والشرب، فيسقط عنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح، وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.

فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه- عينا كان أو غيره- إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه، فقد سقط الذنب عنه. وإن أساء إلى رجل بأن فزّعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم استعفى منه، حتى طابت نفسه، فعفا عنه، سقط عنه ذلك «1» . 5- يقبل الله التوبة النصوح من التائب، ويكفر عنه سيئاته، ويدخله الجنان، لقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ.. وعسى من الله واجبة، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس، وهو ضعيف: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . 6- إن للإيمان نورا يمشي بصاحبه على الصراط، ويسعى به إلى النجاة، ويدعو المؤمنون في الآخرة حين يطفئ الله نور المنافقين بقولهم في الآخرة: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا، وَاغْفِرْ لَنا، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وطلب المغفرة لا يعني أن الذنب لازم لكل إنسان، وإنما التقصير لازم لكل مؤمن. 7- أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، ويجاهد المنافقين بالغلظة وإقامة الحجة، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين، علما بأن مأوى الصنفين جهنم، وبئس المرجع.

_ (1) تفسير القرطبي: 18/ 199- 200

أمثلة من النساء المؤمنات والكافرات [سورة التحريم (66) الآيات 10 إلى 12] :

أمثلة من النساء المؤمنات والكافرات [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) الإعراب: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ مَثَلًا وامْرَأَتَ نُوحٍ مفعولا ضَرَبَ، وقيل: امْرَأَتَ نُوحٍ بدل من (مثل) على تقدير حذف مضاف، تقديره: مثل امرأة نوح، ثم حذف مَثَلًا الثاني لدلالة الأول عليه. وكذلك القول في قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ منصوب بالعطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ. البلاغة: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا مقابلة بين المثلين، لتكون النساء في الإخلاص كالمؤمنتين، لا كالكافرتين الخائنتين. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ فيه تغليب الذكور على الإناث. الدَّاخِلِينَ الظَّالِمِينَ الْقانِتِينَ سجع مرصّع.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي أورد حالة غريبة لمعرفة حال أخرى مشابهة لها في الغرابة. كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ أي في عصمتهما. فَخانَتاهُما بالنفاق في أمر الدين، إذ كفرتا، وكانت امرأة نوح واسمها واغلة أو واعلة تقول لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط واسمها أو واهلة تدل قومه على أضيافه، بإيقاد النار ليلا، وبالتدخين نهارا. فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما لم يفيداهما أي نوح ولوط. مِنَ اللَّهِ من عذابه. ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي قيل لهما: ادخلا النار مع كفار قوم نوح وقوم لوط. وهذا تمثيل حالهم في إيقاع العقاب بهم بكفرهم دون مجاملة أو محاباة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بنسب أو غيره. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا شبه حالهم في عدم التأثر ببيئة الكفر وعمالقة الكافرين وأن صلة الكفر لم تضرهم بحال آسية امرأة فرعون، واسمها آسية بنت مزاحم، وهي عمة موسى آمنت به، فعذبها فرعون عذابا شديدا لصدها عن الإيمان. إِذْ قالَتْ في حال التعذيب: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ خلصني من طغيان فرعون وتعذيبه وعمله الشنيع. وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هم أقباط مصر الوثنيون التابعون لفرعون في الظلم. أَحْصَنَتْ فَرْجَها حفظته وصانته من الرجال، والمراد به كونها عفيفة. فَنَفَخْنا فِيهِ في الفرج. مِنْ رُوحِنا أي من روح خلقناه بلا توسط أب، قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير: أن الفرج جيب الدّرع (القميص) . ومعنى (أحصنته) منعته جبريل، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها، تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن. وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ آمنت بشرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله. مِنَ الْقانِتِينَ من عداد الطائعين المواظبين على الطاعة. المناسبة: بعد الحض على التوبة النصوح والإيمان والإخلاص وجهاد الأعداء، ضرب الله مثلين رائعين فذّين لأهل الكفر وأهل الإيمان، لبيان حال الكافرين بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة أمثالهم من غير مراعاة نسب أو زوجية أو قرابة أو محاباة، فتعاقب امرأة نوح وامرأة لوط اللتان كانتا في بيت النبوة، ولكنهما كفرتا بالله وبالنبي، فلم تفدهما الرابطة الزوجية من عذاب الله شيئا.

التفسير والبيان:

وجاء المثل الثاني الأروع للمؤمنين والمؤمنات للإشارة إلى أن من واجبهم أن يكونوا في الإخلاص وصدق العزيمة وقوة اليقين كهاتين المؤمنتين: آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما، لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئا. التفسير والبيان: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي جعل الله مثلا لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أنه لا يغني أحد عن أحد، وأن ذلك لا يجدي عنهم شيئا، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم، فمجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها ما دام الشخص كافرا. وذلك المثل أن امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام، كانتا في عصمة نكاح نبيين رسولين، وفي صحبتهما ليلا ونهارا، يؤاكلانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط، لكنهما خانتاهما في الإيمان والدين، فلم تؤمنا بهما، ولا صدّقاهما في الرسالة، فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع، ولا دفعا عنهما من عذاب الله، ولا دفعا عنهما محذورا، مع كرامتهما على الله، وحاق بهما سوء العذاب والعقاب. قيل: كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ليفجروا بهم. وقيل للمرأتين في الآخرة عند دخول النار: ادخلا النار مع الداخلين فيها من أهل الكفر والمعاصي، جزاء كفرهما وسيئاتهما.

وهذا تعريض بأمي المؤمنين، وهما حفصة وعائشة، لما فرط منهما، وتحذير وتخويف لهما ولغيرهما بأنه لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنبي صلى الله عليه وسلم إن عصين الله تعالى. قال يحي بن سلام: هذا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين تظاهرتا عليه، ببيان أنهما، وإن كانت تحت عصمة خير خلق الله تعالى، وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا. وقد عصمها الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة. ثم ضرب الله مثلا آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين يرشد إلى عكس المثل السابق أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، فقال عن المرأة الأولى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي وجعل الله مثلا آخر للمؤمنين حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وعمة موسى عليه السلام، آمنت بموسى حين سمعت قصة إلقائه عصاه، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان، فلم تتراجع عن إيمانها، مما يدل على أن صولة الكفر لا تضر المؤمنين، كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم. وذلك حين قالت: يا رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين منك، ونجني من ذات فرعون ومما يصدر عنه من أعمال الشر، وخلصني من القوم الظالمين هم كفار القبط. قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه.

وقال ابن جرير: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة. والآية دليل على صدق إيمان امرأة فرعون بالله وبالبعث، وبالجنة والنار، وبأن العمل الصالح طريق الجنة، والعمل السيء سبب النار. وهي دليل آخر على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين. وقال عن المرأة الثانية: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما السلام، جمع الله لها بين كرامة الدنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين في عصرها، مع كونها بين قوم عصاة، صانت فرجها عن الرجال والفواحش، فهي مثال العفة والطهر، فأمر الله جبريل أن ينفخ في فرجها، وقال بعض المفسرين وهو من بدعهم: في جيب الدرع (القميص) فحملت بعيسى، وصدّقت بشرائع الله التي شرعها لعباده، وبصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، وبكتبه الكتب الأربعة الكبرى المنزلة على الأنبياء، وما خاطبها به الملك، وهو قول جبريل لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم 19/ 19] ، وما أخبرها به من البشارة بعيسى وكونه من المقرّبين كما في سورتي آل عمران (الآيات 42- 48) ومريم (الآيات 16- 36) وكانت من القوم المطيعين لربهم، كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربهم. روى أحمد عن ابن عباس قال: «خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- دل المثل الأول للكافرين على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما الدّين. فقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين، فلم يفدهما شيئا من عذاب الله نوح ولا لوط مع كرامتهما على الله تعالى، كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وكانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط. وهذا المثل تعريض لحفصة وعائشة أنهما إن صدرت منهما معصية، لن يفيدهما كونهما من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لدفع العذاب. ويقال: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يشفع لنا، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفّار مكة، وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته، وشفاعة لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما. ويقال في الآخرة لامرأتي نوح ولوط: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ كما يقال لكفار مكة وغيرهم. 2- ودل المثل الثاني للمؤمنين على أن الاختلاط بالكفار لا يضر، ما دام الاعتصام بالله والإيمان هو السمة المهيمنة على المؤمن. وهو مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة عن المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران، ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدّين، وحثا للمؤمنين على الصبر في الشدة، كصبر آسية على أذى فرعون، وكانت آسية آمنت بموسى، وصبر السيدة مريم البتول على أذى اليهود واتهامها بالفاحشة، فصبر المؤمن والمؤمنة على الأذى ينجي من القوم الظالمين، والتقرب إلى الله يكون بالطاعات، لا بالوسيلة والشفاعات. فعلى الرغم من تعذيب فرعون لزوجته آسية دعت قائلة: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. ومريم العذراء أم عيسى عليهما السلام ضرب الله بها مثلا لصبرها على أذى اليهود الذين اتهموها بالفاحشة، مع أنها كانت عفيفة طاهرة صانت نفسها عن الفواحش، ولكن الله أرسل لها جبريل، فنفخ في فرجها روحا من أرواحه وهي روح عيسى، فحملت به ثم ولدته من غير أب، وصدقت بشرائع الله وكتبه ورسالاته وبما أخبرها به جبريل: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الآية [مريم 19/ 19] وكانت من المطيعين. روى قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم» . قال الرازي: أما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة، وامرأة لوط المسماة بواهلة، فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى، منها: التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم والعذاب الأليم. ومنها: العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد، وفساد الغير لا يضر المصلح. ومنها: أن الرجل، وإن كان في غاية الصلاح، فلا يأمن المرأة، ولا يأمن نفسه، كالصادر من امرأتي نوح ولوط.

ومنها: العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة، كما أفاد مريم بنت عمران، وكما أخبر الله تعالى، فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ [آل عمران 3/ 42] . ومنها: التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب، وإلى الثواب بغير حساب، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب، وإليه المرجع والمآب «1» . تم هذا الجزء والحمد لله

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 51

سورة الملك، أو تبارك:

[الجزء التاسع والعشرون] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الملك، أو: تبارك مكيّة، وهي ثلاثون آية. تسميتها: سميت سورة الملك لافتتاحها بتقديس وتعظيم الله نفسه الذي بيده الملك- ملك السموات والأرض، وله وحده مطلق السلطان، والتصرف في الأكوان كيفما يشاء، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. وتسمى السورة أيضا «الواقية» و «المنجية» لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر وتشفع لصاحبها كما سأبيّن. وكان ابن عباس يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها في القبر. مناسبتها لما قبلها: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين: 1- وجه عام: وهو أن هذه السورة تؤكد مضمون السورة السابقة في جملتها، فالسورة المتقدمة تبيّن مدى قدرة الله وهيمنته وتأييده لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة احتمال ظهور تآمر امرأتين ضعيفتين من نسائه عليه، وهذه السورة توضح بصيغة عامة أن بيد الله ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه القدير على كل شيء.

ما اشتملت عليه السورة:

2- وجه خاص: وهو أنه تعالى ذكر في أواخر «التحريم» مثالين فريدين متمثلين بامرأتي نوح ولوط للكافرين، وبامرأة فرعون المؤمنة، ومريم العذراء البتول للمؤمنين، وهذه السورة تدل على إحاطة علم الله تعالى وتدبيره وإظهاره في خلقه ما يشاء من العجائب والغرائب، فإن كفر امرأتي نوح ولوط لم يمنع اتصالهما بنبيين كريمين، وإيمان امرأة فرعون، لم يضر به اتصالها بفرعون الطاغية الجبار العنيد، كما لم يزعزع إيمان مريم حملها غير المعهود بعيسى عليه السلام. ما اشتملت عليه السورة: سورة الملك كسائر السور المكية تعنى بأصول العقيدة الأساسية وهي إثبات وجود الله، وعظمته، وقدرته على كل شيء والاستدلال على وحدانيته، والإخبار عن البعث والحشر والنشر. بدئت بالحديث عن تمجيد الله سبحانه، وإظهار عظمته، وتفرده بالملك والسلطان، وهيمنته على الأكوان، وتصرفه في الوجود بالإحياء والإماتة (الآيات: 1- 2) . ثم أكدت الاستدلال على وجود الله عز وجل بخلقه السموات السبع، وما زيّنها به من الكواكب والنجوم المضيئة، وتسخيرها لرجم الشياطين ونحو ذلك من مظاهر قدرته وعلمه (الآيات: 3- 5) مما يدل على أن نظام العالم نظام محكم لا خلل فيه ولا تغاير. ومن مظاهر قدرته تعالى: إعداد عذاب جهنم للكافرين، وتبشير المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير، وذلك جمع بين الترهيب والترغيب على طريقة القرآن الكريم (الآيات: 6- 12) . ومن مظاهر علمه وقدرته ونعمه: علمه بالسر والعلن، وخلقه الإنسان

فضل السورة:

ورزقه، وتذليل الأرض للعيش الهني عليها وحفظها من الخسف، وحفظ السماء من إنزال الحجارة المحرقة المدمرة للبشر، كما دمرت الأمم السابقة المكذبة رسلها، وإمساك الطير ونحوها من السقوط، وتحدي الناس أن ينصرهم غير الله إن أراد عذابهم (الآيات: 13- 20) . وأردفت ذلك في الخاتمة بإثبات البعث، وحصر علمه بالله تعالى، وإنذار المكذبين بدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتحذيرهم من إيقاع العذاب بهم، وإعلان وجوب التوكل على الله، والتهديد بتغوير الماء الجاري في الأنهار والينابيع دون أن يتمكن أحد بإجرائه والإتيان ببديل عنه (الآيات: 25- 30) . والخلاصة: أن السورة إثبات لوجود الله تعالى ووحدانيته ببيان مظاهر علمه وقدرته، وإنذار بأهوال القيامة، وتذكير بنعم الله على عباده، وربط الرزق بالسعي في الأرض ثم التوكل على الله تعالى. فضل السورة: وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة، منها: ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها، غفر له: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . ومنها: ما أخرجه الطبراني والحافظ الضياء المقدسي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . ومنها: ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس في تسمية سورة الملك بالواقية والمنجية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر» .

بعض أدلة القدرة الإلهية [سورة الملك (67) الآيات 1 إلى 5] :

بعض أدلة القدرة الإلهية [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) الإعراب: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طِباقاً صفة سَبْعَ وطِباقاً: إما جمع «طبق» كجمل وجمال، أو جمع «طبقة» كرحبة ورحاب: ويصح أن تكون «طباقا» مصدرا أو حالا. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ كَرَّتَيْنِ: منصوب في موضع المصدر، كأنه قال: فارجع البصر رجعتين، ويراد بالتثنية هنا الكثرة، لا حقيقة التثنية، بدليل قوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ والبصر لا ينقلب خاسئا حسيرا بمجرد مرتين، وإنما يصير كذلك بمرار جمة، مثل قولهم: لبيك وسعديك، أي إلبابا بعد إلباب، وإسعادا بعد إسعاد، يعني: كلما دعوتني أجبتك إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان: إذا أقام به. البلاغة: بِيَدِهِ الْمُلْكُ استعارة تمثيلية، أو في لفظ «اليد» مجاز، ويكون قوله الْمُلْكُ على الحقيقة. لِيَبْلُوَكُمْ استعارة تمثيلية، شبه معاملة الله لعباده بالابتلاء والاختبار. الْمَوْتَ وَالْحَياةَ بينهما طباق. الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وضع الموصول للتفخيم والتعظيم، أي له السلطان والتصرف المطلق.

المفردات اللغوية:

فَارْجِعِ الْبَصَرَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه والتذكير. قَدِيرٌ، حَسِيرٌ، السَّعِيرِ سجع مرصع، وكذا قوله: الْغَفُورُ، فُطُورٍ. المفردات اللغوية: تَبارَكَ تعاظم وتعالى بالذات عن كل ما سواه، وكثير خيره وإنعامه، من البركة: وهي النماء والزيادة الحسية أو المعنوية. بِيَدِهِ الْمُلْكُ المالك المطلق وصاحب السلطان المتفرد، وبِيَدِهِ نؤمن باليد كما جاء على مراد الله، والظاهر من الآية هنا بيان قدرة الله وسلطانه ونفاذ تصرفه في ملكه. خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ أوجده أو قدّره أزلا، والْمَوْتَ عدم الحياة المعروفة، وَالْحَياةَ ما به الإحساس والحيوية. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم في حقل الحياة، أي ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم. أَحْسَنُ عَمَلًا أخلصه لله وأطوعه. الْعَزِيزُ القوي الغالب الذي لا يغلبه شيء، ولا يعجزه عقاب المسيء. الْغَفُورُ الكثير المغفرة والستر لذنوب عباده إذا تابوا. طِباقاً متطابقا بعضها فوق بعض، بحيث يكون كالجزء منه، وكالقبة على الأخرى. تَفاوُتٍ تباين وتناقض وعدم تناسب. فَارْجِعِ الْبَصَرَ أعدّه إلى السماء. فُطُورٍ شقوق وصدوع، جمع فطر. كَرَّتَيْنِ مرة بعد مرة أو كرة بعد كرة، والمراد بذلك التكرار والتكثير. يَنْقَلِبْ يرجع. خاسِئاً صاغرا ذليلا عن أن يرى شيئا من العيب أو الخلل في خلق السموات. حَسِيرٌ كليل منقطع، لم يدرك المطلوب بعد كثرة المراجعة. السَّماءَ الدُّنْيا أقرب السموات إلى الأرض. بِمَصابِيحَ بنجوم وكواكب مضيئة، جمع مصباح. رُجُوماً راجمات أو مراجم يرجم ويرمى بانقضاض الشهب عليها، جمع رجم. لِلشَّياطِينِ شياطين الجن والإنس. وَأَعْتَدْنا هيأنا. عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المستعرة الموقدة. التفسير والبيان: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يمجد الله تعالى نفسه الكريمة للتعليم والإرشاد، ويخبر أنه سبحانه المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، وأنه التام القدرة على كل الأشياء، لا يعجزه شيء، بل هو بتصرف في

ملكه كيف يريد، من إعزاز وإذلال، ورفع ووضع، وإنعام وانتقام، وإعطاء ومنع، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لحكمته وعدله وإطلاق سلطانه. وكلمة تَبارَكَ تعالى وتعاظم، وهي تدل على غاية الكمال ومنتهى التعظيم والإجلال، ولذا لا يجوز استعمالها في حق غير الله تعالى. تدل الآية على أمور ثلاثة: أن الله تعالى وتعاظم عن كل ما سواه من المخلوقات، وأنه المالك المتصرف في السموات والأرض في الدنيا والآخرة، وهو صاحب القدرة التامة والسلطان المطلق على كل شيء. ومن مظاهر قدرته وعلمه قوله سبحانه: 1- الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أي إنه تعالى موجد الموت والحياة ومقدرهما من الأزل، وهو الذي جعلهم عقلاء ليدركوا معاني التكليف ويقوموا به، وليعاملهم معاملة المختبر لأعمالهم، فيجازيهم على ذلك، وليعرّفهم أيهم أطوع وأخلص لله وخير عملا، وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد، الكثير المغفرة والستر لذنوب من تاب وأناب بعد ما عصاه وخالفه، فهو سبحانه مع كونه عزيزا منيعا يغفر ويرحم، ويعفو ويصفح، كما في آية أخرى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] . والآية دليل على أن الموت أمر وجودي، لأنه مخلوق. والموت: انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له، والحياة: تعلق الروح بالبدن واتصالها به، وإيجاد الحياة معناه: خلق الروح في الكائنات الحية، ومنها إيجاد الإنسان. والمقصد الأصلي من الابتلاء: هو ظهور كمال إحسان المحسنين. روى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ

قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله أذلّ بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة، ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء» . وقدم الموت على الحياة في الآية لأنه أقوى داعيا إلى العمل. 2- الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أي إنه تعالى الذي أوجد وأبدع السموات السبع، المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء منفصلة عن الأخرى كما جاء في حديث الإسراء وغيره، يجمع بينها نظام الجاذبية، ما تشاهد أيها الناظر المتأمل في مخلوقات الرحمن من تناقض وتباين وعدم تناسب، واردد طرفك في السماء، وتأمل: هل تشاهد فيها من شقوق وصدوع؟! وهذا دليل على تعظيم خلقها، وسلامتها من العيوب، وكون خالقها ذا قدرة تامة وعلم دقيق شامل محكم متقن. ونظير الآية: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد 13/ 2] . والسماء: مادة لا يعلم حقيقتها إلا الله، تبعد عن الأرض مسيرة خمس مائة عام بالقياسات القديمة، وتتحدد الآن بالأميال حسبما تدل عليه برامج غزو الفضاء. وقيل: إنها مدارات الكواكب، ويرى العلماء الفلكيون أنها فراغ يدور فيها الكوكب، وإذا عرفنا أن الكواكب ذات أبعاد متفاوتة ومسافات مختلفة، أدركنا تصور كرات السموات السبع. وتكوّن المجموعة الشمسية والمجموعات النجمية ما يعرف باسم «الكون» . والمجموعة الشمسية (أو النظام الشمسي) تطلق في علم الفلك على الشمس والكواكب السيّارة وتوابعها، وهي بترتيب بعدها عن الشمس: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، أورانوس، نبتون، بلوتو. والمجموعات النجمية شموس نائية البعد تتغير ألوان بعضها لعدة أيام أحيانا.

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، وَهُوَ حَسِيرٌ أي ثم ردد البصر ودقق مرة بعد مرة مهما تكاثرت المرات، يرجع إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل أو العيب في خلق السماء، وهو كليل عيي من كثرة التأمل ومعاودة النظر. ومعنى الآية بعبارة أخرى: إنك أيها الإنسان المخاطب لو كررت البصر مهما كررت، لانقلب إليك أو رجع إليك البصر ذليلا عن أن يرى عيبا أو خللا. والمراد بقوله: كَرَّتَيْنِ تكثير النظر لمعرفة الخلل. 3- وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أي ولقد زيّنا أقرب السموات إلى الناس بكواكب ثوابت وسيارات، فصارت في أحسن خلق وأبهج شكل، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج، وجعلنا تلك الكواكب بما ينقضّ منها من الشهب أو من دونها راجمات يرجم بها الشياطين، وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب النار المستعرة الموقدة بسبب فسادهم وإفسادهم. ورجم الشياطين يعدّ فائدة أخرى للكواكب، غير كونها زينة للسماء الدنيا، كما قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل 16/ 16] . قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر، فمن تأول فيها غير ذلك، فقد قال برأيه وتكلف ما لا علم له به. ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات 37/ 6- 10] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- تعاظم الله بالذات عن كل ما سواه، وهو مالك السموات والأرض في الدنيا والآخرة، والقادر على كل شيء من إنعام وانتقام. 2- الله هو الذي أوجد الموت وأوجد الحياة ليعامل العباد معاملة المختبر، ويقيم الدليل عليهم أيهم أطوع وأخلص لله، وهو سبحانه القوي الغالب في انتقامه ممن عصاه، الغفور لمن تاب. قال ابن عمر: تلا النّبي صلّى الله عليه وسلّم: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حتى بلغ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: أورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله. والابتلاء: هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي؟ 3- الله هو الذي أوجد أيضا السموات السبع متطابقة بعضها فوق بعض، ما ترى في خلقها من اعوجاج وصدوع، ولا تناقض ولا تباين، بل هي مستقيمة مستوية، دالة على خالقها، لا عيب ولا خلل فيها. 4- إذا كرر الإنسان النظر في السموات مرات كثيرة، لا يرى فيها عيبا بل يتحيّر بالنظر إليها، ويرجع إليه بصره خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك، وقد بلغ الغاية في الإعياء. 5- زيّن الله السماء الدنيا وهي القربى أقرب السموات إلى الناس بكواكب مصابيح لإضاءتها، وجعل منها شهبا تنقض على مردة الشياطين، وأعد الله للشياطين أشد الحريق بسبب الكفر والضلال والإفساد. والآيات كلها دليل على كونه تعالى كامل القدرة والعلم.

تعذيب الكفار العصاة [سورة الملك (67) الآيات 6 إلى 11] :

تعذيب الكفار العصاة [سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) الإعراب: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ المراد بذنوبهم، ووحّد لوجهين: أحدهما- أنه أضافه إلى جماعة، والإضافة إلى الجميع تغني عن جمع المضاف، كما أن الإضافة إلى التثنية تغني عن تثنية المضاف. والثاني- أن (ذنب) مصدر، والمصدر يصلح للواحد والجمع. فَسُحْقاً منصوب على المصدر، وجعل بدلا من الفعل، أو منصوب بتقدير فعل، تقديره: ألزمهم الله سحقا. البلاغة: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ زيادة لهم في العذاب. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ مقابلة، قابلة بقوله بعدئذ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ. سَمِعُوا لَها شَهِيقاً استعارة مكنية، شبه شدة استعارها وحسيسها بصوت الحمار. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ استعارة مكنية، شبه جهنم في شدة غليانها ولهبها، بإنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه مبالغة في إيصال الضرر إليه، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الغيظ الشديد.

المفردات اللغوية:

الْمَصِيرُ، نَذِيرٌ، كَبِيرٍ، السَّعِيرِ سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات. ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه. المفردات اللغوية: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من شياطين الإنس والجن. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ساء المرجع هي. أُلْقُوا فِيها طرحوا فيها. شَهِيقاً صوتا منكرا شديدا كصوت الحمار، والشهيق: تنفس يسبق الزفير، وهو هنا كتنفس المتغيظ. تَفُورُ تغلي بهم كغلي المرجل. تَمَيَّزُ أي تتميز بمعنى تتقطع وتتفرق غضبا عليهم. مِنَ الْغَيْظِ غضبا على الكفار، والغيظ: شدة الغضب، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم. فَوْجٌ جماعة أي من الكفار. سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها سؤال توبيخ، والخزنة: الأعوان وهم مالك وأعوانه، جمع خازن. أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي رسول ينذركم عذاب الله، ويخوفكم منه، والاستفهام يراد به التوبيخ والتبكيت. إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم. إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ خطأ بعيد عن الصواب والحق. وهذا القول إما من الملائكة للكفار حين اعترفوا بالتكذيب، أو من كلام الكفار للنذر من الرسل. لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سماع تفهم. أَوْ نَعْقِلُ عقل تفكر. ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ في عدادهم ومن جملتهم. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أقروا بذنوبهم حين لا ينفعهم الاعتراف، والاعتراف: إقرار عن معرفة. فَسُحْقاً أي أسحقهم الله سحقا، أي أبعدهم الله من رحمته. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا، عمم الوعيد، وأوضح أن هذا العذاب معدّ أيضا لكل كافر جاحد بربه، ثم ذكر أوصاف النار وأهوالها الشديدة. التفسير والبيان: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وأعتدنا لكل الجاحدين بربهم، المكذبين رسله من الجن والإنس عذاب نار جهنم، وبئس المآل والمرجع وما يصيرون إليه، وهو جهنم.

ثم ذكر صفات النار الأربع وهي: 1، 2- إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً، وَهِيَ تَفُورُ أي إذا طرح الكفار في نار جهنم، كما يطرح الحطب في النار العظيمة، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها، أو كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وهي تغلي بهم غليان المرجل. 3- تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تكاد أو تقترب تتقطع، وينفصل بعضها من بعض، من شدة غضبها على الكفار، وحنقها بهم. 4- كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي كلما طرح في جهنم جماعة من الكفار، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ: أما جاءكم في الدنيا رسول نذير ينذركم هذا اليوم ويخوفكم ويحذركم منه؟ فيجيبهم الكفار بقولهم من ناحيتين: 1- قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ أي أجاب الكفار قائلين: بلى جاءنا رسول من عند الله ربنا، فأنذرنا وخوّفنا، لكنا كذبنا ذلك النذير، وقلنا له: ما نزّل الله من شيء على لسانك، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب وأخبار الآخرة والشرائع التي أمرنا الله بها. وما أنتم أيها الرسل إلا في ذهاب عن الحق، وبعد عن الصواب. فهذا على الأظهر من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين. ونظير الآية قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر 39/ 71] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وهذا دليل على عدل الله في خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء 17/ 15] . 2- وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إننا نلوم أنفسنا ونندم على ما فعلنا، فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع من يعي، وسماع هداية، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع، وعقل هداية، ما كنا من أهل النار، وما كنا عليه من الكفر بالله والضلال، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، والإيمان بما أنزل الله تعالى، والاستماع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقدم السمع على العقل والتفهم لأن المدعو إلى شيء يسمع كلام الداعية أولا ثم يتفكر فيه. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فأقروا معترفين بما صدر عنهم من ذنب استحقوا به عذاب النار، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء، فبعدا لهم من الله ومن رحمته. وهذا بيان بالجريمة ثم العقاب. أخرج الإمام أحمد عن أبي البحتري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وفي حديث آخر: «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- للكافرين الجاحدين وجود الله ووحدانيته، المكذبين رسله عذاب جهنم في الآخرة، وبئس المرجع والمنقلب. وظاهر الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرّ لا يبقى في النار.

2- للنار أوصاف أربعة مرعبة رهيبة: هي سماع شهيق أي صوت منكر لها، والفوران فهي تغلي بالكفار غليان المرجل، والغضب فهي تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى، وتعنيف الزبانية فكلما ألقي فيها جماعات منهم يسألهم خزنتها وهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال توبيخ وتقريع زيادة لهم في العذاب: ألم يأتكم رسول نذير في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا؟! قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. 3- يعترف الكفار بأنه قد جاءهم رسول أنذرهم وخوفهم، فكذبوه، وقالوا: ما أنتم يا معشر الرسل إلا في بعد عن الحق والصواب. 4- وبعد أن اعترفوا بتكذيب الرسل، اعترفوا أيضا بجهلهم، وهم في النار، وقالوا: لو كنا نسمع من الرسل النذر سماع تدبر ووعي، وتعقل وفهم ما جاؤوا به، ما كنا من أهل النار. قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكّر، أو نعقل عقل من يميّز وينظر. ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا. عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد ندم الفاجر يوم القيامة ، قالوا- أي الفجار-: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، فقال الله تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي بتكذيبهم الرسل. 5- يقال للكفار حينئذ: سحقا لكم، أي بعدا من رحمة الله، سواء اعترفوا أو جحدوا، فإن ذلك لا ينفعهم.

وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى [سورة الملك (67) الآيات 12 إلى 15] :

6- احتجوا بآية وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ.. على أن الدين لا يتم إلا بالتعليم لأن السمع يقتضي إرشاد المرشد وهداية الهادي. واحتجوا بها أيضا على تفضيل السمع على البصر لأن الآية دلت على أن للسمع مدخلا في الخلاص من النار والفوز بالجنة، فالسمع مناط الفوز، والبصر ليس كذلك، فوجب أن يكون السمع أفضل. وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) الإعراب: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَنْ: في موضع رفع فاعل يَعْلَمُ والمفعول محذوف، أي ألا يعلم الخالق خلقه. البلاغة: وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا بينهما طباق. كَبِيرٌ، الْخَبِيرُ سجع، وكذا قوله: الصُّدُورِ والنُّشُورُ. المفردات اللغوية: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد، أو في حال غيبتهم عن أعين الناس، فيطيعونه سرا وعلانية. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ثواب عظيم وهو الجنة، يصغر دونه لذائذ الدنيا. بِذاتِ الصُّدُورِ بما في الضمائر أو النفوس.

سبب نزول الآية (13) :

أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء على وفق حكمته. اللَّطِيفُ العالم بدقائق الأمور وخفاياها التي لا يدركها العالمون. الْخَبِيرُ المطلع على ظواهر الأشياء وبواطنها. ذَلُولًا سهلة منقادة لينة يسهل لكم السير فيها والانتفاع بها. مَناكِبِها جوانبها وطرقها، جمع منكب: وهو في الأصل مجتمع ما بين العضد والكتف. النُّشُورُ الخروج من القبور، والحياة بعد الموت، والرجوع إلى الله بعد البعث للجزاء. سبب نزول الآية (13) : وَأَسِرُّوا..: قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخبّره جبريل عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد. المناسبة: بعد وعيد الكفار بعذاب النار، ذكر الله تعالى للمقابلة وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير، ثم عاد إلى تهديد الكافرين والناس جميعا بأنه عليم بكل ما يصدر عنهم في السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق والقادر الذي ذلّل الأرض للعالم، وأذن لهم بالانتفاع بما فيها من خيرات وكنوز ظاهرة وباطنة كالزروع والثمار والمعادن. التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي إن الذين يخافون عذاب ربهم ولم يروه، فيؤمنون به خوفا من عذابه، ويخافون الله في السر والعلن، فيخشون ربهم إذا كانوا غائبين عن الناس، بالكف عن المعاصي والقيام بالطاعات، حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى، هؤلاء لهم مغفرة عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم، وثواب جزيل، وهو الجنة. ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظل عرشه، يوم لا ظل

إلا ظله.. منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . ثم نبّه الله تعالى على أنه مطّلع على الضمائر والسرائر، فقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي سواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به، فالله عليم به، يعلم بما يخطر في القلوب وما تكنّه الضمائر، لا يخفى عليه منه خافية، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالله عليم به، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى. وقدّم السر على الجهر لأنه مقدم عليه عادة، فما من أمر إلا وهو يبدأ أولا في النفس ثم يجهر به، وللتحذير من التكتم والسر الذي قد يظن عدم العلم به. وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كالعلّة لما قبله. والآية خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، وتشمل ما كانوا يسرون به من الكلام في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ لئلا يسمع إله محمد، فأنزل الله هذه الآية. ثم أقام الله تعالى الأدلة على سعة علمه، فقال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أي ألا يعلم الخالق الذي خلق الإنسان وأوجده السرّ ومضمرات القلوب؟ فهو تعالى الذي خلق الإنسان بيده، وأعلم شيء بالمصنوع صانعه، وهو العليم بدقائق الأمور، وما في القلوب، والخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والمراد: ألا يعلم السّر من خلق السّر. وقيل: معناه: ألا يعلم الله مخلوقه؟ قال ابن كثير: والأول (أي ألا يعلم الخالق) أولى لقوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. والواقع أن كلا المعنيين محتمل،

فيمكن جعل مَنْ اسما للخالق جل وعز، ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، كما يمكن جعلها اسما للمخلوق، ويكون المعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد من أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه. ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته، ونبّه إلى تمام نعمته، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي إن الله هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها، لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وفجّر فيها الينابيع، وشقّ الطرق، وهيّأ المنافع، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير الله، لذا قال تعالى: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض، ومكّنكم من الانتفاع بها، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه، فإليه النشور، أي البعث من قبوركم، لا إلى غيره، وإليه المرجع يوم القيامة، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن. والآية دليل على قدرة الله ومزيد إنعامه على خلقه، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على الله، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه. أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» فأثبت لها غدوّا ورواحا، لطلب الرزق، مع توكلها على الله عز وجل، وهو المسخّر المسيّر المسبّب. وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم

فقه الحياة أو الأحكام:

المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبّه في بطن الأرض، وتوكل على الله عز وجل. ويكون المراد من الآيتين هذه وما قبلها تهديد الكافرين بأن الله عالم بسرهم وجهرهم، وأنه هو المنعم المتفضل عليهم بما يسّر لهم من خيرات الأرض، فاحذروا عقابه، فكأنه تعالى قال: أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم، فكونوا خائفين مني، محترزين من عقابي، فقد أسكنتكم في هذه الأرض التي ذلّلتها لكم، وجعلتها سببا لنفعكم ورزقكم، وإني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- إن خشية الله، والخوف من عذابه وعقابه، ومجاهدة الشيطان واجب كل إنسان، وإن الذين يخافون الله، ويخافون عذابه الغائب عنهم وهو عذاب يوم القيامة، ويراقبون الله في سرهم وعلنهم، لهم مغفرة لذنوبهم، وثواب كبير وهو الجنة. 2- إن الله تعالى عالم على السواء بالجهر وبالسر، وبما في الصدور من خطرات وخفايا وبما في القلوب من الخير والشر. وعليه يكون ما أخفاه المشركون من الكلام في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما جهروا به معلوما تمام العلم لله عز وجل. كذلك كل ما يكيد به الناس للإسلام وقرآنه ونبيه صلّى الله عليه وسلّم وأهله في كل عصر، دولا وأفرادا، يعلم به الله، ويعاقب أهل الكيد والمكر والشر والضلال عليه. 3- الدليل على كونه تعالى عالما بجميع الأشياء السرية والعلنية أنه هو الخالق للإنسان وأفعاله وأقواله، ومن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه.

أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة [سورة الملك (67) الآيات 16 إلى 19] :

4- إن الأرض وما فيها من خيرات ومنافع وكنوز مسخرة للإنسان هي من نعمة الله وفضله، وهي حقل التجارب، ومرصد السلوك الإنساني، والله الذي ذلّلها ويسّر لعباده الأرزاق فيها قادر أيضا على أن يخسفها بأهلها وسكانها، ويكون المصير والمرجع إليه بعد البعث من القبور للحساب والجزاء، فما على الناس إلا استعمال الأرض في الخير، والبعد عن الشر والمنكرات والكفر والمعاصي. أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) الإعراب: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أَنْ: في موضع نصب على البدل من مَنْ فِي السَّماءِ وهو بدل اشتمال. وكذا قوله: أَنْ يُرْسِلَ بدل من مَنْ. صافَّاتٍ حال منصوب لأن المراد بالرؤية في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا رؤية العين، لا رؤية القلب. وقوله: وَيَقْبِضْنَ عطف على صافَّاتٍ والجملة في موضع الحال، وتقديره: قابضات، وعطف هنا الفعل المضارع على اسم الفاعل لما بينهما من المشابهة. البلاغة: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ بينهما طباق لأن المعنى صافات وقابضات. نَذِيرِ، نَكِيرِ، بَصِيرٌ سجع مرصّع مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَمْ أَمِنْتُمْ بتحقيق الهمزتين، أو بقلب الهمزة الأولى واوا، أو بتسهيل الثانية مع الفصل، أو بلا فصل، أو مع إدخال ألف بينهما، أو بإبدال الثانية ألفا، والأمن: ضد الخوف. مَنْ فِي السَّماءِ هو الله، على زعم العرب أنه تعالى في السماء. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أن يغوّر بكم الأرض، ويغيبكم فيها، ومنه قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص 28/ 81] . تَمُورُ ترتجّ وتتحرك وتضطرب. حاصِباً ريحا شديدة فيها حصباء ترميكم بها وتهلككم. فَسَتَعْلَمُونَ عند معاينة العذاب. كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري بالعذاب أنه حق، وتخويفي به. مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم. نَكِيرِ إنكاري عليهم بإنزال العذاب، وهو تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتهديد لقومه المشركين. أَوَلَمْ يَرَوْا ينظروا. فَوْقَهُمْ في الهواء. صافَّاتٍ باسطات أجنحها في الجو عند طيرانها. وَيَقْبِضْنَ أي وقابضات يضمنها تارة أخرى. ما يُمْسِكُهُنَّ عن الوقوع في حال البسط والقبض. إِلَّا الرَّحْمنُ بقدرته، الشامل رحمته كل شيء. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب. والمعنى: ألم يستدلوا بطيران الطير في الهواء على قدرتنا أن نعذبهم كما عذبنا الأمم المتقدمة؟ المناسبة: بعد بيان الأدلة على علم الله وقدرته لترهيب الكافرين وتخويفهم، أورد تعالى أدلة أخرى بقصد الوعيد والتهديد، من إمكان الخسف العاجل بأهل الأرض، أو إرسال الريح الحاصب التي تدمر كل شيء، مع التذكير بإهلاك الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم نوح وفرعون وجنوده، وإقدار الطير على الطيران في جو السماء. التفسير والبيان: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ، فَإِذا هِيَ تَمُورُ أي هل تأمنون أن يخسف أو يغور ويقلع الله بكم الأرض، كما خسف بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها، فإذا هي تضطرب وتتحرك وتموج بكم؟

والمراد بهذا الاستفهام الوعيد والإخبار بأنه تعالى قادر على تعذيب من كفر بالله وأشرك معه إلها آخر. قال ابن عباس: أأمنتم من في السماء إن عصيتموه. ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 6/ 65] . ولكن من لطفه ورحمته تعالى بخلقه أنه يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجّل كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً [فاطر 35/ 45] . ثم أتبع الله تعالى ذلك بوعيد آخر: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي بل هل أمنتم ربكم الله الذي هو في السماء كما تزعمون، وهل أمنتم سلطانه وملكوته وقهره أن يرسل عليكم ريحا مصحوبة بحجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل في مكة، وحينئذ تعلمون إذا عاينتم العذاب كيفية إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به، ولكن لا ينفعكم هذا العلم؟! ونظير الآية قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [الإسراء 17/ 78] . ثم ذكّر الله تعالى بعذاب الأمم المتقدمة مؤكدا تخويف الكفار بالمثال والبرهان، أما المثال فهو: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إن الكفار الذين كانوا قبلهم، والذين كذبوا الرسل، شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم، كعاد وثمود وكفار الأمم، فحاق بهم سوء العذاب، وانظروا كيف كان إنكاري عليهم بما أوقعته بهم من العذاب الشديد؟

فقه الحياة أو الأحكام:

وأما البرهان فقد ذكر تعالى عدة براهين على كمال قدرته، مما يدل على كونه تعالى قادرا على إيقاع جميع أنواع العذاب بالكفار. وهذا هو البرهان الأول: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ أي أولم ينظروا إلى الطير فوقهم في الجو أو الهواء، وهن باسطات أجنحتها تارة، وقابضات ضامات لها تارة أخرى، ما يمسكهن في الهواء عند الطيران والقبض والبسط إلا الإله الرحمن القادر على كل شيء، بما سخّر لهن من الهواء برحمته ولطفه، إنه سبحانه عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها. ونظير الآية: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل 16/ 79] . قالوا: وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يلي: 1- الله تعالى هو القادر على أن يخسف بالكافرين والظالمين الأرض، عقوبة على كفرهم، كما خسف بقارون وبداره الأرض، فإذا الأرض تذهب وتجيء وتغور بهم وتبتلعهم. وإنما خص الله تعالى السماء في قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء، لا من يعظمونه في الأرض، علما بأنه تعالى

إله في السماء وفي الأرض، كما قال: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف 43/ 84] . وقد احتج المشبّهة على إثبات المكان لله تعالى بقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وأجابهم الرازي بأن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئا أصغر من العرش، وذلك محال باتفاق أهل الإسلام لأن العرش أكبر المخلوقات في السماء والأرض. ولأنه تعالى قال: قُلْ: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ: لِلَّهِ [الأنعام 6/ 12] فوجب صرف الآية عن ظاهرها إلى التأويل. وللتأويل وجوه أولاها: تقدير الآية: أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته، كما قال: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 6/ 3] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين «1» . 2- إن الله تعالى هو الذي أنعم على عباده بتذليل الأرض، وجعلها سهلة للاستقرار عليها، وامتن عليهم، فأباح لهم السير في نواحيها وأقطارها وآكامها وجبالها بحثا عن الرزق وللاتجار والتكسب، وأذن لهم بالأكل مما أحله لهم، ثم هم في النهاية مرجعهم إلى الله، فإن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا، قادر على أن يبعثهم وينشرهم من قبورهم أحياء. 3- إن الله عز وجل هو القادر أيضا على تعذيب الكفار بإرسال حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وحين وقوع العذاب يعلمون كيف إنذار الله بالعذاب أنه حق.

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 70

توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة الله واختصاصه بعلم البعث [سورة الملك (67) الآيات 20 إلى 27] :

4- أكد الله تعالى تخويفات الكفار بضرب المثل بمن كانوا قبلهم، فإنهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم، وكفار هذه الأمم المتقدمة، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرّسّ وقوم فرعون. 5- من البراهين الدالة على قدرته تعالى: أنه كما ذلّل الأرض للإنسان، ذلل الهواء للطيور، وما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل، وهو عليم بصير بكل شيء وبما يصلح كل شيء من مخلوقاته. توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة الله واختصاصه بعلم البعث [سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) الإعراب: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أم: حرف عطف، ومن: في موضع رفع بالابتداء، وهذَا: مبتدأ ثان، والَّذِي: خبره. وهُوَ جُنْدٌ لَكُمْ: صلته. ويَنْصُرُكُمْ: جملة فعلية في موضع رفع صفة ل جُنْدٌ. والجملة من المبتدأ الثاني

البلاغة:

وخبره خبر عن المبتدأ الأول. وجواب الشرط في قوله: إِنْ أَمْسَكَ محذوف دل عليه ما قبله، أي فمن يرزقكم؟ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا.. خبر من محذوف دل عليه خبر (من) في الجملة السابقة وهو أهدى. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قَلِيلًا: نعت لمصدر محذوف، وما: زائدة، وتَشْكُرُونَ: مستأنف أو حال مقدرة، أي تشكرون شكرا قليلا. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ هذَا: في موضع رفع بالابتداء، والْوَعْدُ: صفة له، أو بدل، ومَتى: خبره، وفيه ضمير يعود على الْوَعْدُ. البلاغة: أَمَّنْ هذَا الَّذِي استفهام إنكار. أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ استعارة تمثيلية، مثّل المؤمن بمن يمشي سويا على صراط مستقيم، ومثّل الكافر بمن يمشي مكبا على وجهه إلى طريق جهنم. غُرُورٍ، نُفُورٍ سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات. المفردات اللغوية: أَمَّنْ هذَا أي من هذا. جُنْدٌ لَكُمْ أعوان لكم. يَنْصُرُكُمْ يدفع العذاب عنكم. مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي غيره يدفع عنكم عذابه، أي لا ناصر لكم. إِنِ الْكافِرُونَ أي ما الكافرون. إِلَّا فِي غُرُورٍ غرّهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم، والمراد أنه لا معتمد لهم. أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ من هذا الذي يرزقكم غير الله؟ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ إن منع عنكم رزقه، بإمساك المطر وسائر أسباب المعيشة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره فمن يرزقكم أي لا رازق لكم غيره. لَجُّوا تمادوا واستمروا. فِي عُتُوٍّ أي تكبر وعناد عن قبول الحق. وَنُفُورٍ إعراض وتباعد عن الحق. مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ واقعا على وجهه من حين لآخر. سَوِيًّا معتدلا منتصب القامة. عَلى صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ قويم مستوي الأجزاء أو الجهة، والمراد تمثيل المؤمن المتدين والمشرك الكافر. أَنْشَأَكُمْ خلقكم. وَالْأَفْئِدَةَ القلوب والعقول لتتفكروا وتعتبروا.

المناسبة:

قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ باستعمال الحواس فيما خلقت من أجله، وما: مزيدة، والجملة مستأنفة. ذَرَأَكُمْ خلقكم متكاثرين موزعين. تُحْشَرُونَ تجمعون للحساب والجزاء. مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر أو إيقاع العذاب من الخسف والحاصب. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيه أيها النبي والمؤمنون به. إِنَّمَا الْعِلْمُ العلم بوقته وبمجيئه. عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه غيره. نَذِيرٌ مُبِينٌ رسول منذر بيّن الإنذار. فَلَمَّا رَأَوْهُ رأوا الوعد الموعود به. زُلْفَةً أي ذا زلفة، أي قريبا منهم. سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اسودّت وعلتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. وَقِيلَ قال لهم الخزنة. هذَا العذاب. تَدَّعُونَ تطلبون وتستعجلون استهزاء واستنكارا. وهذه حكاية حال ستأتي، عبر عنها بلفظ الماضي للدلالة على تحقق وقوعها. المناسبة: بعد أن أورد الله تعالى البرهان الأول على كمال قدرته وهو تمكين الطيور من الطيران، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام، وردّ على اعتقادهم شيئين أو أمرين: وهما القوة في الأعوان، وجلب الخير من الأصنام، ثم أورد تعالى برهانين آخرين على كمال قدرته: وهما خلق الناس وحواسهم، وتكاثر الخلق واستمرارهم وتوزيعهم في الأرض ثم حشرهم إليه. ثم ذكر شيئين قالهما الكفار لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما أمره ربه بتخويفهم بعذاب الله وهما مطالبته بتعيين وقت العذاب، ودعاؤهم عليه وعلى المؤمنين بالهلاك، وهذا الأخير موضع الفقرة التالية. فتكون البراهين الثلاثة على كمال قدرة الله هي الاستدلال أولا بأحوال الطيور من الحيوانات، ثم الاستدلال بصفات الإنسان وهي السمع والبصر والعقل وحدوث ذاته، ثم الاستدلال بضمان تكاثر الخلق وحفظ النوع الإنساني وتوزيعه في أنحاء الأرض والحشر يوم القيامة. التفسير والبيان: يرد الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره، يبتغون عندهم النصر

والرزق، فيقول منكرا عليهم ما اعتقدوه، ومخبرا أنهم لن يحصلوه على ما أمّلوه: 1- أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي بل من هذا الجند أو العون الذي يعينكم ويمنعكم من عذاب الله إن أراد بكم سوءا؟! الواقع أنه ليس لكم من دون الله من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره، ولهذا فإن الكافرين هم في خداع وغرور عظيم من جهة الشيطان، غرهم بأن العذاب لا ينزل بهم. والتعبير بقوله: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إشارة إلى أن بقاء الناس في الأرض مع كفرهم وظلمهم هو برحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء. والآية رد على الكفار الذين كانوا يمتنعون من الإيمان، ويعتمدون في زعمهم واعتقادهم المخطئ على القوة من جهة الإخوة والأعوان، مخبرا إياهم أنه لا ناصر لهم سوى الله سبحانه. ثم رد الله تعالى على ادعائهم وجود رازق غير الله، وأن الأصنام مصدر جميع الخيرات لهم، ودفع كل الآفات عنهم، فقال: 2- أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أي بل من هذا الذي إذا منع الله عنكم رزقه، رزقكم بعده بالأمطار وغيرها؟ والمعنى أنه لا أحد يعطي ويمنع، ويرزق وينصر إلا الله عز وجل، وحده لا شريك له، وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره، لذا وصفهم تعالى بقوله: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أي بل تمادوا واستمروا في عناد واستكبار عن الحق، ونفور عنه، وتابعوا طريقهم في طغيانهم وإفكهم وضلالهم، ولم يعتبروا ولم يتفكروا. فدلت الآيتان على أنه لا ناصر ينصر من عذاب الله، ولا رازق يرزق غير الله إن حجب رزقه عن مخلوقاته.

ثم ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر أو الموحد والمشرك، فقال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ أرأيتم حال المؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبّا على وجهه، أي يمشي متعثرا في كل وقت، منحنيا غير مستو، لا يدري أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل هو تائه حائر ضال. أهذا أهدى أم ذلك المؤمن الذي مثله كمن يسير معتدلا ناظرا أمامه على طريق مستو، لا اعوجاج به ولا انحراف فيه، فهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة، سواء في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا إذ يسير على منهج الله يكون على هدى وبصيرة، وفي الآخرة يحشر على طريق مستقيم يؤدي به إلى الجنة. وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى. ثم ذكر الله تعالى البرهان الثاني الدال على كمال قدرته قائلا: قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن الله ربكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ به، وحاسة البصر لنظر بدائع خلق الله، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات الله وإدراك حقائق الأشياء، ولكن قلّما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره، وترك زواجره، وفيما خلقت لأجله من الخير، وذلك هو الشكر الحقيقي لهذه الطاقات، لا مجرد ترداد الشكر باللسان، وملازمة العصيان لأن شكر نعمة الله تعالى: هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة الله، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا.

فقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم هذه القوى العظيمة، ولكنهم ضيّعوها في غير ما خلقت لأجله. وإنما خصت هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم. ثم ذكر الله تعالى البرهان الثالث على كمال قدرته، فقال: قُلْ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي وقل لهم أيضا: إن الله هو خلقكم وبثكم ووزعكم في أنحاء الأرض، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم، واختلاف ألوانكم وأشكالكم، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، فهو يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء. وبعد أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بتخويف الكفار بعذاب الله، ذكر مقالة الكفار ومطالبتهم بتعيين وقت البعث استهزاء واستنكارا، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ أي ويقول المشركون لمحمد والمؤمنين تهكما واستهزاء: متى يقع ما تعدنا به من القيامة والحشر والعذاب والنار في الآخرة، والخسف والحاصب في الدنيا، إن كنتم يا محمد والمؤمنون به صادقين فيما تدعونه؟ فأخبرونا به، أو فبيّنوه لنا. فأجابهم الله بقوله: قُلْ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قل لهم أيها النبي: إنما علم ذلك عند الله، فلا يعلم وقت الساعة والعذاب على التعيين إلا الله عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة، فاحذروه، وإنما أنا منذر لكم، أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم، فعليّ البلاغ وقد أديته لكم. ثم وصف تعالى حال أولئك الكفار عند رؤية العذاب، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَقِيلَ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي فلما رأوا العذاب الموعود به قريبا في الدنيا، وقامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا لأن كل ما هو آت قريب وإن طال زمنه، اسودّت وجوههم، وعلتها الكآبة، وغشيتها الذلة والمهانة، وقالت لهم ملائكة العذاب الخزنة على وجه التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم في الدنيا تطلبونه وتستعجلون به استهزاء، في قولكم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف 46/ 22] . ونظير الآية: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر 39/ 47- 48] . فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- لا ناصر ولا رازق للمؤمن والكافر في الحقيقة والواقع إلا الله عز وجل، ولكن الكافرين في غرور من الشياطين تغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب، وفي تماد واستمرار في طغيانهم وضلالهم ونفورهم عن الحق. 2- مثل الكافر في ضلاله وحيرته كالرجل المنكّس الرأس الذي لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، والذي لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه، ومثل المؤمن في هدايته وتبصره كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المستقيم المهتدي له. ولا شك بأن الثاني أهدى من الأول. 3- هناك براهين ثلاثة على كمال قدرة الله تعالى: وهي تمكين الطيور من الطيران في الهواء، وخلق الإنسان وتزويده بطاقات السمع والبصر والفؤاد أو العقل، وخلق الناس موزعين مفرقين على ظهر الأرض ثم حشر الناس يوم القيامة، لمجازاة كلّ بعمله لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة.

دعاء كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالهلاك [سورة الملك (67) الآيات 28 إلى 30] :

4- غالب الناس لا يشكرون نعم الله باستعمال حواسهم فيما خلقت لأجله، ولا يوحدون الله تعالى. 5- طالب الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله بتعيين الوقت الموعود به استهزاء وإنكارا. 6- الجواب عن تساؤلهم واستعجالهم: أن علم وقت قيام الساعة عند الله وحده، فلا يعلمه غيره. وما مهمة الرسول إلا البلاغ المبين والإنذار والتخويف البيّن من العذاب. دعاء كفار مكة على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالهلاك [سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) الإعراب: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ.. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ إنما جاءت الفاء في قوله: فَمَنْ يُجِيرُ جوابا للجملة لأن معنى أَرَأَيْتُمْ انتبهوا، وتقديره: انتبهوا فمن يجير، كما تقول: اجلس فزيد جالس، وليست جوابا للشرط. وجواب الشرط ما دل عليه أَرَأَيْتُمْ. ويجوز أن تكون الفاء زائدة، ويكون الاستفهام قائما مقام مفعول. أَرَأَيْتُمْ مثل: أرأيت زيدا ما صنع. وهكذا الكلام على الفاء في قوله تعالى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ. ومنهم من قال: الفاء جواب الشرط. إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا، وهو خبر أَصْبَحَ. وقوله: مَعِينٍ إما فعيل من (معن) الماء: إذا كثر، فتكون الميم أصلية، أو يكون مفعولا من (العين) وأصله (معيون) فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فبقيت الياء ساكنة، والواو ساكنة، فحذفت الواو لسكونها وسكون ما قبلها، وكسر ما قبل الياء مناسبة لها لأنه ليس في كلامهم ياء قبلها ضمة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَرَأَيْتُمْ أخبروني. أَهْلَكَنِيَ أماتني. وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين. أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي لا ينجيهم أحد من العذاب، ويُجِيرُ ينجي أو يمنع. غَوْراً غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء ونحوها. مَعِينٍ جار كثير، سهل التناول. والمراد: لا يأتي به إلا الله تعالى، فكيف تنكرون أن يبعثكم؟! ويستحب أن يقول القارئ عقب قوله مَعِينٍ: الله رب العالمين، كما ورد في الحديث. سبب النزول: روي أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك، فنزلت الآية. المناسبة: هذا هو الأمر الثاني الذي حكاه الله عن الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله، فطالبوا أولا بتعيين وقت الحشر والبعث والعذاب، ثم دعوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك، كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور 52/ 30] وقال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الفتح 48/ 12] . التفسير والبيان: أجاب الحق سبحانه وتعالى عن دعاء الكافرين بهلاك النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من وجهين: الوجه الأول- قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الجاحدين لنعمه: أخبروني عن أي فائدة أو منفعة لكم، أو راحة فيما إذا أهلكني الله بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل، أنا ومن معي من المؤمنين، فلو فرض أنه وقع بنا

ذلك، فلا ينجي الكافرين أحد من عذاب الله، سواء أهلك الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين معه، كما كان الكفار يتمنونه أو ينتظرونه، أو أمهلهم. والمراد بالآية تنبيه الكفار وحثهم على طلب النجاة والإنقاذ بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله بالإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث، وإعلامهم بأنه لا ينفعهم وقوع ما يتمنون للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من العذاب والنكال، فسواء عذبهم الله أو رحمهم، فلا مناص لهم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بهم. الوجه الثاني- قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قل لهم: إنه الله الرحمن الذي آمنا به وحده، لا نشرك به شيئا، وعليه توكلنا في جميع أمورنا، لا على غيره. والتوكل: تفويض الأمور إليه عز وجل، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 11/ 123] . ولهذا قال تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ستدركون من هو في خطأ واضح منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال. وإذا كان هذا حالهم فكيف يقبل الله دعاءهم على المؤمنين؟ ثم ذكر الله تعالى الدليل على وجوب التوكل عليه لا على غيره، فقال مظهرا الرحمة في خلقه: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي قل لهم يا محمد: أخبروني إن صار ماؤكم الذي جعله الله لكم في العيون والآبار والأنهار لمنافعكم المتعددة غائرا ذاهبا في الأرض إلى أسفل بحيث لا ينال بالدلاء وغيرها، فمن الذي يأتيكم بماء كثير جار لا ينقطع، أي لا يأتيكم به أحد إلا الله تعالى، وذلك بالأمطار والثلوج والأنهار، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض لتحقيق حاجة الناس قلة وكثرة.

فقه الحياة أو الأحكام:

والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. فإذا كان لا بد وأن يقولوا: هو الله، فيقال لهم حينئذ: فلم لا تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ والآية دليل على وجوب الاعتماد على الله تعالى في كل حاجة، مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته، وإشارة إلى أن الفتوح العقلي لا يتيسر إلا بإعانة الله تعالى. ونظير الآية: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة 56/ 68- 69] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لا فائدة ولا جدوى من دعاء الكفار على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لأنه لا يستجاب دعاؤهم، ولأنه إن مات المؤمنون أو رحموا فأخر الله تعالى آجالهم، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ فلا حاجة بهم إلى توقع السوء وانتظاره بمن آمنوا، ولا إلى استعجال قيام الساعة، وما عليهم لتخليص نفوسهم من العذاب إلا إعلان الإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث. 2- يجب الاعتماد والتوكل على الله تعالى في كل حاجة، بعد اتخاذ الأسباب والوسائل المقدورة للبشر، وشأن المؤمنين أن يتكلوا على الله سبحانه، أما الكفار فيتكلون على رجالهم وأموالهم. 3- إن الله تعالى هو القادر على إمداد خلقه بالأرزاق والأمطار والمياه النابعة، ولا أحد غير الله عز وجل يقدر على ذلك، والله برحمته وفضله ومنّه وكرمه يمدّ عباده بما يحتاجون، وإن كفروا وجحدوا به.

يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً.. عنده، فقال: تأتينا به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه. وهذا من الإعجاز.

سورة القلم:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القلم مكيّة، وهي اثنتان وخمسون آية. تسميتها: سميت سورة القلم لافتتاحها بما أقسم الله تعالى به وهو ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ وأقسم بالقلم تعظيما له لما له في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف، كما قال صاحب الكشاف. والمراد بالقلم عند الأكثرين: الجنس، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض. وقيل: سورة ن. مناسبتها لما قبلها: هناك وجهان لتعلق السورة بما قبلها: 1- ذكر الله تعالى في آخر سورة تبارك الملك تهديد المشركين بتغوير الماء، وذكر في هذه السورة دليلا على ذلك وهو إذهاب ثمر البستان في ليلية بطائف طاف عليه، وهو نار من السماء أحرقته، وهم نائمون، فلم يجدوا له أثرا. 2- ذكر الله تعالى في سورة الملك أدلة قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأثبت البعث، وهدد المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وحثهم على الإيمان

ما اشتملت عليه السورة:

بالله وحده لا شريك له وبالبعث وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم برّأ الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم في مطلع هذه السورة من أباطيل المشركين ونسبتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السحر أو الشعر أو الجنون، وأثنى عليه بالخلق العظيم. ما اشتملت عليه السورة: عنيت هذه السورة المكية كسابقتها بأصول العقيدة الإسلامية الصحيحة وهي هنا إثبات النبوة والرسالة، والبعث والآخرة، وبيان مصير المسلمين والمجرمين في القيامة. بدئت السورة بالقسم بالقلم تعظيما له لنفي تهم المشركين ومزاعمهم الباطلة، ووصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخلق العظيم: ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ إلى قوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وأردفت ذلك ببيان سوء أخلاق بعض الكفار وافترائهم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهديدهم بما أعدّ الله لهم من العذاب الأليم: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ إلى قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ. ثم ضربت المثل لكفار مكة بأصحاب الجنة (البستان) بإحراقه وإتلافه، بسبب كفرهم وجحودهم نعمة الله، وعزمهم على منع حقوق الفقراء والمساكين: إِنَّا بَلَوْناهُمْ.. إلى قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وقارنت بين المؤمنين والمجرمين، ووبخت المشركين على أحكامهم الفاسدة، وفنّدت دعاويهم، وأقامت الحجج عليهم، وأبانت أحوالهم في الآخرة وموقفهم المخزي: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ.. إلى قوله: وَهُمْ سالِمُونَ. ثم هددت المشركين المكذبين بالقرآن: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ...

فضلها:

وختمت السورة بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى المشركين، وحذرته من التبرم والتضجر في تبليغ دعوته، حتى لا يكون مثل يونس عليه السلام: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ.. وأعلنت حمايته من أذاهم، ودحضت افتراءهم بأنه مجنون، وردت عليهم بأن القرآن عظة وعبرة للعالمين، فكيف يكون المنزل عليه مجنونا: وَإِنْ يَكادُ.. إلى آخر السورة. فضلها: هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر. كمال الدين والخلق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) الإعراب: ن في موضع نصب إما بتقدير: اقرأ نون، أو بتقدير: أقسم بنون، فحذف حرف القسم، فاتصل الفعل به، فنصبه، وعلى هذا يكون: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم. وقال أبو حيان: ن من حروف المعجم، نحو ص وق، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل، والحكم على موضعها بالإعراب تخرص. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي بأيكم الفتنة، كما يقال: ماله معقول، أي عقل، وقيل: الباء في بِأَيِّكُمُ زائدة، وتقديره: أيكم المفتون، أي المجنون.

البلاغة:

البلاغة: بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ جناس ناقص بينهما لاختلاف الحرف الثاني. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وعيد وتهديد، وحذف المفعول للتهويل. وَما يَسْطُرُونَ بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ الْمَفْتُونُ إلخ سجع مرصع. ضَلَّ وبِالْمُهْتَدِينَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: ن إما اسم للسورة، أو الغرض منه التحدي، مثل: ق، وص بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه، ما دام مكونا من حروف اللغة العربية التي بها ينطقون ويكتبون وينظمون الشعر، ويدبّجون الخطب البليغة وَالْقَلَمِ أكثر المفسرين على أن المراد به جنس القلم الذي يكتب به، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض. وَما يَسْطُرُونَ يكتبون، فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي ما أنت يا محمد في حالة جنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوة وغيرها، وهذا رد لقول مشركي قريش: إنه مجنون غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تحتمل من قومك مالا يحتمله أمثالك الْمَفْتُونُ المجنون، أو الفتون أي الجنون، أي أبك أم بهم، من فتن: إذا أصيب بفتنة، أي محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد، فابتلي بالجنون. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أعلم بمعنى عالم، فالله عالم بهم، وهم المجانين على الحقيقة. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الفائزين بكمال العقل. سبب النزول: نزول الآية (2) ما أَنْتَ..: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. نزول الآية (4) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ: سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن ألست تقرأ القرآن: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى عشر آيات [المؤمنون 23/ 1- 10] .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ن: من الحروف المقطعة مثل: ص، ق التي يبدأ بها في بعض السور للتنبيه والتحدي. ومعنى الآية: أقسم بالقلم الذي يكتب به، وبما يكتبه الناس بالقلم من العلوم والمعارف، إنك يا محمد، لست بسبب النعمة أو بواسطة النعمة التي أنعم الله بها عليك وهي النبوة والإيمان والحصافة والخلق بالمجنون، كما يزعمون. وهذا رد على افتراء وزعم أهل مكة أنه مجنون، فهو استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا، وأنه ذو منزلة عالية ومكانة رفيعة من إنعام الله عليه بحصافة العقل وسائر الأخلاق الفاضلة المؤهلة للنبوة. فقوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هو المقسم عليه. والقسم بالقلم وما يكتب به إشارة إلى عظم النعمة بهما، وأنهما من أجلّ النعم على الإنسان بعد النطق والبيان، فهما طريق التثقيف وانتشار العلوم والمعارف بين الجماعات والأمم والأفراد، ودليل على ما تقدم الأمم والشعوب ونبوغها. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة، ثم خلق النون» أي الدواة. وروى ابن عساكر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهو الدواة، ثم قال: اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل، فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة، ثم ختم على القلم، فلم يتكلم إلى يوم القيامة» . وروى الطبراني مرفوعا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن

أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ثم ذكر تتمة المقسم عليه، فقال تعالى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي وإن لك لثوابا عظيما على ما تحملت من مهام النبوة، وقاسيت في إبلاغ الدعوة من أنواع الشدائد، وذلك الثواب غير مقطوع وإنما هو مستمر، أو لا يمنّ به عليك من جهة الناس. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ أي وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك الله به في القرآن، لما تحملت من قومك ما لم يتحمله أمثالك، ففيك الأدب الجمّ والحياء والجود والشجاعة والحلم والصفح وغير ذلك من محاسن الأخلاق. وقد امتثلت تأديب الله تعالى إياك في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف 7/ 199] . روى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: أنها سئلت عن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن. أو كان خلقه القرآن، أما تقرأ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق» «1» ومكارم الأخلاق: هي صلاح الدنيا والدين والمعاد. وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» إذ قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف 7/ 199] فلما قبلت ذلك منه، قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

_ (1) هذه رواية، وفي رواية أحمد والبخاري في الآدب والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» .

وثبت في الصحيحين عن أنس قال: «خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي: أفّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟» . وأخرج أحمد عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خيّر بين شيئين قط، إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثما، فإذا كان إثما، كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عزّ وجلّ» . وبعد وصفه بأنه على خلق عظيم أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي ستعلم يا محمد، وسيعلم الكفار المشركون مخالفوك ومكذبوك في الدنيا ويوم القيامة من المفتون المجنون الضالّ منكم ومنهم؟ وهذا ردّ على زعمهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان مفتونا ضالّا. فالمراد بالمفتون: الذي فتن بالجنون. وهو أسلوب رفيع من الخطاب، فيه البعد عن الإثارة، ولفت النظر والعقل. وهذا التهديد كقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر 54/ 26] . وقوله سبحانه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ 34/ 24] . ثم أكّد الله تعالى الوعيد والوعد بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي إن الله ربّك يعلم من هو في الحقيقة الضالّ، أنت أم من اتّهمك بالضلال، ومن هو المهتدي من الفريقين منكم ومنهم، هداية موصلة إلى السعادة العاجلة والآجلة؟

فقه الحياة أو الأحكام:

والمعنى: بل هم الضالون، لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم، وسيجازي الله كل فريق بما يستحق من العقاب والثواب. والمراد بالضلال: ضلال الدين والعقيدة، وبالاهتداء: الهداية إلى الدين. وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأمثالهما. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت الآيات على ما يأتي: 1- القسم بالقلم وبالمكتوب إشارة إلى خطرهما، وعظيم أثرهما ونفعهما في ميادين العلم والمعرفة والتقدم والحضارة. 2- المقسم عليه ثلاثة أمور: نفي الجنون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما زعم الكفار، واستمرار الثواب الجزيل والعطاء العظيم له، وكونه صاحب الخلق العظيم، وهو خلق القرآن، وهو أصح الأقوال كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عائشة. ووجود هذه النعم الكثيرة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الله عزّ وجل، وظهورها في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل مكرمة، ينافي حصول الجنون، وكلام الأعداء نوع من الهذيان. والخلق: ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بسهولة، فإذا وصف بالعظم وهو كونه على النهج الأفضل، لم يكن خلق أحسن منه. روى الترمذي عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» ، وروى أيضا عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء» .

الأخلاق الذميمة عند الكفار [سورة القلم (68) الآيات 8 إلى 16] :

وروى أيضا عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق» ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج» . 3- هدد الله تعالى وأوعد الكفار بأنهم سيعلمون حين يتبين الحق والباطل في الدنيا والآخرة من هو الذي فتن بالجنون، ومن الذي يتبين رجحان عقله، وسلامة منهجه، وصحة دينه واعتقاده؟ ويؤكد ذلك أن الله تعالى هو العالم بمن حاد عن دينه، والذين هم على الهدى والصواب والحق، فيجازي كلّا يوم القيامة بعمله. الأخلاق الذميمة عند الكفار [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) الإعراب: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أَنْ كانَ: مفعول لأجله، تقديره: لأن كان ذا مال وبنين، واللام تتعلق بفعل محذوف، تقديره: أيكفر أن كان ذا مال. ولا يجوز أن تتعلق ب تُتْلى لأن إِذا مضافة إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبل المضاف، كما لا يجوز أن تتعلق ب قالَ لأنه جواب الشرط، وجواب الشرط لا يعمل فيما قبله. قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَساطِيرُ: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه أساطير الأولين.

البلاغة:

البلاغة: حَلَّافٍ، هَمَّازٍ، مَشَّاءٍ، مَنَّاعٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال، وكذلك أَثِيمٍ، زَنِيمٍ صيغة مبالغة على وزن فعيل. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ استعارة، استعار خرطوم الفيل لأنف الإنسان، للاستهانة والاستخفاف. المفردات اللغوية: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ تهييج للتصميم على مخالفتهم. وَدُّوا لَوْ تمنوا، ولَوْ: مصدرية. تُدْهِنُ تلين لهم بأن تدع نهيهم عن الشرك، أو توافقهم فيه أحيانا، من الادّهان: وهو المداهنة واللين والمصانعة. فَيُدْهِنُونَ فيلينون لك بترك الطعن والموافقة، والفاء للعطف على تُدْهِنُ أي تمنوا الملاينة، ولكنهم أخروا ذلك حتى تلين، أو للسببية، أي ودّوا لو تدهن، فهم يدهنون حينئذ. وفي بعض المصاحف: فيدهنوا على أنه جواب التمني المفهوم من وَدُّوا. وعلى قراءة يدهنون يقدر قبله بعد الفاء: هم. حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل. مَهِينٍ حقير الرأي. هَمَّازٍ عيّاب طعّان مغتاب. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشي بين الناس بالنميمة والسعاية للإفساد بينهم. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ بخيل بالمال، ويمنع الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح. مُعْتَدٍ ظالم، يتجاوز الحق إلى الباطل. أَثِيمٍ آثم، أو كثير الإثم والذنب. عُتُلٍّ غليظ جاف. زَنِيمٍ دعي في قريش، أي يلحق بهم في النسب وليس منهم، وهو الوليد بن المغيرة، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، قال ابن عباس: لا نعلم أن الله وصف أحدا بما وصفه به من العيوب، فألحق به عارا لا يفارقه أبدا. وقيل: هو الذي يعرف بالشر واللؤم. أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أي لأن كان، والمعنى: أيكفر لأن كان ذا مال. آياتُنا القرآن. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي هي خرافات وأباطيل الأقدمين. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ سنجعل على أنفه سمة وعلامة يتميز بها ما عاش، فخطم أنفه بالسيف يوم بدر، أي أصيب أنف الوليد بجراحة يوم بدر، فبقي أثرها. والوسم: وضع علامة على الشيء لتمييزه بها عن غيره. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي في قوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ قال: نزلت في الأخنس بن شريق، وأخرج ابن المنذر عن الكلبي مثله وهو قول

المناسبة:

الشعبي وابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت في الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود. والمشهور أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ فلم نعرفه، حتى نزل عليه بعد ذلك: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة «1» . المناسبة: بعد بيان ما عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من كمال الدين والخلق، بيّن ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة، والدعوة إلى التشدد معهم ومخالفتهم، مع قلة عدد المؤمنين، وكثرة الكفار. التفسير والبيان: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أي داوم على مخالفة الكفار المكذبين لرسالتك، وتشدد في ذلك. وهذا نهي صريح من الله سبحانه عن ملاينة المشركين رؤساء مكة لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه، فنهاه الله عن طاعتهم أو مجاملتهم في شيء من العقيدة بقصد ترغيبهم في الإسلام. والمراد من النهي: التحميس والتهييج والتشدد في مخالفتهم. قال المفسرون: إن المشركين أرادوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة، وهم يعبدون الله مدة، وآلهتهم مدة، فأنزل الله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي تمنوا لو تلين لهم، فيلينون لك، بأن تركن إلى آلهتهم، وتقربها، وتترك ما أنت عليه من الحق، فيعترفون بعبادة إلهك.

_ (1) أي الجزء المسترخي من أذنها حين تشق، ويبقى كالجزء المعلّق. [.....]

ونظير الآية: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [الإسراء 17/ 74- 75] . ثم خصص تعالى من جميع المكذبين الكفار من اتصف بالأوصاف المذمومة العشرة التالي، غير الكفر، فقال: 1- 2: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ أي ولا تطع كل شخص كثير الحلف بالباطل حقير الرأي والفكر. ومثله قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة 2/ 224] . وفيه إشارة إلى أن عزّة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سرّ الربوبية، وأيضا الحلاف يكذب كثيرا، والكذاب حقير عند الناس. 3- 4: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالشرّ في وجوههم، يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. أما اللمّاز: فهو الذي يذكر الناس في مغيبهم. روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يدخل الجنة قتّات» أي نمام. 5- 6: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ أي بخيل: يمنع الخير عن الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح، ظالم متجاوز الحق وحدود الله من أمر ونهي، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين، وكان يقول لهم ولمن قاربهم: لئن تبع دين محمد منكم أحد، لا أنفعه بشيء أبدا. فمنعهم الإسلام، وهو الخير الذي منعهم. 7- 8: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ، زَنِيمٍ أي هو بعد ما ذكر من معايبه غليظ جاف فظّ، شديد الخلق، فاحش الخلق، دعي في قريش ملصق بالقوم وليس هو منهم، مشهور بالشر والسوء.

أخرج الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعّف «1» ، لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ «2» مستكبر» . ثم ذكر الله تعالى بعض دوافع ومظاهر كبره وكفره، فقال: 9- 10: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أي أيكفر بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله أنعم عليه بالأموال والبنين، حيث جعل جزاء النعم الكفر والجحود؟ فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين بالكفر بآيات الله تعالى والإعراض عنها. وقال الزمخشري: متعلق بقوله: وَلا تُطِعْ، يعني: ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال، أي ليساره وحظه من الدنيا. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي وإنه إذا تليت عليه آيات القرآن، زعم أنها كذب مأخوذ من قصص وأباطيل القدماء، وليس هو من عند الله تعالى. وهذا كقوله تعالى حكاية عن هذا الطاغية الجبار: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر 74/ 11- 25] .

_ (1) روي بكسر العين وفتحها، والمشهور الفتح، ومعناه: يستضعفه الناس ويحتقرونه، وبالكسر: المتواضع المتذلل. (2) الجوّاظ: الجمّاع المنّاع، الذي يجمع المال ويمنعه.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم ذكر الله تعالى عقابه في الدنيا أو الآخرة، فقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي سنجعل له وسما بالسواد على أنفه، فإنه قاتل يوم بدر، فخطم بالسيف في القتال، قال المبرد: الخرطوم هاهنا الأنف. وعبر به إذلالا له واستخفافا به وإهانة له لأن السمة على الوجه أو الأنف شين. وقال جماعة: سَنَسِمُهُ سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم، فيسود وجهه بالنار قبل دخولها، فيكون له عليه أو على أنفه علامة. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- نهى الله تعالى نبيّه- والنهي يقتضي التحريم- ومثله المؤمنون، عن ممايلة المشركين المكذبين لرسالته، وكانوا يدعونه إلى أن يكفّ عنهم ليكفّوا عنه، فبيّن الله تعالى أن مما يلتهم كفر. 2- تمنى الكفار ملاينة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومصانعتهم ومجاملتهم في أديانهم، فيلينون له في دينه، فإنهم طلبوا أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا إلهه مدة، ولكن الله نهاه عن ذلك. 3- خصص الله من بين المكذبين النهي عمن اتصف بصفات عشر: هي الحلاف: الكثير الحلف، المهين: الحقير الرأي والتمييز والتفكير، الهمّاز: الذي يذكر الناس في وجوههم، وهو غير اللماز: الذي يذمهم في مغيبهم، النمام: الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، المناع للخير: للمال أن ينفق في وجوهه، ويمنع الناس عن الإسلام، المعتدي: أي الظالم، المتجاوز الحد، صاحب الباطل، الأثيم: الكثير الإثم والذنوب، العتلّ: الغليظ الجافي الشديد في كفره،

الشديد الخصومة بالباطل، الزنيم: الملصق بالقوم الدّعي، وكان الوليد بن المغيرة المخزومي دعيّا في قريش، ليس من أصلهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، كما تقدم، [الطاغية المفتري] . 4- وبّخ الله الوليد على مقابلته الإحسان والنعمة بالإساءة، فقد أنعم الله عليه بالمال والبنين، فكفر واستكبر. ويكون تقدير الآية: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يقول: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. 5- هدد الله الوليد بالوسم على أنفه في الدنيا، وبالعلامة الظاهرة على أنفه في الآخرة. قال ابن عباس: سَنَسِمُهُ: سنخطمه بالسيف، وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، وقد قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران 3/ 106] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه 20/ 102] ، وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية: سَنَسِمُهُ.. علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار. والراجح لدي أن هذا الوسم كان في الدارين. وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه فألحقه به عارا، لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم «1» . قال ابن العربي بمناسبة قوله تعالى: سَنَسِمُهُ: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني،

_ (1) تفسير القرطبي: 18/ 237.

قصة أصحاب الجنة [سورة القلم (68) الآيات 17 إلى 33] :

اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه «1» ، وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور علامة على قبح المعصية، وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره، ممّن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته. وقد كان عزيزا بقول الحق، وصار مهينا بالمعصية، وأعظم الإهانة: إهانة الوجه، وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لحياة الأبد، والتحريم له على النار فإن الله قد حرّم على النّار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود حسبما ثبت في الصحيح «2» . قصة أصحاب الجنة [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْتُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

_ (1) تحميم الوجه: تسخيمه بالفحم. (2) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1845.

الإعراب:

الإعراب: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالشيء المصروم، وهو فعيل بمعنى مفعول، مثل عين كحيل، وكف خضيب، ولحية دهين، أي عين مكحولة، وكفّ مخضوبة، ولحية مدهونة. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ تفسير ل فَتَنادَوْا أو أَنِ مصدرية، أي بأن. وكذا قوله: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ عَلى حَرْدٍ: جار ومجرور، في موضع نصب على الحال، وتقديره: وغدوا حاردين قادرين. البلاغة: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ ... بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: بَلَوْناهُمْ امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع وغيرهما من ألوان البلاء والآفات، أي عاملناهم معاملة المختبر. الْجَنَّةِ البستان، كان دون صنعاء بفرسخين، وكان لرجل صالح، ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة، فيجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا، ضاق علينا، فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين. لَيَصْرِمُنَّها يقطعون ثمرتها. مُصْبِحِينَ وقت الصباح كيلا يشعر بهم المساكين، فلا يعطون منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها. وَلا يَسْتَثْنُونَ لا يقولون في يمينهم إن شاء الله، وإنما سمّاه استثناء لأن معنى: لا أخرج إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله، واحد، والجملة مستأنفة، أي وشأنهم ذلك. فَطافَ عَلَيْها على الجنة. طائِفٌ أي أصابها بلاء طارق أو نازل من عذاب ربّك، وهو نار أحرقتها. كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء، أو كالليل في السواد بعد أن احترقت، أي سوداء. فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا. أَنِ اغْدُوا اخرجوا في الغدوة مبكّرين. عَلى حَرْثِكُمْ بستاتكم أو غلتكم. إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ مريدين قطع ثماره، وجواب الشرط دل عليه ما قبله. يَتَخافَتُونَ يتسارّون فيما بينهم ويتناجون حتى لا يسمعهم أحد. اغْدُوا ساروا غدوة إلى حرثهم. عَلى حَرْدٍ أي على منع للفقراء، وقيل: الحرد: القصد والسرعة. قادِرِينَ على الصرم في ظنهم.

سبب النزول نزول الآية (17) :

فَلَمَّا رَأَوْها رأوا الجنة سوداء محترقة. لَضَالُّونَ تائهون عنها، أي ليست هذه. مَحْرُومُونَ ممنوعون ثمرتها بمنعنا الفقراء منها. قالَ أَوْسَطُهُمْ خيرهم وأرجحهم رأيا. تُسَبِّحُونَ هلا تذكرون الله وتستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم. إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنع الفقراء حقهم. يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا على قصدهم وإصرارهم على منع المساكين. يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه. طاغِينَ متجاوزين حدود الله. أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، وقد روي أنهم بدّلوا خيرا منها. إِلى رَبِّنا راغِبُونَ طالبون منه العفو والخير. كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل ذلك العذاب لهؤلاء أصحاب الجنة عذاب الدنيا. الْعَذابُ لمن خالف أمرنا من أهل مكة وغيرهم. أَكْبَرُ أعظم منه. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا عذابها لاحترزوا عما يؤدّيهم إلى العذاب. سبب النزول: نزول الآية (17) : إِنَّا بَلَوْناهُمْ..: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذا، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحدا، فنزلت: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة أو غيره أنه لأجل كونه ذا مال وبنين، جحد وكفر وعصى وتمرد، بطريق الاستفهام على سبيل الإنكار، بيّن في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان، ليعرف هل يصرفه في طاعة الله ويشكر نعم الله، فيزيده من النعمة، أم يكفر بها فيقطعها عنه، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات؟ ومثله في هذا ومثل أهل

التفسير والبيان:

مكة كمثل أصحاب الجنة ذات الثمار، كلّفوا أن يشكروا النعم ويعطوا الفقراء حقوقهم، فلما جحدوا النعمة وحرموا المساكين، حرمهم الله الثمار كلها. روي أن واحدا من ثقيف، وكان مسلما، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من ناتجها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات، ورثها منه بنوه، ثم قالوا: عيالنا كثير، والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين، مثلما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم. التفسير والبيان: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ أي إنا اختبرنا كفار مكة وامتحناهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف خبرهم عند قريش، حين حلفوا أنهم سيقطعون ثمر الجنة (البستان) عند الصباح، حتى لا يعلم بهم الفقراء، فيأخذون ما كانوا يأخذونه، طمعا في اقتناء كامل الغلة والزرع، ولم يقولوا: إن شاء الله، فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا فيما حلفوا به بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة. وقال آخرون: بل المراد أنهم يصرمون كل الزرع، ولا يستثنون للمساكين نصيبهم أو القدر الذي كان أبوهم يدفعه إليهم. والمقصود اختبار أهل مكة، لمعرفة حالهم، أيشكرون نعم الله عليهم، فيؤمنون بالرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله الله إليهم مبشرا ونذيرا، أم يكذبونه ويكفرون برسالته، ويجحدون حق الله عليهم؟ فيجازوا بما يستحقونه، كما جوزي أصحاب الجنة، وهو ما أخبر عنه في قوله تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي طاف على تلك الجنة من عند الله نار أحرقتها، أي أصابتها آفة سماوية، حتى

صارت سوداء كالليل الأسود المظلم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها، أو لم يبق منها شيء. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب، فيحرم به رزقا قد كان هيئ له، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ، وَهُمْ نائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قد حرموا خير جنتهم بذنبهم» . ولكنهم لم يدروا بما حدث، وانطلقوا مصمّمين على ما أرادوا، فقال تعالى: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح، ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع: أن اخرجوا مبكرين في الصباح إلى الثمار والزرع، إن كنتم قاصدين للصرام أي القطع. قال مجاهد: كان حرثهم عنبا. فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي فبادروا مسرعين إلى حرثهم، وهم يتسارون ويتناجون ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم فقيرا يدخل عليكم، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ أي وذهبوا في الغداة مبكرين، زاعمين أنهم قادرون على الصرام ومنع المساكين وحرمانهم. فقوله: عَلى حَرْدٍ على قصد المنع، وقيل: الحرد: القصد والجدّ والسرعة. وقوله: قادِرِينَ من باب عكس الكلام للتهكم. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء، فعورضوا بنقيض مقصودهم. فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا: إِنَّا لَضَالُّونَ أي فلما وصلوا إليها وشاهدوها وهي على الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد، قال بعضهم لبعض: قد أخطأنا وتهنا طريق جنتنا، وليست هذه.

ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي بل في الحقيقة والواقع حرمنا الله ثمر جنتنا، بسبب عزمنا على منع المساكين وحرمانهم من خيرها، فلا حظ لنا ولا نصيب، ونحن نادمون على ما فعلنا، كما أخبر تعالى فيما يأتي: قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْتُسَبِّحُونَ أي قال أمثلهم وأعقلهم وأعدلهم وخيرهم رأيا وتدينا: هلا تسبّحون الله وتذكرونه وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، وتستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها. ولما صدموا بالحقيقة المرة ذكروا الله واعترفوا بذنبهم قائلين: قالُوا: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي قالوا: تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا، فإنا كنا ظالمين أنفسنا في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع الندم. ثم لام بعضهم بعضا كما قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي ثم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ أي القطاف، ولم يجدوا سبيلا إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، والدعاء على أنفسهم بالهلاك، فقال تعالى: قالُوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي قالوا: يا هلاكنا أقبل، فإنا كنا معتدين متجاوزين الحد، حتى أصابنا ما أصابنا.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم دعوا ربهم أن يعوضهم عما حلّ بهم، فقالوا: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أي لعل الله ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنتنا، فإنا راجون العفو والخير منه. قال مجاهد: إنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها. ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة، فقال: كَذلِكَ الْعَذابُ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل الجنة من الحرمان، وأهل مكة من القحط والقتل عذاب الدنيا، وهو عذاب كل من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقير، وإن عذاب الآخرة أشد وأعظم وأشق من عذاب الدنيا، فلو كان المشركون يعلمون ذلك، لعادوا إلى رشدهم، وبادروا إلى الإيمان بدعوة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأقلعوا عن الغي والضلال، ولكنهم لا يعلمون. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم وبعدهم عن الحق والصواب. فقه الحياة أو الأحكام: دلّت قصة أصحاب الجنة على ما يأتي: 1- الدنيا دار ابتلاء واختبار، فقد ابتلى الله تعالى أصحاب الجنة (البستان) وابتلى أهل مكة، بأن أعطاهم ربّهم أموالا ليشكروا، لا ليبطروا، فلما بطروا، وعادى المشركون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ابتلاهم بالجوع والقحط، كما ابتلى (اختبر) أهل الجنة المعروف خبرها عندهم لأنهم من أهل اليمن القريبة منهم، على بعد ستة أميال من صنعاء. 2- قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمرة أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام 6/ 141]

وأنه غير الزكاة، لذا نهي عن الحصاد في الليل، لا خشية الحيّات وهوّام الأرض لأن عقوبة أصحاب الجنة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين، كما ذكر الله تعالى. 3- دلّ قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ، نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج 22/ 25] . وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» . 4- إن الإنسان ضعيف القوة والتدبير والرأي، فلقد أحكم أصحاب الجنة الخطّة، وصمموا على صرام الزرع والثمر أو العنب في الصباح الباكر قبل أن ينتشر المساكين في البساتين، وذهبوا جادين مسرعين، متسارّين، أي يخفون كلامهم ويسرّونه لئلا يعلم بهم أحد قائلين: لا يدخل علينا مسكين، أي لا تمكنوه من الدخول، وعزموا على حرمان المساكين، مع كونهم قادرين على نفعهم، وهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، ففوجئوا بتدمير الله وإحراقه الحرث وإتلافه الغلة والثمر. 5- ولما رأوا الجنة محترقة لا شيء فيها، قد صارت كالليل الأسود وأضحت كالرماد، شكوا فيها، وقالوا: ضللنا الطريق إلى جنتنا، ثم لما تيقنوا منها قالوا: بل نحن محرومون، أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. وهذا دليل على أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. 6- كان أوسطهم، أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم قد أمرهم بالاستثناء وهو سبحان الله أي تنزيها لله عزّ وجلّ، فقال لهم: هلّا تسبّحون الله أي تقولون:

سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم، وتعلقون الأمر بمشيئة الله، وتتوبون إليه من خبث نيّتكم، فإن الله ينتقم من المجرمين، ولكنهم لم يطيعوه. ثم تذكروا قوله، واعترفوا بالمعصية، ونزّهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل، وإنما هم الظالمون أنفسهم في منعهم المساكين. 7- لام بعضهم بعضا في تدبير الخطة، كشأن كل جماعة تخيب في أمرها، فقال أحدهم لغيره: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، وقال الآخر: أنت خوّفتنا بالفقر، وقال الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال. 8- أكد أصحاب الجنة اعترافهم بالمعصية، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء، وكان استثناؤهم تسبيحا كما قال مجاهد وغيره، وهو في موضع: «إن شاء الله» لأن المعنى تنزيه الله عزّ وجلّ أن يكون شيء إلا بمشيئته. والخلاصة في رأي الأكثرين أن معنى قوله: تُسَبِّحُونَ هلا تستثنون، فتقولون: إن شاء الله. 9- أعلن أصحاب الجنة توبتهم وأخلصوا نيّتهم في رأي الأكثرين، حين قالوا: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ فإنهم تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا، فدعوا الله وتضرعوا، فأبدلهم الله، من ليلتهم تلك، ما هو خير منها. والإبدال: رفع الشيء ووضع آخر مكانه. قال مجاهد: إن هذه كانت توبة منهم، فأبدلوا خيرا منها. 10- هدد الله المكلفين من أهل مكة وغيرهم بقوله: كَذلِكَ الْعَذابُ أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال، والمعنى: مثلما فعلنا بهؤلاء أصحاب الجنة، نفعل بمن تعدّى حدودنا في الدنيا. ثم خوّف تعالى الكفار بعذاب أشد وهو عذاب الآخرة في قوله: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.

جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي [سورة القلم (68) الآيات 34 إلى 43] :

وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة، لما خرجوا عازمين على الصّرام، فخابوا. 11- الأظهر كما قال القرطبي: أن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين كان واجبا عليهم. وقيل: يحتمل أنه كان تطوعا. جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) الإعراب: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما: في موضع رفع مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، وكَيْفَ: في موضع نصب على الحال ب تَحْكُمُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ: إنما كسرت إِنَّ لمكان اللام في لَما ولولا دخول اللام في لَما لكانت مفتوحة لأنها مفعول تَدْرُسُونَ وهو كقولهم: علمت أن في الدار لزيدا. أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ مبتدأ وخبر، وبالِغَةٌ: صفة ل أَيْمانٌ. وقرئ: بالغة بالنصب على الحال من الضمير في لَكُمْ.

البلاغة:

إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ كسرت أَيْمانٌ إما لمكان اللام كما كسرت فيما قبله، أو لأن ما قبله قسم، وهي تكسر في جواب القسم. يَوْمَ يُكْشَفُ.. يَوْمَ: ظرف منصوب، وعامله إما فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أو فعل مقدر، تقديره: واذكر يوم. خاشِعَةً.. حال من ضمير يُدْعَوْنَ أو من ضمير يَسْتَطِيعُونَ وأَبْصارُهُمْ: مرفوع بفعله. وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ: جملة فعلية إما منصوبة على الحال، وإما مستأنفة لا موضع لها من الإعراب. البلاغة: الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ بينهما طباق. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟ والجمل التي بعدها: تقريع وتوبيخ. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تشبيه مقلوب ليكون أبلغ وأروع لأن الأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والثواب. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ كناية عن شدة الهول يوم القيامة. المفردات اللغوية: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. أي في الآخرة. جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي في الدرجة والمنزلة في الجنان، وهو إنكار التسوية في نتيجة الإسلام والاجرام، أي بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وهو إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون: إن صح أنّا نبعث كما يزعم محمد ومن معه، لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالا منهم، كما نحن عليه في الدنيا. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد؟ وهو التفات فيه تعجب من حكمهم، واستبعاد له، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ منزل من السماء. تَدْرُسُونَ تقرؤون، وأَمْ أي بل ألكم. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي لما تختارونه وتشتهونه. أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا عهود مؤكدة بالأيمان. بالِغَةٌ متناهية في التوكيد موثّقة. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي تحكمون به لأنفسكم، وهو جواب القسم «لأن معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا: أم أقسمنا لكم. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي سلهم أيهم كفيل لهم بذلك الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من

المناسبة:

أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل ألهم أي عندهم شركاء موافقون لهم في هذا القول يكفلون لهم به. فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أي فإن كان لهم شركاء كفلاء فليأتوا بشركائهم الكافلين لهم به. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي اذكر لهم حين شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، أي يوم يشتد الأمر، يقال: كشفت الحرب عن ساق: إذا اشتد الأمر فيهما. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يطلب منهم السجود توبيخا على تركهم السجود. فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة لا يرفعون أبصارهم. تَرْهَقُهُمْ تغشاهم وتلحقهم. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ في الدنيا. وَهُمْ سالِمُونَ أصحاء متمكنون لا شيء يمنعهم. المناسبة: بعد تخويف الكفار بعذاب الدنيا في قوله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذكر الله تعالى أحوال السعداء، وأبان أن للمتقين جنات النعيم، ثم ردّ على الكفار الذين يزعمون المساواة في الآخرة بينهم وبين المسلمين من غير كتاب إلهي، ولا عهد ممنوح مؤكد بالأيمان، ولا كفلاء في يوم شديد الأهوال، عسير الحساب على الصلاة وغيرها. التفسير والبيان: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إن لكل من اتقى الله وأطاعه، في الدار الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي، ولا يكدره شيء. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية، قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة. ثم أجاب الله تعالى عن هذا الكلام بقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ أي كيف نساوي بين الفريقين في

الجزاء، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم عاص لا يبالي بمعصيته؟ كلا فلا تسوية بين المطيع والعاصي. ثم نفى الله تعالى وجود كل الأدلة العقلية أو النقلية التي تصلح لإثبات التسوية أو تحقيق الدعوى، فقال: 1- ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أي كيف تظنون ذلك، وتحكمون هذا الحكم الأعوج، كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وأصول الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم. وهذا نفي الدليل العقلي. 2- أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي بل ألكم أو بأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه، يتضمن حكما مؤكدا كما تدعونه، وتقرؤون فيه، فتجدون المطيع كالعاصي؟! وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي. 3- أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي بل ألكم أو معكم عهود عند الله موثقة مؤكدة ثابتة إلى يوم القيامة في أن يدخلكم الجنة، ويحصل لكم ما تريدون وتشتهون، وينفّذ لكم الحكم الذي تصدرونه؟ وهذا نفي الوعد الإلهي بما توقعوا وظنوا. 4- سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي قل لهم يا محمد موبخا لهم ومقرّعا: من هو المتضمن المتكفل بهذا، أو أيهم بذلك كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟ 5- أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي بل ألهم شركاء لله بزعمهم من الأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟ فإن كان لهم شركاء، فليأتوا بهم لمناصرتهم إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال جوهر الاعتقاد لدى المشركين.

والخلاصة: المراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم، ولا نقلي، وهو كتاب يدرسونه، ولا عهد لهم به عند الله، ولا كفيل لهم يتكفل بما يقولون، ولا لهم مؤيد يوافقهم من العقلاء، مما يدل على بطلان دعواهم. ثم تحداهم الله تعالى بالإتيان بالشركاء يوم اشتداد الأمر، فقال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ أي فليأتوا بشركائهم لإنقاذهم يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب في القيامة، وحين يدعى هؤلاء الشركاء وأنصارهم من الكفار والمنافقين إلى السجود توبيخا لهم على تركه في الدنيا، فلا يتمكنون من السجود لأن ظهورهم تيبس وتصبح طبقا واحدا، فلا تلين للسجود. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا» . والمراد بقوله: يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ شدة الأمر وعظم الخطب لأن الله تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحوادث، فليس المراد بالساق الجارحة، وإنما ذلك مؤول بما ذكر. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَهُمْ سالِمُونَ أي تكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة، تغشاهم ذلة شديدة، وحسرة وندامة، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى، فأبوا وتمردوا وامتنعوا، مع أنهم كانوا سالمين أصحاء، متمكنين من الفعل، لا علل ولا موانع تمنعهم من أداء السجود. قال النخعي والشعبي: المراد بالسجود: الصلوات المفروضة. والخلاصة: أنهم لا يدعون إلى السجود تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا

فقه الحياة أو الأحكام:

وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا، وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب عز وجل، فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا من المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهره طبقا واحدا، كما ثبت في الحديث المتقدم. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن للمتقين الملتزمين أوامر الله المجتنبين نواهيه في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا. 2- لا تسوية في الجزاء الأخروي بين المسلمين والكفار، أو بين الطائعين والعصاة، وذلك بحكم الفضل والإحسان، لا من قبيل الاستحقاق على الله شيئا. 3- استنكر الله تعالى حكم المشركين الأعوج في المساواة بينهم وبين المسلمين، كأن أمر الجزاء مفوض إليهم، حتى يحكموا بما شاؤوا أن لهم من الخير ما للمسلمين. واستنكر أيضا وجود كتاب سماوي يجدون فيه المطيع كالعاصي، وأن لهم ما يختارون وما يشتهون. ونفى أن يكون لهم عهود ومواثيق مؤكدة بالله تعالى، يستوثقون بها في أن يدخلهم الجنة، فليس الأمر كما يحكمون ويظنون. 4- أنكر الله تعالى عليهم كذلك أن يكون لهم كفيل بما زعموا، قائم بالحجة والدعوى، أو أن يكون لهم ناس شركاء، أي شهداء يشهدون على ما زعموا، إن كانوا صادقين في دعواهم. 5- من أنواع العذاب في الآخرة للكفار: أنهم يوم يشتد الأمر، ويعظم

تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والتذكير العالمي بالقرآن [سورة القلم (68) الآيات 44 إلى 52] :

الخطب يوم القيامة، يطالبون تقريعا وتوبيخا بأداء الصلاة والسجود، فلا يتمكنون عقابا لهم بنقيض ما كانوا عليه في الدنيا، وتكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة، وتغشاهم الذلة والمهانة، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم، ووجوههم أشد بياضا من الثلج، وتسودّ وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار. تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والتذكير العالمي بالقرآن [سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) الإعراب: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ.. مَنْ: في موضع نصب لأنه معطوف على ياء المتكلم في فَذَرْنِي. أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ قال: تَدارَكَهُ بالتذكير لأن تأنيث النعمة غير حقيقي، أو حملا على المعنى لأن النعمة بمعنى النعيم. وقرئ بالتأنيث تداركته نعمة بالتأنيث حملا على اللفظ وَهُوَ مَذْمُومٌ الجملة حال.

المفردات اللغوية:

وَإِنْ يَكادُ إِنْ مخففة من الثقيلة بدليل اللام. لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قرئ بضم الياء وفتحها، وهما لغتان، والضم أفضل. المفردات اللغوية: فَذَرْنِي دعني واتركني. وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ اتركه إلي فإني أكفيكه، والحديث: القرآن. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ نأخذهم تدريجيا أو قليلا قليلا. والاستدراج: أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد لتوريطه فيه، والمراد هنا: سندنيهم من العذاب تدريجيا بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه استدراج، وهو الإنعام عليهم لأنهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين. وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم وأطيل لهم المدة. كَيْدِي تدبيري. مَتِينٌ شديد لا يطاق، ولا يدفع بشيء. أَمْ تَسْئَلُهُمْ بل أتسألهم على تبليغ الرسالة. أَجْراً أجرة على البلاغ. مَغْرَمٍ غرامة مالية يعطونكها. مُثْقَلُونَ محمّلون أثقالا، فيعرضون عنك، ولا يؤمنون بك. الْغَيْبُ الشيء المغيب الذي استأثر الله بعلمه، أو اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب. فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي يحكمون به ويستغنون به عن علمك، ويكتبون منه ما يقولون. لِحُكْمِ رَبِّكَ قضاؤه فيهم وإمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس عليه السلام في الضجر والعجلة. نادى دعا ربه في بطن الحوت. مَكْظُومٌ مملوء غيظا وغما، مأخوذ من كظم السقاء: إذا ملأه. تَدارَكَهُ أدركه. نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ رحمة من الله وهي التوفيق للتوبة وقبولها. بِالْعَراءِ الأرض الخالية عن الأشجار والزروع. وَهُوَ مَذْمُومٌ ملوم مطرود عن الرحمة والكرامة. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ اصطفاه ورد إليه الوحي والنبوة. مِنَ الصَّالِحِينَ من الأنبياء الكاملين في الصلاح. لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك ويسقطك من مكانك، والمعنى: إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك ويرمونك. لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ القرآن. وَيَقُولُونَ حسدا وعداوة. إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ بسبب القرآن الذي جاء به، حيرة من أمره وتنفيرا عنه. إِلَّا ذِكْرٌ موعظة وتذكير. لِلْعالَمِينَ الجن والإنس، فلا يحدث بسببه جنون. قال البيضاوي: لما جننوه لأجل القرآن، بيّن أنه ذكر عام، لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا، وأمتنهم رأيا.

المناسبة:

المناسبة: بعد تخويف الكفار بأهوال يوم القيامة وشدائدها، خوّفهم تعالى وهددهم بما في قدرته من القهر، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن، ثم أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السالم، ثم أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم عن حسد قومه، وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبّره وشجعه، ثم أعلم الناس قاطبة أن القرآن عظة للجن والإنس جميعا، يتلقاه أهل العقول والأفهام، وليس المجانين كما زعموا. التفسير والبيان: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي دعني وإياهم، وخلّ بيني وبينهم، واترك أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن، فأنا أكفيك أمرهم، وأعلم كيف أجازيهم، فلا تشغل قلبك بشأنهم، فإنا سنأخذهم بالعذاب على غفلة، ونسوقهم إليه درجة فدرجة، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج لأنهم يظنونه إنعاما، ولا يفكرون في عاقبته، وما سيلقون في نهايته. وهذا تهديد شديد، وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. فهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج، بل يعتقدون أن ذلك من الله تعالى كرامة، وهو في الأمر نفسه إهانة كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 55- 56] وقال سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام 6/ 44] . وقال الله تعالى هنا: وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي أمهلهم وأؤخرهم ليزدادوا إثما، ويتورطوا، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد، فلا يفوتني شيء لكل

من خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي. وسمى الله الجزاء كيدا- والكيد احتيال- لكونه في صورته، إذ نفعهم وهو يريد الضرر بهم، لما علم من خبثهم وتماديهم في الكفر. جاء في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] . ثم أخبر الله تعالى عن إزالة كل الموانع التي تمنعهم من قبول الإسلام والحق، فقال: - أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي بل أتطلب منهم أجرة على الهداية والتعليم وتبليغ رسالتك ودعوتك إياهم إلى الإيمان بالله تعالى؟ فهم من الغرامة المالية التي يتحملونها مثقلون بأدائها، لشحهم ببذل المال. والمراد: هل طلبت منهم أجرا، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب؟ الحقيقة أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عز وجل بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجوا ثواب ذلك عند الله تعالى، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وكفرا وعنادا. وفي هذا إثبات النبوة لأن النبي ينشد الخير لذاته، لا لمنفعة مادية. - أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي بل أعندهم علم الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون، ويستغنون بذلك عن إجابتك وامتثال قولك. والمراد أنه ليس لهم حجة نقلية يعتمدون عليها في الإعراض عن قبول رسالة الإسلام. ولما بالغ الله تعالى في تزييف منهج الكفار، وتفنيد شبهاتهم وإبطالها،

وزجرهم عليها، أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته، فقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ أي فاصبر يا محمد على قضاء ربك وحكمه فيك وفي هؤلاء المشركين، وعلى أذى قومك وتكذيبهم، وامض في تبليغ دعوتك، دون توقف أو تعثر بمعارضتهم وإيذائهم، فإن العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة. ولا تكن مثل يونس عليه السلام في الضجر والعجلة والغضب، حين ذهب مغاضبا على قومه، فكان من أمره ما كان، من ركوبه البحر، والتقام الحوت له، وشروده في البحار، وندمه على ما فعل، فنادى ربه في الظلمات في بطن الحوت، وهو مملوء غيظا وغما على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، كما جاء في آية أخرى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء 21/ 87- 88] . والمعنى: لا يوجد منك ما يوجد منه من الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، كما قال تعالى: أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ أي لولا أن تداركته رحمة من الله ونعمة، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، فتاب الله عليه، لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه، مطرود من الرحمة والكرامة، لذا قال تعالى: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي فاصطفاه ربه واستخلصه واختاره للنبوة والوحي، وجعله من الأنبياء المرسلين لقومه الكاملين في الصلاح، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا جميعا. ويلاحظ أن كلمةدلت على أن المذمومية لم تحصل.

ثم حذر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم من عداوة المشركين، قائلا: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي إنهم- كما قال الزمخشري- من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك، وكان هذا النظر يشتد منهم في حال قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن، لشدة كراهيتهم، وحسدا على ما أوتي من النبوة، ويقولون: إنه مجنون، حيرة في أمره، وتنفيرا عنه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم. والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن. وقال بعضهم: المراد أنهم يكادون يصيبونك بالعين، روي أن العين كانت في بني أسد، فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله، إلا عانة، فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك، فقال: لم أر كاليوم رجلا، فعصمه الله. قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه، عداوة لك. ورد ابن قتيبة على ذلك قائلا: ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك. ورأى ابن كثير أن المعنى: يحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية- على رأي البعض- دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة. منها: ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد، والعين حق» أي بإرادة الله.

فقه الحياة أو الأحكام:

ومنها: ما أخرجه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد تدخل الرجل العين في القبر، وتدخل الجمل القدر» وإسناد رجاله كلهم ثقات. ومنها: ما أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن العين لتولع الرجل بإذن الله، فيتصاعد حالقا، ثم يتردى منه» وإسناده غريب. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ويقولون عن محمد صلّى الله عليه وسلّم: إنه لمجنون، أي لمجيئه بالقرآن، وما القرآن إلا موعظة وتذكير للجن والإنس، فلا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء. وفيه نسبة الجهل إلى من يقول هذا القول، وكيف يجنن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف؟!. قال الحسن البصري: دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- كفى بالله مجازيا ومنتقما ممن يكذب بالقرآن العظيم، وإن الله سيأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون، فعذّبوا يوم بدر. وهذا استدراج من الله تعالى، والاستدراج: ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرّج. 2- إن الله يمهل ولا يهمل، فهو سبحانه يمهل ويطيل المدة للظالمين والكفار، ثم يعاقبهم، فلا يفوته أحد، وعذاب الله قوي شديد، وتدبيره محكم لا يمكن التفلت منه.

3- ليس للكفار والمشركين علم بالغيب الذي غاب عنهم، فيكون حكمهم لأنفسهم بما يريدون غلطا محضا، وتقوّلا كاذبا. 4- الصبر على قضاء الله وحكمه مطلوب شرعا، ولا ينبغي لمؤمن العجلة والتضجر والغضب، كما عجل صاحب الحوت يونس بن متّى عليه السلام حين تضجر ثم تاب وندم، ودعا في بطن الحوت وهو مملوء غما، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء 21/ 87] . فقبل الله بفضله ومنّه ورحمته ونعمته دعاءه، واصطفاه ربه واختاره وجعله من الأنبياء الصالحين، بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون هم أهل نينوى، ولولا قبول توبته، لنبذ في الأرض الخالية الفضاء مذموما ملوما. والذم واللوم بسبب ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. ولم يقع الذم بدليل كلمة 5- اشتدت عداوة الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا إذا سمعوه يقرأ القرآن، نظروا إليه نظرة شديدة ملؤها الحقد والعداوة والبغضاء، حتى لتكاد نظراتهم تسقطه وتزلّ قدمه، أو تهلكه. وينسبونه أيضا إلى الجنون إذا رأوه يقرأ القرآن، مع أن القرآن لا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء، وهو شرف وتذكير وموعظة للعالمين، شرفوا باتباعه والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون؟ وكيف يجنن من جاء بمثله؟

سورة الحاقة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحاقة مكيّة، وهي اثنتان وخمسون آية. تسميتها: سميت سورة الحاقة لافتتاحها بالاستفهام عنها، تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها، والْحَاقَّةُ اسم من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد، ولهذا عظم الله أمرها بالسؤال عنها، أو هي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، التي هي آتية لا ريب فيها. مناسبتها لما قبلها: تتعلق السورة بما قبلها من وجهين: 1- وقع في سورة (ن) ذكر يوم القيامة مجملا، في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [42] وفي هذه السورة أوضح تعالى نبأ هذا اليوم وشأنه العظيم: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ. 2- هدد الله تعالى في السورة السابقة كل من كذب بالقرآن وتوعده بقوله: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ.. [44] وفي هذه السورة ذكر أحوال الأمم التي كذبت الرسل وما عوقبوا به، للعظة والزجر والعبرة للمعاصرين.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بأصول العقيدة، وتحدثت عن أهوال القيامة، وصدق الوحي، وكون القرآن كلام الله، وتبرئة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من افتراءات الكفار واتهامات الضالين. بدئت بتفخيم شأن القيامة وتعظيم هولها، وتكذيب الأقوام السابقة بها، مثل ثمود، وعاد، وقوم لوط، وفرعون وأتباعه، وقوم نوح، وإهلاكهم بسبب تكذيبهم بها وتكذيب رسلهم، من أول السورة إلى قوله تعالى: أُذُنٌ واعِيَةٌ. ثم وصفت وقائع عذاب الآخرة جزاء على إنكاره في الدنيا في قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ.. إلى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. وأردفت ذلك ببيان حال السعداء والأشقياء يوم القيامة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ.. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ إلى قوله: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ. ثم أقسم رب العزة قسما بليغا على صدق الوحي والقرآن وأنه كلام الله المنزل على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه ليس بقول شاعر ولا كاهن: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ إلى قوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وختمت السورة ببيان البرهان القاطع على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأمانته في تبليغ الوحي، وأن القرآن تذكرة وعظة وخبر حق لا مرية فيه، ورحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ.. إلخ السورة.

تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به [سورة الحاقة (69) الآيات 1 إلى 12] :

تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) الإعراب: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ الْحَاقَّةُ الأولى: مبتدأ، ومَا استفهامية، مبتدأ ثان، والْحَاقَّةُ الثانية: خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره: خبر عن المبتدأ الأول. وقوله مَا الْحَاقَّةُ الأصل: الحاقة ما هي؟ أي أيّ شيء هي؟ فوضع الظاهر موضع المضمر للتفخيم والتعظيم، فهو أهول لها. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مَا استفهامية مبتدأ، ومَا الثانية: مبتدأ ثان، والْحَاقَّةُ خبره، والمبتدأ الثاني وخبره في موضع نصب ب أَدْراكَ. وأَدْراكَ والجملة المتصلة به: في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ الأول. وأَدْراكَ يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول: الكاف، والجملة بعده في موضع المفعول الثاني. ولم يعمل أَدْراكَ في مَا الثانية لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. بِالطَّاغِيَةِ إما مصدر كالعاقبة والعافية، وإما صفة لموصوف محذوف تقديره: بالصيحة الطاغية، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ استئناف أو صفة جيء به لنفي توهم كون الأمور طبيعية. سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً حذفت تاء التأنيث من سَبْعَ وأثبتت في ثَمانِيَةَ

البلاغة:

لأن الليالي جمع مؤنث والأيام جمع مذكر، وحُسُوماً: إما منصوب على الوصف لقوله: أَيَّامٍ أو منصوب على المصدر، أي تباعا. وصَرْعى حال من الْقَوْمَ لأن فَتَرَى من رؤية البصر، وكَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ: في موضع نصب على الحال من ضمير صَرْعى. وتقديره: مشبهين أعجاز نخل، وخاوِيَةٍ: صفة لنخل، وقال خاوِيَةٍ بالتأنيث لأن النخل يجوز فيه التأنيث والتذكير مثل نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ يقرأ بالإدغام، لقرب التاء من مخرج اللام. البلاغة: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ إطناب بتكرار الاسم للتهويل والتعظيم. كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ثم قال: فَأَمَّا ثَمُودُ وَأَمَّا عادٌ تفصيل بعد إجمال، وفيه لف ونشر مرتب. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ تشبيه مرسل مجمل، فيه الأداة، وحذف وجه الشبه. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ استعارة، شبه ارتفاع الماء بطغيان الإنسان على الإنسان. المفردات اللغوية: الْحَاقَّةُ أي الساعة الثابتة المجيء، الواجبة الوقوع، وهي القيامة، التي يحق، أي يثبت ويجب حدوثها وما اشتملت عليه من البعث والحساب والجزاء الذي أنكره المنكرون. مَا الْحَاقَّةُ أي أي شيء هي؟ وضع الظاهر فيها موضع الضمير، تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي وأيّ أعلمك ما هي؟ أي إنك لا تعلم كنهها، فإنها أعظم من أن يدري بها أحد، والجملة زيادة تعظيم لشأنها. بِالْقارِعَةِ القيامة التي تقرع القلوب بالإفزاع، وتهز النفوس بأهوالها، والمواد بالانفطار والانتثار، وإنما وضعت موضع ضمير الْحَاقَّةُ زيادة في وصف شدتها. بِالطَّاغِيَةِ الواقعة التي جاوزت الحد في الشدة والقوة، وهي الصيحة أو الرجفة، أي الصاعقة، وسبب إهلاكهم: تكذيبهم بالقارعة، وطغيانهم بالكفر والمعاصي. بِرِيحٍ صَرْصَرٍ شديدة الصوت والبرد، من الصّرّة أي الصيحة، أو من الصّر أي البرد الذي يضرب النبات والحرث. عاتِيَةٍ شديدة القوة والعصف. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلّطها عليهم بقدرته. سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ قال المحلي: أولها من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال، وكانت في عجز الشتاء وهي أيام العجوز أو العجائز، سميت عجوزا لأنها عجز للشتاء. حُسُوماً متتابعات، أو من الحسم: وهو القطع والاستئصال.

التفسير والبيان:

فَتَرَى الْقَوْمَ إن كنت حاضرا في مهابها أو في الليالي والأيام. صَرْعى موتى مطروحين هالكين، جمع صريع. أَعْجازُ نَخْلٍ أصول نخل. خاوِيَةٍ ساقطة فارغة. مِنْ باقِيَةٍ أي من نفس باقية. أو بقاء، أو بقية أو باق، والتاء للمبالغة. وَمَنْ قَبْلَهُ من تقدّمه من الأمم الكافرة، وقرئ: وَمَنْ قَبْلَهُ أي أتباعه وجنوده. وَالْمُؤْتَفِكاتُ المنقلبات وهي قرى قوم لوط، والمراد: أهلها. بِالْخاطِئَةِ بالخطإ، أو بالفعلة ذات الخطأ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ عصى كل أمة رسولها. رابِيَةً زائدة في الشدة، زيادة أعمالهم في القبح، من ربا الشيء: زاد. طَغَى الْماءُ جاوز حده المعتاد، وارتفع وعلا فوق كل شيء من الجبال وغيرها زمن الطوفان. حَمَلْناكُمْ أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. الْجارِيَةِ السفينة التي تجري في الماء، وهي التي صنعها نوح عليه السلاح بإلهام الله وتعليمه، ونجا بها هو ومن كان معه مؤمنا، وغرق الآخرون. لِنَجْعَلَها لَكُمْ لنجعل الفعلة، وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك وإغراق الكافرين. تَذْكِرَةً عظة. وَتَعِيَها وتحفظها. أُذُنٌ واعِيَةٌ حافظة لما تسمع، أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه لتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه. وتنكير كلمة أُذُنٌ للدلالة على قلتها. التفسير والبيان: افتتح الله سورة الحاقة بما يدل على تعظيم شأنها، وتفخيم أمرها، وتهويل يومها فقال: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ الْحَاقَّةُ هي القيامة، سميت بذلك لأن الأمور تحقّ فيها، وتثبت وتقع من غير شك ولا ريب، والْحَاقَّةُ يوم الحق لأنها تظهر فيها الحقائق. والمعنى: القيامة التي يتحقق فيها الوعد والوعيد، والساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، أيّ شيء هي في حالها وصفاتها؟ فهي عظيمة الشأن، شديدة الهول، لا يدرك حقيقتها ولا يتصور أوصافها غير الله عز وجل. وأي شيء أعلمك بها أيها النبي الرسول؟ فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقين، لعظم شأنها، وشدة هولها.

قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن: وَما أَدْراكَ فقد أدراه إياه وعلمه، وكل شيء قال: وَما يُدْرِيكَ فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: وَما أَدْراكَ فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: وَما يُدْرِيكَ فإنه لم يخبر به. ثم ذكر الله تعالى نوع العقاب الذي أوقعه بالأمم السابقة التي كذبت بالقيامة تخويفا لأهل مكة وغيرهم، فقال: - كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح، وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة وهي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها، والمواد بالانفجار والانتثار. ثم فصل الله تعالى أنواع العقاب ونتائجه فقال: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي فأما جماعة ثمود قوم صالح عليه السلام، فأهلكوا هلاكا تاما بالطاغية: وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة التي جاوزت الحد في الشدّة، كما قال تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود 11/ 67] أي الصاعقة، وقال سبحانه: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف 7/ 78، 91] أي الزلزلة، فالألفاظ مختلفة، ولكن معانيها واحدة. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً وأما قبيلة عاد قوم هود عليه السلام، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت، شديدة البرد، قاسية شديدة الهبوب، جاوزت الحد لشدة هولها، وطول زمنها وشدة بردها، عتت عليهم بغير رحمة ولا شفقة، وسلطها الله وأرسلها عليهم طوال مدة مستمرة هي سبع ليال وثمانية أيام لا تنقطع ولا تهدأ، وكانت تقتلهم بالحصباء، متتابعات، تحسمهم حسوما، أي تفنيهم وتذهبهم.

وكانت عادة القرآن تقديم قصة عاد على ثمود، إلا أنه قلب هاهنا لأن قصة ثمود بنيت على غاية الاختصار، ومن عادتهم تقديم ما هو أخصر. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟ أي فتشاهد إن كنت حاضرا أولئك القوم في ديارهم أو في تلك الأيام والليالي مصروعين بالأرض موتى، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية، لم يبق منهم أحد، فهل تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل بادوا عن آخرهم، ولم يجعل الله لهم خلفا، كما جاء في قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف 46/ 25] . وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ أي وأتى الطاغية فرعون ومن تقدمه من الأمم الكافرة وأهل المنقلبات قرى قوم لوط بالفعلة الخاطئة، وهي الشرك والمعاصي. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها، فأهلكهم الله ودمّرهم، وأخذهم أخذة أليمة شديدة زائدة على عقوبات سائر الكفار والأمم. ونظير مطلع الآية قوله تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ عِقابِ [ص 38/ 14] وقوله سبحانه: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ وَعِيدِ [ق 50/ 14] ومن كذب برسول فقد كذّب الجميع، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء 26/ 105] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء 26/ 123] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء 26/ 141] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء 26/ 160] .

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي إننا لما تجاوز الماء حده وارتفع بإذن الله، وجاء الطوفان في زمن نوح عليه السلام، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم، في السفينة التي تجري في الماء، لينجوا من الغرق، ولنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عبرة وعظة، تستدلون بها على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وشدة انتقامه، ولتفهمها وتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت. فقوله: لِنَجْعَلَها .. وَتَعِيَها عائد إلى الواقعة المعلومة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة. روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن مكحول مرسلا قال: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سألت ربي أن يجعلها أذن علي» قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قط، فنسيته. وأما خبر بريدة في أن الآية نزلت بسبب علي رضي الله عنه فهو غير صحيح. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يلي: 1- تفخيم شأن القيامة، وتعظيم أمرها، والتخويف من أهوالها، ولا شك أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق، والأرض بالدكّ، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك. 2- وجوب الاتعاظ والاعتبار بمصير الأمم السابقة التي كذبت رسلها، وقد ذكرت الآيات هنا ثلاث قصص: قصة عاد وثمود الذين كذبوا بالقارعة وهي القيامة التي تقرع الناس بأهوالها، وقصة فرعون ومن تقدمه وقوم لوط، وقصة نوح عليه السلام مع قومه.

بعض أهوال القيامة [سورة الحاقة (69) الآيات 13 إلى 18] :

أما ثمود فأهلكوا بالصيحة الطاغية، أي المجاوزة للحدّ، حد الصيحات من الهول، وأما ثمود فأهلكوا بريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار، شديدة الهبوب، غضبت لغضب الله عز وجل، أرسلها وسلطها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية متتابعة، لا تفتر ولا تنقطع، فصار القوم في تلك الليالي والأيام موتى هالكين، كأصول نخل بالية متآكلة الأجواف لا شيء فيها. وأما فرعون وجنوده فأهلكوا بالإغراق في البحر، وأما المؤتفكات أهل قرى لوط، فدمروا بالريح التي ترميهم بالحصباء تدميرا شاملا بعقوبة زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار، وهي الكفر والفواحش. وأما قوم نوح فأغرقوا بالطوفان، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه بركوبهم في السفينة التي صنعها نوح بإلهام من الله تعالى، ليجعل الله ذلك تذكرة وعظة لهذه الأمة، وتحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. بعض أهوال القيامة [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) الإعراب: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ نائب فاعل، ووصف نَفْخَةٌ ب واحِدَةٌ وإن كانت النفخة لا تكون إلا واحدة، على سبيل التأكيد، كقوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ

البلاغة:

[النحل 16/ 51] وإن كان الإلهان لا يكونان إلا اثنين للتأكيد. وجاء تذكير نُفِخَ لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ.. يومئذ: ظرف منصوب متعلق ب وَقَعَتِ، وكذلك يَوْمَئِذٍ الثانية يتعلق ب واهِيَةٌ وكذلك يومئذ في يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ يتعلق ب تُعْرَضُونَ. البلاغة: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ بينهما جناس اشتقاق، وكذلك مثله لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. المفردات اللغوية: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ هي النفخة الأولى التي عندها خراب العالم، والصور: البوق. حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ رفعت من أماكنها. فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً دقتا وضرب بعضها ببعض، فصارت أرضا مستوية لا عوج فيها، وكتلة واحدة. والدك والدق متقاربان في المعنى، غير أن الدك أبلغ. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي فحينئذ قامت القيامة، والواقعة: النازلة. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ تصدعت وتشققت وتبددت. واهِيَةٌ مختلة ضعيفة مسترخية لا تماسك بين أجزائها. وَالْمَلَكُ الملائكة، فالمراد به الجنس. عَلى أَرْجائِها جوانب السماء وأطرافها، جمع رجا أي جانب. فَوْقَهُمْ فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء. ثَمانِيَةٌ ثمانية أملاك. تُعْرَضُونَ للحساب. لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ لا تخفى سريرة من السرائر. المناسبة: بعد أن بالغ الله تعالى في تهويل القيامة، وذكر القصص الثلاث لبيان مآل المكذبين بها، تفخيما لشأنها، وتنبيها على إمكانها، شرع سبحانه في بيان تفاصيل أحوال القيامة وأهوالها، وابتدأ بمقدماتها. التفسير والبيان: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي يكون عندها خراب العالم. وهذا إخبار عن أهوال يوم القيامة.

وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي رفعت من أماكنها، وأزيلت من مواقعها بالقدرة الإلهية، فضرب بعضها ببعض ضربة واحدة، حتى صارت كتلة واحدة، ورجعت كثيبا مهيلا منثورا، وتبددت وتغيرت عما هو معروف، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ.. [إبراهيم 14/ 48] . والدك أبلغ من الدق. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ فحينئذ قامت القيامة، ووقعت النازلة. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ، فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أي وتصدعت السماء، فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية غير متماسكة الأجزاء بعد أن كانت قوية محكمة البناء. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أي وتكون الملائكة على جوانب السماء وحافاتها على أهبة الاستعداد لتنفيذ ما يأمرهم به الله عز وجل، ويحمل عرش ربك فوق رؤوس الملائكة الذين هم على الأرجاء ثمانية أملاك، وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل. والعرش: أعظم المخلوقات. وحمل العرش مجاز لأن حمل الإله محال، فلا بد من التأويل، وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفون، وعلى سبيل الرمز، كإيجاد البيت (الكعبة) وجعل الحفظة على العباد، لا للسكنى في البيت، ولا بسبب احتمال النسيان. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي في ذلك اليوم يعرض العباد على الله لحسابهم، فلا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم وأقوالكم وأفعالكم وأموركم خافية كائنة ما كانت، فهو يعلم السرّ وأخفى، ويعلم بالظواهر والسرائر والضمائر، وتعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا، ليكتمل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين. والعرض: عبارة عن المحاسبة والمساءلة، شبه ذلك بعرض السلطان

فقه الحياة أو الأحكام:

العسكر، لتعرف أحواله، وقد صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة، لا لأنه يقعد على السرير. وفي هذا تهديد شديد، ووعيد وزجر أكيد، وإخبار بخطورة الحساب العسير. روى ابن أبي الدنيا عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» . وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطّيّر الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله» لكن الترمذي رواه عن أبي هريرة. ورواه ابن جرير أيضا عن عبد الله بن مسعود. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيات على ما يأتي: 1- من مقدمات القيامة: نفخة إسرافيل في الصور (البوق) . والمراد النفخة الأولى، قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. 2- من أهوال القيامة ومخاوفها: صيرورة الأرض والجبال كالجملة الواحدة متفتتة متكسرة إما بقدرة الله من غير واسطة، وإما بالزلزلة التي تكون في

القيامة، وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة. 3- بعد النفخة الأولى في الصور وتفتت الأرض والجبال تقوم القيامة، وتتصدع السماء وتتفطّر، وتصبح ضعيفة واهية غير متماسكة الأجزاء، إيذانا بزوالها وتبدلها وخرابها، بعد ما كانت محكمة شديدة. 4- تكون الملائكة حين انشقاق السماء على أطرافها، بعد أن كانت السماء مكانهم، فإذا انشقت صاروا في أطرافها، ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السّوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. 5- يكون فوق أولئك الملائكة ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله يحملون العرش الذي أراده الله بقوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [المؤمن 40/ 7] وقوله: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 39/ 75] . ذكر الثعلبي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين، فكانوا ثمانية» . وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحمله اليوم أربعة، وهم يوم القيامة ثمانية» . 6- في يوم القيامة الرهيب يعرض العباد على الله للحساب والجزاء، كما قال تعالى: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [الكهف 18/ 48] وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة، فلا يخفى على الله من أمورهم شيء، فالله عالم بكل شيء من الأعمال. وكل من الحمل والعرض لا يعني التجسيم والتشبيه بالمخلوقات، وإنما للتصوير والرمز والتقريب إلى الأذهان.

حال الأبرار الناجين بعد الحساب [سورة الحاقة (69) الآيات 19 إلى 24] :

حال الأبرار الناجين بعد الحساب [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 24] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) الإعراب: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هاؤُمُ: اسم فعل أمر بمعنى خذوا، وكِتابِيَهْ: مفعول منصوب ل اقْرَؤُا وفيه دليل على إعمال الفعل الثاني، ولو أعمل الأول لقال: «اقرؤوه» ففيه تنازع بين هاؤُمُ واقْرَؤُا. هَنِيئاً حال، أي متهنئين. كُلُوا إنما جمع الخطاب في كُلُوا بعد قوله: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ لقوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ ومَنْ مضمّن معنى الجمع. البلاغة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ مقابلة مع ما بعده: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ... فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، قُطُوفُها دانِيَةٌ ... الْخالِيَةِ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، ويسمى في علم البديع السجع المرصع. المفردات اللغوية: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تفصيل للعرض على الله. فَيَقُولُ تفاخرا. هاؤُمُ خذوا. ظَنَنْتُ تيقنت أو علمت. مُلاقٍ معاين. راضِيَةٍ ذات رضا، يرضى بها أصحابها. عالِيَةٍ مرتفعة المكان والدرجات. قُطُوفُها ثمارها، أي ما يجتني من الثمر، جمع قطف: وهو ما يجتنى بسرعة، والقطف بالفتح: المصدر. دانِيَةٌ قريبة، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.

المناسبة:

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي يقال لهم: أكلا وشربا هنيئا، أو هنئتم هنيئا، أو متهنئين. فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية في الدنيا. المناسبة: بعد الإخبار بأن جميع العباد يعرضون على الله للحساب والجزاء دون أن يخفى عليه شيء من أمورهم، أخذ في تفصيل عرض الكتب، ومردودها على أصحابها، مبتدئا بأهل اليمين، ثم بأهل الشمال. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه بيمينه يوم القيامة وفرحه بذلك، فقال: فَأَمَّا «1» مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي فأما من أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله بيمينه، فيقول من شدة فرحه وابتهاجه لكل من لقيه: خذوا هذا الكتاب فاقرؤوا ما فيه، لعلمه أنه صار من الناجين، بعد أن كان خائفا مضطربا شأن أهل المحشر، كما قال تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي غلب على ظني أني ألاقي حسابي، فيؤاخذني الله بسيئاتي، ولكنه تعالى تفضل علي بالعفو، ولم يؤاخذني بها. والمعنى عند أكثر المفسرين: علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة، وأن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة 2/ 46] . قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك.

_ (1) أما: حرف تفصيل، فصل بها ما وقع في يوم العرض.

قال الزمخشري: وإنما أجري الظن مجرى العلم (اليقين) لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، يقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت. ويؤيد المعنى الأول للآية ما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يدني الله العبد يوم القيامة، فيقرّره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك، قال الله تعالى: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود 11/ 18] » . ثم أبان الله تعالى مصير المؤمن التقي البار أو عاقبة أمره، فقال: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، قُطُوفُها دانِيَةٌ أي فهو في عيشة مرضية خالية من المكدّرات، غير مكروهة، في جنة مرتفعة المكان، رفيعة القدر، عالية المنازل، نعيمة الدور، دائمة الحبور، ثمارها قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع. روى الطبراني عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية» . ورواه الضياء بلفظ: «يعطى المؤمن جوازا على الصراط: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية» . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي ويقال لهم: كلوا يا أيها المتقون الأبرار في الجنة من طيباتها وثمارها، واشربوا من أشربتها أكلا وشربا

فقه الحياة أو الأحكام:

هنيئا، أي لا تكدير فيه ولا تنغيص، جزاء لما عملتم، وبسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا. وهذا تفضل من الله عليهم وامتنان وإنعام وإحسان لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة، فيقول المؤمن الناجي ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته لكل من يلقاه من جماعته: هلموا وخذوا واقرؤوا كتابي هذا، إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي ويعذبني، ولكنه تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال ابن عباس وغيره عن قوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أي أيقنت وعلمت أني ملاق حسابي في الآخرة، ولم أنكر البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب لأنه تيقن أن الله يحاسبه، فعمل للآخرة. ذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال: هيهات هيهات!! زفّته الملائكة إلى الجنة. 2- يكون الناجي في عيش يرضاه لا مكروه فيه، أو في عيشة مرضية، في جنة عالية، أي عظيمة في النفوس، ثمارها قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع. جاء في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنهم يعيشون، فلا يموتون أبدا،

حال الأشقياء يوم القيامة [سورة الحاقة (69) الآيات 25 إلى 37] :

ويصحّون فلا يمرضون أبدا، وينعمون فلا يرون بأسا أبدا، ويشبّون فلا يهرمون أبدا» . 3- يقال للناجين من قبل ربهم، أو بواسطة الملائكة خزنة الجنة: كلوا واشربوا في الجنة أكلا وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص، بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة. والآيات تعم جميع أهل السعادة، كما أن الآيات التالية تعم جميع أهل الشقاوة. حال الأشقياء يوم القيامة [سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) الإعراب: يا لَيْتَنِي يا: للتنبيه. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ما إما استفهامية على سبيل الإنكار في موضع نصب لأنها مفعول أَغْنى. مالِيَهْ فاعله، وتقديره: أي شيء أغنى عنّي ماليه؟ أو أن تكون ما نافية، ويكون مفعول أَغْنى محذوفا، وتقديره: ما أغنى ماليه شيئا، فحذفه. والهاء في مالِيَهْ للسكت، وإنما أدخلت صيانة للحركة عن الحذف، وتثبت وقفا ووصلا اتباعا لمصحف الإمام والنقل المتواتر.

البلاغة:

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ حَمِيمٌ اسم ليس، وخبرها الجار والمجرور، وهو لَهُ. ولا يجوز أن يكون الْيَوْمَ هو الخبر لأن حَمِيمٌ جثة، واليوم ظرف زمان، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث، وإنما تدل على وجود حدث بعدها. البلاغة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ توافق الفواصل، مراعاة لرؤوس الآيات، ويسمى في علم البديع كما تقدم السجع المرصّع. المفردات اللغوية: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يقول لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة. يا لَيْتَها يا ليت الموتة التي متها في الدنيا. كانَتِ الْقاضِيَةَ القاطعة لأمري وحياتي، فلم أبعث بعدها. مالِيَهْ مالي من المال. سُلْطانِيَهْ حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، أو ملكي وسلطاني على الناس. خُذُوهُ خطاب لخزنة جهنم. فَغُلُّوهُ شدّوه في الأغلال، واجمعوا يديه إلى عنقه في الغلّ: وهو ما يكبل به الأسير أو المتهم من القيود والسلاسل. الْجَحِيمَ النار المحرقة. صَلُّوهُ أدخلوه وأوردوه إياها، يصلى نارها ويحترق بها. ذَرْعُها طولها. سَبْعُونَ ذِراعاً المراد أنها سلسلة طويلة، والمراد ذراع الملك. فَاسْلُكُوهُ أدخلوه فيها بعد إدخاله في النار، بأن تلفّوها على جسده كيلا يتحرك فيها. وتقديم الجحيم والسلسلة للدلالة على التخصيص، والاهتمام بذكر أنواع ما يعذب به، وكلمة ثُمَّ لتفاوت ما بينهما في الشدة. إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة، وذكر صفة الْعَظِيمِ للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة، فيجب الإيمان به. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحث على إطعامه، فضلا عن أن يبذل من ماله. حَمِيمٌ قريب مشفق يحميه أو صديق ينتفع به. غِسْلِينٍ صديد أهل النار وما يسيل منهم من قيح أو دم. الْخاطِؤُنَ الآثمون، أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل: إذا تعمد الذنب، لا من الخطأ المضاد للصواب. المناسبة: بعد بيان حال السعداء في معايشهم وسكناهم في الجنة، بيّن الله تعالى للموازنة والمقارنة والعبرة حال الأشقياء الكفار في الآخرة، وتعرضهم لألوان

التفسير والبيان:

العذاب في نار جهنم، مع بيان سبب ذلك: وهو عدم الإيمان بالله العظيم، والإعراض عن مساعدة المساكين البائسين. التفسير والبيان: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ أي وأما الشقي الذي يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره، فيقول حزنا وكربا، وألما وندما لما رأى فيه من سيئاته وقبيح أعماله: يا ليتني لم أعط كتابي. وهذا دليل على وجود العذاب النفسي قبل العذاب الجسدي. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ أي ولم أعلم أيّ شيء حسابي الذي أحاسب به لأن كله وبال علي، ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاطعة نهاية الحياة، ولم أحي بعدها، فهو يتمنى دوام الموت وعدم البعث، لما شاهد من سوء عمله، وما يصير إليه من العذاب. قال قتادة: تمني الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه. ونظير الآية: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ 78/ 40] . ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي ما أفادني ما لي شيئا، ولم يدفع عني شيئا من عذاب الله، وفقدت حجتي، وذهب منصبي وجاهي وملكي، فلم يدفع عني العذاب، بل خلص الأمر إلي وحدي، فلا معين لي ولا مجير. قال أبو حيان: الراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصا بالملوك، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة «1» . وحينئذ يقول الله عز وجل مبينا مصيره وعاقبة أمره:

_ (1) البحر المحيط: 8/ 325 وما بعدها.

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ أي يأمر الله الزبانية قائلا: خذوه مكبّلا بالقيود والأغلال، بجمع يده إلى عنقه في الغلّ، ثم أدخلوه الجحيم ليصلى حرها، ثم أدخلوه في سلسلة (حلق منتظمة) طولها سبعون ذراعا تلفّ على جسمه، لئلا يتحرك. ثم بيّن الله تعالى سبب وعيده الشديد وعذابه قائلا: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي إنه كان كافرا جاحدا لا يصدق بالله صاحب العظمة والسلطان، ولا يحث على إطعام الفقير والمسكين البائس، فضلا عن عدم بذله المال للبائسين، والمعنى أنه لا يؤدي حقوق الله من توحيده وعبادته وعدم الشرك به، ولا يؤدي حقوق العباد من الإحسان والمعاونة على البر والتقوى. وفي ذكر الحض دون الفعل تشنيع، يفيد أن تارك الحض كتارك الفعل. وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. والعذاب متعين لازم له، كما قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي ليس له يوم القيامة قريب ينفعه، أو صديق يشفع له، أو ينقذه من عذاب الله تعالى، كما جاء في آية أخرى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر 40/ 18] . وقوله: هاهُنا إشارة إلى مكان عذابهم. وطعامه ما وصف تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أي وليس له طعام إلا ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ودم وقيح، لا يأكله إلا أصحاب الخطايا والذنوب. قال قتادة عن الغسلين: هو شر طعام أهل النار. والطعام: اسم بمعنى الإطعام، كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إذا كان المؤمن يفاخر بكتابه ابتهاجا وفرحا، فإن الكافر الشقي يتمنى الموت، ويكره البعث والعودة إلى الحياة مرة أخرى. قال القفّال: تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوء المنقلب ما هو أشدّ وأشنع من الموت. 2- ذكر الله تعالى سرور السعداء أولا، ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب، ثم ذكر هنا غم الأشقياء وحزنهم، ثم ذكر أحوالهم حينما يزج بهم في نار جهنم في الغلّ والقيد، وتناول طعام الغسلين، والتصلية «1» في الجحيم (وهي النار العظمى) وإدخاله في سلسلة طولها سبعون ذراعا بذراع الملك. 3- سبب الظفر بالجنة للمؤمنين السعداء الإيمان والأعمال الصالحة في الدنيا، وسبب العذاب والوعيد الشديد للأشقياء: هو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين. 4- دلت آية وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة. وهو المراد من قول جمهور الأصوليين: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. عن أبي الدرداء: أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع النصف الباقي! 5- ليس للشقي في الآخرة حميم، أي قريب يدفع عنه العذاب، ويحزن عليه لأنهم يتحامون ويفرّون منه، كقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج 70/ 10] وقوله: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر 40/ 18] .

_ (1) قال المبرّد: أصليته النار: إذا أوردته إياها، وصلّيته أيضا، كما يقال: أكرمته وكرّمته.

تعظيم القرآن وإثبات نزوله بالوحي [سورة الحاقة (69) الآيات 38 إلى 52] :

6- طعام أهل النار الخاطئين (المذنبين) : الغسلين: وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم، قال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه، وفي آية أخرى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية 88/ 6] والضريع: شيء في النار كالشوك مرّ منتن. تعظيم القرآن وإثبات نزوله بالوحي [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) الإعراب: قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ صفة للمفعول المطلق ل تُؤْمِنُونَ أي تصدقون تصديقا قليلا، وما مزيدة للتأكيد. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْزِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو تنزيل. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ مِنْ أَحَدٍ في موضع رفع، لأنه اسم فَما لأن مِنْ زائدة لتأكيد النفي، ومِنْكُمْ حال مِنْ أَحَدٍ، وحاجِزِينَ خبر. فَما. وعَنْهُ في موضع نصب لأنه يتعلق ب حاجِزِينَ التقدير: فما منكم أحد حاجزين عنه. وجمع حاجِزِينَ وإن كان وصفا ل أَحَدٍ لأنه في معنى الجمع، فجمع حملا على المعنى، فإنه عام والخطاب للناس، ولأن أحدا في سياق النفي بمعنى الجمع، مثل لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة 2/ 285] . ولم يبطل مِنْكُمْ عمل فَما لأن الفصل بالجار والمجرور والظرف لا يؤثر.

البلاغة:

البلاغة: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ، وَما لا تُبْصِرُونَ بينهما طباق السلب. المفردات اللغوية: فَلا أُقْسِمُ لا حاجة للقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم، أو أن المراد بهذه الصيغة القسم، أي فأقسم، وهو مستأنف، ولا: زائدة. بِما تُبْصِرُونَ من المشاهدات والمخلوقات. وَما لا تُبْصِرُونَ أي بما غاب عنكم، فهذا قسم بالمشاهدات والمغيبات، وذلك يتناول الخالق والمخلوقات بأسرها. إِنَّهُ أي القرآن. لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي لقول جبرائيل أو محمد عليهما السلام، رسول كريم على الله، يبلغه عن الله تعالى، فإن الرسول لا يقول عن نفسه، والمراد به هنا النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الأكثرين. وأما المراد به في سورة التكوير فهو جبريل عليه السلام في قول الأكثرين. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كما يزعمون لأن الرسول ليس بشاعر. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما يزعمون تارة أخرى، والكاهن: من يدعي معرفة الغيب. قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي تصدقون تصديقا قليلا، والقلة بمعناها الظاهر، وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي، أي لا تؤمنون البتة، وقال أبو حيان: لا يراد ب قَلِيلًا هنا النفي المحض كما زعم الزمخشري، فإن هذا لا يكون في حال النصب، وإنما في حال الرفع ما تَذَكَّرُونَ تتذكرون، وقرئ: يذكرون بالياء، وما مزيدة للتأكيد. والخلاصة: أنهم آمنوا بأشياء يسيرة، وتذكّروها، مما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الخير والصلة والعفاف، فلم تغن عنهم شيئا. تَنْزِيلٌ بل هو تنزيل. تَقَوَّلَ أي النبي، سمى الافتراء تقولا لأنه قول متكلّف، والأقوال المفتراة أقاويل، تحقيرا بها. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لنلنا منه عقابا بالقوة والقدرة. الْوَتِينَ نياط القلب، وهو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي لا أحد عن القتل أو عن النبي. حاجِزِينَ مانعين أو دافعين، والمراد: لا مانع لنا عنه من حيث العقاب. وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي وإن القرآن لموعظة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به. أَنَّ مِنْكُمْ أيها الناس. مُكَذِّبِينَ بالقرآن، ومنكم مصدّقين. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ، وإن القرآن لحسرة عليهم إذا رأوا ثواب المؤمنين المصدقين به، وعقاب المكذبين به. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ وإن القرآن اليقين الحق الذي لا ريب فيه. فَسَبِّحْ نزّه الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه، وشكرا على ما أوحى إليك. وباء بِاسْمِ زائدة.

سبب النزول نزول الآيات (38 - 40) :

سبب النزول: نزول الآيات (38- 40) : فَلا أُقْسِمُ: قال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فقال الله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ.. أي أقسم. المناسبة: بعد الإخبار عن إمكان القيامة ووقوعها، وبيان أحوال السعداء والأشقياء فيها، ختم الكلام بتعظيم القرآن وإثبات كونه كلام الله تعالى المنزّل على قلب رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم. التفسير والبيان: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي أقسم لخلقي بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي، وبما غاب عنكم من المغيبات، أو أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وإنه لتلاوة رسول كريم، وقول يبلّغه رسول كريم، مؤدى عن الله بطريق الرسالة. وإنما أضافه إلى الرسول على معنى التبليغ لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسل. وفي ذكر «الرسول» إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه، وإنما هو قوله المؤدى عن الله بطريق الرسالة. وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته، وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعا في أغراض الدنيا الخسيسة. والأكثرون على أن الرسول الكريم هنا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه ذكر بعده أنه

ليس بقول شاعر ولا كاهن، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالشعر والكهانة، وإنما يصفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام، لأن الأوصاف التي بعده تناسبه، كما سيأتي. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ، قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي ليس القرآن بقول شاعر، كما تزعمون لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بشاعر، ولأن آيات القرآن ليست من أصناف الشعر، وأنتم تؤمنون إيمانا قليلا، وتصدقون تصديقا يسيرا. والقلة على ظاهرها وهي إقرارهم إذا سئلوا: من خلقكم؟ قالوا: الله. ويحتمل أن يكون المتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا إذ كانوا يصدّقون أن الخير والصلة والعفاف ونحوه الذي كان يأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو حق صواب. وإنما قال عند نفي الشعر عنه: قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وعند نفي الكهانة: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبيّن المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر لأن الشعر كلام موزون مقفّى وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا النادر غير المتعمد. وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدّق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه يحتاج إلى تأمل، فإن كلام الكهان أسجاع لا معاني لها، وأوضاع تنبو عنها الطباع، وأيضا في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم، والكهان إخوان الشياطين، فكيف رضوا بإظهار قبائحهم «1» .

_ (1) غرائب القرآن للحسن القمي النيسابوري: 29/ 42.

وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي وليس القرآن بقول كاهن (وهو من يدعي الغيب في المستقبل) كما تزعمون، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين القرآن، ولان القرآن ورد بسبب الشياطين، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم، ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا، ولذلك يلتبس الأمر عليكم، فلا تتذكرون كيفية نظم القرآن، واشتماله على شتم الشياطين، فقلتم: إنه كهانة. ثم صرح تعالى بالمقصود، فقال: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي بل هو تنزيل من الله رب الإنس والجن، نزل به جبريل الأمين على قلب رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول هذا الرسول بمعنى أنه مبلّغ له عن المرسل، وهو الذي أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته. روى الإمام أحمد عن شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب: «خرجت أتعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال: فقلت: كاهن، قال: فقرأ: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ إلى آخر السورة، قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع، قال ابن كثير: فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم أكد الله تعالى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع أن يفتعل القرآن، فقال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي ولو افترى محمد أو جبريل شيئا من الأقوال الباطلة، وجاء به من عند نفسه ونسبه إلى الله على سبيل الفرض، لأخذناه بالقوة، وعاجلناه بالعقوبة، وانتقمنا منه، أو لأخذنا بيمينه، كما يؤخذ الشخص عند إرادة قتله. فاليمين: القوة، كما قال الشمّاخ:

إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي ثم بترنا الوتين من قلبه، وهو عرق متصل من القلب بالرأس، إذا انقطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأفظع وأشنع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويمنعنا منه أو ينقذه منا، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟! وجمع: حاجِزِينَ على المعنى لأن قوله: مِنْ أَحَدٍ في معنى الجماعة، يقع في النفي العام على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، مثل قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة 2/ 285] وقوله سبحانه: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب 33/ 32] . والمراد لا أحد يمنعنا عن الرسول أو عن القتل. ثم ذكر الله تعالى أوصافا ومنافع للقرآن، فقال: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي وإن القرآن لعظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه، كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة 2/ 2] . وخص المتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به. وناسب ذلك أنه تعالى أوعد المكذبين بقوله: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ أي وإنا لنوقن أن بعضكم يكذب بالقرآن، كفرا وعنادا، ونحن نجازيهم على ذلك، وبعضكم يصدّق به لاهتدائه إلى الحق. وفي هذا وعيد شديد للمكذبين. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي وإن هذا القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب المؤمنين وفضل الله عليهم. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي وإن القرآن هو الخبر الصدق واليقين الحق الذي

فقه الحياة أو الأحكام:

لا شك فيه ولا ريب لكونه من عند الله، وليس من تقول محمد صلّى الله عليه وسلّم. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزه الله الذي أنزل هذا القرآن العظيم عما لا يليق به، بالتسبيح وهو قول: سبحان الله، وعن الرضا بالتقول عليه، وشكرا لله على ما أوحى به إليك. واسم الرب: كل لفظ يدل على الذات الأقدس، أو على صفة من صفاته كالله والرحمن الرحيم، وتنزيه الاسم الخاص تنزيه للذات، فتكون الباء في بِاسْمِ زائدة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله تعالى بالأشياء المخلوقة كلها، ما يراه الناس وما لا يرونه على أن القرآن العظيم من قول الله عز وجل، وليس قول الرسول في الحقيقة، لكن نسب القول في الظاهر إلى الرسول لأنه تاليه ومبلّغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك. 2- ليس القرآن أيضا بقول شاعر لأنه مباين لصنوف الشعر كلها، ولا بقول كاهن لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين، إلا أن المشركين المعاندين لا يقصدون الإيمان، فلذلك أعرضوا عن التدبر، ولو قصدوا الإيمان لعلموا كذب قولهم: إنه شاعر لمغايرة تركيب القرآن أنواع الشعر، وهم أيضا لا يتذكرون كيفية نظم القرآن، واشتماله على شتم الشياطين، فقالوا: إنه نوع من أنواع الكهانة. 3- إنما القرآن الكريم تنزيل من رب العالمين. 4- لو فرض جدلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تكلّف وأتى بقول من عند نفسه، لأخذه

الله بالقوة والقدرة، وعاقبه بالإهلاك، وتقطيع نياط القلب، وحينئذ لا أحد من القوم على الإطلاق يحجز عنه العذاب ويمنعه عنه. 5- مهام القرآن: أنه تذكرة للمتقين الخائفين الذين يخشون الله، وقد أوعد الله على التكذيب به، وتكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدّقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين لأن القرآن العظيم حق يقين لا ريب فيه، وحق لا بطلان فيه. 6- أمر الله نبيه بتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به شكرا له على الإيحاء إليه، أو على أن عصمه من الافتراء عليه.

سورة المعارج:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المعارج مكيّة، وهي أربع وأربعون آية. تسميتها: سميت سورة المعارج لافتتاحها بقوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ أي تصعد إليه الملائكة وجبريل الأمين الذي خصه الله بنقل الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام، وخصه بالذكر لشرفه وفضل منزلته، وهو المسمّى بالروح في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء 26/ 193] . مناسبتها لما قبلها: نزلت هذه السورة بعد الْحَاقَّةُ وهي كالتتمة لها في بيان أوصاف يوم القيامة والنار، وأحوال المؤمنين والمجرمين في الآخرة. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة كبقية السور المكية تتحدث عن أصول العقيدة الصحيحة، وفي قمّتها إثبات البعث والنشور، والجزاء والحساب، وأوصاف العذاب والنار. شرعت السورة ببيان موقف أهل مكة من دعوة الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستهزائهم به، وسؤال الكفار عن عذاب الله واستعجالهم به استهزاء وسخرية وعنادا متمثلا ذلك بالنضر بن الحارث بن كلدة حين طلب إيقاع العذاب،

تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه [سورة المعارج (70) الآيات 1 إلى 18] :

والعذاب واقع بهم: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.. [الآيات: 1- 7] . ثم وصف يوم القيامة وأهواله، والنار وعذابها، وأحوال المجرمين في ذلك اليوم الرهيب: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ.. [الآيات: 8- 18] . وناسب ذلك الحديث الاستطرادي عن طبيعة الإنسان وصفاته التي أوجبت له النار، ومدارها الجزع عند الشدة، والبطر عند النعمة، والبخل والشح عند الحاجة والأزمة وعلاج الفقر: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً.. [الآيات: 19- 21] . واستثنت من ذلك المؤمنين المصلين الذين يتحلّون بمكارم الأخلاق، فيؤدون حقوق الله وحقوق العباد معا فيستحقون الخلود في الجنان: إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.. [الآيات: 22- 35] . ثم نددت السورة بالكفار، وهددتهم بالفناء والتبديل، وأوعدتهم بما يلاقونه يوم القيامة، ووصفت أحوالهم السيئة في الآخرة وقت البعث والنشور: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.. [الآيات: 36- 70] . تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)

الإعراب:

الإعراب: سَأَلَ سائِلٌ قرئ بالهمز على الأصل، وقرئ بترك الهمزة بإبدال الهمزة ألفا على غير قياس. كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خَمْسِينَ: خبر كان، وأَلْفَ: منصوب على التمييز، وجملة كان مع اسمها وخبرها في موضع جر صفة يَوْمَ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ.. يَسْئَلُ وحَمِيمٌ: فعل وفاعل، وحَمِيماً: مفعول به، وقرئ يَسْئَلُ بالضم: فعل مبني للمجهول، تقديره: ولا يسأل حميم عن حميمه. ويُبَصَّرُونَهُمْ: أي يبصر الحميم حميمه، وأراد بالحميم الجمع، والضمير المرفوع في يُبَصَّرُونَهُمْ يعود على المؤمنين، والهاء والميم تعود على الكافرين. والمعنى: يبصّر المؤمنون الكافرين يوم القيامة، أي ينظرون إليهم في النار. إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى لَظى بالرفع: خبر «إن» ، ونَزَّاعَةً: خبر ثان، أو لَظى: خبر «إن» ، ونَزَّاعَةً: بدل من لَظى، أو أن هاء إِنَّها ضمير القصة، ولَظى: مبتدأ، ونَزَّاعَةً: خبره، والجملة: خبر «إن» . ويصح كون لَظى بالنصب بدلا من هاء إِنَّها، ونَزَّاعَةً بالرفع خبر «إن» . ونصب نَزَّاعَةً على الحال المؤكدة، والعامل فيها معنى الجملة، مثل وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة 2/ 91] ، وتَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ: خبر ثالث، أو مستأنف. البلاغة: بَعِيداً وقَرِيباً بينهما طباق. سَأَلَ سائِلٌ جناس اشتقاق، وكذا بين الْمَعارِجِ وتَعْرُجُ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ أي جبريل: عطف خاص على عام تنبيها على شرفه وفضله. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ تشبيه مرسل مجمل، لحذف وجه الشبه.

المفردات اللغوية:

لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ.. عموم بعد خصوص لبيان هول الموقف. إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إلخ سجع مرصع. المفردات اللغوية: سَأَلَ سائِلٌ دعا داع به، بمعنى استدعاه، ولذلك عدي بالباء، أي يكون السؤال أحيانا بمعنى طلب الشيء واستدعائه، ويعدّى حينئذ بالباء، تقول: سألت بكذا، أي طلبته. والأصل في السؤال أن يكون بمعنى الاستخبار عن الشيء، ويعدّى حينئذ بعن أو بالباء، تقول: سألت عنه وسألت به وبحاله. والسائل استهزاء وتعنتا: النضر بن الحارث، فإنه قال: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 31] أو أبو جهل، فإنه قال: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء 26/ 187] أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، استعجل بعذابهم. لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب، أو صلة متعلقة ب واقِعٍ. لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مانع وواق، أي إنه واقع لا محالة. مِنَ اللَّهِ متصل بواقع. ذِي الْمَعارِجِ ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلام الطيب والعمل الصالح، أو مراتب الملائكة أو السموات، والظاهر: ذي السموات، وقيل: ذي النعم والفضائل التي تكون درجات متفاضلة. تَعْرُجُ تصعد. وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام. إِلَيْهِ إلى مهبط أمره من السماء. فِي يَوْمٍ متعلق بقوله: تَعْرُجُ. كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ هذا لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها، بطريق التمثيل والتخييل، والمعنى: إنها بحيث لو قدر قطعها في زمان، لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا. وهذا في الآخرة بالنسبة للكافر، لما يرى فيه من الشدائد، وأما المؤمن فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة، كما جاء في الحديث النبوي الآتي بيانه. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي لا استعجال ولا جزع فيه، ولا اضطراب قلب، والكلام متعلق ب سَأَلَ لأن السؤال كان استهزاء أو تعنتا، وذلك مما يضجره، والمعنى: قرب وقوع العذاب، فاصبر، فقد اقترب موعد الانتقام. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يرون العذاب أو يوم القيامة. بَعِيداً من الإمكان، غير واقع. وَنَراهُ قَرِيباً قريبا من الوقوع. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ ظرف لكلمة قَرِيباً أو متعلق بمحذوف تقديره: يقع. كَالْمُهْلِ هو مائع الزيت، أو دردي الزيت (ما يكون في قعر الإناء) أو هو مائع الفلزات (المعادن) المذابة، كذائب الفضة. كَالْعِهْنِ كالصوف المنفوش أو المندوف، أو كالصوف المصبوغ ألوانا. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قريب قريبه، لاشتغال كل واحد بحاله، فالحميم: القريب. يُبَصَّرُونَهُمْ أي ينظر المؤمنون إلى الكافرين في النار. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يتمنى الكافر أو المذنب. لَوْ يَفْتَدِي اى يفتدي. وَصاحِبَتِهِ

سبب النزول نزول الآيتين (1، 2) :

زوجته. وَفَصِيلَتِهِ عشيرته، لفصله منها. تُؤْوِيهِ تضمه ويأوي إليها. وهو دليل على اشتغال كل مجرم بنفسه، بحيث يتمنى أو يفتدي بأقرب الناس وأعلمهم بقلبه، فضلا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين أو الخلائق. ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي أي ثم لو ينجيه الافتداء، وثم للاستبعاد. كَلَّا ردع للمجرم، ورد لما يودّه، فهي كلمة تفيد الزجر عما يطلب. إِنَّها لَظى أي إن النار هي النار الملتهبة أو جهنم لأنها تتلظى، أي تتلهب على الكفار. «الشوى» أعضاء الإنسان، أو جلدة الرأس، تنتزعها، ثم تعود إلى ما كانت عليه. تَدْعُوا تجذب وتحضر. مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان والحق. وَتَوَلَّى عن الطاعة. وَجَمَعَ المال. فَأَوْعى جعله في وعاء، وكنزه حرصا وتأميلا، ولم يؤدّ حق الله فيه. سبب النزول: نزول الآيتين (1، 2) : أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ قال: هو النضر بن الحارث، قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدي في قوله: سَأَلَ سائِلٌ قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث، وقد قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ.. الآية. وكان عذابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: نزلت سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ فقال الناس: على من يقع العذاب؟ فأنزل الله: لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. التفسير والبيان: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ أي دعا داع وطالب بعذاب واقع بلا شك، يقع في الآخرة كائن للكافرين نازل بهم لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله. والسؤال للاستهزاء والتعنت. والسائل: هو

النضر بن الحارث بن كلدة أو غيره حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 8/ 32] . مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ أي واقع من جهة الله سبحانه ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة قال ابن عباس: ذِي الْمَعارِجِ: أي ذي السموات وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة. والمراد: أن العذاب الذي طالب به الكفار واستعجلوه واقع بلا شك. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي تصعد إلى الله عزّ وجلّ في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليهم السلام في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا لو أراد البشر الصعود إليها ولكن الملائكة الروحانيين تصعد إليها في زمن قليل. وليس المراد من الخمسين التحديد بعدد معين بل المقصود الكثرة المطلقة وأن صعود الملائكة في مكان بعيد المدى. وقوله: إِلَيْهِ إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العزّ والكرامة وقوله: فِي يَوْمٍ في رأي الأكثرين متعلق بقوله: تَعْرُجُ أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم بقصد وصف اليوم بالطول مطلقا. والمراد باليوم في رأي آخر وهو قول ابن عباس والحسن البصري: هو يوم القيامة تهويلا وتخويفا للكفار والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. وسبب الربط بين سؤال العذاب وبين عروج الملائكة: المقارنة بين اليوم

في نظرهم وبين اليوم عند الله فهم يرون الدنيا طويلة الأمد وأما عند الله فالدنيا قصيرة إذا قيست باليوم عند الله. والجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [5] أن القيامة مواقف ومواطن فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وهذا إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا لقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان 25/ 24] واتفقوا على أن ذلك المقيل والمستقر هو الجنة ولما أخرجه الإمام أحمد وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفّف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» . فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي لا تأبه يا محمد بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي ولا تضجر واحلم على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه واصبر صبرا جميلا: لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله وهذا معنى الصبر الجميل. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً أي إنهم يرون وقوع العذاب بعيدا وقيام الساعة في اعتقاد الكفرة مستحيل الوقوع ويرون أيضا يوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة مستبعدا محالا ونحن نعلمه كائنا قريبا ممكنا غير متعذر لأن كل ما هو آت قريب. ثم ذكر الله تعالى بعض أوصاف ومظاهر ذلك اليوم فقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي إن يوم القيامة ذلك اليوم الذي تصير السماء فيه كعكر (درديّ)

الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص والفضة أي تكون السماء واهية غير متماسكة الأجزاء مبددة وتكون الجبال كالصوف المنفوش إذا طيّرته الريح ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره لما يرى من شدة الأهوال. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ أي يبصر كل حميم حميمه ويراه ويعرّف عليه لا يخفى منهم أحد عن أحد دون أن يكلم بعضهم بعضا ويتمنى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحق به النار أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به بأعز ما يجده من المال أو بأعز الناس وأكرمهم لديه من أولاده وإخوته وزوجته وقبيلته وعشيرته الأقربين الذين ينتمي إليهم في النسب أو يضمونه عند الشدائد ويأوي إليهم وينصرونه بل يود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق ولا يقبل منه الفداء ولا ينجيه الافتداء من عذاب جهنم ولو جاء بأهل الأرض. ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لقمان 31/ 33] وقوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر 35/ 18] وقوله سبحانه: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون 23/ 101] وقوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] . والخلاصة: أنه تعالى ذكر أربع صفات ليوم القيامة: تكون السماء فيه كالمهل وتكون الجبال فيه كالعهن ولا يسأل حميم حميما ويود المجرم الكافر الافتداء من عذاب ذلك اليوم بأعز الناس لديه وجميع من في الأرض.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أكّد تعالى رفض قبول الفداء منه واستبعاده قائلا: كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى أي لا يقبل الفداء من المجرم ولو افتدى بأهل الأرض وبمال الدنيا جميعا إنها جهنم الشديدة الحر مأواه كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل 92/ 14] والتي تنزع اللحم عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا وتنزع جلدة الرأس وجلد أطراف اليدين والرجلين ولحم الساقين ثم يعود كما كان وتنادي جهنم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا وتولى عنه وجمع المال فجعله في وعاء فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير ومنع حق الله فيه من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة. قال الحسن البصري: يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا. وكلمة كَلَّا ردع للمجرم عن تلك الأمنية وبيان امتناع قبول الفداء منه وضمير إِنَّها للنار ولم يجر لها ذكر لأن العذاب دلّ عليها ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة أي إن القصة. والدعاء على حقيقته كما روي عن ابن عباس أو هو مجاز حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين بالدعاء والطلب لهم فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم. فقه الحياة أو الأحكام: 1- طلب كفار مكة تعجيل العذاب الموعود به استهزاء وتعنّتا والعذاب من الله صاحب معارج السماء أو معارج الملائكة واقع حتما بالكفار في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. 2- تصعد الملائكة وجبريل في المعارج التي جعلها الله لهم إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل برّه وكرامته فليس المراد من قوله إِلَيْهِ المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده وهو موضع العزّ والكرامة. وعروج

الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وهذا هو الرأي الأصح في تقديري وهو قول الأكثرين كما تقدم وقيل: المراد باليوم هو يوم القيامة الموصوف بأنه بمقدار خمسين ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار. قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار. قال القرطبي عن قول ابن عباس: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله بدليل حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وحديث أبي هريرة فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والنسائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلا جعل شجاعا «1» من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس» فهذا يدل على أنه يوم القيامة «2» . وهذا كما تقدم بالنسبة للكافر وأما بالنسبة للمؤمن فيكون يوم الحساب في القيامة بمقدار ما بين الصلاتين كما ثبت في الحديث الصحيح. 3- أمر الله نبيّه بالصبر الجميل على أذى قومه الذين يرون العذاب بالنار بعيدا أي غير كائن وهو في تقدير الله قريب الحصول لأن ما هو آت فهو قريب. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. 4- ذكرت الآيات أوصافا أربعة: هي صيرورة السماء كدرديّ الزيت وعكره أو كالمذاب من المعادن من الرصاص والنّحاس والفضة وجعل الجبال كالصوف المنفوش أو المصبوغ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه مع أن الرجل يرى أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم ويتمنى الكافر أن يفتدي من عذاب جهنم بأعزّ من كان عليه

_ (1) الشجاع: الحية الذكر. (2) تفسير القرطبي: 18/ 282 وما بعدها.

الخصال العشر التي تعالج طبع الإنسان [سورة المعارج (70) الآيات 19 إلى 35] :

في الدنيا من أقاربه فلا يقدر ويودّ لو فدي بهم لافتدى ثم يخلّصه (ينجيه) ذلك الفداء. 5- كلا كما قال تعالى للزجر والردع ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء إن له جهنم تتلظى نيرانها وتنزع جلدة الرأس واللحم عن العظم في الأطراف والجسد وتطلب إليها كل من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان وجمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى فكان جموعا منوعا لأنه لم يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه وتشاغل به عن دينه وزهى باقتنائه وتكبر. الخصال العشر التي تعالج طبع الإنسان [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) الإعراب: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً العامل في إِذا الأولى: «هلوع» وفي إِذا الثانية: «منوع» . وهَلُوعاً حال من ضمير

البلاغة:

خُلِقَ وهذه الحال تسمى الحال المقدّرة لأن الهلع إنما يحدث بعد خلقه لا في حال خلقه. وجَزُوعاً ومَنُوعاً: خبر كان مقدرة وتقديره: يكون جزوعا ويكون منوعا. البلاغة: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً بينهما مقابلة. المفردات اللغوية: إِنَّ الْإِنْسانَ أريد بالإنسان الناس فلذلك استثني منه إِلَّا الْمُصَلِّينَ. هَلُوعاً سريع الحزن والجزع شديد الحرص قليل الصبر قال الزمخشري: الهلع: سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير. الشَّرُّ أي الضّر. جَزُوعاً كثير الجزع والمراد أنه يئوس قنوط والجزع: حزن يصرف الإنسان عن مهامّه. الْخَيْرُ السعة أو المال والغنى. مَنُوعاً كثير المنع يبالغ في الإمساك. وهذه الأوصاف الثلاثة (الهلع والجزع والمنع) طبائع جبل الإنسان عليها. إِلَّا الْمُصَلِّينَ أي المؤمنين استثناء من الموصوفين بالصفات المذكورة. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل. حَقٌّ مَعْلُومٌ نصيب معين واجب كالزكاة والنذور. لِلسَّائِلِ الفقير الذي يستجدي. وَالْمَحْرُومِ الفقير المتعفف الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم. يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ يصدقون بيوم الجزاء تصديقا قلبيا وعمليا فيجتهد في العبادة وينفق من ماله طمعا في المثوبة الأخروية. مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم. إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ غير مأمون النزول وهي جملة اعتراضية تدلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ محافظون عليها من الحرام. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء الرقيقات حينما كان الرّق قائما موجودا. العادُونَ المتجاوزون الحلال إلى الحرام أو الحدود المسموح بها شرعا. لِأَماناتِهِمْ ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا وقرئ: «لأمانتهم» . وَعَهْدِهِمْ ما عاهدوا عليه والتزموا الوفاء به. راعُونَ حافظون. بِشَهاداتِهِمْ جمعت لاختلاف أنواعها وقرئ: «بشهادتهم» . قائِمُونَ يؤدون الشهادة ولا يكتمونها. يُحافِظُونَ يؤدونها في أوقاتها مراعين شرائطها وفرائضها وسننها. وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بهم أولا وآخرا للدلالة على فضلها. مُكْرَمُونَ بثواب الله.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان أوصاف يوم القيامة الرهيبة، نبّه الله تعالى إلى طبائع البشر واتصافهم بالهلع والجزع والمنع التي تجمع أصول الأخلاق الذميمة، ثم استثنى المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال، ويتصفون بصفات عشر لعلاج أمراض النفس البشرية، وليكونوا قدوة للإنسانية ومثلا أعلى يحتذي به. التفسير والبيان: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً أي إن الإنسان جبل على الضجر أو الهلع: وهو شدة الحرص، وقلة الصبر، فلا يصبر على بلاء، ولا يشكر على نعماء، وفسّر ذلك بأنه إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك من الضّر، فهو كثير الجزع أو الحزن والشكوى، وإذا أصابه الخير من الغنى والسعة أو المنصب والجاه أو القوة والصحة ونحو ذلك من النعم، فهو كثير المنع والإمساك والبخل على غيره. روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شرّ ما في رجل: شحّ هالع، وجبن خالع» . ثم استثنى الله تعالى من اتصف بالصفات العشر التالية، وهي: 1- 2: أداء الصلاة والمواظبة عليها: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي إن الناس يتصفون بصفات الذّم إلا الموفقين المهديين إلى الخير، وهم الذين يؤدون صلاتهم، ويحافظون على أوقاتها وواجباتها، فلا يتركونها في شيء من الأوقات، ولا يشغلهم عنها شاغل، ولا يخلون بشيء من فرائضها وسننها، ويتمثلون حقيقتها من الصلة بالله والسكون والخشوع، فهؤلاء ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع، وإنما بإيمانهم وكون دين الحق في نفوسهم على صفات محمودة وخلال مرضية.

وهذا دليل على وجوب المواظبة على العبادة، كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وفي لفظ «ما داوم عليه صاحبه» قالت: وكان رسول الله إذا عمل عملا داوم عليه، أو أثبته. فيكون المراد بالآية الذين يداومون على الصلوات في أوقاتها، وأما الاهتمام بشأنها فيحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء، وستر العورة، وطلب القبلة وغيرها، وتعلق القلب بها إذا دخل وقتها، ورعاية أمور مقارنة للصلاة، كالخشوع، والاحتراز عن الرياء، والإتيان بالنوافل والمكملات. ورعاية أمور لاحقة بالصلاة، كالاحتراز عن اللغو وما يضادّ الطاعة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فارتكاب المعصية بعد الصلاة دليل على عدم قبول تلك الصلاة. 3- أداء الزكاة والواجبات المالية: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي والذين في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين، سواء سألوا الناس أو تعففوا، وذلك يشمل الزكوات المفروضة وكل ما يلزم الإنسان نفسه به، من نذر، أو صدقة دائمة، أو إغاثة مستمرة. وهذا دليل على وجوب العبادة المالية ذات الأهداف الاجتماعية، بعد وجوب العبادات البدنية ذات المغزى الأخلاقي المربي للنفس، والغاية الدينية السامية، فيكون المراد بالحق: الزكاة المفروضة، بدليل وصفه بأنه معلوم، واقترانه بإدامة الصلاة. وقيل: هو ما سوى الزكاة، وإنه على طريق الندب والاستحباب. 4- التصديق بيوم الجزاء: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي والذين يوقنون بيوم القيامة أو بالمعاد والحساب والجزاء، لا يشكون فيه ولا يجحدونه، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. وهذا دليل على أن العمل له غاية تدفع إلى تصحيح الاعتقاد والقول والفعل. 5- الخوف من عذاب الله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ

عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أي والذين هم خائفون وجلون من عذاب الله إذا تركوا الواجبات، واقترفوا المحظورات، فإن العذاب واقع حتما، ولا ينبغي لأحد أن يأمنه، وعلى كل واحد أن يخافه، إلا بأمان من الله تعالى. ونظير الآية: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال 8/ 2] . وقوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون 23/ 60] . وهذا دليل على أن الخوف من العقاب باعث على الطاعة وزاجر عن المعصية، وأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله، وإن بالغ في الطاعة. 6- العفة والبعد عن الفاحشة: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي والذين يكفون فروجهم عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، وهو الزوجة وملك اليمين الذي هو الإماء، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما، أما من قصد غير ذلك فهم المتجاوزون الحدود، المعتدون الذين يلحقون الضرر بأنفسهم وبأمتهم. وهذا دليل على حرمة كل ما عدا الزواج ونحوه من الاستمتاع بالإماء، حينما كان الرق قائما في العالم. 7- 8: أداء الأمانات والوفاء بالعهود: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي الذين يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها، ويوفّون بالمعاهدات، ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم، فإذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين، كما ورد في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب،

فقه الحياة أو الأحكام:

وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية: «إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . 9- أداء الشهادة بحق: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي الذين يؤدون الشهادة عند القضاة بحق، ويحافظون عليها دون زيادة ولا نقصان، ودون مجاملة لقريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها. 10- الحفاظ على الصلاة الكاملة: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي والذين يحافظون على مواقيت الصلاة وأركانها وواجباتها ومستحباتها، لا يخلّون بشيء منها، ولا يشتغلون بشاغل عنها، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض أو يتعارض معها، فيبطل ثوابها ويحبط أجرها، فيدخلون في صلاتهم بحماس ورغبة، ويفرغون قلوبهم من شواغل الدنيا، ويفكرون فيما يقرءون أو يرددون من الأذكار، وتحضر قلوبهم مع الله، ويفهمون أي القرآن الكريم. أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة، مستقرون في جنات الخلود، مكرمون بأنواع الكرامات، وألوان الملاذ والمسارّ، كما جاء في الحديث الذي رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد: «في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- كل إنسان مخلوق بطبائع معينة أساسها الحرص والجزع، ويجمعها صفة الهلع: وهو في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشة، فلا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي، فإذا مسّه الخير لم يشكر، وإذا مسّه الضر لم يصبر.

2- إن شأن المؤمنين المصلين البعد عن الصفات الذميمة المبنية على الهلع، فصلاتهم الصحيحة الكاملة تربي فيهم الأخلاق الكريمة، وتمنعهم عن الأوصاف السيئة. فتراهم يؤدون الصلاة المكتوبة على وجهها الصحيح، وفي مواقيتها المطلوبة شرعا، ويداومون عليها دون انقطاع ولا تضييع، ويؤدون الزكاة المفروضة للفقراء والمساكين، ويؤمنون بيوم الجزاء وهو يوم القيامة، ويخافون من عذاب ربّهم، فهو العذاب الشديد الذي لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه. ويحافظون على فروجهم من الزنى أو الفاحشة، ولا يستمتعون بالنساء إلا من طريقين فقط، هما: الزواج والتسرّي بالإماء، ومن قصد غير ذلك فهو من المعتدين المتجاوزين حدود الله تعالى. ويرعون الأمانات، ويوفون بالمواثيق والمعاهدات، ويؤدون الشهادات عند الحكام بحق وصدق على من كانت عليه من قريب أو بعيد، ولا يكتمونها ولا يغيرونها. ويحافظون على كيفية الصلاة المقررة شرعا، من وضوء وإتمام ركوع وسجود، وسكون وخشوع، دون اشتغال عنها بشيء من الشواغل، لا قبل الدخول فيها، ولا في أثنائها، ولا بعد الفراغ منها بالاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي. وجزاء هؤلاء المتصفين بالصفات المذكورة، والذي وعد به الله عزّ وجلّ هو الظفر بالجنات، والإكرام فيها بأنواع المكرمات.

أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة [سورة المعارج (70) الآيات 36 إلى 44] :

أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) الإعراب: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ما: في موضع رفع مبتدأ، وخبره: لِ الَّذِينَ وكَفَرُوا: صلة «الذين» ، وقِبَلَكَ: ظرف مكان في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا أو من المجرور: لِ الَّذِينَ أي كائنين قبلك. ومُهْطِعِينَ: حال بعد حال، وعِزِينَ: حال من ضمير مُهْطِعِينَ أو (الذين) . وعَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ: من صلة عِزِينَ. وعِزِينَ جمع عزة، وأصلها عزوة أو عزهة مثل سنة، ثم حذفت اللام، وجمعت بالواو والنون عوضا عن المحذوف، مثل سنون. إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ عَلى: في موضع نصب، متعلق ب (قادرون) ونُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ: تقديره نبدّلهم بخير منهم، فحذف المفعول الأول، وحرف الجر من الثاني. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً يَوْمَ: بدل من قوله: يَوْمَهُمُ في قوله تعالى: حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ أي حتى يلاقوا يوم يخرجون. وسِراعاً: حال من واو يَخْرُجُونَ. وكذلك قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ حال من ضمير يَخْرُجُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من واو يُوفِضُونَ وكذلك تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.

البلاغة:

ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ تقديره: ذلك اليوم الذي كانوا يوعدونه، فحذف المفعول العائد إلى الاسم الموصول وهو الَّذِي تخفيفا، مثل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان 25/ 41] أي بعثه. وذلِكَ: مبتدأ وما بعده الخبر. البلاغة: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ.. استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ. كَلَّا، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ كناية عن المني، مع نزاهة التعبير، وحسن التذكير. كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ تشبيه مرسل مجمل، وفي التشبيه تهكم بهم، وتعريض بسخف عقولهم، وتجهيل لهم بعبادة غير الله. المفردات اللغوية: قِبَلَكَ حولك وناحيتك أو نحوك. مُهْطِعِينَ مسرعين مديمي النظر نحوك. عِزِينَ جماعات متفرقين حلقات، جمع عزة، وأصلها عزوة من العزو، كأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى وتستقل برأي خاص، وعزين من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضا من المحذوف، مثل عضين. أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ إنكار لقولهم: لو صح ما يقوله محمد لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا. كَلَّا ردع لهم عن الطمع في الجنة. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي خلقناهم وغيرهم من نطف مهينة، فمن لم يستكمل نفسه بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بأخلاق الملائكة، لم يتأهل لدخول الجنة. فَلا أُقْسِمُ أي أقسم، ولا: زائدة. بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ أي للشمس والقمر وسائر الكواكب. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم، أو نأتي بدلهم. بِمَسْبُوقِينَ بعاجزين أو بمغلوبين. فَذَرْهُمْ اتركهم. يَخُوضُوا يتحدثوا في باطلهم. وَيَلْعَبُوا في دنياهم. حَتَّى يُلاقُوا يلقوا. الَّذِي يُوعَدُونَ فيه العذاب. الْأَجْداثِ القبور، جمع جدث. سِراعاً مسرعين إلى المحشر، جمع سريع. نُصُبٍ والنّصب جمع أنصاب، والنصب: كل شيء منصوب كالعلم أو الراية، والمراد هنا: ما ينصب للعبادة، وقرئ: نصب بالسكون. يُوفِضُونَ يسرعون. خاشِعَةً ذليلة كسيرة. تَرْهَقُهُمْ تغشاهم. ذلِكَ الْيَوْمُ أي يوم القيامة.

سبب النزول نزول الآية (38) :

سبب النزول: نزول الآية (38) : أَيَطْمَعُ: قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم يستمعون كلامه، ولا ينتفعون به، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، لندخلنها قبلهم، وليكوننّ لنا فيها أكثر مما لهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ «1» . المناسبة: بعد أن وعد الله تعالى المتصفين بصفات عشر بالجنات والإكرام، ذكر أحوال الكفار في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيسرعون إلى الكفر، لذا توعدهم الله بالإبادة والهلاك، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث، وأما في الآخرة فيخرجون من قبورهم مسرعين إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، وتكون أبصارهم ذليلة، وتغشاهم المذلة بسبب تكذيبهم بيوم القيامة. التفسير والبيان: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أي ما بال هؤلاء الكفار حواليك أيها النبي مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك، وتراهم عن يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن شماله جماعات متفرقة، شاردين فرقا فرقا، وشيعا شيعا، فارين منه، متفرقين عنه، كما قال تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدّثر 74/ 49- 51] . وقيل: مهطعين: مادّي أعناقهم، مديمي النظر إليك. ثم تهكم الله تعالى بتمنياتهم الجنة وأيأسهم من دخول الجنات، فقال:

_ (1) أسباب النزول للواحدي: ص 250

أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ أي أيطمع هؤلاء المشركون، وحالتهم هذه من الكفر والتكذيب والفرار من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونفرتهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا، بل مأواهم جهنم، كما قال تعالى: كَلَّا، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي كلا، لا أمل في دخولهم الجنة، فإنا خلقناهم من المني الضعيف، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات 77/ 20] . وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا حدوثه واستبعدوا وجوده، بدليل الخلق الأول أو البداءة التي يعترفون بها، فتكون الإعادة في تقدير البشر أهون منها، أما بالنسبة لله عز وجل فالبدء والإعادة سواء. وبما أنهم خلقوا من الشيء الضعيف، فهم ضعاف لا ينبغي منهم هذا التكبر. أخرج أحمد وابن ماجه وابن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.. إلى قوله: كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ثم بزق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على كفّه، ووضع عليها أصبعه، وقال: «يقول الله: ابن آدم، أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سوّيتك وعدّلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي أتى أوان الصدقة» . ثم أنذرهم الله تعالى بالهلاك إن داموا على الكفر، وهددهم بإيجاد آخرين مكانهم لكي يؤمنوا، فقال: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي فأقسم بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة، على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله ممن عصره، ونهلك

هؤلاء، ولن يعجزنا شيء، وما نحن بمغلوبين إن أردنا ذلك، بل نفعل ما أردنا، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا تأخير عقابهم. وهذا دليل على كمال قدرته تعالى على الإيجاد والإعدام مؤكدا بالقسم، وأنه لا يعجزه شيء من الممكنات. وهو تهكم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم، حيث إنهم ينكرون البعث، ثم يطمعون في دخول الجنة، وهم يعترفون بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم مما يعلمون، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية. ثم أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث زيادة في التهديد، فقال: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي اتركهم يا محمد يتحدثون في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، ويعاندوا في تكذيبهم وكفرهم وإنكارهم يوم البعث، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال، ويذوقوا وباله، ويجازوا بما عملوا. ومن أحوالهم في هذا اليوم: - يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ أي اذكر يوم يقومون من القبور بدعوة الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب، مسرعين، متسابقين، كأنهم في إسراعهم إلى الموقف، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب، علم أو راية، والمراد بالنصب هنا: كل ما ينصب فيعبد من دون الله سبحانه. وقوله: يُوفِضُونَ: يسرعون ويتسابقون إليه. - خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي وتكون أبصارهم ذليلة كسيرة، وتغشاهم المذلة الشديدة، لهول العذاب الذي

فقه الحياة أو الأحكام:

يواجههم، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا، ذلك اليوم المشتمل على الأهوال العظام هو اليوم الذي أوعدهم الله به، وأنذرهم بملاقاته، وكانوا يكذبون به، وليتهم آمنوا به، فنجوا من العذاب. وعبر عن ذلك اليوم بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أنكر الله تعالى على الكفار حول النبي صلّى الله عليه وسلّم مسارعتهم إلى الكفر والتكذيب برسالته والاستهزاء به، فما بالهم يسرعون إليه ويجلسون حواليه، ولا يعملون بأوامره، وتراهم عن يمينه وشماله حلقا حلقا، وجماعات متفرقين. 2- ثم أنكر عليهم تناقضهم وتعارض أقوالهم ومواقفهم، فهم يكذّبون برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويستهزئون بأصحابه، وينكرون البعث، ثم يقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه!! فرد الله عليهم بقوله: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ أي إنهم منكرون للبعث، فكيف يطمعون في دخول الجنة؟ 3- أيأسهم الله تعالى من دخول الجنة، فأخبر بأنهم لا يدخلونها، لاستكبارهم، فهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فلا يليق بهم هذا التكبر، وليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب الجنة بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. روي أن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف «1» خزّ، وجبّة خزّ، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها

_ (1) المطرف: واحد المطارف: وهي أردية من خز مربعة لها أعلام.

الله؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أولك نطفة مذرة «1» ، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فمضى المهلب وترك مشيته. 4- أقسم الله لإثبات البعث والرد على المشركين المنكرين له بمشارق الشمس ومغاربها على أنه قادر على إهلاكهم والذهاب بهم، والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال، لا يفوته شيء، ولا يعجزه أمر يريده. ولم يقع التبديل، وإنما هدد تعالى القوم بذلك ليؤمنوا. 5- أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بعذاب القيامة، آمرا نبيه عليه السلام أن يتركهم يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، على جهة الوعيد، وأن يشتغل بما أمر به، ولا يهمه شركهم، فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. 6- وصف الله حال المشركين يوم البعث بأنهم حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي يخرجون مسرعين من القبور، كأنهم كما كانوا في الدنيا يسرعون ويتسابقون إلى النّصب: أي ما نصب فعبد من دون الله. ووصفهم أيضا بأن أبصارهم تكون ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله، وتغشاهم مذلة وهوان. 7- إن هذا اليوم وهو يوم القيامة الذي يكون فيه الكفار على تلك الأوصاف هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب، ووعد الله آت لا محالة.

_ (1) مذرة: الفساد. [.....]

سورة نوح عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة نوح عليه السلام مكيّة، وهي ثمان وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة نوح باسم نبي الله عليه السلام وقصته مع قومه من بداية دعوته إلى الطوفان، كما جاء في مطلع السورة: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ... مناسبتها لما قبلها: هناك وجهان لاتصال هذه السورة بما قبلها: 1- تشابه مطلع السورتين في ذكر العذاب الذي وعد به الكفار: قوم محمد صلّى الله عليه وسلّم في سورة المعارج، وقوم نوح عليه السلام في هذه السورة. 2- لما قال تعالى في أواخر المعارج: إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [41] عقبه بقصة نوح المشتملة على إغراق قومه إلا من آمن، وتبديلهم بمن هم خير منهم، فوقعت موقع الاستدلال وإثبات خبر القدرة على التبديل، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستدلال على ما ختم به تَبارَكَ. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بغرس أصول العقيدة،

وتبيان عناصر الإيمان، من عبادة الله وطاعته، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان، والاستدلال على وجود الله ووحدانيته وقدرته. افتتحت السورة ببيان إرسال الله تعالى نوحا إلى قومه، وقيامه بإنذارهم ومطالبتهم بالإقلاع عن ذنوبهم، ليغفر الله لهم، وليمدهم بالأموال والبنين، وليجعل لهم جنات، يفجر فيها الأنهار، ولكنهم أبوا دعوته، وأمعنوا في الضلال والعصيان: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً.. [الآيات 1- 14] . ثم أمرهم تعالى للاستدلال على وجوده ووحدانيته وقدرته والإقبال على طاعته وتعرف نعمه بالنظر في خلق السموات والأرض، والتأمل في خلق الإنسان، وفيما أنعم به على الناس من تذليل الأرض وتسخيرها للنفع، وإيداع لكنوز والمعادن فيها، والتنقل في نواحيها، وسلوك السبل الواسعة فيها: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.. [الآيات 15- 20] . وختمت السورة ببيان كفر قومه وإصرارهم على عبادة الأصنام، وعقابهم في الدنيا والآخرة، ودعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار بعد جهاد طويل في الدعوة دام تسع مائة وخمسين سنة، دون أن يقلعوا عن الشرك، ولم ينتفعوا بالإنذار والتذكير: قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي.. [الآيات 21- 28] .

إرسال نوح عليه السلام إلى قومه [سورة نوح (71) الآيات 1 إلى 4] :

إرسال نوح عليه السلام إلى قومه [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) الإعراب: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ: إما مفسرة بمعنى (أي) لتضمن الإرسال معنى القول، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وإما في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن أنذر. المفردات اللغوية: أَنْ أَنْذِرْ أي بأن أنذر، أو بإنذار. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إن لم يؤمنوا. عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، في الدنيا بالطوفان، وفي الآخرة بنار جهنم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ بأن اعبدوا الله. مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ زائدة، فإن الإيمان يغفر به ما قبله، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد. وَيُؤَخِّرْكُمْ بلا عذاب. أَجَلٍ مُسَمًّى أجل مقدر بوقت معلوم لا يتجاوزه، وهو أقصى ما قدر لكم، وهو أجل الموت. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إن الأجل الذي قدّره. إِذا جاءَ على الوجه المقدر به أجلا. لا يُؤَخَّرُ فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك، ولآمنتم. وفيه دلالة على أنهم لانهماكهم في حب الحياة العاجلة، كأنهم شاكون في الموت. التفسير والبيان: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي إنا بعثنا نوحا أول رسول أرسله الله إلى قومه، وقلنا له: أنذر قومك بأس الله قبل أن يأتيهم عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار، أو الإغراق بالطوفان، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم.

قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ قال نوح لقومه: إني منذر من عقاب الله ومخوّف لكم، بيّن الإنذار، واضح الاعلام، أبيّن لكم ما فيه نجاتكم، ومضمون الإنذار: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاتَّقُوهُ، وَأَطِيعُونِ أي آمركم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن تؤدوا حقوقه، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا ما يوقعكم في عذابه وتطيعوني فيما آمركم به، فإني رسول إليكم من عند الله تبارك وتعالى. والتقوى: امتثال الأوامر، واجتناب المحارم والمآثم. والتكليف بهذه الأمور الثلاثة له ثمرتان: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يستر لكم بعض ذنوبكم، ويسامحكم فيما فرط منكم من الزلّات، ويمد في أعماركم ويؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم، إن آمنتم وأطعتم، وهذا وعد على العبادة والطاعة بشيئين: أحدهما- دفع مضار الآخرة: وهو غفران الذنوب، والثاني- تحقيق منافع الدنيا، وهو تأخير الأجل إلى أقصى الإمكان. وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم، يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى عن أنس: «صلة الرحم تزيد في العمر» . قال الزمخشري: قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم، أهلكهم على رأس تسع مائة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه، لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف «1» .

_ (1) . 3/ 270

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي ما قدّره لكم إذا جاء، وأنتم باقون على الكفر، لا يؤخر بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة، لو كنتم تعلمون، لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر عن وقته. والمعنى: أن الأجل حتمي لا يؤجل، ولكن له تعلق وارتباط بشيء آخر، ففي حال الإيمان والطاعة يكون الأجل الأطول، ثم لا بد من الموت، وفي حال الكفر والمعصية يكون الأجل الأقصر، ثم يكون الموت. والعاقل هو الذي يبادر إلى الطاعة قبل حلول النقمة، فإنه إذا أمر تعالى بالعقاب لا يرد ولا يمانع. وأضاف تعالى الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أرسل الله تعالى رسوله نوحا عليه السلام إلى قومه، لينذرهم ويخوفهم إن أصروا على الكفر العذاب المؤلم وهو عذاب النار في الآخرة، وما نزل عليهم من الطوفان في الدنيا. روى قتادة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول رسول أرسل نوح، وأرسل إلى جميع أهل الأرض» . فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. 2- امتثل نوح عليه السلام أمر ربه، فبلغ قومه رسالته قائلا: يا قوم إني لكم نذير واضح الإنذار، فمن عصى الله دخل النار، وآمركم أن توحدوا الله وتعبدوه حق العبادة الخالصة له، وأن تخافوه، وأن تطيعوه فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. والأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح. والأمر بالتقوى يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، والطاعة تشمل إطاعة جميع المأمورات والمنهيات.

مناجاة نوح ربه وشكواه إليه [سورة نوح (71) الآيات 5 إلى 20] :

فإن التزمتم العبادة والخوف من الله والطاعة لأوامره، غفر لكم بعض الذنوب، وهو ما لا يليق بحقوق المخلوقين، وينسئ في أعماركم. والمعنى: أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا، بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. 3- إذا جاء الموت المحتم وقوعه لا يؤخر، بعذاب كان أو بغير عذاب. ولو كنتم أيها الناس تعلمون، لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخّر. وهذا زجر لهم عن حب الدنيا، والإعراض عن أحكام الدين أوامره ونواهيه. مناجاة نوح ربه وشكواه إليه [سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)

الإعراب:

الإعراب: جِهاراً منصوب على المصدر ب دَعَوْتُهُمْ لأن الجهار أحد نوعي الدعاء، فنصب به، مثل قعدت القرفصاء، أو صفة لمصدر دعا أي دعاء جهارا، أو حال، أي مجاهرا. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً يُرْسِلِ: مجزوم لأنه جواب الأمر، بتقدير إن، أي إن تستغفروا ربكم يرسل السماء عليكم مدرارا. ومِدْراراً: حال من السماء، ولم تؤنث مدرار لأن مفعال في المؤنث يكون بغير تاء، مثل: امرأة معطار ومذكار ومئناث لأنها في معنى النسب، كقولهم: امرأة طالق وحائض وطامث، أي ذات طلاق وحيض وطمث. أَطْواراً في موضع الحال. طِباقاً إما صفة ل سَبْعَ أو منصوب على المصدر. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ أي في إحداهن. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نَباتاً: منصوب على المصدر، والعامل فيه إما مقدر، تقديره: والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا، أو يكون مصدر أَنْبَتَكُمْ على حذف الزائد. البلاغة: لَيْلًا ونَهاراً بينهما طباق، وكذا بين جِهاراً وإِسْراراً وبين أَعْلَنْتُ وأَسْرَرْتُ وبين يُعِيدُكُمْ ويُخْرِجُكُمْ. جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مجاز مرسل، إذ المراد رؤوس أصابعهم، من إطلاق الكل وإرادة الجزء. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً استعارة تبعية في أَنْبَتَكُمْ شبه إنشاءهم وخلقهم أطوارا بالنبات الذي ينمو تدريجيا. وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ذكر المصدر للتأكيد، وهو ما يسمى بالإطناب. وبين يُعِيدُكُمْ ويُخْرِجُكُمْ طباق. مِدْراراً، أَنْهاراً، وَقاراً، أَطْواراً إلخ سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: دَعَوْتُ قَوْمِي أي إلى الإيمان. لَيْلًا وَنَهاراً أي دائما متصلا. إِلَّا فِراراً هربا عن الإيمان والطاعة وتفلتا منهما. وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والطاعة. جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ

المناسبة:

فِي آذانِهِمْ سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي. والتعبير بصيغة الدعوة أو الطلب للمبالغة. وَأَصَرُّوا وأكبوا على الكفر والمعاصي. وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان واتباعي. اسْتِكْباراً عظيما. جِهاراً بأعلى صوتي. أَعْلَنْتُ لَهُمْ صوتي. وَأَسْرَرْتُ الكلام، أي دعوتهم مرة بعد أخرى، وكرة بعد أولى، على أي وجه أمكنني. وكلمة ثُمَّ لتفاوت الوجوه والتفنن في الأسلوب والدعوة. اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا المغفرة من الكفر أو الشرك، بالتوبة من ذلك. إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين. يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر، وكان قد حبس الله عنهم المطر أربعين سنة، وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه، ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. مِدْراراً غزيرا متتابعا كثير الدور. جَنَّاتٍ بساتين. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لا تخافون أو لا تأملون. وَقاراً عظمة وإجلالا وتوقيرا، والمعنى على قوله: «لا تأملون» : مالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء المشتمل على أدنى الظن مبالغة. أَطْواراً جمع طور أي أحوالا وهيئات وعلى مراحل وأدوار في النمو والخلقة، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله، والحال هذه، وهي حال موجبة للإيمان به؟! خلقكم أولا من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم خلق العظام واللحم، ثم أنشأكم خلقا آخر، من طفولة، فشباب، فكهولة. أَلَمْ تَرَوْا تنظروا. طِباقاً متطابقة، بعضها فوق بعض. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ أي في السموات، وهو في السماء الدنيا. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي كالسراج وهو المصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي خلقكم وأنشأكم من الأرض إنشاء، إذ خلق أباكم آدم منها، فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين. وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً بالبعث والحشر، وأكده بالمصدر، كما أكّد به قوله: أَنْبَتَكُمْ للدلالة على أن الإعادة محققة كالبدء، وأنها تكون لا محالة. بِساطاً ممهدة منبسطة كالبساط، تتقلبون عليها. فِجاجاً واسعة، جمع فج. المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى عن إرسال نوح عليه السلام إلى قومه، وامتثاله أمر ربه، ذكر مناجاته لربه وشكواه إليه، أنه دعاهم وأنذرهم، فعصوه وتمردوا عليه، بالرغم من تغيير أساليب الدعوة، والوعد بإنزال الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، وتخصيص الجنات والأنهار، وبالرغم من إقامة الأدلة على عظمة الله

التفسير والبيان:

وقدرته، من خلق الإنسان على أطوار، وخلق السموات السبع الطباق، وتزيينها بالشمس والقمر، وجعل الأرض ممهدة كالبساط. التفسير والبيان: ذكر الله تعالى أنواع الشكوى من نوح عليه السلام على قومه، فقال: - قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي قال نوح مشتكيا إلى ربه عز وجل ما لقي من قومه وما صبر عليهم في مدة طويلة هي ألف سنة إلا خمسين عاما: إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان، دعاء دائما متصلا في الليل والنهار، من غير تقصير، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا عما دعوتهم إليه، وبعدا عنه، أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق، فرّوا منه، وحادوا عنه. ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء: - وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ، وَأَصَرُّوا، وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك، والطاعة لك، سدّوا آذانهم برؤوس أصابعهم، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، وغطوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني، ولئلا يسمعوا كلامي، واستمروا على الكفر والشرك العظيم، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا شديدا، أي استنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له. - ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي إنني نوّعت أساليب الدعوة، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس، أي مجاهرا لهم بها، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار. والمراد بالآيات أنه كان لدعوته ثلاث مراتب: بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا، ففروا منه.

ثم ثنّى بالمجاهرة لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ، فلم يؤثر. ثم جمع بين الأمرين: الإسرار والإعلان، كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ومعنى ثُمَّ الدلالة على تباعد الأحوال، وتفاوت درجة الأسلوب، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. وهذا مشابه لمراحل الدعوة التي قام بها النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة وجزيرة العرب، فكان موقف كفار قريش مماثلا لموقف قوم نوح: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت 41/ 26] . ثم فسر الدعوة وأبان مضمونها بقوله: فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي فقلت لهؤلاء القوم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم السابقة بإخلاص النية، وتوبوا إلى الله من الكفر والمعاصي، إن ربكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين. وفيه دلالة على أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء، لأن الفقر والقحط والآلام والمخاوف بشؤم المعاصي، فإذا تابوا واستغفروا، زال الشؤم والبلاء، وعاد الخير والنماء. ثم وعدهم على التوبة من الكفر والمعاصي بخمسة أشياء، فقال: 1- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً أي إن استغفرتم ربكم يرسل المطر عليكم متتابعا، كثير الدرور والغزارة، فيكثر الخير والخصب والغلال والثمار، ويعم الرخاء والاطمئنان والسعادة والاستقرار، ويمددكم بالأموال الكثيرة ويعطكم الخيرات الوفيرة، ويكثر لكم الذرية والأولاد بسبب الأمن والرفاه والشعور بالاستقرار

والسعادة، ويجعل لكم البساتين النضرة الخضراء العامرة بالأشجار والثمار والفواكه، ويجعل لكم أنهارا جارية بالماء العذب، التي يكثر بها الزرع والثمر والغلة. وهذا دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق، لذا كان مأمورا به في صلاة الاستسقاء، كما أن الآية تدل على أن الإيمان بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة، الخصب والغنى في الدنيا. وبعد الدعوة بالترغيب، وبخهم ولجأ إلى الدعوة بالترهيب قائلا: 2- ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي مالكم لا تخافون عظمة الله، فتوحدوه وتطيعوه، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار مختلفة، بدءا من النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام فاللحم، ثم تمام الخلق وإنشاؤكم خلقا آخر، تمرون في دور الطفولة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟ لكن لم يجز الرازي تفسير الرجاء بالخوف لأن الرجاء في اللغة ضد الخوف، ورجح تفسير الزمخشري وهو مالكم لا تأملون لله توقيرا أي تعظيما، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم. ولِلَّهِ بيان للموقر. وهذا دليل على وجود الله سبحانه ووحدانيته، معتمد على النظر في النفس الإنسانية، ثم أتبعه بدليل آخر من العالم العلوي، فقال: 3- أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي ألم تنظروا فوقكم كيف خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض، وجعل القمر في السموات، وهو في السماء الدنيا منهن، منوّرا لوجه الأرض، لا حرارة فيه، وجعل الشمس كالمصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل، وينشر الحرارة والضياء.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقدر للقمر منازل وبروجا تدل على مضي الشهور وتدل الشمس على مرور السنين كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس 10/ 5] . ثم ذكر الله تعالى دليلا من العالم الأرض السفلي، فقال: 4- وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أي والله أوجد أباكم آدم من التراب، وجعله ينمو ويكبر كالنبات، وجعل نموكم معتمدا على الغذاء من نتاج الأرض، وتحولها إلى نبات أو حيوان، ثم يعيدكم في الأرض، تموتون، وتتحلل أجزاؤكم، حتى تعود ترابا مندمجا في الأرض، ثم يخرجكم أحياء منها بالبعث يوم القيامة، إخراجا دفعة واحدة، لا إنباتا بالتدريج كالمرة الأولى. قال الزمخشري: أستعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث. 5- وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أي ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة كالبساط، وثبّتها بالجبال، وجعلكم تتقلبون في أنحائها بحثا عن الرزق، وأوجد لكم طرقا واسعة بين الجبال وفي الوديان والسهول. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- استمر نوح عليه السلام في دعوة قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له طوال ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يفتر ولم يكلّ ولم يملّ ليلا ونهارا، سرا وجهرا، امتثالا لأمر الله وابتغاء لطاعته. ولكنهم بالرغم من هذه المدة الطويلة لم تزدهم دعوته للاقتراب من الحق إلا تباعدا عن الإيمان.

2- ذكر الرازي أن آية: دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً.. من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره. 3- صور الله تعالى نفور قوم نوح من دعوته إلى العبادة والتقوى والطاعة، لأجل أن يغفر الله لهم بصورة مادية محسوسة، وهي أنه كلما دعاهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بالله والطاعة له، سدّوا منافذ أسماعهم، لئلا يسمعوا دعاءه وطلبه، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروه، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا عظيما. وهذا دليل على وجود الحجاب الكثيف والغطرسة النفسية عن سماع دعوة الحق، وتلك مبالغة تتفق مع أوضاعهم، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى. 4- سلك نوح عليه السلام في دعوة قومه إلى التوحيد وطاعة الله تعالى مراتب ثلاثة: فبدأ بالمناصحة سرا، ثم ثنى بالمجاهرة، ثم جمع بين الإعلان والإسرار، وتلك سياسة ناجحة، وأسلوب ناجع استنفد فيه كل جهوده، إذا توافر التجاوب مع الدعوة، والتفاعل مع كلام الداعية. 5- إن الاشتغال بطاعة الله سبب يوجب زيادة البركة والنماء، وانفتاح أبواب الخيرات، وإدرار الأمطار، وزيادة الغلال، ووفرة الثمار، وقد وعدهم الله على الطاعة بخمسة أشياء: إنزال المطر، والإمداد بالأموال، والبنين، وجعل الجنات (البساتين) ، وجعل الأنهار. عن الحسن البصري رحمه الله: أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية: فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ..،

ويلاحظ أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة، لذا أطمعهم نوح بالخيرات في هذه الآية، وقال تعالى: وَأُخْرى تُحِبُّونَها: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف 61/ 13] . 6- آية الاستغفار هذه دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت بمجاديح «1» السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. 7- رغّبهم نوح بالعباد والطاعة، فقال: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة؟ أي فلا عذر لكم في ترك الخوف من الله، وقد جعل لكم في أنفسكم آية دالة على توحيده. ثم هددهم ووبخهم بالعذاب إن أعروضا عن دعوته، ثم استدل على وجود الله ووجوب طاعته بما يأتي. 8- أقام نوح عليه السالم الدليل على وجود الله وتوحيده وقدرته وعظمته بالنظر في النفس البشرية، والعالم العلوي من السموات والشموس والأقمار، والعالم السفلي من التذكير بكنوز الأرض وخيراتها من معادن ونباتات وحيوانات. فالله سبحانه هو الذي خلق الإنسان في الأصل من التراب، ثم جعل سبب بقاء نوع الإنسان بالتزاوج والتوالد، والعناية بالإنسان في أطوار حياته.

_ (1) المجاديح: جمع مجدح: وهو نجم من النجوم، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولا بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع ليشمل جميع الأنواء التي يزعمون أن من شأنها المطر.

أنواع من قبائح قوم نوح وأقوالهم وأفعالهم [سورة نوح (71) الآيات 21 إلى 28] :

والله هو الذي خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب، وجعل القمر نورا منيرا في سماء الدنيا، والشمس مصباحا مضيئا لأهل الأرض، للتمكن من العمل والتصرف من أجل المعايش. وكما خلق آدم من أديم الأرض كلها، وتناسلت ذريته من بعده، يعيد الله الناس إلى الأرض موتى بالدفن في القبور، ثم يخرجهم منها بالنشور للبعث يوم القيامة. والعودة إلى دلائل الأنفس هنا كالتفسير لقوله: خَلَقَكُمْ أَطْواراً. والله سبحانه جعل لعباده الأرض مبسوطة لسلوك الطرق الواسعة الميسرة فيها. وقد بدأ هنا بدلائل الأنفس لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه وقد يبدأ بدلائل الآفاق لأنها أبهر وأعظم. والخلاصة: أورد الله تعالى على لسان نوح عليه السلام أربعة أدلة على التوحيد: الأول- وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً والثاني- خلق السموات والشمس والقمر والثالث- الإنبات من الأرض والرابع- جعل الأرض منبسطة ذات طرق واسعة. أنواع من قبائح قوم نوح وأقوالهم وأفعالهم [سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

الإعراب:

الإعراب: مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ.. وَلَدُهُ مفرد وقرئ: وَلَدُهُ بضم الواو وسكون اللام إما جمع «ولد» أو لغة في «ولد» كنحل ونحل وحزن وسقم وسقم. وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ ممنوعان من الصرف للتعريف ووزن الفعل. لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ديار: فيعال من (دار يدور) وأصله: (ديوار) فاجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء وجعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون (فعّالا) لأنه لو كان (فعّالا) لوجب أن يقال (دوّار) فلما قيل (ديّار) دل على أنه (فيعال) لا (فعّال) . البلاغة: وَقالُوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً.. إلخ فيها ذكر الخاص بعد العام. وعكسه ذكر العام بعد الخاص في قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وكلاهما من باب الإطناب. المفردات اللغوية: عَصَوْنِي فيما أمرتهم به. وَاتَّبَعُوا أي مجموع القوم الأدنياء. مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ وهم الرؤساء أو القادة المنعم عليهم بذلك. خَساراً خسرانا في الآخرة. وَمَكَرُوا أي الرؤساء، عطف على مَنْ لَمْ يَزِدْهُ والضمير لمن وجمعه للمعنى كُبَّاراً كبيرا في الغاية، عظيما جدا لأنهم كذبوا نوحا وآذوه ومن اتبعه. وَقالُوا للأدنياء السفلة. لا تَذَرُنَّ لا تتركن. وَدًّا صنم لكلب. وَلا سُواعاً صنم لهذيل. وَلا يَغُوثَ صنم لغطيف بالجرف عند سبأ، أو لمذحج. وَيَعُوقَ لهمدان. وَنَسْراً صنم لحمير آل ذي الكلاع. وَقَدْ أَضَلُّوا الضمير للرؤساء بأن أمروهم بعبادتهم، أو للأصنام. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على قَدْ أَضَلُّوا أو على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي.

المناسبة:

مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل ذنوبهم وآثامهم. أُغْرِقُوا أي بالطوفان. فَأُدْخِلُوا ناراً. وهو عذاب الآخرة أو عذاب القبر. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي لم يجدوا غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب، وهو تعريض لهم باتخاذهم آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم. دَيَّاراً نازل دار، أي أحدا، وهو مما يستعمل في النفي العام. إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً من يفجر ويكفر، كان هذا الدعاء بعد الإيحاء إليه. وَلِوالِدَيَّ وكانا مؤمنين. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي أو مسجدي أو سفينتي إذا كان مؤمنا. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. تَباراً هلاكا. المناسبة: بعد بيان أنواع الدلائل التي استدل بها نوح عليه السلام على توحيد الإله، أعلن نوح عصيان قومه، وحكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم، ومحورها العكوف على عبادة الأصنام والأوثان. ثم ذكر ما يستحقونه من دخول النار في الآخرة، والهلاك في الدنيا بعد دعاء نوح عليهم بذلك، ودعائه بالمغفرة السابغة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات. التفسير والبيان: قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي دعا نوح عليه السلام ربه قائلا: يا رب، إن قومي استمروا على عصياني، ولم يجيبوا دعوتي، واتبع الجمهور الرؤساء والكبراء وأهل الثراء، الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أي مكروا مكرا عظيما كبيرا، وهو صد الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله، وإغراؤهم السفلة على إيذاء نوح وقتله. وَقالُوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ

وَنَسْراً أي وقال الرؤساء للأتباع للإغراء بمخالفة نوح وعصيان أوامره وأقواله: لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا رب نوح، ولا تتركوا بالذات عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر. فكان ودّ لكلب، وسواع لهذيل، ويغوث لغطفان، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير آل ذي الكلاع. وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى «1» الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلما ماتوا وجاء آخرون، وسوس إليهم إبليس قائلا: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وكان عند العرب أصنام أخرى: أهمها اللات لثقيف بالطائف، والعزّى لسليم وغطفان وجشم، ومناة لخزاعة بقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، وهبل أكبر الأصنام عندهم، فوضع فوق الكعبة. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا أي وقد أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس، وقيل: أضلت الأصنام كثيرا من الناس، فإنه استمرت عبادتها في القرون بين العرب والعجم إلى عهد النبوة، كما قال إبراهيم الخليل في دعائه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم 14/ 35- 36] . وناسب ذلك أن يدعو عليهم نوح عليه السلام لإضلالهم وضلالهم وكفرهم وعنادهم، فقال: ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن الصواب، فلا يهتدوا إلى الحق والرشد، وذلك كما دعا موسى عليه السلام على فرعون وقومه في قوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس 10/ 88] .

_ (1) الوحي: الاعلام في خفاء لأي شيء، من الأرض والإنسان والحيوان.

ثم أبان الله تعالى جزاءهم وسبب الجزاء وهو إضلال الناس فقال: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم، أغرقوا بالطوفان، ثم أدخلوا نار الآخرة، فلم يكن أحد يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم. وَقالَ نُوحٌ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي لما أيس نوح من إيمانهم، دعا عليهم بعد أن أوحي إليه ذلك، فقال: رب لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا يسكن الديار. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق، ولا يلدوا إلا كل فاجر في الأعمال بترك طاعتك، كثير الكفران في القلب لنعمتك، لخبرته بهم، ومكثه معهم ألف سنة إلا خمسين عاما. ثم دعا نوح عليه السلام لأهل الإيمان، وأعاد الدعاء مرة أخرى على الكفار، قائلا: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي رب استر علي ذنوبي واستر على والدي المؤمنين برسالتي، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن، ولكل المصدقين بوجودك ووحدانيتك ولكل المصدقات بذلك من الأمم والأجيال القادمة، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر إلا هلاكا وخسرانا ودمارا. وقد شمل دعاؤه هذا كل مؤمن وكل ظالم إلى يوم القيامة. روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقى» .

فقه الحياة أو الأحكام:

ويستحب مثل دعاء نوح اقتداء به لجميع المؤمنين والمؤمنات من الأحياء والأموات. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لا تجوز الشكوى إلا إلى الله عز وجل، ولذا شكى نوح قومه إلى ربه، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، داعيا لهم، وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء فيأتي بهم الولد بعد الولد، حتى بلغوا سبعة قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. 2- يقلد الناس في العادة قادتهم وكبراءهم، وقد اتبع قوم نوح رؤساءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة ومكروا مكرا عظيما بصرف الناس الأتباع عن الدين والإيمان، وبإغراء السفلة على قتل نوح عليه السلام. 3- أصرّ قوم نوح على الكفر والعناد والتمرد وعبادة الأصنام، وتواصوا بعبادة الأوثان وترك عبادة الله، ولا سيما عبادة ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها، ثم عبدتها العرب. 4- أكد نوح عليه السلام في شكواه أنه أضل كبراء قومه كثيرا من أتباعهم، لذا دعا عليهم بقوله: ولا تزد الظالمين الكافرين إلا عذابا «1» وخسرانا وضلالا عن

_ (1) كما جاء في قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر 54/ 47] والضلال هنا: العذاب.

طريق أهل الجنة، أو ضلال مكرهم. وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضبا عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون. 5- إن خطايا وذنوب قوم نوح هي السبب في الإغراق بالطوفان ودخول نار جهنم بعد إغراقهم، فلم يجدوا حينئذ أحدا يمنعهم من عذاب الله. 6- استدل بعض أهل السنة وهو القشيري بآية أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً على إثبات عذاب القبر لأن إدخال النار حصل عقيب الإغراق، فلا يحمل على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة الفاء على التعقيب، ولأنه قال: فَأُدْخِلُوا على سبيل الإخبار عن الماضي، وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك. ورد الرازي بأن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل لأن المعنى صاروا مستحقين دخول النار، وأما التعبير بقوله: فَأُدْخِلُوا فهو عن المستقبل بلفظ الماضي، لتأكد وقوعه وصحة وجوده «1» . 7- قوله تعالى: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى لأن الآية تعريض بالمشركين الذين واظبوا على عبادة الأصنام، لتكون دافعة للآفات عنهم، جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما دفعت عنهم شيئا من عذاب الله. 8- دعا نوح على الكفار بالدمار والهلاك بعد أن يئس من اتباعهم إياه، وبعد أن أوحى الله إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود 11/ 36] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته. وهذا كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم» . قال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلّى الله عليه وسلّم على من

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 145

تحزب على المؤمنين وألّب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم، والله أعلم «1» . 9- دعا نوح أيضا لنفسه ولوالديه، وكانا مؤمنين، ولكل من دخل منزله مؤمنا، أو دخل مسجده ومصلاه مصليا مصدقا بالله تعالى، ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات عامّة إلى يوم القيامة. ثم دعا أيضا على الكافرين في مقابلة أهل الإيمان بقوله: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي لا تزد الكافرين إلا هلاكا، وهذا عام في كل كافر ومشرك.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1848 وما بعدها.

سورة الجن:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الجن مكيّة، وهي ثمان وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة الجن لتعلقها بأحوالهم فإنهم لما سمعوا القرآن، آمنوا به، ثم أبانوا علاقتهم بالإنس، ومحاولتهم استراق السمع، ورميهم بالشهب المحرقة، وغير ذلك من حديث الجن العجيب الذين منهم المؤمن ومنهم الكافر، والجن عالم لا نراه ولا طريق لمعرفة شيء عنه إلا بالوحي الإلهي. ويلاحظ أن تسميات السور تبعث على النظر والتفكير. مناسبتها لما قبلها: ترتبط بالسورة بما قبلها من وجهين: 1- قال الله سبحانه في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [10- 11] وقال تعالى في هذه السورة لكفار مكة: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [16] . 2- ذكر في السورتين شيء يتعلق بالسماء، كما ذكر فيهما عذاب العصاة، فقال تعالى في سورة نوح: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [15] وقال عز وجل هنا: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها ... [8] وقال في السورة المتقدمة: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً.. [25] وقال هنا: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [23] .

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: هناك موضوعان بارزان في السورة هما: الإخبار عن حقائق تتعلق بالجن، وتوجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في تبليغه الدعوة إلى الناس. افتتحت السورة بالإخبار عن إيمان فريق من الجن بالقرآن العظيم حين سمعوا تلاوته من النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته في منى بعد عودته من الطائف قبيل الإسراء والمعراج: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.. [الآيات: 1- 2] فهو كما قالوا كتاب يهدي إلى الرشد. ثم أبانت تمجيدهم الله عز وجل وإفرادهم له بالعبادة وتنزيههم له عن اتخاذ الصاحبة والولد، وتسفيههم من جعل لله ولدا وعلاقة الجن بالإنس: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.. [الآيات: 3- 7] . وأعقبت ذلك بالإخبار عن محاولات الجن استراق السمع من السماء، للتعرف على خبر العالم العلوي، ومنعهم منه لإحاطة السماء بالحرس الملائكي، وإحراقهم بالشهب النارية بعد بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتعجبهم من هذا الحديث السماوي، وتساؤلهم: هل يراد به تعذيب أهل الأرض: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ.. [الآيات: 8- 10] . وصرح الجن بعدئذ بانقسامهم إلى فريقين: مؤمنين وكفار، مع تبشير المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وعزمها، وإنذار الكافرين المعرضين عن هدي الله وكتابه بالعذاب الشديد: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ.. [الآيات: 11- 18] . ووصفوا تجمعهم حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمعوه يتلو القرآن: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ.. [الآية: 19] .

إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى [سورة الجن (72) الآيات 1 إلى 7] :

واشتمل القسم الثاني من السورة على توجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأمره بتبليغ دعوته إلى الناس وإخلاص العمل لله وكونه لا يشرك بربه أحدا، وإعلامه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأنه لا ينجيه أحد من الله إن عصاه، وأنه لا يدري بوقت العذاب: قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.. [الآيات: 20- 25] . وختمت السورة ببيان استئثار الله واختصاصه بمعرفة علم الغيب، وإحاطته بجميع ما لدى الخلائق وإحصاء أعدادهم: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً.. [26- 28] . إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) الإعراب: أَنَّهُ اسْتَمَعَ في موضع رفع، نائب فاعل ل أُوحِيَ وعطف عليها جميع ما ذكر بعدها وهو اثنا عشر موضعا من لفظ «أنّ» فهو عطف على الموحى به، ويصح الكسر في الجميع عطفا على المقول. كَذِباً منصوب على المصدر لأنه نوع من القول، أو صفة لمحذوف أي قولا مكذوبا فيه.

البلاغة:

أَنْ لَنْ تَقُولَ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه. وكذا أَنْ لَنْ يَبْعَثَ مخففة من الثقيلة. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً سدّ مسدّ مفعولي ظَنُّوا. البلاغة: قُرْآناً عَجَباً وصف بالمصدر للمبالغة، أي عجيبا في إيجازه وإعجازه. فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً بينهما طباق السلب لأن الإيمان ضدّ الشرك ونفي له. الْإِنْسُ والْجِنُّ بينهما طباق. أَحَداً، وَلَداً، رَصَداً، رَشَداً، قِدَداً، صَعَداً، عَدَداً إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع. المفردات اللغوية: قُلْ أيها النبي للناس. أُوحِيَ إِلَيَّ أخبرني الله تعالى بالوحي. أَنَّهُ الهاء ضمير الشأن. اسْتَمَعَ لقراءتي القرآن. نَفَرٌ النفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة. الْجِنِّ أجسام عاقلة خفية مخلوقة من النار، والمقصود بهم هنا جن نصيبين، وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل: موضع بين مكة والطائف، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية [الأحقاف 46/ 29] . فَقالُوا لقومهم لما رجعوا إليهم. قُرْآناً كتابا. عَجَباً بديعا في حسن نظمه ودقة معناه، يتعجب منه من فصاحته وغزارة معانيه، مباين لكلام الناس. وعَجَباً: مصدر وصف به القرآن للمبالغة. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ الإيمان والحق والصواب. فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً لما نطق به من الأدلة القاطعة الدالة على التوحيد. وَأَنَّهُ الهاء ضمير الشأن. تَعالى جَدُّ رَبِّنا تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه من الصاحبة والولد، والمعنى: وصف بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. والجدّ: العظمة. وقرئ: جدّا بالتمييز، وجدّ بالكسر، أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد. صاحِبَةً زوجة. ويحتمل أن يكون المراد من الجدّ: الملك والسلطان أو الغنى، جاء في الحديث: «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيدة: لا ينفع ذا الغنى منك غناه. سَفِيهُنا السفيه: الجاهل ومن عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل. شَطَطاً غلوّا في الكذب وتجاوزا حدّ العدل والحق بنسبة الصاحبة والولد إليه. كَذِباً بوصفه بذلك، حتى تبينا كذبهم فيما قالوا. يَعُوذُونَ يستعيذون أو يطلبون النجاة والعون. بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل

سبب النزول:

إذا أمسى بأرض قفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. فَزادُوهُمْ زادوا الجنّ باستعاذتهم بهم. رَهَقاً طغيانا وكبرا وعتوا، وأصل الرهق: الإثم وارتكاب المعاصي. وَأَنَّهُمْ أي الإنس. ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً بعد موته. سبب النزول: نزول الآية (1) : قُلْ: أُوحِيَ ... : أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنا عجبا، فأنزل الله على نبيّه: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ وإنما أوحي إليه قول الجن. نزول الآية (6) : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ..: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي، جارك، فنادى مناد، لا نراه يا سرحان، فأتى الحمل

التفسير والبيان:

يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الآية. وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد رعيت على أهلي، وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خرجنا هرابا، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا: إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذاك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، من أقرّ بها، أمن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً. التفسير والبيان: حكى الله عن الجن ستة أشياء وهي: 1- قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي قل يا محمد مخبرا أمتك وقومك بأن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدّقوه وانقادوا له، فقد أوحى الله إلي على لسان جبريل عليه السلام أنه استمع عدد من الجن إلى قراءتي للقرآن، وهي سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم: سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في فصاحته وبلاغته، ومواعظه وبركاته. والإيحاء: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، كالإلهام وإنزال الملك، ويكون ذلك في سرعة. والجنّ عالم مستتر عنا، لا نعرف عنه إلا ما أخبر به الوحي، فهم مخلوقون من النار: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر 15/ 27] ، ولم

يرسل الله إليهم رسلا منهم، بل الرسل جميعا من البشر، وهم كالبشر منهم المؤمن المثاب، ومنهم الكافر المعاقب. ونظير الآية قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.. الآية [الأحقاف 46/ 29] . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي إن هذا القرآن يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى، فصدقنا به أنه من عند الله، ولن نشرك مع الله إلها آخر من خلقه، ولا نتخذ إلها آخر، وهذا إعلان منهم للإيمان أمام قومهم حين رجعوا إليهم، كما جاء في تتمة آية الأحقاف السابقة: قالُوا: أَنْصِتُوا، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. وفي الآية دلالة أن أعظم ما في دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم: توحيد الله تعالى، وخلع الشرك وأهله. وقد آمنت الجن أن القرآن كلام الله، بسماعه مرة واحدة، ولم ينتفع كفار قريش، لا سيما رؤساؤهم، بسماعه مرات، مع كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم منهم يتلوه عليهم بلسانهم. 2- وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وأنه ارتفع عظمة ربّنا وجلاله، أو فعله وأمره وقدرته، وأنه تعاظم عن اتّخاذ الصاحبة والولد، كما يقول الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد. والمعنى أنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله، نزهوا الرّب جلّ جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتّخاذ الصاحبة والولد. وبذلك أثبتوا وحدانية الله وامتناع وجود شريك له ثم أثبتوا له القوة والعظمة، ونزهوه عن الحاجة والضعف باتخاذ الصاحبة والولد، شأن العباد الذين يتعاونون على أمور الحياة بالزوجة للسّكن والألفة، وبالولد للمؤازرة والتكاثر والأنس. 3- وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي وإن مشركي الجن

وجهالهم كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ، بعيدا عن الصواب، غاليا في الكفر، فهم يكذبون على الله بدعوى الصاحبة والولد وغير ذلك. والشطط: مجاوزة الحد في الظلم والكفر وغيره من الباطل والزور. 4- وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي وأنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله، حينما قالوا بأن له شريكا وصاحبة وولدا، فصدقناهم في ذلك، فلما سمعنا القرآن علمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وعرفنا أنهم كانوا كاذبين. وهذا- كما ذكر الرازي- إقرار منهم بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها بالاستدلال والاحتجاج. 5- وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي كنا نرى أن لهم فضلا علينا، فكان بعض الإنس يستعيذ في القفار ببعض الجن، فزادوا رجال الجن طغيانا وسفها وغيّا وضلالا وإثما. وذلك أنه كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح. وقد أدى هذا إلى اجتراء الجن على الإنس وظلمهم. ونظير الآية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا.. [الأنعام 6/ 128] . 6- وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء، أو أنه لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي: 1- الإخبار عن قصص الجن له فوائد كثيرة أهمها بيان أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية كالإنس، وأن المؤمن منهم يدعو الكافر إلى الإيمان، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوث إلى العالمين: الإنس والجن وإلى الملائكة تشريفا، وأن يكون إيمانهم بالقرآن باعثا كفار قريش وغيرهم إلى الإيمان به، وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا. لكن ظاهر القرآن يدل على أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما رآهم لقوله تعالى: اسْتَمَعَ. وفي صحيح البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنّ وما رآهم، انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ.. إلخ ما ذكر في سبب النزول المتقدم. ففي هذا الحديث دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ير الجن، ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجنّ كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر، بسبب الشياطين لما رموا بالشهب، وكان المرميون بالشهب من الجنّ أيضا، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «وأرسلت عليهم الشّهب» . ومذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإسلام، وأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم رأى الجن قال القرطبي: وهو أثبت روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشّعاب، فقلت استطير «1» أو اغتيل، قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجيء

_ (1) استطير فلان: ذعر.

من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن» فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جنّ الجزيرة فقال: «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكلّ بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلا تستنجوا بهما، فإنها طعام إخوانكم الجن» . قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده، وابن عباس سمعه، وليس الخبر كالمعاينة «1» . وأصل الجن كما قال الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا، فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. 2- حكى الله عن الجن أشياء: أولا- أنهم لما سمعوا القرآن العجيب في فصاحة كلامه وبليغ مواعظه الهادي إلى مراشد الأمور، قالوا: اهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله، ولن نشرك بربّنا أحدا، أي ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به. ثانيا- أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك، نزّهوا ربهم عن الصاحبة والولد، لذا قالوا: عظم الله سبحانه عن أن يكون له صاحبة أو ولد. ثالثا- استنكروا ما كان يقول إبليس والجن قبل إسلامهم من الكذب والغلو في الكفر ومجاوزة الحدّ في الظلم.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1852

رابعا- حسبوا أن لن يكذب الإنس والجن على الله، فلذلك صدقناهم فيما سلف في أن لله صاحبة وولدا، فلما سمعنا القرآن تبيّنا به الحقّ. خامسا- كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي، أو بعزيز هذا المكان من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح، فزاد الإنس الجنّ طغيانا وعتوا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقيل: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن، وقيل: زاد الجنّ الإنس رهقا أي خطيئة وإثما. ويقال بدلا من هذه الاستعاذة: ما جاء في حديث أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس، وقال: غريب جدا: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أصاب أحد منكم وحشة أو نزل بأرض مجنّة «1» ، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها برّ ولا فاجر من شرّ ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن فتن النهار، ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير. سادسا- ظن الإنس كما ظن الجن أن لن يبعث الله الخلق، أو ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة، وكل هذا توكيد للحجة على قريش، فإذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك. وعلى هذا يكون الكلام كلام الجن، وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون الكلام من قول الله تعالى للإنس، والمعنى: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش. وعلى كلا التقديرين: دلت الآية على أن الجن كما كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني، فيهم من ينكر البعث.

_ (1) أرض مجنة: أي ذات مجنة.

حكاية أشياء أخرى عن الجن [سورة الجن (72) الآيات 8 إلى 17] :

حكاية أشياء أخرى عن الجن [سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 17] وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) الإعراب: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً فَوَجَدْناها: فعل وفاعل ومفعول، وإما أن تجعل «وجد» متعدية إلى مفعولين، بمعنى علمناها، وإلها: المفعول الأول، وجملة مُلِئَتْ المفعول الثاني، وإما أن تجعل متعدية إلى مفعول واحد، بمعنى أصبناها، وتجعل مُلِئَتْ في موضع الحال، بتقدير «قد» ، وحَرَساً: تمييز منصوب. أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ أَنْ: مخففة من الثقيلة: أنه. وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هَرَباً منصوب على المصدر في موضع الحال، تقديره: ولن نعجزه هاربين. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ بالعطف على هاء آمَنَّا بِهِ على تقدير حذف حرف الجر، لكثرة حذفه مع «أنّ» علما بأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز. وبكسر إنا بالعطف على قوله:

البلاغة:

فَقالُوا وما بعده في تقدير الابتداء والاستئناف، قال ابن بحر: كل ما في هذه السورة من «إن» المكسورة المثقلة، فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة، فهي وحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أَنْ: مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي وأنهم. يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً عَذاباً منصوب بتقدير حذف حرف الجر، تقديره: يسلكه في عذاب، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، فنصبه. وصَعَداً: مصدر وصف به العذاب. البلاغة: نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ بينهما جناس الاشتقاق. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً تأدب مع الله بنسبة الخير إلى الله، دون الشر، وبين لفظ «الشر» و «الرشد» طباق في المعنى. كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً استعارة، استعار الطرق للمذاهب المختلفة. الْمُسْلِمُونَ والْقاسِطُونَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: لَمَسْنَا السَّماءَ طلبنا بلوغها واستماع أخبارها. حَرَساً حرّاسا من الملائكة، وهو اسم. جمع كالخدم، مفرده حارس. شَدِيداً قويا. وَشُهُباً نجوما محرقة، جمع شهاب: وهو الشعلة من نار ساطعة. نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي نحاول الاستماع والترصد. رَصَداً أي أرصد وهيئ له ليرمي به. أَشَرٌّ أُرِيدَ بعد استراق السمع. بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء. رَشَداً خيرا وصلاحا. وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ المؤمنون الأبرار بعد استماع القرآن. وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي ومنا قوم دون ذلك، أي غير صالحين، فحذف الموصوف. كُنَّا طَرائِقَ ذوي طرائق، أي مذاهب. قِدَداً متفرقة مختلفة، مسلمين وكافرين، جمع قدة، من قدّ: إذا قطع. ظَنَنَّا علمنا. أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ، فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً لا نفوته ولا نفلت منه كائنين في الأرض، أينما كنا فيها، أو هاربين منها في السماء، إن طلبنا. الْهُدى القرآن. فَلا يَخافُ أي فهو لا يخاف. بَخْساً نقصا من حسناته. وَلا رَهَقاً ظلما بالزيادة في سيئاته. الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. تَحَرَّوْا رَشَداً قصدوا وتوخوا طريق الحق والهداية ليبلغهم إلى دار الثواب. طَباً وقودا للنار. عَلَى الطَّرِيقَةِ

سبب النزول نزول الآية (16) :

هي طريق الإسلام. ماءً غَدَقاً كثيرا. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فيه كيف يشكرونه. ذِكْرِ رَبِّهِ تذكيره وهو الوحي أو القرآن، أو مواعظه. يَسْلُكْهُ ندخله. عَذاباً صَعَداً شاقا يعلو المعذّب ويغلبه. سبب النزول: نزول الآية (16) : وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا: أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً قال: نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين. التفسير والبيان: يتابع الحق عزّ وجلّ حكاية أشياء أخرى وهي سبعة أنواع بالإضافة إلى الأنواع الستة المتقدمة، فيصير المجموع ثلاثة عشر نوعا، والأنواع السبعة هي: 7- وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً أي لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنزل عليه القرآن، طلبنا خبر السماء كما جرت به عادتنا فوجدناها- ملئت حرّاسا أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، ووجدنا أيضا نيرانا من الكواكب تحرق وتمنع من أراد استراق السمع كما كنا نفعل، كما قال تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 67/ 5] . فالشهب: انقضاض الكواكب المحرقة للجن عن استراق السمع. أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زاد فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض. والخلاصة: أن الشياطين منعت بعد بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم من استراق السمع لئلا يسترقوا شيئا من القرآن، فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط، ولا يدرى من الصادق. 8- وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي أننا كنا نقعد في السماء مقاعد لاستراق السمع، وسماع أخبار السماء من الملائكة لإلقائها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه عند بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشهب المحرقة، فمن يروم أن يسترق السمع اليوم، يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه. 9- وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي وأننا لا نعلم بسبب هذه الحراسة للسماء، أشرّ أو عذاب أراده الله أن ينزله على أهل الأرض، أم أراد بهم ربهم خيرا وصلاحا، بإرسال نبي مصلح. وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عزّ وجلّ. وقد ورد في الصحيح: «والشر ليس إليك» . 10- وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي أخبر تعالى عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم، لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم: كنا قبل استماع القرآن: منّا المؤمنون الأبرار الموصوفون بالصلاح، ومنّا قوم دون ذلك، أي غير صالحين أو كافرين، كنا جماعات متفرقة، وأصنافا مختلفة، وأهواء متباينة. والمراد أنهم كانوا أقساما، فمنهم المؤمن ومنهم الفاسق ومنهم الكافر، كما هي حال الإنس. قال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.

11- وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي وأننا علمنا أن قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لا نفلت من قدرة الله ولا نفوته إن طلبنا وأراد بنا أمرا، سواء كنا كائنين في الأرض أو هاربين منه إلى السماء، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا. 12- وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ، فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً أي وأننا لما سمعنا القرآن، صدقنا أنه من عند الله، ولم نكذب به، كما كذبت به كفرة الإنس، فمن يصدق بربه وبما أنزله على رسله، فلا يخاف نقصانا من حسناته، ولا عدوانا وظلما وطغيانا بالزيادة في سيئاته. 13- وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي وأن بعضنا مؤمنون مطيعون لربّهم يعملون الصالحات، وبعضنا جائرون ظالمون حادوا عن طريق الحق والخير ومنهج الإيمان الواجب، فمن آمن بالله وأسلم وجهه لله بطاعة شريعته، فأولئك قصدوا وتوخوا الطريق الموصل للسعادة، وطلبوا لأنفسهم النجاة من العذاب، وهذا ثواب المؤمنين. ويلاحظ أن القاسط: الجائر عن الحق الناكب عنه لأنه عادل عن الحق، بخلاف المقسط وهو العادل لأنه عادل إلى الحق، والقاسطون: الكافرون الجائرون عن طريق الحق، من قسط أي جار، والمقسط: القائم بالعدل، من أقسط، أي عدل. ثم ذم الجن الكافرين بقولهم: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً أي وأما الجائرون الحائدون عن منهج الإسلام فكانوا وقودا للنار توقد أو تسعر بهم، كما توقد بكفرة الإنس. وبعد بيان النوع الأول من الموحى به إلى رسوله، ذكر تعالى النوع الثاني الموحى به إليه، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي وأوحي إلي أنه لو استقام الجن والإنس على طريقة الإسلام لأسقيناهم ماء كثيرا، ولآتيناهم خيرا كثيرا واسعا، لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم، فإن أطاعوا ربّهم أثبناهم، وإن عصوه عاقبناهم في الآخرة، وسلبناهم النعمة، أو أمهلناهم ثم أهلكناهم، كما أبانت الآية التالية: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أي ومن يعرض عن القرآن أو عن الموعظة، فلا يأتمر بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي، يدخله عذابا شاقا صعبا لا راحة فيه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تغير الحال بعد البعثة النبوية عن الجن، فإنهم كعادتهم طلبوا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، فوجدوها ملئت حفظة، أي ملائكة، ورموا بالشهب: وهي الكواكب المحرقة لهم، منعا من استراق السمع. قال الرازي: والأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، إلا أنها زيدت بعد المبعث، وجعلت أكمل وأقوى، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة، وكذلك قوله: نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها «1» . 2- لم يفهم الجن القصد من تشديد الحراسة على أخبار السماء، فهل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا، أو يرسل إليهم رسولا؟ وهل المقصود من المنع من الاستراق هو إرادة الشر بأهل الأرض، أم الصلاح والخير؟!

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 158

3- أخبر الجن عن حقيقتهم قبل البعثة النبوية، فقال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم: إنا كنا قبل استماع القرآن من الصالحون ومنا الكافرون، فكنا فرقا شتى، وأديانا مختلفة، وأهواء متباينة. والمعنى: لم يكن كل الجن كفارا، بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. قال سعيد بن المسيب: كنا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا. 4- علم الجن وأيقنوا أنهم لن يعجزوا الله ولن يفوتوه أو يفلتوا منه، سواء أكانوا في الأرض أينما وجدوا فيها، أم صاروا هاربين منها إلى السماء. 5- بادر الجن عند سماع القرآن إلى الإيمان بالله تعالى، والتصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم على رسالته. وهذا دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن البصري: بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الإنس والجنّ، ولم يبعث الله تعالى قطّ رسولا من الجنّ، ولا من أهل البادية، ولا من النساء، وذلك قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف 12/ 109] . وفي الصحيح: «بعثت إلى الأحمر والأسود» «1» أي الإنس والجن. وجزاء الإيمان: أنه لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته. 6- كذلك كان الجن بعد استماع القرآن مختلفين، فمنهم من أسلم، ومنهم من كفر، فمن أسلم، فقد طلبوا لأنفسهم النجاة، وقصدوا طريق الحق وتوخّوه، ومن جار عن طريق الحق والإيمان، فإنهم في علم الله تعالى وقود جهنم.

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 16

أنواع أخرى من الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أصول رسالته [سورة الجن (72) الآيات 18 إلى 24] :

أنواع أخرى من الموحى به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أصول رسالته [سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 24] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) الإعراب: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أَنَّ: إما في موضع رفع عطفا على قوله تعالى: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ أو في موضع جرّ، بتقدير حذف حرف الجر، وإعماله بعد الحذف، أي فلا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله، أو في موضع نصب، بتقدير حذف حرف الجر، فلما حذف اتصل الفعل به، فنصبه. وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ: إما بالفتح عطفا على «أن» المفتوحة ب أُوحِيَ أو بالكسر عطفا على «إن» المكسورة بعد «قالوا» والضمير للشأن. إِلَّا بَلاغاً إما منصوب على المصدر، ويكون الاستثناء متصلا، وتقديره: إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحدا، إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا. وإما منصوب لأنه استثناء منقطع. أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت، رحمني بذلك. خالِدِينَ حال من ضمير مِنَ في قوله اللَّهِ رعاية للمعنى. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً مِنَ: إما استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وأَضْعَفُ: خبره، وناصِراً: تمييز منصوب، وإما بمعنى الذي، في موضع نصب على أنها مفعول فَسَيَعْلَمُونَ وأَضْعَفُ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: من هو أضعف.

البلاغة:

البلاغة: ضَرًّا ورَشَداً بينهما طباق. المفردات اللغوية: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ مواضع الصلاة مختصة بالله. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فلا تعبدوا فيها غيره، بأن تشركوا كما يفعل اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم باتفاق الجميع. يَدْعُوهُ يعبده ببطن نخلة. كادُوا كاد الجن المستمعون لقراءته. لِبَداً جماعات، جمع لبدة: والمراد أنهم صاروا متزاحمين حرصا على سماع القرآن. يقال: تلبد القوم: إذا تجمعوا، ومنه قولهم: لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه. قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أعبد ربي إلها واحدا من غير إشراك، فلا داعي للإنكار أو التعجب. ضَرًّا وَلا رَشَداً غيا وضررا، ولا نفعا وخيرا. لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ لن ينفعني ويدفع عني من عذابه شيء إن عصيته. مِنْ دُونِهِ من غيره. مُلْتَحَداً ملتجأ أو ملجأ ألتجئ إليه. إِلَّا بَلاغاً تبليغا لرسالاته، وهو استثناء من مفعول أَمْلِكُ أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم أي التبليغ والرسالات، وما بين المستثنى منه والاستثناء اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أو مستثنى من قوله مُلْتَحَداً أي إن لم أبلغ بلاغا لا أجد ملجأ مِنَ اللَّهِ أي عن الله. وَرِسالاتِهِ معطوف على بَلاغاً. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في توحيد الله، فلم يؤمن لأن الكلام فيه. فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي يدخلونها مقدار خلودهم فيها، وجمع كلمة خالِدِينَ رعاية لمعنى الجمع في مَنْ يَعْصِ. وقوله اللَّهِ مراعاة للفظ حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أي ما يوعدون به من العقاب في الدنيا كوقعة بدر أو في الآخرة بعذاب النار وحَتَّى ابتدائية فيها معنى الغاية لشيء مقدر قبلها، أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا، أو أنها متعلقة بقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره. فَسَيَعْلَمُونَ عند حلول العذاب بهم يوم بدر أو يوم القيامة مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً من أضعف أعوانا وأقل أعدادا، هو أم هم. سبب النزول: نزول الآية (18) : وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت

نزول الآية (20) :

الجن: يا رسول الله، ائذن لنا، فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. وروي ذلك أيضا عن الأعمش. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت الجن للنبي صلّى الله عليه وسلّم: كيف لنا أن نأتي المسجد، ونحن ناؤون عنك أي بعيدون عنك أو كيف نشهد الصلاة، ونحن ناؤون عنك، فنزلت: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ الآية. نزول الآية (20) : قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي: سبب نزولها كما ذكر الشوكاني: أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك. نزول الآية (22) : قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي..: أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنيا من الجن من أشرافهم ذا تبع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله، وأنا أجيره، فأنزل الله: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ الآية. التفسير والبيان: أخبر الله تعالى عن النوع الثالث في هذه السورة من جملة الموحى به، فقال: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي وأوحي إلي أن المساجد مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا، ولا تشركوا به فيها شيئا. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوحدوه وحده. وقوله لِلَّهِ إضافة تشريف

وتكريم فإن نسبت المساجد لغير الله، فتنسب إليه تعريفا، فيقال: مسجد فلان. وهذا دليل على أن الله تعالى أمر عباده أن يوحدوه في أماكن عبادته، ولا يدعى معه أحد، ولا يشرك به. وقال الحسن البصري: أراد بالمساجد البقاع كلها، قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا كأنه تعالى قال: الأرض كلها مخلوقة لله تعالى، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. وقال أيضا: من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله لأن قوله: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه. ثم ذكر الله تعالى النوع الرابع من جملة الموحى فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي وأنه لما قام النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله ويعبده، كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمين من الازدحام عليه، لسماع القرآن منه، وتعجبا مما رأوا من عبادته لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله، فالضمير في كادُوا للجن، وقيل: الضمير للمشركين. وقال جماعة «1» : لما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا إله إلا الله، ويدعو الناس إلى ربهم، كادت الإنس من العرب الكفار والجن يتزاحمون عليه متراكمين جماعات ليطفئوا نور الله، ويبطلوا هذا الأمر، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره ويظهره على من ناوأه، فالضمير في كادُوا للإنس والجن. وهذا اختيار ابن جرير وقول قتادة. والأظهر كما ذكر ابن كثير، لقوله تعالى بعده:

_ (1) هم ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد والحسن البصري وقتادة.

قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تجمعوا عليك لإبطال دينك: إنما أدعو ربي، وأعبده وحده لا شريك له، وأستجير به، وأتوكل عليه، ولا أشرك في العبادة معه أحدا. ثم فوض أمر هدايتهم إلى الله، فقال تعالى: قُلْ: إِنِّي، لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضررا، ولا أجلب لكم نفعا في الدنيا أو الدين، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزّ وجلّ. وفي هذا بيان وجوب التوكل على الله تعالى، والمضي في التبليغ دون مبالاة لتظاهرهم عليه، وتهديده لهم إن لم يؤمنوا به. وأكد الله تعالى ذلك المعنى وهو عجز نبيه عن هدايتهم بإعلان عجزه عن شؤونه وقضاياه، فقال: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ أي قل يا محمد لهؤلاء القوم: لا يدفع عني أحد عذاب الله إن أنزله بي، ولا نصير ولا ملجأ لي من غير الله أحد، ولا يجيرني من الله ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي، فأبلّغ عن الله، وأعمل برسالاته، أمرا ونهيا، فإن فعلت ذلك نجوت، وإلا هلكت، وهذا كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [5/ 67] . ويصح كون الاستثناء: إِلَّا بَلاغاً.. من قوله تعالى: قُلْ: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم. ثم ذكر جزاء العاصين الذين لا يمتثلون موجب التبليغ عن الله،

فقه الحياة أو الأحكام:

فقال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي أنا أبلّغكم رسالة الله، فمن يعص بعد ذلك، فله جزاء خطير، وهو نار جهنم، ماكثين فيها أبدا على الدوام، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها. وقوله: أَبَداً دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. ثم هدد الله تعالى المشركين الذين كانوا أقصر نظرا من الجن في عدم الإيمان، بالهزيمة والمذلة، فقال: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي ما يزالون على كفرهم، حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا، أي جندا ينتصر به، وأقل عددا، أهم، أم المؤمنون الموحدون لله تعالى؟ أي بل المشركون لا ناصر لهم إطلاقا، وهم أقل عددا من جنود الله تعالى. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن المساجد أو مواضع الصلاة وذكر الله، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين يجب أن تتميز بإخلاص العبادة فيها لله، وبالتوحيد، لذا وبخ الله المشركين بقوله: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام، والتوبيخ يشمل كل من أشرك مع الله غيره. قال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن يخلصوا لله سبحانه الدعوة، إذا دخلوا المساجد كلها. وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً اللهم أنا عبدك وزائرك،

وعلى كل مزور حق، وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار» . فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى وقال: «اللهم صبّ علي الخير صبّا، ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا، ولا تجعل معيشتي كدّا، واجعل لي في الأرض جدّا» أي غنى. 2- لما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم داعيا إلى الله تعالى، وعابدا ناسكا، كاد الجن يركب بعضهم بعضا ازدحاما، حرصا على سماع القرآن. وكاد المشركون من العرب يركبون بعضهم بعضا تظاهرا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى عداوته، واجتمعوا وتظاهروا على إطفاء النور الذي جاء به. 3- قصر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصول دعوته على ثلاثة أمور: الأول- عبادة الله وحده دون إشراك أحد معه. الثاني- تفويض أمر الهداية إلى الله تعالى، وإعلان كونه عاجزا عن دفع ضرر عن قومه، أو جلب خير لهم، فلا يملك الكفر والإيمان، ومرد ذلك كله إلى الله تعالى. الثالث- كونه لا مجير له من عذاب الله إن استحقه، ولا ملجأ يلجأ إليه ولا نصير له إن عصى ربه. 4- إن طريق الأمان والنجاة للنبي صلّى الله عليه وسلّم هو تبليغ وحي الله، وما أرسل به إلى الناس. 5- إن جزاء العاصين لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في التوحيد والعبادة هو نار جهنم خالدين فيها أبدا على الدوام. والعصيان: هو الشرك، لقوله تعالى: أَبَداً.

علم تعيين الساعة مختص بالله عالم الغيب [سورة الجن (72) الآيات 25 إلى 28] :

6- إذا شاهد المشركون ما أوعدهم الله من عذاب الدنيا، وهو في الماضي القتل ببدر، أو عذاب الآخرة وهو نار جهنم، فسيعلمون حينئذ من أهل الجند الأضعف نصرة وأقل عددا، أهم أم المؤمنون؟ علم تعيين الساعة مختص بالله عالم الغيب [سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) الإعراب: أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ قَرِيبٌ مبتدأ، وما فاعل قَرِيبٌ بمعنى الذي، وقد سدت مسد خبر المبتدأ، كقولهم: أقائم أخوك، وأ ذاهب الزيدان، وعائد ما محذوف، تقديره: أقريب ما توعدونه، ولكن حذف الهاء. ويجوز أن تكون ما مصدرية، فلا عائد لها. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مَنِ: إما في موضع رفع بالابتداء، وخبره فَإِنَّهُ يَسْلُكُ وإما في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أَنْ: مخففة من الثقيلة، أي أنه. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً عَدَداً: منصوب على التمييز، وليس بمصدر لأنه لو كان مصدرا، لكان مدغما: (عدّا) . وأجاز القرطبي نصبه على المصدر، أي أحصى وعدّ كل شيء عددا، أو نصبه على الحال، أي أحصى كل شيء في حال العدد. المفردات اللغوية: إِنْ أَدْرِي أي ما أدري. ما تُوعَدُونَ من العذاب. أَمَداً غاية وأجلا لا يعلمه

سبب النزول:

إلا هو، والأمد: الزمن البعيد. عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن العباد. فَلا يُظْهِرُ لا يطلع. عَلى غَيْبِهِ أَحَداً على الغيب المخصوص به علمه. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أي إن الرسول يطلعه الله على بعض الغيب معجزة له. يَسْلُكُ يجعل ويقيم. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من بين يدي المرتضى الرسول. رَصَداً حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع بقية الوحي. وأما كرامات الأولياء في المغيبات فتكون تلقيا من الملائكة. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص، أو ليعلم محمد النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة معه الوحي بلا تحريف وتغيير، وأَبْلَغُوا على المعنى الأول: هم الرسول، وعلى الثاني هم الملائكة وروعي بجمع الضمير معنى من «1» . رِسالاتِ رَبِّهِمْ أبلغوا رسالات الله كما هي من غير تغيير. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أحاط علما بما عند الرسل، وهو عطف على مقدر، أي فعلم ذلك. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي أحصى عدد كل شيء. سبب النزول: قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ إلى آخر الآيات. التفسير والبيان: قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي قل أيها الرسول: لست أعلم قرب العذاب الذي يعدكم الله به، فما أدري أقريب وقت الساعة أم بعيد، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعرف متى يوم القيامة إلا الله وحده. ومضمون الآية أمر من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، أي تفويض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب.

_ (1) أي إن قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى.

ويؤكده ما جاء في حديث مسلم عن عمر حينما سأل جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» . عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي إن الله وحده هو العالم بالمغيبات، فلا يطلع على الغيب (وهو ما غاب عن العباد) أحدا منهم، إلا من ارتضى من الرسل، فإنه يطلعهم على بعض المغيبات، ليكون معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم. وهذا يشمل الرسول الملكي والبشري، كقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة 2/ 255] . ومن أمثلة إخبار الرسل عن المغيبات قول عيسى عليه السلام: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران 3/ 49] . ثم إن الله تعالى يجعل بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا وحفظة من الملائكة، يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره الله عليه من الغيب، لضبط الوحي، ويمنعون الشياطين من استراق الغيب، لإلقائه إلى الكهنة. وفي الكلام إضمار وتقدير: إلا من ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي، ثم يجعل بين يديه ومن خلفه حرسا من الملائكة أي الرصد. والرصد: الحفظة يحفظون كل رسول من تعرض الجنّ والشياطين. والآية دليل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر لأن أصحابها يدّعون علم الغيب من غير دليل، وهي دليل أيضا على أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه، أما علم الكهنة والمنجمين فهو ظن وتخمين، فلا يدخل في علم الغيب. وأما علم الأولياء وظهور الكرامات على أيديهم فهو إلهامي متلقى من الملائكة، لا يرقى إلى درجة علوم الأنبياء. وتأول الرازي الآية بأنه لا أدري وقت وقوع القيامة، والله عالم الغيب،

فلا يطلع أحدا على وقت وقوع القيامة، فهو من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد، ثم قال الرازي: لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية ألا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل، للأدلة الآتية: أحدها- أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب. والثاني- أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير، وأن المعبّر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل، ويكون صادقا فيه. والثالث- أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل، فذكرت أشياء، ثم وقعت على وفق كلامها. والرابع- أنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصا بالأولياء، بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون صادقا في أخباره، وإن كان يكذب في أكثر الأخبار، وقد تطابق الأحكام النجومية الواقع وتوافق الأمور. وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه، مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم، وذلك باطل، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا «1» . وفي رأيي أن علم الغيب الشامل مقصور على الله عز وجل، حتى إن الملائكة كما في سورة البقرة في بدء الخلق، والجن كما في سورة سبأ، والإنس كما في أواخر

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 169 [.....]

سورة لقمان جردوا من علم الغيب واعترفوا بعدم علمهم بالغيب، وأما هذه الوقائع التي أوردها الرازي فقد تقع بالإلهام سواء للصالح أو غير الصالح. ثم ذكر الله تعالى علة حفظه الرسل، فقال: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أي إنه تعالى يحفظ رسله بالملائكة، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف في الواقع القائم أن هؤلاء الرسل قد بلغوا الرسالات الإلهية كما هي دون زيادة ولا نقصان. ويصح أن يكون المعنى: ليعلم نبي الله أن جبريل ومن معه من الملائكة قد بلّغت عن الله الوحي تماما من غير تغيير ولا تبديل، وأن الملائكة حفظوا الوحي حتى أوصلوه تاما إلى الرسل من البشر. ويكون المراد بالمعنى الأول أن الله يحفظ رسله بملائكته، ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة 2/ 143] وكقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت 29/ 11] إلى أمثال ذلك من العلم، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة، فيكون القصد بما جاء في القرآن من تعليل لعلم الله، إنما هو علم ظهور لا علم بداء، فإنه تعالى عالم بالأشياء أزلا، وإنما يظهر علمه لعباده «1» . لذا أكد تعالى هذا المعنى بقوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي إنه تعالى أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته، وبما لديهم من الأحوال، فهو عالم بكل شيء كان أو سيكون، وعالم بكل الأحكام والشرائع، ثم عمم العلم بقوله: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي ضبط كل شيء معدودا محصورا، دون مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 433

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لا يعلم الغيب أحد سوى الله تعالى، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأطلعهم الله على ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم ممن ارتضاه من رسول. أما المنجم ونحوه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير، فهو كافر بالله، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. لكن قد يصادف الواقع إخبار هؤلاء المنجمين ونحوهم عن بعض الوقائع في المستقبل، اعتمادا على بعض الدلالات والقرائن والحسابات، ولكن هذا لا يصلح قاعدة عامة، ولا مبدأ مطردا لا يخطئ فإن العلم بالغيب المختص بالله هو العلم الشامل الصادق في كل الأحيان. كما أن الله تعالى يظهر أحيانا بعض الكرامات بالإلهام على يد بعض أوليائه المخلصين، فيخبرون عن وقوع بعض الوقائع في المستقبل. وهذا ثابت بالأمثلة الكثيرة قديما وحديثا، وأيده العلم الحديث، ولكن لا يصح اعتبار ذلك صنعة أو حرفة أو حكما في الأمور لأن مرجع ذلك كله إلى الله تعالى ومشيئته ومراده، لا إلى خبرة ثابتة أو إلى تصرف الإنسان حسبما يريد. 2- يحفظ الله رسله ووحيه من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة، قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربّك. 3- لقد أخبر الله تعالى نبيه محمدا بحفظه الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا

على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته كقوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [التوبة 9/ 16] أي ليعلم الله ذلك علم مشاهدة، كما علمه غيبا. 4- أحاط علم الله سبحانه بما عند الرسل وما عند الملائكة، وأحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه، فلم يخف عليه منه شيء، فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء.

سورة المزمل:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المزمل مكيّة، وهي عشرون آية. تسميتها: سميت سورة المزمّل أي المتلفف بثيابه لأنها تتحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الوحي، ولأنها بدئت بأمر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يترك التزمل: وهو التغطي في الليل، وينهض إلى تبليغ رسالة ربه عز وجل. مناسبتها لما قبلها: يظهر تعلق السورة بما قبلها من وجهين: 1- ختمت سورة الجن ببيان تبليغ الرسل رسالات ربهم، وافتتحت هذه السورة بأمر خاتمهم بالتبليغ والإنذار، وهجر الراحة في الليالي. 2- أخبر الله تعالى في السورة المتقدمة عن ردود فعل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين قومه والجن في قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ وقوله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ثم أمره الله تعالى في مطلع هذه السورة بالدعوة في قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. ما اشتملت عليه السورة: تتناول السورة الإرشادات الإلهية الموجهة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مسيرته أثناء تبليغ دعوته، وتهديد المشركين المعرضين عن قبول تلك الدعوة.

إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة [سورة المزمل (73) الآيات 1 إلى 10] :

وقد ابتدأت بأمره صلّى الله عليه وسلّم بقيام الليل إلا قليلا منه، وبترتيل القرآن لتقوية روحه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [1- 4] فكان ذلك بيانا لمقدار ما يقوم به في تهجده الذي أمره الله به بقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء 17/ 79] . ثم أخبرت عن ثقل الوحي وتبعة رسالته العظمى التي كلّف بها، وأمره بذكر ربه ليلا ونهارا، وإعلان توحيده، واتخاذه وكيلا في كل أموره: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [الآيات 5- 9] . وأردفت ذلك بالأمر بالصبر على أذى المشركين، من القول فيه بأنه ساحر أو شاعر، أو في ربه بأن له صاحبة وولدا، وبالهجر الجميل إلى أن ينتصر عليهم وبتهديدهم بسوء العاقبة: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ.. [الآيات 10- 19] . وختمت السورة بإعلان تخفيف القيام لصلاة الليل عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مقدار الثلث وجعله الحد الأدنى رحمة به وبأمته ليتمكن هو وأصحابه من الراحة والتفرغ في النهار لشؤون الدعوة والتبليغ، والاكتفاء بتلاوة ما تيسر من القرآن، وأداء الصلاة المفروضة، وإيتاء الزكاة، ومداومة الاستغفار: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ.. [الآية 20] . إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)

الإعراب:

الإعراب: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله (المتزمل) إلا أنه أبدلت التاء زايا، وأدغمت الزاي في الزاي، وذلك أولى من إبدالها تاء لأن الزاي فيها زيادة صوت، وهي من حروف الصفير، وهي أبدا يدغمون الأنقص في الأزيد. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ.. الليل في رأي الكوفيين مفعول به، وفي رأي البصريين: ظرف لفعل القيام، ولو استغرقه الحدث، أي إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصح الاستثناء بقوله: إِلَّا قَلِيلًا فإن الاستثناء معيار العموم، ونِصْفَهُ: بدل من الليل، أو ظرف آخر، وقَلِيلًا: استثناء منه، وقد قدّم المستثنى على المستثنى منه، وهو قليل، وتقديره: قم الليل نصفه إلا قليلا. أَشَدُّ وَطْئاً تمييز منصوب. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا تَبْتِيلًا: منصوب على المصدر من غير فعله لأن تَبْتِيلًا تفعيل إنما تجيء في مصدر فعّل، مثل رتّل ترتيلا، وقتّل تقتيلا، وهنا جاء ل (تفعّل) وقياسه أن يجيء على وزن التفعل وهو التبتل، إلا أنهم قد يجرون المصدر على غير فعله، لمناسبة بينهما. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَبُّ: يقرأ بالجر على البدل من رَبِّكَ وبالرفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: هو رب المشرق. البلاغة: انْقُصْ.. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ بينهما طباق، وكذا بين النَّهارِ واللَّيْلَ وبين الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا فيهما تأكيد الفعل بالمصدر.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الْمُزَّمِّلُ المتزمل: المتلفف بثيابه. قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة، أو داوم عليها. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي انقص من النصف قليلا إلى الثلث، والمراد به التخيير بين قيام النصف والناقص منه والزائد عليه. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ إلى الثلثين، وأَوْ للتخيير. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤده وتثبت في تلاوته، مع تبيين الحروف بحيث يتمكن السامع من عدّها. قَوْلًا ثَقِيلًا قرآنا شاقا شديدا أو مهيبا، لما فيه من التكاليف الشاقة، لكن مشقة معتادة مألوفة، لا مشقة زائدة غير معتادة. ناشِئَةَ اللَّيْلِ ما ينشأ فيه ويحدث ويتجدد، وهو القيام إلى الصلاة بعد النوم. أَشَدُّ وَطْئاً أي مواطأة وموافقة، يوافق السمع فيها القلب على تفهم القرآن. وَأَقْوَمُ قِيلًا أبين وأسد مقالا، أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات. سَبْحاً طَوِيلًا تقلبا في مهامك واشتغالا بها، فعليك بالتهجد لأن مناجاة الحق تستدعي فراغا، ولا تفرغ في أثناء النهار لتلاوة القرآن والعبادة. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي دم على ذكره ليلا ونهارا، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي انقطع إلى الله بالعبادة، وجرّد نفسك عما سواه. فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فوض كل أمورك إليه. وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ اصبر على أذى كفار مكة. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن بجانبهم وتداريهم ولا تعاتبهم وفوض أمرهم إلى الله، فالهجر الجميل: هو ما لا عتاب معه. سبب النزول: نزول الآية (1- 2) : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا: أخرج الحاكم عن عائشة قالت: لما أنزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم، فأنزلت: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ. وأخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس غيره. وقال ابن عباس: كان هذا في ابتداء الوحي إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه، أخذته الرّعدة، فأتى أهله، فقال: «زمّلوني زمّلوني» .

التفسير والبيان:

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي، فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت (فزعت) منه رعبا، فرجعت فقلت: دثّروني دثّروني» . وفي رواية: «فجئت أهلي، فقلت: زمّلوني زمّلوني» ، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وقال جمهور العلماء: وعلى إثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. وعلى هذا يكون سبب النزول هو ما عراه صلّى الله عليه وسلّم من الرعب والفزع عند رؤية الملك، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها. وقيل: إن تزمله صلّى الله عليه وسلّم كان لأسفه وحزنه، لمّا بلغه ما كان من المشركين وما دبروه من القول السيء يدفعون به دعوته، فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. التفسير والبيان: خاطب الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالآيات التالية حينما كان يتزمل بثيابه أول ما جاءه جبريل بالوحي خوفا منه، فإنه لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله، وقال: «زمنوني، دثّروني» ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة وأنس بجبريل.

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي يا أيها النبي المتزمل المتلفف بثيابه انقض لصلاة الليل وهي صلاة التهجد بمقدار نصف الليل، بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك. وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وفيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين. أخرج أحمد ومسلم عن سعد بن هشام قال: «قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألست تقرأ هذه السورة: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه حولا، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خلقتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضه» . وبعد الأمر بقيام الليل أمره تعالى بترتيل القرآن قائلا: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أي اقرأ القرآن على تمهل، مع تبيين الحروف، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وقوله: تَرْتِيلًا تأكيد في الإيجاب، وأنه لا بد للقارئ منه، ليستحضر المعاني. والترتيل: هو أن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع. وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة، فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كانت مدا، ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. ووردت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة، منها ما رواه الحاكم وغيره عن البراء: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»

وحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وحديث البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى «لقد أعطيت هذا مزمارا من مزامير آل داود» يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا. وروى البغوي عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذّوه (لا تسرعوا به) هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وروى العسكري في كتابه المواعظ عن علي كرم الله وجهه مثل هذه العبارة. وسئلت عائشة عن قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها «1» . ثم نبّه الله تعالى إلى عظمة القرآن وما جاء فيه من تكاليف لتأكيد الأمر بالترتيل، فقال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أي إننا سنوحي إليك القرآن وسننزله عليك، وفيه التكاليف الشاقة على البشر، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس، من الفرائض والحدود، والحلال والحرام، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقد يراد أنه ثقيل في الوحي، ففي الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» ، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 434

ثم أبان الله تعالى علة الأمر بقيام الليل (التهجد) فقال: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا أي إن قيام الليل، وهو الذي يقال له: ناشئة إذا كان بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، لحضور القلب فيها وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب لأن الأصوات فيها هادئة، والدنيا ساكنة، أما النهار فهو وقت الانشغال بالأعمال، كما قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي إن لك في وقت النهار تقلبا وتصرفا في حوائجك ومصالح الحياة، فلا تتفرغ فيه للعبادة، فصل بالليل. ولكن لا ينبغي الانشغال عن ذكر الله بأي حال نهارا أو ليلا، فقال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أكثر من ذكر الله، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا، وأخلص العبادة لربك، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية، كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الانشراح 94/ 7- 8] أي إذا فرغت من أشغالك فأتعب نفسك في طاعة ربك وعبادته، لتكون فارغ البال، واجعل رغبتك إلى الله وحده. ثم أبان الله تعالى سبب الأمر بالعبادة، والباعث على التبتل، فقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي إن ربك الذي تذكره، وتتفرغ لعبادته هو الجدير بالعبادة، فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة، فأفرده بالتوكل، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ

فقه الحياة أو الأحكام:

هود 11/ 123 وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] . وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى كماله تعالى في ذاته، والكمال محبوب لذاته. وفيه دليل على أن من لم يفوض كل الأمور إلى ربه لم يكن راضيا بألوهيته، ولا معترفا بربوبيته. وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين. ثم أمره ربه بالصبر على الأذى فقال: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي اصبر أيها الرسول على أذى قومك وما ينالك من السب والاستهزاء، ولا تجزع من ذلك، ولا تتعرض لهم ولا تعاتبهم ودارهم، كما جاء في آيات أخرى منها: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا [النجم 53/ 29] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- فرضية التهجد: يدل ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وأمره بقيام الليل، ووصفه بالتزمل أن التهجد كان فريضة عليه، وأن فرضيته كانت خاصة به. وهذا رأي أكثر العلماء لأن الندب والحضّ لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء 17/ 79] فإن قوله: نافِلَةً لَكَ بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وليس معنى النافلة في هذه الآية: التطوع، فإنه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معناه أنه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.

2 - وجوب ترتيل القرآن:

وقيل: كان التهجد فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج. وقيل: إن التهجد كان نافلة، لا مفروضا، لقوله تعالى: نافِلَةً لَكَ ولأن حمل الأمر: قُمِ اللَّيْلَ على الندب أولى لأنه متيقن، فإن أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فلا بد من دليل آخر على الوجوب كالتوعد على الترك ونحوه، وليس هذا متوفرا هنا. ويرد عليه بأن المختار في علم الأصول في الأوامر حملها على الوجوب أو الإلزام إلا بقرينة تصرفه عن ذلك إلى الندب أو الإباحة. ولأنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وخيره بين النصف أو أقل منه أو أكثر، ومثل هذا لا يكون في الواجبات. ويرد عليه بأنه قد يكون الواجب مخيرا بين أمور ثلاثة كالكفارة. والراجح هو أن التهجد نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على النبي صلّى الله عليه وسلّم، بدليل آية الإسراء: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ. وربما كان العمل بحديث سعد بن هشام بن عامر السابق صحيحا: وهو نسخ الوجوب مطلقا وصيرورة التهجد (أو قيام الليل) تطوعا، تخفيفا وتيسيرا، والناسخ هو الصلوات الخمس، وأما آخر سورة المزمل الذي نزل بعد أولها بنحو عام كما في بعض الآثار، فقد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، دون نسخ أصل وجوب التهجد. والمقدار المذكور في أول السورة: هو نصف الليل أو أنقص منه قليلا إلى الثلث، أو الزيادة عليه إلى الثلثين. 2- وجوب ترتيل القرآن: لا خلاف في أنه يقرأ القرآن بترتيل على مهل، وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، مع تدبر المعاني. والترتيل: التنضيد والتنسيق وحسن النظام.

والخلاف في التغني به وتلحينه فقال بكراهته جماعة منهم الإمامان مالك وأحمد، وأجازه جماعة آخرون منهم الإمامان أبو حنيفة والشافعي، ولكل فريق أدلة «1» . استدل المجيزون بما يأتي. أولا- ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» . ثانيا- ما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» . ثالثا- ما رواه البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته، فرجّع في قراءته. رابعا- ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمعه: «إن هذا أعطي مزمارا من مزامير داود» . خامسا- ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء كإذنه- استماعه «2» - لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» . سادسا- إن الترنم بالقرآن من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس وأبلغ في التأثير. واحتج المانعون بما يأتي: أولا- ما رواه الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن

_ (1) تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس: 4/ 193 وما بعدها. (2) أذن له: استمع، وباب طرب.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فهذا نعي على الترجيع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح. ثانيا- ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها: أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدّمون أحدهم، ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء» . ثالثا- أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذن يطرب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا، وإلا فلا تؤذن» فقد كره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه، مما يدل على كراهة التطريب في القراءة بالأولى. رابعا- أنكر أنس بن مالك على زياد النميري حينما قرأ ورفع صوته وطرب، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون. خامسا- إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. كما أن التلحين يلهي النفس بنغمات الصوت، ويصرفها عن تدبر معاني القرآن. والحق التوسط في الأمر، فإذا كان التلحين والتطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بطرق الأداء، أو كان تكلّفا وتصنعا يشبه توقيعات الموسيقى، فهو ممنوع وحرام. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا يؤدي إلى اتعاظ القارئ، وكمال تأثره بمعاني القرآن، فلا دليل على المنع، بل الأدلة تجيزه.

3 - ثقل القرآن والوحي:

3- ثقل القرآن والوحي: القرآن ثقيل شديد بما اشتمل عليه من تكاليف شاقة على النفس، وفرائض وحدود صعبة على الإنسان. والوحي أيضا ذو تأثير كبير على القلب والنفس، كما جاء في خبر عائشة رضي الله عنها المتقدم، وأخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه، وهو على ناقته، وضعت جرانها- يعني صدرها- على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» أي الوحي. 4- ناشئة الليل: إن أوقات الليل وساعاته أو العبادة الناشئة في الليل، أو النفس الناشئة في الليل الناقضة من مضاجعها للعبادة أشد وطأ، أي أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب واللسان، وأكثر مصادفة للخشوع والإخلاص وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، بسبب سكون الليل، وراحة النفس من الضوضاء والعناء، والبعد عن الرياء والمباهاة، أو حبّ اطلاع الآخرين على الطاعة والعبادة، وشدة الاستقامة والاستمرار على الصواب لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه. 5- مشاغل النهار: الإنسان مشغول عادة بحاجاته ومصالحه المعيشية في النهار، فلا يتفرغ عادة للعبادة، وإنما الفراغ موجود في الليل. 6- ذكر الله والتبتل: المؤمن مأمور بالاستكثار من ذكر الله وأسمائه الحسنى، وبالمداومة على التسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، دون أن يشغله شاغل في الليل والنهار، وهو مطالب أيضا بأن يجعل همه كله في إرضاء ربه، وتجريد نفسه عن التعلق بغيره، والاستغراق في مراقبته في جميع أعماله. ويكون أشرف الأعمال عند قيام الليل: ذكر اسم الرب، والتبتل إليه، وهو الانقطاع إلى الله بالكلية.

7 - إفراد الله بالتوكل عليه:

وليس المراد الانقطاع عن أعمال النهار، والعكوف على الذكر والعبادة، فهذا يتنافى مع قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا بل المراد التنبيه إلى أنه ينبغي ألا يشغله السّبح في أعمال النهار عن ذكر الله تعالى. والتبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطاع الإنسان بعبادته إلى ربه، دون أن يشرك به غيره، وليس المعنى الانقطاع عن مشاغل الحياة لكسب المعيشة من طرق عزيزة كريمة، لا يكون فيها الإنسان عالة على غيره. فقد ورد في الحديث النهي عن التبتل بمعنى الانقطاع عن الناس والجماعات. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة 5/ 87] وهذا يدل على كراهة من تبتّل، وانقطع عن الناس، وسلك سبيل الرهبانية. والخلاصة: التبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البيّنة 98/ 5] . والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع. 7- إفراد الله بالتوكل عليه: كما أن المؤمن مطالب بإفراد الله بالعبادة، مطالب أيضا بإفراده بالتوكل عليه، فمن علم أن الله رب المشارق والمغارب، انقطع بعمله وأمله إليه، وفوّض جميع أموره إليه، فهو القائم بأمور العباد، الكفيل بما وعد. 8- الصبر على الأذى في سبيل الدعوة: أمر الله نبيه بأن يصبر من أجل دعوته على الأذى والسب والاستهزاء من سفهاء قومه الذين كذبوه، وبألا يتعرض لهم، ولا يعاتبهم ويداريهم. قال قتادة وغيره: وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. وأرى أن هذا من منهج الدعوة الدائم وسياستها الثابتة التي يحتاج إليها الدعاة في

تهديد الكفار وتوعدهم [سورة المزمل (73) الآيات 11 إلى 18] :

كل عصر. قال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام، ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. تهديد الكفار وتوعدهم [سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 18] وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) الإعراب: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ.. يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه ما في لَدَيْنا من معنى الاستقرار، كما تقول: إن خلفك زيدا غدا، والعامل في (غدا) الاستقرار الذي دل عليه (خلفك) . كَثِيباً مَهِيلًا مَهِيلًا: أصله (مهيولا) على وزن مفعول، من (هلت) فاستثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى الهاء قبلها، فبقيت الياء ساكنة والواو ساكنة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وكسرت الهاء لتصحيح الياء. فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يَوْماً: مفعول تَتَّقُونَ وليس منصوبا على الظرف، ويَجْعَلُ: جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة يَوْماً. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ إنما قال مُنْفَطِرٌ من غير تاء لثلاثة أوجه: إما بمعنى النسب، أي ذات انفطار، أو بجعل السماء في معنى السقف، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء 21/ 32] ، أو لأن السماء يجوز فيها التذكير والتأنيث، فيقال: مُنْفَطِرٌ على التذكير، وهو قول الفراء.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، وَعَذاباً أَلِيماً.. إلخ: سجع مرصع. أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا جناس اشتقاق. إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا التفات من الغيبة إلى الخطاب للتقريع والتوبيخ على عدم الإيمان، والأصل أن يقال: إنا أرسلنا إليهم. فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا تأكيد الفعل بالمصدر. المفردات اللغوية: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ اتركني وإياهم، فإني قدير على مجازاتهم. النَّعْمَةِ بفتح النون: التنعم والترفه، وبكسر النون: الإنعام أو اسم الشيء المنعم به. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ، أو أمهلهم إمهالا. أَنْكالًا قيودا ثقيلة، جمع نكل بكسر النون وفتحها: وهو القيد الثقيل. وَجَحِيماً نار محرقة شديدة الإيقاد. ذا غُصَّةٍ يغص به فلا يستساغ في الحلق، كالضريع والزقّوم والغسلين والشوك من نار، فلا يخرج ولا ينزل. وَعَذاباً أَلِيماً مؤلما لا يعرف كنهه إلا الله، زيادة على ما ذكر. تَرْجُفُ تضطرب وتتزلزل. كَثِيباً رملا متجمعا بتأثير الريح. مَهِيلًا رخوا ليّنا تغوص الأقدام فيه. إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ أرسلنا إليكم يا أهل مكة. رَسُولًا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم. شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بالعصيان أو الإجابة للدعوة. وَبِيلًا ثقيلا شديدا، ومنه طعام وبيل: لا يستمرأ لثقله، ووابل: وهو المطر العظيم. تَتَّقُونَ تقون أنفسكم. إِنْ كَفَرْتُمْ بقيتم على الكفر في الدنيا. يَوْماً عذاب يوم أي بأي حصن تتحصنون من عذاب يوم القيامة. شِيباً جمع أشيب، وجعلهم شيبا لشدة هوله، يقال لليوم الشديد: يوم يشيب الأطفال، وهو مجاز، أصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع بالشّيب. مُنْفَطِرٌ منشق متصدع. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي إن وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كائن لا محالة. سبب النزول: نزول الآية (11) : وَذَرْنِي: روي أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، هدد المشركين وأوعدهم على الإعراض عن قبول تلك الدعوة، وخوفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله، وعذاب الدنيا ومخاطره، ثم عاد إلى وصف عذاب الآخرة وتخويفهم به لشدته التي بلغت حدا تشيب الولدان، وتتشقق السموات منه. التفسير والبيان: هدد الله تعالى كفار مكة وأمثالهم وتوعدهم، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء، فقال: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإني أكفيك أمرهم، وأنتقم لك منهم، فلا تهتم بكونهم أرباب الغنى والسعة والترفّه في الدنيا، وتمهل عليهم رويدا وزمنا قليلا، أو تمهلا قليلا إلى انقضاء آجالهم، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . وقد أهلك زعماؤهم في موقعة بدر، قالت عائشة: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. ثم ذكر الله تعالى أنواعا أربعة من عذابهم، فقال: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا، وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، وَعَذاباً أَلِيماً أي إن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا، ونارا مؤججة مضطرمة، وطعاما لا يستساغ، ينشب في الحلق، فلا يدخل ولا يخرج كالزقوم والضريع، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد، لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وتنكير قوله عَذاباً يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل. وبعد وصف العذاب، أخبر تعالى عن زمانه متى يكون فقال:

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أي إن ذلك العذاب الذي يعذب به الكفار هو في يوم تضطرب في الأرض والجبال وتتزلزل بمن عليها، والرجفة: الزلزلة الشديدة، وتصير الجبال كالكثيب المهيل، أي الرمل المجتمع السائل الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان، بعد ما كانت حجارة صماء، ثم تنسف نسفا، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب. والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة، والمهيل: هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها، وإذا وصلت أسفله انهال. وبعد تخويف أهل مكة وأمثالهم بأهوال القيامة، هددهم وخوفهم تعالى بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة، فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي يخاطب الله تعالى كفار قريش، والمراد سائر الناس، فيقول لهم: إنا أرسلنا إليكم رسولا هو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع، وطاعة وعصيان، كما أرسلنا موسى عليه السلام إلى الطاغية فرعون يدعوه إلى الحق والإيمان، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه، وكذّبه ولم يؤمن بما جاء به، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا، أي عاقبناه عقوبة شديدة وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه السلام. وإنما عرّف كلمة الرسول ثانيا لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر. ثم عاد الله تعالى إلى تخويفهم بعذاب الآخرة ذاكرا هو له من وجهين، فقال: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ،

فقه الحياة أو الأحكام:

كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي كيف تقون أنفسكم وتنعمون بالأمان والاطمئنان إن بقيتم على الكفر، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور، لشدة هوله، وهذا كناية عن شدة الخوف، وتصير السماء متشققة به متصدعة لشدته وعظيم هوله، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا لا محالة ولا محيد عنه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- هدد الله صناديد قريش وأمثالهم من المستهزئين والمترفين الطغاة والمكذبين بآيات الله والكفر برسالة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وتوعدهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فعوقب رؤساء مكة في موقعة بدر، وأما في الآخرة فنار جهنم تنتظرهم. 2- إن أنواع العذاب الشديد في الآخرة هي الأنكال أي القيود، والنار المؤججة، والطعام الذي لا يستساغ، فلا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزّقوم والضريع وهو شوك كالعوسج. 3- زمان هذا العذاب هو يوم القيامة، الذي تضطرب وتحرك فيه الأرض والجبال بمن عليها، وتصبح الجبال فيه رملا مجتمعا سائلا متناثرا غير متماسك. 4- التشابه في الجريمة والعقاب: اشترك أهل مكة في تكذيب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والاستخفاف به، مع فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه السلام، قال مقاتل: ذكر- أي الله- موسى وفرعون لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلّى الله عليه وسلّم واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء 26/ 18] فكان التشابه في الأحوال سببا لذكر قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم.

تذكير وإرشاد بأنواع الهداية [سورة المزمل (73) الآيات 19 إلى 20] :

لذا عوقب فرعون وأتباعه بالعقاب الثقيل الشديد وهو الغرق في البحر، وعوقب كفار مكة بالهلاك يوم بدر. ويكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم شاهدا على قومه يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم. 5- وبخ الله تعالى الكفار وقرعهم على كفرهم بطريق التساؤل بقوله: كيف تتقون عذاب يوم يجعل الولدان شيبا إن كفرتم، وتتفطر فيه السماء؟ وهذا وصف لهول يوم القيامة بأمرين: الأول- يجعل الولدان شيبا، وهذا مثل في الشدة. والثاني- تتصدع فيه السماء. وكلاهما وصف لليوم بالشدة الشديدة، فهو يوم يشيّب نواصي الأطفال، والسماء على عظمتها وقوتها تتفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ 6- إن وعد الله تعالى بالقيامة والحساب والجزاء كائن لا شك فيه ولا خلف. 7- دلت آية: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا.. على أن القياس حجة لأنه استقر عند العقلاء وعند المشركين في مكة وغيرهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنا، يجب اشتراكهما في الحكم، وإلا لما أورد هذا الكلام على هذه الصورة. تذكير وإرشاد بأنواع الهداية [سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

الإعراب:

الإعراب: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ طائفة مرفوع عطفا على الضمير المرفوع في تَقُومُ. وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستكن في تَقُومُ لوجود الفصل، والفصل يقوم مقام التوكيد في تجويز العطف. وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالجر عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وبالنصب عطفا على أَدْنى. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِنَّ مخففة من الثقيلة، والسين عوض عن التشديد، وقد يقع التعويض بسوف وقد وحرف النفي، كما يعوض بالسين جبرا لما دخل الحرف من النقص. تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً.. خَيْراً مفعول ثان ل تَجِدُوهُ والهاء: هي المفعول الأول، وهو ضمير فصل على قول البصريين، ولا موضع له من الإعراب: ويسميه الكوفيون عمادا، وله موضع من الإعراب. البلاغة: فَتابَ عَلَيْكُمْ استعارة، حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ مجاز مرسل، أراد به الصلاة، من إطلاق الجزء وهو القراءة على الكل وهو الصلاة. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ عام بعد خاص، عمم بعد ذكر الصلاة والزكاة والإنفاق، ليشمل جميع أعمال الخير والصلاح. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً استعارة تبعية، شبه التصدق على المحتاجين بإقراض الله تعالى لأنه هو الذي يعطي الثواب المقابل. هُوَ خَيْراً قال ذلك للتأكيد والمبالغة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: إِنَّ هذِهِ الآيات الموعدة أو المخوفة. تَذْكِرَةٌ عظة. فَمَنْ شاءَ أن يتعظ. اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا طريقا يتقرب به إلى الجنة، بالتزام الإيمان والطاعة أو التقوى والاحتراز عن المعصية. أَدْنى أقل منه. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعلم مقادير ساعاتهما. أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تستطيعوا تقدير الأوقات وضبط الساعات لتقوموا قيام الليل، فيحصل قيام الكل وهو أمر شاق عليكم. فَتابَ عَلَيْكُمْ بالتيسير والتخفيف والترخيص في ترك القيام. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلّوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقراءة. وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يسافرون للتجارة. يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يطلبون من فضله ورزقه بالتجارة وغيرها. وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يجاهدون، وكل من الفئات الثلاث يشق عليهم قيام الليل، فخفف عنهم بقيام ما تيسر منه، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَآتُوا الزَّكاةَ الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أنفقوا في سبيل الخيرات فيما عدا المفروض من المال، عن طيب نفس. هُوَ خَيْراً أفضل مما أنفقتم. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في جميع أحوالكم ومجالسكم، فإن الإنسان لا يخلو من تفريط. المناسبة: بعد بيان أحوال المؤمنين السعداء وترغيبهم، وأحوال الأشقياء وتهديدهم بأنواع العذاب في الآخرة، ختمت السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد، فمن أراد الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية، فليفعل، ثم خفف عن المؤمنين مقدار قيام الليل لما يطرأ لهم من أعذار المرض، أو السفر للتجارة ونحوها، أو الجهاد في سبيل الله تعالى. التفسير والبيان: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي إن ما تقدم في هذه السورة من الآيات المخوفة موعظة لأولي الألباب، فمن أراد اتعظ بها واتخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة. وبعد نزول أوائل السورة استعد النبي صلّى الله عليه وسلّم لقيام الليل، وترك الرقاد، ثم خفف الله عنهم قائلا:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أي إن الله يعلم أنك أيها الرسول تقوم ممتثلا أمر ربك أقلّ من ثلثي الليل أحيانا، أو تقوم نصفه أو ثلثه، وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك، والله سيجازيكم على ذلك أحسن الجزاء. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ أي يعلم الله مقادير الليل والنهار حقيقة، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل، ولكن الله علم أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به، ولن تتمكنوا ضبط مقادير الليل والنهار ولا إحصاء الساعات، أو علم الله أنكم لن تطيقوا قيام الليل أو الفرض الذي أوجبه عليكم، فعاد عليكم بالعفو والترخيص في ترك القيام إذ عجزتم، ورجع بكم من العسر إلى اليسر. وأصل التوبة: الرجوع. قال مقاتل: لما نزلت قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» . والمراد بقوله: لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه: لصعوبة الأمر، لا أنهم لا يقدرون عليه. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، فالمراد بالقراءة الصلاة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، كما تقدم بيانه. وهذه الآية نسخت قيام الليل، ويؤكده الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي واللفظ له عن أنس بن مالك الذي فيه قال السائل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل عليّ غيرها؟ يعني الصلوات الخمس، فقال: «لا، إلا أن تطوّع» فهو يدل على عدم وجوب غير تلك الصلوات المفروضة، فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته عن الأمة.

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 53

ثم ذكر الله تعالى أسباب التخفيف وأعذاره أو حكمته قائلا: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي علم الله عز وجل بطروء أعذار ثلاثة هي المرض والسفر والجهاد، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة والربح، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل، وقوم آخرون هم المجاهدون في سبيل الله لا يطيقون قيام الليل، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة. ثم ذكر الحكم الدائم بعد الترخيص، فقال تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي فصلوا ما تيسر واقرؤوا ما تيسر من القرآن، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها، وأدوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها واحتضار الخشوع فيها دون غفلة عنها، وآتوا الزكاة الواجبة في الأموال، وأنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد وعلى المحتاجين، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة 2/ 245] . ثم أكّد الطلب على الصدقة ورغّب فيها، فقال: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي وجميع ما تقدموه من الخير المذكور وغير المذكور، فثوابه حاصل لكم، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، ومما تؤخرونه إلى عند الموت، أو توصون به ليخرج من التركة بعد موتكم.

فقه الحياة أو الأحكام:

أخرج البخاري والنسائي وأبو يعلى الموصلي عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله: ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» . ثم ختم السورة بالأمر بالاستغفار فقال: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها، فإنكم لا تخلون من ذنوب اقترفتموها، وإن الله كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمة لمن استرحمه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- كل ما جاء في سورة المزمل وفي آياتها عظة للمتعظ، فمن أراد أن يؤمن ويتخذ إيمانه وطاعته طريقا إلى رضا ربه ورحمته، فليرغب وليفعل، فذلك ممكن له لأنه تعالى أظهر له الحجج والدلائل. 2- قام النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته بما أمروا به من قيام الليل في أول السورة: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ثم نسخت فرضية القيام بهذا المقدار الثقيل بآخر السورة في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... وكان النسخ بإيجاب الصلوات الخمس. 3- خفف الله عن الأمة وعاد عليهم بالعفو. وهذا يدل- كما قال القرطبي- على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به. والأولى أن يقال: تاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. قال أبو نصر القشيري: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان

في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب، كقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة 2/ 196] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بدّ من صلاة الليل، ولكن فوّض قدره إلى اختيار المصلي. وهذا مذهب الحسن. ومذهب الشافعي: النسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا. 4- أمر الله بقراءة ما تيسر من القرآن، والمراد من هذه القراءة: الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي فصلوا ما تيسر لكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء 17/ 78] قال ابن العربي: وهو الأصح لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول. وقيل: المراد القراءة نفسها، أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خفف عنكم. قال السدّي: مائة آية، وقال الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد بن المسيب: خمسون آية. قال القرطبي: قول كعب أصح لما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» أي أعطي من الأجر قنطارا. وصحح القرطبي القول الثاني حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الآخر مجاز، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله. 5- أبان الله تعالى حكمة هذا النسخ، وذكر علة تخفيف قيام الليل فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليه قيام الليل، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، وكذلك المجاهد، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. 6- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال

الحلال للنفقة على نفسه وعياله، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. روى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد، فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. 7- إذا كان المراد من آية فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ هو القراءة في الصلاة عملا بظاهر اللفظ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ في الصلاة. فقال مالك والشافعي وأحمد: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها لما رواه السبعة عن عبادة بن الصامت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وظاهر النفي انعدام الصلاة الشرعية لعدم قراءة الفاتحة فيها. ورويت أحاديث كثيرة في معنى ذلك. وقال أبو حنيفة: الفرض مطلق قراءة، وهو آية واحدة طويلة من القرآن، أو ثلاث آيات قصار لأنها أقل سورة. ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها وعلمه إياها إن كان يجهلها، وما روى أبو داود عن أبي هريرة من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب» فإنه ظاهر في عدم تعين الفاتحة. 8- أوجب الله تعالى إقامة الصلاة المفروضة وهي الخمس لوقتها، وإيتاء الزكاة الواجبة في الأموال. والمراد من الصلاة: ما كان مفروضا في النهار أول الأمر «ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي» والمراد بالزكاة: زكاة المال المفروضة التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة على الراجح.

9- حث الله تعالى على القرض الحسن: وهو ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وذلك إشارة أيضا إلى صدقة التطوع. 10- أي عمل يقدمه العبد في الدنيا يبتغي به منفعته في الآخرة، سواء أكان متعلقا بالمال أم بغيره، فإنه يلقى به عند ربه جزاء أحسن منه وأكثر نفعا لإعطائه بالحسنة عشرا. وهذا حث على الإنفاق مطلقا. 11- طلب الله تعالى من عباده مداومة الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم، إذ أخبر بأنه عظيم المغفرة واسع الرحمة. وهذا تحريض على الاستغفار في جميع الأحوال، وإن كانت طاعات، لما عسى أن يقع فيها من تفريط.

سورة المدثر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المدثر مكيّة، وهي ست وخمسون آية. تسميتها: سميت سورة المدّثر لافتتاحها بهذا الوصف الذي وصف به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصل المدثر المتدثر: وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفئ. والدثار: اسم لما يتدثر به. مناسبتها لما قبلها: صلة السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي: 1- تتفق السورتان في الافتتاح بنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2- صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة. وقد نزلت المدثر عقب المزمّل. 3- بدئت السورة السابقة بالأمر بقيام الليل (التهجد) وهو إعداد لنفسه ليكون داعية، وبدئت هذه السورة بالأمر بإنذار غيره، وهو إفادة لسواه في دعوته. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت السورة إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء دعوته، وتهديدات لزعيم من زعماء الشرك، وأوصاف جهنم.

فضلها:

بدأت السورة بتكليف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقيام بالدعوة إلى ربه، وإنذار الكفار، والصبر على أذى الفجار: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.. [الآيات: 1- 7] . ثم وصفت يوم القيامة الرهيب الشديد، لما فيه من الأهوال: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ.. [الآيات: 8- 10] . ثم انطلقت تهدد إنسانا في أقوى وأشد صور التهديد، وهو الوليد بن المغيرة الذي أقر بأن القرآن كلام الله تعالى، ثم من أجل الزعامة والرياسة، زعم أنه سحر، فاستحق النار: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. [الآيات: 11- 26] . وناسب ذلك تعداد أوصاف النار، وعدد خزنتها وحكمة ذلك، وبروزها للناس: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ.. [الآيات: 27- 31] . وزاد الأمر تهويلا قسم الله بالقمر والليل والصبح على أن جهنم إحدى الدواهي العظام: كَلَّا وَالْقَمَرِ.. [الآيات: 32- 37] . وأوضحت السورة مسئولية كل نفس بما كسبت وتعلقها بأوزارها، وبشارة المؤمنين بالنجاة، والكفار بالعذاب، وتصوير ما يجري من حوار بين الفريقين: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.. [الآيات: 38- 48] . وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن العظة والتذكر والإيمان: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ.. [الآيات: 49- 56] . فضلها: ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وخالفه الجمهور، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [القلم 96/ 1] .

سبب نزولها:

سبب نزولها: أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئا، فأتيت خديجة، فقلت: دثّروني، وصبّوا عليّ ماء باردا، قال: فدثّروني وصبوا علي ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» . ورواه مسلم بلفظ آخر يدل على أن أول ما نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [القلم 96/ 1- 5] . ووجه الجمع بين الرأيين: أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما قال الإمام أحمد والشيخان عن جابر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثم فتر الوحي عن فترة، فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت- فزعت- منه فرقا- أي خوفا-، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم حمي الوحي وتتابع» . وأخرج الطبراني «1» عن ابن عباس قال: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس

_ (1) بسند ضعيف.

إرشادات للنبي صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة [سورة المدثر (74) الآيات 1 إلى 10] :

بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ. إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) الإعراب: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما. ولم تدغم الدال في التاء لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والمجهور أقوى من المهموس، فكان إدغام الأضعف في الأقوى أولى من العكس. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ تَسْتَكْثِرُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي ولا تمنن مستكثرا. فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فِي النَّاقُورِ إما في موضع الرفع لأنه قام مقام النائب للفاعل، وإما في موضع النصب لأن المصدر قام مقام الفاعل، فاتصل الفعل به بعد تمام الجملة، فوقع فضلة، فكان في موضع نصب. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فَذلِكَ مبتدأ، ويَوْمَئِذٍ بدل منه، ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر المبتدأ، ولا يجوز أن يتعلق. يَوْمَئِذٍ بقوله عَسِيرٌ لأن ما تعمل فيه الصفة لا يجوز تقدمه على الموصوف. والعامل في فَإِذا في قوله: فَإِذا نُقِرَ.. ما دلت عليه الجملة، أي اشتد الأمر.

البلاغة:

البلاغة: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ تقديم المفعول به لإفادة الاختصاص. فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ جناس اشتقاق. عَسِيرٌ ويَسِيرٍ بينهما طباق، وجناس اشتقاق. المفردات اللغوية: الْمُدَّثِّرُ المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه، وأصله: المتدثر، وأجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو لابس الدثار: وهو الثوب الظاهر الذي يلبس فوق لباس داخلي يلاصق الجسد قُمْ من مضجعك، أو قيام عزم وجدّ فَأَنْذِرْ خوّف أهل مكة وغيرهم النار إن لم تؤمنوا. فَكَبِّرْ عظّم. فَطَهِّرْ أي طهر ثيابك من النجاسات، فإن التطهير واجب في الصلاة، محبوب في غيرها، وذلك بغسلها، أو بحفظها عن النجاسة، أو طهر نفسك من الأفعال والأخلاق الذميمة. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اترك الأسباب والمآثم المؤدية إلى العذاب، وداوم على هجرها، والرجز: بضم الراء وكسرها: العذاب، قال تعالى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف 7/ 134] . وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط شيئا فتطلب أكثر منه، أو لا تمنن على الله بعبادتك مستكثرا إياها، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه. فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ نفخ في الصور وهو القرن النفخة الثانية. فَذلِكَ أي وقت النقر. يَوْمٌ عَسِيرٌ شديد على الكفار. غَيْرُ يَسِيرٍ غير سهل عليهم. سبب النزول: تقدم، وملخصه: أخرج الشيخان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فنوديت، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فرجعت، فقلت: دثروني. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» . التفسير والبيان: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ أي يا أيها النبي الذي قد تدثر بثيابه، أي

تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة، انهض، فخوّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي عظم الله وصفه بالكبرياء، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك، فإنه أكبر من أن يكون له شريك، وطهّر ثيابك واحفظها عن النجاسات. وقال قتادة: أي طهرها من المعاصي والذنوب، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله: إنه لدنس الثياب، وإذا وفّى وأصلح: إنه لمطهر الثياب. وكلا المعنيين صحيح، فإن الطهارة الحسية أو النظافة تلازم عادة الطهارة المعنوية، أي التجرد والتباعد من المعاصي، والعكس صحيح، فإن وجود الأوساخ ملازم لكثرة الذنوب. والآية دليل على تعظيم الله مما يقول عبدة الأوثان، وعلى النظافة وتحسين الأخلاق واجتناب المعاصي. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اترك الأصنام والأوثان، فلا تعبدها، فإنها سبب العذاب، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب في الدنيا والآخرة، فالآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي. والنهي عن جميع ذلك لا يعني تلبسه بشيء منها وإنما يبدأ به لكونه قدوة، وللمداومة على الهجران، فهو كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب 33/ 1] وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] فمثل هذا الخطاب للنبي يراد به الأمر بالدوام والمتابعة، واستمرار تجنب الفساد. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي، مستكثرا ذلك عليهم، أو إذا أعطيت أحدا عطية، فأعطها لوجه الله، ولا تمنّ

فقه الحياة أو الأحكام:

بعطيتك على الناس، أو لا تضعف أن تستكثر من الخير، فإن تَمْنُنْ في كلام العرب تضعف. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، فإنك حمّلت أمرا عظيما، ستحاربك العرب عليه والعجم، فاصبر عليه لله. واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته. وبعد إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، أبان الله تعالى وعيد الأشقياء، فقال: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي اصبر على أذاهم، فأمامهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدا على الكفار، غير سهل عليهم. أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة والإمام أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ملاطفة في الخطاب ولين في الكلام من الله إذ ناداه ربه بحاله وعبّر عنه بصفته. 2- أمر الله نبيه بتخويف أهل مكة وغيرهم من الناس قاطبة، وبتحذيرهم العذاب إن لم يسلموا.

3- ما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز له الإخلال بها. أولها- تعظيم الله ووصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد، كما يقول عبدة الأوثان. ثانيها- تطهير الثياب من النجاسة المادية أو الحكمية، وتطهير النفس من المعاصي المؤدية إلى العذاب، وتجميلها بمحاسن الأخلاق. ثالثها- هجر الأوثان والمآثم التي هي سبب العذاب، ويراد بذلك الأمر بالمداومة على ذلك الهجران. رابعها- عدم الامتنان على الله بالأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعل، وإنما الواجب الصبر على ذلك لوجه الله تعالى، متقربا إليه، غير ممتنّ به عليه، وعدم الامتنان على الناس بتعليم أمور الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، وبالنبوة لأخذ أجر يستكثر به ماله. وقال أكثر المفسرين: المعنى: ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، حتى تكون عطاياه لأجل الله عز وجل، لا لأجل طلب الدنيا. وهذا سمة أهل الجود والكرم. خامسها- الصبر على أداء الفرائض والعبادات وإيذاء الناس بسبب تبليغ الدين. والخلاصة: أن الله تعالى وضع أساسين لنجاح دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد استكمال العقل وتحرره من الشرك، واستكمال النفس بالخلق الكامل، وهما: الجود والصبر. 4- هدد الله الكفار الأشقياء بأهوال يوم القيامة، فإنه إذا نفخ إسرافيل في الصور- وهو كهيئة البوق- النفخة الثانية، كان ذلك اليوم يوما شديدا على كل من كفر بالله وبأنبيائه، غير سهل ولا هيّن عليهم، فإنهم دائما يواجهون صعابا أشد، بخلاف المؤمنين الذين يتجهون دائما إلى ما هو الأخف، حتى يدخلوا الجنة

تهديد زعماء الشرك [سورة المدثر (74) الآيات 11 إلى 30] :

برحمة الله تعالى. وقد فهم ابن عباس من قوله تعالى: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ كون ذلك اليوم يسيرا على المؤمن، وهذا حجة لمن قال بدليل الخطاب أنه حجّة. تهديد زعماء الشرك [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 30] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) الإعراب: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَحِيداً حال من هاء. خَلَقْتُ المحذوفة، وتقديره: خلقته وحيدا. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ لَوَّاحَةٌ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي لواحة. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مبتدأ، مبني على الفتح، لتضمنه معنى الحرف، وهو واو العطف، وأصله: تسعة وعشر، ولما حذفت الواو تضمنا معنى الحرف، فوجب أن يبنيا، وبنيا على الفتح لأنه أخف الحركات. وعَلَيْها خبره. البلاغة: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ إطناب بتكرار الجملة لزيادة التوبيخ. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ الاستفهام للتهويل والتفخيم.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً دعني واتركني وحدي وإياه، فإني أكفيكه. مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا، فقد كان للوليد الزرع والضرع والتجارة. شُهُوداً حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم ولقائهم، لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش، استغناء بنعمته، ويشهدون المحافل وتسمع شهادتهم. قيل: كان له عشرة بنين أو أكثر، كلهم رجال، فأسلم منهم ثلاثة: خالد وعمار وهشام. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الرياسة والجاه العريض، حتى لقب: ريحانة قريش، والوحيد، أي باستحقاق الرياسة والتقدّم. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ يطمع في الزيادة على ما أوتيه. كَلَّا كلمة ردع وزجر، أي لا أزيده على ذلك. عَنِيداً معاندا لها ومكابرا. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا لا يطاق، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليل للوعيد، أي تأمل في القرآن، وهيأ الأمر في نفسه. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجب من تقديره استهزاء به، أي لعنه الله كيف توصل إلى ما تريد قريش. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة، وثُمَّ للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى. ثُمَّ نَظَرَ في وجوه قومه أو فيما يقدح به فيه. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ عَبَسَ قطّب جبهته بين الحاجبين، وَبَسَرَ كلح وجهه وتغير، فهو أشد من العبوس. ثُمَّ أَدْبَرَ عن الإيمان. وَاسْتَكْبَرَ تكبر عن اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم فَقالَ الفاء للدلالة على سرعة الحكم من غير تفكر. إِنْ هذا أي ما هذا القرآن. إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى ويتعلم. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكيد للجملة الأولى، أي إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. سَأُصْلِيهِ أدخله. سَقَرُ جهنم. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تعظيم لشأنها. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أي لا تبقى على شيء يلقى فيها، ولا تدعه حتى تهلكه. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها، أو مسوّدة لأعالي الجلد، والبشر على هذا جمع بشرة: وهي ظاهر الجلد. سبب النزول: نزول الآية (11) : ذَرْنِي.. أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا

نزول الآية (30) :

لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، لتتعرض لما قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يأثره عن غيره، فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. نزول الآية (30) : عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل عليه ساعتئذ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ. المناسبة: بعد أن أخبر الله تعالى عن كون يوم القيامة عسيرا غير يسير على الكافرين، هدد الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشرك، وسلّى نبيه بقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وهو كقوله في المزمّل، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ.. [11] ثم عدد تعالى نعمه على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة، وكفره بها، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر يؤثر. التفسير والبيان: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي دعني أنا والذي خلقته حال كونه وحيدا

في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، أو دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه. وأجمع المفسرون على أن المراد به هنا الوليد بن المغيرة. وهذا توعد وتهديد لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. ثم عدد الله تعالى تلك النعم، فقال: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ أي وجعلت له مالا واسعا كثيرا، وقد كان الوليد مشهورا بكثرة المال، من الزروع والمواشي والتجارات في مكة وما بينها وبين الطائف. وجعلت له أيضا بنين حضورا معه بمكة، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق، لكثرة مال أبيهم. قيل: كان له عشرة بنين أو ثلاثة عشر ولدا كلهم من الرجال فكان يسمى ريحانة قريش، والوحيد، لأنه وحيد متميز في قومه بالرياسة والجاه. وكذلك بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، ومكّنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك. ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك، مما يدعو إلى التعجب. وقوله: ثُمَّ هنا معناه التعجب، كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام 6/ 1] فمعنى ثُمَّ هنا للإنكار والتعجب. وهذا إنكار عليه لشدة حرصه على الدنيا، فرد الله تعالى عليه بقوله: كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي لا أزيده، فإنه كان لآيات القرآن معاندا لها، كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا، بعد العلم بصدقها.

وهذا دليل على أنه كان كافرا كفر عناد، فهو في أعماق نفسه يقرّ بكون آي القرآن من عند الله، ولكنه ينكر ذلك بلسانه إرضاء لقومه، لذا استحق العقاب الآتي: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأكلفه وأحمّله مشقة من العذاب، لا راحة فيه، كمن يتكلف صعود أعالي الجبال الشاهقة الوعرة. والإرهاق: أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل الذي لا يطيقه. وقيل: الصعود: جبل في النار، روى ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: «هو جبل في النار، من نار، يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت» . ورواه الترمذي بلفظ: «الصعود: جبل من نار يتصعّد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي كذلك فيه أبدا» . وقال فيه: حديث غريب. ثم حكى تعالى أحواله وكيفية اتخاذ قراره وكيفية عناده، فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي إنه فكر في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي القرآن العظيم، وهيّأ الكلام في نفسه ما يقول، وتروى ماذا يصف به القرآن حين سئل عنه، ففكر ماذا يختلق من المقال، فلعن وعذّب على أيّ حال قدّر ما قدر من الكلام، وأكد ذلك قائلا: ثم لعن وعذب، وأتى ب ثُمَّ للدلالة على أن الدعاء عليه في المرة الثانية أبلغ وآكد من الأولى. وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه، واستحقاقه مضاعفة العذاب. ثم وصفه بأحوال ظاهرة للناس فقال: ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي ثم أعاد النظر والتروي والتأمل في الطعن

بالقرآن، ثم قطّب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن، وكلح وجهه وتغير وأظهر الكراهة، ثم أعرض عن الإيمان، وانصرف عن الحق، وتكبر عن الانقياد للقرآن، فقال: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى، نقله محمّد عن غيره ممن قبله، وحكاه ورواه عنهم، فليس بكلام الله، بل هو كلام البشر أو الإنس. وهذا دليل على أنه كان مناقضا فيما اختلقه لقناعته الذاتية، فقد كان بقلبه مصدقا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه أنكره عنادا. روى العوفي عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة، فسأله عن القرآن، فلما أخبره، خرج على قريش، فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفر من قريش، ائتمروا، وقالوا: والله لئن صبأ الوليد، لتصبو قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام، قال: أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق، حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تر إلى قومك، قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه فقال الوليد: أقد تحدّث به عشيرتي!! فلا، والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- إلى قوله- لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. ومما يدل على أن كفره كفر عناد: ما ذكر سابقا أن الوليد مرّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ: حم السجدة، فرجع وقال لبني مخزوم: والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى.

فقه الحياة أو الأحكام:

وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ الآية. ولا ريب أن من عرف هذا القدر، ثم زعم أن القرآن سحر، فإنه يكون معاندا، وكان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث. ثم ذكر الله تعالى ما يستحقه من عقاب على موقفه هذا، فقال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي سأدخله النار، وسأغمره فيها من جميع جهاته، وسقر: من أسماء النار، ثم هوّل أمرها وفخّم شأنها بقوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ المعنى: أيّ شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا، فلا تتركهم، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا، كما قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ، بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء 4/ 56] . وتلوح جهنم للناس حتى يرونها عيانا، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91] . أو تلفح الجلد لفحة، فتدعه أسود من الليل، وعلى النار زبانية وخزنة أشداء، عظيمو الخلق، غليظو الخلق، عددهم من الملائكة تسعة عشر، والمميز في رأي الأكثرين: شخصا، وقيل: صنفا. والبشر: إما الإنس من أهل النار، وهو رأي الأكثرين، أو جمع بشرة: وهي جلدة الإنسان الظاهرة. فقه الحياة أو الأحكام: يحتاج نجاح الدعوة إلى الله إلى عناصر بشرية إيجابية، وحماية إلهية، أما

العناصر الإيجابية فهي ما تحدثت عنه فاتحة السورة من تطهير النفس والعقل من الشرك والوثنية، والاتصاف بأمثل الصفات الخلقية، والاستعانة بالجود والصبر. وجاء هنا دور الوقاية والحفظ الإلهي، فالله سبحانه وقى رسوله صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين، وسلاه وهدد أعظم زعماء الشرك وهو الوليد بن المغيرة ليكون عبرة لغيره. فقد كان الوليد موقنا بقلبه، مقتنعا بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه كذب بلسانه إرضاء لهوى نفسه في حب الزعامة والرياسة والجاه، وإيثارا للانضمام إلى صف أهل الشرك في مكة. فبالرغم من أن الحق سبحانه أمده بالمال والبنين، وجعله متقلبا في أعطاف الرفاه والنعيم، ثم طمع في زيادة المال والولد، فإنه قابل النعمة بالجحود، والشكر بالكفران، فكذب بالقرآن، ولم يؤمن بأنه كلام الله تعالى، ووصفه بأنه سحر مروي من كلام البشر المتناقل، وعاند النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به. فحجب الله عنه زيادة النعمة لأنها لا تكون مع الكفر بالمنعم بها، وتوعده وهدده بدخوله نار جهنم، ذاكرا أسباب ذلك، وهي كيفية عناده، فإنه فكر في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وهيأ الكلام في نفسه، ونظر بأي شيء يرد الحق ويدفعه، وقطّب بين عينيه في وجوه المؤمنين، وكلح وجهه وتغير لونه، وولّى معرضا عن الحق والإيمان، وتعظم عن أن يؤمن، فقال: ما هذا الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا سحر يأثره ويحكيه عن غيره، وما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر. فلعن كيف فكر، وعذب على ما قدّر، ثم لعن لعنا بعد لعن، واستحق الإدخال في جهنم التي وصفها الله وبالغ في وصفها بقوله، وما أعلمك أي شيء هي؟ فهي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته، ثم تعاود إحراقهم إلى

الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر [سورة المدثر (74) الآيات 31 إلى 37] :

الأبد، تلوح للبشر عيانا، وتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل، ولا يستطيع أحد الفرار منها، فإن عليها خزنة تسعة عشر من الملائكة، يلقون فيها أهلها وهم مالك وثمانية عشر ملكا آخرون بأعيانهم. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق، كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. والأكثرون على أن المراد تسعة عشر شخصا من الملائكة، وقيل: صنفا. قال القرطبي: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» «1» . الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر [سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 80

الإعراب:

الإعراب: إِلَّا فِتْنَةً مفعول ثان لجعلنا. ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا مَثَلًا: حال. نَذِيراً لِلْبَشَرِ منصوب من خمسة أوجه: 1- أن يكون منصوبا على المصدر، أي إنذارا للبشر، فيكون نذير بمعنى إنذار، كنكير بمعنى إنكار. 2- أن يكون منصوبا على الحال من لَإِحْدَى الْكُبَرِ وذكّر لأنها بمعنى العذاب، أو لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. 3- أن يكون منصوبا على الحال من ضمير قُمْ في أول السورة، وتقديره: قم نذيرا للبشر. 4- أن يكون منصوبا بتقدير فعل، أي صيرها الله نذيرا، أي ذات إنذار، على النسب. 5- أن يكون منصوبا بتقدير: أعني، أي أعني نذيرا للبشر. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ إِذْ: ظرف زمان ماض، أَدْبَرَ: انقضى، يراد به التعبير عن إدبار الليل فيما مضى، وقرئ «إذا» ظرف زمان مستقبل دبر: تولى. قال الفراء: دبر وأدبر بمعنى واحد، كقبل وأقبل. البلاغة: يُضِلُّ وَيَهْدِي بينهما طباق، وكذا بين يَتَقَدَّمَ ويَتَأَخَّرَ. كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ سجع مرصع. المفردات اللغوية: إِلَّا مَلائِكَةً أي فلا يمكن مقاومتهم ولا يطاقون كما يتوهمون. عِدَّتَهُمْ عددهم المذكور. فِتْنَةً سبب ضلال واستبعاد. لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن يقولوا: لم كانوا تسعة عشر. لِيَسْتَيْقِنَ ليستبين. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى، أي ليتبينوا صدق القرآن وصدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لما رأوا أن عددهم تسعة عشر موافق لما في كتابهم. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يزداد المؤمنون من أهل الكتاب وغيرهم تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم لما في كتابهم. وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ من غيرهم في عدد الملائكة. مَرَضٌ

سبب النزول نزول الآية (31) :

شك أو نفاق، وهم منافقو المدينة. وَالْكافِرُونَ بمكة. ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي ماذا أراد الله بهذا العدد حديثا. كَذلِكَ يُضِلُّ.. أي مثل ذلك المذكور من إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه، يضل الكافرين، ويهدي المؤمنين. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي ما يعلم الملائكة في قوتهم وأعوانهم، وكذلك جموع خلقه على ما هم عليه. وَما هِيَ أي سقر. ذِكْرى تذكرة وموعظة للناس. كَلَّا ردع لمن أنكرها، أي حقا. أَدْبَرَ مضى وولّى. أَسْفَرَ ظهر وأضاء. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي إن سقر وصفتها لإحدى الدواهي أو البلايا العظام. أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى الخير أو الجنة بالإيمان. أَوْ يَتَأَخَّرَ إلى الشر أو النار بالكفر. سبب النزول: نزول الآية (31) : وَما جَعَلْنا..: قال ابن إسحاق وقتادة: قال أبو جهل يوما: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم، فأنزل الله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً الآية. وقال السّدّي: لما نزلت عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كلدة الجمحي- وكان شديد البطش «1» -: يا معشر قريش لا يهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم

_ (1) كان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة، لينزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه. قال السهيلي: وهو الذي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مصارعته، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا، فلم يؤمن. وصارع النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب.

التفسير والبيان:

اثنين، فنزل قوله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم يجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم. التفسير والبيان: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ومن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأعظمهم بطشا، وأقومهم بحق الله والغضب له تعالى. وهذا رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل كما تقدم: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي شديدي الخلق، لا يقاومون ولا يغالبون. ثم أبان الله تعالى حكمة اختيار عدد الخزنة، فقال: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر، اختبارا منا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. فقوله: فِتْنَةً معناه سبب فتنة، أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار، وفتنتهم: هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي إنه تعالى جعل عدة الزبانية تسعة عشر ليتيقن ويعلم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أن هذا الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية المنزلة على الأنبياء

قبله، فإن فيها أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين وتصديقهم حين يرون موافقة أهل الكتاب لهم، ويشهدون صدق إخبار نبيهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم. ثم أكد الله تعالى ذلك بنفي الشبهة والشك، فقال: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في صحة وحقيقة هذا العدد، وفي دين الله. والمراد بذلك في الواقع التعريض بالمتشككين المنافقين. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي وليقول المنافقون الذي في قلوبهم شك وريب في صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم والكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ وما الحكمة في ذكر هذا هنا؟ ومرادهم إنكار أصل هذا الكلام، وأنه ليس من عند الله «1» . ثم ذكر الله تعالى سنته في الإضلال والهداية لمن كان من أهلهما، فقال: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل من يريد بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، وتوجيه نفسه لمواقع الضلال والسوء، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، فمثل إضلال أبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم، يضل الله عن الهداية والإيمان أي يخزي ويعمي من أراد إضلاله، ويهدي أي يرشد من أراد هدايته، كإرشاد أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وليس معنى الإضلال والهداية أنه تعالى يجبر كل فريق على الضلالة والهدى،

_ (1) البحر المحيط: 8/ 377

فذلك مناف للعدل الإلهي، ولحكمة التشريع الذي جاء بالتكليف، وإنما لإرادة المكلف واختياره دور أساسي في الاستجابة للتكليف، ولاستحقاق المؤاخذة والثواب، ولا يقع شيء قهرا عن الله، وإنما بمراده، فإن خالف العبد عصى المأمور به، والمحبوب لربه، ولم يخرج عن مشيئة الله، فالله قهر الأشياء كلها، ولكنه أرخى الزمام في أشياء لاختيار الإنسان. ثم أكد تعالى أن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها، فقال: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي إن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه. وهذا رد على المشركين الذين استقلوا ذلك العدد، ملخصه: هبوا أن هؤلاء تسعة عشر، إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله، فلا يعلم جنود الله إلا هو لفرط كثرتهم، ولا يعسر عليه تتميم الخزنة إلى عشرين وأزيد، ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها. وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي وما سقر وصفتها، وما ذكر عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار. ثم وجّه الله تعالى تحذيرا لمن أنكر جهنم، فقال: كَلَّا، وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة، وأقسم بالقمر المتلألئ، وبالليل إذا مضى وولى ذاهبا، وبالصبح إذا ظهر وتبين وأضاء، إن سقر (جهنم) لإحدى الدواهي العظام والبلايا الكبار لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله على العصيان.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم عيّن الله تعالى المنذرين، فقال: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أي إن جهنم إنذار لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو الجنة بالإيمان، أو يتأخر عن ذلك إلى الشر والمعصية أو النار بالكفر. ونظير الآية قوله سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر 15/ 24] أي المبادرين إلى الخير، والمتأخرين عنه إلى الشر. قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلّى الله عليه وسلّم عوقب عقابا لا ينقطع «1» . وقال الحسن البصري: هذا وعيد وتهديد، وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] «2» . فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- إن خزنة جهنم وزبانيتها التسعة عشر هم من الملائكة الذين لا يغالبون لا من الرجال الذين يمكن مقاومتهم بالتجمع عليهم. 2- إن إيراد عدد التسعة عشر من الملائكة صار سببا لفتنة الكفار، أي اختبارهم، قال الزمخشري: ما جعل افتتانهم بالعدة سببا، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، وذلك أن المراد بقوله: ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً، لِلَّذِينَ كَفَرُوا: وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فتنة للذين كفروا موضع

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 86 (2) المرجع والمكان السابق.

تسعة عشر لأن حال هذه العدّة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدتهم عدة، من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين، وحيرة الكافرين «1» . 3- إن ذكر هذا العدد أدى إلى زيادة يقين الذين أعطوا التوراة والإنجيل بصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، وأدى أيضا إلى زيادة إيمان المؤمنين بذلك لأنهم كلما صدّقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم، وإلى نفي الشك من الذين أعطوا الكتاب والمصدّقين من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، وأدى أيضا إلى أن الذين في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة الذين سيظهرون بعد الهجرة، والكافرين من اليهود والنصارى قالوا: ماذا أراد الله بعدد خزنة جهنم مثلا غريبا؟ والقصد من هذا التساؤل الصادر منهم استبعاد أن يكون هذا من عند الله وإنكار كونه من الله، والمعنى: أيّ شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟ 4- قوله عز وجل: وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو رأي الأكثرين. وأما الذين يقولون بأن حقيقة الإيمان لا تقبل الزيادة والنقصان فيحملون الآية على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم، فمن باب التوكيد، كأنه قيل: حصل لهم يقين جازم، بحيث لا يحصل بعده شك وريب، فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدّمة من مقدمات الدليل، فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض

_ (1) الكشاف: 3/ 288

بحال من عداهم، كأنه قيل: وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ والكفران. 5- قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لا يراد به خلافا لظاهره أن الإضلال والهداية أمران مبتدآن من الله عز وجل، ولا أنه تعالى يجبر فريقا على الضلالة، وفريقا على الهدى، وإنما المراد به تقرير سنة من سنن الله سبحانه في عباده وهي ربط الأسباب التي خلقها بالمسببات، فمن ضل فإنما يضل بنفسه واختياره، ومن اهتدى فإنما يهتدي بنفسه وإرادته واختياره، ثم يزيد الله الضالين ضلالا، فيبعدهم عن معالم الهداية، لسوء اختيارهم واستعدادهم وعنادهم، ويزيد المؤمنين إيمانا بتوفيقهم إلى سبل الهداية والرشاد، لحسن اختيارهم. ولا يقع شيء في الكون قهرا عن الله تعالى، وإنما بإرادته ومشيئته، وإن كان مخالفا لمأموره ومحبوبه. 6- قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى الأبد إلا الله سبحانه. وهو جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! أخرج الترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أطّت «1» السماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا» . 7- ردع الله تعالى بقوله: كَلَّا كل من ينكر وجود جهنم وصفتها، وأنها إحدى البلايا العظام والدواهي الكبار، وأنها إنذار دائم للبشر. 8- أقسم الله تعالى بالقمر والليل والصبح تشريفا لها، وتنبيها على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته وقوام الوجود بإيجادها، والمقسم عليه: أن

_ (1) أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها، حتى أطت ظهر لها صوت وحنين، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثمّ أطيط، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها.

الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين [سورة المدثر (74) الآيات 38 إلى 56] :

سقر (جهنم) إحدى الدواهي، وأنها نذير للبشر أو ذات إنذار، على معنى النّسب، قال الحسن البصري: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. 9- النار نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية. الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين [سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) الإعراب: فِي جَنَّاتٍ حال من أصحاب اليمين. فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ما: في موضع رفع مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، ومُعْرِضِينَ: حال من ضمير لَهُمْ والعامل: ما في لَهُمْ من معنى الفعل. وعَنِ التَّذْكِرَةِ، وكَأَنَّهُمْ حُمُرٌ: في موضع الحال بعد حال، أي مشابهين حمرا مستنفرة، أي نافرة.

البلاغة:

البلاغة: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إيجاز بحذف بعض الجمل، أي قائلين لهم: ما سلككم في سقر؟ لفهم المخاطبين. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ خاص بعد عام وهو الخوض بالباطل مع الخائفين، لتعظيم هذا الذنب. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ إلخ، سجع مرصّع. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. المفردات اللغوية: رَهِينَةٌ مرتهنة عند الله بعملها، إما خلّصها وإما أوبقها، وليست رهينة تأنيث رهين، لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل (رهين) لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هو اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله، غير مفكوك، ولا يرتهن الله تعالى أحدا من أهل الجنة. أَصْحابَ الْيَمِينِ هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، فلا يرتهنون بذنوبهم، وقد فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم. جَنَّاتٍ بساتين لا تدرك حقيقتها. يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا: أو يسألون غيرهم عن حالهم. ما سَلَكَكُمْ أدخلكم. سَقَرَ جهنم. نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ نخالط أهل الباطل في باطلهم. بِيَوْمِ الدِّينِ يوم البعث والجزاء. الْيَقِينُ الموت. الشَّافِعِينَ من الملائكة والأنبياء والصالحين. مُعْرِضِينَ عن التذكير، والمعنى: أي شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ مثل الحمير الوحشية التي هربت من الأسد أشد الهرب، شبههم في إعراضهم ونفورهم عن استماع الذكر بحمر. صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي قراطيس منشورة مبسوطة، تنشر وتقرأ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان: أن اتبع محمدا. كَلَّا ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة، لا لامتناع إيتاء الصحف. كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ردع لهم عن إعراضهم، فإن القرآن تذكرة كافية. فَمَنْ شاءَ أن يذكره. ذَكَرَهُ قرأه، فاتعظ به. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عقابه. وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر لمن اتقاه.

سبب النزول نزول الآية (52) :

سبب النزول: نزول الآية (52) : بَلْ يُرِيدُ..: أخرج ابن المنذر عن السّدّي قال: قالوا: لئن كان محمد صلّى الله عليه وسلّم صادقا، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار، فنزلت: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً. وفي رواية: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه، من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك «1» . المناسبة: بعد أن توعد الله الكفار والعصاة، وهددهم بأن النار إحدى الدواهي والبلايا العظام، وأنذرهم بأن النجاة مربوطة بالعمل الصالح، أكد المعنى المتقدم بأنه ليس لكل امرئ إلا جزاء عمله، وأخبر أن أصحاب اليمين ناجون، وأن المجرمين معذبون، ووصف الحوار الدائر بين الفريقين لمعرفة سبب دخول الفريق الثاني نار جهنم. التفسير والبيان: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي كل نفس مأخوذة بعملها، مرتهنة به، معتقلة بما قدمته من عمل يوم القيامة، فإن كان خيرا خلّصها وأعتقها، وإن كان شرّا أوبقها. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ أي باستثناء المؤمنين الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يطلق سراحهم بما أحسنوا من أعمالهم.

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 30/ 212، البحر المحيط: 8/ 381 [.....]

فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي وهم في جنات يتنعمون، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين، في النيران، قائلين لهم: ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل. فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة، فلم نعبد ربنا مع المؤمنين الذين يصلون، ولم نحسن إلى خلقه من جنسنا، فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم، كلما غوى غاو غوينا معه، أو نتكلم فيما لا نعلم، أو نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قولهم: كاذب، مجنون، ساحر، شاعر، وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة، حتى أتانا الموت ومقدماته، فاليقين: الموت، كما في قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر 15/ 99] . فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال حياتنا الدنيوية: ترك الصلاة، والزكاة، والخوض في باطل الكلام، وإنكار يوم البعث والحساب والجزاء. وفي ترك الأمرين الأوليين دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي فمن كان متصفا بمثل هذه الصفات، فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، والمعنى: لا شفاعة لهم من أحد من الملائكة والأنبياء والصالحين لأن مصيرهم إلى النار حتما. فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي ما الذي حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن المشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى؟ أو فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك في مكة معرضون عما تدعوهم إليه، وتذكّرهم به؟ كأنهم في نفورهم عن الحق وإعراضهم عنه من

حمر الوحش إذا فرت من رماة يرمونها، أو من أسد يريد افتراسها. فالقسورة: إما جماعة الرماة الذين يتصيدونها، أو الأسد، وهو رأي جمهور اللغويين، سمي بذلك لأنه يقهر السباع، قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون، إذا رأوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد. وهذا التشبيه في غاية التقبيح والتهجين لحالهم، وإعلامهم بأنهم قوم بله. والآية دليل على أن إعراضهم عن الحق والإيمان بغير سبب ظاهر مقنع، ولا استعداد للتفاهم والاقتناع، ففي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة، ونداء عليهم بالبلادة والغباوة، وعدم التأثر من مواعظ القرآن، بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم «1» . ثم أتى بصورة من عنادهم، فقال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب، كما أنزل الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهم قد بلغوا من العناد حدا تجاوزوا به أقدارهم، كما جاء في آية أخرى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 6/ 124] . وقال تعالى أيضا واصفا مطلبهم: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء 17/ 93] . قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله: أنك رسول الله. وكل هذا ونحوه مما حكة وتعنت ومكابرة، فهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى:

_ (1) غرائب القرآن للنيسابوري: 28/ 100

وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام 6/ 7] . ثم أبان الله تعالى سبب تعنتهم، فقال: كَلَّا، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي زجر لهم وردع على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة، فلا يؤتونها، وهم في الحقيقة منكرون البعث والحساب لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات. وكفاهم القرآن، كما قال تعالى: كَلَّا، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي حقا إن القرآن تذكرة، ويكفيهم القرآن، فإنه خير تذكرة وموعظة، فمن أراد أن يذكره ويتعظ به ولا يهمله، اتعظ، فهو موعظة بليغة، وتذكر شاف. ثم بيّن السبب الأصلي في عدم التذكرة، وذكر ما ينبئ عن كمال الهيبة، وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقى، وصفة اللطف الذي به يجب أن يرجى: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي لا يقع شيء في هذا الكون قهرا عن الله، فما يذكرون القرآن ويتعظون به إلا بمشيئة الله، الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته، والحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم. روى أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسر هذه الآية، فقال: «يقول لكم ربكم جلّت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معي إله غيري، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها غيري، فأنا أغفر له» أو «كان أهلا أن أغفر له» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وفسر الزمخشري قوله تعالى: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بقوله: يعني إلا أن يقسرهم على الذكر، ويلجئهم إليه لأنه مطبوع على قلوبهم، معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا «1» . وهذه طريقته على مبدأ المعتزلة في مثل هذه الآيات، وهو أن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب، ولكن مشيئة الله قادرة على جعل العبد مؤمنا بالقهر والإلجاء أو الإكراه. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- كل نفس مرتهنة يوم القيامة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلّصها وإما أوبقها، إلا أهل اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. قال الحسن البصري وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدّوا ما كان عليهم. 2- يكون أهل اليمين يوم القيامة في جنات (بساتين) يسألون عن المشركين: ما الذي أدخلكم في سقر؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل «2» . فيذكر أهل النار أربعة أسباب هي: ترك الصلاة، وترك الصدقة، ومخالطة أهل الباطل في باطلهم، كإيذاء أهل الحق، وكل ما لا يعني المسلم، والتكذيب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم، إلى أن أتانا الموت. قال العلماء: يجب أن يحمل هذان الأمران الأوليان على الصلاة والصدقة الواجبتين، وإلا لم يجز العذاب على تركهما. وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع

_ (1) الكشاف: 3/ 291 (2) تفسير الرازي: 30/ 211

الشريعة، كما يعذبون بأصولها، كالتكذيب بيوم الدين، وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب، أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل، كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد 90/ 17] «1» . 3- وبخ الله تعالى أهل مكة وأمثالهم بسبب إعراضهم وتوليهم عما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من التذكرة والعظة بالقرآن الكريم. قال مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما- الجحود والإنكار. والثاني- ترك العمل بما فيه. 4- شبه الله سبحانه المعرضين بتشبيه مهين مستقبح، وهو تشبيههم بالحمر الوحشية إذا نفرت وهربت من الأسد. قال ابن عباس: المراد الحمر الوحشية، شبههم تعالى بالحمر مذمّة وتهجينا لهم «2» . وقال أيضا كما تقدم: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد وهربت، كذلك هؤلاء المشركون إذا رأوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد. والقسورة: هي الأسد بلسان الحبشة «3» . 5- طلب المشركون (أبو جهل وجماعة من قريش) أن يعطوا كتبا مفتوحة لكل واحد منهم، مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا. وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقا، فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار «4» .

_ (1) غرائب القرآن للنيسابوري: 28/ 99 (2) البحر المحيط: 8/ 380 (3) تفسير الرازي: 30/ 212 (4) تفسير القرطبي: 19/ 90

6- لم يجب الله تعالى مطلبهم لتعنتهم ومما حكتهم وإنما زجرهم عن اقتراح الآيات، وأبان صفة القرآن والسبب الأصلي في عدم التذكرة، بقوله: كَلَّا أي ليس يكون ذلك، ولا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة اغترارا بالدنيا، وحقا إن القرآن تذكرة، فمن شاء اتعظ به ولكن ما يتعظون ولا يقدرون على الاتعاظ والتذكرة إلا بمشيئة الله ذلك لهم، والله الجدير بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، والحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.

سورة القيامة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القيامة مكيّة، وهي أربعون آية: تسميتها: سميت سورة القيامة لافتتاحها بالقسم الإلهي بها، لتعظيمها، وإثبات حدوثها والرد على منكريها. مناسبتها لما قبلها: تتعلق هذه السورة بما قبلها بسبب اشتمالها على حديث الآخرة، ففي السورة المتقدمة قال تعالى مبينا السبب الأصلي في عدم التذكرة وهو إنكار البعث: كَلَّا، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [53] ثم ذكر في هذه السورة دليل إثبات البعث، ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ذكر ما قبل ذلك من مقدمة وهي خروج الروح من البدن، ثم ما قبل ذلك من مبدأ الخلق، فذكرت الأحوال الثلاثة في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع» . ما اشتملت عليه السورة: عنيت هذه السورة كغيرها من السور المكية بأحد أصول الدين والإيمان وهو إثبات البعث والجزاء، وما سبقه من مقدمات الموت وبدء الخلق.

_ (1) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي: ص 90

افتتحت السورة بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة جميعا معا، لإثبات البعث والمعاد، والرد على من أنكر بعث الأجساد: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ.. [الآيات 1- 6] . ثم ذكر تعالى بعض علامات ذلك اليوم، وأخبر عن حتميته ووقوعه، فهو حق لا ريب فيه: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ.. [الآيات 7- 15] . ثم نهى الله تعالى نبيه عن محاولة حفظ آيات القرآن أثناء الوحي، وطمأنه بأنه سبحانه متكفل بتثبيته في قلبه وحفظه ووعيه وبيانه بنحو شامل تام: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ.. [الآيات 16- 19] . وأردف ذلك بالتنديد بمحبة الدنيا وإيثارها على الآخرة، وبالإخبار عن انقسام الناس في الآخرة قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاوة، فالأولون تتلألأ وجوههم بأنوار الإيمان، ويتمتعون بالنظر إلى ربهم دون حصر وتحديد وبلا كيفية، والآخرون تكون وجوههم سوداء مظلمة عابسة، تنتظر نزول داهية عظمي بها: كَلَّا، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.. [الآيات 20- 25] . ثم ذكرت شدائد الاحتضار والموت وأهواله وكروبه ومضايقاته: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ.. [الآيات 26- 35] . وختمت السورة بإيراد الدليل الحسي الواقعي على إثبات الحشر والمعاد وهو بدء الخلق، والإعادة أهون من البداءة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً.. [الآيات 36- 40] .

إثبات البعث والمعاد وعلائمه [سورة القيامة (75) الآيات 1 إلى 15] :

إثبات البعث والمعاد وعلائمه [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) الإعراب: لا أُقْسِمُ.. لا: إما زائدة، أو ليست زائدة، بل هي ردّ لكلام مقدم في سورة أخرى، وقرئ: لأقسم وقد جاء حذف النون مع وجود اللام، والأكثر في كلامهم ثبوت النون مع اللام. بَلى قادِرِينَ حال، وعامله محذوف لدلالة الكلام عليه، وتقديره: بلى نجمعها قادرين. لِيَفْجُرَ اللام زائدة، والفعل منصوب بأن مضمرة مقدرة. يَسْئَلُ أَيَّانَ.. أَيَّانَ: مبني على الفتح، لتضمنه معنى حرف الاستفهام لأنه بمعنى (متى) الذي بني لتضمنه حرف الاستفهام، وبني بالفتحة لأنها أخف الحركات. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إنما قال جُمِعَ بالتذكير إما لأن تأنيث الشمس غير حقيقي، فيجوز حينئذ تذكير الفعل الذي أسند إليها، وإما لأنه جمع بين المذكر والمؤنث، فغلّب جانب المذكر على جانب المؤنث، كقولهم: قام أخواك هند وزيد. كَلَّا، لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلَّا: حذف خبرها، أي لا وزر هناك، أي لا ملجأ، والْمُسْتَقَرُّ : مبتدأ، وإِلى رَبِّكَ : خبره.

البلاغة:

بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ أنث بَصِيرَةٌ إما لأن الهاء فيه للمبالغة، كعلّامة ونسّابة وراوية، أو لحمل الإنسان على النفس، فلذلك أنث بَصِيرَةٌ أو لحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي عين بصيرة. البلاغة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً استفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ الاستفهام بغرض استبعاد الأمر وإنكاره. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ توافق الفواصل المسمى بالسجع المرصّع. قَدَّمَ وَأَخَّرَ بينهما طباق. المفردات اللغوية: لا أُقْسِمُ أي أقسم، ولا: زائدة في الموضعين، وتزيد العرب كلمة (لا) للتأكيد، وذلك أن المقسم عليه إذا كان منتفيا، جاز الإتيان ب (لا) قبل القسم، لتأكيد النفي، والمقسم عليه هنا: هو إثبات المعاد، والرد على الجهلة المعاندين القائلين بعدم بعث الأجساد. ويرى قوم أن لا ردّ لكلام سابق متقدم وجواب له، فالعرب لما أنكروا البعث، قيل لهم: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم أن البعث حق لا ريب فيه. وقرئ لأقسم بغير ألف بعد اللام، وجواب القسم محذوف، أي لتبعثن، دل عليه ما بعده: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ. بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هي التي تلوم نفسها، وإن اجتهدت في الطاعة والإحسان، والمراد بهذا القسم تعظيم يوم القيامة، والتنويه بالنفس الطامحة إلى الدرجة الأرقى. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ المراد به الجنس، وإسناد الفعل إليهم لأن بعضهم يحسب، أو المراد من كان سبب النزول، وهو عدي بن أبي ربيعة، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمر القيامة، فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ للبعث والإحياء بعد تفرقها. بَلى نجمعها. قادِرِينَ مع جمعها. عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أصابعه، أي نعيد عظامها كما كانت، ونضم بعضها إلى بعض كما هي، مع صغرها ولطافتها، فكيف بكبار العظام؟ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره في مستقبل الزمان. أَيَّانَ متى، وهو سؤال استهزاء وتكذيب. بَرِقَ الْبَصَرُ دهش وتحير لما رأى ما كان يكذبه، وقرئ برق بفتح الراء. وَخَسَفَ الْقَمَرُ أظلم وذهب ضوءه. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ذهب ضوءهما في يوم القيامة، ولا يتنافى ذلك مع الخسوف، فإنه مستعار للمحاق.

سبب النزول نزول الآية (3 - 4) :

الْمَفَرُّ الفرار. كَلَّا ردع عن طلب الفرار. لا وَزَرَ لا ملجأ يتحصن به. الْمُسْتَقَرُّ أي استقرار أمر الخلائق، فيحاسبون ويجازون. يُنَبَّؤُا يخبر. بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ بما قدم من عمله وبما أخر منه، فلم يعلمه، أي أول عمله وآخره. بَصِيرَةٌ حجة شاهدة ناطقة بعمله فلا بد من جزائه. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به وهو جمع معذرة على غير قياس، كالمناكير جمع منكر، فقياسه معاذر، وذلك أولى. سبب النزول: نزول الآية (3- 4) : أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ..: روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أومن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت. وقيل: نزلت في أبي جهل كان يقول: أيزعم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها، فيعيدها خلقا جديدا «1» ؟! التفسير والبيان: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أي أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوّامة وهي التي تلوم صاحبها على تقصيره، لتبعثن، وقد حذف جواب القسم، لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. وهي نفس المؤمن، تلوم على ما فات وتندم، فتلوم على الشر لم تعمله، وعلى الخير لماذا لم تستكثر منه. والقسم بشيء لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي الإقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه، فإن

_ (1) البحر المحيط: 8/ 384- 385، تفسير القرطبي: 19/ 63

الإقسام بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس اللوّامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة: هو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدّها «1» . والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا، كما قال قتادة رحمه الله «2» ، أي أنه سبحانه سيجمع العظام، ثم يحيي كل إنسان، ليحاسبه ويجزيه. قال الحسن البصري: إن المؤمن، والله ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدما وقدما ما يعاتب نفسه. وقال أيضا: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه، يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال: يقسم ربك بما شاء ممن خلقه. وقال الفرّاء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته. والخلاصة: أن الأشبه بظاهر التنزيل كما قال ابن كثير: أن النفس اللوّامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي أيظن أي إنسان أننا لن نقدر على جمع عظامه، بعد أن صارت رفاتا، فنعيدها خلقا جديدا، وذلك حسبان باطل، فإنا نجمعها، وبلى سنجمعها قادرين عند البعث على إعادة تسوية أكثر العظام تفرقا، وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وقوله: قادِرِينَ تأكيد القدرة لأنه

_ (1) غرائب القرآن: 28/ 105 (2) تفسير ابن كثير: 4/ 447

يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبّه عليها بقوله: أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر. وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه، فذكره يدل على تمام الأصبع، وتمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها. وقيل: معنى التسوية: جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، بحيث لا يقدر على البطش. والمراد أنه قادر على ردّ العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى، وعلى ضد ذلك. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ هذا إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر، وهو أن الإنسان يريد في الحقيقة أن يدوم على فجوره في مستقبل أيامه، فيقدّم الذنب، ويؤخر التوبة. قال سعيد بن جبير: يقدّم الذنب، ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله. والخلاصة: أن إنكار البعث يتولد من شبهتين: الأولى- بأن يستبعد الإنسان اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها، والثانية- من التهوّر، بأن ينكر المعاد بالهوى واسترسال الطبع والميل إلى الفجور. فأجاب تعالى عن الشبهة الأولى بقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.. وأنكر على صاحب الشبهة الثانية بقوله: بل يريد أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب، لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة، كما قال تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي يسأل سؤال استبعاد لوقوعه واستهزاء وتعنتا: متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل.

ونظير الآية قوله تعالى: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك 67/ 25] وقوله سبحانه: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام 6/ 28- 29] . ثم ذكر الله تعالى ثلاث علامات للقيامة، فقال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ أي فإذا دهش البصر وتحير من شدة هول البعث ويوم القيامة، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود كما يعود بعد الخسوف في الدنيا، وذهب وتبدد ضوء الشمس والقمر جميعا، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، أي أن معالم الكون كلها تتغير، وحينئذ يقول ابن آدم إذا عاين هذه الأهوال يوم القيامة: هل من ملجأ أو موئل، وأين المفر من الله سبحانه ومن حسابه وعذابه؟! والمراد بالإنسان: الجنس، وهو ابن آدم، فيشمل المؤمن والكافر لهول ما يشاهد منها. وقيل: المراد الكافر خاصة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه. فيجيب الله تعالى سلفا في الدنيا بقوله: كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه، فلا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله يعصمكم يومئذ، وإنما إلى الله ربك المرجع والمصير، في الجنة أو في النار، كما في قوله تعالى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم 53/ 42] فهناك استقرار العباد على الدوام. ولا بد من تقدير مضاف في قوله: إِلى رَبِّكَ أي إلى حكم ربك، أو إلى جنته أو ناره. ثم ربط الله تعالى نوع المصير بالعمل في الدنيا، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ أي يخبر الإنسان في يوم القيامة أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شر، قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] . ثم بيّن أن الإنسان عالم بأعماله، فقال: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي بل إن الإنسان شهيد على نفسه، عالم بما فعله، فهو حجة بيّنة على أعماله، ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء 17/ 14] والآية إضراب عن الإخبار بأعمال الإنسان إلى مرتبة أوضح وأعرف. وقال ابن عباس وغيره: إن المراد سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. والمعاذير في رأي الواحدي والزمخشري: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعا لقيل: معاذر، بغير ياء. والمراد بقوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ : ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه، وقيل: ولو جادل عنها، فهو بصير عليها، وقيل: معاذيره: حجته، وهذا قول مجاهد، قال ابن كثير: والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام 6/ 23] وكقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة 58/ 18] . فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- أقسم الله سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه، كما أنه أقسم أيضا بنفس

المؤمن الطامحة دائما إلى زيادة الخير والطاعة، والإقلال من الشر والمعصية تنويها بشأنها وإخلاصها. والمناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة: أن المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفس اللوامة، من السعادة والشقاوة. والقسم بهذه الأشياء عند المحققين قسم بربها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة. 2- المقسم عليه هو وقوع البعث حتما لا شك فيه، قال الزجاج: أقسم الله بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، ليجمعن العظام للبعث. وأكد الله تعالى قسمه بأنه القادر على أن يعيد السّلاميات على صغرها، ويؤلف بينها حتى تستوي «1» . 3- إن شأن الكافر المكذب بما أمامه من البعث والحساب أن يرتكب أعظم الآثام، ويقتحم المعاصي دون حسبان للنتائج والمخاطر، ودون تقدير، لعواقب الأمور والتبعة (المسؤولية) الناجمة عنها. 4- تتبدل معالم الكون يوم القيامة، وتظهر علامات دالة عليه، منها حيرة البصر ودهشته من الأهوال، وذهاب ضوء القمر دون عودة، وذهاب ضوء الشمس والقمر معا، أي جمع الله، بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس، كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه. 5- إذا ظهرت علائم القيامة حار الإنسان، وقال: أين المهرب؟ أين المفر؟ ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما- أين المفر من الله استحياء منه؟ والثاني- أين المفر من جهنم حذرا منها؟ 6- لا مفر من الله، ولا ملجأ من النار، ولا حصن من العذاب، وإنما

_ (1) قال تعالى في آخر السورة: فَخَلَقَ فَسَوَّى أي أوجد منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا.

المرجع والمصير والمنتهى إلى حكم الله، وصيرورة كل إنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار. 7- يخبر ابن آدم يوم القيامة عند وزن الأعمال، برّا كان أو فاجرا، بما أسلف من عمل سيئ أو صالح أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده، أو بأول عمله وآخره، أو بما قدم من المعصية، وأخّر من الطاعة. إن هذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، لا عند الموت لما أخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» . وأخرجه أبو نعيم الحافظ عن أنس بن مالك بلفظ: «سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورّث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» . وفي الصحيح عند مسلم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . 8- الإنسان خير شاهد على نفسه، فهو حجة بيّنة على أعماله، حتى ولو أنكر واعتذر، فقال: لم أفعل شيئا، فإن عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فلو اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذّب عذره.

9- استنبط القاضي ابن العربي من قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ.. ست مسائل وهي بإيجاز «1» : الأولى- فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه لأنها بشهادة منه عليه، قال الله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور 24/ 24] . الثانية- لا يصح الإقرار إلا من مكلف (بالغ عاقل) لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه لأن الحجر يسقط قوله إذا كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض، كان منه ساقط، ومنه جائز، كما هو مقرر في الفقه. الثالثة- قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ معناه: ولو اعتذر لم يقبل منه، وقد اختلف العلماء في جواز الرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة لله تعالى: فقال أئمة المذاهب الأربعة على المشهور عند المالكية: يقبل رجوعه بعد الإقرار، ويسقط الحد، وهو الصحيح عملا بما رواه الأئمة، منهم البخاري ومسلم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ المقرّ بالزنى مرارا أربعا، كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات، دعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: أحصنت؟ قال: نعم. وقال لأصحابه- فيما رواه أبو داود وغيره- حينما هرب- أي ماعز- فاتبعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» . وروي عن مالك أنه قال: لا يعذر المقر إلا إذا رجع لشبهة، عملا بحديث: «لا عذر لمن أقرّ» «2» . الرابعة- قال ثعلب: معنى قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك، لا ينفع الظالمين معذرتهم، ويختم على فمه،

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1878- 1882 (2) بداية المجتهد: 2/ 430، الدردير والدسوقي: 4/ 318 [.....]

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن وحال الناس في الآخرة [سورة القيامة (75) الآيات 16 إلى 25] :

فتشهد عليه جوارحه، ويقال له: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء 17/ 14] . الخامسة- الآية في الحر المالك لأمر نفسه. أما العبد: فإن أقر بموجب عقوبة من القتل فما دونه، نفذ عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه لأن بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه، ودليل الرأي الأول قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته، نقم عليه الحدّ» . السادسة- قيل: إن معنى قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ أي عليه من يبصر أعماله، ويحصيها، وهم الكرام الكاتبون. والراجح ما ذكر من المعنى المتقدم. حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على حفظ القرآن وحال الناس في الآخرة [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) الإعراب: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى: في هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لأن النظر إذا قرن بالوجه، وعدّي بحرف الجر، دل على أنه بمعنى النظر بالبصر، فيقال: نظرت الرجل: إذا انتظرته، ونظرت إليه: إذا أبصرته. وكلمة وُجُوهٌ مبتدأ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله يَوْمَئِذٍ وناضِرَةٌ خبر وُجُوهٌ.

البلاغة:

البلاغة: بَنانَهُ بَيانَهُ جناس ناقص لاختلاف بعض الحروف. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ.. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ.. مقابلة بين نضارة وجوه المؤمنين، وكلاحة وجوه المجرمين. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مجاز مرسل في رأي الزمخشري، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، فقال: الوجه عبارة عن الجملة، قال البيضاوي: وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر، وإن المستعمل بمعناه لا يعدّى بإلى لذا قال النيسابوري في غرائب القرآن: 28/ 110: الأولى أن يراد بالوجوه: العيون، فيكون من إطلاق الكل على الجزء، لا عكسه. المفردات اللغوية: لا تُحَرِّكْ بِهِ لا تحرك يا محمد بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه، أي قبل أن يتم وحيه. لِتَعْجَلَ بِهِ لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت أو يضيع منك. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك. وَقُرْآنَهُ وإثبات قراءته في لسانك. فَإِذا قَرَأْناهُ بلسان جبريل عليك. فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ استمع قراءته، فكان صلّى الله عليه وسلّم يستمع ثم يقرؤه، ويكرر قراءته حتى يرسخ في ذهنه. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ تفسير ما أشكل فيه من المعاني، وبيان ما فيه من الحلال والحرام. وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. كَلَّا ردع للإنسان عن الاغترار بالدنيا العاجلة. الْعاجِلَةَ دار الدنيا وما فيها. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ تتركون العمل والاستعداد لها، وهو إشعار بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. ناضِرَةٌ حسنة مضيئة، متهللة بشرا بما تراه من النعيم. ناظِرَةٌ رائية عيانا تنظر إلى ربها بلا حجاب. وقال مجاهد: تنتظر الثواب من ربها. باسِرَةٌ شديدة العبوس، كالحة متغيرة مسودّة. تَظُنُّ توقن وتتوقع. فاقِرَةٌ داهية عظيمة تكسر فقار الظهر. سبب النزول: نزول الآية (16) : لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ.. : أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أنزل الوحي، يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الآية.

المناسبة:

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أن منكر القيامة والبعث معرض عن آيات الله تعالى ومعجزاته، وأنه قاصر شهواته على الفجور، غير مكترث بما يصدر منه، ذكر حال من يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها، رجاء قبوله إياها، ليظهر بذلك تباين حال من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها، فتلك الآيات تضمنت حال الإعراض عن آيات الله، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها، وبضدها تتميز الأشياء «1» . ثم ذكر تعالى سبب إنكار البعث وهو حب الإنسان الدنيا العاجلة، وترك الآخرة، ووبخ أهله، ثم أوضح تعالى انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين: فريق المؤمنين المستمتعين بالنعيم وبرؤية الله عز وجل، وفريق المشركين الذين يترقبون نزول الدواهي العظام من العذاب بهم. التفسير والبيان: علّم الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم كيفية تلقي الوحي من الملك جبريل، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصا منه على القرآن الموحى به إليه، يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، ويحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، حرصا على أن يحفظه صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت منك كما قال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه 20/ 114] .

_ (1) البحر المحيط: 8/ 388

إن علينا جمعه في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم. فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل، فاستمع له وأنصت، ثم اقرأه كما أقرأك، وكرره حتى يرسخ في ذهنك. ثم إننا بعد حفظه وتلاوته نفسر لك ما فيه من الحلال والحرام، ونبين ونوضح لك ما أشكل منه، ونلهمك معناه كما أردنا وشرعنا. وهكذا اشتملت الآيات الأربع على أحوال ثلاث: هي جمعه في صدره، وحفظه، في الآية الأولى والثانية، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل، في الآية الثالثة، وتفسيره وبيانه وإيضاح معناه في الآية الرابعة. ثم انتقل البيان إلى حال الإنسان السابق المنكر البعث، فوبخه وقرعه على إنكاره البعث، فقال تعالى مبينا سبب الإنكار: كَلَّا، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث، فإنه يحملكم على التكذيب بيوم القيامة، ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الحق والقرآن العظيم، محبتكم واهتمامكم بدار الدنيا العاجلة، وتشاغلكم عن الآخرة وترككم العمل لها. ولفظ كَلَّا عند سائر المفسرين: معناه حقا، أي حقا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة، والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها، ويتركون الآخرة ويعرضون عنها. وقال الزمخشري: كلا: ردع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عادة العجلة، وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل، وطبعتم عليه،

تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة «1» . ثم أبان الله تعالى حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة، فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي وجوه المؤمنين في الجنة حسنة بهية مشرقة مسرورة، ترى ربها عيانا، ووجوه الفجار في النار عابسة كالحة كئيبة، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة تكسر فقار الظهر. قال الأزهري عن مجاهد الذي فسر النظر بالانتظار: قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال: نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل: نظرت إلى فلان، ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار، قالوا: نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا. قال الزمخشري في قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ: تنظر إلى ربها خاصة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، فإنه يدل على معنى الاختصاص، ثم رجح أن الآية تفيد معنى التوقع والرجاء «2» . وهذا منه بسبب كونه من المعتزلة الذين يقولون: لا يدل ظاهر الآية على رؤية الله تعالى لأن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس اسما للرؤية، بل لمقدمة الرؤية، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي، التماسا لرؤيته، فيكون نظر العين مقدمة للرؤية، وتأولوا قوله تعالى: ناظِرَةٌ بمعنى أن أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله. وأجاب الرازي بأننا نسلم أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة.. إلخ لكنا نقول: لما تعذر حمله على حقيقته، وجب حمله على مسببه وهو الرؤية، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار لأن

_ (1) الكشاف: 3/ 293- 294 (2) المرجع السابق: ص 294

تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار. ثم أجاب عن قولهم: النظر جاء بمعنى الانتظار بأن هذا كثير في القرآن، ولكنه لم يقرن البتة بحرف (إلى) كقوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد 57/ 13] وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف 7/ 53] وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة 2/ 210] . وإذا فرضنا أن النظر المعدّى بحرف (إلى) جاء في اللغة بمعنى الانتظار، لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع، كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه، حتى يحسن ذكره، في معرض الترغيب في الآخرة «1» . وقال النيسابوري: وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي، فهذا في حقه تعالى محال لأنه منزه عن الجهة والمكان، فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية، وهذا مجاز مشهور «2» . وأيدت الأحاديث المتواترة ما فهمه الجمهور من دلالة الآية على رؤية الله تعالى، فقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها كما قال ابن كثير، ثم أورد الأحاديث وقال: وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام «3» . وكذلك قال الشوكاني في تفسيره العظيم (فتح القدير) بعد أن فسر آية إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ بقوله: أي إلى خالقها، ومالك أمرها، ناظرة، أي تنظر

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 30/ 226- 229 (2) غرائب القرآن: 28/ 111 (3) تفسير ابن كثير: 4/ 450

إليه: هكذا تواترت الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. روى البخاري في صحيحة: «إنكم سترون ربكم عيانا» ، وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر، ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: إنكم ترون ربكم كذلك» . وفي الصحيحين أيضا عن جرير قال: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم ترون ربكم، كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها، فافعلوا» . وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن» . وأخرج مسلم عن صهيب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة، وتنجّنا من النار! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم، وهي الزيادة» ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الآية [يونس 10/ 26] . وقال الألوسي: والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب: ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى

فقه الحياة أو الأحكام:

وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين، لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين «1» . ونظير الآية قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 80/ 38- 42] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تكفل الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمور لحفظ القرآن إلى الأبد: وهي جمعه في صدره عليه الصلاة والسلام، وتلاوته، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والمشكلات. 2- إن التعجل مذموم مطلقا، ولو في أمور الدين. 3- إن سبب إنكار المشركين البعث والحساب والجزاء هو إيثار الدار الدنيا والحياة العاجلة فيها، وترك الاستعداد للآخرة والعمل لها، فعلى المؤمن أن يفر من غير الله إلى الله، ولا يستعين في كل أموره إلا به، على نقيض الكافر الذي كان يفر من الله إلى غيره حين قال: (أين المفر؟) . 4- ثبوت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة، وحرمان الفجار منها، كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وقد تقدم في

_ (1) تفسير الألوسي: 29/ 144

تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث [سورة القيامة (75) الآيات 26 إلى 40] :

حديث مسلم عن صهيب أن رؤية الله عز وجل هي الزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] . 5- تكون وجوه الكفار الفجار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة، مستيقنة أنه سيحل بها عذاب شديد، وداهية عظيمة. تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) الإعراب: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي لم يصدق ولم يصل، كقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد 90/ 11] أي لم يقتحم. يَتَمَطَّى أصله يتمطط، أي يتبختر، من المطيطاء (اسم مشية بني مخزوم في الجاهلية ومنهم أبو جهل) فأبدل من الطاء الآخرة ياء، مثل تظنيت وأصله: تظننت، وأمليت وأصله: أمللت، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَوْلى مبتدأ، ولَكَ خبره، وحذف خبر أَوْلى الثاني، اجتزاء بخبر الأول عنها وأولى: ممنوع من الصرف للتعريف ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَنْ يُتْرَكَ سد مسد مفعولي. يَحْسَبُ وسُدىً حال من ضمير يُتْرَكَ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى الذَّكَرَ وَالْأُنْثى منصوبان على البدل من الزَّوْجَيْنِ.

البلاغة:

عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى لا يجوز إدغام إحدى الياءين في الأخرى لأن الحركة في الثانية حركة إعراب. البلاغة: بَلَغَتِ التَّراقِيَ كناية عن الإشفاء على الموت. صَدَّقَ وكَذَّبَ بينهما طباق. السَّاقُ والْمَساقُ بينهما جناس ناقص. وقوله: الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ كناية عن الشدة. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى التفات من الغيبة إلى المخاطب، تقبيحا له وتهجينا. المفردات اللغوية: التَّراقِيَ جمع ترقوة، وهي العظام الممتدة من الحلق إلى العاتق من اليمين والشمال، والمراد بلوغ الروح أعالي الصدر. وَقِيلَ قال من حوله. مَنْ راقٍ من يرقيه وينجيه ليشفى، كما يرقى المريض، والمراد: هل من طبيب يشفي حينئذ. الْفِراقُ فراق الدنيا، أي وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا وأحبائها وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت إحدى ساقيه بالأخرى عند الموت، فلا يقدر تحريكها. الْمَساقُ السوق إلى الله تعالى وحكمه، والمعنى: إذا بلغت الروح الحلقوم، تساق إلى حكم ربها. فَلا صَدَّقَ الإنسان. وَلا صَلَّى أي لم يصدق بما يجب تصديقه، أو لم يصدّق ماله، بأن لم يؤد زكاته، ولم يؤد صلاته المفروضة. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. يَتَمَطَّى يتبختر في مشيته إعجابا وافتخارا. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي ويل لك، من الولي، فهو دعاء وأصله: أولاك الله ما تكرهه أو أولى لك الهلاك، واللام مزيدة كما في رَدِفَ لَكُمْ أو للتبيين. وقوله: فَأَوْلى أي فهو أولى بك من غيرك. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تأكيد، أي أنت أولى بتكرر ذلك عليك مرة بعد أخرى، وتكون الجملة الأولى دعاء عليه بقرب المكروه، والثانية دعاء عليه بأن يكون أقرب إلى المكروه من غيره. أَيَحْسَبُ يظن. سُدىً مهملا لا يكلف بالشرائع ولا يجازى ولا يحاسب، وهو

سبب النزول نزول الآية (34، 35) :

يتضمن تكرار إنكاره للحشر لأن جزاء التكليف قد لا يكون إلا في الآخرة، وهذا دليل على إثبات البعث لأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع مع العاصي. نُطْفَةً ماء قليلا، وتجمع على نطف ونطاف. يُمْنى يصب في الرحم، وقرئ: «تمنى» . ثُمَّ كانَ المني. عَلَقَةً قطعة دم جامد. فَخَلَقَ أي أوجد الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة. فَسَوَّى أي فسوّاه شخصا مستقلا، بأن قدّره وعدّله وعدل أعضاءه. فَجَعَلَ مِنْهُ من المني الذي صار علقة (قطعة دم) ثم مضغة (قطعة لحم) . الزَّوْجَيْنِ الصنفين أو النوعين من البشر. الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بأن يرزق النوعان تارة، أو ينفرد أحدهما عن الآخر تارة، وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة والبعث. أَلَيْسَ ذلِكَ الفعال لهذه الأشياء. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال صلّى الله عليه وسلّم: بلى. سبب النزول: نزول الآية (34، 35) : أَوْلى لَكَ فَأَوْلى..: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر 74/ 30] قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدّهم (العدد) والشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي أبا جهل، فيقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. وأخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل نفسه، أم أمره الله به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله. المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى تعظيم أحوال الآخرة وهي القيامة العظمى، ووصف ما فيها من أهوال، وما عليه حال السعداء وحال الأشقياء، بيّن أن الدنيا لا بد

التفسير والبيان:

لها من نهاية ووصول إلى تجرع مرارة الموت وهو القيامة الصغرى لأن الموت أول منزلة من منازل الآخرة، فإذا لم يؤمن الكافر بأمر القيامة، لا يمكنه أن يتخلص من الموت، وتجرع آلامه، وتحمل آفاته. ثم استدل الله تعالى لإثبات البعث بأمرين: الأول- أن العدل يقضي بأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع والعاصي، وذلك لا يكون إلا في الآخرة. الثاني- أنه تعالى كما قدر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في تقدير البشر. التفسير والبيان: كَلَّا، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ كَلَّا إذا كانت رادعة، فالمعنى: لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا، وإذا كانت بمعنى حقا، فالمراد: حقا إذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق. والضمير في بَلَغَتِ للنفس لدلالة قرينة الحال أو المقال، كما في قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة 56/ 83] . والظاهر المعنى الأول، قال الزجاج: كَلَّا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعرفتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي به تنتهي العاجلة، وتنتقلون إلى الآجلة دار الخلود. وعلى هذا يكون المعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة،

وتنبهوا إذا بلغت الروح أو النفس أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله والموت وقال من حضر المحتضر: هل من يرقيه ويشفيه، وهل من طبيب شاف؟ ولكن لن يغنوا عنه من قضاء الله شيئا وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد. وعبر عن اليقين بالظن لأن الروح ما دامت في البدن، يطمع صاحبها في الحياة، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، كما ذكر الرازي. والآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه، باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقا، وهو يدل على أن الروح باقية فإن الفرق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف «1» . وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت ساقه على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، فماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوّالا عليهما، واجتمع عليه أمران: الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهزون روحه. ويصح أن يكون ذلك كناية عن الشدة، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم 68/ 42] والمراد: اتصلت شدة فراق الدنيا، وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك، بشدة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي تساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربك، فتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 231

فقوله: إِلى رَبِّكَ أي إلى حكمه خاصة. والْمَساقُ السوق، فحكمه هو المسوق إليه. وقيل: السوق إلى الله لا إلى غيره، فهو السائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار. ثم أوضح الله تعالى كيفية عمل هذا المحتضر فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وبالدنيا، فقال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي لم يصدق بالرسالة النبوية ولا بالقرآن، ولا صلى لربه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله جذلان أشرا بطرا، يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك، كسلانا لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ، انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين 83/ 31] . لقد جمع بين ترك العقيدة أو أصول الدين في أنه ما صدق بالدين، ولكن كذب به، وبين إهمال فروع الدين في أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وبين الإساءة لطبيعة الدنيا وسلوكها في أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته. والآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان. ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وتوعده ودعا عليه بقوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي وليك الويل، ويتكرر عليك هذا الدعاء، والمعنى: ويل لك وأهلكك الله، وليتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت الجدير بهذا. وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به، المتبختر في مشيه، يقصد

به أنه يحق لك أن تمشي هكذا، وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد، وهو كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] وقوله سبحانه: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات 77/ 46] وقوله عز وجل: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر 39/ 15] وقوله عز من قائل: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] . قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل، ثم قال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي، ثم انسلّ ذاهبا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام. ولما كان يوم بدر أشرف على القوم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتلة. ثم أقام الله تعالى دليلين على صحة البعث لتأكيد ما جاء في أول السورة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ: الأول- أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي أيظن أن يترك الإنسان في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة، فلا بد من الجزاء حتى لا يتساوى المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، واقتضت الحكمة الإلهية تأجيل الجزاء إلى عالم الآخرة، وترك تعجيله، ليتسنى وجود الفرصة المواتية الكافية في أثناء العمر والحياة للإيمان والصلاح، كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه 20/ 15] . وقال سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص 38/ 28] .

ونظير الآية: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 23/ 115] . الثاني- أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي أما كان ذلك الإنسان قطرة أو نطفة ضعيفة من مني يراق في الرحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم، ثم مضغة أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث، كما كانت عليه في الدنيا؟ بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء. وقوله: فَخَلَقَ أي فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة، وقوله فَسَوَّى أي فعدّل أركانه وكمل نشأته ونفخ فيه الروح، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة. وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه. روى ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه، والحاكم وصححه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ منكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين 95/ 1] وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التين 95/ 8] فليقل: بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة 75/ 1] فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة 75/ 40] فليقل: بلى، ومن قرأ المرسلات، فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ [المرسلات 77/ 50] فليقل: آمنا بالله» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- ذكّر الله تعالى الناس قاطبة بشدة الحال وصعوبة الأمر عند نزول الموت، فعند الاحتضار يجتمع على الإنسان أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، ويجتمع عليه أيضا شيئان محزنان: فراق الدنيا والأهل والولد حين معاينة الملائكة، واتصال شدة الدنيا بشدة أول الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع على الآخرة. 2- يكون الشّوق في يوم القيامة إلى الخالق، ويكون المرجع والمآب إلى حكم الله، إما إلى الجنة وإما إلى النار. 3- يكون الكافر أولى وأجدر بالعذاب والهلاك لفساد العقيدة والعمل والخلق، فلم يصدّق بالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بالقرآن ولم يصلّ الصلاة المفروضة التي أمره الله بها، وتجرد عن إنسانيته بالتكبر والتبختر، افتخارا بالمال والولد، واعتزازا بالقوة الجسدية أو الجاه، لذا جاء التهديد بعد التهديد، والوعيد بعد الوعيد في قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فهو وعيد أربعة لأربعة، أي وعيد بأربعة أنواع من العذاب لأربعة أنواع من الأمور: ترك الإيمان والصلاة وتكذيب الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، والتبختر. 4- أعاد الله تعالى في آخر السورة ما ذكر في أولها بقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وقد ذكر هذا لإثبات الحشر والبعث والقيامة بدليلين: الأول- لا بد في الحياة من التكليف لتنظيم الحياة وتهذيب الأنفس ودرء

المفاسد، والتكليف لا يحسن، ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة. الثاني- الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة، فمن قدر على بدء الخلق وإيجاد الإنسان، فهو أقدر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى.

سورة الإنسان، أو الدهر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الإنسان، أو: الدّهر مدنيّة وهي إحدى وثلاثون آية. تسميتها: سميت سورة الإنسان لافتتاحها بالتنويه بخلق الإنسان وإيجاده، بعد أن لم يكن شيئا موجودا، ثم صار خليفة في الأرض، وخلق له جميع ما في الأرض من خيرات ومعادن وكنوز. مناسبتها لما قبلها: تتعلق السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- ذكر الله تعالى في آخر السورة السابقة مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم جعل منه الصنفين: الرجل والمرأة، ثم ذكر في مطلع هذه السورة خلق آدم أبي البشر، وجعله سميعا بصيرا، ثم هدايته السبيل، وما ترتب عليه من انقسام البشر إلى نوعين: شاكر وكفور. 2- أجمل في السورة المتقدمة وصف حال الجنة والنار، ثم فصل أوصافهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنة. 3- ذكر سبحانه في السورة السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار في يوم القيامة، وذكر في هذه السورة ما يلقاه الأبرار من النعيم.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: بالرغم من كون هذه السورة مدنية في قول الجمهور، فإنها عنيت بالحديث عن أحوال الآخرة، ولا سيما تنعم الأبرار في دار الخلد والنعيم، أما من قال بأنها مكية فرأيه متفق مع موضوعها. وقد افتتحت بالكلام عن مبدأ خلق الإنسان، وتزويده بطاقات السمع والبصر، وهدايته السبيل، ثم انقسامه إلى فئتين: شاكر وكفور، والإخبار عن جزاء الشاكرين والجاحدين ووصف الجنة والنار: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ... [الآيات: 1- 6] . ثم أشادت بأعمال الشاكرين من الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لوجه الله، والخوف من عذاب الله: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ.. [الآيات: 7- 11] . وأردفت ذلك بوصف ما لهم عند ربهم من الجنان والثواب والفضل والإكرام: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الآيات: 12- 22] . ثم أبانت مصدر تنزيل القرآن، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر الجميل، وذكر الله، وقيام الليل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا.. [الآيات: 23- 26] . ونوّهت بشيء تضمنته السورة السابقة وهو حب الدنيا العاجلة وترك الآخرة، وتهديدهم بتبديل أمثالهم إن داموا على الكفر والعناد وإمعان الأذى: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.. [الآيات: 27- 28] . وختمت السورة الكريمة بإعلان أن القرآن تذكرة وعظة لجميع البشر وندبهم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.. [الآيات: 29- 31] .

خلق الله الإنسان وهدايته السبيل [سورة الإنسان (76) الآيات 1 إلى 3] :

خلق الله الإنسان وهدايته السبيل [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) الإعراب: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ هَلْ إما بمعنى قد أي أقد لأن الأصل أهل ثم حذفت الهمزة، أو يكون الاستفهام بمعنى التقرير، وهو تقرير موجه لمن أنكر البعث، يراد به انتزاع إقراره بهذه الحقيقة الأبدية فيقال له: من أحدث الإنسان بعد العدم؟ ونظرا لبداهة الجواب كان لا بد من (نعم) وإذا أقر بأن الخالق هو الله فكيف يمتنع عليه إعادة هذا الإنسان الذي خلقه أول مرة؟ فإن من قدر على إحداث شيء بعد أن لم يكن كان على إعادته أولى. لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً الجملة حال من الإنسان. نَبْتَلِيهِ في موقع الحال. إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً منصوبان على الحال من هاء: هَدَيْناهُ. البلاغة: شاكِراً وكَفُوراً بينهما طباق. وكفور صيغة مبالغة وعبر به وليس بالكافر مراعاة للفواصل وإشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا وإنما المؤاخذة بالتوغل بالكفر. مَذْكُوراً بَصِيراً كَفُوراً مَنْثُوراً طَهُوراً مَشْكُوراً.. إلخ سجع مرصع وهو من مراعاة الفواصل. المفردات اللغوية: هَلْ استفهام تقرير وتقريب فهو بمعنى «قد» . الْإِنْسانَ آدم عليه السلام أو جنس الإنسان وهو الراجح لقوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حِينٌ جزء محدود من الزمان قدره بعضهم بأربعين سنة الدَّهْرِ الزمان الممتد غير المحدود. لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً كان

التفسير والبيان:

شيئا منسيا لا يذكر معدوما لا يعرف. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي جنس الإنسان. نُطْفَةٍ قليل من الماء. أَمْشاجٍ أخلاط جمع مشج ومشيج أي من اختلاط ماء الرجل وماء المرأة وامتزاجهما. نَبْتَلِيهِ نختبره بالتكليف أي مريدين اختباره عند التكليف والتأهل. فَجَعَلْناهُ بسبب ذلك. سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فهو كالمسبب من الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على نَبْتَلِيهِ. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بيّنا له طريق الخير والهدى بإقامة الأدلة وإنزال الآيات وبعث الرسل. التفسير والبيان: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي قد أتى على الإنسان (جنس الإنسان) زمن كان فيه منسيا غير موجود فلم يكن آدم وبنوه شيئا معروفا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة المتقدمين عليه وهم الملائكة والجن. وهذا إخبار بكون الإنسان في بدء الخلق معدوما غير مخلوق والآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة. وهي حقيقة لا ينكرها أحد ويؤكدها علماء طبقات الأرض الذين قالوا: لم يوجد الإنسان على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال. قال الفرّاء وثعلب: المعنى أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم لقوله تعالى بعدئذ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ. ثم أخبر الله تعالى عن بدء تكاثر نوع الإنسان بعد خلق آدم عليه السلام فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي إننا نحن الخالق الإله أوجدنا أو خلقنا ابن آدم من مني أو ماء قليل مختلط ممتزج بين ماءي الرجل والمرأة من يدين بهذا الخلق ابتلاءه أي اختباره بالخير

والشر وبالتكاليف الشرعية بعد بلوغ سن التكليف وأهلية الخطاب التشريعي وزوّدناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز الامتحان واستماع الآيات والتأمل في دلائل الكون والتفكر في براهين الوجود الدالة على الخالق الواحد الأحد. فبالسمع والبصر والفؤاد وسائر الحواس يتمكن هذا الإنسان من الطاعة والمعصية. ولما جعله تعالى بهذا التركيب وامتن عليه بهاتين الصفتين (السمع والبصر) وهما آلة التمييز والفهم وأشرف الحواس التي تدرك بها أعظم المدركات أخبر تعالى أنه هداه السبيل أي أرشده إلى الطريق وعرفه مآله طريق النجاة ومآل طريق الهلاك وبيّن له طريق الهدى وطريق الضلال فقال: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أي بيّنا وأوضحنا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر وبصّرناه بعواقب الأمور وعرّفناه منافع الأشياء ومضارّها التي يهتدي إليها بطبعه السليم وكمال عقله فآل أمره إلى أن ينقسم نوع الإنسان إلى قسمين: شاكر لأنعم الله مؤمن به مهتد بهديه. وكافر جاحد للنعمة معرض عن الطاعة صادّ عن الهدي الإلهي. ونظير الآية: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد وهذا قول الجمهور ولم نجبره أو نكرهه على شيء من الإيمان أو الكفر وإنما اختار الإنسان لنفسه ما شاء كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت 41/ 17] . وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- لم يكن الإنسان قبل خلقه بأمر ربه شيئا معروفا وظل على هذا النحو حينما من الزمان غير معروف. 2- أوجد الله أصل الإنسان من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم حدث التناسل والتكاثر من شيء ضعيف مهين وهو التقاء نطفتي الرجل والمرأة. 3- كان القصد من خلق الإنسان هو الابتلاء والاختبار لذا أمده الله تعالى بمفاتيح المعرفة والهداية والعلم وأعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز. 4- أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركّب الإنسان وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بيّن له سبيل الهدى والضلال بقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ. 5- الآية المتقدمة دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل وهذا صحيح لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف وهي الحواس الظاهرة والباطنة. 6- المراد من هداية السبيل: خلق الدلائل وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب. 7- أيا كان نوع الإنسان ومنهجه شاكرا أو كفورا فقد بيّن الله ما يحتاج إليه من الخير والطاعة. 8- ليس المراد بالشاكر: من يشتغل بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم

جزاء الكفار والأبرار يوم القيامة [سورة الإنسان (76) الآيات 4 إلى 12] :

يتحقق الحصر المفهوم من كلمة إِمَّا بل المراد من الشاكر: الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور: الذي لا يقرّ بوجوب الشكر عليه إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه وحينئذ يتحقق الحصر: وهو أن المكلف: إما أن يكون شاكرا وإما أن يكون كفورا. وبهذا يرد على الخوارج الذين احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر لأن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر «1» . جزاء الكفار والأبرار يوم القيامة [سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 12] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) الإعراب: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا سَلاسِلَ: قرئ بتنوين لمجاورته أَغْلالًا وقرئ من غير تنوين لأنه ممنوع من الصرف. وكذا أيضا قَوارِيرَا [الآية 15] قرئ منونا وغير منون. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عَيْناً منصوب من ستة أوجه: على أنه بدل من قوله:

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 239

البلاغة:

كافُوراً أو على التمييز أو لقيامه مقام مفعول محذوف ل يَشْرَبُونَ تقديره: يشربون من كأس ماء عين أو على البدل من كَأْسٍ على الموضع أو على الحال من ضمير مِزاجُها وفيه خلاف أو منصوب بتقدير أعني. ويَشْرَبُ بِها الباء إما بمعنى «من» أي يشرب منها أو زائدة أي يشرب ماءها لأن العين لا تشرب وإنما يشرب ماؤها. البلاغة: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ لف ونشر مشوّش فإنه تعالى قال: شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ثم أعاد بالذكر على الثاني دون الأول. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ جناس اشتقاق. يَوْماً عَبُوساً مجاز عقلي إسناد العبوس إلى اليوم من إسناد الشيء إلى زمانه مثل: نهاره صائم. فَوَقاهُمُ ولَقَّاهُمْ جناس غير تام. المفردات اللغوية: أَعْتَدْنا هيأنا. سَلاسِلَ قيودا توضع في الأرجل يسحبون بها إلى النار. وَأَغْلالًا أطواقا وقيودا توضع في الأيدي وتجمع إلى أعناقهم جمع غلّ: وهو القيد. وَسَعِيراً نارا مسعّرة بها يحرقون ويعذبون. الْأَبْرارَ أهل الطاعة والإخلاص جمع برّ والبررة جمع بارّ كما جاء في الصحاح. كَأْسٍ قدح أو إناء زجاجة فيها خمر والمراد: من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومِنْ: للتبعيض. مِزاجُها ما تمزج به. كافُوراً طيب معروف له رائحة جميلة. يَشْرَبُ بِها أي منها. عِبادُ اللَّهِ أولياؤه. يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يقودونها ويجرونها حيث شاؤوا إجراء سهلا ويخرجونها من الأرض والمراد أنها تحت تصرفهم وأمرهم. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ بِالنَّذْرِ: التزام قربة لله تعالى والمراد يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات. شَرُّهُ شدائده. مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا في البلاد. عَلى حُبِّهِ محبة الطعام أو الإطعام. مِسْكِيناً محتاجا لفقره. وَيَتِيماً من لا أب له. وَأَسِيراً من أسر من الكفار في حرب إسلامية ويشمل أيضا الأسير المؤمن والمملوك والمسجون. لِوَجْهِ اللَّهِ ابتغاء لرضوانه وطلب ثوابه لا لتوهم المنّ وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. شُكُوراً شكرا. يَوْماً عذاب يوم. عَبُوساً تعبس فيه الوجوه أي كريه المنظر لشدته.

سبب النزول نزول الآية (8) :

قَمْطَرِيراً شديد العبوس والهول مظلما. فَوَقاهُمُ دفع عنهم بسبب خوفهم وتحفظهم منه. وَلَقَّاهُمْ أعطاهم. نَضْرَةً حسنا وبهاء. وَسُرُوراً حبورا. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرّمات وإيثار الأموال. جَنَّةً بستانا يأكلون منه. وَحَرِيراً يلبسونه. سبب النزول: نزول الآية (8) : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ..: أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله: وَأَسِيراً قال: لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يأسر أهل الإسلام ولكنها نزلت في أسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في العذاب فنزلت فيهم فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمرهم بالإصلاح إليهم. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة لكن القصة لم تصح. قال القرطبي: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا فهي عامة «1» . المناسبة: بعد بيان أن الله هدى الناس إلى طريق الخير وطريق الشرّ ثم انقسامهم بعدئذ فريقين: شاكرا وكافرا ذكر تعالى على جهة الوعيد أنه أعد للكافرين قيودا ونارا وللمؤمنين الطائعين جنة فيها ألوان النعيم من المأكل والمشرب والملبس لتتم المقابلة أو المقارنة بين الجزاءين مع بيان العلة أو السبب لكل جزاء.

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 130

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً أي إننا هيأنا وأعددنا لكل من كفر بالله وبنعمه وخالف أمره سلاسل في أرجلهم يقادرون بها إلى الجحيم قيودا تشد بها أيديهم إلى أعناقهم ونارا تستعر وتتوقد لنعذبهم ونحرقهم بها. والسلاسل: القيود في جهنم كل سلسلة سبعون ذراعا كما جاء في سورة الحاقة. والأغلال: ما تغل به الأيدي إلى الأعناق. ونظير الآية: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر 40/ 71- 72] . فهذا إخبار عما أرصده الله عزّ وجلّ للكافرين الأشقياء من خلقه ثم أتبعه بما أعد للمؤمنين الطائعين فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي إن المؤمنين أهل الطاعة والإخلاص الذين يؤدون حق الله بالتزام فرائضه واجتناب معاصيه يشربون من خمر ممزوجة بكافور بارد أبيض طيب الرائحة ليكمل ريح الخمر وطعمها ويطيب وممزوجة أيضا بماء عين يشرب منها عباد الله الصالحون يجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم وينتفعون بها كما يشاءون ويشقّونها شقّا كما يشقّ النهر ويتفجر الينبوع. وقيل: الكافور: اسم عين في الجنة يقال له عين الكافور. وقوله: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً معناه يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم. والتفجير: الإنباع. ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أسباب لهذا التكريم وثواب الأبرار فقال: 1- 2- يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي يوفون

بما أوجبوه على أنفسهم من نذور تقربا إلى الله تعالى ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها. والنذر في الشرع: ما أوجبه المكلف على نفسه لله تعالى من صلاة أو صوم أو ذبح أو غيرها مما لم يكن عليه واجبا بالشرع. قال الرازي: اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ. ويخافون عذاب يوم هو يوم القيامة كانت شدائده وأهواله فاشية منتشرة في كل جهة وعامة على الناس إلا من رحم الله. وإنما سميت الأهوال شرّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه ولكونها صعبة عليه كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شرورا. والآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر لأنه تعالى عقبه بقوله: يَخافُونَ يَوْماً وهذا يقتضي أن الخوف من عذاب الله هو سبب الوفاء بالنذر. 3- وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له المحتاج الفقير العاجز عن الكسب واليتيم الحزين الذي فقد أباه وعائله والأسير المقيد المحبوس أو المملوك سواء من أهل الإيمان أو من المشركين. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة وإصلاحا للإنسان وإحسانا لا ينسى. وفي قوله عَلى حُبِّهِ تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله. ونظير الآية قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد 90/ 11- 16] وقوله سبحانه: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة 2/ 177] وقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 3/ 92] .

وبما أن تمام الطاعة لا يكون إلا بالإخلاص وقرن النية بالعمل ذكر النية بعد تلك الأعمال فقال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أي إنما قصدنا من هذا الإطعام هو ابتغاء رضوان الله وحده ورجاء ثوابه دون منّ عليكم ولا ثناء من الناس ولا توقع مكافأة تنقص الأجر ولا طلب مجازاة منكم ولا إرادة شكر منكم لنا بل هو خالص لوجه الله تعالى. وهذا أي طلب رضا الله عنهم هو الهدف الأول ثم أعقبه بالهدف الثاني وهو خوف يوم القيامة وأهوالها فقال سبحانه: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أي إننا مع طلب رضوان الله نخاف من أهوال يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته صعب شديد. ووصف اليوم بالعبوس مجاز وصف بصفة أهله أو تشبيها في ضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء. ويلاحظ أنه سبحانه وصفهم بالخوف من أهوال القيامة في موضعين: في قوله المتقدم: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وقوله هنا: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. ثم أوضح الله تعالى أنه حقق للأبرار الهدفين وذكر ما سيجزيهم على أعمالهم وإخلاصهم فذكر الثاني أولا ثم الأول فقال: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أي فدفع الله عنهم شرّ ذلك اليوم العبوس وآمنهم مما خافوا منه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه وأعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب لطلبهم رضا الله. والنضرة: البياض والنقاء في وجوههم من أثر النعمة.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونظير الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس 80/ 38- 39] . وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً أي وكافأهم بسبب صبرهم على التكاليف جنة يدخلونها وحريرا يلبسونه، أي أعطاهم منزلا رحبا، وعيشا رغدا، ولباسا حسنا، كما قال تعالى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الحج 22/ 23] . والتعبير بقوله: فَوَقاهُمُ ولَقَّاهُمْ بصيغة الماضي، لتأكيد تحقق الوعد. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن انقسام الناس باختيارهم إلى فريقين: شاكر وكافر، اقتضى تنوع الجزاء بعد التكليف والتمكين من المأمورات، فمن كفر فله العقاب من السلاسل في الأرجل، والأغلال في الأيدي، والنار المستعرة التي تحرق الجسد ومن وحّد وشكر، فله الثواب الجزيل والجنة بما فيها من ألوان النعيم. والآية دليل على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة لأن قوله تعالى: أَعْتَدْنا إخبار عن الماضي. ويلاحظ أن الاختصار في ذكر العقاب، مع الإطناب في شرح الثواب، يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى «1» . 2- وصف الله تعالى نعيم أهل الجنة بما يبهر، فذكر أن الأبرار: أهل التوحيد والصدق يشربون في الجنة الخمر غير المسكرة، الممزوجة بالكافور، المختومة بالمسك، المختلطة بعين ماء عذبة في الجنة، يشربون منها، وتكون تحت تصرفهم وأمرهم يجرونها كما يشاءون، ويشقّقونها شقّا، كما يفجر النهر في الدنيا.

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 256 وما بعدها.

وتلك العين هي السلسبيل كما جاء في حديث ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع عيون في الجنة: عينان تجريان من تحت العرش، إحداهما التي ذكر الله: يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً والأخرى الزنجبيل، والأخريان نضّاختان من فوق العرش: إحداهما التي ذكر الله عينا فيها، تسمى سلسبيلا، والأخرى التسنيم» . وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج. 3- إن علة أو سبب هذا النعيم للأبرار أمور ثلاثة: وفاؤهم بالنذور وأداؤهم ما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيرها من الواجبات وخوفهم من يوم القيامة ذي الشدائد والأهوال الفاشية المنتشرة في كل مكان وإطعامهم الطعام على قلّته وحبهم له وشغفهم به ذا مسكنة وفقر وحاجة، ويتيما من يتامى المسلمين، والأسير المؤمن أو الكافر الذي يؤسر فيحبس. وقد أوصى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأسارى قائلا: «استوصوا بالأسارى خيرا» «1» . ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. وتقدم لدينا أن الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر. وأجاز عامة العلماء الإحسان إلى الكفار في بلاد الإسلام من التطوعات لا من الواجبات. وإطعام الأسير واجب أولا على الإمام (الدولة) فإن لم يفعله وجب على المسلمين. 4- إطعام هؤلاء بقصدين أو غرضين: رضا الله عنهم، وخوف يوم القيامة.

_ (1) أخرجه الطبراني عن أبي عزيز، وهو حديث حسن.

مساكن أهل الجنة وأشربتهم وخدمهم وألبستهم [سورة الإنسان (76) الآيات 13 إلى 22] :

5- أعطى الله الأبرار ما يحقق الغرضين، فوقاهم ودفع عنهم شرور ومحاذير ومخاطر يوم القيامة وآمنهم من خوفهم، وأعطاهم وآتاهم حين لقوه نضرة أي حسنا، وسرورا، أي حبورا، فتحقق لهم الغرضان: الحفظ من هول القيامة، وطلب رضا الله تعالى. قال الرازي: اعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب. 6- كذلك جزاهم الله بصبرهم على طاعة الله وعلى معصية الله ومحارمه جنان الخلد يدخلونها، والحرير يلبسونه. روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الصبر، فقال: «الصبر أربعة: أولها- الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب» «1» . هذا مع العلم بأن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها. مساكن أهل الجنة وأشربتهم وخدمهم وألبستهم [سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 136

الإعراب:

الإعراب: مُتَّكِئِينَ فِيها.. حال من الهاء والميم في جَزاهُمْ. وكذلك لا يَرَوْنَ في موضع نصب على الحال من ذلك الضمير، أو من ضمير مُتَّكِئِينَ. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها منصوب بالعطف على قوله: جَنَّةً في آية: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وظِلالُها: فاعل دانِيَةً. عَيْناً فِيها.. بدل من زَنْجَبِيلًا. وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ.. ثَمَّ: في موضع نصب إما لأنه ظرف مكان، ويكون مفعول رَأَيْتَ محذوفا، وإما لأنه مفعول رَأَيْتَ. وثَمَّ: مبني على الفتح لتضمنه لام التعريف لأنه معرفة، أو لتضمنه معنى الإشارة، والأصل في الإشارة أن يكون بالحرف، فكأنه تضمن معنى الحرف. عالِيَهُمْ ثِيابُ.. عالِيَهُمْ بفتح الياء منصوب لكونه ظرفا بمعنى فوقهم، أو على الحال من الهاء والميم في وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ أي يعلوهم في هذه الحالة. وقرئ بالسكون فيكون مبتدأ، وثِيابُ: خبره، وعالي: لفظه لفظ الواحد، والمراد به الجمع، كالسامر في قوله تعالى: سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون 23/ 67] . ويصح كونه صفة وِلْدانٌ. وثِيابُ سُندُسٍ: مرفوع ب عالِيَهُمْ سواء كان حالا أو وصفا. وخُضْرٌ إما بالجر صفة ل سُندُسٍ وإما بالرفع صفة ل ثِيابُ. وكذلك إِسْتَبْرَقٌ بالجر عطفا على سُندُسٍ، أو بالرفع عطفا على ثِيابُ. وإِسْتَبْرَقٌ في أصله: اسم أعجمي: وهو غليظ الديباج، وأصله إِسْتَبْرَقٌ فأبدلوا من الهاء قافا. وهو منصرف لأنه يحسن فيه دخول الألف واللام، وليس اسم علم كإبراهيم، ومن لم يصرفه فقد وهم. البلاغة: شَمْساً وزَمْهَرِيراً بينهما طباق. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً تشبيه رائع، أي كاللؤلؤ المنثور. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً إيجاز بالحذف، أي يقال لهم: إن هذا. وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً مجاز عن قبول الطاعة والثواب الكثير. زَمْهَرِيراً، قَوارِيرَا، تَقْدِيراً، مَنْثُوراً، كَبِيراً، طَهُوراً، مَشْكُوراً سجع مرصع، أي مراعاة الفواصل.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مُتَّكِئِينَ جالسين بتمكن وراحة، والغالب أن يكون الجلوس على جانب واحد، بالاعتماد على وسادة. الْأَرائِكِ السرر في الحجال، جمع أريكة: وهي السرير المجلل بالأستار أو الحجلة أو الكلّة (الناموسية) . لا يَرَوْنَ لا يجدون. شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي لا حرّا ولا بردا، والزمهرير: البرد الشديد. وَدانِيَةً قريبة. ظِلالُها ظلال أشجارها. وَذُلِّلَتْ سخرت وسهّلت ثمارها، وصارت في متناول الأيدي. قُطُوفُها ثمارها، جمع قطف، والمراد: أدنيت ثمارها، فينالها القائم والقاعد والمضطجع. بِآنِيَةٍ صحاف أو أواني الطعام، جمع إناء. وَأَكْوابٍ آنية الشراب، جمع كوب: وهو قدح أو كوز مستدير الفتحة، لا عروة فيه. قَوارِيرَا أوعية زجاجية، جمع قارورة: وهي الزجاجة المعروفة. قَدَّرُوها تَقْدِيراً قدرها السقاة الطوافون على قدر ريّ الشارب، من غير زيادة ولا نقصان، وذلك ألذ الشراب. كَأْساً أي خمرا، والكأس في الأصل: القدح الذي تكون فيه الخمر. مِزاجُها ما تمزج به. زَنْجَبِيلًا ماء يشبه الزنجبيل في الطعم، وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به، والزنجبيل: نبات ذو عرق يوضع في أخلاط البهارات، له رائحة طيبة وله لذع في اللسان، ينبت في بلاد الشام والهند والصين. عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا سميت بذلك لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها. والسلسبيل: الشراب اللذيذ. مُخَلَّدُونَ دائمو البهاء والحسن، لا يشيبون. حَسِبْتَهُمْ ظننتم لحسنهم. لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً كاللؤلؤ المنتثر في الصفاء والبياض. ثَمَّ هناك. نَعِيماً لا يوصف. وَمُلْكاً كَبِيراً واسعا لا غاية له. عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ يعلوهم ثياب الحرير الخضر، والسندس: ما رقّ من الحرير، وهو الظهائر. وَإِسْتَبْرَقٌ ما غلظ من الديباج، وهو البطائن. وَحُلُّوا ألبسوا حلية. أَساوِرَ جمع سوار. مِنْ فِضَّةٍ وفي موضع آخر: مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف 43/ 71] ، للدلالة على أنهم يحلّون من النوعين معا، ومفرّقا. شَراباً طَهُوراً نقيا من الشوائب، والطهور: صيغة مبالغة في طهارته ونظافته، خلافا لخمر الدنيا. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لهم: إن ما أعدّ لكم من الثواب جزاء أعمالكم الصالحة. مَشْكُوراً مجازي عليه، غير مضيّع. سبب النزول: نزول الآية (20) : وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن

المناسبة:

الخطاب على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت كسرى وملكه، وهرمز، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً. المناسبة: بعد بيان طعام أهل الجنة ولباسهم، ذكر الله تعالى أوصاف مساكنهم وكيفية جلوسهم فيها وأشربتهم وأوانيهم وخدمهم واعتدال هوائهم، ثم أشار إلى تجملهم بمحاسن الثياب والحلي، وذكر في النهاية أن هذه النعم جزاء عملهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن أوضاع أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم، فقال تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي جزاهم الله جنة، متكئين فيها على الأسرة المظللة بالحجال أو الكلل، لا يرون فيها حرّ الشمس، ولا برد الزمهرير، بل إن هواءها معتدل، جاء في الحديث: «هواء الجنة سجسج، لا حرّ ولا قرّ» والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس «1» . وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي وإن ظلال الأشجار قربة منهم، مظللة عليهم، زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس هناك، وسخرت وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. فقوله: وَدانِيَةً أي وجزاهم جنة أخرى

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 138 [.....]

دانية عليهم ظلالها. ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح عليه في الدنيا، وهو الضوء النوراني، فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنوّ الظلال: أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس، لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة، وقد أكّد هذا المعنى بقوله: وَذُلِّلَتْ.. أي لا تمتنع على قطّافها كيف شاؤوا «1» . ثم أخبر الله تعالى عن شرابهم وأوانيهم التي فيها يشربون، فقال: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضة، وبأكواب الشراب: وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم، وهي أيضا من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير وهي الزجاج، حتى يرى داخلها، من خارجها، وجاءت في الشكل والحجم كما يريدون لا تزيد ولا تنقص. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة» . وجاء في آية أخرى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف 43/ 71] . وهذا يدل على أنهم تارة يسقون بأكواب الفضة، وتارة بأكواب الذهب. والصحاف: هي القصاع. والفرق بين الآنية والأكواب: أن الأكواب كما تقدم هي الكيزان التي لا عرى لها، والآنية هي ما له عرى، كالقدح. ثم وصف الله تعالى مشروبهم نفسه قائلا: وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي ويسقى الأبرار أيضا في هذه الأكواب في الجنة خمرا ممزوجة بالزنجبيل، فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور

_ (1) غرائب القرآن: 29/ 124

كما تقدم وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل. أما المقرّبون فإنهم يشربون من كلّ منهما صرفا. عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي ويسقون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، سميت بذلك لسلاسة مائها، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في حلوقهم. قال ابن الأعرابي عن السلسبيل: لم أسمعه إلا في القرآن. وقال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة، فليس منه في الدنيا إلا الاسم. والفائدة في تسمية العين بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته، ولكن ليس فيها اللذع الذي هو مناف للسلاسة. ثم وصف خدمهم بقوله: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، يبقون فيها على حالة واحدة من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون، إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج غيرهم وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، ظننتهم كاللؤلؤ المنثور، قال ابن كثير: ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين، فإنه شبّههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة. ثم أجمل نعيمهم لأنه أعلى وأعظم مما سبق، ولأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد، ما دام في الدنيا، فخاطب نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أو كل راء قائلا: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ، رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي وإذا نظرت نظرا بعيدا

في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور، رأيت نعيما لا يوصف، وسلطانا وملكا عظيما لا يقدر قدره. جاء في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه، كما ينظر إلى أدناه» «1» . ثم وصف ملابسهم وحليهم بقوله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ أي لباسهم الذي يعلوهم هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر، والديباج الغليظ، وحلوا بأساور من فضة، وفي آية أخرى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف 18/ 31، فاطر 35/ 33] أي تارة تكون حليهم الفضة، وتارة الذهب. ثم ذكر الله تعالى شرابا آخر لهم غير الممزوج بالكافور أو بالزنجبيل، فقال: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي وسقاهم ربّهم بشراب غير ما سبق يطهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كما روي عن علي رضي الله عنه. والطهور مبالغة طاهر، والمراد أنها ليست بنجسة، ولا مستقذرة طبعا، ولا تؤول إلى النجاسة، ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم، له ريح كريح المسك. قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتضمر بطونهم من ذلك، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك. ثم ذكر الله تعالى علة هذا الفضل والنعيم، فقال: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي ويقال لهؤلاء الأبرار الممتعين بالجنان، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إن هذا المذكور من أنواع النعم،

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 457

فقه الحياة أو الأحكام:

كان لكم جزاء بأعمالكم، أي ثوابا لها، وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير، ويقبل طاعتكم، فشكر الله سبحانه لعمل عبده: هو قبوله لطاعته. ونظير الآية قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة 69/ 24] ، وقوله سبحانه: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف 7/ 43] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- يكون الأبرار أهل الجنة في غاية النعيم والراحة، فهم متكئون على الأرائك أي السرر في الحجال، ولا يرون في الجنة شدة حرّ كحر الشمس، ولا بردا مفرطا، وظلال الأشجار في الجنة قريبة منهم، فهي مظلّة عليهم، زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس ولا قمر، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثمّ. وتسخر لهم الثمار تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك، كما قال قتادة. ويدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة أو من ذهب، وبقوارير في صفاء الزجاج وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة، وقد قدّر أقدارها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. ويسقون في الجنة خمرا في آنية، ممزوجة بالزنجبيل تطييبا لرائحتها وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغّبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. ويشربون أيضا في الجنة من عين تسمى السلسبيل: وهو الشراب اللذيذ.

ويطوف عليهم بالآنية للخدمة ولدان يبقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرّ الأزمنة، فإذ شاهدتهم ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم لؤلؤا مفرقا في ساحات المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. والمراد دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة. وهناك في الجنة إذا رأيت ببصرك، رأيت نعيما لا يوصف، وملكا عظيما لا يقدر قدره. وثيابهم الحرير الأخضر الرقيق والديباج الغليظ، ويحلون في الجنة بحلي وأساور من ذهب أو فضة، حسبما يروق لهم، وإن كانوا رجالا. ويشربون من شراب آخر غير ما ذكر موصوف بغاية الطهر والنقاء، إما لإذهاب آثار الطعام وجعله يتفصد من الجسد عرقا، أو للترفع عن اللذات الحسية والتخلص من مفاسد الأخلاق الرديئة، كالحسد والحقد والبغض وغير ذلك. 2- يقال لهؤلاء الأبرار في الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إنما هذا المذكور من النعم ثواب عملكم، وكان عملكم مشكورا من قبل الله، وشكره للعبد: قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه.

أحوال الطائعين والمتمردين المشركين في الدنيا [سورة الإنسان (76) الآيات 23 إلى 31] :

أحوال الطائعين والمتمردين المشركين في الدنيا [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) الإعراب: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ.. نَحْنُ: في موضع نصب صفة لاسم «إن» للتأكيد، ولا يجوز أن يكون نَحْنُ ضمير فصل هنا لا محل له من الإعراب لأن من شرط الفصل أن يقع بين معرفتين أو في حكمهما، ولم يوجد هنا. ونَزَّلْنا: جملة فعلية في موضع رفع خبر «إن» . وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أَوْ: هنا للإباحة، أي لا تطع هذا النوع. والنهي في هذا كالأمر. ولو قال: لا تطع آثما، لا تطع كفورا، لانقلب المعنى لأنه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما. يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ وَالظَّالِمِينَ: منصوب بتقدير فعل، تقديره: ويعذب الظالمين، وجاز إضماره لأن أَعَدَّ لَهُمْ دلّ عليه. البلاغة: بُكْرَةً وَأَصِيلًا بينهما طباق. يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا مقابلة، حيث قابل بين المحبة والترك، وبين العاجلة والباقية.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: إِنَّا نَحْنُ نحن تأكيد لاسم إن نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي نزلناه مفرّقا مفصّلا منجّما لحكمة اقتضته، ولم ننزله جملة واحدة. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ داوم على حكم ربّك عليك بتبليغ رسالته. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أي الكفار. آثِماً أَوْ كَفُوراً الآثم: الفاجر المجاهر بالمعاصي، والكفور: شديد التعصب للكفر المغالي فيه وهو المشرك المجاهر بكفره. قال المفسرون: وهما حينئذ عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، قالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. ثم صار المراد كل آثم وكافر، لا تطع أيا كان فيما دعاك إليه من إثم أو كفر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ داوم على ذكره. بُكْرَةً وَأَصِيلًا أول النهار وآخره، فيشمل صلوات الفجر، والظهر، والعصر. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي في بعض الليل صلّ لله، ويشمل صلاتي المغرب والعشاء، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص لله. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أي وتهجد له طائفة طويلة من الليل، وهي صلاة التطوع. الْعاجِلَةَ الدنيا. وَراءَهُمْ أمامهم. يَوْماً ثَقِيلًا شديدا، أي يوم القيامة، مستعار من الثقل المتعب للحامل، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه. وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أحكمنا وقوينا أعضاءهم ومفاصلهم وكذلك ربطها بالأعصاب والعروق، وفي اللغة: الأسر: شدة الخلق والخلق. وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي وإذا أردنا أهلكناهم، وبدّلنا أمثالهم في الخلقة وشدة الأعضاء. إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إن هذه السورة أو الآيات القريبة موعظة وعبرة للناس. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا طريقا يتقرب إليه بالطاعة. وَما تَشاؤُنَ اتّخاذ السبيل بالطاعة. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا وقت مشيئة الله. عَلِيماً بخلقه وبما يستأهل كل أحد. حَكِيماً في فعله، لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته. يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي يدخل من يريد وهم المؤمنون في جنته، بعد الهداية والتوفيق للطاعة. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ أي عذّب أو كافا الظالمين وهم الكافرون. عَذاباً أَلِيماً مؤلما. سبب النزول: نزول الآية (24) : أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل

المناسبة:

قال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. المناسبة: بعد بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الآخرة، ثبّت الله تعالى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشرح صدره، بسبب ما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله، ثم أمره بالصبر على أذى قومه، ثم ذكر أحوال هذين الفريقين في الدنيا، مقدّما بيان أحوال الطائعين وهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمته على أحوال الكفار العصاة. التفسير والبيان: امتن الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما أنزله عليه من القرآن العظيم مفرّقا منجّما، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي إنا نحن الإله الحق أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن مفرّقا منجّما في الإنزال في مدى ثلاث وعشرين سنة، ولم ننزله جملة واحدة، ليسهل حفظه ووعيه والعمل به، وليتثبت المؤمنون في معالجة الحوادث، ولم تأت به من عندك كما يدّعيه المشركون. والمراد من ذلك تثبيت قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة افتراءات المشركين الذين نسبوا إليه الكهانة والسحر، وإعلام الناس قاطبة أن ما جاء به وحي من الله تعالى، لا من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبعد بيان هذه المقدمة، جاء الأمر بالصبر والنهي عن طاعة الكفار، فقال سبحانه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك من القرآن، فاصبر على قضاء الله وقدره في تأخير

نصرك على المشركين، إلى أجل اقتضته حكمته، وفي القيام بتبليغ رسالته ووحيه الذي أوحاه إليك، فلكل أجل كتاب، وسيتولاك ربك بحسن تدبيره، ولا تطع أحدا من الكافرين والمنافقين، المغالين في الكفر، أو مرتكبي الإثم والفجور والمعاصي إن أرادوا صدّك عما أنزل إليك، بل بلّغ ما أنزل إليك من ربّك، وتوكل على الله، فإن الله يعصمك من الناس. والآثم كما تقدم: هو مرتكب المعاصي، والكفور: هو جاحد النعمة، المغالي في الكفر، فكل كفور آثم، وليس كل آثم كفورا. ومن أمثلة الآثم: عتبة بن ربيعة لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق، يروى أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر، حتى أزوّجك ولدي، فإني من أجمل قريش ولدا. ومن أمثلة الكفور: الوليد بن المغيرة لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر، روي أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فإني من أكثرهم مالا، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أول حم السجدة إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [الآية 13] فانصرفا عنه، وقال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع. وبالرغم من أنه صلّى الله عليه وسلّم ما كان يطيع أحدا منهم، إلا أنه وجه النهي له لأنه القدوة، وإشارة إلى أن الناس محتاجون دائما إلى مواصلة التنبيه والإرشاد، لوجود نزعة الشر والفساد في نفوسهم، فلو أن أحدا استغنى عن توفيق الله وإرشاده، لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، فوجب على كل مسلم أن يرغب إلى الله تعالى ويتضرع إليه في أن يصونه عن اتباع الأهواء والشهوات. ثم عقّب النهي بالأمر، فقال سبحانه:

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ، وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أي داوم على ذكر الله في جميع الأوقات بالقلب واللسان، وصلّ لربّك أول النهار وآخره، فأول النهار: صلاة الصبح، وآخره: صلاة العصر. وكذلك صلّ لربّك في الليل، وذلك يشمل صلاتي المغرب والعشاء، وتهجد له طائفة من الليل، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء 17/ 79] ، وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل 73/ 1- 4] . وعلى هذا تكون كلمات الآية جامعة الصلوات الخمس، والتهجد. وبعد بيان حال الطائعين، أبان الله تعالى أحوال الكفار والمتمردين، وأنكر عليهم وعلى أشباههم حبّ الدنيا والإقبال عليها، وترك الآخرة وراء ظهورهم، فقال: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي إن هؤلاء كفار مكة وأمثالهم يحبون الدار العاجلة، وهي دار الدنيا، ويقبلون على لذاتها وشهواتها، ويتركون وراءهم ظهريا يوم القيامة ذا الشدائد والأهوال، فلا يستعدون له، ولا يعبؤون به. وسمي يوما ثقيلا: لما فيه من الشدائد والأهوال. والآية تتضمن توبيخ المتمردين واستحقارهم. وهذا هو الخط الفاصل بين المؤمنين والكافرين، فالمؤمنون يعملون للدنيا والآخرة، والكفار يعملون للدنيا وحدها، وهي النظرة المادية والسلوك المادي النفع، مما يدل على أن الداعي لهم إلى الكفر هو حبّ العاجل. ثم أوضح الله تعالى كمال قدرته، وأقام الدليل بالبداءة في الخلق على الرجعة والبعث، فقال: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي كيف يتغافل هؤلاء الكفار عن ربّهم وعن الآخرة، ونحن الذين

خلقناهم، وأحكمنا أعضاءهم ومفاصلهم وربطها بالعروق والأعصاب، ولو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. ونظير الآية قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً [النساء 4/ 133] ، وقوله سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم 14/ 19] . وبعد بيان أحوال السعداء وأحوال الأشقياء في الدنيا، أرشد إلى فائدة القرآن فقال: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي إن هذه السورة بما فيها من مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، تذكرة للمتأملين، وتبصرة للمستبصرين، وعظة للعقلاء، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة، اتّخذ طريقا للتقرب إلى ربّه بالإيمان والطاعة، واجتناب المعصية، ومن شاء اهتدى بالقرآن. ثم أوضح الله تعالى أن مشيئة العبد في إطار مشيئة الله، ولكن دون قهر ولا جبر، فقال: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي وما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلى النجاة، إلا بمشيئة الله، ولا يقدر أحد أن يهدي نفسه، ولا يدخل في الإيمان، ولا يجر لنفسه نفعا إلا بتوفيق الله، فالأمر إليه سبحانه، ليس إلى عباده، والخير والشر بيده، فمشيئة العبد وحدها لا تأتي بخير ولا تدفع شرا، إلا إن أذن الله بذلك، ولكن يثاب الإنسان على اختياره الخير، ويعاقب على اختياره الشر، وإن الله تعالى عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له، ويقيّض له أسبابها، وعليم بمن يستحق الغواية، فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، فيضع الأشياء في محالّها.

فقه الحياة أو الأحكام:

والخلاصة: أن جميع ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله ولكن دون إجبار. ثم ختم السورة بخاتمة عجيبة تدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله، فقال: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي يدخل في جنته من يشاء من عباده أن يدخلها فيها، فضلا من الله وإحسانا، ويعذب الظالمين الكافرين الذين ظلموا أنفسهم، فقد أعدّ لهم في الآخرة عذابا موجعا مؤلما، هو عذاب جهنم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الكريمات على ما يأتي: 1- إن القرآن الكريم كلام الله ووحيه الذي أنزله على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم في مدى ثلاث وعشرين سنة، مفرّقا منجّما بحسب الحوادث والمسائل، فهو ليس مفترى به من عنده، ولا جاء به من تلقاء نفسه كما يدّعيه المشركون. وبما أن السورة تضمنت الوعد والوعيد، فالناس بحاجة ماسة إلى هذا الكتاب الذي ليس بسحر ولا كهانة ولا شعر، وأنه حق من عند الله. قال ابن عباس: أنزل القرآن متفرّقا، آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة، فلذلك قال: نَزَّلْنا. 2- ما دام هذا القرآن حقا من عند الله، ودستورا منقذا لحياة البشرية من التردي والضياع والضلال، وجب الصبر على أذى القوم في تبليغه للناس، والصبر على ما حكم به من الطاعات، ومخالفة أهل الإثم والكفر، وعدم إطاعتهم في شيء من ضلالهم. وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ونهي له ولكل واحد من أمته.

3- إن العبد بأشد الحاجة للارتباط بالله والاستعانة به والاتكال عليه، لذا كانت الصلاة صلة بين العبد وربّه، وتقوية على الإيمان وصلابة الاعتقاد، وتربية المهابة لله في النفس، وتهذيب السلوك. ولأجل هذا أمر الله بذكره ليل نهار، وبالصلاة أول النهار وآخره، وذلك يشمل الصلوات الخمس المفروضة، وزيد عليها التطوع في الليل. 4- وبخ الله تعالى الكفار وقرّعهم على محبتهم الدنيا وحدها، وتركهم العمل للآخرة، فلا يؤمنون بيوم القيامة، ولا يستعدون لمواجهة موقف الحساب العسير الشديد في ذلك اليوم. 5- مما يدل على كمال قدرة الله تعالى: أنه هو الذي خلق الناس، وأحكم تركيب أجسادهم، وتشديد مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، وأنه قادر على إهلاك الناس والمجيء بأطوع لله منهم. 6- إن هذه السورة وأمثالها من القرآن موعظة وعبرة، فمن أراد الخير لنفسه اتخذ طريقا موصلا إلى طاعة ربّه وطلب مرضاته. لكن الطاعة والاستقامة واتّخاذ سبيل الله لا تقع قهرا عن الله في ملكه، وإنما بمشيئة الله، فالأمر إليه سبحانه، ليس لعباده، ولا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم إلا أن تتقدم مشيئة الله، وكل ذلك دون قهر ولا إجبار ولا إكراه من الله على اختيار شيء معين، إنما الاختيار للإنسان، والله عليم بأعمال عباده، حكيم في أمره ونهيه لهم. 7- كذلك دخول الجنة برحمة الله، ودخول النار بمشيئة الله، فهو الذي يرحم عباده المؤمنين، ويعذب الظالمين الكافرين عذابا مؤلما في نار جهنم، وبئس المصير.

سورة المرسلات:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المرسلات مكيّة، وهي خمسون آية. تسميتها: سميت سورة المرسلات تسمية لها باسم مطلعها الذي أقسم الله به وهو وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً أي أقسم برياح العذاب التي تهب متتابعة كعرف الفرس، أو شعر الفرس. مناسبتها لما قبلها: وجه اتصالها بما قبلها من وجهين: 1- أنه تعالى وعد المؤمنين الأبرار، وأوعد الظالمين الفجار في آخر السورة المتقدمة بقوله: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ثم أقسم في مطلع هذه السورة على تحقيق ما وعد به هنالك المؤمنين، وأوعد به الظالمين، ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. 2- ذكر تعالى في سورة الإنسان نزرا من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها، والأمر في هذه السورة على العكس: إطناب في وصف الكفار، وإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين «1» .

_ (1) البحر المحيط: 8/ 408

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: محور هذه السورة المكية الكلام عن البعث وأحوال الآخرة، فهي كسائر السور المكية متعلقة بأمور العقيدة، فذكر فيها القسم على وقوع البعث، ثم بيان مقدماته، ثم إيراد بعض دلائل القدرة والوحدانية، وتلاها وصف بعض الأمور الغيبية وأحوال الكفار والمؤمنين في عالم الآخرة ولوم الكفار على بعض أعمالهم. افتتحت بالقسم بالرياح والملائكة على وقوع يوم القيامة (أو يوم الفصل) وحدوث العذاب للكفار: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً.. [الآيات 1- 7] وبيان علامات ذلك العذاب ووقته: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ.. [الآيات 8- 15] . ثم أوردت بعض دلائل القدرة الإلهية على البعث وإحياء الناس بعد الموت، وهو إهلاك بعض الأمم المتقدمة وخلق الناس، وجعل الأرض كفاتا (جامعة ضامة لمن عليها) والجبال الشامخات للتثبيت. وتضمن ذلك وعيد الكافرين بعقوبة مماثلة، وتوبيخ المكذبين على إنكار نعم الله عليهم في الأنفس ومخلوقات الأرض: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ.. [الآيات 15- 28] . ثم حددت مصير المجرمين، ووصفت عذاب الكافرين وصفا تشيب له الولدان: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الآيات 29- 40] . ثم وصفت نعيم المؤمنين المتقين، وألوان التكريم والإحسان والإفضال في جنان الخلد: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [الآيات 41- 45] . وختمت السورة بتقريع الكفار وتوبيخهم على بعض أعمالهم، وأبانت سبب امتناعهم عن عبادة الله، وهو طغيانهم وإجرامهم: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [الآيات 46- 50] .

فضلها:

فضلها: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غار بمنى، إذ نزلت عليه وَالْمُرْسَلاتِ فإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقتلوها» فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وقيت شرّكم، كما وقيتم شرّها» . وأخرج أحمد عن ابن عباس عن أمه: أنها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا. وفي رواية مالك والشيخين في الصحيحين عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقالت: يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها في المغرب. وقوع يوم القيامة حتما ووقته وعلاماته [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) الإعراب: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً إن جعلت وَالْمُرْسَلاتِ بمعنى الرياح، كان عُرْفاً منصوبا

البلاغة:

على الحال، وإن جعلت بمعنى الملائكة كان عُرْفاً منصوبا بتقدير حذف حرف جر، أي والمرسلات بعرف، أي بمعروف، والمعنى الأول أظهر. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً عصفا ونشرا: منصوبان على المصدر المؤكد. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً: منصوبان من ثلاثة أوجه: إما على المفعول لأجله، أي للإعذار والإنذار، أو على البدل من ذِكْراً أي فالملقيات عذرا أو نذرا، أو بالمصدر نفسه وهو (ذكر) وتقديره: أن ذكّر عذرا أو نذرا. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ النُّجُومُ: مرفوع بفعل دل عليه طُمِسَتْ وتقديره: إذا طمست النجوم طمست، وجواب إذا مقدر، تقديره: وقع الفصل، أو الجواب: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ ... وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أصل أُقِّتَتْ وقتت، إلا أنه لما انضمت الواو ضما لازما، قلبت همزة، كقولهم في وجوه: أجوه. البلاغة: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً تأكيد بذكر المصدر لزيادة البيان، وتقوية الكلام. عُذْراً أَوْ نُذْراً بينهما طباق. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وضع الظاهر في الجملة الأخيرة موضع الضمير، وجيء بصيغة الاستفهام، لزيادة تهويل الأمر وتعظيمه والتعجيب من هوله. المفردات اللغوية: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الأظهر أنها الرياح المتتابعة كعرف الفرس: وهو الشعر المتتابع النابت على الرقبة، وقيل: إنها الملائكة المرسلة للمعروف والإحسان. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح الشديدة. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الأظهر أنها أيضا الرياح التي تنشر المطر، أو تنشر السحاب في آفاق السماء، كما يشاء الرب عز وجل، وقيل: إنها الملائكة الموكلون بالسحب يسوقونها حيث يشاء الله تعالى لنشر المطر وإحياء الأرض. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً أي الملائكة التي تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل، لتفرّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وتلقي بالعلم والحكمة إلى الأنبياء، للإعذار والإنذار، الإعذار من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله، والإنذار من الله تعالى للناس بالنقمة والعذاب إذا لم يؤمنوا.

التفسير والبيان:

إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم، أي إن الذي توعدون به يا كفار مكة وأشباهكم من مجيء القيامة والبعث والعذاب كائن لا محالة. طُمِسَتْ محقت وذهب نورها. فُرِجَتْ شقت وصدعت. أُقِّتَتْ جمعت لوقت، وعين لها وقت تحضر فيه للشهادة على الأمم بالتبليغ، قال الزمخشري: والوجه أن يكون معنى (وقتت) بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟ أي يقال: لأي يوم أخّرت وأمهلت للشهادة على الأمم بالتبليغ، وهذا القول تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله. لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق بأعمالهم: إما إلى الجنة، وإما إلى النار. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ تهويل لشأنه، والمعنى: ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بذلك، وهذا وعيد لهم، والويل: العذاب والخزي. وويل في الأصل: مصدر منصوب بإضمار فعل، عدل به إلى الرفع، للدلالة على ثبات الهلاك للمدعو عليه، ويَوْمَئِذٍ ظرفه، أو صفته. التفسير والبيان: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أي أقسم بالرياح المتتابعة كعرف الفرس إذا ذهبت شيئا فشيئا، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة ونقمة، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرقه في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل. وهذا هو الأظهر كما قال ابن كثير وابن جزي صاحب التسهيل لعلوم التنزيل، وقال القرطبي: جمهور المفسرين على أن المرسلات: الرياح. وقيل: المقصود بالمرسلات: الملائكة المرسلة بوحي الله وأمره ونهيه بالإحسان والمعروف، والعاصفات: الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها، والناشرات: الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي. وقيل: المراد بهؤلاء وما يأتي: طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المحقق لكل خير، الذي أخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته، وانتشرت دعوتهم، ففرقوا بين المؤمن والكافر، والمقر والجاحد، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة، أو إلى طائفة معينين.

فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً ثم أقسم بالملائكة الذين ينزلون بأمر الله على الرسل بما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي الوحي إلى الأنبياء، إعذارا من الله إلى خلقه، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره. وقيل: المراد بالفارقات والملقيات: الرياح أيضا. إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي إن ما وعدتم به من مجيء الساعة والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله خيرا أو شرا، إن هذا كله لواقع وكائن لا محالة. ثم بيّن الله سبحانه وقت وقوعه وأشراطه، فقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي فإذا محي نور النجوم وذهب ضوءها، وفتحت السماء وشقت وصدعت ووهت أطرافها، وقلعت الجبال من مكانها، وذهب بها، وطارت في الجو هباء، فلا يبقى لها عين ولا أثر، واستوى مكانها بالأرض. ونظير الآية في النجوم: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير 81/ 2] وقوله: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 2] . وفي السماء: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 84/ 1] وقوله: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 78/ 19] وقوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان 25/ 25] . وفي الجبال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه 20/ 105] . ووجه الجمع بين الرياح في الثلاثة الأول، وبين الملائكة في الرابع والخامس هو اللطافة وسرعة الحركة. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي وإذا الرسل جمعت وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين

فقه الحياة أو الأحكام:

الأمم، كقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة 5/ 109] ويقال لتعجيب العباد من هول ذلك اليوم: لأي يوم عظيم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل: وهي تعذيب من كذبهم، وتعظيم من صدّقهم، وظهور ما كانوا قد أوعدوا به الأمم، وخوفوهم من العرض والحساب ونشر الدواوين، ووضع الموازين. والمراد بذلك تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه، وهو يوم القيامة. ثم أجاب الله تعالى بأنهم أجّلوا ليوم الفصل بين الخلائق، يفصل فيه بين الناس بأعمالهم، فيفرّقون إلى الجنة والنار. ثم عظم تعالى ذلك اليوم ثانيا، فقال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أيّ وما أعلمك بيوم الفصل، وأيّ شيء شدته ومهابته؟ يعني أنه أمر هائل لا يعرف وصفه، ولا يقدر قدره. ثم عقبه الله تعالى بتهويل ثالث، فقال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي ويل لهم من عذاب الله غدا، في ذلك اليوم المصحوب بالأهوال لمن كذب الله ورسله وكتبه، والويل تهديد بالهلاك، ولا يصح أنه واد في جهنم، كما قال ابن كثير. وقد كرر هذا التهويل في السورة في تسعة مواضع أخر، لمزيد التأكيد والتقرير، كما مرّ في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله تعالى بالرياح وبالملائكة جامعا بينهم بسبب اللطافة وسرعة الحركة، على أن يوم القيامة والبعث حق كائن لا محالة تحقيقا لما أوعد الله به الظالمين في السورة السابقة.

والمقصود بالقسم: التنبيه على جلالة المقسم به، ومعروف مدى تأثير الرياح، سواء لإنزال المطر أو لإصابة العذاب، كما أن شرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه: هي شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، ولتنوع طوائفهم، فمنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم المرسل ليلا أو نهارا لرصد أعمال بني آدم وكتابتها، والعمل يشمل القول من اللسان والفعل الصادر من الجوارح (الأعضاء) ومنهم الموكل بقبض الأرواح، ومنهم الذين ينزلون من البيت المعمور إلى الكعبة «1» . 2- ثم ذكر الله تعالى متى يقع يوم القيامة وعلاماته (أو أشراطه) وهو يوم ذهاب ضوء النجوم ومحي نورها، كطمس الكتاب، وتشقق السماء (أو انفطارها) وزوال معالمها، ونسف الجبال والذهاب بها دون بقاء أثر لها حتى تسوى بالأرض، وجمع الرسل ليوم القيامة في الميقات المخصص لهم للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم. والخلاصة: هذه مقدمات البعث. 3- عيّن الله تعالى ميعاد جمع الرسل: وهو يوم الفصل الذي أجّلوا إليه، فيفصل الله تعالى فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. 4- عظم الله تعالى ذلك اليوم وأشاع عنه التهويل ثلاث مرات: في قوله لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟ وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي العذاب والخزي لمن كذّب بالله وبرسله وبكتبه وبيوم الفصل، فهو وعيد شديد.

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 265

تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر [سورة المرسلات (77) الآيات 16 إلى 28] :

تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) الإعراب: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ: إنما لم يجزم فعل نتبع بالعطف على نُهْلِكِ لأنه في نية الاستئناف، وتقديره: ثم نحن نتبعهم. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً.. وَأَمْواتاً كِفاتاً وأَمْواتاً إما منصوبان على الحال، أي نجمعهم في هاتين الحالين، أو أن يكونا بدلا من الْأَرْضَ على معنى أن تكون كِفاتاً إحياء نبت، وأَمْواتاً لا تنبت، وتقديره: ألم نجعل الأرض ذات نبات وغير ذات نبات. البلاغة: الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ بينهما طباق، وكذا بين أَحْياءً وأَمْواتاً. أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ استفهام تقريري، ومثله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. مَهِينٍ مَكِينٍ جناس ناقص غير تام. المفردات اللغوية: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود، وقرئ «نهلك» من هلكه بمعنى أهلكه. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي ثم نحن نتبعهم نظراءهم ككفار مكة، وقرئ بجزم الفعل، عطفا على نُهْلِكِ فيكون المراد من الْآخِرِينَ المتأخرين من المهلكين، كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام. كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله وأنبيائه، والتكرار للتأكيد، أو أن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا.

المناسبة:

مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة مذرة ذليلة، أو من ماء ضعيف، وهو المني. فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي مستقر حريز حصين، وهو الرحم. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى زمان معلوم أو إلى مقدار معلوم من الوقت، وهو وقت الولادة، قدره الله تعالى. فَقَدَرْنا على تصويره وخلقه. فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على ذلك، أو على الإعادة. كِفاتاً ضامة جامعة، من كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه. أَحْياءً وَأَمْواتاً الأحياء: ما ينبت، والأموات: ما لا ينبت. رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالا مرتفعة. فُراتاً عذبا. المناسبة: بعد تحذير الكفار وإنذارهم بأهوال يوم القيامة، أعقبه بتخويفهم وتحذيرهم عن الكفر، بالإهلاك كإهلاك الأمم المتقدمة، ثم هددهم بإنكار إحسانه إليهم، مبينا أمثلة ومظاهر لقدرة الله عز وجل، كخلق الإنسان وحواسه، والأرض وتثبيتها بالجبال الشامخات، وتزويدها بينابيع المياه العذبة، وذلك كله يستدعي شكر نعم الله في النفس والآفاق. التفسير والبيان: هدد الله تعالى الكفار بقوله: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ؟ أي ألم نهلك الكفار المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من الأمم الماضية، من لدن آدم عليه السلام كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالعذاب في الدنيا، ثم نتبعهم بأمثالهم وأشباههم، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن. وفي هذا وعيد شديد لكل من كفر بالله وتخويف وتحذير من الكفر. ثم أخبر تعالى بأن تلك سنة الله لا تبديل فيها، مع بيان حكمة الإهلاك، فقال:

كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي إن سنتنا في جميع الكفار واحدة، فمثل ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله، الذين أجرموا في حق أنفسهم، نفعل بكل مشرك، إما في الدنيا أو في الآخرة. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الخزي والعذاب يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. ثم وبخهم بتعداد النعم والامتنان عليهم، وبيان آثار القدرة الإلهية عليهم، ومحتجا بالبداءة على الإعادة فقال: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟ أي ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناه من ماء ضعيف حقير، وهو المني، وضعفه واضح بالنسبة إلى قدرة الباري عز وجل، وجعلناه وجمعناه في مستقر أو مكان حريز حصين، وهو الرحم، ثم أبقاه الله إلى مدة معينة هي مدة الحمل من ستة أشهر إلى تسعة أشهر. ونحن قدّرنا أعضاءه وصفاته، وجعلنا كل حال على الصفة التي أردنا، فنعم المقدّر الله، أو فنعم المقدّرون له نحن. أو على قراءة التخفيف (فقدرنا) أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا، فنعم أصحاب القدرة نحن، حيث خلقناكم في أحسن تقويم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي خزي وعذاب في ذلك اليوم الهائل، يوم القيامة لمن كذب بقدرتنا على ذلك وبهذه المنن والنعم. وهذا توبيخ وتخويف من وجهين: أحدهما- أن النعمة كلما كانت أعظم، كان كفرانها أفحش. والثاني- أن القادر على الإبداء (الخلق الأول) قادر على الإعادة، فالمنكر

فقه الحياة أو الأحكام:

لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ. ثم عدّ عليهم نعم الآفاق الثلاث بعد ذكر الأنفس فقال: 1- أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً أي ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم، والأموات في بطنها، تضمهم وتجمعهم؟ قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. والكفات: اسم ما يكفت أي يضم ويجمع، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به، مبنيا للمفعول، كالشداد لصمام يشد به رأس القارورة. 2، 3- وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي وأوجدنا في الأرض جبالا ثوابت عاليات، لئلا تميد وتضطرب بكم، وأسقيناكم من ينابيعها أو من السحاب ماء عذبا زلالا، وهذا كله أعجب من البعث. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب شديد في الآخرة لمن كذب أو كفر بهذه النعم، وويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم استمر على تكذيبه وكفره. فقه الحياة أو الأحكام: ذكر الله تعالى عشرة أنواع من تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر، أذكر منها هنا أربعة وهي: النوع الأول من التخويف- أنه أقسم في الآيات السابقة على أن اليوم الذي يوعدون به، وهو يوم الفصل، واقع. النوع الثاني- أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم، وأخبر أنه يفعل مثل ذلك في الأقوام المتأخرين، فلا بد وأن يهلكهم أيضا، لتماثلهم مع المتقدمين في علة الإهلاك، وهي التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وذكر تعالى

أن هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين، فعمم الحكم جميع المجرمين. ثم أكد تعالى التخويف بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ والمراد أن مآلهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة العذاب الشديد، كما قال تعالى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج 22/ 11] . وهؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة. والنوع الثالث من تخويف الكفار- التذكير بعظيم إنعامه عليهم، والتحذير من مغبة كفران النعمة وإنكار إحسانه إليهم، وهو خلقه الإنسان من النطفة الضعيفة الحقيرة، ثم إيداعها في مكان حريز وهو الرّحم إلى أن يتم تصويره ويحين وقت ولادته، وذلك لا يمكن من غير قادر عليّ، فنعم القادر والمقدّر وهو الله تعالى. ووجه التخويف من جانبين كما تقدم: الأول- أنه كلما كانت نعمة الله عليهم أكثر، كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكان العقاب أعظم، لذا قال عقيب هذا الإنعام: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الثاني- أنه تعالى ذكّرهم كونه قادرا على الابتداء، ومن المقرر الظاهر عقلا عند البشر أن القادر على الابتداء، قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، قال في حقهم: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «1» . والنوع الرابع من تخويف الكفار- أنه تعالى بعد أن ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، وذكر ثلاثة أشياء: هي الأرض التي هي كفات الأحياء والأموات، والجبال الرواسي الشامخات، أي

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 30/ 272

الثواب على ظهر الأرض فلا تزول، العاليات، والماء الفرات الذي هو الغاية في العذوبة. وأعقب التذكير بهذه النعم في الآفاق في آخر الآية: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لأن النعم كما تقدم كلما كانت أكثر، كانت الجناية أقبح، فكان استحقاق الذم عاجلا، والعقاب آجلا أشدّ، كما قال الرازي. هذا وقد استنبط العلماء من آية أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً حكمين «1» : الأول- إذا كانت الأرض ضامّة تضم الأحياء على ظهورها، والأموات في بطنها فهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. والثاني- روي عن ربيعة في النبّاش (سارق أكفان الموتى) قال: تقطع يده، فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً فالأرض حرز. وكانوا يسمّون بقيع الغرقد في المدينة كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها. وكذلك استدل الشافعية بالآية على قطع النباش: بأن الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات، فكان بطنها حرزا لهم، فالنباش سارق من الحرز. هذا.. وأما بقية أنواع تخويف الكفار وتهديدهم، فمحلها الآيات الآتية.

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 161

أنواع ثلاثة أخرى من وجوه تخويف الكفار كيفية عذابهم في الآخرة [سورة المرسلات (77) الآيات 29 إلى 40] :

أنواع ثلاثة أخرى من وجوه تخويف الكفار كيفية عذابهم في الآخرة [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) الإعراب: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وقرئ: «جمالات» : جمع جمالة، وجمالة جمع جمل، كحجر وحجارة، وذكر وذكارة، فعلى هذا (جمالات) جمع الجمع. لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يَنْطِقُونَ كأنه قال: لا ينطقون ولا يعتذرون، كقراءة من قرأ: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر 35/ 36] بالياء والنون، كأنه قال: لا يقضى عليهم ولا يموتون. فلو حملت الآية على ظاهرها لتناقض المعنى لأنه يصير التقدير: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون، فيكون ذلك متناقضا لأن الاعتذار نطق. أو معطوف على يؤذن، ليدل على نفي الإذن، أي لا إذن فلا اعتذار. البلاغة: تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تشبيه مرسل مجمل لحذف وجه الشبه، وكَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تشبيه مرسل مفصل، وفي التشبيه بالقصر وهو الحصن، تشبيه من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الارتفاع. وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم، والارتفاع، والصفرة. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ.. أسلوب التهكم، سمى العذاب ظلّا تهكما وسخرية بهم.

المفردات اللغوية:

هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: انْطَلِقُوا وفي قراءة «انطلقوا» إخبارا عن امتثالهم للأمر اضطرارا. إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ظل دخان جهنم، إذا ارتفع افترق ثلاث فرق، لعظمه، والشعب: الفروع. لا ظَلِيلٍ لا وقاية فيه من حرّ ذلك اليوم، وهو تهكم بهم، وردّ لما أوهم لفظ الظلل. وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ لا يفيدهم من حرّ اللهب شيئا، واللهب: شعلة النار. إِنَّها أي النار. بِشَرَرٍ ما تطاير من النار، جمع شرارة. كَالْقَصْرِ كالبناء الكبير المشيد في عظمه وارتفاعه. جِمالَتٌ جمع جمل، وقرئ: جمالات: جمع الجمع. صُفْرٌ في الهيئة واللون، وقيل: سود، فإن سود الإبل يضرب إلى الصفر، والأول تشبيه في العظم والارتفاع، الثاني في العظم والارتفاع واللون، والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة. هذا أي يوم القيامة، وقرئ: يوما، أي هذا المذكور واقع يومئذ. لا يَنْطِقُونَ فيه بشيء يستحق الذكر، فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق. الْفَصْلِ بين المحق والمبطل. جَمَعْناكُمْ أيها المكذبون من هذه الأمة. وَالْأَوَّلِينَ من المكذبين قبلكم، فتحاسبون وتعذبون جميعا. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن كان لكم حيلة في دفع العذاب عنكم، فافعلوها واحتالوا علي. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عذاب يوم القيامة لمن كذب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب. المناسبة: بعد أن هدد الله تعالى الكفار بعذاب يوم الفصل والقيامة، أبان كيفية عذابهم في الآخرة، بزجهم في النيران، وافتضاحهم على رؤوس الأشهاد، حيث لا عذر لهم ولا حجة في قبائحهم، وتعذيبهم بالتقريع والتخجيل، وتلك أنواع ثلاثة أخرى من أنواع تخويف الكفار وتهديدهم. التفسير والبيان: أخبر الله تعالى عما يقال يوم القيامة للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة

والنار، فقال مبينا النوع الخامس من أنواع التهديد: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي يقال للكفار من قبل خزنة جهنم: اركضوا أو سيروا واذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب الأخروي في الدنيا. ثم وصف الله تعالى هذا العذاب بأربع صفات، بقوله: 1- انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ هذا تهكم بهم، معناه: سيروا إلى ظل من دخان جهنم متشعب إلى شعب ثلاث أو فرق، فإن لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، صار له ثلاث شعب من شدته وقوته. والمراد أنهم يتنقلون من عذاب إلى آخر، وأن العذاب محيط بهم من كل جانب، كما قال تعالى: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الكهف 18/ 29] وسرادق النار: هو الدخان فتكون تسمية النار بالظل مجازا من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب، كقوله سبحانه: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر 39/ 16] وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت 29/ 55] . 2، 3- لا ظَلِيلٍ، وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وهذا أيضا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين، فذلك الظل لا يمنع حرّ الشمس، وليس فيه برد ظلال الدنيا، ولا يفيد في رد حرّ جهنم عنكم شيئا لأن هذا الظل في جهنم، فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها، كما جاء في آية أخرى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة 56/ 42- 44] . واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر. 4- إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق، كل شرارة من شررها التي ترمي بها كالقصر (البناء العظيم) في العظم والارتفاع، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع وسرعة

الحركة. وقال الفرّاء: الصفر سود الإبل لأنها مشربة بصفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا. والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. والشرر جمع شرارة: وهو ما تطاير من النار في كل جهة. والمقصود بالتشبيه الأول بيان أن تلك النار عظيمة جدا، والمقصود بالتشبيه الثاني شدة اشتعالها، والتهكم بهم، كأنه قيل: كنتم تتوقعون من وثنيتكم كرامة ونعمة وجمالا، إلا أن تلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال، لذا أعقبه بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب وخزي في يوم القيامة الهائل للمكذبين لرسل الله وآياته، الذين لا مفر لهم من ذلك العذاب. ثم وصف تعالى ماذا يكون للكفار في ذلك اليوم من ألوان العذاب الأدبية، وهو النوع السادس من أنواع التخويف، فقال: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي هذا اليوم لا يتكلمون فيه، لهول ما يرون، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم، ولا يأذن الله لهم، فيكون لهم اعتذار، بل قد قامت عليهم الحجة، لذا قال تعالى: لا تَعْتَذِرُوا، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التوبة 9/ 66] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم 66/ 7] . والمراد بهذا النوع بيان أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من المفاسد والقبائح والمنكرات، وأنه لا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم. وبيان هذا النوع للدلالة على شدة أهوال القيامة. وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه تعالى قدّم الإنذار في الدنيا، بدليل قوله في مطلع السورة: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً. ولهذا قال في آخر هذا الإخبار:

فقه الحياة أو الأحكام:

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب يوم القيامة للمكذبين بما أنذرتهم به الرسل من العذاب في الدنيا، إن استمروا على الكفر، وخالفوا أوامر الرسل. ثم أخبر الله تعالى عن النوع السابع من أنواع تهديد الكفار، فقال: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ، جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أي ويقول الخالق لهم: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، جمعناكم بقدرتنا يا معشر كفار قريش وأمثالكم المتأخرين على مرّ الدهور فيه مع الكفار الأولين، وهم كفار الأمم الماضية في صعيد واحد، ولجزاء واحد. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن قدرتم أيها الكفار بحيلة ما على أن تتخلصوا من العذاب، فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية في التقريع والتحقير والتخجيل والتعجيز والتوبيخ وهو من جنس العذاب الروحاني، لذا قال عقيبه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب يوم القيامة لكل من كذب بالبعث، لأنه ظهر لهم عجزهم وفقد كل أمل لهم بالنجاة من العقاب. فقه الحياة أو الأحكام: هذه ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار إضافة للأنواع الأربعة المتقدمة: النوع الخامس- بيان كيفية عذابهم في الآخرة: يقال للكفار تبكيتا وتهكما وتقريعا من خزنة جهنم: سيروا إلى ما كذبتم به من العذاب وهو النار، فقد شاهدتموها عيانا. وعذاب النار له أوصاف أربعة: يتشعب ظله أو دخانه إلى ثلاث شعب، كما هو شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب، وليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، ولا يدفع من لهب جهنم شيئا، وترمي النار بشرارات، كل شرارة كالقصر:

البناء العالي، في العظم والارتفاع، مما يدل على أن تلك النار عظيمة جدا، وهي أيضا كالجمالات الصّفر: وهي الإبل السود، والعرب تسمي السّود من الإبل صفرا مما يدل على أن تلك النار شديدة الاشتعال كثيفة، متتابعة، سريعة الالتهاب. وذكر القرطبي أن في هذه الآية دليلا على جواز ادّخار الحطب والفحم، وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء، مما يقتضي أن يكتسبه في غير وقت حاجته ليكون أرخص، وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدّخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله، وكل شيء محمول عليه «1» . النوع السادس- بطلان الحجة، وفقد العذر، والعجز: أبان تعالى أنه ليس للكفار يوم القيامة عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من القبائح، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم، فاجتمع عليهم عذاب التخجيل والعذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها. النوع السابع- التعذيب بالتقريع والتخجيل: يقال للكفار يوم القيامة: هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحقّ من المبطل، والذي جمع فيه في صعيد واحد أوائل الكفار وأواخرهم، سواء الذين كذبوا الرسل المتقدمين قبل نبينا، أو كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وقد تحداهم الله تعالى بأن يجدوا لأنفسهم ملجأ أو وقاية من العذاب على المعاصي التي اقترفوها في الدنيا، ولكنهم يعجزون عن ذلك وعن الدفع عن أنفسهم. ويكون الفصل فيما بين العباد بعضهم مع بعض من حقوق وظلامات، فهذا يدعي على آخر أنه ظلمه، أو قتله، وآخر يدعي أنه اغتصب منه شيئا أو سرق ماله، وهكذا.

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 165

الأنواع الباقية من تهديد الكفار وتعذيبهم [سورة المرسلات (77) الآيات 41 إلى 50] :

أما ما يتعلق بحقوق الله تعالى فلا حاجة فيه للفصل، وإنما يلقى العبد الثواب الذي يستحقه على عمله الصالح، والعقاب الذي يجازى به على عمله السيء، إلا أنه فيما يتعلق بجانب العبد، فإنه تقرر عليه أعماله التي عملها، حتى يعترف «1» . الأنواع الباقية من تهديد الكفار وتعذيبهم [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) الإعراب: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً في موضع الحال من ضمير الْمُتَّقِينَ، المقدر في الظرف الآتي بعده، أي هم مستقرون في ظلال، مقولا لهم ذلك. وهَنِيئاً حال أي متهنئين. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا حال من المكذبين، أي الويل ثابت لهم، في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا. البلاغة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقابلة، قابل الجملة الأخيرة بقوله بعدئذ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ مجاز مرسل، أطلق الركوع، وأراد به الصلاة، فهو من قبيل إطلاق البعض وإرادة الكل.

_ (1) تفسير الرازي: 30/ 281

المفردات اللغوية:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ أي إن المؤمنين المتقين من الشرك، الذين هم في مقابلة المكذبين، هم في ظلال وارفة تحت أشجار متكاثفة في الجنة إذ لا شمس يظل من حرها، وعيون- أي أنهار- نابعة بالماء، ويتمتعون بفواكه مما يشتهون، فهم مستقرون في أنواع الترفّه. وفيه دلالة على أن نعم الجنة بحسب الرغبة والميل، بخلاف الدنيا تكون بحسب ما يجد الناس في الأغلب. والفرق بين الظل والفيء: أن الظل أعم من الفيء، فيقال: ظل الليل وظل الجنة وظل الجدار، أما الفيء: فهو ما زالت عنه الشمس. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي متهنئين، أي يقال لهم ذلك. بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الطاعة. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي يقال للكفار في الدنيا تهديدا لهم: كلوا ما شئتم في الدنيا، وتمتعوا بنعيمها مدة قليلة من الزمان يعقبها الموت، ثم تنالون عقابكم وننتقم منكم على كفركم وتكذيبكم لرسلنا، فإنكم مشركون بالله، لا تستحقون الإنعام والتكريم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل. ارْكَعُوا صلوا. لا يَرْكَعُونَ لا يصلون، واستدل به على أن الأمر للإيجاب، وأن الكفار مخاطبون بالفروع. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بأي كلام يصدقون إذا لم يصدقوا بهذا القرآن؟ فهو معجز في ذاته، مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الكريمة، ولا يمكن إيمانهم بعدئذ بغيره من كتب الله، بعد تكذيبهم به. سبب النزول: نزول الآية (48) : ارْكَعُوا..: أخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا، لا يَرْكَعُونَ قال: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. وقال مقاتل: قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسلموا» وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني فإنها مسبّة علينا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» .

المناسبة:

المناسبة: بعد أن بيّن الله تعالى أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار، قابل ذلك للعظة والعبرة بأحوال المؤمنين في الآخرة، وبيّن ما لهم من أنواع السعادة والكرامة، فتتضاعف حسرة الكافر، وتتزايد غمومه وهمومه، وهذا من جنس العذاب الروحاني. ثم وبّخ الله تعالى الكفار وهددهم بزوال نعم الدنيا في وقت قصير، وتعرضهم للآفات العظيمة في الآخرة، ثم ذكرهم بتقصيرهم في طاعة الله، وإهمالهم فريضة الصلاة، وتركهم الإيمان بالقرآن الذي لا جدوى من الإيمان بغيره من الكتب السماوية الأخرى التي بادت وتبدلت ونسخت. والخلاصة: تضمنت هذه الآيات ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار وتعذيبهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات، وترك المحرمات، وعن أحوالهم يوم القيامة، فيقول: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يكون المتقون في الآخرة في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور، وتحيط بهم العيون الجارية والأنهار المتدفقة، بخلاف ما يكون فيه الكفار الأشقياء من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، والنار المستعرة بهم. ونظير الآية: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس 36/ 56] . وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي ولديهم أنواع من الفواكه والثمار، مما تطلبه

أنفسهم، وتستدعيه شهواتهم، فمهما طلبوا وجدوا. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي ويقال لهم في الآخرة بدليل قوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على سبيل الإحسان إليهم والتكريم: كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة وفواكهها، واشربوا متهنئين بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة. وهذا أمر إكرام، لا أمر تكليف، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين نجزي المحسنين في أعمالهم، فلا نضيع لهم أجرا، كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف 18/ 30] . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله وبما أخبر الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة، حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم. وهذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار. ثم خاطب الله تعالى المكذبين بيوم الدين، وأمرهم على سبيل التهديد والوعيد، فقال: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي يقال لهم في الدنيا «1» : كلوا من مآكل الحياة ولذائذها، وتمتعوا بخيراتها زمانا قليلا، ومدة قصيرة تزول بانتهاء العمر، ثم تساقون إلى نار جهنم، فإنكم مشركون بالله. وهذا إن خوطبوا به في الآخرة توبيخ وتذكير بحالهم السمجة، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم.

_ (1) البحر المحيط 8/ 408

فقه الحياة أو الأحكام:

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب لأولئك المشركين المكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه، وبما أخبرهم به أنه فاعل بهم، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار، ثم ذكر بعده النوع العاشر، فقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون، فهم مستكبرون عن طاعة الله تعالى. وهذا ذم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه وأمره وتكليفه. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأوامر الله سبحانه ونواهيه. ثم ختم السورة بالتعجب من الكفار، فقال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن وما فيه من الدلائل على وجود الله تعالى وتوحيده وصدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فبأي كلام بعده يصدقون؟ فالقرآن فيه كل ما يرشد إلى الخير وسعادة الدارين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة كان إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقرأ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ قال: فليقل: آمنت بالله وبما أنزل. فقه الحياة أو الأحكام: تضمنت هذه الآيات الأنواع الثلاثة الأخيرة من أنواع تخويف الكفار العشرة وتعذيبهم: النوع الثامن- مضاعفة حسرة الكفار، وتزايد غمومهم وهمومهم، وهو من جنس العذاب الروحاني، فإنهم إذا وجدوا ما أعد الله للمتقين المؤمنين من أنواع السعادة والكرامة، تحسروا واغتموا، وكانت حالهم في غاية الذل والهوان والخزي.

لقد أخبر الله تعالى عما يصير إليه المتقون غدا من الاستمتاع والاستقرار بظلال الأشجار وظلال القصور، في مواجهة الشعب الثلاث لظل النار، والتمتع بالفواكه التي يطلبونها ويتمنونها، ويقال لهم غدا: كلوا واشربوا متهنئين، بدل ما يقال للمشركين: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. وهذا هو الثواب الذي يثيب الله به الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأعمالهم في الدنيا والنوع التاسع- وعيد الكفار وتهديدهم إذ يقال لهم في الدنيا: كلوا وتمتعوا زمنا قليلا، فإنكم مجرمون مشركون بالله، ومجازون بسوء أعمالكم، فقد عرضتم أنفسكم للعذاب لأجل حب الدنيا، والرغبة في طيباتها وشهواتها القليلة الفانية بالنسبة لتلك الآفات العظيمة التي تلقونها يوم القيامة. والنوع العاشر- توبيخهم وتقريعهم على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب الشديد، وعدم انقيادهم لطاعة الله، وعدم أداء فريضة الصلاة، فإذا أمروا بها لم يؤدوها. وقد كرر تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بعد كل نوع لتأكيد التخويف والوعيد. ثم ختم الله السورة بعظة بليغة موجزة وهي أنه إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدال قطعا على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبأي شيء يصدقون؟!! انتهى هذا الجزء ولله الحمد

سورة النبأ، أو عم:

[الجزء الثلاثون] بسم الله الرحمن الرحيم سورة النّبأ، أو: عمّ مكيّة، وهي أربعون آية. تسميتها: تسمى سورة عم وسورة النبأ لافتتاحها بقول الله تبارك وتعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وهو خبر القيامة والبعث الذي يهتم بشأنه، ويسأل الناس عن وقت حدوثه. مناسبتها لما قبلها: تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي المرسلات من وجوه ثلاثة: 1- تشابه السورتين في الكلام عن البعث وإثباته بالدليل، وبيان قدرة الله عليه، وتوبيخ الكفار المكذبين به، ففي المرسلات: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً وفي هذه قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.. الآيات [6- 16] . 2- اشتراك السورتين في وصف الجنة والنار، ونعيم المتقين وعذاب الكافرين، ووصف يوم القيامة وأهواله. 3- فصّلت هذه السورة ما أجمل في السورة المتقدمة، فقال تعالى في المرسلات: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [12- 14] وقال سبحانه في هذه السورة: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [17] إلى آخر السورة.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: إن محور السور إثبات البعث بالأدلة المختلفة، لذا ابتدأت السورة بوصف تساؤل المشركين عنه، والإخبار عن يوم القيامة، وما يتبعه من البعث والنشور والجزاء، وأعقبته بتهديد المشركين على إنكارهم إياه: عَمَّ يَتَساءَلُونَ.. [1- 5] . ثم أقامت الأدلة والبراهين على إمكان البعث، بتعداد مظاهر قدرة الله على الخلق والإبداع وإيجاد مختلف عجائب الكون، مما يدل على إمكان إعادة الناس بعد الموت: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.. [6- 16] . ثم حددت السورة ميقات البعث وميعاده، وهو يوم الفصل بين الخلائق الذي يجمع فيه الأولون والآخرون: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً.. [17- 20] . ثم وصفت ألوان عذاب الكافرين، وأنواع نعيم المتقين، بطريق المقابلة والموازنة، والجمع بين الترغيب والترهيب: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً.. [21- 38] . وختمت السورة بالإخبار بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وبإنذار الكفار بالعذاب الأليم القريب الذي يتمنون من شدته أن يعود ترابا. والسورة كلها يشيع فيها جو التهويل والتخويف، والتهديد والإنذار، حتى لكأن التالي لها يكاد يلمس الصور الرهيبة لأحداث القيامة، ويتملكه الذعر والخوف من شدائدها وأحوالها.

الإخبار عن البعث وأدلة إثباته [سورة النبإ (78) الآيات 1 إلى 16] :

الإخبار عن البعث وأدلة إثباته [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) الإعراب: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَمَّ أصله: عن ما، إلا أنه لما دخلت على (ما) الاستفهامية، حذفت ألفها للفرق بين الاستفهام والخبر. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ إما بدل من عَمَّ بإعادة الجار، أو متعلق بفعل مقدر، دل عليه يَتَساءَلُونَ ولا يكون بدلا لأنه لو كان بدلا، لوجب أن تكرر «عما» . وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي مختلفين، حال من الكاف والميم في خَلَقْناكُمْ. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَلْفافاً صفة جنات، وهو إما جمع لفّ مثل جذع وأجذاع، أو جمع الجمع لكلمة «لف» جمع ألف ولفاء، وفعل بضم الفاء يجمع على أفعال، فيكون جمع الجمع. وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف، كشريف وأشراف. البلاغة: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ إيجاز بحذف الفعل، لدلالة المتقدم عليه، أي يتساءلون عن النبأ العظيم. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً تشبيه بليغ، أي جعلنا الأرض كالمهاد الذي

المفردات اللغوية:

يفترشه النائم، والجبال كالأوتاد التي تثبت غيرها. ومثله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي كاللباس في الستر. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً بينهما مقابلة، قابل بين الليل والنهار، والراحة والعمل. أَوْتاداً أَزْواجاً سُباتاً لِباساً مَعاشاً شِداداً وَهَّاجاً ثَجَّاجاً نَباتاً أَلْفافاً سجع مرصع. المفردات اللغوية: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أي عن أي شيء يسأل بعض أهل مكة بعضا، ومعنى الاستفهام: تفخيم شأن ما يتساءلون عنه، كأنه لفخامته خفي جنسه، فسئل عنه. وقد كان التساؤل من أهل مكة عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عنه استهزاء. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ عن خبر يوم البعث المهم، وهو بيان شأن المفخم. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يترددون فيه بين الإقرار والإنكار أو بين الإثبات والنفي. كَلَّا ردع لهم وزجر، لرد الكلام المتقدم ونفيه، والردع عن التساؤل والوعيد عليه. سَيَعْلَمُونَ ما يحل بهم على إنكارهم للبعث. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تأكيد وتكرير للمبالغة، وجيء بكلمة ثُمَّ للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد من الأول. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ممهدة مذللة فراشا، كالمهد في قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه 20/ 53] . والاستفهام للتقرير، وهذا بدء ببيان القدرة على البعث بالتذكير ببعض عجائب الكون التي أبدعها الله. أَوْتاداً لتثبيت الأرض، كما تثبت الخيام بالأوتاد: جمع وتد: وهو ما يدق في الأرض لربط حبال الخيمة التي تشد بها. أَزْواجاً ذكورا وإناثا. سُباتاً راحة لأبدانكم بقطع الحركة وإيقافها. لِباساً كاللباس في الستر، وهو ما يلبسه الإنسان لستر جسمه، أي أنه تعالى جعل الليل غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء. مَعاشاً وقتا لتحصيل أسباب المعاش أو المعايش. سَبْعاً سبع سموات. شِداداً أي سبع سموات قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان، ولا تصدع فيها. سِراجاً ما يضيء وينير. وَهَّاجاً وقادا متلألئا، والمراد به الشمس. والْمُعْصِراتِ السحب والغيوم التي حان لها أن تعصر الماء، فيسقط منها. ثَجَّاجاً أي مطرا صبابا كثير الهطول، جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن عمر: «أفضل الحج العجّ والثجّ» العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دم الهدي. حَبًّا ما يقتات به الإنسان

سبب النزول نزول الآية (1) :

كالحنطة والشعير والذرة. وَنَباتاً ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش. وَجَنَّاتٍ بساتين وحدائق، جمع جنة. أَلْفافاً ملتفة الأشجار والأغصان، يلتف بعضها ببعض. سبب النزول: نزول الآية (1) : عَمَّ يَتَساءَلُونَ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. التفسير والبيان: ينكر الله تعالى على المشركين تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارا لوقوعها، فيقول: عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ أي عن أي شيء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم فيما بينهم؟ ثم أجاب الله تعالى عن هذا السؤال بقوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي عن الخبر المهم الهائل، العظيم الشأن الذي اختلفوا في أمره، بين مكذّب ومصدّق، وكافر ومؤمن به، ومنكر ومقرّ، وشاكّ ومثبت، وهو يوم البعث بعد الموت، كما حكى الله عنهم بقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون 23/ 37] وقوله: ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية 45/ 32] . وقال مجاهد في تفسير النبأ العظيم: هو القرآن، قال ابن كثير: والأظهر الأول أي أنه البعث بعد الموت لقوله تعالى: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ وقال الرازي: إنه يوم القيامة، وهو الأقرب. والمراد من الاستفهام تفخيم الأمر وتعظيمه وتعجيب السامعين من أمر

المشركين. وإيراد الكلام في صورة السؤال والجواب، أقرب- كما قال الرازي- إلى التفهيم والإيضاح، وتثبيت الجواب في نفوس الناس السائلين، كما في قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] . ثم رد الله تعالى عليهم متوعدا إنكارهم القيامة بقوله: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أي لا ينبغي لهم أن يختلفوا في شأن البعث، فهو حق لا ريب فيه، وسيعلم الذين يكفرون به عاقبة تكذيبهم. وكلمة كَلَّا ردع لهم وزجر، ثم كرر الردع والزجر بالجملة الثانية، أي فليزدجروا عما هم فيه من الكفر والتكذيب، فإنهم سيعلمون قريبا حقيقة الأمر إذا حل بهم العذاب. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، قال أهل المعاني: تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد. وفي ثُمَّ إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ من الأول. ثم أورد الله تعالى بعض مظاهر قدرته العظيمة على خلق الأشياء العجيبة الدالة على قدرته على أمر المعاد وغيره. فقال معددا تسعة أشياء تثبت صحة البعث والحشر الذي أنكروه، وتدل على قدرته على جميع الممكنات وعلمه بجميع المعلومات: 1- 2: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي كيف تنكرون البعث، وقد عاينتم أدلة قدرة الله التامة، من جعل الأرض ممهدة مذللة للخلائق، كالمهد للصبي: وهو ما يمهد له من الفراش، فينوّم عليه، وجعل الجبال الراسيات كالأوتاد للأرض، لتسكن ولا تتحرك، وتهدأ ولا تضطرب بأهلها، كما قال تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات 79/ 32] . 3- وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي وأوجدناكم أصنافا: ذكورا وإناثا، للإنس

والتعاون والحفاظ على النوع البشري، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم 30/ 21] . 4- 5- وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي وجعلنا نومكم راحة لأبدانكم وقطعا للحركة ولأعمالكم المتعبة في النهار، فبالنوم تتجدد القوى، وينشط العقل والجسم، والسبات: أن ينقطع عن الحركة، والروح في بدنه. وجعلنا الليل سكنا وكاللباس الذي يغطي بظلامه الأشياء والأجسام، فكما أن اللباس يغطي الجسد ويقيه من الحر والبرد، ويستر العورات، كذلك الليل يستتر فيه من أراد الاختفاء لقضاء مصالح وتحقيق فوائد لا تتيسر في النهار، كالاستتار من العدو وقضاء بعض الحوائج. 6- وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي وجعلنا وقت النهار مشرقا مضيئا ليتمكن الناس من تحصيل أسباب المعايش والتكسب والتجارة والزراعة والصناعة ونحو ذلك من موارد الرزق. 7- 8- وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً أي وبنينا فوقكم سبع سموات قوية الخلق، محكمة البناء، متقنة الصنع، مزينة بالكواكب الثوابت والسيارات، وجعلنا الشمس سراجا منيرا على جميع العالم، يستضاء به، ويستنار بنوره، ويشع بحرارته، فإن الوهج يجمع النور والحرارة، وبهما تستفيد جميع الكائنات الحية. 9- وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي وأنزلنا من السحب والغيوم التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد مطرا منصبا بكثرة، كثير السيلان، لنخرج بذلك الماء الكثير الطيب النافع حبا يقتات به الناس، كالحبوب المختلفة من قمح وشعير وذرة وأرز، ونباتا تأكله

فقه الحياة أو الأحكام:

الدواب من التبن والحشيش وسائر النبات، وبساتين وحدائق ذات بهجة وأغصان ملتفة على بعضها وثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة، كما قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد 13/ 4] . والثج: الصب الكثير المتتابع، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر: «أفضل الحج: العجّ والثجّ» أي رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء البدن أو الهدي وإراقتها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- تفخيم شأن البعث وتهويله وتعظيم أمره، وتأكيد وقوعه وأنه حق ثابت لا ريب فيه. 2- سيعلم الكفار المكذّبون صدق ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت، حين يحل بهم العذاب والنكال. وفيه وعيد بعد وعيد. 3- رد الله تعالى على المشركين منكري البعث، وأثبت لهم قدرته على البعث والمعاد والحشر والنشر من خلال الإتيان بما هو مشاهد معاين لهم وهو إيجاد عجائب المخلوقات، والقدرة على إيجاد هذه الأمور أعظم من القدرة على الإعادة. 4- ذكر الله تعالى من عجائب مخلوقاته الدالة على كمال القدرة وتمام العلم والحكمة أمورا تسعة: هي جعل الأرض ممهدة مذللة كالمهد للصبي، وهو ما يمهد له فينوّم عليه، وجعل الجبال للأرض كالأوتاد التي تشدّ بها حبال الخيام، لتسكن

وتثبت ولا تميل بأهلها، وخلق الناس أصنافا: ذكورا وإناثا وأضدادا متقابلين حسنا وقبحا وطولا وقصرا ليكتمل الكون، ويزهو بالجمال والانس، ويتيسر التعاون، ويستمر بقاء النوع الإنساني. وتصيير النوم راحة للأبدان وقطعا للحركة والأعمال التي يكابد بها الإنسان طوال النهار، فتتجدد قواه، ويستعيد نشاطه، فالنوم يزيل التعب عن الإنسان. وجعل الليل بظلمته كاللباس ساترا، أو سكنا للناس، فظلمة الليل تستر الإنسان عن العيوب إذا أراد هربا من عدو، أو بياتا له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه، وأيضا فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته، ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل، بسبب ما يحصل فيه من النوم، يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه، وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الوساوس والأفكار الموحشة. وجعل النهار وقت معاش، يتردد فيه الناس لطلب معايشهم: وهي كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك. وبناء سبع سموات محكمات، محكمة الخلق، وثيقة البنيان، وجعل الشمس سراجا منيرا مضيئا وقادا متلألئا، وفي كل ذلك خير ونفع للإنسان. وإنزال الأمطار من السحب المحفلة بالماء، فيحدث منها الغيث الذي يحيي الأرض بعد جدبها، وينعش النفوس والأجسام بعد عنائها وتكدرها، ويخرج به الحب للإنسان كالحنطة والشعير وغير ذلك، والنبات للحيوان وهو ما تأكله الدواب من الحشيش، وتوجد به البساتين والحدائق الغناء التي تلتف أغصانها بعضها ببعض لكثرة تشعبها، وتزهو بالخضرة والنضرة والجمال، والثمار والألوان، والطعوم والروائح.

أوصاف يوم القيامة وأماراته ونوع عذابه [سورة النبإ (78) الآيات 17 إلى 30] :

وهذه الأمور التسعة نظرا لحدوثها وإمكانها وتجددها تدل على وجود الفاعل المختار، كما يدل ما فيها من الإتقان والإحكام على كمال العلم والحكمة الذاتية، وإذا ثبت كمال الله تعالى في هذه الأوصاف، ثبت قطعا إمكان الحشر دون أي شك، ثم في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليل ظاهر حسي قريب للأذهان على إمكان إخراج الموتى من القبور، وبعثهم بعد الموت أحياء. وفضلا عن ذلك، فإن كل أمر من الأمور التسعة نعمة عظمي، يجب أن تشكر بالتوفر على الطاعة، ولا تكفر بالإقدام على المعصية «1» . 5- آية لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً تشمل كل أنواع النبات الثلاثة التي تنبت من الأرض: وهي ما له أكمام وهو الحب، وما لا يكون له أكمام وهو الحشيش، وهذان النوعان لا ساق لهما، والنوع الثالث: هو ما له ساق وهو الشجر، فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة «2» . أوصاف يوم القيامة وأماراته ونوع عذابه [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)

_ (1) غرائب القرآن: 30/ 7 (2) تفسير الرازي: 31/ 9

الإعراب:

الإعراب: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَوْمَ منصوب على البدل من يوم في قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ. لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لابِثِينَ حال مقدر، أي مقدّرين اللبث، وأَحْقاباً منصوب على الظرف، وعامله لابِثِينَ. وذكر أَحْقاباً للكثرة، لا لتجديد اللبث، كقولك: أقمت سنين وأعواما. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً لا يَذُوقُونَ جملة في موضع نصب صفة ل لابِثِينَ، أو حال من ضمير لابِثِينَ. وحَمِيماً وَغَسَّاقاً بدل منصوب من بَرْداً وَلا شَراباً. والحميم: يطلق على الحار والبارد من البرودة. فإن كان بمعنى النوم فهو استثناء منقطع، وجَزاءً منصوب على المصدر. والخلاصة: إِلَّا حَمِيماً.. استثناء منقطع في قول من جعل البرد: النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. كِذَّاباً منصوب على المصدر ل «كذّب» وزيدت الألف في كِذَّاباً كما زيدت الهمزة في «أحسن إحسانا، وأجمل إجمالا» . وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً كِتاباً منصوب على المصدر، وعامله إما أَحْصَيْناهُ بمعنى كتبنا، وإما فعل مقدر من لفظه دل عليه. أَحْصَيْناهُ أي كتبناه كتابا. البلاغة: فَكانَتْ أَبْواباً تشبيه بليغ، أي كالأبواب في التشقق والتصدع، فحذفت الأداة ووجه الشبه. فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أمر يراد به الإهانة والتحقير، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب زيادة في التوبيخ. بَرْداً وحَمِيماً بينهما طباق. أَفْواجاً أَبْواباً سَراباً مَآباً أَحْقاباً شَراباً حِساباً سجع مرصع. المفردات اللغوية: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ هو يوم القيامة، وسمي بذلك لأن الله يفصل فيه بحكمه بين الخلائق. كانَ أي في علم الله، أو في حكمه. مِيقاتاً وقتا للثواب والعقاب، وحدا تنتهي عنده الدنيا. الصُّورِ البوق الذي ينفخ فيه، فيخرج منه صوت شديد، والنافخ فيه: هو إسرافيل عليه السلام. فَتَأْتُونَ من قبوركم إلى الموقف. أَفْواجاً جماعات مختلفة، جمع فوج: أي جماعة.

المناسبة:

وَفُتِحَتِ السَّماءُ شققت وصدّعت. فَكانَتْ أَبْواباً ذات أبواب، أو صارت من كثرة الشقوق كأنها أبواب. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أزيلت عن أماكنها، وأصبحت في الهواء كالهباء. سَراباً مثل السراب، إذ ترى على صورة الجبال وليست جبالا في الحقيقة بل غبارا. مِرْصاداً موضع رصد، يرصد فيه خزنة النار الكفار لِلطَّاغِينَ الكافرين، الذين طغوا بمخالفة أوامر ربهم. مَآباً مرجعا ومأوى. لابِثِينَ مقيمين. أَحْقاباً دهورا لا نهاية لها، جمع حقب، وواحدها حقبة، وهي مدة مبهمة من الزمان. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً برودة الهواء، ويطلق أيضا على النوم. وَلا شَراباً أي ما يشرب تلذذا لتسكين العطش. إِلَّا حَمِيماً الحميم: الماء الحارّ الشديد الغليان. وَغَسَّاقاً قيح وصديد أهل النار الدائم السيلان من أجسادهم. جَزاءً وِفاقاً أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم وكفرهم، فلا ذنب أعظم من الكفر، ولا عذاب أعظم من النار. لا يَرْجُونَ لا يخافون أو لا يتوقعون. حِساباً محاسبة على أعمالهم لإنكارهم البعث. بِآياتِنا القرآن. كِذَّاباً تكذيبا كثيرا. وَكُلَّ شَيْءٍ أي من الأعمال. أَحْصَيْناهُ ضبطناه. كِتاباً أي ضبطناه بالكتابة. فَذُوقُوا أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم: ذوقوا جزاءكم. فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي فوق عذابكم. المناسبة: بعد إثبات قدرة الله تعالى على تخريب الدنيا، وإيجاد عالم آخر، بإثبات إمكان الحشر وعموم القدرة والعلم، أخبر تعالى عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معلوم لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل، ثم ذكر علامات ذلك اليوم من نفخ الصور، وتصدع السماء، وتسيير الجبال عن أماكنها وصيرورتها هباء كالهواء، ثم أوضح أن جهنم مرصد للطغاة وهم الكافرون المكذبون بآيات الله، الذين أحصى الله عليهم كل شيء من أعمالهم، وسيلقون جزاء ما صنعوا. التفسير والبيان: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً أي إن يوم القيامة وقت ومجمع وميعاد

للأولين والآخرين، ينالون فيه ما وعدوا به من الثواب والعقاب. وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بحكمه بين خلقه. ثم ذكر الله تعالى علامات ثلاثا لهذا اليوم، فقال: 1- يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي إن يوم الفصل هو اليوم الذي ينفخ فيه إسرافيل بالبوق أو القرن، فتأتون أيها الخلائق من قبوركم إلى موضع العرض زمرا زمرا، وجماعات جماعات، تأتي فيه كل أمة مع رسولها، كما قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء 17/ 71] . 2- وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً أي وتصدعت السماء وشقت، فصارت ذات أبواب كثيرة وطرقا ومسالك لنزول الملائكة، ونظير الآية كثير، مثل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 84/ 1] . إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار 82/ 1] . وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان 25/ 25] . وهذا يعني تبدل نظام الكون، وذهاب التماسك بين أجزائه. 3- وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أي وأزيلت الجبال عن أماكنها، وبددت في الهواء، فكانت هباء منبثا، يظن الناظر أنها سراب، وتبدأ أولا بالدكّ كما قال تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 14] ثم تصير كالعهن أو الصوف المنفوش كما قال: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة 101/ 5] ثم تتقطع وتتبدد وتصير كالهباء، كما قال: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة 56/ 4- 6] ثم تنسف عن الأرض بالرياح، كما جاء في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه 20/ 105] وقوله: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88] » .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 11- 12

ثم ذكر الله تعالى ما يلاقيه المكذبون الضالون الأشقياء يومئذ بقوله: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً، لِلطَّاغِينَ مَآباً، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أي إن نار جهنم كانت في حكم الله وقضائه مرصدة معدّة للطغاة المتجبرين المتكبرين وهم المردة العصاة المخالفون للرسل، ومرجعا ومصيرا ونزلا لهم، حالة كونهم ماكثين فيها ما دامت الدهور. والأحقاب جمع حقب ومفردها حقبة: وهي المدة الطويلة من الزمان، إذا مضى حقب دخل آخر، وهكذا إلى الأبد. والمرصاد: إما اسم للمكان الذي يرصد فيه، وإما صفة بمعنى أنها ترصد أعداء الله. والآية دليل على أن جهنم كانت مخلوقة لأن قوله: مِرْصاداً أي معدّة، ومثلها الجنة أيضا إذ لا فرق بينهما. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً «1» وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً أي لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرها، ولا شرابا ينفعهم من عطشها إلا الحميم: وهو الماء الحار الشديد الغليان، والغساق: وهو صديد أهل النار، وهذا العذاب موافق الذنب العظيم الذي ارتكبوه نوعا ومقدارا، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار، وقد كانت أعمالهم سيئة، فجوزوا بمثلها، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] . وقيل: البرد: النعاس والنوم. ويلاحظ أنه تعالى بعد أن شرح أنواع عقوبة الكفار، بين أنه جزاء حق وعدل موافق لأعمالهم. ثم عدد الله تعالى أنواع جرائمهم، فقال:

_ (1) قال أبو حيان في البحر المحيط (8/ 414) : والذي يظهر أن قوله: لا يَذُوقُونَ كلام مستأنف، وليس في موضع الحال، وإِلَّا حَمِيماً استثناء متصل من قوله: وَلا شَراباً وأن أَحْقاباً منصوب على الظرف، حملا على المشهور من لغة العرب، لا منصوب على الحال.

إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أي إنهم اقترفوا الأعمال السيئة والقبائح المنكرة لأنهم لا يطمعون في ثواب، ولا يخافون من حساب لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث. فقوله: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي لا يخافون أو لا يتوقعون حسابا: علة التأبيد في العذاب. وكذبوا بالآيات القرآنية وبالبراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد تكذيبا شديدا. وهذا إشارة إلى فساد عقائدهم، حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل. ثم أخبر الله تعالى عن إحصاء جميع أعمالهم بقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً أي إننا علمنا جميع أعمال العباد، وكتبناها عليهم، وكتبها الحفظة كتابة تامة شاملة، وسنجزيهم على ذلك، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وقوله كِتاباً مصدر في موضع إحصاء، أو أن «أحصينا» في معنى كتبنا، لالتقاء الإحصاء والكتابة في معنى الضبط والتحصيل «1» . ثم ذكر ما يقال لهم في التعذيب تقريعا وتوبيخا لهم: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي يقال لأهل النار لكفرهم، وتكذيبهم بالآيات، وقبح أفعالهم: ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه. قال عبد الله بن عمرو: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فهم في مزيد من العذاب أبدا.

_ (1) قال أبو حيان في البحر المحيط (8/ 415) : وَكُلَّ شَيْءٍ: عام مخصوص أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب، من جملة اعتراض معترضة. [.....]

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي: 1- إن يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بين الخلائق وقت، ومجمع، وميعاد للأولين والآخرين، لما وعد الله من الجزاء والثواب. 2- تحدث في بداية يوم القيامة ظواهر خطيرة ثلاث: هي نفخ إسرافيل في الصور (القرن) فيأتي الناس من قبورهم زمرا وجماعات، وتفتّح وتشقّق أو تفطر السماء، فتصير كلها كأنها أبواب، وتسيير الجبال وإزالتها من أماكنها الأصلية. 3- أخبر الله تعالى عن حال الأشقياء، وقدم ذكرهم على السعداء لأن الكلام في السورة بنى على التهديد، وهو أن جهنم تكون مكانا مرصدا للطغاة الذين طغوا في دينهم بالكفر، وفي الدنيا بالظلم، أو أنها ترصد أعداء الله وتراقبهم حتى ينزلوا فيها، وتكون المرجع الذي يرجعون فيه إليها. 4- كيفية استقرارهم في النار: هي أنهم يكونون ماكثين في نار جهنم إلى الأبد ما دامت الأحقاب تتوالى، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب، والحقب: الدهر، والأحقاب: الدهور، والحقبة: السنة. 5- لا يذوق الطغاة في جهنم أو في الأحقاب بردا يخفف الحر أو نوما، ولا شرابا يروي من العطش إلا الماء الحار والغساق: صديد أهل النار. 6- لا ظلم في هذا الجزاء، وإنما هو موافق لأعمالهم، فإنهم كانوا لا يخافون محاسبة على أعمالهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وكذّبوا بما جاءت به الأنبياء تكذيبا شديدا. وهذا دليل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن.

وهو جزاء دقيق عادل فإن الله تعالى عالم بأفعالهم علما لا يزول ولا يتبدل، وقد أحصاها عليهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة، كما أن الحفظة الملائكة الموكلين بأمر العباد كتبوا كل شيء عليهم بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة، بدليل قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار 82/ 10- 11] وقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ دليل على كونه تعالى عالما بالجزئيات. 7- في قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أظهر الله تعالى غاية السخط بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن العقاب سبب عن كفرهم بالحسنات، وتكذيبهم بالآيات. وزيادة العذاب: إما لازدياد كفرهم وعتوهم حينا بعد حين، كقوله تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة 9/ 125] وإما لأن زيادة العذاب عبارة عن استمراره نفسه لأنه يتزايد بمرور الزمان. والمراد: إنا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه، وإن عذاب أهل النار دائم غير متناه، وإنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبدا. وهذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه: أحدها- قوله: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ وكلمة «لن» للتأكيد في النفي. وثانيها- أنه في قوله: كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً ذكرهم بالغيبة، وفي قوله: فَذُوقُوا ذكرهم على سبيل المشافهة، وهذا يدل على كمال الغضب، كما ذكرت. وثالثها- أنه تعالى عدد وجوه العقاب، ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم، ثم عدد فضائحهم، ثم قال: فَذُوقُوا فكأنه تعالى أفتى، وأقام الدلائل، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 19

أحوال السعداء [سورة النبإ (78) الآيات 31 إلى 36] :

أحوال السعداء [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) الإعراب: حَدائِقَ بدل من مَفازاً أو عطف بيان له. وَأَعْناباً عطف على مَفازاً. عَطاءً بدل من جَزاءً وجَزاءً وعَطاءً وحِساباً منصوبات على المصدر. المفردات اللغوية: مَفازاً فوزا وظفرا، أو مكان فوز في الجنة. حَدائِقَ بساتين مثمرة ومشجرة. وَكَواعِبَ جواري في مقتبل العمر، جمع كاعب: وهي الفتاة التي تكعّب واستدار ثديها. أَتْراباً من كن في سن واحدة كاللّدات، جمع ترب: وهي التي تماثل في سنها سن صاحبتها. وَكَأْساً إناء من الزجاج للشرب فيه. دِهاقاً ممتلئة. والمراد خمرا مالئة الأوعية. لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة عند شرب الخمر وغيرها من الأحوال. لَغْواً باطلا من القول أو الكلام. كِذَّاباً تكذيبا لبعضهم بعضا، خلافا لما يحدث في مجالس شرب الخمر في الدنيا. ويقرأ بالتخفيف كِذَّاباً أي كذبا. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ أي جزاهم الله بذلك جزاء، بمقتضى وعده. عَطاءً فضلا منه وإحسانا. حِساباً كافيا لهم، تقول: أعطاني فأحسبني، أي أكثر علي، حتى قلت: حسبي، أي كفاني. ومنه قول الله تعالى: حَسْبِيَ اللَّهُ أي الله كافيّ. المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى شيئا من أحوال الأشقياء أهل النار، ذكر ما لأهل الجنة السعداء من موضع فوز وظفر، حيث زحزحوا عن النار، وأدخلوا الجنة، وأبان أن ذلك تفضل من الله وإحسان، وفي إيراد أحوال الأسعداء والأشقياء مجال للتأمل والمقارنة، وترغيب بالطاعة، المؤدية إلى الجنة، وترهيب من

التفسير والبيان:

المعصية والكفر وتكذيب الرسل المؤدي إلى النار. والخلاصة: أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار، أتبعه بوعد الأخيار. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن السعداء وما أعد لهم من الكرامة والنعيم المقيم، فيقول: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً، وَكَواعِبَ أَتْراباً، وَكَأْساً دِهاقاً أي إن للذين اتقوا ربهم بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه فوزا وظفرا بالمطلوب، ونجاة من النار، بالاستمتاع بالبساتين ذات الأشجار والأثمار والأعناب اللذيذة الطعم، وبالنساء الحور الكواعب ذوات الأثداء القائمة على صدورهن لم تتكسر ولم تتدلّ، المتساويات في السن، وبتناول الكؤوس المترعة المملوءة بالخمر غير المسكرة. وعطف الأعناب على الحدائق من عطف الخاص على العام، الذي يدل على تعظيم حال تلك الأعناب. وفسر ابن عباس مَفازاً بقوله: متنزها، ورجحه ابن كثير لأنه تعالى قال بعده: حَدائِقَ والحدائق: البساتين من النخيل وغيرها. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً أي لا يسمعون في الجنة الباطل من الكلام، ولا يكذب بعضهم بعضا كقوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور 52/ 23] ، وهذا دليل على نظافة البيئة وسموها الأدبي، مما ترتاح له النفوس، خلافا لحال الدنيا حيث يسمع فيها الإنسان المؤمن ما يجرح الشعور ويؤلم النفس، فليس في الجنة كلام لاغ ساقط عار عن الفائدة، ولا إثم كذب، بل هي دار السلام، وكل ما فيها سالم من النقص. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً أي جازاهم الله تعالى على إيمانهم وصالح أعمالهم، وأعطاهم ذلك عطاء تفضلا منه وإحسانا، كافيا وافيا شاملا كثيرا، حسبما وعدهم به من مضاعفة أجر الحسنات وتكفير السيئات.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: وعد الله تعالى المتقين الذين اتقوا مخالفة أمر الله بخمسة أمور: 1- الفوز والنجاة والخلاص مما فيه أهل النار. 2- التمتع بالرياض الغناء والحدائق أو البساتين المتنوعة الأشجار والأثمار، وهذا هو الأمن الغذائي. 3- الاستمتاع بالحور الكواعب ذوات النواهد التي تكعبت أثداؤهن، اللدات الأقران في السن، وهذا هو الإشباع الجنسي أو الغريزي. 4- تناول الكؤوس المترعة الملأى بالخمور غير المسكرة، كما وصفها الله تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19] . وهذه متعة اللهو المباح. 5- الأمن النفسي في الجنة، حيث لا يسمع أهلها باطلا من الكلام، ولا تكذيبا لبعضهم بعضا في مجالس الشراب والمتعة لأن أهل الشراب في الدنيا يسكرون ويتكلمون بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم، ولم يتكلموا بلغو. وبعد تعداد أنواع نعيم أهل الجنة، توّجوا بالمنحة الربانية، وأخبروا بأن الله جزاهم بما تقدم جزاء منه، وأعطاهم عطاء كثيرا كافيا وافيا.

عظمة الله ورحمته وتأكيد وقوع يوم القيامة وتهديد الكافرين المعاندين [سورة النبإ (78) الآيات 37 إلى 40] :

عظمة الله ورحمته وتأكيد وقوع يوم القيامة وتهديد الكافرين المعاندين [سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) الإعراب: رَبِّ السَّماواتِ بالجر: بدل من رَبِّكَ المتقدم، وبالرفع: على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره: هو رب السموات. والرَّحْمنِ بالجر صفة رَبِّ وبالرفع: إما مبتدأ، ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ الخبر، وذلك حسن لوجود الهاء في مِنْهُ وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو الرحمن. يَوْمَ يَقُومُ يوم ظرف لقوله: لا يَمْلِكُونَ. صَفًّا حال، أي: مصطفين. إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ مَنْ في موضع رفع على البدل من واو يَتَكَلَّمُونَ ويجوز أن يكون في موضع نصب على الأصل في الاستثناء. والرفع على البدل أوجه. ْمَ يَنْظُرُ وْمَ ظرف لقوله: ذاباً. البلاغة: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا عطف عام على خاص لأن الروح هو جبريل عليه السلام، وهو من الملائكة، وأفرد بالذكر تنويها بقدره. المفردات اللغوية: لا يَمْلِكُونَ أي العباد. مِنْهُ من الله تعالى. خِطاباً مخاطبة ومكالمة، أي لا يقدر أحد أن يخاطبه خوفا منه. الرُّوحُ جبريل عليه السلام. صَفًّا مصطفين.

المناسبة:

لا يَتَكَلَّمُونَ أي العباد، وهو تقرير وتوكيد لقوله: لا يَمْلِكُونَ قال البيضاوي: فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم إلى الله، إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا، كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه، فكيف يملكه غيرهم؟ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام. وَقالَ صَواباً أي وقال قولا صائبا من المؤمنين والملائكة، كأن يشفعوا لمن ارتضى. ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ الثابت وقوعه، الكائن لا محالة، وهو يوم القيامة. إِلى رَبِّهِ إلى ثوابه. مَآباً مرجعا، أي رجع إلى الله بالإيمان والطاعة، ليسلم من العذاب فيه. نَّا أَنْذَرْناكُمْ يا كفار مكة وأمثالكم، والإنذار: التحذير من المكروه قبل وقوعه. ذاباً قَرِيباً عذاب يوم القيامة الآتي، وكل آت قريب. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ حين يرى كل امرئ ما قدمه من خير أو شر، والمرء عام، يشمل الذكر والأنثى، والمؤمن والكافر. يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً أي فلا أعذب، يقول ذلك عند ما يحشر الله البهائم للاقتصاص من بعضها لبعض، ثم تردّ ترابا، فيود الكافر حالها. المناسبة: بعد أن وصف الله تعالى وعيد الكفار ووعد المتقين، ختم الكلام بالإخبار عن عظمته وجلاله وشمول رحمته وعلى التخصيص يوم القيامة، وأردفه ببيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وأن الناس فيه فريقان: فريق بعيد من الله، ومصيره إلى النار، وفريق قريب من الله، وتكريمه وثوابه، ومرجعه إلى الجنة، ثم عاد إلى تهديد الكفار المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم وكفرهم. التفسير والبيان: يخبر الله تعالى عن عظمته وجلاله وشمول رحمته كل شيء، فيقول: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أي إن الجزاء الحسن والعطاء الكافي الوافي لأهل الإيمان والطاعة هو ممن اتصف بالعظمة والجلال، ورب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، والرحمن الذي شملت رحمته كل شيء، والذي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه، لهيبته وتعاليه، ثم أكد هذا وقرره بقوله:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً أي إن عظمة الله تتجلى في يوم القيامة وتظهر عيانا للخلائق، حتى إن جبريل عليه السلام وجميع الملائكة المصطفين، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم لأنهم أعظم المخلوقات قدرا ورتبة لا يتكلمون في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين: أحدهما- الإذن من الله بالشفاعة، كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 2/ 255] وقوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود 11/ 105] وقوله عز وجل: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه 20/ 109] . والثاني- أن يقول صوابا: أي أن يقول حقا وصدقا إذا كان الإذن للشافع، وأن يكون ذلك الشخص المشفوع له ممن قال في الدنيا صوابا، أي شهد بالتوحيد بأن قال: لا إله إلا الله، إذا كان الإذن للمشفوع. والروح: هو جبريل عليه السلام في رأي الأكثرين لقوله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء 26/ 193- 194] . وقال ابن عباس: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا. وقال ابن مسعود: إنه ملك أعظم من السموات والأرض. وفي الآية دلالة على أن الملائكة وجبريل عليهم السلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة، وعلى عظمة يوم القيامة ورهبته. ثم أخبر الله تعالى بأن يوم القيامة حق لا ريب فيه، فقال: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي إن ذلك اليوم الذي تقوم فيه الملائكة على تلك الصفة هو اليوم الثابت، الكائن الواقع المتحقق الذي لا ريب فيه، فمن أراد النجاة فيه، اتخذ إلى ثواب ربّه مرجعا وطريقا يهتدي

إليه، ويقرّبه منه، ويدنيه من كرامته، ويباعده عن عقابه، بالإيمان الحق والعمل الصالح. ثم عاد الله تعالى إلى تهديد الكفار وتحذيرهم وتخويفهم من ذلك اليوم، فقال: َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، وَيَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً أي إننا يا أهل مكة وأمثالكم من الكفار حذّرناكم وخوّفناكم عذابا قريب الوقوع وهو يوم القيامة فإنه لتأكد وقوعه صار قريبا، ولأن كل ما هو آت قريب، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 79/ 46] . وفي هذا اليوم القريب ينظر كل امرئ ما قدّم من خير أو شرّ في حياته الأولى في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران 3/ 30] . ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب، مثل أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط وأبي جهل وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: ليتني كنت ترابا، فهو يتمنى إن لم يكن إنسانا يبعث، وإنما كان ترابا، ويتمنى أن يصير ترابا كالحيوانات بعد الاقتصاص من بعضها لبعض، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما، كما ذكر ابن كثير، ومضمون تلك الأخبار: أن البهائم تحشر، فيقتصّ للجمّاء من القرناء، ثم تردّ ترابا، فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب. والآيتان الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين: فريق المؤمنين المقربين من ثواب الله وكرامته ورضاه، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة الله، الواقعين في صنوف العذاب.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لله تعالى في الدنيا والآخرة صفتان عظيمتان: هما العظمة والجلال فهو ربّ السموات والأرض والكون، والرحمة الشاملة لكل شيء، فهو الرحمن الرحيم. 2- اقتضت عظمة الله ألا يقدر أحد على مخاطبته يوم القيامة إلا لمن أذن له بالشفاعة. 3- لا يتكلم جبريل والملائكة في موقف القيامة إجلالا لربّهم وخوفا منه وخضوعا له، فكيف يكون حال غيرهم؟ 4- إن يوم القيامة كائن واقع حتما لا شك فيه، فالسعيد من اتّخذ فيه إلى ربّه مرجعا بالإيمان والعمل الصالح. 5- إن يوم القيامة وما فيه من العذاب قريب الوقوع لأن كل آت قريب، وفيه يجد كل إنسان ما قدم من خير أو شر. 6- يتمنى الكافر يوم القيامة لما يرى من أنواع العذاب أن يكون ترابا أو حيوانا غير مكلف بشيء.

سورة النازعات:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النازعات مكيّة، وهي ست وأربعون آية. تسميتها: سميت سورة النازعات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالنازعات وهم الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم، إما بيسر وسهولة وهم المؤمنون، وإما بعسر وشدة وهم الكفار. مناسبتها لما قبلها: تتعلق السورة بما قبلها من وجهين: 1- تشابه الموضوع: فكلتا السورتين تتحدثان عن القيامة وأحوالها، وعن مآل المتقين، ومرجع المجرمين. 2- تشابه المطلع والخاتمة: فإن مطلع السورتين في الحديث عن البعث والقيامة، الأولى تؤكد وجود البعث وما فيه من أهوال وحساب وجزاء، والثانية افتتحت بالقسم على وقوع القيامة لتحقيق ما في آخر عم. والأولى اختتمت بالإنذار بالعذاب القريب يوم القيامة، والثانية ختمت بالكلام عما في أولها من إثبات الحشر والبعث، وتأكد حدوث القيامة، فكان ذلك كالدليل والبرهان على مجيء القيامة وأهوالها.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: موضوع السورة كما أشرنا كسائر موضوعات السور المكية، التي تهتم بأصول العقيدة من التوحيد، والنبوة، والبعث. شرعت السورة بالقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد لإثبات البعث: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً.. [الآيات: 1- 5] والمقسم عليه محذوف وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة، وهو: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [6- 7] ، أو بدليل إنكارهم للبعث في قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [10] . ثم وصفت أحوال المشركين المنكرين البعث، فصوّرت مدى الذعر الشديد والاضطراب الذي يكونون عليه يوم القيامة، وذكرت مقالتهم في إنكار البعث والردّ عليهم: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ.. [الآيات: 8- 14] . وناسب ذلك إيراد قصة موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية الجبار الذي ادّعى الربوبية، ثم أهلكه الله وجنوده بالغرق في البحر، للعظة والعبرة، والدلالة على كمال القدرة الإلهية، بإفهامهم أن الكرّة والإعادة ليست صعبة على الله، فما هي إلا زجرة أو صيحة واحدة: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى.. [الآيات: 15- 26] . ثم خاطب الله منكري البعث خطابا يتضمن إثبات البعث بالبرهان الحسي، متحديا طغيانهم وتمردهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومذكرا إياهم أنهم أضعف من خلق السموات والأرض والجبال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها.. [الآيات: 27- 32] . وختمت السورة ببيان أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فيه فريقين:

الحلف على وقوع البعث وأحوال المشركين فيه والرد على إنكارهم إياه [سورة النازعات (79) الآيات 1 إلى 14] :

سعداء وأشقياء، وسؤال المشركين عن ميقات الساعة، وتفويض أمرها إلى الله تعالى، لا إلى أحد حتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتأكيد حدوثها، وذهول المشركين من شدة هولها، ومعرفتهم أن مكثهم في الدنيا كمقدار العشي أو الضحى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى.. [الآيات: 34- 46] . الحلف على وقوع البعث وأحوال المشركين فيه والرد على إنكارهم إياه [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) الإعراب: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً غَرْقاً منصوب على المصدر، وكذلك نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلها منصوبات على المصدر. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أَمْراً منصوب إما لأنه مفعول به ل فَالْمُدَبِّراتِ أو بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: والمدبرات بأمر لأن التقدير ليس إلى الملائكة، وإنما هو إلى الله تعالى، فهي مرسلة بما يأمرها به. وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن، بدليل إنكارهم للبعث في قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أو الجواب: يَوْمَ تَرْجُفُ على تقدير حذف اللام، أي ليوم ترجف، وهذا ضعيف، أو الجواب: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يَوْمَ: إما منصوب بفعل دلّ عليه قوله تعالى: قُلُوبٌ

البلاغة:

يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي وجفت قلوبهم، فيكون يومئذ بدلا من يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ أو بتقدير: اذكر يوم ترجف، والجملة حال. البلاغة: تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً أقسم الله بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعا بشدة وألم. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً الملائكة التي تخرج أرواح المؤمنين برفق وسهولة. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً الملائكة التي تسبح من السماء، أي تنزل مسرعة بأمره تعالى. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً الملائكة تسبق بالأرواح إلى مستقرها. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً تنزل بتدبير ما أمرت به. فهذه كلها صفات الملائكة، وقيل: إنها الكواكب الجارية على نظام معين في سيرها، غَرْقاً مسرعة في جريها. نَشْطاً خارجة من برج إلى برج. سَبْحاً سائرة في أفلاكها بهدوء. سَبْقاً مسرعة قبل غيرها في سبحها. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً تدبر أمرا نيط بها، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات. تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تضطرب الأرض والجبال وتتحرك، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل 73/ 14] . تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ تلحق بها السماء والكواكب، فتنشق وتنتثر، وقيل: الرَّاجِفَةُ: النفخة الأولى، والرَّادِفَةُ: النفخة الثانية. واجِفَةٌ خائفة قلقة شديدة الاضطراب، من الوجيف: وهي صفة القلوب. خاشِعَةٌ ذليلة، لهول ما ترى، أي أبصار أصحابها ذليلة من الخوف. يَقُولُونَ أي أصحاب القلوب والأبصار استهزاء وإنكارا للبعث. لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي أنرد بعد الموت إلى الحياة؟ والْحافِرَةِ الحياة الأولى، يقال: فلان رجع في حافرته، أي طريقته التي جاء فيها، فيرجع من حيث جاء. نَخِرَةً بالية متفتتة. قالُوا: تِلْكَ أي رجعتنا إلى الحياة. إِذا إن صحت. كَرَّةٌ خاسِرَةٌ رجعة ذات خسران يخسر أصحابها. زَجْرَةٌ صيحة وهي النفخة الثانية لبعث الأموات. فَإِذا هُمْ كل الخلائق. بِالسَّاهِرَةِ أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض، بعد أن كانوا ببطنها أمواتا.

سبب النزول نزول الآية (10، 12) :

سبب النزول: نزول الآية (10، 12) : أخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال: لما نزل قوله: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ قال كفار قريش: لئن حيينا بعد الموت لنخسرن، فنزلت: قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ. التفسير والبيان: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً «1» أقسم الله سبحانه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار من أجسادهم بشدة وعنف وإغراق في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، وتخرج أرواح المؤمنين بسرعة ولطف وسهولة، وبالملائكة الذين ينزلون من السماء مسرعين، لأمر الله تعالى، والملائكة التي تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وتدبر الأمر بأن تنزل بالحلال والحرام وتفصيلهما، وتدبر أهل الأرض بالرياح والأمطار وغير ذلك. قيل: إن تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل: فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل: فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل: فهو ينزل بالأمر عليهم. وقال الحسن البصري: المراد بالكلمات الخمس: النجوم والكواكب في جريها وتنقلها بين الأبراج وسيرها في أفلاكها هادئة أو مسرعة أو مدبرة أمرا بأمر الله تعالى.

_ (1) عطف بالواو ثم بالفاء: لأن الواو تدل على المغايرة، والمراد هنا تغاير الصفة الدالة على تغاير الذات، والفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد هنا ترتب الأحوال على ما قبلها.

وإنما قال: أَمْراً، لا أمورا لأن المراد به الجنس، فيقوم مقام الجمع، وتدبير الأمر في الحقيقة لله تعالى، وإنما أضيف إلى الملائكة لإتيانها به، ولأنها من أسبابه. وجواب القسم محذوف، أي لتبعثن بعد الموت، بدليل إنكارهم البعث كما حكى الله عنهم فيما بعد بقوله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [11] أي انبعث بعد نخر العظام؟ وإنما عطف الثلاثة الأولى بالواو، والباقيتين بالفاء لأن هاتين مسببتان عن التي قبلها، كما قال الزمخشري. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل 73/ 14] ثم تتلوها السماء، فتنشق بما فيها من الكواكب وتنتثر. وقيل: الرَّاجِفَةُ: هي النفحة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، وتليها النفخة الثانية التي يكون عندها البعث. أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله عنه، واللفظ للترمذي، قال: «إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال: يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» زاد أحمد: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك» . قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي هناك قلوب تكون يوم القيامة خائفة مضطربة قلقة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة، وهي قلوب الكفار، وأبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال، بسبب موتهم على غير الإسلام، وإنكارهم البعث، وهذه هي أقوالهم:

فقه الحياة أو الأحكام:

يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي يقول مشركو قريش وأمثالهم المنكرون المعاد، المستبعدون وقوع البعث إذا قيل لهم: إنكم تبعثون، هل نردّ إلى حياتنا الأولى وابتداء أمرنا قبل الموت، فنصير أحياء بعد موتنا، وبعد المصير إلى الحافرة وهي القبور؟ وهو كقولهم: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء 17/ 98] . وكيف يتصور أن نرد إلى الحياة بعد تمزق أجسادنا وتفتت عظامنا، وصيرورتها عظاما بالية ناخرة؟ إن رددنا بعد الموت وصحّ أن بعثنا يوم القيامة لنخسرنّ أو تكون رجعة ذات خسران لتكذيبنا بما أخبر به محمد، وسيصيبنا ما يقوله هذا النبي. وهذا القول صادر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم، لاعتقادهم ألا بعث. ثم ردّ الله تعالى عليهم وأفحمهم قائلا: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي لا تستبعدوا ذلك، فإنما الأمر يسير، ولا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، وما هي إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى من القبور، فإذا هم على وجه الأرض أحياء، وحينئذ يحاسب الخلائق. والساهرة على الصحيح هي أرض الآخرة، وهي أرض بيضاء مستوية، والمراد بها هنا: وجهها الأعلى، وسطحها الظاهر. وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ، وقيل: هي أرض بالشام. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أقسم الله سبحانه بأنواع خمسة من الملائكة ذوي مهام متنوعة على أن القيامة حق. والقسم بها تعظيم لها وتنويه بها. ولله أن يقسم على ما يشاء في أي وقت يشاء،

ولإثبات أو نفي ما يشاء، كالتوحيد وأن القرآن حق والرسول حق والبعث حق. والمقسم به من المخلوقات في القرآن الكريم أحد نوعين: الأول- أن تكون المخلوقات معظمة عند بعض الناس، كالشمس والقمر. الثاني- أن تكون المخلوقات مهملة مذهول عنها في أنظار الناس، كمواقع النجوم والرياح والملائكة. 2- في يوم القيامة الرهيب ترجف الأرض والجبال، وتتحرك وتضطرب، وتتبعها السماء، فتنشق وتنتثر، والأرض: هي الراجفة، والسماء: هي الرادفة، وقيل: الراجفة هي النفخة الأولى، والرادفة هي النفخة الثانية. والظاهر المعنى الأول، قال مجاهد: الرادفة حين تنشق السماء، وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة. 3- تكون قلوب الكفار الذين ماتوا على غير دين الإسلام خائفة وجلة، وأبصار أصحابها منكسرة ذليلة من هول ما ترى. 4- أثبت المشركون المكذبون منكرو البعث على أنفسهم إنكار المعاد والبعث بأقوال ثلاثة، فإذا قيل لهم: إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ ولا نتصور أن نعود كما كنا بعد أن نصير عظاما نخرة، أي بالية متفتّتة. وزادوا في الاستهزاء والتهكم، فقالوا: إننا إذا بعثنا فتلك رجعة خائبة، كاذبة باطلة. 5- ردّ الله تعالى عليهم وأفحمهم فقال: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، فما هي إلا صيحة واحدة، فإذا هم بالساهرة أي على وجه الأرض أو سطحها، بعد أن كانوا في بطونها. قال الثوري: الساهرة: أرض الشام.

التهديد بقصة موسى عليه السلام مع فرعون [سورة النازعات (79) الآيات 15 إلى 26] :

التهديد بقصة موسى عليه السلام مع فرعون [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) الإعراب: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى لَكَ: جار ومجرور خبر مبتدأ محذوف، أي هل لك ميل أو رغبة؟ وهو استفهام معناه العرض، وهو لطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم، فهو كلام محمول على «ادعوا» فكأنه قال: ادعوا إلى التزكي: وهو التحلي بالفضائل والتطهر من الرذائل. وتَزَكَّى أصله: تتزكى، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، ومنهم من أبدل من التاء الثانية زايا، وأدغم التاء في الزاي، ولم يدغم الزاي في التاء لأن في الزاي زيادة صوت. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى نَكالَ: إما مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر، فهو مصدر مؤكد، كوعد الله وصبغة الله، كأنه نكل الله به نكال الآخرة والأولى، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم، والمراد الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. البلاغة: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أسلوب التشويق إلى معرفة القصة. المفردات اللغوية: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى؟ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقصد تسليته على تكذيب قومه، وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثلما أصاب من هو أعظم منهم. الْمُقَدَّسِ المبارك المطهر، والوادي المقدس واد بأسفل جبل طور سيناء. طُوىً واد بين أيلة ومصر. اذْهَبْ إِلى

المناسبة:

فِرْعَوْنَ على إرادة القول، أي وقال له. طَغى تجاوز الحد في الكفر. هَلْ لَكَ أدعوك أو هل ترغب فيه؟ إِلى أَنْ تَزَكَّى تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل، والمراد: هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر أو الشرك والطغيان بأن تشهد أن لا إله إلا الله؟ وقرئ: تزكّى بتشديد الزاي بإدغام التاء الثانية في الزاي. والتزكي في الأصل: التطهر من العيوب. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أرشدك إلى معرفته، أو أدلك على معرفته. فَتَخْشى فتخاف بأداء الواجبات وترك المحرمات. فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي فذهب وبلغ، فأراه المعجزة الكبرى والعلامة الدالة على صدقه في دعوى النبوة، وهي انقلاب العصا حية، أو اليد تخرج بيضاء. فَكَذَّبَ فرعون موسى. وَعَصى الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقق أمر النبوة. أَدْبَرَ ترك موسى وأعرض عن الإيمان والطاعة. يَسْعى في الأرض بالفساد وفي إبطال أمر موسى ومكايدته. فَحَشَرَ جمع السحرة وجنده. فَنادى في الجمع بنفسه أو بمناد. فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى في ولاية أمركم، لا ربّ فوقي. فَأَخَذَهُ اللَّهُ أهلكه بالغرق. نَكالَ عقوبة أو عذاب. الْآخِرَةِ وَالْأُولى القيامة والدنيا، أي أخذه منكلا به في الآخرة بالإحراق في جهنم، وفي الدنيا بالإغراق. وقيل: المراد كلمته الآخرة وهي هذه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكلمته الأولى قبلها، وهي قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] وكان بينهما أربعون سنة. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَعِبْرَةً لعظة. لِمَنْ يَخْشى لمن شأنه الخشية من الله تعالى. المناسبة: بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث، واستهزاءهم في قولهم: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وكان ذلك يشق على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر له قصة موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية، حيث تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون، ليكون ذلك كالتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه وشدة عنادهم وإعراضهم عن دعوته. كما يكون ذلك تهديدا للكفار بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أقوى وأعتى وأشد شوكة وأكثر جمعا، فإن أصروا على كفرهم، واستمروا في تمردهم أخذهم الله، وجعلهم نكالا وعبرة، كما جاء في آية أخرى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، قالُوا: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [فصّلت 41/ 13- 14] .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً أي ألم يبلغك قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حيث ابتعثه الله إليه، وأيّده بالمعجزات، حين ناداه ربّه ليلا، مكلما إياه، مكلفا له بالنبوة والرسالة في الوادي المبارك المطهّر وهو طوى: وهو الوادي في جبل سيناء الذي نادى الرّب فيه موسى. وإنما ذكّر الله بقصة موسى عليه السلام لأنه أبهر الأنبياء المتقدمين معجزة، ولأن فيها تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلاقيه من إعراض قومه، ولتهديد كفار قريش بإنزال عذاب مشابه لما أنزل بفرعون وجنوده، مع أنه كان أكثر جمعا وأشد قوة منهم. ثم أبان الله تعالى مهمة موسى عليه السلام بقوله: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي قال الله له: اذهب إلى فرعون طاغية مصر، فإنه جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر بالله، حيث ادّعى الربوبية، وتجبر على بني إسرائيل، واستعبد قومه. ثم علّمه أسلوب الدعوة فقال: فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أي فقل لفرعون بعد وصولك إليه: هل لك رغبة في التطهر من الشرك والعيوب؟ وإني أرشدك إلى معرفة الله وتوحيده وعبادته، فتخاف عقابه، بأداء ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. والخشية لا تكون إلا من مهتد راشد. وإنما أمره الله بلين القول، ليكون أنجع في الدعوة لأن دعوة الجبابرة تتطلب عادة التلطف والرفق والمداراة، لتخفيف غلوائهم، واستنزال شيء من

عتوهم وتجبرهم. وقد تكرر الأمر باللين في هذه القصة في القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه 20/ 44] . والآية دليل على أن المقصود الأعظم من بعثة الرسل هداية الناس إلى معرفة الله، وأن معرفة الله تستفاد من الهادي. ثم أبان الله تعالى أن موسى أظهر لفرعون معجزته، فقال: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي فأظهر له العلامة والمعجزة الكبرى الدالة على صدق نبوته، وهي انقلاب العصا حية أو اليد، ومع ذلك كذّب وخالف، كما قال تعالى: فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أي فكذب فرعون بموسى وبما جاء به وبالحق، وعصى الله عزّ وجلّ فلم يطعه، وتولى وأعرض عن الإيمان، وأخذ يسعى بالفساد في الأرض، ويجتهد في مكايدة موسى ومعارضة ما جاء به. والجمع بين فَكَذَّبَ وَعَصى للدلالة على أنه كذب بالقلب واللسان، وعصى بأن أظهر التمرد والتجبر. فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي فجمع جنوده للتشاور أو جمع السحرة للمعارضة، ثم نادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر مناديا ينادي قائلا: أنا الرّب الأعلى، وصاحب السلطان المطلق، الذي ليس لأحد سواي ولاية أمركم، ولا ربّ فوقي، فكان جزاؤه الإغراق مع جنوده، كما قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وانتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله المتمردين في الدنيا، ونكّل به نكال الآخرة وهو عذاب النار، ونكال الأولى وهو

فقه الحياة أو الأحكام:

عذاب الدنيا بالغرق، ليتعظ به من يسمع خبره، وإن فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه ويتعظ وينزجر، فينظر في أحداث الماضي، ويقيس بها أحوال الحاضر والمستقبل. فقوله: الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي الدنيا والآخرة، وهو الصحيح في معنى الآية كما قال ابن كثير. فقه الحياة أو الأحكام: إن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ، فقد أرسله الله إليه، وأيّده بالمعجزات، ومع هذا استمر فرعون في كفره وطغيانه، فانتقم الله منه انتقاما شديدا، وأغرقه وجنوده في البحر الأحمر. وفي القصة تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلاقيه من صدود قومه، وتحذير للكفار المتمردين والعتاة المتجبرين بإنزال عقاب مماثل إن استمروا في كفرهم وعتوهم وإعراضهم عن قبول دعوة الإسلام. فلقد كان فرعون أقوى من كفار أي عصر، فإنه تجاوز الحدّ في العصيان، وأبى قبول دعوة موسى إلى تطهير نفسه من الذنوب والمآثم والكفر، ولم يقبل ما أرشده إليه من طاعة ربّه، ولم يصدّق بمعجزته وهي انقلاب العصا حية، أو اليد البيضاء تبرق كالشمس، وكذّب نبوته وعصى ربّه عزّ وجلّ، وولّى مدبرا معرضا عن الإيمان، ساعيا في الأرض بالفساد، وقال لقومه بصوت عال: أنا ربّكم الأعلى، أي لا ربّ لكم فوقي. ولكنه مع كل هذا لم يعجز الله القوي القادر القاهر، فأهلكه الله في الدنيا مع جنوده بالغرق، وسيعذبه في الآخرة بنار جهنم. إن في هذه القصة، وما أحل الله بفرعون من الخزي، وتحقيق العلو والنصر لموسى عليه السلام، لاعتبارا وعظة لمن يخاف الله عزّ وجلّ، ففيها بيان العقاب العادل وأسبابه ومسوغاته، وبها يتبين لكل عاقل ضرورة أن يدع التمرد على

إثبات البعث بخلق السموات والأرض والجبال [سورة النازعات (79) الآيات 27 إلى 33] :

الله تعالى، والتكذيب لأنبيائه، خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون وجنوده. كما عليه أن يعلم بأن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله. فمن ارتكب ما يوجب العقاب من مثل ذلك قولا وفعلا، اشترك في العقاب نفسه في الدنيا والآخرة. إثبات البعث بخلق السموات والأرض والجبال [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) الإعراب: بَناها الجملة صفة للسماء. أَخْرَجَ مِنْها الجملة حال بإضمار (قد) أي مخرجا. مَتاعاً لَكُمْ مفعول لأجله، لفعل مقدر، أي فعل ذلك متعة، أو منصوب على المصدر، أي تميعا. البلاغة: أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها بينهما مقابلة. السَّماءُ والْأَرْضَ بينهما طباق. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها استعارة تصريحية في كلمة مَرْعاها أي نباتها، شبه أكل الناس برعي الأنعام، وأستعير الرعي للإنسان، بجامع الأكل. فإطلاق المرعى على ما يأكله الناس استعارة.

المفردات اللغوية:

ضُحاها، دَحاها، مَرْعاها، أَرْساها سجع مرصع وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: أَشَدُّ خَلْقاً أصعب خلقا. أَمِ السَّماءُ أشد خلقا. بَناها بيان لكيفية خلقها، والمسؤول يجيب، ولا بد أن يكون الجواب: السماء، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثرها. رَفَعَ سَمْكَها تفسير لكيفية البناء، والسمك أو السمت: مقدار الارتفاع من الأسفل إلى الأعلى، والمعنى: جعل الله مقدار ارتفاعها من الأرض وسماكتها باتجاه العلو رفيعا ثخينا. فَسَوَّاها جعلها مستوية الخلق معدلة محكمة بلا عيب، بحيث جعل كل جزء في موضعه. وَأَغْطَشَ لَيْلَها أظلمه. وَأَخْرَجَ ضُحاها أبرز نور شمسها، والمراد بالضحى: النهار، كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي النهار. دَحاها بسطها ومهّدها للإنسان، وجعلها كالبيضة ليست تامة الكروية، كما هو معروف، فهي مفلطحة من جانبها. أَخْرَجَ مِنْها أي أخرج مخرجا منها. ماءَها بتفجير العيون. وَمَرْعاها نباتها، وهو يشمل ما ترعاه الأنعام من الشجر والعشب، وما يأكله الناس من الأقوات والثمار. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم، أو تمتيعا لكم ولمواشيكم، والأنعام: جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم. المناسبة: بعد بيان قصة موسى وفرعون، عاد إلى مخاطبة منكري البعث محتجا عليهم ببدء الخلق على إعادته، فإنه تعالى خلق السموات البديعة، والأرض الوسيعة المعدّة للاستقرار والحياة عليها بإعداد وسائل المعيشة فيها، وخلق الجبال الرواسي لإرساء الأرض وتثبيتها. التفسير والبيان: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها؟ أي هل أنتم أيها الناس أصعب خلقا بعد الموت، وبعثكم أشدّ عندكم وفي تقديركم من خلق السماء؟ لا شك بأن السماء أشدّ خلقا، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر 40/ 57] وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 36/ 81] . فمن قدر على خلق السماء ذات الأجرام العظيمة التي يتحدث عنها علماء الفلك والفضاء بدهشة، وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو واضح، كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة؟! ثم بيّن الله تعالى صفة خلق السموات، وأنه بناها بضم أجزائها بعضها إلى بعض، مع ربطها بما يمسكها حتى صارت بناء واحدا، ورفع ثخانتها في الجو، وجعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض بدون أعمدة، وجعلها عالية البناء، مستوية الخلق، معدّلة الشكل، لا تفاوت فيها ولا اعوجاج، ولا فطور ولا شقوق، بان أبدع في خلق الكواكب العديدة التي تفوق الملايين، وجعل لكل كوكب حجما معينا، ومدارا يسير فيه دون تصادم مع غيره، حتى صار من مجموعها ما يسمى بالسماء، وما يشبه البناء. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها أي جعل ليل السماء مظلما، وأبرز وأنار نهارها المضيء بإضاءة الشمس، وجعل تعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول مناخا صالحا للعيش والسكنى. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسط الأرض ومهدها وجعلها مفلطحة كالبيضة بعد خلق السماء، إلا أنها كانت مخلوقة غير مدحوة قبل خلق السماء، ثم دحيت بعد خلق السماء، كما جاء في سورة السجدة (فصّلت) : قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ [9- 11] فهذه الآية دليل على أن خلق السموات كان بعد خلق الأرض، إلا أن دحو الأرض وتمهيدها كان بعد خلق السموات «1» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 468

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أوضح ما تم في أثناء الدحو من إعداد وسائل الحياة والعيش، فقال: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي فجّر من الأرض الأنهار والبحار والعيون والينابيع، وأنبت فيها النبات لبني آدم قوتا كالحبوب والثمار، وللأنعام مرعى كالأعشاب والحشائش، وجعل الجبال كالأوتاد للأرض لئلا تميد بأهلها، وقررها وثبّتها في أماكنها. وجعل تعالى كل ذلك منفعة وفائدة أو تمتيعا لكم أيها الناس، ولأنعامكم أكلا وركوبا وهي الإبل والبقر والغنم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل 16/ 10] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أثبت الله تعالى لمنكري البعث قدرته على إعادة الخلق والمعاد، بقدرته على بدء الخلق، وقدرته على خلق السموات العظيمة، المحكمة البناء، والتي جعل فيها الليل والنهار، وخلق الأرض التي دحاها وبسطها ومهدها بعد خلق السموات، وفجر منها الأنهار والينابيع، وأرسى الجبال في أماكنها، كل ذلك لتحقيق المنفعة للإنسان ودوابه التي يأكل منها ويركب عليها. ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ. فمن قدر على السماء قدر على الإعادة، وإذا كان الله قادرا على إنشاء العالم الأكبر، يكون على خلق العالم الأصغر، بل على إعادته أقدر. 2- نبّه الله تعالى بهذا الدليل على أمر معلوم بالمشاهدة، وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة. 3- أشار الله تعالى إلى كيفية خلق السماء بقوله: بَناها وفيه تصوير

للأمر المعقول، وهو الإبداع والاختراع، بالأمر المحسوس وهو البناء. ثم ذكر هيئة البناء بقوله: رَفَعَ سَمْكَها وهو الامتداد القائم من السفل إلى العلو، وعكسه يسمى عمقا. 4- دل قوله تعالى: فَسَوَّاها على أن الأرض كروية، كما دل قوله تعالى: دَحاها على أن كروية الأرض ليست تامة، بل هي مفلطحة كالبيضة. ودحو الأرض لا ينافي تقدم خلق الأرض على السماء في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة 2/ 29] . 5- إنما نسب الله تعالى الليل والنهار إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها، وهذان إنما يحصلان بسبب حركة الفلك. 6- وصف الله تعالى كيفية خلق الأرض بعد وصف كيفية خلق السماء، وذكر صفات ثلاثا: هي دحو الأرض، أي بسطها وتمهيدها الذي حصل بعد خلق السماء، وإخراج الماء والمرعى من الأرض، والمرعى: يشمل جميع ما يأكله الناس والأنعام، وإرساء الجبال وتثبيتها في أماكنها. قال القتبي: دل الماء والمرعى على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان، والملح من الماء. 7- امتن الله تعالى على خلقه بأنه إنما خلق هذه الأشياء في السماء والأرض متعة ومنفعة لهم ولأنعامهم، أو تمتيعا لهم ولأنعامهم. 8- دل مجموع الآيات هنا، وفي سورة السجدة (فصلت) وسورة البقرة وغيرها، على أن الله تعالى خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء ثانيا، ثم دحا الأرض بعد ذلك ثالثا لأنها كانت أولا كالكرة المجتمعة، ثم إن الله تعالى مدها وبسطها.

جزاء فريقي الناس في الآخرة وتفويض علم الساعة لله تعالى وقصر مدة الدنيا [سورة النازعات (79) الآيات 34 إلى 46] :

جزاء فريقي الناس في الآخرة وتفويض علم الساعة لله تعالى وقصر مدة الدنيا [سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 46] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) الإعراب: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى يَوْمَ: بدل من قوله: فَإِذا جاءَتِ.. وما: موصولة أو مصدرية. فَأَمَّا مَنْ طَغى.. الفاء في فَأَمَّا: جواب إذا في قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وهي المأوى له لأنه لا بد من ضمير يعود من الجملة إلى المبتدأ. وذهب الكوفيون إلى أن الألف واللام عوض عن الضمير العائد، والتقدير فيه: مأواه. ويصح أن يكون جواب فَإِذا جاءَتِ محذوفا، دل عليه: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ أو ما بعده من التفصيل. هِيَ الْمَأْوى هي إما ضمير فصل أو مبتدأ. البلاغة: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى.. بينهما مقابلة. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها تشبيه مرسل مجمل. عَشِيَّةً وضُحاها بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الطَّامَّةُ الْكُبْرى الداهية العظمى وهي القيامة، التي تطمّ، أي تعلو على سائر الدواهي، والتي هي أكبر الطامات، أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث، أو ساعة سوق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى بأن يراه مدونا في صحيفته، وكان قد نسيه من فرط الغفلة أو طول المدة، والمراد: كل ما عمل في الدنيا من خير أو شر. وَبُرِّزَتِ أظهرت. الْجَحِيمُ النار المحرقة. لِمَنْ يَرى لكل راء، بحيث لا تخفى على أحد. طَغى تكبر وتجاوز الحد، حتى كفر. وَآثَرَ قدّم وفضل. الْحَياةَ الدُّنْيا باتباع الشهوات، ولم يستعد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس. الْمَأْوى المستقر، أي مأواه، واللام فيه سادّة مسدّ الإضافة، للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي. مَقامَ رَبِّهِ مقامه بين يدي ربّه لعلمه بالمبدأ والمعاد، أو جلاله وعظمته. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى زجرها وكفّها عن هواها المردي باتباع الشهوات. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ليس له سواها مأوى. والحاصل أن العاصي في النار والمطيع في الجنة. يَسْئَلُونَكَ أي كفار مكة. أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها أي وقوعها وقيامها. فِيمَ أي في أي شيء. أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي ما أنت من ذكراها لهم، والمراد: ليس عندك علمها حتى تذكرها. مُنْتَهاها منتهى علمها، لا يعلمه غيره. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ إنما ينفع إنذارك. مَنْ يَخْشاها يخافها، أي إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت. وأما تخصيص (من يخشى) فلأنه المنتفع بالإنذار. لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا أو في القبور. إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي عشية يوم أو ضحاه، كقوله تعالى: إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف 46/ 35] . وإنما أضاف الضحى إلى العشية لأنهما من يوم واحد. سبب النزول: نزول الآية (42) : يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ..: أخرج الحاكم وابن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن الساعة، حتى أنزل عليه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن مشركي أهل مكة سألوا

المناسبة:

النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ استهزاء منهم، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها إلى آخر السورة. وأخرج الطبراني وابن جرير عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة مثله «1» . المناسبة: بعد بيان أدلة القدرة الإلهية على البعث والحشر والنشر، من خلق السماء والأرض، وإثبات إمكان الحشر عقلا، أخبر الله تعالى بعد ذلك عن وقوعه فعلا، وما يصحبه من أهوال، وما يترتب عليه من انقسام الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير. وبعد بيان البرهان العقلي على إمكان القيامة، والإخبار عن وقوعها، وذكر أحوالها العامة وأحوال الأشقياء والسعداء فيها، أجاب الله تعالى عن تساؤل المشركين استهزاء وعنادا عن وقت حدوثها، وأوضح أن علمها مفوض إلى الله تعالى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوث للإنذار فقط، وأن ما أنكروه سيرونه، حتى كأنهم أبدا فيه، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، ثم مضت. التفسير والبيان: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي إذا حان وقت مجيئ الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات، وهي يوم القيامة أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث أو تسليم أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في

_ (1) أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين.

جنبها، فصل الله تعالى بين الخلائق، فمنهم شقي وسعيد، فجواب (إذا) محذوف وهو: فصل الله.. ولذلك اليوم صفتان: إنه حين يتذكر الإنسان جميع ما عمله من خير أو شر لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر 89/ 23] وقال سبحانه: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة 58/ 6] . وفيه تظهر نار جهنم المحرقة إظهارا لا يخفى على أحد. سواء أكان مؤمنا أم كافرا، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91] . قال مقاتل: «يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق» فأما المؤمن: فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر: فيزداد غما إلى غمه، وحسرة إلى حسرته. ثم فصّل الله تعالى ما يحكم به بين الخلائق، فقال: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «1» أي فأما من تكبر وتمرد، وتجاوز الحد في الكفر والمعاصي، وقدّم الحياة الدنيا على أمر الدين والآخرة، ولم يستعد لها، ولا عمل عملها، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. قيل: نزلت الآية في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي وأما من خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه يوم القيامة، وأدرك عظمة الله وجلاله، ونهى نفسه عن هواها، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها، وردها إلى طاعة مولاها، فالجنة مكانه الذي يأوي

_ (1) اللام: للعهد الذهني، أي مأواه اللائق به، ولهذا استغنى عن العائد، ولا حاجة إلى تكلف أن الألف واللام بدل من الإضافة.

إليه، ومستقره ومقامه، لا غيرها. والآية نزلت في مصعب بن عمير وأخيه عمار بن عمير، وهي عامة في كل مؤمن خاف الله، ولم يتبع هواه. وهذان الوصفان مضادان للوصفين اللذين وصف الله بهما أهل النار، فقوله: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ضد فَأَمَّا مَنْ طَغى وقوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ضد قوله: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. والخوف من الله لا بد وأن يكون مسبوقا بالعلم بالله، على ما قال الله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28] . ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى، لذا قدمه على قوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى «1» . ثم ذكر الله تعالى تساؤل المشركين على سبيل الاستهزاء عن ميعاد القيامة، فقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي يسألك أيها النبي المشركون المكذّبون بالبعث عن وقت إرساء القيامة وميعاد وقوعها، متى يقيمها الله ويوجدها، أو ما منتهاها ومستقرها كرسوّ السفينة؟ وذلك حين كانوا يسمعون النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر القيامة بأوصافها الهائلة. مثل الطامة والصاخة والازفة والحاقة والقارعة، فقالوا على سبيل الاستهزاء: أَيَّانَ مُرْساها أي زمان إرسائها. عن عائشة رضي الله عنها- كما تقدم-: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الساعة ويسأل عنها، حتى نزلت، فلما نزلت هذه الآية انتهى. وقال ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متى تكون الساعة، استهزاء؟ فانزل الله عز وجل الآية.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 51

فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ أو في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها، أي لست من ذلك في شيء «1» . وهذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، حرصا على جوابهم. والمعنى ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مردها ومرجعها ومنتهى علمها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، ولا يوجد علمها عند غيره، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها؟ وهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها. ونظير الآية: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف 7/ 187] وقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان 31/ 34] . ولهذا لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن وقت الساعة قال فيما أخرجه مسلم عن عمر: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟» . إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده، اتّبعك فأفلح ونجا، ومن كذب بالساعة وخالفك، خسر وخاب، فدع علم ما لم تكلف به، واعمل بما أمرت به من إنذار. وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي إن هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع حتما، وكأنهم فيه، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر، ورأوا الساعة (القيامة) استقصروا مدة الحياة الدنيا، ورأوا كأنها ساعة من نهار، أو عشية من يوم أو ضحى من يوم. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا

_ (1) البحر المحيط: 8/ 424

فقه الحياة أو الأحكام:

أهوال القيامة. وقال ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل: لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- ليس هناك تصوير أوقع لحال تفاعل النفس وانفعالها بمشهد خطير، مثل هذا التصوير لعلاقة النفس الإنسانية بقيام القيامة. فإنه إذا وقعت الواقعة، وأتت الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، كما قال ابن عباس، تذكّر الإنسان ما عمل من خير أو شر، وشاهد الجحيم النار المحرقة التي تبرز عيانا لكل إنسان مؤمن أو كافر. قال ابن عباس: «يكشف عنها، فتراها تتلظى كل ذي بصر» يراها الكافر بما فيها من أصناف العذاب، ويراها المؤمن ليعرف قدر النعمة التي أنعم الله بها عليه، ويشاهد الكافر الذي يصلى النار. 2- الناس يوم القيامة والبعث فريقان: السعداء والأشقياء. فأما من عتا وتمرد، وتكبر وتجاوز الحد في الكفر والعصيان، وقدّم الحياة الدنيا على الآخرة، فمأواه ومستقرّه النار. وأما من حذر مقامه بين يدي ربه، وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم، فمثواه ومستقره الجنة. قال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة لقوله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى. 3- أدّى تساؤل المشركين عن وقت قيام الساعة استهزاء إلى كثرة سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، حرصا على جوابهم. ولكن الله جلّت حكمته اختص بعلم

الساعة، ولم يطلع أحدا عليها لأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلا، فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها، بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقتها كالموت. 4- حجب الله نبيه عن السؤال عن الساعة، وأعلمه بأن علمها إلى الله وحده، ووجّهه للعناية والقيام بمهمته الأصلية: وهي الإنذار والتخويف لمن يخشى مقام الله لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف، وهو كقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس 36/ 11] . 5- كل ما هو في حكم الواقع واقع حتما، فكأن الكفار والمشركين الذين يتساءلون عن القيامة استهزاء وتهكما واقعون فيها، قائمون في ساحاتها، وهم حين يرونها وما فيها من أهوال تشيب لها الولدان، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، ويقدّرون أنها قدر عشية من ليل أو ضحى من نهار يتبع تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف 46/ 35] .

سورة عبس:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة عبس مكيّة. وهي اثنتان وأربعون اية. تسميتها: سميت سورة (عبس) لافتتاحها بهذا الوصف البشري المعتاد الذي تقتضيه الجبلّة الإنسانية، ويغلب على الإنسان حينما يكون مشغولا بأمر مهم، ثم يطرأ عليه أمر آخر لصرفه عن الأمر السابق، ومع ذلك عوتب النبي صلّى الله عليه وسلّم على عبوسه تساميا لقدره، وارتفاعا بمنزلته النبوية. مناسبتها لما قبلها: لهذه السورة تعلق بما قبلها وهي النازعات لأنه تعالى ذكر هناك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم منذر من يخشى الساعة، وهنا ذكر من ينفعه الإنذار، وهم الذين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يناجيهم في أمر الإسلام ويدعوهم إليه وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة. كما أن بينهما تشابها في موضوع الحديث عن يوم القيامة وأهوالها، وإثبات البعث بمخلوقات الله في الإنسان والكون، فهناك وصفت القيامة بقوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [34] وهنا وصفت بقوله سبحانه: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] وهما من أسماء يوم القيامة. وهناك أثبت الله البعث بخلق السماء والأرض والجبال، وهنا أثبته بخلق الإنسان والنبات والطعام.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: موضوع السورة كسائر موضوعات السور المكية التي تعنى بالعقيدة والرسالة والأخلاق التي قوامها في الإسلام المساواة بين الناس، دون تفرقة بين غني وفقير. ابتدأت السورة بذكر قصة الأعمى عبد الله بن أم مكتوم ابن خال خديجة بنت خويلد الذي قدم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتعلم، في وقت كان فيه مشغولا مع جماعة من صناديد قريش يدعوهم إلى الإيمان، فعبس النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه وأعرض عنه، فعاتبه الله بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى.. [الآيات 1- 16] وأبانت أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبر. ثم نددت بجحود الإنسان وكفره بنعم ربه وإعراضه عن هداية الله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ.. [الآيات 17- 23] . وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على قدرة الله ووحدانيته بخلق الإنسان والنبات وتيسير طعام ابن آدم وشرابه، لإثبات القدرة على البعث: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ.. [الآيات 24- 32] . وختمت السورة بوصف أهوال يوم القيامة، وفرار الإنسان من أقرب الناس إليه، وبيان حال المؤمنين السعداء والكافرين الأشقياء في هذا اليوم: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ.. [الآيات في 33- 42] . سبب نزول السورة: نزلت هذه السورة في شأن عبد الله بن أم مكتوم ابن خال خديجة رضي الله عنها. ويقال: عمرو بن قيس بن زائدة، وهذا أشهر وأكثر كما في جامع الأصول، واسم أم مكتوم: عاتكة بنت عامر بن مخزوم. وذلك أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعنده صناديد قريش: عبتة وشيبة ابنا

ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم شغله بالقوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟» . واستخلفه على المدينة واليا مرتين في غزوتين غزاهما «1» . قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا، وعليه درع، ومعه راية سوداء. ويروى: أنه صلّى الله عليه وسلّم ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدّى لغني. وعلّق القرطبي على أسماء الصناديد المذكورين بقوله: وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد «2» . ثم علّق أبو حيان على ذلك بقوله: والغلط من القرطبي، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما، وهو وهم منه، وكلهم من قريش، وكان ابن أم مكتوم منها، والسورة كلها مكية بالإجماع، وابن أم مكتوم كان أولا بمكة، ثم هاجر إلى المدينة، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية، وابن أم مكتوم، هو عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي القرشي، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها «3» .

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 212، عرائب القرآن: 30/ 27، تفسير الرازي: 31/ 54 (2) تفسير القرطبي، المكار السابق. (3) البحر المحيط: 8/ 427 .

المساواة في الإسلام [سورة عبس (80) الآيات 1 إلى 10] :

المساواة في الإسلام [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) الإعراب: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أَنْ جاءَهُ: في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن جاءه، فحذف اللام فاتصل الفعل به. ومنهم من جعله في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف، لكثرة حذفها معها، وهي وحرف الجر في موضع نصب بالفعل قبلها. فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فَتَنْفَعَهُ: بالنصب على جواب الترجي: (لعل) بالفاء بتقدير (أن) . وبالرفع بالعطف على يَذَّكَّرُ. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يَسْعى: حال من فاعل: جاء. وَهُوَ يَخْشى حال من فاعل: يسعى، وهو الأعمى. البلاغة: عَبَسَ وَتَوَلَّى.. ثم قال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى التفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار، وزيادة في العتاب، وتنبيها للرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى العناية بشأن الأعمى، كمن يشكو جانيا بطريق الغيبة، وهو حاضر، ثم يقبل على الجاني مواجها بالتوبيخ. وفي ذكر الأعمى إنكار أيضا لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالبا، لا التولي والعبوس. يَذَّكَّرُ والذِّكْرى جناس اشتقاق. عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى سجع مرصع. تَصَدَّى تَلَهَّى بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: عَبَسَ قطّب وجهه. وَتَوَلَّى أعرض. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى لأجل أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم، فقطعه عما هو مشغول به من محاولة هداية أشراف قريش إلى الإسلام. وقد أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والأعمى: هو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الزهري. وقد عاتب الله نبيه على عبوسه في وجه الأعمى، حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وأن النظر إلى المؤمن أولى وأصلح، وإن كان فقيرا، من النظر إلى غيره، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان فيه نوع من المصلحة أيضا «1» . وَما يُدْرِيكَ أي: أيّ شيء يعلمك ويعرّفك حال هذا الأعمى؟ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وبما يتعرف عليه من الشرائع، وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره. أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ، أصله يتذكر، فأدغم التاء في الذال. فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى العظة المسموعة منك. اسْتَغْنى بالمال والجاه والقوة عن سماع القرآن. تَصَدَّى تقبل وتعرض، وقرئ: تَصَدَّى وأصله: تتصدى. فأدغم التاء الثانية بالصاد. أَلَّا يَزَّكَّى يتطهر ويؤمن، أي ليس عليك بأس في ألا يتزكى بالإسلام، حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم، إن عليك إلا البلاغ. وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله، وهو الأعمى. تَلَهَّى تتشاغل، وأصله تتلهى، فحذفت التاء الأخرى. سبب النزول: نزول الآية (1) : عَبَسَ: أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا، فنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 213

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي قطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه، وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه، وهو عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، فأعرض عنه، فنزلت. وعذر ابن أم مكتوم أنه لم يدر بتشاغل النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟ أي وما يعلمك ويعرفك يا محمد لعل الأعمى يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك، أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ، فتنفعه الموعظة. وفي هذا إيماء إلى أن غير الأعمى ممن تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم الهداية. وفيه تعظيم من الله سبحانه لابن أم مكتوم. وكان هذا التصرف من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثابة ترك الاحتياط وترك الأفضل، فلم يكن ذلك ذنبا البتة، ولا مصادما لمبدأ عصمة الأنبياء، لصدور الفعل عن أمر تابع للجبلّة الإنسانية كالرضا والغضب والضحك والبكاء، والتي رفع عنها التكليف في شريعة الإسلام. وبعد هذا الوصف المؤذن بالعتاب جاء العتاب صريحا في قوله تعالى: 1- أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي أما من استغنى بماله وثروته وقوته عما لديك من معارف القرآن والهداية الإلهية، وعن الإيمان والعلم، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك، وهو يظهر الاستغناء عنك والإعراض عما جئت به. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا بأس ولا شيء عليك في ألا يسلم ولا يهتدي، ولا يتطهر من الذنوب، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، فلا تهتم بأمر من كان مثل هؤلاء من الكفار.

فقه الحياة أو الأحكام:

2- وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي وأما من أتى إليك مسرعا في طلب الهداية والإرشاد إلى الخير، والعظة بمواعظ الله، وهو يخاف الله تعالى، فأنت تتشاغل عنه وتعرض وتتغافل. لذا أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ألا يخص بالإنذار أحدا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والغني والفقير، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم يهدي الله تعالى من يشاء إلى صراط مستقيم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الآية عتاب من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم، حتى لا تنكسر قلوب الفقراء، وليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني. 2- بالرغم من أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر لأنه أبى إلا أن يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يعلّمه، فكان في هذا نوع جفاء منه، بالرغم من هذا عاتب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم لأن الأهم مقدم على المهم. ويستحق التأديب أيضا لأنه كان قد أسلم وتعلّم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين. أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا، وإسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم. 3- عذر ابن أم مكتوم: أنه لم يكن عالما بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم. 4- الآية دليل واضح على وجوب المساواة في الإسلام في شأن الإنذار وتبليغ الدعوة دون تمييز بين فقير وغني. ونظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام 6/ 52] وقوله سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ

القرآن موعظة وتذكرة ونعم الله في نفس الإنسان [سورة عبس (80) الآيات 11 إلى 23] :

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف 18/ 28] . 5- أراد الله توفير جهد نبيه صلّى الله عليه وسلّم في دعوة رؤساء قريش إلى الإسلام، وهم في الحقيقة لن يؤمنوا، وكفاهم ما بلّغهم به من دعوته إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأوثان، وليس عليه بأس بعدئذ في ألا يهتدوا ولا يؤمنوا، فإنما هو رسول، ما عليه إلا البلاغ، ولا يصح أن يكون الحرص على إسلامهم مؤديا إلى الإعراض عمن أسلم، للاشتغال بدعوة من لم يسلم. القرآن موعظة وتذكرة ونعم الله في نفس الإنسان [سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 23] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) الإعراب: فِي صُحُفٍ خبر ثان ل إِنَّها وما قبله اعتراض، أو خبر لمبتدأ محذوف. قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ما إما تعجبية، وإما استفهامية. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ السبيل منصوب بفعل يفسره الظاهر، للمبالغة في التيسير. كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لَمَّا حرف جزم، معناه النفي لما قرب من الحال. وما أَمَرَهُ تقديره: لما أمر به، فحذف الباء من «به» ثم حذف الهاء العائدة إلى «ما» فصار: لما أمره.

البلاغة:

البلاغة: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ؟ أسلوب التعجب، تعجب من إفراط كفره، مع كثرة إحسان الله إليه. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إجمال، ثم تفصيل بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ كناية بالسبيل عن خروجه من فرج الأم. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو المسمى، بالسجع المرصع. المفردات اللغوية: كَلَّا كلمة ردع وزجر، والمراد هنا زجر المخاطب عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله، أي لا تفعل مثل ذلك. إِنَّها أي الهداية أو آيات القرآن. تَذْكِرَةٌ موعظة، وهي في معنى الذكر والوعظ، لذا ذكر الضمير العائد إليها في قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي اتعظ به، أو حفظه. والمراد أن هذا القرآن، أو هذا التأديب الذي عرّفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي إن التذكرة مثبتة كائنة مودعة في صحف شريفة عند الله. مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر في السماء. مُطَهَّرَةٍ منزهة عن أيدي الشياطين، وعن النقص. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كتبة من الملائكة ينسخونها من اللوح المحفوظ. كِرامٍ إعزاء على الله تعالى. بَرَرَةٍ أتقياء مطيعين لله تعالى، وهم الملائكة. قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه في كفران النعم أو استفهام توبيخ، أي ما حمله على الكفر؟! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بيان لما أنعم عليه، والاستفهام للتحقير. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ من مني ثم من علقة ثم من مضغة إلى آخر خلقه. فَقَدَّرَهُ أي أنشأه في أطوار وأحوال مختلفة. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهّل له مخرجه من بطن أمه، وهو كناية، أو سهل له طريق الخير والشر. فَأَقْبَرَهُ جعله في قبر يستره، ويوارى فيه. أَنْشَرَهُ بعثه بعد الموت. كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه من الترفع والتكبر. لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره الله به بنحو كامل إذ لا يخلو أحد من التقصير في شيء ما.

سبب النزول نزول الاية (17) :

سبب النزول: نزول الاية (17) : قُتِلَ الْإِنْسانُ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم. المناسبة: بعد عتاب الله لنبيه على عبوسه في وجه عبد الله بن أم مكتوم بسبب انشغاله مع رؤساء قريش، سرّى الله عنه بقوله: كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك، وعرّفه بأن الهداية لا تحتاج لجهود ومحاولات كثيرة، وأن هذا التأديب الذي أوحى إليه به كان لإجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا، وهذا القرآن مجرد تذكرة لتنبيه الغافلين، فمن رغب فيها، اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، وهي مودعة في صحف شريفة القدر. وبعد بيان حال القرآن وأنه كتاب الذكرى والموعظة، ذمّ الله الإنسان ووبخه على كفران نعم ربه، وتكبره وتعاظمه عن قبول هداية الله له، وأنه استحق أعظم أنواع العقاب لأجل ارتكابه أعظم أنواع القبائح. التفسير والبيان: كَلَّا، إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي لا تفعل مثل فعلك مع ابن أم مكتوم، من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن يتزكى، وإن هذه الآيات أو السورة أو القرآن موعظة، جدير بك وبأمتك أن تتعظ بها وتعمل بموجبها.

وفي الآية تعظيم شأن القرآن، فسواء قبله الكفرة أم لا، فلا يؤبه بهم، ولا يلتفت إليهم. ثم وصف تلك التذكرة بأمرين: 1- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي إن هذه تذكرة بيّنة ظاهرة، مقدور على فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها، فمن رغب فيها اتعظ بها، وحفظها، وعمل بموجبها. 2- فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ أي إنها تذكرة مثبتة مودعة كائنة في صحف مكرمة عند الله، لما فيها من العلم والحكمة، ولنزولها من اللوح المحفوظ، رفيعة القدر عند الله، منزّهة لا يمسّها إلا المطهرون، مصانة عن الشياطين والكفار، لا ينالونها، ومنزّهة عن النقص والضلالات، محمولة بأيدي ملائكة سفرة وسائط يسفرون بالوحي بين الله ورسله لتبليغها للناس، من السفارة: وهي السعي بين القوم. وهم كرام على ربهم، كرام عن المعاصي، أتقياء مطيعون لربهم، صادقون في إيمانهم، أي إن الله تعالى وصف الملائكة بصفات ثلاث: هي كونهم سفراء ينزلون بالوحي بين الله وبين رسله، وكرام على ربهم، ومطيعون لله، كما قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 21/ 26] وقال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم 66/ 6] . قال ابن جرير الطبري: والصحيح أن السفرة: الملائكة، والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه، ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير. أخرج الجماعة أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها

قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه، وهو عليه شاق، له أجران. ثم ذم الله تعالى من أنكر البعث والنشور من الناس بقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ أي لعن الإنسان الكافر أو قتل أو عذب ما أشد كفره؟! وهذا دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه في الكفر، ودليل على سخط عظيم وذم بليغ، يدل على قبح حاله، وبلوغه حدا من العتو والكبر لا يستحق معه الحياة. وهذا جار على أسلوب العرب عند التعجب من شيء، فيقال: قاتله الله ما أفصحه؟! والمراد بالكلام الملائم في حقه تعالى هنا: إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر. ثم ذكّره بخلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي من أي شيء مهين حقير، خلق الله هذا الكافر بربّه؟ فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة، إنه تعالى خلقه من ماء مهين، وقدّره أطوارا وأحوالا، وسوّاه وهيّأه لمصالح نفسه، وأتمّ خلقه وأكمله بأعضائه الملائمة لحاجاته مدة حياته، وزوّده بطاقات العقل والفكر والفهم، والقوى والحواس للاستفادة من نعم الله تعالى، فلا يستعملها فيما يغضب الله، وإنما عليه استعمالها في رضوان الله. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ إما كناية عن خروجه بسهولة من فرج أمه، وإما أنه تعالى يسر له الطريق إلى تحصيل الخير أو الشر، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر، وقال سبحانه: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3] . ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أنه بعد خلقه له وتمكينه من الحياة قبض روحه، وجعله في قبر يوارى فيه إكراما له، ولم يجعله ملقى على

فقه الحياة أو الأحكام:

وجه الأرض تأكله السباع والطير، ثم إذا شاء الله إنشاره أحياه بعد موته، أو بعثه بعد موته، في الوقت الذي يريده الله تعالى. ومنه يقال: البعث والنشور. والإماتة ستر للعيوب بعد الهرم أو المرض، والإقبار تكرمة حيث لم يلق للطير والسباع، والإنشار أي البعث عدل وفضل. ثم لامه على تقصيره، وأكد كفره بالنعم، فقال: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه، فلم يخل إنسان من تقصير قط، فبعض الناس أخل بالكفر، وبعضهم بالعصيان، وبعضهم بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته، وما قضى ما أمره الله إلا القليل. والآية تدل على العجب من حال الإنسان، فإنه قد ينكر خالقه بعد قيام الأدلة على وجوده في نفسه وفي السموات والأرض، وقد يجحد نعمة ربه، فلا يقابلها بالحمد والشكر وعرفان الجميل، وينسبها إلى نفسه، وقد يعصي الله بالرغم من وجود أدلة الهداية والرشد، وإدراكه مخاطر العصيان. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- القرآن الكريم كتاب تذكرة وموعظة وتبصرة للناس جميعا، فمن أراد اتعظ بالقرآن وانتفع به وعمل بموجبه. وهذا دليل على حرية الاختيار. 2- القرآن كتاب جليل عند الله، فهو مثبت مودع في صحف مكرمة عند الله، لما فيها من العلم والحكمة، رفيعة القدر عند الله، مطهرة من كل دنس، مصانة عن أن ينالها الكفار، محمولة بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، وهم كرام على ربهم، كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها، مطيعون

لله، صادقون لله في أعمالهم، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة 56/ 77- 79] . 3- لعن الإنسان حيث كفر بالقرآن، وما أظلمه حيث أنكر البعث والنشور، فالله قادر على إعادته كما قدر على بدء خلقه، فإنه خلقه من ماء يسير مهين، ثم جعله يمر بأطوار بعد كونه نطفة، إلى وقت إنشائه خلقا آخر، وبأحوال من كونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، حسنا أو دميما، قصيرا أو طويلا، فكيف يليق به التكبر والتجبر عن أوامر الله؟ ثم يسر له سلوك طريق الخير والشر، أي بيّن له ذلك، كما قال: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الدهر 76/ 3] وقال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] . ثم جعل له قبرا يوارى فيه إكراما له، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والسباع. وهذا دليل على أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم، سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا، دون أن يطرحوا على وجه الأرض، طعمة للسباع، كسائر الحيوان. ثم إذا شاء الله أنشره، أي أحياه بعد موته. وكل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه إذا شاء أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره أنشره. وهذه الانتقالات أو المراتب ثلاث: الأولى- بداية خلقه من ماء مهين، وهذا دليل على زيادة التقرير في التحقير، والثانية المتوسطة- التمييز بين الخير والشر، والثالثة الأخيرة- الإماتة والإقبار، والإنشار، أي الإحياء بعد البعث. 4- كل إنسان إلا القليل مقصر في حق الله، فلا يقضي أحد ما أمر به، من الإيمان والطاعة، والتأمل في دلائل الله، والتدبر في عجائب خلق الله وبينات حكمته.

نعم الله فيما يحتاج إليه الإنسان [سورة عبس (80) الآيات 24 إلى 32] :

نعم الله فيما يحتاج إليه الإنسان [سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 32] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) الإعراب: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا أَنَّا إما بدل من طَعامِهِ بدل اشتمال لأن هذه الأشياء تشتمل على الطعام، وإما على تقدير اللام، أي لأنا صببنا. وتقرأ بالكسر أَنَّا على الابتداء والاستئناف. المفردات اللغوية: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ نظر تأمل واعتبار. إِلى طَعامِهِ كيف أوجد وقدر ودبر له والظاهر أن الطعام هو المطعوم. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا أي أنزلناه بسخاء وكثرة من السحاب، وهو بيان لكيفية إحداث الطعام. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي شققناه بالنبات، وإسناد الصب والشق إلى الله نفسه إسناد الفعل إلى السبب. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا كالحنطة والشعير. وَقَضْباً هو القت الرطب أو البرسيم، سمي قضبا لأنه يقضب، أي يقطع مرة بعد أخرى. وَحَدائِقَ غُلْباً بساتين ضخاما عظاما، كثيرة الأشجار، جمع غلباء، وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها. وَأَبًّا الأب: العشب أو ما ترعاه البهائم، سمي أبّا لأنه يؤبّ، أي يؤم وينتجع. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ متعة أو تمتيعا، أي أنبتناه لكم لتتمتعوا وتنتفع أنعامكم، فبعض الأنواع المذكورة طعام وبعضها علف. المناسبة: بعد بيان الدلائل على قدرة الله تعالى وتعداد نعمه في الأنفس البشرية أو الذوات، ذكر الله دلائل الآفاق، وعدّد النعم التي يحتاج إليها الإنسان لقوام حياته.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي فليتأمل الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي يعيش به، ويكون سببا لحياته، وكيف دبره وهيأه له. وفي هذا امتنان بهذه النعمة، واستدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية. ثم أوضح كيفية إيجاد الطعام، فقال: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أننا أنزلنا الماء من السماء أو سحاب على الأرض بغزارة وكثرة، فصب الماء هو المطر، ثم أسكناه في الأرض، ثم روينا البذر المودع فيها، ثم شققناها بالنبات الخارج منها، فارتفع وظهر على وجهها، فكان هناك أنواع مختلفة من النباتات في الصغر والكبر، والهيئة والشكل، واللون والطعم، والأغراض المتنوعة كالغذاء والدواء والمرعى، لذا ذكر تعالى بعدئذ ثمانية أنواع من النبات بقوله: 1- 3- فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً أي فأنبتنا في الأرض الحبوب التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والذرة، والأعناب المتنوعة، والرطبة أو القت أو البرسيم أو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة. والمعنى أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا وعنبا وقضبا. وقيل: القضب: العلف. 4- 5- وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا أي وأنبتنا أيضا شجر الزيتون والنخيل، وثمرتهما معروفة. 6- 8- وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً، وَأَبًّا أي بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة، وفاكهة وهي كل ما يتفكه به من الثمار، أي يستمتع به، كالتفاح والكمثّرى والموز والخوخ والتين ونحوها، وعشبا أو حشيشا مرعى

فقه الحياة أو الأحكام:

للدواب، فالأب: كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع المرعى للحيوان. ثم ذكر وجه النعمة أو الحكمة في خلق هذه النباتات، فقال: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم ولأنعامكم، لتنتفعوا بها وتأكلها بهائمكم، والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أمر الله تعالى بالنظر والاستدلال والتدبر إلى الطعام الذي يتناوله الإنسان، ويعيش به، كيف دبّر الله أمره، من إنزال الماء من السماء، ثم شق الأرض بالنبات أو بالحراثة على الدواب أو بالآلات، وإخراج أنواع النبات المختلفة. 2- ذكر الله تعالى ثمانية أنواع من النبات: وهي الحب: وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما، وقدّم لأنه كالأصل في الغذاء، والعنب، وذكر بعد الحب، لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه آخر، والقضب عند أهل مكة واليمن: وهو الرطبة المسماة بالقت، والزيتون والنخيل، والحدائق ذات الأشجار الضخمة الكثيرة، والفاكهة: وهي ما يأكله الناس من الثمار، وقد ذكرها مجملة ليعم جميع أنواعها، والأب: وهو المرعى الذي يؤبّ أي يؤم وينتجع، وهو ما تأكله البهائم من العشب. 3- الغاية من خلق هذه النباتات التي تشمل ما يتغذي به الإنسان والحيوان: هي الانتفاع بها، سواء بالنسبة للناس أو للدواب لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات.

أهوال القيامة [سورة عبس (80) الآيات 33 إلى 42] :

4- القصد من إيراد هذه الأشياء: ضرب المثل من الله تعالى، لبعث الموتى من قبورهم، والامتنان من الله على عباده بما أنعم به عليهم. والخلاصة: أن المقصود من هذه الأشياء أمور ثلاثة: أولها- إيراد الدلائل الدالة على التوحيد. وثانيها- إيراد الدلائل الدالة على القدرة على المعاد. وثالثها- الترغيب بالإيمان والطاعة فإنه لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعة الإله الذي أحسن إلى عباده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان. أهوال القيامة [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) الإعراب: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ جواب إذا: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي استقر لكل امرئ منهم. البلاغة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ بينهما مقابلة، قابل فيها بين وجوه السعداء ووجوه الأشقياء.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: الصَّاخَّةُ هي القارعة أو الطامة الكبرى أو القيامة، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، والمراد بها الصيحة التي تصم الآذان لشدتها، وصفت بها مجازا لأن الناس يصخون لها، والصخ: الضرب بالحديد على الحديد أو بالعصا على شيء، فيسمع صوت شديد. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لاشتغاله بشأنه، وعلمه بأنهم لا ينفعونه. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ شغل أو حال يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن شأن غيره، أي اشتغل كل واحد بنفسه، مما يدل على الرهبة والخوف الشديد، ويُغْنِيهِ يصرفه عن غيره. مُسْفِرَةٌ مضيئة متهللة مشرقة من البشر، يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء. مُسْتَبْشِرَةٌ فرحة بما ترى من النعيم، وهم المؤمنون. غَبَرَةٌ غبار وكدورة، وهم الكافرون. تَرْهَقُها تغشاها. قَتَرَةٌ سواد وظلمة كالدخان. أُولئِكَ أصحاب هذه الحالة. هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الجامعون بين أنواع الكفر: (إنكار وجود الله أو إنكار وحدانيته) والفجور: العصيان والخروج عن حدود الله. المناسبة: بعد بيان نعم الله تعالى في نفس الإنسان وفي الآفاق، وإقامة الأدلة والبراهين بها على كمال قدرة الله عز وجل على البعث وكل شيء، أبان الله تعالى بعض أهوال القيامة وأحوالها التي تملأ النفس خوفا ورهبة، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، وإلى ترك التكبر على الناس، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد. والناس في ذلك الموقف فريقان: سعداء وأشقياء، والفريق الأول ضاحك مستبشر: وهو من امن بالله ورسله وأطاع ما أمر الله به. والفريق الثاني عابس متكدر، تعلو وجهه الغبرة وترهقه القترة: وهو الذي أنكر وجود الله وتوحيده، وأعرض عن قبول ما جاءت به رسل الله. قال القرطبي: لما ذكر أمر المعاش، ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتنّ به عليهم.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي إذا جاءت القيامة أو صيحة يوم القيامة التي تصخ الأذن، أي تصمها فلا تسمع. والصاخّة: اسم من أسماء القيامة، عظّمه الله وحذّر عباده. قال البغوي: الصاخة: يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخّ الأسماع وتصمّ الآذان لشدتها، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمّها. وقال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي إذا جاءت الصاخة حين يرى المرء أعز أقاربه وأخصهم لديه، وأولاهم بالحنو والرأفة والعطف، من أخ وأم وأب وزوجة وولد، ويفر منهم ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم والخطب جليل، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء ويصرفه منهم، ويفرّ عنهم، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وهو كقوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان 44/ 41] وقوله سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج 70/ 10] . والمراد: أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم، فإنه يفر منهم في دار الآخرة. وفائدة الترتيب واضحة، وهي الفرار من الأبعد وهو الأخ، ثم من الأبوين، ثم من الزوجة والولد، من قبيل الترقي إلى الأحب عادة والأقرب، قال الزمخشري: بدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم الصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وأيده الرازي في هذا. وعقب النظام النيسابوري في غرائب القرآن على ذلك فقال: هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين، ولعله خلاف العقل

والشرع. والأصوب أن يقال: أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع، وذكر أولا في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول والصاحبة في الثاني. على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة، فكانت بالتقديم أولى «1» . والأظهر أن الفرار المعنى: هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء، بدليل قوله: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يصرفه ويصدّه عن قرابته «2» . روى ابن أبي حاتم والنسائي والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا، أي غير مختونين، قال: فقالت زوجته: يا رسول الله، ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» أو قال: «ما أشغله عن النظر!!» . ثم ذكر الله تعالى أحوال الناس حينئذ وانقسامهم في ذلك اليوم إلى سعداء وأشقياء، فقال واصفا السعداء أولا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي يكون الناس هنالك فريقين: وجوه متهللة مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة لأنهم قد علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة. ثم وصف الأشقياء بقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي ووجوه أخرى في القيامة عليها غبار وكدورة، لما تراه مما أعدّه الله لها من

_ (1) تفسير الكشاف: 3/ 314، تفسير الرازي: 31/ 64، غرائب القرآن: 30/ 31 (2) غرائب القرآن، المكان السابق.

فقه الحياة أو الأحكام:

العذاب، يغشاها سواد وكسوف، وذلّة وشدة، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة هم الذين كفروا بالله فلم يؤمنوا به، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله، واقترفوا السيئات، فهم الفاسقون الكاذبون الذين جمعوا بين الكفر والفجور، كما قال تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح 71/ 27] . ولا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر، بدليل هذه الآية: الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ فالكفار هم الفجار لا غيرهم. ووجود هذين الفريقين في هذه الآية ونحوها لا يقتضي نفي وجود فريق ثالث وهم المؤمنون العصاة أو الفساق، كما قال الرازي «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إذا جاءت صيحة القيامة وهي النفخة الثانية أو الأخيرة، والتي يهرب في يومها الأخ من أخيه، والولد من والديه، والزوج من زوجته وأولاده، لاشتغاله بنفسه، يكون لكل إنسان يومئذ حال أو شغل يشغله عن غيره. جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا» قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» . ولفظ رواية الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشرون حفاة عراة غرلا، فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 65 [.....]

قال: يا فلانة لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» قال: حديث حسن صحيح. 2- يكون الناس يوم القيامة فريقين: فريق وجوههم مشرقة مضيئة، مسرورة فرحة مستبشرة بما آتاها الله من الكرامة، قد علمت ما لها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. وفريق وجوههم يعلوها غبار ودخان تغشاها ظلمة وسواد، وهي وجوه الكافرين بالله وبرسله، العاصين الكاذبين المفترين على الله تعالى.

سورة التكوير:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التكوير مكيّة، وهي تسع وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة التكوير، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي جمع بعضها إلى بعض، ثم لفّت، فرمى بها، ومحى ضوؤها. مناسبتها لما قبلها: توضح كل من السورتين أهوال القيامة وشدائدها، ففي سورة عبس قال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.. [33- 42] وفي هذه السورة قال سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.. إلخ، فلما ذكر سبحانه الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين، أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة كغيرها من السور المكية تتعلق بالعقيدة، فهي تقرر ما يوجد في يوم القيامة من أحوال، وتثبت أن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى. وقد ابتدأت ببيان أهوال القيامة، وما يصحبها من تغيرات كونية غريبة، تشمل كل ما يشاهده الإنسان في الدنيا من السماء وكواكبها، والأرض وجبالها وبحارها ووحوشها، والنفوس البشرية ومظالمها، وتبرز بعدئذ الجحيم ونيرانها، والجنة ونعيمها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.. [الآيات: 1- 14] .

فضلها:

ثم تحدثت عن القرآن وتنزيله من الله بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وإثبات نبوته ورسالته وأمانته في تبليغ الوحي وأهليته العالية لتلقي الوحي، ورؤيته جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ.. [الآيات: 15- 25] . وختمت السورة ببيان ضلال المشركين، وأن القرآن عظة وذكرى لجميع العالمين من الإنس والجن ممن أراد الهداية وأقبل على الخير، وأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، فلا يستطيع الاستقلال بعمل ما دون إرادة الله. فضلها: أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة، كأنه رأي عين، فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. أحوال القيامة وأهوالها [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

الإعراب:

الإعراب: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا ظرف، والعامل فيه وفي كل إِذَا بعدها قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ. والشَّمْسُ فاعل لفعل مضمر يفسره كُوِّرَتْ كما ذكر الزمخشري لأن إِذَا لا تدخل إلا على فعل، لما فيها من معنى الشرط. البلاغة: كُوِّرَتْ انْكَدَرَتْ عُطِّلَتْ حُشِرَتْ سُجِّرَتْ زُوِّجَتْ سُئِلَتْ قُتِلَتْ نُشِرَتْ كُشِطَتْ سُعِّرَتْ أُزْلِفَتْ أَحْضَرَتْ سجع مرصع وهو توافق الفواصل رعاية لرؤوس الآيات. الْجَحِيمُ والْجَنَّةُ بينهما طباق. المفردات اللغوية: كُوِّرَتْ لفّت وطويت وأزيل ضياؤها ونورها. انْكَدَرَتْ تساقطت وتهاوت على الأرض ومحي ضوؤها. سُيِّرَتْ أزيلت عن مواضعها بزلزلة الأرض، وبددت في الجو، فصارت هباء منبثا. الْعِشارُ النوق الحوامل التي مضى على حملها عشرة أشهر، وهي كرائم أموال العرب جمع عشراء. عُطِّلَتْ تركت مهملة بلا راع وبلا حلب، لما دهاهم من الأمر. الْوُحُوشُ حُشِرَتْ جمعت بعد البعث للاقتصاص من بعضها لبعض، ثم تصير ترابا. سُجِّرَتْ أوقدت، فصارت نارا تحترق، بالبركان والزلزال. زُوِّجَتْ قرنت الأرواح بالأجساد. الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ البنت التي تدفن حية خوف العار والحاجة، وكان هذا عادة بعض العرب في الجاهلية. سئلت تبكيتا لقاتلها أو وائدها، كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة 5/ 116] . بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ حكاية لما تخاطب به، وجوابها أن تقول: قتلت بلا ذنب. الصُّحُفُ صحف الأعمال. نُشِرَتْ فتحت وبسطت، فهي تطوى عند الموت، وتنشر وقت الحساب. كُشِطَتْ قلعت كما يقلع السقف، وأزيلت عن أماكنها كما ينزع الجلد من الشاة. وَإِذَا الْجَحِيمُ النار. سُعِّرَتْ أججت وأوقدت إيقادا شديدا. أُزْلِفَتْ قرّبت وأدنيت لأهلها المتقين. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب أول السورة، وما عطف عليها وهو اثنتا عشرة خصلة، ست منها في بدء قيام الساعة قبل فناء الدنيا، وست بعده أي يوم القيامة. وكلمة نَفْسٌ في معنى العموم أي كل نفس، وما أَحْضَرَتْ أي ما قدمت من خير أو شر.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: هذه أوصاف القيامة وأحداثها الجسام، لتعظيمها وتخويف الناس بها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي إذا لفّت الشمس، وجمعت، بعضها على بعض كتكوير العمامة، وجمع الثياب مع بعضها، ثم رمى بها، وذهب بضوئها، إيذانا بخراب العالم وإذا انقضّت النجوم وتساقطت وتناثرت، كما قال تعالى: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار 82/ 2] وإذا قلعت الجبال عن الأرض، وسيّرت في الهواء حين زلزلة الأرض، كما قال تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [السبأ 78/ 20] وقال سبحانه: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف 18/ 47] . وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي وإذا النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، وهي أنفس مال عند العرب وأعزّة عندهم، تركت مهملة بلا راع، لشدة الخطب، وعظمة الهول وإذا الوحوش الدواب البرية غير الإنسانية بعثت حتى يقتص لبعضها من بعض، وقيل: حشرها: موتها وهلاكها وإذا البحار أوقدت بالبراكين والزلازل فصارت نارا تضطرم، بعد أن فاض بعضها إلى بعض، وصارت شيئا واحدا، كما قال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار 82/ 3] وقال: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور 52/ 6] وحينئذ تصير البحار والأرض شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق. قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه: ست آيات قبل يوم القيامة، بينا الناس في أسواقهم، إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واختلطت، ففزعت الجن إلى الإنس، والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، فماجوا بعضهم في بعض. وقال

ابن عباس في قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ اثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة. والستة الأولى بيناها بقول أبي بن كعب، والستة الأخرى في الآيات التالية. لذا ذكر الله تعالى ما يحدث بعدئذ من البعث، فقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ أي وإذا قرنت الأرواح بأجسادها حين النشأة الآخرة، وإذا الفتاة المدفونة حية خوف العار أو الحاجة، كما كان بعض قبائل العرب يفعل في الجاهلية، سئلت لتوبيخ قاتلها أو وائدها لأنها قتلت بغير ذنب فعلته. فقد كان بعض أهل الجاهلية يدسونها في التراب، كراهية البنات، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها، فإنه إذا سئل المظلوم، فما ظن الظالم إذن؟! وقال ابن عباس: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ: سألت. والوأد جريمة عظمي. وهذا السؤال للموءودة لتوبيخ الفاعلين للوأد لأن سؤالها يؤول إلى سؤال الفاعلين «1» . أخرج الإمام أحمد عن خنساء ابنة معاوية الصريمية عن عمها قال: قلت: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموءودة في الجنة» . وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي إذا عرضت ونشرت للحساب صحائف الأعمال، في موقف الحساب، فكل إنسان يعطى صحيفته بيمينه أو بشماله، وإذا تشققت السماء وأزيلت، فلم يبق لها وجود. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي وإذا أوقدت النار لأعداء

_ (1) البحر المحيط: 8/ 433

فقه الحياة أو الأحكام:

الله إيقادا شديدا، قال تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة 2/ 24] وإذا قربت الجنة وأدنيت لأهلها المتقين، كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق 50/ 31] . عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب إذا وما عطف عليها، أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث، ووقعت هذه الأمور، علمت كل نفس ما أحضرته عند نشر الصحف، وما عملت من خير أو شر، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران 3/ 30] وقال سبحانه: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة 75/ 13] . والآيات من أول السورة إلى هنا شرط، وجوابه: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ. وقال الحسن البصري: هذا قسم وجواب له. قال القرطبي: والقول الأول أصح. فقه الحياة أو الأحكام: هذه ظواهر تحدث قبل أو بعد البعث يوم القيامة، فتملأ النفس رهبة، وتثير الخوف والذعر بين الناس، لتبدّل ما كانوا يألفون ويشاهدون، والقصد من تعدادها تخويف البشر والإعداد ليوم القيامة بما يحقق لهم النجاة والأمن والسلامة. فهو إنذار مسبق، ولقد أعذر من أنذر، ولقد تضمن الإنذار مواجهة اثنتى عشرة علامة للقيامة: وهي تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وتعطيل العشار، وحشر الوحوش، وتسجير البحار، وتزويج النفوس، وسؤال الموءودة، ونشر صحف الأعمال، وكشط السماء كما يكشف الإهاب (الجلد) عن الذبيحة، وتسعير الجحيم (إيقادها) وإزلاف الجنة (إدناؤها) . وأي رهبة تحدث حينما يذهب ضوء الشمس، فيظلم الكون، وتتهافت النجوم وتتساقط

وتتناثر، فتزول معالم الجمال، وتقلع الجبال من الأرض وتسير في الهواء، فتكون كثيبا مهيلا، أي رملا سائلا، وتصبح كالعهن، وتكون هباء منثورا، وسرابا لا حقيقة ولا وجود له، كالسراب الذي ليس بشيء، وتعود الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، أي ارتفاعا، فتزول المتعة بها في عين الرائي. وتهمل النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، بعد العناية بها لأنها أعز ما تكون على العرب، وهذا على وجه المثل لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل، أن هول يوم القيامة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وتحشر الوحوش، أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتصّ للجمّاء من القرناء، ثم يقال لها: كوني ترابا، وهذا هو المعنى الأصح، وقيل: حشرها: موتها وهلاكها، وعلى كل حال، تتعاظم المخاوف من رؤية ما يحدث. وتسجّر البحار، أي توقد إيقادا شديدا، وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال، فتزول صورة جمال البحر في مشهد الطبيعة. ويحدث البعث، فتقرن الأرواح بالأجساد، وتسأل البنت المدفونة حية عن سبب وأدها وقتلها، لتوبيخ الفاعل، ولومه على فعله مخافة الحاجة والإملاق (الفقر) أو السبي والاسترقاق ولإلحاق البنات بالملائكة لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وكل ذلك غير مقبول، فإنها قتلت بغير ذنب، وعقاب القاتل النار. وتنشر صحائف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشرّ، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته،

الحلف لإثبات صدق الوحي القرآني ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم [سورة التكوير (81) الآيات 15 إلى 29] :

فيعلم ما فيها، فيقول: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف 18/ 49] . وتكشط السماء كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره، وفي هذا غاية الرهبة. وتوقد النار للكفار ويزداد في إحمائها، وتدنى الجنة وتقرب من المتقين، فيتحدد مصير الخلائق. حين حدوث هذه الوقائع الجسام، تعلم كل نفس علم اليقين ما عملت من خير وشرّ، وتعرف مصيرها. جاء في الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وسيكلّمه الله، ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدّمه، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدّم بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتّقي النار، ولو بشقّ تمرة، فليفعل» . الحلف لإثبات صدق الوحي القرآني ونبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) الإعراب: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ جواب القسم لأن معنى فَلا أُقْسِمُ.. أقسم.

البلاغة:

وَما صاحِبُكُمْ عطف على جواب القسم. عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ عِنْدَ: متعلق ب مَكِينٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ عطف أيضا على جواب القسم. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ تقديره: إلى أين تذهبون؟ إلا أنه حذف حرف الجر كما حذف من قولهم: ذهبت الشام، أي إلى الشام. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِمَنْ: بدل من قوله الْعالَمِينَ بدل بعض من كل. وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ببخيل، وقرئ «بظنين» بالظاء، أي بمتهم. البلاغة: بِالْخُنَّسِ والْكُنَّسِ بينهما جناس ناقص. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ استعارة تصريحية، شبه إقبال النهار وانتشار الضياء بنسمات الهواء العليل، واستعار لفظ التنفس لإقبال النهار بعد الظلام الدامس. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ كناية، كنى عن محمد صلّى الله عليه وسلّم بلفظ صاحِبُكُمْ. أَمِينٍ ومَكِينٍ بينهما جناس ناقص غير تام. بِالْخُنَّسِ، والْكُنَّسِ، وعَسْعَسَ، وتَنَفَّسَ إلخ سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: فَلا أُقْسِمُ أي أقسم، وفَلا: لتأكيد الخبر. بِالْخُنَّسِ بالكواكب الرواجع، من خنس يخنس: إذا تأخر، وواحدها: خانس: أي منقبض مستخفي، فهي التي ترجع في مجراها وراء الشمس، وهي عند الجمهور: الكواكب السيارة كالشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري. الجواري السيارة التي تجري مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس. الْكُنَّسِ التي تكنس في أبراجها، أي تستتر، فهي تختفي تحت ضوء الشمس، من كنس الظبي أو الوحش: إذا دخل كناسة، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، وقيل: المراد الكواكب الخمسة السيارة، فخنوسها: رجوعها إلى أول البرج، وكنوسها: اختفاؤها نهارا تحت ضوء الشمس، وغيبتها في المواضع التي تغيب فيها عن البصر نهارا ثم تظهر ليلا. والخلاصة: أن بِالْخُنَّسِ على الأرجح: هي جميع الكواكب، كما جاء في الصحاح لأنها تخنس (تختفي) نهارا، وتختفي عن البصر في المغيب، وتظهر ليلا، ثم تكنس وتستتر في مغيبها تحت الأفق، كما تكنس

سبب النزول نزول الآية (29) :

الظباء في المغار، فكل من بِالْخُنَّسِ والْكُنَّسِ يختفي بعد ظهوره. والأصح أن معناها النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا. عَسْعَسَ أقبل بظلامه، أو أدبر، فهو من ألفاظ الأضداد. تَنَفَّسَ أضاء وظهر نوره. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ أي إن هذا المقسم عليه وهو القرآن لقول منقول نازل من رسول كريم عزيز على الله تعالى وهو جبريل عليه السلام، أضيف القول إليه، لنزوله به، وقوله عن الله تعالى. ذِي قُوَّةٍ شديد القوى، حافظ. عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ الله تعالى. مَكِينٍ ذي مكانة وجاه عند ربّه، يعطيه ما سأل. مُطاعٍ تطيعه ملائكة السماء. ثَمَّ هنالك. أَمِينٍ على الوحي والرسالة. وَما صاحِبُكُمْ محمد صلّى الله عليه وسلّم، بِمَجْنُونٍ كما زعمتم. وَلَقَدْ رَآهُ رأي محمد صلّى الله عليه وسلّم جبريل على صورته التي خلق عليها. بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ الأفق الواضح، وهو مطلع الشمس الأعلى. وَما هُوَ محمد صلّى الله عليه وسلّم. الْغَيْبِ الوحي وخبر السماء. بِضَنِينٍ ببخيل مقصر بالتعليم والتبليغ، فينتقص منه شيئا، وقرئ: «بظنين» ، أي بمتهم. وَما هُوَ بِقَوْلِ أي القرآن. شَيْطانٍ مسترق السمع. رَجِيمٍ مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيّ طريق تسلكون بعد إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وقد قامت الحجة عليكم؟ إِنْ هُوَ ما هو. إِلَّا ذِكْرٌ عظة وعبرة. لِلْعالَمِينَ الإنس والجن. أَنْ يَسْتَقِيمَ على الطريق الواضح باتباع الحق. وَما تَشاؤُنَ الاستقامة على الحق. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلا وقت أن يشاء الله استقامتكم. رَبُّ الْعالَمِينَ مالك الخلق كلهم. سبب النزول: نزول الآية (29) : وَما تَشاؤُنَ..: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى قال: لما أنزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: ذاك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. التفسير والبيان: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ أي أقسم بجميع الكواكب التي

تخنس أي تختفي بالنهار تحت ضوء الشمس، والتي تجري في أفلاكها، وتكنس بالليل، أي تظهر بالليل في أماكنها، كما تظهر الظباء من كنسها، أي بيوتها، وهي جمع كناس: وهو الذي يختفي فيه الوحش. وقوله: فَلا أُقْسِمُ يراد بها القسم في أسلوب العرب، ويراد بها تأكيد الخبر، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم. وإنما أقسم سبحانه بهذه الكواكب، لما في تبدل أحوالها من الظهور والخفاء من الدلالة على قدرة مبدعها ومصرّفها. ويرى الجمهور: أن المراد بها الكواكب السيارة كلها، ويرى بعضهم أنها ما عدا الشمس والقمر. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي والليل إذا أقبل بظلامه، لما فيه من الرهبة، وهذا هو الأولى، أو أدبر وولى، لما في إدباره من كشف الغمة. والصبح إذا اقبل وأضاء بنوره الأفق لأنه يقبل بروح نشطة ونسيم عليل. قال ابن كثير: عَسْعَسَ: أقبل، وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضا، لكن الإقبال هاهنا أنسب، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل 92/ 1- 2] وقال تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى 93/ 1- 2] وقال تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام 6/ 96] ، وغير ذلك من الآيات. وقال كثير من علماء الأصول: إن لفظة عَسْعَسَ تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما، والله أعلم «1» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 479

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا هو المقسم عليه، أي إن القرآن تبليغ رسول كريم، ومقول قاله جبريل عليه السلام الشريف الكريم العزيز عند الله، ونزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فليس القرآن من كلام البشر، وإنما وصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبريل الذي تلقاه عن ربّه عزّ وجلّ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ هذه أوصاف أربعة أخرى لجبريل عليه السلام، فهو شديد القوى في الحفظ التام والتبليغ الكامل، وذو رفعة عالية، ومكانة سامية عند الله سبحانه، ومطاع بين الملائكة، يرجعون إليه ويطيعونه، فهو من السادة الأشراف، مؤتمن على الوحي والرسالة من ربّه، وعلى غير ذلك. وإنما قال: ثَمَّ أي عند الله، وقرئ «ثم» تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة. ووصف جبريل بالأمين تزكية عظيمة من الله لرسوله الملكي وعبده جبريل، كما زكى عبده ورسوله البشرى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وبعد بيان أوصاف الرسول الملك، ذكر تعالى وصف المرسل إليه، فقال: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي وليس محمد صلّى الله عليه وسلّم يا أهل مكة بمجنون، كما تزعمون. وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وبأنه أعقل الناس وأكملهم. ونظير الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف 7/ 184] ، وقوله: قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ 34/ 46] ، وقوله: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان 44/ 13- 14] . وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي قد رأى محمد جبريل على صورته الأصلية، له ست مائة جناح، في مطلع أو أفق الشمس الأعلى من قبل المشرق، بحيث

حصل له علم ضروري (بدهي) بأنه ملك مقرب يطمأن لنزوله بالوحي عليه، لا شيطان رجيم. وهذا كما جاء في سورة النجم: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [11- 14] . وهذه الرؤية بعد رؤيته في بدء الوحي عند غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته، له ست مائة جناح. وقيل: هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى، وسمي ذلك الموضع أفقا مجازا، وقد كانت له عليه السلام رؤية ثانية بالمدينة، وليست هذه «1» . وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ليس محمد صلّى الله عليه وسلّم على ما أنزله الله عليه من الوحي وخبر السماء ببخيل مقصر في التعليم والتبليغ، بل يعلّم الخلق كلام الله وأحكامه دون أي انتقاص، وهو ثقة مؤتمن لا يأتي بشيء من عند نفسه، ولا يبدل ولا يغير أي حرف أو معنى فيه. وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي وما القرآن بقول شيطان يسترق السمع، مرجوم بالشهب، فالقرآن ليس بشعر ولا كهانة، كما قالت قريش، وهذا كقوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء 26/ 210- 212] . فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: أيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ وأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقا من عند الله تعالى؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم بما ينفعهم، وتحذير لهم عما يضرهم، لمن

_ (1) البحر المحيط: 8/ 434- 435

فقه الحياة أو الأحكام:

أراد من البشر أن يستقيم على الحق والإيمان والطاعة، فمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه مناجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه. قال الزمخشري: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من لِلْعالَمِينَ وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، وإن كانوا موعوظين جميعا. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما تشاؤون الاستقامة ولا تقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، فليست المشيئة موكولة إليكم، فمن شاء اهتدى، ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى ربّ الإنس والجن والعالم كله. آمنت بالله وبما يشاء، فلا يقدر أحد على شيء إلا بما يخلق فيه من قوة، وبما يودع الله فيه من قدرة يتمكن من توجيهها نحو الإيمان والخير أو نحو الكفر والشر، وهذا يعني أن الله أودع في الناس قدرة الاختيار، بدليل الآيات الأخرى التي تنفي الإجبار والإكراه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك، كما قال القرطبي «1» . 2- أقسم الله تعالى بجميع الكواكب التي تخنس (تختفي) بالنهار وعند غروبها، وخنوسها: غيبتها عن البصر بالنهار، والتي تجري في أفلاكها، وتكنس، وكنوسها: ظهورها للبصر في الليل، كما يظهر الظبي أو الوحش من كناسه، ثم تغيب وتستتر في مغيبها تحت الأفق، لما في تحركها وظهورها مرة،

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 237

واختفائها مرة أخرى من الدليل على قدرة خالقها ومصرّفها. وأقسم الله أيضا بالليل إذا أقبل بظلامه لما فيه من السكون والرهبة، وبالصبح إذا أضاء وامتد حتى يصير نهارا واضحا، لما فيه من التفتح والبهجة. والمقسم المحلوف عليه هو أن القرآن الكريم نزل به جبريل: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة 56/ 80] . وإنما نسب الكلام إلى جبريل عليه السلام باعتبار أنه الواسطة بين الله وبين أنبيائه ورسله. 3- وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بخمسة أوصاف، هي: كريم عزيز على الله، ذو قوة في الحفظ وأداء، طاعة الله ومعرفته وترك الإخلال بها، وذو مكانة وجاه عند ربّ العرش، ومطاع بين الملائكة فهو من السادة الأشراف، وأمين على وحي الله ورسالاته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل. وقوله: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ.. هذه العندية ليست عندية المكان، كقوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء 21/ 19] وليست عندية الجهة، بدليل قوله في الحديث: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم «1» . 4- ردّ الله تعالى على المشركين المتقولين بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون كما زعموا، بأنهم أعلم الناس بأمره، وبأنه أعقل الناس وأكملهم. 5- رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، له ست مائة جناح بالأفق المبين، أي بمطلع الشمس من قبل المشرق، فهو مبين لأنه ترى الأشياء من جهته، وذلك ليتأكد ويطمئن بأنه ملك مقرب، لا شيطان رجيم. 6- أخبر الله تعالى عن نبيّه بأنه لا يضنّ بشيء من الغيب أي الوحي وخبر

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 73

السماء على أحد، وإنما يقوم بتعليمه وتبليغه دون انتقاص شيء منه، قال مجاهد: لا يضنّ عليكم بما يعلم، بل يعلّم الخلق كلام الله وأحكامه. 7- بعد وصف كل من الرسول الوسيط جبريل والمرسل إليه بالأمانة في تبليغ الوحي، حسم الأمر في شأن القرآن، فأعلن بأن القرآن ليس بقول شيطان مرجوم ملعون، كما قالت قريش، ولا بقول كاهن ولا مجنون، وإنما هو موعظة وبيان وهداية للخلق أجمعين، لمن أراد أن يستقيم أي يتبع الحق ويقيم عليه. 8- حكم الله بعد هذا الوصف على قريش بالضلال والضياع بقوله: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي فأيّ طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيّنت لكم، أو بعد هذه البيانات التي أوضحتها لكم. 9- لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه، وليس للإنسان مشيئة إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة، وفعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة. والله هدى بالإسلام، وأضل بالكفر. والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري: والله هدى بالإسلام، وأضل بالكفر. والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض. قال الحسن البصري: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام: 6/ 111] ، وقال سبحانه: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 10/ 100] ، وقال عزّ وجلّ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] .

سورة الانفطار:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الانفطار مكيّة، وهي تسع عشرة آية. تسميتها: سميت سورة (الانفطار) ، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت، كما قال سبحانه: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 73/ 18] . مناسبتها لما قبلها: هذه السورة وما قبلها وسورة الانشقاق في وصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، كما تقدم. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية تتحدث عن أمور في العقيدة، وهي هنا بعض أمارات القيامة وما يصحبها من تبدل في الكون، ووقوع أحداث جسام، ووصف أحوال الأبرار والفجار يوم البعث، كالسورة المتقدمة. ابتدأت بوصف الأحداث الكونية التي ترى في القيامة وهي انشقاق السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، ثم الإخبار عن علم كل نفس بما قدّمت وأخّرت: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ.. [الآيات: 1- 5] . ثم ندّدت بجحود الإنسان نعم ربّه، وبتقصيره في مقابلة الإحسان بالشكر والعرفان: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.. [الآيات: 6- 8] .

فضلها:

ثم ذكرت سبب هذا الجحود وهو إنكار البعث، وبيّنت أن أعمال الإنسان كلها محفوظة مسجلة عليه، يقوم برصدها ملائكة كرام كاتبون: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ.. [الآيات: 9- 12] . وأردفت ذلك ببيان مصير الناس وانقسامهم إلى فريقين: أبرار وفجّار، وأيلولتهم إلى نعيم أو جحيم: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ.. [الآيات: 13- 16] . وختمت السورة بالتحذير من يوم الدّين، أي الجزاء والقيامة، واستقلال كل إنسان بالمسؤولية عن نفسه، وتفرد الله بالحكم والأمر: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ.. [الآيات: 17- 19] . والخلاصة: أن الله تعالى ذكر في هذه السورة السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه. فضلها: أخرج الإمام أحمد كما تقدم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من سرّه أن ينظر إلى القيامة رأي العين، فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» . وأخرج النسائي، وأصل الحديث في الصحيحين عن جابر قال: قام معاذ، فصلى العشاء الآخرة فطوّل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفتّان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ووَ الضُّحى وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» ؟!

أمارات القيامة والجزاء على العمل وتوبيخ الإنسان على جحود النعم [سورة الانفطار (82) الآيات 1 إلى 8] :

أمارات القيامة والجزاء على العمل وتوبيخ الإنسان على جحود النعم [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) الإعراب: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ السَّماءُ فاعل لفعل مقدر يفسره انْفَطَرَتْ لأن إِذَا لا تدخل إلا على الفعل. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ ما: استفهامية في موضع رفع، مبتدأ، وغَرَّكَ: خبره. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ: ما: إما زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه، وفِي تتعلق ب رَكَّبَكَ أي ركّبك في أى صورة شاء، فحذف: ما، أو شرطية، وشاءَ: فعل الشرط المجزوم ب ما، ورَكَّبَكَ: جواب الشرط، وفِي حينئذ متعلقة بعامل مقدر لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله، وتقديره: كوّنك في أي صورة. ولا يكون متعلقا ب «عدلك» لأن الاستفهام لا يتعلق بما قبله. البلاغة: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ سجع مرصّع. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ استعارة مكنية، شبّه الكواكب بجواهر متناثرة متفرقة، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الانتثار على طريق الاستعارة المكنية. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ استفهام يراد به التوبيخ والإنكار.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: انْفَطَرَتْ انشقت. انْتَثَرَتْ تساقطت متفرقة. فُجِّرَتْ شقّقت جوانبها، فصارت بحرا واحدا. بُعْثِرَتْ قلب ترابها الذي وضع على موتاها، وبعث موتاها. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جواب إِذَا وما عطف عليها، أي علمت نفس وقت حدوث هذه الأمور، وهو يوم القيامة ما قدمت من الأعمال، وما أخرت منها فلم تعمله بسبب الكسل. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ جنس الإنسان. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ما خدعك وأي شيء جرّأك على عصيانه، والْكَرِيمِ العلي العظيم، وذكر للمبالغة في المنع عن الاغترار. فَسَوَّاكَ جعل أعضاءك سوية سليمة معدّة لمنافعها. فَعَدَلَكَ جعلك معتدلا متناسب الخلق والأعضاء، فلا تجد تنافرا بينها ولا عيبا فيها، فليست يد أو رجل أطول من الأخرى. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركّبك وكوّنك في أي صورة هي من أعجب الصور وأحكمها. سبب النزول: نزول الآية (6) : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ.. الآية قال: نزلت في أبيّ بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحيّ، وقال ابن عباس: الإنسان هنا الوليد بن المغيرة. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال: «غرّه الجهل» . التفسير والبيان: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي إذا انشقت السماء، كما قال تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل 72/ 18] ، وقال سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان 25/ 25] ، وقال عزّ وجلّ: فَإِذَا انْشَقَّتِ

السَّماءُ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن 55/ 37] ، وقال عزّ من قائل: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 78/ 19] . وإذا تساقطت الكواكب وتفرقت، وذلك بعد تشقق السماء. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي فجّر الله بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا، ثم تسجّر أي توقد فتصير نارا تضطرم، كما قال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير 81/ 6] . وإذا قلب تراب القبور، وأخرج موتاها، وصار باطنها ظاهرها. وإذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة، فهناك يحصل الحشر والنشر، وبما أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم، وفناء الدنيا، فإنه يلاحظ الترتيب، فيبدأ أولا بتخريب السماء التي هي كالسقف، ويلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب، ثم يخرب ما على وجه الأرض التي هي كالبناء، وهو تفجير البحار، ثم تقلب الأرض ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، وهو بعثرة القبور. وجواب الشرط قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أي إذا حدثت الأمور المتقدمة، علمت كل نفس عند نشر الصحف ما قدمت من عمل خير أو شر، وما أخّرت من الأعمال بسبب التكاسل والإهمال، كما قال تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة 75/ 13] . وبما أن المراد بهذه الأمور يوم القيامة، فيكون المقصود بالآية الأخيرة في الأصح الزجر عن المعصية، والترغيب في الطاعة.

وبعد بيان تبدل نظام العالم، والإخبار عن وقوع الحشر والنشر، وبّخ الله تعالى الإنسان على تقصيره في عمل الخير، وجحوده النعم، بأن لم يطع أوامر الله شكرا على النعمة، فقال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أي يا أيها الإنسان المدرك نهاية العالم ما الذي خدعك وجرأك على عصيان ربّك الكريم الذي أنعم عليك في الدنيا، حيث خلقك من نطفة بعد العدم، وجعلك سويا مستقيما، معتدل القامة في أحسن هيئة وشكل، متناسب الأعضاء، لا تفاوت فيها، مزوّدا بالحواس من السمع والبصر، وطاقة العقل والفهم. والأصح أن الآية تتناول جميع العصاة لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله. وقد وصف الله تعالى نفسه في هذا المقام بالكرم، وهذا الوصف يقتضي الاغترار به، حتى قالت العقلاء: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. فكان الكرم سبب الاغترار، وإنما وقع الإنكار عليه لأن الإنسان لم يدرك أن كرمه صادر عن الحكمة، وهي تقتضي ألا يهمل وإن أمهل، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين، وقيل: غرّه، جهله، وقيل: غرّه عدوه المسلّط عليه، وهو الشيطان، وقيل: غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركّبك في أي صورة شاءها من أبهى الصور وأجملها، وأنت لم تختر صورة نفسك، كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين 95/ 4] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- إن من علامات يوم القيامة تبدل النظام الكوني، بتشقق السماء، وتساقط الكواكب، وتفجير البحار بعضها في بعضها، حتى تصير بحرا واحدا، ثم توقد حتى تصير نارا تضطرم، وبعثرة القبور وإخراج موتاها منها. 2- إذا حدثت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة، حصل الحشر والنشر، وختمت صحائف الأعمال، فعلمت كل نفس ما كسبت، ووجدت ما قدمت من خير أو شر، وحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها، ولم يعد ينفعها عمل بعد ذلك. 3- مسكين هذا الإنسان لا يشكر نعم ربّه بإطاعة أوامره، ولا يدخر من العمل الصالح ما يفيده في سفينة النجاة في آخرته، وغرّه كرم الله الذي تجاوز عنه في الدنيا، أو حمقه وجهله، أو شيطانه المسلط عليه. أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن عمر سمع رجلا يقرأ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فقال عمر: الجهل، كما قال تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب 33/ 72] . وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول: غرّني ستورك المرخاة لأن الكريم هو الستّار. 4- نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى، وأهمها ما يتعلق بنفسه، حيث خلقه الله من نطفة ولم يك شيئا، وجعله سليم الأعضاء، منتصب القامة، متناسب الأعضاء، مستعدا لقبول الكمالات، بالسمع والبصر والعقل وغير ذلك، وصوّره في أحسن الصور وأعجبها وأبدعها، واختار له الهيئة الجميلة والشكل البديع، كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين 95/ 4] .

علة الجحود وكتابة الملائكة وانقسام الناس فريقين [سورة الانفطار (82) الآيات 9 إلى 19] :

علة الجحود وكتابة الملائكة وانقسام الناس فريقين [سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 19] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) الإعراب: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ ... يَوْمَ: بالنصب على البدل من يَوْمَ الدِّينِ [الآية: 15] الأول المنصوب. ويقرأ بالرفع على البدل من يَوْمَ الدِّينِ] [الآية: 18] المرفوع، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو يوم لا تملك. البلاغة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ سجع مرصع، ومثله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. والسجع: هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير، وهو ثلاثة أنواع: مطرف ومتوازي وترصيع. إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ بينهما مقابلة، قابل بين الأبرار والفجار، وبين النعيم والجحيم. وفيها سجع الترصيع: وهو أن يكون في إحدى الفقرتين مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتقفية وهو من المحسنات اللفظية. والمقابلة من المحسنات المعنوية: وهي أن يؤتي معنيين متوافقين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، فقد تكون بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر. نَعِيمٍ وجَحِيمٍ التنكير للتعظيم والتهويل. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ إطناب بإعادة الجملة، لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى، فهي كلمة تفيد نفي شيء تقدم، وتحقق غيره. بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ بَلْ: إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم. والمراد. بِالدِّينِ: الجزاء على الأعمال يوم القيامة. لَحافِظِينَ ملائكة حفظة لأعمالكم، يحصون كل ما كان منها من خير أو شر. كِراماً عند الله، ووصفهم بذلك لتعظيم الجزاء. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يعلمون جميع الأفعال. الْأَبْرارَ هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم، الذين يفعلون البرّ (الخير) ويتقون الله في كل أفعالهم، جمع برّ. نَعِيمٍ جنّة. الْفُجَّارَ هم الكفار التاركون لما شرع الله لعباده، جمع فاجر. جَحِيمٍ نار محرقة. يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرّها. يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي لا يخرجون منها، لخلودهم فيها. وَما أَدْراكَ ما أعلمك وعرّفك، وكرر الجملة لتفخيم شأن اليوم وتعظيم هوله، بحيث لا يدركه إنسان. لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً من المنفعة. وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي لا أمر لغيره فيه، فلا يمكّن أحد من التوسط فيه. والمقصود بالآية تقرير شدة هول ذلك اليوم، وتفخيم أمره إجمالا. المناسبة: بعد بيان أمارات الساعة الدالة على صحة القول بالبعث والنشور، وبعد تعداد نعم الله على الإنسان، وجحوده إياها، ذكر الله تعالى علة هذا الجحود وهو التكذيب بالبعث، ثم رغب بالطاعة، وحذر من المعصية بسبب كتابة الحفظة جميع الأعمال، ثم أوضح أن الناس يوم القيامة فريقان: أبرار منعمون، وفجار معذبون مخلّدون في النار، وأن يوم القيامة ذو شدائد وأهوال، تتجرد فيه النفوس من قواها، ويتفرد الله عزّ وجلّ بالحكم والسلطان. التفسير والبيان: كَلَّا، بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي ارتدعوا وانزجروا عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به، والواقع أنكم تكذبون بيوم المعاد والحساب

والجزاء، حيث لا يحملكم الخوف من هذا اليوم على التزام طاعة الله واجتناب معاصيه. ثم زاد في التحذير من العناد والتكذيب بالإخبار أن جميع الأعمال مرصودة على الناس بالملائكة، فقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ أي إن عليكم لملائكة حفظة كراما، فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم، ويعلمون جميع ما تفعلون، كما قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] . وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد مرسلا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين: الجنابة والغائط. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط، أو ببعيره، أو ليستره أخوه» . ورواه الحافظ أبو بكر البزار، فوصله بلفظ آخر، وأسنده عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم، الكرام الكاتبين، الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء، فليستتر بثوبه أو بجرم حائط، أو ببعيره» . لذا كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. ثم ذكر الله تعالى تصنيف الناس العاملين يوم القيامة فريقين نتيجة كتابة الحفظة لأعمال العباد، فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي إِنَّ الْأَبْرارَ: وهم الذين أطاعوا الله عزّ وجلّ، ولم يقابلوه بالمعاصي يصيرون إلى دار النعيم وهي الجنة، وَإِنَّ الْفُجَّارَ: وهم الذين كفروا بالله وبرسله، وقابلوا ربّهم بالمعاصي، يصيرون إلى دار الجحيم، وهي النار المحرقة،

يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به، كما قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى 42/ 7] . وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي لا يفارقون الجحيم ولا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف من عذابها، بل هم فيها إلى الأبد، ملازمون لها، كما قال تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [البقرة 2/ 167] . ثم وصف يوم القيامة وصفا إجماليا في غاية التهويل وأكد ذلك مرتين، فقال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ أي وما أعلمك وما أعرفك ما يوم الجزاء والحساب، وكرر الجملة تعظيما لشأن يوم القيامة، وتفخيما لقدره، وتهويلا لأمره، مما يستدعي التدبر والتأمل، فلو عرف المرء تلك الأهوال، لما فارق طاعة الله ساعة، وابتعد عن المعصية بعد السماء من الأرض، ولكن الإنسان في غفلة وسهو وتجاهل، يعيش في الآمال، ويعتمد على الأحلام أحيانا، ويهرب من الواقع. ثم حسم الله تعالى الأمر، وأبان حقيقة الموقف، ودور الإنسان فيه، فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي إنه اليوم الذي لا يقدر فيه أحد كائنا من كان عليه نفع أحد، ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، ولا يملك أحد القضاء بشيء أو صنع شيء، إلا الله ربّ العالمين، فهو المتفرد بالحكم والسلطان، فبيده الأمر كله، وإليه ترجع الأمور كلها. قال قتادة: والأمر، والله اليوم، لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد. ونظير الشطر الأول من الآية قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة 2/ 48] ، وقوله عزّ وجلّ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ

فقه الحياة أو الأحكام:

بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر 40/ 17] ، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس 80/ 34- 37] . وجاء في الحديث الثابت الذي أخرجه الترمذي: «يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئا» . ونظير الشطر الآخر قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 40/ 16] ، وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ.. [الحج 22/ 56] ، وقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة 1/ 4] . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أمر تعالى بأن نرتدع عن الاغترار بحلم الله وكرمه، وأن نتفكر في آيات الله. 2- إن منشأ عدم الخوف من الله والتجرؤ على الكفر والعصيان في الحقيقة والواقع هو التكذيب بالجزاء والحساب في يوم القيامة. 3- حال الناس مما يثير التعجب، فهم يكذبون بيوم الحساب والجزاء، وملائكة الله موكلون بهم، يكتبون أعمالهم، حتى يحاسبوا بها يوم القيامة. ولا يختلف الحال بين المؤمنين والكفار، فعليهم جميعا الحفظة لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... [الحاقة 69/ 19] ، ثم قال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الحاقة 69/ 25] ، وفي آية أخرى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق 84/ 10] ، فهذا خبر يدل أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة.

سئل سفيان الثوري: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد همّ بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا همّ العبد بحسنة، وجدوا منه ريح المسك، وإذا همّ بسيئة وجدوا منه ريح النّتن. 4- وصف الله تعالى الملائكة الحفظة بصفات أربع: هي كونهم حافظين، وكونهم كراما، وكونهم كاتبين، وكونهم يعلمون ما تفعلون. ووصف الله إياهم بهذه الصفات يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم، وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله تعالى من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكلوا بضبط ما يحاسب عليه كل إنسان. قال بعض العلماء: من لم يزجره من المعاصي مراقبة الله إياه، كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين. 5- أحوال العاملين ومصيرهم يوم القيامة: إن الأبرار يكونون في جنات النعيم، وإن الفجار يكونون في نيران الجحيم، يدخلونها ويقاسون لهابها وحرها يوم الجزاء والحساب، ويلازمونها إلى أبد الآبدين، فلا يغيبون عنها. وليس صاحب المعصية الكبيرة فاجرا، وإنما الكفار هم الفجرة لا غيرهم كما تقدم، وليس صاحب الكبيرة بفاجر على الإطلاق، لقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 80/ 42] . وفي هذا تهديد عظيم للعصاة، حكي أن سليمان بن عبد الملك مرّ بالمدينة، وهو يريد مكة، فقال لأبي حازم: كيف القدوم على الله غدا؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قال: فبكى، ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله! فقال أبو حازم: اعرض عملك على كتاب الله، قال: في أي مكان من كتاب الله؟ قال: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان: فأين إذن هي رحمة الله؟ فأجابه بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «1» [الأعراف 7/ 56] .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 85

6- في يوم القيامة والجزاء والحساب الرهيب لا يستطيع أحد مهما كان أن يقدم منفعة لآخر، والأمر كله حينئذ لله الواحد القهار، لا ينازعه فيه أحد. وفي هذا وعيد عظيم وتهويل جسيم ليوم القيامة، ودليل على أنه لا يغني عن الناس إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. قال الواسطي في قوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير الله تعالى، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات فمن كانت صفته في الدنيا كذلك، كانت دنياه أخراه. وقال الرازي في قوله تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ: هو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم، وفي الآخرة، ولم يتغير من حال إلى حال، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر، لا إلى أحوال المنظور إليه «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 86

سورة المطففين:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المطففين مكيّة، وهي ست وثلاثون آية. تسميتها: سميت سورة (المطففين) ، لافتتاحها بقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهم الذين يبخسون المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضوا من الناس، وإما بالنقصان إن قضوهم أو وزنوا أو كالوا لهم. مناسبتها لما قبلها: تتعلق هذه السورة بما قبلها من وجوه أربعة: 1- قال الله تعالى في آخر السورة المتقدمة واصفا يوم القيامة: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة، فلهذا أتبعه هنا بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والمراد: الزجر عن التطفيف: والبخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية. أما الكثير فيظهر، فيمنع منه. 2- في كل من السورتين توضيح أحوال يوم القيامة. 3- ذكر الله تعالى في السورة السابقة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ [10- 11] وذكر هنا ما يكتبه الحافظون: كِتابٌ مَرْقُومٌ [20] يجعل في عليين، أو في سجين.

ما اشتملت عليه السورة:

4- ذكر الله تعالى تصنيف الناس إلى فريقين: أبرار وفجار في كل من السورتين، وذكر مآل كل فريق، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قال أبو حيان: لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه، ذكر ما أعد لبعض العصاة، وذكّرهم بأخس ما يقع من المعصية، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته «1» . ما اشتملت عليه السورة: عنيت هذه السورة كسائر السور المكية بأمور العقيدة، وعلى التخصيص أحوال يوم القيامة وأهوالها، وعنيت بأمور الأخلاق الاجتماعية، وهي هنا تطفيف الكيل والميزان. بدأت السورة بمطلع مخيف، وهو وعيد المطففين بالعذاب الشديد: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.. [الآيات 1- 6] . ثم أبانت أن كتاب الفجار الأشقياء في ديوان الشر، وفي كتاب مرقوم بعلامة، وأن مصيرهم أسفل السافلين في نار جهنم: كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ.. [الآيات 7- 17] . وأردفت ذلك على سبيل المقارنة والعبرة والجمع بين الترغيب والترهيب ببيان أن صحائف الأبرار في أعلى عليين، وأنها في كتاب مرقوم بعلامة متميزة عن صحائف الفجار: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ.. [الآيات 18- 28] . وختمت السورة بوصف موقف المجرمين من المؤمنين، حيث كانوا يستهزئون ويضحكون منهم في الدنيا لإيمانهم وتقواهم ربهم، ثم انعكاس هذا الموقف في الآخرة حيث صار المؤمنون يتضاحكون من الأشقياء المجرمين ويسخرون منهم،

_ (1) البحر المحيط: 8/ 439

وعيد المطففين [سورة المطففين (83) الآيات 1 إلى 6] :

وينظرون إليهم وهم يعذبون في النار وما يلقونه من النكال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ.. [الآيات 29- 36] . وعيد المطففين [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) الإعراب: كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ الهاء والميم: إما ضمير منصوب بالفعل، وتقديره: كالوا لهم ووزنوا لهم، فحذفت اللام، فاتصل الفعل به، وإما ضمير مرفوع مؤكد لواو الجماعة في الفعل. قال ابن كثير: والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعديا، ويكون (هم) في محل نصب. وقال أبو حيان: كال ووزن مما يتعدى بحرف الجر، فتقول: كلت لك ووزنت لك، ويجوز حذف اللام كقولك: نصحت لك ونصحتك وشكرت لك وشكرتك. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ يَوْمَ الثاني: إما منصوب بفعل مقدر، دل عليه مَبْعُوثُونَ اي مبعوثون يوم يقوم الناس، وإما بدل من موضع الجار والمجرور في قوله تعالى: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أَلا هنا: ليست أداة استفتاح، وإنما الهمزة للإنكار والتعجب، ولا للنفي. البلاغة: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ تنكير وَيْلٌ للتهويل والتفخيم. يَسْتَوْفُونَ ويُخْسِرُونَ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَيْلٌ كلمة عذاب، أي شدة عذاب، في الآخرة. لِلْمُطَفِّفِينَ المنقصين، جمع مطفّف: وهو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن، والمراد بالتطفيف هنا: إما الازدياد إن اقتضوا من الناس، وإما النقصان إن قضوهم. وسمي بذلك لأن ما يبخس شيء حقير طفيف. اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أخذوا منهم حقوقهم. يَسْتَوْفُونَ يأخذون الكيل وافيا كاملا. كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ كالوا لهم أو وزنوا لهم. يُخْسِرُونَ ينقصون الكيل أو الوزن. أَلا يَظُنُّ يتيقن، وهو استفهام توبيخ وإنكار وتعجب من حالهم، وعبر بالظن لأن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح، فكيف بمن تيقنه. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي يوم القيامة، عظمه لعظم ما يكون فيه. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم. لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي رب الخلائق، والمراد: يوم يقف الناس أمام ربهم لأجل أمره وحكمه وحسابه وجزائه. قال البيضاوي: وفي هذا الإنكار والتعجب، وذكر الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله، والتعبير برب العالمين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه. سبب النزول: نزول الآية (1) : أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل الله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال السّدّي: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وهي آخر سورة نزلت بمكة، فهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، فهي مدنية في قول الحسن وعكرمة. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل «1» . وهذا على أن السورة مدنية، أو قرأها عليهم بعد قدومه إن كانت مكية.

_ (1) رواه النّسائي عن ابن عباس.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أي عذاب شديد للمنقصين في الكيل أو الوزن، والتطفيف: الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا، أي نزرا حقيرا أو يسيرا، والمطفف: هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال ابن كثير رحمه الله: البخس في المكيال والميزان: إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم، ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أي هم الذين إذا اكتالوا من الناس وقبضوا لهم، يأخذون حقهم وافيا زائدا، وإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم من الناس أو أقبضوهم، ينقصون الكيل أو الوزن. وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان، فقال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء 17/ 35] وقال سبحانه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الأنعام 6/ 152] وقال عز وجل: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن 55/ 9] . وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال، بعد أن كرر النصح لهم، فقال تعالى: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود 11/ 85] . ثم توعد الله تعالى المطففين بقوله: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي ألا يخطر ببال أولئك المطففين أنهم مبعوثون، فمسئولون عما

فقه الحياة أو الأحكام:

يفعلون؟ وأما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي ربهم في يوم عظيم الهول كثير الفزع، جليل الخطب، من خسر فيه أدخل نارا حامية؟ وهو يوم القيامة. إنه يوم يقوم الناس فيه حفاة عراة، في موقف صعب حرج، منتظرين لأمر رب العالمين وجزائه وحسابه. وفي هذا دلالة على عظم ذنب التطفيف، ومزيد إثمه، وشدة عقابه، لما فيه من خيانة الأمانة وأكل حق الغير. وفي الإشارة إليهم بأولئك، وقد ذكرهم عما قريب، تبعيد لهم عن رتبة الاعتبار، بل عن درجة الإنسانية. وفي هذا الإنكار والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لرب العالمين، بيان بليغ لعظم هذا الذنب. ويلاحظ أن المطففين إن كانوا من أهل الإسلام، فالظن بمعنى اليقين أو العلم، وإن كانوا كفارا منكري البعث، فالظن بمعناه الأصلي، والمراد: هب أنهم لا يقطعون بالبعث، أفلا يظنونه أيضا، كقوله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية 45/ 32] . فقه الحياة أو الأحكام: يستفاد من الآيات ما يأتي: 1- التطفيف: وهو إنقاص حق الآخر في الكيل أو الوزن ونحوهما من المقاييس حرام شرعا، موجب للإثم الشديد والعذاب الأليم في الآخرة، وهو أيضا رذيلة اجتماعية ونقيصة وعيب يطعن في الخلق، ويؤدي إلى ابتعاد الناس عن فاعله. روي أن أهل المدينة كانوا تجارا يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، يعني بيع الغرر، كالطير في الهواء، فنزلت- على أن السورة مدنية في رأي جماعة- فخرج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فقرأها عليهم، فقال:

«خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا المكيال إلا منعوا النّبات، وأخذوا بالسّنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» «1» . 2- المراد بالتطفيف هنا: الزيادة في الكيل أو الوزن ونحوهما عند استيفاء الحق، ونقص الكيل أو الوزن ونحوهما عند إيفاء الحق. 3- قوله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ توبيخ للمطففين، وإنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة، فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا كما تقدم بمعنى اليقين، أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وهذا دليل على أن التطفيف من الكبائر. وهذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك، ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضا من الكبائر «2» . وأكثر العلماء على أن قليل التطفيف وكثيره يوجب الوعيد، وبالغ بعضهم كما تقدم، حتى عدّ العزم عليه من الكبائر. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب وإخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ومن لم يرض لأخيه المسلّم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه، فهو من هذه الجملة، ومن طلب حق

_ (1) أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وهو حديث صحيح. وأخرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر. (2) وهذا رأي الرازي، تفسير الرازي: 31/ 89

نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم، كما يطلب لنفسه، فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس، ولا يطلب من أحد لنفسه حقا «1» . ويحكى أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك، وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن؟! 4- قوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي للعرض والحساب، فيه غاية التخويف لأن جلال الله وعظمته يملآن النفس رهبة وهيبة، والقيام له شيء حقير أمام عظمته وحقه. أما قيام الناس بعضهم لبعض، ففيه خلاف، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصار، حين طلع عليه سعد بن معاذ فيما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري: «قوموا إلى سيّدكم» . وقال أيضا: «من سرّه أن يتمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار» «2» . قال القرطبي: وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة، فإنه جائز، وبخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه «3» . والخلاصة كما ذكر الرازي: جمع الله سبحانه في هذه الآية أنواعا من التهديد، فقال أولا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء، وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء، ثم قال ثانيا: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، ثم قال ثالثا:

_ (1) غرائب القرآن: 30/ 49 (2) تفسير القرطبي: 19/ 256 (3) تفسير القرطبي: 19/ 256 [.....]

ديوان الشر وقصة الفجار [سورة المطففين (83) الآيات 7 إلى 17] :

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة، ثم قال رابعا: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفيه نوعان من التهديد: أحدهما- كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذل والانكسار. والثاني- أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين «1» . ديوان الشر وقصة الفجار [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) الإعراب: ... لَفِي سِجِّينٍ سِجِّينٍ: من السجن، وهو الحبس والتضييق، وقيل: النون فيه بدلا من اللام. كِتابَ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو كتاب مرقوم، أي هو في موضع كتاب مرقوم، وكذا التقدير في قوله بعدئذ: عِلِّيُّونَ [19] كِتابٌ مَرْقُومٌ [20] فحذف المبتدأ والمضاف جميعا، وإنما وجب هذا التقدير، لقيام الدليل على أن عِلِّيِّينَ مكان، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم لترون أهل عليين، كما يرى الكوكب الذي في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم» . وعليين: جمع لا واحد له، كعشرين، سمي به. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ بدل أو عطف بيان للمكذبين. ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ هذَا: في موضع رفع مبتدأ، وخبره الَّذِي. والجملة في موضع رفع نائب فاعل.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 90- 91

البلاغة:

البلاغة: كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... وكَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ... بينهما مقابلة، حيث قابل بين حال الفُجَّارِ وحال الْأَبْرارِ، وبين سِجِّينٍ وعِلِّيِّينَ. المفردات اللغوية: كَلَّا للردع والزجر عما هم فيه من التطفيف والتكذيب بالنسبة للكافر أو الغفلة عن البعث والحساب بالنسبة للمؤمن. كِتابَ الفُجَّارِ كتاب أعمال الكفار، وهو ما يكتب فيه من أعمالهم. سِجِّينٍ كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين: الشياطين والفسقة والكفرة، فهو ديوان الشر، بدليل قوله تعالى بعدئذ: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. وقيل: هو مكان في أسفل السافلين، وكِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسيرا للسجين، بل التقدير: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وإن كتاب الفجار مرقوم وموقع. لكن قال الزمخشري: سجين كتاب جامع هو ديوان الشر، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبّت في ذلك الديوان، وسمي سجينا فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، فهو اسم علم لا صفة، منقول من وصف كخاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف» . وقال أبو حيان: والظاهر أن سجينا هو كتاب، ولذلك أبدل منه كِتابٌ مَرْقُومٌ «2» . وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ ما كتاب سجين؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ كتاب مسطور بيّن الكتابة، أو معلم، يعلم من رآه أنه لا خير فيه، كما تقدم، يقال: رقم الكتاب: إذا جعل له علامة، وتسمى العلامة رقما. لِلْمُكَذِّبِينَ بالحق. مُعْتَدٍ متجاوز حدود الشرع والنظر والعقل. أَثِيمٍ كثير الآثام (أي المعاصي) منهمك في الشهوات المعيبة، صيغة مبالغة. آياتُنا القرآن. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حكايات وأخبار القدماء، جمع أسطورة، أو اسطارة. كَلَّا ردع وزجر لهم عن هذا القول. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ غطّاها وغلب عليها، أي اسودت من الذنوب، وهو رد لما قالوه وبيان سبب قولهم: وهو حب المعاصي بالانهماك فيها،

_ (1) الكشاف: 3/ 322 (2) البحر المحيط: 8/ 440

المناسبة:

حتى صار ذلك صدا على قلوبهم، فعمّى عليهم معرفة الحق والباطل. والرين: الصدأ. ما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي، فهو كالصدأ. كَلَّا ردع عن الكسب الزائن. يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. لَمَحْجُوبُونَ فلا يرونه، بخلاف المؤمنين، ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلا لإهانتهم بإهانة حجاب الملوك الذين يمنعون عن الدخول عليهم. لَصالُوا الْجَحِيمِ لداخلو النار المحرقة وملازموها. ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يقول لهم الزبانية: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به. المناسبة: بعد بيان عظم ذنب التطفيف، وبيان سببه وهو إنكار البعث والحساب أو الغفلة عنهما، ردعهم الله تعالى عن الأمرين معا، ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر، فإنه مكتوب مسطر عند الله، وأوعد منكري البعث المكذبين به، والقائلين بأن القرآن أساطير الأولين، وليس وحيا من عند الله، ثم زجرهم عن هذه المقولة الباطلة، وأوضح سببها وهو انغماسهم في المعاصي التي حجبت قلوبهم عن رؤية الحق والباطل، فصاروا لا يميزون بين الخير والشر، وأعقب ذلك بيان جزائهم وهو طردهم من رحمة الله ودخولهم نار جهنم وملازمتهم لها. وقدّم ديوان الشر عن ديوان الخير لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور، فناسب إيراد حال الأشرار أولا. التفسير والبيان: كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أي ارتدعوا وانزجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم مكتوبة في ديوان الشر وسجل أهل النار وهو السجين، أو في حبس وضيق شديد، فكلمة سِجِّينٍ من السجن: وهو الضيق والحبس. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي وما أعلمك أنت ولا قومك

ما هو السجين؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم، فهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة. وهذا السجل المسمى بالسجين هو السجل الكبير أو العظيم، الذي فيه لكل فاجر صحيفة. وهذا هو الظاهر في معنى كلمة سِجِّينٍ. وقد عرفنا سابقا أن بعضهم يرى أن السجين هو مكان وهو جهنم وهي أسفل السافلين، لذا قال محمد بن كعب القرظي: قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسيرا لقوله: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد، ولا ينقص منه أحد «1» . وهو رأي النحويين كما تقدم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي عذاب شديد يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء وبما جاء به الرسل، فهؤلاء المكذبون هم الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره. وهذا وعيد للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله، سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى. ثم أبان الله تعالى صفات من يكذب بيوم الدين وهي ثلاث، فقال: وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي لا يكذب بيوم الدين إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث: وهي أولا- كونه معتديا، أي فاجرا جائرا متجاوزا منهج الحق، ثانيا- أنه أثيم: وهو المنهمك في الإثم في أفعاله، من تعاطي الحرام وتجاوز المباح، وفي أقواله: إن حدّث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر، وثالثا- أنه إذا

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 485

تلي عليه القرآن قال: أساطير الأولين، أي أخبار الأولين المتقدمين وأكاذيبهم وأباطيلهم التي زخرفوها، تلقاها محمد صلّى الله عليه وسلّم من غيره من السابقين، وهذا يعني في زعمهم أن القرآن ليس وحيا من عند الله تعالى. وهذه الصفة الثالثة تشبه قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل 16/ 24] وقال سبحانه: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان 25/ 5] قيل: نزل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما. ثم بيّن الله تعالى أسباب افترائهم على القرآن، فقال: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون، ولا كما قلتم: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما السبب هو كثرة الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبكم عن الإيمان بالقرآن، والتي كوّنت عليها الرّين الذي منع نفاذ الحق والخير والنور إليها، فأعماها عن رؤية الحقيقة. والرين: يعتري قلوب الكافرين، فقوله: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي غطى عليها. أخرج ابن جرير وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن» . قال الحسن البصري عن الران: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، ويسودّ من الذنوب. والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين. ثم أبان الله تعالى أنهم مطرودون من أي رحمة أو تكريم، فقال: كَلَّا، إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي ليس

فقه الحياة أو الأحكام:

الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة منزلة حسنى، بل إن هؤلاء الكفار محجوبون عن ربهم يوم القيامة، لا ينظرون إليه كما ينظر المؤمنون، فكما حجبهم في الدنيا عن توحيده بسبب سوء أعمالهم، حجبهم في الآخرة عن رؤيته وكرامته. قال الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ «1» . وهذا استدلال بمفهوم الآية، يدل عليه منطوق قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] . ثم إنهم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن هم من أهل النيران، فهم داخلو النار، وملازموها غير خارجين منها، ومقاسو حرها، وصليّ الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة. ويقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم وزبانيتها تبكيتا لهم وتوبيخا: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، فانظروه وذو قوه. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- إن أعمال الفجار العصاة الكفرة مرصودة في كتاب مسطور بيّن الكتاب، معلم بعلامة، ومصيرهم السجن والضيق في جهنم والعذاب المهين. 2- هناك شدة وعذاب أليم يوم القيامة للذين يكذبون بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 485

3- لا يصدر التكذيب بالبعث والآخرة إلا من الفاجر المتجاوز حدود الحق، المعتدي على الخلق في معاملته إياهم، وعلى نفسه، وهو الأثيم العاصي في ترك أمر الله، وهو القائل عن القرآن إذا تلي عليه: إنه أساطير الأولين، أي أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. 4- ليس القرآن أساطير الأولين كما زعموا، وإنما هو كلام اللَّه الحق المنزل على قلب نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وسبب زعمهم كثرة القبائح والمعاصي التي غطت قلوبهم بالران وهو الحجاب الكثيف الذي يحدث بسبب تراكم الذنوب، فمنعتها من رؤية الحق والباطل، والتمييز بين الخير والشر. 5- حقا، إن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث المكذبين بالقرآن محجوبون عن رؤية ربهم يوم القيامة، فلا ينظر إليهم نظرة رحمة، ولا يرونه، ثم إنهم يلازمون الجحيم (النار المحرقة) فلا يخرجون منها، كلما نضجت جلودهم بدلهم اللَّه جلودا غيرها، وكلما خبت نارها زادهم اللَّه سعيرا، ويقال لهم من خزنة جهنم: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به رسل اللَّه في الدنيا. 6- قال الزجاج في آية: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ: في هذه الآية دليل على أن اللَّه عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] فأعلم اللَّه جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه. وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه، فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه.

ديوان الخير وقصة الأبرار [سورة المطففين (83) الآيات 18 إلى 28] :

وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما واللَّه، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد، لما عبده في الدنيا. ديوان الخير وقصة الأبرار [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) الإعراب: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَيْناً: تمييز، أو حال من تَسْنِيمٍ لأنها بمعنى جارية، على أن (تسنيما) اسم للماء الجاري من علو الجنة، فهو معرفة، تقديره: ومزاجه من الماء جاريا من علو، أو منصوب ب تَسْنِيمٍ وهو مصدر، مثل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أي ومزاجه من ماء تسنيم عينا، أو منصوب بتقدير (أعني عينا) أو منصوب على المدح ويَشْرَبُ: جملة فعلية في موضع نصب على الموضع لقوله: عَيْناً. وباء بِهَا إما زائدة، أي يشربها بمعنى: يشرب منها، أو بمعنى فيها. البلاغة: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تفخيم وتعظيم لمراتب الأبرار. فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ جناس اشتقاق. إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ إطناب بذكر أوصاف المتقين ومقر نعيمهم.

المفردات اللغوية:

خِتامُهُ مِسْكٌ تشبيه بليغ، أي كالمسك في الطيب والبهجة، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه. المفردات اللغوية: كَلَّا حقا، أو ردع وزجر عن الباطل. كِتابَ الْأَبْرارِ ما يكتب من أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم. لَفِي عِلِّيِّينَ لمثبت في ديوان الخير، فهو إما أنه الكتاب الجامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين، بدليل تفسيره بعدئذ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ وإما أنه مكان عال في الجنة. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ ما أعلمك ما كتاب عليين. كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة أو معلم بعلامة. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضرونه فيحفظونه، وهم الملائكة. لَفِي نَعِيمٍ جنة. عَلَى الْأَرائِكِ السرر أو الأسرّة في الحجال، والحجال: جمع حجلة وهي كالقبة، ولا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة وهي الكلّة. يَنْظُرُونَ ما أعطوا من نعيم يسرّهم. نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وحسنه وبريقه. رَحِيقٍ شراب خالص لا غش فيه، وهو أجود الخمر غير المسكرة. مَخْتُومٍ ختم إناؤه بالمسك، لا يفكه إلا الأبرار تكريما لهم. خِتامُهُ مِسْكٌ ختام إنائه المسك، مكان الطين أو غيره. فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليتسارع أو فليستبق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالركب المتقدم من العالمين المخلصين. وأصل التنافس: التنازع في الشيء بغية أن ينفرد به أحد المتنازعين دون غيره، أي يضن به. وَمِزاجُهُ ما يمزج به أو يخلط، فالمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خلط أحد الشيئين بالآخر. تَسْنِيمٍ عين من ماء تجري من الأعلى إلى الأسفل، وهو أشرف شراب في الجنة. يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ يشرب منها، أو ضمن يشرب معنى يلتذ، والْمُقَرَّبُونَ هم الأبرار السابق ذكرهم. المناسبة: بعد بيان حال المطففين وحال الفجار المكذبين بيوم الدين، وتبيين درجتهم يوم القيامة، أتبعه ببيان حال الأبرار الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالحا في الدنيا، والتعريف بمنزلتهم عند اللَّه، وأن اللَّه رصد أعمالهم في كتاب مرقوم هو عِلِّيُّونَ وأن لهم الجزاء الحسن على إحسانهم في الدنيا، حتى

التفسير والبيان:

يتبين أن كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانيه، فيقبل العاقل على مقوّمات الأولين، ويبتعد عن محاكاة الآخرين. التفسير والبيان: كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أي حقا، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون المطيعون مرصود في كتاب بيّن مسطور، أو في أعالي الجنة، ومصيرهم إلى الجنة، وهم بخلاف الفجار، وهو بخلاف سجين. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي وما أعلمك يا محمد أي شيء هو عليون؟ ويراد بذلك تفخيم أمره وتعظيم شأنه، إنه كتاب مسطور، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم، وهو السجل الكبير، الذي تحضره الملائكة وتحفظه ويرونه كما يحفظ اللوح المحفوظ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة. ثم أبان اللَّه تعالى حالهم فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم يوم القيامة، وفي جنات الخلود، على الأسرّة التي في الحجال (ذات القبب الساترة) ينظرون إلى ما أعده اللَّه لهم من أنواع النعيم في الجنة، وإلى ما لهم من الكرامات المادية والمعنوية، أما الماديات فهي مختلف أنواع الأطعمة الشهية والأشربة الهنية والحور العين والمراكب الفارهة والمساكن الفخمة، وأما المعنويات فأنساهم باللَّه ورؤيتهم له ورضاه عنهم وشعورهم بالأمن والطمأنينة والسعادة الأبدية. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي إذا رأيتهم عرفت آثار النعمة والترف والسرور والدعة في وجوههم، التي تتلألأ بالنور والحسن والبياض،

والبهجة والرونق لأن اللَّه تعالى زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس 80/ 38- 39] . يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي يسقون من الخمر التي لا غش فيها ولا يشوبها شيء يفسدها، وقد ختم إناؤها بالمسك فلا يفكه إلا الأبرار، ويكون آخر طعمه ريح المسك، وفي ذلك فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة اللَّه باتباع أوامره، واجتناب نواهيه. وهذا يعني أن التسابق أو التنافس يكون فيما يؤدي إلى النعيم، لا إلى الجحيم، كما قال تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات 37/ 61] . أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ، سقاه اللَّه تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع، أطعمه اللَّه من ثمار الجنة، وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري، كساه اللَّه من خضر الجنة» . وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي ومزاج ذلك الرحيق وهو ما يخلط به من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب الجنة. ويسقون الرحيق أو التسنيم من عين جارية من الأعلى إلى الأسفل يمزجون بها كؤوسهم، وهي التي يشرب منها الأبرار المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا. سئل ابن عباس عن قوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فقال: هذا مما قال اللَّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 32/ 17] .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يتبين من الآيات ما يأتي: 1- إن صحف أعمال الأبرار مدونة في السجل الكبير وهو الكتاب المسطر البيّن الكتابة، الذي يتميز بعلامته الخاصة، ويشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وهذه أضداد كتاب الفجار. وبالمقارنة بينهما يتبين أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة. والمقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع: إذلال الفجار وتحقير شأنهم. والمقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك: إجلالهم وتعظيم شأنهم «1» . 2- بعد أن عظم اللَّه تعالى كتاب الأبرار عظم منزلتهم، فأبان أنهم في نعيم الجنة. ووصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة: أولها- على الأرائك ينظرون، أي على الأسرة في الحجال ينظرون إلى ما أنعم اللَّه به عليهم، من الكرامات ومن أنواع النعم في الجنة من الحور العين والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يلحظ المؤمن، فيحيط بكل ما آتاه اللَّه، وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا» . ثانيها- تعرف في وجوههم نضرة النعيم، أي بهجته وغضارته ونوره، والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية اللَّه عز وجل، على ما قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 75/ 22- 23] .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 97

ثالثها- يسقون من رحيق مختوم، أي يسقون من شراب لا غشّ فيه، والرحيق: صفوة الخمر، وخمر الجنة غير مسكرة، كما قال تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات 37/ 47] . وقال عز وجل: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة 56/ 19] . وهذا النوع من الخمر يختلف عن النوع الآخر الذي يجري في الأنهار، المشار إليه في قوله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد 47/ 15] لكن هذا المختوم أشرف وأفضل من الجاري. وللرحيق صفات أربع هي: الأولى- أنه شراب مختوم قد ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان. الثانية- ختامه مسك، أي عاقبته المسك، بمعنى أن يختم له آخره بريح المسك. قال الفراء: الختام آخر كل شيء. الثالثة- أنه محل التنافس والتنازع لرفعته وطيبه، والمراد: فليرغب الراغبون به إلى المبادرة إلى طاعة اللَّه عز وجل. الرابعة- ومزاجه من تسنيم، أي مزاج ذلك الرحيق الذي يخلط به من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: تسنيم: عين في الجنة يشرب بها المقرّبون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين، فتطيب. وقال ابن عباس كما تقدم في قوله عز وجل: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ: هذا

سوء معاملة الكفار للمؤمنين في الدنيا ومقابلتهم بالمثل في الآخرة [سورة المطففين (83) الآيات 29 إلى 36] :

مما قال اللَّه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. لذا قال تعالى بعدئذ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة، صرفا وهي لغيرهم مزاج. ويلاحظ أنه تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام: المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون، علمنا أن المذكورين هنا هم أصحاب اليمين. وهذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة، فتسنيم أفضل أنهار الجنة، والمقربون أفضل أهل الجنة «1» . سوء معاملة الكفار للمؤمنين في الدنيا ومقابلتهم بالمثل في الآخرة [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) الإعراب: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ في موضع نصب ب يَنْظُرُونَ. وقيل: لا موضع لها من الإعراب لأنها مستأنفة. وقرئ: «هل ثوّب» : بإدغام اللام في هَلْ في الثاء، وبإظهارها، من أدغم، فلما بينهما من المناسبة لأنهما من حروف اللسان والثنايا العليا.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 100

البلاغة:

البلاغة: يَكْسِبُونَ يَضْحَكُونَ يَتَغامَزُونَ يَنْظُرُونَ يَفْعَلُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا هم رؤساء قريش ومشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي يضحكون استهزاء من عمّار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ مروا بالمؤمنين. يَتَغامَزُونَ يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم بالجفن والحاجب استهزاء. والغمز: إرخاء الجفن والحاجب استهزاء وسخرية، أو لغرض آخر يعبر به عن شيء بين الناس، إما خير أو شر، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث. انْقَلَبُوا رجعوا. فَكِهِينَ معجّبين بذكرهم المؤمنين أي ينسبونهم إلى الضلال، وقرئ: فاكهين، أي ملتذين بالسخرية منهم، والمعنى في القرائتين واحد. وَإِذا رَأَوْهُمْ أي رأوا المؤمنين. لَضالُّونَ ينسبونهم إلى الضلال، لإيمانهم بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ وما أرسل الكفار على المؤمنين. حافِظِينَ لهم أو لأعمالهم، أي رقباء يهيمنون على أعمالهم، شاهدين عليها، يشهدون برشدهم وضلالهم. فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة. الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ يهزؤون بهم حين يرونهم أذلّاء مغلولين في النار، عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرة في الحجال في الجنة. يَنْظُرُونَ من منازلهم إلى الكفار، وهم يعذبون، فيضحكون منهم، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. هَلْ ثُوِّبَ جوزي، من التثويب والإثابة: المجازاة، أي هل أثيبوا؟ ما كانُوا يَفْعَلُونَ نعم. سبب النزول: نزول الآية (29) : ذكر العلماء في سبب النزول وجهين: الأول- أن المراد من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل السّهمي، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.

المناسبة:

الثاني- جاء علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم، فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «1» . المناسبة: بعد بيان قصة الفجار وقصة الأبرار وما أعد لكل فئة في الآخرة، حكى اللَّه تعالى بعض قبائح أفعال الكافرين في الدنيا بالاستهزاء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالمثل في الآخرة، جزاء ما فعلوا في الدنيا. والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم. التفسير والبيان: حكى اللَّه تعالى عن رؤساء الشرك وأمثالهم أربعة أشياء من المعلومات القبيحة، فقال: 1- إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي إن كفار قريش ومن وافقهم على الكفر كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم. وهكذا شأن الأقوياء والأغنياء في كل عصر يسخرون من المؤمنين المصلّين أو الفقراء المتأدبين بآداب الإسلام والقرآن، ويهزؤون من المتدينين ومن دينهم، اعتمادا منهم على قوتهم، أو سلطتهم ونفوذهم، أو ثروتهم وغناهم. قال ابن عباس في تفسير إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ... : هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث. وأولئك الذين آمنوا من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم مثل عمار، وخبّاب، وصهيب، وبلال.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 101

2- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ أي وإذا مر الكفار بالمؤمنين يتغامزون عليهم محتقرين لهم، يعيرونهم بالإسلام، ويعيبونهم به. والتغامز: صيغة تفاعل تقتضي المشاركة، من الغمز: وهو الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء، ويكون الغمز أيضا بمعنى العيب، يقال: غمزة: إذا عابه، وما في فلان غميزة، أي ما يعاب به، والمعنى: أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم، ويحرمونها لذاتها، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه. 3- وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي وإذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق، رجعوا معجبين بما هم فيه، متلذذين به، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين، وبما قاموا به من استهزاء وطعن فيهم، واستهزاء بهم، ووصفهم بالسخف والطيش وضعف الرأي وقلة العقل. 4- وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي وإذا رأى المشركون المؤمنين، ووصفوهم بالضلال لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة، ولاتباعهم محمّدا، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى: هل له وجود أم لا. فرد اللَّه تعالى عليهم ما قالوه بقوله: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أي وما بعث هؤلاء المجرمون من قبل اللَّه رقباء على المؤمنين، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم، ولا كلّفوا بهم؟ وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم. ثم قرر اللَّه تعالى مبدأ المعاملة بالمثل في الآخرة، تسلية للمؤمنين وتقوية قلوبهم، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أي ففي اليوم الآخر يوم القيامة، يضحك المؤمنون ويهزؤون من الكفار حين يرونهم أذلّاء مغلوبين، قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، معاملة بالمثل، وتبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام، خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وكلمة فَالْيَوْمَ دليل على أن التكلم واقع في يوم القيامة. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ينظر المؤمنون إلى أعداء اللَّه، وهم يعذبون في النار، والمؤمنون متنعمون على الأرائك. وهذا دائم خالد لا يعادل بشيء من المؤقت الفاني. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي هل أثيب وجوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والطعن والتنقيص، أم لا؟ نعم، قد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم. والثواب: من ثاب يثوب: إذا رجع، فالثواب: ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. والاستفهام بمعنى التقرير للمؤمنين، أي هل جوزوا بها؟. فقه الحياة أو الأحكام: استدل العلماء بالآيات على ما يأتي: 1- الكفار دائما في عداوة وحقد وتغاير مع المؤمنين، فلا يلتقي الإيمان مع الكفر، ولا الدين الصحيح مع الضلال، ولا الأخلاق العالية مع الأخلاق المرذولة. فقد كان يصدر من المشركين ألوان متعددة من أذى المؤمنين، منها ما ذكرته هذه الآيات: وهو الاستهزاء والسخرية من المؤمنين، وتعييبهم والطعن بهم وتعييرهم بالإسلام، والتفكه بذكر المسلمين بالسوء أمام أهاليهم،

والعجب بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا، وقولهم بأن المؤمنين في ضلال لتركهم دين الآباء والأجداد واتباعهم محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب غير مؤكد الحصول. 2- قوبل الكفار في الآخرة بمثل فعلهم وقولهم، تسلية للمؤمنين، وتثبيتا لهم على الإسلام، وتصبرا على متاعب التكاليف، وأذية الأعداء، في أيام معدودة، لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية، ففي الآخرة يهزأ المؤمنون من الكفار ويضحكون منهم، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، بسبب الضر والبؤس، فضحك المؤمنون منهم بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء. قال قتادة في قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ: ذكر لنا أن كعبا كان يقول: إن بين الجنة والنار كوىّ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ كان له في الدنيا، اطلع من بعض الكوى قال اللَّه تعالى في آية أخرى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات 37/ 55] قال: ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي. ويدخل المؤمنون الجنة، وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار، كيف يعذبون في النار، وكيف يصطرخون فيها، ويدعون بالويل والثبور، ويلعن بعضهم بعضا. ويقال على سبيل التهكم: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان 44/ 49] والمعنى: كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة؟ فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم.

سورة الانشقاق:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الانشقاق مكيّة، وهي خمس وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة الانشقاق لقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تشققت وتصدعت مؤذنة بخراب العالم، ومنذرة بهول يوم القيامة. مناسبتها لما قبلها: السور الأربعة: الانشقاق وما قبلها وهي سور المطففين والانفطار والتكوير كلها في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه، فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة، وأغلب ما ذكر في المطففين في أحوال الأشقياء الفجار والمتقين الأبرار في الآخرة، وعنيت سورة الانشقاق بالجمع بين ما يحدث من مقدمات ومشاهد الآخرة الرهيبة وبين ما يعقب ذلك من الحساب اليسير لأهل اليمين والحساب العسير لأهل الشمال. وفي السورة المتقدمة ذكر مقر كتب الحفظة، وفي هذه ذكر كيفية عرضها يوم القيامة. ما اشتملت عليه السورة: محور السورة كالسور المكية الأخرى: شؤون العقيدة، وتصوير أهوال

فضلها:

القيامة. وقد بدئت ببيان بعض التبدلات الكونية الخطيرة عند قيام الساعة: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.. [الآيات: 1- 5] . وأردفت ذلك حال الإنسان في موقف العرض والحساب يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين: أهل اليمين وأهل الشمال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ... [الآيات: 6- 15] . ثم أقسم اللَّه بالشفق والليل والقمر على ملاقاة المشركين في القيامة أهوالا شديدة، وأحوالا عصيبة: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ... [الآيات: 16- 19] . وختمت السورة بتوبيخ المشركين والكفار والملاحدة والوجوديين وأمثالهم على عدم إيمانهم باللَّه تعالى، وبإنذارهم بالعذاب الأليم، والتنبيه على نجاة المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ومنحهم الثواب الدائم المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... [الآيات: 20- 25] . والخلاصة: أن السورة اشتملت على مقصدين: بيان ما يلاقيه الإنسان من نتائج أعماله يوم القيامة، وانحصار المصير إما في جنات النعيم وإما في نيران الجحيم. فضلها: أخرج مسلم والنسائي: أن أبا هريرة قرأ بهم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سجد فيها. وأخرج البخاري ومسلّم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة (العشاء) فقرأ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد، فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلا أزال أسجد بها، حتى ألقاه.

أهوال يوم القيامة وانقسام الناس فريقين [سورة الانشقاق (84) الآيات 1 إلى 15] :

وزاد النسائي عن أبي هريرة نفسه قال: سجدنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. أهوال يوم القيامة وانقسام الناس فريقين [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) الإعراب: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا ظرف، والعامل فيه جوابه، وجوابه إما مقدر، أي بعثتم، أو جوابه: أَذِنَتْ والواو فيها زائدة، والتقدير: إذا السماء انشقت أذنت. وقيل: جوابه: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ على تقدير: فيا أيها الإنسان، فحذفت الفاء، أو جوابه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي أنه، وقد سدت مسد مفعولي ظَنَّ. وظَنَّ وما عملت فيه: في موضع رفع خبر: إن. البلاغة: السَّماءُ والْأَرْضُ بينهما طباق.

المفردات اللغوية:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ بينهما مقابلة. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ... إلخ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: انْشَقَّتْ تشققت وتصدعت. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها استمعت له، وانقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها، انقياد المطواع الذي يأذن للأمر، والأذن: هو الاستماع للشيء والإصغاء إليه «1» . ويكون انشقاقها بالغمام، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان 25/ 25] . وَحُقَّتْ وحق لها أن تسمع وتطيع وتنقاد. مُدَّتْ بسطت واتسعت رقعتها بزوال جبالها وآكامها وأبنيتها. وَأَلْقَتْ ما فِيها من الموتى والكنوز إلى ظاهرها. وَتَخَلَّتْ تكلفت في الخلو أقصى جهدها، حتى لم يبق في باطنها شيء. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها سمعت وأطاعت في ذلك، أي في الإلقاء والتخلية. وَحُقَّتْ حق لها أن تسمع وتطيع، وذلك كله يوم القيامة. وجواب إِذَا وما عطف عليها محذوف دل عليه ما بعده تقدير: لقي الإنسان عمله، أو بعثتم. كادِحٌ جاهد ومجدّ في عملك. إِلى رَبِّكَ إلى لقاء ربك، وهو الموت. فَمُلاقِيهِ ملاق عملك من خير أو شر يوم القيامة. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أعطي كتاب عمله. بِيَمِينِهِ هو المؤمن. حِساباً يَسِيراً سهلا لا يناقش فيه، بأن يعرض عليه عمله، كما في حديث الصحيحين، ثم يتجاوز عنه، وفي الحديث المذكور: «من نوقش الحساب عذّب» . وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي يرجع في الجنة إلى عشيرته المؤمنين، مسرورا بحسابه اليسير. مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ هو الكافر، يؤتى كتاب عمله بشماله من وراء ظهره، قيل: يغل يمناه إلى عنقه، ويجعل يسراه وراء ظهره. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ينادي عند رؤية ما فيه هلاكه، قائلا: يا ثبوراه، وهو الهلاك. وَيَصْلى سَعِيراً يقاسي نارا مستعرة، ويدخل نارا شديدة. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً كان في عشيرته في الدنيا فرجا بطرا باتباعه لهواه. يَحُورَ يرجع، والمراد: أنه لن يرجع إلى ربه. بَلى أي بلى يحور ويرجع إليه، فهو إيجاب لما بعد لَنْ أي جواب لما بعد النفي، أي نعم يرجع. إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً عالما بأعماله وبرجوعه إليه، فلا يهمله، بل يرجعه ويجازيه.

_ (1) قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما أذن اللَّه لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» أي يتلوه يجهر به (النهاية لابن الأثير: 1/ 33) .

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: يخبر اللَّه تعالى عن أهوال يوم القيامة وأماراتها بقوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي إذا تشققت السماء وتصدعت مؤذنة بخراب العالم، وانشقاقها من علامات القيامة، وأطاعت ربها وانقادت له فيما أمر، وحق لها أن تطيع أمره وتنقاد وتسمع لأنه العظيم القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أي وإذا الأرض بسطت وسوّيت ووسّعت بزوال جبالها وآكامها. ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا. ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز، وطرحتهم إلى ظهرها، وخلت خلوا تاما عما فيها، وتخلت إلى اللَّه وتبرأت من كل من فيها، ومن أعمالهم. ونظير الآية: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه 20/ 105- 107] . وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي استمعت وأطاعت أوامر ربها، وحق لها أن تتخلى وتستمع لما يريد ربها أن يأمرها به لأنها واقعة في قبضة القدرة الإلهية. وجواب إِذَا محذوف لإرادة التهويل على الناس، والتقدير: إذا حدث ما حدث، رأيتم أعمالكم من خير أو شر. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ أي يا أيها الإنسان، والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر، إنك عامل في هذه الحياة ومجاهد ومجدّ في عملك، ومصير سعيك وعملك إلى ربك أو إلى لقائه بالموت، وإنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، أو سوف تلقى ربك بعملك. والكدح: جهد النفس في العمل حتى تأثرت.

روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» . فقوله: فَمُلاقِيهِ يعود الضمير إلى العمل من خير أو شر، وقيل: يعود الضمير على قوله رَبِّكَ أي فملاق ربك، ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك. ثم ذكر أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة، فقال: الفريق الأول- المؤمنون: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه وهم المؤمنون، فإنه يحاسب حسابا سهلا، بأن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله ويتجاوز عنها، من غير أن يناقشه الحساب، فذلك هو الحساب اليسير. روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نوقش الحساب عذّب، قالت: فقلت: أفليس الله تعالى قال: فَسَوْفَ يُحاسَبُ ... يَسِيراً؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذّب» . وهذا الذي يعطى كتابه بيمينه ويحاسب حسابا يسيرا بالعرض يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا فرحا مسرورا بما أعطاه الله عز وجل وما أوتي من الخير والكرامة. روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنكم تعملون أعمالا لا تعرف، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله، فمسرور أو مكظوم» . ونظير الآية قوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة 69/ 19- 21] .

الفريق الثاني- الكافرون: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً أي وأما من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره حيث تثنى يده خلفه، ويعطى كتابه بها، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه، فإذا قرأ كتابه، نادى يا ثبوراه، أي بالهلاك والخسار، ثم يدخل جهنم، ويصلى حرّ نارها وشدتها. ونظير الآية قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ، فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الحاقة 69/ 25- 29] . ثم ذكر الله تعالى سببين لعذابه فقال: 1- إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي إنه كان في الدنيا فرحا لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، وإنما يتبع هواه، ويركب شهواته، بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله، فأعقبه ذلك الفرح اليسير حزنا طويلا. 2- إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي إن سبب ذلك السرور والبطر ظنه بأنه لا يرجع إلى الله، ولا يبعث للحساب والعقاب، ولا يعاد بعد الموت. ثم رد الله عليه ظنه قائلا: بَلى، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي بلى إنه سيحور ويرجع إلى ربه، وسيعيده الله كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإن الله ربه كان به وبأعماله عالما خبيرا، لا يخفى عليه منها شيء أو خافية. وفي هذا إشارة إلى أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف لأن ذلك مقتضى العلم التام والقدرة والحكمة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الكريمات على ما يأتي: 1- من علامات القيامة: أولا- تصدع السماء وتفطرها بالغمام، والغمام مثل السحاب الأبيض، وثانيا- بسط الأرض ودكّ جبالها، وإخراج أمواتها، وتخليها عنهم، وكل من السماء والأرض تصغي وتسمع وتنقاد وتخضع لأمر ربها، وحق لها أن تسمع أمره. 2- يكدح كل إنسان ويتعب في حياته، ثم يرجع يوم القيامة بعمله إلى ربه رجوعا لا محالة، فملاق ربه، أو ملاق عمله. قال قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله، فليفعل، ولا قوة إلا بالله. وهذا دليل على أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها. 3- الناس فريقان يوم القيامة: سعداء مؤمنون وأشقياء كفار، أما الفريق الأول: فهم الذين يعطون كتب أعمالهم بأيمانهم، ويعرضون على ربهم عرضا لا مناقشة فيه، ويتجاوز الله عنهم، ويرجعون إلى عشيرتهم مسرورين، فاللهم اجعلنا منهم. وأما الفريق الثاني: فهم الذين يتناولون كتب أعمالهم بشمائلهم مباشرة، أو بشمائلهم من وراء ظهورهم، فينادون بالهلاك على أنفسهم، فيقول الواحد منهم: يا ويلاه، يا ثبوراه، والثبور: الهلاك والخسارة، ثم يدخلون النار حتى يصلوا حرّها. وسبب خسار هذا الفريق: البطر في الدنيا، وإنكار المعاد والحساب والجزاء والثواب والعقاب، والله خبير بهم، عليم بأن مرجعهم إليه. والفرح المنهي عنه: ما يتولد من البطر والترفه، لا الذي يكون من الرضى

تأكيد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال [سورة الانشقاق (84) الآيات 16 إلى 25] :

بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله تعالى: قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس 10/ 58] . قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور 52/ 26- 27] . ثم قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه، فقال: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. 4- قوله تعالى: بَلى أي ليبعثن: دليل على الجزم بوقوع البعث، وأنه دار العدل المطلق الذي ينال فيه كل إنسان جزاء عمله خيرا أو شرا. تأكيد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الإعراب: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي حالا بعد حال، وعَنْ تأتي بمعنى «بعد» ومنه قولهم: سادوا كابرا عن كابر، أي بعد كابر. وتركبن: أصله تركبونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين.

البلاغة:

فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لا يُؤْمِنُونَ في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في لَهُمْ وعامله معنى الفعل الذي تعلقت به اللام في لَهُمْ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إما استثناء متصل من الجنس، فيكون الَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب، لأنه استثناء من الهاء والميم في فَبَشِّرْهُمْ وإما استثناء منقطع الجنس، فيكون منصوبا لأن الاستثناء المنقطع منصوب. البلاغة: وَسَقَ واتَّسَقَ بينهما جناس ناقص. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ كناية، كنّى به عن الشدة والأهوال التي يتعرض لها الإنسان. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكمي، استعمال البشارة في موضع الإنذار تهكم وسخرية بالكفار. فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ سجع مرصّع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، كما تقدم. المفردات اللغوية: بِالشَّفَقِ الجمرة التي ترى في الأفق الغربي بعد غروب الشمس، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه: إنه البياض الذي يليها، سمي به لرقته، مأخوذ من الشفقة. وَسَقَ ضمّ وجمع وستر جميع ما دخل عليه من الدواب وغيرها. اتَّسَقَ اجتمع وتم نوره وصار بدرا وذلك في منتصف الشهر القمري، وهو ما يعرف بظاهرة القمر الأزرق. ويرى الفلكيون أنه يمكن أن يكتمل القمر بدرا مرتين في شهر واحد في أوربا وآسيا لوجود القمر في نصف الكرة الغربي، على مدى 12 عاما بين كل 19 عاما، وآخر مرة اكتمل فيها القمر بدرا في الحادي والثلاثين من تموز (يوليو) عام 1985 م، وسوف يكتمل القمر بدرا في المرة القادمة في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام 1990 م. لَتَرْكَبُنَّ لتلاقنّ. طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حالا بعد حال، متطابقين في الشدة، والطبق: الحال المطابقة لغيرها، والمراد: مرور الكفار بأحوال بعد أحوال هي طبقات في الشدة، بعضها أشد من بعض، وهي الموت وما بعده من الحياة من أحوال القيامة. فَما لَهُمْ أي الكفار لا يُؤْمِنُونَ أيّ مانع لهم عن الإيمان بيوم القيامة؟ لا يَسْجُدُونَ لا يخضعون، بأن يؤمنوا بالقرآن لإعجازه. يُكَذِّبُونَ بالقرآن والبعث وغيرهما. يُوعُونَ يجمعون في صدورهم من الشرك أو الكفر والمعصية والتكذيب والإعراض وأعمال السوء من حسد وبغي وعداوة. فَبَشِّرْهُمْ البشارة:

المناسبة:

الإخبار بما يسرّ، والمراد هنا الإخبار عن العذاب تهكما واستهزاء بهم. إِلَّا الَّذِينَ أي لكن فهو استثناء منقطع، ويصح كونه استثناء متصلا أي من تاب وآمن منه. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع ولا منقوص ولا يمن به عليهم، يقال: فلان منّ الحبل: إذا قطعه. المناسبة: بعد بيان أحوال الناس وانقسامهم فريقين يوم القيامة: سعداء وأشقياء، أكد الله تعالى وقوع يوم القيامة وما يتبعها من الأهوال بالقسم بآيات واضحة في الكون: وهي الشفق والليل والقمر على أن البعث كائن لا محالة، وأن الناس يتعرضون لشدائد الأهوال. ثم حكى تعالى بعض عجائب الناس أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبالبعث، ولا يخضعون لآي القرآن العظيم، عنادا منهم واستكبارا، فيجازون أشد العذاب، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فله الثواب الدائم غير الممنون به عليه. التفسير والبيان: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي يقسم الله تعالى بالشفق الذي هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء، وبالليل الأسود البهيم وما جمع وضم، وستر كل ما كان منتشرا ظاهرا في النهار، وبالقمر إذا اجتمع وتكامل وصار بدرا في منتصف كل شهر قمري. والقسم بهذه الأشياء دليل على تعظيمها وتعظيم قدر مبدعها. ولا أقسم: قسم، وأما حرف (لا) فهو نفي ورد لكلام سابق قبل القسم، وهنا رد الله تعالى على المشرك الذي ظن أن لن يحور، بأنه سيرجع ويبعث، وأبطل ظنه، ثم أقسم بعده بالشفق. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ جواب القسم، أي لتصادفن أحوالا بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أشد من بعض، وهي الموت وما بعده من

مواطن القيامة وأهوالها، ثم يكون المصير الأخير: الخلود في الجنة أو في النار. ونظير الآية قوله: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن 64/ 7] . وقوله: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل 73/ 17] . ثم أنكر الله تعالى على الكفار استبعادهم البعث، فقال: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي فأي شيء أو فماذا يمنعهم عن الإيمان بصحة البعث والقيامة، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به القرآن، مع وجود موجبات الإيمان بذلك، من الأدلة الكونية القاطعة الدالة على قدرة الله على كل شيء، والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق الوحي القرآني المنزل عليه. وهذا استفهام إنكار، وقيل: تعجب، أي اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي وأيّ مانع لهم من سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن الذي دل إعجازه على كونه منزلا من عند الله تعالى؟! ويكون سجودهم إعظاما وإكراما واحتراما لآي القرآن، بعد أن علموا كونه معجزا، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة. قد احتج أبو حنيفة رحمه الله بالآية على وجوب السجود، فإنه ذم لمن سمعه، ولم يسجد. ثم أبان الله تعالى سبب عدم إيمانهم بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر، فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي والواقع أن الكفار يكذبون بالكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب، إما حسدا للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإما خوفا من ضياع المنافع والمراكز والمناصب

فقه الحياة أو الأحكام:

والرياسات، وإما عنادا وإمعانا في البقاء على تقليد الآباء والأجداد والأسلاف. والله أعلم من جميع الخلائق بما يضمرونه أو يكتمونه في أنفسهم من التكذيب، وأعلم بأسباب الإصرار على الشرك أو الكفر، وجمع الأعمال الصالحة والسيئة. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي فأخبرهم أيها النبي بأن الله عز وجل قد أعدّ لهم عذابا أليما. واستعمال البشارة التي هي في الأصل لما هو سار، في الإخبار عن العذاب تهكم واستهزاء بهم. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لكن الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر، وخضعوا للقرآن الكريم، وعملوا بما جاء به، والتزموا صالح الأعمال بأعضائهم، لهم في الدار الآخرة ثواب غير مقطوع ولا منقوص، ولا يمنّ به عليهم، كما قال تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود 11/ 108] . والاستثناء منقطع في رأي الزمخشري. وقال الأكثرون: معناه إلا من تاب منهم وعمل صالحا، فله الثواب العظيم. وفي هذا ترغيب شديد بالإيمان والطاعة، وزجر عن الكفر والمعصية. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم الله عز وجل بالشفق (وهو حمرة السماء التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة) وبالليل وما جمع وضم ولفّ، وبالقمر إذا اجتمع وتم واستوى، على وقوع البعث والقيامة وما يتبعها من أهوال عظام وشدائد ضخام.

2- ماذا يمنع الكفار عن الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر والقرآن بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات؟! وماذا يمنعهم عن الخضوع والسجود للقرآن عند سماعه، بعد ما عرفوا أنه معجز، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة؟! وهذا توبيخ على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن. 3- جمهور العلماء على أن هذه الآية: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ موضع سجدة تلاوة، بدليل ما تقدم في الصحيح عن أبي هريرة أنه قرأ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها. وقال الإمام مالك: إنها ليست من عزائم السجود، لأن المعنى: لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. وعقب على ذلك ابن العربي ونقله عنه القرطبي قائلا: والصحيح أنها منه، أي من عزائم السجود، وهي رواية المدنيين عنه، أي عن مالك، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة «1» . 4- الواقع أن الكفار يكذبون الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه، وإن كانت جلية ظاهرة، وتكذيبهم بها إما لتقليد الأسلاف، أو عنادا، أو حسدا، أو خوفا من أنهم لو أظهروا الإيمان، لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها. والله عالم بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب والشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة، فهو يجازيهم على ذلك.

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1899، تفسير القرطبي: 19/ 280- 281

5- صرح الله تعالى بوعيدهم قائلا لنبيه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي موجع في جهنم على تكذيبهم، أي جعل ذلك بمنزلة البشارة تهكما واستهزاء بهم. 6- استثنى الله تعالى من الوعيد السابق الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعملوا الصالحات، أي أدّوا الفرائض المفروضة عليهم، فلهم ثواب غير منقوص ولا مقطوع، ولا يمنّ عليهم به. والاستثناء منقطع عند الزمخشري كما بينا، ولا بأس بكونه متصلا، كأنه قال: إلا من آمن منهم، فله أجر غير مقطوع، أو هو من المنة. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ليس استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا.

سورة البروج:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البروج مكيّة، وهي اثنتان وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة البروج، لافتتاحها بقسم الله بالسماء ذات البروج: وهي منازل الكواكب السيارة في أثناء سيرها، تنويها بها لاشتمالها على الظهور والغياب. مناسبتها لما قبلها: تتعلق السور بما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- التشابه في الافتتاح بذكر السماء، ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادا بها السور الأربع، كما قيل في المسبّحات. وتلك السور هي الانفطار والانشقاق، والبروج، والطارق. 2- اشتمال السورتين على وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين، والتنويه بعظمة القرآن. 3- تضمنت السورة السابقة أن الله عليم بما يجمع المشركون في صدورهم للنبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين معه من أنواع الأذى المادي، كالضرب والقتل والتعذيب في حر الشمس، والأذى المعنوي، من حقد وحسد، وعداوة، ومكر، وخوف على فوت المنافع، وذكر في هذه السورة أن هذا شأن من تقدمهم من الأمم الكافرة الفاجرة. وفي هذا عظة للمشركين وتثبيت للمؤمنين.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: أبرزت هذه السورة المكية جانبا مهما من جوانب العقيدة وهو التضحية في سبيل الإيمان والاعتقاد، ممثلا في قصة (أصحاب الأخدود) . افتتحت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات منازل الكواكب، وبيوم القيامة، وبالأنبياء الذين يشهدون على أممهم، على إهلاك وتدمير وإبادة المجرمين، الذين أحرقوا جماعة من المؤمنين والمؤمنات في النار ليفتنوهم عن دينهم: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ... [الآيات: 1- 9] . وأعقبت ذلك بوعيد هؤلاء العتاة الطغاة، وإنذارهم بعذاب جهنم، وبوعد المؤمنين بالجنان. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... [الآيتان: 10- 11] . وختمت السورة بإظهار عظمة الله وجليل صفاته وقدرته على الانتقام من أعدائه، والاتعاظ بقصة الطاغية فرعون الجبار: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ... [الآيات: 12- 22] . فضلها: أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في العشاء الآخرة ب ذاتِ الْبُرُوجِ ووَ السَّماءِ وَالطَّارِقِ. وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء. سبب نزولها والحكمة منها: المقصود من هذه السورة تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن إيذاء الكفار، ببيان أن سائر الأمم السابقة كانوا كأهل مكة، مثل أصحاب الأخدود في نجران اليمن،

تفصيل القصة - قصة الساحر والراهب والغلام:

ومثل فرعون وثمود، وكان كل الكفار سواء في التكذيب، فانتقم الله منهم لأنهم جميعا في قبضة القدرة الإلهية: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ. وهذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير لقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. وسبب نزول هذه السورة التي تدور على قصة أصحاب الأخدود: ما رواه مسلم في صحيحة وأحمد والنسائي، وموجزها: أن أحد ملوك الكفار وهو ذو نواس اليهودي واسمه زرعة بن تبّان أسعد الحميري، بلغه أن بعض رعيته آمن بدين النصرانية «1» ، فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذوهم خيّروهم بين اليهودية والإحراق بالنار، فاختاروا القتل، فشقوا لهم الأخدود، وأضرموا فيه النار، ثم قالوا للمؤمنين: من رجع منكم عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في النار، فصبروا، فألقوهم في النار، فاحترقوا، والملك وأصحابه ينظرون. قيل: قتل منهم عشرين ألفا، وقيل: اثني عشر ألفا، وقال الكلبي: كان أصحاب الأخدود سبعين ألفا. والخلاصة: أن ذا نواس آخر ملوك حمير، وكان مشركا، قتل أصحاب الأخدود الذين كانوا نصارى، وكانوا قريبا من عشرين ألفا «2» . تفصيل القصة- قصة الساحر والراهب والغلام: المعتمد من قصص أصحاب الأخدود: ما جاء في الصحاح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلّمه السّحر، وكان في طريق الغلام راهب يتكلّم بالمواعظ لأجل الناس، فمال قلب الغلام إلى حديثه،

_ (1) وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. (2) تفسير ابن كثير: 4/ 549

فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس، فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر، فاقتلها بهذا الحجر، فقتلها. وكان ذلك الغلام بعدئذ يتعلّم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي من الداء. وعمي جليس للملك فأبرأه، فأبصره الملك فسأله: من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فغضب، فعذّبه. فدل على الغلام، فعذّب الغلام حتى دل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأتى الغلام، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهبوا به إلى قرقور: وهي سفينة صغيرة، فلججوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا، وقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهما من كنانتي وتقول: بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به. فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد في أفواه السّكك وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي، فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أمّاه، اصبري فإنك على الحق، وما هي إلا غميضة، فصبرت واقتحمت» .

القسم بأشياء عظام على لعنة أصحاب الأخدود [سورة البروج (85) الآيات 1 إلى 9] :

القسم بأشياء عظام على لعنة أصحاب الأخدود [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) الإعراب: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّماءِ: قسم، وجوابه إما مقدر محذوف: وهو لتبعثن، أو قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. واختار أبو حيان أن يكون الجواب هو قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وحذفت اللام أي لقتل، وحسن حذفها كما حسن في قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي لقد أفلح من زكاها، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان قُتِلَ جوابا للقسم، فهي جملة خبرية، وقيل: دعاء، فيكون الجواب غيرها (البحر المحيط: 8/ 450) . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الموعود به، وحذف للعلم به، وإنما وجب هذا التقدير، لأن الْمَوْعُودِ صفة لليوم، ولا بد من أن يعود من الوصف إلى الموصوف ذكر. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ النَّارِ: مجرور على البدل من الْأُخْدُودِ بدل الاشتمال. البلاغة: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ بينهما جناس اشتقاق. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ تأكيد المدح بما يشبه الذم، كأنه يقول: لا جرم لهم إلا إيمانهم بالله، وهذه مفخرة عظمي. الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ صيغة مبالغة.

المفردات اللغوية:

الْمَوْعُودِ، وَمَشْهُودٍ، الْأُخْدُودِ، الْوَقُودِ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: الْبُرُوجِ منازل الكواكب الاثني عشر، وقيل: الْبُرُوجِ: النجوم العظام، جمع برج: وهو الحصن، أو القصر العالي، أو منزل الكوكب، سميت بروجا لظهورها. والبروج على المعنى الأول اثنا عشر برجا للكواكب السيارة، تسير الشمس مثلا في كل واحد منها شهرا، ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلث يوم، فذلك ثمانية وعشرون منزلة، ويستتر ليلتين، أي يخفى. ستة من بروج الشمس شمال خط الاستواء، وستة في جنوبه، أما التي في شماله: فهي الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة. وأما التي في جنوبه: فهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدّلو والحوت. وتقطع الشمس الثلاثة الأولى الشمالية في ثلاثة أشهر هي فصل الربيع، أولها 21 آذار (مارس) وتقطع الثلاثة الثانية في ثلاثة أشهر أخرى هي فصل الصيف، أولها 21 حزيران (يونيو) وتقطع الثلاثة الأولى الجنوبية في ثلاثة أشهر هي فصل الخريف، أولها 21 أيلول (سبتمبر) وتقطع الثلاثة الثانية الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضا هي فصل الشتاء، أولها 22 من شهر كانون الأول (ديسمبر) «1» . وإذا كان القصد بالبروج الكواكب العظيمة فهي التي لا يحصى عددها، والتي هي ذات أبعاد هائلة عن الأرض، فبعضها لا يصل ضوؤه إلى الأرض إلا بعد مليون ونصف سنة ضوئية، علما بأن الضوء يسير بسرعة ثلاث مائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، ويصل إلى القمر في ثانية وثلث، ويجري حول الكرة الأرضية في ثانية واحدة نحو ثمان مرات. والمريخ يبعد عن الأرض 256 مليون ميل، وقد أطلقت روسيا مكوكا إلى المريخ في 13/ 7/ 1988 يصل إليه في منتصف عام 1990، وأقسم اللَّه بهذه الكواكب حيث نيط بها تغييرات في الأرض بحلول الكواكب فيها. الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ الشاهد في ذلك اليوم على غيره من الخلائق، والمشهود عليه: ما يشهد به الشهود على المجرمين من الجرائم التي فعلوها بالشهود أنفسهم كأصحاب الأخدود أو بغيرهم، وهذا هو الأصح، أو الأنبياء الشاهدين على أممهم، أو مخلوقات اللَّه الظاهرة التي هي عامل الشهادة، الدالة على تمام القدرة الإلهية وعظم الحكمة، وهي مشهودة أيضا لكل ناظر إليها. وقال الأكثرون: الشاهد: يوم الجمعة فإنه يشهد بالعمل فيه، والمشهود: يوم عرفة

_ (1) تفسير المراغي: 30/ 98

التفسير والبيان:

الذي تشهده الناس والملائكة. قُتِلَ لعن وهو جواب القسم بتقدير: لقد. أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الشق المستطيل المحفور في الأرض، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود: قوم جبارون أحرقوا جماعة من المؤمنين في أخدود في نجران اليمن، بعد أن أوقدوا فيه نارا عظيمة، ثم ألقوهم فيها. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ أي الأخدود المشتمل على النار ذات الوقود أي ما توقد به، وهو وصف لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع به لهبها. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ قاعدون على حافة النار. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي وهم حضور على تعذيب المؤمنين باللَّه، بالإلقاء في النار، إن لم يرجعوا عن إيمانهم، ويشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم. وَما نَقَمُوا أنكروا وعابوا. الْعَزِيزِ الغالب الذي يخشى عقابه ولا يغلب. الْحَمِيدِ المحمود على نعمه وعلى كل حال، والذي يرجى ثوابه. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ شاهد عالم، وهو للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد. التفسير والبيان: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي أقسم بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، وأشهر الأقوال أنها منازل الكواكب، وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا. وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. أقسم اللَّه بها تنويها بها وتعظيما وتشريفا لها، حيث نيط بها تغيرات في الأرض بحلول الكواكب فيها، فينشأ عنها الفصول الأربعة، وما فيها من حرارة وبرودة، وينشأ عنها عدد السنين والحساب. وجاء ذكر البروج في آيتين أخريين هما: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ [الحجر 15/ 16] ، وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان 25/ 61] . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي وأقسم بيوم القيامة الموعود به، وبمن يشهد في ذلك اليوم، ومن يشهد عليه. وهذا إن كان ذلك مأخوذا من الشهادة. فإن كان مأخوذا من الحضور بمعنى أن الشاهد هو الحاضر، كقوله:

عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الزمر 39/ 46] ، فالشاهد: الخلائق الحاضرون للحساب، والمشهود عليه: اليوم، كما قال تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود 11/ 103] فاللَّه يقسم بالخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود، لما في التأمل بها من تقدير عظمة تدل على الموجد. والخلاصة: أن الشاهد والمشهود إما من الشهود: الحضور، وإما من الشهادة، والصلة محذوفة، أي مشهود عليه أو به. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ هذا جواب القسم، وهو إخبار أو دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة اللَّه تعالى، أي لعن أصحاب الأخدود المشتمل على النار ذات الحطب الذي توقد به. وهم قوم من الكفار في نجران اليمن طلبوا من المؤمنين باللَّه عزّ وجلّ أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأجّجوا فيه نارا، وأعدّوا لها وقودا يسعرونها به، ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها. وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله: ذاتِ الْوَقُودِ أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي لعنوا حين أحدقوا بالنار، قاعدين على الكراسي عند الأخدود، وهؤلاء الذين حفروا الأخدود، وهم الملك وأصحابه، مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين، من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم، ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم. وهذا أي حضورهم الإحراق دليل على أنهم قوم غلاظ الأكباد قساة القلوب، تمكّن الكفر والباطل منهم، وتجرّدوا عن الإنسانية، وفقدوا الرحمة، ودليل أيضا

فقه الحياة أو الأحكام:

على أن المؤمنين كانوا أشد صلابة من الجبال في دينهم والإصرار على إيمانهم وحقهم في حرية الاعتقاد. ثم ذكر اللَّه تعالى سبب هذا التعذيب والإحراق بالنار، فقال: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي إن هؤلاء الكفار الجبابرة ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم، ولا عابوا على المؤمنين إلا أنهم صدقوا باللَّه الغالب الذي لا يغلب، المحمود في كل حال، وهو مالك السموات والأرض، وإليه الأمر كله، ومن كان بهذه الصفات، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحّد، واللَّه شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين، لا تخفى عليه خافية، ومجازيهم بأفعالهم. وأشار بقوله: الْعَزِيزِ إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين، ولأطفأ نيرانهم وأماتهم، وأشار بقوله: الْحَمِيدِ إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها، فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل، فإنه سيثيب المؤمنين، ويعاقب أولئك الكفرة. وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه، فصبر ولم يتراجع في موقف الشدة. ونظير الآية قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة 5/ 59] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم اللَّه عزّ وجلّ بالسماء وبروجها وهي نجومها العظام أو منازل الكواكب لإناطة تغييرات في الأرض كالفصول الأربعة وبيوم القيامة الذي

وعدنا به لأنه يوم الفصل والجزاء، وتفرد اللَّه بالحكم والقضاء، وبالشاهد والمشهود، أي الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود لما في التأمل بها من إدراك عظمة خالقها، أقسم بها على أن أصحاب الأخدود ملعونون مطرودون من رحمة اللَّه. قال الزمخشري: أنه قيل: أقسم بهذه الأشياء، إنهم ملعونون يعني كفار قريش، كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم حتى يأنسوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، أي لعنوا، كما قتل أصحاب الأخدود «1» . 2- أسباب اللعنة على أصحاب الأخدود: أنهم حفروا أخدودا أي شقا مستطيلا في الأرض وأوقدوا فيه نارا عظيمة، ثم ألقوا فيه جماعة المؤمنين، بنجران اليمن في الفترة بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وهم يتلذذون ويستمتعون بما تفعل النيران الملتهبة بأجساد هؤلاء المعذّبين، ويحضرون ذلك المنظر الرهيب إلى تمام الإحراق والالتهاب، فهم قوم قساة، مجدّون في التعذيب. 3- القصة درس وعظة وتذكير للمؤمنين بالصبر على ما يلاقونه من الأذى والآلام، والمشقات التي يتعرضون لها في كل زمان ومكان ليتأسوا بصبر المؤمنين وتصلبهم في الحق وتمسكهم به، وبذلهم أنفسهم من أجل إظهار دعوة اللَّه. وليس هذا بمنسوخ، فإن الصبر على الأذى لمن قويت نفسه، وصلب دينه أولى «2» . قال اللَّه تعالى مخبرا عن لقمان: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ،

_ (1) الكشاف: 3/ 326 [.....] (2) تفسير القرطبي: 19/ 293

عقاب الكفار وثواب المؤمنين [سورة البروج (85) الآيات 10 إلى 11] :

وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان 31/ 17] . وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» . ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقتل والصّلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك، مثل قصة عاصم وخبيب وأصحابهما، وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق وغير ذلك. 4- ما أنكر الملك وأصحابه من الذين حرّقوهم إلا إيمانهم باللَّه العزيز الغالب المنيع، الحميد المحمود على كل حال، مالك السموات والأرض الذي لا شريك له فيهما ولا نديد، وهو عالم بأعمال خلقه، لا تخفى عليه خافية. عقاب الكفار وثواب المؤمنين [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 11] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) البلاغة: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي.. بينهما مقابلة. المفردات اللغوية: فَتَنُوا ابتلوا واختبروا، والمراد هنا ابتلوهم بالأذى والإحراق. فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم وإحراقهم المؤمنين. عَذابُ الْحَرِيقِ هو عذاب جهنم، وهو بيان وتفسير لما سبق. الْفَوْزُ الْكَبِيرُ النجاح الأكبر الذي تصغر الدنيا وما فيها دونه.

المناسبة:

المناسبة: بعد بيان قصة أصحاب الأخدود وما فعلوه بالمؤمنين من الإحراق بالنار، أتبع اللَّه تعالى ذلك بأحكام الثواب والعقاب، وأوضح ما أعد للكفار من عذاب جهنم، وما أعد للمؤمنين من الثواب الجليل والتنعم بجنان الخلد. التفسير والبيان: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي إن الذين أحرقوا بالنار المؤمنين والمؤمنات باللَّه ورسله، ولم يتركوهم أحرارا في دينهم، وأجبروهم إما على الإحراق أو الرجوع عن دينهم، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم، فلهم في الآخرة بسبب كفرهم عذاب جهنم، ولهم عذاب الاحتراق بالنار لأن الجزاء من جنس العمل. وعذاب الحريق تأكيد لعذاب جهنم، وقيل: إنهما مختلفان في الطبقة، الأول- لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان وأحرقوهم بالنار، وهذا عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم، وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. وقوله: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا إشارة إلى أنهم لو تابوا إلى اللَّه، وندموا على ما فعلوا، غفر اللَّه لهم. ولكن لم ينقل أن أحدا منهم تاب، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر. قال الحسن البصري رحمه اللَّه: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. ثم رغّب اللَّه تعالى وأرشد إلى ما أعدّ للمؤمنين من الثواب العظيم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي إن الذين آمنوا وصدقوا باللَّه ربّا واحدا لا شريك له،

فقه الحياة أو الأحكام:

وبالرسل واليوم الآخر والملائكة والكتب الإلهية، وعملوا صالح الأعمال باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومنهم الذين صبروا على نار الأخدود، وثبتوا على دينهم ولم يرتدوا، لهم بسبب الجمع بين الإيمان والعمل الصالح جنات (بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، وذلك الثواب والنعيم المذكور هو الفوز أو الظفر الكبير الذي لا يعدله فوز، ولا يقاربه ولا يدانيه، جزاء إيمانهم وطاعة ربهم. فقه الحياة أو الأحكام: تدل الآيتان في الجملة على حكمين: الأول- أن الذين حرّقوا المؤمنين بالنار، من أصحاب الأخدود وغيرهم «1» ، ثم ماتوا على الكفر، ولم يتوبوا من قبيح صنيعهم، فلهم في الآخرة عذاب جهنم المخزي لكفرهم، ولهم العذاب المحرق لإحراقهم المؤمنين بالنار. وعذاب جهنم وعذاب الحريق إما متلازمان، والغرض من الثاني التأكيد، وإما مختلفان في الدركة: الأول لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وقيل: الأول في الآخرة، والثاني في الدنيا، أو أن الأول عذاب ببرد جهنم وزمهريرها، والثاني عذاب بحرّها. وفي هذا تصريح بأن التوبة تسقط أثر الذنب وترفع العقوبة، واللَّه يرغب دائما بها. الثاني- أن الذين آمنوا أي صدقوا باللَّه وبرسله، وعملوا الصالحات المأمور بها وتركوا المنهي عنها، لهم جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذّة

_ (1) لأن اللفظ عام، والحكم عام، فالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.

كمال القدرة الإلهية لتأكيد الوعد والوعيد والاعتبار بإهلاك الأمم الكافرة السالفة [سورة البروج (85) الآيات 12 إلى 22] :

للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وذلك الفوز الساحق العظيم الذي لا فوز يشبهه. وإنما قال تعالى: ذلِكَ الْفَوْزُ ولم يقل «تلك» لأن ذلِكَ إشارة إلى إخبار اللَّه تعالى بحصول هذه الجنات، وقوله «تلك» إشارة إلى الجنات، وإخبار اللَّه تعالى عن ذلك يدل على كونه راضيا، والْفَوْزُ الْكَبِيرُ: هو رضا اللَّه، لا حصول الجنة، فاللهم أرضنا وارض عنا يا كريم. وقصة أصحاب الأخدود، ولا سيما آية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. تدل على أن المستكره على الكفر بالإهلاك الشديد، الأولى به أن يصبر على ما خوف منه، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك روى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لأحدهما: تشهد أني رسول اللَّه؟ فقال: نعم، فتركه، وقال للآخر مثله، فقال: لا، بل أنت كذّاب، فقتله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أما الذي ترك، فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه، وأما الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئا له» «1» . كمال القدرة الإلهية لتأكيد الوعد والوعيد والاعتبار بإهلاك الأمم الكافرة السالفة [سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 22] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 121- 122

الإعراب:

الإعراب: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ الْمَجِيدُ بالرفع صفة: ذُو أو خبر بعد خبر، وبالجر: إما وصف للعرش، أو صفة: رَبِّكَ من قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وهذا أولى لأن الْمَجِيدُ من صفات اللَّه. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فَعَّالٌ: إما بدل من ذُو الْعَرْشِ أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو فعّال، أو خبر بعد خبر. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ: في موضع جر على البدل من الْجُنُودِ، وقيل: في موضع نصب بتقدير أعني. بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ مَحْفُوظٍ بالجر صفة لَوْحٍ، وبالرفع صفة قُرْآنٌ. البلاغة: يُبْدِئُ وَيُعِيدُ بينهما طباق. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ؟ أسلوب التشويق لاستماع ما يأتي والاعتبار به. لَشَدِيدٌ، الْغَفُورُ، الْوَدُودُ، فَعَّالٌ إلخ: صيغ مبالغة. المفردات اللغوية: بَطْشَ البطش: هو الأخذ بعنف وشدة، فإذا وصف بالشدة كان نهاية، والمراد بالآية: أنه تعالى مضاعف عنفه بالكفار بحسب إرادته. يُبْدِئُ وَيُعِيدُ يبدئ الخلق ويعيده، فلا يعجزه ما يريد. الْغَفُورُ لمن تاب من المذنبين. الْوَدُودُ المحب لمن أطاع. ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه وصاحبه. الْمَجِيدُ العظيم الجليل المتعالي، المستحق لكل صفات العلو الكاملة، أو العظيم في ذاته وصفاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة والحكمة. ومجده: علوه وعظمته. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا يعجزه شيء، ويفعل ما يريد. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ هل بلغك يا محمد خبر الأقوام أو الجماعات الذين كذبوا الرسل وما حاق بهم؟ وأصل معنى الجنود: العسكر أو الأعوان. والمقصود تسلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والصبر على تكذيب قومه، وأمره بأن يحذرهم مثلما أصاب هؤلاء. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ المراد بفرعون: هو وجنوده، أي هؤلاء هم الجنود: فرعون وأتباعه، وقبيلة ثمود من العرب البائدة، قوم صالح عليه السلام، أهلكهم اللَّه بكفرهم. وهذا تنبيه لمن كفر بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والقرآن ليتعظوا.

المناسبة:

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ لما حدث من إهلاك الأقوام، فلا يرعوون عن تكذيبهم، ومعنى الجملة والإضراب: أن حال كفار قريش أعجب من الأمم السابقة، فإنهم سمعوا قصتهم، ورأوا آثار هلاكهم، وكذبوا أشد من تكذيبهم. وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ لا يفوتونه، ولا عاصم لهم منه، فهم في قبضته وحوزته. بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ عظيم معظم، والمعنى: بل هذا الذي كذبوا به كتاب شريف، وحيد في النظم والمعنى. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ من الزيادة والنقص، والتغيير والتحريف. المناسبة: بعد بيان وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وجزاء كل فريق، أكّد اللَّه تعالى الوعد والوعيد بما يدل على تمام قدرته على ذلك. ثم بيّن أن حال الكفار في كل عصر، مع الأنبياء، شبيه بحال أصحاب الأخدود، في إلحاق أذى الكفار بالمؤمنين، فهم دائما في صراع معهم وعداوة وإيذاء. والقصد من هذا كله ترهيب الكفار، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم، وشدّ عزائمهم بالصبر، وتطمينهم بأن كفار قريش سيلقون مثلما أصاب الأقوام السابقة: فرعون وأتباعه وثمود. التفسير والبيان: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي إن جزاء ربك وانتقامه من الجبابرة والظلمة، ومن أعدائه الذين كذبوا رسله، وخالفوا أمره، لشديد عظيم قوي، مضاعف إذا أراد، فإنه تعالى ذو القوة المتين، الذي ما شاء كان، ويكون ما يريد مثل لمح البصر أو هو أقرب. وفي هذا تأكيد للوعيد، وإرهاب لكفار قريش وأمثالهم. ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي إنه تعالى تام القدرة، فهو الذي يبدأ الخلق ويخلقهم أولا في الدنيا، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت. أو هو الذي يبدأ البطش

ويعيده، أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء إبداء الخلق، وكذبوا بالإعادة. ثم أكّد اللَّه تعالى الوعد بإيراد خمس صفات لجلاله وكبريائه وهي: 1- 2: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ أي واللَّه سبحانه بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين إذا تابوا وأنابوا إليه، يغفر ذنب من تاب إليه، وخضع لديه، مهما كان الذنب كبيرا أو صغيرا، وهو تعالى بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه، بليغ الوداد، والمراد به: إيصال الثواب لأهل طاعته على الوجه الأتم، فيكون كقوله تعالى: يُحِبُّهُمْ [المائدة 5/ 54] ، أو هو بمعنى مفعول فيكون كقوله: وَيُحِبُّونَهُ [المائدة 5/ 54] . 3- 4: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ أي هو تعالى ربّ العرش العظيم العالي على جميع الخلائق، وصاحب الملك والسلطان، والعظيم الجليل المتعالي، صاحب النهاية في الكرم والفضل، وبالغ السمو والعلو. 5- فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي صاحب القدرة المطلقة على فعل ما يريد، فمهما أراد فعل شيء، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره، وحكمته وعدله. فإذا أراد إهلاك الظالمين الجاحدين، ونصر المؤمنين الصادقين، فعل دون أن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يصرفه عنه صارف. ثم ذكّر اللَّه تعالى الكفار وغيرهم، وسلّى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقصة فرعون وثمود من متأخري الكفار ومتقدميهم، فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم، والتي جندت جنودها لقتالهم؟ أو هل بلغك ما أحلّ اللَّه بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة بسبب تماديهم في الكفر

والضلال؟ ومن هؤلاء الجنود وأشهر حديثهم وخبرهم المتعارف: فرعون وجنوده، وقبيلة ثمود من العرب البائدة قوم صالح عليه السلام. والمراد بحديثهم: ما وقع منهم من الكفر والعناد، وما حلّ بهم من العذاب. والمراد بفرعون: هو وجنوده. أما فرعون وأتباعهم فأغرقهم اللَّه في اليمّ: البحر الأحمر، وأما ثمود الذين عقروا ناقة نبيهم صالح، فدمّر اللَّه بلادهم وأهلكهم بالطاغية أي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة. ثم أشار اللَّه تعالى إلى أن هذا شأن الكفار وصنيعهم في كل زمان، فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أي فالواقع القائم أن هؤلاء المشركين العرب في تكذيب شديد لك أيها النبي، ولما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار. وفي هذا إضراب عن التذكير بقصة الجنود إلى التصريح بتكذيب كفار قريش. وبعد تطييب قلب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بحكاية أحوال الأولين وموقفهم من الأنبياء، سلّاه بعد ذلك من وجه آخر، فقال: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي إن اللَّه تعالى قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك، قاهر الجبارين لا يفوتونه ولا يعجزونه، فهو مقتدر عليهم، وهم في قبضته لا يجدون عنها مهربا. وهذا دليل على أنه تعالى عالم بهم فيجازيهم، وعلى أنه لا داعي للجزع من تكذيبهم وإصرارهم على الكفر وعنادهم. ثم ردّ على تكذيبهم بالقرآن، فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أي إن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حدّ الإعجاز، متناه في الشرف والكرم والبركة، وليس هو كما يقولون: إنه شعر وكهانة وسحر. وإنما هو كلام اللَّه

فقه الحياة أو الأحكام:

المصون عن التغيير والتحريف، المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهذا كقوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة 56/ 77- 78] . أي أن الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحد. قال بعض المتكلمين: اللوح شيء يلوح للملائكة، فيقرءونه، وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا، أي أن اللوح المحفوظ شيء أخبرنا اللَّه به، فيجب علينا الإيمان به كما أخبر اللَّه، وإن لم نعرف حقيقته. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- إن عقاب اللَّه وانتقامه، وأخذه الجبابرة والظلمة لشديد قوي، كما قال جلّ ثناؤه: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] . 2- إن اللَّه تعالى بدأ خلق الناس أولا في الدنيا، ثم يعيدهم عند البعث. 3- للَّه تعالى صفات عليا لا تتحقق في غيره، فهو الغفور الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها، الودود المحب لأوليائه، صاحب العرش الأعظم من كل المخلوقات، وصاحب الملك والسلطان المطلق، المجيد البالغ النهاية في الكرم والفضل، السامي القدر المتناهي في علوه، الفعال لما يريد، أي لا يمتنع عليه شيء يريده. قال القفال: فعّال لما يريد على ما يراه، لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب، فهو يدخل أولياءه الجنة، لا يمنعه منه مانع، ويدخل أعداءه النار، لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة، يفعل من هذه الأشياء ومن غيرها ما يريد «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 123- 124

4- قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم، وهذا إيناس له وتسلية، والجموع: فرعون وأتباعه وثمود، وذكرا لأن حديثهما مشهور معروف من طريق اليهود في المدينة وغيرهم، فإن ثمود في بلاد العرب، وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدمين، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدلّ اللَّه بهما على أمثالهما في الهلاك. والواقع أن كفار قريش في تكذيب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كدأب من قبلهم. 5- اللَّه يقدر على أن ينزل بكفار مكة في الدنيا ما أنزل بفرعون، واللَّه عالم بهم، فهو يجازيهم في الآخرة. 6- ليس القرآن كما زعم المشركون أنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو كتاب متناه في الشرف والكرم والبركة، وهو بيان ما يحتاج إليه الناس من أحكام الدين والدنيا. وهو مكتوب عند اللَّه في لوح، ومحفوظ عند اللَّه من وصول الشياطين إليه. قال ابن عباس: أول شيء كتبه اللَّه تعالى في اللوح المحفوظ: «إني أنا اللَّه، لا إله إلا أنا، محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صدّيقا وبعثته مع الصدّيقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ إلها سواي» «1» .

_ (1) تفسير القرطبي: 19/ 298

سورة الطارق:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الطارق مكيّة، وهي سبع عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الطارق تسمية لها بما أقسم اللَّه به في مطلعها بقوله: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَالطَّارِقِ: هو النجم الثاقب الذي يطلع ليلا، سمي طارقا لأنه يظهر بالليل ويختفي بالنهار. وكذلك الطارق: هو الذي يجيء ليلا. مناسبتها لما قبلها: السورة مرتبطة بما قبلها من ناحيتين: 1- ابتداء السورتين بالحلف بالسماء كسورتي (الانشقاق) و (الانفطار) . 2- التشابه في الكلام عن البعث والمعاد وعن صفة القرآن للردّ على المشركين المكذّبين به وبالبعث، ففي سورة البروج: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [13] ، وفي هذه السورة: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [8] ، وفي السورة السابقة: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [21- 22] ، وفي هذه السورة: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [13] . ما اشتملت عليه السورة: إن محور هذه السورة المكية كغيرها من السور المكية الكلام عن الإيمان

فضلها:

بالبعث والمعاد والحساب والجزاء، وإثباته بخلق الإنسان من العدم لأن القادر على البدء قادر على الإعادة بعد الموت. وقد افتتحت السورة بالقسم بالسماء وبالكواكب المضيئة ليلا على أن كل إنسان محفوظ بالملائكة الأبرار: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ.. [الآيات: 1- 4] . ثم أقام اللَّه تعالى الدليل على إمكان البعث وقدرته عليه بعد الموت والفناء بخلق الإنسان أول مرة من تراب ثم من نطفة: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ... [الآيات: 5- 8] . وأعقبت السورة ذلك ببيان كشف الأسرار في الآخرة على نحو كامل تام، في حالة كون الإنسان بين يدي العدالة الإلهية دون أن يكون له قوة ولا نصير: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [9- 10] . وختمت السورة بالقسم الإلهي بالسماء والأرض على صدق القرآن وأنه القول المحكم الفصل بين الحق والباطل، وعلى تهديد الكفار المكذبين به ووعيدهم: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ.. [11- 17] . فضلها: أخرج الإمام أحمد عن خالد بن أبي حبل العدواني أنه أبصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مشرق ثقيف، وهو قائم على قوس أو عصا، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، فسمعته يقول: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهلية، وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيف، فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه. وأخرج النسائي عن جابر بن عبد اللَّه قال: صلّى معاذ المغرب، فقرأ البقرة

القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها وإثبات إمكان البعث [سورة الطارق (86) الآيات 1 إلى 10] :

والنساء، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أفتّان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ ب السَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها ونحوها؟» . القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها وإثبات إمكان البعث [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) الإعراب: وَما أَدْراكَ جملة أَدْراكَ خبر ما. مَا الطَّارِقُ مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدرى. إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ لَمَّا بالتخفيف، فتكون لَمَّا زائدة، وإِنْ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي إنه، واللام فارقة، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وبالتشديد، فتكون إِنْ بمعنى «ما» النافية، ولَمَّا بمعنى «إلا» مثل: نشدتك اللَّه لمّا فعلت، أي إلا فعلت، وتقديره: ما كل نفس إلا عليها حافظ. إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ الهاء في إِنَّهُ إما أن تعود على الماء، أي على رجع الماء إلى موضعه من الصلب لقادر، وحينئذ ينصب يَوْمَ بتقدير: اذكر لأن رد الماء لا يكون في الآخرة، وإما أن تعود على الإنسان، أي على بعثه لقادر، وهو الظاهر، ويَوْمَ ظرف، ولا يجوز أن يتعلق ب رَجْعِهِ لأن يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بخبر إن، وهو قوله لَقادِرٌ. وإنما يتعلق بفعل دلّ عليه قوله: رَجْعِهِ أي يرجعه يوم تبلى السرائر، أو يتعلق بقوله: لَقادِرٌ والوجه الأول أوجه لأن اللَّه قادر في جميع الأوقات، فأي فائدة في تعيين هذا الوقت؟

البلاغة:

البلاغة: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ استفهام للتفخيم والتعظيم ورفعة الشأن. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ كناية، كنى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأة. المفردات اللغوية: وَالسَّماءِ كل ما علاك فأظلك. وَالطَّارِقِ النجم الطالع ليلا، وأصله عرفا: كل آت ليلا، أو الذي يجيئك ليلا، ثم استعمل للبادي فيه، وأطلق على النجوم لطلوعها ليلا. وَما أَدْراكَ وما أعلمك؟ وفيه تعظيم لشأن الطارق. النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه، فينفذ فيه، والمراد به كل نجم، أو الثريا. إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، أو إن الشأن كل نفس لعليها، إذا جعلت إِنْ مخففة من الثقيلة، وحافِظٌ: رقيب وهو اللَّه أو الملائكة تحفظ عملها من خير وشرّ. والجملة على الوجهين جواب القسم، والمراد بالقراءتين واحد. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ فلينظر نظر اعتبار واتعاظ وتأمل من أي شيء خلق لأن وجود الحافظ يستدعي النظر إلى المبدأ ليعلم صحة قضية إعادته بالبعث، فلا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي ماء مدفوق منصب بدفع وسرعة سواء من الرجل والمرأة في رحمها، والمراد: الممتزج من الماءيين في الرحم، بدليل ما يأتي: الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ، والجملة جواب الاستفهام في قوله: مِمَّ خُلِقَ. الصُّلْبِ أي من النخاع الشوكي في ظهر الرجل، ثم ينصب إلى عروق في البيضتين. وَالتَّرائِبِ عظام صدر المرأة، جمع تريبة، مثل فصيلة وفصائل، والمراد: من الماء المتكون من الدم في العروق والشعب النازلة إلى الترائب، ويعتبر الصلب والترائب أقرب أوعية المني، فلذلك خصّا بالذّكر. إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ أي إن اللَّه تعالى على بعث الإنسان بعد موته لقدير، فإذا تأمل الإنسان في أصله، علم أن القادر على خلقه ابتداء، قادر على بعثه. تُبْلَى تختبر وتكشف، والمراد: تظهر السرائر وتعرف المكنونات ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال، وما خبث منهما. السَّرائِرُ ضمائر القلوب وما يسرّ فيها من العقائد والنيات وما خفي من الأعمال، جمع سريرة. فَما لَهُ ما لمنكر البعث وهو الإنسان الكافر. مِنْ قُوَّةٍ يمتنع بها من العذاب. وَلا ناصِرٍ ينصره ويدفع عنه السوء.

سبب النزول نزول الآية (5) :

سبب النزول: نزول الآية (5) : فَلْيَنْظُرِ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ قال: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، كان يقوم على الأديم (الجلد) ، فيقول: يا معشر قريش: من أزالني عنه فله كذا، ويقول: إن محمدا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر، فأنا أكفيكم وحدي عشرة، واكفوني أنتم تسعة. التفسير والبيان: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي قسما بالسماء البديعة، والكوكب النير البادي ليلا، وما أعلمك ما حقيقته؟ إنه النجم المضيء الشديد الإضاءة، كأنه يخرق بشدة ضوئه ظلمة الليل البهيم. والحلف بالسماء والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار التي أكثر اللَّه تعالى في كتابه الحلف بها لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة، وفيها دلالة على أن لها خالقا مدبرا ينظم أمرها. وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟ يراد به التهويل والتفخيم، كأن هذا النجم البعيد في آفاق السموات لا يمكن لبشر إدراكه ومعرفة حقيقته، قال سفيان بن عيينة: كل شيء في القرآن: ما أَدْراكَ فقد أخبر اللَّه الرسول به، وكل شيء فيه ما يُدْرِيكَ لم يخبره به، كقوله: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى 42/ 17] . والطارق: اسم جنس، وسمي طارقا لأنه يطرق بالليل، ويخفى بالنهار، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق.

وفسّره بقوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي هو طارق عظيم الشأن، رفيع القدر، وهو الذي يضيء ظلمة الليل، ويهتدي به في ظلمات البر والبحر، وتعرف به أوقات الأمطار وغيرها من أحوال المعايش، وهو الثريا عند الجمهور، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: هو عام في سائر النجوم لأن طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. والظاهر أن المراد جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر. ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: نهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يطرق الرجل أهله طروقا، أي يأتيهم فجأة بالليل. وفي حديث آخر مشتمل على الدعاء: «أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» . ثم ذكر اللَّه تعالى المقسم عليه أو جواب القسم بقوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي قسما بالسماء وبالنجم الثاقب، ما كل نفس إلا عليها من اللَّه حافظ، يحرسها من الآفات، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ، كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد 13/ 11] . والحافظ على الحقيقة هو اللَّه عزّ وجلّ، وحفظ الملائكة: من حفظه لأنه بأمره. ولم تبين الآية من هو الحافظ، فقال بعض المفسرين: إن ذلك الحافظ هو اللَّه تعالى، وقال آخرون: إن ذلك الحافظ هم الملائكة، كما قال: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام 6/ 61] ، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار 82/ 10- 11] ، وقال: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] ، وقال: لَهُ مُعَقِّباتٌ ... الآية المتقدمة. قال أبو أمامة: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وكّل بالمؤمن

مائة وستون ملكا يذبّون عنه ما لم يقدر عليه، من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب، ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين، لا لاختطفته الشياطين» . ثم نبّه الإنسان إلى مبدأ الخلق ليكون ذلك دليلا على إمكان المعاد، فقال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه، ليعلم قدرة اللَّه على ما هو دون ذلك من البعث، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم، وهو ماء الرجل وماء المرأة، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما، وإنه ماء يخرج من ظهر الرجل في النخاع الشوكي الآتي من الدماغ، ومن بين ترائب المرأة، أي عظام صدرها أو موضع القلادة من الصدر، والولد يتكون من اجتماع الماءين، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم، فيتكون الجنين بإرادة اللَّه تعالى، كما قال تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج 22/ 50] . ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب: أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن، والماء في الحقيقة يشترك في تكوينه جميع أجزاء البدن، ويتبلور في الخصية والمبيض في بدء التكوين، وكلاهما يجاور الكلى، ويقع بين الصلب، والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع، وكل ذلك آثار عضوية مولدة من الدماغ، والنخاع قناة الدماغ، وهو في الصلب، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن، وهو الترائب جمع تريبة. وبعد السؤال والجواب عنه لمعرفة المبدأ الذي هو مقدمة لمعرفة المعاد، والذي ناسب أن يبدأ اللَّه به، ذكر تعالى النتيجة المترتبة على ذلك وهي بيان القدرة على الإعادة، فقال:

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي إن اللَّه تعالى على رجع الإنسان، أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة، وقد ذكر تعالى هذا الدليل في مواضع متعددة في القرآن الكريم. وقيل: إنه تعالى على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. والراجح القول الأول بدليل قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. ويرجعه يوم القيامة يوم تختبر وتعرف السرائر، أي ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها. وحقيقة البلاء في حقه تعالى ترجع إلى الكشف والإظهار، كقوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد 47/ 31] . وكيفية دلالة المبدأ على المعاد: أن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا، فإنه بعد موته وتفرق أجزائه، لا بدّ وأن يقدر على جمع تلك الأجزاء، وجعلها خلقا سويا «1» . فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أي فما للإنسان حين بعثه من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب اللَّه، ولا ناصر ينصره، فينقذه مما نزل به، أي فلا قوة ذاتية له، ولا قوة من غيره، لينقذ نفسه من عذاب اللَّه، فهذا نفي للقوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات الكريمات على ما يأتي: 1- أقسم اللَّه تعالى بالسماء وبالكواكب المنيرة المضيئة على أن لكل نفس حفظة يحفظون عليها رزقها وعملها وأجلها.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 130

وقد أكثر سبحانه في كتابه الكريم الإقسام بالسموات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة. 2- الدليل على إمكان البعث والمعاد هو بدء الخلق للإنسان. ووجه الاتصال أو التعلق بين هذا وبين ما قبله: أن اللَّه تعالى حين ذكر أن على كل نفس حافظا، أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبة أمره. 3- خلق اللَّه الإنسان ابن آدم من المني المدفوق، مني الرجل والمرأة المجتمعين، والذي يستقر في رحم المرأة، ولا شك أن الصب فعل الشخص، والفاعل الحقيقي هو اللَّه، فيكون ذلك من الإسناد المجازي الظاهري. وتكوّن المني من عملية مشتركة تشترك فيها جميع أجزاء الإنسان، وقد عبّر تعالى عن الكل بالأكثر الذي يحسّ به الشخص عادة وهو خروج الماء من بين الصلب أي الظهر، والترائب أي الصدر، جمع تريبة: وهي موضع القلادة من الصدر. والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. 4- إذا كان الخالق الحقيقي للإنسان أولا هو اللَّه تعالى، فإن اللَّه جلّ ثناؤه قادر على إعادته وبعثه مرة أخرى بعد الموت، في يوم القيامة، وفي اليوم الذي تنكشف فيه السرائر وتبدو وتظهر، ويصبح السرّ علانية، والمكنون مشهورا. والسرائر: كل ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات، وما أخفي من الأعمال الحسنة أو القبيحة. واختبار هذه السرائر معناه الكشف والإظهار وترجيح الاتجاه الراجح من الأفعال وتمييز المرجوح، فتنجلي الحقائق، ويعرف الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل. 5- نفى اللَّه سبحانه وجود القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن

القسم على صدق القرآن والرسالة وتهديد الكائدين لهما [سورة الطارق (86) الآيات 11 إلى 17] :

الإنسان يومئذ، بقوله: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ. والآية دليل على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم، لا من نفسه ولا من غيره، ولا شك في أن نفي القوة زجر وتحذير، ويتجه أولا إلى أصحاب القوة والنفوذ في الدنيا الذين يعتمدون على الأعوان والأنصار، وهناك يوم القيامة يفقدون كل شيء. القسم على صدق القرآن والرسالة وتهديد الكائدين لهما [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الإعراب: رُوَيْداً مصدر مؤكد لمعنى العامل، مصغر رود أو إرواد على الترخيم. البلاغة: السَّماءِ والْأَرْضِ بينهما طباق، وكذا بين (الفصل.. والهزل) . وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ سجع رصين يزيد في جمال الأسلوب، ومثله إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ. يَكِيدُونَ كَيْداً جناس اشتقاق. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إطناب بتكرار الفعل مرة أخرى، مبالغة في الوعيد. المفردات اللغوية: ذاتِ الرَّجْعِ الرجع: إعادة الشيء إلى ما كان فيه أولا، والمراد به هنا المطر لأنه يعود إلى الأرض من السماء. ذاتِ الصَّدْعِ الشّق عن النبات والعيون وغيرهما من كنوز الأرض. إِنَّهُ القرآن. لَقَوْلٌ فَصْلٌ يفصل بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ باللعب والباطل، فإنه جدّ كلّه. إِنَّهُمْ الكفار من أهل مكة وأمثالهم. يَكِيدُونَ كَيْداً يدبرون ويعملون المكايد

المناسبة:

لإطفاء نور الإسلام، وإبطال أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَأَكِيدُ كَيْداً أقابلهم بما يعلي أمره، وأدبّر أمرا خفيا لهم، وأستدرجهم للانتقام منهم بحيث لا يحتسبون ولا يعلمون. وليس المقصود بالكيد إذا أسند إلى اللَّه على حقيقته لأن اللَّه تعالى ليس بحاجة إليه، وإنما المراد به جزاء العمل، من قبيل المشاكلة والمشابهة للجرم المرتكب. فَمَهِّلِ أنظرهم أو أعطهم مهلة يا محمد، فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم. أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أمهلهم إمهالا يسيرا، أو قليلا أو قريبا، وتكرار الفعل وتغيير بنيته للمبالغة في الوعيد. وقد أخذهم اللَّه تعالى ببدر، وفتح مكة، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الوثنية. المناسبة: بعد إثبات توحيد اللَّه وقدرته على خلق الإنسان أولا، وإعادته بالبعث والمعاد، أقسم اللَّه قسما آخر على صحة نزول القرآن من عند اللَّه مشتملا على القول الفصل، وصحة رسالة النبي الكريم الذي نزل عليه الوحي القرآني، ثم أردفه بوعيد المفترين على القرآن والكائدين للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، ووعد هذا النبي وكل داع إلى الحق بالفوز والغلبة على الأعداء. التفسير والبيان: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يجيء ويرجع ويتكرر من السماء، فيحيي الأرض بعد موتها، وينبت النبات، والأرض ذات الصدع: وهو ما تتصدع وتنشق عنه الأرض من النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة النفطية والمائية، كما قال تعالى: ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ... الآية [عبس 80/ 26- 32] قسما بالسماء والأرض، إن القرآن الكريم لقول حق لا ريب فيه، يفصل بين الحق والباطل، ولم ينزل باللعب واللهو، فهو جدّ حقّ ليس بالهزل، ولا بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، تنزيل من حكيم حميد. فقوله: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ جواب القسم. وسمي المطر رجعا من ترجيع الصوت وهو

إعادته، لكونه عائدا مرة بعد أخرى، ولأنه ينشأ من تبخر بحار الأرض ثم يعود إلى الأرض. أخرج الترمذي والدارمي عن علي كرم اللَّه وجهه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول اللَّه؟ قال: كتاب اللَّه تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللَّه. وهو حبل اللَّه المتين، ونوره المبين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن لمّا سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن 72/ 1- 2] ، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . ثم أوعد اللَّه تعالى المكذبين بالقرآن الكائدين للمؤمنين بقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً أي إن الكفار زعماء مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لإبطال ما جاء به من الدين الحق، وللصد عن سبيل اللَّه وعن القرآن، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر، ويتآمرون على قتله، كما أخبر تعالى بقوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال 8/ 30] . ولكني أدبر لهم تدبيرا آخر، فأستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم جزاء كيدهم. وقد سمى جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدة العذاب كيدا.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم وعد رسوله بالنصر عليهم، وأمره بالصبر والتمهل، فقال: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي أخّرهم وأنظرهم، ولا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل به، وارض بما يدبره اللَّه لك في أمورهم. ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة، فقال: أمهلهم إمهالا يسيرا قليلا، أو قريبا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال، والعقوبة والهلاك، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . وهذا وعيد شديد، تحقق يوم بدر، ويعقبه عذاب يوم القيامة، وفيه تحذير عن مثل سيرتهم، وترغيب في خلاف طريقتهم. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- أقسم اللَّه تعالى بالسماء (السحاب) ذات الأمطار النافعة، والأرض ذات الشقوق والصدوع التي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار على أن القرآن يفصل بين الحق والباطل، وأنه جدّ حق ليس بالهزل، أي اللعب والباطل، وأنه منزل من عند اللَّه تعالى، وأن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. 2- أخبر اللَّه تعالى أن أعداء اللَّه يمكرون بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه مكرا، ويدبرون لهم مكائد إما بالقتل، أو بتوجيه التهم كالطعن بكون محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ساحرا وشاعرا ومجنونا، أو بوصف القرآن بأنه أساطير الأولين. 3- يجازي اللَّه أولئك الأعداء على كيدهم إما في الدنيا بالاستدراج إلى المعاصي والمنكرات من حيث لا يعلمون، وإما في الآخرة بإعداد العذاب الأليم المهين لهم. ويدفع اللَّه تعالى في الدنيا أيضا كيد الكفرة عن محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينصره ويعلي دينه.

والكيد في حق اللَّه تعالى محمول على هذا الجزاء المذكور، تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 42/ 40] وقوله: نَسُوا اللَّهَ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر 59/ 19] وقوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء 4/ 142] . 4- اقتضت الحكمة الإلهية الرفق والتأني بأعداء الإسلام، فأمر اللَّه نبيه بألا يدعو عليهم، ولا يتعجل إهلاكهم، وأن يرضى بما دبره اللَّه في أمورهم، وأن ينتظر حتى يحل العقاب بهم، فإنهم في المستقبل القريب مهزومون مخذولون، ويتحقق في النهاية النصر للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه. ويظل عذاب القيامة محفوظا لهم، وكل ما هو آت قريب.

سورة الأعلى:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعلى مكيّة، وهي تسع عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الأعلى، لافتتاحها بقول اللَّه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عز وجل عن كل نقص، وصفه بكل صفات التمجيد والتعظيم لأنه العلي الأعلى من كل شيء في الوجود. وتسمى أيضا سورة سَبِّحِ. مناسبتها لما قبلها: تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في أن سورة الطارق ذكرت خلق الإنسان في قوله تعالى: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [6] وبدء خلق النبات في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [11- 12] . وهذه السورة تحدثت بما هو أعم وأشمل من خلق الإنسان وغيره: خَلَقَ فَسَوَّى [2] وخلق النبات في قوله: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [4- 5] . ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة المكية الحديث عن توحيد اللَّه وقدرته، والقرآن وتيسير حفظه، والأخلاق الكريمة بتهذيب النفس الإنسانية. وقد افتتحت

فضلها:

بالأمر بتنزيه اللَّه تعالى عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، ووصفه بصفات التعظيم والتمجيد، لخلقه المخلوقات وإتقان الخلق وتناسبه، وإخراجه الأعشاب والنباتات: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.. [الآيات 1- 5] . ثم تحدثت عن تيسير حفظ القرآن وترسيخه في قلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحيث لا ينساه أبدا، لينقله إلى الناس: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى.. [6- 7] . وأردفت ذلك بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتذكير بالقرآن لإصلاح النفوس وتهذيب الطبائع: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى.. [الآيات 8- 13] . وختمت السورة ببيان فلاح كل من طهر نفسه من الكفر والشرك والمعاصي، وتذكّر دائما في نفسه جلال اللَّه وعظمته، ولم يؤثر الدنيا على الآخرة، وعرف أن هذه الأصول الاعتقادية والخلقية قديمة جاءت بها جميع الشرائع الإلهية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى.. [14- 19] . فضلها: ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لمعاذ: «هلّا صليت ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» . وأخرج الجماعة (أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وبقية أهل السنن) عن النعمان بن بشير: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وربما اجتمعا في يوم واحد، فقرأهما» . وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبيّ بن كعب وعبد اللَّه بن عباس وعبد الرحمن بن أبزى وعائشة أم المؤمنين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في الوتر

تنزيه الله تعالى وقدرته وتحفيظه القرآن لنبيه [سورة الأعلى (87) الآيات 1 إلى 8] :

ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، زادت عائشة: والمعوذتين. وروى أحمد عن علي رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحبّ هذه السورة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. تنزيه اللَّه تعالى وقدرته وتحفيظه القرآن لنبيه [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) الإعراب: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى إن كانت (جعل) بمعنى (خلق) كان غُثاءً أَحْوى منصوبا على الحال. وإن كانت بمعنى (صير) كان غُثاءً أَحْوى مفعولا به ثانيا، أي جعله غثاء أسود يابسا، ولا يكون: فَجَعَلَهُ غُثاءً فصلا بين الصلة والموصول لأن قوله: فَجَعَلَهُ غُثاءً داخل في الصلة، والفصل بين بعض الصلة وبعضها مما يتعلق بها غير ممتنع، وإنما الممتنع الفصل بين بعضها وبعض بأجنبي عنها. فَلا تَنْسى لا: نافية، لا ناهية، ولهذا ثبتت الألف في قوله: تَنْسى والمعنى: لست ناسيا. البلاغة: خَلَقَ فَسَوَّى وقوله: قَدَّرَ فَهَدى حذف المفعول ليفيد العموم لأن المراد: خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فسواه. أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى، سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى سجع غير متكلف.

المفردات اللغوية:

الْجَهْرَ وَما يَخْفى بينهما طباق. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى بينهما جناس اشتقاق. المفردات اللغوية: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى نزّه اسم اللَّه ربك عما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، واذكره دائما على وجه التعظيم، فإنه الأسمى والأعلى من كل شيء، جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره كما سيأتي: «لما نزل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة 56/ 74] قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، قال: اجعلوها في سجودكم، وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت» . خَلَقَ أبدع الكائنات. فَسَوَّى سوى مخلوقه بأن جعله متناسب الأجزاء، غير متفاوت، وعلى نظام كامل. قَدَّرَ جعل الأشياء على مقادير مخصوصة، فوضع قدرا لكل حي، وقدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها حسبما تقتضي مدة بقائها. فَهَدى عرّفه وجه الانتفاع بما خلق له، وبيّن له طريق الخير والشر بالميول والإلهامات وإقامة الدلائل وإنزال الآيات. الْمَرْعى كل ما تخرجه الأرض من العشب والنبات والثمار والزروع. فَجَعَلَهُ بعد خضرته. غُثاءً جافا هشيما يابسا. أَحْوى أسود. سَنُقْرِئُكَ القرآن على لسان جبريل عليه السلام بأن نجعلك قارئا ونلهمك القراءة. فَلا تَنْسى ما تقرؤه، بل تحفظه، مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى على صدق نبوتك، ولا: للنفي لا للنهي. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه، بنسخ تلاوته وحكمه. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ما ظهر من الأحوال وما بطن، سواء أكان قولا أم فعلا، ومنه الجهر بالقراءة مع جبريل مخافة النسيان والجملة اعتراضية. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى نوفقك لأعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر وسهولة الحياة. وإنما قال: نيسرك، أي نعدّك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي أو التدين أو نوفقك لها، لا نيسر لك، عطفا على سَنُقْرِئُكَ. سبب النزول: نزول الآية (6) : سَنُقْرِئُكَ: قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها فنزلت: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.

التفسير والبيان:

وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات. التفسير والبيان: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزّه اللَّه عن كل ما لا يليق به، بقولك: «سبحان ربي الأعلى» . قال القرطبي: والأولى أن يكون الاسم هو المسمى «1» . وقال أبو حيان: الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن، فيقال له: ربّ أو إله، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره، فهو أبلغ، وتنزيه الذات أحرى، وقيل: الاسم هنا بمعنى المسمى، فالاسم: صلة زائدة، والمراد الأمر بتنزيه اللَّه تعالى «2» . والمراد بالأعلى: أن اللَّه هو العالي والأعلى والأجل والأعظم من كل ما يصفه به الواصفون، كما يوصف بالكبير والأكبر. أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني: «لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال لنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم» . ثم وصف ذلك الاسم الأعلى بصفات تكون دليلا على وجود الرب وقدرته لمن أراد معرفته، فقال: 1- الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي الذي خلق الكائنات جميعها، ومنها الإنسان، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات، فعدل قامته، وناسب بين أجزائه، وجعلها متناسقة محكمة غير متفاوتة ولا مضطربة، للدلالة على إتقانها من إله حكيم مدبر عالم.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 14 (2) البحر المحيط: 8/ 458

2- وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى والذي قدر لكل مخلوق ما يصلح له، فهداه إليه، وعرّفه وجه الانتفاع به، أو قدّر أجناس الأشياء، وأنواعها، وصفاتها، وأفعالها، وأقوالها، وآجالها، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له، ويسره لما خلقه له، وألهمه أمور دينه ودنياه، وقدّر أرزاق الخلق وأقواتهم، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسان، ولمراعيهم إن كانوا وحشا، وخلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه «1» . ونظير الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه 20/ 50] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن اللَّه قدر مقادير الخلق، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . والخلاصة: أن التقدير: عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمية، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعد لقبول تلك القوى. والهداية: عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء، بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة. 3- وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى أي والذي أنبت العشب وما ترعاه الدواب من النبات الأخضر، وأنبت جميع أصناف النبات والزروع ليأكلها الإنسان. ثم جعل ذلك المرعى بعد أن كان أخضر، غثاء أحوى، أي باليا هشيما جافا، أسود بعد اخضراره لأن الكلأ إذا يبس اسودّ.

_ (1) فتح القدير للشوكاني.

وبما أن التسبيح الذي أمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه، حرص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على معرفته وحفظه بقراءة ما أنزله اللَّه تعالى عليه من القرآن، فوعده ربه وبشره بأنه سيقرئه من القرآن ما فيه تنزيهه وأنه لا ينسى، فقال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي سنجعلك يا محمد قارئا، بأن نلهمك القراءة، فلا تنسى ما تقرؤه، وقد كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، فألهمه اللَّه وعصمه من نسيان القرآن. ونظير الآية قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه 20/ 114] وقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة 75/ 16- 17] . ثم قال: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إنك ستحفظ القرآن المنزل إليك، ولا تنساه، إلا ما شاء اللَّه أن تنساه، فإن أراد أن ينسيك شيئا، فعل. وقيل: المراد بالاستثناء ما يقع من النسخ، أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء اللَّه رفعه أو نسخه، مما نسخ تلاوته، فلا عليك أن تتركه. والمعنى الأول أصح قال قتادة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينسى شيئا إلا ما شاء اللَّه. قال أبو حيان: الظاهر أنه استثناء مقصود، وكذلك قال الألوسي: والظاهر أن النسيان على حقيقته. ثم أكد اللَّه تعالى الوعد بالإقراء وعدم النسيان إلا ما شاء اللَّه أن ينسيه لمصلحة، فقال: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ومن الجهر: كل ما يفعله الإنسان

فقه الحياة أو الأحكام:

أو يقوله علانية، وَما يَخْفى: كل ما يسرّه بينه وبين نفسه، مما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، فالذي وعدك بأنه سيقرؤك ويحفّظك عالم بالجهر والسرّ. وهذا على الرأي بأن قوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني النسخ: يعد تعليلا للنسخ، وإذا كان كذلك، كان وضع الحكم ورفعه واقعا بحسب مصالح المكلفين. ونظير الآية كثير، مثل قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ [الأنبياء 21/ 110] . ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره، أي توفيقه للأيسر في أحكام الدين والشريعة، فقال: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا، ونوفقك للطريقة اليسرى والشريعة السمحة في الدين والدنيا، فلا نشرع لك إلا الأيسر، ولا تختار لأمتك إلا الأسهل الذي لا يصعب على النفوس تحمله والقيام به. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ينبغي للإنسان تعظيم اللَّه وتمجيده وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه. ويستحب للقارئ إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أن يقول: «سبحان ربي الأعلى» قاله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجماعة من الصحابة والتابعين. وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحب هذه السورة ، وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد، ويتعرفون بركتها. والمقصود بالآية تنزيه اللَّه وتسبيحه بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه، حتى

ولو سلمنا أن كلمة اسْمَ ليست صلة زائدة، فإن تسبيح اسمه، أي تنزيهه عما لا يليق، معناه بذاته تعالى وصفاته، أو بأفعاله، أو بأحكامه، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه الفكرة، وهي: هل الاسم نفس المسمى أم لا؟ 2- وصف اللَّه تعالى نفسه بصفات كمال ثلاث: هي أنه الذي خلق جميع الخلائق، وجعلها متناسبة الأجزاء، متناسقة التركيب، وجعل الإنسان في أحسن تقويم. وقدر لكل مخلوق ما يصلح له، فهداه إليه وأرشده لسلوكه، وعرّفه وجه الانتفاع به. وأنبت العشب وأخرج النبات والزرع، ثم صيّره باليا هشيما جافا أسود. وهذه الأوصاف تدل على كمال القدرة الإلهية وتمام الحكمة والعلم. 3- بشر اللَّه تعالى نبيه ببشارتين: الأولى- أن يقرأ عليه جبريل الوحي بالقرآن، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه، إلا ما شاء اللَّه أن ينسى، ولكنه لم ينس شيئا منه بعد نزول هذه الآية. والثانية- التوفيق لأعمال الخير، وتشريع الشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السمحة السهلة. 4- إن اللَّه تعالى يعلم تمام العلم كل ما يجهر به الإنسان وهو الإعلان من القول والعمل، وكل ما يخفيه، وهو السر، لذا شرع لعباده ما فيه الخير والمصلحة، ورفع عنهم كل ما فيه مشقة وعسر، وحماهم من كل ما فيه ضرر وشر ومفسدة.

التذكير وتزكية النفس والعمل للآخرة [سورة الأعلى (87) الآيات 9 إلى 19] :

التذكير وتزكية النفس والعمل للآخرة [سورة الأعلى (87) : الآيات 9 الى 19] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) الإعراب: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى جواب إِنْ دل عليه ما قبله وهو فَذَكِّرْ وقام مقامه وسد مسده. البلاغة: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى بينهما طباق. فَذَكِّرْ والذِّكْرى بينهما جناس اشتقاق. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى بينهما مقابلة. المفردات اللغوية: فَذَكِّرْ التذكير: تنبيه الإنسان إلى شيء علمه ثم غفل عنه، والمراد هنا التذكير والوعظ بالقرآن. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى معنى اشتراط النفع إما لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، فلم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا، فقيل له هذا بعد إلزام الحجة بتكرار التذكير، وإما أن يكون ظاهره شرطا ومعناه ذم المخاطبين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم. وعلى كل فإن التذكير مطلوب وإن لم ينفع، فقد ينفع البعض، وقد أخبر تعالى أن المنتفع بالتذكير هو من يخشى اللَّه سبحانه. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيتعظ وينتفع بالذكرى من يخاف اللَّه تعالى، وهو إما مصدق باللَّه وبالبعث أو متردد في ذلك، كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] . يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى يتجنب الذكرى الكافر، فإنه أشقى من الفاسق. الَّذِي

المناسبة:

يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى الذي يدخل ويذوق حر نار الآخرة، والنَّارَ الْكُبْرى أسفل دركات الجحيم والصغرى: نار الدنيا. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة هنيئة تنفعه ويسعد. قَدْ أَفْلَحَ فاز ونجا. تَزَكَّى تطهر من الكفر والمعصية بالإيمان والتقوى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه ولسانه، أو كبر تكبيرة الإحرام. فَصَلَّى صلاته المفروضة. تُؤْثِرُونَ تفضلون الدنيا على الآخرة. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى الآخرة المشتملة على الجنة خير من الدنيا وأدوم لا ينقطع نعيمها. إِنَّ هذا فلاح من تزكى وكون الآخرة خيرا وأبقى. لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى المنزلة قبل القرآن. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وهي عشر صحف. وَمُوسى وهي أيضا عشر صحف غير التوراة. المناسبة: بعد التبشير بالبشارتين السابقتين: وهما حفظ القرآن وعدم نسيانه، والتيسير والتوفيق للشريعة السهلة السمحة، ولأعمال الخير، أمر اللَّه نبيه بتذكير الخلق بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ودعوتهم إلى الحق، وبيّن من ينتفع بالذكرى وهو من يخاف اللَّه، ومن يعرض عنها وهو من يعصي اللَّه، ويكون في قعر جهنم. وبعد وعيد المعرضين عن العظة بالقرآن، ذكر اللَّه تعالى وعد من طهر نفسه من الكفر والشرك والرذائل، وندّد بمن يؤثر الدنيا على الآخرة، مع أن الخير في تفضيل الآخرة على الدنيا، وأخبر بأن أصول الدعوات الدينية واحدة، فما في القرآن من عظات هو ما في صحف إبراهيم وموسى. التفسير والبيان: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي عظ يا محمد الناس بالقرآن، وأرشدهم إلى سبل الخير، واهدهم إلى شرائع الدين، وذكّر حيث تنفع الذكرى، والناس نوعان: فريق تنفعه الموعظة، وفريق لا تنفعه، وإنما الذي

ينتفع ويتعظ بما تبلّغه يا محمد من كان يخاف اللَّه تعالى بقلبه، ويعلم أنه ملاقيه. وأما من أصر على الكفار والعناد، وتمادى في الجحود والإنكار، فلا فائدة في تذكيره. قال ابن كثير: ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله «1» ، أخرج مسلّم عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» . وروى الديلمي في الفردوس عن علي، والبخاري موقوفا قوله: «حدّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذّب اللَّه ورسوله» . وقال عيسى عليه السلام: «لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وكن كالطبيب يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع» . وقوله: سَيَذَّكَّرُ.. إيماء إلى أن ما جاء به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم صار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلا إلى التذكير فحسب. والخلاصة: أن التذكير مشروط بالانتفاع. وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية، وهو أن التذكير مطلوب، وإن لم ينفع، ولا يكون التعليق بالشرط في قوله: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى مرادا، وإنما هو لتصوير وبيان الواقع، مثل آيات كثيرة أخرى، منها قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور 24/ 33] . قال الرازي: إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام: القاطع بصحته، والمتردد فيه، والجاحد له، والفريقان الأولان ينتفعان بالتذكير والتخويف. وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ، والمعرض نادر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 500

كثير، فلهذا وجب تعميم التذكير، وإن كان لا ينتفع بالتذكير إلا البعض الذين علم اللَّه انتفاعهم به، ونحن لا نعلمهم، فبعد أن أمر اللَّه نبيه بالتذكير، بيّن في قوله: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى الذي تنفعه الذكرى من هو «1» . ثم أوضح اللَّه تعالى من الناحية الواقعية عدم جدوى التذكير بالنسبة للمعاندين، فقال: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار، لعناده وإصراره على الكفر باللَّه، وانهماكه في معاصيه. لذا فإنه يقاسي حر نار جهنم ويدخلها ويذوق وبالها، فهي النار العظيمة، ونار الدنيا هي النار الصغرى، أو أن النار الكبرى: دركات جهنم، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 4/ 145] . والذي يصلى النار الكبرى يخلد في عذابها، فلا يموت فيها، فيستريح مما هو فيه من العذاب، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة ينتفع أو يسعد بها، كما قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر 35/ 36] . وسبب تخصيص الكافر بالذكر: أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية، فيكون القرآن ساكتا عن الشقي الذي هو أهل الفسق. وبعد وعيد الأشقياء الذين أعرضوا عن ذكرى القرآن، ذكر وعد السعداء الذين يعنون بتزكية نفوسهم وتطهيرهم من الشرك والتقليد في العبادة ودنس الرذائل، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أي قد فاز ونجا من العذاب من تطهّر من الشرك، فآمن باللَّه ووحّده وعمل بشرائعه، وتعهد نفسه بالتزكية

_ (1) التفسير الكبير للرازي: 31/ 144- 145، غرائب القرآن: 30/ 77

والتهذيب والتطهير من الرذائل والمفاسد والأخلاق الوضيعة، وتابع ما أنزل اللَّه تعالى على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكر بلسانه اسم ربه بالتوحيد والإخلاص، وتذكر ربه العظيم في قلبه، فأقام الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، ابتغاء رضوان اللَّه، وطاعة لأمر اللَّه، وامتثالا لشرع اللَّه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال 8/ 2] . وروى أبو بكر البزار عن جابر بن عبد اللَّه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى.. قال: «من شهد أن لا إله إلا اللَّه، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول اللَّه» . وفي قوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها» . ثم وبّخ المؤثرين الدنيا، المهملين أمر الآخرة، فقال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي لا تفعلون ما أمرتم به سابقا، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا، والآخرة ونعيمها أفضل وأدوم من الدنيا، وثواب اللَّه في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دار فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!! أخرج الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» . وأخرج أحمد أيضا عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» . ثم أبان اللَّه تعالى وحدة الشرائع في أصولها وآدابها العامة، فقال: إِنَّ هذا

لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى أي إن كل ما ذكر من فلاح من تزكى، وما بعده من تذكر اسم اللَّه، وإيثار الناس للدنيا، ثابت في صحف إبراهيم العشر وكذا صحف موسى العشر غير التوراة، فقد تتابعت كتب اللَّه عز وجل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. والمراد أن ذلك مذكور بالمعنى لا باللفظ في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى، فمعنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف، فهو في الأولى وفي آخر الشرائع، وتقدير الآية: إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى. وإنما خصت هذه الصحف بالذكر لشهرتها بين العرب. ونظير الآية قوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء 26/ 196] . أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر رضي اللَّه عنه: «أنه سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائلا: كم أنزل اللَّه من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . وجاء في صحف إبراهيم: «ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه» . روى الآجرّي وغيره من حديث أبي ذرّ المتقدم قال: قلت: يا رسول اللَّه، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالا كلّها: أيها الملك المتسلّط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع اللَّه عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.

فقه الحياة أو الأحكام:

وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث: تزود لمعاد، ومرمّة لمعاش، ولذة في غير محرّم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شانه، حافظا للسانه. ومن عدّ كلامه من عمله، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه. قال: قلت: يا رسول اللَّه، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها!! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل!! قال: قلت: يا رسول اللَّه، فهل في أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل اللَّه عليك؟ قال: نعم اقرأ يا أبا ذر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى واللَّه تعالى أعلم بصحة هذا الحيث كما قال الألوسي. فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- المطلوب تذكير الناس وموعظتهم، سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع، ولكنها في النهاية لا تنفع إلا المؤمنين الذين يخشون اللَّه ربهم، قال الحسن البصري: الذكرى تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. 2- يتجنب الذكرى عادة ويبعد عنها الشقي في علم اللَّه الكافر، الذي يصلى ويدخل النار الكبرى، أي العظمى، وهي السفلى من أطباق النار، أو أن نار جهنم هي الكبرى، والصغرى نار الدنيا.

وإذا دخلها الكافر خلّد فيها إلى الأبد، فلا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه. 3- قد نجا وفاز كل من تطهر من الشرك بالإيمان، وجنّب نفسه رذائل الأخلاق، وعمل بما يرضي ربه من الأعمال الصالحات، وذكر ربه بلسانه وقلبه فصلى الفرائض. 4- احتج بعض العلماء بقوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء اللَّه عز وجل، والمسألة خلافية بين الفقهاء. واحتجوا بها أيضا على وجوب تكبيرة الافتتاح، واحتج أبو حنيفة رحمه اللَّه بالآية على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها، والعطف يستدعي المغايرة. وأجيب بما روي عن ابن عباس: أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه، فصلى له. 5- يؤثر بعض الناس أو أغلبهم الدنيا، ويترك الاستعداد للآخرة، والآية: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا، والترغيب في الآخرة وفي ثواب اللَّه تعالى، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع. 6- الشرائع الإلهية متفقة في أصولها الاعتقادية والأخلاقية وتوجيه العبادة الخالصة للَّه عز وجل، وهذه نماذج من وحدة الشرائع: وجوب تزكية النفس وتطهيرها من الشرك والكفر ودنس الرذائل، ووجوب التذكر الدائم للَّه عز وجل وإقامة الصلوات المفروضة في أوقاتها، وضرورة الاستعداد للآخرة وإيثار ثوابها على ملذات الدنيا الفانية. بل إن ما في السورة كله من التوحيد والنبوة والوعد والوعيد كان ثابتا في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان.

سورة الغاشية:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الغاشية مكيّة، وهي ست وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة الغاشية، لافتتاحها بقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ والغاشية: من أسماء يوم القيامة، وهي الداهية التي تغشى الناس بأهوالها، والاستفهام للتهويل وتفخيم شأنها. مناسبتها لما قبلها: هذه السورة تفصيل وتبسيط لما جاء في سورة الأعلى من أوصاف المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا، فلما قال تعالى في الأعلى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى إلى قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الآيات: 10- 17] فصل ذلك في هذه السورة بقوله: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، تَصْلى ناراً حامِيَةً.. [الآيات: 2- 7] ثم ذكر صفات وأحوال المؤمنين في الآيات: [8- 16] . ولما قال تعالى في الأعلى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أبان صفة الجنة في الآيات السابقة أكثر من صفة النار، تحقيقا لمعنى الخيرية. ما اشتملت عليه السورة: تتحدث هذه السورة المكية عن أصول الاعتقاد في موضوعات ثلاثة وهي: أ- وصف أهوال القيامة، وما يلقاه الكافر والمؤمن فيها من الشقاء والسعادة، وو صف أهل الجنة وأهل النار.

فضلها:

2- إثبات وحدانية اللَّه وقدرته وحكمته وعلمه بدليل خلق السماء والإبل والجبال والأرض وغيرها من عجائب الصنعة الإلهية. 3- ختمت السورة الكريمة بخاتمة تشبه خاتمة السورة المتقدمة وهي تذكير الناس بالرجوع إلى اللَّه عز وجل للحساب والجزاء، وأمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أصالة بالتذكير بما أنزل إليه من الشرائع والأحكام. فضلها: تقدم في فضل السورة السابقة ما أخرجه مسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، والغاشية في الجمعة والعيدين. وأخرج الإمام مالك ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير أيضا: بم كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. هول القيامة وأحوال أهل النار [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) الإعراب: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ المرفوع مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع. وقيل: لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه، والخبر ما بعد، والظرف متعلق به. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ صفة للطعام أو للضريع. البلاغة: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟ أسلوب التشويق والتهويل، وهو استفهام أريد به التقرير ولفت النظر إلى هذا الحديث.

المفردات اللغوية:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي أصحابها وهم الكفار، فهو مجاز مرسل بإطلاق الجزء وهو الوجوه وإرادة الكل وهي الذوات. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ فيهما مقابلة بين وجوه الأبرار ووجوه الفجار. المفردات اللغوية: الْغاشِيَةِ يوم القيامة، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وأهوالها. خاشِعَةٌ ذليلة. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تعمل عملا في الدنيا، تتعب فيه وهو لا ينفعها يومئذ، أو تتعب في النار بجر السلاسل والأغلال وخوضها، فقوله: ناصِبَةٌ تعبة من (نصب فلان) : تعب، والنصّب: التعب، ومنه قوله تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الانشراح 94/ 7] أي إذا فرغت من الصلاة، فاتعب في الدعاء. تَصْلى ناراً تدخلها، يقال: صلي النار: قاسى حرها، وقرئ تصلى: بضم التاء. حامِيَةً متناهية في الحر. مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ العين: ينبوع الماء، والآنية: الشديدة الحرارة. ضَرِيعٍ نوع من الشوك لا ترعاه دابة لخبثه وضره وشدة مرارته، أما الرطب منه وهو الشّبرق فترعاه الإبل ما دام رطبا، والمراد: طعامهم مما يتحاماه الإبل ويتعافاه. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ لا يتحقق به أحد هذين الأمرين المقصودين من الطعام. التفسير والبيان: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟ أي هل بلغك يا محمد حديث القيامة وعلمت خبره، وسميت غاشية: لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها، والمراد: لم يأتك سابقا حديث هذه الداهية، وقد أتاك الآن فاستمع، فلا يراد من التعبير حقيقة الاستفهام، وإنما يراد منه تشويق السامع إلى استماعه، وتعجيبه مما سيذكر بعده. والمعنى: قد جاءك يا محمد حديث الغاشية. ثم ذكر أحوال الناس فيه وانقسامهم إلى فريقين: أشقياء وسعداء، وبدأ بوصف الأشقياء لأن مبني السورة على التخويف، كما ينبئ عنه لفظ الغاشية، فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أي أصحاب وجوه، والمراد

بالوجه الذات، أي أصحابها، وأصحاب الوجوه وهم الكفار، تكون في ذلك اليوم ذليلة خاضعة لما هي فيه من العذاب، ونسب الخشوع والذل إلى الوجوه لأن أثره يظهر عليها، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 32/ 12] وقوله: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى 42/ 45] . وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون عملا كثيرا، ويتعبون أنفسهم في العبادة، ولا أجر لهم عليها لما هم عليه من الكفر والضلال والإيمان باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم شرط قبول الأعمال. والآية في القسّيسين وعبّاد الأوثان وكل مجتهد نشط في كفره «1» . ثم ذكر جزاء هؤلاء في يوم القيامة: تَصْلى ناراً حامِيَةً، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي تدخل تلك الوجوه نارا شديدة الحرارة، وتقاسي حرها، وتعذب بها، لخسارة أعمالها، وتسقى إذا عطشوا من ماء عين أي ينبوع، آنية، أي متناهية في حرها، فهي لا تطفئ لهم عطشا. وليس لهم طعام يتغذون به إلا الضريع: وهو شوك يابس شديد المرارة والضر، يقال له في لغة أهل الحجاز الشّبرق إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع، وهو سم، وشر الطعام، وأبشعه وأخبثه. ولا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور، فلا يسمن آكله، ولا يدفع عنه الجوع. وإنما قدم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء لأهل النار أهم، ويغلب عليهم العطش إذا أثر فيهم حر النار.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 462

فقه الحياة أو الأحكام:

وهناك طعام آخر لأهل النار وهو الغسلين والزقّوم، قال تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة 69/ 36] وقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان 44/ 43- 44] . ذكر الحافظ أبو بكر البرقاني عن أبي عمران الجوني قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بدير راهب، فناداه: يا راهب، فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول اللَّه عز وجل في كتابه: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، تَصْلى ناراً حامِيَةً فذاك الذي أبكاني. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- القيامة يوم رهيب، يغشى الناس فيه غاشية شديدة من الأهوال والمخاوف. 2- تكون وجوه الكفار في ذلك اليوم ذليلة بالعذاب، خاضعة للعقاب، وقد كان أصحابها في الدنيا يعملون ويتعبون أنفسهم لأن الآخرة ليست دار عمل، مثل عبدة الأوثان وأصحاب الصوامع والرهبان وغيرهم، خشعت وجوههم للَّه، وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي القائم على التوحيد الخالص والإخلاص الكامل للَّه عز وجل، واللَّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له، قال تعالى واصفا عمل هؤلاء: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً [الكهف 18/ 103- 106] .

3- ومكانهم هو النار الشديدة الحر، ومشروبهم هو مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي من ينبوع ماء متناه في الحرارة، ومطعومهم الضريع الذي لا يسمن آكله، ولا يدفع الجوع عنه. جاء في الخبر عن ابن عباس: (الضريع: شيء يكون في النار يشبه الشّوك، أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرّا من النار) «1» . وقال العلماء: إن للنار دركات، وأهلها على طبقات فمنهم من طعامه الزّقوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من طعامه ضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر 15/ 44] . ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة اللَّه، كوجود بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال المشركون على سبيل التعنت: إن إبلنا لتسمن بالضّريع، فنزلت: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي ليس فيه منفعة الغذاء، ولا الاسمان ودفع الجوع. وهذا دليل على أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس، ولكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس، نفرت عنه لأنه سم قاتل. ودليل أيضا على تكذيب اللَّه لهم في قولهم: «يسمن الضريع» . والخلاصة: أن وصف أحوال النار على النحو المذكور يستدعي الفرار منه، وإبعاد النفس عن موجبات هذا العذاب، من العقيدة الفاسدة، والعمل الخاسر، ولا عقيدة صحيحة إلا بتوحيد اللَّه والإيمان بالقرآن والرسول محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا عمل مقبول إلا على وفق ما جاء به الإسلام. ولا أقول هذا لأني مسلم، وإنما هذا الذي صح دليله.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 30

أحوال المؤمنين المخلصين أهل الجنة [سورة الغاشية (88) الآيات 8 إلى 16] :

أحوال المؤمنين المخلصين أهل الجنة [سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 16] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) الإعراب: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً التاء للخطاب، والفعل مبني للمعلوم (للفاعل) ولاغِيَةً مفعول تَسْمَعُ ولاغِيَةً مصدر كالعافية والعاقبة. وقرئ بضم التاء ورفع لاغِيَةً على أن الفعل مبني للمجهول (لما لم يسم فاعله) ولاغِيَةً مرفوع لأنه نائب فاعل. ومن قرأ القراءة الثانية، ذكّر اللاغية إما لأنه أراد بها اللغو، وهو مذكر، وإما لأنه فصل بين الفعل والفاعل، مثل: حسن اليوم دارك، واضطرم الليلة نارك، وحضر القاضي اليوم امرأة. وإذا جاز التذكير مع المؤنث الحقيقي، فمع غير الحقيقي أولى. البلاغة: لِسَعْيِها راضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً سجع رصين غير متكلّف. المفردات اللغوية: ناعِمَةٌ ذات بهجة وحسن، أو متنعمة. لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي راضية في الآخرة بعملها الذي عملته في الدنيا، وهو طاعة اللَّه، لما رأت ثوابه. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ عالية المكان والقدر لأن الجنة درجات، كما أن النار دركات. لاغِيَةً لغوا وهذيانا لا فائدة فيه، وكذبا وبهتانا. عَيْنٌ جارِيَةٌ ينبوع ماء جار. سُرُرٌ جمع سرير: وهو ما يجلس أو ينام عليه. مَرْفُوعَةٌ رفيعة ذاتا وقدرا ومحلا. وَأَكْوابٌ جمع كوب: إناء لا عروة له. مَوْضُوعَةٌ معدّة ومهيأة لشربهم وبين أيديهم. وَنَمارِقُ وسائد، جمع نمرقة- بضم النون وفتحها- وبالكسر في لغة مَصْفُوفَةٌ اصطف بعضها بجنب بعض للاستناد إليها وَزَرابِيُّ بسط فاخرة، وطنافس لها خمل، جمع زربي

المناسبة:

- بكسر الزاي أو زربيّة: وأصل الزرابي: أنواع النبات الأحمر والأصفر والأخضر مَبْثُوثَةٌ مبسوطة مفرّقة في المجالس. المناسبة: بعد بيان وعيد الكفار الأشقياء، وبيان حالهم ومكانهم وطعامهم وشرابهم، ذكر اللَّه تعالى أحوال المؤمنين السعداء، وما وعدهم به ربهم، واصفا ثوابهم وأهل الثواب، ثم وصف دار الثواب، لترغيب الناس بأعمالهم، وتشويقهم لما يلاقونه من فضل ربهم. التفسير والبيان: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي ووجوه يوم القيامة ذات نعمة وبهجة ونضرة وحسن، يعرف النعيم فيها، أو متنعمة، كما قال تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين 83/ 24] وهي وجوه السعداء، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم، وقبول عملهم، فهي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، أي رضيت عملها لأنها قد أعطيت من الأجر من أرضاها، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ [البينة 98/ 8] . والخلاصة: أن اللَّه تعالى وصف أهل السعادة والثواب بوصفين: أحدهما- في ظاهرهم وهو قوله: ناعِمَةٌ أي ذات بهجة وحسن، أو متنعمة. والثاني- في باطنهم وهو قوله: لِسَعْيِها راضِيَةٌ. ثم وصف دار الثواب وهي الجنة بسبعة أوصاف: 1- 2- فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي إن أصحاب الوجوه الناعمة وهم المؤمنون السعداء في جنة رفيعة المكان، بهية الوصف، آمنة

الغرفات لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض. ولا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة لغو وهذيان لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد اللَّه تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، ولأن الجنة منزل أحباب اللَّه، ومنازل الصفاء لا تتعكر باللغو والكذب والبهتان، كما قال تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور 52/ 23] وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم 19/ 62] وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة 56/ 25- 26] . 3- 4- فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ، فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي في الجنة ينبوع أو عين ماء تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة الصافية، وليس المراد بها عينا واحدة باعتبارها نكرة في سياق الإثبات، وإنما هذا جنس، يعني فيها عيون جاريات. وفيها أسرة عالية مفروشة بما هو ناعم الملمس، كثيرة الفرش، مرتفعة السّمك، إذا جلس عليها المؤمن استمتع بها ورأى رياض الجنة ونعيمها، كما قال تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة 56/ 34] . وفي ذلك غاية التشريف والتكريم. 5- 7- وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أي وفيها أواني الشرب وأقداح الخمر غير المسكرة معدة مرصودة بين أيديها، يشربون منها متى أرادوا، وفيها ووسائد (مخدات) مصفوفة بعضها إلى بعض، للجلوس عليها أو الاستناد إليها، وفيها بسط مبسوطة في المجالس، وطنافس (سجّاد) لها خمل رقيق ناعم، مفرّقة في المجالس، كثيرة، تغري بالجلوس عليها، ويستمتع الناظر إليها، وفيها معاني الأبهة والفخامة.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: وصف اللَّه تعالى أهل السعادة والثواب، ودار الثواب بأوصاف جميلة رائعة الجمال والمتعة، لإغراء الناس بها وترغيبهم في الحصول عليها إذا عملوا عمل أصحابها المستحقين لها. أما أهل الثواب فلهم صفتان: ظاهرية وباطنية، فوجوه المؤمنين ذات نعمة وبهجة ونضرة، ولعملها الذي عملته في الدنيا راضية في الآخرة، حيث أعطيت الجنة بعملها. وأما دار الثواب فلها صفات سبع كما تقدم: الأولى- في جنة عالية، أي مرتفعة، وعالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. الثانية- لا تسمع فيها كلاما ساقطا غير مرضي، ولا تسمع فيها كلمة لغو. الثالثة- فيها عين شراب جارية على وجه الأرض، من غير أخدود، وتجري لهم كلما أرادوا، بماء مندفق وبأنواع الأشربة اللذيذة من خمر وعسل ولبن. الرابعة- فيها سرر عالية المكان، مرتفعة السماء. الخامسة- فيها أكواب، أي كيزان لا عرى لها، أو أباريق وأوان، والإبريق: هو ما له عروة وخرطوم، والكوب: إناء ليس له عروة ولا خرطوم. السادسة- فيها نمارق، أي وسائد مصفوفة واحدة إلى جنب الأخرى. السابعة- فيها البسط المبسوطة، والطنافس التي لها خمل رقيق، والكثيرة المتفرقة في المجالس.

إثبات قدرة الله تعالى على البعث وغيره والتذكير بأدلة ذلك [سورة الغاشية (88) الآيات 17 إلى 26] :

إثبات قدرة اللَّه تعالى على البعث وغيره والتذكير بأدلة ذلك [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) الإعراب: كَيْفَ خُلِقَتْ كَيْفَ حال مقدم من ضمير خُلِقَتْ، والجملة بدل اشتمال من الإبل. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قرئ بِمُصَيْطِرٍ على الأصل، وقرئ بالصاد، بإبدال السين صادا، لتوافق الطاء في الاستعلاء والإطباق، مثل وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة 2/ 247] وأصله: (بسطة) فأبدل من السين صادا، لتوافق الطاء في الإطباق، وكذلك قالوا: الصراط في السراط، وصطر في سطر. وإِلَّا مَنْ تَوَلَّى: في موضع نصب على استثناء من غير الجنس أي استثناء منقطع، وقيل: هو استثناء من الجنس، أي استثناء متصل، وتقديره: إنما أنت مذكر الناس إلا من تولى وكفر. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ بتخفيف الباء، آب يئوب إيابا، نحو: قام يقوم مقاما، وأصله: إوابا وقواما، وقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرئ إِيابَهُمْ بتشديد الياء، قال أبو الفتح ابن جني: يجوز أن يكون أراد: إوّابا، إلا أنه قلبت الواو ياء استحسانا طلبا للخفة، لا وجوبا، مثل اجلوّذ اجلياذا، وإن كان المشهور: اجلواذا. البلاغة: فَذَكِّرْ مُذَكِّرٌ بينهما جناس الاشتقاق، وكذا بين فَيُعَذِّبُهُ والْعَذابَ. إِلَيْنا إِيابَهُمْ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يوجد بينهما طباق في الحرف.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَفَلا يَنْظُرُونَ ينظر أهل مكة ونحوهم نظر اعتبار. الْإِبِلِ الجمال، جمع بعير، ولا وأحد لها من لفظه كنساء وقوم. كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا يدل على كمال قدرة اللَّه تعالى وحسن تدبيره، بأن جعلت أداة لحمل الأثقال إلى البلاد النائية، مع احتمال العطش عشرا فأكثر وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع، وبدئ بها لأنهم أكثر مخالطة لها من غيرها. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد وأمسكها بما فيها من الكواكب. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ فهي راسخة لا تميل وهي أعلام للسائرين. سُطِحَتْ بسطت حتى صارت مهادا موطأة للإقامة عليها. قرئت الأفعال الأربعة بالبناء للمجهول، وحذف المفعول المنصوب أي خلقتها رفعتها نصبتها، والمعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من المركبات وغيرها، ليعرفوا كمال قدرة الخالق ووحدانيته، فلا ينكروا اقتداره على البعث، ولذلك عقب به أمر المعاد، ورتب عليه الأمر بالتذكير. فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي فذكرهم نعم اللَّه ودلائل توحيده وعظهم والفت نظرهم إلى الكون كله، وما عليك ألا ينظروا أو لم يتذكروا، فإنما عليك البلاغ فقط. بِمُصَيْطِرٍ بمسلّط، لإجبارهم على ما تريد إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ لكن من تولى وكفر بالقرآن فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ عذاب الآخرة، وهو في آية سابقة النَّارَ الْكُبْرى والأصغر عذاب الدنيا بالقتل والأسر. إِيابَهُمْ رجوعهم بعد الموت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر، وتقديم الخبر في الجملتين الأخيرتين للتخصيص، والمبالغة في الوعيد. سبب النزول: نزول الآية (17) : أَفَلا يَنْظُرُونَ..: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال: لما نعت اللَّه ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل اللَّه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. المناسبة: بعد أن حكم اللَّه تعالى بمجيء يوم القيامة، وقسم الناس فيها إلى فريقين: أشقياء وسعداء، وو صف أحوال الفريقين، أقام الدليل على وجوده ووحدانيته

التفسير والبيان:

وقدرته بما يشاهدونه من آثار القدرة من السماء العالية، والأرض التي يسكنون فيها، والإبل التي ينتفعون بها في نقل الأحمال والانتفاع بلحومها وأوبارها وألبانها، والجبال الراسيات التي ترشد السالكين، فيستدلون بذلك على قدرته تعالى على بعث الأجساد والمعاد وصحة عقيدة التوحيد. ثم أمر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يذكّرهم بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها، لينظروا فيها، وليصبر على معارضتهم، فإنما بعث لذلك دون غيره. التفسير والبيان: يأمر اللَّه تعالى عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته ووجوده وتوحيده، فيقول: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟ أي كيف يصح للمشركين إنكار البعث والمعاد واستبعاد وقوع ذلك، وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر المخلوقات في بيئتهم، كيف خلقها اللَّه على هذا النحو البديع، من عظم الجثة، ومزيد القوة، وبديع الأوصاف، فهي خلق عجيب، وتركيب غريب، ومع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للولد الصغير، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها، وتصبر على الجوع والعطش. وبدأ تعالى التنبيه بها لأن غالب دواب العرب كانت الإبل، وأيضا مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العلف، وكثرة الحمل، وهي معظم أموال العرب. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وألا يشاهدون السماء كيف رفعت فوق الأرض بلا عمد؟ كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟ [ق 50/ 6] .

وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أي جعلت منصوبة قائمة مرفوعة على الأرض، فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها، والنظر إليها مبعث هيبة وتعجب، ويستفيد من وجودها وتسلسلها السالكون في البراري والقفار، والأعجب من هذا أن كثيرا من الينابيع المائية تنبع منها، وفيها منافع كثيرة ومعادن وفيرة، ويقتطع منها أحجار ضخمة، ورخام ذو ألوان مختلفة بديعة. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ كيف بسطت ومدّت ومهّدت، ليستقر عليها ساكنوها، وينتفعوا بما فيها من خيرات ومعادن دفينة، وما تخرجه من نباتات وزروع وأشجار متنوعة، بها قوام الحياة والمعيشة. وتسطيح الأرض إنما هو بالنسبة للناظر والمقيم عليها، ولا يعني ذلك أنها ليست بكرة لأن الكرة- كما ذكر الرازي- إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح «1» . وإنما ذكرت هذه المخلوقات دون غيرها لأنها أقرب الأشياء إلى الإنسان الناظر فيها، فهو يشاهد صباح مساء بعيره، ويرى السماء التي تظلله، والجبال التي تجاوره، والأرض التي تقلّه. ثم أمر اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتذكير بهذه الأدلة، فقال: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم، وعظهم وخوفهم، والفت نظرهم إلى ضرورة التأمل بهذه الأدلة والبراهين وأمثالها الدالة على قدرة اللَّه على كل شيء، ومنها البعث والمعاد، وليس عليك إلا التذكير فقط، فإنما بعثت لهذا الغرض، ولا سلطان ولا سيطرة لك عليهم لحملهم على أن يؤمنوا باللَّه وبرسالتك، ولجبرهم على ما تريد، فإن

_ (1) التفسير الكبير: 31/ 157- 158 [.....]

آمنوا فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فقد ضلوا وكفروا، كما قال سبحانه: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد 13/ 40] . وقوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ تأكيد لمهمة التذكير فقط، وتقرير لها، ونظير الآية قوله: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ [يونس 10/ 99] وقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق 50/ 45] . روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه عز وجل» ثم قرأ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «1» . إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير، وكفر بالحق بقلبه ولسانه، فيعذبه اللَّه في الآخرة عذاب جهنم الدائم، عدا عذاب الدنيا من قتل وأسر واغتنام مال لأنه إذا كان لا سلطان لك عليهم، فإن اللَّه هو المسيطر عليهم، لا يخرجون عن قبضته وقوته وسلطانه. أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي: مرّ على خالد بن يزيد بن معاوية، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «ألا كلكم يدخل الجنة، إلا من شرد على اللَّه شراد البعير عن أهله» . ثم أكد اللَّه تعالى وقوع البعث والحساب والعذاب، فقال: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أي إن إلينا مرجعهم ومصيرهم،

_ (1) الحديث مخرج في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية.

فقه الحياة أو الأحكام:

ونحن نحاسبهم على أعمالهم بعد رجوعهم إلى اللَّه بالبعث، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، فلا مفر للمعرضين، ولا خلاص للمكذبين من العقاب. وفائدة تقديم الظرف أو الجار والمجرور في الموضعين الحصر والتشديد بالوعيد، أي ليس مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وإيفاء جزاء كل طائفة، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه بمقتضى الحكمة البالغة، وهو الذي يحاسب على الصغير والكبير «1» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- ذكّر اللَّه تعالى الناس بصنعته وقدرته، وأنه قادر على كل شيء، بعد أن ذكر أمر أهل الدارين، فتعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا. وقد ذكّرهم بخلق الإبل لأنها كثيرة في العرب، وبخلق السماء ورفعها عن الأرض بلا عمد، وبخلق الجبال الراسيات المنصوبة على الأرض، بحيث لا تزول، وبخلق الأرض كيف بسطت ومدت ومهدت لأهلها كي يستطيعوا العيش عليها بقرار وأمان. 2- أمر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتذكير قومه وعظتهم وتخويفهم، وطمأنه بأنه مجرد واعظ، ليس بمسلّط عليهم، فيقتلهم، أو يجبرهم على الإيمان برسالته. 3- حذر اللَّه تعالى من مخالفة دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسالته، فأنذر كل من تولى عن الوعظ والتذكير بالعذاب الأكبر في الآخرة، وهو عذاب جهنم الدائم، ووصف العذاب بالأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل. وهذا على أن الاستثناء منقطع، وقيل: هو استثناء متصل، والمعنى: لست

_ (1) تفسير الكشاف: 3/ 334، تفسير الرازي: 31/ 160

بمسلط إلا على من تولى وكفر، فأنت مسلّط عليه بالجهاد، واللَّه يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير. والأظهر في رأي بعض المفسرين أن يكون الاستثناء متصلا، لا باعتبار الحال، فإن السورة مكية، ولكن بالنظر إلى الاستقبال، أي إلا المصرّين على الإعراض والكفر، فإنك تصير مأمورا بقتالهم، مستوليا عليهم بالغلبة والقهر «1» . والظاهر لدي أن يكون الاستثناء منقطعا، أي لست بمصيطر ولا بمستول عليهم، ولكن من تولى وكفر، فإن للَّه الولاية والقهر عليه، فهو يعذبه العذاب الأكبر في الآخرة، بعد العذاب الأصغر في الدنيا وهو القتل والسبي، كما قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة 32/ 21] . وهذا ما سار عليه أغلب المفسرين، مشيرين إلى القول الثاني بصيغة (قيل) المفيدة للتضعيف. 4- تضمنت السورة في خاتمتها ما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فإن مصير جميع الناس ورجوعهم بعد الموت إلى اللَّه عز وجل، وحسابهم إليه وحده. والحساب وإن كان حقا للَّه تعالى، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه، إلا أنه تعالى جعل الحساب واجبا عليه، إما بحكم وعده الذي لا خلف فيه، وإما بمقتضى الحكمة والعدل، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم، لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم، وتعالى اللَّه عنه، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة «2» .

_ (1) غرائب القرآن: 30/ 85 (2) تفسير الرازي: 31/ 160

سورة الفجر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفجر مكيّة، وهي ثلاثون آية. تسميتها: سميت سورة الفجر، لافتتاحها بقوله تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وهو قسم عظيم بفجر الصبح المتبلج نوره كل يوم على أن الكفار سيعذبون حتما. مناسبتها لما قبلها: تتعلق السورة الكريمة بما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- إن القسم الصادر في أولها كالدليل على صحة ما ختمت به السورة التي قبلها من قوله جل جلاله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ. 2- تضمنت السورة السابقة قسمة الناس إلى فريقين: أشقياء وسعداء، أصحاب الوجوه الخاشعة، وأصحاب الوجوه الناعمة، واشتملت هذه السورة على ذكر طوائف من الطغاة: عاد وثمود وفرعون الذين هم من الفريق الأول، وطوائف من المؤمنين المهتدين الشاكرين نعم اللَّه، الذين هم في عداد الفريق الثاني، فكان الوعد والوعيد حاصلا في السورتين. 3- إن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. في هذه السورة مشابهة لجملة: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ... في السورة المتقدمة.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: اشتملت السورة على أغراض ستة: 1- القسم الإلهي بالفجر والعشر الأوائل من ذي الحجة والشفع والوتر والليل على أن عذاب الكفار واقع حتما لا مفر منه: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الآيات: 1- 5] . 2- إيراد قصص بعض الأمم الظالمة البائدة المكذبة رسل اللَّه، كعاد وثمود وقوم فرعون، لضرب المثل، وبيان ما حل بهم من العذاب بسبب طغيانهم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. [الآيات: 6- 14] . 3- بيان أن الحياة ابتلاء للناس بالخير والشر، والغنى والفقر، والتعرف على طبيعة الإنسان في حب المال، وتوضيح أن كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام اللَّه له، ولا الفقر وضيق العيش دليلا على إهانته: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ.. [الآيات: 15- 20] . 4- وصف يوم القيامة وأهواله وشدائده: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا.. [الآيات: 21- 23] . 5- بيان انقسام الناس إلى فريقين في الآخرة: سعداء وأشقياء، وتمني الأشقياء العودة إلى الدنيا: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي.. [الآيات: 24- 26] . 6- الإخبار عن ظفر السعداء بالنعيم العظيم في جنان اللَّه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.. [الآيات: 27- 30] . فضلها: روى النسائي عن جابر قال: صلّى معاد صلاة، فجاء رجل، فصلّى معه،

حتمية عذاب الكفار وجزاء بعضهم في الدنيا [سورة الفجر (89) الآيات 1 إلى 14] :

فطوّل، فصلّى في ناحية المسجد، ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا، فقال: منافق، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسأل الفتى، فقال: يا رسول اللَّه، جئت أصلي معه، فطوّل علي، فانصرفت وصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناقتي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أفتّان يا معاذ؟ أين أنت من: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْفَجْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» . حتمية عذاب الكفار وجزاء بعضهم في الدنيا [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) الإعراب: وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ ... هذا قسم، وجوابه: إما قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أو محذوف مقدر تقديره: لتبعثن. والأولى أن يكون جواب القسم محذوفا وهو ليعذبن، كما ذكر في الكشاف (3/ 335) أي وربّ هذه الأشياء ليعذبن الكفار، وقد دلّ عليه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. إلى قوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ إِرَمَ: مجرور على البدل، أو عطف البيان، ولا يجوز أن يكون وصفا أو نعتا لأنه ليس مشتقا. وإِرَمَ: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، ودليل التأنيث وصفها بقوله: ذاتِ الْعِمادِ.

البلاغة:

البلاغة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ استفهام تقريري، لتفخيم شأن الأمور المقسم بها. الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بينهما طباق. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ استعارة، شبّه العذاب الشديد النازل بهم بالسوط المؤلم، واستعمل الصبّ للإنزال. وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ سجع رصين غير متكلف، وكذا قوله: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. المفردات اللغوية: وَالْفَجْرِ قسم بالوقت الذي ينبلج فيه نور الصبح كل يوم لتبديد حجب الظلام، وظهور النور وما يتبعه من الاستعداد والذهاب لقضاء الحوائج وتحقيق المنافع وطلب الرزق، وهو مثل القسم في قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] وقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر 74/ 34] . وَلَيالٍ عَشْرٍ عشر ذي الحجة، وتنكيرها للتعظيم. وَالشَّفْعِ الزوج. وَالْوَتْرِ الفرد من تلك الليالي، والمراد: والأشياء كلها شفعها ووترها، وكلمة «الوتر» : بفتح الواو وكسرها. يَسْرِ أي يسري بمعنى إذا يمضي، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] . هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي هل في ذلك القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل؟ كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول، فمن كان عاقلا أدرك أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء فيها دلالة على توحيده وقدرته. وجواب القسم محذوف، أي لتعذبن أيها الكفار. والحجر: العقل، سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي. أَلَمْ تَرَ ألم تعلم يا محمد. بِعادٍ هي قبيلة عربية بائدة، من أولاد عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود عليه السلام، سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه، وتلقب عاد بإرم أيضا. إِرَمَ عطف بيان لعاد على تقدير مضاف، أي سبط إرم، وإِرَمَ: هي عاد الأولى. ذاتِ الْعِمادِ ذات البناء الرفيع، سكان الخيام العالية، وهذا كناية عن الغنى والبسطة، وكانت منازلهم بالرمال في الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت جنوب جزيرة العرب. لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في بطشهم وقوتهم.

التفسير والبيان:

وَثَمُودَ قبيلة من العرب البائدة أيضا من ولد كاتر بن إرم بن سام، كانت تسكن بالحجر بين الشام والحجاز، وهم قوم صالح عليه السلام. جابُوا الصَّخْرَ قطعوا الصخر ونحتوه واتخذوه بيوتا. بِالْوادِ وادي القرى. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، صاحب المباني العظيمة الثابتة ثبوت الأوتاد: جمع وتد، وهو ما يدق في الأرض. طَغَوْا تجبروا في البلاد وتجاوزوا الحد في الظلم، صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بالقتل والتعذيب والمنكرات. فَصَبَّ أفرغ وألقى وأنزل بهم العقوبة متتابعة. سَوْطَ عَذابٍ أي نوع عذاب ينزل بهم، وأصل السوط: الجلد الذي يضفر ليضرب به. لَبِالْمِرْصادِ أي يرصد أعمال العباد فلا يفوته شيء منها، ليجازيهم عليها. وأصل المرصاد: مكان الرصّد أو الراصد، والرصّد: من يرصد الأمور، أي يترقبها ليعرف ما فيها من خير أو ضرر، ويطلق أيضا على الحارس، ويطلق على الواحد والجمع والمؤنث، والترصد: الترقب. التفسير والبيان: وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ أي قسما من اللَّه بالفجر، أي الصبح الذي يظهر فيه الضوء، وينبلج النور لأنه وقت انفجار الظلمة عن الليل، كل يوم، وما يترتب عليه من اليقظة والاستعداد لجلب المنافع وتحقيق المصالح بالانتشار في الأرض وطلب الرزق من الإنسان والحيوان، كما في قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] ، وقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر 74/ 34] . وقيل: المراد: القسم بصلاة الفجر. وقسما بالليالي العشر من ذي الحجة ذات الفضيلة ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام العمل الصالح أحبّ إلى اللَّه فيهنّ من هذه الأيام- يعني عشر ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء» . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أي والزوج والفرد من كل الأشياء، ومنها هذه الليالي، أي بما حوته من زوج وفرد.

وقيل: الشفع يوم النحر لأنه عاشر الأيام، والوتر يوم عرفة لأنه تاسع الأيام، وقيل: الشفع: يوما التشريق الأول والثاني اللذان يجوز التعجل فيهما بالنفر من منى، والوتر: اليوم الثالث. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقسما بالليل إذا جاء وأقبل ثم ذهب وأدبر، كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] ، وقوله: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، [التكوير 81/ 17] أي أقبل ظلامه، أو أدبر، فكما في إقبال الصبح من عظيم النفع، في الظلام نفع أيضا، حيث تهدأ النفوس، وتستريح من عناء العمل، ثم في ذهابه نفع أيضا حيث يستعان بالراحة التي ارتاحها الجسم للعمل في النهار، ومجابهة المتاعب والأعمال. هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي أليس في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل أو لبّ؟ والحجر: العقل، فمن كان ذا عقل ولبّ، علم أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به. ثم ذكر اللَّه تعالى بعض قصص الأمم السالفة للمثل والعبرة، فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي ألم تعلم أيها الإنسان المخاطب، كيف أهلك اللَّه قبيلة عاد الأولى، وهم ولد عاد بن حوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وتلقب أيضا بإرم، فإرم: اسم آخر لعاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم 53/ 50] ، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى. ومساكنهم الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت، ونبيهم هود عليه السلام. وقد كانوا أهل عمد وخيام عالية في الربيع، ثم يرجعون إلى منازلهم إذا هاج النبت، وكانوا طوال القامة، ذوي أجسام قوية شديدة، وأشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشا، ولم يوجد في البلاد كلها مدينة محكمة البنيان ذات

أعمدة طوال منحوتة كمدينتهم، والصواب لم يوجد مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف 7/ 69] ، وقال سبحانه: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصّلت 41/ 15] . وجواب القسم المبدوء به في أول السورة محذوف تقديره: لتعذبن يا كفار أهل مكة وأمثالكم، وقد دلّ على الجواب هذه الآية: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ؟ وما بعدها. وضمير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها على الصواب عائد على القبيلة، أي لم يخلق مثل عاد تلك القبيلة في البلاد، يعني في زمانهم، وليس على العماد لارتفاعها كما قال ابن زيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ «1» . وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ أي وقبيلة ثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا بالأحجار بيوتا يسكنون فيها، وقصورا وأبنية عظيمة، في الحجر ما بين الشام والحجاز، أو وادي القرى، كما جاء في قوله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشعراء 26/ 149] ، وقوله سبحانه: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [الحجر 15/ 82] . وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أي وحاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، الذي هو صاحب المباني العظيمة، ومنها الأهرام التي بناها الفراعنة لتكون قبورا

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 507

لهم، وسخّروا في بنائها شعوبهم. وقيل: الأوتاد: الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشدّ ملكه. والتعبير بالأوتاد عن الأبنية يشير إلى هياكلهم العظيمة التي لها شكل الأوتاد المقلوبة، فهي عريضة القاعدة، ثم تصير رفيعة دقيقة في رأسها. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي هؤلاء الذين سبق ذكرهم وهم عاد وثمود وفرعون الذين تجاوزوا في بلادهم الحدّ في الظلم والجور، وتمردوا وعتوا، واغتروا بقوتهم، وأكثروا الفساد فيها بالكفر والمعاصي وظلم العباد. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أي فأنزل اللَّه تعالى على تلك الطوائف نوعا من العذاب الشديد، مشبها ما أوقعه بهم بالسوط المؤلم الذي يستعمل في تطبيق العقوبات. وقد ذكر نوع عقوباتهم تفصيلا في سورة الحاقة [الآيات: 5- 10] . ثم ذكر اللَّه تعالى سبب العذاب وهو الجريمة، فقال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي إن اللَّه يرصد عمل كل إنسان، فلا يفوته شيء، حتى يجازيه عليه بالخير خيرا، وبالشر شرّا، ولا يهمل منه شيئا قلّ أو كثر، صغر أو كبر. والمرصاد: المكان الذي يرقب فيه الرصد. والغرض من تكرار هذه القصص في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو التذكير بها، والعظة والعبرة منها، إما بالاستدلال على قدرته تعالى، وإما ببيان قهره العباد، وإما بإنذارهم وتخويفهم، ليدركوا أن ما جرى على شخص أو قوم، يجري على النظير والمثيل.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- حتمية عذاب الكفار، فقد أقسم اللَّه تعالى بالفجر أي الصبح أو بصلاة الفجر، وبالليالي العشر من ذي الحجة، وبالشفع والوتر أي الزوج والفرد من الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين، فتكون كقوله: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة 69/ 38- 39] ، وبالليل إذا يسري أي يمضي كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر 74/ 33] والمراد عموم الليل كله، أقسم اللَّه بهذه الأشياء على أنه ليعذبن الكفار. وإقسام اللَّه تعالى بهذه الأمور ينبئ عن شرفها، وأن فيها فوائد دينية ودنيوية، مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد، أو توجب الحثّ على الشكر «1» . قال القرطبي: قد يقسم اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل 92/ 3] ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه كما قال: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس 91/ 1] ، وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس 91/ 5] ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق 86/ 1] «2» . 2- أكّد اللَّه تعالى ما أقسم به وأقسم عليه بقوله: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي بل في ذلك مقنع لذي لبّ وعقل، فالمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه، وهو تعذيب الكفار، كمن ذكر حجة باهرة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ يريد أنه

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 161 (2) تفسير القرطبي: 20/ 41

لا حجة فوق هذا. ومن هنا قال بعضهم: فيه دليل على أنه تعالى أراد ربّ هذه الأشياء، ليكون غاية في القسم. 3- ذكر اللَّه تعالى للعبرة، ولتسلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة والشدة والتجبر، وهم عاد الأولى أو إرم ذات الأبنية المرفوعة على العمد، ومعنى إرم: القديمة، والتي لم يخلق مثل تلك القبيلة في زمنها في البلاد، قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة. وثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا به البيوت العظيمة بوادي القرى، قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام: ثمود، فبنوا من المدائن ألفا وسبع مائة مدينة كلها من الحجارة، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف، كلها من الحجارة. وفرعون حاكم مصر ذو الأوتاد أي صاحب الأبنية الشاهقة، أو الجنود الكثيرة أو الأوتاد الأربعة لتعذيب الناس. 4- هؤلاء الطوائف الثلاث: عاد وثمود وفرعون طغوا في البلاد، أي تجاوزوا الحدّ في الظلم والعدوان، وتمرّدوا وعتوا، فأكثروا فيها الفساد، أي الجور والأذى، فعاقبهم اللَّه عقابا شديدا، وصبّ عليهم سوط عذاب، أي أفرغ عليهم وألقى نوعا من العذاب الشديد عليهم لأن الجزاء من جنس العمل. وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلا، ثم أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي يمهل ولكنه لا يهمل، ويرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به.

توبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بالآخرة وفرط تماديه في الدنيا [سورة الفجر (89) الآيات 15 إلى 20] :

توبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بالآخرة وفرط تماديه في الدنيا [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 20] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) الإعراب: فَأَمَّا الْإِنْسانُ.. فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ الْإِنْسانُ: مبتدأ، وجملة فَيَقُولُ.. خبر المبتدأ، وأتى بالفاء لأن في «أما» معنى الشرط بالإنعام. والظرف المتوسط: إِذا مَا ابْتَلاهُ ... في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل: ربي أكرمني وقت ابتلائه. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إما أن يكون طَعامِ بمعنى إطعام، فيكون اسما أقيم مقام المصدر، مثل: سلمت عليه سلاما، أي تسليما، وكلمته كلاما، أي تكليما، وإقامة الاسم مقام المصدر كثيرة في كلام العرب، وإما أن يكون التقدير فيه: ولا تحضون على إطعام طعام المسكين، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. البلاغة: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ... وقوله: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.. بينهما مقابلة، قابل بين أَكْرَمَنِ وأَهانَنِ، وبين توسعة الرزق وتضييقه. كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ فيه التفات من ضمير الغائب إلى الخطاب زيادة في التوبيخ والعتاب. والأصل أن يقال: كلا بل لا يكرمون. المفردات اللغوية: فَأَمَّا الْإِنْسانُ متصل بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال البيضاوي: كأنه قيل: إنه لبالمرصاد في الآخرة، فلا يريد إلا السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها. إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اختبره بالغنى واليسر. فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ بالجاه والمال. فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ فضّلني بما أعطاني، وصيّرني مكرما، يتمتع بالنعيم.

المناسبة:

إِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر والتقتير فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ضيّقه. أَهانَنِ أذلني وبادرني بالإهانة، وهذا لقصور نظره وسوء تفكيره، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تؤدي إلى الانهماك في حبّ الدنيا. ولذلك ذمّه على قوليه السابقين وردعه بقوله: كَلَّا كلمة للردع والزجر، أي ليس الإكرام بالغنى، والإهانة بالفقر، وإنما هو بالطاعة والمعصية، والكفار لا يتنبهون لذلك. لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ لا يحسنون إليهم مع غناهم. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص: تُكْرِمُونَ، وتَحَاضُّونَ. لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ لا يحسنون إليهم مع غناهم. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص: تُكْرِمُونَ، وتَحَاضُّونَ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث. أَكْلًا لَمًّا شديدا ذا لم، أي جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا حبّا كثيرا. المناسبة: بعد أن بيّن اللَّه تعالى أنه بمرصد من أعمال بني آدم، يراقبهم ويجازيهم، عقّبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة، وفرط تماديه في إصلاح المعاش الدنيوي، كأنه قيل: إن اللَّه يؤثر الآخرة ويرغّب فيها، وأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا صار في راحة قال: ربي أكرمني ورفعني، وإن فقد الراحة قال: ربي أهانني وأذلني. وبعد بيان خطأ الإنسان في تصوره واعتقاده هذا، زجر الناس عن تقصيرهم وارتكابهم المنكرات، ونبّه لما هو شرّ من ذلك، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه، فلا يحسنون إلى اليتامى والمساكين، ويتناهبون الميراث دون إعطاء النساء والصبيان حقوقهم، ويحصرون على جمع المال حرصا شديدا. التفسير والبيان: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ أي إن الإنسان مخطئ في تفكيره أنه إذا امتحنه ربّه واختبره بالنعم، فأكرمه

بالمال، ووسع عليه الرزق، فيقول: ربي أكرمني وفضلني واصطفاني ورفعني وعافاني من العقوبة، معتقدا أن ذلك هو الكرامة، فرحا بما نال، وسرورا بما أعطي، غير شاكر اللَّه على ذلك، ولا مدرك أن ذلك امتحان له من ربّه. والمراد بالإنسان الجنس، وليس الكافر فقط، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام «1» . والمقصود من الآية أن اللَّه ينكر على الإنسان ويوبخه في اعتقاده أنه إذا وسع اللَّه عليه في الرزق ليختبره فيه، كان ذلك إكراما من اللَّه له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون 23/ 55- 56] . ونظيره أيضا قوله تعالى في صفة الكفار: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم 30/ 7] ، وقوله أيضا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج 22/ 10] . والخلاصة: أن الغنى والثروة أو الجاه والسلطة ليس دليلا على رضا اللَّه عن العبد لأن ذلك لا قيمة له عند اللَّه تعالى. ثم ذكر الجانب الآخر وهو أن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط اللَّه على العبد، فقال: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ، فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ أي وأما إذا ما اختبره وامتحنه بالفقر والتقتير، وضيّق عليه رزقه ولم يوسعه له، فيقول: ربي أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا فلا يصح أن يعتقد أن ذلك إهانة له وإذلال لنفسه.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 470

فالإنسان مخطئ في الحالين لأن سعة الرزق لا تدل على أحقية العبد لها، بدليل ما نشاهده من غنى الكفار وثروة الفساق والعصاة. وضيق الرزق ليس دليلا على عدم الاستحقاق، بدليل ما نراه من فقر بعض الأنبياء وأكابر المؤمنين والصلحاء والعلماء. والكرامة عند اللَّه للطائع الموفق لعمل الآخرة، والإهانة والخذلان عند اللَّه للعاصي غير الموفق للطاعة وعمل أهل الجنة، وليست سعة الدنيا كرامة ورفعة، ولا ضيقها إهانة ومذلة، وإنما الغنى اختبار للغني هل يشكر، والفقر اختبار له هل يصبر «1» . ونظرا للخطأ في الحالين ردع اللَّه الإنسان بقوله: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ردع وزجر للإنسان القائل في الحالتين السابقتين ما قال، فليس الأمر كما زعم، فإن اللَّه تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة اللَّه في كل من الحالين، فإذا كان غنيا، شكر اللَّه على نعمته، وإذا كان فقيرا صبر. وبعد أن ذمّهم على قبح الأقوال، ذمّهم على قبح الأفعال الذي هو شرّ من سابقه، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه، فأنتم أيها الأغنياء الموسرون لا تكرمون اليتيم ولا تحسنون إليه، ولا تحضون أنفسكم أو غيركم على إطعام المساكين، ولا يحث بعضكم بعضا على صلة الفقراء، ولا تأمرون بعضكم بعضا بالإحسان إلى المحتاجين. وفي قوله: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أمر بإكرام الأيتام، كما جاء في

_ (1) فتح القدير للشوكاني.

فقه الحياة أو الأحكام:

الحديث الذي رواه عبد اللَّه بن المبارك عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم، يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بأصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» . وروى أبو داود عن سهل بن سعيد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقرن بين أصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه، فنزلت. فترك إكرام اليتيم: ترك برّه، ودفعه عن حقه الثابت له في الميراث، وأخذ ماله منه. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي وإنكم تأكلون الميراث أكلا شديدا، وجمعا من أي جهة حصل، من حلال أو حرام. وتحبون المال حبّا كثيرا فاحشا، والجمّ: الكثير، قال بعضهم: إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألّما والخلاصة: أنكم تؤثرون الدنيا على الآخرة، واللَّه يحب السعي للآخرة، وترك الإفراط والمغالاة والتمادي في حبّ الدنيا وملذاتها. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- يخطئ الإنسان في فهم حال الغنى والفقر، فليس الغنى وبسط الرزق دليلا على الإكرام والتفضيل والاصطفاء، كما أن الفقر ليس دليلا على الإهانة والإذلال. فالكرامة عند اللَّه والهوان ليس بكثرة الحظ في الدنيا وقلته، وإنما الكرامة

عنده أن يكرم اللَّه العبد بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسّع عليه في الدنيا حمده وشكره. واللَّه لا يريد من عبده إلا الطاعة والسعي للعاقبة الآخرة، وأما الإنسان فلا يريد ذلك، ولا يهمه إلا الدنيا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها. 2- أكّد تعالى المعنى السابق بكلمة كَلَّا للرد على سوء فهم الإنسان، وزجرا وردعا له عن اعتقاده وتصوره السابق، فليس الأمر كما يظنّ، بأن الغنى لفضله، والفقر لهوانه، وإنما الغنى والفقر من تقدير اللَّه وقضائه، وعلى العبد أن يحمد اللَّه عزّ وجلّ على الفقر والغنى. جاء في الحديث: «يقول اللَّه عزّ وجلّ: كلا، إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت من أهنت بمعصيتي» «1» . 3- أخبر اللَّه تعالى عما كان الناس يصنعونه من ترك برّ اليتيم ومنعه من الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا، وأنهم لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم، وأكلهم ميراث اليتامى والنساء والصبيان أكلا شديدا وجمعا شاملا، ومحبتهم المال حبّا جمّا، كثيرا، فقد كان أهل الشرك لا يورّثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم، وكانوا يجمعون المال دون تفرقة بين الحلال والحرام. وهذا ما يشيع الآن كثيرا في العالم، بل بين المسلمين أنفسهم.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 52

حال الإنسان الحريص على الدنيا والمترفع عنها يوم القيامة [سورة الفجر (89) الآيات 21 إلى 30] :

حال الإنسان الحريص على الدنيا والمترفع عنها يوم القيامة [سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 30] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الإعراب: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا جواب إِذا قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ. ودَكًّا دَكًّا: منصوب على المصدر المؤكد، وكرر للتأكيد. صَفًّا صَفًّا منصوب على المصدر، في موضع الحال، أي مصطفين أو ذوي صفوف كثيرة. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ بِجَهَنَّمَ: في موضع رفع نائب فاعل. ويَوْمَئِذٍ الأول: ظرف متعلق ب جِيءَ، ويَوْمَئِذٍ الثاني: إما بدل من يَوْمَئِذٍ الأول، أو يتعلق ب يَتَذَكَّرُ. لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرئ يُعَذِّبُ ويُوثِقُ بكسر الذال وفتحها، وبكسر الثاء وفتحها، فمن قرأ بكسر الذال والثاء، كان تقديره: لا يعذّب أحد أحدا عذابا مثل عذابه، ولا يوثق أحد أحدا وثاقا مثل وثاقه، والهاء تعود على اللَّه تعالى، وإن لم يذكر، لدلالة الحال عليه. وعَذابَهُ ووَثاقَهُ: منصوبان على المصدر، والمصدر مضاف إلى الفاعل، وأَحَدٌ فاعل مرفوع. ومن قرأ بفتحهما كان تقديره: لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، والهاء تعود على الإنسان، لتقدم ذكره، والمصدر مضاف إلى المفعول، وأَحَدٌ: نائب فاعل. راضِيَةً مَرْضِيَّةً حالان.

البلاغة:

البلاغة: يَتَذَكَّرُ والذِّكْرى بينهما جناس اشتقاق، وكذا بين لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ وبين وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ. فَادْخُلِي فِي عِبادِي الإضافة إلى اللَّه للتشريف. المفردات اللغوية: كَلَّا ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم: وهو التقصير في أداء الحقوق. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا زلزلت حتى يتهدم كل بناء عليها وينعدم، دكّا بعد دكّ حتى صارت الجبال والتلال هباء منبثا، وأرضا مستوية. والدّكّ: الهدم والتسوية للشيء المرتفع، قال المبرد: الدكّ: حطّ المرتفع بالبسط، واندك سنام البعير: إذا انفرش في ظهره، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش. وجواب إِذا هو قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ.... وَجاءَ رَبُّكَ أمر ربّك وظهرت آيات قدرته وآثار قهره. وَالْمَلَكُ الملائكة. صَفًّا صَفًّا مصطفين أو ذوي صفوف كثيرة بحسب منازلهم ومراتبهم. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كشفت للناظرين بعد الغيبة، مثل قوله تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات 79/ 36] . يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يتذكر معاصيه، أو يتعظ لأنه يعلم قبحها، فيندم عليها. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي ومن أين له فائدة التذكر، وقد فات الأوان؟ وهو استفهام بمعنى النفي، أي لا ينفعه تذكره ذلك، واستدل به على عدم قبول التوبة في الآخرة. يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي يقول مع ذكره: يا ليتني قدمت لحياتي هذه الخير والإيمان، أو وقت حياتي في الدنيا، ويا: للتنبيه. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أي لا يتولى أحد عذاب اللَّه ووثاقه يوم القيامة سواه، إذ الأمر كله له، ولا يعذّب أحد مثل تعذيبه، ولا يوثق مثل إيثاقه، والوثاق: الشدّ والربط بالسلاسل والأغلال. وضمير عَذابَهُ ووَثاقَهُ للكافر. يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ أي يقال لها عند الموت ما يأتي. الْمُطْمَئِنَّةُ المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق، الآمنة وهي المؤمنة التي اطمأنت بذكر اللَّه. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ارجعي إلى ثوابه وتكريمه، وأمره وإرادته. راضِيَةً بالثواب. مَرْضِيَّةً عند اللَّه بعملك، أي جامعة بين الوصفين. فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة أو في زمرة عبادي الصالحين المقرّبين المكرّمين. وَادْخُلِي جَنَّتِي معهم.

سبب النزول نزول الآية (27) :

سبب النزول: نزول الآية (27) : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: نزلت في حمزة. وأخرج أيضا عن ابن عباس: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من يشتري بئر رومة، يستعذب بها، غفر اللَّه له، فاشتراها عثمان، فقال: هل لك أن تجعلها سقاية للناس؟ قال: نعم، فأنزل اللَّه في عثمان: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.... المناسبة: بعد أن أنكر اللَّه على الناس تصورهم عن الغنى والفقر، وأفعالهم المنكرة، بالحرص على الدنيا، وإيثارها على الآخرة، وترك المواساة منها، وجمعها دون تفرقة بين حلال أو حرام، ردعهم عن ذلك، وأخبر عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، وأبان أنهم يندمون حين لا ينفع الندم: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل، ثم ذكر تحسر المقصر في طاعة اللَّه يوم القيامة: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى. وبعد بيان حال هذا الإنسان الحريص على الدنيا، ذكر اللَّه تعالى حال المؤمن المخلص المترفع عنها، المتسامي بطبعه إلى مراتب الكمال، فيكون جزاؤه دخول الجنان في زمرة الصالحين المقربين من عباد اللَّه تعالى. التفسير والبيان: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي زجرا وردعا لأقوالكم وأفعالكم هذه، ولا ينبغي أن يكون هكذا عملكم في الحرص على الدنيا، وترك المواساة

منها، وجمع الأموال فيها من حيث تتهيأ، دون تفرقة بين حلال وحرام، وتوهم ألا حساب ولا جزاء. وسيأتي يوم القيامة وما يقع فيه من الأهوال الرهيبة، وتظهر فيه أوصاف ثلاثة، فتدكّ الأرض دكّا بعد دكّ، أي تكسر وتدق، وتتزلزل وتتحرك تحركا بعد تحريك، وتهدّ جبالها حتى تستوي مع سطح الأرض، فتسوّى الأرض والجبال، ويقوم الناس من قبورهم. وقوله: دَكًّا دَكًّا يدل على تكرار الدكّ حتى صارت الجبال هباء منبثا. وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي وجاء اللَّه سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، وتصدر أوامره وأحكامه بالجزاء والحساب، وتظهر آيات قدرته وآثار قهره، ويقف الملائكة مصطفين صفوفا للحراسة والحفظ والهيبة. وهذه هي الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي وكشفت للناظرين بعد غيبتها وتحجبها عنهم، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91] ، وقال أيضا: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات 79/ 36] . وهذه هي الصفة الثالثة من صفات ذلك اليوم. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى، يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي في ذلك اليوم يندم الإنسان على ما قدّم في الدنيا من الكفر والمعاصي، وعلى ما عمل من أعمال السوء، وكيف تنفعه الذكرى؟ أي لا تنفعه، فقد فات الأوان، وإنما كانت تنفعه الذكرى لو تذكر الحق قبل حضور الموت. ويقول مبينا تذكره: يا ليتني قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي الأخروية الدائمة الباقية، فهي الحياة الأخيرة لأهل النار ولأهل الجنة جميعا. ويصح جعل اللام بمعنى الوقت، أي وقت حياتي في الدنيا.

قال الرازي: فيه دليل على أن قبول التوبة على اللَّه لا يجب عقلا. والواقع أن الآية ليست في هذا الجانب، لأنه لا يلزم من عدم قبول التوبة في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف في الدنيا، كإيمان اليأس. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ هذا جواب الشرط السابق في إِذا دُكَّتِ.. أي فيومئذ لا يتولى أحد تعذيب العصاة وحسابهم وجزاءهم ووثاقهم، ولا يعذب أحد مثل عذاب اللَّه، ولا يوثق أحد الكافر بالسلاسل والأغلال كوثاق اللَّه. وفي هذا ترغيب بالعمل الصالح والإيمان، وترهيب من الكفر والعصيان. ثم ذكر حال الإنسان المترفع عن أطماعه وملذاته وشهواته في الدنيا وبشارة الأبرار، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي أي يقول اللَّه للمؤمن، بذاته أو على لسان ملك: يا أيتها النفس الموقنة بالإيمان والحق وتوحيد اللَّه، التي لا يخالجها شك في صدق عقيدتها، وقد رضيت بقضاء اللَّه وقدره، ووقفت عند حدود الشرع، فتجيء يوم القيامة مطمئنة بذكر اللَّه، ثابتة لا تتزعزع، آمنة مؤمنة غير خائفة، ارجعي إلى ثواب ربك الذي أعطاك. وإلى محل كرامته الذي منحك إياه، راضية بهذا الثواب عما عملت في الدنيا، وبما حكم اللَّه، ومرضية عند اللَّه، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ [البيّنة 98/ 8] وهذه هي صفة أرباب النفوس الكاملة. فادخلي في زمرة عبادي الصالحين، وكوني في جملتهم، وادخلي معهم جنتي، فتلك هي الكرامة لا كرامة سواها، جعلنا اللَّه من أهلها، والظاهر العموم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت به الآية.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- زجر اللَّه الناس وردعهم عن انكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من يفعل ذلك يندم يوم تدكّ الأرض ولا ينفع الندم. 2- وصف اللَّه يوم القيامة بصفات ثلاث هي: الأولى- دكّ الأرض، أي زلزلتها وتحريكها بشدة تحريكا بعد تحريك، ومرة بعد مرة. الثانية- مجيء أمر اللَّه وقضائه وآياته العظيمة واصطفاف الملائكة صفوفا، كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة 2/ 210] . الثالثة- بروز جهنم وانكشافها وظهورها للناس بعد احتجابها عنهم. 3- في يوم القيامة يتعظ الكافر ويتوب، كما يتعظ من حرصه على الدنيا دون الآخرة، ولكن من أين له الاتعاظ والتوبة والمنفعة، وقد فرط فيها في الدنيا. ويقول نادما متأسفا: يا ليتني قدمت في الدنيا عملا صالحا لحياتي الأخيرة التي لا موت فيها. 4- لا يعذّب أحد كعذاب اللَّه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال أحد كوثاق اللَّه، وهذه كناية ترجع إلى اللَّه تعالى، في حق المجرمين من الخلائق، تعني أن السلطان المطلق في الحساب والجزاء للَّه، ولا يخرج أحد عن قبضة اللَّه وسلطانه. 5- أما النفس الزكية المطمئنة بالإيمان والعمل الصالح وبوعد اللَّه دون خوف ولا فزع، فيقال لها: ارجعي إلى رضوان ربّك وجنته، راضية بما أعطاك اللَّه من النعم، مرضية عند اللَّه بما قدمت من عمل. وهذا الخطاب والنداء يكون عند الموت أو الاحتضار، كما ذكر المفسرون، وتتمة المقالة: فادخلي في زمرة عباد اللَّه الصالحين، وادخلي جنتي دار الأبرار المقربين.

سورة البلد:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البلد مكيّة، وهي عشرون آية. تسميتها: سميت سورة البلد لأن اللَّه تعالى أقسم في فاتحتها بالبلد الحرام (مكة) الذي شرفه اللَّه بالبيت العتيق، وجعله قبلة المسلمين، تعظيما لشأنه. مناسبتها لما قبلها: ترتبط السورة بما قبلها من وجهين: 1- ذم اللَّه تعالى في السورة السابقة (الفجر) من أحب المال، وأكل التراث، ولم يحض على طعام المسكين، وذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة (إعتاق العبيد) والإطعام في يوم المسغبة (المجاعة) . 2- ختم اللَّه تعالى السورة المتقدمة ببيان حال النفس المطمئنة في الآخرة، وذكر هنا طريق الاطمئنان، وحذّر من ضده وهو الكفر بآيات اللَّه ومخالفة أوامر الرحمن. ما اشتملت عليه السورة: محور هذه السورة المكية الحديث عن سعادة الإنسان وشقاوته، ومنهجه في اختيار أحد الطريقين. بدأت بالقسم بالبلد الحرام- مكة أم القرى، التي يأمن

الناس فيها، تنبيها على عظمة قدرها، سواء في حال الإحرام أو الحل، وتنويها بموطن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتعظيم تحريم إيذائه في البلد الأمين، ثم ذكرت المقسم عليه وهو أن حال الإنسان في الدنيا في نصب وتعب: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ.. [الآيات 1- 4] . وأردفت ذلك بالإخبار عن خلق ذميم في الإنسان وهو اغتراره بقوته، مما حدا بكفار مكة الذين اغتروا بقوتهم أن يعاندوا الحق، ويكذبوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينفقوا أموالهم في المفاسد والشرور، وهو شأن المفتونين المغرورين بمالهم وغناهم: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.. [الآيات 5- 7] . ثم ذكّرت الإنسان بما أنعم اللَّه عليه من العينين واللسان والشفتين وبيان طريق الخير والشر له، واختياره أحد السبيلين بعقله وإرادته: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ.. [الآيات 8- 10] . ثم أبانت للإنسان ما يعترضه من الأهوال والمصاعب يوم القيامة وطريق اجتيازها بالإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال في جهات البر والخير، ليكون من الأبرار السعداء أهل اليمين: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ... [الآيات 11- 18] . وقابلت ذلك بتوضيح منهج الأشقياء الفجار أهل الشمال، وهو الكفر بآيات اللَّه، فيتميز المؤمنون عن الكفار، ويتبين مآل الفريقين إما إلى الجنة أو إلى النار: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا.. [19- 20] .

ابتلاء الإنسان بالتعب واغتراره بقوته وماله [سورة البلد (90) الآيات 1 إلى 7] :

ابتلاء الإنسان بالتعب واغتراره بقوته وماله [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) الإعراب: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ.. أن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي أنه. البلاغة: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أي أقسم بهذا البلد، وزيادة لا لتأكيد الكلام وتأكيد القسم، تقول: لا واللَّه ما قلت كذا، أي واللَّه. وهذا مستفيض في لغة العرب. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ بينهما جناس اشتقاق، فكل من الوالد والولد مشتق من الولاد. أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ استفهام إنكاري للتوبيخ، وكذا قوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ. لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: لا أُقْسِمُ أي أقسم. بِهذَا الْبَلَدِ مكة. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي وأنت يا محمد حلال وحالّ مقيم فيه، أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وحال كون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقيم فيه، إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وهذه الجملة وما بعدها اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله بعدئذ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي وأقسم بكل والد كآدم أو إبراهيم وغيرهما، وبكل مولود من أي شيء آخر، والمراد: أن اللَّه أقسم ببلد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه

سبب النزول:

إسماعيل، وبمن ولد فيه. والتنكير للتعظيم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران 3/ 36] أي بأي شيء وضعت، يعني موضوعا عظيم الشأن. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان. فِي كَبَدٍ أي خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، والتعب والنصب، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية وتثبيت للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مما كان يكابده من قريش، وبعث له على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أَيَحْسَبُ أيظن الإنسان. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي أنه يغتر بقوته، ويعتقد ألا أحد ينتقم منه ولكن اللَّه قادر عليه، كأبي الأشد بن كلدة، فإنه كان يبسط تحت قدمه أديم عكاظي، ويجذبه عشرة، فينقطع، ولا تزلّ قدماه. يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي وأنه يقول: أنفقت مالا كثيرا. من تلبد الشيء: إذا اجتمع، على عداوة محمد، أو سمعة ومفاخرة. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيما أنفقه، فيعلم قدره، واللَّه عالم بقدره، وأنه ليس مما يتكثر به، ومجازيه على فعله السيء. سبب النزول: نزول الآية (5) : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ: روي أن هذه الآية: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحي، الذي كان مغترا بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا، وهو في ذلك كاذب. نزول الآية (6) : يَقُولُ أَهْلَكْتُ..: قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمره أن يكفّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند اللَّه تعالى لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفيها مناسك الحج. وقوله: لا أُقْسِمُ قسم مؤكد وليس نفيا للقسم، كقول العرب: لا واللَّه لا فعلت كذا، ولا واللَّه ما كان كذا، ولا واللَّه لأفعلن كذا. أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل من دخله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] تشريفا لك، وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل: الحلال. ورد في الحديث المتفق على صحته: «إن هذا البلد حرّمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» . والمراد أن مكة عظيمة القدر في كل حال، حتى في حال اعتقاد الكفار أنك حلال لا حرمة لك، فلا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك. وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم. وأقسم بكل والد ومولود من الإنسان والحيوان، تنبيها على عظم آية التناسل والتوالد، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه. ثم ذكر المقسم عليه، فقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي لقد خلقنا الإنسان مغمورا بالتعب والنصب، وفي مكابدة المشاقّ والشدائد، فهو لا يزال في تلك المكابدة بدءا من

فقه الحياة أو الأحكام:

الولادة، إلى المتاعب المعيشية والأمراض الطارئة، ثم إلى الموت وما يتبعه في قبره والبرزخ وآخرته من شدائد ومتاعب وأهوال. وفيه تثبيت لرسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، وحمله على احتمال مكائد أهل مكة، وصبره على المشاق والمتاعب، فذلك لا يخلو منه إنسان، وفيه لوم لهم على عداوته. ثم وبخ الإنسان على الاغترار بقوته، فقال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه، ولا ينتقم منه أحد، فإن اللَّه هو القادر على كل شيء. ثم لام الإنسان على الإنفاق مراءاة، فقال: يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي أنفقت مالا كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. والمراد أن الإنسان يقول في يوم القيامة: أنفقت مالا كثيرا فيما كان يسميه أهل الجاهلية مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر. ثم عابه على جهله، فقال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أي أيظن الإنسان والمدعي النفقة في سبيل الخير أن اللَّه سبحانه لم يطلع عليه، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟ فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم اللَّه تعالى بالبلد الحرام- مكة أم القرى، وبالوالد والمولود كآدم وذريته، وكل أب وولده، وما يتوالده الحيوان، على أنه خلق الإنسان مغمورا في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.

مبدأ الاختيار وطريق النجاة في الآخرة [سورة البلد (90) الآيات 8 إلى 20] :

وللَّه أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، والمراد تعظيم البلد الحرام المشتمل على البيت العتيق، وكونه بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ووجود مناسك الحج فيه ومنشأ كل بركة وخير، وتظل الحرمة لهذا البلد، وإن اعتقد كفار مكة أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم حلال لهم، لا حرمة له. والقسم بالوالد والولد ونسلهم لأنهم أعجب ما خلق اللَّه تعالى على وجه الأرض لما فيهم من التّبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدّعاة إلى اللَّه تعالى. 2- وبخ اللَّه تعالى الإنسان على بعض الأفكار والاعتقادات والتصورات، كظنه ألا قدرة لأحد عليه، وإنفاقه المال الكثير مراءاة، أو مضايقة من أداء الواجبات المالية الخيرية، وجهله بأن اللَّه عالم به مطلع على جميع أقواله وأفعاله، وسائله عن ماله من أين كسبه، وفي أي شيء أنفقه؟ إن اللَّه قادر على كل شيء من الإنسان والحيوان والجماد والنبات، عالم بقصد كل إنسان حين ينفق ما ينفق رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المعالي والمكارم، أو معاداة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويرى كل أحد فيما يعمل ويجني ويكتسب وينفق. مبدأ الاختيار وطريق النجاة في الآخرة [سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 20] أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

الإعراب:

الإعراب: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي لم يقتحم، و (لا) في الماضي مثل (لم) في المستقبل، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة 75/ 31] أي لم يصدق ولم يصلّ، وكقول الشاعر أبي خراش الهذلي: إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا أي لم يلمّ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً مَا الْعَقَبَةُ: تقديره: ما اقتحام العقبة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وفَكُّ رَقَبَةٍ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: اقتحامها فك رقبة. أَوْ إِطْعامٌ: عطف عليه، ويَتِيماً: مفعول إِطْعامٌ وهو مصدر (أطعم) أي أن أطعم يتيما. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اسم كان: ضمير مستتر تقديره هو، أي ثم كان مقتحمها من الذين آمنوا. وإنما قال ثُمَّ وإن كان الإيمان مقدما في الرتبة عن العمل لأن ثُمَّ إذا عطفت جملة على جملة لا تفيد الترتيب، بخلاف ما إذا عطفت مفردا على مفرد، فهي ليست هنا للتراخي في الزمان إذ شرط الأعمال الحسنة الإيمان، وإنما التراخي في الذكر والبيان. البلاغة: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟ استفهام تقريري للتذكير بالنعم، أي جعلنا له، وفيه مراعاة الفواصل. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ الاستفهام للتهويل والتعظيم. والْعَقَبَةُ: استعارة تبعية لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل: وهو ما صعب منه، أي أن العقبة: الطريق الوعر في الجبل، أستعير للأعمال الصالحة ذات المشقة. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ استعارة، استعار النجدين لطريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة، وأصل النجد: الطريق المرتفع. مَقْرَبَةٍ ومَتْرَبَةٍ جناس ناقص لتغير بعض الحروف. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما، أي جعلنا له. وَلِساناً يترجم به عما يريد ضميره. وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ بينا له طريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة، وأصل النجد: المكان المرتفع. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فهلا اجتازها أو دخلها بسرعة وشدة، والعقبة: الطريق الصعب في الجبل. والمراد: مجاهدة النفس لفعل الخير وترك الشر. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ والجملة اعتراضية لتعظيم شأنها أي لم تدر صعوبتها وثوابها. فَكُّ رَقَبَةٍ إعتاقها من الرق، أو المعاونة عليه. ذِي مَسْغَبَةٍ مجاعة. ذا مَقْرَبَةٍ قرابة في النسب. ذا مَتْرَبَةٍ ذا فقر، يقال: ترب فلان: إذا افتقر، أي أصبحت يده ملصقة بالتراب لفقره، والمراد: هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب، لا بيوت لهم. وإنما ذكر الإعتاق والإطعام لما فيهما من مجاهدة النفس. ثُمَّ عطف على اقْتَحَمَ وثُمَّ للترتيب الذكري لا الزماني، والمعنى: وكان وقت الاقتحام مؤمنا. وَتَواصَوْا أوصى ونصح بعضهم بعضا. بِالصَّبْرِ على الطاعة، وعن المعصية. بِالْمَرْحَمَةِ الرحمة على الناس. أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات. أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين، وأصحاب طريق النجاة والسعادة. الْمَشْأَمَةِ الشمال، أصحاب طريق الشقاء. مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة عليهم. المناسبة: بعد توبيخ الإنسان وذمه على طبائع غريبة وعجيبة، أقام اللَّه تعالى الدليل على كمال قدرته بخلق الأعين واللسان والشفتين والعقل المميز بين الخير والشر، ومنحه الخيار للإنسان ليثبت ذاتيته، ويتحرر من عبودية أهوائه وشهواته، وليعرف البشر أنه تعالى مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل. ثم بيّن اللَّه تعالى أنه كان على الإنسان بعدئذ أن يشكر هذه النعم، ويختار طريق الخير والسعادة، فيبادر إلى الإيمان والعمل الصالح، ومنه إعتاق أو تحرير الرقاب، وإطعام الأيتام الأقارب والمساكين المحتاجين، والتواصي بالرحمة على الناس، وأدى اختيار الإنسان بالتالي إلى أن يكون من أحد الفريقين:

التفسير والبيان:

أصحاب اليمين والسعادة ومآلهم إلى الجنة، وأصحاب الشمال والشقاوة ومآلهم إلى النار. التفسير والبيان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ أي ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل المغرور بقوتك، المرائي بعملك بإنفاق المال طلبا للشهرة والسمعة، أمنحك العينين اللتين تبصر بهما، واللسان الذي تنطق به، والشفتين اللتين تستر بهما ثغرك، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهك وفمك، والمراد أنني أنا اللَّه الذي منحتك القدرة على البصر والنطق أو الكلام. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي ألم نبين لك ونعرفك طريق الخير والشر، فأودعنا في فطرتك السليمة أداة التمييز بينهما، وجعلنا لك من العقل والفكر ما تستطيع به إدراك محاسن الخير، ومفاسد الشر وأبعاد كل منهما. وعبّر عن هذين الطريقين بالنجدين: وهما الطريقان المرتفعان، للدلالة على صعوبتهما وعورتهما، واحتياجهما إلى مجاهدة النفس لعبورهما بشدة وسرعة. لذا أردفه ببيان وجوب اختيار الأفضل وشكر تلك النعم، فقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي فهلا نشط واخترق الموانع المانعة من طاعة اللَّه، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان، وهلا جاهد نفسه لاجتياز الطريق الصعب، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ استفهام للتفخيم والتعظيم. ثم أرشد إلى طريق اقتحامها فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي إن اقتحام العقبة ودخولها يكون بإعتاق الرقبة من العبودية، وتخليصها من إسار الرق، أو المعاونة عليه، أو إطعام في يوم المجاعة الذي يعز

فيه الطعام اليتيم القريب: وهو الصغير الذي فقد أباه، وكان قريبا في نسبه من المطعم، أو إطعام المسكين المحتاج الذي لا شيء له، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه، كأنه ألصق يده بالتراب، لفقد المال. فمن حرر الرقبة أو أطعم اليتيم أو المسكين في يوم المجاعة، كان طائعا للَّه، نافعا عباده، فهو من أصحاب اليمين. وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان. قال الصاوي على الجلالين: إنما قيّد الإطعام بيوم المجاعة لأن إخراج المال فيه أشد على النفس. وقد يستدل بقوله: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ للشافعي: أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا، وإلا وقع قوله: ذا مَتْرَبَةٍ تكرارا. وقد استدل أبو حنيفة بتقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة، وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة إنقاذ النفس من الهلاك فإن الغذاء قوام البدن، وأما الفك فهو تخليص من القيد في الأغلب. أخرج أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة، فهي فكاكه من النار» . وأخرج أحمد أيضا عن البراء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه، علّمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النّسمة وفكّ الرّقبة، فقال: يا رسول اللَّه، أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة: أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في عتقها» . وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» . ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي قام

بالأفعال الخيرية السابقة بعد أن آمن باللَّه ورسوله وكتبه واليوم الآخر، فإن هذه القربات إنما تنفع بشرط الإيمان، فكان من جملة المؤمنين العاملين صالحا: المتواصين بالصبر على أذى، وعلى الرحمة بهم، كما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الثابت: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «1» وفي الحديث الآخر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه اللَّه» «2» . والصبر يكون أيضا على طاعة اللَّه، وعن المعاصي، وعلى المصائب والبلايا. والرحمة على عباد اللَّه ترقق القلب، ومن كان رقيق القلب، عطف على اليتيم والمسكين، واستكثر من فعل الخير بالصدقة. ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء مبشرا بهم، فقال: أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات هم من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الجنة، كما قال تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة 56/ 27- 34] . ثم ذكر أضداد هؤلاء للمقارنة والعبرة، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي والذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والآيات الكونية الدالة على قدرتنا، هم أصحاب الشمال، وعليهم نار مطبقة مغلقة، وأصحاب الشمال هم أهل النار المشؤومة كما قال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ.. [الواقعة 56/ 41- 44] .

_ (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (2) أخرجه الشيخان والترمذي عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- جيء بآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ للتذكير بنعم اللَّه تعالى على الإنسان من البصر والنطق والجمال والعقل والفكر المميز بين الحق والباطل وبيان طريقي الخير والشر، وللدلالة على كمال قدرة اللَّه تعالى، ولبيان مبدأ اختيار الإنسان للإيمان والكفر أو السعادة والشقاوة أو الخير والشر، كما قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً، وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر 76/ 3] . 2- إن هذه النعم تقتضي الشكر عليها والاستعداد للنجاة في الآخرة، بالإيمان والعمل الصالح الشامل للتواصي بالصبر على التكاليف الشرعية، بطاعة اللَّه وعن معصيته وعلى البلايا والمحن، والتواصي بالمرحمة على الخلق أي التعاطف والتراحم، وتحرير الرقاب (العبيد) وإطعام اليتامى والأرامل والمساكين. وإخراج المال في وقت القحط والضرورة والجوع أثقل على النفس، وأوجب للأجر، لذا قال: ذِي مَسْغَبَةٍ كقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة 2/ 177] وقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الدهر 76/ 8] . والإيمان شرط قبول هذه الأعمال الخيرية، وإنما أخر للترقية من الأدنى إلى الأعلى، والترتيب ذكري، لا زماني. وهؤلاء أصحاب اليمين أهل الجنة، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. ويلاحظ أنه ذكر في باب الكمال أمرين: فك الرقبة والإطعام، والإيمان، وفي باب التكميل شيئين: التواصي بالصبر على الوظائف الدينية، والتواصي

بالتراحم، وكل من النوعين مشتمل على تعظيم أمر اللَّه، والشفقة على خلق اللَّه، إلا أنه في الأول قدم جانب الخلق، وفي الثاني قدم جانب الحق «1» . 3- ذكر اللَّه تعالى للمقابلة والمقارنة والعظة أصحاب الشمال بعد أصحاب اليمين، والفريق الأول هم الذين كفروا بالقرآن، وهم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم، ومصيرهم إلى النار التي تطبق وتغلق أبوابها عليهم.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 187، غرائب القرآن: 30/ 102

سورة الشمس:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشمس مكيّة، وهي خمس عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الشمس لافتتاحها بالقسم الإلهي بالشمس المنيرة المضيئة لآفاق النهار. مناسبتها لما قبلها: ترتبط السورة بما قبلها من وجهين: 1- ختم اللَّه سبحانه سورة البلد بتعريف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، ثم أوضح المراد من الفريقين في سورة الشمس بعمل كل منهما حيث قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها. 2- أبان اللَّه تعالى في آخر آيات السورة السابقة مصير أو مآل الكفار في الآخرة وهو النار، وذكر تعالى في أواخر هذه السورة عقاب بعض الكفار في الدنيا، وهو الهلاك، فاختتمت السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، واختتمت هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة الكلام عن موضوعين مهمين هما: 1- الإقسام بالمخلوقات الكونية العظيمة في العالم العلوي والسفلي وآلة التفكر

جزاء إصلاح النفس وإهمالها [سورة الشمس (91) الآيات 1 إلى 10] :

في ذلك وهو النفس على أحوال النفس الإنسانية، ودور الإنسان في تهذيبها، وتعويدها الأخلاق الفاضلة ليفوز وينجو، أو إهمالها وتركها بحسب هواها فيخيب. 2- ضرب المثل بثمود لمن دسّ نفسه وأهملها، فتمادت في الطغيان، فنزل بها العقاب الشديد وأهلكها ودمرها عيانا في الدنيا. والخلاصة: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي. جزاء إصلاح النفس وإهمالها [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) الإعراب: وَالشَّمْسِ وَضُحاها الواو الأولى واو القسم، وسائر الواوات عطف عليها، وجواب القسم: إما مقدر، وهو لتبعثن، أو هو قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي لقد أفلح من زكاها، وحذفت اللام لطول الكلام. وقال الزمخشري: تقدير الجواب: ليدمدمن اللَّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما دمدم على ثمود، أي أطبق عليهم العذاب لأنهم كذبوا صالحا، وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ... فكلام تابع لقوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء. إِذا في المواضع الثلاثة لمجرد الظرفية والعامل فيها فعل القسم. وَالسَّماءِ وَما بَناها ما إما مصدرية، أي وبنائها، أو بمعنى الذي، أي والذي

البلاغة:

بناها، وهو الأحسن أو بمعنى من أي ومن بناها، وقد جاءت (ما) بمعنى (من) قال أهل الحجاز للرعد: سبحان ما سبّحت له، أي سبحان من سبّحت له. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها دَسَّاها أصله: دسّسها، فاجتمعت الأمثال، فوجد الاستثقال، فأبدل من السين الأخيرة ياء، كما قالوا: قصّيت أظفاري، في قصصت، فصار (دسيها) ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. البلاغة: الشمس والقمر بينهما طباق، وكذا بين اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وبين فُجُورَها وَتَقْواها. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها مقابلة بينها وبين وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وكذا بين قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وبين وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها. والطباق والمقابلة من المحسنات البديعية، كما هو معروف. في السورة كلها سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: وَضُحاها قال مجاهد: هو ارتفاع الضوء وكماله، وقال أبو حيان: المعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلا، فإذا زاد فهو الضّحاء- بالمد وفتح الضاد: إلى الزوال. تَلاها تبعها، أي أن القمر يتبع الشمس طالعا عند غروبها. جَلَّاها أي جلّى الشمس وكشفها وأتم وضوحها. يَغْشاها يغشى الشمس فيغطي ضوءها بظلمته، أي يزيله ويحجبه. وَالسَّماءِ كل ما علاك وارتفع فوق رأسك فهو سماء، والمراد به الكون الذي فوقك، وفيه الكواكب. وَما بَناها أي ومن رفعها، وجعل كل كوكب بمنزلة لبنة من بناء سقف، قال الزمخشري والبيضاوي: وإنما أوثرت على (من) لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها. طَحاها بسطها، مثل دحاها. سَوَّاها أحكم خلقتها وتسويتها وتعديل أعضائها بخلق القوى والغرائز فيها، وجعل وظيفة لكل منها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عرّفها وأفهمها، وبيّن لها طريق الخير والشر. والفجور: الفسوق والشر وكل ما يؤدي إلى الخسارة والهلاك. والتقوى: التزام جادة الاستقامة، وإتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة.

التفسير والبيان:

أَفْلَحَ فاز ونجا وأدرك المطلوب. مَنْ زَكَّاها طهرها من الذنوب، وهذّبها ونمّاها بالعلم والعمل، وهو جواب القسم. خابَ خسر. دَسَّاها أهمل تهذيبها، والتدسية: النقص والإخفاء، فمن فعل الشر والمعصية، أنقص نفسه عن مرتبة الكمال، وأخفاها بالذنوب والمعاصي، وهي ضد التزكية. التفسير والبيان: أقسم اللَّه تعالى في مطلع هذه السورة بسبعة أشياء، فقال: 1- 2- وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي أقسم بالشمس المضيئة نفسها، سواء غابت أم طلعت لأنها شيء عظيم أبدعها اللَّه، وأقسم بضوئها وضحاها وهو وقت ارتفاع الشمس بعد طلوعها إذا تم ضوؤها لأنه مبعث حياة الأحياء. وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها، وبخاصة في الليالي البيض: وهي الليالي الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة وقت امتلائه وصيرورته بدرا بعد غروب الشمس إلى الفجر. وهذا قسم بالضوء وقت الليل كله. 3- 4- وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي وأقسم بالنهار إذا جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها، ففي اكتمال النهار كمال وضوح الشمس، وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته، فيزيل الضوء وتغيب الشمس، وتظلم الدنيا في نصف الكرة الأرضية، ثم تطلع في النصف الآخر. وفي هذا التبدل والتغير رد على المشركين الذين يؤلهون الكواكب، والثنوية الذين يقولون بأن للعالم إلهين اثنين: النور والظلمة لأن الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.

وبعد التنويه بعظم هذه الأشياء الكونية، ذكر اللَّه تعالى صفات حدوثها، فقال: 5- 6- وَالسَّماءِ وَما بَناها، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي وأقسم بالسماء وبناء اللَّه تعالى لها بالكواكب، كأن كل كوكب لبنة في سقف أو قبّة تحيط بالأرض وأهلها. وأقسم بالأرض كوكب الحياة البشرية والذي بسطها من كل جانب، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى مثل قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات 79/ 30] أي بسطها، والطحو كالدحو وهو البسط، ثم مكّن الناس من الانتفاع بها ظاهرا بالنبات، وباطنا بالمعادن والثروات. ونظير الآية: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة 2/ 22] . وختم الأشياء المحلوف بها بالنفس البشرية التي خلقت هذه الأشياء من أجلها، وكونها أداة الانتفاع بها ووسيلة ترقي الحياة وتقدمها، فقال: 7- وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي وأقسم بالنفس الإنسانية، والذي خلقها سوية، مستقيمة، على الفطرة القويمة، وتسويتها: إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، والقوى الطبيعية، أي تعديل أعظائها، وتزويدها بطاقات وقوى ظاهرية وباطنية متعددة، وتحديد وظيفة لكل عضو فيها. ثم إنه تعالى عرّف هذه النفس وأفهمها ما هو شر وفجور، وما هو خير وتقوى، وما فيهما من قبح وحسن، لتمييز الخير من الشر، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر. ويعضده ما بعده: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها. وهذا قول المعتزلة، وقال أهل السنة: الضميران في قوله تعالى: فَأَلْهَمَها وقوله: وَهَدَيْناهُ للَّه تعالى، والمعنى: قد سعدت نفس زكاها اللَّه تعالى،

وخلقها طاهرة، وخابت نفس دسّاها اللَّه، وخلقها كافرة فاجرة «1» . والظاهر التفسير الأول، بدليل ما قال ابن كثير: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها: أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي بيّن لها ذلك، وهداها إلى ما قدّر لها «2» . وقال ابن عباس: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها بيّن لها الخير والشر «3» . وهذا دليل على مبدأ الاختيار للإنسان. ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء ما تختاره النفس، فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي قد فاز بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب من زكى نفسه فهذبها ونمّاها وأعلاها بالتقوى والعمل الصالح، وقد خسر من أضل نفسه وأغواها وأهملها وأخملها، ولم يهذبها، ولم يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح. وهذا جواب القسم الذي افتتحت به السورة. روى الطبراني عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرّ بهذه الآية: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وقف وقال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وخير من زكاها» . وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها: قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» . وروى الإمام أحمد عن عائشة: أنها فقدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه، وهو ساجد، وهو يقول: «رب أعط نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها» .

_ (1) وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي. [.....] (2) تفسير ابن كثير: 4/ 516 (3) المرجع السابق، وهذا أيضا قول مجاهد وقتادة والضحاك والثوري.

فقه الحياة أو الأحكام:

وروى أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمناهن ونحن نعلمكموها. فقه الحياة أو الأحكام: أقسم اللَّه تعالى بسبعة أشياء: لقد أفلح وفاز من زكى نفسه بالطاعة، وخسرت نفس أهملها صاحبها وتركها تنغمس في المعصية. والأشياء السبعة: هي الشمس وضوؤها وإشراقها، وهو قسم ثان، والقمر إذا تبع بالطلوع الشمس بعد غروبها، فاستوى واستدار، وكان مثلها في الضياء والنور، والنهار إذا جلّى أو كشف الشمس، أي أبان بضوئه جرمها، والليل إذا يغشى الشمس، أي يذهب بضوئها عند غروبها، والسماء وبنيانها وبانيها وهو اللَّه، والأرض ومن طحاها أي بسطها، والنفس الإنسانية وتسويتها ومن سوّاها وهو اللَّه عز وجل، بأن عدّلها وزوّدها بالأعضاء المتناسبة، وبالقوى العضلية والفكرية والحسية، وعرّفها طريق الفجور والتقوى، وسلوك سبيل الخير والشر، والطاعة والمعصية. وقد أقسم اللَّه عز وجل بهذه المخلوقات لما فيها من عجائب الصنعة الدالة عليه، وأراد أن ينبه عباده دائما بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة، حتى يتأمل المكلف فيها، ويشكر عليها لأن الذي يقسم اللَّه تعالى به يحصل له وقع في القلب، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 188

العظة بقصة ثمود [سورة الشمس (91) الآيات 11 إلى 15] :

العظة بقصة ثمود [سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) الإعراب: فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها سوّاها: تعود على الدمدمة، وَلا يَخافُ عُقْباها في موضع نصب على الحال، وتقديره: سوّاها غير خائف عاقبتها. البلاغة: ناقَةَ اللَّهِ الإضافة للتكريم والتشريف. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ تهويل، فالتعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب. المفردات اللغوية: بِطَغْواها أي بسبب طغيانها، والطغوى والطغيان: تجاوز الحد المعتاد. إِذِ انْبَعَثَ حين أسرع أو قام، وهو ظرف لكذّبت أو طغوى. أَشْقاها أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف، الشخص الذي عقر الناقة. رَسُولُ اللَّهِ صالح عليه السلام. ناقَةَ اللَّهِ أي ذروا ناقة اللَّه، واحذروا التعرض لها وعقرها. وَسُقْياها شربها الخاص بها في يومها، فلا تذودوها عنها. فَكَذَّبُوهُ فيما حذرهم من حلول العذاب إن فعلوا. فَعَقَرُوها نحروها أو ذبحوها. فَدَمْدَمَ فأطبق عليهم العذاب. فَسَوَّاها سوى الدمدمة عليهم أي عمهم بها، فلم يفلت منها صغير ولا كبير. عُقْباها عاقبتها وتبعتها. أي عاقبة الدمدمة. المناسبة: بعد الحلف بأشياء عظيمة على فوز من زكّى نفسه وهذبها وطهرها من الذنوب، وخيبة وخسار من أهملها وتركها تعيث في الأرض فسادا بفعل المعاصي، وترك فعل الخير، وعظهم اللَّه تعالى بقصة ثمود، لقربها من ديار

التفسير والبيان:

العرب، ليحذروا معاندة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتكذيبه، وإلا حلّ بهم ما حلّ بأمثالهم من الأمم السابقة. التفسير والبيان: يخبر اللَّه تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي، فيقول: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي كذبت قبيلة ثمود نبيها صالحا عليه السلام بسبب طغيانها وبغيها، فإنه الذي حملها على التكذيب. والطغيان: مجاوزة الحد في المعاصي. وذلك حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف، أحيمر ثمود، فعقر الناقة، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل، فكان عقرها دليلا على تكذيبهم جميعا لنبيهم، وبرهانا على صدق رسالته إذ حلّ بهم العذاب الذي أوعدهم به. ونظير الآية: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر 54/ 29] . وكان أشقى ثمود عزيزا فيهم، شريفا في قومه، نسيبا رئيسا مطاعا، كما ذكر أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن زمعة قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر الناقة، وذكر الذي عقرها، فقال: «إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه، مثل أبي زمعة» . ثم يذكر اللَّه تعالى ما توعدهم به رسولهم على فعلهم، فيقول: «فقال لهم رسول اللَّه: ناقة اللَّه، وسقياها» أي فقال لهم أي للجماعة الأشقياء النبي صالح عليه السلام: ذروا ناقة اللَّه واحذروا التعرض لها أو أن تمسوها بسوء، واتركوها وتناولها شربها من الماء المخصص لها، فإن لها شرب يوم، ولكم شرب يوم معلوم، ولا تتعرضوا لها يوم شربها.

فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها أي فكذبوه في تحذيره إياهم من العذاب، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب، فعقر الأشقى الناقة، وجميع قومه رضوا بما فعل. أو كذبوه فيما جاءهم به، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها اللَّه لهم من الصخرة آية لهم وحجة عليهم. ثم يبين ما عوقبوا به، فيقول: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها أي فأطبق عليهم العذاب وأهلكهم، وغضب عليهم فدمر عليهم، فسوّى الدمدمة عليهم، وعمّهم بها، أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم. قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، فلما اشترك القوم في عقرها، دمدم اللَّه عليهم بذنبهم، فسواها. وقد فعل اللَّه ذلك بهم، وأهلكهم، غير خائف هذا الأشقى من عاقبة ولا تبعة، أي فإنه تجرأ على عقر الناقة دون أن يخاف الذي عقرها عاقبة إهلاك قومه، وعاقبة ما صنع، والمراد بذلك أنه أقدم على عقرها، وهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه. وقال ابن عباس: لا يخاف اللَّه من أحد تبعة. قال ابن كثير: وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه. وقال أبو حيان: الظاهر عود الضمير إلى أقرب مذكور، وهو رَبُّهُمْ أي لا درك عليه تعالى في فعله بهم، لا يسأل عما يفعل، قال ابن عباس والحسن، وفيه ذم لهم وتعقبة لآثارهم. والمراد أن اللَّه لا يخاف عاقبة ما فعل بهم لأنه عادل في حكمه. وقال الزمخشري: ولا يخاف اللَّه عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقب من الملوك، فيبقي بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود، على معنى: فسوّاها بالأرض أو في الهلاك، ولا يخاف عقبى هلاكها.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: هذا خبر قاطع من اللَّه العلي القدير، أخبرنا به عن قبيلة ثمود التي تجاوزت الحد بطغيانها وهو خروجها عن الحد في العصيان. وذلك حين نهض أشقاها لعقر الناقة، واسمه قدار بن سالف. ولكنّ رسولهم صالحا عليه السلام حذرهم عاقبة فعلهم، وقال لهم: احذروا عقر ناقة اللَّه، وذروها، كما قال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف 7/ 73] وذروها وشربها المخصص لها في يومها. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها اللَّه لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشقّ عليهم. وكذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: «إنكم تعذّبون إن عقرتموها» فعقرها الأشقى، وأضيف العقر إلى الكل بقوله: فَعَقَرُوها لأنهم رضوا بفعله. والجرم وهو العقر وتكذيب النبي يستدعيان بلا شك عقابا صارما، فكان العقاب أن أهلكهم اللَّه، وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب. والعقر، وسوّى عليهم الأرض، أو سوى الدمدمة والإهلاك عليهم لأن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم. والعبرة من ذلك أن اللَّه فعل بهم ما فعل غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد، كما قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وهاء عُقْباها ترجع إلى الفعلة. وقال السدّي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع.

سورة الليل:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الليل مكيّة، وهي إحدى وعشرون آية. تسميتها: سميت سورة الليل لافتتاحها بإقسام اللَّه تعالى بالليل إذا يغشى، أي يغطي الكون بظلامه، ويستر الشمس والنهار والأرض والوجود بحجابه. مناسبتها لما قبلها: لما ذكر في سورة الشمس قبلها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح، وما تحصل به الخيبة بقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى.. فهي كالتفصيل لما قبلها. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة. ما اشتملت عليه السورة: محور السورة سعي الإنسان وعمله وجزاؤه في الآخرة. افتتحت السورة بالقسم بالليل والنهار وخالق الذكر والأنثى على أن عمل الناس مختلف، فمنهم التقي ومنهم الشقي، ومنهم المؤمن ومنهم الفاجر: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى.. [الآيات 1- 4] .

فضلها:

ثم أوضحت أن الناس فريقان، وحددت منهج وطريق كل فريق، وجزاء كل منهم في الآخرة: أهل الإيمان والسعادة والجنة: وهم الذين بذلوا المال وصدقوا بوعد اللَّه في الآخرة، وأهل الكفر والشقاوة والنار: وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا عن ربهم عز وجل، وأنكروا ما وعد اللَّه به من الجنة: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. [الآيات 5- 10] . وأعقبت ذلك ببيان عدم جدوى المال في الآخرة، وأن اللَّه واضع دستور الهداية، وأنه مالك الدنيا والآخرة: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [11- 13] ودلّ هذا التحذير من عذاب اللَّه والإنذار بالنار على أنه العقاب المستحق لكل من كذب بآيات اللَّه تعالى وبرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى.. [14- 16] . يبذل ماله في طرق الخير مخلصا لوجه اللَّه، دون قصد مكافأة أحد، ولا لمصلحة دنيوية عند إنسان، وذلكم المثال هو أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى.. [الآيات 17- 21] . فضلها: تقدم حديث جابر في الصحيحين أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لمعاذ: «فهلّا صلّيت ب: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» .

اختلاف مسعى الناس [سورة الليل (92) الآيات 1 إلى 11] :

اختلاف مسعى الناس [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) الإعراب: إِذا يَغْشى، إِذا تَجَلَّى إِذا في الموضعين: لمجرد الظرفية، والعامل فيها فعل القسم. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما: فيها ثلاثة أوجه كما في السورة السابقة. وَما بَناها إما أن تكون مصدرية، أو بمعنى الذي وهو الأولى، أو بمعنى (من) . ويجوز الجر في الذكر والأنثى على البدل من ما. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جواب القسم. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ ما: نافية. البلاغة: اللَّيْلِ والنَّهارِ بينهما طباق، وكذا بين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وبين (اليسرى، والعسرى) وبين صَدَّقَ وكَذَّبَ. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى بينهما مقابلة، والمقابلة والطباق من المحسنات البديعية. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بينهما جناس اشتقاق. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى حذف المفعول لإفادة التعميم وإطالة التأمل.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: يَغْشى يغطي كل شيء بظلامه. تَجَلَّى ظهر وانكشف. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق آدم وحواء وكل ذكر وأنثى في الإنسان والحيوان والنبات. سَعْيَكُمْ عملكم أو مسعاكم. لَشَتَّى مختلف متفرق، جمع شتيت: وهو المتباعد عن غيره. واختلاف المنهج والمسعى إما بالعمل للجنة بالطاعة، أو للنار بالمعصية. أَعْطى بذل المال. وَاتَّقى التزم الأوامر وفعل الخير، واجتنب النواهي والشر. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى بالكلمة أو الخصلة الحسنى- صفة تأنيث الأحسن، وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا اللَّه، والجنة والثواب، وكل فضيلة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون والتي تؤدي إلى الخير، وذلك في الدنيا والآخرة، كدخول الجنة. بَخِلَ أمسك المال وشح به ولم يؤد حق اللَّه فيه. وَاسْتَغْنى عن ربه عز وجل وعن الثواب. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى نهيئه للحالة السيئة في الدنيا والآخرة التي لا تنتج إلا شرا. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ لا يفيده ماله وغناه. إِذا تَرَدَّى هوى وسقط في النار أو في القبر. سبب النزول: نزول الآية (5) : فَأَمَّا مَنْ أَعْطى..: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي اللَّه عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء، يقومون معك. ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد ما عند اللَّه، فنزلت هذه الآيات فيه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. إلى آخر السورة. نزول الآية (8) : وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ: قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا، وبالنهار متى ظهر وانكشف ووضح، لزوال ظلمة الليل، والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس، من الناس وغيرهم، كقوله تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ 78/ 8] . ولم يذكر مفعول يَغْشى للعلم به، وقيل: يغشى النهار، أو الخلائق أو الأرض أو كل شيء بظلمته. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا هو المحلوف عليه جواب القسم، أي إن أعمال العباد مختلفة متباعدة، فمن فاعل خيرا، ومن فاعل شرا، وبعض الأعمال ضلال وبعضها هدى، وبعضها يوجب الجنة، وبعضها يوجب النار. ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة 32/ 18] وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 45/ 21] . ثم فصل أحوال الناس وقسمتهم فريقين، فقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فأما من بذل ماله في وجوه الخير، واتقى محارم اللَّه التي نهى عنها، وصدق بموعود اللَّه الذي وعده عوضا عن الإيمان والنفقة الخيرية، فإنا نسهل عليه كل ما كلّف به من الأفعال والتروك، ونهيئه للخطة السهلة التي تؤدي به إلى الخير، ونيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بطاعة اللَّه.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وأما من بخل بماله، فلم يبذله في سبل الخير، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وزهد في الأجر والثواب وفضل اللَّه، وكذّب بالجزاء في الدار الآخرة، فسنهيئه للخصلة العسرى والطريقة الصعبة التي لا تنتج إلا شرا، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، حتى يصل إلى النار، ولا يغني عنه شيئا ماله الذي بخل به، إذا سقط في جهنم. ويلاحظ أن التيسير والبشارة في الأصل على الشيء المفرح والسّاتر، لكن إذا جمع في الكلام بين خير وشر، جاء التيسير والبشارة فيهما جميعا. أخرج البخاري ومسلّم عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى. وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى «1» . فقه الحياة أو الأحكام: أقسم اللَّه عز وجل بالليل حينما يغطّي كل شيء بظلامه، وبالنهار إذا انكشف ووضح وظهر، وبالذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل، على أن عمل الناس مختلف في الجزاء، فبعضهم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص، وبعضهم في هدى أو في ضلال، وبعضهم ساع في فكاك نفسه من النار، وبعضهم بائع نفسه فموبقها في المعاصي، كما ذكر الثعلبي من قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الناس غاديان: فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها» .

_ (1) انظر تفسير ابن كثير: 4/ 518- 519

ثم أوضح سبحانه معنى اختلاف الأعمال المذكور من العاقبة المحمودة والمذمومة، والثواب والعقاب، وذكر فريقين: الأول- من بذل ماله في سبيل اللَّه، وأعطى حق اللَّه عليه، واتقى المحارم والمنكرات، وصدّق بوعد اللَّه بالعوض على عطائه، فاللَّه يهيئ له الطريق اليسرى السهلة للوصول إلى غايته، ويرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . والثاني- من ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيرا، وكذلك بتعويض اللَّه، فاللَّه يسهل طريقه للشر، ويعسّر عليه أسباب الخير والصلاح، حتى يصعب عليه فعلها. قال العلماء: ثبت بهذه الآية: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ.. وبقوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة 2/ 3] وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة 2/ 274] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها، والجواد: هو الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل: هو الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا، فهو الجواد، وكل من استحق ذما أو عقابا، فهو البخيل، والمسرف المذموم، وهو من المبذّرين الذين جعلهم اللَّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم «1» . ولا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 84- 85

قد أعذر من أنذر [سورة الليل (92) الآيات 12 إلى 21] :

قد أعذر من أنذر [سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) الإعراب: يَتَزَكَّى بدل من يُؤْتِي أو حال من فاعله. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ابْتِغاءَ منصوب لأنه استثناء منقطع، وهو قول أكثر النحويين لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة، أي لكن ابتغاء. البلاغة: الْأَشْقَى والْأَتْقَى بينهما طباق. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى سجع رصين غير متكلف. المفردات اللغوية: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى علينا الإرشاد إلى الحق، بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي للَّه الآخرة والدنيا، نعطي ما نشاء لمن نشاء، فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ، ولا يضرنا ترك الاهتداء. فَأَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم. تَلَظَّى تتلظى أي تتوقد وتتلهب. لا يَصْلاها لا يدخلها ولا يحترق بها إلى الأبد. إِلَّا الْأَشْقَى الشقي الكافر كأبي جهل وأمية بن خلف، أما الفاسق وإن دخلها فلا يلزمها. كَذَّبَ كذب النبي فيما جاء به. وَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان والطاعة لربه. وَسَيُجَنَّبُهَا يبعد عنها. الْأَتْقَى التقي الذي اتقى الكفر والمعاصي. يَتَزَكَّى يتطهر بأن يخرجه للَّه تعالى، لا رياء ولا سمعة، فيكون زاكيا عند اللَّه. تُجْزى تكافأ وتجازى. إِلَّا لكن فعل ذلك. ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي طلب ثواب اللَّه. وَلَسَوْفَ يَرْضى بما يعطاه من الثواب في الجنة. والآية تشمل كل من فعل مثل هذا، فيبعد عن النار ويثاب.

سبب النزول:

سبب النزول: نزول الآية (17) : وَسَيُجَنَّبُهَا..: أخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في اللَّه، وفيه نزلت: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة. نزول الآية (19) : وَما لِأَحَدٍ..: روى عطاء عن ابن عباس قال: إن بلالا لما أسلّم، ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان عبدا لعبد اللَّه بن جدعان، فشكا إليه المشركون ما فعل، فوهبه لهم، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحد فمرّ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ينجيك أحد أحد. ثم أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر: أن بلالا يعذّب في اللَّه، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب، فابتاعه به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل اللَّه تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «1» . وأخرج البزار عن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى.. إلى آخرها، في أبي بكر الصديق. المناسبة: بعد أن عرّف اللَّه تعالى أن سعي الناس شتى في العواقب، وبيّن ما للمحسن من اليسرى وما للمسيء من العسرى، أخبر أنه قد قام بما عليه من البيان والدلالة، والترغيب والترهيب، والإرشاد والهداية، وأعلم أنه مالك الدنيا

_ (1) أسباب النزول للنيسابوري: ص 255 وما بعدها.

التفسير والبيان:

والآخرة، ولا يزيد في ملكه اهتداء الناس، ولا يضره ترك اهتداءهم بهداه، ويعطي ما يشاء لمن يشاء، فتطلب سعادة الدارين منه. ثم أنذر الناس جميعا بعذاب النار، وأبان من يصلاها ويحترق بها، ومن يبعد عنها ويسلّم من عذابها، وقد أعذر من أنذر. التفسير والبيان: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال، والحلال من الحرام، والحق من الباطل، والخير من الشر، من طريق الأنبياء وإنزال الكتب التي فيها تشريع الأحكام، وتبيان العقائد والعبادات والأخلاق وأنظمة المعاملات. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي لنا كل ما في الآخرة، وكل ما في الدنيا، نتصرف به كيف نشاء، فمن أراد شيئا من الدارين، فليطلبه منا، نهب ونعطي ما نشاء لمن نشاء، ولا يضرنا ترك الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤهم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم أيها الناس. ومن ملك الدنيا والآخرة وكان هو المتصرف فيهما، كان هديه وشرعه هو الذي يجب اتباعه. ثم حذر من سلوك طريق النار، فقال: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي لقد خوفتكم نارا عظيمة شديدة تتوهج وتتلهب، لا يدخلها ويذوق حرها إلا الكافر الذي كذب الحق الذي جاءت به الرسل، وكذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما جاء به عن ربه، وأعرض عن الإيمان باللَّه واتباع شرائعه وأحكامه، وطاعة أوامره. وأبان سبيل النجاة من النار، فقال: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي وسيباعد عن النار

المتقي للكفر والمعاصي اتقاء بالغا، قال الواحدي كما مر: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين، أي إنها نزلت فيه، وإلا فحكمها عام. وهذا الأتقى هو الذي ينفق ماله ويعطيه في وجوه الخير، طالبا أن يكون عند اللَّه زكيا متطهرا نقيا من الذنوب، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة، ولا مديحا وثناء من الناس. روى الإمام أحمد والبخاري عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة: رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» . وروى مسلم الحديث بلفظ آخر: «إن أهون أهل النار عذابا: من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يريد أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا» . وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك للَّه معصية» . وروى أحمد أيضا والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول اللَّه؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» . ثم ذكر صفة الإخلاص في العمل، فقال: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى، وَلَسَوْفَ يَرْضى» أي لا يتصدق بماله مقابل نعمة لأحد من الناس عليه، يكافئه عليها، وإنما يريد بذلك طلب رضوان اللَّه ومثوبته، لا لمكافأة نعمة، وتاللَّه لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.

فقه الحياة أو الأحكام:

جاء في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أنفق زوجين في سبيل اللَّه، دعته خزنة الجنة: يا عبد اللَّه هذا خير، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- اقتضت حكمة اللَّه تعالى ورحمته بعباده أن يبين لهم كل ما هو رشاد وهداية موصلة إلى جنته ورضاه، وقد تعهد اللَّه عز وجل بذلك لبيان أحكام الحلال والحرام، والطاعة والمعصية. 2- للَّه تعالى ملك الدنيا والآخرة، وهو المتصرف فيهما، ومانح ثوابهما، يعطي ما يشاء لمن يشاء، فمن طلبهما من غير مالكهما ومن غير المتصرف فيهما، فقد أخطأ الطريق. ولا يضره عصيان العاصين، ولا ينفعه طاعة المطيعين، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم. 3- حذر اللَّه تعالى بعد هذه البيانات الوافية من نار جهنم التي تتوهج وتتوقد، ولا يجد صلاها وهو حرها على الدوام إلا الشقي الكافر الذي كذّب نبي اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأعرض عن الإيمان. 4- سيكون بعيدا من النار المتقي المعاصي، الخائف من عذاب اللَّه، وصفة الأتقى أو المتقي: هو الذي يعطي ماله طالبا أن يكون عند اللَّه زاكيا طاهرا متطهرا من الآثام والذنوب، لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، ولا مكافأة لأحد، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللَّه تعالى، قاصدا ثوابه ورضاه، ولسوف يرضى عن اللَّه، ويرضى اللَّه عنه، فيكون راضيا مرضيا. وهو وعد كريم من رب رحيم.

والخلاصة: أن كلا من الأتقى والأشقى يشمل قسمين، فالأتقى: يشمل المؤمن البار الذي ابتعد عن الفواحش كلها، والمؤمن الذي يذنب أحيانا فيتوب ويندم، وثواب كل منهما الجنة. والأشقى: يشمل الكافر الجاحد باللَّه وبرسله وبما أنزل عليه، والمسلم الذي آمن في قلبه باللَّه ورسله، ولكنه يصر على بعض المعاصي والسيئات ولا يتوب منها، وهذا دليل على نقص تصديقه، بدليل قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه ابن ماجه: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» . والأول مخلّد في النار، والثاني معذب فيها على وفق مشيئة اللَّه، ثم يخرج إلى الجنة. وأما صفة الأتقى والأشقى فهو كلام وارد على سبيل المبالغة. قال الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل: الْأَشْقَى وجعل مختصا بالصلي، كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل: الْأَتْقَى وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضي اللَّه عنه «1» . أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار إلا من شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل للَّه تعالى طاعة، ولا يترك للَّه تعالى معصية» .

_ (1) الكشاف: 3/ 344

سورة الضحى:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الضحى مكيّة، وهي إحدى عشرة آية. تسميتها: سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها، حيث أقسم اللَّه بالضحى: وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، تنويها بهذا الوقت المهم الذي هو نور، ولأنها نزلت في شأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فافتتحت بالضحى. ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل، افتتحت بالليل. مناسبتها لما قبلها: هذه السورة متصلة بسورة الليل من وجهين: 1- ختمت سورة الليل بوعد كريم من اللَّه تعالى بإرضاء الأتقى في الآخرة، وقال تعالى في سورة الضحى مؤكدا وعده لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. 2- ذكر تعالى في السورة السابقة: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على سيد الأتقياء في هذه السورة وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. ما اشتملت عليه السورة: موضوع سورة الضحى المكية الحديث عن شخصية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقد تضمنت أربعة مقاصد:

فضلها:

1- ابتدأت بالقسم الإلهي العظيم على أن اللَّه عز وجل ما قلا رسوله ولا أبغضه، ولا هجره ولا تركه، وإنما هو محل العناية الربانية، وهو عظيم القدر عند اللَّه تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ... [الآيات: 1- 4] . 2- بشّره ربه بالعطاء الجمّ في الآخرة ومنه الشفاعة العظمى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [5] . 3- عددت نعم اللَّه على نبيه منذ صغره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ... [الآيات: 6- 8] . 4- ختمت بإيصائه بفضائل ثلاث: العطف على اليتيم، وصلة المسكين، وشكر النعمة العظمى وهي النبوة وغيرها من هذه النعم المذكورة: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [9- 11] . فضلها: ثبت عن الإمام الشافعي أنه يسن التكبير بأن يقول «اللَّه أكبر» أو «اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر» عقب قراءة سورة والضحى وخاتمة كل سورة بعدها. وذكر القراء في مناسبة التكبير: أنه لما تأخر الوحي عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفتر مدة، ثم جاء الملك، فأوحى إليه: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبّر فرحا وسرورا. قال ابن كثير: ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.

نعم الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وسلم [سورة الضحى (93) الآيات 1 إلى 11] :

نعم اللَّه تعالى على النبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) الإعراب: وَالضُّحى قسم، وجواب القسم: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى والتوديع: مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وقرئ: وَدَّعَكَ أي تركك. وما قَلى أي ما قلاك أي ما أبغضك، فحذف الكاف وهي مفعول، كما حذف الكاف التي هي المفعول من قوله: فَآوى أي فآواك، وفي قوله: فَأَغْنى أي فأغناك، والحذف للتخفيف كثير. وهنا حذفت المفاعيل رعاية للفواصل. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ دخلت اللام على «سوف» دون السين لأن «سوف» أشبهت الاسم لأنها على ثلاثة أحرف. ولما دخلت اللام عليها علم أنها لام قسم، لا لام ابتداء، لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف» . ويُعْطِيكَ فعل متعد إلى مفعولين، وحذف هنا أحدهما، وتقديره: ولسوف يعطيك ربك ما تريده، فترضى. وهو من الأفعال التي يجوز الاقتصار فيها على أحد المفعولين دون الآخرة، فيجوز أن تقول في (أعطيت زيدا درهما) : (أعطيت زيدا) . فَأَمَّا الْيَتِيمَ وَأَمَّا السَّائِلَ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الْيَتِيمَ مفعول تَقْهَرْ، والسَّائِلَ مفعول تَنْهَرْ، والباء في بِنِعْمَةِ تتعلق ب فَحَدِّثْ والفاء في فَلا تَقْهَرْ، وفَلا تَنْهَرْ، وفَحَدِّثْ جواب أَمَّا في هذه المواضع لأن فيها معنى الشرط. البلاغة: لَلْآخِرَةُ والْأُولى بينهما طباق أي بين الآخرة والدنيا.

المفردات اللغوية:

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى مقابلة بينها وبين فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. تَقْهَرْ وتَنْهَرْ جناس ناقص لتغير الحرف الثاني من الكلمة. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى سجع مرصّع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: وَالضُّحى وقت ارتفاع الشمس أول النهار. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى سكن وغطى بظلامه الأشياء. وإنما قدم ذكر الليل في السورة السابقة، وأخره في هذه السورة، للتنويه بفضيلة كل واحد من الليل والنهار، فالليل له فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فيقدم هذا تارة، وهذا تارة أخرى. وإنما حلف بالضحى والليل فقط للتنويه بقيمة الزمان الذي يدل عليه مرور النهار والليل. وخص وقت الضحى بالذكر لأنه وقت اجتماع الناس، وكمال الأنس بعد وحشة زمان الليل. وذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل كله إشارة إلى أن ساعة من النهار في الإنتاج توازي جميع الليل، كما أن محمدا إذا قورن بغيره يوازي جميع الأنبياء «1» . ما وَدَّعَكَ ما قطعك أو فارقك قطع المودّع أو مفارقته، وقرئ وَدَّعَكَ بالتخفيف، أي تركك. وهو جواب القسم. وَما قَلى ما أبغضك ربك، والقلى: شدة الكره، وقد نزل هذا لما قال الكفار عند تأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما: إن ربه ودعه وقلاه. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى لما فيها من الكرامات، ولأنها باقية خالصة عن الشوائب، والدنيا فانية مشوبة بالمضارّ. وهذا تنويه بقدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإعداده للنبوة، ومواصلته بالوحي والكرامة في الدنيا، والإخبار بعلو منزلته في الآخرة، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى يعطيك ربك في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا، فترضى به، وهو وعد شامل بالعطاء الجزيل، ومنه الشفاعة العظمى، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الخطيب في تلخيص المتشابه: «إذن لا أرضى، وواحد من أمتي في النار» . وهذا تمام جواب القسم بمثبتين بعد منفيين. أَلَمْ يَجِدْكَ استفهام تقرير، أي وجدك يَتِيماً بفقد أبيك قبل ولادتك أو بعدها. فَآوى ضمك إلى عمك أبي طالب. وهذا وما بعده تعداد لما أنعم اللَّه به على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى، يحسن إليه فيما يستقبل. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لا يمكن حمل الضلال هنا على ما يقابل الهدى لأن الأنبياء معصومون من ذلك، قال العلماء: إنه ما كفر

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 207- 208

سبب النزول:

باللَّه طرفة عين، وإنما المراد بالضلال: الخطأ في معرفة أحكام الشرائع، فهداه إلى مناهجها وكيفياتها. والمراد: الحيدة عن معالم الشريعة الحنيفية، كقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى 42/ 52] . عائِلًا فقيرا. فَأَغْنى بالقناعة بربح التجارة وغيرها، جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» . فَلا تَقْهَرْ فلا تستذله وتستضعفه بأخذ ماله أو بتسخيره ونحو ذلك. فَلا تَنْهَرْ تزجره لفقره. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي نعمته عليك بالنبوة وغيرها. فَحَدِّثْ أخبر واشكر مولاك سبب النزول: نزول الآية (1) وما بعدها: أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ، وَما قَلى. وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون: قد ودّع محمد، فنزلت. وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه جبريل، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى.. الآيات. وأخرج ابن جرير عن عبد اللَّه بن شداد: أن خديجة قالت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت. والخبر مرسل، ورواته ثقات. قال الحافظ ابن حجر: فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالته شماتة، وخديجة قالته توجعا. والخلاصة: أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون: قلاه اللَّه وودّعه فنزلت الآية.

نزول الآية (4) :

نزول الآية (4) : وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ..: أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرّني» فأنزل اللَّه: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وإسناده حسن. نزول الآية (5) : أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هو مفتوح على أمته كفرا كفرا- أي قرية قرية- فسرّ به، فأنزل اللَّه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. التفسير والبيان: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي قسما بالضحى: وقت ارتفاع الشمس أول النهار، والمراد به النهار، لمقابلته بالليل، وبالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار مثلما يسجّى الرجل بالثوب، ما قطعك ربك قطع المودّع، وما تركك، ولم يقطع عنك الوحي، وما أبغضك وما كرهك، كما يزعم بعضهم أو تتوهم في نفسك. وهذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه إذ لو كان من عنده لما توقف. ثم بشره بأن مستقبله أفضل من ماضيه، فقال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، إذا فرض انقطاع الوحي وحصل الموت، وكذلك فإن أحوالك الآتية خير لك من الماضية، وأن كل يوم تزداد عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فلا تظن أني قليتك، بل تكون كل يوم يأتي أسمى وأرفع، فإني أزيدك رفعة وسموا، وإن شرف الدنيا يصغر عنده كل شرف، ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا.

أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: اضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، وقلت: يا رسول اللَّه، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، ظلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها» . وبشره بعطاء جزيل فقال: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي ولسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين، وأما في الآخرة فهو الثواب والحوض والشفاعة لأمتك، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق العلو والسمو في الدارين، فيعلو دينه على كل الأديان، ويرتفع قدره على جميع الأنبياء والناس بالشفاعة العظمى يوم العرض الأكبر يوم القيامة. وإنما أتى بحرف التوكيد والتأخير، ليفيد بأن العطاء كائن لا محالة، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة. ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل إرساله، وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك، فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك، فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك، فجعل لك مأوى تأوي إليه، وهو بيت جدك عبد المطلب وعمك أبي طالب، فإنه فقد أباه وهو في بطن أمه، أو بعد ولادته، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي، وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره بعد أن ابتعثه اللَّه على رأس أربعين سنة.

ووجدك غافلا عن أحكام الشرائع حائرا في معرفة أصح العقائد، فهداك لذلك، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا الآية [الشورى 42/ 52] . ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة، وبما منحك اللَّه من البركة والقناعة، أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» . وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه اللَّه بما آتاه» . روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى قال: كانت هذه منازل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يبعثه اللَّه عز وجل. ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الاجتماعية وبشكره على هذه النعم، فقال: 1- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي كما كنت يتيما فآواك اللَّه، فلا تستذل اليتيم وتهنه وتتسلط عليه بالظلم لضعفه، بل أدّه حقه، وأحسن إليه، وتلطف به، واذكر يتمك. لذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا. 2- وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي وكما كنت ضالا، فهداك اللَّه، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم، وطلب المال، ولا تزجره، بل أجبه أورد عليه ردا جميلا. 3- وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي تحدث بنعمة ربك عليك، واشكر هذه النعمة وهي النبوة والقرآن، وما ذكر في الآيات، والتحدث بنعمة اللَّه

فقه الحياة أو الأحكام:

شكر، فكما كنت عائلا فقيرا، فأغناك اللَّه، فتحدث بنعمة اللَّه عليك، كما جاء في الدعاء النبوي المأثور: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين عليها، قابليها، وأتمها علينا» . وأخرج أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يشكر اللَّه من لا يشكر الناس» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- أقسم اللَّه بالضحى، أي بالنهار، وبالليل إذا سكن، على أنه ما ترك نبيه وما أبغضه منذ أحبه. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. قال الرازي: هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه، إذ لو كان من عنده لما امتنع «1» . كما تقدم. 2- بشر اللَّه نبيه ببشارتين عظيمتين: الأولى- أنه جعل أحواله الآتية خيرا له من الماضية، ووعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز، وجعل ما عنده في الآخرة حين مرجعه إليه، خيرا له مما عجل له من الكرامة في الدنيا. والثانية- أنه سيعطيه غاية ما يتمناه ويرتضيه في الدنيا بالنصر والتفوق وغلبة دينه على الأديان كلها، وفي الآخرة بالثواب والحوض والشفاعة. روى الخطيب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما نزلت هذه الآية: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار» ، كما تقدم.

_ (1) تفسير الرازي: 31/ 210

والخلاصة: آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ... عدة كريمة شاملة لما أعطاه اللَّه عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب، ولما ادخر له عليه السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو عز وجل. وورد في صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم 14/ 36] وقول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة 5/ 118] فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما قال، وهو أعلم فقال اللَّه: يا جبريل اذهب إلى محمد، فقال: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك» . 3- عدد اللَّه تعالى نعمه ومننه على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر منها في السورة ثلاثا هي الإيواء بعد اليتم، والهدى بعد الغفلة، والإغناء بعد الفقر. أما الإيواء فقد تكفله بعد موت أبيه وأمه جده عبد المطلب، ثم عمه أبو طالب فكفله وآزره، ودفع عنه الأذى. وأما الهدى فهو بيان القرآن والشرائع، فهداه اللَّه إلى أحكام القرآن وشرائع الإسلام، بعد الجهل بها والغفلة عنها. وليس معنى الضلالة الكفر أو كونه على دين قومه لأن الأنبياء معصومون عن ذلك. واتفق جمهور العلماء على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كفر باللَّه لحظة واحدة. وقالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلا، لما فيه من التنفير.

وأما الإغناء فهو الإمداد بالفضل والمال والرزق بالتجارة في مال خديجة رضي اللَّه عنها. وفي زمان الرسالة أغناه بمال أبي بكر، ثم بمال الأنصار بعد الهجرة، ثم بالغنيمة. والحكمة في اختيار اليتم له: أن يعرف قدر اليتامى، ويقوم بحقهم وصلاح أمرهم. ثم إن اليتم والفقر نقص في حق الناس عادة، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام نبيا ورسولا، وأكرم الخلق، مع هذين الوصفين، كان ذلك قلبا للعادة، فكان من جنس المعجزات. 4- أدّب اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة اللَّه معه، فأمره بألا يظلم اليتيم، ويدفع إليه حقه، ويذكر أنه كان يتيما مثله. ودلت الآية على طلب اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» وفي الصحيح الذي رواه البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. ونهى اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن زجر السائل وعن إغلاظ القول له، وأمره بأن يردّه ببذل يسير، أو ردّ جميل، وأن يتذكر فقره. روي عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين «1» من ذهب» . وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا: «ردّوا السائل ببذل يسير، أو ردّ جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللَّه» «2» .

_ (1) القلب: السوار. (2) تفسير القرطبي: 20/ 101

وأمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بشكر نعمة اللَّه عليه وهي النبوة والرسالة، وإنزال القرآن الكريم عليه. ويكون الشكر بنشر ما أنعم اللَّه عليه، والتحدث بنعم اللَّه، والاعتراف بها شكر لها. ويلاحظ أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد: نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. وأمره بتحديث نعمة ربه، وهو في مقابلة قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. قال العلماء المحققون: التحديث بنعم اللَّه تعالى جائز مطلقا، بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي به غيره، أو أن يشيع شكر ربه بلسانه، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب، فالستر أفضل. وإنما أخر التحديث تقديما لمصلحة المخلوقات على حق اللَّه لأن اللَّه غني وهم المحتاجون، ولهذا رضي لنفسه بالقول فقط. وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة وَالضُّحى إلى آخر القرآن لأنه حين انقطع الوحي كما تقدم، وأنزلت السورة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّه أكبر» تصديقا لما أتى به القرآن. وهذا التكبير ليس بقرآن لأنه لم ينقل كالقرآن نقلا متواترا بسورة وآياته وحروفه، دون زيادة ولا نقصان. وقال العلماء: لا نقول: إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، ولكنه من فعل فقد أحسن، ومن ترك فلا حرج. ولفظ التكبير إما بأن يقول: «اللَّه أكبر» أو يقول: «لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر» .

الشرح، أو الانشراح:

بسم الله الرحمن الرحيم الشرح، أو: الانشراح مكيّة، وهي ثماني آيات. تسميتها: سميت سورة الشرح أو الانشراح أو أَلَمْ نَشْرَحْ لافتتاحها بالخبر عن شرح صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم أي تنويره بالهدى والإيمان والحكمة، وجعله فسيحا رحيبا واسعا، كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] . مناسبتها لما قبلها: هي شديدة الاتصال بسورة الضحى، لتناسبهما في الجمل والموضوع لأن فيهما تعداد نعم اللَّه تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، مع تطمينه وحثه على العمل والشكر، حيث قال في السورة السابقة: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.. وأضاف هنا وعطف: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما، والأصح المتواتر كونهما سورتين، وإن اتصلتا معنى. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة كسابقتها الحديث عن شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أمده اللَّه به من نعم عظيمة، تستحق الحمد والشكر.

نعم الله على نبيه وما أمره به [سورة الشرح (94) الآيات 1 إلى 8] :

وقد اشتملت على أمور أربعة: 1- تعداد نعم ثلاث أنعم اللَّه بها على نبيه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي شرح صدره بالحكمة والإيمان، وتطهيره من الذنوب والأوزار، ورفع منزلته ومقامه وقدره في الدنيا والآخرة: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [1- 4] وذلك بقصد تسلية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وإيناسه عما يلقاه من أذى قومه الشديد في مكة والطائف وغيرهما. 2- وعد اللَّه له بتيسير المعسر، وتفريج الكرب عليه، وإزالة المحن والشدائد، وتبشيره بقرب النصر على الأعداء: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [5- 6] . 3- أمره بمواظبة العبادة والتفرغ لها بعد القيام بتبليغ الرسالة شكرا للَّه على ما أنعم عليه: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [7] . 4- أمره بعد كل شيء بالتوكل على اللَّه وحده، والرغبة فيما عنده: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [8] . نعم اللَّه على نبيه وما أمره به [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) البلاغة: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ استفهام تقريري للتذكير بنعم اللَّه، أي قد شرحنا لك صدرك.

المفردات اللغوية:

وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ استعارة تمثيلية، شبه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل حامله بطريق التمثيل. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تنكير اليسر للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يسرا عظيما. الْعُسْرِ و «اليسر» بينهما جناس ناقص. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إطناب بتكرير الجملة، لتثبيت معناها في النفوس، وبما أن العسر معروف فهو مفرد، واليسر منكر فهو متعدد، أي مع كل عسر يسران، فالعسر الأول عين الثاني، واليسر تعدد. فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات. وكذا في قوله: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وهو من المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفسح ونبسط ونوسع لك يا محمد صدرك، حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق، بما أودعنا فيه من الحكمة والإيمان والنبوة، وأزلنا عنه ضيق الجهل. والعرب تطلق سعة الصدر وعظمه على الحلم والقوة، فهو كناية عن السرور وانبساط النفس وراحة البال وسعة الأفق. وهو استفهام تقرير، أي قد شرحنا وأفسحنا. وَضَعْنا حططنا وأزلنا وخففنا عنك. وِزْرَكَ حملك الثقيل. أَنْقَضَ أثقل، حتى سمع له نقيض أي صوت. وهذا كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 48/ 2] . وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام، فإن الرسل معصومون من ارتكاب الذنوب، وإنما المراد ما فعله اجتهادا مما هو خلاف الأولى، كإذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، وأخذ الفداء من أسرى بدر، وعبوسه في وجه الأعمى ونحو ذلك. وقيل: المراد من قوله: وِزْرَكَ تخفيف أعباء النبوة والرسالة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها، وأداء واجباتها وحفظ حقوقها، فسهل اللَّه تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها، بأن صارت يسيرة له. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوة وغيرها، كأن جعلتك تذكر مع ذكري في الأذان والإقامة والتشهد والخطبة وغيرها. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الشدة والضعف والفقر ونحوها من المضايقات يُسْراً سهولة وتوفيقا للاهتداء والطاعة، وقد قاسى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من كثير من الكفار، وعانى منهم الشدائد، ثم حصل له اليسر، بنصره عليهم. فَإِذا فَرَغْتَ من أداء الرسالة وتبليغ الناس بها. فَانْصَبْ أتعب في الدعاء والعبادة. فَارْغَبْ تضرع وتوكل، واجعل رغبتك باللَّه في جميع شؤونك.

سبب النزول نزول الآية (6) :

سبب النزول: نزول الآية (6) : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: نزلت لما عيّر المشركون المسلمين بالفقر. وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين» . التفسير والبيان: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أي قد شرحنا لك صدرك لقبول النبوة، وتحمل أعبائها، وحفظ الوحي. قال الرازي: وقد استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك. والأولى أن يقال كما بينا: الاستفهام تقريري، يراد به إثبات الشرح. والمراد بشرح الصدر تنويره وجعله فسيحا وسيعا رحيبا، كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 6/ 125] «1» . وقال أبو حيان: شرح الصدر: تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه، وهو قول الجمهور، والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى اللَّه تعالى وحده، واحتمال المكاره من إذاية الكفار «2» . والأكثرون على أن الشرح أمر معنوي. وقيل: المراد بذلك شرح صدره ليلة الإسراء، كما رواه الترمذي عن مالك بن صعصعة. قال ابن كثير: ولكن لا منافاة، فإن من جملة شرح صدره: الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا «3» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 524 (2) البحر المحيط: 8/ 487 (3) تفسير ابن كثير: المرجع السابق. [.....]

وروى أيضا حديث شرح الصدر عبد اللَّه ابن الإمام أحمد عن أبي بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أشياء، لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول اللَّه، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا، وقال: «لقد سألت يا أبا هريرة، إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذ بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة، ثم نبذها، فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هزّ إبهام رجلي اليمنى، فقال: أعد وأسلم، فرجعت بها أعدو رقّة على الصغير، ورحمة على الكبير» . وفي الصحيح عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة- رجل من قومه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» - قال قتادة: قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني- قال: فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة» . والخلاصة من حديث شق الصدر: أن جبريل عليه السلام أتى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم في صغره، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علما وإيمانا، ووضعه في صدره.

وقد طعن بعضهم في هذه الرواية لأن هذه الواقعة حدثت في حال الصغر، وذلك من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته، ولأن تأثير الغسل في إزالة أوساخ الأجسام، والمعاصي ليست بأجسام، فلا يكون للغسل فيها أثر، ولأنه لا يصح أن يملأ القلب علما، بل اللَّه تعالى يخلق فيه العلوم. وأجاب الإمام فخر الدين الرازي عن ذلك بأن هذا يسمى الإرهاص، وهو مقدمات النبوة وبشائرها، ومثله في حق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كثير، ولا يبعد أن يكون غسل الدم الأسود من قلب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي، ويحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه كان ذلك كالعلامة على كون صاحبه معصوما، مواظبا على الطاعات، محترزا عن السيئات، وأيضا فلأن اللَّه تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد «1» . وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي حططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك، وأتعبت نفسك، سواء قبل النبوة أم بعدها مما تفعله خلاف الأولى، وهو لا يتفق مع سمو قدرك، ورفعة منزلتك، وعلو شأنك، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن الجهاد في موقعة تبوك، وقبول الفداء من أسرى بدر، والعبوس في وجه الأعمى. وقيل: المراد حططنا عنك حمل أعباء النبوة والرسالة، فسهلناها عليك، حتى تيسرت لك. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي جعلنا ذكرك مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة، بالنبوة وختم الرسالات بك، وإنزال القرآن العظيم عليك، وتكليف المؤمنين بالقول بعد «أشهد أن لا إله إلا اللَّه» : «أشهد أن محمدا رسول اللَّه» سواء في

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 2

الأذان أم في التشهد أم في الخطبة وغيرها، وأمرهم بالصلاة والسلام عليه، وأمر اللَّه بطاعته، وجعل طاعته طاعة للَّه تعالى. قال قتادة: رفع اللَّه ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة، إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه. وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «أتاني جبريل، فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: اللَّه أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «سألت ربي مسألة، وددت أني لم أسأله، قلت: قد كان قبلي أنبياء، منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من يحيي الموتى، قال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى يا ربّ، قال: ألم أجدك ضالّا فهديتك؟ قلت: بلى يا ربّ، قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أشرح لك صدرك، ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت: بلى يا رب» . وبعد التذكير بهذه النعم، ذكر اللَّه تعالى أن ذلك جار على وفق سنته، من إيراد اليسر بعد العسر، فقال ردّا على المشركين الذين كانوا يعيرون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفقر: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا، وإن مع الضيق فرجا، وقد أكّد تعالى ذلك في الجملة الثانية. وفي هذا بشارة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتسلية له أنه سيبدل حاله من فقر إلى غنى، ومن ضعف إلى عزة وقوة، ومن عداوة قومه إلى محبتهم. والأظهر أن المراد باليسرين: الجنس، ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر، ويشمل يسر الدنيا ويسر الآخرة، ويسر العاجل والآجل.

فقه الحياة أو الأحكام:

قال الفراء والزجاج: العسر مذكور بالألف واللام، وليس هناك معهود سابق، فينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكان أحدهما غير الآخر. يؤيد ذلك ما رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعا: «لو كان العسر في حجر، لتبعه اليسر حتى يدخل فيه، فيخرجه، ولن يغلب عسر يسرين، إن اللَّه يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . ثم أمره ربه بمهام تتناسب مع مقامه ومع شكر هذه النعم السابقة واللاحقة من اليسر والظفر، فقال: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي إذا فرغت من تبليغ الدعوة، أو من الجهاد، أو مشاغل الدنيا وعلاقاتها، فأتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء، واطلب من اللَّه حاجتك، وأخلص لربّك النيّة والرغبة. وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا، وإن اللَّه يكره العبد البطال. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي أقبل على اللَّه، واجعل رغبتك إلى اللَّه وحده، وتضرع إليه راهبا من النار، راغبا في الجنة، ولا تطلب ثواب عملك إلا من اللَّه، فإنه الجدير بالتوجه والتضرع إليه، وبالتوكل عليه. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- هذه باقة أخرى من نعم اللَّه على نبيه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، بالإضافة لما ذكر في سورة الضحى السابقة، وهي:

أولا- شرح الصدر، أي جعله فسيحا رحيبا، قويا عظيما لتحمل أعباء النبوة والرسالة. وثانيا- حطّ الذنوب والمعاصي التي تعد ثقيلة وكبيرة بالنسبة لقدره ومنزلته، وإلا فهي ليست ذنوبا على الحقيقة لأن الأنبياء معصومون منها، ولم يسجد لصنم أو وثن قط، ولم يصدر عنه كفر أصلا قبل النبوة. وهذا يستدعي كمال عقله وروحه، وتبرئته من الوزر الذي ينشأ عن النفس والهوى، وهو معصوم منهما. وثالثا- رفع ذكره وإعلاء شأنه ومقامه في الدنيا والآخرة وتنزيه مقامه عن كل وصم، قال ابن عباس: يقول له: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطب النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد اللَّه جلّ ثناؤه، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول اللَّه، لم ينتفع بشيء، وكان كافرا «1» . 2- جعل اللَّه تيسيرا ورحمة على العباد يسرين مع كل عسر، قال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرّفا، ثم كرروه، فهو هو، وإذا نكّروه فهو غيره، وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر. 3- الحثّ على المواظبة على العمل الصالح واستدامته، وعلى عمل الخير والإقبال على فعله، فعلى العاقل ألا يضيع أوقاته في الكسل والدعة، ويحرص بكل قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 106- 107

4- التوكل على اللَّه وحده، والرغبة إليه والتضرع لوجهه الكريم، فإنه أهل التوجه والضراعة، ولا يطلب ثواب العمل الصالح إلا منه سبحانه. قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مرّ بقوم يلعبون يوم عيد، فقال: ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر فإن الحبش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر. ودخل أبو بكر بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان، فقال أبو بكر: أمزمارة الشيطان في بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد. وليس يلزم الدّؤوب على العمل، بل هو مكروه للخلق «1» .

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1938

سورة التين:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التين مكيّة، وهي ثماني آيات. تسميتها: سميت سورة التين لأن اللَّه تعالى أقسم في مطلعها بالتين والزيتون، لما فيهما من خيرات وبركات، ومنافع: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ... مناسبتها لما قبلها: ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة حال أكمل الناس خلقا وخلقا، وأنه أفضل العالم، ثم ذكر في هذه السورة حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من التدني ودخول جهنم إن عادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو دخول الجنة إن آمن به وعمل صالحا. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة المكية بيان أمور ثلاثة متعلقة بالإنسان وعقيدته: 1- تكريم النوع الإنساني، حيث خلق اللَّه الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سويّ الأعضاء، حسن التركيب: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.. [1- 4] . 2- بيان انحدار مستوى الإنسان وزجّ نفسه في نيران جهنم بسبب كفره باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنكاره البعث والنشور، بالرغم من توافر الأدلة القاطعة

فضلها:

على قدرة اللَّه عزّ وجلّ بخلق الإنسان في أحسن تقويم: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [5] . واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [6] . 3- إعلان مبدأ العدل المطلق في ثواب المؤمنين، وتعذيب الكافرين: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [7- 8] . فضلها: أخرج الجماعة في كتبهم ومالك في موطئه عن البراء بن عازب: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه. حال النوع الإنساني خلقا وعملا [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) الإعراب: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الْأَمِينِ: إما من الأمن أي الآمن، كعليم بمعنى عالم، أو بمعنى المؤمّن لقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] كحكيم بمعنى محكم، وسميع بمعنى مسمع.

البلاغة:

فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَحْسَنِ: صفة لمحذوف، أي في تقويم أحسن. فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ «ما» : استفهامية في موضع رفع مبتدأ، ويُكَذِّبُكَ: خبره. البلاغة: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ إن أريد موضعهما وهما الشام وبيت المقدس، فهو مجاز مرسل علاقته الحالية بإطلاق الحالّ وإرادة المحل، مثل: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار 82/ 13] فالنعيم مجاز، وهو شيء معنوي يحل في الجنة، والجنة محل له، وهو حالّ فيها، فأطلق على سبيل المجاز المرسل الذي علاقته الحالّية. أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وأَسْفَلَ سافِلِينَ بينهما طباق. فَما يُكَذِّبُكَ؟ التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والعتاب. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ استفهام تقريري. بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ بينهما جناس اشتقاق. الْبَلَدِ الْأَمِينِ، أَسْفَلَ سافِلِينَ، بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ سجع مرصّع. المفردات اللغوية: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ هما الشجرتان المعروفتان، أو الشام وبيت المقدس موضعا إنبات هاتين الشجرتين، أو جبلان بالشام ينبتان المأكولين، قال أبو حيان: والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم، وفي الحديث: مدح التين، وأنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس. وقال البيضاوي: خصّهما من بين الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة، لا فضل (بقايا) لها، وغذاء لطيف، سريع الهضم، ودواء كثير النفع، فإنه يلين الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة، ويفتح سدّة الكبد والطحال. والزيتون فاكهة وإدام ودواء، وله دهن لطيف، كثير المنافع، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال. وَطُورِ سِينِينَ الجبل الذي كلم اللَّه تعالى موسى عنده، وناجى عليه موسى ربّه، وسِينِينَ وسيناء: اسمان للموضع الذي فيه. ومعنى سِينِينَ: المبارك أو الحسن بالأشجار المثمرة. الْبَلَدِ الْأَمِينِ مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة، والْأَمِينِ: إما الآمن، أو المأمون فيه، يأمن فيه من دخله. الْإِنْسانَ أراد به الجنس. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ تعديل لصورته وشكله، بأن خصه

سبب النزول نزول الآية (5) :

بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات، يقال: قوّم الشيء تقويما: جعله على أعدل وجه وأكمل صورة. والتقويم أيضا: معرفة قدر الشيء وقيمته. ثُمَّ رَدَدْناهُ رددنا بعض أفراده وهو الكافر أو بعض الناس. أَسْفَلَ سافِلِينَ أي جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل، وقيل: هو كناية عن الهرم والضعف، وأرذل العمر (أي الخرف) فيكون: إِلَّا الَّذِينَ.. استثناء منقطعا بمعنى لكن. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع عنهم، جاء في الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: «إذا كبر العبد وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته» . فَما يُكَذِّبُكَ أيها الكافر. بَعْدُ بعد ما ذكر من خلق الإنسان في أحسن صورة، ثم رده إلى أرذل العمر، الدال على القدرة الإلهية على البعث. بِالدِّينِ الجزاء بعد البعث والحساب، أي ما يجعلك مكذبا بالبعث ولا جاعل ولا موجب لهذا التكذيب؟ سبب النزول: نزول الآية (5) : ثُمَّ رَدَدْناهُ..: أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال: هم نفر، ردوا إلى أرذل العمر، على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم، فأنزل اللَّه عذرهم، أن لهم أجرهم الذي عملوا، قبل أن تذهب عقولهم. التفسير والبيان: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ أي قسما بالتين الذي يأكله الناس، وبالزيتون الذي يعصرون منه الزيت، فالمراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران، قال ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذا. وهما كناية عن البلاد المقدسة التي اشتهرت بإنبات التين والزيتون. وإنما أقسم بالتين لأنه غذاء وفاكهة ودواء، فهو غذاء لأنه طعام لطيف، سريع الهضم، لا يمكث في المعدة، يلين الطبع، ويقلل البلغم، ويطهر الكليتين،

ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمّن البدن، ويفتح مسام الكبد والطحال، وهو خير الفواكه وأحمدها. وكونه دواء لأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن، وفي الحديث الحسن الذي رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي ذر، وضعفه السيوطي: «إنه يقطع البواسير، وينفع من النّقرس» . وكذلك الزيتون فاكهة وإدام ودواء، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لبعض أهل البلاد ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية، قال تعالى: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور 24/ 35] . وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وهو ضعيف: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» . وَطُورِ سِينِينَ هو الجبل الذي كلّم اللَّه عليه موسى بن عمران عليه السلام، وهو طور سيناء. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة المشرفة، وبميلاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرساله فيه، سمي أمينا لأنه آمن ومأمون فيه، كما قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران 3/ 97] . أقسم اللَّه سبحانه بهذه المواضع الثلاثة لأنها مهابط وحي اللَّه على أولي العزم من الرسل، ومنها أضاءت الهداية للبشر. وجاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء اللَّه من طور سيناء- يعني الذي كلم اللَّه عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير- يعني جبل بيت المقدس الذي بعث اللَّه منه عيسى- واستعلن من جبال فاران- يعني جبال مكة التي أرسل اللَّه منها محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. ثم ذكر جواب القسم المحلوف عليه، فقال:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي أقسم بالأشياء الثلاثة المذكورة على أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل، منتصب القامة، سويّ الأعضاء، حسن التركيب، يأكل بيده، يتميز بالعلم والفكر والكلام والتدبير والحكمة، فصلح بذلك أن يكون خليفة مستخلفا في الأرض كما أراد اللَّه له. والخلاصة: خلقناه في أحسن تعديل شكلا وانتصابا، كما قال أكثر المفسرين. ذكر القرطبي القصة التالية التي توضح حسن تقويم الإنسان، فقال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبّا شديدا، فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني! وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح، غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلّقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم اللَّه الرحمن الرحيم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك. ثم عقب القرطبي على هذا قائلا: فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللَّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه،

والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه «1» . لكنه غفل عن هذه المقومات، وأهمل هذه الميزات، وأخذ يعمل بهواه وشهواته، لذا قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قيل: إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع اللَّه ويتبع الرسل، والأولى أن يقال: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف، والخرف ونقص العقل، بعد الشباب والقوة، وجمال النطق، وسلامة الفكر. والقول الأول، أي إلى النار بسبب كفر بعض الناس هو قول الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة، وعلى هذا يكون الاستثناء الآتي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. استثناء متصلا. والقول الثاني، أي إلى أرذل العمر هو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك والنخعي، وعلى هذا يكون الاستثناء التالي منقطعا. وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك. واختار ذلك ابن جرير. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي إلا الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات، فلهم ثواب على طاعاتهم دائم غير منقطع. والمعنى كما أشرنا على التفسير الأول وكون الاستثناء متصلا: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة، فلهم ثواب جزيل، ينجون به من النار أسفل السافلين، وهو الجنة دار المتقين.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 114

والمعنى على التفسير الثاني وكون الاستثناء منقطعا وهو الراجح لدينا: لكن المؤمنين المتقين، فإن اللَّه يكافئهم بثواب دائم غير منقطع، بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان، مع ضعف البنية، وفتور الأعضاء، أي أنهم قد يردون إلى أرذل العمر كغيرهم، لكن لهم أجرا كبيرا دائما على أفعالهم. قال الألوسي: المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها «1» . أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب اللَّه تعالى له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما» . وفي رواية عنه: ثم قرأ صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. وأخرج الطبراني عن شدّاد بن أوس قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى يقول: «إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الربّ عزّ وجلّ: إني أنا قيّدت عبدي هذا، وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك» وهو حديث صحيح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: إذا كبر العبد، وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته. ورأى بعضهم أن الاستثناء متصل حتى على القول الثاني، فلا يردّ المؤمن المتقي إلى أرذل العمر، بدليل ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان

_ (1) تفسير الألوسي: 30/ 476

عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قال: إلا الذين قرءوا القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير نحوه، فقال: من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. ثم وبّخ الكفار على التكذيب بالجزاء بعد البعث، فقال: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟ المراد: فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات والأدلة على قدرة اللَّه إلى أن تكون كاذبا، بسبب تكذيب الجزاء لأن كل مكذّب بالحق فهو كاذب؟ فإذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك بسبب الكفر أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟ ثم أكّد ما سبق بقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا، الذي لا يجور ولا يظلم، ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه؟! أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: «فإذا قرأ أحدكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فأتى على آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» .

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- أقسم اللَّه تعالى بمواضع ثلاثة مقدسة: هي أماكن نبات التين والزيتون، التي هي مقام الأنبياء ومهبط الوحي، وطور سيناء الذي كلم اللَّه عليه موسى، ومكة البلد الحرام الآمن على أنه خلق جنس الإنسان في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه. ثم يرد بعض النوع الإنساني أسفل سافلين، أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في طوره الأول من أطوار الحياة. قال ابن العربي: ولامتنان الباري سبحانه، وتعظيم النعمة أو المنة في التين، وأنه مقتات مدخر، فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه «1» . 2- استثنى اللَّه تعالى الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم، وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم. 3- وبّخ اللَّه الكافر وألزمه الحجة بكفره بالجزاء بعد البعث بقوله فيما معناه: إذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال، فما يحملك على أن تكذّب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم به؟ 4- أليس اللَّه أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق، وأنه أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلا بين الخلق؟! وفي هذا تقدير لمن اعترف من الكفار بالصانع القديم وهو اللَّه تعالى. وهو وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله.

_ (1) أحكام القرآن: 4/ 1939

سورة العلق:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق مكيّة، وهي تسع عشرة آية. تسميتها: سميت سورة العلق، وسورة اقرأ، أو بِالْقَلَمِ لأن اللَّه سبحانه افتتحها بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. والعلق: الدم المتجمد على شكل الدودة الصغيرة. مناسبتها لما قبلها: ذكر اللَّه تعالى في سورة التين أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذا بيان للصورة، وذكر هنا أنه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وهذا بيان للمادة. وذكر تعالى في هذه السورة من أحوال الآخرة بيانا توضيحيا لما ذكر في السورة السالفة. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المكية أول شيء نزل من القرآن على قلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبيان الأمور الثلاثة التالية: 1- بيان حكمة اللَّه في خلق الإنسان من ضعف إلى قوة، والإشادة بما زوّده وأمره به من فضيلة القراءة اقرأ والكتابة عَلَّمَ بِالْقَلَمِ لتمييزه على غيره من المخلوقات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. [الآيات: 1- 5] .

كيفية نزول هذه السورة - حديث بدء نزول الوحي:

2- الإخبار عن مدى طغيان الإنسان وتمرده على أوامر اللَّه، وجحوده نعم اللَّه عليه وغفلته عنها رغم كثرتها في حال توافر الثورة والمال والغنى لديه، فقابل النعمة بالنقمة، وكان الواجب عليه أن يشكر ربّه على فضله، فجحد النعمة وتجبّر واستكبر: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى.. [الآيات: 6- 8] . 3- افتضاح شأن فرعون هذه الأمة أبي جهل الذي كان ينهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الصلاة، انتصارا للأوثان والأصنام، وتوعده بأشد العقاب إن استمر على ضلاله وكفره وطغيانه، وتنبيه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عدم الالتفات لما كان يوعده به ويتهدده: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ... إلى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [الآيات: 9- 19] . كيفية نزول هذه السورة- حديث بدء نزول الوحي: نزل صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن الكريم، أما بقية السورة فهو متأخر النزول، بعد انتشار دعوته صلّى اللَّه عليه وسلّم بين قريش، وتحرشهم به وإيذائهم له. أخرج الإمام أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنّث فيه- وهو التعبّد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى فجأه الوحي، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقْرَأْ. قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فقلت: ما أنا بقارئ» قال: فأخذني فغطّني- ضمّني- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني.

فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال: يا خديجة، ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا، أبشر، فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتصدّق الحديث، وتحمل الكلّ- الضعيف العاجز- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة. ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا «1» ، ليتني أكون حيّا حين يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب «2» ورقة أن توفي، وفتر الوحي، حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدّى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول اللَّه حقا، فيسكن بذلك جأشه، وتقرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك. فإذا أوفى بذروة الجبل، تبدّى له جبريل، فقال له مثل ذلك.

_ (1) الجذع: الشاب القوي الجلد. (2) لم ينشب: لم يلبث.

الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة [سورة العلق (96) الآيات 1 إلى 8] :

الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) الإعراب: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير اقْرَأْ. عَلَّمَ بدل اشتمال من عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أَنْ رَآهُ: في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، أي لأن رآه، وأصله «رأيه» فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. ورأى: يتعدى إلى فعلين لأنه من رؤية القلب، فالمفعول الأول: الهاء، والثاني: اسْتَغْنى. وقرئ «رأه» بهمزة من غير ألف بعدها، على أساس حذف لام الفعل مثل حاشَ لِلَّهِ أو لأن مضارعه «يرى» وقد حذفت عينه بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، أو حذفت لسكونها وسكون السين في اسْتَغْنى. البلاغة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ سجع مرصّع. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ واقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ إطناب بتكرار الفعل، لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم. خَلَقَ وعَلَقٍ بينهما جناس ناقص. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بينهما طباق السلب. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى التفات من الغيبة إلى الخطاب، تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ابتدئ قراءة القرآن مفتتحا باسم ربّك، أو مستعينا به. الَّذِي خَلَقَ الذي خلق كل شيء. خَلَقَ الْإِنْسانَ جنس الإنسان. مِنْ عَلَقٍ جمع علقة: وهي قطعة دم يسيرة جامدة، فإذا جرى الدم فهو المسفوح. اقْرَأْ تأكيد للأول. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي لا يوازيه كريم، الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علّم الخط والكتابة بالقلم، وأول من خط به إدريس عليه السّلام. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ علم جنس الإنسان بخلق القوى، وإقامة الدلائل، وإنزال الآيات، وبتعليمه الأشياء من غير معلّم كالكتابة والصناعة وغيرها. والمقصود: أنه يعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا. وقال: مِنْ عَلَقٍ بلفظ الجمع لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكل الناس خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفّت لم تكن علقة. وقد أبان في هذه الآيات مبدأ خلق الإنسان الذي يدلّ على الأوصاف الإلهية وأهمها بيان وجوده وقدرته تعالى، ثم أشار إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة، ثم إثبات النبوة. كَلَّا أي حقا عند بعض المفسرين لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع، وقال الزمخشري: إنه ردع لمن كفر بنعمة اللَّه عليه وطغى، وهذا معلوم من سياق الكلام، وإن لم يذكر. إِنَّ الْإِنْسانَ أي: فرد من النوع الإنساني. لَيَطْغى يتكبر ويتجاوز الحدّ في العصيان. أَنْ رَآهُ لأن رأى نفسه. اسْتَغْنى اغتنى بالمال وغيره، أي صار ذا مال وأعوان يغني بهما، والآية نزلت في أبي جهل، كما سأبيّن. إِنَّ إِلى رَبِّكَ يا إنسان. الرُّجْعى الرجوع، والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، أي المصير والعودة، والمراد تخويف الإنسان، فإن اللَّه يجازي الطاغي بما يستحقه. سبب النزول: نزول الآية (6) : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ..: أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، فأنزل اللَّه: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآيات.

التفسير والبيان:

ثم إنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا شديدا. التفسير والبيان: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك، أو مستعينا باسم ربّك، الذي أوجد وخلق كل شيء. وقد وصف اللَّه لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد: الأمر من اللَّه لنبيّه بأن يصير قارئا، بقدرة اللَّه الذي خلقه وإرادته، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة، وإن لم يتعلمها سابقا. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة، التي هي طور من أطوار خلق الجنين، فإنه يبدأ نطفة، ثم يتحول بقدرة اللَّه إلى علقة: وهي كأنها قطعة من الدم الجامد، ثم يكون مضغة: وهي كأنها قطعة لحم، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام، فلحم، فإنسان كامل الخلقة. ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه، أو لعجيب فطرته، أو لأن الآية سيقت من أجله. وإنما قال: باسم ربّك، ولم يقل: باسم اللَّه كما في التسمية المعروفة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأن الربّ: من صفات الفعل، واللَّه: من أسماء الذات، وبما أنه أمره بالعبادة، وصفات الذات لا تستوجب شيئا، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على الطاعة، والخلاصة: إنه لم يأت بلفظ الجلالة، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص، أي ليس لك ربّ غيره. وإنما أضاف ذاته إلى رسوله، فقال: بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أنه له،

تصل إليه منفعته، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة للَّه، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية، فقال: أَسْرى بِعَبْدِهِ [/ الإسراء 17/ 1] . وإنما ذكر قوله الَّذِي خَلَقَ بعد قوله: رَبِّكَ للاستدلال على أنه ربّه، وهو الذي أوجده، فصار موجودا بعد أن كان معدوما، والخلق والإيجاد تربية، وكذلك جاء بصفة الخالق، أي المنشئ للعالم، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به من القراءة، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة اقْرَأْ للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزاحة المانع، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل حين طلب منه بقوله: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ. والأوجه: أن يراد بقوله الأول: اقْرَأْ: أوجد القراءة، وبالثاني: استعن باسم ربّك. ثم قرن القراءة بالكتابة، فقال: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من اللَّه عزّ وجلّ، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر لدين، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، فالكتابة قيد العلوم والمعارف، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب، فتبقى المعلومات، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء اللَّه، فتنمو

الحضارات، وتسمو الأفكار، وتحفظ الأديان، وتنشر الهداية. وجاء في الأثر: «قيدوا العلم بالكتابة» «1» . لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة، وبيان أنها من آيات اللَّه في خلقه، ومن رحمته بهم، وكانت معجزة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الخالدة، وهو العربي الأميّ، قرآنا يتلى، وكتابا يكتب، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم، كما قال تعالى ممتنا بذلك: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة 62/ 2] . ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه، فقال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي علّم اللَّه الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها، فلا عجب أن يعلمك اللَّه أيها النبي القراءة، وكثيرا من العلوم، لنفع أمتك. ورد في الأثر: «من عمل بما علم، ورّثه اللَّه علم ما لم يكن يعلم» «2» . ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى، فقال: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان، عن كفرك بنعمة اللَّه عليك، وتجاوزك الحدّ في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان. وقيل: المراد بالآية: حقا إن أمر الإنسان عجيب، يستذل ويضعف حال الفقر، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.

_ (1) أخرجه الطبراني والحاكم عن عبد اللَّه بن عمرو، وهو صحيح. (2) تفسير ابن كثير: 4/ 528

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم أنذر بالعقاب في الآخرة، فقال: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي إن الرجوع والمصير إلى اللَّه وحده، لا إلى غيره، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله من أين جمعه، وأين صرفه. ويلاحظ أن هذا الكلام جاء على طريقة الالتفات إلى خطاب الإنسان، تهديدا له، وتحذيرا من عاقبة الطغيان. روى ابن أبي حاتم عن عبد اللَّه بن مسعود: منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا، فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ عبد اللَّه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى وقال للآخر: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- بيان قدرة اللَّه تعالى بالخلق، فهو الخالق، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة: قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن، وهن أول رحمة من اللَّه لعباده وأول نعمة أنعم اللَّه بها عليهم. 2- أمر اللَّه سبحانه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم. 3- أمر اللَّه تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات، ونمو الحضارة والمدنية.

4- من كرم اللَّه تعالى وفضله: أن الإنسان ما لم يكن يعلمه، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم إما بالفكر والذهن، وإما باللسان، وإما بالكتابة بالبنان. قال قتادة: القلم نعمة من اللَّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. وفضائل الكتابة والخط كثيرة، فحيث منّ اللَّه على الإنسان بالخط والتعليم، مدح ذاته بالأكرمية، فقال: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان بواسطة القلم، أو علّمه الكتابة بالقلم. مع أنه سبحانه حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة، وصف نفسه بالكرم قائلا: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار 82/ 6- 7] . جاء في الحديث الصحيح: «أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذّكر فوق عرشه» «1» . وكانت أمّية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم تعليمه من اللَّه أثبت لمعجزته بين العرب الأميين، وأقوى في حجته. 5- أخبر اللَّه تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى، وكثر ماله. لذا هدده اللَّه وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى اللَّه المصير والمرجع، وسيحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وفيم صرفه وأنفقه.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 121

صور أخرى من الطغيان وتهديد الطغاة ووعيدهم [سورة العلق (96) الآيات 9 إلى 19] :

وأصل نزول الآية في أبي جهل عند أكثر المفسرين، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: «يا محمد خيّرهم في ذلك، فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه، فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة» . فعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن القوم لا يقبلون ذلك فكفّ عنهم إبقاء عليهم «1» . 6- أول السورة يدل على مدح العلم، وآخرها يدل على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبا في الدين، ومنفرا عن الدنيا والمال «2» . صور أخرى من الطغيان وتهديد الطغاة ووعيدهم [سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 19] أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) الإعراب: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ: يقرأ بالهمز على الأصل، وبالتخفيف بجعل الهمزة بين الهمزة والألف لأن حركة الهمزة فتحة، وتخفيف الهمزة: أن تجعل بين الهمزة والحرف الذي

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 123 (2) تفسير الرازي: 32/ 9

البلاغة:

حركتها منه. وتقرأ بالإبدال: بجعل الهمزة ألفا تشبيها لها بما إذا كانت ساكنة، مفتوحا ما قبلها، وليس لقياس. والَّذِي يَنْهى: مفعول أول لأرأيت الأول وأ رأيت الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام. وقوله: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى مع ما عطف عليه مفعول ثان له. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله: أَلَمْ يَعْلَمْ. ويجوز أن يكون أَرَأَيْتَ الثالث أيضا مكررا. وجواب الشرط بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية وهي: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كأنه قيل: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى، فإن اللَّه مجازيه. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ نون نسفعن نون التوكيد الخفيفة، وتكتب بالألف عند البصريين كالتنوين، وبالنون عند الكوفيين، وهي مكتوبة في المصحف بالألف، كمذهب البصريين، مثل: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف 12/ 32] وليس في القرآن لهما نظير. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ: بدل من الناصية، وهذا بدل النكرة من المعرفة. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل مجلسه، أهل ناديه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. البلاغة: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً؟ كناية، كنى بالعبد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يقل: ينهاك تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره. وأَ رَأَيْتَ استفهام للإنكار والتعجب، وهي بمعنى أخبرني. أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى؟ استفهام للتعجيب من حال الناهي الذي ينهى. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ مجاز عقلي، أسند الكذب والخطأ إلى الناصية مجازا، والمراد صاحبها لأنه السبب. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ مجاز مرسل علاقته المحلية، أي أهل ناديه، بإطلاق المحل وإرادة الحال. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتَ؟ أي أخبرني، وهي في المواضع الثلاثة للتعجب، والمراد من الاستخبار: إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها، مثل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ [الماعون 107/ 1] . الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الناهي: هو أبو جهل، والعبد: هو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. والمعنى: أخبرني عمن ينهى بعض عباد اللَّه عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن؟!

سبب النزول:

وقيل: أرأيت إن كان المنهي على الهدى أو أمر بالتقوى؟ وأو: للتقسيم. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ الناهي النبيّ؟ وَتَوَلَّى عن الإيمان. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى؟ أي ألم يدر بأن اللَّه يرى ويشاهد ما يصدر منه، فيجازيه عليه؟ أي أعجب منه يا مخاطب من حيث نهيه عن الصلاة، ومن حيث إن المنهي عن الهدى آمر بالتقوى، ومن حيث إن الناهي مكذب متول عن الإيمان؟! والخطاب في قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على وجه التعجب. وفيه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: «اللهم أعزّ الإسلام بعمر، أو بأبي جهل بن هشام» وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعزّ به الإسلام، وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام. وكان يلقب بأبي الحكم، فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب، وهو ينهى العبد عن خدمة ربه، ويأمره بعبادة الجماد؟! وجواب شرط: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن اللَّه يرى، أي فإن اللَّه مجازيه. كَلَّا ردع للناهي. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما هو فيه أو عليه من الكفر، واللام: لام القسم. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: الجذب بشدة، والناصية: شعر الجبهة، والمراد بذلك: القهر والإذلال بأنواع العذاب. كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وصفها بالكذب والخطأ، والمراد صاحبها، بالإسناد المجازي للمبالغة. نادِيَهُ أي أهل ناديه، والنادي: المجلس أو مكان اجتماع القوم للتحدث فيه، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ليجروه إلى النار، والزَّبانِيَةَ الملائكة الغلاظ الشداد جمع زبنية وزبني، قال ابن عباس فيما ذكره أحمد: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا» . كَلَّا ردع للناهي أيضا. لا تُطِعْهُ يا محمد في ترك الصلاة، واثبت أنت على طاعتك. وَاسْجُدْ ودم على سجودك، وصل للَّه. وَاقْتَرِبْ تقرب إلى ربك بطاعته. سبب النزول: نزول الآية (9) : أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل اللَّه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إلى قوله: كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ.

نزول الآية (17) :

نزول الآية (17) : فَلْيَدْعُ نادِيَهُ: أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلّي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل اللَّه: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ وهو حسن صحيح كما قال الترمذي. المناسبة: بعد أن أبان سبحانه في مطلع السورة مظاهر القدرة الإلهية، وعدد نعمه ومننه العظمى على الإنسان بتعليمه القراءة والكتابة وما لم يعلم، ذكر السبب الحقيقي لكفر الإنسان وطغيانه وبغيه وهو حب الدنيا والثورة والاغترار بها، مما شغله عن النظر في آيات اللَّه وشكر نعمه. ثم ذكر صورا أخرى من طغيان الإنسان وهي النهي عن الصلاة والعبادة، وهل يأمر بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان؟ وتكذيبه بالحق والتولي عن الدين والإيمان. وناسب بعد هذا تهديده ووعيده بالعقاب الشديد والنكال الأليم يوم العرض والحساب، من غير أن يجد نصيرا ينصره أو معينا يمنعه من العذاب. وختمت السورة بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعدم طاعة هذا الطاغية، والإقبال على عبادة ربه، والتقرب إليه بالطاعة. التفسير والبيان: أخبر اللَّه تعالى عن حالات قبيحة جدا من أحوال الطغاة وهي: 1- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى؟ أي أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد

رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه عن أداء الصلاة والعبادة للَّه رب العالمين، ويريد طاعته في عبادة الأوثان، وترك عبادة الخالق الرزاق؟ وتنكير كلمة عَبْداً يدل على كونه كاملا في العبودية. والمراد بالآية: ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة، وذلك مذموم عند العقلاء. روي أن عليا رضي اللَّه عنه رأى في المصلّى أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فلم يصرح بالنهي عن الصلاة. وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال: يقول: ربنا لك الحمد، ويسجد، ولم يصرح بالنهي عن الدعاء «1» . 2- أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ أي أخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية الناهي، إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه تعالى، أو هل هو آمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟ والأكثرون على أن الخطاب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا، ليكون الكلام على نسق واحد. وقيل: الخطاب للكافر، والمعنى: أرأيت يا كافر إن كانت صلاة هذا العبد المنهي هدى، ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟ والتقوى: الإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقى به النار. ويتصور هذا كأن الظالم والمظلوم حضرا عند الحاكم، أحدهما المدعي، والآخر المدعى عليه، ثم خاطب هذا مرة، أي في الكلام الأول: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى وهذا مرة أي في الكلام الثاني: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ...

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 21، غرائب القرآن: 30/ 136 [.....]

3- أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي أخبرني يا محمد عن حال هذا الكافر أبي جهل إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وبما جاء به رسول اللَّه، وأعرض عن الإيمان بدعوتك؟ والجواب فيما دل عليه ما يأتي: ألم يعلم بعقله أن اللَّه يرى منه هذه الأعمال القبيحة، وأنه سيجازيه ويحاسبه على جرائمه؟ وهذا على رأي الأكثرين في أن الخطاب في أَرَأَيْتَ في المواضع الثلاثة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. فإن كان الخطاب للكافر فالمراد بالآية الثالثة: إن كان محمد كاذبا أو متوليا عن الحق، ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي، فلا يحتاج إلى نهيك؟ قال العلماء: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل، إلا أن كل من ينهى عن طاعة اللَّه فهو شريك في وعيد أبي جهل. ثم جاء الزجر والتهديد والوعيد بصيغ مختلفة مبالغ فيها، وبعضها أشد من بعض: 1- أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن اللَّه يراه ويسمع كلامه ويطلع على أحواله، وسيجازيه بها أتم الجزاء، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟! 2- كَلَّا، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي ليرتدع وينزجر هذا الناهي عن البرّ والعبادة للَّه تعالى، فواللَّه لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر عن الشقاق والعناد، لنأخذن بناصيته، ولنجرّنه إلى النار. والناصية: شعر مقدم الرأس، وصاحبها كاذب خاطئ مستهتر بفعل الخطايا والذنوب. وفي هذا توعد شديد، وتهديد أكيد عن طغيان هذا الطاغية.

3- فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي فليدع هذا الناهي أهل ناديه أي قومه وعشيرته، ليستنصر بهم ويعينوه، والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم أو الأهل والعشيرة، فإنه إن دعاهم لنصرته، تعرض لسخط ربه وعقابه الأشد، وسندعو له حينئذ الزبانية، أي الملائكة الغلاظ الشداد، ليأخذوه ويلقوه في نار جهنم. وفي هذا تحدّ بالغ. روي أن أبا جهل قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟! فنزلت، كما تقدم. وروى البخاري والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «لئن فعل لأخذته الملائكة» . 4- كَلَّا، لا تُطِعْهُ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي إياك يا محمد أن تجامل هذا الطاغية في شيء، أو تطيعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كما قال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم 68/ 8] ، وصل للَّه غير مكترث به، ولا مبال بتهديده أو نهيه، وتقرب إلى اللَّه سبحانه بالطاعة والعبادة، فذلك يكسبك قوة وعزة، ومنعة وهيبة في قلوب الأعداء، والعبادة هي الحصن والوقاية، وطريق النجاة والنجاح والنصر. وقوله: كَلَّا ردع لأبي جهل عن قبائح أحواله وأفعاله. والمراد بنهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن طاعة أبي جهل: قطع كل الصلات والعلاقات معه، والمراد بالأمر بالسجود: أن يزداد غيظ الكافر. وهذا تهكم بهذا الطاغية، واستخفاف به، وتعريض بأن اللَّه سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- وصف اللَّه تعالى أبا جهل وأمثاله من الطغاة المتمردين المتكبرين بأنه ينهى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه عن عبادة اللَّه تعالى، وأنه فيما يأمر به من عبادة الأوثان ليس على طريق سديدة، ولا على منهج الهدى، ولا من الآمرين بالتقوى، أي التوحيد والإيمان والعمل الصالح، وأنه في الحقيقة مكذب بكتاب اللَّه عز وجل، ومعرض عن الإيمان. 2- هدد اللَّه تعالى هذا الطاغية بالحشر والنشر، فإن اللَّه تعالى عالم بجميع المعلومات، حكيم لا يهمل، عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فلا بد أن يجازي كل أحد بما عمل. وفي هذا تخويف شديد للعصاة، وترغيب قوي لأهل الطاعة. وهذه الآية، وإن نزلت في حق أبي جهل، فكل من نهى عن طاعة اللَّه، فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، كما تقدم. ولا يعترض عليه بالمنع من الصلاة في الدار المغصوبة، والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه غير الصلاة، وهو المعصية. كذلك لا يعترض عليه بمنع الزوجة عن صوم التطوع وعن الاعتكاف لأن ذلك لاستيفاء مصلحة الزوج بإذن اللَّه، لا بغضا بعبادة ربه. 3- زاد اللَّه تعالى في الزجر والوعيد لذلك الطاغية أبي جهل وأمثاله: بأنه إن لم ينته عن أذى محمد ليأخذن اللَّه بناصيته (مقدم شعر رأسه) وليذلّنه ويجرّنه إلى نار السعير لأن ناصية أبي جهل كاذبة في قوله، خاطئة في فعلها، والخاطئ

معاقب مأخوذ، والمخطئ «1» غير مؤاخذ. والمراد أن صاحب تلك الناصية كاذب خاطئ، كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم، أي هو صائم في نهاره، قائم في ليله. 4- تحدى اللَّه تعالى هذا الطاغية مع التهكم والتوبيخ بأن يطلب أهل مجلسه وعشيرته، ليستنصر بهم، فإنه إذا فعل أحضر اللَّه الزبانية الملائكة الغلاظ الشداد لإلقائه في نار السعير. 5- بالغ اللَّه تعالى في زجر هذا الكافر عن كبريائه، ونفى قدرته على تحقيق تهديده، وحقّره وأبان صغر شأنه وعجز نفسه، فليس الأمر كما يظنه أبو جهل، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، وصل للَّه، وتقرب إلى جنابه بالطاعة والتعبد. وإنما عبّر عن الصلاة للَّه بقوله وَاسْجُدْ لما روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الأرض، ساجدا للَّه» . وعند مسلم عن أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» . وإنما كان ذلك لأن السجود على الأرض نهاية العبودية والذلة، وللَّه غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها، فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره. جاء في الحديث الصحيح: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن «2» أن يستجاب لكم» «3» .

_ (1) الخاطئ: الآثم القاصد للذنب. والمخطئ: من أراد الصواب، فصار إلى غيره. (2) قمن: خليق وجدير. (3) تفسير القرطبي: 20/ 128

سورة القدر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القدر مكيّة، وهي خمس آيات. تسميتها: سميت سورة القدر أي العظمة والشرف تسمية لها بصفة ليلة القدر الذي أنزل اللَّه فيها القرآن، فقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي في ليلة عظيمة القدر والشرف. مناسبتها لما قبلها: أمر اللَّه تعالى في سورة العلق نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقراءة القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، ثم أبان في هذه السورة زمن البدء في نزول القرآن، وهو ليلة القدر ذات الشرف الرفيع والقدر العالي بسبب نزول القرآن فيها. ما اشتملت عليه السورة: تحدثت هذه السورة المكية عن تاريخ بدء نزول القرآن الكريم، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والليالي والشهور، لنزول الملائكة وجبريل فيها بالأنوار والأفضال والبركات والخيرات على عباد اللَّه المؤمنين الصالحين، من لدن أرحم الراحمين الذي يفيض بها على من يشاء.

معنى نزول القرآن في ليلة القدر:

معنى نزول القرآن في ليلة القدر: معنى نزول القرآن في ليلة القدر، مع العلم بأنه نزل منجّما مقسّطا على مدى ثلاث وعشرين سنة: أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر لأن بعثة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت في رمضان. وذلك لأن اللَّه تعالى قال في هذه السورة: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقال في سورة الدخان: حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [1- 6] . وأما قوله تعالى في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [185] فمعناه أنه ابتدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك. وأما آية الأنفال:.. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [41] فلا تعني تحديد موعد نزول القرآن، وإنما تذكّر المؤمنين بما أنزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر في السابع عشر من رمضان من الآيات المتعلقة بأحكام القتال، والملائكة، والنصر. وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل. بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

الإعراب:

الإعراب: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يراد بالهاء القرآن، وأضمره وإن لم يجر له ذكر، للعلم به. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فيه صفة محذوفة، تقديره: خير من ألف شهر، لا ليلة قدر فيه، فحذف الصفة. سَلامٌ هِيَ.. هِيَ: مبتدأ، وسَلامٌ: خبره المقدم. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى مطلع الفجر. ويقرأ أيضا مَطْلَعِ بكسر اللام، والقياس هو الفتح لأنه من طلع يطلع، بضم عين المضارع، والكسر على خلاف القياس. البلاغة: لَيْلَةِ الْقَدْرِ إطناب لذكرها ثلاث مرات، للتفخيم وزيادة العناية بها. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ استفهام بقصد التفخيم والتعظيم. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ذكر الخاص بعد العام، ذكر جبريل بعد الملائكة، للتنويه بقدره. الْقَدْرِ، شَهْرٍ، أَمْرٍ، الْفَجْرِ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: أَنْزَلْناهُ القرآن، أضمره من غير سابقة ذكر له، للعلم به، والشهادة بأنه غني عن التصريح والتعريف، وقد عظّمه بإسناد إنزاله إليه، وعظّم الوقت الذي نزل فيه بقوله: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي ابتدأ إنزاله فيها، أو أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة الكرام البررة، ثم كان جبريل ينزل به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منجّما مقسطا على التدريج في ثلاث وعشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي ما أعلمك يا محمد ما هذه الليلة، والاستفهام لتعظيم شأنها، وسميت بذلك لشرفها، أو لتقدير الأمور فيها، كما قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان 44/ 4] . خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة قدر، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها. تَنَزَّلُ أي تتنزل إلى الأرض أو السماء الدنيا، أو تقربهم إلى المؤمنين.

سبب النزول:

وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام. فِيها في الليلة. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره. مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي كل أمر قضاه اللَّه فيها لتلك السنة إلى قابل، وقوله: مِنْ سببية، بمعنى الباء أي من أجل كل أمر قدّر في تلك السنة. والآية: تَنَزَّلُ لبيان سبب تفضيلها على ألف شهر. سَلامٌ هِيَ أي ما هي إلا سلامة، والمعنى: لا يقدر اللَّه فيها إلا السلامة، وأما في غيرها فيقضي بالسلامة والبلاء، أو لكثرة سلام الملائكة فيها على كل مؤمن ومؤمنة. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى وقت مطلعه أو طلوعه. سبب النزول: نزول الآية (1) : أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ونزول السورة هي بسبب ما ساءه من حكم بني أمية الذي دام ألف شهر، ولكنه حديث غريب ومنكر جدا. وأخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللَّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل اللَّه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل اللَّه. نزول الآية (3) : أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر، فأنزل اللَّه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ عملها ذلك الرجل. التفسير والبيان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي إننا نحن اللَّه بدأنا إنزال القرآن في ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، كما قال اللَّه عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ

مُبارَكَةٍ [الدخان 44/ 3] وهي في شهر رمضان لقول اللَّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة 2/ 185] . ثم أتممنا إنزاله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة وما تقتضيه الوقائع والحوادث، تبيانا للحكم الإلهي فيها. قال الزمخشري رحمه اللَّه: عظّم اللَّه القرآن من ثلاثة أوجه: أحدها- أن أسند إنزاله إليه، وجعله مختصا به دون غيره، والثاني- أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث- الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه «1» . ثم ذكر اللَّه تعالى فضائل تلك الليلة، فقال: 1- وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي وما أعلمك ما ليلة القدر؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها، وبيان مدى شرفها، وسميت بذلك لأن اللَّه تعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، أو لعظيم قدرها وشرفها. قال الزمخشري: معنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان 44/ 4] . وقدرها أيضا: أن العمل فيها، وهي ليلة واحدة، خير من العمل في ألف شهر. أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض اللَّه عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، في ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم» .

_ (1) الكشاف: 3/ 351

فقه الحياة أو الأحكام:

وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» . 2- تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي تهبط الملائكة وجبريل من السموات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك الليلة إلى قابل، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه يقدّر المقدّر في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلّمها إلى أربابها» . ولا يفعلون شيئا إلا بإذن اللَّه لقوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] . والروح: هو جبريل عليه السلام خص بالذكر لزيادة شرفه، فيكون من باب عطف الخاص على العام. ومن فوائد نزول الملائكة: أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروه في سكان السموات، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى اللَّه من زجل المسبّحين، فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا. ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا. 3- سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي هذه الليلة المحفوفة بالخير بنزول القرآن وشهود الملائكة، ما هي إلا سلامة وأمن وخير وبركة كلها، لا شرّ فيها، من غروب الشمس حتى وقت طلوع الفجر، يستمر فيها نزول الخير والبركة، ونزول الملائكة بالرحمة فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر. فقه الحياة أو الأحكام: يستدل بالآيات على ما يأتي: 1- بدأ نزول القرآن العظيم في ليلة القدر من ليالي رمضان المبارك.

2- ليلة القدر هي ليلة الشرف والتعظيم، وليلة الحكم والتقدير، يقدّر اللَّه فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبرائيل عليهم السلام. 3- العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف أشهر ليس فيها ليلة القدر، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. 4- تهبط الملائكة من كل سماء، ومن سدرة المنتهى، وجبريل حيث مسكنه على وسطها إلى الأرض، ويؤمّنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر. وهم ينزلون في ليلة القدر بأمر ربهم من أجل كل أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل، كما قال ابن عباس: وهذه الآية دالة على عصمة الملائكة، كما قال تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم 19/ 64] وقال سبحانه: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 27] . 5- تلك الليلة ليلة أمن وسلام، وخير وبركة من اللَّه تعالى، فلا يقدّر اللَّه في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة، وهي ليلة ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وهي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر. والخلاصة: اشتملت هذه الليلة على الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق، والمنافع الدينية والدنيوية. يؤيد هذا ما أخرجه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهن ابتغاء حسبتهن، فإن اللَّه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وتر: تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة» .

تعيين ليلة القدر:

تعيين ليلة القدر: الذي عليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان، كل عام لحديث زرّ بن حبيش الذي أخرجه مسلم والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، قال: قلت لأبيّ بن كعب: إن أخاك عبد اللَّه بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال: يغفر اللَّه لأبي عبد الرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه أراد ألا يتّكل الناس، ثم حلف لا يستثني «1» : أنها ليلة سبع وعشرين. قال: قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو بالعلامة: أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها. والجمهور على أن هذه الليلة باقية في كل عام، ومختصة برمضان. أماراتها أو علاماتها: من علاماتها أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة، لا حارّة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء» . وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد اللَّه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إني رأيت ليلة القدر، فأنسيتها، وهي في العشر الأواخر من لياليها، وهي طلقة بلجة، لا حارّة ولا باردة، كأن فيها قمرا، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها» . وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج ليخبر عن ليلة القدر، فوجد رجلين يتنازعان، فنسي الخبر.

_ (1) أي جزم في حلفه بلا استثناء فيه، بأن يقول عقب يمينه: إن شاء اللَّه.

الحكمة في إخفائها بين الليالي:

الحكمة في إخفائها بين الليالي: الحكمة في إخفاء ليلة القدر كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة، ويوم القيامة، حتى يرغب المكلف في الطاعات، ويزيد في الاجتهاد، ولا يتغافل، ولا يتكاسل، ولا يتكل. ومن الإشفاق أيضا ألا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وإذا اجتهد العبد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة، باهى اللَّه تعالى ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فهذا جدّهم في الأمر المظنون، فكيف لو جعلتها معلومة لهم؟ فهنالك يظهر سر قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. فضائلها: أوجز اللَّه تعالى كما تقدم بيان فضائلها بقوله سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها. والآية الأولى فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم، أما البشارة: فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير، ولم يبين قدر الخيرية. وأما التهديد: فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار، وأن إحياء مائة ليلة من القدر، لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق، بتطفيف حبة واحدة، فدل ذلك على تعظيم حال الذنب والمعصية «1» . وفي الصحيحين عن أبي هريرة كما تقدم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفرّاء: لا يقدر اللَّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها. ومثله ومثل ما تقدمه لا يدرك بالرأي.

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 31

سورة البينة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البيّنة مدنيّة، وهي ثماني آيات. تسميتها: سميت سورة البيّنة لافتتاحها بقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي مفارقين ما هم عليه من الكفر، منتهين زائلين عن الشرك، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي ذلك المنزل الذي يتلوه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتسمى أيضا سورة البرية، أو: لَمْ يَكُنِ. مناسبتها لما قبلها: هذه السورة كالعلة لما قبلها، فكأنه لما قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قيل: لم أنزل القرآن؟ فقيل: لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة، فهي كالعلة لإنزال القرآن، المشار إليه في سورة القدر المتقدمة. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المدنية تحدثت عن الأمور الثلاثة التالية: 1- بيان علاقة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين برسالة

فضلها:

النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وموقفهم منها، وإقلاعهم عن كفرهم بسببها: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... [الآيات 1- 4] . 2- تحديد الهدف الجوهري من الدين والإيمان وهو إخلاص العبادة للَّه عز وجل: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. [5] . 3- توضيح مصير كل من الكفار المجرمين الأشقياء شر البرية، والمؤمنين الأتقياء السعداء خير البرية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. [6- 8] . فضلها: أخرج الإمام أحمد عن مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال: «لما نزلت: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها، قال جبريل: يا رسول اللَّه، إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبيّ: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، قال أبيّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، قال: فبكى أبيّ» . وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بن كعب: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال: وسماني لك؟ قال: نعم، فبكى» . وأخرج أحمد والترمذي عن أبي بن كعب قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. فقرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب، وإن ذات الدين عند اللَّه الحنيفية غير المشركة

لا تكليف بلا بيان ولا عقوبة دون إنذار [سورة البينة (98) الآيات 1 إلى 5] :

ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره» وقال الترمذي: حسن صحيح. لا تكليف بلا بيان ولا عقوبة دون إنذار [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) الإعراب: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكِينَ: معطوف على أَهْلِ الْكِتابِ ومُنْفَكِّينَ: خبر كان. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا رَسُولٌ: بدل مرفوع من الْبَيِّنَةُ قبله، أو على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره هي رسول، وقرئ: رسولا بالنصب على الحال. دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الملة القيمة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ولولا هذا التقدير، لكان ذلك يؤدي إلى أن يكون ذلك إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك لا يجوز. مُخْلِصِينَ منصوب على الحال. البلاغة: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ثم قال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً إجمال ثم تفصيل. يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً استعارة تصريحية في لفظ مُطَهَّرَةً حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارتها عن الأنجاس. الْبَيِّنَةُ، الْقَيِّمَةِ، خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، شَرُّ الْبَرِيَّةِ توافق الفواصل، وهو من المحسنات البديعية.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: مِنْ للبيان. أَهْلِ الْكِتابِ اليهود والنصارى. الْمُشْرِكِينَ عبدة الأوثان والأصنام. مُنْفَكِّينَ منتهين عن كفرهم، زائلين عما هم عليه، مفارقين له. الْبَيِّنَةُ الحجة الواضحة التي يتميز بها الحق من الباطل، مأخوذة من البيان: وهو الظهور، والمراد هنا: الرسول أو القرآن، فإنه مبين للحق. صُحُفاً جمع صحيفة: وهي ما يكتب فيه. مُطَهَّرَةً خالية من الباطل، مبرّأة من الضلال والزور. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ في الصحف مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق، أي إن الرسول يتلو مضمون الكتب، وهو القرآن. وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عما كانوا عليه، بأن آمن بعضهم بالقرآن، وكفر به بعضهم. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ الدليل الواضح الدال على الحق، وهو الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أو القرآن الجائي به معجزة له. وَما أُمِرُوا في كتبهم كالتوراة والإنجيل. إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي إلا أن يعبدوه، فحذفت (أن) وزيدت اللام. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ جاعلين الدين له وحده نقيّا من الشرك، لا يشركون به. والإخلاص: الإتيان بالعمل خالصا للَّه تعالى دون إشراك به. والدين: العبادة. حُنَفاءَ مائلين عن الباطل والعقائد الزائغة، جمع حنيف: وهو في الأصل المائل المنحرف عن الشيء إلى غيره، والمراد هنا: المستقيمين على دين إبراهيم ودين محمد حين مجيئه. وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ دين الملة المستقيمة. التفسير والبيان: أرسل اللَّه تعالى رسوله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم لجميع العالمين من الإنس والجن، ولجميع الأمم والشعوب في عصره والعصور التالية له، ولكل أهل الملل والأديان، حتى أهل الكتاب والمشركين الذين بعدوا عن الدين الصحيح، لذا قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي لم يكن الذين جحدوا رسالة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنكروا نبوته، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم، منتهين عما هم عليه من الكفر، مفارقين لكفرهم الموروث، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو القرآن الكريم.

والمراد إخبار اللَّه تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم باللَّه، حتى يأتيهم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وما جاء به من القرآن، فإنه بيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان. ثم أوضح المراد بالبيّنة فقال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي تلك البينة هي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي أرسله رحمة للعالمين، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن، المطهرة من الخلط والكذب، والشبهات والكفر، والتحريف واللّبس، بل فيها الحق الصريح الذي يبين لأهل الكتاب والمشركين كل ما يشتبه عليهم من أمور الدين، وفيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة، دون زيغ عن الحق، وإنما هي صلاح ورشاد، وهدى وحكمة، كما قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصّلت 41/ 42] وقال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً لِيُنْذِرَ.. [الكهف 18/ 1- 2] . ونظير الآية قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس 80/ 12- 16] . ثم أبان تفرّق الكتابيين، فقال: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي لا تتأسف يا محمد على الكتابيين، فإن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم، بل كان بعد وضوح الحق، وظهور الصواب، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الحق والبينة الواضحة وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي جاء بالقرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته ووصفه، فلما بعث اللَّه محمدا، تفرقوا في الدين، فآمن به بعضهم، وكفر آخرون، وكان عليهم أن يتفقوا على طريقة واحدة، من اتباع

دين اللَّه، ومتابعة الرسول الذي جاءهم من عند اللَّه، مصدّقا لما معهم. ونظير الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران 3/ 105] . وقد أعذر من أنذر، كما قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال 8/ 42] . وجاء في الحديث المروي من طرق: «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول اللَّه؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» «1» . ثم وبّخهم على انحرافهم عن الهدف الجوهري من الدين وهو إخلاص العبادة للَّه، فقال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي إنهم تفرقوا واختلفوا، مع أنهم لم يؤمروا في التوراة والإنجيل أو في القرآن الذي جاءهم من عند اللَّه إلا بعبادة اللَّه وحده، وتكون عبادتهم خالصة لا يشركون به شيئا، ويخلصون العبادة للَّه عز وجل، مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، ويفعلون الصلوات على الوجه الذي يريده اللَّه في أوقاتها، ويعطون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس عند حلول وقتها. وهذا الذي أمروا به يقتضي الاتحاد والاتفاق، لا الشقاق والافتراق، ولم يجيء محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بمثل ما أمر به الرسل من ذلك، ومنهجه اتباع ملة إبراهيم عليه السلام الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة للَّه كما قال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل 16/ 123] . وذلك الدين: وهو إخلاص العبادة، وترك كل ما يعبد من دونه، وأداء

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 537

الصلوات للَّه في أوقاتها، وبذل الزكاة للمحتاجين، هو دين الملة المستقيمة. وقوله: وَما أُمِرُوا أي وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، أي أن المشروع في حقهم مشروع في حقنا. والأولى أن يكون المراد كما ذكر الرازي: وما أمر أهل الكتاب في القرآن أو على لسان محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بهذه الأشياء، لأن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا، وحمل كلام اللَّه على ما يكون أكثر فائدة أولى، ولقوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولأن اللَّه تعالى ختم الآية بقوله: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وهو شرع محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. وهذه الآية دالة على أن التفرق والكفر فعلهم بدليل قوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. والمقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، أي لا يحزنك أو لا يغمّنك تفرقهم، فليس ذلك لقصور في الحجة، بل لعنادهم، وهكذا كان سلفهم تفرقوا في السبت وعبادة العجل بعد قيام البينة عليهم، فهي عادة قديمة لهم. وقوله: لِيَعْبُدُوا اللام في موضع (أن) أي إلا أن يعبدوا، والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيرا، مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء 4/ 26] وقوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف 61/ 8] وقال في الأمر: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الأنعام 6/ 71] . وبما أن الإخلاص: عبارة عن النية الخالصة، والنية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به، فلا بد وأن يكون منويا. قالت الشافعية: بما أن الوضوء مأمور به في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة 5/ 6] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا. وعلى هذا لا بد في المأمورات من

النية: بأن يقصد الشخص بعمله وجه اللَّه. أما المنهيات فإن تركها بدون نية لم يؤجر في تركها، وإن تركها ابتغاء وجه اللَّه، كان مأجورا على تركها، وأما المباحات كالأكل والنوم، فإن فعلها بغير نية لم يؤجر، وإن فعلها بقصد وجه اللَّه والتقوي بها على الطاعة، كان له فيها أجر. واللام في قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد، وهو رب، فلو لم يكن هناك ثواب ولا عقاب البتة، ثم أمرك بالعبادة، وجبت لمحض العبودية. وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد اللَّه للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة. والعبادة هي التذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم. والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية. والإخلاص: هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل. وقوله: مُخْلِصِينَ تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص: هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل مخلصا لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر، بل قالوا: لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا، وإن كان لا بد من ذلك. وقالوا أيضا: من الإخلاص: ألا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت اثنتين: واحدة للَّه، وواحدة للأمير، لم يجز لأنه شرك.

فقه الحياة أو الأحكام:

ثم إن هذه الآية: وَما أُمِرُوا.. دليل على أن الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل لأن اللَّه تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم أشار إلى المجموع بقوله: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- للإسلام وشارعه فضل على جميع الأمم والخلائق، فلولاه لما عرف إيمان صحيح، ولا دين حق. 2- من هذه الفضائل والمزايا: أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين عبدة الأوثان والأصنام لم يصيروا منتهين عن كفرهم، مائلين أو زائلين عنه إلا بمجيء البينة وهي الحجة الواضحة، وهي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بما جاء به من القرآن العظيم، حجة اللَّه على عباده، ومعجزة رسوله مدى الحياة، وهو الذي يتلو منه على أسماع البشر صحفا مطهرة من الزور والشك والنفاق والضلالة، كما قال ابن عباس، وفي تلك الصحف مكتوبات مستقيمة مستوية محكمة، مستقلة بالدلائل. والصحف: القراطيس التي يكتب فيها القرآن، المطهر من النقائص، ومسّ المحدث إياه. ومعنى تلاوة الصحف: إملاؤه إياها. عن جعفر الصادق رضي اللَّه عنه: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ من الكتاب، وإن كان لا يكتب، ولعل هذا من معجزاته. 3- تقتضي الآية الأولى: لَمْ يَكُنِ أن أهل الكتاب منهم كافر، ومنهم

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 43- 48

مؤمن ليس بكافر. أما المشركون فلا ينقسمون هذه القسمة، وكلهم كفار لأن كلمة مِنْ هنا ليست للتبعيض، بل للتبيين، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج 22/ 30] فقوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ بيان للذين كفروا، والمراد أن الكفار فريقان: بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس، وبعضهم مشركون. وكلمة وَالْمُشْرِكِينَ وصف لأهل الكتاب لأن النصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبّهة، وهذا كله شرك. 4- في الآية الأولى أحكام شرعية هي: أولا- أنه تعالى فسر قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا بأهل الكتاب وبالمشركين، وهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر، لذا قال العلماء: الكفر كله ملة واحدة، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس. ثانيا- أن العطف أوجب المغايرة، فلذلك نقول: الذمي ليس بمشرك. وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم عن المجوس فيما أخرجه الشافعي عن عبد الرحمن بن عوف: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك. لكن قوله: «غير ناكحي» إلخ، زيادة ضعيفة. ثالثا- نبّه بذكر الكتاب على أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثلما حدث في الأمم الماضية «1» . 5- خص اللَّه تعالى أهل الكتاب بظهور التفرق فيهم دون غيرهم، وإن اشتركوا مع بقية الكفار في الكفر لأنه مظنون بهم علم، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. 6- حدثت ظاهرة تفرق أهل الكتاب بعد البعثة النبوية، وذلك أنهم كانوا

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 41

وعيد الكفار ووعد الأبرار وجزاء الفريقين [سورة البينة (98) الآيات 6 إلى 8] :

مجتمعين متفقين على نبوته، فلما بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر بغيا وحسدا، ومنهم من آمن، كقوله تعالى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الشورى 42/ 14] . 7- ما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل والقرآن إلا أن يوحّدوا اللَّه تعالى، ويخلصوا له العبادة، كما قال تعالى: قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزّمر 39/ 11] وأن يكونوا حنفاء، أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام المرضي وحده عند اللَّه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وأن يقيموا الصلاة بحدودها في أوقاتها، ويعطوا الزكاة عند حلول أجلها، وذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي الدين المستقيم، أو دين الملة القيمة، أو دين الأمة القيمة القائمة بالحق. 8- قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب، وهو الذي يراد به وجه اللَّه تعالى، لا غيره. 9- الإخلاص لبّ العبادة، جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه» . وعيد الكفار ووعد الأبرار وجزاء الفريقين [سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

الإعراب:

الإعراب: خالِدِينَ فِيها أَبَداً خالِدِينَ منصوب على الحال من ضمير مقدر، تقديره: يجزونها خالدين فيها. وأَبَداً ظرف زمان مستقبل يتعلق ب خالِدِينَ وأما (قط) فللماضي، تقول: واللَّه لا أكلمه أبدا، وما كلمته قط. البلاغة: شَرُّ الْبَرِيَّةِ وخَيْرُ الْبَرِيَّةِ بينهما طباق. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. الآية، وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. الآية فيهما مقابلة بين عذاب الكفار الفجار، وبين نعيم المؤمنين الأبرار. المفردات اللغوية: خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها يوم القيامة على الدوام، بتقدير اللَّه تعالى، ويلاحظ أن اشتراك أهل الكتاب والمشركين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه، فربما اختلف لتفاوت كفرهما. شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة أو الخلق، وقرئ: البريئة بالهمز على الأصل. جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته، وهو زيادة على جزائهم. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه وفضله وهو أقصى أمانيهم. ذلِكَ أي المذكور من الجزاء والرضوان. لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ خاف عقابه، فانتهى عن معصية اللَّه تعالى، فإن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير. قال البيضاوي عن وعد المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.. فيه مبالغات: تقديم المدح، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، والحكم عليه بأنه من عند ربهم، وجمع جنات، وتقييدها إضافة ووصفا بما يزداد لها نعيما، وتأكيد الخلود بالتأبيد «1» . المناسبة: بعد بيان موقف الكفار والمشركين من دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكر اللَّه تعالى وعيد الكفار، ووعد الأبرار وجزاء الفريقين، وقدم وعيد أهل الكتاب على المشركين لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقدّم حق اللَّه على حق نفسه، ولهذا حين كسروا رباعيته في غزوة أحد قال: «اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون» وحيث فاتته

_ (1) تفسير البيضاوي: ص 806

التفسير والبيان:

صلاة العصر يوم الخندق قال: «ملأ اللَّه بطونهم وقبورهم نارا» فقال اللَّه تعالى: كما قدّمت حقي على حقك، فأنا أيضا أقدم حقك على حقي، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر، ومن طعن فيك بوجه يكفر، ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك، فقدّمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ. ثم إن أهل الكتاب أولى بالإيمان بالرسول محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهم في الجملة يؤمنون بدين، ويقرون بنبي آخر الزمان، وعلاماته في كتبهم، فطعنهم به في غير محله، فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك «1» . التفسير والبيان: يخبر اللَّه تعالى عن مآل الفجار الكفار فيقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها، أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي إن الذين خالفوا كتب اللَّه المنزلة، وأنبياء اللَّه المرسلة، من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام، مآلهم يوم القيامة في نار جهنم المستعرة، يصيرون إليها، ماكثين فيها على الدوام، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وهم حالا شر الخليقة التي برأها اللَّه وذرأها لأنهم تركوا الحق حسدا وبغيا، فسيكونون شر الخليقة مصيرا. والسبب في أنه لم يقل هنا خالدين فيها أبدا، كما فعل في الأبرار لأن رحمته أزيد من غضبه. وقوله: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لإفادة النفي والإثبات، أي هم دون غيرهم. ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال الأبرار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي إن الذين آمنوا بقلوبهم بربهم وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا الصالحات بأبدانهم، هم أفضل الخلق حالا ومآلا.

_ (1) غرائب القرآن: 30/ 153، تفسير الرازي: 32/ 49

وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين الأبرار على الملائكة لقوله تعالى: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. ثم ذكر جزاءهم فقال: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي جزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم ومالكهم على الإيمان والعمل الصالح جنات أو بساتين إقامة دائمة تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، لا يخرجون منها، ولا يرحلون عنها، ولا يموتون، بل هم دائمون في نعيمها، مستمرون في لذاتها إلى الأبد، لا نهاية لنعيمهم. وكلمة الجزاء تفيد معنيين: أحدهما- أن يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص، والثاني- أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية لأن الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا ويحققه له، كما قال: وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [فصلت 41/ 31] . وقوله: تَجْرِي إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد. رضي اللَّه عنهم لأنهم أطاعوا أمره، وقبلوا شرائعه، ورضوا عنه، بما منحهم من الثواب والفضل العميم، وتحقيق المطالب مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وهذا الجزاء والرضوان حاصل لمن خاف اللَّه واتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه، وانتهى عن معاصيه بسبب ذلك الخوف. وفي ذلك تحذير من خشية غير اللَّه، وتنفير من إشراك غيره به في جميع الأعمال، وترغيب في تقوى اللَّه ورهبته، حتى يصبح العمل خالصا للَّه وحده. كما أن فيه إيماء إلى أن شرط أداء العبادة كالصوم والصلاة: خشية اللَّه والخشوع له.

فقه الحياة أو الأحكام:

أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل اللَّه، كلما كانت هيعة استوى عليه، ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: رجل في ثلّة من غنمه، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى، قال: الذي يسأل باللَّه ولا يعطى به» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- استحق أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركون عبدة الأصنام بسبب كفرهم بالإسلام ثلاث عقوبات: دخول نار جهنم، والخلود فيها، ووصفهم بأنهم دون غيرهم هم شر البرية وشر خلق اللَّه. وقوله في وعيدهم: خالِدِينَ فِيها وفي آية الرعد: خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة كما تقدم إلى كمال كرمه وسعة رحمته، كما قال في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة: سبقت رحمتي غضبي. 2- قال العلماء: آية الوعيد هذه مخصوصة في صورتين: إحداهما- أن من تاب منهم وأسلم، خرج من الوعيد. والثانية- أن من مضى من الكفرة يجوز ألا يدخل فيها لأن فرعون كان شرا منهم. 3- استحق الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح أربعة أنواع من الجزاء: وصفهم بأنهم خير البرية، ودخول جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، والخلود فيها أبدا، ورضوان اللَّه عليهم أي رضا أعمالهم، ورضاهم عن اللَّه، أي رضاهم بثواب اللَّه تعالى.

4- وعملوا الصالحات: والخلود في الجنة خير من الجنة، ورضا اللَّه خير من الجنة. إما من مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا أو مقابلة الفرد بالفرد، فلا مكلف يأتي بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ، فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ، كما لو قال لامرأتيه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا، فيحمل على أن يدخل كل واحدة منهما دارا على حدة. 5- احتج بعضهم بقوله: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي الخليقة ويؤيده قراءة الهمز على تفضيل البشر على الملائكة، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا، قال: أتعجبون من منزلة الملائكة من اللَّه، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند اللَّه يوم القيامة، أعظم من ذلك، وقرأ هذه الآية. والجواب بأن الملائكة أيضا داخلون في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو المراد بالبرية: بنو آدم لأن اشتقاقها من البري: وهو التراب، لا من برأ اللَّه الخلق، فلا يدخل الملائكة في الآية البتة. 6- قوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ مع قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر 35/ 28] ظاهر في أن العلماء باللَّه هم خير البرية، اللهم اجعلنا منهم.

سورة الزلزلة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الزلزلة مدنيّة، وهي ثماني آيات. تسميتها: سميت سورة الزلزلة أو الزلزال لافتتاحها بالإخبار عن حدوث الزلزال العنيف قبيل يوم القيامة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وهي سورة مدنية، وقال ابن كثير: هي مكية. مناسبتها لما قبلها: لما ذكر اللَّه تعالى في آخر سورة البيّنة وعيد الكافر ووعد المؤمن وأن جزاء الكافرين نار جهنم، وجزاء المؤمنين جنات، بيّن هنا وقت ذلك الجزاء وبعض أماراته وهو الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها، فكأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقال: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي يكون يوم زلزلة الأرض. ثم إنه تعالى أراد أن يزيد في وعيد الكافر، فقال: أجازيه حينما تزلزل الأرض، مثل قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران 3/ 106] . ثم ذكر ما للطائفتين، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ.. [106] ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [107] . ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرّة من الخير والشر. ما اشتملت عليه السورة: أسلوب هذه السورة المدنية وموضوعها يشبه أسلوب وموضوع السور المكية، لإخبارها عن أهوال القيامة وشدائدها.

سبب نزولها:

وقد اشتملت على مقصدين: 1- بيان حدوث الزلزال والاضطراب الشديد للأرض يوم القيامة، فينهار كل ما عليها، ويخرج الناس الموتى من بطنها من قبورهم، وتشهد حينئذ على كل إنسان بما عمل على ظهرها: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الآيات: 1- 5] . 2- الحديث عن ذهاب الخلائق لموقف العرض والحساب، ثم مجازاتهم على أعمالهم، وقسمتهم فريقين: سعيد إلى الجنة، وشقي إلى النار: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً.. [6- 8] . سبب نزولها: كان الكفار يسألون كثيرا عن الساعة ويوم الحساب، فيقولون: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟ [القيامة 75/ 6] . مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ [الملك 67/ 25] . مَتى هذَا الْفَتْحُ؟ «1» [السجدة 32/ 28] ونحو ذلك، فأبان لهم في هذه السورة علامات القيامة فحسب، ليعلموا أن علم ذلك عند اللَّه، ولا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم للعرض والحساب والجزاء. فضلها: أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: «أتى رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أقرئني يا رسول اللَّه، قال له: اقرأ ثلاثا من ذوات الراء، فقال له الرجل: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: فاقرأ من ذوات حم، فقال مثل مقالته الأولى، فقال: اقرأ ثلاثا من المسبّحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول اللَّه سورة جامعة، فأقرأه إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها حتى إذا فرغ منها، قال الرجل: والذي بعثك

_ (1) أي متى الفتح الذي تعدوننا به، وهو يوم البعث الذي يقضي اللَّه فيه بين عباده؟

أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر [سورة الزلزلة (99) الآيات 1 إلى 8] :

بالحق نبيا، لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل، ثم قال: عليّ به، فجاءه، فقال له: أمرت بيوم الأضحى، جعله اللَّه عيدا لهذه الأمة، فقال له الرجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، فأضحّي بها؟ قال: لا «1» ، ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلّم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذاك تمام أضحيتك عند اللَّه عز وجل» . وأخرج الترمذي- وقال: هذا حديث حسن- عن أنس بن مالك: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ولا عندي ما أتزوج!! قال: أليس معك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، تزوج» . أمارة القيامة والجزاء على الخير والشر [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

_ (1) هذا في بداية الأمر، ثم أبيح التضحية بالأنثى، واتفقت المذاهب على جواز ذلك، إلا أن الفحل أفضل من الأنثى.

الإعراب:

الإعراب: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِذا ظرف، والعامل فيه إما فَمَنْ يَعْمَلْ أو تُحَدِّثُ ويكون يَوْمَئِذٍ تكرارا وبدلا من إِذا، وتقديره: إذا زلزلت الأرض تحدث أخبارها. وزِلْزالَها: منصوب على المصدر، بكسر الزاي الأولى، ولو فتح لكان اسما، وقيل: هو بالفتح أيضا مصدر. أَشْتاتاً منصوب على الحال من النَّاسُ جمع (شتّ) وهو المتفرق. فَمَنْ يَعْمَلْ.. وَمَنْ يَعْمَلْ.. من في الموضعين: شرطية في موضع رفع بالابتداء. ويَرَهُ: خبره. البلاغة: زِلْزالَها الإضافة للتهويل. وزُلْزِلَتِ زِلْزالَها بينهما جناس الاشتقاق. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ إظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتوكيد. وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها؟ استفهام للتعجب والاستغراب أو الاستهجان. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ بينهما مقابلة. زِلْزالَها، أَثْقالَها، أَوْحى لَها، أَخْبارَها، ما لَها سجع مرصع من المحسنات البديعية. أَوْحى لَها تضمين، ضمن ذلك معنى الإذن والأمر لها. المفردات اللغوية: زُلْزِلَتِ الزلزال: التحريك والاضطراب الشديدان، وذلك يحصل عند النفخة الأولى أو الثانية أو الممكّن لها في الحكمة الإلهية. أَثْقالَها الأثقال في الأصل: أمتعة البيت، كما قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.. [النحل 16/ 7] جمع ثقل: متاع البيت، والمراد هنا: ما في جوف الأرض من الكنوز والدفائن والأموات، وتخرج أثقالها: تلقيها على ظهرها. وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها يتساءل الإنسان عما يبهره من الأمر الفظيع وإنكارا لتلك الحالة، وقيل: المراد بالإنسان: الكافر بالبعث، فإن المؤمن يعلم ما لها. تُحَدِّثُ أَخْبارَها تخبر بما عمل عليها من خير وشر. وهي تحدّث الخلق إما بلسان الحال وهو ما لأجله زلزالها وإخراجها، أو ينطقها اللَّه فتخبر بما عمل عليها. وهو جواب إِذا جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة: «تشهد على كل عبد أو أمة بكل ما عمل على ظهرها» .

سبب النزول نزول الآية (7، 8) :

بِأَنَّ رَبَّكَ أي تحدّث بسبب أن ربك أَوْحى لَها أمرها بذلك، والوحي: الإلهام بخفاء، يقال: أوحى له وإليه، ووحي له وإليه: كلّمه خفية أو ألهمه. يَصْدُرُ النَّاسُ يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب. أَشْتاتاً متفرقين متمايزين بحسب مراتبهم وأعمالهم. لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ يروا جزاء أعمالهم من الجنة أو النار، ذَرَّةٍ الذرة: الهباء الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من نافذة، أو النملة الصغيرة، ومِثْقالَ ذَرَّةٍ زنة نملة أو هباء، وهو مثل في الصغر. خَيْراً يَرَهُ يرى ثوابه. شَرًّا يَرَهُ يرى جزاءه. وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ.. تفصيل لِيُرَوْا. سبب النزول: نزول الآية (7، 8) : فَمَنْ يَعْمَلْ..: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل، إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد اللَّه النار على الكبائر، فأنزل اللَّه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وقد سمّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ.. الجامعة الفاذّة ، حين سئل عن زكاة الحمر، فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «ما أنزل اللَّه فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» » . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين، وذلك أنه لما نزل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ كان أحدهما يأتيه السائل، فيسأل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، ويقول: ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطي.

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم. [.....]

التفسير والبيان:

وكان أحدهما يتهاون بالذنب الصغير، ويقول: لا شيء عليّ من هذا، فرغب اللَّه تعالى في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر، وحذر من الذنب اليسير، فإنه يوشك أن يعظم، فلهذا قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة» . التفسير والبيان: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي إذا تحركت الأرض من أسفلها حركة شديدة، واضطربت اضطرابا هائلا حتى يتكسر كل شيء عليها، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج 22/ 1] وقال سبحانه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الواقعة 56/ 4] . وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن، كما قال تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق 84/ 3- 4] . وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» . وتخرج الأرض الأموات في النفخة الثانية. وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها؟ أي قال كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهره أمرها ويذهله خطبها: ما لهذه الأرض، ولأي شيء زلزلت، وأخرجت أثقالها؟ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي في ذلك الوقت المضطرب، وقت الزلزلة، تخبر الأرض بأخبارها، وتحدّث بما عمل عليها من خير وشر، ينطقها اللَّه

سبحانه، لتشهد على العباد. قال ابن عباس في الآية: قال لها ربها: قولي، فقالت. أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي- واللفظ له- عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها» «1» . وقال الطبري: إن هذا تمثيل، والمراد أنها تنطق بلسان الحال، لا بلسان المقال. ثم أبان اللَّه تعالى مصدر هذه الواقعة، فقال: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي تحدّث أخبارها بوحي اللَّه وإذنه لها بأن تتحدث وتشهد. فقوله: أَوْحى لَها أي أذن لها وأمرها، أو أوحى إليها أي ألهمها. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي في هذا اليوم المضطرب وفي يوم الخراب المدمر، يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب، مختلفي الأحوال، فبعضهم آمن، وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة، وبعضهم بلون أهل النار، ليريهم اللَّه أعمالهم معروضة عليهم. هذا ما يراه بعض المفسرين كالشوكاني. فالصدر على هذا الرأي: هو قيامهم للبعث بعد أن كانوا مدفونين في الأرض، وأَشْتاتاً فرقا مؤمن وكافر وعاص، سائرون إلى العرض، ليروا أعمالهم. وقال آخرون كابن كثير: يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا، أي أنواعا وأصنافا، ما بين شقي وسعيد، مأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار،

_ (1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

ليجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر، فيكون المراد بقوله: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة والنار، ولهذا قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي فمن يعمل في الدنيا وزن نملة صغيرة أو هباء لا يرى إلا في ضوء الشمس، والمراد أي عمل مهما كان صغيرا، فإنه يجده يوم القيامة في كتابه، ويلقى جزاءه، فيفرح به، أو يراه بعينه معروضا عليه. وكذلك من يعمل في الدنيا أي شيء من الشر ولو كان حقيرا أو قليلا، يجد جزاءه يوم القيامة، فيسوؤه. والذرّ كما تقدم: ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، أو هو النملة الصغيرة. ونظير الآية قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 21/ 47] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 49] . وفي صحيح البخاري عن عدي مرفوعا: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، ولو بكلمة طيبة» وفي الصحيح له أيضا: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه منبسط» وفي الصحيح أيضا: «يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرنّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة» يعني ظلفها. وفي الحديث الآخر الذي أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والنسائي عن حوّاء بنت السكن: «ردّوا السائل، ولو بظلف محرق» . وأخرج الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا عائشة استتري من النار، ولو بشق تمرة، فإنها تسدّ من الجائع مسدّها من الشبعان» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: «كان أبو بكر يأكل مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ

فقه الحياة أو الأحكام:

مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول اللَّه، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال: يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشر، ويدخر اللَّه لك مثاقيل ذرّ الخير، حتى توفّاه يوم القيامة» . وأخرج ابن جرير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: «لما نزلت: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وأبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه قاعد، فبكى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر اللَّه لكم، لخلق اللَّه أمة يخطئون ويذنبون، فيغفر لهم» . حسنات الكافر: قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه اللَّه تعالى إياه، فأما المؤمن فيغفر له سيئاته، ويثاب بحسناته. وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته. وعلى هذا يعاقب الكافر بسبب كفره، وأما حسناته فتنفعه في الدنيا، كدفع شر أو ضرر عنه، وأما في الآخرة فلا تفيده، ولا تنجيه من عذاب الكفر الذي يخلد به في النار، قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان 25/ 23] . فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- من أمارات الساعة: الزلزلة الشديدة للأرض، وإخراج الأرض أثقالها، أي ما في جوفها من الدفائن والأموات. قالوا: إنها عند النفخة الأولى تتزلزل، فتلفظ بالكنوز والدفائن، وعند النفخة الثانية ترجف فتخرج الأموات أحياء، كالأم تلد حيا. 2- لا شك بأن الإنسان في وقت الزلازل والبراكين يرتجف ويخاف

ويتساءل: ما للأرض زلزلت، ما لها أخرجت أثقالها؟ وهي كلمة تعجيب. 3- إذا زلزلت الأرض تخبر يومئذ بما عمل عليها من خير أو شر، ومعنى تحديث الأرض عند أبي مسلم الأصفهاني: يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله، فكأنها حدثت بذلك، كقولك: الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت. وقال الطبري: تبين أخبارها بالرّجة والزلزلة وإخراج الموتى. وقال الجمهور: المعنى أن اللَّه تعالى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطقا ويعرفها جميع ما عمل أهلها، فحينئذ تشهد لمن أطاع، وعلى من عصى، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث الترمذي عن أبي هريرة: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها» ثم تلا هذه الآية «1» . 4- الذي تخبر به الأرض: إما أعمال العباد على ظهرها، كما جاء في حديث الترمذي عن أبي هريرة المتقدم: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، وكذا، قال: فهذه أخبارها» . أو أنها تخبر بما أخرجت من أثقالها، كما جاء في حديث ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان أجل العبد بأرض أو ثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره، قبضه اللَّه، فتقول الأرض يوم القيامة: ربّ هذا ما استودعتني» . أو أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان: ما لها؟ وهذا قول ابن مسعود، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن «2» .

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 59، تفسير القرطبي: 20/ 149، غرائب القرآن: 30/ 157 (2) تفسير القرطبي: 20/ 148- 149

5- في يوم الزلزلة يذهب الناس من مخارج قبورهم إلى الموقف، بعضهم إثر بعض، أو يرجعون وينصرفون من موقف الحساب إلى موضع الثواب والعقاب فرقا فرقا، ليروا صحائف أعمالهم، أو جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار، وما يناسب كلّا منهما. ويؤيد هذا قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا ازددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي «1» ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. 6- كل من يعمل في الدنيا عملا خيرا صغيرا أو كبيرا، يره بعينه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة، وكل من يعمل في الدنيا عملا شرا مهما كان قليلا، يره بنفسه أو يره اللَّه إياه يوم القيامة. أو أن المراد: يجد جزاءه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. أما الكافر كما تقدم فحسناته في الآخرة محبطة بكفره وترد في وجهه، ويجد عقاب ما فعل من كفر أو شر، فيعذب بسيئاته، أي أن عموم الآية قائم، ولكن لا تقبل حسنات الكفار. قال ابن مسعود عن آية: فَمَنْ يَعْمَلْ..: هذه أحكم آية في القرآن. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية. قال كعب الأحبار: لقد أنزل اللَّه على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزّبور والصّحف: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- كما تقدم- يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 150

سورة العاديات:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العاديات مكيّة، وهي إحدى عشرة آية. تسميتها: سميت سورة العاديات لأن اللَّه افتتحها بالقسم بالعاديات: وهي خيل المجاهدين المسرعة في لقاء العدو. مناسبتها لما قبلها: تظهر المناسبة بين السورتين من وجهين: 1- هناك تناسب وعلاقة واضحة بين قوله تعالى في الزلزلة: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [2] وقوله في هذه السورة: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. 2- لما ختمت السورة السابقة ببيان الجزاء على الخير والشر، وبّخ اللَّه تعالى الإنسان على جحوده نعم ربه، وإيثاره الحياة الدنيا على الآخرة، وترك استعداده للحساب في الآخرة بفعل الخير والعمل الصالح، وترك الشر والعصيان. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة المكية مقاصد ثلاثة: 1- القسم الإلهي بخيل المجاهدين على أن الإنسان كفور جحود لنعم ربه عليه، وأنه مقدر شاهد على ذلك: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً.. [1- 7] .

جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة [سورة العاديات (100) الآيات 1 إلى 11] :

2- التحدث عن غريزة الإنسان في حبه الشديد للثروة والمال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [8] . 3- الحض على فعل الخير والعمل الصالح الذي ينفع الإنسان حين رجوع الخلائق إلى اللَّه للحساب والجزاء، والتهديد بالعقاب الشديد يوم القيامة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ.. [9- 11] . جحود النعم والبخل لحب الخير وإهمال الاستعداد للآخرة [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) الإعراب: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً: ضَبْحاً: منصوب على المصدر في موضع الحال، وهو صوت أنفاس الخيل حين عدوها، وقَدْحاً: مصدر مؤكد لأن الموريات بمعنى القادحات. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً: صُبْحاً: منصوب على الظرف، وأثرن: عطف على قوله: فَالْمُغِيراتِ لأن المعنى: اللاتي أغرن صبحا، فأثرن به نقعا، أي جاز عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويل الفعل. وهاء بِهِ تعود إلى المكان، وقد دل الحال عليه. إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جواب القسم، ولام لِرَبِّهِ يتعلق ب (كنود) أي إن الإنسان لكنود لربه. وقد حسّن دخول لام الجر تقديمه على اسم الفاعل، كما مع الفعل الذي يشبه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف 7/ 154] وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف 12/ 43] .

البلاغة:

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي، وإنه لأجل حب المال لبخيل، واللام تتعلق ب (شديد) أي وإنه لشديد لأجل حب المال، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ العامل في إِذا بُعْثِرَ: ما دل عليه: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. ولا يجوز أن يعمل فيه (خبير) لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إِنَّ فيما قبلها، ولا يجوز أن يعمل فيه يَعْلَمُ لأن الإنسان لا يطلب منه العلم في الآخرة، وإنما في الدنيا. ويَوْمَئِذٍ: ظرف عمل فيه لَخَبِيرٌ وجاز أن يعمل فيما قبله لأن اللام في تقدير التقديم، بخلاف إِنَّ. البلاغة: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ التأكيد بإن واللام لزيادة التقرير والبيان. لَشَهِيدٌ لَشَدِيدٌ بينهما جناس ناقص، وكذلك بين ضَبْحاً وصُبْحاً. أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ استفهام إنكاري للتهديد والوعيد. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ تضمين، ضمن لفظ لَخَبِيرٌ معنى المجازاة، أي يجازيهم على أعمالهم. لَشَهِيدٌ، لَشَدِيدٌ، الصُّدُورِ، الْقُبُورِ سجع مرصع. المفردات اللغوية: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً أقسم بخيل المجاهدين تعدو، فتضبح ضبحا، قال أبو حيان: والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات، وَالْعادِياتِ الخيل التي تعدو وتسرع في العدو أي الجري جمع عادية. والضّبح: صوت أنفاس الخيل حين العدو أو الجري. فَالْمُورِياتِ الخيل القادحات التي توري النار، أي تخرجها، جمع مورية، والإيراء: إخراج النار بزند ونحوه. قَدْحاً القدح: إخراج النار، ويلاحظ أن الخيل إذا ركضت أو سارت في أرض ذات حجارة بالليل تقدح شرارة من النار بحوافرها. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً الخيل التي تغير أو تهجم على العدو بإغارة أصحابها، وقت الصبح، جمع مغيرة. فَأَثَرْنَ بِهِ هيجن بمكان عدوهن، أو بذلك الوقت وهو الصبح. نَقْعاً غبارا، بشدة حركتهن. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً توسطن بذلك الوقت أو بالعدو أو بالنقع جمعا من جموع الأعداء، أي صرن وسط الجمع.

سبب النزول نزول الآية (1) :

إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور جحود نعمة اللَّه تعالى عليه، والمراد به جنس الإنسان المتحدث عنه، وقيل: المراد به هنا: الكافر. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإنه على كنوده لشاهد، يشهد على نفسه بصنعه، لظهور أثره عليه. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ المال لقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة 2/ 180] . لَشَدِيدٌ لبخيل، أو لشديد الحب له، فيبخل به. بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أثير وأخرج ما في القبور من الموتى، أي بعثوا. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ جمع محصلا وأظهر وبيّن ما في القلوب من الكفر والإيمان، والشر والخير والعزائم والنوايا، وتخصيص ذلك لأن القلوب هي الأصل. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ لعالم، فيجازيهم على كفرهم. ويلاحظ أنه أعيد الضمير: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ جمعا، نظرا لمعنى الإنسان. وهذه الجملة: دلت على مفعول يعلم، أي إنا نجازيه حينئذ. وتعلق (خبير) ب يَوْمَئِذٍ مع أنه تعالى خبير دائما بكل شيء لأنه يوم المجازاة. سبب النزول: نزول الآية (1) : أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا، ولبثت شهرا، لا يأتيه منها خبر، فنزلت: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. التفسير والبيان: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ أي قسما بالخيل التي تجري وتعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل اللَّه إلى العدو، ويسمع لها حينئذ صوت زفيرها الشديد وأنفاسها المتصاعدة، بسبب شدة الجري. وتخرج شرر النار بحوافرها أثناء الجري بسبب اصطكاك نعالها بالصخر أو الحجر وتغير أو تهجم على العدو وقت الصباح. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً فهيجن في الصبح أو مكان معترك الخيول غبارا يملأ الجو، ثم توسطن بعدوهن جمعا من الأعداء، اجتمعوا في مكان، ففرّقنه أشتاتا.

وإنما أقسم اللَّه تعالى بالخيل لأن لها في الركض (العدو) من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب، ولأن الخيل في نواصيها الخير «1» إلى يوم القيامة، ولأنها وسيلة الغزو عند العرب، ولا تكاد تخلو في الأغلب من الخطور ببالهم. والمراد إعلاء شأنها في نفوس المؤمنين، ليعنوا بتربيتها، وليتدربوا عليها من أجل الجهاد في سبيل اللَّه، وليعتادوا على معالي الأمور، وظواهر الجد والعمل. وفي هذا القسم ترغيب باقتناء الخيل لهذه الأغراض النبيلة، لا للسمعة والمفاخرة والرياء. وعلى هذا فاللام في العاديات للعهد، ويحتمل وهو الظاهر كما تقدم عن أبي حيان أن تكون للجنس وليست أل فيه للعهد، ويدخل فيها خيل الجهاد والسرية دخولا أولياء. وجواب القسم المحلوف عليه هو: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي إن الإنسان كفور بطبعه للنعمة، كثير الجحد لها، وعدم الإقرار بمقتضاها الموجب لشكر الخالق المنعم، والخضوع لشرعه وأحكامه، إلا من جاهد نفسه، وعقل أمر الدنيا والآخرة، فأقبل على الطاعة والفضيلة، وأحجم عن المعصية والرذيلة. والظاهر أن المراد بالإنسان هو الجنس، والأكثرون على أن الإنسان هو الكافر لقوله بعد ذلك: أَفَلا يَعْلَمُ. لكنهم قالوا أيضا: ويحتمل أن يراد أن جنس الإنس مفطور على ذلك إلا من عصمه اللَّه بلطفه وتوفيقه، وقوله: أَفَلا يَعْلَمُ يجوز أن يكون توبيخا على أنه لا يعمل بعلمه. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإن الإنسان على كونه كنودا جحودا لشهيد

_ (1) قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.

يشهد على نفسه بالجحد والكفران، أي بلسان حاله، وظهور أثر ذلك عليه في أقواله وأفعاله بعصيان ربه، كما قال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة 9/ 17] . وقال قتادة وسفيان الثوري: وإن اللَّه على ذلك لشهيد. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإن الإنسان بسبب حبه للمال لبخيل به، أو أن حبه للمال قوي، فتراه مجدّا في طلبه وتحصيله، متهالكا عليه. فصار هناك رأيان في المعنى: أحدهما- وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني- وإنه لحريص بخيل بسبب محبة المال، قال ابن كثير: وكلاهما صحيح. ثم هدد الإنسان وتوعده إذا ظل بهذه الصفات، فقال: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي أفلا يدري الجاحد إذا أخرج أو نثر ما في القبور من الأموات، وأبرز وأظهر ما يسرّ الناس في نفوسهم من النوايا والعزائم، والخير والشر، إن رب هؤلاء المبعوثين لخبير بهم، مطلع على جميع أحوالهم، لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره، ومجازيهم في ذلك اليوم على جميع أعمالهم أوفر الجزاء، ولا يظلمون مثقال ذرة. فإذا علموا ذلك ووعوه، فعليهم ألا يشغلهم حب المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل للآخرة. وخص أعمال القلوب بالذكر لأن أعمال الأعضاء الأخرى تابعة لأعمال القلب فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح. وأعاد الضمير في قوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ بصيغة الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر 103/ 2] ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [3] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وإنما قال: يَوْمَئِذٍ مع أنه تعالى عالم بأحوال الناس في كل وقت، للتأكيد على أنه عالم بذلك يوم المجازاة. وعبّر عن المجازاة بالخبرة والعلم المحيط بهم ولأعمالهم لأن القصد هو التهديد، كما قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران 3/ 181] مع أن كتابة أقوالهم وأفعالهم حاصلة فعلا، وإنما أراد أننا سنجازيهم بما قالوا الجزاء المناسب. فيكون قوله تعالى: لَخَبِيرٌ وهو تعالى خبير دائما فيه تضمين (خبير) معنى مجاز لهم في ذلك اليوم «1» . وهذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات الزمانيات لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، فيكون منكر ذلك كافرا. فقه الحياة أو الأحكام: يفهم من الآيات ما يأتي: 1- أقسم سبحانه بالخيل التي تشغل بها أذهان العرب عادة على رداءة جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر، والحرص على المال، بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي، وعن العمل للمعاد الذي إليه مآل العباد. فقد طبع الإنسان على كفران النعمة، وحب المال وبخله به، وعليه أن يروض نفسه على ما يكون له به النجاة والسعادة. 2- ثم وبخ اللَّه تعالى بالعلم التام الأزلي الأبدي الشامل لأحوال مبدأ الإنسان ومعاده، والتوبيخ أو التهديد مدعاة للعقلاء إلى التأمل في المصير المحتوم، والاستعداد للآخرة بزاد التقوى والفضيلة، والبعد عن العصيان والمخالفة والرذيلة.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 505

ولا يختلف العلم وقت المجازاة بالأعمال والأقوال والأحوال عن العلم الأزلي للَّه تعالى بذلك، وإنما قال: يَوْمَئِذٍ للتأكيد على شمول العلم في الماضي والحاضر والمستقبل، ولأن الجزاء منوط بالعمل السابق، فيكون تخصيصه دالا على التذكر وعدم النسيان، وعلى التزام العدل وتوافر العلم وقت الجزاء.

سورة القارعة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القارعة مكيّة، وهي إحدى عشرة آية. تسميتها: سميت سورة القارعة لبدء السورة بها تهويلا وتخويفا، كابتداء سورة الحاقة، والقارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصاخّة والغاشية ونحو ذلك. وسميت بهذا لأنها تقرع القلوب بهولها. مناسبتها لما قبلها: ختمت السورة السابقة بوصف يوم القيامة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وأعقبتها هذه السورة برمّتها بالحديث عن القيامة ووصفها الرهيب وأهوالها المخيفة. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة المكية التخويف بأهوال القيامة، وهي كلها تدور حول الموضوع نفسه. فقد بدأت بالحديث عن أهوال القيامة وشدائدها، وانتشار الناس فيها من قبورهم كالفراش المتطاير: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ.. [1- 4] . ثم أشارت إلى بعض أمارات الساعة وهو نسف الجبال وجعلها كالصوف

أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها [سورة القارعة (101) الآيات 1 إلى 11] :

المندوف، مما يوجد الذعر والهلع والتأثر الشديد في قلوب الناس: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [5] . وكانت خاتمتها الإخبار عن نصب موازين الحساب التي توزن بها أعمال الناس، فثقيل الميزان بالحسنات إلى الجنة، وخفيف الميزان بالسيئات إلى النار: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ.. [6- 11] . أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) الإعراب: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ الْقارِعَةُ: مبتدأ. ومَا: مبتدأ ثان، وما بعده خبره. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما الأولى: مبتدأ، وما بعدها خبره. وما الثانية: المبتدأ، وخبرها في محل المفعول الثاني ل «أدراك» . يَوْمَ ظرف عامله تقرع، دل عليه القارعة. كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ في موضع نصب لأنه خبر يَكُونُ. وكذلك كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ في موضع نصب لأنه خبر يَكُونُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ الفاء: جواب (أما) التي فيها معنى الشرط. وهو: مبتدأ، وفِي عِيشَةٍ: ظرف في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. وراضِيَةٍ: أي مرضي بها، وهو مما جاء على وزن فاعل، ويراد به مفعول.

البلاغة:

البلاغة: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ الاستفهام للتفخيم والتهويل، وكذلك: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟. الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وضع الظاهر موضع الضمير للتخويف والإرهاب، والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه، وهو: في الكثرة والانتشار، والضعف والهوان. ومثله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي في تطايرها وخفة تناثرها. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ بينهما مقابلة. فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مجاز عقلي إذا أريد بالراضية اسم الفاعل، أي راض بها صاحبها. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ.. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ.. فيهما احتباك: وهو أن يحذف في كلّ نظير ما أثبته في الآخرة، حذف من الأول (فأمه الجنة) وذكر فيها عِيشَةٍ راضِيَةٍ وحذف من الثانية (فهو في عيشة ساخطة) وذكر فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. الْقارِعَةُ، راضِيَةٍ، هاوِيَةٌ، ما هِيَهْ، حامِيَةٌ سجع مرصّع. المفردات اللغوية: الْقارِعَةُ من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنه تقرع القلوب والأسماع بأهوالها وأفزاعها الشديدة، من القرع: الضرب بشدة. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما أعلمك، وهو زيادة تهويل لها. كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي كالفراش المنتشر المتفرق في الكثرة والانتشار، والذلة والاضطراب، يموج بعضهم في بعض للحيرة، إلى أن يدعوا للحساب. والفراش: طائر معروف أحمق يتهافت على النار. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ كالصوف المندوف في خفة سيرها وتبددها، حتى تستوي مع الأرض. ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بأن رجحت حسناته على سيئاته. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ذات رضا أو مرضية لصاحبها في الجنة. خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن رجحت سيئاته على حسناته. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فمسكنه أو مأواه الذي يأوي إلى نار جهنم. ما هِيَهْ ما هي النار؟ وهاء هيه للسكت تثبت وصلا ووقفا. والهاوية: من أسماء جهنم. نارٌ حامِيَةٌ أي هي نار شديدة الحرارة.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ الْقارِعَةُ من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع، وأي شيء هي، وما أعلمك ما شأن القارعة؟ وقوله: مَا الْقارِعَةُ لتعظيم شأنها وتفخيمه، وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ تأكيد لشدة هولها، وتعظيم أمرها، وتهويل شأنها. ثم فسر ذلك وأبان زمانها وأماراتها، فقال: 1- يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي يوم يخرج الناس من القبور، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه، شأنهم في ذلك، كالحشرة الطائرة المعروفة المنتشرة المتفرقة. أو كجميع الحشرات الطائرة، كالبعوض والجراد، فهم في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم بسبب حيرتهم مما هم فيه، كأنهم فراش مبثوث، أي متفرق منتشر، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر 54/ 7] . قال الزمخشري: شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار. 2- وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة، المندوف الذي نقش بالندف لأنها تتفتت وتتطاير، كما في قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير 81/ 3] وقوله سبحانه: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمّل 73/ 14] . وفي ذكر هاتين الأمارتين تخويف للناس وتحذير شديد. ثم ذكر الجزاء على الأعمال وأحوال الناس وتفرقهم فريقين إجمالا، فقال: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي أما من ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته، فهو في عيشة مرضية

يرضاها صاحبها في الجنة. والعيشة: كلمة تجمع النعم التي في الجنة. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ أي وأما من رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها، فمسكنه أو مأواه جهنم. وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي الطفل إلى أمه، وسميت جهنم هاوية وهي الهالكة لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها، ولأنها نار عتيقة. ونحن نؤمن بالميزان كما ورد في القرآن، دون أن ندري كيفية وزنه وتقديره. وما أعلمك ما هذه النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف، ببيان أنها خارجة عن المعهود، بحيث لا يدرى كنهها. قال الزمخشري: هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أو ضمير هاوية، والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها. هي نار شديدة الحرارة، انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية، فهي حارة شديدة الحرارة، قوية اللهب والسعير. وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران. أخرج مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قالوا: يا رسول اللَّه، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» . وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» . وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إن أهون أهل النار عذابا: من له نعلان، يغلي منهما دماغه» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وثبت في الصحيحين: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» . فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- القيامة ذات أهوال وشدائد ومخاوف تهز القلوب وتقرع الأسماع، لا يعلم أحد بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يتصورها عقل أحد، وكيفما قدرت فهو أعظم من تقديرك، كأنه تعالى قال: قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار. وفي هذا تحذير شديد وإرهاب لا مثيل له. قال مقاتل: إنها تقرع أعداء اللَّه بالعذاب، وأما أولياؤه فهم من الفزع آمنون. 2- وصف اللَّه يوم القيامة بأمرين: الأول- كون الناس فيه كالفراش المتفرق المنتشر، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار. الثاني- صيرورة الجبال فيه كالصوف ذي الألوان، المندوف، الذي ينفش بعضه عن بعضه. ويلاحظ أنه تعالى وصف تغير الأحوال على الجبال من وجوه أربعة: أولها- أن تصير قطعا، كما قال: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة 69/ 14] . وثانيها- أن تصير كثيبا مهيلا، كما قال: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل 27/ 88] .

وثالثها- ثم تصير كالعهن المنفوش، وهي أجزاء كالذر الداخل من النافذة. ورابعها- تصير سرابا، كما قال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ، فَكانَتْ سَراباً [النبأ 78/ 20] «1» . 3- يقسم الناس يوم القيامة إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها، فأما من رجحت حسناته على سيئاته فهو في الجنة في عيشة مرضية، وأما من رجحت سيئاته على حسناته فهو في نار حامية شديدة الحرارة. وقوله: نارٌ حامِيَةٌ إشارة إلى أن سائر النيران بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية. وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها. والموازين جمع ميزان، فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة، فإذا رجح، فله الجنة، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة، فيخف وزنه، فيدخل النار. وقال المتكلمون: إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن، أو يجعل النور علامة الحسنات، والظلمة علامة السيئات. قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا. وقال مقاتل: إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل، والباطل خفيف «2» .

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 72 (2) تفسير الرازي: 32/ 73

سورة التكاثر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التكاثر مكيّة، وهي ثماني آيات. تسميتها: سميت سورة التكاثر لقوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد والأعوان. مناسبتها لما قبلها: أخبرت سورة القارعة عن بعض أهوال القيامة، وجزاء السعداء والأشقياء، ثم ذكر في هذه السورة علة استحقاق النار وهو الانشغال بالدنيا عن الدين، واقتراف الآثام، وهددت بالمسؤولية في الآخرة عن أعمال الدنيا. ما اشتملت عليه السورة: موضوع هذه السورة المكية ذم العمل للدنيا فقط، والتحذير من ترك الاستعداد للآخرة. لذا تناولت مقاصد ثلاثة: 1- بيان انشغال الناس بملذات الحياة ومغرياتها، والغفلة حتى يأتي الموت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [1- 2] . 2- الإنذار بالسؤال عن جميع الأعمال في القيامة: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [3- 4] .

سبب نزول السورة:

3- التهديد برؤية الجحيم يقينا، ومجابهة أهوال النار، والسؤال عن نعيم الدنيا: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ.. [5- 8] . سبب نزول السورة: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة في قوله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان بن فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل اللَّه: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل. التفاخر في الدنيا والسؤال عن الأعمال [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) الإعراب: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا: حرف معناه الزجر والردع، وليس اسما للفعل، لتضمنه معنى ارتدع، كما أن (صه) اسم فعل لدلالته على السكوت. لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَوْ: حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، وجوابه محذوف، وتقديره: لو علمتم لما ألهاكم، وعِلْمَ الْيَقِينِ: منصوب على المصدر.

البلاغة:

لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بفتح التاء، فهو فعل ثلاثي، عدّي إلى مفعول واحد وهو الْجَحِيمَ. وقرئ بضم التاء، فتكون الواو نائب فاعل، والْجَحِيمَ: مفعول به ثان، وهو فعل رباعي، عدّي بالهمزة إلى مفعولين، وهو في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد لأنه من رؤية العين. وعَيْنَ الْيَقِينِ مصدر لأن رأى وعاين بمعنى واحد. لَتُسْئَلُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين. البلاغة: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ خبر أريد به التذكير والتوبيخ واللوم. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ التكرار للتهديد والإنذار، وعطف ب ثُمَّ للتنبيه على أن الثاني أبلغ من الأول. لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ حذف جواب لَوْ للتهويل والتفخيم، أي لرأيتم ما يدهش ويفزع. لَتَرَوُنَّ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها إطناب بتكرار الفعل، لبيان شدة الهول. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ كناية، كنّى بزيارة القبور عن الموت، أي حتى متّم. النَّعِيمِ الْجَحِيمَ طباق. تَعْلَمُونَ، الْيَقِينِ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذا بين الْجَحِيمَ والنَّعِيمِ. المفردات اللغوية: أَلْهاكُمُ شغلكم، واللهو: الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى. التَّكاثُرُ التفاخر بالأموال والأولاد والرجال. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى متّم ودفنتم في القبور. كَلَّا ردع وزجر. سَوْفَ تَعْلَمُونَ سوء عاقبة تفاخركم عند النزع وفي القبر وفي الآخرة. لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ علم الأمر المتيقن، أي لو علمتم يقينا عاقبة التفاخر ما اشتغلتم به. والعلم اليقيني: ما نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع عن عيان أو دليل قطعي ثابت، دل عليه العقل الصحيح أو النقل الثابت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ النار، جواب قسم محذوف آكد به الوعيد، للتفخيم. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها تأكيد. عَيْنَ الْيَقِينِ أي عيانا هي اليقين نفسه. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ في موقف الحساب، وثُمَّ هنا للترتيب الإخباري. عَنِ النَّعِيمِ ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأم والطعام والشراب وغير ذلك.

سبب النزول:

سبب النزول: تقدم سبب نزول السورة عن ابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير عن علي قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ إلى ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في عذاب القبر. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو يقول: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . وقال مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس» . التفسير والبيان: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي شغلكم التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها، شغلكم عن طاعة اللَّه والعمل للآخرة، حتى أدرككم الموت، وأنتم على تلك الحال. أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» . وأخرج أحمد وصاحبا الصحيحين عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل» .

أما زيارة القبور، فمباحة بالآداب الشرعية، بأن يبدأ الزائر السلام على صاحب القبر عند رأسه، ثم يتجه إلى القبلة ويدعو اللَّه عز وجل بالرحمة والمغفرة للميت ولنفسه وللمسلمين، أخرج ابن ماجه عن ابن مسعود: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهّد في الدنيا، وتذكّر الآخرة» وهو صحيح، وأخرج الحاكم في صحيحة عن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترقّ القلب، وتدمع العين، وتذكّر الآخرة، ولا تقولوا هجرا» . وهذا دليل على أنها تمنع إذا كانت مصحوبة بمنكرات، كالاختلاط والفتن والنواح. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي ردعا وزجرا لكم عن هذا التكاثر المقيت الذي يؤدي إلى التقاطع والتدابر والأحقاد والضغائن، وإهمال العمل للآخرة، وخير الأمة، وتصحيح السلوك والأخلاق. وستعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة. قال الزمخشري: كَلَّا ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه، ولا يهتم بدينه. والجملة الثانية كررت للتأكيد والتغليظ والوعيد والزجر. كَلَّا، لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينا، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر، ولبادرتم إلى صالح الأعمال، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وجواب لَوْ محذوف، أي لو علمتم لما ألهاكم. وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا، والاغترار بمظاهر الحياة الفارغة الزائلة. وليس الكلام مجرد وعظ، وإنما الخطر الداهم يقتضي عمق التأمل والتفكر في مستقبل الآخرة، وذلك لا يتوافر عادة بغير إيمان قوي، وقلب واع سليم. وتكرار لفظ كَلَّا المفيدة للزجر، للدلالة على استحقاق ضرر آخر

غير العذاب. وقال الحسن: كَلَّا بمعنى حقا كأنه قيل: حقا لو تعلمون علم اليقين. ثم فسر الوعيد فقال: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أي لتشاهدن النار في الآخرة، والمراد ذوق عذابها وهذا جواب قسم محذوف. وهو توعد بحال رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة، خرّ كل ملك مقرّب، ونبي مرسل، على ركبتيه من المهابة، والعظمة، ومعاينة الأهوال الجسام. ثم أكد ذلك بقوله: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والرؤية بأعينكم، فإياكم الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات، وارتكاب الموبقات والمنكرات. ثم أكد السؤال عن الأعمال للتحذير فقال: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن وغير ذلك من النعم، قال الزمخشري: عَنِ النَّعِيمِ عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. وقال الرازي: والأظهر أن الذي يسأل عن النعيم هم الكفار، وفي قول آخر: أنه عام في حق المؤمن والكافر، واحتجوا بأحاديث منها: روي عن عمر أنه قال: «أي نعيم نسأل عنه يا رسول اللَّه، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحار» .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن محمود بن لبيد قال: «لما نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ فقرأها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بلغ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قالوا: يا رسول اللَّه، أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسوان: الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: أما إن ذلك سيكون» . وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» . أي أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون. وعن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن أبي برزة: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به» . وأخرج البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجه عن عبيد اللَّه بن محصن: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . وأخرج ابن جرير ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ما أجلسكما هاهنا؟ قالا: والذي بعثك بالحق، ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع، قال: والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار «1» ، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أين فلان؟ فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال: مرحبا ما زار العباد شيء أفضل من نبي، زارني اليوم، فعلق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعذق، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا كنت اجتنيت؟ فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إياك والحلوب، فذبح لهم يومئذ فأكلوا، فقال لهما

_ (1) هو مالك بن التّيّهان الأنصاري، أبو الهيثم.

فقه الحياة أو الأحكام:

النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لتسألن عن هذا يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم، هذا، فهذا من النعيم» . والظاهر أن السؤال عن النعيم للعموم لأجل لام الجنس إلا أن سؤال الكافر للتوبيخ لأنه عصى وكفر، وسؤال المؤمن للتشريف، فإنه أطاع وشكر. والظاهر أن هذا السؤال في موقف الحساب، وهو متقدم على مشاهدة جهنم، ومعنى ثُمَّ الترتيب في الأخبار، ثم أخبركم أنكم تسألون. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- يحذر اللَّه تعالى من ترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة، ويوبخ الذين تشغلهم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة اللَّه، حتى يموتوا ويدفنوا في المقابر. والتوبيخ عام يشمل التفاخر بكل شيء من الأموال والأولاد، والقبائل والعشائر، والسلطة والجاه، والرجال والأعوان، فهو يتضمن التفاخر بالنفس وهي العلوم والأخلاق الفاضلة، والتفاخر بالبدن وهو الصحة والجمال، والتفاخر بالأمور الخارجية وهي المال والجاه والأعوان والأقرباء والأصدقاء. 2- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي لأنها تذكّر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها، كما تقدم في الأحاديث الثابتة. وجاء في الترمذي عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعن زوّارات القبور. ورأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في زيارة القبور، فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء، لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن.

والخلاصة: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء، أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد الكبيرات فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال. وإذا حدثت فتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز. 3- قال العلماء: ينبغي لعلاج القلب ثلاثة أمور: طاعة اللَّه، والإكثار من ذكر الموت (هاذم اللذات) وزيارة قبور أموات المسلمين. 4- كرر اللَّه تعالى في هذه السورة الوعيد بعد الوعيد، للتأكيد والتغليظ على ثبوت عذاب القبر وعذاب الآخرة، وأن ما وعدنا به من البعث وتوابعه حق وصدق. ثم أعاد تعالى الزجر والتنبيه على أنه إن لم يفعل الناس العمل الصالح، وترك التفاخر بالأموال والأولاد والرجال، يندمون، ويستوجبون العقاب. 5- أتى اللَّه تعالى بوعيد آخر بقسم محذوف: واللَّه لترون الجحيم في الآخرة، وهذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار، وقيل: الخطاب عام، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم 19/ 71] فهي للكفار دار، وللمؤمنين ممر. ثم أخبر تعالى عن رؤية الجحيم رؤية مشاهدة بالأعين، وبعيون القلوب والأفئدة. 6- يسأل الناس يوم القيامة عن ألوان النعيم في الدنيا، من ظلال المساكن والأشجار، وطيب الحياة والرفاهية، والصحة والفراغ، والأمن والستر ونحو ذلك. والكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر، وهذا النعيم في كل نعمة. ويكون السؤال في موقف الحساب، وقيل: بعد الدخول في النار توبيخا لهم، والأول هو الظاهر.

سورة العصر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العصر مكيّة، وهي ثلاث آيات. تسميتها: سميت سورة العصر لقسم اللَّه به في مطلعها بقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وَالْعَصْرِ: الدهر، لاشتماله على الأعاجيب، من سرّاء وضرّاء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وعز وذل، وانقسامه إلى أجزاء: سنة وشهر ويوم وساعة ودقيقة وثانية. مناسبتها لما قبلها: لما بيّن في السورة المتقدمة أن الاشتغال بأمور الدنيا والتهالك عليها مذموم، أراد أن يبين في هذه السورة ما يجب الاشتغال به من الإيمان والأعمال الصالحات، وهو ما يعود إلى النفس، ومن التواصي بالخيرات وكفّ النفس عن المناهي أو المعاصي، وهو ما يعود إلى المجتمع. والخلاصة: بعد أن قال: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وهدد بتكرار: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ بيّن حال المؤمن والكافر. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المكية الموجزة توضح أصول الإسلام الكبرى، ودستور الحياة الإنسانية. فقد أقسم اللَّه تعالى بالعصر الذي هو الدهر أو الزمان المشتمل على العجائب

فضلها:

والدال على قدرة اللَّه وحكمته البالغة على خسارة الإنسان إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي مع الآخرين بالحق، والتواصي بالصبر والمصابرة. فضلها: ذكر الرواة أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك بعد ما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟! فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ففكر مسيلمة هنيهة، ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر «1» ، وإنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر. ثم قال كيف ترى يا عمرو: فقال له عمرو: واللَّه لتعلم أني أعلم أنك تكذب. وذكر الطبراني عن عبيد اللَّه بن حفص قال: كان الرجلان من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا التقيا لم يفترقا، إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وأخرجه البيهقي عن أبي حذيفة. وقال الشافعي رحمه اللَّه: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.

_ (1) الوبر: دويبة تشبه الهر، أعظم شيء فيه أذناه وصدره، وباقيه دميم، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان (تفسير ابن كثير 4/ 547) .

رسالة الحياة أو حال المؤمن والكافر [سورة العصر (103) الآيات 1 إلى 3] :

رسالة الحياة أو حال المؤمن والكافر [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) الإعراب: وَالْعَصْرِ قسم، وجوابه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ والمراد بالإنسان: الجنس، ولهذا استثنى منه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَتَواصَوْا أصله «تواصيوا» إلا أنه تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفا، فاجتمع ساكنان: الألف والواو بعدها، فحذفوا الألف لالتقاء الساكنين. البلاغة: إِنَّ الْإِنْسانَ أي الناس بدليل الاستثناء، فهو إطلاق البعض وإرادة الكل. لَفِي خُسْرٍ التنكير للتعظيم، أي في خسر عظيم. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إطناب بتكرار الفعل، لزيادة العناية به. وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ بعد قوله: بِالْحَقِّ خاص بعد عام، فإن الصبر داخل في عموم الحق، إلا أنه خصصه بالذكر للاهتمام به بعينه. الْعَصْرِ، بِالصَّبْرِ، خُسْرٍ سجع عفوي غير متكلف، وهو من المحسنات البديعية. المفردات اللغوية: وَالْعَصْرِ والدهر، أقسم اللَّه به لاشتماله على الأعاجيب، وقيل: صلاة العصر، أو وقت العصر من بعد الزوال إلى الغروب. إِنَّ الْإِنْسانَ جنس الإنسان فالتعريف للجنس. خُسْرٍ خسارة أو خسران في تجارته، والتنكير للتعظيم. والخسارة: النقصان وضياع رأس المال. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة الدائمة، فليسوا في خسران.

التفسير والبيان:

بِالْحَقِّ وهو الشيء الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل، أو هو ما أرشد إليه دليل قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شرع صحيح جاء به نبي معصوم. والتواصي بالحق: أن يوصي الناس بعضهم بعضا بما لا مجال لإنكاره من إيمان وخير وفضيلة. بِالصَّبْرِ قوة في النفس تدعو إلى احتمال المشقة في العمل. والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا به، ويحث الواحد غيره عليه. وقد اكتفى سبحانه ببيان سبب الربح دون الخسران لأنه المقصود، وما عداه يؤدي إلى الخسران والنقص. التفسير والبيان: وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي قسما بالعصر وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس لما فيه من العبر وتقلبات الليل والنهار، وتعاقب الظلام والضياء، وتبدل الأحداث والدول، والأحوال والمصالح، مما يدل على وجود الصانع عزّ وجلّ وعلى توحيده وكمال قدرته، أقسم بذلك على أن الإنسان في خسارة وهلاك ونقص وضلال عن الحق، في المتاجر والمساعي، وصرف الأعمال في أعمال الدنيا، إلا من استثناهم اللَّه فيما يأتي. وإقسام اللَّه بالدهر دليل على شرفه وأهميته، لذا قال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «لا تسبّوا الدهر، فإن اللَّه هو الدهر» . والآية كما ذكر الرازي كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة. وقيل: المراد بالعصر: صلاة العصر، أو وقتها تعظيما لها، ولشرفها وفضلها، ولهذا فسّر بها الصلاة الوسطى عند كثير من العلماء. وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا الباقي هو ما بين العصر إلى المغرب، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها، فإن الوقت قد ضاق، وقد لا يمكن تدارك ما فات. والمراد بالإنسان: الجنس، واللام لام الجنس وهو الراجح. وقيل: اللام في الإنسان لمعهود معين، كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين

فقه الحياة أو الأحكام:

كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطّلب. قال أبو حيان: والعصر، والإنسان: اسم جنس يعم، ولذلك صح الاستثناء منه. ثم استثنى من جنس الإنسان عن الخسران ما يأتي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي إن الإنسان لفي خسارة وضياع ونقصان وهلاك إلا الذين جمعوا بين الإيمان باللَّه والعمل الصالح، فإنهم في ربح، لا في خسر لأنهم عملوا للآخرة، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، فآمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم (أعضائهم) . وإلا الذين وصّى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره: وهو الإيمان باللَّه والتوحيد، والقيام بما شرعه اللَّه، واجتناب ما نهى عنه. والحق خلاف الباطل، ويشمل جميع الخيرات وما يلزم فعله، أو هو أداء الطاعات، وترك المحرّمات. قال الزمخشري: وهو الخير كله، من توحيد اللَّه وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة. وإلا الذين أوصى بعضهم بعضا بالصبر على فرائض اللَّه، وعن معاصي اللَّه، وعلى أقداره وبلاياه. والصبر يشمل احتمال الطاعات، واجتناب المنكرات، وتحمل المصائب والأقدار، وأذي الذي يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر. فقه الحياة أو الأحكام: دلت السورة على ما يأتي: 1- الإنسان وإن ربح الثورة الكبيرة والمال الوفير، فهو في خسارة محققة، إن لم يعمل للآخرة عملا طيبا صحيحا. 2- أقسم اللَّه تعالى على هذا الحكم بأي عصر أو زمان، لما فيه من التنبيه

بتصرف الأحوال وتبدّلها، وما فيها من الدلالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته ومزيد حكمته التي تظهر أحيانا بعد مرور الزمان. والعصر في الحلف بالأيمان مختلف في تقديره عند الفقهاء، فقال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا، يحمل على السنة لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان. وقال الشافعي: يبرّ بساعة، إلا أن تكون له نية، أو يفسره بما يحتمله، وذلك حملا على الأقل المتيقن المراد بالعصر. 3- حكم اللَّه تعالى بالوعيد الشديد لأنه حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتيا بأشياء أربعة أو متصفا بصفات أربع، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. فدلّ ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وعناصر الإيمان ستة: أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المعاصي، وفعل الخير. والتواصي بالحق: أن يوصي بعضهم بعضا بالأمر الثابت، ويحث بعضهم بعضا على توحيد اللَّه، والعمل بالقرآن، والدعوة إلى الدين والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه. قال عمر رضي اللَّه عنه: رحم اللَّه من أهدى إلي عيوبي. والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا على طاعة اللَّه عزّ وجلّ، والصبر عن معاصيه، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن. 4- قال الإمام الرازي رحمه اللَّه: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 90

سورة الهمزة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الهمزة مكيّة، وهي تسع آيات. تسميتها: سميت سورة الهمزة لبدئها بقول اللَّه تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ والهمزة: الذي يغتاب الناس ويطعن بهم بقول أو فعل أو إشارة، واللمزة: الذي يعيب الناس بإشارة الحاجب والعين. قال ابن عباس: الهمزة: المغتاب، واللمزة: العياب. مناسبتها لما قبلها: بعد أن ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة أن جنس الإنسان في خسران ونقص وهلكة، أبان في هذه السورة حال الخاسر وأراد به تبيان الخسران بمثال واحد. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المكية في علاج مشكلة خلقية مستعصية بين الناس وهي الطعن في الآخرين بالغيبة أثناء غيابهم، أو بالعيب حال حضورهم. وقد بدأت بالإخبار عن العذاب الشديد لكل عيّاب طعّان للناس، ينتقص الآخرين ويزدريهم ويسخر بهم: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [1] . ثم ذمّت السورة الذين يحصرون على جمع الأموال في الدنيا، كأنهم مخلدون فيها: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ ... [2- 3] .

سبب نزولها:

وختمت بردع الفريقين السابقين، وأنبأتهم بمصيرهم الأسود وهو النبذ في الحطمة: نار جهنم. سبب نزولها: قال عطاء والكلبي والسّدي: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وروي أيضا أن أمية بن خلف كان يفعل ذلك. وقال محمد بن إسحاق والسهيلي: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف «1» . وقد روى ذلك ابن جرير عن عثمان وابن عمر. قال أبو حيان: ونزلت في الأخنس بن شريق، أو العاص بن وائل، أو جميل بن معمر، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف: أقوال، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف» . وعلى هذا فاللفظ عام، وإن كان في الأصل يشير إلى شخص معين، وكذلك قوله تعالى في سورة ن: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ.. [10- 15] ، فإنه سبحانه تابع في سرد الصفات حتى علم أنه يريد في الأصل إنسانا بعينه. والقاعدة العامة عند المحققين والأصوليين: أن خصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ. وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن، وهو حكاية أقوال الجاحدين.

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 91 (2) البحر المحيط: 8/ 510

الطعان العياب للناس وجزاؤه [سورة الهمزة (104) الآيات 1 إلى 9] :

الطعّان العيّاب للناس وجزاؤه [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الإعراب: الَّذِي جَمَعَ مالًا.. الَّذِي: إما في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: وهو الذي، أو في موضع نصب بفعل مقدر، أي أعني، أو في موضع على البدل من «كل» . لَيُنْبَذَنَّ بفتح الذال، أراد به: الذي جمع، والأصل في الذال أن تكون ساكنة لبناء الفعل المضارع، لدخول نون التوكيد، إلا أنه حركت الذال لالتقاء الساكنين، وكان الفتح أولى لأنه أخف الحركات. ومن قرأ بضم الذال، أراد به: المال والهمزة واللمزة. وقرئ: «لينبذان» بألف التثنية، وأراد به المال وصاحبه. وهو جواب قسم محذوف، أي ليطرحن. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ عَمَدٍ: بفتح العين والدال، أراد به اسم الجمع، وقرئ «عمد» بضمتين، وأراد به جمع عمود، كرسول ورسل. البلاغة: هُمَزَةٍ، لُمَزَةٍ من صيغ المبالغة، على وزن: فعلة، كنومة، وعيبة وسحرة وضحكة. جَمَعَ مالًا تنكير مالًا للتفخيم، أي جمع مالا كثيرا. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ الاستفهام للتفخيم والتهويل لنار جهنم، والْحُطَمَةِ: من صيغ المبالغة. هُمَزَةٍ، لُمَزَةٍ جناس ناقص أو غير تام. عَدَّدَهُ، أَخْلَدَهُ، الْمُوقَدَةُ، مُمَدَّدَةٍ سجع مرصع، لتوافق الفواصل.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: وَيْلٌ خزي وعذاب شديد، ويراد به الندم والتقبيح. هُمَزَةٍ مغتاب طعّان في أعراض الناس وكراماتهم. لُمَزَةٍ عيّاب يعيب عادة بالحاجب أو العين أو اليد أو الرأس تحقيرا للناس وترفعا عليهم. عَدَّدَهُ عدّه مرة بعد أخرى تلذذا به، أو جعله عدّة للنوازل وحوادث الدهر. يَحْسَبُ يظن لجهله. أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ جعله خالدا في الدنيا، لا يموت. كَلَّا ردع وزجر. لَيُنْبَذَنَّ ليطرحنّ وليرمين بإهانة وتحقير، وهو جواب قسم محذوف. فِي الْحُطَمَةِ نار جهنم، سميت لذلك لأنها تحطم كل ما ألقي فيها، من الحطم: وهو الكسر. الْمُوقَدَةُ المسعّرة. تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ تعلو أوساط القلوب، وتحيط بها، وخصت الأفئدة بالذكر لأنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال الفاسدة القبيحة. مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة عليهم، من أوصدت الباب: إذا أغلقته. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ في أعمدة طويلة، فتكون النار داخل العمد، جمع عمود. التفسير والبيان: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أي خزي وعذاب شديد لكل من يغتاب الناس ويطعن بهم أو يعيبهم في حضورهم، قال مقاتل: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الوجه. وقال ابن عباس: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ طعان معياب. ثم ذكر أوصافا أخرى له: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ أي أن ذلك الهمزة اللمزة الذي يزدري الناس ويحتقرهم ويترفع عليهم بسبب إعجابه بما جمع من المال وأحصاه، وظن أن له به الفضل على غيره، كقوله تعالى: جَمَعَ فَأَوْعى [المعارج 70/ 18] . يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أن ماله يضمن له الخلود ويتركه حيّا مخلدا لا يموت لشدة إعجابه بما يجمعه من المال، فلا يعود يفكر بما بعد الموت.

ثم ردّ اللَّه عليه أوهامه وزجره على مزاعمه، فقال: كَلَّا، لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي زجرا له وردعا، فليس الأمر كما زعم ولا كما حسب، بل ليلقين ويطرحن هذا الذي جمع ماله هو وماله في النار التي تحطم أو تهشم كل ما يلقى فيها. ثم هوّل عليه شأن النار وعرفها له، فقال: وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي وما أعلمك ما هذه النار، وأي شيء هي؟ فكأنها لا تدركها العقول، هي نار اللَّه الموقدة المستقرة بأمر اللَّه سبحانه، التي لا تخمد أبدا. وفائدة وصف جهنم بالحطمة مناسبتها لحال المتكبر المتجبر بماله، المترفع على غيره، فهي تكسر كسرا كل ما يلقى فيها، لا تبقي ولا تذر. وإضافة نارُ اللَّهِ للتفخيم، أي هي نار، لا كسائر النيران. ثم وصف النار بأوصاف ثلاثة هي: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي التي تعلو القلوب وتغشاها بحرها الشديد، وتحرقهم وهم أحياء. والقلوب أشد أجزاء البدن تألما، وخصت بالذكر لأنها محل العقائد الزائغة، والنيات الخبيثة، وسوء الأخلاق من الكبر واحتقار الناس، والأعمال القبيحة. وهي عليهم مطبقة، مغلقة عليهم أبوابها جميعا، فلا منافذ، ولا يستطيعون الخروج منها، كما قال تعالى: عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد 90/ 20] ، وقال سبحانه: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، أُعِيدُوا فِيها.. [الحج 22/ 22] .

فقه الحياة أو الأحكام:

وهي أيضا كائنة في أعمدة ممددة طويلة موثّقة. قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدّت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح. والآية تفيد المبالغة في العذاب بقوله: لَيُنْبَذَنَّ أي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر، وأن أبوابها لا تفتح ليزيد في حسرتهم، وتغلق إغلاقا محكما للتيئيس من الخروج منها، وممددة في أعمدة دائمة اللهب، فلا أمل في إطفائها أو تخفيف شدة حرارتها. فقه الحياة أو الأحكام: دلت الآيات على ما يأتي: 1- الخزي والعذاب والهلكة لكلّ مغتاب عيّاب طعّان للناس. قال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «شرار عباد اللَّه تعالى المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون البراء العيب» «1» . 2- كأن سبب الهمز واللمز والترفع على الناس وازدرائهم هو المال وطول الأمل، لأن الغنى يورث الإعجاب والكبر، وعدّ المال من غير ضرورة دليل على المتعة النفسية والزخرفة الدنية، والانشغال عن السعادة الباقية، ولأن المال يطول الأمل، ويمنّي بالأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلة صاحب المال يحسب أن ماله يتركه خالدا في الدنيا. 3- ردع اللَّه تعالى عن كل هذه المزاعم والتحسبات، فالمال لا يرفع القدر، ولا يقتضي الطعن بالآخرين، وليس المال كما يظن مخلّدا في الدنيا، بل المخلّد هو العلم والعمل، كما قال علي رضي اللَّه عنه: مات خزّان المال، وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر.

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 181 [.....]

4- حدد اللَّه تعالى عقاب الهمزة اللمزة جامع المال حبّا فيه لذاته، وهو الطرح أو الإلقاء في نار جهنم التي تحطم كل ما يلقى فيها، وهي نار اللَّه الموقدة غير الخامدة، التي أعدها اللَّه للعصاة، والتي تأكل جميع ما في الأجساد، حتى تبلغ الفؤاد، ثم يخلقون خلقا جديدا، فترجع تأكلهم. وهي مغلقة الأبواب، مطبقة عليهم، حال كونهم موثقين بأعمدة، وهي في أعمدة طوال تلتف بهم من كل جانب. روى خالد بن أبي عمران عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: [أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم- أي تعلوها وتغلبها- انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ] .

سورة الفيل:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفيل مكيّة، وهي خمس آيات. تسميتها: سميت سورة الفيل لافتتاحها بالتذكير بقصة أصحاب الفيل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟ أي ألم تعلم علم اليقين ماذا صنع ربّك العظيم القدير بأبرهة الحبشي قائد اليمن وأتباعه الذين أرادوا هدم البيت الحرام؟! مناسبتها لما قبلها: ذكر اللَّه تعالى في السورة السابقة الهمزة حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالا، وتعزز بماله، وأفاد تعالى أن المال لا يغني من اللَّه شيئا، ثم ذكر في هذه السورة الدليل على ذلك، بإيراد قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر مالا، وأعظم عتوا، وقد أهلكهم اللَّه بأصغر الطير وأضعفه، ولم يغن عنهم مالهم ولا عددهم ولا قوتهم شيئا. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المكية مقصورة على بيان قصة أصحاب الفيل الذين اعتمدوا على قوتهم وما لهم وقدرتهم على البطش بجيش جرار لا يقهر، ثم أبادهم اللَّه عن بكرة أبيهم، حينما أرادوا هدم الكعبة، بقصف من الحجارة الربانية المعلقة بأرجل طير

أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل:

صغار، وجعلهم كعصف مأكول، أي كبقايا الزرع بعد الحصاد الذي تأكله الماشية، وتعصف به الريح في كل مكان. أضواء من التاريخ على قصة أصحاب الفيل: كان على اليمن قائد من قبل أصحمة النجاشي (ملك الحبشة) واسمه أبرهة بن الصباح الأشرم جدّ النجاشي الذي عاصر النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد بنى كنيسة عظيمة سمّاها «القلّيس» ليصرف إليها حج العرب، فقام رجل من كنانة وتغوط فيها ليلا، فأغضبه ذلك، وأقسم ليهدمن الكعبة، مستغلا هذا الحادث، ومريدا في الواقع فتح مكة لربط اليمن ببلاد الشام، وتوسيع بلاد النصرانية. فجهز جيشا عظيما، مصحوبا بفيلة كثيرة قيل: اثنا عشر، وقيل: ألف، زيادة في الإرهاب والتخويف، وسار حتى وصل إلى «المغمّس» موضع قرب مكة، فأرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم الكعبة، فاستعظموا الأمر، وفزعوا له، وأرادوا محاربته، فرأوا ألا طاقة لهم بأبرهة وجنوده، واعتصموا بالجبال ينظرون ماذا يحدث، واثقين بأن للبيت ربّا يحميه. ولما اقترب الجيش من مكة أمر أبرهة بنهب أموال العرب، وكان فيها إبل لعبد المطلب بن هاشم جدّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستاقها الجند، وكان عددها مائتي بعير، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وأمره أن يأتيه بأشرف قريش وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدّوه عن البيت، فجاء حناطة، فدلوه على عبد المطلب بن هاشم، وبلّغه عن أبرهة ما قال، فقال له عبد المطلب: واللَّه ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللَّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه، فو اللَّه ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فاذهب معي إليه، فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجلّه، وكان عبد المطلب رجلا جسيما حسن المنظر، فنزل أبرهة عن سريره،

وأجلسه معه على البساط، وسأله عن حاجته، فقال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فتعجب أبرهة، وقال: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل، وإن للبيت ربّا سيمنعه عنك، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك «1» . وكان قد عرض عبد المطلب ومن معه من أشراف العرب على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت، فأبى عليهم، وردّ أبرهة على عبد المطلب إبله، ثم رجع وأتى باب البيت ومعه نفر من قريش، وأخذوا بحلقة باب الكعبة يدعون اللَّه، ويستنصرونه على أبرهة وجنده. ثم زحف الجيش نحو البيت ودخلوا مكة، وكان معه فيل عظيم اسمه «محمود» كلما وجهوه إلى جهة الحرم، برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول. وفي اليوم التالي وبينما عبد المطلب يدعو، التفت، فإذا هو بطير من نحو اليمن جهة البحر، فقال: واللَّه إنها لطير غريبة، ما هي بنجدية ولا تهامية. وكان مع كل طائر أحجار تحملها بمناقيرها وأرجلها، فألقتها عليهم، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. وفرّ الجيش هاربين نحو اليمن، يتساقطون في الطريق، وأصيب أبرهة في جسده، وبدأت أنامله تسقط أنملة أنملة، ولحمه يتساقط، حتى قدموا به «صنعاء» فمات شرّ ميتة «2» .

_ (1) سيرة ابن هشام: 1/ 49 وما بعدها. (2) المرجع السابق: 1/ 43- 57

قصة أصحاب الفيل [سورة الفيل (105) الآيات 1 إلى 5] :

وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في التاريخ وبين العرب، فأعظموا قريشا، وقالوا: هم أهل اللَّه، قاتل اللَّه عنهم، وكفاهم العدو، وازدادوا تعظيما للبيت، وإيمانا بمكانه عنه اللَّه «1» . وأراد اللَّه بهذا الحادث تعظيم بيته، وإعلاء شأنه، وتهيئة أمة العرب لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله. وكان ذلك الحدث التاريخي المهم في عام ميلاد النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، سنة 570 م، أي كان بين عام الفيل ومبعث النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعون سنة. وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة، وقد بلغت حدّ التواتر حينئذ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. قصة أصحاب الفيل [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الإعراب: أَلَمْ تَرَ معناه الإيجاب أي قد علمت لأن همزة الاستفهام لما دخلت على لَمْ وهي حرف نفي، والاستفهام كالنفي، اجتمع نفيان، فلما دخل النفي على النفي، انقلبت إيجابا. وكَيْفَ: في موضع نصب بفعل بعده، ولا يجوز أن يعمل فيه تَرَ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده. وجملة كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ سدت مسدّ مفعولي تَرَ لأنها من رؤية القلب بمعنى العلم، نحو: رأيت اللَّه غالبا. ورَبُّكَ: فاعل فَعَلَ.

_ (1) المرجع السابق: ص 57

البلاغة:

طَيْراً أَبابِيلَ إما جمع لا واحد له من لفظه كأساطير، أو واحده «إبّيل» أو إبّول، كعجاجيل وحدها عجّول. كَعَصْفٍ في موضع نصب، على أنه مفعول ثان ل فَجَعَلَهُمْ أي صيّرهم. البلاغة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ.. الاستفهام للتقرير والتعجيب، أي أعجب. فَعَلَ رَبُّكَ إشادة بقدرة اللَّه تعالى، والخطاب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله رَبُّكَ تشريف له. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت الأداة، وحذف وجه الشبه. الْفِيلِ، تَضْلِيلٍ، أَبابِيلَ، سِجِّيلٍ، مَأْكُولٍ توافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: أَلَمْ تَرَ أي تعلم، والخطاب للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو إن لم يشهد تلك الواقعة، لكنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها، فإنها من الإرهاصات لأنها وقعت في السنة التي ولد فيها الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. بِأَصْحابِ الْفِيلِ أصحاب الفيل العظيم الذي كان اسمه «محمود» . وهم أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، وجيشه الذين أرادوا هدم الكعبة لصرف الحجاج العرب عن مكة إلى كنيسة بناها أبرهة بصنعاء، وسماها «القلّيس» . فحين توجهوا لهدم الكعبة، أرسل اللَّه عليهم ما قصه في هذه السورة. أَلَمْ يَجْعَلْ أي جعل. كَيْدَهُمْ مكرهم وتدبيرهم بتخريب الكعبة وتعطيلها. فِي تَضْلِيلٍ تضييع وإبطال وهلاك وخسارة. طَيْراً ما طار في الهواء، صغيرا أو كبيرا. أَبابِيلَ جماعات متفرقة. سِجِّيلٍ طين متحجر. كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع يبقى بعد الحصاد، أكلته الدواب وداسته وأفنته، أو كتبن أكلته الدواب وراثته. التفسير والبيان: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ألم تعلم علم اليقين، وكأنك شاهدت الواقعة، بما صنع ربّك العظيم القدير بأصحاب الفيل، حيث دمرهم اللَّه، وحمى بيته الحرام، أفلا يجدر بقومك أن يؤمنوا باللَّه؟! وقد شاهد أناس

منهم الواقعة، حيث أقبل قوم من النصارى الأحباش الذين ملكوا اليمن، إلى الحجاز، يريدون تخريب الكعبة، فلما قربوا من مكة، وأرادوا دخولها، أرسل اللَّه عليهم جماعات من الطيور محمّلة بحجارة، ألقوها عليهم، فأهلكتهم. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ أي أفسد خطتهم ومؤامرتهم، والمعنى: ألم تر أن ربك جعل مكرهم وتدبيرهم وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها، في تضليل عما قصدوا إليه، وفي ضياع وإبطال، حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، بل أهلكهم اللَّه تعالى. والكيد: هو إرادة مضرة بالغير على الخفية. وإذا علم قومك هذا الأمر، فليخافوا أن يعاقبهم اللَّه بعقوبة مماثلة، ما داموا يصرون على الكفر باللَّه تعالى وبرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وكتابه الكريم، ويصدون الناس عن سبيل الإيمان الحق باللَّه عزّ وجلّ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي وبعث اللَّه عليهم جماعات متفرقة من الطيور السود، جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا دمره وهشمه. وهي حجارة صغيرة من طين متحجر، كالحمصة وفوق العدسة، فإذا أصاب أحدهم حجر منها، خرج به الجدري أو الحصبة، حتى هلكوا. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ أي فجعلهم فضلات وبقايا مثل ورق الزرع أو الشجر إذا أكلته الدواب، ثم راثته، فأهلكهم جميعا. أخرج البخاري أنه: «لما أطل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش، بركت ناقته، فزجروها، فألحت، فقالوا: خلأت

فقه الحياة أو الأحكام:

القصواء، أي حرنت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» . ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أجبتهم إليها، ثم زجرها، فقامت» . وفي الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم فتح مكة: «إن اللَّه حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فيبلّغ الشاهد الغائب» . فقه الحياة أو الأحكام: أرشدت الآيات إلى ما يأتي: 1- هذا الخطاب، وإن كان للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولكنه عام، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟! 2- دلت الواقعة على قدرة اللَّه الصانع وعلمه وحكمته، وعلى شرف محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة، تأسيسا لنبوتهم، وإرهاصا لها، ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله «1» . قال أبو حيان: كان صرف ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد صلّى اللَّه عليه وسلّم إرهاصا بنبوته إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد ظلل (أحبط) كيدهم، وأهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل «2» . 3- دلت القصة أيضا على تكريم اللَّه للكعبة، وإنعامه على قريش بدفع

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 97 (2) البحر المحيط: 8/ 512

العدو عنهم، فكان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان برسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعبادة اللَّه، وشكره على نعمائه. 4- كان إرسال الطير عليهم إرهاصا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأما بعد تقرير نبوته فلم يكن هناك حاجة إلى الإرهاص، لذا لم يعذب الحجّاج بتخريب البيت، ولأنه لم يكن قاصدا التخريب، وإنما أراد شيئا آخر، وهو قتل ابن الزبير. 5- شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة، تدل على حقارة كفرهم، وصغار نفوسهم، وهوانهم على اللَّه، وتلك الصورة ورق يابس أو تبن تعصف به الريح، أكلته الدواب وراثته، أي كفضلات البهائم، وذلك يدل أيضا على فنائهم التام لأنه أراد تشبيه تقطيع أوصالهم بتفريق أجزاء الروث. إلا أن هذا التشبيه جاء على منهج القرآن في أدبه الرفيع، مثل قوله تعالى في تشبيه عيسى وأمه: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة 5/ 75] . وإنما سلط اللَّه العذاب على أصحاب الفيل، ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثانا لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب، وهذا تعد على حق العباد، ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى اللَّه، وهو مع ذلك تعدّ على حق اللَّه تعالى، وحق العباد مقدّم على حق اللَّه تعالى. 6- قال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث اللَّه ريحا، فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة، فقال: فإنك لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المغمّس ما لقينا خشيت اللَّه إذ قد بث طيرا ... وظلّ سحابة مرّت علينا وباتت كلّها تدعو بحق ... كأن لها على الحبشان دينا

ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء اللَّه منهم. وقد تقدم في القصة التاريخية أن أميرهم أبرهة رجع وشرذمة قليلة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وذلك للعبرة والعظة. 7- قال ابن إسحاق: لما ردّ اللَّه الحبشة عن مكة، عظّمت العرب قريشا وقالوا: أهل اللَّه، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم فكان ذلك نعمة من اللَّه عليهم.

سورة قريش:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة قريش مكيّة، وهي أربع آيات. تسميتها: سميت سورة قريش تذكيرا لهم بنعم اللَّه عليهم في مطلع السورة: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ... مناسبتها لما قبلها: ترتبط السورة بما قبلها من وجهين: 1- كلتا السورتين تذكير بنعم اللَّه على أهل مكة، فسورة الفيل تشتمل على إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم البيت الحرام أساس مجدهم وعزهم، وهذه السورة تذكر نعمة أخرى اجتماعية واقتصادية، حيث حقق اللَّه بينهم الألفة واجتماع الكلمة، وأكرمهم بنعمة الأمن والاستقرار، ونعمة الغنى واليسار والإمساك بزمام الاقتصاد التجاري في الحجاز، بالقيام برحلتين صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن. 2- هذه السورة شديدة الاتصال بما قبلها، لتعلق الجار والمجرور في أولها بآخر السورة المتقدمة: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.. أي لإلف قريش أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل، لتبقى قريش، ولذا كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة. ولكن في المصحف الإمام فصلت هذه السورة عن التي قبلها، وكتب بينهما: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

ما اشتملت عليه السورة:

ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة المكية تعداد نعم اللَّه العظمى على قريش أهل مكة، حيث جمع اللَّه كلمتهم، وحقق الألفة والتئام الشمل بينهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ومكّنهم من التنقل وحرية التجارة إلى اليمن شتاء، وإلى الشام صيفا، لتوفير الثروة والغنى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. وهيّأ لهم في البلد الآمن الحرام نعمة الأمن والاطمئنان والاستقرار دون نزاع من أحد: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. فضلها: روى البيهقي في كتاب الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «فضّل اللَّه قريشا بسبع خلال: أني منهم، وأن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن اللَّه نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا اللَّه عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأن اللَّه أنزل فيهم سورة من القرآن، ثم تلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» . قال ابن كثير: وهو حديث غريب. التذكير بنعم اللَّه على قريش [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

الإعراب:

الإعراب: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ اللام في «إيلاف» إما متعلقة بفعل مقدر، تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، أو متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي لأجل هذا، أو متعلقة بقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ آخر سورة الفيل. وإِيلافِهِمْ: مجرور على البدل من «إيلاف» الأولى، و «إيلاف» مصدر رباعي، وهو ألف يؤلف إيلافا. وقرئ «إلا فهم» على أنه مصدر فعل ثلاثي، وهو (ألف يألف إلافا) . وقُرَيْشٍ إن أردت به الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه. ورِحْلَةَ منصوب لأنه معمول المصدر المضاف وهو إيلافهم، مثل وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [البقرة 2/ 251] [الحج 22/ 40] . البلاغة: الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ بينهما طباق، وكذلك بين جُوعٍ وخَوْفٍ. َّ هذَا الْبَيْتِ الإضافة للتكريم والتشريف. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ وقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ تقديم ما حقه التأخير، والأصل: ليعبدوا ربّ هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فقدم الإيلاف تذكيرا بالنعمة. جُوعٍ خَوْفٍ التنكير لبيان شدتهما، أي جوع وخوف شديدين. المفردات اللغوية: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ يقال: آلف الشيء إيلافا، وألف إلافا وإلفا، أي لزمه وعكف عليه، مع الأنس به وعدم النفور منه، قال الزمخشري: متعلق بقوله: لْيَعْبُدُوا أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء على لْيَعْبُدُوا لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى: أن نعم اللَّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لأجله. وقُرَيْشٍ مجموعة القبائل من ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، شبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وصغر الاسم للتعظيم. وقال أبو حيان: سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق، جمعهم قصي بن كلاب في الحرم، والتقريش: التجمع والالتئام. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ أي بسبب إلفهم الارتحال إلى اليمن في الشتاء، وإلى الشام في الصيف كل عام، يستعينون بالرحلتين للتجارة على المقام بمكة، لخدمة البيت الذي هو فخرهم

سبب النزول نزول الآية (1) :

ومجدهم. والرحلة: ارتحال القوم، بشد الرحال للمسير. ْبَيْتِ الكعبة. أَطْعَمَهُمْ وسّع لهم في الرزق. مِنْ جُوعٍ مِنْ خَوْفٍ أي من أجل جوع وخوف. وَآمَنَهُمْ جعلهم في أمن وسلامة في الأموال والأنفس. مِنْ خَوْفٍ خوف أصحاب الفيل، أو التخطف في بلدهم ومسايرهم. وكان يصيبهم الجوع لعدم الزرع بمكة، وخافوا جيش الفيل. سبب النزول: نزول الآية (1) : أخرج الحاكم وغيره عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فضّل اللَّه قريشا بسبع خصال» الحديث المتقدم، وفيه: نزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. التفسير والبيان: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي فلتعبد قريش ربها، شكرا له، لأجل إيلافهم (أي جعلهم يألفون، ويسّر لهم ذلك) رحلتين: رحلة إلى اليمن شتاء لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج، وكونها في الشتاء لأنها بلاد حارّة، ورحلة إلى الشام في الصيف، لجلب الحبوب الزراعية، وكونها في الصيف لأنها بلاد باردة، وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة، ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها، ولولا الأمن بجوار البيت، لم يقدروا على التصرف، وكانوا لا يغار عليهم لأن العرب يقولون: قريش أهل بيت اللَّه عز وجل. وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة من اللَّه عز وجل الذي هيأه لهم بواسطة البيت الحرام، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة، وإفراد اللَّه بالعبادة والتعظيم. وصريح محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه السورة متعلقة

بما قبلها لأن المعنى عندهما: حبسنا عن مكة الفيل، وأهلكنا أهله لإيلاف قريش، أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين. وعلى كل حال فهاتان نعمتان: نعمة صد أصحاب الفيل، ونعمة جوار البيت الحرام والائتلاف فيه، فإن لم يعبدوا اللَّه لسائر نعمه، فليعبدوه لهاتين النعمتين. وقد عرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت، بالرغم من أوثانهم التي يعبدونها حول الكعبة، فميّز نفسه عنها، وبالبيت تشرفوا على سائر العرب، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى البيت في السورة لإفادة التعظيم. قال الرازي رحمه اللَّه عند قوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ : اعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما- دفع الضرر، والثاني- جلب النفع، والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب، أما جلب النفع، فإنه غير واجب، فلهذا السبب بيّن اللَّه تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل، ونعمة جلب النفع في هذه السورة، ونظرا لهاتين النعمتين العظيمتين أمرهم ربهم بعبادته والعبودية له وأداء الشكر على ذلك: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ «1» . والعبادة: هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون، وهي تحقق معنى العبودية. ثم ذكر اللَّه تعالى نعما أخرى على قريش، وصف بهما رب هذا البيت، فقال: - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي هو ربّ البيت، وهو الذي أطعمهم من جوع ووسّع لهم في الرزق ويسّر لهم سبيله، بسبب هاتين الرحلتين، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 107

فقه الحياة أو الأحكام:

- وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي وتفضل عليهم بالأمن والاستقرار، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا، قال ابن كثير: ولهذا من استجاب لهذا الأمر، جمع اللَّه له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة. ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النحل 16/ 112- 113] «1» . وكانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضا، فأمنت قريش كما تقدم من ذلك لمكان الحرم، كما آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل قال اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟ [العنكبوت 29/ 67] . فقه الحياة أو الأحكام: أمر اللَّه تعالى في هذه السورة قريشا وهم أولاد النضر بن كنانة بعبادة وتوحيد ربهم الذي أنعم عليهم بهذه النعم الكثيرة ومنها: 1- إهلاك أصحاب الفيل وصدهم عن مكة، كما أهلكوا أيضا لأجل كفرهم، وفي هذا دفع لضرر عظيم مؤكد الحصول لولا عناية اللَّه وحمايته، وتوفير أيضا للأمن والسلامة والاطمئنان بجوار البيت الحرام. 2- نعمة الرزق وتوفير الحاجة والكفاية بسبب ارتحالهم إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا لجلب مختلف أنواع التجارات من الأطعمة والثياب، مع أمنهم من إغارة العرب عليهم لأنهم أهل بيت اللَّه وجبرانه.

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 553

3- نعمة الأمن من المخاوف، سواء في داخل مكة حيث جعل اللَّه لهم مكة بلدا آمنا، ويتخطف الناس من حولهم، أو في خارجها عند ما يتنقلون للتجارة والكسب. والكسب. 4- نعمة وجود البيت الحرام أو الكعبة المشرفة محل التعظيم والتقديس من العرب، وأساس مجدهم وعزهم، فإنهم شرّفوا بالبيت على سائر العرب، فذكّرهم اللَّه بهذه النعمة. والخلاصة: إن نعم اللَّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة وهي إيلافهم رحلتين. روى ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن أم سلمة الأنصارية، قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «ويل لكم قريش: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» . وروى عنها أيضا: قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ويحكم يا معشر قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف» . واستدل الإمام مالك بالسورة على أن الزمان قسمان: شتاء وصيف، ولم يجعل لهما ثالثا، فالشتاء نصف السنة، والصيف نصفها. واستدل العلماء بهذا أيضا على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلّين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ أدوات التبريد صيفا، ووسائل الدفء شتاء. شتاء.

سورة الماعون:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الماعون مكيّة، وهي سبع آيات. مكيتها أو مدنيتها: هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن عباس وقتادة، وقال هبة اللَّه المفسر الضرير: نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد اللَّه بن أبي المنافق. تسميتها: سميت سورة الماعون، لأن اللَّه تعالى ذم في نهايتها المدنية الذين يمنعون الماعون: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [7] كالساهين عن الصلاة، والمنافقين. والماعون: ما يستعيره الجار من جاره من أدوات الطبخ، كالقدر والملح والماء، وآلات الحراثة والزرع، كالفأس والدلو، ووسائل الخياطة كالإبرة والخيط ونحو ذلك من كل ما يستعان وينتفع به من المنافع السريعة. وتسمى أيضا سورة الدّين للنعي في مطلعها المكي على الذي يكذب بالدّين، أي الجزاء الأخروي. مناسبتها لما قبلها: ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة: 1- ذم اللَّه في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة اللَّه

ما اشتملت عليه السورة:

الذين أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وذم في هذه السورة من لم يحضّ على طعام المسكين. 2- أمر اللَّه في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ وذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون، وينهون عن الصلاة. 3- عدّد اللَّه تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش، وهم مع ذلك ينكرون البعث، ويجحدون الجزاء في الآخرة، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين، أي الجزاء الأخروي. ما اشتملت عليه السورة: تحدثت هذه السورة المكية في مطلعها عن الكافر، وفي نهايتها المدنية عن المنافق. أما مطلعها فهو في ذمّ الكافر المكذب بيوم الحساب والجزاء: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ووصفته بصفتين: الأولى- انتهاره وزجره وطرده اليتيم، والثانية- عدم الحض أو الحث على إطعام المسكين، فلم يحسن في عبادة ربه، ولم يفعل الخير لغيره. وأما خاتمتها فهي في ذم المنافق الذي أظهر الإسلام وأخفى الكفر، ووصفته بصفات ثلاث: الأولى- الغفلة عن الصلاة، والثانية- مراءاته الناس بعمله، والثالثة- منعه الماعون الذي يستعان وينتفع به بين الجيران، فهو لا يعمل للَّه، بل يرائي في عمله وصلاته. وتوعدت الفريقين بالخزي والعذاب والهلاك، ولفتت الأنظار إليهم بأسلوب الاستهجان والاستغراب والتعجيب من صنيعهم.

الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله وعقاب كل منهما [سورة الماعون (107) الآيات 1 إلى 7] :

الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله وعقاب كل منهما [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) الإعراب: أَرَأَيْتَ بالهمزة على الأصل، وهو في الأظهر عند ابن الأنباري من رؤية العين، لا من رؤية القلب، فيتعدى إلى مفعول واحد، وليس في الآية إلا مفعول واحد. وقرئ أرأيت بتخفيف الهمزة، بجعلها بين الهمزة والألف لأن حركتها الفتح. وقرئ رأيت بحذف الهمزة الأولى للتخفيف، كما حذف في المضارع، نحو «يرى» . وقال أبو حيان: الظاهر أن أَرَأَيْتَ هنا هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الَّذِي والآخر محذوف تقديره: أليس مستحقا عذاب اللَّه؟ أو: من هو؟ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ فَوَيْلٌ مبتدأ: ولِلْمُصَلِّينَ خبره. والَّذِينَ صفة الخبر، وهُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ صلته. ولم تحصل الفائدة بالخبر، بل بما وقع صلة الصفة، وهو قوله ساهُونَ وهذا يسمى الخبر الموطئ: وهو أن معتمد الفائدة إنما كان بصفة الخبر، لا بالخبر. مثل قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ، تَجْهَلُونَ [النمل 27/ 55] فإن قوله: أَنْتُمْ مبتدأ، وقَوْمٌ خبره، ومعتمد الفائدة على صفة الخبر، لا عليه، لأن قوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ لم تحصل به الفائدة، للعلم بأنهم قوم، وإنما حصلت الفائدة بقوله: تَجْهَلُونَ. البلاغة: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ استفهام يراد به تشويق السامع إلى الخبر والتعجيب منه. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ إيجاز بالحذف، حذف منه الشرط، أي إن أردت أن تعرفه فذلك الذي يدعّ اليتيم.

المفردات اللغوية:

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ذم وتوبيخ، ووضع الظاهر موضع الضمير، والأصل فَوَيْلٌ لَهُمْ زيادة في التقبيح لأنهم مع التكذيب ساهون عن الصلاة. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ جناس ناقص. ساهُونَ يُراؤُنَ الْماعُونَ: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذلك بِالدِّينِ الْمِسْكِينِ لِلْمُصَلِّينَ. المفردات اللغوية: أَرَأَيْتَ أي هل عرفت وعلمت؟ وهو استفهام معناه التعجب وتشويق السامع إلى معرفة ما يذكر بعده. بِالدِّينِ بالجزاء والحساب. والمعنى العام للدين: هو النظام الإلهي للحياة المشتمل على الخضوع لما وراء المحسوس بآثار الكون الدالة على وجود اللَّه ووحدانيته، وبعثة الرسل، والتصديق بعالم الآخرة. يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يدفعه بعنف عن حقه، ويزجره زجرا عنيفا، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور 52/ 13] . وَلا يَحُضُّ لا يحث نفسه وأهله وغيرهم من الناس. عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إطعام. فَوَيْلٌ خزي وعذاب وهلاك. ساهُونَ غافلون عن الصلاة، يؤخرونها عن وقتها. يُراؤُنَ في الصلاة وغيرها، يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها، والرياء: المصانعة وفعل الشيء لغير وجه اللَّه، إرضاء للناس. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ كل ما يستعان وينتفع به كالإبرة والفأس والقدر والقصعة. سبب النزول: نزول الآية (1) : أَرَأَيْتَ قال ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل السّهمي وقال السّدّي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي جهل، كان وصيا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه. وقال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه فأنزل اللَّه هذه السورة.

نزول الآية (4) :

نزول الآية (4) : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ: أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ قال: نزلت في المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العاريّة، أي الشيء المستعار. التفسير والبيان: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي أأبصرت يا محمد الذي يكذب بالحساب والجزاء؟ أو بالمعاد والجزاء والثواب. وقوله: أَرَأَيْتَ وإن كان في صورة استفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا، ويزجره زجرا عنيفا، ويظلمه حقه ولا يحسن إليه، وقد كان عرب الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان. ولا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج، بخلا بالمال، كما قال تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الفجر 89/ 17- 18] أي الفقير الذي لا يملك شيئا، أو لا يجد كفايته. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي فخزي وعذاب للمنافقين الذي يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا، والذين هم غافلون عنها، غير مبالين بها، لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا. ولم يقل: في صلاتهم ساهون لأن السهو في أثناء الصلاة مغتفر معفو عنه لأنه غير اختياري، وإنما قال: عن صلاتهم ساهون بتأخيرها عن وقتها رأسا، أو فعلها مع قلة مبالاة بها، كقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى،

فقه الحياة أو الأحكام:

يُراؤُنَ النَّاسَ [النساء 4/ 142] . ويجوز أن يطلق لفظ «المصلين» على تاركي الصلاة، بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أي إن أولئك الساهين عن صلاتهم هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر، ليثنوا عليهم. قال الزمخشري: المراءاة: هي مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يري الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه، والإعجاب به. روى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عمرو يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من سمّع الناس بعمله، سمّع اللَّه به سامع خلقه، وحقّره، وصغّره» . وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي يمنعون العارية وفعل الخير، والْماعُونَ اسم لكل ما يتعاوره الناس بينهم، من الدّلو والفأس والقدّوم والقدر ومتاع البيت، وما لا يمنع عادة، كالماء والملح، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق. فهؤلاء المنافقون لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى. روى النسائي وغيره عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عارية الدّلو والقدر. فقه الحياة أو الأحكام: يستنبط من الآيات ما يأتي: 1- ذم المكذب بالجزاء والحساب في الآخرة، واللفظ عام لا يقتصر على من كان سبب نزول الآية.

2- من صفات المكذب بالجزاء الأخروي وقبائحه: زجر اليتيم وطرده ودفعه عن حقه وظلمه وقهره، وترك الخير وعدم الحث أو عدم الأمر على إطعام الفقير والمسكين، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وليس الذم عاما، حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون مع الغنى، ويعتذرون لأنفسهم. 3- الويل، أي العذاب والتهديد العظيم لمن فعل ثلاثة أمور: أحدها- السهو عن الصلاة، وثانيها- فعل المراءاة، وثالثها- منع الماعون. وقد جمع المنافقون الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال. والسهو عن الصلاة: تركها رأسا، أو فعلها مع قلة المبالاة بها كما تقدم. أما السهو في الصلاة فهو أمر غير اختياري، فلا يدخل تحت التكليف. وقد ثبت أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سها في الصلاة، وشرع سجود السهو لمن سها. وكذلك سها الصحابة. وحقيقة الرياء: طلب ما في الدنيا بالعبادة، وطلب المنزلة في قلوب الناس، وللرياء أنواع، وأولها: تحسين السّمت (الهيئة) مع إرادة الجاه وثناء الناس. وثانيها: لبس الثياب القصار أو الخشنة، ليأخذ بذلك هيبة الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول بإظهار السخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوته من فعل الخير والطاعة. ورابعها: إظهار الصلاة والصدقة، أو تحسين الصلاة لأجل رؤية الناس له «1» .

_ (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1972، تفسير القرطبي: 20/ 212- 213

والفرق بين المنافق والمرائي: أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر، والمرائي: المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين «1» . وقال العلماء: لا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء، أو نفي التهمة. واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه، وحملها على الإخلاص. ومن هنا قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة المظلمة، على المسح الأسود» «2» أي البلاس المصنوع من الشعر. والماعون عند أكثر المفسرين: اسم جامع لما لا يمنع في العادة، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال، ولا ينسب سائله إلى لؤم، بل ينسب مانعة إلى اللؤم والبخل، كالفأس والقدر والدّلو والمقدحة والغربال والقدوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار، لما روى ابن ماجه عن أبي هريرة: «ثلاثة لا يمنعن: الماء والنار والملح» . ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز من تنورك، أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم «3» . وقيل: منع الماعون: منع زكاة أموالهم. وبالرغم من أن هذه الأوصاف واضحة في المنافقين، فإن بعضها قد يوجد في المسلم الصادق الإسلام، وحينئذ يلحقه جزء من التوبيخ، كالصلاة إذا تركها، ومنع الماعون إذا تعين، ويكون منعا قبيحا مخلّا بالمروءة في غير حال الضرورة. 4- في الآيتين حول السهو عن الصلاة ومنع الماعون إشارة إلى أن الصلاة للَّه عز وجل، والماعون للخلق أو للناس، فمن ترك الصلاة لم يراع جانب تعظيم أمر اللَّه، ومن منع الماعون لم يراع جانب الشفقة على خلق اللَّه، وهذا كمال الشقاوة، نعوذ باللَّه منها.

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 115 (2) تفسير الكشاف: 3/ 362 (3) غرائب القرآن: 30/ 191

والخلاصة: وصف اللَّه الكفار والمنافقين في هذه السورة بأربع صفات: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة والخير.

سورة الكوثر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكوثر مكيّة، وهي ثلاث آيات. مكيتها أو مدنيتها: هذه السورة مكية في المشهور وقول الجمهور، وقال الحسن وعكرمة وقتادة: مدنية، وهو رأي ابن كثير. تسميتها: سميت سورة الكوثر لافتتاحها بقول اللَّه تعالى مخاطبا نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة، ومنه: نهر الكوثر في الجنة. مناسبتها لما قبلها: وصف اللَّه الكفار والمنافقين الذين يكذبون بالدين أي بالجزاء الأخروي بأربع صفات: البخل في قوله: يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وترك الصلاة في قوله: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. والرياء أو المراءاة في الصلاة في قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ومنع الخير والزكاة في قوله: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. وذكر اللَّه تعالى في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر أنه أعطاه الكوثر في مقابلة البخل في قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وأمره بالمواظبة على الصلاة: فَصَلِّ أي دم على الصلاة في مقابلة ترك الصلاة، وأمره

ما اشتملت عليه السورة:

بالإخلاص في الصلاة في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، في مقابلة المراءاة في الصلاة، وأمره بالتصدق بلحم الأضاحي على الفقراء، في مقابلة منع الماعون «1» . ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة المكية الحديث عن مقاصد ثلاثة هي: 1- بيان فضل اللَّه الكريم وامتنانه على نبيه الرحيم بإعطائه الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومنه نهر الكوثر في الجنة. 2- أمر النبي وكذا أمته بالمواظبة على الصلاة، والإخلاص فيها، ونحر الأضاحي شكرا للَّه تعالى. 3- بشارة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بنصره على أعدائه، وبخزيهم وإذلالهم وحقارتهم، بسبب انقطاعهم عن كل خير في الدنيا والآخرة. فضلها: أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: «أغفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إغفاءة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها، فقال: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب، إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . وأخرج مسلم- واللفظ له- وأبو داود والنسائي عن أنس قال: «بينا

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 117

سبب نزول السورة:

رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أظهرنا في المسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول اللَّه؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج «1» العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك» . سبب نزول السورة: أخرج البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة! قال: أنتم خير منه، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال: لما أوحي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت قريش: بتر محمد منا، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كانت قريش تقول إذا مات ذكور الرجل: بتر فلان، فلما مات ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال العاصي بن وائل: بتر محمد، فنزلت. وأخرج البيهقي في الدلائل مثله عن محمد بن علي، وسمى الولد: القاسم، وأخرج عن مجاهد قال: نزلت في العاصي بن وائل، وذلك أنه قال: أنا شانئ محمد. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قالت: نزلت يوم الحديبية، أتاه جبريل، فقال: انحر واركع، فقام، وخطب

_ (1) أي ينتزع ويقتطع.

المنح المعطاة للنبي صلى الله عليه وسلم [سورة الكوثر (108) الآيات 1 إلى 3] :

خطبة الفطر والنحر، ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البدن، فنحرها. لكن فيه غرابة شديدة كما قال السيوطي. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: بلغني أن إبراهيم ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما مات، قالت قريش: أصبح محمدا بترا، فغاظه ذلك، فنزلت: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ تعزية له. والخلاصة: كان سبب نزول هذه السورة هو استضعاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واستصغار أتباعه، والشماتة بموت أولاده الذكور، ابنه القاسم بمكة، وإبراهيم بالمدينة، والفرح بوقوع شدة أو محنة بالمؤمنين، فنزلت هذه السورة إعلاما بأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم قوي منتصر، وأتباعه هم الغالبون، وأن موت أبناء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يضعف من شأنه، وأن مبغضيه هم المنقطعون الذين لن يبقى لهم ذكر وسمعة، البعيدون عن كل خير. المنح المعطاة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) الإعراب: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إِنَّا أصله: إننا، فحذفت إحدى النونات استثقالا لاجتماع الأمثال، وذهب الأكثرون إلى أن المحذوفة هي الوسطى. والكوثر: فوعل من الكثرة، والواو فيه زائدة، وهو نهر في الجنة، وسمي كوثرا لكثرة مائه، ورجل كوثر: كثير العطايا والخير. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هُوَ إما ضمير فصل لا موضع له من الإعراب، والْأَبْتَرُ خبر إِنَّ، أو مبتدأ، والْأَبْتَرُ خبره، والمبتدأ والخبر: خبر إِنَّ.

البلاغة:

البلاغة: إِنَّا أَعْطَيْناكَ إِنَّا بصيغة الجمع الدالة على التعظيم. وفيه تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم لأن أصلها: إن ونحن. وعبر بصيغة الماضي المفيدة للوقوع. أَعْطَيْناكَ ولم يقل: سنعطيك، للدلالة على تحقق وقوع الوعد مبالغة، كأنه حدث ووقع. الْكَوْثَرَ: مبالغة. فَصَلِّ لِرَبِّكَ الإضافة للتكريم والتشريف. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ إفادة الحصر. الْكَوْثَرَ هُوَ الْأَبْتَرُ مطابقة أو طباق لأن الْكَوْثَرَ الخير الكثير، والْأَبْتَرُ المنقطع عن كل خير. المفردات اللغوية: إِنَّا أَعْطَيْناكَ يا محمد وقرئ (أنطيناك) الْكَوْثَرَ المفرط في كثرة الخير من العلم والعمل وشرف الدارين بالنبوة والقرآن والدين الحق والشفاعة ونحوها، ومنه نهر في الجنة كما روي عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الإمام أحمد ومسلم ومن معهما في الحديث المتقدم عن أنس: أنه «نهر في الجنة، وعدنيه ربي، فيه خير كثير، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزّبد، حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة، لا يظمأ من شرب منه» وقيل: حوض في الجنة. فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي داوم على الصلاة، خالصا لوجه اللَّه، شكرا لإنعامه، وقيل: المراد صلاة عيد النحر. وَانْحَرْ النّسك أو الهدي أو الأضحية، وتصدق على المحاويج (المحتاجين) . شانِئَكَ مبغضك. هُوَ الْأَبْتَرُ المنقطع عن كل خير، أو المنقطع العقب، أي الذي لا عقب له، إذ لا يبقى له نسل، ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذرّيتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة مالا يوصف. التفسير والبيان: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي منحناك الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى النهاية أو الغاية، ومنه نهر في الجنة، جعله اللَّه كرامة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأمته. وهذا رد على الأعداء الذين استخفوا به واستقلوه، ووصف مناقض لما عليه أهل الكفر والنفاق من البخل.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك نهر الكوثر، فداوم على صلاتك المفروضة والنافلة، وأدّها خالصة لوجه ربك، وانحر ذبيحتك وأضحيتك وما هو نسك لك وهو الهدي (شاة أو بعير مقدّم للحرم) وغير ذلك من الذبائح للَّه تعالى وعلى اسم اللَّه وحده لا شريك له، فإنه هو الذي تعهدك بالتربية وأسبغ عليك نعمه دون سواه، كما جاء في آية أخرى آمرا له: قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام 6/ 162- 163] . وهذا على نقيض فعل المشركين الذين كانوا يصلون لغير اللَّه، وينحرون لغير اللَّه، فأمر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تكون صلاته ونحره له، وهو أيضا نقيض فعل المنافقين المراءين. وقال قتادة وعطاء وعكرمة: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية. قال ابن كثير: الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك، ولهذا جاء ففي حديث البراء بن عازب عند البخاري ومسلم: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي العيد، ثم ينحر نسكه، ويقول: من صلّى صلاتنا، ونسك ونسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول اللَّه، إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم يشتهي فيه اللحم قال: شاتك شاة لحم، قال: فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين، أفتجزئ عني؟ قال: تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» . وقال ابن جرير في تفسير الآية: والصواب قول من قال: إن معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك، خالصا دون ما سواه، من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك، اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له، وخصك به.

فقه الحياة أو الأحكام:

إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي إن مبغضك يا محمد، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع عن خيري الدنيا والآخرة، والذي لا يبقى ذكره بعد موته. وهذا رد على ما قال بعض المشركين وهو العاص بن وائل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما مات ابنه عبد اللَّه من خديجة: إنه أبتر، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير. والأبتر من الرجال: الذي لا ولد له. وعن ابن عباس: نزلت في أبي جهل. وهذا يعم جميع من اتصف بعداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ممن ذكر في سبب النزول وغيرهم. قال الحسن البصري رحمه اللَّه: عنى المشركون بكونه أبتر: أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، واللَّه بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك. فقه الحياة أو الأحكام: دلت السورة على ما يأتي: 1- أعطى اللَّه عز وجل نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم مناقب كثيرة، وخيرا كثيرا عظيما بالغا حد النهاية، ومنه نهر في الجنة، كما روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي عن أنس. وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك. وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج» وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: إنه حوض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الموقف، كما جاء في حديث مسلم المتقدم عن أنس. وهذان القولان هما أصح الأقوال، فيكون الكوثر شاملا نهرا في الجنة، وحوضا ترد عليه أمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم القيامة.

2- أمر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته بأداء الصلوات المفروضة والنوافل خالصة لوجه اللَّه تعالى، دون مشاركة أحد سواه، وأمرهم أيضا بذبح المناسك مما يهدى إلى الحرم والأضاحي وجميع الذبائح للَّه تعالى، وعلى اسم اللَّه وحده لا شريك له. 3- إن مبغضي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما جاء به من شرع ربه هم المنقطعون عن خيري الدنيا والآخرة، والذين لا يبقى لهم ذكر مسموع بعد موتهم لأنهم لم يؤمنوا برسالة الحق، ولم يعملوا من أجل الحق والخير المحض للَّه سبحانه وتعالى. هذا.. وقد ذكر الرازي رحمه اللَّه أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور، وأورد ما شرف اللَّه به نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته من الفضائل والمزايا والمناقب في سورة الأضحى والانشراح والتين والعلق والقدر والبينة والزلزال والعاديات والقارعة والتكاثر والعصر والهمزة والفيل وقريش، ثم الكوثر، فليرجع إليه، فإنه كلام رائع «1» . وروي عن علي رضي اللَّه عنه فيما خرّجه الدارقطني في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وقد اختلف المالكية في هذه الهيئة، والصحيح كما قال القرطبي أن المصلي يفعل ذلك في الفريضة والنافلة لأنه ثبت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده اليمنى على اليسرى، من حديث وائل بن حجر وغيره. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق والشافعي وأصحاب الرأي. واستحب جماعة إرسال اليد «2» . والموضع الذي توضع عليه اليد مختلف فيه، فروي عن علي بن أبي طالب أنه وضعهما على الصدر. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السّرّة، وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة.

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 118- 119 [.....] (2) تفسير القرطبي: 20/ 220 وما بعدها.

وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود فمختلف فيه أيضا. والصواب ما في الصحيحين من حديث ابن عمر، قال: «رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبّر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع اللَّه لمن حمده، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود» . قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول، وبه أقول لأنه الثابت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك. هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي «1» .

_ (1) المرجع والمكان السابق.

سورة الكافرون:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكافرون مكيّة، وهي ست آيات. تسميتها: سميت سورة الكافرون لأن اللَّه تعالى أمر نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد ما يعبدون من الأصنام والأوثان: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وتسمى أيضا سورة المنابذة، وسورة الإخلاص، والمقشقشة. مناسبتها لما قبلها: أمر اللَّه نبيه في السورة السابقة بإخلاص العبادة للَّه وحده لا شريك له، وفي هذه السورة سورة التوحيد والبراءة من الشرك تصريح باستقلال عبادته عن عبادة الكفار، فهو لا يعبد إلا ربه، ولا يعبد ما يعبدون من الأوثان والأصنام، وبالغ في ذلك فكرّره وأكّده، وانتهى إلى أن له دينه، ولهم دينهم. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المكية- سورة البراءة من عمل المشركين والإخلاص في العمل للَّه تعالى، وضعت الحد الفاصل النهائي بين الإيمان والكفر، وبين أهل الإيمان وعبدة الأوثان، فحينما طلب المشركون المهادنة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، نزلت السورة تقطع أطماع الكفار الرخيصة، وتفصل النزاع بين فريقي المؤمنين والكافرين إلى الأبد.

فضلها:

فضلها: ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بهذه السورة وب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف. وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وروي هذا أيضا عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقدم تقدم في سورة الزلزال في حديث ابن عباس عند الترمذي أنها تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن. وروى أبو القاسم الطبراني عن جبلة بن حارثة- وهو أخو زيد بن حارثة-: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، حتى تمر بآخرها، فإنها براءة من الشرك» . وروى الإمام أحمد مثل ذلك عن الحارث بن جبلة. والخلاصة: ثبت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بهذه السورة، وب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف، وفي ركعتي الفجر، والركعتين بعد المغرب، ويوتر بسبح، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. سبب نزولها: أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس: «أن قريشا دعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل اللَّه: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة، وأنزل: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر 39/ 64] » .

وأخرج عبد الرزاق عن وهب قال: قالت كفار قريش للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن سرّك أن تتبعنا عاما، ونرجع إلى دينك عاما، فأنزل اللَّه: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن ميناء قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلتعبد ما نعبد، ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فأنزل اللَّه: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. ويؤيد هذا ما ذكره النيسابوري: أنها نزلت في رهط من قريش، قالوا: يا محمد، هلمّ، اتبع ديننا ونتّبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا قد شرّكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك، قد شركت في أمرنا، وأخذت بحظك، فقال: معاذ اللَّه أن أشرك به غيره، فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة، فغدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك «1» . وذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها «أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف لقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل اللَّه عز وجل: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» » .

_ (1) أسباب النزول للنيسابوري الواحدي: ص 261 (2) تفسير القرطبي: 20/ 225

سورة البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين [سورة الكافرون (109) الآيات 1 إلى 6] :

سورة البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الإعراب: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ما بمعنى الذي في موضع نصب ب أَعْبُدُ وتَعْبُدُونَ صلة (الذي) والعائد محذوف، تقديره: ما تعبدونه. ويجوز أن تكون ما مصدرية، فلا تفتقر إلى عائد. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ قال: ما أَعْبُدُ ولم يقل (من) لمطابقة ما قبله وما بعده. وقيل: ما بمعنى (من) . وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ما في الوضعين في موضع نصب لأنها مفعول ما قبلها، وهما إما موصولة أو مصدرية مثل ما الأولى. البلاغة: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ خطاب بالوصف للتوبيخ والتشنيع. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ طباق السلب، فالأول نفي والثاني إثبات. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابلة بين الجملتين في الاستقبال. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابلة بين الجملتين في الحال أو الماضي. وفي هذه المقابلة نفي لعبادة الأصنام في الحال والاستقبال. يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ توافق الفواصل في الحرف الأخير. المفردات اللغوية: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يعني كفرة مخصوصين قد علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون، وهم زعماء الشرك في مكة. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي في المستقبل، فإن لا لا تدخل إلا على مضارع

التفسير والبيان:

بمعنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون من الأصنام في الحال. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا تعبدون في المستقبل ما أعبد في الحال، وهو اللَّه تعالى وحده. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي ولست أنا عابد في الحال أو في الماضي ما عبدتم فيما سلف. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده، ويجوز أن تكون الجملتان تأكيدين على طريقة أبلغ. والأدق أن يقال: إن الآيتين (2، 3) تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد، فالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعبد اللَّه، وهم يعبدون الأصنام والأوثان. والآيتان (4، 5) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها، فعبادة النبي عليه الصلاة والسلام عبادة خالصة للَّه لا يشوبها شرك ولا غفلة عن المعبود، وعبادتهم كلها شرك وإشراك، فلا يلتقيان. لَكُمْ دِينُكُمْ وهو الشرك الذي أنتم عليه. وَلِيَ دِينِ وهو التوحيد أو الإسلام الذي أنا عليه، لا أرفضه، قال البيضاوي: فليس فيه إذن في الكفر، ولا منع عن الجهاد، ليكون منسوخا بآية القتال. وقال الزمخشري: والمعنى أني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني، ولم تتبعوني فدعوني كفافا، ولا تدعوني إلى الشرك. التفسير والبيان: هذه سورة البراءة من عمل المشركين، وهي آمرة بالإخلاص في العبادة، فقال تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي قل أيها النبي لكفار قريش: يا أيها الكافرون، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض. وفائدة كلمة قُلْ: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور، ومخاطبة الناس بالوجه الأحسن، فلما كان الخطاب هنا غليظا أراد اللَّه رفع الحرج عنه وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، لا أنه ذكره من عند نفسه. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولستم أنتم ما دمتم على شرككم وكفركم عابدين اللَّه الذي أعبد، فهو اللَّه وحده لا شريك له.

وهاتان الآيتان (2، 3) تدلان على الاختلاف في المعبود، فالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعبد اللَّه وحده، وهم يعبدون الأصنام والأوثان أو الأنداد والشفعاء، أو أن المعنى دفعا للتكرار كما ذكر الزمخشري: لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال، وعلامته لا التي هي للاستقبال، بدليل أن (لن) للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد، وأصله في رأي الخليل: لا أن. وما: للحال «1» ، وخلاصة المعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أعبد عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد اللَّه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأنتم لا تقتدون بأوامر اللَّه وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم، فعبادة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه خالصة للَّه لا شرك فيها ولا غفلة عن المعبود، وهم يعبدون اللَّه بما شرعه، ولهذا كانت كلمة الإسلام: «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» أي لا معبود إلا اللَّه، ولا طريق إليه في العبادة إلا بما جاء به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم. والمشركون يعبدون غير اللَّه عبادة لم يأذن اللَّه بها، فكلها شرك وإشراك، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان. فالآيتان (4، 5) تدلان على الاختلاف في العبادة نفسها. ويرى بعضهم كالزمخشري: وما كنت قط في الحال أو في الماضي عابدا ما عبدتم، يعني لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام؟! وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. وقيل: في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.

_ (1) قد فهم بعضهم خطا ما أراده الزمخشري هنا وفي الآيتين بعدهما. فقلب الوضع، وجعل الاستقبال محل الحال وبالعكس.

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم أو كفركم، ولي ديني وهو التوحيد والإخلاص أو الإسلام، فدينكم الذي هو الإشراك، لكم لا يتجاوزكم إليّ، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني، فيحصل لكم. وقيل: الدين: الجزاء، والمضاف محذوف، أي لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وقيل: الدين: العبادة. وليست السورة منسوخة بآية القتال، والمحققون على أنه لا نسخ، بل المراد التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت 41/ 40] . ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس 10/ 41] وقوله: لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [القصص 28/ 55] . والمراد بذلك كله التهديد، لا الرضا بدين الآخرين. وقد استدل الإمام أبو عبد اللَّه الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورّث اليهود من النصارى وبالعكس إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس، لحديث أحمد وأبي داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» . قال الرازي: جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ عند المتاركة، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه «1» .

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 148

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: دلت السورة على اختلاف المعبود واختلاف العبادة بين المسلمين وغيرهم، وعلى أن الكفر ملة واحدة في مواجهة الإسلام، وهذه العوامل الثلاثة تدل على أنه لالقاء بين الكفر والإيمان، ولا بين أصحاب العداوة الدينية الحاقدة المتأصلة في النفس مع الإسلام وأهله. أما اختلاف المعبود بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين وبين الكفار: فهو أن الفريق الأول يعبد اللَّه وحده لا شريك له، والفريق الثاني يعبد غير اللَّه من الأصنام والأوثان والأنداد والشفعاء من البشر أو الملائكة أو الكوكب أو غير ذلك من أباطيل الملل والنحل. وأما اختلاف العبادة فالمؤمنون يعبدون اللَّه بإخلاص لا شرك فيه ولا غفلة عن المعبود، وبما شرع اللَّه لعباده من كيفية العبادة المرضية له، وأما الكفار والمشركون فيعبدون معبوداتهم بكيفيات فيها الشرك والإشراك وبنحو اخترعوه لأنفسهم، لا يرضى عنه ربهم. وأما الكفر فكله ملة واحدة في مواجهة الإسلام لأن الدين الحق المقبول عند اللَّه هو الإسلام وهو الإخلاص للَّه والتوحيد. وأما أنواع الكفر المعارضة لمبدأ التوحيد فتشترك في صلب الاعتقاد المنحرف عن أصل التوحيد.

سورة النصر:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النصر مدنيّة، وهي ثلاث آيات. تسميتها: سميت سورة النصر لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي الفتح الأكبر والنصر المؤزر الذي سمي فتح الفتوح وهو فتح مكة المكرمة. وتسمى أيضا سورة التوديع. مناسبتها لما قبلها: لما أخبر اللَّه تعالى في آخر السورة المتقدمة باختلاف دين الإسلام الذي يدعو إليه الرسول عن دين الكفار، أنبأه هنا بأن دينهم سيضمحل ويزول، ودينه سيعلو وينتصر وقت مجيء الفتح والنصر، حيث يصبح دين الأكثرين. وفي ذلك بيان فضل اللَّه تعالى على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنصر والفتح، وانتشار الإسلام، وإقبال الناس أفواجا إلى دينه: دين اللَّه، كما أن فيه إشارة إلى دنو أجله صلّى اللَّه عليه وسلّم. ما اشتملت عليه السورة: هذه السورة المدنية بالإجماع تشير إلى فتح مكة، وانتصار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على المشركين، وانتشار الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، وانحسار ظلمة الشرك والوثنية، والإخبار بدنو أجل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأمره بتسبيح ربه وحمده واستغفاره.

فضلها:

فضلها: تقدم في تفسير سورة الزلزال أنها في حديث الترمذي عن أنس بن مالك تعدل ربع القرآن، وإِذا زُلْزِلَتِ تعدل ربع القرآن. وأخرج النسائي عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: يا ابن عتبة، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت: نعم: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال: صدقت. وروى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي عن ابن عمر قال: أنزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم قام، فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة، أي خطبة حجة الوداع. سبب نزولها: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: «كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم. قال ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول اللَّه عز وجل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعلمه اللَّه له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فذلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول» .

وقت نزول هذه السورة:

وقت نزول هذه السورة: هناك قولان في ذلك: أحدهما- أن فتح مكة كان سنة ثمان في رمضان، ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما، وتوفي في ربيع الأول سنة عشر، ولذلك سميت سورة التوديع. والقول الثاني- أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه، ونظيره قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص 28/ 85] . وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع: إذا جاء وإذا وقع. وعلى هذا القول يكون الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه إخبارا بالغيب معجزا، فهو من أعلام النبوة «1» . والظاهر القول الأول، بدليل ما قال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجّة الوداع، ثم نزلت الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 5/ 3] فعاش بعدهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة (آخر سورة النساء) ، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما. ثم نزل: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 2/ 281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل: سبعة أيام «2» . لكن قال الرازي: الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة «3» .

_ (1) تفسير الرازي: 32/ 155 (2) تفسير القرطبي: 20/ 233 (3) تفسير الرازي: 32/ 164

فتح مكة [سورة النصر (110) الآيات 1 إلى 3] :

فتح مكة [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) الإعراب: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ تقديره: إذا جاءك نصر اللَّه، فحذف الكاف التي هي المفعول. وجواب إِذا إما قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ.. والفاء غير مانعة من هذا على ما عليه الجمهور، أو محذوف تقديره: إذا جاءك نصر اللَّه والفتح، جاء أجلك، وهو العامل في إِذا. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً يدخلون: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من النَّاسَ وأفواجا: منصوب على الحال من واو يَدْخُلُونَ. البلاغة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ خاص بعد عام، فإن نصر اللَّه يشمل جميع الفتوحات، قال الرازي: وهو الغلبة على قريش أو على جميع العرب، فعطف عليه فتح مكة تعظيما لشأنه. وَرَأَيْتَ النَّاسَ عام أريد به الخاص، فلفظ الناس عام، والمراد به العرب. دِينِ اللَّهِ هو الإسلام، وأضافه تعالى إليه تشريفا وتعظيما، مثل: بيت اللَّه، وناقة اللَّه. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً تواب: صيغة مبالغة على وزن (فعّال) . المفردات اللغوية: نَصْرُ اللَّهِ النصر: العون أو الإعانة على تحصيل المطلوب. وَالْفَتْحُ تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا أو موقوفا، أو الفصل بين الفريقين المتحاربين بانتصار أحدهما على الآخر، والمراد به هنا فتح مكة، فالفرق بين النصر والفتح: أن النصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف الفتح عليه.

التفسير والبيان:

دِينِ اللَّهِ أي الإسلام. أَفْواجاً جماعات كثيفة، كأهل مكة والطائف واليمن والهوازن وسائر قبائل العرب، جمع فوج: وهو الجماعة والطائفة. وقد دخلت الجماعات في الإسلام بعد ما كان الدخول فيه فرديا واحدا بعد الآخر، وذلك بعد فتح مكة، جاءه العرب من مختلف الأنحاء طائعين. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزّه اللَّه وصل له حامدا على نعمه، روي: أنه عليه السلام لما دخل مكة بدأ بالمسجد، فدخل الكعبة، وصلّى ثماني ركعات. وَاسْتَغْفِرْهُ اسأله المغفرة لك ولمن اتبعك، وطلب الاستغفار من النبي كان لترك الأفضل، وليقتدي به غيره، ولم يكن بسبب ارتكاب معصية أو ذنب. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة يكثر من قول: «سبحان اللَّه وبحمده، وأستغفر اللَّه وأتوب إليه» . وعلم بذلك أنه قد اقترب أجله، فتوفي بعد فتح مكة بعامين سنة عشر. التفسير والبيان: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ أي إذا تحقق لك يا محمد نصر اللَّه وعونه وتأييده على من عاداك وهم قريش، وفتح عليك مكة، وتحققت لك الغلبة، وإعزاز أمرك، فسبّح اللَّه تعالى أي نزهه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك. وفائدة قوله: نَصْرُ اللَّهِ مع أن النصر لا يكون إلا من اللَّه: هو أنه نصر لا يليق إلا باللَّه، ولا يليق أن يفعله إلا اللَّه، أو لا يليق إلا بحكمته. والمراد تعظيم هذا النصر. وقوله: جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مجاز، أي وقع نصر اللَّه. روى الإمام أحمد والبيهقي والنسائي عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نعيت إلي نفسي» فإنه مقبوض في تلك السنة. خير، وأنا وأصحابي خير» ، وقال فيما رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» . وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين اللَّه الذي بعثك به، جماعات فوجا بعد فوج، بعد أن كانوا في بادئ الأمر يدخلون واحدا واحدا، واثنين اثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي إذا فتحت مكة وانتشر الإسلام، فاشكر اللَّه على نعمه، بالصلاة له، وبتنزيهه عن كل ما لا يليق به، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بالنصر، واقرن الحمد بالتسبيح، أي اجمع بينهما، فإن ذلك النصر والفتح يقتضي الحمد للَّه على عظيم منّته وفضله، وما منحك من الخير. واطلب أيضا من اللَّه المغفرة لك تواضعا للَّه، واستقصارا لعملك، وتعليما لأمتك، وكذا اسأله المغفرة لمن تبعك من المؤمنين ما كان منهم من القلق والخوف لتأخر النصر، فإن اللَّه سبحانه من شأنه التوبة على المستغفرين له، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، وهو كثير القبول لتوبة عباده، حتى لا ييأسوا ويرجعوا بعد الخطأ. روى الأئمة- واللفظ للبخاري- عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «ما صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلا يقول: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» . وعنها قالت: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللَّه ربّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن» . فقه الحياة أو الأحكام: دلت السورة على ما يأتي: 1- كل نعمة من اللَّه تعالى تستوجب الشكر والحمد والثناء على اللَّه بما هو

أهل له، ومن أجلّ النّعم على نبي اللَّه وأمته تحقيق النصر والغلبة على الأعداء، وفتح مكة عاصمة العرب والإسلام، ومقر البيت الحرام أو الكعبة المشرفة قبلة المسلمين. وتوج اللَّه سبحانه هذه النعمة العظمى بنعمة كبري أخرى هي دخول العرب وغيرهم في دين الإسلام جماعات، فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة، قالت العرب: أمّا إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان اللَّه أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، أي طاقة. فكانوا يسلمون أفواجا: أمّة أمّة. 2- لهذا ختم اللَّه هذه السورة بأمر اللَّه نبيه بالإكثار من الصلاة، والتسبيح للَّه، أي تنزيه اللَّه عن كل ما لا يليق به ولا يجوز عليه، والحمد للَّه على ما آتاه من الظفر والفتح، وسؤال اللَّه الغفران مع مداومة الذكر، واللَّه كثير القبول للتوبة على المسبّحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. والأمة أولى بذلك، فإذا كان صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو معصوم، يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أراك تكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه، وأتوب إليه؟ فقال: خبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقد رأيتها: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ- فتح مكة- وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. 3- دين اللَّه هو الإسلام لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران 3/ 19] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 3/ 85] .

4- قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين: إن إيمان المقلّد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة وإيمان أولئك الأفواج، وجعله من أعظم المنن على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا، لما ذكره في هذا المجال. 5- أمر اللَّه تعالى بالتسبيح أولا ثم بالحمد ثم بالاستغفار لأنه قدم الاشتغال بما يلزم للخالق وهو التسبيح والتحميد على الاشتغال بالنفس. وقدم الأمر بالتسبيح حتى لا يتبادر إلى الذهن أن تأخير النصر سنين لإهمال مثلا، فاللَّه ينزّه ويقدّس عن إهمال الحق. وأتى بالاستغفار حتى لا يفكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالاشتغال بالانتقام ممن آذاه. 6- الآية تدل على فضل التسبيح والتحميد، حيث جعل كافيا في أداء ما وجب على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته من شكر نعمة النصر والفتح. 7- اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. روي أنه لما نزلت هذه السورة خطب صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: «إن عبدا خيره اللَّه بين الدنيا، وبين لقائه والآخرة، فاختار لقاء اللَّه» «1» . وقد عرفوا ذلك لأن الأمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا دليل على أن أمر تبليغ الدعوة قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك، لكان كالمعزول عن الرسالة، وهو غير جائز. ثم إن الأمر بالاستغفار تنبيه على قرب الأجل.

_ (1) تفسير الكشاف: 3/ 365

سورة المسد، أو اللهب:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المسد، أو: اللهب مكيّة، وهي خمس آيات. تسميتها: سميت سورة المسد لقوله تعالى في آخرها: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنق أم جميل زوجة أبي لهب حبل مفتول من ليف. وسميت أيضا سورة تَبَّتْ لقوله تعالى في مطلعها: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلكت وخسرت يدا أبي لهب، كما سميت سورة أبي لهب، أو سورة اللهب. مناسبتها لما قبلها: هناك تقابل بين هذه السورة والسورة التي قبلها، ففي السورة السابقة النصر ذكر اللَّه تعالى أن جزاء المطيع حصول النصر والفتح في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، وفي هذه السورة ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة أو العقبى. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة المكية بالإجماع الكلام عن مصير أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب، عمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومصير زوجته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، وهو هلاك أبي لهب عدو اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الدنيا، ودخوله نار جهنم لشدة إيذائه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعاداته له، وصدّه الناس عن الإيمان به.

سبب نزول السورة:

وكذلك زوجته شريكة معه في هذا العقاب لأنها كانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فتكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم. سبب نزول السورة: ثبت في الصحيحين وغيرهما- واللفظ لمسلم- عن ابن عباس قال: «لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 26/ 214] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى صعد الصّفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب! فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدّقي؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك! أما جمعتنا إلا لهذا «1» ! ثم قام، فنزلت هذه السورة: «تبّت يدا أبي لهب، وقد تبّ» كذا قرأ الأعمش وعبد اللَّه وأبي إلى آخر السورة. وقراءة حفص: وتب أي الأول دعاء عليه، والثاني خبر عنه. وعن طارق المحاربي قال: «بينا أنا بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب حديث السن يقول: أيها الناس، قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه- مؤخر القدم- ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب «2» » .

_ (1) وفي رواية البخاري: ألهذا جمعتنا؟ (2) تفسير القرطبي: 20/ 236

جزاء أبي لهب وامرأته [سورة المسد (111) الآيات 1 إلى 5] :

جزاء أبي لهب وامرأته [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) الإعراب: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ما: إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى أو نافية، ومفعول أَغْنى محذوف، وتقديره: ما أغنى عنه ماله شيئا. وَما كَسَبَ ما: إما مصدرية، أي وكسبه، أو اسم موصول، أي الذي كسبه، فحذف العائد تخفيفا. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَتُهُ: إما معطوف على ضمير سَيَصْلى أي سيصلى هو وامرأته، وجاز العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل لأنه يقوم مقام التأكيد في جواز العطف. وإما أنه مبتدأ مرفوع، وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ خبره، على قراءة الرفع. ومن قرأ بالنصب حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فهو منصوب على الذم، وتقديره: أذمّ حمالة الحطب. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فِي جِيدِها: حال من حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أو خبر مبتدأ مقدر. البلاغة: يَدا أَبِي لَهَبٍ مجاز مرسل، أطلق الجزء وأراد الكل، أي هلك. أَبِي لَهَبٍ ناراً ذاتَ لَهَبٍ بينهما جناس، فالأول كنية له، والثاني وصف للنار. والجناس: أن يتشابه اللفظان في النطق، ويختلفا في المعنى، وهو نوعان: تام، وغير تام. أَبِي لَهَبٍ كنية للتصغير والتحقير، كأبي جهل. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ استعارة، أستعير هذا التعبير للنميمة بين الناس. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ منصوب على الذم، أي أخص بالذم حمالة الحطب. وَتَبَّ، كَسَبَ، لَهَبٍ، الْحَطَبِ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية:

المفردات اللغوية: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي هلك وخسر، قال تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر 40/ 37] وهذه الجملة دعاء عليه، وأبو لهب: أحد أعمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واسمه: عبد العزّى بن عبد المطلب، وكنيته: أبو عتيبة، وإنما كني أبا لهب لحمرة وجهه. وَتَبَّ أي قد خسر، وهذا خبر بعد الدعاء عليه، كقولهم: أهلكه اللَّه وقد هلك، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه. وَما كَسَبَ أي وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح، وقوله: ما أَغْنى أي يغني. سَيَصْلى ناراً سيجد حرها ويذوق وبالها. ذاتَ لَهَبٍ لهب النار: ما يسطع منها عند اشتعالها، وذات لهب: أي تلهب وتوقد، وهي مناسبة لكنيته بأبي لهب: أي تلهب وجهه إشراقا وحمرة. وَامْرَأَتُهُ هي من سادات قريش، وكنيتها: أم جميل، واسمها: أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي تحمله حقيقة، فتحمل حزمة الشوك والحسك، وتنثرها بالليل في طريق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. أو تحمل حطب جهنم لأنها تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتحمل زوجها على إيذائه. أو أن التعبير كناية عن النميمة التي توقد الخصومة بين الناس. فِي جِيدِها في عنقها. حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ حبل مفتول من ليف، أي مما مسّد أي فتل وربط الحبل على هذه الصورة: تصوير لها بصورة الحطّابة التي تحمل الحزمة، وتربطها في عنقها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع، وفي جيدها سلسلة من النار. التفسير والبيان: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ «1» أي هلكت يداه وخسرت وخابت، وهو مجاز عن جملته، أي هلك وخسر، وهذا دعاء عليه بالهلاك والخسران. ثم قال: وَتَبَّ أي وقد وقع فعلا هلاكه، وهذا خبر من اللَّه عنه، فقد خسر الدنيا والآخرة. وأبو لهب: عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب، وقد كان كثير الأذى والبغض والازدراء لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولدينه.

_ (1) لم يقل في أول هذه السورة قل كما في سورة الكافرين، حتى لا يشافه عمه بما يزيد في غضبه، رعاية للحرمة، وتحقيقا لمبدأ الرحمة.

ثم أخبر اللَّه تعالى عن حال أبي لهب في الماضي، فقال: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال، ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك، وما ينزل به من عذاب اللَّه، بسبب شدة معاداته لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدّه الناس عن الإيمان به، فإنه كان يسير وراء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا قال شيئا كذّبه. روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عبّاد من بني الدّيل، وكان جاهليا فأسلم، قال: «رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب» . والفرق بين المال والكسب: أن الأول رأس المال، والثاني هو الربح. ثم ذكر اللَّه تعالى عقابه في المستقبل، فقال: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي سيذوق حرّ نار جهنم ذات اللهب المشتعل المتوقد، أو سوف يعذب في النار الملتهبة التي تحرق جلده، وهي نار جهنم. قال أبو حيان: والسين للاستقبال، وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة، وإن تراخى وقته «1» . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي وتصلى امرأته أيضا نارا ذات لهب، وهي أم جميل، أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، كانت تحمل الشوك والغضى، وتطرحه بالليل على طريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقيل: المراد أنها كانت تمشي بالنميمة،

_ (1) البحر المحيط: 8/ 526 [.....]

فيقال للمشاء بالنمائم، المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة، ويورّث الشر، وهذا رأي الكثيرين. قال أبو حيان: والظاهر أنها كانت تحمل الحطب، أي ما فيه شوك، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، لتعقرهم، فذمت بذلك، وسميت حمالة الحطب. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي في عنقها حبل مفتول من الليف، من مسد النار، أي مما مسّد من حبالها أي فتل من سلاسل النار. وقد صورها اللَّه في حالة العذاب بنار جهنم بصورة حالتها في الدنيا عند النميمة، وحينما كانت تحمل حزمة الشوك وتربطها في جيدها، ثم تلقيها في طريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأن كل مجرم يعذب بما يجانس حاله في جرمه. وقيل: صورها اللَّه في الدنيا بصورة حطّابة ممتهنة احتقارا لها، وإيذاء لها ولزوجها. ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر، وهو مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، وبيدها فهر (حجر) فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلنّ وأفعلنّ، وأعمى اللَّه تعالى بصرها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فروي أن أبا بكر رضي اللَّه تعالى عنه قال لها: هل تري معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك «1» . والظاهر هو المعنى الأول قال سعيد بن المسيّب: كانت لأم جميل قلادة فاخرة، فقالت: واللات والعزّى لأنفقنّها في عداوة محمد، فأعقبها اللَّه حبلا في جيدها من مسد النار.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 526 وما بعدها، تفسير ابن كثير: 4/ 564 وما بعدها.

فقه الحياة أو الأحكام:

فقه الحياة أو الأحكام: 1- أوضحت السورة نوع عذاب أبي لهب وزوجته أم جميل، ومآلهما في الدارين لشدة عداوتهما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. أما الآيات الأولى في أبي لهب فقد تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه: أحدها- الإخبار عنه بالتباب والخسار، وبوقوع ذلك فعلا. وثانيها- الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وبوقوع ذلك فعلا. وثالثها- الإخبار عنه بأنه من أهل النار، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر. وتكليف أبي لهب بالإيمان في حد ذاته لا مانع منه، وإن كان اللَّه قد علم أنه لا يؤمن، وأخبر أيضا أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، قال الآمدي: أجمع الكل على جواز التكليف بما علم اللَّه أنه لا يكون عقلا، وعلى وقوعه شرعا، كالتكليف بالإيمان لمن علم اللَّه أنه لا يؤمن كأبي جهل «1» . وأيد ذلك الرازي في تفسيره» . والخلاصة: أنه كلف بتصديق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فقط، لا تصديقه وعدم تصديقه، حتى يجتمع النقيضان «3» . وأما الآيتان الأخيرتان: فتصفان عذاب أم جميل بأنها مع زوجها تصلى نار جهنم وتذوق حرها وتتلظى بلهبها، وأنها هالكة في الدنيا، ومعذبة في الآخرة بحبل من نار، وسلاسل من نار جهنم تطوقها، لإيذائها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنها كانت في غاية العداوة له، ولإفسادها بين الناس بالنميمة وتأجيج نار العداوة بينهم.

_ (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 73 (2) تفسير الرازي: 32/ 171 (3) غرائب القرآن: 30/ 214.

قال الضحاك وغيره: كانت تعيّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفقر، وهي تحتطب في حبل، تجعله في جيدها من ليف، فخنقها اللَّه جل وعزّ به في الدنيا، فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. 2- قال العلماء: في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما، لا ظاهرا ولا باطنا، ولا سرا ولا علنا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة «1» .

_ (1) تفسير ابن كثير: 4/ 565

سورة الإخلاص:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الإخلاص مكيّة، وهي أربع آيات. تسميتها: سميت بأسماء كثيرة أشهرها سورة الإخلاص لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص للَّه عز وجل، المنزه عن كل نقص، المبرأ من كل شرك، ولأنها تخلّص العبد من الشرك، أو من النار. وسميت أيضا سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء اللَّه، أو المعرفة، وتسمى كذلك سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين. مناسبتها لما قبلها: المناسبة بينها وبين ما قبلها واضحة، فسورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الكفر والشرك، وهذه السورة لإثبات التوحيد للَّه تعالى، المتميز بصفات الكمال، المقصود على الدوام، المنزه عن الشريك والشبيه، ولذا قرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة، كركعتي الفجر والطواف، والضحى، وسنة المغرب، وصلاة المسافر. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت هذه السورة أهم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية، وهي توحيد اللَّه وتنزيهه، واتصافه بصفات الكمال، ونفي الشركاء، وفي هذا الرد على النصارى القائلين بالتثليث، وعلى المشركين الذين عبدوا مع اللَّه آلهة أخرى.

فضلها:

فضلها: وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة، وأنها تعدل في ثواب قراءتها ثلث القرآن لأن كل ما جاء في القرآن بيان لما أجمل فيها ولأن الأصول العامة للشريعة ثلاثة: التوحيد، وتقرير الحدود والأحكام، وبيان الأعمال، وقد تكفلت ببيان التوحيد والتقديس. أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري: «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح، جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالّها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن» . وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشقّ ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول اللَّه؟ فقال: اللَّه الواحد الصمد ثلث القرآن» . وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقرأ: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبرا جاء من السماء، ثم خرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن» . وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ في ليلة، فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن» .

سبب نزول السورة:

سبب نزول السورة: أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. زاد ابن جرير والترمذي قال: «الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن اللَّه عز وجل لا يموت ولا يورث. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ولم يكن له شبيه ولا عدل «1» ، وليس كمثله شيء» . وقال قتادة والضحاك ومقاتل: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: صف لنا ربك، فإن اللَّه أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ ومن أي جنس هو؟ أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى هذه السورة ، وهي نسبة اللَّه خاصة «2» . سورة التوحيد والتنزيه للَّه عز وجل [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

_ (1) قال الأخفش: العدل بالكسر المثل، وقال الفراء: العدل بالفتح: ما عدل الشيء من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل. (2) أسباب النزول للواحدي: ص 262

الإعراب:

الإعراب: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هُوَ: ضمير الشأن والحديث، مبتدأ، واللَّهُ: مبتدأ ثان، وأَحَدٌ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، ولا حاجة لعائد يعود على المبتدأ الأول لأن ضمير الشأن إذا وقع مبتدأ، لم يعد من الجملة التي وقعت خبرا عنه ضمير لأن الجملة بعده وقعت مفسرة له، بدليل أنه لا يجوز تقديمها عليه. اللَّهُ الصَّمَدُ مبتدأ وخبر. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ: أصله (يولد) فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، كيعد، ويزن، والأصل: يوعد ويوزن، ولهذا لم تحذف في يُولَدْ لوقوعها بين ياء وفتحة. وأَحَدٌ: اسم يَكُنْ، وكُفُواً: خبرها. ولَهُ: متعلق ب كُفُواً وقدم عليه للاهتمام به إذ فيه ضمير الباري تعالى، والتقدير: ولم يكن أحد كفوا له، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول، متعلق ب كُفُواً. وأخّر أَحَدٌ رعاية للفاصلة. البلاغة: قُلْ: هُوَ ذكر الاسم الجليل بضمير الشأن للتعظيم والإجلال. اللَّهُ الصَّمَدُ تعريف كل منهما لإفادة التخصيص. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ جناس ناقص، لتغير الشّكل وبعض الحروف. قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يقتضي نفي الكفء والولد، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هو تخصيص بعد تعميم، زيادة في الإيضاح والبيان، وتقرير ما يسمى التجريد أو التفريد. أَحَدٌ، الصَّمَدُ، لَمْ يُولَدْ، أَحَدٌ سجع مرصع. المفردات اللغوية: أَحَدٌ أي واحد في ذاته، لم يتركب من جواهر مادية ولا من أصول غير مادية، وهو أيضا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. الصَّمَدُ المقصود في جميع الحوائج على الدوام. لَمْ يَلِدْ لأنه لم يفتقر إلى ما يعينه، ولأنه لا مجانسة بينه وبين غيره فهذا نفي للشبه والمجانسة. وَلَمْ يُولَدْ لأنه قديم أولي غير محدث، انتفى الحدوث عنه، فهو وصف بالقدم والأولية. كُفُواً أي مكافئا ومماثلا. والكف والمكافئ: النظير والمثيل، والمراد أنه لم يكن أحد يكافئه، في يماثله من صاحبه وغيرها.

التفسير والبيان:

التفسير والبيان: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي قل أيها الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته: هو اللَّه أحد، أي واحد في ذاته وصفاته، لا شريك له، ولا نظير ولا عديل. وهذا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. والمعنى: هو اللَّه الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالألوهية، لا يشارك فيها. وهذا نفي لتعدد الذات. اللَّهُ الصَّمَدُ أي الذي يصمد إليه في الحاجات، أي يقصد، فهو المقصود في جميع الحاجات لأنه القادر على تحقيقها، والمعنى: هو اللَّه الذي يقصد إليه كل مخلوق، لا يستغني عنه أحد، وهو الغني عنهم. وهذا إبطال لاعتقاد مشركي العرب وأمثالهم بوجود الوسائط والشفعاء. قال ابن عباس في تفسير الصمد: يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللَّه سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان اللَّه الواحد القهار. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ أي لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء لأنه لا يجانسه شيء، ولأنه قديم غير محدث، لا أول لوجوده، وليس بجسم وهذا نفي للشبه والمجانسة، ووصف بالقدم والأولية، ونفي الحدوث. وفي الجملة الأولى نفي لوجود الولد للَّه، ورد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات اللَّه، وعلى اليهود القائلين: عزير ابن اللَّه، وعلى النصارى الذين قالوا: المسيح ابن اللَّه، وفي الجملة الثانية نفي لوجود الوالد، وسبق العدم.

فقه الحياة أو الأحكام:

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ليس للَّه أحد يساويه، ولا يماثله، ولا يشاركه في شيء. وهذا نفي لوجود الصاحبة، وإبطال لما يعتقد به المشركون العرب من أن للَّه ندّا في أفعاله، حيث جعلوا الملائكة شركاء للَّه، والأصنام والأوثان أندادا للَّه تعالى. وللسورة نظائر في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 101] أي هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف له من خلقه نظير؟، وقوله: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم 19/ 92- 95] وقوله: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء 21/ 26- 27] . جاء في صحيح البخاري: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللَّه، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم» . وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «قال اللَّه عز وجل: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ اللَّه ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد» . فقه الحياة أو الأحكام: 1- تضمنت هذه السورة الموجزة إثباتا ونفيا في آن واحد. فقد أبانت أن اللَّه تعالى واحد في ذاته وحقيقته، منزه عن جميع أنحاء التركيب، ونفت عنه كل أنواع الكثرة بقوله: اللَّهُ أَحَدٌ.

وأوضحت أن اللَّه غني بذاته كريم رحيم، تحتاج إليه جميع الخلائق في قضاء الحوائج، متصف بجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال، ونفت عنه كل أنواع الاحتياج إلى الآخرين بقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ. وقررت أن اللَّه أحد فرد، ليس له شيء من جنسه، ولم يلد أحدا، وليس له لاحق يماثله، ونفت عن نفسه المجانسة والمشابهة بقوله: لَمْ يَلِدْ. وكذلك هو قديم أولي أزلي غير مسبوق بالعدم، فلا والد له، ولا سابق له، ونفت عنه الحدوث والأولية بقوله: وَلَمْ يُولَدْ. وهو سبحانه أيضا لا مقارن له في الوجود، ولا شبيه له ولا نظير ولا صاحبة ولا نديد، ونفى عن ذاته العلية الأنداد والأشباه بقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. وكل إثبات تقرير لعقيدة الإسلام القائمة على التوحيد والتنزيه والتقديس، وكل نفي رد على أصحاب العقائد الباطلة كالثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم وهما النور والظلمة، والنصارى القائلين بالتثليث، والصابئة القائلين بعبادة الأفلاك والنجوم، واليهود الذين يقولون: عزير ابن اللَّه، والمشركين القائلين بأن الملائكة بنات اللَّه. فقوله: أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية، وقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى اللَّه لأنه لو وجد خالق آخر، لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات، وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ يبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، والمشركين في أن الملائكة بنات اللَّه. وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء للَّه وشركاء.

2- قال العلماء: هذه السورة في حق اللَّه تعالى، مثل سورة الكوثر في حق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكن الطعن في حق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كان بسبب أنهم قالوا: إنه أبتر لا ولد له، وهنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا للَّه ولدا لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب، ووجود الولد عيب في حق اللَّه تعالى، ولهذا السبب قال هنا: قُلْ ليدفع عن اللَّه، وفي سورة إنا أعطيناك لم يقل (قل) وإنما قال اللَّه ذلك مباشرة، حتى يدفع بنفسه عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم «1» .

_ (1) تفسير الرازي 32/ 185

سورة الفلق:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفلق مكيّة، وهي خمس آيات. مكيتها أو مدنيتها: هذه السورة وسورة الناس مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وهو رأي الأكثرين، ومدنية في رواية عن ابن عباس وقتادة وجماعة، قيل: وهو الصحيح. تسميتها: سميت هذه السورة سورة الفلق، لافتتاحها بقوله تعالى: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ والْفَلَقِ الشق وفصل الشيء عن بعضه، وهو يشمل كل ما انفلق من حب ونوى ونبات عن الأرض، وعيون ماء عن الجبال، ومطر عن السحاب، وولد عن الأرحام، ومنه: فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام 6/ 96] ، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام 6/ 95] . مناسبتها لما قبلها: لما أبان اللَّه تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه اللَّه عما لا يليق به في ذاته وصفاته، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه باللَّه من الشر الذي في العالم، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد اللَّه، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من

ما اشتملت عليه السورة:

شر المخلوقات، وظلمة الليل، والسحرة، والحسّاد، ثم ذكر في سورة الناس الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن لذا سميت السور الثلاثة (الإخلاص وما بعدها) في الحديث بالمعوّذات. وقدمت الفلق على الناس لمناسبة الوزان في اللفظ لفواصل الإخلاص مع مقطع تَبَّتْ. ما اشتملت عليه السورة: تضمنت السورة الاستعاذة من شر المخلوقات، وبخاصة ظلمة الليل، والسواحر والنمامين، والحسدة، وهي درس بليغ وتعليم نافع عظيم لحماية الناس بعضهم من بعض بسبب أمراض النفوس، وحمايتهم من شر ذوات السموم، وشر الليل إذا أظلم، لما فيه من مخاوف ومفاجات، وبخاصة في البراري والكهوف. فضل المعوذتين: روى مسلم في صحيحة وأحمد والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوّذات في دبر كل صلاة» . وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر قال: «بينا أنا أقود برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: يا عقبة ألا تركب! قال: فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وركبت هنية ثم ركب، ثم قال: يا عقب «1» ، ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قلت: بلى، يا رسول اللَّه، فأقرأني قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ

_ (1) عقب: منادى مرخم من عقبة، مثل أفاطم من فاطمة.

سبب نزول المعوذتين:

ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقرأ بهما ثم مرّ بي، فقال: كيف رأيت يا عقب، اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت» . وروى النسائي عن أبي عبد اللَّه بن عابس الجهني: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: «يا ابن عابس ألا أدلك- أو ألا أخبرك- بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال: بلى يا رسول اللَّه، قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، هاتان السورتان» . وأورد ابن كثير أحاديث كثيرة في معناها ثم قال: فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث. وفي حديث صديّ بن عجلان: «ألا أعلمك ثلاث سور، لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلهن: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وروى البخاري وأهل السنن في الاستشفاء بهذه السور الثلاث (المعوذات) عن عائشة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه، ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. سبب نزول المعوذتين: السبب: قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما جاء في الصحيحين عن عائشة، فإنه سحره في جفّ (قشر الطلع) فيه مشاطة رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأسنان مشطه، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفسه

الاستعاذة من شر المخلوقات [سورة الفلق (113) الآيات 1 إلى 5] :

خفّة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام، فكأنما نشط من عقال «1» . وجعل جبريل يرقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيقول: «باسم اللَّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، واللَّه يشفيك» . الاستعاذة من شرّ المخلوقات [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) الإعراب: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَعُوذُ: فعل معتل، ويسمى «أجوف» وأصله: أعوذ على وزن أفعل، إلا أنه استثقلت الضمة على الواو لأنه حرف علة، فنقلت من العين التي هي الواو إلى ما قبلها. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ شَرِّ بعير تنوين على الإضافة في القراءة المشهورة، وما: مصدرية، وتقديره: من شرّ خلقه. وقرئ «من شرّ ما خلق» بتنوين شَرِّ وهي قراءة مروية عن أبي حنيفة، وما: فيها أيضا مصدرية، في موضع جر على البدل من شَرِّ أي من خلقه. البلاغة: الْفَلَقِ وخَلَقَ بينهما جناس ناقص. شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ تكرار كلمة شَرِّ مرات إطناب، للتنبيه على قبح وشناعة هذه الأوصاف. شَرِّ غاسِقٍ شَرِّ النَّفَّاثاتِ شَرِّ حاسِدٍ خاص بعد عام وهو مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ. حاسِدٍ وحَسَدَ جناس اشتقاق.

_ (1) البحر المحيط: 8/ 530

المفردات اللغوية:

الْفَلَقِ خَلَقَ، الْعُقَدِ حَسَدَ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. المفردات اللغوية: أَعُوذُ ألجأ. الْفَلَقِ شق الشيء وفصل بعضه عن بعض، ومنه فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام 6/ 96] ، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام 6/ 95] ، والْفَلَقِ يشمل كل ما يفلقه اللَّه عن غيره، كفلق ظلمة الليل بالصبح، وفلق العيون والأمطار والنبات والأولاد، ويخص الفلق عرفا بالصبح، ولذلك فسّر به، وتخصيصه لما فيه من تغير الحال، وتبدل وحشة الليل بسرور النور، والإشعار بأن من قدر أن يزيل ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ إليه ما يخافه. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه لأن الإعاذة من المضارّ تربية وعناية. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من شرّ المخلوقات كلها، وخصّ عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشرّ فيه، وهو يشمل الحيوان والإنسان والجماد كالسم وغيره. غاسِقٍ ليل اشتد ظلامه. وَقَبَ دخل ظلامه وتخصيصه لأن المضار تكثر فيه ويعسر الدفع. النَّفَّاثاتِ السواحر من النفوس أو النساء تنفث. فِي الْعُقَدِ التي تعقدها في الخيط، والنفث: النفخ مع ريق يخرج من الفم، والْعُقَدِ جمع عقدة: وهي ما يعقد من حبل أو خيط ونحوهما. حاسِدٍ هو الذي يتمنى زوال نعمة المحسود. وخصّ الحاسد بالذكر لأنه العمدة في الظاهر والسبب في إضرار الإنسان والحيوان وغيرهما. وذكر هذه الأصناف الثلاثة بعد التعميم الشامل لها ما خَلَقَ لشدة شرّها. التفسير والبيان: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي قل أيها النبي: ألجأ إلى اللَّه، وأستعيذ بربّ الصبح لأن الليل ينفلق عنه، أو بربّ كل ما انفلق عن جميع ما خلق اللَّه، من الحيوان، والصبح، والحبّ، والنوى، وكل شيء من نبات وغيره، أعوذ باللَّه خالق الكائنات من شرّ كل ما خلقه اللَّه سبحانه من جميع مخلوقاته. وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة الظلمة عن وجه الأرض قادر على دفع ظلمة الشرور والآفات عن العبد. أخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتعوّذ من عين الجان، ومن عين الإنس، فلما نزلت سورتا المعوذتين، أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك» .

فقه الحياة أو الأحكام:

وأخرج مالك في الموطأ عن عائشة: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتهما» . وبعد أن عمم الاستعاذة من جميع المخلوقات، خصص بالذكر ثلاثة أصناف تنبيها على أنها أعظم الشرور، وأهم شيء يستعاذ منه، وهي: 1- وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ أي وأعوذ باللَّه من شرّ الليل إذا أقبل لأن في الليل مخاوف ومخاطر من سباع البهائم، وهوام الأرض، وأهل الشرّ والفسق والفساد. 2- وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي وأعوذ باللَّه من شرّ النفوس أو النساء الساحرات لأنهن كنّ ينفثن (أي ينفخن مع ريق الفم) في عقد الخيوط، حين يسحرن بها. والنّفث: النفخ بريق، وقيل: النفخ فقط. قال أبو عبيدة: إنهن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي اللاتي سحرن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. 3- وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ أي وأعوذ باللَّه من شرّ كل حاسد إذا حسد: وهو الذي يتمنى زوال النعمة التي أنعم اللَّه بها على المحسود. فقه الحياة أو الأحكام: 1- دلت السورة الكريمة على تعليم الناس كيفية الاستعاذة من كل شرّ في الدنيا والآخرة، من شر الإنس والجن والشياطين وشرّ السباع والهوام وشرّ النار وشرّ الذنوب، والهوى، وشرّ العمل، وغير ذلك من سائر المخلوقات، حتى المستعيذ نفسه. 2- لا مانع يمنع من نزول السورة ليستعيذ بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والحديث صحيح، ولا يتنافى مع النص القرآني، واقتصر فعل السحر بالنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على مجرد

كونه قد صار في بعض أمور الدنيا في حالة صداع خفيف، وهو معنى التخيل في الحديث، وقد يحدث تخيل في اليقظة كالمنام، ولم يؤثر في ملكاته العقلية على الإطلاق، كما لم يؤثر فيما يتعلق بالوحي والرسالة لأن اللَّه عصمه من أي سوء، أو اختلاط فكري، أو اضطراب عصبي، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] «1» . 3- خصص اللَّه تعالى في إرشادنا وتعليمنا الاستعاذة من أصناف ثلاثة: هي أولا الليل إذا عظم ظلامه لأن في الليل كما ذكر الرازي تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارق والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث، وينبعث أهل الشرّ على الفساد. وثانيا- الساحرات اللائي ينفثن (ينفخن) في عقد الخيط حين يرقين عليها، شبه النفخ كما يعمل من يرقي. وثالثا- الحاسد الذي يحسد غيره، أي يتمنى زوال نعمة المحسود، وإن لم يصرّ للحاسد مثلها. وهذا مذموم، أما الغبطة أو المنافسة فهي مباحة لأنها تمني مثل النعمة وإن لم تزل عن صاحبها روي أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» «2» . وفي الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين» أي لا غبطة. قال العلماء: الحاسد لا يضرّ إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. والحسد أول ذنب عصي اللَّه به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون. وقال العلماء أيضا: لا يضرّ السحر والعين والحسد ونحو ذلك بذاته، وإنما

_ (1) انظر تفسير الألوسي: 30/ 283 (2) تفسير القرطبي: 20/ 259

بفعل اللَّه وتأثيره، وينسب الأثر إلى هذه الأشياء في الظاهر فقط، قال اللَّه تعالى عن السحر: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] ، وبالرغم من انعدام تأثير هذه الأشياء في الحقيقة ومنها الأمراض المعدية كالطاعون والسل، فإنه يطلب شرعا الحذر والاحتياط وتجنب هذه الأسباب الظاهرية بقدر الإمكان، عملا بفعل عمر والصحابة في طاعون عمواس، والأمر باتقاء العين، والفرار من المجذوم. 4- أجاز أكثر العلماء الاستعانة بالرّقى أو الرّقية لأن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اشتكى، فرقاه جبريل عليه السلام، وقال: «بسم اللَّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، واللَّه يشفيك» كما تقدم. وقال ابن عباس: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء: «بسم اللَّه الكريم، أعوذ باللَّه العظيم من شرّ كل عرق نعار، ومن شرّ حرّ النار» . وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من دخل على مريض لم يحضر أجله، فقال: أسأل اللَّه العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك- سبع مرات، شفي» . وعن علي رضي اللَّه عنه قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل على مريض قال: «أذهب البأس ربّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت» . وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوّذ الحسن والحسين يقول: «أعيذكما بكلمات اللَّه التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة» . وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال: قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبي وجع قد كاد يبطلني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اجعل يدك اليمنى عليه، وقل: بسم اللَّه، أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شرّ ما أجد» سبع مرات، ففعلت ذلك، فشفاني اللَّه.

وروي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سافر، فنزل منزلا يقول: «يا أرض، ربّي وربّك اللَّه، أعوذ باللَّه من شرّك وشرّ ما فيك، وشرّ ما يخرج منك، وشرّ ما يدبّ عليك، وأعوذ باللَّه من أسد وأسود، وحية وعقرب، ومن شرّ ساكني البلد ووالد وما ولد» . وقالت عائشة في الحديث المتقدم: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين، في كفه اليمنى، ومسح بها المكان الذي يشتكي «1» . والأصح جواز النّفث عند الرّقى، بدليل ما روى الأئمة عن عائشة: أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينفث في الرّقية. وأجاز الإمام الباقر تعليق التعويذ على الصبيان. وأما النهي عن الرّقى فهو وارد على الرّقى المجهولة التي لا يفهم معناها.

_ (1) انظر هذه الأحاديث والأدلة الثمانية في تفسير الرازي: 32/ 189- 190

سورة الناس:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الناس مدنيّة، وهي ست آيات. تسميتها: سميت سورة الناس لافتتاحها بقول اللَّه تبارك وتعالى: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.. وتكررت كلمة النَّاسِ فيها خمس مرات. وقد نزلت مع ما قبلها، وهي مكية عند الأكثر، وقيل: مدنية كما تقدم. وعرفنا وجه مناسبتها لما سبقها. وهي آخر سورة في القرآن، وقد بدئ بالفاتحة التي هي استعانة باللَّه وحمد له، وختم بالمعوذتين للاستعانة باللَّه أيضا. ما اشتملت عليه السورة: اشتملت هذه السورة، وهي ثاني المعوذتين على الاستعاذة باللَّه تعالى والالتجاء إلى ربّ الناس الملك الإله الحق من شرّ إبليس وجنوده الذين يغوون الناس بوسوستهم. وقد عرفنا أن هذه السورة وسورة الفلق والإخلاص تعوذ بهن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سحر اليهود. وقيل: إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان، أي تبرئان من النفاق. روى الترمذي كما تقدم عن عقبة بن عامر عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لقد أنزل اللَّه

الاستعاذة من شر الشياطين [سورة الناس (114) الآيات 1 إلى 6] :

علي آيات لم ير مثلهن: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى آخر السورة، وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ إلى آخر السورة. وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه مسلم أيضا. الاستعاذة من شرّ الشياطين [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) الإعراب: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ إما بدل من شَرِّ الْوَسْواسِ وتقديره: أعوذ بربّ الناس من شرّ الجنّة والناس، وإما متعلق بمحذوف تقديره: الكائن من الجنة والناس، الذي يوسوس في صدور الناس. وفي يُوَسْوِسُ ضمير الجنّة، وذكّره لأنه بمعنى الجنّ، وكنى عنه مع التأخير لأنه في تقدير التقديم، كقوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه 20/ 67] فتقدم الضمير لأن موسى في تقدير التقديم، والضمير في تقدير التأخير. البلاغة: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وما بعدها: الإضافة للتشريف والتكريم والاستعانة، فقد أضيف الرّب إلى الناس لأن الاستعاذة من شرّ الموسوس في صدورهم، استعاذوا بربّهم مالكهم وإلههم، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر. قال أبو حيان: والظاهر أن مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ صفتان. وقال الزمخشري: عطف بيان للرّب، فإن الرّب قد لا يكون ملكا، والملك قد لا يكون إليها. بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ إطناب بتكرار الاسم، زيادة في التكريم والعون، ومزيد البيان، والإشعار بشرف الإنسان.

المفردات اللغوية:

الْجِنَّةِ.. وَالنَّاسِ بينهما طباق. يُوَسْوِسُ والْوَسْواسِ بينهما جناس اشتقاق. ويلاحظ أن الفواصل منتهية بالسين الذي فيه جرس خافت ومهيب وله وقع في النفوس. المفردات اللغوية: أَعُوذُ ألتجئ وأحتمي. بِرَبِّ النَّاسِ مربّيهم ومعتني بشؤونهم، قال البيضاوي: لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضارّ البدنية، وهي تعمّ الإنسان وغيره، والاستعاذة في هذه السورة من المضارّ التي تعرض للنفوس البشرية، وتخصها، عمم الإضافة ثمة، وخصصها بالناس هاهنا، فكأنه قيل: أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربّهم الذي يملك أمورهم، ويستحق عبادتهم. مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ صفتان تدلان على أنه تعالى حقيق بالإعاذة، قادر عليها، غير ممنوع عنها. الْوَسْواسِ الموسوس الذي يلقي في النفوس خواطر الشرّ والسوء. ويصح أن يراد به المصدر أي الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة، أي من عادته أن يخنس، أي يتأخر بذكر اللَّه، والخنوس: الرجوع والتأخر. مِنَ الْجِنَّةِ بيان للوسواس، جمع جني كإنسي وإنس، والجن: خلق مستتر لا يعلم به أحد إلا اللَّه تعالى. التفسير والبيان: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ أي قل أيها الرسول: ألجأ وأستعين باللَّه مربي الناس ومتعهدهم بعنايته ورعايته، وخالقهم ومدبر أمرهم ومصلح أحوالهم، وله الملك التام والسلطان القاهر، وهو الإله المعبود الذي يعبده الناس، واسم الإله خاص باللَّه لا يشاركه فيه أحد، أما الملك فقد يكون إلها وقد لا يكون. وهذه صفات ثلاث للَّه عزّ وجلّ: الربوبية، والملك، والألوهية، فهو ربّ كل شيء، ومليكه، وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة، عبيد له. وإنما قدم الربوبية لمناسبتها للاستعاذة، فهي تتضمن نعمة الصون والحماية والرعاية، ثم ذكر الملكية لأن المستعيذ لا يجد عونا له ولا غوثا إلا مالكه، ثم ذكر الألوهية لبيان أنه المستحق للشكر والعبادة دون سواه.

والسبب في تكرار لفظ النَّاسِ هو مزيد البيان والإظهار، والتنويه بشرف الناس مخلوقات اللَّه تعالى، وقال: «ربّ الناس» مع أنه ربّ جميع المخلوقات، فخصّ الناس بالذّكر للتشريف، ولأن الاستعاذة لأجلهم. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ أي ألجأ إلى اللَّه وأحتمي من شرّ الشيطان ذي الوسوسة، الكثير الخنوس أي الاختفاء والتأخر، بذكر اللَّه، فإذا ذكر الإنسان اللَّه تعالى خنس الشيطان وانقبض، وإذا لم يذكر اللَّه انبسط على القلب. قال ابن عباس في هذه الآية: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر اللَّه خنس. وقد سلط اللَّه الشيطان على الناس إلا من عصمه اللَّه، للمجاهدة والفتنة والاختبار، ثبت في الصحيح أنه «ما منكم من أحد إلا وكّل به قرينه، قالوا: وأنت يا رسول اللَّه؟ قال: نعم إلا أن اللَّه أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» . وثبت في الصحيحين عن أنس في قصة زيارة صفية للنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو معتكف، وخروجه معها ليلا، ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، فقالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا- أو قال: شرّا» . وروى الحافظ أبو يعلي الموصلي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر اللَّه خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس» . وروي الإمام أحمد عن أبي تميمة يحدث عن رديف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «عثر بالنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حماره، فقلت: تعس الشيطان، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تقل: تعس الشيطان، فإنك إذا

فقه الحياة أو الأحكام:

قلت: تعس الشيطان، تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم اللَّه، تصاغر حتى يصير مثل الذباب» . وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر اللَّه تصاغر الشيطان وغلب، وإن لم يذكر اللَّه تعاظم وغلب. ثم أبان موضع وسوسته، فقال: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي الذي يلقي خواطر السوء والشرّ في القلوب، وإنما ذكر الصدور لأنها تحتوي على القلوب، والخواطر محلها القلب، كما هو المعهود في كلام العرب. ثم بيّن اللَّه تعالى أن الذي يوسوس نوعان: جني وإنسي، فقال: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي أن ذلك الموسوس إما شيطان الجن، فيوسوس في صدور الناس، كما تقدم، وإما شيطان الإنس، ووسوسته في صدور الناس: أنه يري نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة، فيجعله فريسة وسوسة الشيطان الجني. وهذا يدل على أن الوسواس قد يكون من الجن وقد يكون من الناس، كما جاء في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 6/ 112] أي ليست العداوة قهرية جبرية، وإنما بما أودع اللَّه فيهم من قدرة الاختيار، فمنهم من يختار الإصغاء لوسوسة الشياطين، ومنهم من يحذر عداوتهم ووسوستهم. فقه الحياة أو الأحكام: علّمنا اللَّه تعالى في هذه السورة رحمة بنا كيفية الاستعاذة من شياطين الإنس والجن، وعرفنا أنه بصفاته الثلاث: الربوبية، والملك، والألوهية، يحمي

المستعيذ من شرور الشيطان وأضراره في الدين والدنيا والآخرة. ومعنى الربوبية يدل على مزيد العناية وحرص المربي. وإنما ذكر أنه بِرَبِّ النَّاسِ وإن كان ربّا لجميع الخلق، لأمرين: أحدهما- لأن الناس معظّمون، فأعلم بذكرهم أنه ربّ لهم، وإن عظموا. الثاني- لأنه أمر بالاستعاذة من شرّ الناس فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم «1» . ثم ذكر صفتي الملك والألوهية ليبين للناس أنه ملكهم الحقيقي، وإن كان لهم ملوك، وأنه إلههم ومعبودهم، لا معبود لهم سواه، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به، ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء. أوضحت السورة أن الموسوس إما شيطان الجن، وإما شيطان الإنس. قال الحسن: هما شيطانان أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجنّ شياطين، وإن من الإنس شياطين، فتعوّذ باللَّه من شياطين الإنس والجن. ويلاحظ أن المستعاذ به في سورة (الفلق) مذكور بصفة واحدة وهي أنه «ربّ الفلق» ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات، وهي «الغاسق» والنَّفَّاثاتِ و «الحاسد» . وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرّب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، وسبب التفرقة: أن المطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في هذه السورة سلامة الدين، ومضرة الدين، وإن قلّب، أعظم من مضارّ الدنيا وإن عظمت «2» .

_ (1) تفسير القرطبي: 20/ 260 [.....] (2) تفسير الرازي: 32/ 199

وبعد، فقد سجدت شكرا للَّه تبارك وتعالى على ما أولاني وأسبغ علي من كمال وفيض النعمة وتمام المنة، بانتهاء هذا التفسير الشامل للمأثور والمعقول، والجامع لأنواع البيان وأحكام القرآن، وهو تفسير العصر، وذلك في تمام الساعة الثامنة من صبيحة يوم الاثنين المبارك الواقع 13 من ذي القعدة 1408 هـ، الموافق 27/ 6/ 1988 م، وكان العمر حينذاك 56 عاما. وقد تفرغت لهذه المهمة خلال سنوات طوال، هاجرت فيها إلى دولة الإمارات- العين، تاركا الأهل والولد، مستغرقا في عظمة كلام ربّي عزّ وجلّ، فازددت إيمانا على إيمان. وكان أول مؤلف لي في بلدتي «دير عطية» من نواحي دمشق الفيحاء، التي ولدت فيها سنة 1932 م، وهو آثار الحرب في عام 1962 م، ثم تابعت التأليف والبحث وكتبت أغلب مؤلفاتي وبحوثي التي أربت على الثلاثين في رياض دمشق والعين، فاللهم لك الحمد والشكر، اجعل كل حرف من كتابك وتفسيره وجميع ما صنفت خالصا لوجهك الكريم، وحقق به النفع والخير، وأعتق به من نارك في الآخرة كل جزء من جسمي وروحي، وشعري وبشري، وعظمي ولحمي، وسمعي وبصري، ومخي ودمي، وأدخلني الجنة بستر وسلام. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا لطيفا فوق كل لطيف الطف بي في أموري كلها كما أحب، ورضني في دنياي وآخرتي، واغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات.

الخاتمة:

الخاتمة من أحكام الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، أي بالبداهة أن إنزال القرآن المجيد على نبي هذه الأمة الإسلامية قصد به العمل بكل ما جاء فيه من الأحكام والشرائع والعقائد والآداب والأخلاق والمواعظ، وأنه لا يكفي المسلّم أو المسلمة مجرد قراءته أو تلاوته للتعبد والبركة، وإنما للاستفادة بما جاء فيه، فهو دستور الأمة، ونظام حياة الفرد والجماعة، والرعية والدولة. والسائد في الوسط العلمي أنه لا يستغنى بتفسير قديم عن تفسير آخر، لاختلاف مناهج المفسرين، وامتياز كل تفسير بميزة لا تتوافر في الآخر، فهذا في العقيدة، وهذا في الأحكام، وذاك في الآثار والروايات الكثيرة، وآخر في التأويل بالمعقول أو في العلوم الكونية، والكل يكمل بعضه بعضا، أما في العصر الحديث فيصعب على كل مسلّم أو بيت اقتناء جميع التفاسير المطولة والمتوسطة والمختصرة، فضلا عن عسر فهمها أحيانا، وإطالتها، واستطرادها في كثير من الأحوال لأمور بعيدة أو قريبة عن التفسير، وينقصها جميعها التفسير الشامل الموضوعي للآيات، لفهمها جملة واحدة، بسبب عنايتها بالجزئيات والفرعيات، دون وجود تصور متكامل أو عام فيها للآية أو لطائفة من الآيات، وصعوبة إدراك مشتملات السورة وارتباط أجزائها ببعضها، أو التعرف على موضوعها المقصود. وكذلك يكثر السؤال في وقتنا عادة عن أحسن تفسير يعتمد عليه لمتوسط الثقافة، فلا يكاد المرء يجد جوابا شافيا لأن القديم وعر المسالك، والجديد فيه

هنات وسقطات، أو جنوح لتأييد بعض الآراء المذهبية، أو تطرف وبعد في التأويل وإغراب في بعض الأحيان لإرضاء أذواق العصر. لذا وجب وضع تفسير شامل معتدل غير متطرف، يجمع بين مزايا التفاسير المختلفة وييسر على القارئ والتالي فهم الآيات الكريمة بدقة ووعي، ويحيط بكل ما هو ضروري يحقق مقاصد القرآن العظيم في العقيدة والعبادة والتشريع والآداب والأخلاق والسلوك القديم في الحياة، ويفسر القرآن بالقرآن وبالسّنة الصحيحة والسيرة الثابتة، وهذا ما أوردته في هذا الكتاب، كما أردت بيان ما يستنبط من الآيات من أحكام شرعية مختلفة. وذلك بعد أن ألحّ علي بعض إخواني لتحقيق هذه الغاية، فتوقفت أولا، ثم شرح اللَّه صدري للعمل الذي يحتاج لجهود مكثفة ووقت طويل الأمد، فوضعت هذا التفسير الشامل لطريقتي أهل المأثور والمعقول، والجامع لأحكام القرآن الذي أنار الطريق أمام كل تال للقرآن، بعبارة سهلة واضحة، وأسلوب سلس بيّن، ومنهج منظم متدرج من المفردات إلى الكليات، وكان بحمد اللَّه تعالى جامعا بين طريقة الوجيز والوسيط والمبسوط، فبيان المفردات اللغوية والإعراب والبلاغة يحقق الإيجاز لمن يكتفي به والتعرف على أسباب النزول والمناسبة بين الآيات والسور وقصص القرآن والبيان لكل طائفة من الآيات، يلبي مطلب التوسط في المعرفة والعلم والانتقال إلى بيان فقه الحياة بمعنى «الفقه الأكبر» الشامل للعقيدة والأخلاق والأعمال والأحكام العملية المستنبطة من الآيات، يتجاوب مع رغبة من أراد التوسط والإطالة والاستيعاب. ومن أجل السير في هذه المراتب الثلاثة المتدرجة، قد يوجد تكرار بينها بقصد تلبية الحاجة، وتيسير المطلب دون حاجة للرجوع إلى ما سبق. أما المصادر: فقد نبهّت عليها في المقدمة، وأكرر القول بأنني اعتمدت على

أغلب ما كتب في التفسير قديما وحديثا، مبتدئا بتفسير إمام المفسرين ابن جرير الطبري في الآثار والمعقول معا وأسباب النزول وبعض التصويبات والترجيحات، ثم اعتمدت على تفسير الكشاف للزمخشري، والبحر المحيط لأبي حيّان التوحيدي، وغرائب القرآن للنظام الأعرج وغيرها كالبيضاوي والنسفي وأبي السعود والجلالين في اللغويات والمعاني الدقيقة، والمناسبات، وعلى تفسير الفخر الرازي «التفسير الكبير» في العقائد والإلهيات والكونيات والأخلاق وبعض الأحكام ومناسبات الآيات والسور، وأسباب النزول، مع الرجوع في بيان الأسباب أيضا إلى «أسباب النزول» للواحدي النيسابوري، و «أسباب النزول» للسيوطي. كما اعتمدت على تفسير الإمام القرطبي، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للجصاص الرازي في معرفة الأحكام الفقهية، ورجعت في ذلك وغيره أيضا إلى تفسير الحافظ ابن كثير وفتح القدير للشوكاني والتسهيل لعلوم التنزيل لابن جزيّ، لبيان معاني الآيات وتأييدها بالأحاديث والأخبار الصحاح، كما استقيت بعض المعلومات من تفسيري الخازن والبغوي. واستأنست أحيانا بعبارات بعض المفسرين الجدد الجميلة والمفيدة، كتفسير المنار للشيخ رشيد رضا، ومحاسن التأويل للقاسمي، وتفسير المراغي، وفي ظلال القرآن، رحم اللَّه الجميع وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء. وقد تجنّبت الأخذ في أسباب النزول وغيرها بالأحاديث والروايات الضعيفة والإسرائيليات الدخيلة التي لا تتفق مع عصمة الأنبياء، وضمان سلامة الوحي. وأما الإعراب فمرجعي الأصلي كتاب (البيان في إعراب القرآن) لأبي البركات بن الأنباري، وأما البلاغة فمرجعي في الغالب كتاب (صفوة التفاسير) للشيخ محمد علي الصابوني، وأما قصص الأنبياء فكنت أرجع مع الحذر

لكتاب (قصص الأنبياء) للأستاذ عبد الوهاب النجار، وأما أحداث ووقائع الغزوات والسيرة فعمدتي فيها كتب السيرة الشهيرة كسيرة ابن هشام، وابن إسحاق، والبداية والنهاية لابن كثير وغيرها مما كتب قديما وحديثا. وأستطيع أن أقول عن خبرة وتجربة وبعد أن عانيت التأليف في رحاب الجامعات مدة ربع قرن فأكثر في الفقه الإسلامي وأصوله وفي الحديث النبوي، وتفسير كتاب اللَّه وغير ذلك: إنه لا تصح العقيدة، ولا تشرق في النفس معانيها إلا بالقرآن، ولا يستقيم سلوك مسلّم إلا بفهم كتاب اللَّه، ولا تلين النفس بعد القرآن إلا بالحديث النبوي وروحانيته الفياضة، ولا يصح عمل المسلّم إلا بالأحكام الشرعية المقررة في الفقه، ولا يعصم العقل والفهم عن الخطأ، ولا تنضبط أحكام الشريعة إلا بأصول الفقه. ولا أجد الآن خيرا من إهداء شيء للمسلمين في كل مكان، حكاما ومحكومين، غير هذا الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه الترمذي والدّارمي عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي اللَّه عنه مرفوعا: «كتاب اللَّه تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللَّه، هو حبل اللَّه المتين، ونوره المبين، والذّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعّب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه، هدي إلى صراط مستقيم» . وكلمتي الأخيرة: إنني في نفسي بالذات كلما فسّرت آية أو سورة من كتاب اللَّه، ازددت إيمانا بصحة تنزيل هذا الكتاب المجيد على محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،

وبأنه الكتاب الوحيد المنقذ للبشرية من تخبطها في دياجير الظلمة والضلال، كما ازددت انبهارا وثقة ويقينا بإعجاز القرآن وعظمته، فمهما حاولت إحصاء المعاني والأحكام، يظل كلام اللَّه عز وجل البحر الزاخر والفيض العارم الذي لا يمكن الإحاطة بمراده ومشتملاته، ولكن عملي جهد المقلّ والعبد الضعيف الخاضع للَّه وحده، والعاجز عن إدراك جميع معاني القرآن، والذي يكفيني إعلانه هو القول بأن القرآن العظيم هو الكتاب الفذّ الأول الذي أثّر في فكري وسلوكي وتكوين شخصيتي، فاللهم وفقنا جميعا للعمل به، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. الأستاذ الدكتور/ وهبة مصطفى الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق

§1/1